رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار
الصنعاني
مقدمة المحقق
مقدمة المحقق بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى قد جعل بحكمته لكل شيء سببا ولكل أمر سمى أجلا وقدر كل شيء تقديرا حسنا وكان من ذلك أنني هاجرت بنفسي وأهلي من دمشق الشام إلى عمان في أول شهر رمضان سنة (1400) فبادرت إلى بناء دار لي فيها آوي إليها ما دمت حيا فيسر الله لي ذلك بمنه وفضله وسكنتها بعد كثير من التعب والمرض أصابني من جراء ما بذلت من جهد في البناء والتأسيس ولا زلت أشكو منه شيئا قليلا والحمد لله على كل حال والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ولقد كان أمرا طبيعيا أن يصرفني ذلك عما كنت اعتدته في دمشق من الانكباب على العلم دراسة وتدريسا وتأليفا وتحقيقا لا سيما ومكتبتي الخاصة لا تزال في دمشق لم أتمكن من ترحيلها إلى عمان الصعوبات وعراقيل معروفة فكنت أعلل نفسي كل يوم وأمنيها بأن المياه عما قريب ستعود إلى مجاريها ولكن الرياح كثيرا ما تجري بخلاف ما يشتهي الملاح فإنه ما كاد بعض إخواننا في الأردن يشعرون بأنني استقررت في الدار حتى بدؤوا يطلبون مني أن أستأنف إلقاء الدروس التي كنت ألقيها عليهم في السنين الماضية قبل هجرتي إلى عمان حيث كنت أسافر إليها في كل شهر أو شهرين فألقي عليهم درسا أو درسين في كل
سفرة وألحوا علي في الطلب وعلى الرغم من أنني ما كنت عازما على شيء من الإلقاء لأوفر ما بقي لي من نشاط وعمر لإتمام بعض مشاريعي العلمية - وما أكثرها - رأيت أنه لا بد من أحقق طلبتهم ورغبتهم الطيبة فوعدتهم خيرا وأعلنت لهم أنني سألقي عليهم درسا كل يوم خميس بعد صلاة المغرب في دار أحد إخواننا الطيبين هناك قريبا من داري. وتحقق ذلك بإذن الله تعالى فألقيت الدرس الأول ثم الثاني من كتاب (رياض الصالحين) (¬1) للإمام النووي بتحقيقي وأجبتهم بعد الدرس عن بعض أسئلتهم الكثيرة المتوفرة لديهم والتي تدل على تعطشهم ورغبتهم البالغة في العلم ومعرفة السنة وبينما أنا أستعد لإلقاء الدرس الثالث إذا بي أفأجأ بما يضطرني اضطرارا لا خيار لي فيه مطلقا إلى الرجوع إلى دمشق حيث لم يبق لي فيها سكن وذلك أصيل نهار الأربعاء في 19 شوال سنة 1401 هـ فوصلتها ليلا وفي حالة كئيبة جدا وأنا أضرع إلى الله تعالى أن يصرف عني شر القضاء وكيد الأعداء فلبثت فيها ليلتين وفي الثالثة سافرت بعد الاستشارة والاستخارة إلى بيروت مع كثير من الحذر والخوف لما هو معروف من كثرة الفتن والهرج والمرج القائم فيها والوصول إلى بيروت محفوف بالخطر ولكن الله تبارك وتعالى سلم ويسر فوصلت بيروت في الثلث الأول من الليل قاصدا دار أخ لي قديم وصديق وفي حميم فاستقبلني بلطفه وأدبه وكرمه المعروف وأنزلني عنده ضيفا معززا مكرما. جزاه الله خيرا فلما استقر في منزله قراري وارتاح من وعثاء السفر بالي كان من الطبيعي جدا أن أهتبل فرصة هذه الغربة الطارئة فأتوجه بكليتي إلى الدراسة والمطالعة في مكتبته العامرة الزاخرة بالكتب المطبوعة منها والمخطوطة النادرة فرغبت منه أن ¬
يطلعني على فهرست المخطوطات والمصورات التي في حوزته مسجلة على البطاقات فاستجاب لذلك بكل نفس طيبة وأريحة إسلامية منه معروفة أحسن الله إليه وجزاه خيرا فأخذت في البطاقات نظرا وتقليبا عما يكون فيها من الكنوز بحثا وتفتيشا حتى وقعت عيني على رسالة الإمام الصنعاني تحت اسم (رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار) . في مجموع رقم الرسالة فيه (2619) فطلبته فإذا فيه عدة رسائل هذه الثالثة منها. فدرستها دراسة دقيقة واعية لأن مؤلفها الإمام الصنعاني رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى رد فيها على شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ميلهما إلى القول بفناء النار بأسلوب علمي رصين دقيق (من غير عصبية مذهبية. ولا متابعة أشعرية ولا معتزلية) كما قال هو نفسه رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى في آخرها. وقد كنت تعرضت لرد قولهما هذا منذ أكثر من عشرين سنة بإيجاز في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) في المجلد الثاني منه (ص 71 - 75) بمناسبة تخريجي فيه بعض الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة التي احتجا ببعضها على ما ذهبا إليه من القول بفناء النار وبينت هناك وهاءها وضعفها وأن لابن القيم قولا آخر وهو أن النار لا تفنى أبدا وأن لابن تيمية قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار وكنت توهمت يومئذ أنه يلتقي فيها مع ابن القيم في قوله الآخر فإذا بالمؤلف الصنعاني يبين بما نقله عن ابن القيم أن الرد المشار إليه إنما يعني الرد على من قال بفناء الجنة فقط من الجهمية دون من قال بفناء النار وأنه هو نفسه - أعني ابن تيمية - يقول بفنائها وليس هذا فقط بل وأن أهلها يدخلون بعد ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار وذلك واضح كل الوضوح في الفصول الثلاثة التي عقدها ابن القيم لهذه المسألة الخطيرة في كتابه (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) (2 / 167 - 228) وقد حشد فيها (من خيل الأدلة ورجلها وكثيرها وقلها ودقها وجلها وأجرى فيها قلمه ونشر فيها علمه وأتى بكل ما قدر عليه من قال وقيل واستنفر كل قبيل وجيل) كما قال المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ ولكنه أضفى
بهذا الوصف على ابن تيمية وابن القيم أولى به وأحرى لأننا من طريقه عرفنا رأي ابن تيمية في هذه المسألة وبعض أقواله فيها وأما حشد الأدلة المزعومة وتكثيرها فهي من ابن القيم وصياغته وإن كان ذلك لا ينفي أنه تلقى ذلك كله أو جله من شيخه في بعض مجالسه فما عزاه إليه صراحة فهو الأصل في ذلك وما لم يعزه فلا ولذلك جريت فيما يأتي على التنبيه على ما لم يعزه إليه صراحة لأن من بركة العلم أن يعزى كل قول لقائله. وليس العكس كما هو معروف عند العلماء. وإن مما يؤيد هذا أن ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تعرض لهذا البحث مطولا أيضا في كتابه (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) بنحو ما في (الحادي) كما تراه في (مختصر الصواعق) للشيخ محمد بن الموصلي (ص 218 - 239) فلم يذكر فيه ابن تيمية مطلقا وكذلك رأيته فعل في (شفاء العليل) (ص 252 - 264) إلا أنه قال في آخرها: (وكنت سألت عنها شيخ الإسلام قدس الله روحه فقال لي: هذه المسألة عظيمة كبيرة ولم يجب فيها بشيء. ومضى على ذلك زمن حتى رأيت في تفسير عبد بن حميد الكشي بعض تلك الآثار (يعني أثر عمر الآتي في أول الكتاب) فأرسلت إليه الكتاب وهو في مجلسه الأخير وعلمت على ذلك الموضع وقلت للرسول: قل له هذا الموضع يشكل عليه ولا يدرى ما هو؟ فكتب فيها مصنفه المشهور رحمة الله عليه) . فهذا مما يدل على أنه من الممكن أن يكون تلقاه كله عنه ولكن لا نقول به إلا في حدود ما نص هو عليه أنه من كلام ابن تيمية نفسه رحمهما الله تعالى في (الحادي) أو في غيره أن وجد وقد وقفت في مخطوطات المكتب الإسلامي على ثلاث صفحات في ورقتين بخط لعله من خطوط القرن الحادي عشر نقلها كاتبها الذي لم يكشف عن هويته من رسالة ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ في الرد على من قال بفناء الجنة والنار وهذه الورقات الثلاث جمعها أخي المحقق زهير الشاويش من دشت مخطوطات عنده. وانظر صورها في الصفحات (53 - 55) وهذا نصها:
(قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - في رسالة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار ما نصه: (وأما القول بفناء النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف والنزاع في ذلك معروف عن التابعين ومن بعدهم وهذا أحد المأخذين في دوام عذاب من يدخلها فإن الذين يقولون: أن عذابهم له حد ينتهي إليه ليس بدائم كدوام نعيم الجنة قد يقولون: إنها قد تفنى وقد يقولون: إنهم يخرجون منها فلا يبقى فيها أحد لكن قد يقال: إنهم لم يريدوا بذلك أنهم يخرجون مع بقاء العذاب فيها على غير أحد وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وغيرهم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وروى عبد بن حميد - وهو من أجل علماء الحديث - في تفسيره المشهور قال: (أخبرنا سليمان بن حرب أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري قال: قال عمر: (لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج (¬1) لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه) وقال: أخبرنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن: أن عمر بن الخطاب قال: (لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه) . ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابثين فيها} (¬2) وهذا يبين أن مثل هذا الشيخ الكبير من علماء الحديث والسنة يروي عن مثل ¬
هؤلاء الأئمة في الحديث والسنة مثل سليمان بن حرب الذي هو من أجل علماء السنة والحديث ومثل حجاج بن منهال كلاهما عن حماد بن سلمة - مع جلالته في العلم والسنة والدين - يروي من وجهين من طريق ثابت ومن طريق حميد هذا عن الحسن البصري - الذي يقال: أنه أعلم من بقي من التابعين في زمانه - يروى عن عمر بن الخطاب وإنما سمعه الحسن من بعض التابعين سواء كان هذا قد حفظ هذا عن عمر أو لم يحفظه كان مثل هذا الحديث متداولا بين هؤلاء العلماء الأئمة لا ينكرونه وهؤلاء كانوا ينكرون على من خرج عن السنة من الخوارج والمعتزلة والمرجئة والجهمية وكان أحمد بن حنبل يقول: أحاديث حماد بن سلمة هي الشجا (¬1) في حلوق المبتدعة فهؤلاء من أعظم أعلام أهل السنة الذي ينكرون من البدع ما هو دون هذا لو كان هذا القول عندهم من البدع المخالفة للكتاب والسنة والإجماع كما يظنه طائفة من الناس وعبد بن حميد ذكر هذا في تفسير قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا} (¬2) ليبين قول من قال: أن الأحقاب لها أمد تنفد ليست كالرزق الذي ما له من نفاد. ولا ريب أن من قال هذا القول: عمر ومن نقله عنه إنما (¬3) أراد بذاك جنس أهل النار الذين هم أهلها فأما قوم أصيبوا بذنوب فأولئك قد علم هؤلاء وغيرهم بخروجهم منها وأنهم لا يلبثون فيها قدر عدد رمل عالج ولا قريبا من ذلك والحسن كان يروي ¬
حديث الشفاعة في أهل التوحيد وقد ذكره البخاري ومسلم عنه وكذلك حماد بن سلمة كان يجمعها ويحدث الناس بها وكذلك سليمان بن حرب وأمثاله فهذا عندهم لا يقال فيه مثل هذا ولفظ أهل النار لا يختص بالموحدين بل يختص بمن عداهم كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (صحيح) (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون) (¬1) وقوله: (يخرجون فيه) أي يخرجون من جهنم بعد أن يفنى عذابها وينفد وينقطع فهم لا يخرجون منها بل هم خالدون في جهنم كما أخبر الله لكن انقضى أجلها وفنيت كما تفنى الدنيا فلم يبق فيها عذاب وذلك أن العالم لا يعدم وجهنم في الأرض والأرض لا تعدم بالكلية لكن فناؤها بتغير حالها واستحالتها من حال إلى حال قال تعالى: {كل من عليها فان} (¬2) وهم لا يعدمون بل يموتون ويهلكون وكما قال تعالى {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} (¬3) فإذا أنفذه الرجل فقد نفد ما عنده وإن كان لم يعدم بل انتقل من حال إلى حال) . انتهى وقال فيها أيضا: (والفرق بين بقاء الجنة والنار عقلا وشرعا أما شرعا فمن وجوه: أحدها: أن الله أخبر ببقاء نعيم الجنة ودوامه وأنه لا نفاد له ولا انقطاع في غير موضع من كتابه كما أخبر أن أهل الجنة لا يخرجون منها وأما أهل النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك بل أخبر أن أهلها لا يخرجون منها الثاني: أنه أخبر بما يدل على أنه ليس بمؤبد في عدة آيات الثالث: أن النار لم يذكر فيها شيء مما يدل على الدوام ¬
والرابع: أن النار قيدها بقولها: {لابثين فيها أحقابا} (¬1) وقوله: {خالدين فيها إلا ما شاء الله} (¬2) وقوله: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} (¬3) فهذه ثلاث آيات تقتضي قضية مؤقتة أو معلقة على شرط وذاك دائم مطلق ليس بمؤقت ولا معلق الخامس: قد ثبت أنه يدخل الجنة من ينشئه الله لها ويدخلها من دخل النار أولا ويدخلها الأولاد بعمل الآباء. فثبت أن الجنة يدخلها من لم يعمل خيرا وأما النار فلا يعذب أحد إلا بذنوبه فلا يقاس هذه بهذه السادس: أن الجنة من مقتضى رحمته ومغفرته والنار من عذابه وقد قال: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} (¬4) وقال تعالى: {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} (¬5) وقال تعالى: {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} (¬6) فالنعيم من موجب أسمائه التي هي من لوازم ذاته فيجب دوامه بدوام معاني أسمائه وصفاته وأما العذاب فإنما هو من مخلوقاته والمخلوق قد يكون له انتهاء مثل الدنيا وغيرها لا سيما مخلوق خلق لحكمة يتعلق بغيره الوجه السابع: أنه قد أخبر أن رحمته وسعت كل شيء وأنه (كتب على ¬
نفسه الرحمة) (¬1) (صحيح) وقال: (سبقت رحمتي غضبي) (¬2) و (غلبت رحمتي غضبي) وهذا عموم وإطلاق فإذا قدر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة الثامن: أنه قد ثبت مع رحمته الواسعة أنه حكيم إنما يخلق لحكمة كما ذر حكمته في غير موضع فإذا قدر أنه يعذب من يعذب لحكمة كان هذا ممكنا كما يوجد في الدنيا العقوبات الشرعية فيها حكمة وكذلك ما يقدره من المصائب فيه حكمة عظيمة فيها تطهير من الذنوب وتزكية للنفوس وزجر لها في المستقبل للفاعل ولغيره يجنبها غيره والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب ولهذا قال في الحديث الصحيح: (إنهم يحبسون بعد خلوصهم من الصراط على قنطرة بين الجنة والنار فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة) (¬3) . والنفوس الشريرة الظالمة التي لو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهيت عنه لا تصلح أن تسكن دار السلام التي تنافي الكذب والظلم والشر فإذا عذبوا بالنار عذابا يخلص نفوسهم من ذلك الشر كان هذا معقولا في الحكمة كما يوجد في تعذيب الدنيا وخلق من فيه شر يزول بالتعذيب من تمام الحكمة أما خلق نفوس تعمل الشر في الدنيا والآخرة لا يكون إلا في العذاب فهذا تناقض يظهر فيه من مناقضة الحكمة والرحمة ما لا يظهر من غيره ولهذا كان من الجهم (¬4) لما رأى ذلك ينكر أن يكون الله أرحم الراحمين وقال: بل يفعل ما يشاء. والذين سلكوا طريقته كالأشعري وغيره ليس عندهم في الحقيقة له حكمة ورحمة ¬
لكن له علم وقدرة وإرادة لا ترجح أحد الجانبين. ولهذا لما طلب منهم أن يقروا بكونه حكيما فرده بأنه عليم إذ قد يراد: يريد وليس من الثلاثة ما يقتضيه الحكمة وإذا ثبت أنه حكيم رحيم وعلم بطلان قول الجهم تعين إثبات ما تقتضيه الحكم والرحمة وما قاله المعتزلة أيضا باطل فقول القدرية المجبرة والنفاة في حكمته ورحمته باطل ومن أعظم ما غلطهم اعتقادهم تأبيد جهنم فإن ذلك يستلزم ما قالوه وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم. انتهى) (¬1) وأنت ترى في هذه الصفحات المنقولة عن رسالة ابن تيمية شبها كبيرا فيما جاء فيها من الأمور بكلام ابن القيم في (الحادي) الذي نقل المؤلف خلاصات منه ورد عليها - مع فارق من حيث الإيجاز والبسط من جهة. وعدم تعرضه لكثير من المسائل والأحاديث والأدلة من جهة أخرى وإن كان من الممكن أن يقال: أن من الجائز أن يكون ابن تيمية قد تعرض لذلك أيضا في (رسالته) ولكن كاتب تلك الصفحات اختصرها كما يدل عليه قوله في أولها عن ابن تيمية: (وأما القول بفناء النار) . وقول الكاتب في آخر ثلث الصفحة الثانية من الثلاث: (انتهى) وكذا قال في آخر الثالثة أيضا. والله أعلم ولقد كان أملي كبيرا في أن أجد رسالة ابن تيمية هذه محفوظة في (مجموع الفتاوى) التي جمعها الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم في خمس وثلاثين مجلدا ولكني - مع الأسف - لم أجد لها أثرا في شيء منها بعد تقليبي لها كلها والاستعانة على ذلك بالفهارس التفصيلية الموضوعة لها وكان أقوى ظني أن يوردها تحت عنوان (التخليد) الموضوع في (الفهرس) (1 / 139) ولكن دون جدوى أو في (تفسير سورة هود) في آيتي الاستثناء فيها لكني لم أرها مع أنه أشار إليهما في ¬
فهرس السورة (1 / 291) فلما رجعت إلى المكان الذي أشار إليه (15 / 104) لم أجد فيه سوى إشارة ابن تيمية إلى الآيتين بقوله: (ثم ذكر حال الذين سعدوا والذين شقوا ثم قال ... ) أو في آية (الأنعام 128) من تفسير هذه السورة ولكنها مما لا وجود له فيه مطلقا. أو في تفسير (النبأ) آية {لابثين فيها أحقابا} والقول فيه كالقول في الذي قبله إلا أنه قد أشار في (الفهرس) (1 / 345) أنها في موضعين من (المجموع) الأول في (16 / 194 - 197) والآخر في (18 / 307) ومع ذلك فليس للآية ذكر فيهما مطلقا نعم في الموضع الأول (ص 197) ما يدل ظاهر كلامه أنه يقول بخلود الكفار في النار. ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى في (سورة الأعلى) : {ثم لا يموت فيها ولا يحيى} . ولكنه لا ينافي قوله بفناء النار لأن له أن يقيده بقوله: ما لم تفن كما فعل بكثير من الآيات الصريحة بالخلود بل والخلود الأبدي كما سترى ذلك مع رد المؤلف عليه في الرسالة إن شاء الله تعالى لكنه في الموضع الآخر قد صرح بخلاف ذلك وأن النار لا تفنى صراحة فقد جاء في الصفحة المشار إليها منه ما نصه: (وسئل عن حديث أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: (سبعة لا تموت ولا تفنى ولا تذوق الفناء: الناس وسكانها واللوح والقلم والكرسي والعرش) فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟ فأجاب: هذا الخبر بهذا اللفظ ليس من كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما هو من كلام بعض العلماء. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات مما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرض وغير ذلك ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين ... ) قلت: والظن بمن هو دون ابن تيمية علما ودينا أن لا يخالف سلف الأمة وأئمتها ولم لا وهو حامل راية الدعوة إلى أتباعهم والسير على منهجهم والتحذير من
مخالفتهم والخروج عن سبيلهم كما لا يخفى ذلك على كل من اطلع على شيء من كتبه وتغذى بطرف من علمه لا سيما والنص في معنى ما ذكره محفوظ عن الإمام أحمد إمام السنة فقد ذكر في آخر كتابه (الرد على الزنادقة) (¬1) وقد حكى عن الجهمية قولهم بفناء الجنة والنار فرده عليهم بشطريه وذكر آيات كثيرة في بقاء الجنة ودوامها. ثم قال في رد قولهم بفناء النار: (وذكر الله تعالى أهل النار فقال: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} . [فاطر / 36] . وقال: {أولئك يئسوا من رحمتي} . [العنكبوت / 23] . وقال: {ولا ينالهم الله برحمته} . [الأعراف / 49] . وقال: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} . [الزخرف / 77] . وقال: {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} . [إبراهيم / 21] . وقال: {خالدين فيها أولئك هم شر البرية} . [البينة / 6] . وقال: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب} . [النساء / 56] . وقال: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} [السجدة / 30] . وقال: {إنها عليهم مؤصدة} . [الهمزة / 8] ) ¬
هذا كله مما احتج به الإمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى على القائلين بفناء النار وعدم دوامه وقد نقل عنه شارح قصيدة الإمام ابن القيم: (الكافية الشافية) (¬1) (1 / 97) أنه قال: (والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولم يكتب عليهن الموت فمن قال خلاف ذلك فهو مبتدع) ونحوه قول ابن حزم في (الملل والنحل) (4 / 83) : (اتفقت فرق الأمة كلها على: أنه لا فناء للجنة ولا لنعيمها ولا للنار ولا لعذابها إلا جهم بن صفوان ... ) وفي (العقيدة الطحاوية) (ص 420 - بشرحها طبع المكتب الإسلامي) : (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان) ثم رأيت ابن حزم قد أورد المسألة أيضا في كتابه (مراتب الإجماع) فقال (ص 173) : ( ... وأن النار حق وأنها دار عذاب أبدا لا تفنى ولا يفني أهلها أبدا بلا نهاية) وأقره شيخ الإسلام أحمد بن تيمية خلافا لغيرها من المسائل التي تعقبه فيها ومن العجيب أن هذا القول بعدم فنائها هو مما ذهب إليه ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ كما يدل عليه ظاهر كلامه في كتابه (الروح) (ص 34 - طبعة صبيح) بل ذلك ما صرح به في بعضه كتبه ¬
1 - قال في (الكافية الشافية) : ثمانية حكم البقاء يعمها ... من الخلق والباقون في حيز العدم هي: العرش والكرسي ونار وجنة ... وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم (¬1) 2 - وأصرح منه ما كنت نقلته عنه في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) في كتابه (الوابل الصيب) (ص 26) قال ما نصه: (وأما النار فإنها دار الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمشارب ودار الخبيثين فالله تعالى يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشيء لتراكب بعضه على بعضه ثم يجعله في جهنم مع أهله فليس فيها إلا خبيث. ولما كان الناس على ثلاث طبقات: طيب لا يشوبه خبث. وخبيث لا طيب فيه. وآخرون فيهم خبث وطيب. كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض ودار الخبث المحض وهاتان الداران لا تفنيان ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى وهي دار العصاة فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد فإنهم إذا عذبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة ولا يبقى إلا دار الطيب المحض ودار الخبث المحض 3 - تصريحه في مقدمة كتابه العظيم: (زاد المعاد في هدى خير العباد) بأن المشرك لا تطهره النار ولو أخرج منها عاد خبيثا كما كان وقد حرم الله عليه الجنة ¬
وسيذكر المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ نص كلامه في ذلك في أول الرسالة (ص 63) فإن قيل: إن بعض الآيات التي احتج بها الإمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ هي على الأقل قطعية الدلالة في ديمومة عذاب الكفار وعدم فناء النار كقوله تعالى: {لا يخفف عنهم من عذابها} وقوله: {إنكم ماكثون} وقوله: {ما لنا من محيص} وغير ذلك من الآيات التي تأولها ابن القيم وأخرجها عن دلالتها على عدم الفناء مما سيأتي ذكره في الرسالة ورد المصنف عليه. وكذلك بعض الأحاديث الصحيحة تدل دلالة قاطعة على ذلك ولا بأس من أن أذكر الآن بعضها: الأول: حديث أنس الطويل في شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفيه: (صحيح) (فأخرجهم فأدخلهم الجنة فما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن. أي وجب عليه الخلود) . رواه الشيخان وغيرهما وهو مخرج في (ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم) . (804 - 810) (1) الثاني: حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (صحيح) (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس (2) أصابتهم النار بذنوبهم أو قال: بخطاياهم فأماتهم الله تعالى إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة ... ) الحديث أخرجه مسلم (1 / 118) وغيره وهو مخرج في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) (1551) . وفي رواية عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطب فأتى على هذه الآية: {لا يموت فيها ولا يحيى} فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فذكره نحوه إلا أنه قال: (وأما الذين ليسوا من أهل النار فإن النار تميتهم ... .) . ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية (1) مع كتاب (السنة لأستاذنا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني طبع المكتب الإسلامي (2) وقع هنا في (مختصر مسلم) للمنذري (رقم - 87) زيادة (منكم) فلتحذف فإنها ليست في مسلم
من رواية أبي حاتم كما في (مجموع الفتاوى) (16 / 195) ووجه دلالة الحديث أنه صرح تبعا للقرآن أن الكافر لا يموت في النار ولا يحيى فإذا قيل بأن النار تفنى فإما أن يقال: تفنى بمن فيها كما هو المتبادر إن قيل بفنائها أو تفنى لوحدها دون من فيها وكلاهما باطل لأن معنى الآية كما في (تفسير ابن كثير) : (أن الكافر لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة تنفعه بل هي مضرة عليه) . فإن فني الكافر معها فقد مات واستراح. وإن حيي دونها فقد استراح منها أيضا. وكل هذا باطل بداهة فإذا انضم إلى ذلك القول بأنه يدخل الجنة فهو أبطل الثالث: حديث ذبح الموت بين الجنة والنار وقد جاء عن جمع من الصحابة كابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم في (الصحيحين) وغيرهما فلنذكر حديثين منها: أحدهما: عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: (صحيح) (يدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت كل خالد فيما هو فيه) أخرجه الشيخان والآخر: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (صحيح) (يؤتى بالموت يوم القيامة فيوقف على السراط فيقال: يا أهل الجنة فيطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ثم يقال يا أهل النار فيطلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه فيقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا: نعم هذا الموت قال: فيؤمر فيذبح على الصراط ثم يقال للفريقين كلاهما: خلود فيما تجدون لا موت فيها أبدا) أخرجه ابن ماجه بإسناد جيد كما قال المنذري وصححه ابن حبان (2614) وأحمد (2 / 261)
قلت: ففي الحديث دلالة قاطعة على بطلان دعوى فناء النار لأنه جعلها كالجنة من حيث خلود أهلها فيما هم فيه من العذاب إلى الأبد فكما أن الجنة لا تفنى أبدا فكذلك النار لا تفنى أبدا وكل ذلك واضح بين إن شاء الله تعالى بعد هذا أعود فأقول: عن ما تقدم من الآيات والأحاديث صريحة في الدلالة على بطلان القول بفناء النار فكيف ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وانتصر له تلميذه ابن قيم الجوزية؟ فأقول: إن أحسن ما أجد في نفسي من الجواب عنهما إنما هو أنه لما توهما أن بعض الصحابة قد ذهبوا إلى ذلك وهم قدوتنا جميعا لو صح ذلك عنهم رواية ودراية ولم يصح كما سيأتي بيانه عند المؤلف الصنعاني رَحِمَهُ اللَّهُ واقترن مع ذلك غلبة الخوف عليهما من الله {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (¬1) والشفقة على عباده تعالى من عذابه وغمرهما الشعور بسعة رحمته وشمولها حتى للكفار منهم وساعدهما على ذلك ظواهر بعض النصوص ومفاهيمها فأذهلهما ذلك عن تلك الدلالة القاطعة وقالا ما لم يقل أحد قبلهما وما أرى لهما شبها في هذا إلا ذلك المؤمن الذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار ليضل عن ربه فلا يقدر على تعذيبه زعم كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (صحيح) (قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مات فحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر الله له) أخرجه الشيخان وغيرهما عن جمع من الصحابة منهم أبو هريرة وهذا لفظه ¬
عند مسلم (8 / 97) وسيأتي عن ابن يتيمة وغيره أنه متواتر في التعليق (97) فهذا الرجل أنساه خوفه من ربه قدرته تعالى على إعادة خلقه وهي معلومة يقينا {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم. قل يحيها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} [يس / 78 79] فما أشبه ابن تيمية به من حيث أنه غفل عن المعلوم يقينا أيضا وهو أن النار باقية لا تفنى إلا أن الحامل له على ذلك إنما كان ثقته البالغة في رحمة ربه وعوه وأنها وسعت كل شيء دون ما استثناء ووافق ذلك منه خلقا كريما وطبع رحيما جبله الله عليه عرف به بين أصحابه ولا أدل على ذلك مما كتب به إليهم من سجنه الظالم في مصر: (فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه فإني قد أحللت كل مسلم وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسه والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي ... أسأل الله أن يتوب عليهم وأنتم تعلمون هذا من خلقي ... ) . انظر (مجموع الفتاوى) (28 / 55 - 56) وساعده على ذلك ظواهر بعض الآيات والأحاديث التي لم يمعن النظر فيها فلم يتبين له خطأ استدلاله بها حتى استقر ذلك القول في نفسه وأخذ بمجامع لبه فصار يدافع عنه ويحتج له بكل دليل يتوهمه ويتكلف في الرد على الأدلة المخالفة له تكلفا ظاهرا خلاف المعروف عنه وتبعه في ذلك بل وزاد عليه تلميذه وماشطة كتبه - كما يقو ل البعض - ابن قيم الجوزية حتى ليبدو للباحث المتجرد المنصف أنهما قد سقطا فيما ينكرانه على أهل البدع والأهواء من الغلو في التأويل والابتعاد بالنصوص عن دلالتها الصريحة وحملها على ما يؤيد ويتفق مع أهوائهم كما سترى ذلك مفصلا في (الرسالة) هذه (ص 116 - 122) حتى بلغ الأمر بهما إلى تحكيم العقل فيما لا مجال له فيه كما يفعل
المعتزلة تماما وقد تعلمنا من ابن تيمية وابن القيم - جزاهما الله خيرا - الرد عليهم في مثله فزعما أن عذاب النار سبب لإزالة آثار الخبث والنجاسة من الكفار فإذا تطهروا منها عادوا إلى فطرتهم الأولى فيزول العذاب ويبقى مقتضى الرحمة) كما سيأتي (ص 122) نقلا عن ابن القيم ومضى نحوه من كلام ابن تيمية. فتأمل معي في ذلك تجده كلاما خطابيا خياليا لا حقيقة تحته فإنه يفترض ذهاب تلك الخبائث وتلاشيها وزوال العذاب عن الكفار وهم في الدار الآخرة حيث لا تكليف فيها فإن من المعلوم يقينا أننا لو تخيلنا كافرا تاب إلى ربه وأناب إليه حينما رأى العذاب بأم عينيه أنه لا يفيده ذلك شيئا بالإجماع فكيف ينفعه شيء وهو لم يتب وهو في العذاب محترق؟ تالله إنها لإحدى الكبر أن يخفى مثل هذا على أحد من المسلمين فكيف بشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم الهمام ونحن دائما نغترف من بحر علومهما ونستضيء بنور أدلتهما في إزالة الشكوك والأوهام في كثير مما اختلف فيه الناس قديما وحديثا وعلى سبيل المثال المناسب للحال أذكر هنا ملخصا فتوى لابن تيمية جاءت في (مجموع الفتاوى) (4 / 324) : (سئل الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: هل صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله تعالى أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه ثم ماتا بعد ذلك؟) فأجاب: (لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث بل أهل الحديث متفقون على أن ذلك كذب مختلف وإن كان قد روي بإسناد فيه مجاهيل وأمثال هذه المواضع فلا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذبا كما نص عليه أهل العلم فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإنه من أعظم الأمور خرقا للعادة من وجهين: 1 - من جهة إحياء الموتى:
2 - ومن جهة الإيمان بعد الموت ثم هذا خلاف الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع قال الله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما. وليس التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار} . [النساء / 17 18] فبين الله تعالى أنه لا توبة لمن مات كافرا. وقال تعالى: {فلم يك ينفعهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} [غافر / 85] فأخبر أن سنته في عباده أنه لا ينفع الإيمان بعد رؤية البأس فكيف بعد الموت؟) قلت: فمن يفتي بهذا كيف يعقل أن يقول بنقيضه لولا الذهول الذي نوهت عنه بل إنه زاد على ذلك فقال ابن تيمية فيما تقدم من رسالته (ص 13) : (ولو قدر عذاب لا آخر له لما يكن هناك رحمة البتة) ويا سبحان الله أين هو من مثل قوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} [الأعراف / 156] وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (صحيح) (إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فيها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة) . أخرجه الشيخان وكذا أحمد والحاكم وصححه من طرق عن أبي هريرة بلفظ: (فيكملها مائة رحمة لأوليائه يوم القيامة) وله بعض الشواهد خرجتها معه في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) رقم 1634) فالآية الكريمة والحديث الشريف صريحان في أن الرحمة إنما هي للذين
يستحقونها من المؤمنين كلما كان المؤمن لله أتقى كلما كان بها أحظى وليس الأمر كما يرجو بعض المهابيل من الذين يترنمون بقول شاعرهم البوصيري لعل رحمة ربي حين يقسمها تأتي على حسب العصيان في القسم كيف هذا وربنا يقول: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروق وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطعيون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} [التوبة / 71] ويقول: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} . [البقرة / 218] ولذلك كان من دعاء الملائكة الذين يحملون العرش: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} [غافر / 7] . فكل من وقاه الله تبارك وتعالى عذاب الجحيم فهو منغمس في رحمة الله يومئذ كما هو صريح قوله عَزَّ وَجَلَّ: {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرت بعد إيمانكم فذقوا العذاب بما كنتن تكفرون. وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} [آل عمران / 106 و107] فكيف يقول ابن تيمية: (ولو قدر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة) فكأن الرحمة عنده لا تتحقق إلا بشمولها للكفار المعاندين الطاغين أليس هذا من أكبر الأدلة على خطأ ابن تيمية وبعده هو ومن تبعه عن الصواب في هذه المسألة الخطيرة؟ فغفرانك اللهم ولعل ذلك كان منه إبان طلبه للعم وقبل توسعه في دراسة الكتاب والسنة وتضلعه بمعرفة الأدلة الشرعية في الوقت الذي كان يحسن الظن بابن عربي الصوفي القائل بأن عذاب الكفار في النار لا يستمر بل ينقلب عليهم إلى عذوبته يتلذذون بها كما في (حادي الأرواح) (2 / 168) فلما تبين له حاله رجع عنه كما
تحدث بذلك هو نفسه فقال كما في (مجموع الفتاوى) (2 / 464 - 465) : (وإنما كنت قديما ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظمه لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من (الفتوحات) (والدرة الفاخرة) و (مطالع النجوم) ونحو ذلك ولم نكن بعد أطلعنا على حقيقة مقصودة ولم نطالع (الفصوص) ونحوه ... ) ومثله جزمه بحياة الخضر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع إبطاله لحديث (لو كان الخضر حيا لزارني) وقوله: بل المروي في (مسند الشافعي وغيره أنه اجتمع بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومن قال إنه لم يجتمع بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد قال ما لا علم له) (1) . ذكر له ذلك في فتوى له تجد نصفها في (المجموع) (4 / 338 - 340) أنظر (10 / 46) فإن المعروف عنه رَحِمَهُ اللَّهُ أنه يقول بموت الخضر عليه السلام كما هو قول كثير من الأئمة كالإمام البخاري وقد صرح بذلك في كثير من رسائله وفتاويه فقال في (زيارة بيت المقدس) (27 / 18) : (وكذلك الذي يرون الخضر أحيانا هو جني لبس على المسلمين الذي رأوه وإلا فالخضر الذي كان مع موسى عليه السلام مات ولو كان حيا على عهده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويؤمن به ويجاهد معه ... ولم يذكر أحد من الصحابة أنه رأى الخضر ولا أنه أتى إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإن الصحابة كانوا أعلم وأجل قدرا من أن يلبس الشيطان عليهم ولكن لبس على كثير ممن بعدهم ... ) وقال في موضع آخر (27 / 100) (والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت وأنه لم يدرك الإسلام ولو كان (1) يشير إلى حديث وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واجتماع الصحابة حوله ومجيء الخضر عليه السلام وتعزيته إياهم وهو حديث موضوع خرجته في (الضعيفة) (5204)
موجودا في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لوجب أن يؤمن به ويجاهد معه ... وإذا كان الخضر حيا دائما فكيف لم يذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك قط ولا أخبر به أمته ولا خلفاؤه الراشدين؟) قلت: حتى ولا ذكر ذلك لأمين سره حذيفة بن اليمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهـ فمن ذا الذي يدعي بعد ذلك أنه علمه ما لم يعلم هؤلاء الأجلة العظماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وقد صرح ابن تيمية بموت الخضر في مواطن أخرى كثيرة فانظر مثلا (1 / 249) من (المجموع) أليس في ذلك دليل واضح على أن فتواه الأولى بحياة الخضر كانت في أول أمره ولا سيما وقد احتج لها بحديث الشافعي وهو موضوع كما هو مبين في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) برقم (5204) فيه القاسم بن عبد الله العمري قال أحمد: (كان يكذب ويضع الحديث) ومن ذلك أنه كان يفتي بنجاسة الزيت ونحوه إذا وقعت فيه نجاسة مثل الفأرة الميتة كما هو مذهب الشافعي وغيره اعتمادا منه على حديث أبي داود: (إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم وإن كان مائعا فلا تقربوه) فلما تبين له أن قوله فيه: (وإن كان مائعا فلا تقربوه) ضعيف رجع عنه إلى القول: بعدم التفريق بين المائع والجامد وأن العبرة في كل ذلك إنما هو التغير فقال في فتوى له: (وهذا هو الذي تبين لنا ولغيرنا ونحن جازمون بأن هذه الزيادة ليست من كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلذلك رجعنا عن الإفتاء بها بعد أن كنا نفتي بها أولا فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل) (مجموع الفتاوى 21 / 515 - 516) (1) (1) وانظر (المسائل الماردينية) لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق زهير الشاويش ص 27 طبع المكتب الإسلامي
ونحوه رجوع عن بعض أحكام المناسك التي كان قلد فيها من قبله من العلماء كما قال في (منسكه) (المجموع 26 / 98) ولا غرابة في أن يكون لمثله أكثر من قول واحد في بعض المسائل وأن يخطئ في بعض آخر فإن ذلك من الأمور الطبيعية التي لا يخلو منها أحد من العلماء بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإن من المعلوم أن أحدهم كلما طال به الزمن في طلب العلم وتقدم به في ذلك العمر كلما ازداد به معرفة ونضجا وهذا هو السبب في كثرة الأقوال التي تروى في المسألة الواحدة عن بعض الأئمة المتبوعين وبخاصة منهم الإمامين أحمد وأبا حنيفة وتميز الإمام الشافعي من بينهم بمذهبه القديم والجديد. وهذا أبو الحسن الأشعري - إمام الأشاعرة في العقيدة - نشأ في الاعتزال أربعين عاما يناظر عليه ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (المجموع) (4 / 72) وقد صرح بهذه الحقيقة الإمام أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ حين نهى أبا يوسف عن تقليده فقال له: (ويحك يا يعقوب لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد) ولذلك تتابعت أقوال الأئمة الأربعة وغيرهم في النهي عن تقليدهم وجرى في ذلك على سننهم كل من جاء بعدهم من العلماء المحققين من أمثال ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى وجريت أنا على هذا الذي خططوه لنا في كل ما تبين من العلم كما تراه موضحا في مقدمة (صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) وهذا هو السبب الذي يحملني على أن لا أحابي في ذات الله أبا أو أداري في دين الله أحدا فترانا هنا نرد على شيخ الإسلام ابن تيمية قوله بفناء النار ولا نداريه مع عظمته في نفوسنا وجلالته في قلوبنا فضلا عن أننا لا نقلده في ديننا خلافا لما عليه عامة المقلدة الذين يحملهم إجلالهم لإمامهم على تقليده ونبذ
قول كل من خالف حتى ولو كان المخالف هو النبي محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بديل أن يتخذوه وحده قدوة ولا يشركوا معه في ذلك أحدا كما هو الواجب (¬1) بل إنهم ليصرحون بخلاف ذلك كما قال أحدهم اليوم في كتيب له: (أفلا يحق لنا أن نعتبر من واقع غيرنا (يعني السلفيين) فنثبت عند أقوال الإمام الذي يسر الله تعالى لنا الاقتداء به منذ أول نشأتنا) (¬2) ونحن نقول بقول رب العالمين في القرآن الكريم: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} ؟ فأين أنت يا هذا من قوله تبارك وتعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} ؟ وغير ذلك من النصوص التي توجب على كل مسلم اتباعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دون سواه {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} ولكن {من لم يجعل الله له نورا فما له من نور} وإذا كان هذا موقف المقلدة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فماذا يكون موقفهم من المحبين له المخلصين في الاقتداء به لا سيما إذا كان من العلماء العاملين المعروفين بالرد على كل من خالف شرعة رب العالمين كابن عربي وابن الفارض القائلين بوحدة الوجود وأن الخالق هو عين المخلوق وعلى غيرهم من علماء الكلام والمتصوفة والمقلدة وسائر الهالكين من الأنام ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ فإننا نرى المقلدة في كل عصر ومصر يعادونه أشد العداء لا سيما إذا عثروا له على قول خالف فيه العلماء كمسألتنا هذه فهناك تراهم يصولون ويجولون ومن عرضه ينالون وفي دينه يطعنون بل وبالكفر والضلال يصرحون كما يفعل الكوثري والحبشي وغيرهما اليوم وهم - مع الأسف - ¬
كثيرون ولكنهم غثاء كغثاء السيل لأنهم بالقرآن لا يعملون بل هن عنه يعدلون إلى تحكيم أهوائهم وإلا فأين هم من قوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} فهل من العدل في شيء أن يتخذوا شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللَّهُ غرضا للتكفير والتضليل لقوله هذا ونحوه من الأقاويل ولا ينبسون ببنت شفة في حق ابن عربي مثلا الذي ملأ الدنيا بالكفريات والأضاليل وهلك بسببه الألوف المؤلفة من خاصة المسلمين فضلا عن عامتهم المهابيل فضلوا جميعا عن سواء السبيل مع البون الشاسع والفرق اللامع بين الرجلين فإن عربي ليس له ذكر ولا أثر في العلوم الإسلامية كالتفسير والحديث والفقه كما لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه الذي شهد بفضله وغزارة علمه القريب والبعيد والحبيب والبغيض فهم جميعا يغترفون من بحر علومه بأوفى نصيب فهو بحق كما قال السيد محمد رشد رضا رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: (رحم الله شيخ الإسلام وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء فوالله إنه ما وصل إلينا من علم أحد منهم ما وصل إلينا من علمه: في بيان حقيقة هذا الدين وحقيقة عقائده وموافقة العقل السليم وعلومه للنقل الصحيح من كتاب وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بل لا نعرف أحدا منهم أوتي مثل ما أوتي من الحجج بين علوم النقل وعلوم العقل بأنواعها مع الاستدلال والتحقيق دون محاكاة أو تقليد) (¬1) وما لنا نذهب بعيدا فهناك بعض الأئمة المتقدمين ممن يقلدهم اليوم جماهير المسلمين ممن ذهب إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص مع مخالفة ذلك لأدلة الكتاب والسنة الصريحة وأقوال سلف هذه الأمة مما هو معروف ومبسوط في ¬
محله فلماذا مع ذلك يعتذر عنه بعض المقلدين وجمهورهم له يقلدون وعن ابن تيمية يزورن بل وله يعادون والحكم واحد فهلا ساقوهما مساقا واحدا واعتذروا عنهما كليهما بجامع كونهما من أفاضل العلماء الأتقياء أم الأمر كما قال الشاعر: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا ولست بالذي يتبع عثرات العلماء وإنما هي الأمثال نضربها للناس لعلهم يتذكرون فينصفون ابن تيمية ولا يظلمون وإلا فإن من فضائل ابن تيمية التي حرمها المقلدة علما وعملا تحذيره عن تتبع زلات العلماء وعن التكلم فيهم لأن الله عفا عما أخطؤوا فيه فقال في آخر رسالته في تحريم الشطرنج في (المجموع) (32 / 239) ما نصه: (وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل فإن الله تعالى عفا عن المؤمنين عما أخطؤوا كما قال تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال الله: قد فعلت (¬1) . وأمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتع من دونه أولياء وأمرنا أن لا نطيع مخلوقا في معصية الخالق ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان فنقول: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} . (¬2) وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الأمور ونعظم أمره تعالى بالطاعة لله ورسوله ونرعى حقوق المسلمين لا سيما أهل العلم منهم كما أمر الله ورسوله ومن عدل عن هذه الطريقة فقد عدل عن اتباع الحجة إلى اتباع ¬
الهوى في التقليد وآذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فهو من الظالمين. ومن عظم حرمات الله وأحسن إلى عباد الله كان من أولياء الله المتقين) {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} وإن مما يمنع توجيه الطعن في ابن تيمية لقوله بفناء النار علاوة على ما ذكرنا آنفا أن له قولا آخر في المسألة وهو عدم فنائها كما سبق بيانه بالنقل عنه. وإذا كنا لا نعلم أي القولين هو المتأخر فمن البدهي أن الطاعن لا بد له من الجزم بأنه هو الأول ودون هذا خرط القتاد وأما نحن فإن حسن الظن الذي أمرنا به يقتضينا بأن نقول: لعله القول الآخر لأنه موافق للإجماع الذي نقله هو نفسه فضلا عن غيره كما تقدم وقد يؤيده هذا أن ابن القيم نقله أيضا كما بق في قصيدته (الكافية الشافية) فالظاهر أنه مات على ذلك لأنها قرئت عليه في آخر حياته فقد ترجمه الحافظ ابن رجب الحنبلي في (طبقاته) وذكر في آخرها ما يشعرنا بذلك فقال: (2 / 448) : (ولازمت مجالسه قبل موته أزيد من سنة وسمعت عليه قصيدته النونية الطويلة في السنة وأشياء من تصانيفه وغيرها) أقول فإذا صح ظننا هذا فالحمد لله وإلا فأسوأ ما يمكن أن يقال: إنه خطأ مغفور لهما بإذن الله تعالى لأنه صدر عن اجتهاد صادق منهما ومعلوم أن المجتهد مأجور ولو أخطأ كما جاء في الحديث الصحيح: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) . متفق عليه وقد تقرر في الأصول أن الخطأ مغفور ولو في المسائل العلمية كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه وفتاويه (¬1) هذا بالإضافة إلى ما لهما من الجهاد والبلاء الحسن في الدعوة إلى العمل بالكتاب ¬
والسنة والرد على المبتدعة والفرق الضالة وتقديم الإسلام إلى المسلمين صافيا نقيا على منهج السلف الصالح وإن ما نراه اليوم في العالم الإسلامي من نهضة فكرية وعلمية ودعوة سنية سلفية فهو ثمرة من ثمار جهادهما وصبرهما جزاهما اله تعالى عن الإسلام والمسلمين خيرا ولذلك رأينا المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى مع أنه لم يقصر في الرد عليهما فإنه لا يذكرهما إلا مقرونا بالإجلال والإكبار وبخاصة الشيخ ابن تيمية فإنه وصفه في أول الكتاب ب (العلامة شيخ الإسلام) ويذكره بهذا اللقب كثيرا ووصفه في مكان آخر (ص 120) بتبحره في العلوم وسعة اطلاعه على أقوال السلف والخلف) وصدق من قال: (إنما يعرف الفضل لذوي الفضل أهل الفضل) (¬1) . أقول هذا لأن كثيرا من المقلدة المتعصبة تقزز نفوسهم من إطلاق لقب (شيخ الإسلام) على ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى حتى أن العلاء البخاري الحنفي المتعصب كفر من يلقبه به وقد رد عليه أحسن الرد الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي في كتابه القيم (الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمية (شيخ الإسلام) كافر) . ذكر فيه نحو المائة من كبار العلماء المشهورين من مختلف المذاهب وكلهم يلقب ابن تيميه يلقبه: (شيخ الإسلام) . وقد قام بتحقيقه والتعليق عليها أخونا الأستاذ زهير الشاويش صاحب المكتب الإسلامي جزاه الله خير الجزاء على جهده القيم أقول هذا بيانا للحقيقة وإلا فأنا أعلم أن هذا اللقب وغيره مما هو مستعمل اليوم لم يكن معروفا عند السلف فالخير كله في الاتباع ولا سيما وقد صار مبتذلا في العصور المتأخرة بحيث أنهم يطلقونه نفاقا ورياء على من لا علم عنده بل هو ممن يصدق عليه المثل الشهير: لا في العير ولا في النفير ¬
ولعل من ألطاف الله تعالى بالشيخين رحمهما الله تعالى أننا لم نر أحدا - فيما أطلعنا - تبعهما على ذلك القول بالفناء فهذا شارح العقيدة الطحاوية مثلا فإنه مع كونه لا يكاد يخرج فيه عما ذهب إليه ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى فإنه ههنا ذكر أدلة هذا القول ثم ذكر أدلة القول الآخر وهي ملخصة من كلام ابن القيم ولم يرجح شيئا منهما ذكر ذلك تحت قول الطحاوي المتقدم: (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان) وأما العلامة السفاريني فقد رأيته تعرض للموضوع في كتابه (شرح الدرة المضية في عقد الفرق المرضية) ونقل فيه طرفا من بحث ابن القيم ولكنه صرح بمخالفته فإنه ذكر بعض الآيات المستلزمة لدوام العذاب وحديث ذبح الموت المتقدم ثم قال (2 / 234 - 235) : (فثبت بما ذكرنا من الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة خلود أهل الدارين خلودا مؤبدا كل بما فيه من نعيم وعذاب أليم وعلى هذا إجماع أهل السنة والجماعة فأجمعوا أن عذاب الكفار لا ينقطع كما أن نعيم أهل الجنة لا ينقطع وقد ألف العلامة مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي رسالة سماها (توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين) وهذا ما ذهب إليه الشيخ نعمان الآلوسي فإنه تعرض للمسألة في كتابه (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) (ص 420 - 424) نقل فيه الأقوال السبعة في عذاب أهل النار وقال: (وأما بداية النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف والأصح عدم فنائها أيضا) ثم قال في قول ابن تيمية: (واعلم أن الإمام ابن القيم قدس الله تعالى روحه انتصر لهذا القول انتصارا عظيما ومال إليه ميلا جسيما وذكر خمسة وعشرين دليلا ثم رجع القهقرى
وقال: إن قيل: إلى أين انتهى قدمك في هذه المسألة العظيمة؟ قيل: إلى قوله تعالى {إن ربك فعال لما يريد} وإلى هنا انتهى قدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهـ (¬1) فيها حيث ذكر دخول أهل الجنة وأهل النار وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء قال: ثم يفعل لك بعد ذلك ما يشاء. ثم قال: وما ذكرناه في هذه المسألة من صواب فمن الله سبحانه وهو المنان وما كان من خطأ فهو مني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه) قلت: وقوله في ابن القيم: (ثم رجع القهقرى وقال ... ) نظر عندي لأنه ليس صريحا في ذلك وغاية ما يمكن أن يؤخذ منه أنه لم يجزم بما دندن حوله من الانتصار للقول بفناء النار ومناقشة أدلة المخالفين ورده عليها مما سترى الرد عليه فيها في الكتاب أن شاء الله تعالى ولكن ذلك لا ينفي ميله إلى ترجيحه إياه وإلا كانت دندنته {كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} وهذا مما لا يليق أن يقال في مثله كما لا يخفى ويؤيد هذا أن خاتمته للبحث في (شفاء العليل) التي أشرت إليها آنفا أقوى في الدلالة على ما ذكرت فإنه قال ما خلاصته (ص 264) : (وأنا في هذه المسألة على قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهـ فإنه ذكر دخول أهل الجنة ... والقول بأن النار وعذابها دائم بدوام الله خبر عن الله بما يفعله فإن لم يكن مطابقا لخبره عن نفسه بذلك وإلا كان قولا عليه بغير علم والنصوص لا تفهم ذلك. والله أعلم) قلت: فقوله: (والنصوص لا تفهم ذلك) صريح منه بأنه لا يختار القول ببقاء النار فهو إذن يميل إلى القول بفنائها غير أنه لا يقطع بذلك لأنه يشعر أنه ليس لديه دليل قاطع فيه وإنما هو فهمه واستنباطه ولذلك ترك فيها مجالا ¬
للأخذ والرد كما هو شأن العلماء المنصفين الذين لا يفرضون رأيهم على الآخرين لا سيما في مثل هذا الفهم الذي أجمع العلماء على خلافه ومما يؤكد ذلك قوله في خاتمة بحثه في (الصواعق) : ( ... فتأمل هذا الوجه حق التأمل وأعطه حقه من النظر واجمع بين ذلك وبين معاني أسمائه وصفاته وما دل عليه كلام الله وكلام رسوله وما قاله الصحابة ومن بعدهم ولا تبادر إلى القول بلا علم ولا إلى الإنكار فإن أسفر لك صبح الصواب وإلا فرد الحكم إلى ما رده الله إليه بقوله {إن ربك فعال لما يريد} وتمسك بقول علي ابن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهـ وقد ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ووصف حالهما ثم قال: ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء) ولكني ألاحظ في هذا النص أنه يأمر فيه من لم يتبين الصواب أن ينهي إلى قوله تعالى: {إن ربك فعال لما يريد} وقول علي المذكور وذلك ما انتهى هو إليه في خاتمة (الحادي) فهل يعني ذلك أن ابن القيم نفسه بعد تلك المناقشة الطويلة لم يتبين له الصواب فانتهى إلى ما أمر به من لم يتبين له الصواب أم هو التردد في مثل هذه المسألة الخطيرة التي كان الأولى به أن يقف فيها حيث وقف العلماء ولا يدخل نفسه في مضايق لا قبل للعقل البشري أن يدخلها؟ ويؤسفني والله جدا قوله المتقدم: (والنصوص لا تفهم ذلك) كيف يتجرأ على مثل هذا القول والنصوص قاطعة في ذلك من الكتاب والسنة كما تقدم فلا جرم أجمعت على مدلولها الأمة. فالحق والحق أقول: لقد أصيب ابن القيم في هذه المسألة مع الأسف الشديد بآفة التأويل التي ابتلي بها أهل البدع والأهواء في مقالتهم التي خرجوا بها عن نصوص الكتاب والسنة فرد عليهم ذلك هو وشيخه ابن تيمية أحسن الرد في كتبهما الكثيرة المعروفة فما باله وقع في مثل ما وقعوا من التأويل
ولقد كان أوله في تأويلهما قول عمر على انقطاعه: (لو لبث أهل النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه) . فاستدلا به على الفناء المزعوم وهو صريح في الخروج من النار وهما لا يقولان به وهكذا تأولوا كثيرا من الآثار بالفناء وهي في الخروج كما ستراه مفصلا في الكتاب بإذن الله تعالى ثم قال الشيخ نعمان الآلوسي في (محاكمة الأحمدين) ص (424) : (ونقل الوالد قدس الله تعالى روحه في (تفسيره) عن الفهامة ابن الجوزي: أنه ضعف بعض الآثار الواردة في ذلك. (ثم ذكر خبر ابن عمرو الآتي (ص 81) ثم قال: وأول البعض أيضا بعضها قال: (وأنت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون لا عبرة بالمخالف والقواطع أكثر من أن تحصى ولا يقاوم واحدا منها كثير من هذه الأخبار) قلت: ولو كان العلم بالتمني لتمنيت أن يكون ما عزاه العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي لابن القيم صحيحا ولكنها من أوهام العلماء فقد قال في تفسيره (محاسن التأويل) (6 / 2503 - 2504) : (وقد بسط البحث وجود الإمام ابن القيم في كتابه (حادي الأرواح) ومع كونه انتصر لهذا القول انتصارا عظيما وذكر له خمسة وعشرين دليلا لم يصححه حيث قال: وأما أبدية النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف والأصح عدم فنائها. أيضا. انتهى) فقوله: (وأما أبدية النار ... ) إلخ. إنما هو من كلام الشيخ نعمان الآلوسي كما تقدم نقله عنه توهمه الشيخ القاسمي - على ما كان عليه من الوعي - أنه من كلام ابن القيم وبناء عليه قال: (لم يصححه) فهو وهم آخر نشأ من الوهم الأول فسبحان من لا يسهو ولا يهم هذا - ثم أن ابن القيم - عفا الله عنا وعنه لم يقنع بميله إلى القول بفناء نار الكفار وتخلصهم به من العذاب الأبدي في تلك الدار حتى طمع لهم في رحمة الله
أن ينزلهم منازل الأبرار جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك ما يظهر لنا من بعض الأدلة التي ساقها تأييدا للقول بفناء النار وهو مما نبه عليه المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ معقبا على قول ابن القيم: (ثم تفنى ويزول عذابها) فقال (ص 64) : (يريد: ويدخل الله من كان فيها من الكفار الجنة كما ستعرفه من الأدلة التي ذكرها) وأعاد هذا المعنى في مكان آخر (ص 120) وإن مما لا شك فيه أن هذا الذي استظهرناه هو في الخطورة والإغراق كقوله بالفناء أن لم يكن أخطر منه لأنه كالثمرة له ولأنه لا قائل به مطلقا من المسلمين بل هو من المعلوم من الدين بالضرورة للأدلة القاطعة بأن الجنة محرمة على الكفار كقوله تعالى: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار} [المائدة / 72] وقوله: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف / 40] وكقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي أمر الذي أمر بالمناداة به يوم حنين: (إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة) . أخرجه البخاري ومسلم (01 / 74) عن أبي هريرة وله مثله عن عمر بلفظ ( ... إلا المؤمنون) وله شواهد فانظر (إرواء الغليل) (963) أن شئت. ويكفي في ذلك قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء / 48] فإننا نعلم بالضرورة أن من دخل الجنة فقد غفر الله له وعلى العكس ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بحث له في (المجموع) (14 / 476 - 477) (ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد وهم أهل {لا إله إلا الله} ) . ثم قال: (ولكن لا يعذب الله أحدا حتى يبعث إليه رسولا وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه)
قلت: ومثل هذا مما لا يخفى على ابن القيم بل هو ممن صرح بذلك في غير ما موضع من كتبه فهو يقول مثلا في (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) . (ص 89) : (إن الله حرم الجنة على كل مشرك) بل إنه لما حكى في (الحادي) (2 / 169 - 170) قول من يقولك أن أهل النار يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها ويخلفهم آخرون أبطله بعدة آيات ساقها كلها صريحة في عدم خروج أهل النار منها وكان آخرها آية الأعراف المتقدمة: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} . قال عقبها: (وهذا أبلغ ما يكون في الإخبار عن استحالة دخولهم الجنة) وحينئذ كيف يصح ما سبق من استظهارنا أن ابن القيم يميل إلى القول بأن الكفار يدخلون الجنة بعد العذاب؟ والذي يدور في ذهني من الجواب على وجهين: الأول: إما أن يقال: أن صريح كلامه ينافي ما وصل إليه باستنباطه فهو الذي ينبغي الاعتماد عليه ونسبته إليه وهو الأحب إلي والآخر: أن يجمع بين الصريح والمستنبط فيقال: الصريح يريد به دخول الكافر الجنة بعد خروجه من النار فهذا هو المستحيل وأما المستنبط فإنما يريد به دخول الجنة بعد فناء النار وهذا الجمع وإن بدا غريبا فليس بأغرب من تفريقه بين انتهاء عذاب الكفار بخروجهم من النار فهذا مستحيل أيضا وفقا لجميع العلماء وبين انتهاء عذابهم بفناء النار فهذا أمر جائز بل واقع عنده ويجادل فيه ويصول ويجول ويتأول النصوص الصريحة المخالفة له مما لا نعرفه عنه وإنما عن أهل البدع والأهواء الذين قضى حياته هو وشيخه في الرد عليهم والكشف عن ضلالتهم
وبغير هذا الجمع لا يمكن أن يفهم كلامه في رده على مخالفيه فانظر إلى قوله في (الحادي) (2 / 185) : (وأما الطريق الثاني وهو دلالة القرآن على بقاء النار وعدم فنائها فإن في القرآن دليل واحد يدل على ذلك؟ نعم الذي دل عليه القرآن: أن الكفار خالدين في النار إلى الأبد وأنهم غير خارجين منها و ... و ... و ... وليس هذا مورد النزاع وإنما النزاع في أمر آخر وهو أنه هل النار أبدية أو مما كتب عليه الفناء. قال: (وأما كون الكفار لا يخرجون منها و {لا يفتر عنهم} من عذابها {ولا يقضى عليهم فيموتوا} {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجميل في سم الخياط} فلم يختلف في ذلك الصحابة والتابعون ولا أهل السنة فهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية ولا يخرجون منها مع بقائها البتة) (¬1) فتأمل نقله اتفاق الصحابة ومن بعدهم على أنهم لا يدخلون الجنة كما في الآية الكريمة فإنه لا يتفق مع ميله إلى أنهم يدخلون الجنة يوما ما إلا يحمل الدخول المنفي على دخول مقرون بخروجهم نم النار والدخول المثبت على دخولهم بعد فناء النار كما ذكرنا وهذا المعنى يكاد يكون صريحا في سياق كلامه على هذه الطريق في كتابه (شفاء العليل) فإنه قال بعد الآيات النافية المتقدمة بما فيها الآية النافية لدخولهم الجنة قال (ص 260) : (وهذه الطريق لا تدل على ما ذكروه وإنما يدل على أنها ما دامت باقية فهم فيها فأين فيها ما يدل على عدم فنائها؟) قلت: فكأنه يريد أن يقول: وأين الدليل أيضا في الآية المذكورة على نفي ¬
دخولهم الجنة بعد فناء النار؟ فيا سبحان الله ما يفعل التأويل بأهله وإلى حضيض سحيق يهوون به فيه وإلا فقل لي بربك: كيف يمكن لابن القيم أن ينكر أبدية النار ببقاء أهلها فيها وعدم دخولهم الجنة مطلقا لولا تشبثه بذاك التأويل البشع وهو المعروف بمحاربته لعلماء الكلام من المعتزلة والأشاعرة لتأولهم كثيرا من آيات وأحاديث الصفات كاستواء الله على عرشه ونزوله إلى السماء ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك من التأويل الذي هو أيسر من تأويله فقد قال به كثير من المتأخرين خلافا للسلف وأما تأويله فلم يقل به أحد منهم لا من السلف ولا من الخلف إلا تقليدا لشيخه ولقد كان من الواجب عليه أن يلتزم بقول إمامه الذي قال ناصحا لكل سلفي: (إياك أن تتلكم في مسألة ليس لك فيها إمام) وكان في المحنة يقول: (كيف أقول ما لم يقل؟) (¬1) وإن مما يتنبه له الباحث المتأمل أن يرى موقفين متباينين أشد التباين لابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى فإنه في الوقت الذي مال إلى القول بفناء النار وانتصر وله ابن القيم ذاك الانتصار الغريب المتكلف نرى ابن القيم نفسه قد عقد في (الحادي) ستة أبواب في مسألة أخرى هي أهون من هذه بكثير من حيث موضوعها ومن حيث اختلاف العلماء فيها ألا وهي: جنة آدم عليه السلام التي أهبط منها هل هي جنة الخلد التي وعد بها المتقون وهذاكثير في كلام الإمام أحمد. انظر ما طبعنا من مسائله وهي: مسائل ابنه عبد الله وتلميذه ابن هانئ النيسابوي والخرقي. - زهير - ¬
أم غيرها؟ على قولين للعلماء أطال النفس فيها جدا (ص 43 - 80) وذكر حجة كل منهما وما له وما عليه وعلى الرغم من أن من القائلين بأنها ليست جنة الخلد أبا حنيفة وأصحابه وابن عيينة كما حكاه ابن القيم ومال إليه هو في آخر الباب الرابع (ص 68 - 69) : على الرغم من ذلك نرى شيخ الإسلام ابن تيمية يرده بكل صراحة وشدة يقول في بعض فتاويه: (والجنة التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة وأهل السنة والجماعة هي جنة الخلد ومن قال إنها في الأرض بأرض الهند أو بأرض جدة أو غير ذلك فهو من المتفلسفة والملحدين أو من إخوانهم المبتدعين فإن هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة) فأقول: أليس كان الحق بمثل هذا الرد الأشد من قال بفناء النار أيا كان القائل لأنه لم يقل به أحد حتى ولا المعتزلة ولأن أدلته وهمية لا حقيقة لها كما سيفصل المؤلف القول في ذلك تفصيلا ويبين بطلانها تبيانا بحيث لا يدع شبهة إلا أطاح بها ولا متأثرا بها إلا أعاده إلى الصراط المستقيم يمشي عليه سويا غير أن هناك شبهة أخرى أوردها ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ لم أر المؤلف جزاه الله خيرا تعرض لها فلا بد لي أن أذكرها لأرد عليها بما يبدوا لي راجيا منه تعالى أن يلهمني الصواب ويعصمني من الخطأ. قال في (الحادي) (2 / 221) : (لو جاء الخبر منه سبحانه صريحا بأن عذاب النار لا انتهاء له وأنه أبدي لا انقطاع له لكان ذلك وعيدا منه سبحانه والله تعالى لا يخلف وعده وأما الوعيد فمذهب أهل السنة كلهم: أن إخلافه كرم وعفو وتجاوز بمدح الرب تبارك وتعالى عليه فإنه حق له إن شاء تركه وإن شاء استوفاه والكريم لا يستوفي حقه فيكف بأكرم الأكرمين وقد صرح سبحانه في كتابه في غير موضع بأنه لا يخلف وعده ولم يقل في موضع واحد لا يخلف وعيده وقد روى أبو يعلى ... . عن أنس
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهـ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: (من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه ومن أوعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار) وأقول وبالله المستعان: أولا: قد جاءت الأخبار كتابا وسنة بأبدية النار وعذابها كما تقدم فلا داعي لإعادة وما تشبث به ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في خلاف ذلك مردود بل باطل كما يأتي شرحه من المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى ثانيا: ما ذكره: أن مذهب أهل السنة كلهم جواز إخلاف الله لوعيده لا أعلمه بهذا الإطلاق وقد بحث شيخ الإسلام الخلاف المعروف ين المرجئة والمعتزلة في الوعد والوعيد في مناسبات شتى فلم يذكر هذا (¬1) بل صرح بخلافه في بعض المواطن فإنه بعد أن ذكر حديث الشفاعة وغيره في دخول بعض الموحدين النار وخروجهم منها قال: (16 / 196) : (وفيه رد على من يقول: (يجوز أن لا يدخل الله من أهل التوحيد أحدا النار) كما يقوله طائفة من المرجئة والشيعة ... ) فإذا لم يجز هذا الإخلاف في حق الموحدين فكيف يجوز الإخلاف الأكبر الذي هو في حق المشركين؟ ثالثا: (ولم يقل في موضع واحد: لا يخلف وعيده) فأقول: قد فاته - عفا الله عنا وعنه - قوله تعالى في (ق: 27 - 29) {قال قرينة ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد. قال لا تختصموا لذي وقد قدمت إليكم بالوعيد. ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ عقبه (14 / 498) : (وهذا يقتضي أنه صادق في وعيده أيضا وأن وعيده لا يبدل وهذا مما ¬
احتج به القائلون بأن فساق الملة لا يخرجون من النار وقد تكلمنا عليهم في غير هذا الموضع لكن هذه الآية يضعف جواب من يقول: أن إخلاف الوعيد جائز فإن قوله: {ما يبدل القول لدي} بعد قوله: {وقد قدمت إليكم بالوعيد} دليل على أن وعيده لا يبدل كما لا يبدل وعده) رابعا: حديث أنس المذكور إسناده ضعيف كما كنت بنيته في (الأحاديث الصحيحة) (2463) وعلى فرض ثبوته فهو بمعنى قوله تعالى: {إن الله لا يفغر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وما في معناها من الأحاديث أي أن الحديث في الموحدين وليس في المشركين فهؤلاء مستثنون من المغفرة بهذه الآية وغيرها وإلى هذا أشار العلامة المرتضى اليماني بقوله في (إيثار الحق على الخلق) (ص 389) : (والحق أن الله لا يخلف الوعيد إلا أن يكون استثنى فيه) . وهذا مما يشعر به قول ابن تيمية نفسه في (مجموع الفتاوى) (24 / 375) فإنه قال: (وأحاديث الوعيد يذكر فيها السبب وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك إما بتوبة مقبولة وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مكفرة وإما بشفاعة شفيع مطاع وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته فإنه {لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فهذا منه رَحِمَهُ اللَّهُ كالتفصيل لكلام ابن القيم وهو يقيده ويبين أن الإخلاف للوعيد إنما يكون لمانع من تلك الموانع وليس منها الشرك بداهة فإن الله لا يغفره فتأمل في هذا يتبين لك خطأ ابن القيم في بعض مما يدعيه ويعزوه لأهل السنة دون قيد أو شرط فيكون ذلك مثار شبهة عنده تحمله على أن يتأول النصوص القاطعة الدلالة فيخرج بذلك عما عليه أهل السنة والجماعة فيقع في الخطأ من حيث لا يدري ولا يشعر
وإن من العجيب حقا أن ينفرد بالاغترار بكلامه في هذه المسألة الخطيرة العلامة السيد محمد رشيد رضا رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى لما تعلم عنه من استقلاله في الفهم وبعده عن الجمود والتقليد فإنه مع ذلك تابعه عليه دون كل من وقفنا على كلامه من المحققين الذين وقفوا عليه ولم يتابعوه أمثال الآلوسي أبا وابنا وغيرهما ممن سبق ذكره فقد نقل السيد رشيد كلام ابن القيم على طوله من (حادي الأرواح) في تفسير سورة (الأنعام) (ج 8 ص 69 - 99) تحت (فصل في الخلاف في أبدية النار وعذابها) وختمه مفصحا عن إعجابه به بقوله: (وإنما أوردناه بنصه على طوله لما تضمنه من الحقائق التي نوهنا بها ولأمر آخر أهم وهو أننا نعلم أن أقوى شبهات الناس من جميع الأمم على الدين قول أهل كل دين من الأديان المشهورة أنهم هم الناجون وحدهم وأكثر البشر يعذبون عذابا شديدا دائما لا ينتهي أبدا بل تمر ألوف الألوف المكررة من الأحقاب والقرون ولا يزداد إلا شدة وقوة وامتدادا مع قولهم ولا سيما المسلمين منهم: أن الله تعالى أرحم الراحمين وإن رحمة الأم العطوف الرؤوم بولدها الوحيد ليست إلا جزاءا صغيرا من رحمة الله التي وسعت كل شيء وهذا البحث جدير بأن يزيل شبهة هؤلاء فيرجع المستعدون منهم إلى دين الله تعالى مذعنين لأمره ونهيه راجين رحمته خائفين عقابه الذي تقتضيه حكمته لأنهم لا يعلمون قدره) (1) قلت هذا الكلام خيال لا حقيقة له في الواقع لأن الأصل في هذه المسألة وغيرها من المسائل الاعتقادية الغيبية إنما هو الإيمان بما جاءنا عن الرحمن الرحيم العليم الحكيم كما قال في القرآن الكريم: {هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب} (1) وقد أشرنا إلى الصواب في التعليق على (مختصر تفسير المنار) ج2 / 541 مع أنه السيد رشيد رضا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يسترسل فيه وهذا يدلك على فوائد مختصر المنار وتعليقات الشيخ محمد كنعان وقد قمت بمراجعته وهو من مطبوعات المكتب الإسلامي
وهو الإيمان بكل ما غاب عن عقلك فمن لم يؤمن بما أخبر به تعالى من خلود الكافرين في النار أبد العابدين لأن عقله لم يقبله فلن يؤمن بعقاب يبلغ مئات السنين أخبر به رب العالمين في مثل آية {لابثين فيها أحقابا} ولو على افتراض أن له أمد منتهيا (لا يعلمون قدره) إذ أن لبثهم هذه المدة الطويلة التي تزيد على مدة عمرهم الذي قضوه كافرين أضعافا مضاعفة فلو أراد أحد أن يقنعهم بها وأنها عدل من الله فلن يصل إلى نتيجة معهم أبدا اللهم إلا من طريق الإيمان بالله ورسوله وإذا كان الأمر كذلك فمن العبث بل من الضلال أن يحاول أحد إقناع المشركين في أصل الدين ببعض ما جاء فيه من العقائد من طريق العقل المجرد عن الإيمان فإن هذا مع كونه لا يثمر معهم إلا الخسران فإنه ليس من سبيل المؤمنين بل هو سبيل المتأثرين بالفلسفة وعلم الكلام الذي حملهم إلى تأول آيات وأحاديث الصفات وتفسيرها بما يتناسب مع عقولهم وأهواء أمثالهم من ضعفاء الإيمان وربما فعل ذلك بعضهم لإقناع الآخرين وإن كان هو في قرارة نفسه لا يؤمن بذلك التأويل فهل يمكن أن يكون كلام السيد رشيد رضا من هذا القبيل بغية إرشاد من ضل عن سواء السبيل؟ فقد كنت لقيت رجلا فاضلا في بعض أسفاري إلى المغرب منذ بعض سنين يظهر أنه سلفي العقيدة فزرته في داره ودار البحث في الدعوة السلفية هناك وإذا به يصرح بأنه لا يرى مانعا في سبيل تقريب الناس إليها من تأويل آيات الصفات وأحاديثها لإقناع المخالفين فقلت له: عجبا كيف يمكن أن يكون هذا؟ إذ كيف تقدم إليهم معنى للنص أنت تؤمن بخلافه أولا ثم كيف تكون قد دعوته إلى مذهبك السلفي وقد قدمت إليه المعني الخلفي؟ أن أخشى ما أخشاه أن يكون هذا من باب قول من قال: (وداوني بالتي كانت هي الداء
وختاما أقول: لقد خرجت من دراستي لهذه الرسالة النافعة للأمير الصنعاني رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى بالعبر الآتية: الأولى: أنني ازددت إيمانا ويقينا بالقول المأثور عن جمع من الأئمة: (ما منا من أحد إلا رد ورد عليه إلا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) (¬1) . فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية زلت به القدم فقال قولا لم يسبق إليه ولا قام الدليل عليه ومن هنا قالوا: (زلة العالم زلة العالم) فلو أننا كنا مبتلين بتقليده كما ابتلي كل مقلد بتقليد إمامه لزللنا بزلته ولذلك قالوا: (الحق لا يعرف بالرجل اعرف الحق تعرف الرجال) فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله الثانية: بطلان الخرافة التي يطلقها اليوم كثير من الكتاب الإسلاميين المعاصرين وفيهم بعض من يجلون شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الخلاف في الفروع وليس في الأصول وقد يسارع بعض الجاحدين لعلم شيخ الإسلام وفضله الحاقدين عليه لرده على أهل الأهواء والمبتدعة المبغضين له لإخلاصه في الدعوة لاتباع الكتاب والسنة فيقول: إنما الخلاف في الأصول من ابن تيمية وأمثاله المخالفين للجمهور والمثال أمامك فأقول: كذبت والله فإن الخلاف المذموم إنما يكون من المصرين عليه بعدما تبين لهم الحق كما في قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} والشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ لم يعرف يوما بالإصرار على الخطأ مهما كان نوعه بدليل رجوعه عن كثير من آرائه التي كان عليها بعدما تبين له الحق وقد ذكرنا فيما سبق ¬
نماذج منها وأما خلافه في هذه المسألة فهي زلة منه بلا شك يغفرها الله له إن شاء الله تعالى كفاه جهاده في سبيل الله إلى آخر رمق من حياته حتى توفي في سجن دمشق مظلوما بعيدا عن أهله وتلامذته وكتبه ولغير ذلك من الأسباب التي سبق التحدث عنها والخلاف المذموم حقا: إنما هو من أولئك المقلدين الذين يصرون على التدين بالتقليد والإعراض عن الاهتداء بهدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مباشرة والإخلاص له في اتباعه وحده دون سواه الذي هو من لوازم الشهادة له بأنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد أمرنا بطاعته استقلالا لا يشاركه في ذلك أحد من البشر في غير ما آية من آيات الله تبارك وتعالى فأي خلاف شر من هذا الذي عليه المقلد هذا الذي يظل {يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشرها بعذاب أليم} [الجاثية / 8] فالخلاف حقيقة واقعة - مع الأسف - أصولا وفروعا فلا يجوز تجاهلها أو الرضا بها وإنما يجب على أهل العلم أن يحاولوا في كل قطر ومصر تقليله قدر الاستطاعة ولا سبيل إلى ذلك إلا بشيء واحد وهو تحكيم الكتاب والسنة في كل خلاف كما هو صريح قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} الثالثة: لقد وجدت في هذه الدراسة مثلا جديدا يضاف إلى الأمثلة العديدة التي كنت ولا أزال أشير إليها في كتابي (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها الشيء في الأمة) نصحا وتحذيرا لأن من آثارها السيئة أنها تصرف كثيرا من العلماء والفقهاء فضلا عن غيرهم عن تبني الحكم الصحيح فيما هم فيه مختلفون من العقائد والأحكام وقد تكون معارضته لنص أو نصوص في الكتاب والسنة الصحيحة فقد وجدت أن الذي فتح لابن تيمية وابن القيم باب التورط في القول بفناء النار إنما هو بعض الآثار المروية عن بعض الصحابة والأحاديث المرفوعة
جلها لا تصح أسانيدها وعمدتها منها وأبرزها أثر عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهـ: (لو لبث أهل النار في النار قدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه) وإن حاولا تقوية إسناده بتكلف ظاهر لمخالفة ذلك المقرر في علم مصطلح الحديث وقد بينه المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ بيانا شافيا لكنه قد تابع ابن القيم في السكوت عن أسانيد سائرها فاشترك معه في إيهام القراء ثبوتها ولا سيما وفي بعضها ما هو موضوع كحديث أنس وحديث أبي أمامة (ص 82) وحديث جابر (ص 84) وحديث أبي أمامة الآخر (ص 138) إلى غير ذلك من الروايات الواهية كحديث أبي هريرة (ص 115) وزاد المؤلف عليها أحاديث أخرى لكنها لم تبلغ مرتبة الوضع مع كونها لا علاقة لها مباشرة بالرد كحديث ابن مسعود وغيره (ص 70) وحديث الجهني (ص 103) وحديث أبي الدرداء (ص 134) وغيرها مما قد يكون فيها ما هو صحيح ثابت لا يتميز عند القارئ بعضها من بعض لدخولها كلها في دائرة المسكوت عنه من أجل ذلك رأيت من واجبي أن أبين في التعليق مراتب تلك الأحاديث وأميز صحيحها من سقيمها وضعيفها من موضوعها ليكون القراء الكرام على هدى من أمرها راجيا أن يشاركوني في هذه العبرة وأن تكون حافزا لهم على أن يتذكروا معي حقيقة علمية منهجية هامة طالما أهمل القيام بها جماهير العلماء والكتاب قديما وحديثا ولم يقم بحقها سوى أفراد منهم قليلين جدا ألا وهي: أنه يجب على كل باحث أو كاتب في موضوع شرعي يقوم على الاستدلال بعض الأحاديث المروية عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يضع تلك الأحاديث بين يديه ويجري عليها تحقيقا دقيقا لمعرفة درجتها صحة وضعفا فما كان منها صحيحا احتفظ به واعتمده وما كان ضعيفا نظر فإن كان شديد الضعف أهمله مطلقا وتركه وإلا
احتفظ به كشاهد مع التنبيه على ذلك ثم يتجه بعد هذه التصفية إلى البحث الذي هو في صدده فيحرره ويستدل له بما صح من الأحاديث ويتفقه فيها واعلم يا أخي المسلم أن كل من لم ينهج هذا النهج العلمي الصحيح في بحثه فلن يصل إلى الصواب الذي ينشده إلا رمية من غير رام بل هو على الغالب ينتهي الأمر به إلى انحرافات خطيرة لا ينجيه من الوقوع فيها أنهم كانوا غير قاصدين لها ما دام أنهم لا يسلكوا السبيل التي تحفظهم من ذلك وقد قيل: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس ولعله مما لا خفاء به أن من لم ينهج هذا النهج العلمي وأهمله فإنه معرض لأن يؤاخذه ربه لأنه قضى ما لا علم له به وقد قال تعالى في كتابه: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديث (قاضيان في النار) : ( ... ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار) رواه أصحاب السنن وغيره وهو مخرج في (إرواء الغليل) برقم (2614) وهذا بخلاف ما لو تبنى هذا المنهج في بحثه وضم إليه - طبعا - مما لا بد من المعرفة باللغة وأصول الفقه وغيره فهو مأجور ولو أخطأ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (إذا حكم الحاكم ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد) أخرجه الشيخان وغيرهما وهو مخرج في (الإرواء) برقم (2598) وأنا حين أذكر بهذا الواجب أعلم - والأسف يملأ قلبي - أنه لا يستطيع القيامة به إذا القليل جدا من العلماء المستقلين لانصراف الجماهير منهم عن دراسة أصول الحديث وتراجم رواته وتاريخهم الأمر الذي لا بد منه لكل من يريد التمكن
من تمييز الحديث الصحيح من الضعيف بنفسه مع التوسع في تتبع طرق الحديث وشواهده من مختلف المصادر الحديثية المطبوعة منها والمخطوطة مقرونا بالصبر والأناة وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام كما يفعل بعض الناشئة اليوم غير أن هذا لا يعني إعفاءهم من واجب الاستعانة على التمييز بأهل العلم بذلك والمتخصصين فيه كما يستعين الجاهل بالفقه مثلا بالفقهاء - ولا أقول المتفقهة - فيسألهم عن كل ما نزل به أو ما كان بحاجة إلى معرفته إعمالا لقول ربه: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وتجاوبا مع حديث نبيه: (ألا سألوا حين جهلوا فإنما شفاء العي السؤال) رواه أبو داود وغيره وهو مخرج في (صحيح أبي داود) (364) وذلك كله يكون إما بسؤالهم مباشرة وجها لوجه إن تيسر وإما بالرجوع إلى كتبهم وهو متيسر والحمد لله وقد كنت ذكرت طائفة من الكتب الحديثية التي تساعد الباحث على القيام بهذا الواجب في مقدمة (سلسلة الأحاديث الضعيفة) فليرجع إليه من شاء هذا وعلاوة على تخريج أحاديث الرسالة وتمييز صحيحها من ضعيفها فقد قمت بتعليقات أخرى مفيدة إن شاء الله تعالى وترجمت لبعض الأعلام كما خرجت كل الآيات الكريمة الواردة فيها واجتهدت في تصحيح بعض الأخطاء التي وقعت فيها وإملاء الفراغات التي نتجت من تسلط الأرضة على نسختها حتى ذهب منها بعض الألفاظ إما بالرجوع إلى الأصل الذي نقل عنه المصنف وإما بالنظر في السباق والسياق ونبهت على ذلك غالبا بوضع المستدرك بين معكوفتين [] راجيا من الله تعالى أن ييسر لنا الوقوف على نسخة أخرى نستعين بها على تدارك ذلك على الوجه الأكمل في طبعة أخرى إن شاء الله تعالى فاللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها
واحفظها من شر الفتن ما ظهر منها وما بطن وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين والله تعالى أسأل أن يتقبل مني عملي هذا وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم وأن يكشف عني ما أهمني ويرفع عن المسلمين جميعا ما هم فيه من البلاء وتسلط الأعداء إنه سميع مجيب وسبحانك الله وبحمد أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك بيروت 21 ذي الحجة سنة 1401 هـ محمد ناصر الدين الألباني
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي ليس سواه واجب الوجود الذي وعد الذين سعدوا بدوام النعيم في جنات الخلود وتوعد الذي شقوا بالأبدية في النار ذات الوقود وأخبر أنه مبدلهم جلودا ليذوقوا العذاب كلما نضجت منهم الجلود وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تدافع عن قائلها إذا كانت الأعضاء هي الشهود وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صاحب المقام المحمود في يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود صلى الله عليه وعلى آله الركع السجود وبعد فإن السائل أدام الله له التوفيق وسلك لنا وبه مناهج ذوي التحقيق طلب كشف الأستار عن وجه مسألة فناء النار ودخول المشركين من أهلها مداخل الأبرار. وهذه المسالة من غرائب المسائل ومما خلت عنها أسفار المقالات الحوافل وأشار إليها السيد الإمام محمد بن إبراهيم رَحِمَهُ اللَّهُ في (الإيثار) (¬1) وقال: ¬
(وقد أفردت في هذه المسألة مصنفات حافلة منها لابن تيمية (¬2) ومنها لتلميذه شمس الدين ومنها للذهبي (¬3) ومنها لي) هذا لفظه ولم أقف على غير ما في (حادي الأرواح) ولعل الله سبحانه يعين بالوقوف على مؤلف الذهبي والسيد محمد بمنه وفضله وحيث استكشف السائل عن حقيقتها وما عليها من الدلائل تعين [علينا] (¬4) أن نكشف عن وجوه أدلتها النقاب ونبرز المطوي تحت لثامها بعيون أذهان أولي الألباب ونستوفي فيها المقال وإن خرجنا عن الإيجاز إلى الإطناب والإسهاب لأنه عز وجود ما ألف فيها فيحال عليه ولا أعرف فيها منازعا لمدعيها فأرشد إليه وليعتذر السائل (¬5) عن تأخر الجواب فإنه لم يكن استخفافا ¬
بالسائل ولا تحقيرا للمسائل بل لما يتواثب على القلوب من الاشتغال. ولم يزل التسويف حتى تقضت أيام وليال فنقول: اعلم أن هذه المسألة أشار إليها الإمام الرازي في مفاتيح (الغيب) (¬6) ولم يتكلم عليها بدليل نفي ولا إثبات ولا نسبها إلى قائل معين ولكنه استوفى المقال فيها العلامة ابن القيم في كتابه (حادي الأرواح إلى ديار الأفراح) (¬7) نقلا عن شيخه العلامة شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية فإنه حامل لوائها ومشيد بنائها وحاشد خيل الأدلة منها ورجلها ودقها وجلها وكثيرها وقليلها (¬8) وأقر كلامه تلميذه ابن القيم وقال في آخرها: (إنها مسألة أكبر من الدنيا وما فيها بأضعاف مضاعفة) هذا كلامه في آخر المسألة في (حادي الأرواح) وإن كان في (الهدي النبوي) أشار إشارة محتملة لخلاف ذلك حيث قال: (ولما كان المشرك خبيث العنصر خبيث الذات لم تطهر النار ¬
خبثه بل لو أخرج منها عاد [خبيثا] وكما كان كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه وقد حرم الله عليه الجنة) انتهى كلامه (¬9) قلت وحيث كانت بهذه المثابة التي ذكرها من أنها أكبر من الدنيا فلا غنى لنا عن نقل أدلتها التي ارتضاها ابن تيمية وتعقب كل دليل بما يفتح الله به من إقراره أو بيان اختلاله فنقول: قال ابن القيم بعد نقله لأقوال الناس والمعروفة في كتب المقالات: (السابع: قول من يقول بل يفنيها (أي النار) خالقها تبارك وتعالى فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها) يريد ويدخل الله من كان فيها من الكفار الجنة كما ستعرفه من الأدلة التي ذكرنا - ثم قال: [قال] شيخ الإسلام (يريد به شيخه أبا العباس ابن تيمية) : وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم) ¬
ثم ساق بسنده إلى الحسن البصري أنه قال: قال عمر: (لو لبث أهل النار كقدر رمل عالج لكان لهم [على ذلك] يوم يخرجون فيه) . وفي رواية (عدد (¬10) رمل عالج) (¬11) قال ابن تيمية: (والحسن وإن لم يسمع من عمر فلو لم يصح عنده عن عمر لم يجزم به) . انتهى كلامه (¬12) وأقول فيه شيئان: الأول: من حيث الرواية فإنه منقطع لنص شيخ الإسلام بأنه لم يسمعه الحسن من عمر واعتذاره بأنه لو لم يصح للحسن عن عمر لما جزم به يلزم أن يجري في كل مقطوع يجزم به راويه (¬13) ولا يقول هذا أئمة الحديث كما عرفت في قواعد أصول الحديث بل الانقطاع عندهم علة والجزم معه تدليس وهو علة أخرى ولا يقوم بمثل ذلك الاستدلال في مسألة فرعية كيف في مسألة قيل أنها أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة وهذا البخاري أمير المؤمنين في ¬
علم الحديث وأشدهم تحريا في الصحيح لم يقل النقادون بأن تعاليقه المجزومة التي أودعها في كتابه الذي سماه (الصحيح) صحيحة بل فيها الضعيف كما نص عليه ابن حجر في مقدمة (الفتح) والحسن البصري معروف عند أئمة هذا الشأن بأنه لا يؤخذ بمراسيله. قال الدارقطني في (السنن) وقد روى عاصم الأحول عن ابن سيرين (¬14) وكان عالما بأبي العالية وبالحسن. قال: (لا تأخذوا بمراسيل الحسن ولا أبي العالية فإنهما لا يباليان عمن أخذا عنه) . انتهى (¬15) قلت ثم قال ابن تيمية ولو كان كلام عمر هذا غير صحيح ¬
لما تداولته الأئمة ولوجب إنكارهم له لمخالفته الإجماع والكتاب والسنة) (¬16) قلت: يقال: كلام عمر كغيره من الأقوال الدالة على خروج الموحدين من النار وهو قول عليه جماهير الأئمة منهم ابن تيمية وستعرف أنه لا يصح أثر عمر إلا على تقدير أنه أراد به. الموحدين وأنه يتعين حمله على ذلك عند شيخ الإسلام نفسه وعند غيره والثاني من حيث الدراية فإنه لو ثبت صحته عن عمر لم يدل على المدعى فإن أصل المدعى هو: فناء النار وأن لها مدة تنتهي إليها. وليس في أثر عمر هذا إلا أنه يخرج أهل النار من النار والخروج لا يكون إلا وهي باقية فإنك لو قلت: لو لبث زيد في الدار كذا وكذا ثم خرج (¬17) منها لم يدل هذا على فناء الدار لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما. فإن قيل: بل هو يدل على فنائها التزاما لأنه تعالى إنما خلقها ليعذب بها من عصاه فبعد خروجهم لم يبق لها حاجة فالحكمة تقتضي فناءها قلت هذا دور فإنه لا يثبت أن الحكمة يقتضي فناءها إلا إذا ¬
لم يبق فيها أحد ولا يخرج أحد من أهلها إلا بعد فنائها كما تسمع تصريح ابن تيمية بذلك حيث قال: (وأما [كون] الكفار لا يخرجون منها ولا يخفف عنهم من عذابها ولا يقضي عليهم فيموتوا ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية ولا يخرجون منها مع بقائها البتة) . هذا لفظه (¬18) وإذا عرفت مراده عرفت أن أثر عمر لا يدل على مدعاه بشيء من الدلالات الثابتة فإنه قال: (إنهم يخرجون منها) وهذا واضح في الخروج منها وهي باقية فلا بد من حمل أثره على معنى صحيح إذ لا يصح حمله على خروج الكفار عند أحد لا ابن تيمية كما عرفت ولا غيره فإنه لا يقول أحد بخروج الكفار من النار فإن صح أثر عمر حمل على أنه أراد خروج الموحدين الذين استحقوا ¬
دخول النار بذنوبهم كما دلت عليه الأدلة المعروفة الصحيحة الصريحة التي لا مرية في صحتها إلا أن ابن تيمية منع من حمل كلام عمر على ذلك وقال: (إنما أراد عمر بأهل النار الذين هم أهلها (وهم الكفار) : وأما قوم أصيبوا بذنوبهم فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها ولا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه) (¬19) فأقول: ولا يخفى ضعف هذا الرد لأن كونهم قد علموا ذلك لا يمنع أن يؤدوه لمن لا يعلمه ويخبروا أنه اعتقادهم وقد علم في فن البيان: أن الإخبار يكون بفائدة الحكم أو لازمها فعلم السامعين بالحكم لا يمنع عن التكلم به وإلقائه إليهم وأما كون عصاة الموحدين لا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه فمسلم ولم يقل عمر أنهم يلبثون قدر رمل عالج بل أتى بقضية شرطية فقال: (لو لبث) أي: أنه لو طال لبثهم ذلك القدر لخرجوا ولا دليل في كلامه أنهم يلبثون ذلك القدر فعرفت أيضا (¬20) غير مانع عن حمل أثر عمر على عصاة الموحدين مع أنه لا يصح حمله على الكفار لأنهم يلبثون أكثر من عدد رمل عالج فقد أخرج الطبراني في (الكبير) من ¬
حديث ابن مسعود مرفوعا: (موضوع) (لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا ... ) الحديث (¬21) ومما سمعت تعين حمل أثر عمر على عصاة الموحدين عند شيخ الإسلام وعند جميع علماء الأنام وإذا عرفت هذا طال تعجبك من نسبة ابن تيمية القول بفناء النار إلى عمر واستدلاله لذلك بهذا الأثر المنقطع رواية الذي هو بمراحل عن الدلالة من حيث الدراية تنبيه: وأما مدة لبث عصاة الموحدين فإنها مختلفة فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن شاهين في (السنة) من حديث علي يرفعه (إن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم كلها الذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين ولا تائبين. (وفيه) : أن منهم من يمكث شهرا ثم يخرج منها ومنهم من يمكث سنة ثم يخرج منها وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ خلقت إلى أن تفنى) (¬22) ومثله [ما] أخرج الحكيم في (نوادر الأصول) ولفظه (وأطولهم فيها مكثا مثل الدنيا منذ خلقت إلى أن فنيت وذلك ¬
سبعة آلاف سنة) (¬23) ثم قال شيخ الإسلام مستدلا على فناء النار بما رواه على ابن أبي طلحة في (تفسيره) عن ابن عباس أنه قال: (لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا) (¬24) وأقول: لا يخفى على ناظر أنه لا دلالة في هذا الأثر ولا رائحة دلالة على المدعى من فناء النار بل غاية ما يفيده الإخبار عن أنه لا يجزم للمؤمن أنه من أهل الجنة ولا العاص من عصاة المؤمنين أنه من أهل النار. وهذا المعنى ثابت في الأحاديث النبوية الصحيحة ¬
فقد أخرج الترمذي (¬25) من حديث أنس أنه توفي رجل فقال رجل آخر ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وآله وسلم يسمع: أبشر بالجنة. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (وما يدريك لعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه) . بل ورد في الطفل الذي لا تكليف عليه نحو ذلك (¬26) وقد صرح ابن القيم في آخر كتابه (حادي الأرواح) في الباب السبعون فيما زعم أنه عقيدة أهل السنة وعقيدة الصحابة وأهل العلم وأصحاب الأثر بأنه لا يشهد لأحد من أهل القبلة أنه من أهل النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون ذلك في حديث وأن لا يشهد لأحد أنه في الجنة بصالح عمله إلا أن يكون ذلك في حديث. انتهى (¬27) ¬
فهذا هو الذي أراده ابن عباس ولو لم يحمل كلام ابن عباس على هذا لكان مقتضاه بأنه لا يحكم بأن أهل الشرك يدخلون النار ولا بأن أهل التوحيد يدخلون الجنة إذ الإنزال هو الدخول وهذا رد لصريح القرآن وإثبات لقول لم يقله أحد من أهل الإيمان لا شيخ الإسلام و [لا] سائر علماء الأنام ثم [إن] حكمنا بأن الفجار في النار والأبرار في جنات تجري من تحتها الأنهار ليس حكما منا بل الله تعالى هو الذي حكم بذلك وأخبرنا به. فالعجب كله في الاستدلال على فناء النار بهذا الأثر الذي لا يقول أنه يدل على ذلك أحد من النظار وظهور عدم دلالته عليه كالشمس في رابعة النهار وتبين أن مراده لا يحكم على معين أنه من أهل الجنة ولا أنه من أهل النار وكأنه يريد غير من حكم الله ورسوله عليه بأحد الدارين كإخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن العشرة من الصحابة من أهل الجنة وكإخبار الله أنا أبا لهب {سيصلى نارا ذات لهب} ولو فرض دلالته على مدعاه فإنه معارض لما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: هاتان من المخبآت (¬28) قول الله تعالى: {فمنهم شقي وسعيد} (¬29) وقوله ¬
تعالى: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا} [المائدة 109] فأما قوله: {فمنهم شقي وسعيد} فهم قوم من أهل الكبائر من أهل القبلة يعذبهم الله بالنار ما شاء بذنوبهم ثم يأذن بالشفاعة فيشفع لهم المؤمنون فيخرجهم من النار فيدخلهم الجنة فسماهم أشقياء حين عذبهم بالنار) انتهى فهذه الرواية كما تراها صراحة وكثرة تخريج (¬30) دالة على أنه كغيره من الجماهير القائلين بخروج الموحدين من النار ولا قول له بفناء النار فإنه وجه الاستثناء إلى الموحدين في قوله تعالى: {إلا ما شاء ربك} وابن تيمية يقول إنه عائد إلى فناء النار أيضا كما ستسمعه عند ¬
التكلم على الآية. وظاهر نقل ابن تيمية لأثر ابن عباس أنه قائل بفناء النار قال شيخ الإسلام: (وأما أثر ابن مسعود فإنه ذكر عنه البغوي أنه قال: (ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد) ثم قال وعن أبي هريرة مثله) (¬31) وأقول هذان الأثران بهما متمسك ابن تيمية في جعل القول بفناء النار قولا لابن مسعود وأبي هريرة كما سيرويهما في صدر الاستدلال وهذان الأثران ذكرهما البغوي في تفسير (سورة هود) في قوله تعالى: {إلا ما شاء ربك} ثم قال البغوي عقب ذكرهما ما لفظه: (ومعناه عند أهل السنة - أن ثبت - أنه لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان وأما مواضع الكفار فممتلئة أبدا) هذا لفظه (¬32) ¬
فشكك في الرواية أولا ثم أبان أنها إن ثبتت فهي عند أهل السنة في عصاة من الموحدين. ثم نقول بعد ثبوت هذين الأثرين عن هذين الصحابيين لا دلالة فيهما على فناء النار الذي هو محل النزاع بوجه من الوجوه فإن قوله: (ليس فيها أحد) دال على بقائها فإنك إذا قلت ليس في الدار أحد فإنه دال على بقاء الدار لا على فنائها ثم عرفت قول البغوي أن أهل السنة حملوه على خروج الموحدين من النار. وهذا الحمل متعين عند ابن تيمية بخصوصه وعند جميع من عداه. أما عنده فإنه لا يقول بخروج الكفار من النار بل يقول بعد فنائها وذهابها لا يتصور فيها بقاء الكفار وهذان الأثران حاكمان بخروج من فيها وليس إلا عصاة الموحدين أما عند غيره من أهل السنة فالأمر واضح في أن الأثرين ليسا إلا في خروج الموحدين. ولفظ أثر ابن مسعود وإن كان عاما فإنه نكرة في سياق النفي إلا أنه معلوم تخصيصه بالأدلة الدالة على أن الكفار ليسوا منها بمخرجين (¬33) . عند ابن تيمية وغيره كما عرفت ¬
وبهذا تعرف أنه لا يصح نسبة القول بفناء النار وذهابها إلى ابن مسعود وأبي هريرة كما نسب هذا القول الذي نقل عنهما [إلى عمر] (¬34) . بل هو الدليل (¬35) على بقاء النار بعد خروج من يخرج منها من أهل التوحيد. فكيف يقول شيخ الإسلام في صدر المسألة. (إن القول بفناء النار نقل عن ابن مسعود وأبي هريرة) وإنما مستنده في نسبة ذلك إليهما هذان الأثران اللذان هما بمراحل عن الدلالة على فناء النار وذهابها بعد صحتهما فعرفت بطلان نسبة هذا القول إلى ابن مسعود وأبي هريرة كما عرفت بطلان نسبته إلى عمر وأما قول شيخ الإسلام في صدر المسألة أن أبا سعيد الخدري نقل عنه القول بفناء النار فإنه استدل (¬36) لذلك بأنه قال أبو نضرة عن أبى سعيد أو قال جابر أو بعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (أتت هذه الآية على القرآن كله {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} [هود: 107] ¬
وأقول: أولا: هذا الأثر نسبه الحافظ السيوطي في (الدر المنثور) إلى تخريج عبد الرزاق وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في (الأسماء والصفات) ولفظه عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد أو رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} قال: هذه الآية قاضية على القرآن كله يقول حيث كان في القرآن: {خالدين فيها} تأتي عليه. انتهى (¬37) وقد نقل ابن تيمية هذه الرواية أيضا ونسبها إلى تخريج ابن جرير أيضا ولا يخفى أولا انه شك أبو نضرة في قائل هذا القول وردده بين ثلاثة: معلومين ومجهول وهذا الشك وإن كان انتقالا من ثقة إلى ثقة على رأي من يقول كل الصحابة عدول غير ضائر في الرواية إلا أنه لا يصح معه الجزم بنسبة القول بفناء النار إلى أبي ¬
سعيد حيث أن مستند القول به هو هذا الأثر لأن هذا أثر لم يتم الجزم به في رواية أنه لأبي سعيد فكيف يجزم بنسبة هذا المدلول أعني القول بفناء النار وذهابها إلى أبي سعيد كما فعله شيخ الإسلام ولم يثبت عنه الدليل؟ وثانيا: وهو على تقدير ثبوته عنه فإنه لا دلالة فيه على مدعاه وهو فناء النار ولا رائحة دلالة بل غاية ما فيه أن كل وعيد في القرآن ذكر فيه الخلود لأهل النار فإن آية الاستثناء حاكمة عليه وهي عبارة مجملة لا تدل على المدعى بنوع من الدلالات الثلاث (¬38) . بل يحتمل أنه أراد أنها فسرت بآيات الخلود التي وردت في القرآن في خلود أهل النار كما أخرجه البيهقي في (البعث والنشور) عن ابن عباس في قوله تعالى: {إلا ما شاء ربك} [هود: 107] . قال: فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة انتهى فنقول: من قال من الصحابة هذه الآية أتت على القرآن كله حيث كان في القرآن: {خالدين فيها} تفسير [5 في رواية] ابن عباس هذه ثم هب أن معناه ما قاله ابن تيمية وأن آية {إلا ما شاء ربك} قيدت كل آية فيها {خالدين فيها} إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد فغاية (¬39) ذلك أن تصير كل آية خلود مثل آية ¬
(هود) وآية (هود) لا تدل على مدعاه كما ستعرفه قريبا من تحقيق آية المشيئة وما قيل فيها من الأقوال الصحيحة والسقيمة والمطرحة والقويمة وإذا عرفت هذا فيا لله العجب كيف ينسب شيخ الإسلام إلى أبي سعيد القول بفناء النار بلفظ لم يتحقق صدوره عنه ولو تحقق صدوره عنه لم يدل على مدعاه فما هذا إلا مجازفة ولا يليق ممن دون ابن تيمية تحقيقا وورعا في نسبة الأقوال وتحرير الاستدلال هذا وبعد تحقيقك لما أسلفناه وإحاطتك علما بما سقناه تعلم أن هؤلاء الأربعة من الصحابة الذين هم عمر وابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الذين عين شيخ الإسلام أسماءهم من الصحابة في صدر المسألة وذكر أنه نقل عنهم القول بفناء النار وذهابها وتلاشيها [هم] بريئون من هذا القول ومن نسبته فناء النار إليهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب واستدل لهم بما ادعاه منسوبا إليهم بما لا مساس له بالدعوى كما عرفت. وحينئذ يعلم انه ليس معه في دعواه فناء النار أحد من الصحابة الذين عينهم وإن كانت عنده أدلة يصح نسبة هذا القول إليهم غير ما ذكره من الآيات فهذا وقتها فإنه قد بذل كل وسعه في هذه المسألة. فقال شيخ الإسلام بعد سرده للأربعة المذكورين من الصحابة: (والقول بفناء النار نقل عن غير هؤلاء الأربعة من الصحابة) ويريد (بغيرهم) عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه نقل ابن تيمية
عنه القول بفناء النار مستدلا على أصل مدعاه أنه قال: (ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيه أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا) (¬40) وأقول هذا الأثر لا دلالة فيه على مدعى ابن تيمية لأنه لا يقول: أن جهنم تخلو عن الكفار ما دامت باقية إنما يقول إذا فنيت وذهبت لم يبق فيها كافر. وهذا الأثر ينادي بخلودها وهي باقية على حالها والقول بأنه سماها جهنم باعتبار ما كانت عليه رجوع إلى المجاز في مسألة هي أكثر من الدنيا بأضعاف مضاعفة. فكلام ابن عمرو هذا محمول على ما حمل عليه كلام عمر بن الخطاب وغيره من الآثار في أن مراده خروج الموحدين وقد قال عبيد الله (¬41) بن معاذ في أثر ابن عمرو وأبي هريرة كان أصحابنا يقولون يعني من الموحدين قلت: ويدل له ما قال الحافظ ابن حجر في (تخريج أحاديث الكشاف) أن أثر ابن عمرو أخرجه البزار. ثم ساقه بسنده إلى ابن عمرو ولفظه في آخره (يعني من الموحدين) قال الحافظ: (كذا فيه ¬
ورجاله (¬42) ثقات والتفسير لا أدري لمن هو) (¬43) ثم قال: (ويؤيده ما رواه ابن عدي عن أنس مرفوعا: (ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها وما فيها من أمة محمد أحد) (¬44) . وفي الباب عن أبي أمامة رفعه: (يأتي على جهنم يوم ما فيها من بني آدم أحد تخفق فيه أبوابها. يعني من الموحدين) انتهى. (¬45) ¬
فعرفت أن حديث ابن عمرو في الموحدين وقول الحافظ: (لا يدري لمن التفسير) يريد قوله: (يعني من الموحدين) يقال عليه الأصل أنه من كلام ابن عمرو ثم إنه لا بد من حمل كلامه المطلق على هذا التفسير عند ابن تيمية وغيره. ثم هب أنها لم تثبت تلك الزيادة فيه فالحديث المرفوع مقدم عليه وهو حديث أنس وبعد هذا تعرف أنه لا دليل له في أثر عمرو على أصل المدعى هذا: وأما أصحاب (الكشاف) (¬46) فإنه لما كان وعيدي الاعتقاد قائلا: بأنه لا يخرج من النار من دخلها من عصاة الموحدين وأهل الإلحاد سلك في أثر ابن عمرو مسلكا آخر فإنه لما ذكره قال: (وأقول: [أما كان] (¬47) لابن عمرو في بغيه بيده ولسانه ومقاتلته بها علي بن أبي طالب ما شغله عن تسيير هذا الحديث) . انتهى كأنه يشير إلى القدح في أثر ابن عمرو ببغيه على أمير المؤمنين ¬
عليه السلام وقد تعقبه في (الكشف) (¬48) . فقال: لا يلتفت هذا عن المنصف وإيثاره طريقة قدمام المعزلة من نسبته وضع الحديث إليه تلويحا ونسبة مقاتلته أمير المؤمنين عليا بالنص فإن هذا من جلة الصحابة. انتهى قلت: أما نسبة الوضع إليه فما (¬49) يظهر من كلام (الكشاف) (¬50) نعم البغاة مقبولة روايتهم عند المعتزلة كما عرفت من الأصول ثم استدل شيخ الإسلام ابن تيمية على مدعاه بما أخرجه ابن مردويه في (تفسيره) من حديث جابر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {فأما الذين شقوا ففي النار} الآية [هود / 107 - 108] ¬
قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن شاء الله أن يخرج أناسا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل) (¬51) وأقول: لا دليل فيه على مدعاه وهو فناء النار وذهابها بل فيه دليل على خلافه لأنه لا ينكر الإخراج من النار ولا يقوله ابن تيمية في حق الكفار. فتعين أنه في عصاة الموحدين وقد سمعت مما نقلناه عن ابن عباس أن الله سمى عصاة الموحدين أشقياء وقد صرح ابن تيمية بهذا هنا فقال بعد سرده للحديث: (إنما يدل على إخراج بعضهم من النار وهو حق بلا ريب وهو بناء على انقطاعها وفناء عذابها وأكلها لمن فيها وأنهم يعذبون فيها دائما ما دامت كذلك والحديث دل على أمرين: أحدهما أن بعض الأشقياء إن شاء الله أن يخرجهم من النار وهي نار فعل فيكون معنى الاستثناء {إلا ما شاء ربك} من الأشقياء فإنهم لا يخلدون فيها ويكون الأشقياء ¬
نوعين: نوعا يخرجون منها ونوعا يخلدون فيها فيكونون من الذين شقوا أولا ثم يصيرون من الذين سعدوا فيجتمع لهم السعادة والشقاوة في وقتين) انتهى. (¬52) وهو صحيح وفيه إقرار منه على أنه لا دلالة فيه على فناء النار كما ساقه دليلا لذلك. على أنا نقول: الحديث ليس نصا في الإخراج بل إخبار مقيد بقضية شرطية وهو إن شاء الله أن يخرج أخرج وليس فيه أنه تعالى شاء ذلك بل هو مثل {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} [السجدة / 13] وسيأتي تحقيق ذلك في الكلام على آية المشيئة إن شاء الله إذا عرفت هذا كله فهؤلاء الستة من الصحابة الذين زعم أنه نقل عنهم القول بفناء النار أي وبدخول أهلها بعد ذلك {جنات تجري من تحتها الأنهار} [التحريم / 8] . وهم الذين أشار إليهم السيد الإمام محمد بن إبراهيم في (الإيثار) حيث قال (¬53) : (وطول في الثاني ابن تيمية فقف (¬54) على علمه في كتبه والتراجم ¬
وأسنده عن ستة نص قولهم أكابر من صحب (¬55) . النبي الأكارم وأراد بالثاني حمل الاستثناء في وعيد أهل النار على فنائها وانقطاع عذابها هذا بيان مراده ولكنك إذا تحققت ما أسلفناه عرفت أنه لم يتم لابن تيمية ما نسبه إلى الستة المذكورين من القول بفناء النار وانه ليس بنص قولهم كما قال السيد محمد ولعله يريد نص لفظهم وإن لم يدل على مدعى ابن تيمية أو أنه نص عنده فيما ادعاه وإن كان غير صحيح ويرشد إلى أنه أراد ذلك قوله بعد ذلك (¬56) البيت: فلا تعتقد إن لم يصح مقالهم وبان ضعيفا ساقطا كفر عالم ثم قال ابن تيمية مستدلا لفناء النار وانقطاعها أنه قال الله تعالى: {لابثين فيها أحقابا} إلى قول {كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا} [النبأ / 23 - 28] وقال: (هذا صريح [في] وعيد الكفار المكذبين بآياته ولا يقدر الأبدي بمدة الأحقاب) (¬57) ¬
فأفاد مفهوم {الأحقاب} أنه لا خلود فيها إذ الأبدي لا يقدر بزمان. وأما دلالتها على أن المخبر عنهم باللبث (أحقابا) هم الكفار فلقوله فيهم {إنهم كانوا لا يرجون حسابا. وكذبوا بآياتنا كذابا} وهذه صفات الكفار وهذا تقرير مراد شيخ الإسلام والعجب من استدلاله بصدر الآية وذهوله عما عقب به من قوله {فلن نزيدكم إلا عذابا} فإن المراد لن نزيدكم بعد لبثكم أحقابا إلا عذابا ضرورة أنهم معذبون حين لبثهم {أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا} فزيادة العذاب بعد الأحقاب بل خص تعالى الزيادة على العذاب وأنه تعالى لا يزيدهم بعد لبث الأحقاب إلا عذابا فانتفى مفهوم العذاب الذي أفاده الجمع الذي جعله ابن تيمية دليلا على فناء النار وعدم أبديتها مع أنه استدلال بمفهوم العدد وهو من أضعف المفاهيم على هذه المسألة المعظمة الذي لا يعتمد عليه محقق وكيف يجعل أقوى من التأييد المصرح به في عدة آيات من آيات وعيد أهل النار (¬58) فلو عارض مفهوم العدد منطوق التأبيد لكان الحكم للمنطوق اتفاقا هذا وذكر البغوي أنه قال مقاتل بن حيان: هذه الآية منسوخة ¬
يريد {لابثين فيها أحقابا} نسختها {فلن نزيدكم إلا عذابا} [النبأ 30] يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل هذا لفظه ومراده بالنسخ أن لا حكم لمفهوم العدد وإلا فإنه لا يجري النسخ المصطلح عليه في الأخبار وقال الحسن: (ليس للأحقاب عدة إلا الخلود) . وذكره عنه البغوي (¬59) وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: (الأحقاب) ما لا انقطاع له كلما مضى حقب جاء بعده حقب وأخرج عبد بن حميد عن الحسن: {لابثين فيها أحقابا} قال: ليس فيها أجل كلما مضى حقب دخل في الآخر. وبهذا تعرف رواية ودراية ضعف استدلال شيخ الإسلام على فناء النار وانقطاعها بمفهوم الأحقاب ثم استدل ابن تيمية على فناء النار وذهابها بقوله تعالى في [سورة الأنعام] {قال: النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك ¬
حكيم عليم} [آية / 128] وبقوله تعالى في [سورة هود] {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} [آية / 107] وقرر كون آية (الأنعام) في المشركين بقوله تعالى في صدرها: {يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس} قال: فإن أولياء الجن من الإنس يدخل فيه الكفار قطعا يريد أنه لا يقال الآية في عصاة الموحدين فقط. ثم أبان أن الاستثناء عائد إلى الفريقين: الكفار وعصاة الموحدين والكفار بفناء النار والعصاة بالخروج منها وقرر هذا التقرير في آية الاستثناء في [سورة هود] (¬60) وأقول قد اختلف العلماء من الصحابة ومن بعدهم من أئمة الرواية والدارية في هذا الاستثناء ولنذكر ما وقفنا عليه من ذلك وقد ألم به ابن القيم في هذا الكتاب أعني (حادي الأرواح) وألم به شيخه شيخ الإسلام في كلامه في هذه المسألة وفاتهما بعض ما قيل في الآية قال ابن القيم في (الباب السابع والستين) (¬61) : (واختلف السلف في هذا الاستثناء فقال معمر عن الضحاك (هو في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة) فقوله تعالى ¬
{خالدين فيها ما دامت السموات والأرض} إلا مدة مكثهم في النار) قلت يضعف هذا أن الاستثناء من الخلود يقتضي أن يكون بعد الدخول لا قبله سيما بعد قوله {ففي النار} وقد أشار إلى تضعيف هذا الوجه بما قلناه ابن تيمية في غضون أبحاثه في هذه المسألة قال ابن القيم: (وقالت فرقة: هو استثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله [كما تقول:] والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وأنت لا تراه بل تجزم بضربه) قلت: هذا الوجه أحد وجهين ذكرهما جار الله في (الكشاف) في آية (الأنعام) فقال: (أو يكون (يريد الاستثناء) من قوله الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب منه أن ينفس عن خناقه: أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد فيكون قوله (إلا إذا شئت) من أشد الوعيد مع تهكم بالتوعد في خروجه في صورة الاستثناء الذي فيه أطماع انتهى واختار هذا الوجه صاحب (الإتحاف) (¬62) (والصفوي) (¬63) ¬
وهو مروي عن ابن عباس أخرجه البيهقي في (البعث والنشور) (¬64) فقال قد شاء ربك أن يجعل هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة قلت إلا أنه يختلف صاحب (الكشاف) وصاحب (الإتحاف) في عصاة الموحدين فصاحب (الكشاف) يجعلهم داخلين في الذين شقوا لأن أصله أنهم لا يخرجون من النار وصاحب (الإتحاف) والصفوى يجعلانهم داخلين في الذين سعدوا لقيام الأدلة عندهم بخروجهم من النار هذا وقد تعقب ابن الخطيب الرازي في (مفتاح الغيب) هذا الوجه فقال: (وهذا ضعيف لأن قوله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك معناه لأضربنك إلا إن رأيت أن أترك الضرب. وهذا لا يدل على أن هذه الرؤية حصلت أم لا بخلاف قوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض} فإن معناه الحكم بخلودهم فيها المدة التي ¬
يشاء ربك فيها فهذا يدل على أن المشيئة قد حصلت جزما فكيف يحسن قياس هذا الكلام وعلى ذلك) انتهى (¬65) ولا يخفى أن المشار المفروض واقع على هيأة القطع والجزم كما هو صريح كلام ابن القيم وصاحب (الكشاف) فقول الرازي: وهذا لا يدل على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا خلاف المفروض وقوله: فهذا يدل على أن المشيئة إلخ إن أراد مشيئة الخلود فهو مراد صاحب هذا القول كما يشعر به المثال وينطبق ويتعلق عليه وإن أراد مشيئة عدم الخلود كما هو مقتضى كلامه فمحل النزاع ولا يتم تضعيف كلام الخصم بإيراده كما لا يخفى ثم قال ابن القيم: (وقالت طائفة أخرى: العرب إذا استثنت شيئا كثيرا مع مثله ومع ما هو أكثر منه كان معنى (إلا) في ذلك ومعنى الواو سواء والمعنى على هذا سوى ما شاء الله من الزيادة على مدة السموات والأرض وهذا قول الفراء. وسيبويه يجعل (إلا) بمعنى (لكن) قالوا: ونظير ذلك أن تقول: لي عليك ألف إلا الألفين اللذين قبلهما أي سوى الألفين. قال ابن جرير: هذا أحد الوجهين إلي لأن الله لا خلف لوعده وقد وصل الاستثناء بقوله (عطاء غير مجذوذ) وقالوا نظيره أن تقول أسكنك داري حولا إلا ما شئت. أي سوى ما ¬
شئت أو لكن ما شئت من الزيادة عليه) (¬66) وأقول: هذا مبني على أنه أريد بالسموات والأرض سموات الدنيا وأرضها أي مقدار بقاء دار الدنيا فإنه لو أراد سماء الأخرى وأرضها لما تم أن يقال إلا ما شاء الله من الزيادة على مدتهما فإنهما أبديتان لا يتصور عليهما زيادة والظاهر انه أريد من السموات والأرض سموات الآخرة وأرضها لأن آيات التأبيد في الفريقين قاضية بأبدية أرضها وسمواتها إذ لا بد لهم من شيء يقلهما وشيء فوقهما وهو المراد من سموات الآخرة وأرضها ولأن قوله: (ما دامت السموات والأرض) ظاهر في ذلك إذ [أن] أرض الدنيا وسمواتها قد ذهبت ولو أريد لقيل: ما كانت السموات والأرض ثم قال ابن القيم: وقالت فرقة أخرى: هذا الاستثناء إنما هو مدة احتباسهم عن الجنة ما بين الموت والبعث وهو البرزخ إلى أن يصيروا إلى الجنة ثم خلود الأبد فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرزخ) وأقول فيه ما سلف في الوجه الأول وهو أن الاستثناء إنما هو بعد دخولهم الجنة. ثم قال ابن القيم: (وقالت فرقة أخرى: العزيمة قد وقعت لهم من الله بالخلود الدائم إلا أن يشاء الله خلاف ذلك إعلام لهم بأنهم مع خلودهم في ¬
مشيئته وهذا كما قال تعالى لنبيه {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} [الإسراء: 86] ونظائره يخبر عباده أن الأمور كلها بمشيئته ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) (¬67) وأقول: إن كان تقيدا على حقيقة لزم بقاء الخوف في دار النعيم والله يقول: {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} [الزخرف: 68] ويقول: {ادخلوها بسلام آمنين} [الحجر: 46] والإجماع قائم على أن الجنة لا خوف فيها ثم يلزم أن يبقى لأهل النار طمع في الخروج منها وروح بذلك وليس لهم روح ولا فرج وإن أريد الإخبار بأنه لو شاء تعالى عدم خلود الفريقين لكان له في ذلك حكمة. وان المراد من الاستثناء الإعلام للعباد باتساع نطاق حكمه فهذا قد يقال: إنه وجه وجيه ثم ذكر ابن القيم وجها قاله لابن قتيبة كالوجه الذي نقله عن الفراء ولم ينقله لأنه هو وإنما اختلفت العبارة. ثم قال: (وقالت طائفة (ما) بمعنى (من) من قبل قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3] المعنى إلا من شاء ربك أن يدخله النار بذنوبه من السعداء والفرق بين هذا القول وأول الأقوال أن الاستثناء على ذلك من المدة. وعلى هذا القول من الأعيان) (¬68) ¬
وأقول: هذا القول يفتقر إلى تقرير يتضح معه مراد قائله وتقريره: أن الاستثناء من الذين سعدوا قبل الحكم عليهم بقوله (ففي الجنة) فيكون المعنى وأما الذين سعدوا إلا من شاء الله ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض لما تقرر في النحو والأصول: أن إخراج المستثنى من المستثنى منه قبل الحكم عليه بالخبر إلا أنه يلزم على هذا القول أن تكون الأقسام أربعة قوم سعدوا حكم لهم بالكون في الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض وهم الذين استثنى منهم وقوم سعدوا أيضا لكن لم يبين من الآية حكمهم وهم الذين أفادهم (إلا من شاء الله) وقوم شقوا محكوم عليهم بالكون في النار خالدين ما دامت السموات والأرض وقوم شقوا لم يتبين حكمهم كما عرفت ومعلوم أن الموجود في الواقع ثلاثة أقسام: موحدون وملحدون وعصاة الموحدين. فيكون المراد من الآية على هذا أن قوما دخلوا في السعداء باعتبار أنهم شاركوهم في التوحيد ولكنهم فارقوهم في الكون في الجنة خالدين فيها ودخلوا في الأشقياء باعتبار أنهم قارفوا ما أغضب الله عليهم من المعاصي ولكنهم فارقوا بعدم الكون في النار خالدين
فالقسم الثالث تحته قسمان باعتبار دخولهم تحت (¬69) بالسعادة مع الذين سعدوا وبالشقاوة مع الذين شقوا كما عرفت فكانت الأربعة ثلاثة وتكون الآية قد بين فيها حكم الفريقين من الموحدين والملحدين ولم يبين حكم الفريق الثالث منها وقد بينه الله في قوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء / 48 و116] فمآل المعنى في الآية: فأما الذين سعدوا سعادة خالصة ففي الجنة خالدين فيها وأما الذين شقوا شقاوة خالصة ففي النار خالدين فيها وأما الذين اخرجوا من الفريقين فباقون تحت مشيئة الله تعالى. وهذا الوجه بعد التقرير لا يخفى حسنه ثم ذكر أقوالا راجعة إلى ما سلف ثم قال: (وهذه الأقوال متقاربة قال: ويمكن الجمع بينها بأن يقال: أخبر الله عن خلودهم في الجنة كل وقت إلا وقتا شاء الله ألا يكونوا فيها وذلك يتناول وقت كونهم في الدنيا وفي البرزخ وفي موقف القيامة على الصراط وكون بعضهم في النار) (¬70) قلت: هذه الإطرفة شيء واحد عائد إلى كونه قبل دخولهم الجنة ولكن يبعده ما مر غير مرة قال فإن الاستثناء من خلود الداخلين وحيث كانوا في عين الجنة لا يفيد ذلك الكون بخالدين ¬
فيها. ثم قال: (وعلى [كل] تقدير فهذا الأمر من المتشابه وقوله: {عطاء غير مجذوذ} محكم وقوله {أكلها دائم وظلها} ولهذا أكد خلود أهل الجنة في غير موضع من كتابه وأخبر أنهم لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وهذا الاستثناء منقطع وإذا ضممته إلى الاستثناء من قوله {إلا ما شاء ربك} تبين لك المراد من الآيتين واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية وكذلك مفارقة الجنة تقدم على خلودهم فيها) انتهى كلامه (¬71) وأقول: قد أفاد أن الاستثناء من خلود أهل الجنة من المتشابه وأن المحكم أن آية الخلود فيجب برد المتشابه إلى المحكم فالمحكم هو الخلود. وهذا حسن وتخصصه بالاستثناء في أهل الجنة بقوله: {عطاء غير مجذوذ} ولما علم يقين من أنه لا يخرج من الجنة أحد ممن دخلها وسيأتي لنا أنه يمكن (¬72) . آخر هذا الوجه في الاستثناء في آية العذاب وأما ابن القيم فإنه فيه (¬73) ابن تيمية من الاستثناء فيها على ¬
حقيقته وأنه لا خلود في النار لأهلها من الكفار كما عرفته من أدلة دعواه وأما قوله: (إن الاستثناء في الآية كالاستثناء في قوله: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} [الدخان / 56] فإنها موتة تقدمت على الحياة الأبدية وكذلك مفارقة الجنة تقدم على خلودهم فيها) فأقول: الفرق بين الآيتين واضح فإن آية الموتة الأولى وقع المستثنى منه فيها من أحوال الدنيا الواقعة فيها المعلوم نقضها ولذا كان أحسن الأقوال في هذه الآية أعني آية {إلا الموتة الأولى} أنه من باب التقييد بالمحال من باب قول شعيب: {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} [الأعراف: 89] إذا الآية سيقت لبيان أن أهل الجنة لا يذوقون فيها الموت أصلا وأنه أمر محال فعلق بالمحال لتمام التبشير بنعمة الحياة الأبدية وآية الخلود المستثنى منه فيها من أحوال الآخرة والكون في الجنة فكيف يقاس ما لم يمض ولم ينقض بما مضى وانقضى على أنه لا يصح لغة تسمية اللبث في الدنيا وفي البرزخ وفي الموقف خلودا حتى يخرج من مدة الخلود وبعد هذا رأيت فخر الدين الرازي وقد تعقب هذا في مفتاح الغيب فقال بعد نقله لفظه: (وأما حمل الاستثناء على حال عمر الدنيا والبرزخ والموقف فبعيد لأن الاستثناء وقع عن الخلود في النار ومن المعلوم أن الخلود
كيفيات من كيفيات الحصول في النار فقبل الحصول في النار يمتنع حصول الخلود وإذا لم يحصل الخلود لم يحصل المستثنى منه وإذا لم يحصل المستثنى منه امتنع حصول الاستثناء) . هذا لفظه (¬74) فهذه الوجوه التي ذكرها ابن القيم في الاستثناء على آية الخلود مع ما تراه من الأبحاث التي أوردناها في المقام. وقد بقي فيه وجه ذكره جار الله في (الكشاف) في آية (هود) فقال: (إن الاستثناء هو استثناء من الخلود من نعيم الجنة وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار [وحده بل] (¬75) يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار وبما أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكثر منها وأجل موقعا وهو رضوان الله كما قال الله: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة [في جنات عدن] ورضوان من الله أكبر} ولهم [ما] يتفضل الله عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو فهو المراد باستثناء) . انتهى وتعقبه الفخر الرازي في (مفاتيح الغيب) فقال: (لو كان كذلك لوجب أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد ¬
انقضاء مدة السماوات والأرض. والأخبار الصحيحة دالة على أن التنقل من النار وبالعكس يحصل كل يوم مرارا فبطل هذا الوجه) انتهى كلامه (¬76) قلت: ولا يخفى ضعف كلامه فإن معنى الآية أن أهل النار في النار خالدين فيها مدة دوام السموات والأرض إلى وقت مشيئة ربك عدم خلودهم فيها فهو إخراج بوقت مشيئة عدم الخلود من القيد بدوام السموات والأرض والإخراج من المقيد إخراج منه ومن قيده بمعنى أن إخراج منه بعد اتصافه بالقيد فالقيد جزء منه ومعناه أن يخرج من النار إليها إلى غيرها مع بقاء السموات والأرض لا بعد انقضاء مدتها ثم هذا الذي أورده الرازي لازم لما اختاره في الآية كما ستعرفه هذا وقد اعترض كلام (الكشاف) صاحب (الإتحاف) فقال (¬77) : (لا أدري ما حمله على ما لا تقبله العقول في حمل الاستثناءين على الخروج إلى الهموم والغموم في أهل النار وإلى رضوان الله في ¬
أهل الجنة ونحو ذلك مما ذكر والغموم لازم أهل النار ورضوان الله ملازم لأهل الجنة ولأجله دخولها. وكذلك سخط الله لأهل النار وكيف الخروج من الأمور الحسية وهي الجنة والنار إلى المعنوية وهي السخط والرضى وسائر ما ذكرناه مما اشتمل عليه دار العقاب ودار النعيم) . انتهى ثم جنح إلى حمل الاستثناء في آية (هود) على الوجه الذي حمله عليه صاحب (الكشاف) في آية (الأنعام) وقد سبق ذكره هذا إن لم يحمل كلام صاحب (الكشاف) على ما روي عن ابن مسعود وإن حمل عليه لم يتم إيراد صاحب (الإتحاف) كما أنه لا يرد على صاحب (الكشاف) ما أورده عليه الرازي وكلام (الإتحاف) هذا صحيح إلا قوله: (إن رضوان الله لازم لأهل الجنة ولأجله دخولها) . فإنه قد يقال: أنه أخرج أحمد والشيخان والترمذي والنسائي والبيهقي في الأسماء والصفات) (¬78) من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (إن الله تعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا) ¬
وأخرج ابن أبي حاتم عن [أبي] (¬79) عبد الملك الجهني قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (رضوان الله على أهل الجنة نعيمهم بما في الجنان) (¬80) وهذا دال على أن رضوان الله تعالى هذا متأخر عن دخول أهل الجنة (¬81) . والآية التي ساقها في (الكشاف) دالة على ذلك أيضا فإنه جعل رضوانه تعالى الأكبر قسما للجنات ولعله يقال: إن هذا الرضوان الذي يبشرهم به الرب ويخاطبهم به الموصوف بأنه لا يسخط بعده أبدا. متأخر وهو المراد من الآية والحديثين ومجرد الرضى حاصل لهم من أول الأمر كما يدل له قوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} [الفجر: 27 30] فإنه دال على الرضى من ¬
أول الأمر قبل دخول الجنة. ويحتمل أنه خاص بصاحب هذه النفس المطمئنة والحاصل أن هذا الرضى الذي أراده صاحب (الكشاف) واستدل عليه بالآية متأخر وهو المراد من الحديثين ولا ينافيه مجرد الرضى اللازم لأهل الجنة فلا يرد اعتراض صاحب (الإتحاف) عليه وأما قوله: (والهموم والغموم لازمة لأهل النار) فقد أشار إلى جوابه المحقق أبو السعود فقال: (ولك أن تقول إنهم ليسوا مخلدين في العذاب الذي هو عذاب النار بل لهم من أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى وهو العقوبات والآلام الروحانية التي لا يقف عليها في الدنيا المنغمسون في أحكام الطبيعة المقصود إدراكهم ما ألفوا به من الأحوال الجسمانية وليس لهم استعداد لتلقي ما وراء ذلك من الأحوال الروحانية وهذه العقوبات وإن كانت تعتريهم وهم في النار لكنهم ينسون بها عذاب النار ولا يحسونها وهذا كاف في تحقيق معنى الاستثناء) انتهى كلامه (¬82) وهذا وجه حسن محتمل على أنه الذي أراد صاحب (الكشاف) ويندفع به اعتراض صاحب (الإتحاف) ¬
هذا وفي (الكشف على الكشاف) ما لفظه (¬83) (هذا في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حر النار إلى برد الزمهري والرد بأن النار عبارة عن دار العقاب غير وارد لأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليبا أما دعوى الغلبة حتى هجر الأصل فلا ألا ترى إلى قوله: {نارا تلظى} [الليل: 14] وقوله: {وقودها الناس والحجارة} [البقرة: 24 والتحريم: 6] وكم. وكم وأما رضوان الله عن أهل الجنة وهم فيها فيأبى (الاستثناء) كيف وقوله: {خالدين فيها} لا يدل بظاهره على أنهم منعمون بها فضلا عن انفرادها بنعيمهم بها. ثم قال: ولعل الوجه - والله أعلم - أن يكون من باب {حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف: 40] {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} [الدخان: 56] وأشار إليه سلمه الله (يريد الفاضل الطيبي) (¬84) وذكر أنه وقف بعد ذلك على نص من قبل الزجاج) انتهى ¬
يريد أنه تقيد بالمحال في الآيتين وعصاة الموحدين داخلون في السعادة فإنهم خالدون في الجنة وإن تأخر دخولهم إياها فإنه من المعلوم أن الداخلين إلى الجنة لا يدخلون دفعة واحدة بل يدخلون أرسالا بل فيها من يسبق إليها بمقدار خمسمائة عام كما ثبت ذلك في فقراء المهاجرين (¬85) . والذي رجحه الفخر الرازي بعد سرده للأقوال وتعقبه لها أن عصاة الموحدين داخلون في الأشقياء محكوم عليهم بهذا الحكم وقوله: {إلا ما شاء ربك} يوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض الأشقياء ولما ثبت أن الخلود واجب للكفار وجب أن يقال الذين زال حكم الخلود عنهم هم الفساق من أهل الصلاة وهذا الكلام قوي في هذا الباب انتهى ¬
وأقول يرد عليه في هذا الوجه (الذين استقوا) إلى ما أورده هو على من قال: أن معنى الاستثناء في آية أهل النار أنهم ينقلون من عذابها إلى الزمهرير فإنه أورد عليه ما أسلفناه من أنه يقتفي أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد انقضاء مدة السموات والأرض. فيقال عليه: هذا عين ما قاله هناك: أنه يلزم أن لا يخرج عصاة من الموحدين عن النار إلا بعد انقضاء مدة السموات والأرض ولا دليل عليه بل الأدلة قائمة على خلافه كما قدمناه في التثنية مما سبق فالحق ما قدمناه لك من أن إيراده غير وارد على من أورده ولا لازم له لبطلانه في نفسه هذا وكلام الفخر الرازي هذا هو كلام المفسرين من أئمة السنة وذكره سعد الدين في (شرحه على التلخيص) (¬86) . لأنه جعل الاستثناء في الآيتين معا لإخراج عصاة الموحدين وآن المراد بعدم خلودهم في الجنة فراقهم لها أيام عذابهم وأنهم داخلون في السعداء باعتبار الإيمان وفي الأشقياء بسبب المعاصي ولكن فيه ما ¬
عرفت من أن الاستثناء إنما هو من المحكوم عليهم بدخول الجنة خالدين فيها وعصاة الموحدين قبل دخولهم لا يصح في حقهم الاستثناء كما عرفته وقد نبه على هذا المحقق الشريف (¬87) . في (حواشيه على المطول) حيث قال: (أقول: الخلود إنما هو بعد دخول الجنة فكيف ينقضي بما سبق على الدخول؟) فالصواب أن يقال: الاستثناء الأول محمول على ما تقدم من أن فساق المؤمنين لا يخلدون في النار وأما الثاني: (فهو) محمول على أن أهل الجنة لهم سوى نعيمها ما هو أجل وأكبر وهو رضوان الله عَزَّ وَجَلَّ وبقاؤه لا على أن فيهم بعضا يخرج انتهى ولا يخفى أن كلامه في الاستثناء الثاني هو كلام صاحب (الكشاف) بعينه وأنه يرد عليه ما أورده صاحب (الإتحاف) وقد سبق لنا رده كما عرفت وهكذا يرد عليه ما أورده صاحب (الكشاف) كما سبق قريبا أيضا فالأحسن أن يقال: أن الاستثناء في آية الجنة من باب (¬88) {حتى يلج الجمل في سم الخياط} تقييد بالمحال وأن من دخل الجنة لا يخرج منها أبدا بدليل الاجتماع المعلوم ضرورة من الدين وبدليل قوله تعالى: {عطاء غير ¬
مجذوذ} وفي آية أهل النار محمول على ما ذكر من خروج الموحدين ولا يقال: أن هذا يوجب اختلاف في نظم الكلام حيث عدل بالاستثناء الثاني عما حمل عليه الاستثناء الأول مع أنهما سيقا مساقا واحدا لأنا نقول: قد دفع الشريف هذا الإيراد لأنه ورد ما وينهي إليه بقوله: الأول محمول على الظاهر وقد عدل بالثاني عنه بقرينة واضحة مما ذكرنا فلا إشكال ولا اختلاف إذا عرفت حقيقة هذه الأقوال التي حققها الاستدلال وأساطين المفسرين وعيون العيون من المحققين عرفت أن آية الاستثناء كما قال صاحب (الكشاف) من المعضلات وقد اختلفت فيه كما رأيت أذهان المحققين الأثبات وقد سبق قول ابن القيم في آية الاستثناء في أهل الجنة أنه على كل تقدير أن الاستثناء فيه من المتشابه وأن المحكم قوله تعالى: {عطاء غير مجذوذ} [هود: 108] و {ظلها دائم} (¬89) وآيات الخلود التي وردت في الكتاب العزيز (¬90) فلك أن تقول بغير هذا القول في آية الاستثناء في أهل النار أنه من المتشابه وأن المحكم {خالدين فيها} {وما هم منها بمخرجين} [الحجر: 48] (¬91) والآيات المصرحة بخلود ¬
أهل النار في القرآن كثيرة جدا وسيأتي عد بعضها فيرد المتشابه وهي آية الاستثناء إلى المحكم وقد حكم الله بخلود أهل النار في النار وتواترت الأحاديث بإخراج عصاة الموحدين وقد ورد الاستثناء فلا ندري ما أراد الله هل بإخراج (¬92) العصاة من الموحدين كما قال جماهير أهل السنة وهو المروي عن ابن عباس كما أسلفناه عنه أو هو قريب أو هو عين المراد. أو أراد به أمرا استأثر الله بعلمه فنقول: {آمنا بالله كل من عند ربنا} [آل عمران: 76] وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى: {إلا ما شاء ربك} فإن الله أعلم ثنيته (¬93) على ما وقعت وأخرج ابن جرير عن (¬94) ابن زيد قال: قد أخبرنا الله بالذي شاء لأهل الجنة فقال: {عطاء غير مجذوذ} ولم يخبرنا بالذي شاء لأهل النار وأخرج ابن المنذر عن أبي وائل أنه كان إذا سئل عن الشيء في القرآن قال قد أصاب الله به الذي أراده هذا وإذا عرفت ما ألقينا عليك عرفت أنه لم يتم ما ادعاه ابن ¬
تيمية في الآية. وأنه أريد بالاستثناء فناء أهل النار فإنه قول في الآية بلا دليل ولا قال به من السلف أحد ولا من الخلف وأنه ليس في يد شيخ الإسلام شيء لا من كتاب ولا من سنة ولا من صحابي كما قررناه فليس في يديه إلا دعوى بغير برهان لا يقول فيها دون دق الشأن (¬95) ولا يعتمد عليها أهل الإتقان وعرفت أنه ما صفا قول قائل في الاستثناء في آية أهل النار عن كدر الإشكال وأن الأقوال فيه كلها أراء محضة إلا القول بأنه أريد به عصاة الموحدين فإنه قول قويم قد قاله بحر الأئمة وحبرها المدعو له بتعليم التأويل ابن عباس كما أسلفناه ودلت عليه أدلة أثرية وقرائن قرآنية فالقول به قويم ولا يدخل تحت التفسير بالرأي الذي ورد الوعيد على (من قال في القرآن برأيه) (¬96) . فلا يقال إنه يتعين الوقف عن ذلك الخوض والإيمان بما أراده الله ورد علمه إليه ثم استدل شيخ الإسلام على سعة رحمة الله تعالى أنها أدركت أقواما ما فعلوا خيرا وساق أحاديث دالة على أن الرحمة أدركت من كان من عصاة الموحدين كما ستعرفه وليس من محل النزاع فمن الأدلة التي ساقها على مدعاه قصة الذي أمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الرياح في البر والبحر خشية أن يعذبه الله قال: (فقد ¬
شك في المعاد فأحياه الله تعالى قال فهذا لم يعمل خيرا قط وأدركته رحمة الله تعالى) (¬97) ¬
وأقول هذا ليس من محل النزاع فهذا مؤمن بالله عالم بأن الله يعذب من عصاه وقد وقع من خوفه وخشية أمره بتحريقه ففي قلبه خير. وإن لم يعمل خيرا قط. ولذلك الخير أدركته رحمة الله واستدل أيضا على مدعاه بما أخرجه أحمد في (مسنده) من حديث الأسود بن سريع مرفوعا ( [يأتي] أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة أما الأصم فيقول: رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول: رب جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني من رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل عليهم ليدخلوا النار قال: فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما) (¬98) ¬
وأقول ليس الحديث أيضا في محل النزاع إذ هو في فناء النار ودخول أهلها الجنة وهؤلاء الثلاثة الأولون ليسوا بمشركين فإنهم كانوا في دار الدنيا غير مكلفين فلم يتحقق منهم أنهم كانوا مشركين وليسوا ممن دخل النار ثم فنيت وهم فيها: والرابع الذي مات في الفترة مخاطب بشرع من قبله بنص قوله تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر: 24] والحديث لم يذكره شيخ الإسلام بتمامه وهو حديث مشكل ولا حاجة لنا إلى الكلام عليه بعد بيان أنه ليس من محل النزاع ثم استدل شيخ الإسلام بحديث رواه ابن المبارك من حديث أبي قلت: لم يتبين لي وجه الإشكال إلا أن يكون بدا له التعارض بين الآية {. . إلا خلا فيها نذير} وبين قوله الذي مات في الفترة: (ما أتاني من نذير) . فإن كان هذاهو المشكل فلا إشكال عندي لأنه ليس من الضروري أن تبلغ النذارة كل فرد من أفراد كل أمة بل يمكن أن يكون في كل أمة من لم تبلغهم الدعوة. حتى في هذه الأمة المحمدية فمن الذي يستطيع أن يقول بأن سكان القطب الشمالي والقطب الجنوبي قد بلغتهم دعوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا سيما قبل عصرنا هذا الذي تيسرت فيه طرق التبليغ كالراديو وغيره. ولكن أين المبلغون للدعوة إليهم وإلى أمثالهم على وجه الأرض وبلغاتهم؟ بل أين المبلغون للدعوة الحق التي نزلت على قلب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للمسلمين أنفسهم حين انحرف الكثيرون منهم عنها بل وحاربوها هذا أولا وثانيا: فإن قول المؤلف: أن الذي مات في الفترة مخاطب بشرع من قبله. . لا يدل عليه قوله تعالى: {وإن من أمة} لأن المعنى: (ما من أمة من الأمم الماضية إلا مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها) كما قال الشوكاني في (فتح القدير) . وأما أنها تدل على أن من مات فيها نذير من الأنبياء ينذرها) كما قال الشوكاني في (فتح شيء لا تدل عليه الآية لا من قريب ولا من بعيد بل لا بد له من دليل خاص. فكيف والثابت خلافه وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة) . رواه الشيخان وهو مخرج في (الإرواء) (285)
هريرة مرفوعا: أن رجلين (¬99) دخلا النار واشتد صياحهما فقال الرب جل جلاله أخرجوهما فقال لأي شيء اشتد صياحكما فقالا: فعلنا ذلك لترحمنا. فقال: رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما في النار. فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها عليه بردا وسلاما ويقوم الآخر فلا يلقي فيقول له الرب: ما منعك أن تلقي نفسك] كما ألقى صاحبك؟ فيقول: رب إني أرجو أنك لا تعيدني فيها بعد أن أخرجتني منها. فيقول: لك رجاؤك فيدخلان جميعا الجنة برحمة الله) وأقول: هذا كما تراه في إخراج العصاة من الموحدين فإنه لا يقول ابن تيمية أن يخرج الكفار من النار كما يقول غيره ¬
ثم ساق حديثا ثالثا مثل هذا الحديث ليس من محل النزاع ثم تعرض لأدلة القائلين بعدم فناء النار (100) فقال: (لهم ست طرق أحدها الإجماع على عدم فنائها) قال: (والإجماع غير معلوم إنما يظنه في هذه المسألة من لم يعرف النزاع فيها وقد عرفت النزاع قديما وحديثا قال: (ولو كلف مدعي الإجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم أنه قال النار لا تفنى لم يجد إلى ذلك سبيلا) ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك فما وجدنا عن واحد منهم خلاف ذلك وأقول: قد عرفت أنه نقل عن ستة من الصحابة عبارات لا تدل على مدعاه وهو فناء النار بنوع من الدلالات كما أوضحناه ولا يصح نسبته لتلك الدعوى إلى واحد من أولئك الستة فلم يوجد لأحد مما وجدنا عن واحد من الصحابة أنه يقول بفناء النار كما أنه لا يوجد قائل من الصحابة أنه يقول بعدم فناء النار فإن هذه المسألة وهي فناء النار لا تعرف في عصر الصحابة ولا دارت بينهم فليس نفي ولا إثبات بل الذي عرفوه فيها هو ما في الكتاب والسنة من خلود أهل النار أبدا وأن أهلها ليسوا منها بمخرجين وعرفوا ما ثبت من خروج عصاة الموحدين ¬
إذا عرفت هذا عرفت أن دعوى فناء النار أو عدم فنائها قول للصحابة دعوى باطلة إذ هذه الدعوى لا توجد في عصرهم حتى يجمعوا عليها نفيا أو إثباتا نعم القول الذي دل عليه القرآن من خلود النار أهلها فيها أبدا يتضمن القول عنهم بما تضمنه القرآن ودل عليه الأصل فيما أخبر الله به عن الدارين الأخروين البقاء فلا يحتاج مدعي عدم الفناء إلى الدليل على ذلك الأصل ثم قال: (الثاني (أي من الستة الأدلة للقائلين بعدم الفناء) أن القرآن دل على ذلك دلالة قاطعة فإنه تعالى أخبر أنه {عذاب مقيم} [المائدة: 37] وأنه {لا يفتر عنهم} [الزخرف: 75] وأنه لا يزيدهم إلا عذابا (101) وأنهم {خالدين فيها أبدا} (102) وأنهم {وما هم بخارجين (103) من النار} [البقرة: 167] {وما هم منها ¬
بمخرجين} (104) وإن الله حرم الجنة على الكافرين (105) وأنهم {لن يدخلوا الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} (106) و {أن عذابها كان غراما} [الفرقان: 65] . قال: والجواب أن هذا كله مسلم وأنهم لا يخرجون منها وأنه لا يفتر عنهم العذاب ما دامت باقية وليس محل النزاع إنما محل النزاع لا تفنى النار قال: وهذه النصوص تقضي بخلودهم في النار ما دامت باقية) (107) هذا جوابه وأقول: قد عرفت أنه لا يتم هذا الجواب ما لم يؤخذ بأدلة ناهضة على فناء النار ولم يقم دليل على ذلك قال: (الطريق الثالث (من أدلة القائلين بعدم فناء النار) : أن السنة ¬
المستفيضة أخبرت بخروج من في قلبه أدنى ذرة من إيمان دون الكفار فأحاديث الشفاعة كلها صريحة في خروج الموحدين دون الكافرين قال: الجواب: أن هذا لا شك فيه وهو إنما يدل (108) على ما قلناه من خروج الموحدين فيها وهي باقية ويبقى المشركون ما دامت باقية) وأقول: الجواب ما سلف. ثم قال: (الطريق الرابعة (للقائلين بعدم فناء النار) : أوقفنا الرسول على ذلك وعلمناه من دينه ضرورة كما علمنا دوام الجنة (109) . وأجاب بأنه لا ريب أن الكفار باقون فيها ما دامت باقية هذا هو المعلوم من دينه ضرورة وأما كونها أبدية لا تفنى كالجنة. فمن أين في القرآن والسنة دليل واحد على ذلك؟) وأقول: الدليل يتوجه على من ادعى الفناء ولم يأت شيخ الإسلام بشيء واحد والأصل هو خلود النار وأبديتها كما دل عليه الكتاب والسنة فلا يحتاج مدعي عدم الفناء إلى دليل آخر بعد هذا الأصل. قال: (والدليل الخامس (من أدلة القائلين بفناء النار) : أن في عقائد ¬
أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان لا يفنيان أبدا والقول بفنائها من أقوال أهل البدع. قال: والجواب: أنه لا ريب أن القول بفنائها قول أهل البدع وأما القول بفناء النار وحدها فقد أوجدناكم من قال به من الصحابة وتفريقهم بين الجنة والنار فكيف تقولون: إنه من قول أهل البدع؟) (110) وأقول لأنه يصدق عليه رسم البدع ففي (القاموس) : (البدعة بالكسر الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما أحدث بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الأهواء والأعمال) انتهى والمعلوم أنه لم يقع في ذلك العصر قول بفناء النار ودخول الكفار جنات تجري من تحتها الأنهار ولا أوجدنا شيخ الإسلام مع تبحره في العلوم وسعة اطلاعه على أقوال السلف والخلف على قول واحد من الصحابة بفناء النار ودخول الكفار الجنات. وإن كان كذلك فالقول به بدعة قطعا. قال (111) : (والدليل السادس (للقائلين بعدم فناء النار) : أن العقل يقضى بخلود ¬
الكفار: ثم قرر وجه الاستدلال بما حاصله أنه مبني على أن المعاد وإثابة النفوس المطيعة وعقوبة النفوس العاصية مما يعلم بالعقل كما يعلم بالسمع (قال) كما دل عليه القرآن في غير موضع كإنكاره تعالى على من زعم أنه يخلق خلقه عبثا وأنهم إليه لا يرجعون وأنه يتركهم سدى لا يثيبهم ولا يعاقبهم وأن ذلك يقدح في حكمته وكماله وأنه ينسبه إلى ما لا يليق ثم قرره تقريرا آخر. وأجاب عنه بقوله: وأما حكم العقل بتخليد أهل النار فيها فإخبار عن العقل بما ليس عنده فإن المسألة من المسائل التي لا تعلم إلا بخبر الصادق ثم أن العقل دل على المعاد والثواب والعقاب إجمالا وأما تفصيلا فلا يعلم إلا بالسمع وقد دل السمع على دوام ثواب المطيعين وأما عقاب العصاة فدل دلالة قاطعة على انقطاعه في حق الموحدين وأما دوامه وانقطاعه في حق الكفار فهو من معترك النزال فمن كان السمع في جانبه فهو أعلم بالصواب) (112) قلت: وهو تحقيق حسن إلا أني لا أدري من الذين قالوا أن العقل حكم بخلود العصاة في النار فإن أشد الناس بهم الوعيدية والمعتزلة إلا القليل وأكثرهم قائلون بأن العقل يقضي بحسن العفو (1) الحادي (2 / 188 - 189)
عن الكفار لولا ورود السمع بان الله لا يغفر أن يشرك به هذا وقد انتهت المناظرة التي ساقها ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام بين الفريقين. ومن له نباهة وهو من أولي الألباب لا يخفى عليه بعدما قررناه وجه الصواب ثم ساق شيخ الإسلام من الأدلة على مدعاه فقال مستدلا: (إن الله خلق عباده على الفطرة وخلقهم حنفاء فلو خلوا وفطرهم لما نشئوا إلا على التوحيد. (قال) : والأشقياء غيروا الفطرة إلى ضدها واستمروا على ذلك التغيير ولم تغن عنهم الآيات والنذر في هذه الدار فأتاح الله لهم آيات أخر وأقضية وعقوبات فوق التي كانت في الدنيا يستخرج الخبث والنجاسة التي لا تزول بغير النار فإذا زال موجب العقاب وسببه زال العذاب وبقي مقتضى الرحمة لا معارض له) (113) . وأراد (بمقتضى الرحمة) الميثاق الذي أخذ عليهم بالإيمان وهم في عالم الذر (114) وأقول: لا شك أنه يدخل النار من كفار الجن والشياطين أمم لا ¬
يحصون بل ربما يدعى أنهم أكثر من كفار بني آدم وما ذكره شيخ الإسلام من عود أهل النار بعد زوال خبيث الكفر إلى الفطرة والإقرار الذي كان في عالم الذر إن ساعدناه عليه ثم له في من أقر في عالم الذر بالربوبية من بني آدم لا غير ودعواه فناء النار وأن سكانها وأهلها يدخلون الجنة وهو حكم عام لكل من دخل النار والدليل خاص ببعض بني آدم وإنما قلناه: (إن ساعدناه) لأنه قد ثبت في الأحاديث أن الكفار لم تشملهم الفطرة. والإقرار بالربوبية في عالم الذر [لم يكن] إلا كرها فليس لهم حظ من فطرة الله التي فطر الناس عليها كما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما في الأرض أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي) (115) والتعقيب بالفاء يشعر بأن الإباء كان عند أخذ الميثاق عليه وهو في ظهر أبيه [أن] لا يشرك في الدنيا ويوضح ذلك ما أخرج ابن عبد البر في (التمهيد) من طريق السدي عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة في الآية: أن الله مسح صفحة ظهر آدم فأخرج فيها ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر ومسح صفحة ¬
ظهره اليسرى فأخرج منها ذرية سوداء كهيئة الذر فذلك قوله: {أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} [الواقعة: 27] و {أصحاب الشمال ما أصحاب الشمال} [الواقعة: 41] ثم أخذ الميثاق فقال: {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 172] فأعطاها طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية (إلى أن قال: وذلك قوله تعالى: {وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها} [آل عمران: 83] وهذا المعنى كثير في الأحاديث ومنه حديث الغلام الذي قتله الخضر أخرج مسلم وأبو داود والترمذي (116) وعبد الله بن أحمد في (زوائد المسند) وابن مردويه عن [أبي] بن كعب عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: (الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانا وكفرا) (117) وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن ابن عباس مثله (118) . نعم أحاديث كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه أحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما (119) وتفسير الفطرة بالدين منصوص عليه فلا ¬
بد من الجمع بين الأحاديث بتخصيص أحاديث الفطرة ونحوها وهي أحاديث كثيرة من الجانبين وهي كلها في بني آدم ثم لك أن تجمع بين أحاديث عموم الفطرة وحديث أنس الذي عند أحمد والشيخين الذي أسلفناه بأن نقول: الكل على الفطرة أي فطرة الإقرار بالتوحيد من أقر تقية كرها ومن أقر طوعا حقيقة كذلك فيتم العموم ثم إن المقرين تقية اجتالتهم الشياطين كما في لفظ الحديث (120) وهودهم الآباء ونصروهم ومجسوهم واقتادوهم وانقادوا لهم وللشياطين لما في طبائعهم الخبيثة من أول وهلة حين أقروا تقية تجتمع الأحاديث والله أعلم ثم قال شيخ الإسلام: (فإذا أخذت النار مأخذها منهم وحصلت الحكمة المطلوبة من عذابهم فإن العذاب لم يكن سدا وإنما كان لحكمة مطلوبة فإذا ¬
حصلت تلك الحكمة لم يبق في التعذيب أمر يطلب) (121) وأقول لم يقم شيخ الإسلام دليلا على أن الحكمة المطلوبة لله في تعذيب الكفار هي زوال النجاسة الكفرية وخبثه الذي لا يزول إلا بعذاب النار وإنما قال ذلك تظننا منه وتحسبا تفرع عن اعتقاده فناء النار وقد أورد على نفسه سؤالا فقال: (إن قيل: سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان عارضا كمعاصي الموحدين أما ما كان لازما كالكفر والشرك فإن أثره لا يزول كما لا يزول السبب وقد أشار الله تعالى إلى ذلك فقال: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام 28] إخبارا بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقبل (122) غير الشرك وإنها غير قابلة للإيمان أصلا قال [تعالى] : {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا} [الإسراء: 72] فأخبر أن ضلالهم عن الهدى دائم لا يزول ¬
مع معاينتهم الحقائق التي أخبرت بها الرسل وقال: {لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 23] فهذا يدلك على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة ولو كان فيهم خير لما ضيع [عليهم] أثر وهو يدل على أنه لا خير فيهم هنالك أيضا) (123) وأجاب بقوله: (لعمر الله إن هذا أقوى ما يتمسك به في هذه المسألة ولكن هل هذا الكفر والخبث والتكذيب أمر ذاتي [لهم] زواله مستحيل أم هو أمر عارض طارئ على الفطرة قابل للزوال؟ وليس بأيديكم ما يدل على استحالة زواله وأنه أمر ذاتي قد أخبر الله أنه فطر عباده على الحنفية وأن الشياطين اجتالتهم عنها فلم يفطرهم على الكفر والتكذيب وإنما فطرهم على الإقرار بخالقهم ومحبته وتوحيده (124) وإذا كان هذا الحق الذي فطروا عليه قد أمكن زواله بالكفر والشرك كان زوال الكفر والشرك بضده أولى وأحرى ولا ريب [أنهم] لو ردوا على تلك الحال لعادوا لما نهوا عنه لكن من أين لكم أن تلك الحال لا تزول ولا تبدل بنشأة أخرى ينشؤهم عليها تبارك وتعالى (125) ¬
أقول: قد دار جواب هذا الإيراد والذي أقر أنه من أقوى ما يتمسك به المخالف على أن الكفار مخلوقون على الفطرة أي فطرة الدين الحنيف وهو التوحيد وقد سمعت من حديث ابن عباس وابن مسعود وغيرهم أنها لم تشملهم الفطرة ولا وقع منهم الإقرار بالوحدانية في عالم الذر إلا تقية ثم هب أن الفطرة شاملة لبني آدم كما قال تعالى: {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} [هود: 119] والفطرة إنما هي للناس كما في الآية والحديث: (إنهم خلقوا حنفاء فاجتالتهم الشياطين) (126) . فإن ساعدناه على أن الناس مفطورون على التوحيد فيما يصنع بالجن والشياطين وهم من جملة من تفنى عنهم النار ويدخلون الجنة؟ أيزعم أنهم مفطورون على التوحيد مخلوقون حنفاء؟ فمن اجتالهم فإنهم هم الذين اجتالوا العباد. فهذا وارد على عمومهم الفطرة مع التسليم والمماشاة. وأما قوله: (فمن أين لكم أنه لا يزول) ؟ قلنا: من إخبار الله في الآيات التي ساقها في صدر السؤال ولعدم الدليل على زوال ما كانوا عليه. وكفى دليلا (127) على عدم زوال نجاسة الكفر وخبث الشرك ودرن التكذيب بالنار قوله تعالى: ¬
{ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} إلا أنه قال شيخ الإسلام: (إن هذا الإخبار منه تعالى عنهم قبل دخولهم النار فإنه تعالى قال: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب ... } إلى قوله: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} (128) أي لو ردوا من شفير جهنم قبل دخولها لعادوا لما نهوا عنه من التكذيب والكفر وذلك لازم لهم لم يزل عنهم خبث الشرك فإنه لا يزول إلا بدخول النار قلت: قد حكى الله عنهم أنهم يقولون وهم بين أطباقها يصلونها: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} [المؤمنون: 107] وأنه يقول في جوابهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108] فلم يجبهم تعالى وقد ذاقوا العذاب واعترفوا بالظلم إلا بقوله: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} ولم يقل ابقوا حتى تطهروا من خبث الكفر ولعل شيخ الإسلام يقول لم يكن عند هذا الاعتراف قد طهرت تلك النفوس من خبث الشرك وجوابه: أن هذه الدعوى [من] العنت وتقريره أن زوال خبث الشرك والكفر بالنار من عيب تفرع عن دعوى الفناء للنار والأصل بقاؤه ما لم يقم عليه دليل كما عرفت ¬
ثم استدل على ذلك المدعى بأحاديث الشفاعة الثابتة في (الصحيحين) وغيرها وفيها (أن الله يقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط) قال: فهذا يدل على إخراج قوم لم يكن في قلوبهم خير قط كما يدل له السياق فإن لفظ الحديث هكذا: (أخرجوا من في قلبه مثقال ذرة من خير فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرا فيقول الله: شفعت الملائكة وشفعت النبيون وشفعت المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة ... ) الحديث (129) قال: (فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير ومع هذا فأخرجتهم الرحمة) ¬
أقول: الحديث ليس من محل النزاع فإنه في إخراج أقوام من النار وهي باقية وقد قرر شيخ الإسلام فيما سلف أنه لا يخرج منها الكفار وهي باقية وإن كان إنما استدل به عليه بعموم الرحمة ثم يقال: الحديث دل على أن الملائكة أخرجت من علمت في قلبه مثقال ذرة من خير ولا دليل أنهم يعلمون كل من في قلبه مثقال ذرة من خير فإنهم لا يعلمون من أحوال القلوب إلا ما أعلمهم الله كما قال تعالى: {يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 12] فهم يعلمون أفعالنا لا ما انطوت عليه قلوبنا ولهذا وردت الأحاديث أنهم يصعدون بالعمل يرونه حسنا ويرد فيقول الله أن فاعله أراد به كذا وكذا أي من الرياء ونحوه فأخرج البزار والطبراني في (الأوسط) والدارقطني والأصبهاني في (الترغيب والترهيب) من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (يؤتى يوم القيامة بصحف مختمة فتنتصب بين يدي الله فيقول: ألقوا هذه واقبلوا هذه. فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل. فيقول الله أن هذا كان لغير وجهي وأنا لا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي) (130) ¬
وهذا الحديث فيه الإخبار بأن الملائكة قالت: (لم نذر فيها خيرا) أي: أحدا فيه خير والمراد ما علموه بإعلام الله. ويجوز أن يقال لم يعلمهم بكل من في قلبه خير وأنه بقي من أخرجهم بقبضته ويدل له أن لفظ الحديث (أنه أخرج بالقبضة من لم يعملوا خيرا قط) فنفى العمل ولم ينف الاعتقاد وفي حديث الشفاعة تصريح بإخراج قوم لم يعملوا خيرا قط ويفيد مفهومه أن في قلوبهم خيرا. ثم سياق الحديث يدل على أنه أريد بهم أهل التوحيد لأنه تعالى ذكر الشفاعة للملائكة والأنبياء والمؤمنين ومعلوم أن هؤلاء يشفعون بعصاة أهل التوحيد. فإنه لا يقول ابن تيمية ولا غيره أنه يشفع للكفار بقرائن القبض التي قبضها الرب في عصاة الموحدين والأليق بالسياق أنها أيضا فيهم (131) وقد أخرج البيهقي في ¬
الشفاعة (132) من حديث جابر مرفوعا وفيه: (اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فاخرجوا (إلى أن قال) ثم يقول الله تعالى: الآن أخرجوا بعلمي وحلمي فيخرج أضعاف ما أخرجوا وأضعافه) . فقوله تعالى: (بعلمي) يدل على أنه علم قوما في قلوبهم الخير لم تعلمهم الملائكة. وهب أنا ساعدناه وأن تعالى أخرج قوما من الكفار من النار أين هذا من محل النزاع وهو فناء النار وإدخال من كان فيها من الكفار الجنة؟ ثم قال شيخ الإسلام مستدلا أيضا: (إن العبد إذا اعترف بذنوبه حقيقة الاعتراف المتضمن لنسبة السوء والظلم واللوم إليه والحمد والرحمة والكمال المطلق لربه وفي كل وقت يستعطف ربه ويستدعي رحمته وإذا أراد الله أن يرحم عبده ألقى ذلك في قلبه لا سيما إذا اقترن بذلك عزم العبد على ترك المعاودة وعلم الله ذلك من داخل قلبه وسويدائه فإنه لا يختلف عن الرحمة فإذا علمت تلك النفوس الخبيثة أن العذاب أولى لها وأنه لا يليق بها سواه ولا تصلح إلا له فقد ذابت تلك الخبائث وتلاشت وتبدلت وبذل وانكسار وثناء على رب العالمين تبارك وتعالى - لم يكن في حكمته أن يستمر العذاب بعد ذلك إذ قد تبدل شرها ¬
بخيرها وشركها بتوحيدها وكبرها بخضوعها وذلها) (133) وأقول: قال الله تعالى مخبرا عن المشركين واعترافهم المذكور: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} [الملك: 10 و11] فهذا نص في اعترافهم الاعتراف الحقيقي فإنه لا يطلق تعالى على ما ليس باعتراف أنه اعتراف ثم قال: {فسحقا لأصحاب السعير} أي: بعدا لهم عن الرحمة والإغاثة والغفران فهذا نص في وجه هذا القول الذي قاله تظننا. وقال تعالى لما قالوا وهم في دركات النار: {أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} [المؤمنون: 107] فاعترفوا بظلمهم وأخبروا عن عزيمتهم أنهم لا يعودون أي إن عدنا إلى ما كنا فيه من الكفر والتكذيب كما يفيده لفظ العود ولم يجب عليهم تعالى إلا بقوله: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108] وأخرج الترمذي (134) والبيهقي من حديث أبي الدرداء مرفوعا وفيه: (أن أهل النار ينادون خزنة جهنم ثم يدعون مالكا ثم يقولون ¬
ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون: {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} [المؤمنون: 106 و107] فيجيب عليهم الرب: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108] . (فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك أخذوا في الزفير والشهيق والويل) ثم يقال: وقد قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} في آيتين من سورة (النساء) [48 116] وهو غير مقيد بزمان ولا حال فيجب الوقوف والتسليم في هذا المقام والاعتراف بالعجز عن إدراك حكمة الحكيم العلام فكيف يقول شيخ الإسلام لم يكن في حكمته أن يستمر بها العذاب؟ وأين للعقول الاطلاع على أسرار حكمته وكيف لها
الوصول إلى معرفة عجائب ملكوته وجبروته ثم أخذ شيخ الإسلام يستدل بأحاديث (آخر الناس خروجا من النار) وأحاديث (أدنى الناس منزلة في الجنة) وهي أحاديث واضحة في عصاة الموحدين ولا حاجة إلى سردها فهي معروفة في محالها (135) ثم قال مستدلا على مدعاه: أنه تعالى يخبر عن العذاب أنه {عذاب يوم عقيم} و {وعذاب يوم عظيم} و {عذاب يوم أليم} [الزخرف: 65] ولا يخبر عن النعيم أنه نعيم يوم ولا في موضع واحد (136) وأقول: ورد {عذاب يوم عظيم} في قصة صالح في قوله لقومه: {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم} [الشعراء: 156] والمراد به اليوم الذي أخذهم فيه العذاب بالدنيا وهو العقاب ومن قول شيخ الإسلام في فصل له في إثبات حكمة أحكم الحاكمين وأن السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المشهورين يقرون بها لله في خلقه وأمره قال: (لكن قد يعرف أحدهم وقد لا يعرفها ويقرون بما جعله من الأسباب وما في خلقه وأمره من المصالح التي جعلها رحمة بعباده ... وأن كل ما وقع من خلفه وأمره فعدل وحكمة سواء عرف العبد ذلك أو لم يعرفه) . انظر (مجموع الفتاوى) (17 / 198 - 205) ¬
القريب الذي أوعدهم به في قوله: {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب} [هود: 64] (137) قال تعالى: {فلما جاء أمرنا نجينا صالحا} إلى قوله: {ومن خزي يومئذ} [هود: 66] أي: يوم أخذهم العذاب العظيم القريب فهو يوم من أيام الدنيا. وورد {عذاب يوم عظيم} في قصة شعيب: {فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم} [الشعراء: 189] وورد {عذاب يوم عقيم} في قوله تعالى: {ولا يزال الذين كفروا في مرية منه ... .} الآية إلى قوله: {أو يأتيهم عذاب يوم عقيم} [الحج: 55] وفسر بيوم بدر كما أخرجه ابن مردويه والضياء في (المختارة) عن ابن عباس وأخرجه أيضا ابن مردويه عن أبي بن كعب. وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وأخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة. فهذه كلها من أيام الدنيا وهب أنه ورد ذلك في صفة عذاب الآخرة فإنه قد ثبت بنص القرآن أنهم لابثون فيها أحقابا والحقب - كما ذكره ابن تيمية في هذه المسألة - خمسون ألف سنة قال: أخرجه الطبراني من ¬
حديث أبي أمامة مرفوعا (138) . والأحقاب جمع (139) وأقله ثلاثة يعني (140) مائة ألف سنة وخمسين ألف سنة هذا وقد ورد في أهل الجنة {أن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهين} [يس: 55] وهذا تقييد لنعيمهم وكونهم فاكهين والفاكه المتنعم المتلذذ ومعلوم أنهم في شغل فاكهون أبد الآباد وقال تعالى: {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} [الزخرف: 68] فإن قيل أراد به مبدء زوال الخوف والحزن قلنا كذلك {عذاب يوم} أريد به مبدأه وحينئذ فلا دليل بالتقييد مطلق الزمان فمن أيام الآخرة ليس لها قيد به من نعيم ولا عذاب (140) . بل أريد به مطلق الزمان فإن أيام الآخرة ليس لها مقدار فمتى [أطلق اليوم] أطلقه على مطلق المدة {هذا يوم لا ¬
ينطقون} [المرسلات: 35] {هذا يوم الفصل} [الصافات: 21] {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} [الأنبياء: 103] {اليوم نختم على أفواههم} [يس: 65] {إني جزيتهم اليوم بما صبروا} [المؤمنون: 111] {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} [الحج: 47] {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج: 4] فليس المراد من الجميع اليوم المعروف للمقدار المذكور قطعا ومن إطلاقه على مطلق المدة قوله في قصة عاد: {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} [الشعراء: 135] ثم يبينه في (الحاقة) بقوله: {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية} إلى قوله: {ثمانية أيام حسوما} [6 و7] . فهذا تفسير لليوم العظيم بأيام وليالي. وبهذا يعلم ضرورة أنه إذا أطلق اليوم في تقييد الأمور الأخروية علم يقينا أنه مطلق الزمان ولا تحديد له ولا تعيين ولا نهاية إلا بدليل. وقد كان أعجبني استدلاله بما ذكر من تقييد عذاب الآخرة باليوم في آيات وعدم تقييد نعيم الجنة ولا في آية فلما حققته وجدته لا شيء نفيا وإثباتا أما إثباتا فإنه ما ثم دليل على مدعاه وأما نفيا فإنك قد سمعت ما سقناه من تقييد نعيم أهل الجنة فاليوم كما قال الله في الجنة {ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود} [ق: 34] انتهى
وقد انتهى (142) إلى هنا ما اجلب إليه شيخ الإسلام من خيل الأدلة ورجلها وكثيرها وقلها ودقها وجلها وأجرى فيها قلمه ونشر فيها علمه وأتى بكل ما قدر عليه من قال وقيل واستنفر كل قبيل وجيل وسردها تلميذه ابن قيم الجوزية وقال في آخرها هذه نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة ولعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب) (143) قلت وقد سقنا أدلته النظرية والأثرية ولم نترك منها إلا ما كان مكررا وتكلمنا على تفصيلها وتجميلها بما هدانا الله إليه وله الحمد من غير عصبية مذهبية ولا متابعة أشعرية ولا معتزلية بل [بما أشهدتنا أنوار الأدلة] واعلم أن هذه المسألة التي أتى بها شيخ الإسلام هي فرع عن مسألة خلق الأشقياء التي حار فيها أرباب النوى وتحير فيها فرسان الأذكياء وترددت حولها أذهان الفطانا وتفرع عنها أقوال اقشعرت منها جلود الأمة الفضلاء فطائفة أوهم الجهل بذلك إلى الإقدام على نفي حكمة الله في أقواله وهم غلاة الأشعرية وأخطأوا في ذلك ورد عليهم الأئمة الأعلام من أهل مذهبهم وغيرهم من علماء الأنام وآخر من بين ما ¬
في كلامهم من الاختلال وما في نفيهم الحكمة من الداء العضال المحقق العلامة نزيل حرم الله صالح بن مهدي المقبلي في كتابه (العلم الشامخ) ولواحقه (144) وفي أبحاثه المسددة ونقلت كلامه ورددت عليه في (إيقاظ الفكرة) وطائفة أقدموا على أن الله ليس بقادر على هداية الكافر لأنه خلق على هيئة لا يقبل اللطف معهما وهم غلاة المعتزلة وقد رد عليهم الأئمة من أهل التحقيق وأبانوا أنه قول بالقبول غير حقيق وأن فيه من الشناعة والبشاعة ما لا يليق وأما ابن تيمية ومن تابعه فأثبتوا الحكمة وعموم قدرة الله على كل شيء وقال: بما سمعت من فناء النار وأنه تعالى خلق الأشقياء ليتفضل عليهم بعفوه ورحمته ولقد أصاب بإثبات الأمرين الذين نفاهما غيره ولكنه غير وجه الحكم وحكم بفناء النار ولم ينهض له دليل على ذلك كما عرفته وقد أشار السيد العلامة الكبير محمد بن إبراهيم الوزير إلى هذه الثلاثة الأقوال وإلى ما تفرع عليها من الدعاوى في إثبات الإجادة في الإرادة حيث قال: ¬
ولما أتى ذكر الخلود بناره على جوده في ذكره والجوازم تعاظم شأن الخلد في النار كل من تفكر في أسماء رب العوالم (145) يشير إلى ما قاله ابن تيمية من: (أن صفاته تعالى من الرضا والرحمة صفتان ذاتيتان) (146) . فلا منتهى لرضاه وأن سخطه وعذابه ليسا من صفات ذاته التي يستحيل انعكافه عنها كعلمه وحياته والعفو أحب إليه من الانتقام والرحمة أحب إليه من العقوبة والرضى أحب إليه من الغضب والفضل أحب إليه من العدل ثم إن النعيم والثواب من مقتضى رحمته ومغفرته وبره وكرمه ولذلك يضيف ما ذكر إلى نفسه وأما العذاب والعقاب فإنهما من مخلوقاته ولذلك لا يسمى بالمعذب والمعاقب بل يفرق بينهما فيجعل هذا من أوصافه وهذا من مفعولاته من الآية الواحدة كقوله تعالى: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} [الحجر: 49 و50] وقال: {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} [الأعراف: 167] ومثلها في آخر (الأنعام) فما كان من مقتضى أسمائه وصفاته فإنه يدوم بدوامها ولا سيما إذا كان محبوبا له في أسمائه وصفاته [وأما الشر وهو العذاب فلا يدخل في أسمائه ¬
وصفاته] وإن دخل في مفعولاته لحكمة إذا حصلت زال وفني بخلاف الخير فإنه سبحانه دائم المعروف ولا ينقطع معروفه أبدا على الدوام وليس من موجب أسمائه وصفاته أنه لم يزل معاقبا على الدوام غضبان على الدوام فتأمل هذا تأمل فقيه في أسماء الله فإنه يتضح لك باب من أبواب معرفته ومحبته (147) ثم أشار السيد محمد إلى ما تفرع من معارضته ما يفيده صفات جوده وفضله وما صرح به من خلود الكفار فأشار إلى الوعيد بقوله: فمن قائل بالخلد من أجل كثرة ال وعيد به في المنزلات القواصم وذلك لأنهم حكموا بعموم الخلود لمن دخل النار من عصاة الموحدين والكفار والمسألة مبسوطة في علم الكلام وما لها وعليها مما أثاره المحققون الأعلام. وأشار إلى من قال بالتخصيص لآيات الخلود بقوله: ومن قائل أن الخصوص (148) مقدم وساعده أسماء أحكم حاكم ¬
فإنه أشار إلى من قال: أن الأحاديث الواردة في سعة رحمة الله وصفاته تعالى من أنه أرحم الراحمين وورود آية الاستثناء تخصص آيات الوعيد: وأراد بهذا البيت ما تشتمل عليه مقالة ابن تيمية إذ هي عائدة إلى القول بتخصيص آيات الوعيد بالخلود. ويبعد فناء النار (149) كما دل عليه قوله: وثالثها المنصور يرجى لمسلم ومن عاند الإسلام ليس بسالم فإنه أراد أن ثالث الأقوال في المسألة التفصيل وهو أن التخصيص من الوعيد يرجى للمسلم ومن عاند الإسلام وهم الكفار فلا يشمله التخصيص من الوعيد وإن قصرت عبارته عن هذا الحكم لعدم مساعدة النظم فهو مراده فجعل الأقوال ثلاثة بقاء الوعيد على عمومه من غير تخصيص عصاة الموحدين والكفار تخصيص الموحدين لا غير. وهذا هو الذي سبق عن ابن عباس في تفسير آية (هود) ثم قال مشيرا إلى منشأ مقالة كل من القائلين وأن الحاصل له المحافظة على قاعدة تعود إلى تعظيم الله جل وعلا قوله: فمن قاصد تعظيمه (150) لو رعى له من الجبروت الحق عز التعاظم ¬
فهذه إشارة إلى الوعيدية وأنهم قصدوا بالقول بالتخليد في النار لكل من دخلها تنزيه الله عن خلف الوعد الذي أفاده قوله: {ما يبدل القول لدي} [ق: 29] ونحوه وأشار إلى منشأ ما ذهب إليه غلاة نفاة الحكمة بقوله: ومن قاصد تعظيمه لو رعى له ... محامد ممدوح بأحكم حاكم انتهى والله سبحانه أعلم وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم