رسوم دار الخلافة

الصابئ، هلال بن المحسن

بسم الله الرحمن الرحيم عونك اللهم

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم عونك اللَّهُمَّ بعد حمد الله الَّذِي بِهِ ترعى النِّعْمَة وتستبقى وتبغى الرَّحْمَة وتستدعي وَيُؤَدِّي الْحق وَيقْضى ويمتري الْمَزِيد ويستقضى وَالصَّلَاة على مُحَمَّد رَسُوله بإخلاص من السرائر واستغراق الِاجْتِهَاد فِي الابتهال وَالدُّعَاء للموقف الْأَعْظَم النَّبَوِيّ وَالْمقَام الأطهر الزكي بإطالة الْبَقَاء وإدامة الْعَلَاء واكبار الْقدر واغزار النَّصْر وحراسة الْحَوْزَة وحياطة الدعْوَة وتثبيت الْوَطْأَة وتوطيد الدولة فَمَا زَالَت الصَّنَائِع معروضة على أولي الْمَعْرُوف بهَا والبضائع مجلوبة إِلَى ذَوي الرَّغْبَة فِيهَا وأعلاق المضنة مزفوفة إِلَى أكفائها وخطابها وموقوفة على أوليائها من طلابها وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالعلوم أَعلَى البضائع قدرا وأوفى البضائع ربحا وَأقوى الذرائع حبلاً وأوضح المسالك سبلا وأعلق الْأَسْبَاب بالقلوب وأوسع الْأَبْوَاب إِلَى الْقبُول بذلك حكم الْعقل وَجرى الْعرف وَوَقع الْإِجْمَاع وَزَالَ الْخلف وَلما تَأَمَّلت أهل الزَّمَان مِمَّن رمقته الْعُيُون بنواظرها وعلقته الظنون بخواطرها وقدمته المآثر بتكاثرها وميزته المفاخر بتكاملها وَوجدت سيدنَا ومولانا الإِمَام الْقَائِم بِأَمْر الله لَا زَالَ جده صاعدا وسعده طالعا وعزه راهنا

وسلطانه قاهرا الإِمَام الْمُقدم غير مدافع وَخَلِيفَة الله الْمُعظم غير مُنَازع وَأجل من رام أمدا فملكه وَرمى غَرضا فأدركه وَجرى لبلوغ غَايَة فحازها وسعى لإحراز نِهَايَة فجازها وَصَارَ بذلك أولى من نصت عَلَيْهِ الرِّجَال بالتفضيل ونصت إِلَيْهِ الرّحال بالتأميل وَأثْنى عَلَيْهِ المثنون فعجزوا عَن تَحْدِيد صفته وقرظه المقرظون فقصروا عَن تَحْصِيل حَقِيقَته وَمَا كَانَ الله ليجعل رسالاته إِلَّا بِحَيْثُ هُوَ أعرف وَأعلم ويولي نعْمَته إِلَّا من كَانَ بهَا أنهض وأقوم وَيُؤْتى خِلَافَته إِلَّا من كَانَ عَلَيْهَا أقوى وأقدر وَيُعْطى كرامته إِلَّا من كَانَ بهَا أَحْرَى وأجدر ليعلم ان أَفعاله تبَارك اسْمه وَاقعَة على الْعدْل وَالصِّحَّة وَجَارِيَة على الْحِكْمَة والمصلحة وان من أثبت ذَلِك قَاعِدَة على التدبر وأفضله عَائِدَة على التبين ان جعل استكفاءه من استكفاءه من عرض بريته واصطفاءه من اصطفاه من بَيت نبوته أولي النَّهْي والحجى وَذَوي الدّين والتقى لتَكون الْحَيَاة باختيارهم مقرونة والسيرة لِمَكَانِهِمْ مَأْمُونَة والاستقامة بتدبيرهم وعَلى أَيْديهم مَوْجُودَة والسلامة فِي مبادئهم وعواقبهم مرجوة وَالدّين بمحافظتهم محوطا وَالْأَمر بملاحظتهم مضبوطا فَالْحَمْد لله على ان جمع للحضرة المقدسة لَا زَالَت بالنصر مكنوفة وبعين الله مكلوءة شرف الْقَدِيم والْحَدِيث وكرم التليد والطريف حَتَّى اتَّصَلت الْأَوَاخِر بالمبادي واطردت الإعجاز على الهوادي وَطَابَتْ الْأُصُول والفصول وزكت الْعُرُوق وَالْفُرُوع فان امْرَءًا كَانَ من شَجَرَة النُّبُوَّة منزعة وَفِي بحبوحة الْإِمَامَة متربعة وَمن أسرة النُّبُوَّة مخرجة وَفِي بَيت الْخلَافَة مدرجة لحقيق ان يكون خَليفَة لله طَاهِرا نقيا وأمينا على دينه برا تقياً وراعياً لخلقة مخلصا ناصحا وَقَائِمًا بِحقِّهِ مُسْتقِلّا ناهضا وملجأ للعائذين دافعا حَافِظًا وموئلا للائذين مَانِعا عَاصِمًا وخليق ان يكون لرضى الله حائزا وبالزلفى لَدَيْهِ فائزاً وبالنعمى

مِنْهُ مغمورا وبالحسنى مشمولا وان تكون الموهبة من كَامِلَة وبنزول الرَّحْمَة كافلة والصدور بموالاته مترعة والألسن بالثناء عَلَيْهِ مجتمعة وَالْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ لَهُ مُرْتَفعَة وَالله يُجيب فِيهِ أفضل ذَلِك مستمعا ومقبولا وأخلصة مُعْتَقدًا ومقولا ويحرس على الدّين وَالدُّنْيَا محاسنه الزاهرة ومناقبه الباهرة وَمَا مده عَلَيْهِمَا من ظلّ دولته وأجراه لَهما من بَرَكَات إيالته حَتَّى يمْلَأ الْخَافِقين عدلا شَائِعا كَمَا ملأهما فضلا بارعاً ويعم المشرقين فعلا جميلا كَمَا عَمهمَا طولا جزيلاً انه على مَا يَشَاء قدير وَبِحسن الْإِجَابَة جدير. وَلما كَانَت الْخلَافَة من النُّبُوَّة وَكَانَ لَهَا من جلالة الْقدر وفخامة الْأَمر أَعْلَاهَا مراقب وَأَشْرَفهَا مَرَاتِب وَمن أس الإعمال وقوانين الْأَفْعَال أوضحها معالم وأثبتها دعائم وَمن شُرُوط المكاتبات ورسوم الترتيبات أحْسنهَا طرائق وأحكمها وثائق وَمن حُقُوق الْخدمَة وحدود الحشمة أولاها بأولي الْعقل والمسكة وَذَوي الحزم والحنكة وأحراها بِأَن يتداول ويتفاوض ويتناقل ليَكُون تذكرة للناسي وتبصرة للناشي وطريقا إِلَى معرفَة مَا عظمه الله من شَأْن الدعْوَة الهاشمية وأعزه من سُلْطَان الْإِمَامَة العباسية فَوجدت أَكثر ذَلِك قد درس بتقادم عهوده وَتغَير وضوعه وَلَيْسَ كل من مر على عهد اخْتَار أخباره أَو أَمر شَاهده فألفه ووجدتني قد سَمِعت من إِبْرَاهِيم بن هِلَال جدي فِيهِ مَا لم يكن بَقِي فِي وقته من يُشَارِكهُ فِي كثير من علمه وَعلل مَا وَقع الِاصْطِلَاح

عَلَيْهِ مِنْهُ وَلَا بَقِي الْآن من يشاركني فِي إِسْنَاده وَرِوَايَته عَنهُ وَخفت ان تلْحق هَذِه الْبَقِيَّة بِتِلْكَ المواضي المنسية وَرَأَيْت حُقُوق النِّعْمَة الَّتِي غمرتني وغمرت أسلافي للدولة العباسية ثَبت الله أَرْكَانهَا تَقْتَضِي الْعِنَايَة بهَا ان انشر أَعْلَام سننها الْقَدِيمَة وأوضح آثَار سَيرهَا القويمة جمعت من ذَلِك مَا ضبطته بالتأليف، وحفظته بالتصنيف وَجَعَلته من القربات الَّتِي أراعي الفرص فِيهَا وأحافظ على مَا وفر الْحَظ مِنْهَا وَأَرْجُو ان يَقع الْخَادِم مِمَّا اعْتمد وَفعل الْموقع الَّذِي لحظيه بِمَا رجا وأمل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق. وسأورد مَا أوردهُ أبوابا أبين فِيهَا مَا كَانَت الْأُمُور جَارِيَة عَلَيْهِ وَمَا تأدت وآلت على الْأَيَّام إِلَيْهِ ليعرف من ذَلِك السالف والانف والمتبع والمبتدع.

وأبدأ بذكر أحوال الدار العزيزة

وأبدأ بِذكر أَحْوَال الدَّار العزيزة كَانَت دَارا عَظِيمَة السعَة وعَلى أَضْعَاف مَا هِيَ عَلَيْهِ الان من هَذِه الْبَقِيَّة الرائعة وَدَلِيل ذَلِك انها كَانَت مُتَّصِلَة بالحير والثريا ومسافة مَا بَينهمَا الْيَوْم بعيدَة وَإِنَّمَا انفصلا عَنْهَا وَطَالَ مداهما مِنْهَا بِمَا أَتَى عَلَيْهِ الْحَرِيق وَالْهدم من الدّور والمنازل والبنيان والعمران فِي الْفِتْنَة عِنْد خلع المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ وَعوده وَالْقَبْض على القاهر بِاللَّه وَقتل المكنى أَبَا الهيجاء بن حمدَان وَمَا بعْدهَا من الْفِتَن المترادفة بِالْأَيْدِي المتخالفة فَإِن ذَلِك اسْتهْلك الشّطْر الْأَكْبَر مِنْهَا وَمن بعض أمورها ان كَانَ فِيهَا مزارع وأكره وعوامل

برسمها وَأَرْبَعمِائَة حمام لمن تحويه من أَهلهَا وحواشيها فَأَما فِي أَيَّام المكتفى بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ فَإِنَّهَا اشْتَمَلت على عشْرين ألف غُلَام دارية وَعشرَة آلَاف خَادِم سُودًا وصقالبة وَأما فِي أَيَّام المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ فالإجماع وَاقع على انه كَانَ فِيهَا أحد عشر ألف خَادِم مِنْهُم سَبْعَة سُودًا وَأَرْبَعَة صقالبة بيضًا وَأَرْبَعَة آلَاف امْرَأَة بَين حرَّة ومملوكة وألوف من الغلمان الحجرية وَكَانَت النّوبَة مِمَّن يرسم بِحِفْظ الدَّار من الرجالة المصافية خَمْسَة آلَاف رجل وَمن الحراس أَربع مائَة حارس وَمن الفراشين ثَمَانمِائَة

فرَاش وَكَانَت شحنة الْبَلَد برسم نازوك صَاحب المعونة أَرْبَعَة عشر ألف فَارس وراجل. حِكَايَة وَحدث الْحُسَيْن بن هَارُون الضَّبِّيّ القَاضِي قَالَ: حَدثنِي مَنْصُور بن الْقَاسِم القنائي قَالَ: كَانَ من عادتي فِي أَيَّام الأعياد ان أغلس فِي الرّكُوب إِلَى دَار عَليّ بن عِيسَى الْوَزير على مَا يَقْتَضِيهِ اختصاصي بِهِ لأركب مَعَه إِلَى الْمصلى وَمِنْه إِلَى دَار السُّلْطَان

ثمَّ أَعُود فِي صحبته إِلَى دَاره وأجلس بَين يَدَيْهِ إِلَى ان يتقوض موكبه وأحضر طَعَامه فأتفق فِي يَوْم من أَيَّام الأعياد ان تصبحت قَلِيلا ثمَّ ركبت مسرعا وصادف خروجي من بعض الدروب اجتياز نازوك فِي موكبه وَبَين يَدَيْهِ أَكثر من خمس مائَة فرَاش بالشموع الموكبية سوى أَصْحَاب النفط وهم عدد أَكثر فَاحْتَجت ان أَقف إِلَى ان يعبروا فازددت تصبحا ووافيت إِلَى دَار الْوَزير وَكَانَ قد ركب وتبعته إِلَى الْمصلى فَلم أتمكن من خدمته لِكَثْرَة من مَعَه وَلَحِقتهُ إِلَى دَار السُّلْطَان فَكَانَت الصُّورَة وَاحِدَة فِي ذَاك وَجئْت مَعَه إِلَيّ دَاره فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: وَلم أوحشتنا الْيَوْم يَا أَبَا الْفرج فشرحت لَهُ صُورَتي وَمَا عاقني من اجتياز موكب نازوك فَلَمَّا فرغت من قولي نَدِمت على تعظيمي من أَمر نازوك مَا عَظمته لِأَن الْوَزير كَانَ متنكرا عَلَيْهِ وَغير جميل الرَّأْي فِيهِ وَمن عَادَته أَيْضا كَرَاهِيَة هَذَا البذخ والتخرق لما كَانَ عَلَيْهِ من التشدد والتصعب وَخفت ان يتَّصل الْمجْلس بنازوك فيحمله مني على السّعَايَة بِهِ وَبعث الْوَزير عَلَيْهِ وَبينا انا مُتَرَدّد فِي الْفِكر وَسُوء الظَّن دخل نازوك فَقبل يَد الْوَزير ووقف فَقَالَ لَهُ الْوَزير: مد الله فِي عمرك يَا أَبَا مَنْصُور وَكثر فِي أَوْلِيَاء الدولة مثلك فَإِن أَبَا الْفرج عرفني من ركبتك الْيَوْم مَا جملت بِهِ الدولة وَالْإِسْلَام وأرغمت فِيهِ انوف أهل الْكفْر والعناد فَبَارك الله فِيك وَأحسن عَن السُّلْطَان جزاءك فَلم يبْق من شُيُوخ دولته وحاشيته من يجْرِي مجراك امْضِ إِلَى دَارك وَلَا تقف واجلس هُنَاكَ حَتَّى يهنئك النَّاس قَالَ مَنْصُور بن الْقَاسِم: فسررت بذلك سُرُورًا شَدِيدا وَصَارَ غمي فَرحا وانزعاجي سكونا ونهض الْوَزير من مَجْلِسه وَخرجت فَوجدت

نازوك جَالِسا فِي حجرَة الْحجاب ينتظرني فَلَمَّا رَآنِي نَهَضَ عَن كرسيه وتلقاني وَقبل بَين عَيْني وَقَالَ لي: قد ملكت رقي وَمَا أوليتك مَا يَدْعُو إِلَى مَا فعلته من جميل النِّيَابَة عني وَعقد الْمِنَّة الجليلة عَليّ فانني مَا أملت قطّ ان أسمع من الْوَزير بعض مَا سمعته الْيَوْم وسألني ان أَصْحَبهُ إِلَى دَاره فأعلمته عادتي فِي حُضُور طَعَام الْوَزير وأنني انكفىء مِنْهُ إِلَيْهِ وَركبت وعدت وَجَلَست مَعَ الْوَزير على الْمَائِدَة وجددت إِجْرَاء ذكره فجدد اطراءه فوصفه وَخرجت فَإِذا رسل نازوك على الْبَاب يراعونني وينتظرونني وصرت مَعَهم إِلَيْهِ فتلقاني واستأنفت الْأكل عِنْده وانتقلت إِلَى مجْلِس للأنس فَلَمَّا عزمت على الإنصراف حمل معي مَا قدره ألف دِينَار من كل شَيْء. وَلَقَد ورد رَسُول لصَاحب الرّوم فِي أَيَّام المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ ففرشت الدَّار بالفروش الجميلة وزينت بالآلات الجليلة ورتب الْحجاب وخلفاؤهم والحواشي على طبقاتهم على أَبْوَابهَا وَفِي دهاليزها وممراتها ومخترقاتها وصحونها ومجالسها ووقف الْجند على اخْتِلَاف أجيالهم صفّين بالثياب الْحَسَنَة وتحتهم الدَّوَابّ بالمراكب الذَّهَب وَالْفِضَّة وَبَين أَيْديهم الجنائب على مثل هَذِه

الصُّورَة وَقد أظهرُوا الْعدَد والأسلحة الْكَثِيرَة فَكَانُوا من أَعلَى بَاب الشماسية وَإِلَى قريب من دَار الْخلَافَة وبعدهم الغلمان الحجرية والخدم والخواص والبرانية إِلَى حَضْرَة الْخلَافَة بالبزة الرائقة وَالسُّيُوف والمناطق المحلاة وأسواق الْجَانِب الشَّرْقِي وشوارعه وسطوحة ومسالكه مَمْلُوءَة بالعامة النظارة وَقد اكتري كل دكان وغرفة مشرفة بِدَرَاهِم كَثِيرَة وَفِي دجلة الشذاءات والطيارات والزبازب والشبارات والزلالات والسميريات بِأَفْضَل زِينَة وعَلى أحسن تعبئة وَسَار الرَّسُول وَمن مَعَه من المواكب إِلَى أَن وصلوا دَار الْخلَافَة وَدخل فأجيز على دَار نصر القشوري فَرَأى ضففا كثيرا ومنظرا هائلا فَظَنهُ الْخَلِيفَة

وداخلته لَهُ هَيْبَة وخيفة حَتَّى قيل لَهُ أَنه الْحَاجِب وَحمل من بعد ذَلِك إِلَى الدَّار الَّتِي كَانَت برسم الوزارة (1) ، وفيهَا عَليّ (2) بن مُحَمَّد بن الْفُرَات، الْوَزير يَوْمئِذٍ فَرَأى أَكثر مِمَّا رَآهُ لنصر الْحَاجِب وَلم يشك فِي أَنه الْخَلِيفَة حَتَّى قيل لَهُ: هَذَا الْوَزير ابْن الْفُرَات فَسلم عَلَيْهِ وخدمه وأجلس فِي مجْلِس بَين دجلة والبساتين قد اختيرت لَهُ الفروش وعلقت عَلَيْهِ الستور ونصبت فِيهِ الدسوت وأحاط بِهِ الخدم والغلمان بالطبر زينات وَالسُّيُوف ثمَّ استدعى بعد سَاعَات إِلَى حَضْرَة المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ وَقد جلس مَجْلِسا عَظِيما مهيبا فخدم خدمه مثله وَشَاهد من الْأَمر مَا راعه وهاله وَانْصَرف إِلَى دَار قد أعدت لَهُ وَحصل فِيهَا من الْفرش مَا يصلح لَهُ والحواشي والألاف والإقامات كل مَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ مِمَّا أظهرت فِيهِ

الْمُرُوءَة والتوسعة فَكَانَت الْحَال إِذْ ذَاك وَقَبله على هَذَا الْوَصْف وَمَا هُوَ فَوْقه. وَلَقَد شاهدت فِي أَيَّام صمصام الدولة وَسنة سِتّ وَسبعين وثلثمائة حُضُور ورد عَظِيم الرّوم فِي دَار المملكة وَكَانَ انهزم من بَين يَدي بسيل ولجأ إِلَى عضد الدولة مستنجدا بِهِ

فَقبض عَلَيْهِ بميافار قين وَحمله إِلَى بَغْدَاد فاعتقل إِلَى أَن مَاتَ عضد الدولة وَأقر على الاعتقال إِلَى آخر أَيَّام صمصام الدولة. ثمَّ سَأَلَ فِيهِ زيار بن شهراكوية صَاحب الْجَيْش إِذْ ذَاك بِإِطْلَاقِهِ وتسريحة إِلَى بَلَده فَأطلق وفسح لَهُ فِي التَّوَجُّه بعد ان شرطت عَلَيْهِ شُرُوط وعقدت مَعَه عُقُود وَكَانَ شرح الْحَال فِي حُضُوره

ان فرشت دَار المملكة بالفروش العضدية المستعملة لمجالسها وعلقت الستور الديباج على جَمِيع أَبْوَاب بيوتها وصحونها وممراتها ودهاليزها وأقيم الديلم من دجلة وَإِلَى حَضْرَة صمصام الدولة على مَرَاتِبهمْ صفّين بأجمل لِبَاس وأبهى عدد وَسلَاح وَفِي أَيْديهم وأيدي غلمانهم الزوبينات والتراس والغلمان الدارية والخدم برسمهم وقُوف فِي طول الروشن بالبزة الجميلة وَجلسَ صمصام الدولة فِي السدلي الْمَذْهَب على سدة كَبِيرَة من تحتهَا نهر مرصص يجْرِي فِيهِ المَاء وَقد وضعت بَين يَدَيْهِ الكوانين الذَّهَب فِيهَا قطع الْعود تتقد وتبخر ووافى ورد وَأَخُوهُ وَابْنه بَين

السماطين وعَلى ورد القباء والمنطقة وَبَين يَدَيْهِ الْحجاب بِالسُّيُوفِ والمناطق المخروزة وَسلم على صمصام الدولة سَلاما لم يزده فِيهِ على الانحناء قَلِيلا وتقبيل يَده لَهُ وَطرح لَهُ كرْسِي من فَوْقه مخدة وتخاطبا خطابا كَانَ الترجمان يفسره لكل مِنْهُمَا وَانْصَرف من بَاب غير الْبَاب الَّذِي دخل فِيهِ وَقد أقيم فِي الدَّار الْأُخْرَى من الْجند مثل مَا كَانَ فِي الأولى فَإِن عدَّة الديلم كَانَت يَوْمئِذٍ نَحْو عشرَة آلَاف رجل وَكَانَ ذَاك مَعَ جلالته فِي وقته لَا يُقَاس بِبَعْض مَا كَانَ فِي أَيَّام المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ وَكَانَ مَا تقدمه من مثله فِي أَيَّام الْخُلَفَاء الْمُتَقَدِّمين رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ لَا ينقاس بِهِ لعظم الْأَمر سالفا وتناقصه آنِفا. وَلَقَد انْتَهَت مُرَاعَاة الْأُمُور قَدِيما إِلَى ان كَانَت خريطة الْمَوْسِم ترد فِي الْيَوْم الرَّابِع وخرائط مصر فِي الْيَوْم الْحَادِي عشر. وَكَانَ

الهليون يحمل إِلَى المعتصم بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ من دمشق فِي المراكن الرصاص فتصل فِي الْيَوْم السَّادِس وَأقرب عهد من ذَاك ان كَانَت ترد خرائط فَارس فِي أَيَّام عضد الدولة فِي ثَمَانِيَة أَيَّام. فَأَما بَغْدَاد فِي أَيَّام الْعِمَارَة فَإِنَّهُ وَقع فِي يَدي كتاب يذكر مَا فِي أَيَّام المعتضد بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ وَذَلِكَ بعد فتْنَة الْأمين رحمت الله عَلَيْهِ الَّتِي أحرقت وهدمت صَدرا كَبِيرا مِنْهَا وأثرت الإثارة القبيحة فِيهَا تَرْجَمته كتاب فَضَائِل بَغْدَاد الْعرَاق تأليف يزدجرد بن مهبندار الْفَارِسِي لأمير الْمُؤمنِينَ المعتضد بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ قَالَ فِيهِ: قد أَكثر النَّاس فِي بَغْدَاد الْعرَاق إكثارا لم يعطونا فِيهِ دَلِيلا وَلَا أفادونا بِهِ محصولا واقتصروا على ان يَقُولُوا: بلد لَا يشبه الْبلدَانِ

وَلَا كَانَ مثله فِي قديم الإزمان فَإِن من أقل مَا فِيهِ انه يشْتَمل على مِائَتي ألف حمام إِلَى الضعْف. وَمن الْمَسَاجِد والطرازات كَذَاك إِلَى مَا هُوَ متضاعف فَإِذا أخذُوا أَو أَكْثَرهم بإيراد الْحجَّة وَإِقَامَة الدّلَالَة لم يَأْتُوا بقول مُحَصل وبرهان معول وَنحن نفتتح القَوْل بِاتِّبَاع أعدل الإحكام وَأقرب الْأُمُور إِلَى الإفهام وَلَا نقُول كَالَّذي قَالُوهُ فِي عدد الحمامات واعتقدوه فِي الْمنَازل والمساجد والطرازات إشفاقا من هجنة الْإِسْرَاف على السامعين فانا وجدنَا كثيرا من الْخَاصَّة والعامة مذعنين بعدة الحمامات وَإِنَّهَا مِائَتَا ألف حمام دون مَا فَوْقهَا من الزِّيَادَات ثمَّ قَالَ آخَرُونَ: بل هِيَ مائَة وَثَلَاثُونَ ألف حمام كَمَا قَالُوا مائَة وَعِشْرُونَ ألف وَبِه قَالَ الشاه بن ميكال وطاهر بن مُحَمَّد الطاهري ثمَّ قَالُوا من قبل وَمن بعد بِمَا زَاد على الْمِائَة ألف وَبِمَا انْتقصَ مِنْهَا قَررنَا اخْتلَافهمْ على حد نرجوه عدلا متوسطا وَحكما متقبلا واقتصرنا من عدد الحمامات على سِتِّينَ ألف حمام استظهارا وَجَعَلنَا الْعلَّة فِي ذَلِك ان نَأْخُذ وسط مَا ذَكرُوهُ من أعدادها وَمَا وجدنَا الْخَاصَّة وَأَكْثَرهم يَدعِيهِ فِي اعتقادها وَهُوَ مائَة وَعِشْرُونَ ألف حمام فاقتصرنا على النّصْف من الْمِائَة وَالْعِشْرين لِئَلَّا يقبح فِي التَّقْدِير أَو تضيق عَن قبُوله الصُّدُور ثمَّ نَظرنَا فِي قدر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ كل حمام من القوام الَّذين لَا قوام لَهُ إِلَّا بهم فَوَجَدنَا الْحمام مُحْتَاجا إِلَى سِتَّة نفر هم: صَاحب الصندوق والقيم والوقاد والزبال والمزين والحجام وَرُبمَا أطاف بالحمام ضعف هَذَا الْعدَد وَلَكنَّا ركبنَا سنَن الإستظهار فِي معنانا هَذَا فَإِذا فَرضنَا عدَّة الحمامات سِتِّينَ ألف حمام فقد حصل عدد مَا فِيهَا من القوام والمزينين والحجامين ثلثمِائة وَسِتِّينَ ألف انسان ثمَّ فَرضنَا بِهَذَا التَّقْرِيب لكل حمام مِائَتي منزل قِيَاسا على مَا حصل

من الْمنَازل على عدَّة الحمامات بِمَدِينَة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور صلوَات الله عَلَيْهِ وَهُوَ لكل حمام أَربع مائَة منزل واستظهارا بِأخذ النّصْف من ذَاك فَاجْتمع من عدد الْمنَازل على هَذِه الْفَرِيضَة اثْنَا عشر ألف ألف منزل ثمَّ وجدنَا قد يجْتَمع فِي الْمنزل الْوَاحِد عشرُون نفسا وَفِي غَيره نفسان اَوْ ثَلَاثَة وَمَا هُوَ أقل من ذَلِك وَأكْثر فاحتجنا إِلَى ان نفرض عددا متوسطا يعتدل بِهِ الْأَمر وَيَزُول مَعَه الشَّك فنقصنا من الْعشْرين نصفهَا وزدنا على الثَّلَاثَة ضعفها وجمعنا مَا بَقينَا وزدنا فَكَانَ سِتَّة عشر وأخذنا النّصْف فَكَانَ ثَمَانِيَة نفر بَين رجال وَنسَاء وأكابر وأصاغر فَاجْتمع لنا من عدد من تضمه هَذِه الْمنَازل سِتَّة وَتسْعُونَ ألف ألف انسان. ثمَّ ركب مُصَنف هَذَا الْكتاب من هَذِه الْقَاعِدَة قِيَاسا، فِيمَا يُريدهُ هَذَا الْعدَد من النَّاس من أَصْنَاف الْمَأْكُول والمستعمل واللباس وَحكى فِي عرض مَا أوردهُ ان عبيد الله الطاهري حَدثهُ ان إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم المصعبي اخبره انه رفع إِلَيْهِ ان قدر ثمن مَا يبع من الباقلي الْمَطْبُوخ فِي كل يَوْم فِي أحد جَانِبي بَغْدَاد سِتُّونَ ألف دِينَار وَحقّ ذَاك ان يكون فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا مائَة وَعشْرين ألف دِينَار إِلَى غير هَذَا مِمَّا أوردهُ وفصله واستقصى القَوْل فِيهِ ولخصة وانما أوردنا هَذِه الْجُمْلَة من أَمر بَغْدَاد مَعَ خُرُوجهَا عَن الْغَرَض الَّذِي قصدناه لِئَلَّا يستكثر فِي دَار الْخلَافَة مَا ذَكرْنَاهُ وحَدثني إِبْرَاهِيم بن هِلَال جدي ان الحمامات أحصيت فِي أَيَّام معز الدولة فَكَانَت سَبْعَة عشر ألف حمام وَأَنَّهُمْ عجبوا من انتهائها إِلَى هَذِه الْعدة مَعَ كَونهَا فِي أَيَّام المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ سَبْعَة وَعشْرين ألف حمام وَلَقَد عدت فِي أَيَّام عضد الدولة فَكَانَت خَمْسَة آلَاف وكسرا وَفِي أَيَّام بهاء الدولة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وثلثمائة فَكَانَت ألفا وَخمْس مائَة حمام ونيفا وَهِي الْآن مائَة ونيف وَخَمْسُونَ حَماما وَلَقَد كنت أعجب من الحكايات الْمُخْتَلفَة فِي ذَلِك وَمَا كَانَ يُقَال قَدِيما فِيهِ حَتَّى قَامَ عِنْدِي برهَان مِنْهُ وَهُوَ أَنه قد اتخذ بِبَاب

الْمَرَاتِب الْمَعْمُور فِي ثَلَاثِينَ دَارا مسكونة مِنْهُ بَعْدَمَا أَهله غيب عَنهُ خَمْسَة عشر حَماما فَإِذا كَانَ ذَلِك فِي هَذِه الدّور القليلة وَالْعدة من الْخَواص الْقَرِيبَة فَمَا كَانَت عدَّة خَواص النَّاس فِي أَيَّام المعتضد بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِ من الوزراء وَالْكتاب والحواشي وَالْأَصْحَاب والأمراء والقواد والإشراف والقضاة وَالشُّهُود والتناء والتجار وأولي المروات وَالْأَحْوَال الوافرات لتنقص عَن خمسين ألف انسان إِذا استظهرنا بالاقتصار على ذَاك وَلَا تَخْلُو دَار كل وَاحِد مِنْهُم من حمام على التقليل وَإِلَّا فَفِي دور كثير مِنْهُم الحمامات وَإِذا ثَبت هَذَا القَوْل اطردت بِهِ تِلْكَ الدَّعْوَى وَوَجَب ان يكون قَول المكثر أغلب من قَول المقتصر وَمَعْلُوم أَيْضا ان بَلَدا كَانَت على نهره الَّذِي يخترقه أَعنِي دجلة ثَلَاثَة جسورة لَا يستبعد كَون ساكنيه الْعدة الْمَذْكُورَة. وَذكر عَليّ بن عِيسَى فِي الْعَمَل الَّذِي عمله لارْتِفَاع المملكة فِي سنة سِتّ وثلثمائة ونعى بِهِ الدُّنْيَا بتقاصر موادها وتناقص أموالها وَاسْتثنى فِيهِ بالحرمين واليمن وبرقة وشهرزور والصامغان وكرمان وخراسان وَكَانَت جملَته معقودة على:

أَرْبَعَة عشر ألف ألف وَثَمَانمِائَة ألف وَتِسْعَة وَعشْرين ألفا وَثَمَانمِائَة وَأَرْبَعين دِينَارا. فمما أوردهُ فِي جملَة الخرج والنفقات الْخَاصَّة مَا حكايته: وَمن ذَلِك للأتراك فِي المطابخ الْخَاصَّة والعامة وَمَا يُقَام خَارج الدَّار وعلوفة الكراع وَالطير والوحش على مَا اسْتَقر عَلَيْهِ الْأَمر فِي أصُول الإقامات والإسفار على المقاطعات مياومات ومشاهرات: لشهر: أَرْبَعَة وَأَرْبَعين ألفا وَسبعين دِينَارا. ولاثني عشر شهرا: خَمْسمِائَة ألف ثَمَانِيَة [و] عشْرين الْفَا وَثَمَانمِائَة وَأَرْبَعين دِينَارا. وَمن ذَلِك الْجَارِي برسم المشاهرة للسيدة أيدها الله والأمراء أعزهم الله وَالْحرم صانهن الله والخدم. لشهر: أحد وَسِتِّينَ ألفا وَتِسْعمِائَة وَثَلَاثِينَ دِينَارا. ولاثني عشر شهرا: سَبْعمِائة ألف وَثَلَاثَة وَأَرْبَعين ألفا وَمِائَة وَسِتَّة وَتِسْعين دِينَارا.

وَمن ذَلِك أُجْرَة ساسة الكراع فِي سَائِر الإصطبلات وأرزاق المرتزقة فِيهِ وَثمن العلاج وجاري من برسم خَزَائِن السُّرُوج وَمَا يجْرِي مجْرى ذَلِك على مَا اسْتَقر عَلَيْهِ الْأَمر مِمَّا يقبض فِي كل سَبْعَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا: لشهر: ثَمَانِيَة آلَاف ومائتي دِينَار. وقسط ثَلَاثِينَ يَوْمًا: مئتا ألف وَمِائَة وَثَمَانُونَ سعس دِينَارا. ولاثني عشر شهرا: تِسْعَة وَسبعين ألفا وَسَبْعمائة وَسِتَّة وَسبعين دِينَارا. وَمن ذَلِك مَا يُطلق من الْجَارِي فِي كل شهر أَيَّامه أَرْبَعُونَ يَوْمًا للرِّجَال فِي شذاة الْخَاصَّة وَأَرْبع شذات مرتبطة بالحضرة: مائَة دِينَار قسط ثَلَاثِينَ يَوْمًا ودينارين. ولاثني عشر شهرا: ألف ومائتان وَثَمَانُونَ دِينَارا. وَمن ذَلِك مَا يُطلق فِي كل شهر أَيَّامه خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا لأرزاق الجلساء وَمن يجْرِي مجراهم: " خَمْسمِائَة وَثَلَاثَة آلَاف وَثَمَانمِائَة وَأحد عشر " دِينَارا. قسط ثَلَاثِينَ يَوْمًا: مائَة وَثَلَاثَة وَعِشْرُونَ ألفا وَخَمْسمِائة وَسَبْعُونَ دِينَارا.

ولاثني عشر شهرا: مِائَتي ألف واثنين وَثَلَاثِينَ ألفا وثلثمائة وَخَمْسَة عشر دِينَارا. وَمن ذَلِك النَّفَقَات الَّتِي تطلق دَائِما فِي كل سنة لثمن الْجَوَارِح وَكِسْوَة الكراع وهناء الْإِبِل وَكِسْوَة المحتسبين فِي الدَّار والطبالين وعلوفة الْغنم السوادية وصلات الإئمة وَثمن النعاج وَالْبَقر الحبشية وعلوفتها وصلَة الفراشين بِسَبَب القلنداس وَالنَّفقَة على سماطي الْعِيدَيْنِ وَثمن الْأَضَاحِي والثلج وَمَا يُطلق لصَاحب الشرطة لحمل الْإِعْلَام

فِي الْعِيدَيْنِ وَثمن الرطاب والقصيل وَثمن سروج الوهاقين وَثمن القلوس للمأصر الْأَسْفَل وَثمن الكمأة المقددة: اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين ألفا وَسَبْعَة دَنَانِير وَمن ذَلِك مَا يُطلق فِي كل شهر أَيَّامه خَمْسُونَ يَوْمًا لجاري الغلمان الحجرية وَأَوْلَاد المتشهدين والموكبية فِي نَاحيَة شَفِيع والصناع فِي خَزَائِن الْكسْوَة وخزائن السِّلَاح وخزائن الْفرش: سَبْعَة وَثَلَاثِينَ ألفا وسِتمِائَة وَأَرْبَعَة دَنَانِير. قسط ثَلَاثِينَ يَوْمًا: أَرْبَعَة عشر ألفا وَخَمْسمِائة وَسِتُّونَ دِينَارا. ولاثني عشر شهرا: مِائَتَا ألف وَاحِد وَسبعين ألفا وَخَمْسمِائة وَعشْرين دِينَارا. وَمن ذَلِك مَا قدر انفاق أَمِير الْمُؤمنِينَ أعزه الله فِي الجوائز والهبات بقسط شهر من ثَلَاثَة أشهر جمع ذَلِك فِيهَا: أحد وَعشْرين ألف دِينَار.

ولاثني عشر شهرا: مِائَتي ألف واثنين وَخمسين ألف دِينَار. وَمن ذَلِك مَا يُقَام لأمير الْمُؤمنِينَ أيده الله من الْكسْوَة والفرش فِي الطرز بالأهواز وتستر وجهرم وَدَار أبجرد ثَمَانمِائَة وَأَرْبَعَة عشر ألف دِينَار. وَمن ذَلِك مَا قدر لحوادث النَّفَقَات: لشهر: سِتَّة عشر ألفا وَخَمْسمِائة وَثَلَاثِينَ دِينَارا. ولاثني عشر شهرا: مائَة ألف وَثَمَانِية وَسبعين ألفا وَتِسْعمِائَة وَأَرْبَعين دِينَارا. وَمن ذَلِك مَا ينْفق على الْبناء والمرمات: أحد وَخمسين ألفا وَمِائَة دِينَار. وَمن ذَلِك من الشّعير الْمَحْمُول من النواحي لقضيم الكراع ومبلغه: سِتَّة عشر ألفا وَثَمَانمِائَة وَخَمْسَة وَخمسين دِينَارا. مَعَ أُجْرَة محملة: ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ ألفا وَتِسْعمِائَة دِينَار. فَذَلِك:

ألفا ألف وَخَمْسمِائة ألف وَسِتُّونَ ألفا وَتِسْعمِائَة وَسِتِّينَ دِينَارا. وَكَانَ عَليّ بن عِيسَى فضل الخرج الَّذِي جمعه على الدخل الَّذِي صَدره: بِأَلف ألف وَأَرْبَعمِائَة ألف وَسِتَّة وَثَلَاثِينَ ألفا وَأَرْبَعمِائَة وَسِتَّة وَسبعين درهما. وَذَاكَ كَانَ غَرَضه الَّذِي رَمَاه ومقصده الَّذِي نحاه. وَحدث عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى قَالَ: حَدثنِي أحد الخدم الْخَاصَّة قَالَ: حضر الْوَزير عَليّ بن عِيسَى دَار السُّلْطَان فِي يَوْم شَدِيد الْبرد وَلَيْسَ بِيَوْم موكب وَعرف المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ فَجَلَسَ لَهُ فِي بعض الصحون على كرْسِي وَرَأسه مَكْشُوف فخاطبه بِمَا أَرَادَ. فَلَمَّا فرغ قَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تبرز فِي مثل هَذِه الْغَدَاة الْبَارِدَة وتجلس فِي مثل هَذَا الصحن الْوَاسِع ورأسك بِغَيْر غطاء وَالنَّاس فِي مثلهَا يَجْلِسُونَ فِي الْمَوَاضِع الكنينة ويستعملون الدثار ويصطلون النَّار وأحسبك تسرف فِي أَخذ الْأَشْرِبَة الحارة والأطعمة الْكَثِيرَة الْمسك فَقَالَ لَهُ المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ: لَا وَالله مَا أفعل هَذَا وَلَا آكل طَعَاما فِيهِ مسك.

وَلَا يطْرَح لي فِي شَيْء إِلَّا يسير يكون فِي الخشكنانج وَرُبمَا أكلت فِي الْأَيَّام وَاحِدَة مِنْهَا فَقَالَ لَهُ عَليّ بن عِيسَى: فَانِي اطلق يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي كل شهر فِي جملَة نفقات المطبخ لثمن الْمسك نَحْو ثلثمِائة دِينَار وانقضى كَلَامهمَا ونهض المقتدر بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِ وَخرج عَليّ بن عِيسَى فَلَمَّا صَار فِي الصحن وقف المقتدر بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِ وَأمر برده فَعَاد وَقَالَ لَهُ: أَظُنك تَنْصَرِف السَّاعَة وتفتح نظرك باحضار الْمُتَوَلِي للمطبخ وتواقفه على مَا جرى بَيْننَا فِي معنى الْمسك وتسقطه قَالَ: كَذَاك هُوَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَضَحِك وَقَالَ: أحب ان لَا تفعل فَلَعَلَّ هَذِه الدَّنَانِير تَنْصَرِف فِي أقوات ونفقات قوم لَا أُرِيد قطعهَا عَنْهُم فَقَالَ لَهُ: السّمع وَالطَّاعَة. فَأَما ارْتِفَاع الممالك كَانَت فِي أَيَّام الرشيد صلوَات الله عَلَيْهِ فَذكر الريان بن الصَّلْت ان أَبَا الْوَزير ابْن هانىء الْمروزِي الْكَاتِب وَكَانَ عَليّ ديوَان الْخراج قَالَ: ان يحيى بن خَالِد بن برمك أمره بِأَن يخرج وظائف الْآفَاق فِي سنة تسع وَسبعين وَمِائَة فَكَانَت جملَة ذَلِك على تَفْصِيل فَصله بالورق:

ثلثمِائة ألف ألف وَثَمَانِية وَثَلَاثِينَ ألف ألف وَتِسْعمِائَة ألف وَعشرَة آلَاف دِرْهَم وبالعين: خَمْسَة آلَاف ألف وَثَمَانمِائَة ألف ونيف وَثَلَاثِينَ ألف دِينَار. واحترقت الدَّوَاوِين فِي فتْنَة الْأمين وَسنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة وَكَانَ مَا ارْتَفع من طساسيج السوَاد وعدة بلدان وكور الْمشرق وَالْمغْرب لسنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة على مَا وجد فِي الدِّيوَان المستأنف وَمَا اشْتَمَلت جملَته على تسعير الْغلَّة ورد الْعين إِلَى الْوَرق بالورق: أَرْبَعمِائَة ألف ألف وَسِتَّة عشر ألف ألف وَتِسْعمِائَة ألف وأثنين وَعشْرين ألف دِرْهَم. وَحدث إِسْمَاعِيل بن صبيح. قَالَ: سَأَلَني الرشيد يَوْمًا عَن مبلغ مَا لَهُ فَقلت: ثَمَانمِائَة ألف ألف وَثَلَاثَة وَسَبْعُونَ ألف ألف دِرْهَم. فَقَالَ: أحب ان تبلغ بنورا والبنور ألف ألف ألف. فَقلت: لَا أَرَانِي الله ذَلِك وَلَا كَانَ فَضَحِك ثمَّ قَالَ: كَأَنَّك تذْهب إِلَى أَن الانسان إِذا أعطي أمْنِيته أَتَتْهُ منيته. قلت: مَا خطر لي هَذَا ببال لكنني احب ان يكون أَمِير الْمُؤمنِينَ

أبدا فِي زِيَادَة من المَال وَالدُّنْيَا. قَالَ: فكم كَانَ مَال أبي يُرِيد الْمَنْصُور صلوَات الله عَلَيْهِ قلت مَالك أَكثر مِنْهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم. وَحدث عَليّ بن عِيسَى وَعلي المستولين وَأَصْحَاب الإطراف المتغلبين فَإِن الناظرين فِي أَيَّام الراضي بِاللَّه رضوَان الله عَلَيْهِ اجْتَمعُوا على ان قدرُوا وقرروا النَّفَقَة فِي كل يَوْم على الْحَذف والاقتصار وَالتَّخْفِيف والاقتصاد: ثَلَاثَة آلَاف دِينَار وأفردوا لَهُ من السوَاد وواسط وَالْبَصْرَة ومصر وَالشَّام من عُيُون الضّيَاع مَجْمُوع ذَاك لسنة فَكَانَت تغل أَكثر مِنْهُ. وَبَقِي الْأَمر على هَذَا التَّرْتِيب إِلَى أَيَّام الْمُطِيع صلوَات الله عَلَيْهِ حَتَّى انْتَشَر النظام وَوَقع التغلب على مصر وَالشَّام وَخرجت الْيَد عَن أَكثر ذَاك وعَلى هَذِه الْحَال فَحَدثني عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن حَاجِب النُّعْمَان ان قدر مَا كَانَ يرْتَفع للمطيع رحمت الله عَلَيْهِ ثلثمِائة ألف دِينَار وللطائع قريب من ذَاك.

آداب الخدمة

آدَاب الْخدمَة إِذا دخل الدَّاخِل إِلَى حَضْرَة الْخَلِيفَة من أَمِير أَو وَزِير أَو ذِي قدر كَبِير فَلم يكن من الْعَادة الْقَدِيمَة ان يقبل الأَرْض لكنه إِذا دخل وَرَأى الْخَلِيفَة قَالَ: السَّلَام عَلَيْك أَمِير الْمُؤمنِينَ ورحمت الله وَبَرَكَاته بكاف الْمُخَاطب فَإِنَّهُ أشفى وأبلغ وَأولى وأوقع. وَمَتى سلم بِالْكِنَايَةِ جَازَ ان يكني فِي قَوْله فَمن هَا هُنَا وَجَبت الْكَاف وَرُبمَا تقدم الْوَزير أَو الْأَمِير فَأعْطَاهُ الْخَلِيفَة يَده مغشاة بكمه إِكْرَاما لَهُ بتقبيلها واختصاصا بِهَذِهِ الْحَال الْكَبِير محلهَا. وَالْعلَّة فِي ان يغشيها بكمه لِئَلَّا يُبَاشِرهَا فَم أَو شفة وَقد عدل عَن ذَاك إِلَى تَقْبِيل الأَرْض واشترك الْيَوْم فِيهِ كل النَّاس فَأَما وُلَاة العهود من أَوْلَاد الْخُلَفَاء والأهل من بني هَاشم والقضاة وَالْفُقَهَاء والزهاد والقراء فَمَا كَانُوا يقبلُونَ يدا وَلَا أَرضًا لكِنهمْ يقتصرون على السَّلَام كَمَا ذكرنَا وَرُبمَا خطب قوم مِنْهُم بثناء وَدُعَاء وَقد اختلطوا الْآن بالطائفة الَّتِي تقبل الأَرْض إِلَّا الْأَقَل مِمَّن أَقَامَ على التورع من هَذَا الْفِعْل وَأما أوساط الْجند وَمن

دونهم وعوام النَّاس وَمن لَا رُتْبَة لَهُ مِنْهُم فمنكر مِنْهُم تَقْبِيل الأَرْض لِأَن مَنْزِلَتهمْ تقصر عَن ذَاك وَمن أولى الْأَفْعَال بالوزراء وَمن هُوَ فِي طبقتهم ان يدْخل إِلَى حَضْرَة الْخَلِيفَة نظيفا فِي بزته وهيئته وقوراً فِي خطْوَة ومشيته متبخراً بالبخور الَّذِي تفوح روائحه مِنْهُ وينفح طيبه من أردانه وأعطافه وَأَن يتَجَنَّب مِنْهُ مَا يعلم أَن السُّلْطَان يكرههُ ويأبى شمه كَمَا لحق إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي مَعَ المعتصم بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِمَا فَإِن إِبْرَاهِيم كَانَ يكثر اسْتِعْمَال الغالية ويتغلف مِنْهَا فِي كل يَوْم بِمِقْدَار أُوقِيَّة فِي رَأسه ولحيته ويسرح شعره فتختبىء فِي أثيابه وَبَين طاقاته وَكَانَ المعتصم يجتوي رائحتها وَلَا يَسْتَطِيع الصَّبْر عَلَيْهَا ويقاسي من اجلاسه إِلَى جَانِبه مَا يتكلفه وَلَا يبوح بِهِ فَلَمَّا زَاد ذَلِك عَلَيْهِ أَجْلِس عَليّ بن الْمَأْمُون فِيمَا بَينه وَبَينه فثقل فعله على إِبْرَاهِيم وضاق صَدره بِهِ وَلم يعرف السَّبَب فِيهِ إِلَى ان جَاءَهُ مُخَارق الْمُغنِي فَأعلمهُ ان

وصيفا دخل على المعتصم بِاللَّه وأكب على رجله يقبلهَا فَدفعهُ وَقَالَ لَهُ: أردْت ان تتشبه بإبراهيم وَعم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الغالية وَوَاللَّه مَا احتملت ذَلِك مِنْهُ حَتَّى باعدت مَجْلِسه مني فَعرف حِينَئِذٍ الْعلَّة فِيمَا عَامله بِهِ وتمارض نَحْو شهر ثمَّ ركب وَدخل على المعتصم بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَن حَالَة وَأَقْبل يجِيبه بانكسار فَقَالَ لَهُ: أَرَاك معافى فَمَا هَذَا الإنكسار قَالَ: من فعل الغالية يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمَا كنت أتغلف بِهِ مِنْهَا وَقد نهاني الطِّبّ الْآن عَنْهَا فَقَالَ لَهُ: اقبل قَوْلهم فلك فِي غَيرهَا من الطّيب مندوحه وَتركهَا وَرجع إِلَى منزله فِي الْجُلُوس وان يواصل السِّوَاك ويحفظ لهواته عِنْد الْمُنَاجَاة والمحاورة وَيجْعَل بَين ثِيَابه شتاء وصيفا جُبَّة فِيهَا قطن يمْنَع من ظُهُور الْعرق. وَلَيْسَ للوزير وَلَا حَاضر فِي ذَلِك الْموقف ان يذكر شَيْئا إِلَّا مَا يسْأَل عَنهُ أَو يُورد قولا فِي أَخْبَار أَو مطالعة إِلَّا مَا اسْتَأْذن فِيهِ وسبيله ان يخْفض صَوته فِي حَدِيثه ومحاورته وَلَا يرفعهُ إِلَّا بِقدر السماع الَّذِي لَا يحْتَاج مَعَه إِلَى استفهامه واستعادته وحَدثني إِبْرَاهِيم بن

هِلَال جدي قَالَ: دخل الْحسن بن مُحَمَّد المهلبي يَوْمًا فِي وزارته لمعز الدولة إِلَى حَضْرَة الْمُطِيع صلوَات الله عَلَيْهِ وَجرى بَينهمَا خطاب علا صَوت المهلبي فِيهِ فَغَضب الْمُطِيع وَقَالَ لَهُ: يَا كلب ترفع صَوْتك بَين يَدي وَأمر بِهِ فَأخْرج مجذوبا بِيَدِهِ ومدفوعا فِي ظَهره وَجلسَ فِي الدهليز وَقَالَ: انا خَادِم وَلم يكن مَا أنكر مني عَن عمد أَو سوء أدب وانما صوتي جهير وَكَانَ مَا كَانَ من كَلَامي على هَذَا الأَصْل وَمَتى انصرفت على هَذِه الْجُمْلَة الَّتِي لَا تخفى وَهن جاهي ووقف أَمْرِي وتنكر لي صَاحِبي وَلم يزل يسْأَل ويضرع إِلَى ان أذن لَهُ فِي الْعود إِلَى حَضْرَة الْمُطِيع صلوَات الله عَلَيْهِ وَدخل وَاعْتذر وخاطبه بِمَا سكن بِهِ مِنْهُ وسبيله ان يقل الِالْتِفَات إِلَى جانبيه وورائه والتحريك ليده أَو شَيْء من أَعْضَائِهِ أَو رفع رجل للاستراحة عِنْد اعيائه وَأَن يغض طرفه عَن كل مرأى إِلَّا شخص الْخَلِيفَة وَحده ومخارج لَفظه وَألا يسَار أحدا فِي مَجْلِسه وَلَا يُشِير إِلَيْهِ بِيَدِهِ وَلَا عَيْنَيْهِ وَلَا يقْرَأ رقْعَة وَلَا كتابا يوصلان إِلَيْهِ بَين يَدَيْهِ إِلَّا مَا احْتَاجَ إِلَى قِرَاءَته عَلَيْهِ وَأذن لَهُ فِيهِ وَلَا يُخَاطب من يخاطبه فِي تعرف أَمر مِنْهُ أَو إِقَامَة حجَّة عَلَيْهِ إِلَّا بأخف الْأَلْفَاظ وَأَشد الِاسْتِيفَاء وان يَجْعَل وُقُوفه من أول مدخله وَإِلَى حِين مخرجه فِي مَوضِع رتبته من غير أَن يتجاوزه إِلَى مَا فَوْقه أَو دونه اللَّهُمَّ إِلَّا ان يَدعُوهُ الْخَلِيفَة إِلَى سر

يقرب مِنْهُ فِيهِ وَلَا يبرح مَا دَامَ مكلما لَهُ ومقبلا عَلَيْهِ وَلَا يُقيم إِذا فرغ مِمَّا بَينه وَبَينه وَإِذا خرج وَهُوَ يُشَاهِدهُ جعل خُرُوجه تراجعا إِلَى وَرَائه لِئَلَّا يوليه ظَهره فَإِذا غَابَ عَن طرفه استقام فِي مَشْيه وان يمْتَنع من الضحك وان جرى مَا يُوجِبهُ فان من كثر ضحكة سخفت هَيئته وَمن زَاد مرحة سَقَطت هيبته وَمن فضل كَلَامه على قدر الْحَاجة أُصِيبَت غرته وَكَثُرت عثرته وَأَن يتَجَنَّب المخاط والبصاق على الْجُمْلَة وَالْإِطْلَاق والسعال والعطاس على قدر مَا اسْتَطَاعَ وأطاق فَإِن اجل مَا يكون الْإِنْسَان فِي عين صَاحبه إِذا كَانَ شخصا صمتا وجسما صدى لَا يخرج مِنْهُ شَيْء كالبصاق والمخاط وَلَا يدْخل إِلَيْهِ شَيْء كالطعام وَالشرَاب وَمَتى استرسل فِي ذَاك مَعَ سُلْطَانه فَهبت بهجته من عينه وَقَلبه وَظَهَرت نبوته فِي طرفَة وَلَفظه فَأَما الثَّانِيَة فَتجوز مَعَ الأخوان والجلساء وَتحرم مَعَ الْأَصْحَاب والرؤساء وَأما الأولى فَتحرم مَعَ الْكل وتقبح مَعَ الْجَمِيع وَأَن يتحرز من الْحَاجة إِلَى استثبات الْخَلِيفَة فِي أَمر يَأْمُرهُ بِهِ أَو قَول يُورِدهُ عَلَيْهِ بِفضل الإصغاء والإصاخة إِلَى مَا يخاطبه بِهِ فَإِنَّهُ بَين أَلا يفهمهُ فقد استعجم عَلَيْهِ مَا يُرَاد مِنْهُ أَو يستعيده فقد كلفه من الْإِعَادَة مَا فَارق فِيهِ الْآدَاب اللائقة وَأَن يتَجَنَّب أيراد حِكَايَة تستمحل أَو لفظ يسترذل فقد قيل ان بعض وزراء الْبِلَاد الَّتِي لَا يعرف أَهلهَا النعام وصف لصَاحبه طائرا يبتلع الْجَمْر وَالْحَدِيد الَّذِي توقد عَلَيْهِ النَّار وعنى النعام فكذب

قَوْله واستبعد ان يكون صَادِقا فِيهِ وان الْوَزير خرج من بَين يَدَيْهِ واجما مِمَّا سَمعه مِنْهُ منكسرا بِمَا قابله بِهِ ثمَّ انفق المَال الْكثير وَغرم الْغرم الثقيل فِي طلب النعام وَحمله إِلَى ذَلِك الْبَلَد حَتَّى إِذا حملت مِنْهُ عدَّة بعد الكلفة الشَّدِيدَة مَاتَت فِي الطَّرِيق فَلم يسلم مِنْهَا إِلَّا وَاحِدَة وأحضرها الْوَزير للْملك وأحضر الْجَمْر وَالْحَدِيد حَتَّى ابتلعته فَلَمَّا رأى الْملك ذَلِك وَشَاهد سرُور الْوَزير بِهِ وبدفعه عَن نَفسه مَا دَفعه فِيهِ قَالَ لَهُ: ان جهلك عِنْدِي الْيَوْم أَكثر مِنْهُ عِنْد حكايتك مَا حكيت ودعواك مَا ادعيت لانه يَنْبَغِي للعاقل إِلَّا يحدث حَدِيثا يُنكره السَّامع وَيحْتَاج فِي الدّلَالَة عَلَيْهِ إِلَى مثل مَا تكلفته من الْفِعْل وَالْغُرْم أوليس لَو مَاتَت هَذِه النعامة الْبَاقِيَة لتحَقّق عَلَيْك الْكَذِب وخسرت المَال والتعب وَلَو منعت لسَانك مَا كنت غَنِيا عَنهُ لكفيت مَا وَقعت فِيهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي: سَأَلَ الْمَأْمُون صلوَات الله عَلَيْهِ جِبْرِيل عَن المَاء وَكم يلبث لَا يتَغَيَّر فَأعلمهُ أَن المَاء إِذا كَانَ على غَايَة الصفاء لم يتَغَيَّر قطّ فصدقت قَول جِبْرِيل وَقلت: عِنْدِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من مَاء القيسرة دساتيج مُنْذُ بضع عشْرين سنة وَمَا أَظُنهُ تغير فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ الله مَا أعجب مَا ذكرت وأنفذ رَسُولا إِلَى أُمِّي يَسْتَدْعِي مِنْهَا الدساتيج وَمن ظَنّه أَنه يعود بتكذيبي فَلَمَّا أَتَاهُ بالدساتيج وعَلى أغطيتها ذكر السّنة الَّتِي أَخذ المَاء فِيهَا من القيسرة

أطرق خجلا وغيظا وخلع عَليّ خلع التصنع والتجمل وَمضى على ذَاك نَحْو شَهْرَيْن واستزارني وَجرى بَين يَدَيْهِ حَدِيث الْبُسْر وَكبره وَصغر نَوَاه فَقلت: فِي بُسْتَان دَاري نخل معقلي وزنت قشرة من بسرة فَكَانَت عشرَة دَرَاهِم وَفِي نواتها أقل من دانقين فَقَالَ لي: اتَّقِ الله يَا عَم وَلَا تفضح أَمِير الْمُؤمنِينَ بَان ينْسب عَمه إِلَى الْكَذِب ثمَّ بعث من أحضرهُ من الْبُسْتَان عشر بسرات فَأول بسره وَقعت فِي يَده وَزنهَا فَصحت تِسْعَة دَرَاهِم وَفِي نواتها أقل من دانق فاستحيا وَأظْهر الْعجب من ذَاك وَحصل إِبْرَاهِيم فِي قَوْله مَا قَالَ بَين الْكَذِب لَو لم تُوجد تِلْكَ الدساتيج وَيخرج وزن البسرة مَا خرج أَو مَا كَانَ من غيظ الْمَأْمُون. وسبيل الانسان ان يكف لِسَانه عَن غيبَة سُلْطَانه أَو الْغَيْبَة عِنْده فَإِنَّهُ بَين ان يبلغهُ مَا قَالَ فِيهِ فيحفظ عَلَيْهِ ان لم يسخطه سخطا يَدعُوهُ إِلَى بطشه بِهِ أَو يتصوره فِيمَا قَالَ عِنْده بِصُورَة من سَاءَ بمحضره أما لشر غلب على طبعه أَو حسد استكن فِي صَدره وَقَالَ الْمَأْمُون صلوَات الله عَلَيْهِ لحميد الطوسي: ان الصّديق يحول بالجفاء عدوا والعدو يحول بالصلة صديقا وأراك رطب اللِّسَان بعيوب إخوانك فَلَا تزدهم فِي أعدائك والعاقل قَلِيل الْعَيْب مَا كَانَ الْعَيْب عَارِف بِنَفسِهِ وَمَا اعتادت نَفسِي غيبَة وَلَا رِيبَة.

وَحدث مُفْلِح الْأسود قَالَ: كَانَ سُلَيْمَان بن الْحسن عِنْد تقلده وزارة المقتدر صلوَات الله عَلَيْهِ يكثر من ذكرعلي بن مُحَمَّد بن الْفُرَات والطعن عَلَيْهِ وأتبين من المقتدر بِاللَّه كَرَاهِيَة لما يسمعهُ مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام أعَاد سُلَيْمَان ذكر ابْن الْفُرَات والوقيعة فِيهِ فَقَالَ لَهُ المقتدر بِاللَّه: (أقلوا عَلَيْهِم لَا أَبَا لأبيكم ... من اللوم أَو سدوا الْمَكَان الَّذِي سدوا) قَالَ: فتأملت سُلَيْمَان وَقد امتقع لَونه وكادت الأَرْض تخيس بِهِ وَلم يعد لَهُ ذكرا من بعد. وَأورد فِي هَذَا الْموضع خَبرا فِي الشَّرّ وَعوده على أَهله وَالْمَكْر ورجوعه على فَاعله وجدته لائقا وعجيبا فِي فنه وباعثا على الْخَيْر وان وَقع الإستقرار فِي بعض الْأَوْقَات بِهِ. حدث مَيْمُون بن هرون بن مخلد بن أبان الْكَاتِب قَالَ: كَانَ بَين جدي مخلد وَبَين فرج بن زِيَاد الرخجي من التعادي لأجل

الإعمال وَولَايَة الأهواز والمجاورة بِبَغْدَاد أَمر مَشْهُور وَكَانَ فِي فرج شَرّ وغدر ونفاق ومكر وَجَرت الْحَال بَينهمَا على ذَاك أَيَّام الرشيد والأمين والمأمون رحمت الله عَلَيْهِم واحترقت الدَّوَاوِين فِي فتْنَة الْأمين وفيهَا على فرج الْأَمْوَال الجليلة وَقد احتال فِي اسْتِهْلَاك مَا تعلق بِهِ مِنْهَا بضروب التَّوَصُّل وَالْحِيلَة وَاتفقَ أَن اجْتمعَا يَوْمًا بِحَضْرَة الْمَأْمُون وأخذا فِي المناظرة والمهاترة وجدي يتَوَلَّى يَوْمئِذٍ الضّيَاع الْعَامَّة وَكَانَ إِذْ ذَاك فرج يتَوَلَّى الضّيَاع الْخَاصَّة فَاعْترضَ الْمَأْمُون إِذْ ذَاك بِأَن قَالَ لجدي انا أعلم ان جَمِيع حِسَاب فرج عنْدك وَأَنه قد احتال فِيمَا كَانَ فِي الدَّوَاوِين مِنْهُ وَمَا يقنعني مِنْك إِلَّا إحضاري كل مَا تعرفه وَعمل مشاهرة لَهُ بِمَا يلْزمه فَقَالَ لَهُ: لست أعرف من ذَلِك إِلَّا قدر مَا أتذكره وأرجع إِلَى أثبات عِنْدِي فِيهِ وأطالع أَمِير الْمُؤمنِينَ بِهِ قَالَ: افْعَل واجمع كل مَا يمكنك جمعه ويتحقق عنْدك وُجُوبه وَانْصَرف جدي إِلَى دَاره وَكَانَ عِنْده سَائِر حسابه. وأحضر كاتبين لَهُ يُقَال لَهما يُونُس بن زِيَاد وَيحيى بن رَاشد وحجب النَّاس عَنهُ وَتفرد

مَعَهُمَا بِإِخْرَاج مَا يُخرجهُ وَتَحْصِيل مَا يحصله واحتاجوا إِلَى من يكْتب بَين أَيْديهم فاستعانوا بِابْن حدث ليحيى بن رَاشد وَلم يَدعُوهُ ينْصَرف إِلَى منزله فِي الْيَوْم الأول وَلَا الثَّانِي وَأَقَامُوا على أَمرهم يَوْمَيْنِ وليلتين فأخرجوا على فرج مَالا جَلِيلًا وَجعل مخلد جدي يبطل كل مَا يقدر ان لَهُ حجَّة فِيهِ واشتمل مَا حققوه وصححوه على اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ألف ألف دِرْهَم وَانْصَرف ابْن يحيى فِي اللَّيْلَة الثَّالِثَة إِلَى منزله وَكَانَ لَهُ خَال فِي جملَة فرج ينزل مَعَهم فِي دَارهم فَقَالَ لَهُ: يَا بني فيمَ أَنْتُم وَلم لم تَنْصَرِف مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ وَلم يزل يتسقطه ويستخرجه ويعده عَن فرج الصِّلَة وَالْإِحْسَان حَتَّى أقرّ لَهُ بِالْأَمر كُله وَأخْبرهُ بِمَا خرج على فرج بعد ترك مَا ترك وَإِسْقَاط مَا أسقط فبادر الرجل إِلَى فرج وحدثه بِمَا حَدثهُ بِهِ ابْن أُخْته فَقَامَتْ قِيَامَته مِنْهُ وتصور زَوَال نعْمَته بِهِ وَصَارَ فِي اللَّيْل إِلَى بَاب جدي رَاجِلا غير رَاكب وَمَعَهُ غُلَام وَاحِد فِي ظلمَة بِغَيْر شمعة فَوَجَدَهُ مغلقا ونادى بخادم كَانَ لنا يُقَال لَهُ طريف نِدَاء خفِيا يَا با فلَان انا بِالْبَابِ وَسمع الْخَادِم صَوته فَعرفهُ وَقَالَ: أَبُو الْفضل قَالَ: نعم وَأُرِيد ان أُكَلِّمك فِي سر فَلَا ترفع صَوْتك وَخرج إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: مَا لَك يَا سَيِّدي وَمَا هَذِه الصُّورَة فَقَالَ: احتل لي فِي الْوُصُول إِلَى مَوْلَاك السَّاعَة. فَقَالَ: قد صعد إِلَى السَّطْح وَحصل مَعَ الْحرم وَإِذا كَانَ ذَاك لم يمكني لقاؤه وَلَا خطابه. فَقَالَ: فتلطف توصل. فَأعْطَاهُ كيساً فِيهِ دَنَانِير وَقَالَ لَهُ هَذِه أَرْبَعمِائَة دِينَار خُذْهَا واجتهد فَحملت الْخَادِم الرَّغْبَة فِي الدَّنَانِير على ان صعد الدرجَة قَالَ طريف: فَلَمَّا قربت من مَوضِع مولَايَ تنحنحت. فَقَالَ لي وَهُوَ مذعور: مَا جَاءَ بك فِي وَقت لم تجر عَادَة مِنْك وَلم اجترأت على مَا لم يكن لَك رخصَة فِيهِ قلت: أردْت ان أذكر لَك شَيْئا هُوَ خير فَقَامَ إِلَى رَأس الدرجَة وَقَالَ لي: مَا عنْدك قلت: ان

فرجا على بابك وَمَعَهُ غُلَام وَاحِد بِغَيْر شمعة فَأَطْرَقَ سَاعَة ثمَّ رفع رَأسه إِلَيّ وَقَالَ لي: أَعْطَاك وأرغبك فأقدمت على مَا كَانَ مِنْك اصدقني عَن أَمرك قلت: نعم، وأريته الْكيس. قَالَ: رده وَخذ مثل مَا فِيهِ من تَحت يدك وَأدْخلهُ الي الدَّار قَالَ الْخَادِم: وعدت إِلَى فرج فعرفته مَا جرى ورددت الْكيس عَلَيْهِ فساءه ذَاك وغمه وَنزل مولَايَ وَجلسَ فِي مَوْضِعه وَدخل فرج فَلَمَّا قرب مِنْهُ قَامَ إِلَيْهِ واستقبله فاستعفاه من فعله وَطرح نَفسه على حَصِير بَين يَدَيْهِ ثمَّ على الأَرْض وَبكى طَويلا وَقَالَ لَهُ: الله الله يَا بالْحسنِ فِي وَفِي نعمتي وَوَلَدي وَلَا تقتلني وتفقرني واعف لي عَن كل مَا تقدم مني فَقَالَ لَهُ: معَاذ الله ان أفعل ذَاك وَمَا الَّذِي جرى واحوجك إِلَى هَذَا القَوْل فَقَالَ: قد سَمِعت مَا أَمرك أَمِير الْمُؤمنِينَ بِهِ وَعرفت مَا كَانَ مِنْك فِي إِخْرَاج حسابي وَإِسْقَاط كل مَا كَانَت فِيهِ حجَّة لي وتحصيلك عَليّ بعد ذَلِك مَا فِيهِ هلاكي وفقري وَذَهَاب حَالي بَقِيَّة عمري فراقب الله فِي وفيمن ورائي فانك عَالم بكثرتهم وَلم يزل القَوْل مترددا بَينهمَا إِلَى ان قَالَ لَهُ جدي: أما فعلت بِي كَذَا فاحتملت وسعيت عَليّ فِي الْأَمر الْفُلَانِيّ فَصَبَرت وعرضتني للْقَتْل وَذَهَاب النِّعْمَة فِي الْوَقْت الْفُلَانِيّ وَمَا أبقيت وَحلفت لي يَمِينا بعد يَمِين وَمَا وفيت وَعدد ذَلِك شَيْئا شَيْئا وواقفه عَلَيْهِ أمرا أمرا فَقَالَ لَهُ: قد صدقت فِي كل مَا قلت وأسأت فِي كل مَا فعلت فَخذ عَليّ بِالْفَضْلِ وقابلني بالصفح وَوَاللَّه واستتم يَمِينا غموسا لَا قُمْت بعد مقَامي هَذَا مقَاما يسوءك ولأكونن كَأحد أوليائك فِي الْإِخْلَاص لَك. فأقلني العثرة وَاسْتعْمل معي الفتوة فَقَالَ لَهُ جدي: وَالله لاقابلن نعْمَة الله عِنْدِي فِيك وَفِيمَا كفانية مِنْك بِالزِّيَادَةِ فِي الْإِحْسَان إِلَيْك وَالْأَخْذ بوثائق الْحجَّة عَلَيْك على تصوري وتحققي انك لَا تنْزع عَن عادتك وَلَا ترجع عَن عداوتك وَأَن الَّذِي

يأتيني آنِفا من قبيحك أَكثر مِمَّا أبدته الْأَيَّام أَولا مِنْك فَقَالَ: أكون إِذن لغير رشدة وبحيث استدعي من الله الْعقُوبَة والنقمة فَقَالَ: فَمَا تشَاء قَالَ: قد علمت مَا دَار بَيْنك وَبَين أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَنَّك لَا تَجِد بدا من إبرائي شَيْئا فَقَالَ لَهُ: قد خرج عَلَيْك فِي عَاجل التصفح كَذَا وَكَذَا بعد إِسْقَاط كل مَا لَك فِيهِ حجَّة مَقْبُولَة أَو مدفوعة وَعَلَيْك بعده من الْبَاب الْفُلَانِيّ كَذَا وَمن الْبَاب الْفُلَانِيّ كَذَا وواقفه على وَجه وَجه وَهُوَ يَقُول هَذَا صَحِيح وانت فِيهِ منصف إِلَّا ان للاستسلام حكما وَهَذَا الْمقَام بَين يَديك حَقًا فألطف فِي ان تقرر عَليّ عشْرين ألف ألف دِرْهَم. قَالَ فان جَعلتهَا خَمْسَة عشر ألف ألف دِرْهَم. قَالَ: تَأْخُذ بيَدي وتتمم مننك عِنْدِي قَالَ: فان جَعلتهَا عشرَة آلَاف ألف دِرْهَم قَالَ: تسترقني وتستعبدني قَالَ: فان جَعلتهَا خَمْسَة آلَاف ألف دِرْهَم قَالَ: هَذَا مَا لَا يبلغهُ أملي وَلَا ينْهض بِهِ شكري قَالَ: فان أسقطت الْكل عَنْك قَالَ: لَا أقدر على مُقَابلَة هَذَا التفضل مِنْك قَالَ: فان الله قد وَضعه عَنْك قَالَ فَكيف تفعل مَعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ لَا عَلَيْك وكل مَا لزمك بعد وقتي هَذَا فَهُوَ عَليّ دُونك وَلست أدعك تَنْصَرِف بعد ان جِئْت على هَذِه الصُّورَة وسلكت فِيمَا بَيْننَا سَبِيل الاستصفاح والاستقالة أَو أخرق حِسَابك بَين يَديك وأحلف لَك انني لَا اُسْتُبْقِيَ مِنْهُ سحاة وَاحِدَة ودعا الْحساب فأحرقه وَأظْهر فرج من السرُور مَا لم تقله الأَرْض مَعَه وَأورد من الشُّكْر مَا استغرق فِيهِ طوقه ووسعه ثمَّ قَالَ لَهُ جدي: قد شهد الله مَا عاملتك بِهِ وَهُوَ الْمُسلم مِنْك والمجازي لكل منا على قدر نِيَّته وَوَاللَّه لَا تركت غَايَة فِي النكث والغدر وركوب الشَّرّ وَالْبَغي إِلَّا بلغتهَا فَبكى فرج وَقَالَ: أكون إِذن ولد زنا وَجعل يحلف ويتألى على الْإِخْلَاص والصفاء

والثبات وَالْوَفَاء ونهض فَقَامَ مَعَه جدي وتعانقا وَأمر الغلمان بِحمْل الشموع بَين يَدَيْهِ إِلَى دَاره بعد ان جهد بِهِ فِي ان يركب فَلم يفعل وَبكر جدي إِلَى الْمَأْمُون فَأعلمهُ أَنه نظر فِيمَا عِنْده من حِسَاب فرج فَوجدَ لَهُ من الْحجَج فِيهِ مَا يبطل مَعَه كل مَا يخرج عَلَيْهِ وتلطف فِي قَوْله وَحسن مَنَابه عَن فرج حَتَّى اندرجت الْقِصَّة وزالت الْمُطَالبَة فَحلف طريف انه لم يمض على ذَاك إِلَّا أقل من خَمْسَة عشر يَوْمًا حَتَّى دس فرج لمولاي فِي الشاشية مَا دس فَقُلْنَا لَهُ: وَكَيف كَانَ ذَاك قَالَ: كَانَ لفرج غُلَام يعرف بنصر يعْمل القلانس ويصنع الشاشيات مقدما فِي الحذق بهَا وَكَانَ يعْمل لنا مَا نحتاج إِلَيْهِ مِنْهَا فَلَمَّا كَانَ بعد الحَدِيث الْمَذْكُور بأيام جَاءَنِي بِخمْس شواشي قد تأنق فِيهَا فأخذتها مِنْهُ وأدخلتها إِلَى مولَايَ فَقَالَ: من جَاءَ بِهَذِهِ قلت: نصر غُلَام فرج فنظرها واستحسنها وَأَمرَنِي بِأَن أعْطِيه إِذا ركب وَاحِدَة مِنْهَا ليلبسها وَأَرَادَ من غَد الرّكُوب وَكنت أَصْحَبهُ فِيهِ وأحمل دواته فَخرج سحرًا وَقد دفعت إِلَيْهِ الشاشية من الْخمس المحمولات وَصَارَ فِي دهليزه فَوجدَ برذونه يراض وَقعد على دكته وأحس بحكة فِي رَأسه فَأخذ الشاشية ووضعها فِي يَده الْيُسْرَى وحك الْموضع باليمنى وجس الشاشية فَوجدَ فِي رَأسهَا مَا انكره وتأمله بِيَدِهِ فَإِذا هُوَ شَيْء مربع وَعَاد إِلَى الدَّار وَدَعَانِي على خلْوَة وَقَالَ لي: يَا طريف قرب الشمعة مني فقربتها إِلَيْهِ وَقَالَ جس هَذَا الْموضع من الشاشية فقد انكرت أمره فجسسته وَقلت: قد انكرت يَا مولَايَ مثل مَا أنكرته قَالَ: فِي خفك سكين

قلت: نعم قَالَ: هَاتِهَا وخرق الشاشية فَإِذا صَلِيب من خوص فَلم أفهم الْقِصَّة وَرفعت صوتي فَقَالَ أكفف وكففت وَقَالَ: هَذِه الشاشية من شواشي نصر الَّتِي حملهَا إِلَيْنَا البارحة قلت: نعم قَالَ: اكتم مَا جرى وَلَا تشعر بِهِ أحدا من عُلَمَائِنَا واستدعى أُخْرَى من هَذِه الشواشي وخرقها فَكَانَ فِيهَا مثل مَا كَانَ فِي الأولى وَاعْتبر الْكل فَكَانَت حَالَة وَاحِدَة وَأَمرَنِي بإحضار دَنَانِير عين عَليّ مبلغها فأحضرتها وَأمر بِالصَّدَقَةِ بهَا وَقَالَ: ايتني بشاشية مِمَّا عندنَا من غير صَنْعَة نصر فَأَتَيْته بعدة اخْتَار مِنْهَا وَاحِدَة جَدِيدَة ولبسها وَقَالَ لي: ان نصرا سيقف السَّاعَة بِالْبَابِ وَيرى شاشيتي جَدِيدَة ويسألك عَنْهَا فَإِذا فعل فَقل لَهُ: هَذِه مِمَّا حَملته أمس وَقد أَمر لَك بِدَرَاهِم إِذا عدت دفعتها إِلَيْك وَلَا تزِدْه تبيينا على ذَاك قَالَ طريف: وَخرجت مَعَ مولَايَ فَإِذا نصر بِالْبَابِ كَمَا حسب وسألني عَن الشاشية فأجبته بِمَا وَجب ومضينا إِلَى دَار الْخلَافَة وَأذن الْمَأْمُون للْكتاب والقواد وَدخل فرج فِيمَن دخل وخاض الْكتاب فِيمَا كَانُوا يَخُوضُونَ فِيهِ دَائِما وَتعرض فرج لمولاي فِي بعض مَا جرى وهاتره ونافره وَقَالَ لِلْمَأْمُونِ: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا يدين بِدينِك وان أظهر انه مَوْلَاك وَلَا يرى نصحك وَأَن زوق بِلِسَانِهِ مَا يزوقه لَك وَأَنه ليعتقد عبَادَة الصَّلِيب وَدَلِيل ذَاك ان فِي شاشيته وَاحِدًا وَمَتى شَككت فِي قولي فخرقها وفتشها واعرف كذبي من صدقي فِيهِ بامتحانها فَوَجَمَ الْمَأْمُون لقَوْله وَحمله كرم النَّفس وَفضل الْحلم على ترك الْأَمر بتخريق الشاشية وبادر مخلد إِلَى أَخذهَا من رَأسه وتمزيقها بَين يَدَيْهِ وَقَالَ: انا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عَبدك وَعبد آبَائِك الرَّاشِدين صلوَات الله عَلَيْهِم وَمن يرى إمامتك دينا وَنَصِيحَتِك حَقًا وَقد علمت انك توقفت عَن اختبار

أَمر الشاشية حَيَاء مني وابقاء عَليّ وَمَا أقدمت على مَا أَسَأْت الْأَدَب فِيهِ من تخريقها بحضرتك إِلَّا لأبرىء ساحتي عنْدك مِمَّا قرفني هَذَا الْفَاجِر الغادر السَّارِق بِهِ قد غل أموالك واحتجنها وألط بِمَا حصل فِي ذمَّته مِنْهَا وَوَاللَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وحياتك الجليلة لقد كَانَ من خبري فِي يومي هَذَا وَمَا دبره عَليّ فِي أَمر هَذِه الشاشية كَيْت وَكَيْت وقص عَلَيْهِ الْقِصَّة وَسمي لَهُ نصرا القلانسي غُلَامه الَّذِي كَانَ مَا احتال بِهِ على يَده فاغتاظ الْمَأْمُون على فرج مِمَّا سَمعه وَعجب من إقدامه على مَا صنعه وَأمر باحضار نصر فأحضر وَسَأَلَهُ عَن الصُّورَة فلجلج فِيهَا حَتَّى إِذا مد وَضرب خمسين عَصا اعْترف بهَا وأحال على فرج فِيهَا فبصق الْمَأْمُون عِنْد ذَاك فِي وَجه فرج وَشَتمه وَأمر بِتَسْلِيمِهِ إِلَى مخلد ليحاسبه ويطالبه بالأموال الَّتِي يُخرجهَا عَلَيْهِ وَانْصَرف فرج خازيا منخذلا ومخلد مخلوعا عَلَيْهِ مكرما وَحمل إِلَيْهِ فرج فحبسه عِنْده بعد أَن وبخه على مَا كَانَ مِنْهُ وَقَالَ لَهُ: ألم أقل لَك انك لَا تدع قَبِيح رسمك وَلَا تنْزع عَن ذميم خلقك وعَلى ذَاك فأستأنف من الْإِحْسَان إِلَيْك مَا استديم بِهِ صنع الله عِنْدِي فِيك وَلم يزل مخلد يلطف فِي أَمر فرج ويكلم عَمْرو بن مسْعدَة فِي مقاربته ومباشرته حَتَّى قرر عَلَيْهِ ثَلَاثَة آلَاف ألف دِرْهَم وَكَانَ عَمْرو يعجب من تنَافِي مَا بَين الرجلَيْن والمأمون يعجب ويعجب أَصْحَابه مِنْهُمَا.

وسبيل صَاحب السُّلْطَان ان يتَجَنَّب السّعَايَة والنميمة فَإِنَّهُمَا من الْأَفْعَال اللئيمة الذميمة وَقد قيل قَول ثَبت فِي النُّفُوس واطرد مَعَه الْقيَاس: من نم إِلَيْك ثمَّ عَلَيْك وَمن سعى عنْدك سعى بك وَكتب مُحَمَّد بن عَليّ كَاتب مُحَمَّد بن خَالِد إِلَيْهِ: ان قوما جَاءُوهُ على سَبِيل التنصح فَذكرُوا ان رسوما للسُّلْطَان بأرمينية قد عفت ودرست وانه توقف عَن تتبعها إِلَى ان يعرف رَأْيه فِيهَا فَوَقع على ظهر رقعته: قَرَأت هَذِه الرقعة المذمومة وسوق السعاة بِحَمْد الله عندنَا كاسدة وألسنتهم فِي أيامنا كليلة فَإِذا قَرَأت كتابي هَذَا فاحمل النَّاس على قانونك وخذهم بِمَا فِي ديوانك فَلم ترد النَّاحِيَة لتتبع الرسوم الْعَافِيَة وَلَا لالحياء الْآثَار الدائرة وجنبني وتجنب بَيت جرير حَيْثُ يَقُول: (وَكنت إِذا حللت بدار قوم ... رحلت بخزية وَتركت عارا) وَأجر أمورك على مَا يكْسب الدُّعَاء لنا لَا علينا وَاعْلَم انها مُدَّة تَنْتَهِي وَأَيَّام تَنْقَضِي فَأَما ذكر جميل أَو خزي طَوِيل وَقد يجوز ان يُرِيد السُّلْطَان أمرا والرأي يُنَافِيهِ أَو يكره شَيْئا وَالصَّوَاب يَقْتَضِيهِ وَلَيْسَ من حكم الْأَدَب ان يُرَاجع بِإِقَامَة حجَّة وَاسْتِيفَاء مناظرة أَو يكاشف برد إِرَادَة وَاسْتِعْمَال مضادة فَإِن ذَلِك يَدْعُو إِلَى توغر الصُّدُور واللجاج فِي الْأُمُور وَعَلَيْك بالإشارات اللطيفة ومعاريض القَوْل الْخَفِيفَة وإيراد الْأَحَادِيث المشاكلة وَوضع الموضوعات المقاربة.

وَقَالَ عبد الْملك بن صَالح لعبد الرَّحْمَن بن وهب مؤدب وَلَده: يَا عبد الرَّحْمَن لَا تَعْنِي على قَبِيح وَلَا تردن عَليّ فِي محفل وكلمني على قدر مَاء استنطقك وَاعْلَم ان حسن الِاسْتِمَاع أحسن من حسن الحَدِيث فأرني فهمك فِي طرفك. واعمل أنني قد جعلتك جَلِيسا مقربا بعد ان كنت معلما مباعدا وَمن لم يعرف نُقْصَان مَا خرج مِنْهُ لم يعرف رُجْحَان مَا دخل فِيهِ وَإِيَّاك ان تظهر للسُّلْطَان قُوَّة نفس وَشدَّة بَطش أَو تحمله على تعسف الطَّرِيق وتولج الْمضيق وخبط المسالك واقتحام المراكب فيتصورك فِي الأولى بِصُورَة الأهوج الَّذِي لَا يُبَالِي كَيفَ دخل أَو خرج فَلَا يأمنك على نَفسه وَملكه وَتَكون مَعَه فِي الْأُخْرَى بَين ان تصيب فيعتقد ان الْإِصَابَة من رأية أَو تزل فينسب الزلل إِلَيْك ويحيل الذَّنب عَلَيْك وَلَكِن من الأولى التَّوَسُّط بَين الْإِسْرَاع والتثبط والتقصي والتورط وَالْإِشَارَة إِلَى مَا الرَّأْي فِيهِ أصوب وَمن سَلامَة العواقب أقرب ليخلص من عُهْدَة التَّعْيِين وَالنَّص وتبعة الْبَتّ وَالْقطع ويصل بلطف الحزم إِلَى مَا يكون فِيهِ الْحَظ وَقَضَاء حق النِّعْمَة بالنصح وَكَانَ المكتفي بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِ أَمر الْعَبَّاس بن الْحسن وزيره ان يجرد جَيْشًا إِلَى الْحَاج فَإِذا انصرفوا وحصلوا بِالْكُوفَةِ طلب حِينَئِذٍ زكرويه فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس: إِلَيّ

مرجع الْحَاج مَا قد كفى الله أمره وَجلسَ الْعَبَّاس فِي دَاره وَعِنْده وُجُوه الْكتاب والقواد فَقَالَ لَهُم: ان أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمرنِي بِكَذَا وَكَذَا وأشرت بترك طلب زكرويه ثِقَة بَان الله يرِيح مِنْهُ قبل وَقت الْحَاج فَمَا ترَوْنَ فَكل صوب رَأْيه وَعلي بن مُحَمَّد بن الْفُرَات سَاكِت لَا ينْطق فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس: مَا عنْدك يَا أَبَا الْحسن قَالَ أَلا تخَالف أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن كَانَ مَا رَآهُ صَوَابا كَانَ تَوْفِيقًا أَو خطا كَانَ عَليّ رَأْيه دون رَأْيك فَأَقَامَ على أمره وَكَانَ من الْوَقْعَة بالحاج مَا كَانَ. وَمَا شَيْء أقبح بِذِي قلم من تعَاطِي الشجَاعَة والتخلق بأخلاق الجندية وَقد حُكيَ ان عبيد الله بن سُلَيْمَان كَانَ وَاقِفًا بِحَضْرَة المعتضد بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ إِذْ أفلت سبع من يَدي سِبَاع وهرب النَّاس من بَين يَدَيْهِ وَعدا عبيد الله مذعورا وَدخل تَحت سَرِير وَثَبت المعتضد بِاللَّه فِي مَوْضِعه (4) فَلَمَّا أَخذ السَّبع وَعَاد عبيد الله إِلَى حَضرته، قَالَ لَهُ المعتضد: مَا أَضْعَف نَفسك يَا عبيد الله! وَمَا كَانَ السَّبع ليصل إِلَيْك وَلَا يتْرك ان يصل فتفعل مَا فعلت فَقَالَ لَهُ: قلبِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قلب الْكتاب وَنَفْسِي من نفوس الإتباع لَا الْأَصْحَاب فَلَمَّا خرج قَالَ لَهُ أَصْحَابه فِي ذَلِك فَقَالَ لَهُم: أصبت فِيمَا كَانَ مني وغلطتم فِي تصوركم وَوَاللَّه مَا خفت السَّبع لأنني كنت أعلم انه لَا يصل إِلَى ولكنني اعتمدت ان يرى الْخَلِيفَة قُصُور منتي وَقصر همتي فيأمنني

وَلَا يخَاف غائلتي وَلَو رأى بِخِلَاف هَذِه الصُّورَة لكَانَتْ فِي تِلْكَ المخافة المحذورة. وَمِمَّا يجْرِي فِي ضد هَذِه الطَّرِيقَة مَا حدث بِهِ سِنَان بن ثَابت جدي قَالَ: كَانَ المعتضد بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ وَاقِفًا فِي الميدان قبل إفضاء الْخلَافَة إِلَيْهِ وَبَين يَدَيْهِ إِسْمَاعِيل بن بلبل إِذْ عرض عَلَيْهِ مهر عَظِيم الْخلق حِين جلب من الجشر فَأمر إِسْمَاعِيل بعض الراضة بِأَن يسرجه ويلجمه ويركبه فَلَمَّا أسرجه ورام أَن يركبه لم يسْتَطع ذَاك وَلَا أمكنه فَضَحِك إِسْمَاعِيل بِهِ وَكَانَ قَوِيا ايدا وَتقدم ليركب الْمهْر وَقد أمسك لَهُ من كل جَانب فَمَا هُوَ ان وثب على ظَهره حَتَّى اضْطربَ من تَحْتَهُ وشب وَقَامَ على رجلَيْهِ وَكَاد إِسْمَاعِيل يسْقط مِنْهُ وحاول النُّزُول مِنْهُ فَلم يستطعه حَتَّى امسكه جمَاعَة فبذ وخجل عِنْد ذَاك خجلا شَدِيدا واستحيي استحياء كَبِيرا

وَأَرَادَ المعتضد بِاللَّه ان يبين لَهُ مَوضِع حذقه بالفروسية وانها لَيست بالإيد وَالْقُوَّة وَالْجَلد والشدة فَقَالَ: قدمُوا الْمهْر إِلَيّ فَقدم وَلم يزل يمسح وَجهه بِيَدِهِ وَالْمهْر يتشممه وينخر وَلَا ينفر حَتَّى إِذا بَالغ فِي تسكينه وَرَأى مِنْهُ الانس بِهِ وضع رجله فِي الركاب ووثب على ظَهره كأسرع من لمح الْبَصَر وَأخذ عنانه أخذا رَفِيقًا ثمَّ حَرَكَة تحريكا لطيفا وَلم يزل بِهِ حَتَّى خطا وَمَشى وَذهب عَلَيْهِ وَجَاء فَكَأَنَّهُ قد ذلل وريض مُنْذُ سنة وَقد كَانَ إِسْمَاعِيل غَنِيا عَن فعله الَّذِي أبدى مِنْهُ عَجزه لَان الفروسية لم تكن من شَأْنه وَلَا مِمَّا يُرَاد مِنْهُ أَو يُطَالب بِهِ فَهَذَا مقَام جهل الْإِنْسَان بِنَفسِهِ وتعاطيه مَا لَيْسَ من فنه. وَإِيَّاك وإعادة حَدِيث تسمعه أَو إفشاء سر تستودعه. فقد قيل ان السُّلْطَان (1) يغْفر كل ذَنْب إِلَّا مَا كَانَ من إفشاء حَدِيث، أَو فَسَاد حرمه أَو قدح فِي دولة وعَلى ذَاك قَالَ المعتضد بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ لِأَحْمَد بن الطّيب السَّرخسِيّ وَقد قبض عَلَيْهِ عِنْد خُرُوجه إِلَى الْقَاسِم بن عبيد الله بسره فِي أمره: انت قلت لي ان السُّلْطَان يعْفُو عَن كل أَمر مَا دون الْخُرُوج بسره أَو الْإِفْسَاد لحرمه

أَو السَّعْي على دولته وَأَنا أحملك على حكمك وَقَتله. وَمَا زَالَ جرح اللِّسَان كجرح الْيَد وزلة القَوْل كزلة الْفِعْل وعثرة الْكَلم كعثرة الْقدَم فاحذر ان يكون تقربك إِلَى السُّلْطَان أَو وزيره بخيانة صَاحبك مُقَدرا انك تحظى بذلك عِنْده فَرُبمَا كَانَ فِيهِ فَسَاد أَمرك مَعَه كَمَا لحق المكني أَبَا نوح مَعَ إِسْمَاعِيل بن بلبل فَإِن عَليّ بن مُحَمَّد بن الْفُرَات حدث قَالَ: لما كثرت شكوى الْمُعْتَمد بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِ من إِسْمَاعِيل بن بلبل أَرَادَ الْمُوفق ان يقْضِي حَقه بِصَرْف إِسْمَاعِيل إِلَى ان يسكن مَا فِي نَفسه مِنْهُ فَقَالَ لَهُ: أخرج إِلَى ضياعك بكوثى وأقم فِيهَا مُدَّة شهر مُعْتَزِلا للْعَمَل ثمَّ عد بعد ذَلِك وقلد مَكَانَهُ الْحسن بن مخلد واستخلف الْحسن أَبَا نوح وَكَانَ أَبُو نوح يُكَاتب إِسْمَاعِيل بن بلبل بأخبار الْحسن فَلَمَّا عَاد إِسْمَاعِيل إِلَى النّظر فِي الوزارة وحضره أَبُو نوح وَجعل يخاطبه خطاب مأنوس بِهِ وَإِسْمَاعِيل يلوي وَجهه عَنهُ فَلَمَّا خلا

بِهِ أقبل عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: ان الْحَال الَّتِي قدرتها قربتك مني هِيَ الَّتِي نفرتني مِنْك ومنعتني الثِّقَة بك لِأَنَّك إِذا لم تصلح لمن اصطنعك ورفعك وقلدك من الْعَمَل أَكثر مِمَّا قلدتك لم تصلح لي وَمَا أحب كونك بحضرتي وَلَا اختلاطك بخاصتي فاختر بريد نَاحيَة تشاكل طبعك فَاخْتَارَ بريد ماه الْبَصْرَة وقلده إِيَّاه. وَإِن اتّفق للسُّلْطَان ان يَقُول قولا ملحونا أَو يروي حَدِيثا مدفوعا أَو ينشد شعرًا مكسورا لم يكن لمن يحضر مَجْلِسه من حرمه وَذَوي انسه فضلا عَن أهل الحشمة وَمن لَا تعلق لَهُ بِخُصُوص الْخدمَة ان يرد ذَلِك مواجها ومصرحا بل يعرض بِهِ مُشِيرا وملوحا ويورد فِيهِ من النَّظَائِر والإشكال مَا يكون طَرِيقا إِلَى معرفَة الصَّوَاب فَأَما مَا عَسى ان يَكْتُبهُ السُّلْطَان بِيَدِهِ ويسهو فِي شَيْء من إعرابه أَو لَفظه فعلى وزيره أَو كَاتب رسائله أَن يصلحه سرا لَا جَهرا فَإِن فِي ذَاك تأدية للأمانة فِي النَّصِيحَة وحراسة لصَاحبه من ظُهُور الْعَيْب والنقيصة. وَحدث النَّضر بن شُمَيْل قَالَ: دخلت على الْمَأْمُون

صلوَات الله عَلَيْهِ بمرو وَعلي أَخْلَاق مترعبلة فَقَالَ لي: يَا نضر تدخل عَليّ فِي مثل هَذِه الْأَخْلَاق قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن حر مر وَلَا يدْفع إِلَّا بِهَذِهِ الثِّيَاب فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّك متقشف وتجارينا الحَدِيث فَقَالَ الْمَأْمُون: حَدثنِي هشيم بن بشير عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله إِذا تزوج الرجل الْمَرْأَة لدينها وجمالها كَانَ فِي ذَاك سداد من عوز فَقلت: صدق فوك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وعثر هشيم حَدثنِي عَوْف الإعرابي عَن الْحسن عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله: إِذا

تزوج الرجل الْمَرْأَة لدينها وجمالها كَانَ فِي ذَاك سداد من عوز وَكَانَ الْمَأْمُون مُتكئا فَاسْتَوَى جَالِسا وَقَالَ: السداد لحن يَا نضر قلت: نعم وَإِنَّمَا لحن هشيم وَكَانَ لحانا قَالَ: مَا الْفرق بَينهمَا قلت: السداد: الْقَصْد فِي الدّين والسبيل والسداد: الْبلْغَة وكل مَا سددت بِهِ شَيْئا فَهُوَ سداد قَالَ: فأنشدني أخلب بَيت للْعَرَب قلت: قَول حَمْزَة بن بيض فِي الحكم بن مَرْوَان: (تَقول لي والعيون هاجعة ... أقِم علينا يَوْمًا فَلم أقِم) (أَي الْوُجُوه انتجعت قلت لَهَا ... وَأي وَجه الإ إِلَى الحكم) (مَتى يقل حاجبا سرادقه ... هَذَا أبن بيض بِالْبَابِ يبتسم)

(قد كنت أسلمت فِيك مقتبلا ... فهات إِذْ حل أَعْطِنِي سلمي) قَالَ: فأنشدني أنصف كلمة للْعَرَب. قلت: قَول ابْن آبي عرُوبَة المداني: (إِنِّي وَإِن كَانَ ابْن عمي غَائِبا ... لمقاذف من دونه وورائه) (ومفيده نصري وَإِن كَانَ امْرَءًا ... متزحزحا فِي أرضه وسمائة) (وَإِذا الْحَوَادِث أجحفت بسوامه ... قرنت صحيحتنا إِلَى جربائه) (وَإِذا استجاش وفرته ونصرته ... وَإِذا تصعلك كنت من قرنائه) (وَإِذا دَعَا باسمي ليركب مركبا ... صعبا قعدت لَهُ على سيسائه) (وَإِذا أَتَى من وَجهه بطريفة ... لم أطلع مِمَّا وَرَاء خبائه)

(وَإِذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقل ... يَا لَيْت ان عَليّ حسن رِدَائه) قَالَ: أَحْسَنت لله أَبوك فأنشدني فِي الْمَعْرُوف قلت قَول الْقَائِل. (يَد الْمَعْرُوف غنم حَيْثُ كَانَت ... تحملهَا كفور أَو شكور) (فَعِنْدَ الشَّاكِرِينَ لَهَا جَزَاء ... وَعند الله مَا كفر الكفور) فَدَعَا بِدَوَاةٍ ودرج وَكتب شَيْئا لَا أعلم مَا هُوَ ثمَّ قَالَ لي: كَيفَ تَقول من التُّرَاب: أفعل قلت أترب قَالَ: فَمن الطين قلت: طن قَالَ: فالكتاب مَاذَا قلت: مترب مطين.

قَالَ: هَذَا أحسن من الأول وَأَمرَنِي ان ألْقى الْفضل بن سهل بالرقعة فَأَتَيْته بهَا فَلَمَّا قَرَأَهَا قَالَ: مَا السَّبَب الَّذِي وصلك أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيهِ بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم فَحَدَّثته فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ الله لحنت أَمِير الْمُؤمنِينَ قلت: لَا وَلَكِن عَرفته ان هشيما كَانَ لحانا فَأمر لي الْفضل من عِنْده بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وانصرفت إِلَى منزلي بِثَمَانِينَ وَكَانَ من حسن أدب الْحسن بن سهل وسجاحة خلقه إِذا عرض عَلَيْهِ أحد كِتَابه نُسْخَة كتاب قد أنشأه وَأَرَادَ تَغْيِير شَيْء من أَلْفَاظه ان يَقُول لَهُ: وَالله لقد أَجدت وأحسنت واستوفيت الْغَرَض وأتيت على الْمَعْنى وَلَكِن مَا عنْدك فِي إِبْدَال هَذِه اللَّفْظَة بِكَذَا وَهَذَا الْفَصْل بِكَذَا فَيَقُول الْكَاتِب: يفعل الْأَمِير ذَاك فَيَقُول: لَا بل غَيره انت بخطك وَإِذا كَانَ هَذَا فعل الْأَصْحَاب بالإتباع فَمَا قَوْلك فِي فعل الإتباع بالأصحاب. وَلَيْسَ من الْعَادة ان يذكر أحد بِحَضْرَة الْخَلِيفَة بكنيته إِلَّا من

شرفه بالتكنية وَأَهله لهَذِهِ الرُّتْبَة وَلَا باسم الْخَلِيفَة ان وَافق اسْمه اسْمه وَقد رُوِيَ ان سُلَيْمَان بن عبد الْملك قعد ذَات يَوْم يفْرض للنَّاس فَأقبل فَتى من بني عبس جسيم وسيم يمْلَأ الْعين منظره فَقَالَ سُلَيْمَان: مَا اسْمك قَالَ: سُلَيْمَان بن عبد الْملك فَأَعْرض عَنهُ حِين وَافق اسْمه اسْمه فَقَالَ لَهُ الْفَتى: لَا شقي اسْم وَافق اسْمك فافرض لي فَإِنِّي سيف بِيَدِك ان ضربت بِي قطعت أَو أَمرتنِي أَطَعْت وَسَهْم فِي كنانتك أستد ان أرْسلت وأصدق حَيْثُ وجهت فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان: مَا قَوْلك لَو لقِيت عدوا قَالَ: أَقُول حسبي الله لَا اله إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت قَالَ: اكنت متكفيا بذلك لَو لقِيت عَدوك قَالَ: انما سَأَلتنِي عَمَّا انا قَائِل فأخبرتك وَلَو سَأَلتنِي عَمَّا أَنا فَاعل لأنبأتك لَو كَانَ ذَاك لضَرَبْت بِالسَّيْفِ حَتَّى يتعقف ولطعنت بِالرُّمْحِ حَتَّى يتقصف ولعلمت اني وَإِن ألمت انهم يألمون ولرجوت من الله مَا لَا يرجون قَالَ لَهُ سُلَيْمَان أَقرَأت الْقُرْآن قَالَ نعم قرأته صَغِيرا وتأممته كَبِيرا وَجَعَلته لي أَمِيرا وعاملت عَلَيْهِ خَبِيرا قَالَ: أَفَلَك مَال يُغْنِيك أَو عرض من الدُّنْيَا يَكْفِيك قَالَ: لم أزل بَين وَالدّين لَا ينكد لي معاش بَينهمَا قَالَ فَكيف برك بهما قَالَ:

اخْفِضْ لَهما من الذل جنَاحا وأرغب إِلَى الله فِي ان يوليهما صلاحا ويلقيهما يَوْم اللِّقَاء تَحِيَّة ونجاحا. وان دعت الْحَاجة إِلَى ذكر شَيْء يُوَافق اسْم حُرْمَة للسُّلْطَان وَمَا لَا تجوز المواجهة بِهِ أَو تقع الطَّيرَة مِنْهُ أورد ذَاك باسم مستعار وتجنب فِي هَذَا مَا ينبو عَن الْقُلُوب والإسماع كَفعل عبد الْملك بن صَالح وَقد أهْدى إِلَى الرشيد وردا فانه كتب: " قد انفذت إِلَى حَضْرَة أَمِير الْمُؤمنِينَ وردا من بستانه فِي دَاره الَّتِي أسكنها فِي طبق من قضبان " فَلَمَّا قرئَ ذَلِك على الرشيد قَالَ أحد الجلساء: مَا ابرد قَوْله فِي قضبان فَقَالَ الرشيد: انما كنى بِهِ عَن الخيزران الَّذِي هُوَ أسم أُمِّي وَقد ملح فِي الِاسْتِعَارَة وأجمل الْأَدَب فِي هَذِه الْعبارَة فاستملح ذَلِك بعد ان استقبح وَاسْتحْسن بعد ان استهجن وكقول الْفضل بن الرّبيع وَقد سَأَلَهُ الرشيد صلوَات الله عَلَيْهِ عَن شَجَرَة خلاف وَقَالَ لَهُ: مَا هَذِه فَقَالَ: وفَاق

يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وكقول الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَقد سُئِلَ وَقيل لَهُ: أَيّمَا أكبر انت أم رَسُول الله فَقَالَ: رَسُول الله أكبر وانا أسن صلى الله عَلَيْهِمَا وكقول سعيد بن مرّة وَقد دخل على مُعَاوِيَة فَقَالَ لَهُ: انت سعيد فَقَالَ لَهُ: انا ابْن مرّة وأمير الْمُؤمنِينَ السعيد وَمن ضد ذَلِك مَا حَكَاهُ الْحسن بن مُحَمَّد الصلحي قَالَ: لما صرف الراضي بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِ عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى عَن وزارته نكبة ونكب عَليّ بن عِيسَى أَخَاهُ وصادر عليا على ألف ألف دِرْهَم وَعبد الرَّحْمَن على ثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَكَانَ ذَلِك طريفا وَحصل عَليّ معتقلا فِي دَار الْخلَافَة وَخَافَ ان يكون فِي نفس الراضي بِاللَّه عَلَيْهِ مَا يَدْعُو إِلَى قَتله إِيَّاه فراسلني وَكنت إِذْ ذَاك كَاتب مُحَمَّد بن رائق يسألني خطاب الراضي بِاللَّه عَن صَاحِبي فِي نَقله إِلَى دَار وزيره إِلَى ان يُؤَدِّي مَا قرر عَلَيْهِ أمره فَجئْت إِلَى الراضي وَقلت

لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: عَليّ بن عِيسَى خادمك وخادم آبَائِك وَمن قد عرفت مَحَله من الصِّنَاعَة وموقعه من جمال المملكة وَمن حَاله وَأمره كَذَا وَكَذَا فَقَالَ: هُوَ كَذَلِك ولكنني انقم عَلَيْهِ ذنوبا وَأخذ يعدد ذنُوب عبد الرَّحْمَن فَقلت: يَا مَوْلَانَا وَأي دَرك يلْزمه فِيمَا قصر فِيهِ أَخُوهُ قَالَ: سُبْحَانَ الله وَهل دبر عبد الرَّحْمَن إِلَّا بِرَأْيهِ أَو أمضى شَيْئا أَو وَقفه إِلَّا عَن أمره وأمري إِيَّاه بألا يحل وَلَا يعْقد إِلَّا بموافقته وَأَقْبَلت أعْتَذر لَهُ وَأَجْعَل بازاء كل ذَنْب حجَّة فَقَالَ دع ذَا مَا خاطبني إِلَّا قَالَ: واك فَهَل تتلقى الْخُلَفَاء بِمثل ذَاك فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ان هَذَا طبع لَهُ قد ألف مِنْهُ وَحفظ عَلَيْهِ وعيب بِهِ فِي أَيَّام خدمته للمقتدر بِاللَّه وَمَا اسْتَطَاعَ ان يُفَارِقهُ مَعَ نشأته عَلَيْهِ وتعوده إِيَّاه فَقَالَ: اعْمَلْ على انه خلق أما كَانَ يُمكنهُ ان يُغَيِّرهُ معما وَصفته بِهِ من الْفضل وَالْعقل أَو يتحفظ معي خَاصَّة فِيهِ مَعَ قلَّة اجتماعه معي ومخاطبته إيَّايَ وَمَا يفعل هَذَا إِلَّا عَن تهاون وَقلة مبالاة فَقبلت الأَرْض مرَارًا بَين يَدَيْهِ وَقلت: الله الله وان يتَصَوَّر مَوْلَانَا ذَاك فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَن سوء توفيق وَالْعَفو من أَمِير الْمُؤمنِينَ مَطْلُوب وَلم أزل حَتَّى أَمر بنقله إِلَى دَار وزيره وَنقل وَصحح مَا أَخذ بِهِ خطة وَصرف إِلَى منزله.

وَمِمَّا هَذِه سَبيله انشاد أبي النَّجْم الراجز هِشَام بن عبد الْملك قصيدته الَّتِي أَولهَا: (الْحَمد لله الوهوب المجزل ... أعْطى فَلم يبخل وَلم يبخل) حَتَّى انْتهى إِلَى قَوْله: وَالشَّمْس قد صَارَت كعين الْأَحْوَال فَظن انه عرض بِهِ فَأمر بِأَن توجأ عُنُقه. وكقول ذِي الرمة وَقد أنْشدهُ: (مَا بَال عَيْنَيْك مِنْهَا المَاء ينسكب ... كَأَنَّهُ من كلى مفريةٍ سرب) فَقَالَ لَهُ: بل عَيْنك وَقد كَانَ المتنبي افْتتح قصيدته الهائية الَّتِي يمدح بهَا عضد الدولة

وأنشده اياها بقوله: (أوه بديل من قولتي واها ... لمن نأت والْحَدِيث ذكرَاهَا) فَقَالَ لَهُ: أوه وكيه وَقد كَانَ قَالَ فِي قصيدته الكافية الَّتِي ودعه بهَا: (وَأما شِئْت يَا طرقي فكوني ... أذاة أَو نجاة أَو هَلَاكًا) فَقَالَ عضد الدولة: يُوشك ان يصاب فِي طَريقَة فَكَانَت منيته فِيهِ وَيُقَال انه دخل على الدَّاعِي الْعلوِي شَاعِر فِي يَوْم مهرجان فأنشده: (لَا تقل بشرى وَلَكِن بشريان ... غرَّة الدَّاعِي وَوجه المهرجان)

فبطحه وضربه خمسين عَصا وَقَالَ: اصلاح أدبه أبلغ فِي ثَوَابه وَكَانَ إِسْمَاعِيل بن عباد أنْشد عضد الدولة فِي وُرُوده إِلَى حَضرته بهمذان قصيدة بائيه لقبت " اللاكنية " لقَوْله فِي ابتدائها: (اشبب لَكِن بالمعالي أشبب ... وانسب لَكِن بالمفاخر انسب) (ولي صبوة لَكِن إِلَى حَضْرَة الْعلي ... وَبِي ظمأ لَكِن من الْعِزّ أشْرب) وَيَقُول فِيهَا فِي ذكر أبي تغلب بن حمدَان (ضممت على أَبنَاء تغلب تأيها ... فتغلب ماكر الجديدان تغلب) فتطير عضد الدولة من مواجهته إِيَّاه بتغلب وَقَالَ: يَكْفِي الله وَهَذِه أُمُور وَإِن قلت وصغرت فلهَا تَأْثِير فِي الصُّدُور وموقع من استشعار السوء أَو السرُور. وسبيل الحازم أَن يتيقظ فِيهَا، ويتحفظ مِنْهَا وَمَا أحسن مَا قَالَ ابْن الرُّومِي، وَقد قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم الزّجاج: أَرَاك تكْثر التفاؤل والطيرة فَمَا اعتقادك فِي ذَاك قَالَ: الفأل لِسَان الزَّمَان والطيرة عنوان الْحدثَان. وأياك وان يَدْعُوك انسك بالسلطان وانبساطك مَعَه إِلَى التَّقْصِير بِهِ أَو الإدلال عَلَيْهِ وخذه فِي الْمُعَامَلَة باستشعار الهيبة وَاسْتِعْمَال المراقبة وزده من الإعظام والكرامة مَعَ تَأَكد الْحُرْمَة

وتمادي المصاحبة ودع التبجح بكفاية ان كَانَت فِيك أَو الْمُطَالبَة بِمَا تَقْتَضِيه آمالك ودواعيك فَإِن زِيَادَة الدَّالَّة مفْسدَة للْحُرْمَة ومواصلة الإستزادة مجلبة للبغضة وَقد حُكيَ ان الْمَأْمُون صلوَات الله عَلَيْهِ عرض على الْمُعَلَّى بن أَيُّوب عملا يقلده إِيَّاه فاستعفاه مِنْهُ فَقَالَ لَهُ: الخائن أسهل أمرا عَليّ من الْأمين، لِأَنَّهُ لَا يدل وَلَا يتسحب. وَقَالَ الْمَنْصُور، صلوَات الله عَلَيْهِ فِي أبي مُسلم (2) ، أدل فأمل واوجف فأعجف وَقَالَ فِي خطبَته يذكرهُ: وَلم يمنعنا وجوب الْحق لَهُ من إِيجَاب الْحق عَلَيْهِ. وَحدث عبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر قَالَ: كنت بِحَضْرَة عبيد الله بن سُلَيْمَان فَرمى إِلَى برقعة وَقَالَ: أما ترى هَذَا التَّصْرِيح والتهجين الْقَبِيح فَنَظَرت فِيهَا فَوَجَدتهَا رقْعَة حمد بن مُحَمَّد الْكَاتِب وَقد ضمنهَا: (بَيْننَا حُرْمَة وعهد وثيق ... وعَلى بَعْضنَا لبَعض حُقُوق) (فاغتنم فرْصَة الزَّمَان فَمَا يدْرِي ... مطيق منا مَتى لَا يُطيق) فَقلت: الْوَزير أيده الله مُنْتَهى الآمال وحقيق بِالْإِحْسَانِ والأفضال قَالَ: إِلَّا ان الدَّالَّة رُبمَا أخرجت إِلَى الْخرق وغيرت

جميل الْخلق قلت: وَلَيْسَت دَالَّة ذَوي الانس مُوجبَة غَضبا وَلَا قَاطِعَة سَببا وَمن شيم الفاضلين الْإِحْسَان إِلَى الخدم المؤملين وَمَتى أَرَادَ الْوَزير ان يكْتب شَيْئا بِحَضْرَة الْخَلِيفَة إِذا أمره بِهِ فقد كَانَت الْعَادة جَارِيَة بِأَن يكون فِي خف الْوَزير أَو الْكَاتِب دَوَاة لَطِيفَة بسلسلة ودرج ومطينة فِيهَا أساحي وطين فَإِذا أَرَادَ ان يكْتب علق الدواة فِي يَده الْيُسْرَى وَأمْسك الدرج بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَإِذا فرغ أصلح الْكتاب وأسحاه وَوضع الطين عَلَيْهِ وختمه وأنفذه. وَقيل: إِن الواثق بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِ آلى على نَفسه ليقْتلن مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات مَتى قدر عَلَيْهِ وأفضى الْأَمر إِلَيْهِ وَذَاكَ

لقبيح عَامله مُحَمَّد بن عبد الْملك بِهِ وَالْخَبَر مَشْهُور فِيهِ فَلَمَّا تقلد الْخلَافَة وَأَرَادَ ان يكْتب كتابا فَأمر كِتَابه مَا خلا مُحَمَّد بن عبد الْملك بِأَن يقرروا نسخته لَهُ فَكتب كل مِنْهُم بِمَا لم يُوَافق مَا فِي نَفسه وَدخل مُحَمَّد بن عبد الْملك وَهُوَ على جملَة اعْتِقَاده فِي النبو عَنهُ واعتزام السوء فِيهِ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ يَا مُحَمَّد فِي معنى كَذَا كتابا فَأخْرج دَوَاة ودرجا من خفه وَكتب بِمَا استوفى الْمَعْنى فِيهِ وَعرضه عَلَيْهِ فَكَانَ على مَا فِي نَفسه وَقَالَ لَهُ: انت الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ الْملك من هَاهُنَا وَوضع سبابته فِي أصل أُذُنه وَخرج إِلَيْهِ بِمَا فِي صَدره مِنْهُ وَقَالَ لَهُ: استبقاؤك والاحتفاظ بك أولى من إطاعة الحفيظة فِيك وَقد حَلَفت على مَا اعتقدته فِيك بِيَمِين هِيَ كَذَا فاطلب لي مخرجا ومخلصا مِنْهَا وَأطلق من مَالِي كل مَا أَبْرَأ بِهِ من الْحِنْث فِيهَا وَأقرهُ على وزارته وَكَانَ هَذَا الرَّسْم جَارِيا إِلَى ان تغير فِي أَيَّام المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ فَإِن المقتدر أَمر عَليّ بن عِيسَى ان يكْتب بِحَضْرَتِهِ كتابا عَنهُ باسقاط مَال

التكملة عَن أهل فَارس فَأخْرج من خفه الدواة اللطيفة الَّتِي ذَكرنَاهَا وعلقها بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَأخذ الدرج باليمنى وَرَآهُ المقتدر بِاللَّه وَقد شقّ ذَلِك عَلَيْهِ فَأمر بإحضار دواته وان يقف بعض الخدم مَعَه فيمسكها حَتَّى يفرغ من كِتَابَته وَكَانَ أول وَزِير أكْرم بِهَذَا ثمَّ صَار رسما للوزراء بعده. وَلَيْسَ من الْأَدَب ان يستسقى المَاء فِي دَار الْخلَافَة وَلَا من الرَّسْم ان يسقى هَذَا فِي عُمُوم النَّاس فَأَما الْخَواص فَرُبمَا فسح لَهُم فِي ذَاك على وَجه الْإِكْرَام وَالْأولَى أَلا يكون. وحَدثني إِبْرَاهِيم بن هِلَال جدي قَالَ: حضر المهلبي دَار الْمُطِيع لله رحمت الله عَلَيْهِ لأمر عرض فَإلَى ان يُؤذن لَهُ ويصل مَا استسقى مَاء وَتَأَخر إِلَى ان دخل إِلَى حَضرته وَخرج وَنزل إِلَى طياره ولحقه خَادِم مَعَه غُلَام تركي وضيء الْوَجْه حسن الثِّيَاب وَفِي يَده شرابي ذهب فِيهِ كوز بلور وَعَلِيهِ منديل دبيقي وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى منديل شراب فَشرب المهلبي فَلَمَّا فرغ وَسلم الْكوز إِلَى الْغُلَام قَالَ الْخَادِم

للغلام: امْضِ مَعَ الْوَزير فَقَالَ: المهلبي: وَلم ذَاك قَالَ: لِأَنَّهُ لم تجر الْعَادة يَا سَيِّدي بِأَن يخرج عَن دَار الْخلَافَة شَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء وَيعود إِلَيْهَا وَقد رسم لي مَا فعلت وَلَا قدرَة لي على مُخَالفَته والغلام الْآن عنْدك وَمَا مَعَه لَك وأصعد المهلبي وَمَعَهُ جَمِيع ذَلِك وَمَا أليق هَذَا الْفِعْل بِأَفْعَال السّلف من هَذِه الشَّجَرَة الشَّرِيفَة فَإِن المكنى أَبَا عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى قَالَ: حج ضرار بن الْأَزْوَر فِي الْجَاهِلِيَّة فَرَأى مَتَاعا عِنْد بعض التُّجَّار فأعجبه وساومه فِيهِ وابتاعه مِنْهُ بِثَلَاثِينَ بَعِيرًا وَقَالَ لَهُ: أقِم لي ضمينا فَدخل إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام وَرَأى الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب صلوَات الله عَلَيْهِ فِي حلقه وَهُوَ بارع الْجمال فَقَالَ: من هَذَا قَالُوا: ابْن شيبَة الْحَمد الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فَأَتَاهُ وَقَالَ لَهُ: يَا ابْن شيبَة الْحَمد انا ضرار بن الإزور وَخَبره بِقِصَّتِهِ مَعَ التَّاجِر فَقَالَ: ايتني بِهِ

فَأَتَاهُ بِهِ وَضمن لَهُ الْإِبِل على أسنانها وَأخذ ضرار الْمَتَاع وَانْطَلق بِهِ ثمَّ جَاءَ بِالْإِبِلِ فَوجدَ التَّاجِر قد أَخذهَا من الْعَبَّاس فَجَاءَهُ وأعلمه إِحْضَاره الْإِبِل ليأخذها مَكَان مَا دَفعه عَنهُ فَقَالَ: انا أهل بَيت إِذا أخرجنَا من أَمْوَالنَا شَيْئا لم نرتجعه فشأنك بإبلك فَعَاد ضرار بهَا وَقَالَ: (آبت إِلَى الْحَيّ أدماء مزنمة ... لح محاجرها ورق وأعياس) (أفاءها ماجد الجدين ذُو فَخر ... ضخم دسيعته بِالْحَمْد مكاس) (مَا نَاب حَيّ من الْأَحْيَاء نَائِبه ... إِلَّا تحمل عَنْهَا ذَاك عَبَّاس) (فَتى قُرَيْش وَفِي الْبَيْت الرفيع بهَا ... واري الزِّنَاد مَا أصلد النَّاس)

قوانين الحجابة ورسومها

قوانين الحجابة ورسومها سَبِيل الْحَاجِب ان يكون نصفا مكتهلا قد أحكمته الْأُمُور وحنكته أَو شَيخا متماسكا قد عجمته الدهور وعركته وَله عقل وحزم يدلانه على صَوَاب مَا يَأْتِي وَمَا يذر فَهُوَ صبحان لَهُ مسالك مَا يُورد ويصدر وان يرتب الْحَوَاشِي فِيمَا يتولونه ترتيبا لَا يُجَاوز بِكُل مِنْهُم فِيهِ حَده وَلَا يحملهُ مَا لَا يطيقه ثمَّ يراعيهم مُرَاعَاة تدعوهم إِلَى التَّحَرُّز فِي الْأَفْعَال والتحفظ فِي الْأَعْمَال ومداومة الْخدمَة من غير إخلال وملازمة الحشمة من غير استرسال. وحَدثني إِبْرَاهِيم بن هِلَال جدي قَالَ: حَدثنِي جَعْفَر بن وَرْقَاء الشَّيْبَانِيّ قَالَ: كنت فِي أَيَّام المعتضد رحمت الله عَلَيْهِ مَعَ

نظرائي من أَوْلَاد الْأُمَرَاء والقواد مرسومين بالْمقَام فِي الدَّار على رسم الْخدمَة بنوائب كَانَت لنا وَكُنَّا نَجْتَمِع فِي حجرَة نستريح فِيهَا بعد انْقِضَاء الْخدمَة وانصراف الموكب فننزع خفافنا وَنَضَع عمائمنا عَن رؤوسنا وَنَلْعَب بالشطرنج والنرد فَاطلع علينا أحد أَصْحَاب الْإِخْبَار فِي الدَّار فَكتب بخبرنا إِلَى المعتضد بِاللَّه وَنحن لَا نعلم فَلم يبعد ان خرج خَادِم صَغِير من خَواص الخدم وَفِي يَده الْفَصْل الْمَرْفُوع فِي أمرنَا وعَلى ظَهره توقيع بِخَط المعتضد بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِ حكايته: يستصفعون وَمَا لَهُم من صَافح فسلمه إِلَى خَفِيف السَّمرقَنْدِي الْحَاجِب وصنع الله لي ان لم يكن ذَلِك فِي يَوْم نوبتي فحين وقف على الْفَصْل والتوقيع انزعج ونهض واستدعى من كَانَ فِي النّوبَة فَضرب كل وَاحِد مِنْهُم عدَّة مقارع فَمَا رئي بعد ذَلِك إِلَّا لَازم للتوفر على الْخدمَة متجنب للتبذل وَحدث ابْن دهقانة النديم قَالَ: شرب المعتصم بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِ دَوَاء فَلَمَّا خرج مِنْهُ دَعَا بصينية ذهب فِيهَا رَطْل بلور

فِي جلاب يُغير بِهِ المَاء فَوضع بَين يَدَيْهِ وَدخل إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم المصعبي وَجَاء وصيف فَاسْتَأْذن لجَماعَة من الْقُضَاة لأمر احْتِيجَ إِلَى حضورهم فِيهِ فَأذن المعتصم فِي دُخُولهمْ فَقَالَ لَهُ إِسْحَاق: لَا تَأذن لَهُم ثمَّ قَالَ لمارد الْخَادِم: أرفع هَذَا الشَّرَاب من بَين يَدي أَمِير الْمُؤمنِينَ فرفعه وَقَالَ لايتاخ: ايذن لَهُم الْآن فَدخل الْقَوْم ثمَّ خَرجُوا وَقَالَ إِسْحَاق لَا يتاخ ارْدُدْ شراب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَرده وَأنكر المعتصم فعله وَقَالَ لَهُ: مَا حملك على خلافي وَإِنَّمَا هُوَ جلاب أردْت تَغْيِير المَاء بِهِ فَقَالَ: مَا أردْت خِلافك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلَكِنَّك الإِمَام الَّذِي يُقيم الْحُدُود ويغير الْمُنكر وَشَهَادَة هَؤُلَاءِ الْقُضَاة تضرب الْأَعْنَاق وبمشورتهم تعقد الْأُمُور وَلَو رَأَوْا الشَّرَاب بَين يَديك لم يقدم أحد على ان يَسْأَلك عَنهُ أَو يستشتك فِيهِ ولقال وَاحِد: جلاب وَقَالَ آخر: خمر فعدو يُحَقّق الظنة وَولي يدْفع ذَلِك وَقد قيل: ادْفَعْ مَا يريب إِلَى مَا لَا يريب قَالَ: أصبت يَا أَبَا الْحسن ووفقت وَكَانَ مُحَمَّد بن عمر بن يحيى الْعلوِي حضر دَار الْمُطِيع رحمت الله عَلَيْهِ فِي أَيَّام شرف الدولة وَمَعَهُ نحرير الْخَادِم وَمُحَمّد بن الْحسن بن صالحان الْوَزير إِذْ ذَاك وَابْن الْخياط صَاحب

ديوَان الرسائل وَالْحسن بن مُحَمَّد بن نصر صَاحب ديوَان الْخَبَر والبريد وَكلهمْ بِالسَّوَادِ سوى مُحَمَّد بن عمر فَإِنَّهُ كَانَ ببياض فَخرج إِلَيْهِم مؤنس الفضلي الْحَاجِب وَقَالَ لمُحَمد بن عمر لَيْسَ هَذَا اللبَاس أَيهَا الشريف لِبَاس الدَّار وَلَا حضورك حُضُور من يُرِيد الْوُصُول فَقَالَ لَهُ: كَأَنَّك أنْكرت الْبيَاض قَالَ: نعم قَالَ: هَذَا زيي وزي آبَائِي قَالَ: مَا الْأَمر على هَذَا وَلَا رَأَيْت أحدا من أسلافك دخل هَذِه الدَّار إِلَّا بِالسَّوَادِ وَلَقَد حضر عمر بن يحيى

أَبوك عندنَا فِي أَيَّام الْمُطِيع لله رحمت الله عَلَيْهِ لتقرير أَمر الْحَاج وَمن يخرج مَعَه وَهُوَ بسواد اسود فَقَالَ: مَا معنى سَواد أسود قَالَ لَهُ: سَواد مصبوغ وإنني لأذكره وَقد عرق والسواد يجْرِي على جَبينه وَهُوَ يمسحه بشستجه فِي يَده قَالَ لَهُ مُحَمَّد بن عمر: فَمَا الَّذِي تريده أَيهَا الْحَاجِب قَالَ: ان تغير هَذِه اللبسة وَتفعل مَا جرت بِهِ الْعَادة قَالَ: أَو انْصَرف قَالَ: الِاخْتِيَار إِلَيْك وَقَامَ مُحَمَّد بن عمر وَنزل إِلَى زبزبة وَانْصَرف إِلَى دَاره ووجمت الْجَمَاعَة مِمَّا جرى وَعَجِبت مِنْهُ حَدثنِي بذلك عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن حَاجِب النُّعْمَان. وَمِمَّا يُنكر دُخُول الدَّاخِل إِلَى دَار الْخلَافَة بنعل أَو خف أَحْمَر ولالكة حَمْرَاء لِأَن الْأَحْمَر لِبَاس الْخَلِيفَة وَبعده الْخَوَارِج عَن الطَّاعَة وَاتفقَ ان دخل ابْن أبي الشَّوَارِب القَاضِي وَكَانَ من جلة الْقُضَاة وَمِمَّنْ يرجع بنسبه إِلَى بني أُميَّة دَار الْمُطِيع لله رحمت الله عَلَيْهِ بخف أَحْمَر وَرَآهُ المكني أَبَا الْحسن بن أبي عَمْرو الشرابي الْحَاجِب وَكَانَت بَينهمَا عَدَاوَة فَقَالَ لَهُ: تَأتي أَيهَا القَاضِي إِلَى خَليفَة آبَائِك فِي العناد والمباينة يَا غُلَام انْزعْ خفه وأعل بِهِ

رَأسه وتناوله من الْمَكْرُوه قولا وفعلا بِمَا اسرف فِيهِ وَعرف الْمُطِيع لله ذَلِك فَلم يُنكره وَانْصَرف ابْن أبي الشَّوَارِب إِلَى دَاره فاحتجب فِيهَا وَلم يخرج مِنْهَا حَيَاء وكمدا وَكَانَت وَفَاته عقيب هَذِه الْقِصَّة وحَدثني إِبْرَاهِيم بن هِلَال جدي قَالَ حَدثنِي المكني أَبَا عَليّ الْحسن بن مُحَمَّد الانباري قَالَ: كنت أخط بَين يَدي دلوية الْكَاتِب وَهُوَ يتَوَلَّى كِتَابَة سَلامَة أخي نجح الملقب فِي أَيَّام القاهر بِاللَّه بالمؤتمن وسلامة إِذْ ذَاك حَاجِب القاهر بِاللَّه وَكنت أَجْلِس فِي دهليز بَاب الْخَاصَّة الَّذِي يَلِي دجلة من دَار السُّلْطَان فأخدم صَاحِبي فِيمَا يستخدمني فِيهِ فَإِنِّي لجالس مُتَعَلق على دكة هُنَاكَ إِذْ جعلت إِحْدَى رجْلي على الْأُخْرَى وَكَانَ بإزائي صديق لي من خلفاء الْحجاب يودني ودا شَدِيدا فَوَثَبَ إِلَى وَضرب رجْلي ضَرْبَة مؤلمة بعصا كَانَت فِي يَده فَقُمْت مذعورا فَقَالَ: يَا أَبَا عَليّ اعرف لي مَوضِع مسامحتي اياك وَوَاللَّه لَو ان هَاهُنَا من أَتَخَوَّف ان يرفع الْخَبَر لما قدرت على مسامحتك فَقلت: وَأي شَيْء انكرت مني وَبِأَيِّ شَيْء سامحتني فَقَالَ: نَحن مأمورون إِذا رَأينَا أحدا من النَّاس كلهم قد جلس فِي دَار السُّلْطَان هَذِه الجلسة الَّتِي جلستها وَوضع إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى بِأَن تجر رجله من مَوْضِعه حَتَّى

نخرجهُ من حَرِيم الدَّار ونهاني عَن المعاودة إِلَى ذَلِك وَعَن ان أكشف رَأْسِي أَو أتبذل أَو أمزح أَو أرفث فِي شَيْء من تِلْكَ الْمَوَاضِع فشكرته على مَا عاملني بِهِ وأرشدني إِلَيْهِ. وحَدثني جدي: ان المكني أَبَا الْهَيْثَم حضر يَوْمًا فِي دَار عضد الدولة وَأخذ عمَامَته من رَأسه ووضعها بَين يَدَيْهِ وَرَآهُ بعض أَصْحَاب الْإِخْبَار فَكتب بِمَا كَانَ مِنْهُ وَخرج استاذ دَار فحزق بِهِ وَشَتمه وَأخذ الْعِمَامَة وَضرب بهَا رَأسه حَتَّى تقطعت قطعا ووكل بِهِ واعتقله فَسئلَ فِيهِ عضد الدولة وَقيل: هَذَا رجل محرور الرَّأْس وَلَا يَسْتَطِيع ترك الْعِمَامَة على رَأسه وانما فعل هَذَا لذاك لَا لجهل بأدب الْخدمَة فَبعد مراجعات مَا أَمر بِإِطْلَاقِهِ. وَلَيْسَ للحاجب ان يقبل على أحد مِمَّن يكون السُّلْطَان معرضًا عَنهُ وَلَا ان يرضى عَمَّن يكون السُّلْطَان ساخطا عَلَيْهِ وَلَا ان يوليه من الْبر وَالْإِكْرَام مَا كَانَ يوليه من قبل وَلذَلِك فعل نصر القشوري الْحَاجِب بحامد بن الْعَبَّاس مَا فعل وَقد كَانَ وزر وَذَاكَ

ان حامدا لما خَافَ من عَليّ بن مُحَمَّد بن الْفُرَات فِي وزارته الثَّالِثَة أصعد من وَاسِط إِلَى بَغْدَاد مستترا وَدخل دَار السُّلْطَان بزِي الرهبان متنكرا وَاسْتَأْذَنَ على نصر القشوري فَلَمَّا أوصله إِلَيْهِ وَرَآهُ نصر لم يقم إِلَيْهِ وَلَا وفاه من الْحق مَا كَانَ يُوفيه أَيَّاهُ، لكنه قَالَ: إِلَى أَيْن جِئْت قَالَ: جِئْت بكتابك قَالَ: إِلَى هَذَا الْموضع كاتبتك بِأَن تَجِيء وَاعْتذر إِلَيْهِ من تَقْصِيره بِهِ، وَقَالَ لَا يمكنني مَعَ مَا أعرفهُ من تنكر الْخَلِيفَة عَلَيْك ان أتجاوز مَا وقفت عِنْده. وَإِذا اتّفق يَوْم الموكب حضر حَاجِب الْحجاب بأكمل لِبَاسه من القباء الْأسود المولد والعمامة السَّوْدَاء وَالسيف والمنطقة وقدامه الْحجاب وخلفاؤهم وَجلسَ فِي الدهليز من وَرَاء السّتْر وَحضر الْوَزير وأمير الْجَيْش وَمن لَهُ رسم فِي حُضُور الموكب فَإِذا تَكَامل النَّاس راسل الْخَلِيفَة بِذَاكَ فَإِن أَرَادَ ان يَأْذَن الْإِذْن الْعَام خرج الْخَادِم الحرمي الرسائلي فاستدعى حَاجِب الْحجاب وَدخل وَحده حَتَّى يقف فِي الصحن وَيقبل الأَرْض ثمَّ يرسم لَهُ إِيصَال الْقَوْم على مَنَازِلهمْ فَيخرج وَيَدْعُو ولي الْعَهْد ان كَانَ فِي الْوَقْت ولي عهد وَأَوْلَاد الْخَلِيفَة ان كَانَ لَهُ ولد ثمَّ يدْخل الْوَزير

وَيَمْشي الْحجاب بَين يَدَيْهِ إِلَى ان يقرب من السرير فَإِذا قرب تَأَخَّرُوا عَنهُ وَيقدم الْوَزير بعد تَقْبِيل الأَرْض إِلَى ان يدنو من الْخَلِيفَة فَإِن شرفه بِمد يَده إِلَيْهِ، أَخذهَا وَقبلهَا وتراجع حَتَّى يقف عَن يمنه السرير على خمس أَذْرع مِنْهُ وَأدْخل بعده أَمِير الْجَيْش فَقبل الأَرْض ووقف يسرة السرير ثمَّ أَصْحَاب الدَّوَاوِين وَالْكتاب وأوصل القواد يقدمهم خلفاء الْحجاب على مَرَاتِبهمْ ودعوهم ووقفوا يَمِينا وشمالإ على رسومهم وَنُودِيَ ببني هَاشم وَمن يلبس الدنيات ويتقلد الصَّلَوَات فيقدمون إِلَى أول الْبسَاط ويسلمون ويقفون مفردين. ثمَّ يدعى الْقُضَاة فَيقدم مِنْهُم من يَلِي قَضَاء الْقُضَاة أَو قَضَاء الحضرة وَيَقَع الْإِذْن الْعَام حِينَئِذٍ فَيدْخل الْجند ويقومون صفّين بَين حبلين ممدودين فِي صحن السَّلَام جعل الْغَرَض مِنْهُمَا ان يمنعا من الازدحام والتضايق والاختلاط والتضاغط وان يُشَاهد الْخَلِيفَة من يدْخل بَينهمَا على بعد فَيعلم من هُوَ وَيكون ذَاك أروع وأهيب.

ومن الرسم ان يزم الناس فلا يسمع لهم صوت ولا لغط

وَمن الرَّسْم ان يزم النَّاس فَلَا يسمع لَهُم صَوت وَلَا لغط وحَدثني عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن حَاجِب النُّعْمَان: ان عضد الدولة راسل الطائع لله عِنْد اسْتِقْرَار مَا اسْتَقر من الْخلْع عَلَيْهِ وتلقيبه تَاج الْملَّة والعهد إِلَيْهِ بِولَايَة الْأُمُور وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَسِتِّينَ وثلثمائة وَقَالَ: أسأَل ان يكون دخولي دَار السَّلَام رَاكِبًا لأتميز تميزا يعرف بِهِ موضعي من زِيَادَة التكرمة وان يمد فِي وَجه الْخَلِيفَة ستارة لِئَلَّا يرَاهُ أحد قبل مثولي بَين يَدَيْهِ وَأَرَادَ بِهَذَا أَلا يرَاهُ النَّاس وَهُوَ يقبل الأَرْض فوعد بِمَا سَأَلَهُ وَعمل دون الْبَاب الَّذِي يدْخل مِنْهُ قطع بِأَجْر وطين فَلَمَّا دخل رَاكِبًا لم يُمكنهُ تجاوزه وَكَانَ تَرْتِيب الْأَمر ان جلس الطائع لله رحمت الله عَلَيْهِ على السرير فِي صدر السدلى من دَار السَّلَام فِي دست خَز أسود نَسِيج بِالذَّهَب وَحَوله من خدمَة الْخَواص نَحْو مائَة خَادِم بالزينة الْحَسَنَة والأقبية الملونة والمناطق وسيوف الحمائل المحلاة وبأيديهم الدبابيس والطبرزينات وَمن جَانِبي السرير الخدم الشُّيُوخ الصقالبة المطيعية وَمِنْهُم: خَالص وطريف وَبدر وأهيف وسابور

ورياض ومواهب وصلف إِلَى من دونهم وَفِي أَيْديهم الْمُذَاب وَبَين يَدَيْهِ مصحف عُثْمَان رحمت الله عَلَيْهِ وعَلى كَتفيهِ الْبردَة وَبِيَدِهِ الْقَضِيب وَهُوَ متقلد لسيف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَعَلِيهِ ثِيَاب سود وعَلى رَأسه رصافية وَضربت على الأساطين الْوُسْطَى ستارة ديباج أنفذها عضد الدولة لتَكون حِجَابا للطائع لله حَتَّى لَا تقع عَلَيْهِ عين لأحد من الْجند قبله ومدت الحبال فِي صحن السَّلَام على أعمدتها وَسبق الديلم والأتراك إِلَى الدُّخُول من غير ان يكون مَعَ أحد مِنْهُم حَدِيدَة فضلا عَن غَيرهَا ووقف الديلم من الْجَانِب الْأَيْسَر والأتراك من الْجَانِب الْأَيْمن، والأشراف والقضاة وَأَصْحَاب الْمَرَاتِب فِي الصحن دون الأساطين من الْجَانِبَيْنِ على مَرَاتِبهمْ وحجاب الْخَلِيفَة إِذْ ذَاك مؤنس الفضلي ووصيف وَأحمد بن نصر العباسي وخلفاؤهم ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ وجميعهم بالأقبية السود

المولدة وَالسُّيُوف والمناطق المشمرة وحجاب عضد الدولة قيام فِي مقدم الحبال من الْجَانِبَيْنِ ثمَّ أُوذِنَ الطائع لله لعضد الدولة فَأذن لَهُ فحين أحسن بِدُخُولِهِ الصحن أَمر بِرَفْع الستارة فَرفعت وَوَقع طرفه على عضد الدولة فَقَالَ لَهُ مؤنس ووصيف وَقد تلقياه ومشيا بَين يَدَيْهِ: قد رآك أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقبل الأَرْض فَفعل وأخذا بعضديه وَكرر ذَلِك مرَارًا إِلَى ان قرب مِنْهُ وَمن جانبيه المطهر بن عبد الله وَعبد الْعَزِيز بن يُوسُف ووراءه جِبْرِيل بن مُحَمَّد ومُوسَى ودرنتا شيري وَالْحسن بن إِبْرَاهِيم وأسفار بن كردويه وزيار بن شهراكويه وَمُحَمّد بن الْعَبَّاس ووكيد بن سُلَيْمَان فَقيل ان زيار بن شهراكويه أكبر تَقْبِيل عضد الدولة الأَرْض وَقَالَ: هَذَا هُوَ الله وسَمعه عضد الدولة فَقَالَ لعبد الْعَزِيز بن يُوسُف: عرفه انه خَليفَة الله فِي أرضه وَوصل عضد الدولة إِلَى بَاب السدلي بَين السماطين وَمَا يَتَحَرَّك أحد مِمَّن وَرَاء الحبلين وَكَانَ مرجان الْخَادِم وَاقِفًا فِي الصحن وَبِيَدِهِ قَوس جلاهق حَتَّى إِذا طَار غراب أَو نعب رَمَاه وَمنعه وَلما انْتهى عضد الدولة إِلَى بَاب السدلى الْتفت الطائع لله إِلَى خَالص وَقَالَ لَهُ: استدنه فصد عضد الدولة العتبة وَقبل الأَرْض دفعتين فِي عرض السدلى وَقَالَ لَهُ الطائع: أدن

إِلَيّ فَدَنَا وأكب على تَقْبِيل يَده وَرجله فَثنى الطائع عَلَيْهِ يَمِينه وَكَانَ بَين يَدي سَرِيره مِمَّا يَلِي الْجَانِب الْأَيْمن الْكُرْسِيّ المربع المغشى بالأرمني برسم جُلُوس الْأُمَرَاء فَقَالَ لَهُ: أَجْلِس فَأَوْمأ وَلم يفعل حَتَّى قَالَ لَهُ: أَقْسَمت عَلَيْك لتجلسن فَقبل الْكُرْسِيّ وَجلسَ وَقَالَ لَهُ الطائع: مَا كَانَ أشوقنا إِلَيْك وأتوقنا إِلَى مفاوضتك فَقَالَ: عُذْري ظَاهر بِحَضْرَة مَوْلَانَا فَقَالَ نيتك موثوق بهَا وعقيدتك مسكون إِلَيْهَا فأموأ بِرَأْسِهِ وَقَالَ الطائع لله: قد رَأَيْت ان أفوض إِلَيْك مَا وَكله الله تبَارك وَتَعَالَى إِلَيّ من أُمُور الرّعية فِي شَرق الأَرْض وغربها وتدبيرها فِي جَمِيع جهاتها سوى خاصتي واسبابي وَمَا تحويه دَاري فتول ذَلِك مستخيرا لله فِيهِ فَقَالَ عضد الدولة: يُعِيننِي الله على طَاعَة مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وخدمته ثمَّ قَالَ عضد الدولة: أُرِيد المطهر وَعبد الْعَزِيز بن يُوسُف ووجوه القواد الَّذين دخلُوا معي ليسمعوا لفظ أَمِير الْمُؤمنِينَ بِمَا شرفني بِهِ وَكَانُوا قد وقفُوا صفا وَاحِدًا دون العتبة بَين سماطي أَصْحَاب الْمَرَاتِب فأدنوا وَقَالَ الطائع: وهاتوا الْحُسَيْن بن مُوسَى وَمُحَمّد بن عمر وَابْن مَعْرُوف وَابْن أم شَيبَان والزينبي فقربوا وتكللوا وَرَاء عضد الدولة وَأعَاد الطائع لله

القَوْل فِي التَّفْوِيض إِلَيْهِ والتعويل عَلَيْهِ ثمَّ الْتفت إِلَى طريف الْخَادِم فَقَالَ: يَا طريف: تفاض عَلَيْهِ الْخلْع ويتوج فَنَهَضَ عضد الدولة وَحمل إِلَى الرواق الَّذِي يَلِي السدلي وَدخل مَعَه عبد الْعَزِيز بن يُوسُف وخرشيد بن زيار بن مافنة الخازن وَأَرْبَعَة نفر من الثيابيين وألبس الْخلْع وَعصب عَلَيْهِ التَّاج وأرخيت إِحْدَى ذؤابتيه الْمَنْظُومَة بالجوهر الْجَلِيل الفاخر وَعَاد يتهادى من ثقل مَا عَلَيْهِ من الْخلْع والحلى فَأَوْمأ ليقبل الأَرْض وَلم يسْتَطع فَقَالَ لَهُ الطائع لله: حَسبك حَسبك وَأمره بِالْجُلُوسِ على الْكُرْسِيّ وَجلسَ ثمَّ استدعى الطائع لله من مؤنس الفضلي تَقْدِيم ألويته وَكَانَ ذَلِك إِلَيْهِ فَقدم اللواءين أَحدهمَا على الْمشرق وَالْآخر على الْمغرب فاستخار الطائع لله الله تبَارك وَتَعَالَى وَصلى على رَسُوله وعقدهما وأعادهما إِلَى يَد مؤنس ثمَّ قَالَ: يقْرَأ كِتَابه فقرأه عبد الْعَزِيز بن يُوسُف فَلَمَّا فرغ مِنْهُ قَالَ لَهُ الطائع لله: خار الله لنا وَلَك وللمسلمين آمُرك بِمَا أَمرك الله بِهِ وانهاك عَمَّا نهاك عَنهُ وَأَبْرَأ إِلَى الله مِمَّا سوى ذَلِك انهض على اسْم الله وادن إِلَيّ فَدَنَا إِلَيْهِ وَأخذ الذؤابة المرخاة فعقدها على التَّاج فِي مَوضِع كَانَ قد أعد لعقدها وَذَلِكَ لمسألة تقدّمت من عضد الدولة وموافقة ثمَّ أَخذ الطائع لله سَيْفا كَانَ بَين المخدتين اللَّتَيْنِ تليانه بجفن أسود وَحلية فضَّة فقلده اياه مُضَافا إِلَى السَّيْف الَّذِي قَلّدهُ مَعَ الخلعة فَلَمَّا أَرَادَ عضد الدولة ان ينْصَرف راسل الطائع لله وَقَالَ: إِنِّي اتطير ان أرجع على عَقبي وأسأل ان يتَقَدَّم بِفَتْح هَذَا الْبَاب لي وَأَوْمَأَ إِلَى الْبَاب الدواري المنفتح من السدلي إِلَى الحدائق وَكَانَ للحدائق بَاب ينفتح إِلَى دجلة فَأذن فِي ذَلِك قَالَ ابْن حَاجِب النُّعْمَان: وشوهد فِي الْحَال نَحْو

ثلثمِائة صانع قد أعدُّوا حَتَّى هيئ للْفرس مسقال قدم عَلَيْهِ إِلَيْهِ والطائع لله يرَاهُ وَركب وَسَار وَحده رَاكِبًا وَسَائِر الْجَيْش يَمْشُونَ فِي طول الرقة بَين الشوك والدغل إِلَى ان خرج من بَاب الْخَاصَّة ثمَّ ركب القواد والجند من هُنَاكَ وَسَار فِي الْبَلَد. فَأَما مَرَاتِب النُّزُول وَالرُّكُوب من الدّور والأبواب فلهَا حُدُود يعرفهَا البوابون وَيَأْخُذُونَ النَّاس بِالْوُقُوفِ عِنْدهَا وَترك تجاوزها وعَلى خلفاء الْحجاب والبوابين ان يمنعوا الْجند من دُخُول الدَّار بسلاح إِلَّا من كَانَ برسمها من الخدم والغلمان الدارية وَمن أذن لَهُ فِي ذَاك وَأُرِيد مِنْهُ وَلَيْسَ لأحد ان يجلس فِي دَار الْخلَافَة على كرْسِي إِلَّا حَاجِب الْحجاب وأمير الْجَيْش.

ولمسايرة الخلفاء في المواكب أدب

ولمسايرة الْخُلَفَاء فِي المواكب أدب حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن هِلَال جدي فِيهِ بِمَا قَالَ: حَدثنِي سِنَان بن ثَابت جدي قَالَ: كَانَ وَالِدي ثَابت من أعرف النَّاس برسوم خدمَة الْخُلَفَاء فَكنت أرَاهُ فِي أَسْفَاره مَعَ المعتضد بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ إِذا استدعاه إِلَى مسايرته وَأمره بمحادثته يخرج عَلَيْهِ فِي المسايرة حَتَّى يكون كالسابق لَهُ قَلِيلا فَظَنَنْت أَولا انه فعل ذَلِك سَهوا إِلَى ان كثر كَثْرَة علمت بهَا انه متعمد لَهُ فَسَأَلته عَن السَّبَب فِيهِ فَقَالَ لي: يَا بني ان من الإدب الْمَأْخُوذ على من أَهله الْخَلِيفَة لمسايرته ومطاولته فِي مواكبه ان يكون مركوبه مُخْتَارًا سليما من المعايب الَّتِي تعرض فِي المسايرة فَإِنَّهُ ان كَانَ كثير اللعاب أَو كثير الْعَبَث بِرَأْسِهِ أَو مداوما للصهيل والشغب أَو مُعْتَادا للحران والتحصن لم يصلح ان يُسَايِر الْخَلِيفَة على مثله وَلأَجل ذَاك يخْتَار الإتباع مسايرة رُؤَسَائِهِمْ على البغلات الطاهرات الْأَخْلَاق نعم وَمن أدب المسايرة للخلفاء والكبراء ان يكون التَّابِع سائرا من تَحت الرّيح ليَكُون الرئيس فِي أَعْلَاهُ فَلَا يتَأَذَّى بالغبار الَّذِي يثيره الْحَافِر وَلَا بروائح الروث وان يَأْخُذ أَيْضا الْجَانِب الَّذِي يُقَابل الشَّمْس ليَكُون الْخَلِيفَة والرئيس الَّذِي يسايره مستدبرا لَهَا وان يخرج عَلَيْهِ فِي المسايرة شَيْئا يَسِيرا كَمَا تراني أفعل ليَكُون هُوَ الملتفت إِلَيْهِ وَلَا يكلفه الِالْتِفَات حَتَّى إِذا انْقَضى مَا يُخَاطب فِيهِ وَأَرَادَ التباعد عَنهُ تقدم وَكَانَ فِي أَوَائِل موكبه مَتى احْتَاجَ إِلَيْهِ استدعاه من أَمَامه وَلم يتجشم التَّوَقُّف على انْتِظَاره.

وَكَانَ عضد الدولة عِنْد قدومه إِلَى الحضرة فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلثمائة وانهزام الأتراك المعزية وَخُرُوج الطائع رحمت الله عَلَيْهِ مَعَهم وخلو دَار الْخلَافَة أحب ان يشاهدها ويستقرئ أبنيتها ومجالسها ودورها وصحونها ودواخلها وغوامضها فَصَارَ إِلَيْهَا وطافها موضعا موضعا وَبَين يَدَيْهِ مؤنس الفضلي الْحَاجِب يرِيه شَيْئا شَيْئا ويعرفه مَكَانا مَكَانا حَتَّى إِذا انتهي إِلَى دَار السِّرّ المرسومة بِالْحرم وقف مؤنس وَقَالَ هَذَا أَيهَا الْملك مَوضِع مَا طرقه فَحل غير الْخُلَفَاء وَالْأَمر أَمرك فِي دُخُوله أَو تَركه على مَا جرى بِهِ رسمه فَقَالَ: ارْجع بِنَا عَنهُ وتجاوزه وَلم يدْخلهُ فَكَانَ أدب مؤنس فِي الْوُقُوف الَّذِي وَقفه أفضل أدب وَفعل عضد الدولة فِي الْعُدُول عَنهُ أحسن فعل. وأياك مُرَاجعَة السُّلْطَان قولا عِنْد التغضب واستكراهه على اللين اثر التصعب فَإِن المحاجة دَاعِيَة اللجاجة والحرص على الصّلاح فِي غير أَوَانه باعث على قُوَّة الْفساد وتطاول زَمَانه وَعَلَيْك بِالصَّمْتِ عِنْد الفورة والحصر عِنْد النعرة واجتهد فِي الْبعد عَن عيانه عِنْد بَوَادِر لَفظه وشوارق غيظه وانتظر فِي ايراد عذرك وان كنت واثقا بِهِ سُكُون صَدره من توهجه وخلو قلبه من توقده ثمَّ أت بِهِ لطيفا يكون غرضك فِيهِ زَوَال الشُّبْهَة لَا الإدلال بِبَرَاءَة الساحة فَإِن الْعذر الْخَالِي من اللطف شَرّ من الذَّنب الْخَالِي من الْعذر واسلك فِي الاستعطاف سَبِيل الرِّفْق من غير إكثار فِي المعاودة وَلَا كد بالشفاعة فالعود على مَحْمُود الْعَاقِبَة مَا كَانَ عَن نِيَّة طَائِعَة وأرادة صَادِقَة وَأحذر زلات قَوْلك وفلتاته وعاص مَا يتملكك من شهواته ولذاته وَاجعَل جوابك عَمَّا تراعى عواقبه وَتخَاف بوائقه إِشَارَة لَا إفصاحا

وتعليلا لَا إغراقا فَإنَّك على قَول لم تقله أقدر مِنْك على رد مَا قلته وَاحْتمل هجنة العي فِي هَذَا الْمقَام فانها هجنة مَأْمُونَة وان لم تكن على الْحلم مَحْمُولَة لم تكن إِلَى الْعَجز معدولة وَقيل لأرسطاطاليس: مَا أصعب شَيْء على الانسان قَالَ: الصمت وَاحْذَرْ عِنْد لِقَاء سلطانك انبساط الدَّالَّة أَو انقباض الهيبة فَإِن ذَاك يَدْعُو إِلَى الاسترسال فِيمَا يجب التَّحَرُّز مِنْهُ وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَال بِمَا يجب الْقيام بِهِ وَكن فِي الْأَمريْنِ متوسطا وَمن عَثْرَة الهجوم وغفلة الإحجام متحفظا وَلَا تعول لصاحبك وكفايتك على الِاعْتِذَار فَقل عَاجز إِلَّا وَله عذر يصوغه وَقل كَاف إِلَّا وَله عائق يعوقه وَإِنَّمَا تتبين الكفاة فِي مغالبة الْعَوَائِق ومعاصاة الْمَوَانِع وَاحْذَرْ ان يوردك موارد المزح إِلَى مَا يغِيظ السُّلْطَان مِنْك وَاجعَل حِكَايَة مَا تحكيه لَهُ وَإِشَارَة مَا تضحكه بِهِ عائدتين عَلَيْك دونه وَلَا يحملك مَا ترَاهُ من ضحكة على الإستمرار فِيمَا حذرك مِنْهُ فَرُبمَا أظهر قبولا من وَرَاء تكره ورضى من أثْنَاء تسخط وَمَتى أَعْطَاك برا فَلَا تستقصره أَو أولاك فضلا فَلَا تستصغره ودع الشكوى فَإِنَّهَا ثَقيلَة على السُّلْطَان والإلحاح فانه من اكبر دواعي الحرمان وَعَلَيْك بالشكر فَإِنَّهُ مَادَّة للإحسان وَالصَّبْر فَإِنَّهُ عدَّة للانسان وَكن أَصمّ عَمَّا تسمعه وأعمى عَمَّا تلحظه وكتوما لما تستحفظه وأمينا على مَا تحضره وَلَا تدخل فِي سر كَانَ مطويا عَنْك وَلَا تنصت إِلَى قَول كَانَ مَسْتُورا مِنْك. وحَدثني إِبْرَاهِيم بن هِلَال جدي قَالَ: حَدثنِي هِلَال أبي قَالَ: حَدثنِي إِبْرَاهِيم ابي قَالَ: كنت وَاقِفًا بَين يَدي المكتفي بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ وَهُوَ يفاوضني فِي بعض الْأُمُور إِذْ جرى ذكر ثَابت بن قُرَّة وسلامة طرائقه وَمَا كَانَ فِيهِ من أدب النَّفس فحدثنا خَادِم رومي كَانَ وَاقِفًا بَين يَدَيْهِ وأسماه وانسيت اسْمه قَالَ: دخلت إِلَى

المعتضد بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ لأخاطبه بسر كَانَ يراعيه من أَمر حرمه وَهُوَ يحادث ثَابتا ويشاوره فَبَدَأت أخاطبه بالرومية وَكَانَ المعتضد عَارِفًا بهَا فَخرج ثَابت مبادرا ورده المعتضد بِاللَّه وَقَالَ لَهُ: لم خرجت قبل ان يَنْقَطِع الْكَلَام بيني وَبَيْنك فَقَالَ: لانني أحسن الْكَلَام بالرومية وكرهت ان اسْمَع من سر أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا اعْتمد الْمُتَكَلّم بِهِ كِتْمَانه عني فَاسْتحْسن هَذَا الْفِعْل مِنْهُ وَزَاد استرجاحه إِيَّاه.

جلوس الخلفاء وما يلبسونه في المواكب ويلبسه الداخلون عليهم من الخواص وجميع الطوائف

جُلُوس الْخُلَفَاء وَمَا يلبسونه فِي المواكب ويلبسه الداخلون عَلَيْهِم من الْخَواص وَجَمِيع الطوائف الَّذِي جرت بِهِ الْعَادة ان يكون جُلُوس الْخَلِيفَة على كرْسِي مُرْتَفع فِي دست كَامِل أرمني أَو خَز وان يكون فرش جَمِيع الْمجَالِس أرمنيا فِي صيف وشتاء وَيكون لِبَاسه قبَاء مولدا اسود أما مصمتا أَو ملحما أَو خَزًّا فَأَما الديباج والسقلاطون أَو المنقوش فَلَا وَيجْعَل على رَأسه معممة سَوْدَاء رصافية ويتقلد سيف النَّبِي (صلى الله عَلَيْهِ) وَيجْعَل بَين مخدتي الدست عَن يسَاره سَيْفا آخر ويلبس خفا أَحْمَر وَيَضَع بَين يَدَيْهِ مصحف عُثْمَان رحمت الله عَلَيْهِ الْمَوْجُود إِذْ ذَاك فِي الخزائن

وعَلى كَتفيهِ بردة النَّبِي ويمسك بِقَضِيبِهِ وَيقف الغلمان الدارية والخدم الْخَاصَّة والبرانية من خلف السرير وحواليه متقلدين بِالسُّيُوفِ وَفِي أَيْديهم الطبرزينات والدبابيس وَيقوم من وَرَاء السرير وجانبيه خدم صقالبة يَذبُّونَ عَنهُ بالمذاب المقمعة بِالذَّهَب وَالْفِضَّة ويمد فِي وَجهه ستارة ديباج إِذا دخل النَّاس رفعت وَإِذا أُرِيد صرفهم مدت ورتب فِي الدَّار وبحيث يقرب من الْمجْلس خدم بِأَيْدِيهِم قسي البندق يرْمونَ بهَا الْغرْبَان والطيور لِئَلَّا ينعب ناعب أَو يصوت مصوت. فَأَما العباسيون من أَرْبَاب الْمَرَاتِب فزيهم السوَاد بالأقبية المولدة والخفاف وَلَهُم منَازِل فِي شدّ المناطق وَالسُّيُوف وتقلدها اللَّهُمَّ إِلَّا ان يكون مِنْهُم من قد ارتسم بِالْقضَاءِ فَلهُ ان يلبس الطيلسان وَأما قُضَاة الحضرة وَمن أهل للسواد من قُضَاة الْأَمْصَار والبلاد فبالقمص والطيالسة والدنيات والقراقفات وَقد تركت الدنيات والقراقفات فِي زَمَاننَا وَعدل إِلَى العمائم السود المصقولة وتطرف قوم فلبسوا الْقصب والخز الْأسود وَلَا أرى الْقصب إِلَّا ان يكون بِغَيْر طرز وَأما أَوْلَاد الانصار فبالثياب والعمائم الصفر وَلم يبْق مِنْهُم فِي هَذَا الْعَصْر كَبِير أحد.

وَأما الْأُمَرَاء والقواد فبالأقبية السود من كل صنف والعمائم على هَذَا الْوَصْف وَفِي أَرجُلهم الجوارب واللالكات السود مشدودة بالزنانير هَذَا حكمهم يُرَاعى أمره فَأَما من سواهُ فممنوعون من السوَاد محمولون على اختيارهم فِي الإلوان مَا خلا الإسترسال والتبذل وَترك القانون الأول.

خلع التقليد والولاية والتشريف والمنادمة

خلع التَّقْلِيد وَالْولَايَة والتشريف والمنادمة الَّذِي جرت بِهِ الْعَادة فِي خلع أَصْحَاب الجيوش وولاة الحروب: عِمَامَة مصمتة سَوْدَاء وَسَوَاد مصمت بجربان مبطن الْأَسْفَل مِنْهُ وَسَوَاد آخر مصمت بِغَيْر جربان وخز سوسي أَحْمَر ووشي مَذْهَب وملحم أَو مصمت خجي وقباء دبيقي وَسيف احتباء أَحْمَر حليته فضه بَيْضَاء وقبيعته على الْقَائِم طبرزينته وعَلى جفْنه فلك فضَّة وعَلى حمائله مثلهَا وحف أَبُو الْعَبَّاس وَرَاءه والحملان دَابَّة بسرج عَرَبِيّ رَكبه مربعة

ومركبه على الإختيار وَزيد أَصْحَاب الْفتُوح والآ ثار الطوق والسوارين وَالسيف والمنطقة وَصَارَ ذَلِك رسما لأمراء الحضرة فَلَمَّا ورد عضد الدولة وَملك الْعرَاق خلعت عَلَيْهِ الْخلْع الْمَذْكُورَة ورصع السواران والطوق بالجوهر وَترك على رَأسه التَّاج المرصع بالذوائب الْمَنْظُومَة بالجواهر وَقد كَانَ فعل ذَلِك بالافشين فِي أَيَّام المعتضد بِاللَّه وببدر المعتضدي فِي أَيَّام المكتفي بِاللَّه ومؤنس فِي أَيَّام المقتدر بِاللَّه وبابن يلبق فِي أَيَّام القاهر بِاللَّه وببجكم فِي أَيَّام الراضي بِاللَّه وبتوزون فِي أَيَّام المسكتفي بِاللَّه رحمت لله على الْخُلَفَاء الرَّاشِدين. وأضيف لعضد الدولة إِلَى اللِّوَاء الْأَبْيَض الَّذِي جرت بِهِ الْعَادة لأمراء الجيوش اللِّوَاء الْمَذْهَب الْمَخْصُوص كَانَ بولاة العهود وَقيل إِن أَحدهمَا

على الْمشرق وَالْآخر على الْمغرب وَحمل على فرس بمركب ذهب وجنب بَين يَدَيْهِ مثله ولقب تَاج الْملَّة مُضَافا إِلَى عضد الدولة فَكَانَ أول من تلقب بلقبين من الْأُمَرَاء وَقُرِئَ عَهده على الْمَلأ بِحَضْرَة الطائع لله وَكَانَت العهود من قبل تسلم إِلَى أَصْحَابهَا بِحَضْرَة الْخَلِيفَة وَيَقُول لَهُ: هَذَا عهدي إِلَيْك فاعمل بِهِ فَأَما اللِّوَاء فَيكون من حَرِير أَبيض وَيكْتب على أحد جانبيه بالحبر (لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ خَالق كل شَيْء وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير) ويبيض مَوضِع العقد فِي الْوسط وَفِي الْجَانِب الآخر: (مُحَمَّد رَسُول الله أرْسلهُ بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الَّذين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ) الْقَائِم بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ. وَأما حَدِيدَة اللِّوَاء فَيكْتب عَلَيْهَا من جَانب: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم لعبد الله عبد الله ابْن جَعْفَر الإِمَام الْقَائِم بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله (فَسَيَكْفِيكَهُم الله وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم) وَمن الْجَانِب الآخر (ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عَزِيز الَّذين إِن مكناهم فِي الأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَأتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر وَللَّه عَاقِبَة

الْأُمُور) . وَأما خلع الْوَزير فَمثل الثِّيَاب الْمَذْكُورَة من غير صياغة والحملان شَهْري بمركب مَذْهَب. وَأما خلع المنادمة فَكَانَت عِمَامَة وشي مذْهبه وغلالة ومبطنة ودراعة دبيقية وَتحمل مَعَ المخلوع عَلَيْهِ التحايا وَالطّيب. وحَدثني عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن حَاجِب النُّعْمَان قَالَ: لما خلع الطائع رحمت الله عَلَيْهِ على عضد الدولة ولقبه تَاج الْملَّة حمل إِلَيْهِ فِي الْيَوْم الثَّالِث قلنسوة وشي مَذْهَب مجالسية وفرجية

وشي كوفية مثقلة وغلالة قصب فِي منديل دبيقي وصينية ذهب وَزنهَا ثَمَانِي مائَة مِثْقَال ومغسل ذهب وَزنه مِائَتَا مِثْقَال وخرداذيا بلورا فِيهِ شراب تفاح نَاقص عَن ملئة كَأَنَّهُ مشروب مِنْهُ وعَلى فَم الخرداذي خرقَة حَرِير مشدودة بشرابة مختومة وكأسا وكوزا بسلسلة فِي صَدره بلورا وصينية أُخْرَى وَزنهَا خمس مائَة مِثْقَال فِيهَا خمس بنفسجيات ذَهَبا مشبكا مبطنة بِالْفِضَّةِ وَبَين الذَّهَب المشبك والبطانة الْفضة ند وفيهَا خمس شمامات مبخرة وصينية ذهب ثَالِثَة وَزنهَا خمس مائَة مِثْقَال فِيهَا خمس قطع بلورا فِي غلف خيزران من قحف وكوب

ونصفية وثلثية ونافج ودستا ديباجا حموليا منسوجا بِالذَّهَب كَامِلا بمساورة وَعَلِيهِ اسْم الْمُطِيع لله رحمت الله عَلَيْهِ غير محشو وسبذة فقاع فِيهَا عشرُون كوزا بلورا مَمْلُوءَة مَاء ورد وعَلى رؤوسها الْحَرِير الملون والطارمة الساج الْكُبْرَى المعتضدية فَمَا وصل ذَلِك إِلَى عضد الدولة سر بِهِ سُرُورًا شَدِيدا وَقَالَ: كنت أوثر ان يكون الدست محشوا ومحمولا فِي الْأَسْوَاق لتتبين فخامته وموقع التشريف بِهِ. وَقد كَانَ الطائع لله أحضر مُحَمَّد بن بَقِيَّة دَاره وَأَجْلسهُ على طعامة وخلع عَلَيْهِ ازار قصب ودراعة دبيقية وسراويلا دبيقيا بتكة ابريسم وَحمل مَعَه عِنْد انْصِرَافه صينية فضَّة فِيهَا طيب. وَكَانَ لخلع الولايات من قبل مَرَاتِب ثَلَاث فأعلاها: قِيمَته ثلثمِائة

دِينَار وأوسطها مائَة دِينَار وأقلها ثَلَاثُونَ دِينَارا وَقد تجاوزت الْحَال الْآن ذَاك بِمَا أضيف من الصياغات وَلم تجر الْعَادة فِي حملان السُّلْطَان ان يكون بغالا وَلَا بجناغ وَلَا بكنبوش بل تكون الدَّوَابّ مكشوفة إلاكفال وَلَا ان تخلع على أحد من حَوَاشِي المخلوع عَلَيْهِ مَعَه.

ما يخدم به الخليفة عند التقليد والتشريف بالتكنية واللقب

مَا يخْدم بِهِ الْخَلِيفَة عِنْد التَّقْلِيد والتشريف بالتكنية واللقب لم يكن ذَاك من قبل وَإِنَّمَا كَانَت التَّفْرِقَة تقع على حَوَاشِي الدَّار فَلَمَّا تَغَيَّرت الْأَحْوَال وَضَاقَتْ الْموَاد وَقصرت الإموال جعل من الرَّسْم ان يخْدم الْمولى أَو الملقب الخزائن بِمَا تمكنه الْخدمَة بِهِ على التجمل وَالزِّيَادَة فِيهِ من مَال وَثيَاب وَطيب وآلات وَيُعْطى مَعَ ذَاك الْكتاب والحواشي مَا يسْلك فِيهِ هَذِه السَّبِيل. فَأَما من تقدم من أُمَرَاء بني بويه رَضِي الله عَنْهُم فَلَا أعلم تَفْصِيل مَا حملوه لَكِن عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن حَاجِب النُّعْمَان حَدثنِي: ان عضد الدولة حمل إِلَى الطائع عقيب الْخلْع عَلَيْهِ فِي سنة سبع وَسِتِّينَ وثلثمائة وتلقيبه اياه بتاج الْملَّة وَبعد انفاذ الطائع لله إِلَيْهِ مَا انفذه من الخلعة المجالسية وَمَا اقْترن بهَا من الألطاف والتحايا والصواني والدست والطارمة على يَد خرشيد بن زيار بن مافنة الخازن وَمَا حمل على خمس مائَة حمال وَكَانَ خمسين ألف دِينَار عمانية فِي عشرَة أكياس ديباجا ألوانا مختومة على الاشريجات الْفضة وَألف ألف دِرْهَم فِي مِائَتي كيس وَخمْس مائَة ثوب اصنافا بَين ثوب ديباج

ملكي قِيمَته مِائَتَا دِينَار وَإِلَى ثوب أَبيض صبغ أرضه قِيمَته نصف دِينَار وَثَلَاثِينَ صينية فضَّة مذهبَة وَغير مذهبَة فِيهَا العنبر والمسك الفتيق والنوافج والكافور والند وتحايا العجن وَالْعود الْهِنْدِيّ والمغلي وَالْقطع وَعشْرين صينية مدهونة فِي عشر مِنْهَا الْعود الصنفي وَفِي عشر السك الاقراص وَالْمذهب من التماثيل والبنك الْمُخَير والصندل النفاح

والاترج ونصلين هنديين ودستين ديباجا تستريا أَحدهمَا أَزْرَق وَالْآخر ممزج وَعشرَة أَفْرَاس شهاري مِنْهَا شهريان بمركبين ذَهَبا وَثَلَاثَة بمراكب فضَّة مذهبَة وَخَمْسَة بِجلَال قرمز وَعشر بغلات مِنْهَا اثْنَتَانِ للسرج وثمان للعمارية والآكف بالآتها وَعشرَة أرؤس جمالا مكسوة. وَحمل صمصام الدولة وشرفها وبهاؤها عِنْد إفضاء الْأَمر إِلَيْهِم وَوُقُوع الْخلْع عَلَيْهِم مَا لَا احصر أصنافه ومقاديره لكنه جملَة كَبِيرَة فَإِنَّهُ كَانَ وَالْأَمْوَال موفورة والخزائن مَمْلُوءَة وَآخر ذَاك مَا حمله

سُلْطَان الدولة من فَارس بوساطة مُحَمَّد بن عَليّ بن خلف وعَلى يَد عَليّ بن مُحَمَّد الزَّيْنَبِي فانه انفذ عشرَة آلَاف دِينَار بدرية وَألف دِرْهَم خماسية وصندوقين مملوءين ثيابًا وطيبا وَثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم لِابْنِ حَاجِب النُّعْمَان وَأعْطى الزَّيْنَبِي وَكَانَ مُحَمَّد بن عَليّ بن خلف انفذه من الأهواز لاستدعاء ذَاك ألف دِينَار بدرية وَعشْرين قِطْعَة ثيابًا وَحمله على فرس بمركب ذهب وَلما أَرَادَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَادِر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ الْجُلُوس لقِرَاءَة الْكتاب بالعهد والألقاب أنفذ ابْن خلف إِلَى الدَّار العزيزة فروشا وستورا كَثِيرَة جليلة ورد ذَاك عِنْد انْقِضَاء الْمجْلس فَأَعَادَهُ ابْن خلف وَقَالَ: إِنَّمَا حَملته خدمَة لَا عَارِية.

رسوم المكاتبات عن الخلفاء في صدورها وعنواناتها والأدعية فيها وما يعاد منها في أواخرها

رسوم المكاتبات عَن الْخُلَفَاء فِي صدورها وعنواناتها والأدعية فِيهَا وَمَا يُعَاد مِنْهَا فِي أواخرها من رسوم الْكتب عَن الْخُلَفَاء وإليهم ان تكون بأوضح خطّ وأفصح لفظ وَتَكون السطور من أول القرطاس وَمن غير تَفْصِيل فِي أحد جَانِبي السطر وَيكون بَين كل سطر وسطر سَعَة. وسبيل الْكَاتِب ان يقل الْمشق وَالْمدّ ويتجنب الْإِرْسَال والإدغام وَيمْتَنع من النقط والشكل فَإِن فيهمَا تقصيرا بِمن يُكَاتب لِأَنَّهُ يتَصَوَّر بِصُورَة من تنقص مَعْرفَته فَيحْتَاج إِلَيْهِمَا فِي مُكَاتبَته. فَأَما العنوان فَالَّذِي جرت الْعَادة بِهِ فِيهِ ان يكْتب فِي جَانِبه الْأَيْمن بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم لعبد الله عبد الله أبي جَعْفَر الإِمَام الْقَائِم بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ بِغَيْر دُعَاء وَلَا ذكر اسْم أَب وان كَانَ خَليفَة ملقبا لَان اللقب بإمرة الْمُؤمنِينَ قد قَامَ مقَام النّسَب الَّذِي يعْتَمد فِيهِ التَّعْرِيف. وَمن الْجَانِب الآخر: من عَبده أَو عَبده وصنيعته وعَلى مَا يخْتَار الْمكَاتب فلَان بن فلَان باسمه وَاسم أَبِيه وان كَانَ مكني من حَضْرَة الْخَلِيفَة لم يذكر عَلَيْهِ أَو ملقبا مكني اقْتصر على اللقب والأسم وَاسم الْأَب وان كَانَ الْأَب ملقبا مكنى ذكره باللقب وَالِاسْم وَقَالَ بعد ذَلِك: مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ ان كَانَ من الْأَعَاجِم والموالي وَيكون جَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ فِي سطر وَاحِد وَقد كَانَت العنوانات الْعَامَّة قَدِيما على مثل هَذِه الصّفة من تَقْدِيم اسْم الْكَاتِب وَتَأْخِير اسْم الْمَكْتُوب

إِلَيْهِ إِلَّا فِيمَا كَانَ إِلَى أَمَام أَو وَالِد على مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله من قَوْله: إِذا كتب أحدكُم فليبدأ بِنَفسِهِ إِلَّا إِلَى وَالِد أَو أَمَام وَكتب زيد بن ثَابت إِلَى مُعَاوِيَة فَبَدَأَ باسم مُعَاوِيَة اتبَاعا لهَذِهِ الوصاة والطريقة. وَكَانَ مِمَّا نقمه الْمَنْصُور صلوَات الله عَلَيْهِ على أبي مُسلم ان كتب أَبُو مُسلم إِلَيْهِ: من أبي مُسلم إِلَى أبي جَعْفَر عُدُولًا بِهِ عَن هَذِه الرُّتْبَة وتوقفا عَن الْإِقْرَار لَهُ بِالْإِمَامَةِ ثمَّ تسمح النَّاس فقدموا اسْم الْمَكْتُوب إِلَيْهِ وأخروا اسْم الْكَاتِب وَجعلُوا ذَاك بِغَيْر دُعَاء للْمكَاتب إِلَى ان كتب الْفضل بن سهل إِلَى إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي لأبي إِسْحَاق ابقاه الله من أبي الْعَبَّاس فأنفذ الْكتاب إِلَى سُلَيْمَان عَمه مطرفا لَهُ بِهِ فَمَا وصل إِلَيْهِ حَتَّى وافاه صَاحبه بِكِتَاب من الْفضل إِلَيْهِ بِمثل مَا كَاتب إِبْرَاهِيم بِهِ وَاسْتعْمل الدُّعَاء على العنوانات من بعد ذَاك إِلَّا مَا كَانَ إِلَى الْخَلِيفَة وَعنهُ فَإِنَّهُ بَقِي على قديم رسمه فَأَما الْيَوْم فقد اسقط الملقبون ذكر ألقابهم على عنوانات كتبهمْ إِلَى الْخُلَفَاء واقتصروا على اسمهم وَاسم أَبِيهِم وظنوا ان ذَلِك إعظام للخليفة واخبات وَلَيْسَ كَذَاك فَإِن اللقب تشريف من السُّلْطَان وَكَأن التارك لَهُ تَارِك لما شرف بِهِ وَمن الْأَوَامِر فِي الْكتب بِالْأَلْقَابِ: يُكَاتب أَمِير الْمُؤمنِينَ متلقبا متسميا وَمن سواهُ متلقبا متكنيا وعَلى هَذَا فإنني أرى إِسْقَاط اللقب الْآن جميلا لآن الألقاب قد زَادَت على حُدُودهَا وتجاوزت مَا كَانَ عهد قَدِيما مِنْهَا فَأَما صدر الْكتاب بعد بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَيكون

لعبد الله أبي جَعْفَر عبد الله الإِمَام الْقَائِم بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ بِغَيْر دُعَاء من عَبده فلَان سَلام على أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِنِّي احْمَد إِلَيْهِ الله الَّذِي لَا اله إِلَّا هُوَ وأسأله ان يُصَلِّي على عَبده وَرَسُوله وَقد كَانَ مَا يكْتب بِهِ قَدِيما فِي الصُّدُور لأبي فلَان فلَان سَلام عَلَيْك أما بعد حَتَّى كَانَت أَيَّام الْمَأْمُون صلوَات الله عَلَيْهِ فَإِنَّهُ زيد بعد سَلام عَلَيْك: فَإِنِّي احْمَد إِلَيْك الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وأسأله ان يُصَلِّي على مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله وَيكون الصَّدْر الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي سطرين وَيُقَال بعده: أما بعد أَطَالَ الله بَقَاء سيدنَا ومولانا أَمِير الْمُؤمنِينَ وأدام عزه وتأييده وكرامته وسعادته وحراسته وَأتم نعْمَته عَلَيْهِ وَزَاد فِي إحسانه وفضله عِنْده وَجَمِيل بلائه وجزيل عطائه لَهُ فَالْحَمْد لله ويوصف الله بصفاته ان كَانَ الْكتاب ابْتَدَأَ فِي أَخْبَار بِفَتْح أَو مطالعة بأثر وان كَانَ جَوَابا قيل أما بعد فَإِن كتاب سيدنَا ومولانا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَطَالَ الله بَقَاءَهُ ويستتم الدُّعَاء ورد على عَبده بِكَذَا وبقبض الْكتاب وفهمه وَفعل وصنع وتشرح الصُّورَة فِيمَا يُرَاد ذكره وَأول من تكلم بأما بعد: قس بن سَاعِدَة فِي موقفه بعكاظ وخطبته واستحسنها رَسُول الله فاستعملها وَاتبع رَأْيه وَفعله فِيهَا وَالْمعْنَى فِي ذَلِك: أما بعد ذكر الله فالحال كَذَا وَإِذا فرغ من الْكتاب وَختم بإن شَاءَ الله قيل أتم الله على أَمِير الْمُؤمنِينَ نعْمَته وهنأه كرامته وَألبسهُ عَفوه وعافيته وأمنه وسلامته وَالسَّلَام على أَمِير الْمُؤمنِينَ ورحمت

الله وَبَرَكَاته وَكتب يَوْم كَذَا من شهر كَذَا من سنة كَذَا وَلَا يذكر اسْم كَاتب لِأَن ذَاك يفعل فِيمَا يكْتب بِهِ عَن الْخُلَفَاء لَا إِلَيْهِم وَأما قَوْلهم فِي صدر الْكتاب سَلام على أَمِير الْمُؤمنِينَ وَفِي آخِره السَّلَام على أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن الأول ابْتِدَاء ونكرة وَالثَّانِي إِشَارَة إِلَى الأول وَمَعْرِفَة وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَالسَّلَام الْمُبْتَدَأ بِهِ مَرْدُود على أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأما الْكتب إِلَى وُلَاة العهود فعلى مثل هَذَا التَّرْتِيب وَيُقَال للأمير واللقب ان كَانَ ملقبا: إِلَى فلَان ولي عهد الْمُسلمين وَابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ ان كَانَ ولد الْخَلِيفَة وَأما المكاتبات الْخَاصَّة بَين الْخَلِيفَة ووزيره وَصَاحب جَيْشه الْمُقِيم على بَابه فَإِنَّهَا تفتتح بِذكر الإغراض من مطالعة واستئمار وَمَسْأَلَة والتماس وكذاك يكون مَا يرفع من قصَص المتظلمين إِذْ لَيْسَ تكون تِلْكَ السَّبِيل الأولى إِلَّا فِي الْكتب الْوَارِدَة من الْبِلَاد والصادرة إِلَيْهَا وَمن الْمَأْخُوذ على كاتبي الرّقاع ورافعي الْقَصَص إِذا تجاوزوا الْوَزير وَصَاحب الْجَيْش وَأهل الرتب ان يذكرُوا أَسْمَاءَهُم وَأَسْمَاء آبَائِهِم على الرّقاع من غير ان يَقُولُوا الْخَادِم وَلَا العَبْد إِذْ كَانَ هَذَا من الرتب الَّتِي لَا يؤهل لَهَا كل أحد وَمِمَّا كَانَ الرَّسْم جَارِيا بِهِ ان يقْتَصر فِي الْكتاب إِلَى الْخَلِيفَة أَو مِنْهُ أَو من الْوَزير إِلَى عماله وَمن عمالة إِلَيْهِ على معنى وَاحِد وَتَكون الْمعَانِي إِذا كثرت فِي عدَّة كتب.

خطاب الخلفاء في الكتب والأدعية لهم

خطاب الْخُلَفَاء فِي الْكتب والأدعية لَهُم كَانَ الرَّسْم الْقَدِيم ان يُقَال بعد التصدير الْمَذْكُور: أما بعد: أَطَالَ الله بَقَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ وأعزه ويدعى لَهُ فِي الْفُصُول وَعند الذّكر بأبقاه الله وأعزه الله وأيده الله وأكرمه الله فَافْتتحَ سُلَيْمَان بن وهب الزِّيَادَة بَان جعل مَكَان وأعزه: وأدام عزه وتعددت الْحَال إِلَى ان ذكر بالسيادة وانتقلت من سَيِّدي أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى سيدنَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وتقررت من بعد على سيدنَا ومولانا أَمِير الْمُؤمنِينَ ويستوفى الدُّعَاء فِي أول الْكتاب وَآخره على مَا قدمنَا ذكره فيدعى لَهُ فِي الْفُصُول وَعند الذّكر بأدام الله عزه وأدام تأييده وأدام تَمْكِينه وَكَانَ ذَلِك جَارِيا إِلَى أَيَّام الطائع لله رحمت الله عَلَيْهِ فَأَما الْآن فقد فَارَقت الْحَال المستأنفة تِلْكَ الرسوم السالفة وَصَارَ ذكر الْخَلِيفَة فِيمَا يُكَاتب بِهِ: سيدنَا ومولانا الإِمَام أَمِير الْمُؤمنِينَ وَالدُّعَاء لَهُ بأطال الله بَقَاءَهُ وأدام لَهُ الْعِزّ والتأييد والنصر والتمكين والرفعة وَالْقُدْرَة وَالسُّلْطَان والبسطة وَأَعْلَى كَلمته وَثَبت وطأته وحرس دولته وَأظْهر ألويته وعَلى مَا يختاره الانسان من زِيَادَة على ذَاك ومبالغة فِيهِ. وَوجدت يَمِين الدولة أَبَا الْقَاسِم مَحْمُود بن سبكتكين قد كَانَ

يكْتب إِلَى الْقَادِر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ فِي العنوان: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم لحضرة سيدنَا ومولانا عبد الله أبي الْعَبَّاس أَحْمد الإِمَام الْقَادِر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ من عَبده وخادمه وصنيعته وغرسه مَحْمُود بن سبكتكين وَذَلِكَ فِي سطر وَاحِد وَفِي الصَّدْر: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم لحضرة سيدنَا ومولانا عبد الله أبي الْعَبَّاس أَحْمد الإِمَام الْقَادِر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ عَبده وخادمه وصنيعته وغرسه مَحْمُود بن سبكتكين سَلام على سيدنَا ومولانا الإِمَام الْقَادِر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ ورحمت الله وَبَرَكَاته فَإِن العَبْد يحمد إِلَيْهِ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ويسأله أَن يُصَلِّي على مُحَمَّد عَبده وَنبيه صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله الْكِرَام وَخص سيدنَا ومولانا الإِمَام الْقَادِر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ بِأَفْضَل التَّحِيَّة وَأطيب السَّلَام أما بعد أَطَالَ الله بَقَاء سيدنَا ومولانا الإِمَام الْقَادِر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ وأدام لَهُ الْعِزّ والتأييد وَالْقُدْرَة والتحميد والعلو والبسطة والسمو وَالْغِبْطَة وأمضى شرقا وغربا أَحْكَامه وَنصر برا وبحرا أَعْلَامه وَلَا أخلى من الدولة مَكَانَهُ وَمن النضارة زَمَانه وَفِي آخر الْكتاب بعد ان شَاءَ الله: وَالسَّلَام على سيدنَا ومولانا الإِمَام الْقَادِر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ ورحمت الله وَبَرَكَاته ويعاد الدُّعَاء الأول إِلَى أَخّرهُ. وَرَأَيْت لَهُ كتبا أخر على عنواناتها من الْجَانِب الْأَيْسَر: عبد سيدنَا ومولانا الإِمَام الْقَادِر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ وصنيعته مَحْمُود بن سبكتكين وَفِي صدر الْكتاب: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم سَلام على سيدنَا ومولانا الإِمَام الْقَادِر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن العَبْد يحمد إِلَيْهِ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ويسأله ان يُصَلِّي على رَسُوله مُحَمَّد وَآله وَفِي الدُّعَاء بِزِيَادَة ونقصان عَمَّا أوردناه وَرَأَيْت لَهُ كتبا تخَالف هَذَا فَدلَّ ذَلِك على ان

الْقَوْم غير معتمدين لنظام وَاحِد فِي المكاتبات وَإِنَّمَا يَكْتُبُونَ على مَا يعن لَهُم من هَذِه الترتيبات وَمَا كَانَ الْأَمر على مثل ذَلِك فِيمَا مضى من الْأَوْقَات نعم وَلم أَجِدهُ ذكر ألقابه عِنْد إِيرَاد اسْمه وَلَا لقب أَبِيه وَلَا مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلَا ولي أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن ظن الْفَاعِل لذاك ان إِسْقَاط مَا أسْقطه تَعْظِيم وإجلال فَلَيْسَ كَذَاك وانه لتقصير وإخلال وَقد قدمنَا فِي أَمر الألقاب مَا قدمْنَاهُ وإيراد مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَولي أَمِير الْمُؤمنِينَ تعبد.

رسوم الكتب عن الخلفاء

رسوم الْكتب عَن الْخُلَفَاء الَّذِي جرت الْعَادة بِهِ فِيمَا يصدر من حَضْرَة الْخلَافَة ان يكون عنوانه بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من عبد الله عبد الله أبي جَعْفَر الإِمَام الْقَائِم بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى فلَان بن فلَان وَيذكر اسْمه وَاسم أَبِيه فَإِن كَانَ مكنى قيل: إِلَى أبي فلَان، بِغَيْر اسْم، وَلَا اسْم أَب، أَو ملقبا مكنى، قيل: إِلَى كَذَا من الدولة أبي فلَان فان كَانَ من الْأَعَاجِم والموالي قيل: مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَإِن كَانَ أَب الْمكَاتب ملقبا ذكر فَقيل: إِلَى كَذَا من الدولة أبي فلَان بن كَذَا من الدولة مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ وكل ذَلِك فِي سطر وَاحِد وَفِي الصَّدْر: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من عبد الله عبد الله أبي جَعْفَر الإِمَام الْقَائِم بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى كَذَا من الدولة أَبى فلَان مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ سَلام عَلَيْك فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يحمد إِلَيْك الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ويسأله ان يُصَلِّي على مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله أما بعد أحسن الله حفظك وحياطتك وأمتع أَمِير الْمُؤمنِينَ بك فقد وصل كتابك إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ يذكر كَذَا وتقنص مضمونه وفهمه ويورد فِي الْجَواب مَا يُرَاد إِيرَاده هَذَا ان كَانَ جَوَابا وان كَانَ ابْتِدَاء فعلى حسب الْغَرَض فِيهِ وَتجْعَل الْإِشَارَة من الْخَلِيفَة إِلَى نَفسه بأمير الْمُؤمنِينَ فَيُقَال: قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ ورأي أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأمر أَمِير الْمُؤمنِينَ كَمَا يُقَال عَن الْمُلُوك والأمراء: فعلنَا وصنعنا ورأينا وأمرنا وَقد يَقُول الْخَلِيفَة هَذَا أَيْضا فِي الْكتب والتوقيعات الْخَاصَّة فَأَما الْكتب الصادرة إِلَى الْبِلَاد فَلَا تكون الْإِشَارَة مِنْهُ إِلَى نَفسه إِلَّا بأمير الْمُؤمنِينَ وَإِذا انْتهى القَوْل فِي معنى

الْكتاب إِلَى أَخّرهُ قيل: فَاعْلَم ذَلِك من رَأْي أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأمره واعمل بِهِ وَافْعل واصنع وَلَا يجوز ان يُقَال عَن خَليفَة: فاعمل بذلك وَلَا: وانت تفعل ذَلِك وَلَا: فرأيك فِي الْعَمَل بذلك وَإِذا استتم الْكتاب بَان شَاءَ الله قيل: وَالسَّلَام عَلَيْك ورحمت الله وأسقطت بركاته ليَكُون بَين السَّلَام على الْخُلَفَاء وَالسَّلَام مِنْهُم فرق ثمَّ يكْتب بعد ورحمت الله: وَكتب فلَان بن فلَان لوزير الْوَقْت الَّذِي يَلِي الْأُمُور وان لم يكن مكنى وَلَا ملقبا فَإِن كَانَ مكنى قيل: وَكتب أَبُو فلَان أَو مكنى ملقبا قيل: وَكتب كَذَا من الدولة أبي فلَان وَمن الرسوم أَيْضا ان يُقَال على عنوان الْكتاب فِي جَانِبه الْأَيْسَر بِذكر كَذَا إِشَارَة إِلَى الْأَمر الَّذِي أصدر الْكتاب فِيهِ فان كَانَ الْكتاب بتكنية أَو بلقب لم تذكر الكنية وَلَا اللقب فِي صدر الْكتاب وَذكر بعد ان يُقَال: وَقد كناك أَمِير الْمُؤمنِينَ أَو لقبك بِكَذَا وعَلى العنوان من بعد.

الدعاء للمكاتبين عن الخلفاء وما كان الرسم أولا جاريا به وانتهى أخيرا إليه

الدُّعَاء للمكاتبين عَن الْخُلَفَاء وَمَا كَانَ الرَّسْم أَولا جَارِيا بِهِ وانْتهى أخيرا إِلَيْهِ كَانَ أجل منَازِل الدُّعَاء لِلْأُمَرَاءِ عَن الْخُلَفَاء: أحسن الله حفظك وحياطتك وأمتع أَمِير الْمُؤمنِينَ بك وبالنعمة فِيك وَبِه كَانَ يدعى لولاة العهود ولأمراء بني بويه رَضِي الله عَنْهُم وَيُقَال فِي الْفُصُول: أمتع الله بك وَأحسن الله امتاع أَمِير الْمُؤمنِينَ بك وكلأك الله ورعاك الله وَدون ذَلِك لولاة خُرَاسَان وَأَصْحَاب الإطراف: أحسن الله حفظك وحياطتك وأمتع بك ويدعى لَهُم فِي الْفُصُول بكلأك الله وحاطك الله وتولاك الله فَلَمَّا توفّي ركن الدولة وَوَقعت المباينة بَين عضد الدولة وَعز الدولة كتب عَن الطائع لله كتاب تولى انشاءه إِبْرَاهِيم بن هِلَال جدي عظم فِيهِ عز الدولة وَجعل لَهُ التَّقَدُّم بعد ركن الدولة وَقرر لَهُ الدُّعَاء فِي صَدره بأطال الله بَقَاءَك وأدام عزك وتأييدك وامتع أَمِير الْمُؤمنِينَ بك وبالنعمة فِيك وَفِي الْفُصُول وَالذكر بأيده الله وَكَانَت نُسْخَة مَا نفذ إِلَى عضد الدولة فِي ذَلِك. بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من عبد الله عبد الْكَرِيم الإِمَام الطائع لله أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى عضد الدولة أبي شُجَاع بن ركن الدولة أبي عَليّ مولى

أَمِير الْمُؤمنِينَ: سَلام عَلَيْك: فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يحمد إِلَيْك الله الَّذِي لَا اله إِلَّا هُوَ ويسأله ان يُصَلِّي على مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله أما بعد: احسن الله حفظك وحياطتك وأمتع أَمِير الْمُؤمنِينَ بك وبالنعمة فِيك فَإِن من سنَن الْعدْل الَّتِي يُؤثر أَمِير الْمُؤمنِينَ ان يُحْيِيهَا وآداب الله الَّتِي يرى ان يَأْخُذ بهَا ويقتفيها: إثابة المحسن بإحسانه والإيفاء بِهِ على أقرانه والمجازاة لَهُ عَن رَاشد مساعيه وصائب مرامية بِمَا يكون قَضَاء لما اسلف وَقدم وكفاء لما أكد وألزم وَاضِعا ذَلِك موَاضعه ومطبقا فِيهِ بَين أَوْلِيَاء دولته وانصار دَعوته بِحَسب الَّذِي عرف من مقامات بلائهم وَشهر من مَوَاقِف غنائهم فَلَا يستكثر جزيلا اسْتَحَقَّه أكابرهم وَلَا يحتقر قَلِيلا استوجبه اصاغرهم شحذا لبصائرهم فِي طلب الغايات وبعثا على ادراك النهايات وتوفيه لَهُم مَا صَار فِي ضمنه من اطالة أَيْديهم إِلَى مَا تصدوا لنيله وَتَقْدِيم أَقْدَامهم إِلَى حَيْثُ هَل جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان وعَلى مثله استمرت سيرة السّلف الصَّالح من أُمَرَاء الْمُؤمنِينَ وأئمة الْمُسلمين الَّذين أَمِير الْمُؤمنِينَ مُتبع لدليلهم وحاذ على تمثيلهم وذاهب على آثَارهم فِي كل غرس غرسوه وَبِنَاء أسسوه ومفخرة أثلوها ومكرمة أصلوها وأمير الْمُؤمنِينَ يستمد الله فِي ذَلِك هِدَايَة تُؤَدِّيه إِلَى الْمَقْصد وتوصله إِلَى الْمُعْتَمد وأصالة تؤمنه من غلط الرَّأْي وَخطأ الِاخْتِيَار ومعونة تُفْضِي بِهِ إِلَى سداد المنحى وأصابة المغزى وَمَا توفيق أَمِير الْمُؤمنِينَ الإ بِاللَّه عَلَيْهِ يتوكل وَإِلَيْهِ ينيب وَقد علمت رعاك الله وَعلم غَيْرك بِعَين مَا ادركته الْأَعْمَار وَسَمَاع مَا نقلته الْأَخْبَار: ان الدولة العباسية الَّتِي رفع الله عماد

الْحق بهَا وخفض منار الْبَاطِل لَهَا لم تزل على سالف الْأَيَّام ومتعاقب الأعوام تعتل طورا وَتَصِح أطوارا وتلتاث مرّة وتستقل مرَارًا من حَيْثُ أَصْلهَا راسخ لَا يتزعزع وبنيانها ثَابت لَا يتضعضع فَإِذا لحقها الالتياث وَحدثت فِيهَا الإحداث كَانَ ذَلِك على سَبِيل التَّقْوِيم والتأديب والإصلاح والتهذيب لمعشر كَانُوا كالانعام رتعوا فِي أكلائها سائمين ولهوا عَن شكر الائها ذاهلين فيوقظهم الله من تِلْكَ السّنة وينهضهم عَن مضاجع الْغَفْلَة وَيجْعَل مَا يحله بهم فِي خلال مَا يضطرب من دهمائهم ويشتد من لأوائهم عظة لَهُم ان امتدت بهم السنون أَو لغَيرهم ان اخترمتهم الْمنون حَتَّى إِذا انْتَهَت هَذِه الْحَال إِلَى حَيْثُ أَرَادَ الله بهم من الْكَفّ والردع وَسَببه لَهُم من النَّفْع والصنع بعث لاقرار الْأَمر فِي نصابه وَحفظه على أَصْحَابه وليا نجيبا من أَوْلِيَائِهِمْ وعبدا مخلصا من أصفيائهم فَلَا تلبث ان تعود الدولة على يَده غضة الْعود معتدلة العمود جَدِيدَة اللبَاس متينة الأمراس وهنالك يكذب الله آمال المعاندين ويخيب ظنون المحادين ويردهم بغصة الصُّدُور وشجى النحور وَيكون النَّفر الَّذين تجرى هَذِه المنقبة على أَيْديهم وتتم النِّعْمَة فِيهَا بمساعيهم أعيانا لتِلْك العصور وولاة فِيهَا على الْجُمْهُور وكالشركاء للأئمة المساهمين وَذَوي اللحمة المناسبين. وَتلك كَانَت منزلَة معز الدولة أبي الْحُسَيْن مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ نَفعه الله بِمَا توفاه عَلَيْهِ من عز الطَّاعَة ونظم ألفة الْجَمَاعَة وَالِاجْتِهَاد فِيمَا رب الدّين ولمه وتلافى نشره وضمه فانه لبس الْأَمر وَقد دب الْفساد فِيهِ وصدئت بصائر أَهْلِيَّة وَصَارَ حظهم منتهيا مضاعا وفيئهم مقتسما

شعاعا وآثار دينهم طامسة ومعالمه دارسة ورؤوس أوليائه ناكسة وعيون أعدائه متشاوسة فَلم يدع أحسن الله مجازاته طرفا مأخوذا إِلَّا ارتجعه وَلَا حَقًا مَغْلُوبًا عَلَيْهِ إِلَّا انتزعه وَلَا عدوا بَاغِيا إِلَّا قمعه وَلَا جبارا طاغيا إِلَّا صرعه شاهرا سَيْفه على كل منتم إِلَى الْولَايَة بِزَعْمِهِ ودعواه أَجْنَبِي مِنْهَا بسره ونجواه إِلَى ان ذلل الرّقاب بعد استصعابها وأبائها وأضرع الخدود بعد صعرها والتوائها ورتق الفتوق بعد تفاقمها واستفحالها وأدمل الجروح بعد إعيائها وإعضالها وَأعَاد إِلَى السُّلْطَان مَا كَانَ خرق من هيبته وصان مَا انتهك من حرمته وَصَاحب خدمَة الْمُطِيع لله صلوَات الله عَلَيْهِ مُنْذُ أفْضى الله بخلافته إِلَيْهِ مصاحبة سلك فِيهَا سَبِيل وفاقه وَبعد عَن غشه ونفاقه وأخلص لَهُ إخلاصا سَاوَى فِيهِ بَين سره وجهره وَألف بَين عالنه وباطنه وَاسْتمرّ على ذَلِك بَقِيَّة عمره وثميلة مدَّته إِلَى ان قَبضه الله نقي الصَّحِيفَة من دون الْعُيُوب خَفِيف الظّهْر من محمل الذُّنُوب فَاتبعهُ الْمُطِيع لله صلوَات الله عَلَيْهِ الدُّعَاء الَّذِي هُوَ خير الزَّاد وانفع العتاد وَأقرب الْوَسَائِل إِلَى رب الْعَالمين وأعودها بِأَجْر المأجورين وجازاه بِأَن أقرّ تِلْكَ الرُّتْبَة الْعلية والمحلة السّنيَّة على وَلَده وسليله وَنَظِيره فِي النجابة وعديله: عز الدولة أبي مَنْصُور بن معز الدولة أبي الْحُسَيْن مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ أمتع الله بِهِ لَا إِقْرَار المحابي لَهُ فِيمَا لم يسْتَحقّهُ وَلَا السَّامِي بِهِ إِلَى مَا لَيْسَ من أَهله بل عَن فَضَائِل تكانفت وآثار تناصرت لم يكن لَهُ فِي شَيْء مِنْهَا مُقَارن يزاحمه بمنكبه وَلَا مقارب يجاريه بسعيه ذَلِك انه تقيل خلائق معز الدولة أبي الْحُسَيْن وراثة واشتمل عَلَيْهَا حِيَازَة وتوقل فِي هضاب معاليه صاعدا وَفِي صعاب مراقيه ساميا وَاسْتولى على شرف

الترتب والتأدب بَين أَمَام تِلْكَ صنائعه ووالد هَذِه ذرائعه وَقرن إِلَى تِلْكَ المناقب الَّتِي كَسبه إِيَّاهَا عَظِيم سعادته وحبسها عَلَيْهِ كريم وِلَادَته مَنَاقِب تَوَابِع استأنفها ومحاسن شوافع اسْتَقْبلهَا ومطالب لذوايب الْفَخر وَالْمجد أدْركهَا وتناولها ومغانم من عوائد الشُّكْر وَالْحَمْد ملكهَا وتخولها وَلم يزل للمطيع لله رحمت الله عَلَيْهِ خير ظهير حفظ سَرِيره وَأفضل نصيح دبر أُمُوره يدأب لَهُ وَهُوَ قار ويحوط من وَرَائه وَهُوَ غَار ويسهر عَنهُ إِذا رقد ويهب مَعَه إِذا اسْتَيْقَظَ ويوليه فِي كل مَا يَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ يدا من الطَّاعَة يلين لَهُ لمسها ويخشن على أعدائه مَسهَا إِلَى ان استوفى فِي الْخلَافَة أمدا لم يستوفه أحد من الْخُلَفَاء قبله ناجيا فِيهِ من الغوائل الَّتِي كَانَت تغول أعمارهم وتقصر آجالهم وتجرى على أَيدي السُّفَهَاء من خولهم والجهال من جندهم مذودا عَنهُ فِي ذَلِك الْعُمر الطَّوِيل وَالْأَجَل المديد كل عَدو مَمْنُوعًا مِنْهُ كل مَكْرُوه وَسُوء ممتثلا رَأْيه فِي كل مَطْلُوب مُتبعا هَوَاهُ فِي كل مَحْبُوب فَلَمَّا صَار رضوَان الله عَلَيْهِ من السن الْعليا وَالْعلَّة الْعُظْمَى بِحَيْثُ يحرج ان يُقيم مَعَه على إِمَامَة قد كل عَن تحمل كلهَا وَضعف عَن النهوض بعبئها خلع ذَلِك السربال على أَمِير الْمُؤمنِينَ خلع الناص عَلَيْهِ وَالْمُسلم إِلَيْهِ

خَارِجا إِلَى رب الْعَالمين وَجَمَاعَة الْمُسلمين من الْحق فِي أيالتهم وسياستهم مَا اسْتَقل واضطلع وَفِي حسن الارتياد لَهُم حِين حسر وظلع وَعز الدولة أَبُو مَنْصُور أمتع الله بِبَقَائِهِ ودافع عَن حوبائه متصرف فِي جَمِيع ذَلِك على حكم الْتَزمهُ وَفرض افترضه فِي رِعَايَة مَا سلف من الصنيعة واستحفظ من الْوَدِيعَة لَا يُخرجهُ عَن الطَّاعَة هوى يمِيل إِلَيْهِ وَلَا غرور يعرج عَلَيْهِ لكنه فِيهَا على الْمنْهَج الأوضح والمتجر الأربح وَالسّنَن الأقوم والمعتقد الأسلم فَكَانَ فعله بعد عجز الْمُطِيع لله خصّه الله بِالرَّحْمَةِ وَالصَّلَاة وَنَصه على أَمِير الْمُؤمنِينَ انهضه الله بِمَا وُلَاة واسترعاه فِي قَود الْأَوْلِيَاء إِلَى الرضى بِهِ وَجمع كلمتهم على الدُّخُول فِي بيعَته وإزالتهم عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ من اخْتِلَاف الآراء، وتشتت الْأَهْوَاء، جازيا لفعل الْمُطِيع لله، رضوَان الله عَلَيْهِ بِهِ بعد وَفَاة معز الدولة أبي الْحُسَيْن رَحمَه الله إِذْ أقره مقره ونصبه منصبه وَجرى ذَلِك مجْرى الدِّيوَان المتقارضة وان كَانَ كل من الْفَرِيقَيْنِ قد أضَاف إِلَى الْحق فِيمَا ابْتَدَأَ وَقضى احراز الْحَظ للْأمة فِيمَا ارتأى وأتى هَذَا على نَوَائِب قاساها عز الدولة أَبُو مَنْصُور أحسن الله الإمتاع بِهِ وعاناها وشدائد بَاشَرَهَا وصابرها وحوادث كَانَت مزقت بَين دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ وداره وباعدت جواره عَن جواره وَلم يكْتب الله فِي شَيْء مِنْهَا عَلَيْهِ اسْتِحَالَة عَن الْوَلَاء وَلَا على أَمِير الْمُؤمنِينَ إخلالا بِالْوَفَاءِ وَلما كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ قد اسْتَفَادَ فِي زمَان تِلْكَ الْفرْقَة تجربة تثبت لَهُ ان لعز دولته حظا فِي كرم الضريبة لَا يداني وشأوا فِي يمن النقيبة لَا يجارى ووجده وَأَهله

أمتع الله أَمِير الْمُؤمنِينَ بهم وحرس عَلَيْهِ الموهبة فيهم مشرفين شرفا أَولا بالتكنية والتلقيب لَهُم وشرفا ثَانِيًا بإجابتهم إِلَى مثل ذَلِك فِي اللائذين المتعلقين بهم رأى ان من أوجب الْحق عِنْده وألزم الْأَمر لَهُ ان يبين عز الدولة أَبَا مَنْصُور بشعار من الْإِكْرَام وميسم من الإعظام لَا يُسَاوِيه فيهمَا مسَاوٍ إِشَارَة إِلَى موقعه اللَّطِيف وَدلَالَة على محلّة المنيف وتمييزا لَهُ عَن الْأَكفاء وإيفاء بِهِ على النظراء إِذْ هُوَ مستبد عَلَيْهِم بأثرة مغاداة مجَالِس أَمِير الْمُؤمنِينَ ومراوحتها والتمكن مِنْهُ فِي أَوْقَات حشدها وخلوتها والإقتدار فِيهَا على تَقْدِيم الرتب وتأخيرها وَإِقْرَار النعم وتخويلها فجدد لَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ مَعَ هَذِه المساعي السوابق والمعالي السوامق الَّتِي يلْزم كل دَان وَقاص وعام وخاص ان يعرف لَهُ حق مَا كرم بِهِ مِنْهَا ويتزحزح لَهُ عَن مقَام الْمُمَاثلَة فِيهَا مزايا ثَلَاثًا أولَاهُنَّ ان شابكه فِي اللحمة كَمَا شَاركهُ فِي النِّعْمَة وناط مَا بَينه وَبَينه بصهر يتَّصل سَببه يَوْم انْقِطَاع الْأَسْبَاب ويستثمر غرسه فِي الْوَلَد والإعقاب فَيكون النَّاشِئ مِنْهُم فِي مُسْتَقْبل الْأَعْمَار ومستأنف الأدوار ضَارِبًا بعرقيه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَإِلَيْهِ وَالثَّانيَِة ان أَمر بِالدُّعَاءِ لَهُ فِي المكاتبات عَنهُ بِمَا لم يكْتب بِهِ عَن أَمَام إِلَى ولي لعهد وَلَا مَاتَ بِحَق وَاقِفًا بِهِ فِي ذَلِك على حد سَأَلَ عز الدولة أمتع الله أَمِير الْمُؤمنِينَ بِهِ الْوُقُوف عَلَيْهِ

واستعفى من التجاوز لَهُ لُزُوما لعادته فِي إعظام الْإِمَامَة والإخبات للخلافة وخفض الْجنَاح لَهَا وغض الطّرف دونهَا والاستكثار للقليل من تشريفها والاستعظام لليسير من تكريمها وان كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ مُوجبا لَهُ من ذَلِك استغراق الغايات واستيعاب النهايات وَهُوَ ان يصدر الْكتب إِلَيْهِ بأطال الله بقاك وأدام عزك وتأييدك وأمتع أَمِير الْمُؤمنِينَ بك وبالنعمة فِيك ويدعى لَهُ عِنْد ذكره فِي الْكتب إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَعنهُ بأيده الله وَالثَّالِثَة: ان جمعه أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى نَفسه فِي اسْتِخْدَام الوزراء وأشركه مَعَه فِي تَقْلِيد الْأَوْلِيَاء وان عرف لنصير الدولة أَبى طَاهِر حق تقدمه فِي الْكِفَايَة والغناء وإبرازه فِي الِاسْتِقْلَال وَالْوَفَاء وقيامه بِكُل مُهِمّ طرق ودفاعه لكل ملم ارهق وسده من هَذِه الحضرة الَّتِي هِيَ قبَّة الْإِسْلَام وواسطته وسنامة وغاربه مَكَانا لم يسدده مثله وَلَا يملأه غَيره فعز الدولة أَبُو مَنْصُور بن معز الدولة أبي الْحُسَيْن مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله الْآن المستعلي على الإقران الْفَائِت لغايات أهل الزَّمَان المتبويء للرتبة الْعليا المستقر فِي غايتها القصوى ونصير الدولة الناصح أَبُو طَاهِر أمتع الله بِهِ الْجَامِع لوزارتيهما الْحَامِل للأثقال دونهمَا الْحَائِز شرف المناب عَنْهُمَا الْجَارِي مجْرى وَاحِدًا مِنْهُمَا وَقد أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ بِأَن يُوفى من الْحق أكبر مَا وَفِيه وَزِير وازر وظهير ظَاهر فِي قديم وَحَدِيث وبعيد من الْعَهْد وَقَرِيب وحظر على سَائِر الْأَوْلِيَاء والخدم من ذِي سيف وقلم ان يسمو بِنَفسِهِ إِلَى تسم باسمه وارتسام برسمه لانه حق من حُقُوق الْخلَافَة

لَا ينحله أَمِير الْمُؤمنِينَ من صنائعه أَجْمَعِينَ وان كثر عَددهمْ وَاخْتلفت مقارهم وَتَقَدَّمت مَرَاتِبهمْ وتوجهت وسائلهم إِلَّا من كَانَ مائلا بَين يَدَيْهِ وعارضا للأعمال عَلَيْهِ وجاريا هَذَا المجرى فِي تمكن السَّبَب عِنْده وَحسن الإثر لَدَيْهِ فاعرف كلأك الله لعز الدولة أبي مَنْصُور أيده الله قدر مَا وفر من النِّعْمَة عَلَيْهِ ولنصير الدولة الناصح أبي طَاهِر مَا خص بِهِ وأزل إِلَيْهِ وقم بذلك الْحق الأول باديا وَبِهَذَا الْحق التَّالِي مثنيا موفيا وأجب أَمِير الْمُؤمنِينَ بوصول كِتَابه إِلَيْك وامتثالك الْأَمر الْوَارِد فِيهِ عَلَيْك وتلقيك اياه بِمَا يعدك بِهِ فِي الأوضحين سَبِيلا والأرشدين دَلِيلا ان شَاءَ الله وَالسَّلَام عَلَيْك ورحمت الله وَكتب نصير الدولة الناصح أَبُو طَاهِر يَوْم السبت لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلثمائة. وَهَذَا الْكتاب الْكتاب الَّذِي نقمه عضد الدولة على إِبْرَاهِيم بن هِلَال جدي وحبسه لأَجله أَربع سِنِين وشهورا وَملك عضد الدولة الْعرَاق فَطلب من الطائع لله الزِّيَادَة على ذَلِك فزاده وسعادتك ونعمتك وأمتع أَمِير الْمُؤمنِينَ بك وبالنعمة فِيك وعندك وَجعل الدُّعَاء لَهُ فِي الْفُصُول وَعند الذّكر بأدام الله عزه وبدئ بذلك فِي الْكتاب إِلَيْهِ بتلقيبه تَاج الْملَّة مُضَافا إِلَى عضد الدولة وَقيل لَهُ فِي عرض القَوْل فِيهِ وَقد رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ الْإِيفَاء بك على الْأَكفاء ووسمك بإمارة الْأُمَرَاء وَكَانَت هَذِه الرُّتْبَة افخم واعظم من كل مَا تقدم وَصَارَ هَذَا الدُّعَاء رسما لمن بعده من اخوته وَولده وأفضت الْخلَافَة إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَادِر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ، فَجعل الدُّعَاء لبهاء الدولة فِي الْفُصُول [171] وَعند الذّكر بأدام الله تأييده وانتقل إِلَى وَلَده بعده ووقف الْأَمر إِلَى هَذِه الْغَايَة عِنْده وَأما وزراء الْخُلَفَاء المدبرون كَانُوا للأمور من قبلهم فَكَانَ الدُّعَاء لَهُم فِي الْكتب الْعَامَّة بأمتع الله بِهِ وَفِي التوقيعات بأمتعنا الله بك.

الإنتساب إلى مولى أمير المؤمنين

الإنتساب إِلَى مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ انما ينْسب أَو ينتسب إِلَى ذَلِك الْأَعَاجِم والموالي فَأَما الْعَرَب الصرحاء فَلَا يَفْعَلُونَهُ وأذكر وَقد كتب رَافع بن مُحَمَّد بن مقن على كتبه: من رَافع بن مُحَمَّد ابْن عَم أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأنْكر أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَادِر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ فعله وَأمر بِمَنْعه مِنْهُ فتردد مَعَه خوض طَوِيل حضرت بعضه وترسلت فِيهِ وَقَالَ: أَلَسْت عَرَبيا من مُضر فَأَنا ابْن عَم أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقيل لَهُ: لَيْسَ كل من كَانَ من مُضر وَجَبت لَهُ هَذِه النِّسْبَة وَهَذَا مَا لَا يجوز وَلَا يجاز لَك فَترك بعد مراجعات وَكَانَ مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن المقتدر بِاللَّه رَضِي الله عَنهُ يترجم رقاعه: مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد عَم أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمَا علمت ذَلِك فعل فِي الصَّدْر الأول وَكثر المنتسبون إِلَى مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي أَيَّام بهاء الدولة فميز بصفي أَمِير الْمُؤمنِينَ واتسع الْمدْخل إِلَى ذَاك وَكَثُرت فِيهِ المطالب وَقد دخل فِي الانتساب إِلَى مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ الملقبون من الْكتاب والعمال والحواشي واعتقدوا بِهِ زِيَادَة فِي الْمنزلَة ورتبة مقرونة باللقب وَأما الأتراك فَلَيْسَ لَهُم فعل ذَاك لأَنهم موَالِي غير الْخَلِيفَة اللَّهُمَّ إِلَّا ان يكون فيهم من رقّه وَوَلَاؤُهُ لَهُ فَلهُ ان يَفْعَله وَقد كَانَ سبكتكين حَاجِب معز الدولة عِنْد عصيانه على عز الدولة وتلقبه بنصر الدولة كتب من نصر الدولة أبي نصر مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ انْتِفَاء من موَالِيه واعتزاء إِلَى وَلَاء الْخَلِيفَة وتشرفا بِهِ وسلك أَبُو مَنْصُور الفتكين لما انتصب منصبه مسلكه وَكتب من أَبى مَنْصُور مولى

أَمِير الْمُؤمنِينَ لِأَنَّهُ امْتنع من اللقب فاقتصر على الكنية وَفعل بجكم وتوزون من قبل مثل ذَاك وهما من موَالِي مرداويج بن زيار وأصل هَذَا الْأَمر وانتساب من تقدم فِي الدولة العباسية حرس الله أَيَّامهَا من الناقلة إِلَى الْإِسْلَام ومماليك الْخُلَفَاء من الأتراك وَغَيرهم من الأجيال والأجناس وَأَوْلَادهمْ إِلَى الْوَلَاء تشرفا بِهِ. وَقد كَانَ المتَوَكل على الله رحمت الله عَلَيْهِ كتب لِعبيد الله بن يحيى بن خاقَان كتابا بنسبته إِلَى ولائه مَشْهُورَة حَاله وَجعل ذَلِك على وَجه الرّفْع مِنْهُ والتنويه بِهِ وَهُوَ مَعَ ذَاك من أَوْلَاد الموَالِي.

ما يذكر في أواخر الكتب من قولهم وكتب فلان بن فلان

مَا يذكر فِي أَوَاخِر الْكتب من قَوْلهم: وَكتب فلَان بن فلَان كتب عَليّ بن أَبى طَالب عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِك فِي كتب كتبهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَكتب مُعَاوِيَة وَزيد بن ثَابت مثله وَلم يكن الْغَرَض فِيهِ يَوْمئِذٍ الرُّتْبَة وانما أُرِيد بِهِ تَعْرِيف الْكتاب بِذكر كَاتبه لَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ كَانَ أُمِّيا لَا يكْتب بِيَدِهِ وَكتب كتاب الْخُلَفَاء مَا كتبوه من ذَلِك فِيمَا بعد اتبَاعا لهَذِهِ السّنة وقرأت فِي أَوَاخِر كتب من عبد الْملك بن مَرْوَان: وَكتب سَالم مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكَانَ كَاتبه ومولاه وشاهدت كتابا بِخَط الْمَأْمُون صلوَات الله عَلَيْهِ وَفِي آخِره: وَكتب أَمِير الْمُؤمنِينَ بِيَدِهِ ثمَّ اعْتدت هَذِه الْحَال منزلَة فِيهَا نباهة وجلالة فأضافها الوزراء إِلَى نُفُوسهم وَجعلُوا مَا يصدر من الْكتب تولوها أَو تولاها كِتَابهمْ عَنْهُم بِأَسْمَائِهِمْ وَجرى الْأَمر على ذَلِك إِلَى ان قبض عز الدولة على ابي طَاهِر بن بَقِيَّة فِي آخر أَيَّامه وخلت الوزارة من مرتسم بهَا فَكتب إِبْرَاهِيم جدي: وَكتب إِبْرَاهِيم بن هِلَال بِحكم تقلده ديوَان الرسائل ووافي عضد الدولة فَأجرى عبد الْعَزِيز بن يُوسُف على ذَاك وَاسْتمرّ هَذَا الرَّسْم بعده لمن يتقلد ديوَان الرسائل إِلَى ان صرف مُحَمَّد بن الْحسن بن صالحان عَنهُ وَحصل بهاء الدولة بِفَارِس وَصَارَت المكاتبات السُّلْطَانِيَّة من دَار الْخلَافَة العزيزة فَكتب ابْن حَاجِب

النُّعْمَان وَكتب عَليّ بن عبد الْعَزِيز وَألف ذَلِك وَجَرت الْحَال عَلَيْهِ هَذَا فِي الْكتب عَن الْخُلَفَاء فَأَما الْكتب عَن الْأُمَرَاء فَلم أر أحدا فعل هَذَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ من عبد الْعَزِيز بن يُوسُف فَإِنَّهُ كتبه فِيمَا كتب بِهِ عَن عضد الدولة من عهود الْوُلَاة والقضاة لانها نقلت إِلَى اسْمه فَقيل هَذَا مَا عهد عضد الدولة وتاج الْملَّة أَبُو شُجَاع بن ركن الدولة أبي عَليّ مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى فلَان متأولا فِي ذَلِك بِأَن جَمِيع الْأُمُور مَنُوط بتدبيره وداخل فِي تَقْلِيده وَلما نظر إِبْرَاهِيم بن هِلَال جدي فِي ديوَان الرسائل أَيَّام صمصام الدولة قَالَ لَا يَصح عقد الْقَضَاء وتوليته إِلَّا من الْخَلِيفَة وَكره تَغْيِير السّنة العضدية فَكتب هَذَا مَا عهد صمصام الدولة وشمس الْملَّة أَبُو كاليجار بن عضد الدولة وتاج الْملَّة أبي شُجَاع بن ركن الدولة أبي عَليّ مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى فلَان بِأَمْر أَمِير الْمُؤمنِينَ الطائع لله أَطَالَ الله بَقَاءَهُ وانتقل النّظر فِي أُمُور الْقُضَاة والمقلدين والملقبين من أَصْحَاب الْأَطْرَاف إِلَى دَار الْخلَافَة العزيزة فأعيدت العهود إِلَى رسومها الأولى وكتبت عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَادِر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ.

الطروس التي يكتب فيها إلى الخلفاء وعنهم والخرائط التي تحمل الكتب صادرة وواردة فيها والختوم التي توقع عليها

الطروس الَّتِي يكْتب فِيهَا إِلَى الْخُلَفَاء وعنهم والخرائط الَّتِي تحمل الْكتب صادرة وواردة فِيهَا والختوم الَّتِي توقع عَلَيْهَا الَّذِي جرت بِهِ الْعَادة الْقَدِيمَة فِي الْكتب السُّلْطَانِيَّة ان تكون فِي الْقَرَاطِيس المصرية العريضة فَلَمَّا انْقَطع حملهَا وَتعذر وجودهَا عدل إِلَى الكاغد الشيطاني العريض هَذَا فِي كتب العهود والولايات والألقاب وَمَا يكْتب بِهِ إِلَى أَصْحَاب الْأَطْرَاف ويكتبون بِهِ.

فَأَما مَا يجْرِي من الْخَلِيفَة مجْرى التوقيع وَمن وزيره الْمُقِيم بِحَضْرَتِهِ مجْرى المطالعة فالمستحب فِيهِ الكاغد النصفي وَأما اسحاءة الْكتب فشرابة ابريسم سَوْدَاء وختمه أما عنبر ومسك أَو طين اسود مخلوط بعنبر وَأما الخرائط فَمن ديباج اسود ويشد راس الخريطة بشرابه أُخْرَى فِي اشريجة مختومة وَأما كتب العهود الَّتِي يُقَال فِي أَولهَا: هَذَا مَا عهد فلَان إِلَى فلَان فَلَا حَاجَة إِلَى خَتمهَا لِأَنَّهُ لَا عنوان لَهَا فَإِن ختمت فَفِي أواخرها على انني لم أر ختما فِي أَوَاخِر العهود وَأكْثر مَا رَأَيْته فِي كتب المقاطعات والشروط الأمامية وَإِذا كَانَ فعلى اشريجة فضَّة بشرابة ابريسم. وَأما نقوش الخواتيم فختم الْخلَافَة خَاتم رَسُول الله ونقشه مُحَمَّد رَسُول الله فِي ثَلَاثَة اسطر وَمَا سوى ذَلِك فعلى حسب الِاخْتِيَار وَكَانَ على خَاتم أبي بكر رحمت الله عَلَيْهِ الْخَاص بِهِ نعم الْقَادِر الله وعَلى خَاتم عمر بن الْخطاب رحمت الله عَلَيْهِ كفى بِالْمَوْتِ واعظا يَا عمر وعَلى خَاتم عُثْمَان بن عَفَّان آمن عُثْمَان بِاللَّه الْعَظِيم وعَلى خَاتم عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام: الله الْملك عَليّ عَبده وَاخْتلف من بعد هَذِه الطَّبَقَة فِيمَا نقشوه على خواتيمهم.

الألقاب

الألقاب أما الألقاب فَهِيَ قديمَة وَكَانَ مِنْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة ذُو نواس وَذُو رعين وَذُو قرن وَذُو فائش وَذُو جدن وَغير ذَلِك ووافى الْإِسْلَام فوسم بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ جمَاعَة من أَصْحَابه مِنْهُم: أَسد الله حَمْزَة بن عبد الْمطلب وَذُو الْيَدَيْنِ عَمْرو بن عبد عَمْرو بن نَضْلَة وَذُو السيفين أَبُو الْهَيْثَم مَالك بن التيهَان الانصاري وَكَانَ يحضر الْحَرْب بسيفين ولقب مِمَّن اسْتشْهد فِي الحروب خُزَيْمَة بن ثَابت الانصاري بِذِي الشَّهَادَتَيْنِ وجعفر بن أبي طَالب بالطيار وَغير هَؤُلَاءِ مِمَّن اسْمه مَذْكُور وَخَبره مَشْهُور وَكَانَ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ يَدعُونَهُ بالأمين ولقب هُوَ أَبَا بكر بِالصديقِ وَعمر بالفاروق وَعُثْمَان بِذِي النورين ولقب النَّاس بعد وَفَاته عَليّ بن أبي طَالب بالوصي فَلَمَّا توفّي رَسُول الله دَعَا النَّاس أَبَا بكر بخليفة رَسُول الله وَكتب على كتبه مثل ذَلِك وَقَامَ عمر بعده فدعي بخليفة خَليفَة رَسُول الله مد يدة ثمَّ نقل إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكَانَ السَّبَب على مَا رُوِيَ: ان عمر رحمت الله عَلَيْهِ كتب إِلَى عاملة بالعراق بِأَن يبْعَث إِلَيْهِ رجلَيْنِ عارفين بِأُمُور الْعرَاق ليسألهما عَمَّا يُرِيد سؤالهما عَنهُ فأنفذ إِلَيْهِ لبيد بن ربيعَة وعدي بن حَاتِم فَلَمَّا وصلا إِلَى الْمَدِينَة اناخا راحلتيهما بِفنَاء الْمَسْجِد ودخلاه وَفِيه عَمْرو بن الْعَاصِ

فَقَالَا لَهُ اسْتَأْذن لنا على أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهما انتما اصبتما اسْمه وَقَامَ فَدخل على عمر وَقَالَ لَهُ: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ: مَا بدا لَك يَابْنَ الْعَاصِ فِي هَذَا القَوْل لتخْرجن من ذَلِك قَالَ: نعم ورد لبيد وعدي ودخلا الْمَسْجِد وَقَالا اسْتَأْذن لنا على أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقلت لَهما انتما اصبتما أُسَمِّهِ وانت الْأَمِير وَنحن الْمُؤْمِنُونَ ودعا لَهُ بِهِ على الْمِنْبَر أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَاسْتمرّ الْأَمر على مثله لكل من انتصب منصبه وَلم يتلقب أحد من بني أُميَّة فَلَمَّا انْقَضتْ أيامهم وَعَاد الْحق إِلَى أربابه وَظَهَرت الدولة العباسية ثَبت الله أَرْكَانهَا وَأخذت الْبيعَة لإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد رحمت الله عَلَيْهِ قيل الإِمَام وتلقب الْخُلَفَاء الراشدون صلوَات الله عَلَيْهِم مُنْذُ لدن أَبى الْعَبَّاس عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس الَّذِي اخْتلف فِي لقبه فَقيل: الْقَائِم وَقيل: الْمُهْتَدي وَقيل: المرتضى لما غلب عَلَيْهِ السفاح وَإِنَّمَا ذكر بذلك لِكَثْرَة مَا سفح من دِمَاء بني أُميَّة وتعددت الألقاب إِلَى وزراء الدولة فتلقب أَبُو سَلمَة حَفْص بن غياث بن سُلَيْمَان الْخلال بوزير آل مُحَمَّد وَكتب ذَلِك على كتبه وَقَالَ فِيهِ سُلَيْمَان بن مهَاجر البَجلِيّ: (إِن الْوَزير وَزِير آل مُحَمَّد ... أودى فَمن يشناك كَانَ وزيرا) ولقب الْمهْدي صلوَات الله عَلَيْهِ يَعْقُوب بن دَاوُد بن طهْمَان وزيره:

الْأَخ فِي الله حَتَّى قَالَ فِيهِ سلم الخاسر: (قل للْإِمَام الَّذِي جَاءَت خِلَافَته ... تهدى إِلَيْهِ بِحَق غير مَرْدُود) (نعم الْمعِين على التَّقْوَى أعنت بِهِ ... أَخُوك فِي الله يَعْقُوب بن دَاوُد) وكنى الْمَأْمُون صلوَات الله عَلَيْهِ أَبَا الْعَبَّاس الْفضل بن سهل ولقبه ذَا الرئاستين وكنى أَبَا مُحَمَّد الْحسن بن سهل أَخَاهُ حِين استوزره بعده ولقبه ذَا الكفايتين وتلقب صاعد بن مخلد فِي أَيَّام الْمُعْتَمد بِاللَّه بِذِي الوزارتين إِشَارَة إِلَى وزارة الْمُعْتَمد والموفق وتلقب إِسْمَاعِيل بن بلبل بالشكور المناصر لدين الله وَكتب ذَلِك على كتبه وكنى المكتفي بِاللَّه أَبَا الْحُسَيْن الْقَاسِم بن عبيد الله ولقبه بولِي الدولة وَكَانَ أول من لقب فِي الدولة وكنى المقتدر بِاللَّه أَبَا الْحسن ابْن الْفُرَات وَأَبا عَليّ بن مقلة وكنى أَيْضا ابا عَليّ الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن عبيد الله ولقبه عميد الدولة وَقد لقب من أَصْحَاب السيوف وقواد الجيوش أَبُو مُسلم عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بأمين

آل مُحَمَّد وَقيل: سيف آل مُحَمَّد وطاهر بن الْحُسَيْن فِي أَيَّام الْمَأْمُون رحمت الله عَلَيْهِ بِذِي اليمينين ولقب المعتصم بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِ حيدر بن كاوس بالأفشين لِأَنَّهُ أسروشني وشني والأفشين اسْم الْملك بأسروشنة كَمَا يُقَال لملك الرّوم قَيْصر ولقب الْمُعْتَمد على الله رحمت الله عَلَيْهِ إِسْحَاق بن كنداج بِذِي السيفين ولقب مؤنس فِي أَيَّام المقتدر بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِ بالمظفر وسلامة أَخُو نجح فِي أَيَّام القاهر بِاللَّه بالمؤتمن وَمُحَمّد بن طغج فِي أَيَّام الراضي بِاللَّه بالإخشيذ والإخشيذ اسْم الْملك بفرغانة وَالْحسن بن حمدَان فِي أَيَّام المتقي لله بناصر الدولة وَعلي أَخُوهُ بِسيف الدولة وتلقب توزون فِي أَيَّام المستكفي بِاللَّه بالمظفر وَكتب على كتبه: من المظفر أبي الْوَفَاء مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ. ووافت الْأَيَّام البويهية فافتتحت الألقاب فِيهَا للثَّلَاثَة الْأُخوة الَّذين هم: أَبُو الْحسن عَليّ وَأَبُو عَليّ الْحسن وأبوا الْحُسَيْن أَحْمد: بعماد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة واستمرت بعد ذَاك فَأَما معز الدولة فَإِنَّهُ اقترح عز الدولة فَمَنعه المستكفي بِاللَّه مِنْهُ وكسره إِلَى معز الدولة ولقب الْمُطِيع لله رحمت الله عَلَيْهِ بعد ذَلِك أَبَا مَنْصُور بختيار: عز الدولة وَكَانَ عضد الدولة اقترح عِنْد اسْتِقْرَار الْأَمر على تلقيبه تَاج الدولة فَلم يجب إِلَيْهِ وَعدل بِهِ إِلَى عضد الدولة فَحَدثني إِبْرَاهِيم بن هِلَال جدي قَالَ: لما ورد عضد الدولة فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلاثمائة للمعاونة على الأتراك قَالَ لي فِي بعض مَا تجاذبنيه قد عرفت يَا أَبَا إِسْحَاق مَا كَانَ من الْعم معز الدولة فِي منعنَا من اللقب بتاج الدولة وردنا عَنهُ وَلَو جِئْنَا نتلقب الْآن بِهِ لقبح ان يُقَال

عضد الدولة وتاج الدولة فَقلت وَلم لَا يُقَال وتاج الْملَّة فَيجمع فِي اللقبين بَين الدولة وَالْملَّة قَالَ: صدقت فاكتم هَذَا الْأَمر إِلَى أَن يحضر وقته فَلَمَّا عَاد فِي سنة سبع وَسِتِّينَ وثلاثمائه تلقب بِهِ وَصَارَت الألقاب مثناة بعد ذَلِك ثمَّ لقب بهاء الدولة فِي أول الدعْوَة القادرية بلقب ثَالِث فِي الْأمة وَبعده بلقب رَابِع فِي الدّين وَاسْتمرّ الْأَمر على ذَاك فَأَما وُلَاة خُرَاسَان فَلم يلقب أحد مِنْهُم من قبل وَإِنَّمَا كَانُوا يكنون فَافْتتحَ ذَاك بِمَا لقب بِهِ مَحْمُود بن سبكتكين فِي الْأَيَّام القادرية.

الخطبة على المنابر

الْخطْبَة على المنابر أما مَا كَانَ يخْطب بِهِ على المنابر للخلفاء فَأن يُقَال فِي الْخطْبَة الثَّانِيَة بعد الجلسة وَبعد إِعَادَة حمد الله وَالصَّلَاة على مُحَمَّد اللَّهُمَّ واصلح عَبدك وخليفتك عبد الله وَيذكر الِاسْم واللقب الإِمَام أَمِير الْمُؤمنِينَ بِمَا أصلحت بِهِ الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَالْأَئِمَّة المهتدين الَّذين يقضون بِالْحَقِّ وَبِه كَانُوا يعدلُونَ اللَّهُمَّ أعنه على مَا طوقته وَبَارك لَهُ فِيمَا أَعْطيته واحفظ لَهُ مَا استرعيته واجعله لأنعمك من الشَّاكِرِينَ ولالإئك من الذَّاكِرِينَ. وَأما أُمَرَاء الحضرة فَلم تجر الْعَادة بذكرهم على منابرها وَإِنَّمَا كَانَ يخْطب لَهُم على مَنَابِر الْبِلَاد الْبَعِيدَة الْجَارِيَة فِي ولاياتهم وَقد كَانَ مُحَمَّد بن ياقوت أَيَّام استيلائه وَافق الخطباء بِمَدِينَة السَّلَام وهم حَمْزَة بن الْقَاسِم بن عبد الْعَزِيز أَمَام الْمَسْجِد بِالْمَدِينَةِ وَعبد الله بن الْفضل بن عبد الْملك أَمَام الْمَسْجِد الْمُتَّصِل بدار الْخلَافَة وَأحمد بن الْفضل بن عبد الْملك أَمَام الْمَسْجِد بالرصافة على ان يدعوا لَهُ ويذكروه فِي الْخطْبَة بعد الدُّعَاء للراضي بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِ فَفَعَلُوا ذَاك فِي يَوْم جُمُعَة وعرفه الراضي فَأنكرهُ وَأمر بصرفهم عَمَّا كَانُوا مرسومين بِهِ وَأقَام غَيرهم مقامهم فِيهِ وَقد ذكر نَاصِر الدولة ابْن حمدَان فِي الْخطْبَة عِنْد كَونه بالحضرة فِي جمع كَثِيرَة ذكرا افْتتح بِذكر مؤازرته للسُّلْطَان ومدافعته عَنهُ ثمَّ وصل الدُّعَاء باسمه ولقبه وَاسم أَبِيه وَلم يكن ذَاك على قَاعِدَة

مُسْتَقِرَّة وَلَا أَمر خرج من حَضْرَة السُّلْطَان فَلَمَّا ورد عضد الدولة وَملك الْأُمُور وتقرب إِلَيْهِ الْخَواص والعوام ذكره هرون بن الْمطلب الْخَطِيب فِي الْمَسْجِد الْجَامِع بالرصافة بِمَا قَالَ فِيهِ: الْحَمد لله الْمَحْمُود ببلائه المعبود فِي أرضه وسمائه الَّذِي من علينا بخلافة الإِمَام الطائع لله وَجَمِيل رَأْيه فِي عضد دولته وتاج مِلَّته وكهف خِلَافَته وَسيد أمرائه وَمن فتح الله على يَدَيْهِ مَا استصعب من الْبلدَانِ بقتل أعدائه وَحسن سياسته لطاعة أوليائه وَمن مدحه الله كَمَا مدح سلالة أبنائه فَقَالَ فِي مُحكم كِتَابه (إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزكان وهم رَاكِعُونَ) (وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فان حزب الله هم الغالبون) الَّذِي عمر الْمَسَاجِد وحفر الانهار وسعى بالصلاح فِي جَمِيع الْأَمْصَار وَقَامَ بِحَق الله فِي اللَّيْل وَالنَّهَار فَقَالَ: (إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَأقَام الصَّلَاة وَآتِي الزَّكَاة وَلم يخْش إِلَّا الله فَعَسَى أُولَئِكَ ان يَكُونُوا من المهتدين) فابتهلوا إِلَى الله شاكرين واكثروا من الدُّعَاء لأمير الْمُؤمنِينَ ولعضد دولته وتاج مِلَّته السَّيِّد الْأمين الذاب عَن الْحَرِيم والفزع من الْمَسْأَلَة عَن النَّعيم (كلا لَو تعلمُونَ علم الْيَقِين لترون الْجَحِيم ثمَّ لترونها عين الْيَقِين ثمَّ لتسئلن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم) قَالَ الله أصدق الْقَائِلين (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم) وَطَاعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ الطائع لله

مرضاة لربكم ومثراة فِي أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ وَأَطيعُوا لعضد دولته ترشدوا وَاتبعُوا تَاج ملتكم تهتدوا وَأشْهد أَلا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وتمم الْخطْبَة وَكَانَ فعل هرون بن عبد الْمطلب ذَلِك على غير أصل وعرفه عضد الدولة فراسل الطائع لله وَسَأَلَهُ التَّقَدُّم بِذكرِهِ فِي الْخطْبَة فَفعل وَجَرت الْحَال عَلَيْهِ إِلَى هَذِه الغابة.

ضرب الطبل في أوقات الصلوات

ضرب الطبل فِي أَوْقَات الصَّلَوَات لم تجر الْعَادة قَدِيما بِأَن يضْرب الطبل للصلوات بالحضرة لغير الْخَلِيفَة وَإِنَّمَا أطلق لولاة العهود وأمراء الجيوش ان يضْرب لَهُم فِي أَوْقَات الصَّلَوَات الثَّلَاث الَّتِي هِيَ الْغَدَاة وَالْعشَاء آن، إِذا كَانُوا فِي سفر أَو بعد عَن حَضْرَة السُّلْطَان ثمَّ كَانَ الضَّرْب بالطبول لَا بالدنبلة فَلَمَّا ملك معز الدولة تشوفت نَفسه إِلَى الضَّرْب على بَابه بِمَدِينَة السَّلَام وَكَانَ نازلا فِي دَار مؤنس الْمُجَاورَة لدار الْخلَافَة وَسَأَلَ الْمُطِيع لله رحمت الله عَلَيْهِ ذَلِك فَلم يجبهُ إِلَيْهِ مَعَ قلَّة خلَافَة عَلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا لم تجر عَادَة بِهِ وَبنى معز الدولة دَاره بِبَاب

الشماسية فعاود الْخطاب وَالسُّؤَال وَقيل للمطيع ان الدَّار فِي طرف الْبَلَد وبحيث تكون المعسكرات فَأذن لَهُ إِذْنا شَرط فِيهِ ان لَا يُجَاوز بِالضَّرْبِ الْبَاب البارز إِلَى الصَّحرَاء فَضربت عِنْده خيمة لأَصْحَاب الدبادب وَكَانُوا يضْربُونَ هُنَاكَ فِي اوقات الصَّلَوَات الثَّلَاث الْمَذْكُورَة فَإِن اتّفق ان يدْخل معز الدولة إِلَى دَاره فِي الْبَلَد لم يَنْتَقِلُوا عَن مكانهم وَورد عضد الدولة وَالْأَمر جَار على ذَلِك لعز الدولة فَسَأَلَ الطائع لله الْإِذْن لَهُ فِي ضرب الطبل على بَاب دَاره بالمخرم الَّتِي هِيَ الْيَوْم دَار المملكة وَكَانَت من قبل لسبكتكين الْحَاجِب فَفعل ذَاك وَجَرت الْحَال عَلَيْهِ لمن تقلد الْأَمر من بعده من وَلَده.

خطب النكاح

خطب النِّكَاح خطب المحسن بن عَليّ التنوخي القَاضِي عِنْد وُقُوع العقد للطائع لله على بنت عضد الدولة خطْبَة افتتحها بِالْحَمْد لله وَالصَّلَاة على مُحَمَّد رَسُوله ثمَّ قَالَ أما بعد فَإِن الله جلّ جَلَاله جعل النِّكَاح سَببا وشج بِهِ الْأَرْحَام وَشرف بِهِ الانام وصير اعظمه فَضِيلَة وأقربه إِلَيْهِ وَسِيلَة مَا اتَّصل بِالنُّبُوَّةِ وَتعلق بالخلافة وَأفَاد الدّين جلالة وَسموا ورفعة وعلوا وان مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الله عبد الْكَرِيم الطائع لله أَطَالَ الله بَقَاءَهُ وأدام علاءه لما عرف مَوضِع عضد الدولة وتاج الْملَّة أبي شُجَاع مَوْلَاهُ أدام الله عزه ونعماه فِي الذب عَن الدّين والمحاماه على الْمُسلمين والمراماة بِنَفسِهِ دون الدعْوَة والمناضلة فِي نصْرَة الْخلَافَة رأى ان يجازيه عَن ذَلِك بأشرف المجازاة ويكافئه عَنهُ بألطف الْمُكَافَأَة ويصل نسبه بِنسَب رَسُول الله الَّذِي رُوِيَ فِيهِ عَنهُ انه قَالَ: كل سَبَب وَنسب مُنْقَطع يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا سببي ونسبي فَخَطب إِلَيْهِ سيدة نسَاء عصرها فضلا وجلالا وَوَاحِدَة بَنَات دهرها نبْلًا وكمالا فُلَانَة بنت عضد الدولة وتاج الْملَّة أَبى شُجَاع بن ركن الدولة أبي عَليّ مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ أدام الله عزه وبذل لَهَا من الصَدَاق مائَة ألف دِينَار ذَهَبا عينا مَثَاقِيل وازنة جيادا عتقا

وَكُونُوا إِلَى الشّرف بمواصلته مبادرين وَإِلَى مَا دعَاكُمْ إِلَيْهِ من لحْمَته مسارعين وللفرصة فِي حِيَازَة الشّرف بمصاهرته منتهزين ولأمره العالي ممتثلين سَامِعين طائعين اقول قولي هَذَا واستغفر الله الْعَظِيم لمولانا أَمِير الْمُؤمنِينَ ثمَّ لي وَلكم وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين. وَقد كَانَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن قريعة القَاضِي خطب بِحَضْرَة الطائع لله عِنْد تزَوجه بنت بختيار عز الدولة خطْبَة سلك فِيهَا هَذِه السَّبِيل وَكَانَ الصَدَاق أَيْضا مائَة ألف دِينَار.

فصل خدم به الخادم فيما قطع عنده الكتاب

فصل خدم بِهِ الْخَادِم فِيمَا قطع عِنْده الْكتاب قد قدم من ذكر الحضرة المعظمة النَّبَوِيَّة المطهرة لَا زَالَت سعودها طالعة وانوارها ساطعة وعزها مستعليا وسلطانها مستوليا فِيمَا افْتتح القَوْل بِهِ مَا اقْتَضَاهُ ان يحدده فِي اختتامه بِبَعْض التَّفْصِيل لَا كُله ومجموع التَّلْخِيص لَا جَمِيعه إِذْ كَانَت غَايَة ذَلِك لَا تبلغ والإحاطة بِهِ لَا تمكن لاتصال المدد وتطاول الأمد وانما يبْذل الوسع فِي نشر مَا ينشر وإيراد مَا يُورد اتبَاعا لأمر الله سُبْحَانَهُ فِي قَوْله: (وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث) وَمَعْلُوم أَن أكبر أُمُور الدُّنْيَا الَّتِي أسكن فِي ذراها خلقه وَأوجب عَلَيْهِم فِيهَا حَقه أَمر الْإِسْلَام الَّذِي انار بِهِ برهانه وَأقَام فِيهِ سُلْطَانه وَجعل أَهله خير الْأُمَم وأوفاهم ذمَّة وأظهرهم حجَّة وأوضحهم محجة وأولاهم مِنْهُ بمزيد الرِّعَايَة وَزِيَادَة الْعِنَايَة إِذْ كَانُوا لأَمره قابلين وبطاعته عاملين وبر بوبيته عارفين وبوحدانيته معترفين وَإِذا كَانَ ذَلِك كَذَلِك فَلم يكن تبَارك اسْمه ليستخلف عَلَيْهِم إِلَّا أكْرمهم محتدا وأطيبهم مولدا وأعظمهم أرومة وأفضلهم جرثومة وأشرفهم أسرة وأعزهم زمرة وَلَا ليجتبي من هَذِه الطَّبَقَة إِلَّا أطهرهم نسبا وأكبرهم حسبا وَأَكْثَرهم علما وأوفرهم حلما وأوفاهم حزما وَأَقْوَاهُمْ عزما وأكملهم خَلِيقَة وأقومهم طَريقَة وَأَحْسَنهمْ للأمور مُلَاحظَة وعَلى الصّلاح مُحَافظَة وَذَلِكَ سيدنَا ومولانا الإِمَام الْقَائِم بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ أَطَالَ الله بَقَاءَهُ مَا امْتَدَّ الْبَقَاء فِي أدوم

الْعِزّ والْعَلَاء على الإفصاح لَا الإدماج والإيضاح لَا الإدراج وَالتَّحْقِيق لَا الْمِثَال والتخصيص لَا الْإِجْمَال والإعلان لَا المواراة والأفراد لَا الموازاة حَتَّى لَو قيل انه الأول إِذا تميز النَّاس والأوحد إِذا وَقع الْقيَاس وَالسَّابِق إِذا وضع الرِّهَان وَالرَّاجِح إِذا رفع الْمِيزَان الَّذِي رام الأمد ففصل وَرمى الْغَرَض فنصل وَطلب الْغَايَة فَابْتَدَرَهَا وحاول النِّهَايَة فأحرزها لما روعي مُنَازع وَلَا خيف مدافع إِلَّا مَا كَانَ من جَاحد حق لَا يعْتد بقوله وحاسد فضل قد رده الله بغيظه وَلَيْسَ الْإِخْبَار عَن الْموقف الأكرم أدام الله ملكه كالأخبار عَن غَيره إِذْ كَانَ مَا يُورد من أَحَادِيث الماضين عَن رِوَايَات قد تحكمت فِيهَا الآراء الْمُخْتَلفَة وتسلطت عَلَيْهَا الْأَهْوَاء المتشعبة وأحالتها الدهور الْمُتَّصِلَة المتقلبة وحرفتها الْأَسَانِيد المتنقلة فَلَا سَبِيل لنا فِيهَا إِلَى غير التَّقْلِيد وَالتَّسْلِيم اللَّذين لَا يفصلان بَين المعتل والسليم وَمَا يُورد فِيمَا يتَعَلَّق بالحضرة المقدسة أعز الله نصرها مَا يشوبه شكّ أَو يسوء بِهِ ظن أَو يتَطَرَّق عَلَيْهِ رد لاننا نَدْعُو إِلَى أَمر يصدقهُ العيان ويحققه الْبُرْهَان ويصححه الامتحان فشاهده قَائِم وَدَلِيله ثَابت وَمَا كَانَ الله تبَارك اسْمه لينزل رسالاته إِلَّا على من اصْطفى أَو يَجْعَل خِلَافَته إِلَّا فِيمَن ارتضى أَو يستودع أمته إِلَّا الْأمين الوافي أَو يستحفظ مِلَّته إِلَّا القؤوم الْكَافِي لتطرد السِّيرَة العادلة وتبأى الْمصلحَة الشاملة وَيعلم أَنه جلّ وَعز لخلقه حَافظ ولدينه حَائِط ولحكمته مبرم ولمشيئته متمم ذَلِك لطف مِنْهُ وتوفيق وَفضل يؤتيه من يَشَاء انه ذُو فضل عَظِيم وَقد رُوِيَ فِي الْإِخْبَار المأثورة وَالْأَحَادِيث المنقولة من مَوَاقِف الْمُجْتَهدين فِي أَمر الدُّنْيَا وَالدّين مَا إِذا قيس بمواقف الْموقف الْأَشْرَف

النَّبَوِيّ وَالْإِمَام الْمهْدي عرف موقعه من الْفَضِيلَة وترقيه مِنْهَا فِي الْمنزلَة الجليلة هَذَا على ان وَجه الزَّمَان كالح وقياده جامح وأبواب الصّلاح منسدة وَأَسْبَاب الْفساد مشتدة وعقود الِاسْتِطَاعَة محلولة وعهود الاسْتقَامَة مستحيلة لكنه حرس الله أَيَّامه بالرفق المقرون بالتوفيق واللطف المعضود بمساعدة الْمَقْدُور وَالْفِعْل المنوط بِحسن الِاعْتِقَاد والعزم الْمُتَصَرف على بذل الِاجْتِهَاد أمسك هَذِه الْبَقِيَّة فتماسكت وراعى هَذِه الثميلة فانحرست وعصم هَذِه الْأمة فاستعصمت وَحفظ هَذِه الْملَّة فثبتت وَلَوْلَا ذَاك لأعضل الدَّاء وَتعذر الدَّوَاء واتسع الْخرق وَامْتنع الرتق: وان أمرءا لم يدر انك نعْمَة حقيق عَلَيْهِ شكرها لجهول وَالله لطيف بعباده وَهُوَ الْمَحْمُود على ان كشف بالحضرة المقدسة مَا كشف وَصرف مَا صرف وأزال من الشُّبْهَة مَا أَزَال وَانْزِلْ من الرَّحْمَة مَا انْزِلْ والمسؤول لَهَا تَمام التَّمْكِين والتأييد وَلِلنَّاسِ بهَا دوَام الْخَيْر والمزيد (إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون) وَمَا يزَال الْخَادِم يقف من التوقيعات الْعَالِيَة الشَّرِيفَة وَمَا يتَضَمَّن من الْأَلْفَاظ البليغة الفصيحة والمعاني البارعة الصَّحِيحَة مَا يُورد عِنْد عيانه وسماعه قَول الله تَعَالَى الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسالاته. وَلما علم ان بضاعته المزجاة فِي صناعته المجتواة نافقة على الْعرض السَّامِي وجائزة على النَّقْد العالي أقدم بوسيلة الثِّقَة بِتِلْكَ المكارم الفائضة على مَا يمْنَع من مثله الهيبة الفائضة وأمل من الْمُسَامحَة مَا يرجوه مثله من أهل الأدلال بِالْحُرْمَةِ وأولي الْحِرْص على الْخدمَة وَهُوَ يَرْجُو ان يظفر فِيمَا فعل بلطف الْقبُول فَيجمع الله لَهُ بَين التَّوْفِيق وبلوغ المأمول بمنه وجوده وَقدرته. عورض بِهِ الأَصْل بِخَط المُصَنّف وَصَحَّ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الْحَمد لله وصلواته على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم تَسْلِيمًا وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل كَانَ الْفَرَاغ من نُسْخَة يَوْم الثُّلَاثَاء التَّاسِع من رَجَب سنة خمس وَخمسين وَأَرْبع مائَة من الأَصْل بِخَط الْأُسْتَاذ ابي الْحُسَيْن هِلَال بن المحسن بن إِبْرَاهِيم رَحْمَة الله هـ.

§1/1