رسم الأهداف

عبد القادر المحمدي

رسم الأهدف المستقبلية وسبل تحقيقها في ضوء السنة النبوية الأستاذ الدكتور عبد القادر مصطفى المحمدي الجامعة العراقية (الاسلامية سابقاً) قسم الحديث النبوي

المقدمة

المقدمة إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -،وبعد: إنّ الأزمة الحقيقة التي يعيشها المسلمون اليوم هي افتقارهم إلى الأهداف الاستراتيجية التي تجعلهم يندمجون مع التطور الكبير الذي يشهده العالم، والسباق العلمي الذي يتنافس عليه غيرهم. والحقيقة أنّ للعالم عقلاً وقلباً ومعدة، ودورنا اليوم هو دور المعدة التي تستهلك الصناعات والتكنلوجيا فقط!، فنحن نأكل ما لا نزرع، ونلبس ما لا نصنع! فالدول العربية اليوم تشهد نهماً كبيراً في استهلاك ما يصنعه الغرب والشرق، فإذا كان الشرق والغرب يتسابقون إلى من يصنع أحدث تكنلوجيا في الطائرات -مثلاً-،فنحن نتفاخر في أول من يشتريها، وبين ذين فرق! وما لم نتدارك أنفسنا فسيأتي يوم قريب نعجز عن ركوب هذه الطائرة ناهيك عن شرائها. فتحول العرب والمسلمون من محرِك للإحداث في العالم إلى محرَك، ومن مؤثِر إلى متأثِر، والسبب الرئيس في هذه الأزمة الحقيقية هي أزمة حضور في هذا العصر، فالأمة اليوم مغيبة بقدر كبير جداً عن شهود هذه النهضة في العالم. ومن أهم الأسباب التي تقف وراء هذا النكوض الحضاري هو الأبتعاد عن جوهر الكتاب والسنة، واقتصار قرائتنا لهما على نية البركة والأجر حسب، دون الوقوف على مقصودهما وتدبر ما فيهما، فصار مثلنا اليوم: كالعيس في البيداء يقتلها الضمأ والماء فوق ظهورها محمول صار حالنا هكذا بعد ردح من التاريخ كنا فيه قادة، وللناس سادة، وكنا آنذاك روّاد حضارة، في وقت كان العالم كله يغط في نومه، وخيرهم من يمني نفسه أن يصل إلى معشار ما وصلت إليه الأمة المسلمة وقتئذٍ. أنا لا أريد جلد الذات -كما يقال- ولكن الحساب بقدر المسؤولية، وأمتنا ليست أمعة بين الأمم، ولم تكن في سلفها - ولا في لاحقها إن شاء الله تعالى- ذَنَباً لحضارة من الحضارات، بل هي الأمة الرائدة القائدة التي تحمل مسؤولية إصلاح الارض وتمكين دين الله تعالى بالحكمة والموعضة الحسنة، فهي الأمة

الوسط، خير الأمم والشاهدة عليها، لذا فلزاماً علينا أنْ رسم الخطط، ونضع الرؤى والأهداف، ولزامناً على أفراد هذه الأمة ومن يحمل همومها أن يحركوا الماء الراكد، ولو بحجر صغير -كبحثنا هذا-. فالتخطيط لرسم الأهداف هي المرحلة الأولى لبدء المشوار، وكل أمة لا ترسم أهدافاً جزئية آنية، وستراتيجية مستقبلية، هي أمة خاملة، ومن لم يكن له مشروع صار مشروعاً لغيره! فرجعة إلى كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لنتفحص الآيات والأحاديث بقرآءة جديدة، قراءة يملؤها الأمل، والطموح لنستخرج الدرر الكامنة فيهما، ونحول (المسطور) في كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى (منظور) في أرض الواقع، وهكذا حاولت في هذه الدراسة الموجزة أن نضع لنا بصمة في هذا الطريق الطويل عسى أن تكون الخطوة في الألف ميل. وأقول بكل ثقة إنّ في كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - من القواعد والثوابت التي يزعم الغربيون وكثير من الشرقيين أنهم مَنْ سجّل السابقة في ذلك، والحقيقة الصارخة أنّ للإسلام قصب السبق في ذلك، كما تبين في طيات هذا البحث، فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يخطط لأهدافه بأعلى مستويات التخطيط الدقيق، ووضع لنفسه أهدافاً قريبة، وأخرى بعيدة، ومن تأمل جيداً في سيرته - صلى الله عليه وسلم - يجد فيها أنواع فنون الإدارة، وأعلى مستويات القيادة، وأدق أنواع التخطيط ورسم الأهداف. وحاولت في هذه الدراسة - المتواضعة - تسليط الضوء على جزيئة مهمة وهي (رسم الأهداف) من خلال الحديث النبوي، موضحاً ماهية الأهداف، ومواصفاتها الجيدة، والقواعد العامة لتحديدها، ومن هم الشركاء في صناعتها. ومن أهم ما أنبه عليه ههنا: أنّ الأمثلة التي نذكرها ههنا هي ليست أمثلة جامدة في حقبة زمنية معينة، وليست خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بل هي دورس حيّة، سارية المفعول في كل زمان ومكان، وتخص كل أفراد الأمة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} الأحزاب21. والأمة مأمورة باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنته، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} آل عمران31. فهذا أمر من الله تعالى لنا باتباع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا أنْ نقلده، وبينهما فرق كبير، فالاتباع هو اللحاق بالأول بعلم وفهم (¬1)، بخلاف التقليد الذي يعني: متابعة الإنسان لغيره فيما يقوله أو يفعله من غير نظر وتأمل في الدليل، كأن المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه (¬2). ¬

_ (¬1) ينظر: الوقوف على مهمات التعاريف ص37. (¬2) المصدر نفسه ص106.

فالاتباع مظنة الأبداع، والتقليد مظنة الجمود (¬1). ولذا فالمطلوب هنا هو التأمل في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته العطرة، وتوظيف النصوص بطريقة تلائم حاجات الأمة ومتطلبات المرحلة، وتعالج الخمول الذي خيم على مجتمعنا اليوم، ولاسيما أن الله تعالى يسّر لنا ما كان يحلم به غيرنا في سالف الأزمان، فوسائل التواصل وسبل الاتصال مبذولة لطلبة العلم اليوم. ولا يفوتني التنويه إلى شحة الدراسات التي تعرضت للتخطيط ورسم الأهداف من خلال السنة النبوية، وكل من كتب في الأهداف -في حدود اطلاعي- فإنما تعرّض إليها ضمناً لا أصلاً، وبطريقة إدارية بحتة، وغالب الأمثلة مكررة وتدور على حديث أو حديثين. لذا اجتهدت قدر المستطاع في توجيه النصوص حسب الخطة المرسومة، فجاء بهذا الشكل، فبحثي هذا إن كتب له القبول إنْ شاء الله يكون أوّلاً في بابه، وقد يكون نقطة انطلاق لرسالة علمية متخصصة في رسم الأهداف، والفضل بعد فضل الله تعالى يعود لـ (ندوة الحديث الشريف) المباركة في فتح هذه الأفاق الجديدة الإبداعية كما تعودنا عليها منذ انطلاقتها، وفق الله القائمين عليها، وجعله في ميزان حسناتهم. وقد اختصرت الكلام بغير اخلال فيه، ليتوافق مع الشروط المقررة في هذه الندوة، وحاولت الاقتصار على الأحاديث الصحيحة، إلاّ إذا لم يكن في الباب غيره، فأذكره وأنبه عليه في موضعه. وأخيراً فهذه بضاعتنا مزجاة بين أيديكم، نسأل الله الكريم أنْ يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، وأن يوفق أخوتي الباحثين للإستفادة منه وتطويره بالشكل الذي يحقق النفع الأكبر، وما كان فيه من صواب فمن توفيق الله وحده، وما كان فيه من خلل وقصور فمن ضعفي وقلة حيلتي. والحمد لله رب العالمين. ¬

_ (¬1) محاضرات في العقيدة الاسلامية، د. عبد القادر المحمدي ص15.

المبحث الأول: (الهدف) مفهومه، وشروط تحقيقه.

المبحث الأول: (الهدف) مفهومه، وشروط تحقيقه. المطلب الأول: تعريف الهدف لغة واصطلاحاً. جاء في العين:" والهَدَفُ: كلّ شيء عريض مرتفع. وأَهْدَفَ الشَّيءُ، إذا انْتَصَبَ" (¬1). وقال ابن فارس: الْهَاءُ وَالدَّالُ وَالْفَاءُ: أُصَيْلٌ يَدُلُّ عَلَى انْتِصَابٍ وَارْتِفَاعٍ. وَالْهَدَفُ: كُلُّ شَيْءٍ عَظِيمٍ مُرْتَفِعٍ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الرَّجُلُ الشَّخِيصُ الْجَافِي هَدَفًا. قَالَ: وَالْهَدَفُ: الْغَرَضُ. وَرَكَبٌ مُسْتَهْدِفٌ: عَرِيضٌ. وَامْرَأَةٌ مُهْدِفَةٌ: لَحِيمَةٌ. وَأَهْدَفَ لَكَ الشَّيْءُ: انْتَصَبَ. وَمِنَ الْبَابِ الْهِدْفَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النّاس. وفي الحديث:"أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا مرّ بهَدَفٍ مائل أو صدفٍ مائل أسرع المشي". (¬2) " (¬3). وأما الهدف اصطلاحاً: فقال ابن الأثير:" الهدف: كل بناء مرتفع مشرف .. ، يقال: أهدف له الشيء واستهدف، إذا دنا منه وانتصب له مستقبلا " (¬4). وقد وردت كلمة هدف أيضاً في حديث عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم خلفه فاسر إليَّ حديثاً لا أخبر به أحدا أبداً وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب ما استتر به في حاجته هدف أو حائش نخل، .... الحديث " (¬5). وقال المناوي:" الهدَف -محركاً- كل شيء عظيم مرتفع، والغرض وقولهم من صنف فقد استهدف أي انتصب كالغرض يرمى بالأقاويل " (¬6). ومن معاني الهدف (الغرض)، وهذا الذي استعمله النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من مناسبة، فقال - صلى الله عليه وسلم -:"لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً " (¬7). ومنه ما أخرجه أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن مغفل المزني، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم ¬

_ (¬1) العين باب (هـ د ف) 4/ 28. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (26641)،والبيهقي في شعب الايمان (1316)،وإسناده مرسل (¬3) مقاييس اللغة 6/ 39 - 49،وينظر الصحاح، للجوهري 4/ 1442. (¬4) النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير 5/ 251، بتصرف يسير، وينظر غريب الحديث لابن الجوزي 2/ 492. (¬5) أخرجه أحمد1/ 204،وإسناده صحيح. (¬6) التوقيف على مهمات التعاريف ص739. (¬7) أخرجه مسلم 3/ 1549 (1957)،وغيره.

المطلب الثاني: شروط تحقيق الأهداف (في ضوء السنة النبوية).

فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" (¬1). قال المناوي:" الغرض: الهدف المقصود بالرمي، ثم جعل اسما لكل غاية يتحرى إدراكها، وقال الشريف: الغرض هو الفائدة المترتبة على الشيء من حيث هي مطلوبة بالإقدام عليه " (¬2). فالأهدف والأغرض بمعنى واحد، وهما: الغاية التي يتحراها طالبها للوصول إلى مراده، ولا تتحقق إلا بالإقدام عليها، وقد تكون واحدة أو أكثر، كلية أو جزئية. المطلب الثاني: شروط تحقيق الأهداف (في ضوء السنة النبوية). لتحقيق الأهداف شروط مهمة يجب توفرها حتى تتحقق الأهداف، وأهم هذه الشروط: أولاً: أن يكون الهدف محدداً واضحاً: خلق الله تعالى هذا الكون بنظام دقيق، فهو يسير وفْق غاية محددة وهدف منشود، وهذا النظام الكوني البديع مرآة تدلّ على أنّ كل شيء فيه له هدف. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} الأنبياء16، فالله جل جلاله خلق هذا الكون ونظمه، وجعل له أهدافاً بينة وواضحة {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} القمر49. فالأنسان -أي انسان - لو تامل قليلاً بتجرد تام في ملكوت السموات والأرض لما ملك نفسه أن يعترف بهذا الخالق العظيم. ولما كان الأنسان خليفة في هذه الأرض كان عليه أنْ يعرف الهدف الذي يعيش من أجله، ويسعى لتحقيقه، وإلاّ فإنه ولد وعاش وسيموت وهو لا يدري لم خلق وأين سيمضي. أما المسلم الدّاعي إلى الله فيجب عليه أولاً أن يُحدِّد الهدف من دعْوته، وتحديد الهدف يدفعه إلى سلوك السبل الصحيحة المرتّبة في حياته، فيكون لكلامه حينئذٍ أكثر نفعاً، وأبلغ تأثيراً. وأزعم إنّ ما يَحدُث في ميدان الدّعوة اليوم من اخفاقات سببها في أغلب الأحيان عدم تحديد الأهداف ووضوحها، إذ يَتَشتّت ذهن المستمع في موضوعات شتَّى وفي أمور متنوِّعة، تجْعله ينصرف عن الدّعاة، لأنه لم يجد لديْهم هدفاً مُحدّداً. ولقد حدّد الله -سبحانه وتعالى- الهدَف من خلْق الإنسان قبل خلقه!،فقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} البقرة30،وأمر الملائكة أن يسجدوا له فقال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 5/ 57،والترمذي (3862)،وغيرهما، واسناده ضعيف. (¬2) التوقيف على مهمات التعاريف ص 536.

فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} الحجر29.وحدد له وظيفته في هذا الكون، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات56،وحدّد - صلى الله عليه وسلم - مضمونَ رسالته، والغايةَ منها، منذ أوّل يوم، إذ صعد على جبل الصفا في قلب مكة، فصدح بهدفه، فأخرج البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال:": لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} الشعراء214. صعد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أنْ يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال - صلى الله عليه وسلم -:" أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلا بالوادي تريد أنْ تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ ". قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً. قال:" فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ". فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا، فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} المسد:1،2 " (¬1). فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - جمع عشيرته وأقاربه على صعيد واحد، وحدد لهم الهدف الذي بعث من أجله، بكل وضوح ودقة وإيجاز، وكذا أخرج أحمد في مسنده من حديث أبي الزناد عن ربيعة بن عباد الديلي، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول:" يا أيها النّاس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا". ويدخل في فجاجها والنّاس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً وهو لا يسكت، يقول:" أيها النّاس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا". إلاّ أنّ وراءه رجلاً أحول وضيء الوجه ذا غديرتين، يقول: إنّه صابئ كاذب. فقلت: من هذا؟ قالوا: محمد بن عبد الله، وهو يذكر النبوة قلت: من هذا الذي يكذبه؟ قالوا: عمه أبو لهب " (¬2). ومن الدقة العالية للأهداف النبوية أنه حدد مطلبه من قومه بكلمة واحدة: (لا إله إلا الله)، ولكنهم رفضوها، قال ابن عباس - رضي الله عنه -:مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعند أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كى يمنعه، وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي: ما تريد من قومك؟ قال: إني أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب، وتؤدى إليهم العجم الجزية". قال: كلمة واحدة! قال:" كلمة واحدة". قال:" يا عم قولوا لا إله إلا الله". فقالوا: إلها واحداً (ما سمعنا بهذا فى الملة الآخرة إنْ هذا إلا اختلاق). قال: فنزل فيهم القرآن: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} ص 1و2 إلى قوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} ص 7" (¬3). فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - حدد هدفه (كلمة واحدة)،وأخبرهم بالنتائج المستقبلية التي خطط لها النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، تدين لهم العرب، وتؤدي العجم الجزية إليهم، وهذا بالتأكيد ناتج عن تخطيط نبوي على مستوى عالٍ، فكأني بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4492)، ومسلم 1/ 192 (204)،وغيرهما. (¬2) الحديث صحيح، أخرجه أحمد 4/ 341. (¬3) أخرجه أحمد 1/ 227،والترمذي (3232)، والنسائي في الكبرى (8716)،وغيرهم

كان يجلس الساعات والأيام يفكر ويرسم الخطط لتحقيق الأهداف، وبالتأكيد يظلله الوحي ويسدد تلك الخطوات. لذا كان لهذا التحديد والوضوح أثر بالغ في التأثير في إسلام كثير من الصحابة، فالإنسان السوي يهمه وضوح الأهداف ودقة الرؤى في ما يطلب منه، لاسيما في مسألة تتعلق بنهايته المحتومة، وبآخرة إما إلى خلود في الجنة أو في النار-أعاذنا الله منها-. فعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال: بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافداً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدم عليه وأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله ثم دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس فى أصحابه، وكان ضمام رجلا جلداً أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" أنا ابن عبد المطلب". قال: محمد؟ قال:" نعم". فقال: ابن عبد المطلب: إني سائلك ومغلظ فى المسألة، فلا تجدنًّ فى نفسك. قال:" لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك". قال: أنشدك الله، إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك: آلله بعثك إلينا رسولاً؟ فقال:" اللهم نعم". قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك: آلله أمرك أنْ تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئاً، وأنْ نخلع هذه الأنداد التى كانت آباؤنا يعبدون معه؟ قال:" اللهم نعم". قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك: آلله أمرك أنْ نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال:" اللهم نعم". قال-ابن عباس-: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة، الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الإسلام كلها، يناشده عند كل فريضة كما يناشده فى التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص. قال: ثم انصرف راجعاً إلى بعيره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ولّى:" إنْ يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة". قال: فأتى إلى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أوّل ما تكلم به أنْ قال: بئست اللات والعزى. قالوا: مه يا ضمام اتق البرص والجذام اتق الجنون. قال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إنْ الله عز وجل قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله، وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه. قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفى حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً. قال: يقول ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 1/ 250 و1/ 264 و1/ 265، والدارمي (652)، وأبو داود (487)،وغيرهم.

ثانيا: أن يكون الهدف قابلا للتنفيذ

فالوضوح والدقة في تحديد الهدف غيرتا حال الرجل من حال إلى حال بهذه السرعة، وتحول إلى داعية إلى دين الله تعالى. ثانياً: أن يكون الهدف قابلاً للتنفيذ. قد يضع الأنسان لنفسه أهدافاً كبيرة، لكنه يفشل في تحقيقها لا لغلل فيها، وإنما لكونها غير قابلة للتنفيذ أصلاً، ربما من قبله فقط أو من قبل أي شخص آخر، لذا فالمؤسسات الناجحة هي التي تضع أهدافاً تقبل التنفيذ. والهدف القابل للتنفيذ هو الهدف الذي يناسب قدرات الشخص نفسه-أو المؤسسة- وإمكانياته ومستواه، لذا نجد في بعض مؤسساتنا اليوم مشاريع ضخمة تنطلق ولكنها سرعان ما تفشل بعد فترة وجيزة؛ كون تلك الأهداف غير قابلة للتنفيذ في ذلك البلد بالذات لسبب أو لآخر. وأحسب أن السبب الرئيس في هذا الفشل أن غالب هذه الطموحات لم تبنَ على أساس علمي ودراسة مسبقة، وإنما هي في العادة اجتهادات من أشخاص ربما مخلصين ولكنهم غير مؤهلين أو غير متدربين. ولنوضح ذلك بمثال من السيرة النبوية الكريمة: فأخرج البخاري من حديث أم المؤمنين عائشة زوج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - انّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"الم تري أنّ قومك حين بنوا الكعبة، اقتصروا عن قواعد إبراهيم. قالت: فقلت: يا رسول الله، أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت" (¬1).وفي رواية: "لولا أنّ قومك حديث عهدهم بجاهلية -أو قال: بكفر. قال: يقول: ابن الزبير:- لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين في الأرض باباً يدخل منه وباباً يخرج منه". قال أبو إسحاق (¬2):فانا رأيتها كذلك" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1506)،و (3188)،ومسلم 2/ 969 (1333)،وغيرهما. (¬2) السبيعي. (¬3) أخرجه أحمد 6/ 102.

ثالثا: أن يكون الهدف واقعيا

فكان من جملة أهداف النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يهدم بناء الكعبة ويقيمه على أصل بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ويدخل الحجر، ويجعل لها بابين .. ،وهو هدف رائع ونافع، لكنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - راعى عدم امكانية تنفيذه وقتئذٍ، كون النّاس قريببي عهد بجاهلية، وقد تتحقق مفسدة في الهدف أكبر من المنفعة، فترك النبيّ - صلى الله عليه وسلم - تنفيذ هذا الهدف. وحينما جاء الوقت المناسب في خلافة عبد الله بن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - كان الوضع مناسباً فنفّذ ابن الزبير هذا الهدف. ثالثاً: أن يكون الهدف واقعياً: ونعني به أن يكون له أثر على الواقع لا أنه خيالي غير واقعي، أو هدف لا يتحقق بأي شكلٍ من الأشكال. ويقال: إنّ ملكاً خرج يوماً في رحلة تستغرق أياماً في غابات مملكته الواسعة، وفي طريق عودته شعر بألم في قدميه، فقرر أن يفرش طرقات المملكة على طولها وعرضها جلداً كي لا تتورم قدماه من جديد! وهذا عمل شاق جداً، فقال له الوزير الفطن: يا سيدي لم لا تغطي قدميك بالجلد؟ (¬1) فالأهداف لابد لها من واقعية وإمكانية. ولذا سعى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لإصلاح الشباب والحفاظ على السلوك القويم فهم عصب الأمة، والشريان الحي لها، وحياة الأمم بحياة شبابها، وضياعها بانحرافهم عن القيم والثوابت. فكان من أهم الأهداف النبوية تحصين الشباب من المزالق الفكرية والخلقية، إذن الهدف كان (حماية الشباب من الإنحراف) وهذا هدف واقعي، ليس خيالياً. وقد تعامل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بواقعية تامة مع هذا الهدف، فمثلما منعهم من الزنا، دعاهم ورغبهم في الزواج وإنشاء الأسر القويمة، ولما كان هذا الهدف واقعياً فقد ترك اثراً واضحاً في نفوس الشباب، وتأمل كيف عالج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - غريزة ذاك الشاب الذي جاءه يريد من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يبيح له الزنا دون النّاس، فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه. فقال - صلى الله عليه وسلم -:" أدنه فدنا منه قريباً"، قال فجلس، قال - صلى الله عليه وسلم -:" أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال:" ولا النّاس يحبونه لأمهاتهم". قال:" أفتحبه لابنتك"؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال:" ولا النّاس يحبونه لبناتهم". قال:" أفتحبه لأختك"؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال:" ولا النّاس يحبونه لأخواتهم". قال: "أفتحبه لعمتك؟ " قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال:" ولا النّاس يحبونه لعماتهم". قال:" أفتحبه لخالتك"؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. ¬

_ (¬1) ينظر: أفكار صغيرة لحياة كبيرة، كريم الشاذلي ص79.

رابعا: أن يكون الهدف محددا بوقت معين

قال:" ولا النّاس يحبونه لخالاتهم". قال: فوضع يده عليه وقال:" اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه وحصن فرجه". فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء " (¬1). فعالجه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بواقعية تامة، وجعله يقيس الحكم على نفسه، فقال (أترضاه لأمك ..) فالمقياس واقعي، لذا جعل الشاب ينأى بنفسه عن هذا العمل القبيح. أما إذا كان الحل (الهدف) خيالياً متقاطعاً مع الفطرة الإنسانية فإنه سيفشل حتماً، لذا فشلت الكنيسة في تحقيق هدف (الرهبنة)، وكلنا سمع ويسمع وسيسمع بالشذوذ الجنسي والاغتصاب من قبل كثير من المترهبنين في كنائس الغرب والشرق، نسأل الله العافية. فالمشكلة أنهم خالفوا الفطرة ونقضوا المنطق وعارضوا الواقع، فالانسان مجبول بالفطرة على الميل إلى المرأة والأسرة والأولاد، وقد زُين ذلك لهم، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} آل عمران14 لذا فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - حث على الزواج وشجع الشاب على الانجاب، ورفض كل مظاهر الرهبنة؛ لأنها لا تمت إلى الحياة بصلة، وديننا هو دين الحياتين الدنيا والأخرة، ولهذا عنف النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أولائك النفر الذي استقلوا عمل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا الانحياز عن الفطرة، فأخرج مسلم وغيره من حديث أنس - رضي الله عنه - أنّ نفراً من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، سألوا أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر، فقام - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:" ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (¬2). رابعاً: أنْ يكون الهدف محدداً بوقت معين: الأهداف الناجحة هي التي تحمل خطة زمنية محددة، لها نقطة انطلاق ونقطة انتهاء. وكل هدف ليس له زمن محدد يكون عشوائياً غير منضبط، فمثلاً: من أراد حفظ كتاب الله تعالى فلابد أن يضع لنفسه خطة زمنية مرسومة يومية وأسبوعية وشهرية، وهكذا كل مشروع لابد له من خطة زمنية ليحقق هدفه. ومن يتأمل في سيرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يلمس ذلك بوضوح، فمنه: قوله - صلى الله عليه وسلم -:"لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا " (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 5/ 256 باسناد صحيح. (¬2) أخرجه مسلم 4/ 129 (3384)،وغيره. (¬3) أخرجه أحمد 1/ 355، من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - باسناد صحيح.

فالهجرة على عضم منزلتها في الإسلام، حتى قال تعالى في فضلهم {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} التوبة20 وقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في فضل الهجرة:" لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ... " (¬1). وقد أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة بيدأن لها زمناً محدداً، فكانت الهجرة فرض عين ثم نسخت بهذا الحديث (¬2)، فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - رسم لها خطة زمنية محددة، ابتدأت في ساعة وانتهت في ساعة. قال الحافظ في الفتح:" وإنما كان كذلك؛ لأنّ مكة بعد الفتح صارت دار إسلام فالذي يهاجر منها للمدينة إنما يهاجر لطلب العلم أو الجهاد لا للفرار بدينه بخلاف ما قبل الفتح" (¬3). ومن ذلك أنّ الله تعالى شرع لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إعطاء سهم من أسهم الزكاة لمن يريد أن يتالفه للإسلام، فكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعطي الرجل الغني من مال الزكاة والخمس؛ ليقربه من الدين ويتألفه حتى يقوى عوده في الإسلام ويعايش كبار المسلمين فيقوى ويصلب في الدين، فعن أنس - رضي الله عنه -، قال: قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إني أعطي قريشا أتألفهم، لأنهم حديث عهد بجاهلية" (¬4).ومن هؤلآء صفوان بن أمية، فأخرج مسلم من حديث صفوان أنّه قال: «والله لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني، وإنه لأبغض النّاس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب النّاس إليّ" (¬5). فالهدف من هذا السهم هو تأليف القلوب للإسلام في فترة من الفترات الزمنية المحددة، وينتهي زمنه بقوة الدين في نفوس النّاس، لذا فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أوقف هذا السهم. قال ابن تيمية:"وما شرعه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - شرعاً معلقاً بسبب إنما يكون مشروعاً عند وجود السبب: كإعطاء المؤلفة قلوبهم؛ فإنه ثابت بالكتاب والسنة. وبعض النّاس ظنَّ أنَّ هذا نسخ، لما روي عن عمر - رضي الله عنه -: أنه ذكر أن الله أغنى عن التألف، {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} الكهف29، وهذا الظن غلط؛ ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه؛ لا لنسخه" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه بتمامه البخاري (7244)،وغيره. (¬2) ينظر: فتح الباري، ابن حجر 7/ 259. (¬3) المصدر نفسه 10/ 185. (¬4) أخرجه البخاري (2977)،ومسلم 2/ 733 (1059)،وغيرهما. (¬5) صحيح مسلم 4/ 068 ((2313). (¬6) مجموع الفتاوى 3/ 260.

خامسا: وضع الأهداف الجزئية

ثم إنّ وعي كثير منا بالوقت ضعيف، ولذا فإن استخدامنا له في حل مشكلاتنا محدود، والزمن عنصر في تكوين الأهداف وتراكمها، وطريقة حلها، ووجود هدف في حياة الواحد منا يجعل وعيه بقيمة الزمن أعظم، ويساعده هذا الوعي على استخدامه في تغيير أوضاعه. وأتساءل ماذا بإمكاننا أن نفعل تجاه جهلنا بعلم من العلوم المعاصرة؟ فإننا سنجد أنّه في الوقت الحاضر لا نستطيع أن نفعل أي شيء يذكر تجاه ذلك، أما إذا احترمنا الزمن وخططنا لخمس سنين-مثلاً- فسنجد أننا نستطيع فعل الكثير؛ وذلك بسبب وجود خطة، واستهداف للمعالجة، وهما يعتمدان على عنصر الزمن. فكثير من الخلل المنهجي في تصور أحوالنا، وحل أزماتنا، يعود إلى ضيق مساحة الرؤية، ومساحة الفعل معًا، وذلك كله بسبب فقد النظر البعيد المدى (¬1). خامساً: وضع الأهداف الجزئية: لا نعني بالجزئية أنها هامشية، وإنما هي أهداف مرحلية توصل بمجموعها إلى الهدف الأكبر، المقصود من ذلك الفعل، وهذه الأهداف الجزئية يجب ألا تتقاطع مع الهدف الأصل أو تتنافر معه، لأنها لن تصبح اهدافاً جزئية حينئذٍ، بل تتحول إلى معوق عن تحقيق الهدف الكبير. فلو أراد أحد منّا بناء مدرسة فلابد أولاً من موقع مناسب، وتصميم مناسب، وأساتذة أكفاء، وطلبة، ومناهج علمية، فتحقيق كل واحدة من هذه هدف جزئي، وبمجموعها يتحقق الهدف الكبير، وكل واحدة من هذه الجزئيات مهمة بمفردها لتحقيق التكامل من الهدف (إنشاء المدرسة). فلو تهيأ موقع مناسب، وطلبة، ووسائل متطورة، بلا أساتذة، فلن يتحقق الهدف، وكذا لو تهيأ طلبة وأساتذة ووسائل بلا مكان مناسب فلن يتحقق الهدف، وهكذا في بقية الأهداف الجزئية، فهي تكاملية غير متضادة. ولنوضح المسألة بمثال من السنة النبوية: أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن:" إنك ستأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أنْ يشهدوا أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب " (¬2). ¬

_ (¬1) ينظر: من أجل إنتاجية أفضل أهمية رسم الأهداف، د. عبد الكريم بكار، صيد الفوائد، مقال على الشبكة العنكبوتية. (¬2) أخرجه البخاري (1425)، ومسلم 1/ 50 (19)،وغيرهما.

فهذه الأجزاء تتكامل بمجموعها فتشكل الإسلام، ولا يفهم منه أنّ من أقر بالشهاديتن، والصلاة ثم جحد الزكاة أنه على الإسلام، بل هذه الأهداف الجزئية يكمل بعضها بعضاً، فلا تقبل الشهادتان بلا صلاة، ولا صلاة بلا زكاة، وهذا التكامل في الأهداف الجزئية قد فهمه أعظم رجل بعد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الأمة أبو بكر الصديق حينما قاتل مانعي الزكاة، فأخرج الشيخان من حدث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر - رضي الله عنه - وكفر من كفر من العرب، فقال عمر - رضي الله عنه - كيف تقاتل النّاس؟ وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" أمرت أنْ أقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلاّ بحقه وحسابه على الله ". فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإنّ الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. قال عمر - رضي الله عنه - فوالله ما هو إلا أنْ قد شرح الله صدر أبي بكر - رضي الله عنه - فعرفت أنه الحق" (¬1). ومن يتأمل مراحل الدعوة النبوية، المرحلة السرية، والعلنية، والهجرة، وإقامة الدولة، والفتوحات، كلها مراحل متكاملة غير متضاد ولا متقاطعة، وكانت كل واحدة من هذه الأجزاء هدفاً مستقلاً في فترة زمنية معينة، تكاملت لتشكل الهدف الكبير (دعوة الإسلام). ومن ذلك أيضاً: الأهداف الرئيسة التي حققها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أوّل مقدمه المدينة المنورة، وهي (بناء المسجد، المؤاخاة، وثيقة المدينة) فهذه أهداف جزئية تتكامل ضمن هدف كبير هو بناء الدولة المؤسساتية. فأول مؤسسة بنيت في دولة الإسلام هي (المسجد)، فالمسجد كان مكان عبادة، وملتقى الأخوة والمدرسة التعليمية وهو كذلك كان مقر القيادة منه تنطلق الجيوش وفيه تعقد اللقاءات الداخلية والخارجية (¬2)، ومن النكت اللطيفة التي نبه إليها الإمام البخاري في صحيحه أنه عنون باباً (التعاون في بناء المسجد) (¬3) فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - بنى هو وأصحابه متعاونين هذه المؤسسة الضخمة، وفي هذا تأثير روحي كبير في نفوس المسلمين. ثم جاء الهدف الثاني: (المؤاخاة): وهو هدف مهم جداً ذوب فيه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الاختلافات القبلية والنفسية بين المسلمين، فلا فرق بين أسود وأبيض، ولا غني أو فقير، فالميزان التقوى، فتقدمت رابطة الدين على رابطة الدم، وهذه الخطوة كانت هامة للغاية ولاسيما بين فئات مختلفة في أشياء كثيرة، ففيهم القرشي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1335)، ومسلم 1/ 51 (20)،وغيرهما. (¬2) وللمزيد ينظر: دلائل النبوة للبيهقي 2/ 546،والسيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة، أبو شهبة 2/ 30،،والرسول القائد محمود شيت خطاب ص77. (¬3) كتاب الصلاة، أبواب المساجد باب (30) 1/ 171.

والفارسي والرومي، والحبشي، والغفاري، والدوسي، والأوسي والخزرجي، ... الخ، اضف إلى الخلافات الكبيرة بين الأوس والخزرج، ووجود العدو القديم الجديد (اليهود) الذين يتربصون بالمؤمنين، ثم الطابور الثالث (أهل النفاق)، فكانت المؤاخاة مهمة جداً لضبط العلاقات والروابط الاجتماعية (¬1). ثم جاء الهدف الثالث: وهو تنظيم العلاقات بين المسلمين وبين غير المسلمين فجاءت الوثيقة النبوية ببنود مهمة أرست القواعد والمبادئ، بما يحقق العدالة والمساواة التامة بين البشر، وأن يتمتع بنو الإنسان على اختلاف ألوانهم، ولغاتهم، وأديانهم، بالحقوق والحريات بأنواعها،"ولا تزال المبادئ التي تضمنها الدستور -في جملتها- معمولاً بها، والأغلب أنها ستظل كذلك في مختلف نظم الحكم المعروفة إلى اليوم ... وصل إليها النّاس بعد قرون من تقريرها، في أول وثيقة سياسية دونها الرسول - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). فهذه الأهداف الثلاثة هي جزئية يكمل بعضها بعضاً، وهي تصب في تحقيق هدف كبير هو إقامة دولة إسلامية، ولاسيما أنّ الدولة كانت تمر بمنعطف تاريخي كبير، فهي تمر باختبار مهم والكل يتربص بها غلطاً أو تقصيراً، فهي تحولت من جماعة إلى أمة، ومن مرحلة الاستضعاف والتهجير إلى مرحلة الاستقرار والتمكين. فالأهداف الجزئية مهمة جداً، ورسم الخطط والمناهج بهذا الأهداف من واجبات القيادة، وتنظيم هذه الأهداف وترتيبها حسب الأولويات، لتحقيق الهدف الرئيس. يقول أساتذة التخطيط:" (فكر عالمياً وتصرف محلياً)،أي يجب أن تفكر بشكل شامل واسع، تستطيع من خلال تقييم قدراتك، وتحديد موقعك على خارطة أحلامك بدقة. لكن حينما تبدأ العمل يجب أن تصرف اهتمامك إلى تلك الأشياء الصغيرة التي تستطيع انجازها، والتي تحسب في خانة انجازاتك، إن الهدف الجزئي يكون ممكناً نظراً لسهولة القيام به، لكن الهدف الكبير يكون خيالياً نظراً لشكنا في امكانية القيام به، وكثيراً ما تصبح الأحلام الكبيرة مجرد أمنيات في عقل أصحابها لأنهم لم يجزئوها وينجزوها مرحلة تتبعها أخرى .... فالأحلام الكبيرة والأمجاد العظيمة ممكنة ونقدر عليها بشرط أن نخطط لها جيداً، ونجزئها إلى مراحل ونضع لكل مرحلة خطة عمل ووقتاً للبدء والانتهاء" (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر: السيرة النبوية، ابن كثير 2/ 326،ودراسات في السيرة، عماد الدين خليل ص125،والإدارة العربية والاسلامية فكراً وتطبيقاً، د. عامر الكبيسي ص52. (¬2) النظام السياسي في الإسلام، محمد أبو فارس ص65،،وينظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية، أحمد فريد ص166،ووثيقة المدينة المنورة دراسة تحليلة، د. عبد القادر المحمدي ص 25. (¬3) أفكار صغيرة لحياة كبيرة، كريم الشاذلي ص104

المبحث الثاني: معايير تحقيق الأهداف (في ضوء السنة النبوية).

المبحث الثاني: معايير تحقيق الأهداف (في ضوء السنة النبوية). لكي تكون الأهداف ناجحة ودقيقة فلابد من معايير يقاس عليها تحقيق هذه الأهداف، ومن هاتيك المعايير: المطلب الأول: تحديد العمل المطلوب انجازه، ومَنْ يقوم به، ومتى يقوم به، ولماذا يقوم به. فهذه الأسئلة مهمة للغاية من أجل انجاح الهدف، ولنوضح ذلك بأمثلة من السنة النبوية: أخرج الشيخان من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها في صلاة أبي بكر - رضي الله عنه - بالنّاس، قالت: لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بلال يؤذنه بالصلاة. فقال: "مروا أبا بكر فليصلِّ بالنّاس" قالت: فقلت يا رسول الله، إنّ أبا بكر رجل أسيف وإنّه متى يقم مقامك لا يسمع النّاس فلو أمرت عمر، فقال: "مروا أبا بكر فليصلِّ بالنّاس".قالت: فقلت لحفصة قولي له: إنّ أبا بكر رجل أسيف وإنّه متى يقم مقامك لا يسمع النّاس، فلو أمرت عمر، فقالت له: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلِّ بالنّاس". قالت: فأمروا أبا بكر يصلي بالنّاس، قالت: فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نفسه خفة فقام يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض، قالت: فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسه، ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قم مكانك، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس عن يسار أبي بكر، قالت: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالنّاس جالساً، وأبو بكر قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ويقتدي النّاس بصلاة أبي بكر" (¬1). وقد اختلف أهل العلم في صلاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - هذه وهل وقف على يمين أبي بكر أو شماله، على أقوال لسنا بصدد نقاشها، حتى قال بعضهم: إنّه كان لهذه الصلاة إمامان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر، وأبو بكر - رضي الله عنه - للناس، فلتنظر في محلها (¬2)، وإنما الذي نريده ههنا أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حدد هدفاً واضحاً وشخص له أبا بكر - رضي الله عنه -. فالهدف واضح، أراد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للأمة أن تتهيأ لاستقبال أبي بكر - رضي الله عنه - من بعده إماماً في الصلاة، وحريّ بمن وقف هذا الموقف أنْ يكون إمامهم في الدولة، فهي تهيئة للخليفة القادم بعد أيام قليلة، ولهذا أصرّ على تقدمه للصلاة بالنّاس - رضي الله عنه - حال حياته - صلى الله عليه وسلم -،وحين رأى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - منظر الصفوف خلف ابي بكر - رضي الله عنه - في اليوم التالي سره، فتبسم له رضى لما يراه بأبي هو وأمي ونفسي والنّاس أجمعين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (633)،وغيرها من المواضع، ومسلم 1/ 313 (418)،وغيرهم. (¬2) ينظر: فتح الباري، ابن رجب 4/ 83 - 86،وشرح النووي 4/ 142 - 146وفتح الباري ابن حجر2/ 152 - 154.

قال النووي: " سبب تبسمه - صلى الله عليه وسلم - فرحه بما رأى من اجتماعهم على الصلاة، واتباعهم لإمامهم، وإقامتهم شريعته، واتفاق كلمتهم، واجتماع قلوبهم، ولهذا استنار وجهه - صلى الله عليه وسلم - على عادته إذا رأى أو سمع ما يسره يستنير وجهه" (¬1). فلذا أصرّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على إمامة ابي بكر، رغم محاولة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من صرفه إلى عمر - رضي الله عنه - ثاني رجل في الإسلام بعد أبي بكر - رضي الله عنه -، لحرصها على أبيها من تشاؤم النّاس، قالت:" والله، ما بي إلاّ كراهية أن يتشاءم النّاس، بأول من يقوم في مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬2)،إلا أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - غضب، لحرصه على إمامة الصديق - رضي الله عنه -،ومما يؤكد أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رضي بهذا الفعل أمامة أبي بكر الصديق للناس من بعده، أنه حين خرج للصلاة وأراد أبو بكر الرجوع عن الإمامة أشار إليه ان اثبت، والله أعلم. وكذا قول عمر - رضي الله عنه - لما طلب منه أبو بكر أن يصلي بالنّاس مكانه حين أرسل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال:"أنت أحق بذلك" (¬3).قال النووي معلقا على هذا الحديث:" فيه فوائد منها فضيلة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وترجيحه على جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وتفضيله وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله - رضي الله عنه - من غيره" (¬4). وعلى كل حال فالهدف هنا واضح المعالم، فالعمل المطلوب: (الإمامة –إمامة الصلاة وإمامة الدولة من بعده).ومن يقوم به؟: (أبو بكر الصديق)، ومتى؟ (الآن)،وكذا في المستقبل القريب (بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -)،ولماذا؟: لأن الأمة لابد لها من إمام يقودها من بعده - صلى الله عليه وسلم -. ومن الأمثلة الأخرى أيضاً: أرسال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير - رضي الله عنه - إلى (يثرب)، بعد بيعة العقبة الأولى، وأمره أن يعلمهم القرآن ويبين لهم الإسلام. فهذا الهدف مكتمل الشروط: العمل واضح: التعريف بالإسلام (سفير النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم).ومن يقوم به؟ (مصعب بن عمير - رضي الله عنه -). ومتى يقوم به؟ (من العقبة الأولى إلى الحج-العقبة الثانية-).ولماذا؟ لينشر دين الله في النّاس، ويمهد لمقدم المسلمين، وكذا ينقل تصوره إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن حال يثرب. وهنا نكتة عظيمة تظهر عظمة قيادة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -،وذلك في اختيار مصعب بن عمير (تحديداً) دون سائر الصحابة - رضي الله عنهم -،والسبب كما يبدو أنّ يثرب تحمل صفات المدينة من الناحية العمرانية، والإقتصادية، ¬

_ (¬1) شرح مسلم 4/ 142. (¬2) كما في لفظة لمسلم 1/ 313 (418)،وغيرهم. (¬3) قطعة من حديث أخرجه مسلم 1/ 311 (418). (¬4) شرح مسلم 4/ 137،وينظر فتح الباري 2/ 154.

المطلب الثاني: تحديد المعيار الكمي، والنوعي لقياس الإنجاز

والإجتماعية، والثقافية، وعامة أهلها يغلب عليهم طباع أهل المدن، خلافاً لمكة التي هي قرية يمتاز أهلها -عموماً- بالشدة والقوة، فإرسال مصعب الذي نشأ في بيت دلال وغنى أقرب إلى التفاهم والتعامل مع أهل يثرب، ولذا فإنه نجح بامتياز في مهمته، وتأمل في قصته مع أسيد بن حضير وسعد بن معاذ - رضي الله عنه - حينما جاءاه، وتكلما معه بغلظة وهدداه: فقال بكل هدوء:" أو تجلس فتسمع؟ فإن سمعت خيرا قبلته، وإن كرهت شيئا أو خالفك أعفيناك عنه ".فأسلم الرجلان وقومهما! فلو كان غير مصعب في هذا الموقف لما تحمل مثل هذا منهما، فالقائد الناجح هو الذي يضع الرجل المناسب في المكان المناسب وهذا منهج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). المطلب الثاني: تحديد المعيار الكمي، والنوعي لقياس الإنجاز: وأعني به أن يكون للهدف المنشود معياراً كمياً أو نوعياً يمكننا من خلاله قياس نسبة الإنجاز، فمثلاً عندما أقول: أنا أريد أن أقرأ ثلاثة فصول من كتاب كذا خلال يومين. فإنه يمكن القياس بخلاف لو قلت: (أريد أن أقرأ كتاباً) فتحتاج أن تكون الأهداف قابلة للقياس، لكي نعرف هل نحن نجحنا أم أخفقنا؟ فلابد من وضع التاريخ والزمن والكميات كي يمكن قياس الهدف. يقول الدكتور عبد العزيز بكار: "إنّ كل هدف ليس معه معيار لقياسه وللكشف عما أنجز منه، وما بقي؛ ليس بهدف. ولذا فإنّ من يملك أهدافًا واضحة يحدثك دائمًا عن إنجازاته، وعن العقبات التي تواجهه. أما من لا يملك أهدافًا واضحة، فتجده مضطربًا، فتارة يحدثك أنه حقق الكثير الكثير، وتارة يحدثك عن خيبته وإخفاقه؛ إنه كمن يضرب في بيداء، تعتسفه السبل، وتشتته مفارق الطرق! نجد هذا بصورة أوضح لدى الجماعات؛ فالجماعة التي لا تملك أهدافًا واضحة محددة، تظل مشتتة الرأي في حجم ما أنجزته، ولا يكاد خمسة من أبنائها يتفقون في تقويمهم لذلك! لا يكفي أن يكون الهدف واضحًا، بل لا بد من تحديد توقيت لإنجازه، فالزمان ليس ملكًا لنا إلى ما لا نهاية، وطاقاتنا قابلة للنفاد، ثم إن القيمة الحقيقية للأهداف، لا تتبلور إلاّ من خلال الوقت الذي يستغرقه الوصول إليها، والجهد والتكاليف التي نحتاجها، ولهذا كله فالبديل عن وضوح الهدف، ووضوح تكاليفه المتنوعة، ليس سوى العبث والهدر والاستسلام للأماني الخادعة! " (¬2) ¬

_ (¬1) السيرة النبوية، ابن حبان 1/ 109،وتنظر القصة بتمامها هناك. (¬2) من أجل إنتاجية أفضل أهمية رسم الأهداف، د. عبد الكريم بكار، وينظر: العمل المؤسسي، د محمد أكرم العدلوني ص187.

وأوضحه بمثال من السنة النبوية: أخرج مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه، قال: "من يردهم عنا وله الجنة؟ " - أو "هو رفيقي في الجنة" -، فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا، فقال: "من يردهم عنا وله الجنة؟ "- أو "هو رفيقي في الجنة" -، فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحبيه: "ما أنصفنا أصحابنا" (¬1). فالمعيار هنا واضح، وهو (من يردّ هؤلآء الكفار عنّا) (جزاه الله الجنة)،فالكم: (هؤلآء الكفار)، والجزاء واضح (له الجنة)، لذا فقوله - صلى الله عليه وسلم -:"ما أنصفنا أصحابنا":هو تصريح بالرضى على صنيع هؤلآء السبعة، وعتب على من لم يثبت من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين (¬2). ومنه ما أخرجه البخاري عن عثمان - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" من حفر (¬3) رومة فله الجنة ... من جهز جيش العسرة فله الجنة " (¬4). فالمعيار الكمي واضح (شراء البئر بمبلغ كذا وتسيبه للمسلمين) والجزاء (له الجنة)، (تجهيز جيش العسرة بالمال والسلاح والمؤنة) والجزاء (له الجنة). لذا كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على تدريب الأمة على مراجعة نسبة الإنجاز وقياسها، لأنه إن لم يكن هناك مقياس واضح لنسبة الأنجاز سنتنتج العشوائية والاضطراب في النتائج، وضياع الأهداف بمرور الوقت، لذا كان - صلى الله عليه وسلم - يسأل أصحابه أحياناً (من تصدق اليوم)، فيحدد لهم المعيار، ومنه: ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"من أصبح منكم اليوم صائما؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينا". قال أبو بكر: أنا، قال: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم 3/ 1415 (1789)،وغيره. (¬2) ينظر: المفهم لما اشكل من تلخيص مسلم، القرطبي 11/ 143،وشرح النووي 4/ 400. (¬3) وجاءت في رواية (يشتري بئر رومة) وقد استشكله بعض أهل العلم، ووجهه الحافظ ابن حجر فقال في الفتح 5/ 408:" بمد فقال له النبيّ - صلى الله عليه وسلم -:"تبيعنيها بعين في الجنة؟ " فقال يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان - رضي الله عنه - فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم ثم أتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال - صلى الله عليه وسلم -:"نعم". قال: قد جعلتها للمسلمين وإن كانت أولا عينا فلا مانع أن يحفر فيها عثمان بئرا ولعل العين كانت تجري إلى بئر فوسعها وطواها فنسب حفرها إليه ". (¬4) أخرجه البخاري (2626).

المطلب الثالث: تحديد الإطار الزمني المطلوب لإنجاز العمل.

"فمن عاد منكم اليوم مريضاً"؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة" (¬1). المطلب الثالث: تحديد الإطار الزمني المطلوب لإنجاز العمل. من البدهي أنّ لكل هدف يراد له النجاح زمناً ثابتاً واضحاً، حتى لا تمر الأيام وربما السنون فيتآكل الهدف ويصبح سراباً. لذا فالمؤسسات الناجحة تحترم الزمن لأنه ذو قيمة معتبرة، أما المؤسسات الفاشلة فهي لا تحترم الوقت ولا تحسب حسابه، ومع شديد الأسى هذا حال كثير من مؤسساتنا في البلاد العربية! ولهذا تجد كثيراً من البلاد التي تحترم الزمن تنهض في سنوات قليلة وتحتل مراكز متقدمة في الأحصائيات العالمية، كما حدث لماليزيا التي كانت قبل عقدين أو أكثر بقليل من الدول النامية، وها هي اليوم تبلغ مراتب متقدمة، وكذا تركيا التي كان يغشاها الفساد الإداري والمادي والأخلاقي قبل عقد واحد تقريباً، وهي اليوم تسير بخطى ممتازة نحو النجاح، وكذا دولة الإمارات العربية المتحدة التي سجلت قصب السبق بين الدول العربية، واحتلت مراكز متقدمة، ولكن غالب الدول العربية اليوم هي في ذنب القافلة، (لا يكادون يفقهون قولاً)، كل عناصر التقدم والنهوض بين يديها، (أموال، وماء، وأرض، وناس، وحضارة، وقيم، ....) لكنها تحتاج إلى مثل ذي القرنين، يربط كل العناصر للنهوض. ومن أهم عناصر النهوض هو احترام الزمن، ومن يتأمل في ديننا الحنيف يجد غالب أعمال الشريعة، ترتبط بالزمن فالصلوات مرتبطة بأوقات، والصيام، والزكاة، والحج، له أوقات معتبرة، إن تهاونت أو تأخرت عن الوقت المحدد خرج وقتها وأوجب عليك القضاء، والقضاء ليس كالأداء في الإجر والحكم. ومن تأمل قليلاً يجد عناية الشرع بالزمن عناية فائقة فهو لا يتعامل بالساعات بل بالدقائق والثواني، فمن صلّى قبل قت الصلاة بدقيقة واحدة لم تقبل منه، ومن تعمد الإفطار قبل وقته بدقيقة واحدة وجب عليه القضاء! أي نظام يريد منا ربنا جل جلاله. ولنوضح بالامثلة من السنة النبوية: أخرج الشيخان من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لنا لما رجع من الأحزاب:" لا يصلينَّ أحد العصر إلاّ في بني قريظة ".فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحداً منهم" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم 4/ 1857 (1028). (¬2) أخرجه البخاري (904)،وومسلم 3/ 1391 (1770)،وغيرهما.

المطلب الرابع: أن تكون مرنة قابلة للتعديل (البدائل)

وتأمل تحديد الهدف وفق زمن محدد (العصر)، ودليل اعتبار الوقت في تحقيق الأهداف، اجتهاد بعض الصحابة فأخروا الصلاة، يقول الحافظ في الفتح:" فتخوف ناس فوات الوقت فصلوا، وتمسك آخرون بظاهر الأمر فلم يصلوا، فما عنف - صلى الله عليه وسلم - أحداً منهم، من أجل الاجتهاد المسوغ، والمقصد الصالح" (¬1). ومنه أيضاً: ما أخرجه الشيخان من حديث البراء - رضي الله عنه -، قال: ضحى خالي أبو بردة قبل الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" تلك شاة لحم"، فقال: يا رسول الله، إنّ عندي جذعة من المعز، فقال: "ضح بها، ولا تصلح لغيرك"، ثم قال: " من ضحى قبل الصلاة، فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين" (¬2).فتحديد زمن الفعل معتبر هنا، لذا عدّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أخلّ بالانضباط بهذا الوقت مضيع لنسك الأضحية، وإنْ ذبح شاة أو ناقة! وقال:"ذبح لنفسه". يعني ينتفع به أو يتصدق به. والأمثلة كثيرة جداً لمن يتتبع. المطلب الرابع: أن تكون مرنة قابلة للتعديل (البدائل): نبذل كل الاسباب أحياناً لتحقيق الهدف، لكنّ خللاً ما أو ربما بتقدير من الله يمنع تحقيق هذا الهدف حتى بعد بذل الأسباب، أو أحيانا تقصر طاقة الإنسان عن تحقيق هدفٍ بعينه، وهذا لا يعد فشلا في الوصول إلى الهدف، وصاحب المشروع الفطن يتوجب عليه ايجاد البدائل المناسبة التي تعوض هذا الهدف المطلوب، وكل عمل على مستوى الفرد أو المؤسسة إذا لم تجعل في حساباتها بدائل ممكنة عن الأهداف فالنتيجة الفشل والانهيار. ومن يتتبع السنة النبوية يجد أمثلة رائعة توضح هذا المفهوم، من ذلك: ما أخرجه أحمد بسند صحيح من حديث عبد الله بن جعفر قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشا استعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال:" فإن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإنْ قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة".فلقوا العدو فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه وأتى خبرهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فخرج إلى النّاس فحمد الله وأثنى عليه وقال:"إنّ إخوانكم لقوا العدو وإنّ زيداً أخذ الراية فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبى طالب فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد، ففتح الله عليه ... الحديث " (¬3). ¬

_ (¬1) فتح الباري 1/ 209. (¬2) أخرجه البخاري (5236) ومسلم 3/ 1552 (1961) -واللفظ له- (¬3) أخرجه أحمد 1/ 204، وأبو داود (4192) والنسائي 8/ 128.

وهنا يظهر بوضوح البدائل التي وضعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجيش فهم في معركة شرسة مع ثاني أقوى دولة في الأرض (الروم)،وأرض المعركة بعيدة عن مركز القيادة في المدينة المنورة، لأنّ المعركة دارت في أرض الشام، فلابد من وضع بدائل مناسبة وإلا فالهدف لن يتحقق، فجاء الأمر كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتل الثلاثة، ولعل السبب في عدم جعل خالد بن الوليد في البدائل، أن إسلامه كان قريباً، وربما لو وُضع في البدائل حدثت بلبلة في وسط الجند، لاسيما أنها أوّل معركة يخوضها خالد - رضي الله عنه - مع المسلمين فترك النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الأمر على حاله، وجاء دور أبي سليمان خالد بن الوليد وظهر بمظهره المناسب، إذ جاء ترشيحه للقيادة برأي الجند -أنفسهم- في ساحة المعركة مع شدة الوطيس واستنان البيض. فانظر إلى البدائل التي وضعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المعركة، ثم انظر إلى فطنة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اختيار خالد بن الوليد - رضي الله عنه -. ومن الأمثلة الجلية على أهمية البدائل في الأهداف، أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان مما يوصي أمرآءه في الحرب فيقول:"ذاإ لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله، وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله، ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" (¬1). وتأمل في قوله - صلى الله عليه وسلم -:" فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم .. ": فكان - صلى الله عليه وسلم - يضع للقائد خيارات وبدائل للوصول إلى هدفه، فالإسلام أولاً، وإذا قبلوا به فهم أمام خيرين إما الهجرة أو البقاء في أرضهم ولكل واحدة أحكامها، وإذا رفضوا الدخول في الاسلام، فانتقل إلى الخيار الثاني وهو الجزية، فإن قبلوا فاقبل منهم، وإن رفضوا فانتقل إلى البديل الأخير: وهو القتال. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم 3/ 1357 (1371)،وغيره.

المطلب الخامس: أن تكون متوافقة مع قيم المجتمع وتوجهاته

فـ"للوصول لأهدافك يحب عليك أنْ تكون على دراية مقدماً بما يمكن أن يواجهك لتحقيق ذلك، ومن الواجب أن تجد الحل مقدماً .. فلو أنك قلت لنفسك يكفي أن أفكر بطريقة ايجابية وسيكون كل شيء على ما يرام فإنك ستنهار عند أوّل تحد يواجهك في حياتك، ذلك لأنك لم تقم بتحصين نفسك ضد العقبات التي يمكن أن تقابلها، فلابد أن تتعلم وتكون مستعداً لتعديل خطتك، وكما قال مارشال:"الحياة بدون دراسة لا تستحق أن نعيشها" (¬1). لذا يجب أن يكون الهدف مرناً، فيه أكثر من بديل، فإن قصرت همة صاحبه عن الحدود العليا فسيتمكن من تحقيق الدنيا، وهذه المرونة تخفف من ضغط الأهداف علينا؛ لأن الإنسان في الغالب يشعر حيال كثير من أهدافه بالالتزام أكثر منه واجباً، والالتزام بحاجة دائماً إلى درجة من المرونة، ومن الخلل الكبير أن تتحول الأهداف إلى قيود مرهقة، وحينما يشعر الإنسان بهذا الإرهاق فستأتي النتائج عكسية، أو لا تسموا الى الطموح (¬2). المطلب الخامس: أن تكون متوافقة مع قيم المجتمع وتوجهاته: كل مجتمع من المجتمعات فيه الإيجابيات وفيه السلبيات، وأفراد هذا المجتمع يتعاطون معهما حسب المفاهيم والقيم التي تربوا عليها، فتصير عادة وعرفاً سليماً موافقاً للفطرة والقيم، أو فاسداً مخالفاً للمبادئ والقيم السليمة، ثم تتأصل فيه شيئاً فشيئاً حتى تتجذر في الأجيال، فمثلاً: الكرم، والشجاعة، والمروءة، والنجدة، والوفاء بالعهود ... قيم عرف بها العرب في جاهليتهم، والشرك، والظلم، والاستعباد، ووأد البنات، .. الخ، كانت أعراف سلبية في المجتمع الجاهلي، فلمّا جاء الإسلام أقرّ الإيجابيات وهذبها، ورفض السلبيات ووضع لها الحلول الناجعة لعلاج المجتمع واستإصالها منه. لذا فمرادنا من توافق الهدف لقيم المجتمع إنما نقصد بها القيم الإيجابية، والأعراف السليمة التي توافق المفاهيم الإسلامية، وهو واضح كما أحسب. فالهدف الناجح هو الذي يكون متوافقاً مع القيم السامية التي يعرفها المجتمع السليم، كي يتعاطى معه، ولا ينفر منه النّاس. أما تلك الأهداف التي تحمل في جعبتها أفكاراً دخيلة على المجتمع، مجترة من هنا أو هناك فلن يكتب لها النجاح، ولو استجاب لها ثلة قليلة فهم شواذ، نبذهم النّاس، ولذا وجدنا الأفكار الإلحادية الشيوعية لما جاءت بشعارات لأهدافها الخبيثة باسم (عدل حرية مساوة) لهث ورائها بعض الإمعات الذين ¬

_ (¬1) المفاتيح العشرة للنجاح، د. إبراهيم الفقي ص129. (¬2) ينظر: من أجل إنتاجية أفضل أهمية رسم الأهداف، د. عبد الكريم بكار.

لا يقفون على أرض ثابتة، ويركضون وراء كل ناعق، لكن غالب مجتمعنا العربي رفضها؛ لكونها لا تتوافق مع قيم المجتمع وثوابته الإسلامية. لذا تجد الأهداف التي سعى إليها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - جاءت منسجمة مع القيم الرفيعة للمجتمع! نعم كانت هناك قيم كريمة في المجتمع الجاهلي، كما قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: " أية أخلاق في الجاهلية، ما أشرفها! بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض" (¬1). ومن ذلك: ما أخرجه أحمد بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" (¬2). فمن أهم أهداف البعثة النبوية إتمام مكارم الإخلاق التي في المجتمع وتقويم المعوج من الاعتقاد والسلوكيات. فالأهداف التي جاء بها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - تتلاءم مع القيم والثوابت السامية، وهي وإن انطمس بعضها بسبب ركام الوثنية والتكبر الجاهلي، بيد أنّّ القلوب الصافية والعقول النيرة سارعت إلى اعتناق هذه المبادئ والدعوة إليها والجهاد من أجل نشرها، فضحوا بالمال والنفس والأهل والوطن في سبيل الله تعالى ولنصرة مبادئ الإسلام الحنيف. ومن عظيم خلق النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وكمال فطنته أنه ركز على الإيجابيات في المجتمع على ما فيه من سلبيات جمة، فلم يقل (بعث لعلاج السلبيات)، وكذا لم يقل (لأتمم صالح العقيدة)، لأن العقيدة لا تقبل القسمة بين الله وغيره، فهي إما توحيد أو شرك، والمجتمع كان في جاهلية وشرك ووثنية. وحريّ ببعض الحركات والجماعات والمؤسسات اليوم أن تعالج أسلوبها بهذا الهدي النبوي، فهي تسعى لأهداف راقية وكبيرة، ولكنها تغافلت عن الهدف الأكبر (التوحيد)، فتحولت الثوابت إلى متغيرات، والمتغيرات إلى ثوابت، باسم المصلحة والسياسة الشرعية، والحقيقة هي أنهم سيسوا الشرع، فحريّ بإخواننا التنبه لمثل هذه المزالق الخطرة عافنا الله وإياهم منها. ومن الأمثلة أيضاً: ما أخرجه الشيخان عن ابن عباس - رضي الله عنه - يروي عن أبي سفيان - رضي الله عنه -،قبل أن يسلم: "أنّ هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبيٌّ؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً، فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إنّي سائل عن هذا الرجل فإنْ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في السيرة النبوية 1/ 93. (¬2) أخرجه أحمد 2/ 381،والبخاري في الأدب المفرد (273) بإسناد صحيح.

كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أنْ يأثروا عليّ كذباً لكذبت عنه. ثم كان أوّل ما سألني عنه أنْ قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسبٍ. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت لا. قال: فأشراف النّاس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أنْ يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أنْ يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيء، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة ". -إلى أن قال-:"فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنّه خارج لم أكن أظن أنّه منكم فلو أني أعلم حتى أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه .... الحديث " (¬1). فتأمل في هذا الحوار المهم بين أبي سفيان وبين هرقل! وتأمل في أسئلة هرقل وتركيزه على القيم الأخلاقية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، هل يكذب؟ هل يغدر؟ ثم سأل عن معالم دعوته - صلى الله عليه وسلم -،ثم لاحظ صدق لهجة أبي سفيان فلم يكذب على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ويتهمه بما ليس فيه! حتى حينما نغزه بكلمة (ولا ندري ما هو فاعل) تحرج أبو سفيان إلا أن يذكرها بعد اسلامه، لأن الكذب في موازين المجتمع آنذاك عيب كبير، على عداوته وبغضه للدين وقتئذٍ، وبين ذلك بقوله: (لولا الحياء من أنْ يأثروا علي كذباً لكذبت عنه ..) لذا لم يظهر في مجتمع مكة منافقون! وإنما ظهر خندق النفاق والكذب في أفراد من مجتمع المدينة لاختلاطهم باليهود وتاثرهم بقيمهم المعوجة. فهذه القيم التي جاء بها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كانت سبباً لإسلام كثير من النّاس بمجرد معرفته بمعالي الأمور التي يدعو إليها النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، حتى آمن له كثير من النّاس قبل أن يروه، لمجرد معرفتهم بالقيم العليا، ولم يقتصر هذا التأثير على الضعفاء والفقراء، بل بلغ هرقل، حتى كاد أن يسلم، كما سبق، وكذا النجاشي ملك الحبشة الذي آمن بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ونصر دعوته، حتى صلى عليه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغائب لما بلغه موته - رضي الله عنه -،ولم ير النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يعرفه إلا من خلال مبادئه وقيمه التي نقلها إليه أصحابه المهاجرون رضي الله عنهم أجمعين. فأخرج أحمد من حديث أمِّ سلمة زوج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في قصتهم في هجرة الحبشة، لما أراد المشركون ارجاعهم إلى قريش، قالت: " .. فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6)،ومسلم 3/ 1393 (1773)،وغيرهما.

المبحث الثالث: مراجعة الأداء وتقييم صحة الأهداف ودقتها (في ضوء السنة النبوية).

دين أحد من هذه الأمم؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك: كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أنْ نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام، -قال: فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به .. الحديث " (¬1).فتأمل في القيم العليا التي أثرت بهذا الملك، وجعلته يسلم دون أنْ يلقى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو بسمع منه، ثم بالأسلوب الرائع والفظنة الهاشمية لجعفر - رضي الله عنه - في اختياره هذه العبارت. المبحث الثالث: مراجعة الأداء وتقييم صحة الأهداف ودقتها (في ضوء السنة النبوية). المطلب الأول: مقدار علاقة الهدف بالرسالة المقصودة. لكل رسالة في هذه الدنيا أهداف، وهذه الأهداف لابد من أن تكون محددة وواضحة للآخرين -كما سبق – لتعريفهم بهذه الأهداف وتحمل أعباء حملها والقيام بها، لذا فأنت تقرأ باستمرار في سيرة المؤسسات الناجحة أول ما تقرأ: ما هي اهدافنا، ولماذا هذه الأهداف؟ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 1/ 201،وابن خزيمة (2260)، إسناده حسن، لحال محمد بن إسحاق وقد تفرد ولم يتابع.

فربط الأهداف بالرسالة التي نريدها مهم جداً، ولنوضح ذلك: كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يطوف على القبائل في مواسم الحج ويعرض دعوته عليهم، ويطلب بوضوح النصرة والمأوى والمنعة له ولإصحابه، لارتباط كل هذه بالدعوة وتبليغ دين الله، كما جاء في مسند الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله، قال: كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على النّاس بالموقف، فيقول:" هل من رجل يحملني إلى قومه فإنّ قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل". فأتاه رجل من همدان فقال: "ممن أنت؟ " فقال الرجل: من همدان. قال:" فهل عند قومك من منعة؟ ". قال: نعم. ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: آتيهم فأخبرهم ثم آتيك من عام قابل. قال:" نعم". فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب " (¬1). ويحدثنا علي - رضي الله عنه - عن أحدى المرات بينما كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يحاول مع قبائل العرب، ويعرض نفسه عليهم، حدث أمر ذا بالٍ، كما أخرجه ابن حبان في سيرته من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال:" قال حدثني علي بن أبي طالب قال: لما أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر الصديق، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم وقال: ممن القوم ...... "-حتى قال المثنى بن حارثة الشيباني:-:" قد سمعت مقالتك يا أخا قريش! والجواب هو جواب هانىء بن قبيصة، في تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك، وإنما نزلنا بين ضرتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما هاتان الضرتان؟ ". قال: أنهار كسرى ومياه العرب إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى لا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه الله من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ ". فقال النعمان بن شريك: اللهم! نعم. قال: فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً} الأحزاب5، ثم نهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قابضا على يد أبي بكر وهو يقول: يا أبا بكر أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض" (¬2). ¬

_ (¬1) حديث صحيح، أخرجه أحمد 3/ 390،والدارمي (3354)،وابن ماجه (201)،وابو داود (4734)، والترمذي (2925)،وقال:"حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (7680). (¬2) السيرة النبوية 1/ 93.

المطلب الثاني: مراجعة الجدول الزمني وتدقيقه

فهدف النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان النصرة والأمان له ولأتباعه - صلى الله عليه وسلم - وعلاقة هذا الهدف الجزئي بالدعوة المباركة هي أن الدعوة لن تنتشر إلاّ بأرض تمكين ومنعة من الأضطهاد والتعذيب، لذا فالسؤال واضح: ما المنعة فيكم؟ وكم عدد فرسانكم؟ كيف أنتم في القتال؟ الهدف واضح، ولم يسأله أحد من النّاس ما حاجتك الى الحرب؟ لأن العلاقة واضحة بين الهدف من طلب المنعة والنصرة والأيواء والقتال وبين تبليغ دعوة الله، لأن الملوك والمتكبرين يكرهون مثل هذه الدعوة كما قال المثنى بن الحارث الشيباني في جوابه. وتأمل في ردّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - النصرة المجتزءة، والمنعة الناقصة لما قال المثنى (ننصرك مما يلي مياه العرب) فقط، فقال:"إن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه الله بجميع جوانبه".وتأمل الربط بين إيواء النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ونصرته وبين القضية الأساس (تبليغ دين الله). المطلب الثاني: مراجعة الجدول الزمني وتدقيقه: صاحب الأهداف الدقيقة الواضحة يحدد لأهدافه خطة مرسومة يسير عليها، بجدول زمني معلوم، والمؤسسات التي تريد النجاح حري بها أن تضع لها جدولاً زمنياً مرسوماً وواضحاً، ولو تأملنا قليلاً في قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للمثنى بن حارثة يخبره عن حال كسرى والفرس:" أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ " (¬1)، فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يسير على جدول محدد (إذا صح التعبير) فيبدأ بالمدينة ثم مكة ثم الشام ثم فتح العراق، ثم فتح القسطنطينية، ثم قتال اليهود في أرض فلسطين. والمؤسسات الناجحة هي التي تقوم على العمل المؤسسي لا على ارتباطها بشخص المؤسس أيّاً كان؛ لأن هذا الشخص قد يموت فتموت المشاريع معه، أما إذا كان الارتباط على أساس المشروع فسيأتي أحد بعده يكمل ما وصل إليه المؤسس، لذا فالقرآن أسس لهذه القضية المهمة، فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} آل عمران144. فربط الأمة بحياة الرسالة لا بحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا منهج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في كل حياته، كان يربط النّاس بالله تعالى ويحملهم المسؤولية في حياته لكي يستمر ابداعهم وفق الجدول المرسوم لهم بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، وكان له ما أراد - صلى الله عليه وسلم -.فليس بالضرورة أن يكون صاحب المشروع هو من ينفذ تلك الخطوة في هذا المشروع، فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - أسس وربى جيلاً أكمل ما بدأ به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (عالمية الدعوة)، وعمل بمنهج النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان على فراش الموت وهو ينادي:"أنفذوا جيش أسامة" (¬2)،و"أخرجوا اليهود من جزيرة العرب" (¬3). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص25. (¬2) أخرجه عبد الرزاق (19372). (¬3) أخرجه البخاري (2888)،ومسلم 3/ 1275 (1657)،وغيرهما.

ونوضح هذا بأمثلة من السنة النبوية: فأخرج الشيخان من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في إسلام أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -،وفيه أنّ أبا ذر - رضي الله عنه - دخل على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبيّ - صلى الله عليه وسلم -:"ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري". قال:-يعني أبو ذر- والذي نفسي بيده لأصرخنَّ بها بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمداً رسول الله. ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه وأتى العباس فأكب عليه قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجاركم إلى الشأم فأنقذه منهم ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه " (¬1). فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أوّل دعوته وفي أوّل مرحلة من مراحلها (السرية)،وهدفه واضح لديه والجدول مرسوم عنده، فيخبر أبا ذر - رضي الله عنه - أنه سيعلن دعوته لاحقاً وامره باللحوق به حينئذ، يالله من نبي عظيم - صلى الله عليه وسلم -، فلتأتي الجامعات ومعاهد التنمية البشرية للتتعلم من هذا النبيّ الكريم أسس القيادة ورسم الأهداف! وكأني بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعلم أبا ذر - رضي الله عنه - أنّ الخط البياني للدعوة الآن في الدرجة الثانية أو الثالثة .. وحينما يبلغ الدرجة الثلاثين فالتحق بي، يعني أن الجدول البياني للهدف واضح لديه - صلى الله عليه وسلم - وهو ينظر إليه على أنه واقع. لذا فأنت تجد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يبشر النّاس في أحنك الظروف ببشارات عظيمة، فبشر سراقة بن مالك - رضي الله عنه - بسواري كسرى يلبسهما، وطلب منه سراقة بن مالك عهداً مكتوباً! فأعطاه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الأمان وأمر عامر بن فهيرة، فكتب له رقعة من أدم، ثم جاء سراقة بالكتاب بعدئذٍ، ووفاه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما وعده (¬2). فانظر إلى هذا التخطيط العظيم قريش تطلبه - صلى الله عليه وسلم -، وهو متخفي مطارد من كفار قريش، ثم هو يعد سراقة بسواري كسرى، ويعطيه الأمان لقابل الأيام! خطة واضحة تماماً. ومثله تماماً يوم الخندق لما حوصرت المدينة، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - يحفر في الخندق فيضرب صخرة كبيرة فتبرق ثلاثة مرات في كل مرة يكبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وينادي: فتحت الشام، .. فتحت اليمن، فأخرجه أحمد من حديث البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق قال: وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول قال فشكوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال عوف- وأحسبه قال -:وضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول فقال: بسم الله، فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا". ثم قال:" بسم الله وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال:" الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3648)،ومسلم 4/ 1924 (2474). (¬2) لتمام القصة ينظر: دلائل النبوة للبيهقي 2/ 484،والشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض 1/ 674.

هذا". ثم قال:" بسم الله، وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا " (¬1). فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - يبشر أصحابه بهذه البشارات، كدفع معنوي قبيل المعركة، وفيه بيان للجدول المستقبلي لهذا الهدف، فأين هم الآن وأين الشام أو فارس أو اليمن؟ والحقيقة أن من أهم صفات صاحب الأهداف الناجحه أنه يرى هدفه أمامه، وهو ينظر إليه كأنه يحدث الآن، وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى هذه الأهداف بهذه الطريقة، - مع تسديد الوحي له-. وكذا كل أصحاب المشاريع والأهداف الكبيرة، "لقد رأى أديسون المصباح، والأخوان رايت الطائرة، وهنري فورد السيارة قبل أن يشرع أي منهم في خطوة واحد" (¬2). وفي إحدى إجتماعات شركة ديزني قام أحد المجتمعين متأثراً بالانجازات، وقال: ياليت والت ديزني –مؤسس الشركة- حيّ بيننا الآن ليرى انجازاته الرائعة. فرد عليه المدير: لقد رأى ديزني هذا بالفعل قبل أن يشرع فيه، وإلا ما أصبح حقيقة قائمة اليوم (¬3). لذا فلابد من مراجعة وتدقيق في هذا الجدول الزمني المرسوم، فلعل بعد المراجعة والتدقيق والمشورة يظهر أمرٌ هو أحرى وأولى مما سبق، وقد ظهر ذلك بجلاء في صنيع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في عدة مواضع، منها: ما أخرجه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر، فلما كان آخر حجة حجها عمر- ونحن بمنى- أتاني عبد الرحمن بن عوف في منزلي عشياً، فقال: لو شهدت أمير المؤمنين اليوم أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني سمعت فلانا يقول: لو قد مات أمير المؤمنين قد بايعت فلاناً. فقال عمر: إني لقائم عشية في النّاس فنحذرهم، هؤلآء الرهط الذين يريدون أنْ يغتصبوا المسلمين أمرهم. قال: فقلت يا أمير المؤمنين، إنّ الموسم يجمع رعاع النّاس وغوغاءهم، وإنهم الذين يغلبون على مجلسك، وإني أخشى إنْ قلت فيهم اليوم مقالة أنْ يطيروا بها كل مطير ولا يعوها، ولا يضعوها على مواضعها، ولكن أمهل يا أمير المؤمنين حتى تقدم المدينة، فإنها دار السنة والهجرة، وتخلص بالمهاجرين والأنصار فتقول ما قلت متمكنا فيعوا مقالتك ويضعوها على مواضعها. قال: فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن به في أول مقام ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 4/ 303،والنسائي في الكبرى (8807)، وفي اسناده (ميمون بن أستاذ البصري)، قال ابن كثير في السيرة: 3/ 194:" وهذا حديث غريب، تفرد به ميمون بن أستاذ هذا".وفي البخاري (3875) ذكر هدمه - صلى الله عليه وسلم - الصخرة دون ذكر هذه المبشرات. (¬2) أفكار صغيرة لحياة كبيرة، كريم الشاذلي ص65. (¬3) ينظر: المصدر نفسه.

المطلب الثالث: مراجعة وتدقيق مكان الهدف

أقومه في المدينة " قال: فلما قدمنا المدينة وجاء الجمعة هجرت لما حدثني عبد الرحمن بن عوف، فوجدت سعيد بن زيد قد سبقني بالتهجير جالساً إلى جنب المنبر فجلست إلى جنبه - تمس ركبتي ركبته، قال: فلما زالت الشمس خرج علينا عمر رحمه الله، قال: فقلت: وهو مقبل: أما والله ليقولن أمير المؤمنين على هذا المنبر مقالة لم يقل قبله، قال فغضب سعيد بن زيد، وقال: وأي مقالة يقول لم يقل قبله؟ قال: فلما ارتقى عمر المنبر أخذ المؤذن في أذانه، فلما فرغ من أذانه قام عمر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني أريد أن أقول مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي ...... " (¬1).والذي يعنينا ههنا أن عمر - رضي الله عنه - راجع هدفه الذي أراده، وأخذ بمشورة عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وغير خطة طريق الهدف، فاختار الزمان والمكان المناسبين للهدف، ووفقه الله تعالى في تحقيقه، فلولا هذه المراجعة –ربما- وقعت فتنة تطير لها العقول، وتشرأب لها أعناق المنافقين. المطلب الثالث: مراجعة وتدقيق مكان الهدف: لابد لصاحب الأهداف من مراجعة وتقييم لصحة الخطوات التي يسير عليها، هل الطريق صحيح؟ كم قطعت منه؟ وكم بقي؟ وهل هناك سبل أخرى ربما غابت عني أو طرأت من جديد؟ وهل نحتاج إلى دراسة جديدة واعادة تقييم، فهذه أسئلة مهمة يجب أن تلاحظ. ونوضح ذلك بمثال من السنة النبوية: وذلك في قصة مشورة الحباب بن المنذر في منزل بدر:" أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"؟ فقال: يا رسول الله، فإنَّ هذا ليس بمنزل، فانهض بالنّاس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أشرت بالرأي". فنهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من النّاس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية " (¬2). فبمراجعة أداء الهدف الذي أراده النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في اختيار موضع القتال، اختار بعد المشورة موضعاً غير الموضع الأول فتقدم وجعل الآبار خلفه لا يصل إليها المشركون ثم ردمها، فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - صرح بطلب المشورة في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6442)،ومسلم –مختصراً- 5/ 116 (4436)،وغيرهما. (¬2) أخرجه ابن اسحاق، كما في المغازي الواقدي1/ 53،وابن هشام 1/ 620،ودلائل النبوة 3/ 110.

المطلب الرابع: من سيقوم بالأعمال والخطوات اللازمة لتحقيق الهدف.

اختياره مكان المعركة، كما في بعض الروايات (أشيروا علي في المنزل)، وقد استشار أصحابه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموقف في أكثر من مسألة، وغير موقع الجيش بناءً على هذه المشورة (¬1). المطلب الرابع: من سيقوم بالأعمال والخطوات اللازمة لتحقيق الهدف. ومن الأمور المهمة التي يحب مراجعتها أيضاً اختيار (الشخص) للقيام بأداء هذا الهدف، فربَّ شخصٍ تختاره للقيام بهدف ما وغيره أكفأ منه ويمكنك الأستفادة منه، فلا يعني من اختيار شخص ما لهدف ما أنه الأكفأ والأوحد الذي يؤدي هذا العمل على وجهه، ولا يعني من تغيير هذا الشخص فشله أو قصوره، بل قد يكون هذا الشخص أنسب ممن خَلَفه في هدف آخر، فكل ميسر لما خلق له. ولنوصحه بمثال: خرج رسول - صلى الله عليه وسلم - باصحابه لحج بيت الله الحرام، وكان من عرف العرب إلا يمنع أحد من حج بيت الله في مكة، فلما سمعت قريش خروج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قررت منعه ولو بالقوة، لما بينهما من قتال، فأرسل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أولاً خراش بن أمية - رضي الله عنه -، كما أخرجه أحمد بسنده من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، في قصة الحديبية، وفيه:" وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة وحمله على جمل يقال له الثعلب، فلما دخل مكة عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش، فمنعهم الأحابيش حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). ثم قرر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أرسال شخص آخر مكانه وهذا (هدف)،فاختار له أولاً عمر - رضي الله عنه - ثم بعد مناقشة عمر - رضي الله عنه - قرر النبيّ - رضي الله عنه - تغير الشخص، فأرسل عثمان بن عفان - رضي الله عنه -،والقصة أخرجها البيهقي عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه -،قال:" في نزول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية، قال: وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول الله! إني لا آمنهم، وليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فإنّ عشيرته بها وإنّه مبلغ لك ما أردت. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان فأرسله إلى قريش، وقال: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عماراً وادعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ويخبرهم أنّ الله عز وجل وشيك أن يظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإيمان تثبيتاً يثبتهم، فانطلق عثمان - رضي الله عنه - فمر على قريش ببلدح، فقالت قريش: أين؟، فقال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم لأدعوكم إلى الله- جل ثناؤه، وإلى الإسلام، ويخبركم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عماراً، فدعاهم عثمان كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: قد سمعنا ما تقول فانفذ لحاجتك، وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، ¬

_ (¬1) ينظر: سيرة ابن هشام 1/ 617 - 620،والسيرة النبوية، لابن حبان 1/ 162. (¬2) أخرجه أحمد4/ 324،باسناد حسن.

فرحب" (¬1).وهكذا فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - غيّر شخصاً الذي اختاره للهدف بناءً على مشورة عمر - رضي الله عنه -،فأصاب فيها والدليل أنّ أبان بن سعيد بن العاص رحب به، والقصة مشهورة في كتب السيرة. الخاتمة يمكن إجمال أهم النتائج في الآتي: 1 - المقومات الرئيسة لتحقيق أي هدف هي: رؤية الهدف والتخطيط له، ثم اختيار عناصره المناسبة مكاناً، وزماناً، وشخصاً، ثم مراجعة المرحلة ودراسة النتائج الجزئية، وتهيئة البدائل المناسبة. 2 - لابد من تقويم الأهداف، وتقدير النتائج الجزئية المرحلية، ويجري تقويم الأهداف على نوعين (تقويم نوعي، وتقويم كمي). 3 - الأهداف التي حققها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على نوعين: رئيسة (كلية)، وفرعية (جزئية)، والجزئية منها تكاملية مع بعضها غير متضادة ولا متنافرة. 4 - الزمن مهم جداً في تحقيق الهدف، وكل هدف لا يحسب زمنه بدقة يكون عشوائياً، وربما لا يتحقق البتة. 5 - كشف البحث أهمية التخطيط للأهداف وضرورة معالجة ضعف أدائنا اليوم في شتى الميادن، وعلى كافة المستويات، التخطيطية أو التنفيذية أو التدقيقية. 6 - ضرورة إنشاء المعاهد والمدارس المتخصصة بالتنمية البشرية والمعتمدة على الممازجة بين علوم الكتاب والسنة والعلوم الدنيوية التي أثبتت نجاحاً في مجالها. 7 - ضرورة الدعوة إلى قراءة السنة النبوية والتاريخ الاسلامي بشكل معمق، واستخراج القواعد والنظم واستغلالها في النهضة التنموية اليوم. 8 - بينت الدراسة بشكل واضح أنّ الإسلام سجل سبقاً في مناهج التخطيط والإدارة. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 4/ 133 من طريق ابن اسحاق بسند مرسل.

أهم المصادر والمراجع بعد القرآن الكريم. 1 - الإدارة العربية الإسلامية فكراً وتطبيقاً، د. عامر الكبيسي، دار الكتب للطباعة والنشر، بغداد،1994م. 2 - أفكار صغيرة لحياة كبيرة، كريم الشاذلي، دار اليقين، مصر، ط2، 2011م. 3 - أنماط الشخصية وإشكالات القيادة والتربية في العمل الإسلامي المعاصر، د. محمد عياش الكبيسي، دار أسامة للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2010م. 4 - التوقيف على مهمات التعاريف، زين الدين محمد المناوي (ت:1031هـ)،عالم الكتب، القاهرة، ط1،1410هـ. 5 - الجامع الصحيح، محمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ)،تحقيق مصطفى البغا، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، ط3، 1407هـ. 6 - الجامع الكبير (سنن الترمذي)،محمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي، (ت:279هـ)،،تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1998م. 7 - دراسات في الإدارة، د. صالح أحمد العلي، مطبعة المجمع العراقي،1989م. 8 - دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أبو بكر البيهقي (ت: 458هـ)،: دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405 هـ. 9 - الرسول القائد، محمود شيت خطاب دار الفكر، بيروت، ط6،1422 هـ. 10 - سنن ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، (ت: 273هـ)،تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية. 11 - سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث السَِّجِسْتاني (ت: 275هـ)،تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت.

12 - سنن النسائي (المجتبى) أبو عبد الرحمن النسائي (ت: 303هـ)،تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية – حلب، ط2، 1406 هـ. 13 - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية الحراني (ت 728)، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، السعودية، ط1، 1418هـ. 14 - السيرة النبوية (من البداية والنهاية لابن كثير)،أبو الفداء، ابن كثير القرشي الدمشقي (ت: 774هـ)،تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت،، 1976م. 15 - السيرة النبوية لابن هشام، عبد الملك بن هشام، أبو محمد، جمال الدين (ت: 213هـ)،تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط2، 1375هـ. 16 - السيرة النبوية وأخبار الخلفاء، أبو حاتم، ابن حبان البُستي (ت: 354هـ)،صحّحه، وعلق عليه الحافظ السيد عزيز بك وجماعة من العلماء، الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الثالثة،417 هـ. 17 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض اليحصبي السبتي (ت: 544هـ)، دار الفيحاء، عمان، ط2، 1407 هـ. 18 - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر الجوهري (ت: 393هـ)،تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، 1407 هـ. 19 - صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت: 261هـ)،تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 20 - العمل المؤسسي، د محمد أكرم العدلوني، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 2002م. 21 - فتح الباري لابن رجب الحنبلي، زين الدين أبو الفرج البغدادي، الشهير بابن رجب الحنبلي، تحقيق: أبو معاذ طارق بن عوض الله، دار ابن الجوزي، الدمام، ط2، 1422هـ. 22 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجرالعسقلاني، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ. 23 - محاضرات في العقيدة الإسلامية، د. عبد القادر المحمدي، مقرر على طلبة المرحلة الأولى في كلية أصول الدين، الجامعة العراقية. 24 - مرويات غزوة الحديبية جمع وتخريج ودراسة، حافظ بن محمد عبد الله الحكمي، مطابع الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، 1406هـ. 25 - مسند الإمام أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل أبو عبدالله الشيباني (ت241هـ)، مؤسسة قرطبة، القاهرة.

§1/1