رسالة الشرك ومظاهره

مبارك الميلي

طبعة جديدة مخرجة ومحققة جميع الحقوق محفوظة لدار الراية الطبعة الأولى 1422هـ - 2001م دار الراية للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية

تمهيد واعتذار

تمهيد واعتذار الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه. وأيّده بالآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة ومن أعظمها القرآن، وأمدّه بملائكة السماء تقاتل بين يديه مقاتلة الفرسان ونصره بريح الصبا تحارب عنه أهل الزيغ والعدوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربّ العالمين وإله الأوّلين والآخرين، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه، وسفيره بينه وبين عباده فصلّى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله الصالحون من خلقه عليه. أما بعد: فإنّما أردنا بهذه المقدّمة أن نعتذر لعملائنا الكرام عن تأخير طباعة " رسالة الشرك ومظاهره " والتي بين أيديكم الآن والتي كان مقرّرًا لها طباعتها في عام 1415هـ ولكن بعد أن استلمنا الكتاب من الصفّ جاهز للطباعة في نفس العام وجدنا أنّ به بعض الملاحظات، فبدا لنا أن نعرضه على أحد المشايخ، وكان كذلك أن أرسلنا نسخة لفضيلة الشيخ بكر أبو زيد، فقبله - جزاه الله خيرًا- على كثرة مشاغله، وأرسل إلينا بعد فترة ملحوظاته على الكتاب، وتمّت مراجعة الكتاب ثانية من قبل أبي الهيثم إبراهيم زكريّا بلجنة التحقيق بالدار وتمّ عمل تقرير إضافي وأرسلنا كليهما للأخ الشيخ أبو عبد الرحمن محمود الجزائري محقّق الكتاب، ثمّ أرسل إلينا النسخة بعد التصحيح وبعد مراجعة لجنة التحقيق بالدار تمّ عمل تقرير آخر باستدراكات أخرى، وتمّ إرساله للمحقّق، وضبطت النسخة وأُعيدت للصفّ لتجهيزها للطباعة، وها هي بين أيديكم- ومع هذا كلّه لا يخلو عمل بشري من التقصير، لذا فنحن نرحّب بأيّ تعقيب من الإخوة القرّاء وندعو الله أن يوفّق ويسدّد ويلهم إلى الصواب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته الناشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة التخريج

مقدمة التخريج إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ، فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أمّا بعد: فهذه رسالة " الشِّرْكِ وَمَظَاهِرِهِ "، تأليف العلّامة السَّلَفي، مؤرّخ الجزائر، وأمين مال " جمعية العلماء المسلمين الجزائريين "، الشيخ مبارك بن محمد الميلي، رحمه الله تعالى، المتوفّى سنة (1945م)، أضعها بين يديك أيّها القارئ الكريم، بعد أن بذلت جهداً متواضعاً في تخريج أحاديثها وآثارها، وتصحيح ما وقع في الطبعات السابقة لها من أخطاء، واستدراك ما سقط من المؤلّف أو الطابع، حتى تقف عليها غضّةً طريّةً، مصحّحة منقّحة، على الصورة التي ترضيك وتسرّك إن شاء الله. • الباعث على تخريج أحاديث الرسالة: وقد دفعني إلى تخريج أحاديث وآثار لهذه الرسالة النافعة المباركة إن شاء الله أمور، من أهمها:

1 - أنّ " الرسالة" تُعَدُّ في أوليات الرسائل أو الكتب المؤلفة في نصر السنن وإماتة البدع، تقرّ بها عين السنة والسّنّيين، وينشرح لها صدور المؤمنين، وتكون نكبة على أولئك الغاشين للإِسلام والمسلمين، من جهلة المسلمين، ومن أحمرة المستعمرين، الذين يجدون من هذه البدع أكبر عون لهم على استعباد الأمم، فيتخذون لهذه البدع التي ينسبها البدعيون إلى الدين الإِسلامي مخدراً يخدرون بها عقول الجماهير ... " (¬1). 2 - أنها تبيّن بوضوح المنهج السلفي الصحيح، الذي كانت عليه جمعية العلماء- والمؤلف أحد أعضائها-، الذي " يتلخص في دعوة المسلمين إلى العلم والعمل بكتاب ربّهم وسنة نبيّهم، والسير على منهاج السلف الصالح في أخلاقهم وعباداتهم القولية والاعتقادية والعملية، وتطبيق ما هم عليه اليوم من عقائد وأعمال وآداب على ما كان في عهد السلف الصالح " (¬2). 3 - أنّ للمؤلف الشيخ مبارك الميلي رحمه الله تعالى على الأمّة الإِسلامية عموماً والجزائرية خصوصاً- سيما طلبة العلم- حقوقاً، " بما علم وكتب، وبما نصح وأرشد، وبما ردّ على الدّين من عوادي المبتدعين، وبما وقف من مواقف في الإِصلاح الديني والدنيوي، فمن وفائنا له، ومن أدائنا لبعض حقّه: أن نعمل على ترويج الباقي من مؤلفاته المطبوعة، وإعادة طبعها طبعًا فنّيًّا مصحّحًا " (¬3)، وفي مقدمتها رسالته العلمية المفيدة التي بين يديك، المنعوتة بـ " الشرك ومظاهره ". ¬

_ (¬1) ما بين المزدوجين " ... " من تقرير جمعية العلماء للرسالة، بقلم كاتبها العام الشيخ العربي التبسي رحمه الله تعالى، كما سيأتي إن شاء الله. (¬2) انظر التعليق السابق. (¬3) من مقال " ذكرى مبارك الميلي " للشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله في " جريدة البصائر " (العدد 109، سنة 1950م). انظر: " عيون البصائر " (2/ 666 - 668).

4 - وقوع عدد غير قليل من الأحاديث الضعيفة في الرسالة (*) (انظر الأرقام: 5 و10 و18 و23 و24 و27 و36 و 41 و44 و61 و65 و77 و79 و83 و85 و95 و97 و 100 و101 و104 و108 و115 و 120 و 131 و132 و136 و 137 و141 و143 و 152 و 158 و 167 و 172 و 177 و 178 و185 و 193 و198 و199 و225 و226 و227 و235 و244)، بل فيها ما هو ضعيف جدّاً (انظر الأرقام: 16 و88 و130 و155 و228 و229 و 231 و232)، وبعض الأحاديث الباطلة أو الموضوعة (انظر الأرقام: 3 و134 و135 و138 و 151 و170 و253 و236 و241)، مما زادني اندفاعاً لتخريجها، وبيان مراتبها، حتى يتميز الطيّب من الخبيث إن شاء الله. وقد صدق المؤلف رحمه الله تعالى حين قال في وصف الرسالة ضمن المقدمة: " فهذه رسالة في موضوع بور، على أسلوب من عندي بكر، ولعلّ ذلك من أبين العذر وأوجب الصفح عما يكون بها من خلل وضعف، على أن النقص لا يسلم منه كلام، إلّا أن يكون وحياً، فلا ينتظر مني ما فوق منة الكتاب، وحسبنا محاولة الإِتقان، والله المستعان ". 5 - رغبة كثير من أهل الخير والفضل في تحقيق الكتاب وتخريج أخباره، وفي مقدمتهم مدير دار الراية بالرياض- حفظه الله وبارك فيه- في خطابه المؤرخ في (19/ 5/ 1414هـ)، وممّا جاء فيه قوله: " لقد سررنا حينما علمنا أن فضيلتكم على وشك الانتهاء من تحقيق كتاب " الشرك ومظاهره " للعلّامة السلفي مبارك الميلي رحمه الله، وإن دار الراية للنشر والتوزيع لتتشرف بطباعة هذا الكتاب ... ولا يخفى على فضيلتكم سبب رغبتنا ¬

_ (*) وقد نبّه المؤلفُ نفسُه على عدم ثبوت بعضها، جزاه الله خيراً.

منهجي في التخريج

في نشر هذا الكتاب، إذا علمتم أن دار الراية تحرص دائماً على نشر أعمال السلف الصالح ". مما شجَّعني على إتمام هذا التخريج، ثم تبييضه، بعد أن ظلّ عندي مسوَّدةً بضع سنين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. • منهجي في التخريج: وقد سلكتُ في تخريج أحاديث الرسالة وآثارها المنهج التالي: 1 - إنْ كان الحديثُ أو الأثرُ في " الصحيحين " أو في أحدهما، اكتفيتُ - غالباً- بالعزو دون ذكر المرتبة (¬1)، لأن العزو لهما يفيد الصحه كما لا يخفى. 2 - فإنْ كان خارج " الصحيحين "، فهنا حالتان: أ- إمّا أن أقف على من صحّحه أو ضعّفه من الحفاظ المحققين كابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن حجر رحمهم الله تعالى، أو من أهل العلم والمعرفة بالحديث من المعاصرين كالشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى وشيخنا الألباني حفظه الله تعالى، وغيرهم، فإن اتفقوا على قبول الحديث أو ردّه فالقول قولهم، وإلاّ فالترجيح- إن أمكن- وفق القواعد العلمية. ب- إذا لم يتيسر لي الاطلاع على كلام أهل الصنعة فيه (¬2)، أفرغتُ جهدي وبذلتُ ما في وسعي في سبيل التوصل إلى معرفة درجته، معتمداً القواعد العلمية المقررة في علم " مصطلح الحديث ورجاله ". وفي الحالين أصدّر تخريج الحديث أو الأثر بذكر مرتبته (¬3). صحة أو ضعفاً، قبولاً أو رداًّ، تيسيراً وإفادة للقارئ. ¬

_ (¬1) انظر الأرقام: (1 و8 و 9 و 13 و 14 و 15 و 17 و 19 و21 و 22 و ... ) وغيرها. (¬2) انظر على سبيل المثال الأرقام: (7 و 10 و 34 و 36 و ... ). (¬3) وقد لا أذكرها بل أضع مكانها نقاطأ أو علامة (؛) إذا لم أقف على إسناده ولا حكم أهل الفن فيه، كالأرقام: (4 و 20 و 118 و 198 و 214).

3 - استعنتُ ببعض الرموز الرياضيه المساعدة على الاختصار وأنا أحيل القارئ على بعض المصادر، فأقول مثلاً: انظر: " صحيح [سنن أبي داود " (رقم ... )، و " سنن الترمذي " (رقم ... )، و " الجامع الصغير " (رقم ... )]، إشارة مني إلى أن لفظ " صحيح " مشترك بين المصادر التي تضمنتها الحاضنتان. 4 - اعتمدتُ في تخريج أحاديث " المسند " للإمام أحمد طبعتين: الأولى: طبعة دار المعارف بمصر، في عشرين جزءاً، قام الشيخ العلاّمة أحمد شاكر رحمه الله تعالى بتحقيق وتخريج أحاديث (16) جزءاً (¬1) منها، مع ترقيمها. والأخرى: مصورة المكتب الإسلامي ببيروت عن دار صادر، في (6) مجلدات. 5 - كما كان جُلّ اعتمادي على الطبعة التازية لـ " سنن أبي داود " (مجلد/ جزءان)، باستثناء أحاديث معدودة خلت منها، فكنتُ أرجع إلى طبعة محي الدين عبد الحميد رحمه الله المرقمة (¬2). * وبعد أن أنهيتُ التخريج بعون الله وتوفيقه، بدا لي القيام بما يلي خدمةً للرسالة ونصحاً للقراء. 1 - تخريج الآيات القرآنية بالإحالة على مواضعها في كتاب الله، فأذكر السورة ثم رقم الآية وأجعلهما بين حاصرتين، كلّ ذلك في المتن. 2 - وضع ترجمة موجزة للشيخ العلاّمة مبارك الميلي رحمه الله تعالى، مؤلّف الرسالة، فيها نُبَذٌ مُختصَرة عن حياته وآثاره. ¬

_ (¬1) فإذا كان الحديث خارج هذه " الأجزاء "، رجعت إلى طبعة المكتب، مشيراً إلى ذلك حتى يميز القارئ هذه عن تلك. (¬2) انظر الأرقام: (210 و211 و215 و218 و220 و225).

تنبيه

3 - تصحيح الأخطاء المطبعية التي شانت الطبعات السابقة (¬1) للرسالة، بقدر ما يمكن إلاّ ما شاء الله مما هو من طبع البشر! 4 - الإبقاء على تعليقات معدودات نافعات علّقها القائمون على نشرة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، مع الإشارة إلى ذلك. 5 - صنع فهارس تفيد القارئ وهي: - فهرس الآيات القرآنية. - فهرس الأحاديث والآثار. • " تنبيه ": وأمّا " مواد الرسالة " (¬2) وكذا " المحتويات "، فهما من أصل الرسالة من وضع المؤلف رحمه الله تعالى. • شكرٌ وتقديرٌ: وأخيراً لا أنسى أن أشكر كلّ من ساهم في إخراج هذه الرسالة النافعة: " الشرك ومظاهره " بهذه الصورة المشرقة التي تَسُرُّ القارئين، فإنه " من لم يشكر الناس لم يشكر الله " (¬3) كما قال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأخص ¬

_ (¬1) وقد وقفت على أربع منها: الأولى. في المطبعة الإسلامية الجزائرية بقسنطينة سنة (1356هـ- 1937م) (أي في حياة المؤلف). وعليها جرينا في التحقيق والتخريج لأنها أحسن الطبعات وأتمها. الثانية: نشر مكتبة النهضة الجزائرية سنة (1386هـ - 1966م). الثالثة: في مطبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية سنة (1397هـ - 1977م). الرابعة: في دار البعث بقسنطينة (لا تطولها يدي الآن فلعلّها في سنة 1982 - 1984م). (¬2) ذكر المؤلف فيها (108) مصدراً كما في الطبعة الأولى للرسالة، خلافاً للطبعات الأخرى فقد وقع فيها سقط إذ تتابعت على إثبات (28) منها فقط! (¬3) انظر: " صحيح الجامع الصغير " (6417).

منهم بالذكر: - الشيخ الفاضل بكر أبو زيد- حفظه الله ورعاه- على ملحوظاته القيّمة وتعليقاته الثمينة حول عملي في الرسالة، فله مني الثناء العاطر، ومن الله الثواب الجزيل وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته. - " دار الراية " والقائمين عليها، على العمل الجاد والجهد الطيّب. أسأل الله العليّ العظيم أن يجعل أعمالي كلّها صالحة ولوجهه خالصة وأن لا يجعل لأحد فيها شيئاً، اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وأعوذ بك من شرّ الفتن ما ظهر منها وما بطن، ربّ اغفر لي خطئي وعمدي، وهزلي وجدّي، وكلّ ذلك عندي. وصلِّ اللهمّ على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وكتب: أبو عبد الرحمن محمود الجزائر في 25 محرّم 1415هـ • • • • •

نبذة مختصرة عن العلامة الشيخ مبارك الميلى الجزائرى رحمه الله

نبذة مختصرة عن العلامة الشيخ مبارك الميلى الجزائرى رحمه الله • اسمه ونسبه ومولده: هو مبارك بن محمد إبراهيمي الميلي الجزائري. ولد رحمه الله سنة (1898م- 1316هـ) تقريباً في " دوار أولاد أمبارك " من قرى الميلية من أحواز قسنطينة. • نشأته: نشأ الشيخ مبارك بالبادية نشأة القوة والصلابة والحرية، وربي يتيماً، فبُعيد وفاة والده محمد، توفيت أمه: تركية بنت أحمد بن فرحات حمروش، فكفله جده " رابح " ثم عمَّاه: علاوة وأحمد. نزح إلى بلدة " ميلية " التي كانت تستقطب طلاب حفظ القرآن بصدر رحب وكرم مشكور وهناك حفظ القرآن، وزاول الدروس العلميّة الابتدائيّة على الشيخ الزّاهد: ابن معنصر الميلي، وقد أهلته هذه الدروس للالتحاق بدروس الشيخ العلاّمة عبدالحميد بن باديس بالجامع الأخضر، وهناك وجد بغيته في دروس الأستاذ الحية، وتلقى منه الأفكار الإصلاحية بحماس وإيمان، فكان من أنجب تلاميذه ومن الجادين المجتهدين الراغبين في التحصيل فأعجب به أستاذه وأحبه كثيراً وقربه إليه. • رحلته في طلب العلم وشيوخه: التحق الشيخ مبارك بجامع الزيتونة المعمور بتونس: المنبع الأصلي الذي

أعماله

ارتوى منه أستاذه الأكبر: ابن باديس، وانخرط في سلك تلاميذه، وأخذ عن جلّة رجال العلم والمعرفة به ممّن انتفع بهم أستاذه قبل، منهم: الشيخ محمد النخلي القيرواني، والشيخ محمد الصادق النيفر والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ بلحسن النجار، والأستاذ محمد بن القاضي وغيرهم. وقد كان في هذه السنوات التي قضاها هناك مثالاً للطالب المكب المجتهد، وأنموذجاً للشاب الشهم المهذّب، فرجع من تونس بشهادة التطويع سنة (1924م). • أعماله: وبعد التحصيل على شهادة " الجامع " رجع إلى وطنه معاهداً ربه أن تكون حياته حياة جد ونشاط لنفع وخدمة دينه، فشرع بعد تخرجه مباشرة يعلم بمكتب " سيدي بومعزة " و " سيدي فتح الله " بقسنطينة، وتصدى لبث روح التربية الإسلاميه في البنين والبنات، وأنار عقولهم بما أتاه الله من الحكمة والتفكير والمهارة في التصوير. - قال الأستاذ عبد الحفيظ الجنان رحمه الله: " وبعد تحصيله على شهادة التطويع رجع إلى قسنطينة، حاملاً معه " مسودة قانون أساسي " ليحث الطلاب وأهل العلم على إنشاء مطبعة كبرى تطبع المخطوطات، وتنشر الجرائد والمجلات لتحي أمته حياة عملية لانظرية، ووجد أستاذه عبد الحميد قد بعث بقلمه صيحة مدوية في أرجاء الوطن داعية إلى الخلاص من ربقة الشرك والتحرر من أغلال العبودية فأصدر جريدة " المنتقد " ثم أخرج بعدها " الشهاب " الأسبوعي، وظل كذلك يكافح وحده إلى أن رفع مبارك قلمه وانضوى تحت لواء أستاذه بالأمس وصاحبه في الحال، وقال له: ها أنا ذا فكان الفتى المقدام والمناصر الهمام " (¬1). ¬

_ (¬1) " البصائر " العدد (27) من " السلسة الثانية ".

فكان رحمه الله يشارك في تحريرهما ويساهم في تحبير المقالات النافعة لهما بإمضائه الصريح مرة وبإمضاء " بيضاوي " مرة أخرى. وفي سنة (1926) انتقل الى الأغواط بدعوة من أهلها، فوجد منهم الإقبال العظيم، والتفت حوله ثلة من الشباب نفخ فيهم روح العلم الصّحيح والتفكير الحر، وقضى في هذه البلدة سبع سنوات أسس فيها " مدرسة الشبيبه " وهي من أولى المدارس العصرية النادرة في ذلك الوقت، كما أسس بعدها " الجمعية الخيرية "، لإسعاف الفقراء والمساكين والأيتام، فكان لها قدم في ميدان البرّ والإحسان. وكان له دروس ليليّة في الوعظ والإرشاد يلقيها بالمسجد على عامة الناس مما كان له الأثر البالغ في النفوس وكذلك كان يخرج إلى " الجلفة "، شمالاً، " وبوسعادة "، شرقاً، " وآفلو " غرباً لإلقاء مثل تلك الدروس من حين إلى آخر على أهلها فيدعوهم للإصلاح والتمسك بالكتاب والسنة ونفض غبار الجهل والكسل ومحاربة البدعة في الدين. لقد أنشأ الشيخ رحمه الله في الأغواط حركة علمية قوية وَسَيَّر منها البعثات الدراسية نحو " جامع الزيتونة " على غرار ما كان يفعل أستاذه ابن باديس. وفي سنة (1931) أسست " جمعية العلماء المسلمين الجزائريين " فانتخب الشيخ مبارك عضواً في مجلس إدارتها وأميناً لماليتها. ثم رجع الشيخ بعد السنوات التي قضاها في الأغواط إلى موطن الصبا ميلة فأنشأ فيها جامعاً عظيماً كان خطيبه والواعظ والمرشد فيه، ومدرسة " الحياة " التي أشرف على سير التعليم فيها، و " نادي الإصلاح " الذي يحاضر فيه. ثم أُسندت إليه- رحمه الله تعالى- رئاسة تحرير جريدة " البصائر "

تلاميذه

الأسبوعية بعد أن تخلى عنها الشيخ الطيب العقبي رحمه الله فاضطلع بالمهمّة وقام بواجبه أحسن قيام رغم مرض " السكري "، الذي أنهك قواه إلى أن قررت " جمعية العلماء " السكوت في سنة (1939)، فاحتجبت " البصائر " عن الصدور. • تلاميذه: كانت حياة الشيخ مبارك رحمه الله تعالى مباركة طيّبة، فقد أمضاها في الجهاد والتضحية، وفي التعليم والتربيه، وفي التثقيف والتزكية، والوعظ والإرشاد، والكتابة والتأليف، وكانت الأيام التي قضاها بالأغواط هي أخصب أيامه في الإنتاج بأنواعه وكان من ثمارها أن تخرج على يده جمع عظيم من طلبة العلم وحملته، وأنصار الإسلام ودعاته، منهم: 1 - الشيخ أبو بكر الأغواطي. 2 - الأستاذ أحمد قصيبة. 3 - الإمام أحمد شطة. 4 - الشيخ عمر النصيري. - يقول الأستاذ أحمد بن ذياب رحمه الله: " ولقينا- ونحن تلامذة- بتونس أبناء الشيخ مبارك من خريجي مدرسة الأغواط، فكنّا نشيم في مخايلهم آيات جلال مربيهم، ونلمح في قرائحهم آثار المقتدر الذي نور عقولهم، وصفى أذهانهم، فكنا نعجب بهم، ونتمنى لو أتيح لنا أن نروي من الفيض الذي منه نهلوا " (¬1). • أخلاقه: كان رحمه الله قويّ الإرادة يغلب على أعماله الجدّ مع الصراحة، وكان ذا شجاعة أدبية متصلباً في الحق، دقيق الملاحظة، وكان يحب العمل الدائم ¬

_ (¬1) انظر: مجلة " الثقافة " - العدد (37).

ثناء أهل العلم والفضل عليه

المتواصل وكان يكره الكسل ويمقت الكسالى من تلاميذه أو من زملائه، وكان أيضاً كريم النفس، حسن المعاشرة، حليماً بشوشاً، محباً لتلاميذه، محترماً لأصدقائه، وكان متواضعاً، يكره الإعلان عن شخصه، وكثيراً ما يفر من مواطن الظهور، ولا يحب أن يلفت الأنظار إليه. - يقول تلميذه أحمد قصيبة: " وفي سنة (1940 م) لما توفي الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحميد رحمه الله، عُيّن خلفاً له لإدارة شؤون " الجامع الأخضر " والإشراف على الدروس، فلما تربّع ذات يوم على مقعد أستاذه الراحل العظيم، وجلت نفسه، وعظم الأمر لديه، وأثر فيه هول الموقف من تذكر رئيسه وأستاذه حتى سالت عبراته سخينة على خديه تواضعاً وإشفاقاً على نفسه أن تغتر أو تتطاول بتبوئها ذلك المقعد " (¬1). - وقال فيه الأستاذ أحمد توفيق المدني رحمه الله تعالى: " إن قرّر مسألة فبقوة وإيمان واقتناع، وإن جادل فبالتي هي أحسن، وإن خالفك في الرأي فمن غير عناد أو تعصب، وإن حاضر أو سامر فالدرّ المنثور، وأنهار من عسل مصفّى، كل ذلك في تواضع محمود وخلق كريم، وأريحيه فاضلة، وشهامة وشمم بلغا درجة الكمال " (¬2). • ثناء أهل العلم والفضل عليه: - قال أمير البيان شكيب أرسلان رحمه الله تعالى: " وأمّا ((تاريخ الجزائر)) فوالله ما كنت أظن في الجزائر من يفري هذا الفري، ولقد أعجبت به كثيراً، كما إني معجب بكتابة ابن باديس، فالميلي وابن باديس والعقبي والزاهري: حملة عرش الأدب الجزائري الأربعة " (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: " البصائر " - العدد (26) من " السلسلة الثانية ". (¬2) انظر: " البصائر " - العدد (26). (¬3) انظر: مقدمة " تاريخ الجزائر " (1/ 11) بقلم محمد بن مبارك الميلي.

- وقال العلاّمة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى: " حياة كلّها جدّ وعمل، وحي كلّه فكر وعلم، وعمر كلّه درس وتحصيل، وشباب كلّه تلقٍّ واستفادة، وكهولة كلّها إنتاج وإفادة، ونفس كلّها ضميرٌ وواجبٌ، وروح كلها ذكاء وعقل، وعقل كلّه رأي وبصيرة، وبصيرة كلّها نور وإشراق، ومجموعة خلال سديدة وأعمال مفيدة قلَّ أن اجتمعت في رجل من رجال النهضات، فإذا اجتمعت هيأت لصاحبها مكانه من قيادة الجيل، ومهّدت له مقعده من زعامة النهضة. ذلكم مبارك الميلي الذي فقدته الجزائر من ثلاث سنين، ففقدت بفقده مؤرخها الحريص على تجلية تاريخها المغمور، وإنارة جوانبه المظلمة، ووصل عراه المنفصمة، وفقدته المحافل الإصلاحية ففقدت منه عالماً بالسلفية الحقة عاملاً بها، صحيح الإدراك لفقه الكتاب والسنّة، واسع الاطلاع على النصوص والفهوم، دقيق الفهم لها، والتمييز بينها والتطبيق لكلياتها، وفقدته دواوين الكتابة ففقدت كاتباً فحل الأسلوب، جزل العبارة، لبقاً بتوزيع الألفاظ على المعاني، طبقة ممتازة في دقة التصوير والإحاطة بالأطراف وضبط الموضوع والملك لعنانة، وفقدته مجالس النظر والرأي ففقدت مدرهاً لا يبارى في سوق الحُجّة وحضور البديهة وسداد الرميّة والصلابة في الحق والوقوف عند حدوده، وفقدته " جمعية العلماء " ففقدت ركناً باذخاً من أركانها، لا كلاً ولا وَكلاً، بل نهّاضاً بالعبء، مضطلعاً بما حُمّل من واجب، لا تؤتى " الجمعية " من الثغر الذي تكل إليه سدّه، ولا تخشى الخصم الذي تسند إليه مراسه، وفقدت بفقدة عَلَماً كانت تستضيء برأيه في المشكلات، فلا يرى الرأي في معضلة إلاّ جاء مثل فلق الصبح " (¬1). ثم قال: " يشهد كل من عرف مباركاً وذاكره أو ناظره أو سأله في شيء مما ¬

_ (¬1) انظر: " البصائر " - العدد (26) " وأثار محمد البشير الإبراهيمي " (3/ 39 - 43).

يتذاكر فيه الناس أو يتناظرون أو يسأل فيه جاهله عالمه أو جاذبه الحديث في أحوال الأمم ووقائع التاريخ وعوارض الاجتماع، أنه يخاطب منه عالماً أيّ عالم، وأنه يناظر منه فحل عراك وجدل حكاك، وأنه يساجل منه بحراً لا تخاض لجته وحبراً لا تدحض حجته، وأنه يرجع منه إلى عقل متين ورأي رصين ودليل لا يضل ومنطق لا يختل، وقريحة خصبة وذهن صيود وطبع مشبوب وألمعية كشافة. هكذا عرفنا مباركاً وبهذا شهدنا، وهكذا عرفه من يُوثق بمعرفتهم ويُرتاح إلى إنصافهم ويطمأنّ إلى شهادتهم، لا نختلف في هذا ". - وقال الأستاذ المؤرّخ أحمد توفيق المدني رحمه الله تعالى: " لقد كان من رجالنا المعدودين، وكأن من بُناة قوميتنا المذكورين، وكان من الذين خلّدوا أسماءهم بأعمالهم الجليله، وجهادهم الموفق في صفحات التاريخ الوطني الحافل الثري ". " كان رحمه الله أوّل من عرفت في القطر الجزائري من رجال العمل الصحيح والوطنيه الحقة ". " وأقسم أنني ما عملت مع أحد عملاً أحب إلي وأمتع لنفسي- إذا استثنيت سني الجهاد ضمن الحزب الدستوري التونسي- من عملي ذلك، خلال تلك الفترة القصيرة إلى جانب مبارك الميلي. ولقد رأيت فيه يومئذِ خلالاً جَعَلَتْه في نظري نموذج المؤرخ الصادق، وهذه شهادة أؤديها للمعاصرين وللأجيال: صبر على البحث، وغلوّ في التحقيق والتدقيق، ومهارة منقطعة النظير في المقابلة بين النصوص، ونظرة صائبة في استجلاء الغوامض، وحكم صادق في أسباب الحوادث ونتائجها، ومهارة في الترتيب والتبويب، وحسن سبك يجعل التاريخ كلّه كالسلسلة المفرغة " (¬1). ¬

_ (¬1) " البصائر " - العدد (26).

آثاره العلمية

- وقال الأستاذ أحمد حماني: " العلاّمهّ الجليل الشيخ مبارك بن محمد الميلي رحمه الله، أكبر تلاميذ الأستاذ ابن باديس ومدرسته علماً وفضلاً وكفاءة، وأحد علماء الجزائر وبناة نهضتها العربية الإصلاحية الأفذاذ، وأوّل من ألّف للجزائر باللغة العربية والعاطفة الوطنية تاريخاً قومياً وطنياً نفيساً " (¬1). - وقال تلميذه الشيخ أبو بكر الأغواطي رحمه الله تعالى: " عرفنا من الأستاذ مبارك الميلي رحمه الله صفات قلَّ بيننا اليوم من يتصف بها، وهي التي جعلت منه علماً من أعلام نهضتنا ورجلاً من خيرة رجالنا، تلك هي حبّ العمل والجدّ فيه، وتحمل الأعباء والمصابرة على تحقيق أهداف عليا، وكلها ترجع إلى متانة خلقه وصدق عزيمته، وسداد تقديره ومحكم تدبيره ".- (¬2) • آثاره العلمية: على الرغم من عمره القصير (47 عاماً)، وملازمة المرض له، واشتغاله بتأليف الرجال عن تصنيف الكتب، فقد خلف الشيخ مبارك رحمه الله تعالى سِفْرين نافعين: الأوّل: ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ في جزئين (¬3)، وهو كتاب حافل، أثنى عليه غير واحد، منهم شيخه العلامة ابن باديس رحمه الله الذي بعث إليه برسالة (¬4) جاء فيها: ¬

_ (¬1) انظر: " صراع بين السنة والبدعة " (2/ 13). (¬2) " البصائر " - العدد (26). (¬3) ولم يتمه بل توقف عند ابتداء الدور العثماني، ثم أضاف نجله محمد بن مبارك الميلي جزءاً ثالثاً في الدور المذكور، والكتاب يحتاج إلى تكميل. (¬4) بتاريخ (15/ 1/ 1347 هـ) من " حصن الماء " - برج الكيفان- حالياً.

" وقفت على الجزء الأول من كتابك " تاريخ الجزائر في القديم والحديث "، فقلت: لو سميته " حياة الجزائر " لكان بذلك خليقاً، فهو أوّل كتاب صوّر الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سويّة، بعدما كانت تلك الصورة أشلاء متفرقة هنا وهناك. وقد نفخت في تلك الصورة من روح إيمانك الديني والوطني ما سيبقيها حيّة على وجه الدهر، تحفظ اسمك تاجاً لها في سماء العُلا، وتخطّه بيمينها في كتاب الخالدين. أخي مبارك! إذا كان من أحيا نفساً واحدة فكأنما أحيا الناس جميعاً، فكيف من أحيا أمة كاملة؛ أحيا ماضيها وحاضرها وحياتها عند أبنائها حياة مستقبلها؛ فليس والله كفاء عملك أن تشكرك الأفراد ولكن كفاءة أن تشكرك الأجيال " (¬1). الآخر: ـ[رسالة الشرك ومظاهره]ـ (¬2): وهو كتابٌ نفيس في بابه، فريدٌ في موضوعه، لم ينسج على منواله، وقد أقرّ المجلس الإداري لـ " جمعية العلماء " ما اشتمل عليه، ودعا المسلمين إلى دراسته والعمل بما فيه، وحرّر هذا التقرير كاتبها العام الشيخ العربي التبسي رحمه الله تعالى بقلمه، فعدها " في أوليات الرسائل أو الكتب المؤلفة في نصر السنن وإماتة البدع، تقرّ بها عين السنة والسنين، وينشرح لها صدور المؤمنين، وتكون نكبة على أولئك الغاشين للإسلام والمسلمين من جهلة المسلمين ومن أحمرة المستعمرين الذين يجدون من هذه البدع أكبر عون لهم على استعباد الأمم، فيتخذون هذه البدع التي ينسبها البدعيون إلى الدين الإسلامي مخدّراً يخدّرون بها عقول الجماهير وإذا تخدّرت العقول وأصبحت تروّج عليها الأوهام وجدت الأجواء التي يرجوها غلاة المستعمرين للأمم المصابة برؤساء دينيين أو دنيويين يغشّون أممهم ويتاجرون ¬

_ (¬1) مقدمة " تاريخ الجزائر " (1/ 9 - 10). (¬2) نشر الفصول الأولى منها في جريدة " البصائر " ثم جمعها فى كتاب، طبع لأول مرة في المطبعة الإسلامية الجزائرية سنة (1937م) ثم أعيد نشره أكثر من مرة.

وفاته

فيها " (¬1). كما ترك الشيخ رحمه الله تعالى مجموعة من المقالات القيّمة والبحوث النافعة والتعليقات البديعة في جرائد ومجلات " جمعية العلماء "، كـ " المنتقد " و " الشهاب " و " البصائر " (¬2) وغيرها مما لو جمع لكان مُصَنَّفاً جليلاً (¬3). وبالإضافة إلى كل ذلك، هناك " الرسائل الخاصة " التي كانت متداولة بينه وبين الشباب، وقد أربت على " مائتي رسالة "، فيها الأخوية الودية، وفيها العلمية ذات الوزن في التحقيق والتدقيق، وفيها الأدبية الرائعة، والتاريخية التي تشير إلى وثائق خاصة في عهد من العهود، أو تثير تساؤلات حول شخصية فذة أو عبقرية تحتاج إلى تقديمها، في الإطار المهذب واللون الباهر والبيان الكاشف، حتى توضع موضعها اللائق بها من تراثنا الثري، وأدبنا الغني، وماضينا المجاهد " (¬4). • وفاته: بعد خروج الشيخ مبارك رحمه الله من " الأغواط " حوالي (1933م)، ابتلي بداء عضال ومرض مزمن مضني، أنهك قواه ونغّص عليه حياته، ألا وهو " داء السكري "، وقد حاول الشيخ علاجه غير مرّة في الجزائر بل وخارجها فسافر من أجله إلى " فيشي " بفرنسا، لكنه سرعان ما عاوده، كما وقع له عند سماعه خبر وفاة شيخه العلاّمة ابن باديس في (16 إبريل 1940) قال رحمه الله: " عندما سمعت لدى وصولي إلى قسنطينة بموته شعرتُ أن الدورة الدموية أصبحت تسير في عكس الاتجاه المعهود، وعرفت في الحين أن داء ¬

_ (¬1) رسالة " الشرك ومظاهره " [ص:7]. (¬2) انظر على سبيل المثال الأعداد (7 و 8 و 21 و 28 و 29 و 30 و 31 و 33 و 45 و 48 و 90 و 91 و 93 ... ) من السلسلة الأولى منها. (¬3) والنية منعقدة على جمعها في كتاب، فلعلّ الله ييسر ذلك قريباً بمنه وكرمه. (¬4) انظر: مجلة " الثقافة "، العدد (37).

مصادر ترجمته

السكر قد عاودني وأنه لن يفارقني حتى يقضي عليّ " (¬1). وكذلك قدّر، فقد أخذت صحته في الانهيار حتى وافاه الأجل يوم (25 صفر 1364هـ الموافق لـ 9/ 2/ 1945م)، وشيّعت جنازته من الغد في موكب مهيب بحضور آلاف عديدة من محبّيه وأصدقائه وزملائه وردوا من سائر الجهات، وفي مقدمتهم العلاّمة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى ودفن في مقبرة الميلة، رحمه الله تعالى، ورثاه جمع من أهل العلم والفضل. • مصادر ترجمته: ـ[أولاً: الكتب]ـ. 1 - آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: الجزء الثاني " عيون البصائر ":- الشركة الوطنية للنشر والتوزيبع- الجزائر ط 1 سنة 1398هـ - 1978م. الجزء الثالث:- الشركة الوطنية للنشر والتوزيع- ط 1 سنة 1402هـ - 1981م. 2 - " أعلام الإصلاح في الجزائر ": تأليف محمد علي دبوز. - دار البعث- قسنطينة ط 1 سنه 1398هـ- 1978م 3 - " تاريخ الجزائر في القديم والحديث ": تأليف مبارك بن محمد الميلي. قدم له نجله: محمد الميلي- طبعة المؤسسة الوطنية للكتاب- 4 - " جمعية العلماءالمسلمين الجزائريين وأثرها الإصلاحي في الجزائر ": إعداد د. أحمد الخطيب. المؤسسة الوطينة للكتاب. ط سنة 1985م. ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة " تاريخ الجزائر " (1/ 26 - 27) لمحمد بن مبارك الميلي.

5 - " رسالة الشرك ومظاهره ": تأليف مبارك بن محمد الميلى. نشر- مكتبة النهضه الجزائرية- ط 2 سنة 1966م. 6 - " شرح الأسئلة الرمضانية ": إعداد موسى الأحمدي نويوات. نشر- الشركة الوطنيه للنشر والتوزيع- الجزائر ط سنة 1982م. 7 - " صراع بين السنة والبدعة ": تأليف أحمد حماني. نشر- دار البعث- قسنطينة ط 1 سنة 1405هـ - 1984م 8 - " معجم أعلام الجزائر من صدر الإسلام حتى العصر الحديث " تأليف عادل نويهض. 9 - " نهضة الأدب المعاصر فى الجزائر (1925 - 1954) ": تأليف د عبدالملك مرتاض. طبع- الشركة الوطينة للنشر والتوزيع- الجزائر ط دون تاريخ. 10 - " نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة ": تأليف محمد على دبوز. - المطبعه العربية - الجزائر ط 1 1389هـ - 1969م ـ[ثانياً: الجرائد والمجلات]ـ. 1 - جريدة " البصائر ": لسان حال " جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ": - العدد (26) من " السلسلة الثانية ": عدد خاص بذكرى وفاة الشيخ مبارك الميلي ويتضمن المقالات التاليه: * مبارك الميلي بقلم محمد البشير الإبراهيمي. * حياة رجل الإرادة مبارك الميلي بقلم أحمد بوزيد قصيبة. * مبارك الميلي مؤرخ الجزائر بقلم أحمد توفيق المدني. * آثار الأستاذ مبارك الميلي في بناء المجتمع الجزائري بقلم علي

مرحوم. * عصامية الشيخ مبارك الميلي رحمه الله بقلم أبي بكر بن بلقاسم الأغواطي. * الذكرى الأولى لفقيد العلم والدين والعربية والوطن الشيخ مبارك الميلي تقام بالميلية بقلم أبي الأنوار أبي شعيب. * أعظم بها سيرة (قصيدة) لأحمد سحنون. - العدد (27) ويتضمن: * مظاهر العبقرية في الشيخ مبارك بقلم الصادق حماني. * نظرة في رسالة الشرك ومظاهرة بقلم محمود بوزوزو. * معالم العظمة في حياة الشيخ مبارك بقلم أحمد بن ذياب. * أطوار من حياة الشيخ مبارك بقلم عبد الحفيظ الجنان. * الميلي كمعلم ومدرس بقلم أحمد الغوالمي. - العدد (28) وفيه: * من وحي الذكرى (قصيدة) بقلم عمر شكيري. 2 - مجلة " الثقافة ": تصدر عن وزارة الإعلام والثقافة بالجزائر. - العدد (7): من يكون محمد التهامي شطة؛ بقلم أحمد قصيبة. - العدد (37): الشيخ مبارك الميلي في ذكرى وفاته الثانية والثلاثين بقلم أحمد بن ذياب. - العدد (80): من وحي ذكرى مرور أربعة عقود سنوية على وفاة العلامة النابغة الشيخ مبارك الميلي رحمه الله بقلم عبدالرحمن الجيلالي. - العدد (85): الشرك ومظاهره عند الشيخ مبارك الميلي وشيخ الإسلام

ابن تيمية بقلم د. عبداللطيف عبادة. - العدد (102): المؤرخ الجزائري مبارك الميلي في الصحافة التونسية بقلم د. محمد صالح الجابري. • • • • •

تقرير جمعية العلماء للرسالة

تقرير جمعية العلماء للرسالة بقلم كاتبها العام العالم العامل الثقة الحجة النظار الأستاذ الشيخ العربي بن بلقاسم التبسي، مدير مدرسة تهذيب البنين بتبسة ــــــــــــــــــــــــــــــ قال حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم المجلس الإداري لجمعية العلماء يقرر أن ما اشتملت عليه " رسالة الشرك ومظاهره " لمؤلفها الأستاذ مبارك الميلي هو عين السنة، وأن هذه الرسالة تعد من الكتب المؤلفة في نشر السنة ورد البدع. الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق. والصلاة والسلام على سيدنا محمد المجعول اتباعه دليلًا على محبة المتبع لربه، وعلى آله الأخيار وأصحابه، الذين بلغوا عنه - امتثالًا لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بلغوا عنى، بلغوا عنى» - أقواله وأعماله وأخلاقه. أما بعد: فإن الدعوة الإصلاحية التى يقوم بها دعاة الإصلاح الإسلامي فى العالم الإسلامي عامة وتقوم بها جمعية العلماء فى القطر الجزائري خاصة، تتلخص فى دعوة المسلمين إلى العلم والعمل بكتاب ربهم وسنة نبيهم، والسير على منهاج سلفهم الصالح في أخلاقهم وعباداتهم القولية والاعتقادية والعملية، وتطبيق ما هم عليه اليوم من عقائد وأعمال وآداب، على ما كان فى عهد السلف الصالح؛ فما وافقه؛ عددناه من دين الله، فعملنا به، واعتبرنا القائم به قائما بدين الله، وما لم يكن معروفاً فى عهد الصحابة؛ عددناه ليس من دين الله. ولا

علينا فيمن أحدثه أو عمل به؛ فالدين حجة على كل أحد، وليس عمل أحد حجة على الدين. ولا تفتأ جمعية العلماء داعية إلى ما أمر الله أن يدعى إليه من دينه، ومن اتباع نبيه، وإحياء سنته، وإماتة ما أحدثه المحدثون، تدريساً، وكتابة في الصحف، ومذاكرة في كل مجلس حسن فيه الكلام عن نشر السنن؛ حتى عمت دعوة جمعية العلماء، وبلغ صوتها إلى المستجيب وغير المستجيب، وأصبحت دعوتها معروفة في القطر كله، ولها أنصار ودعاة. وقد لاقت دعوتها في المجتمعات الإِسلامية أكبر نجاح، ونالت أبهر فوز؛ إذ يستطيع العارف بالأمة الجزائرية أن يعد أكبر عدد منها هم الآن من أنصار جمعية العلماء، ومن المنتمين إليها، والمتبرئين من أعدائها، بل نستطيع أن نقول- ولا نخشى مفنداً-: إنه لم يرفض دعوة الجمعية إلا طوائف معلومة في الجزائر، يضر بها العمل بالدين الحق، ويهد بنيانها القائم على أساس العوائد، التي ظهرت في المسلمين في العصور التي بلي فيها العالم الإِسلامي بزعماء جهلاء اغتصبوا هذه الزعامة من غير كفاءة علمية ولا هداية إسلامية. وإذ بلغت هذه الدعوة الصالحة، وانتشرت، وقبلها المسلمون، وعدوها نعمة من الله عليهم؛ كان تأليف رسالة جامعة لأهم النقط التي يدخل منها ليل البدع على نور السنن من أوجب الواجبات على حملة السنن وعلى أعضاء جمعية العلماء، إذ دعاة الإِصلاح اليوم في حاجة ماسة إلى رسالة في هذا الموضوع، جامعة لأدلة هذه المسائل، ناقلة للآيات أو الأحاديث، في كل نقطة من النقط التي تتناولها الرسالة المقترحة المرغوب في تأليفها؛ لتكون حجة للمستيقنين، وهداية للمسترشدين، وسيفاً مصلتاً على أعداء السنن المعروفين في الجزائر، من المتعيشين بهذه البدع والعوائد الضالة.

فنهض إلى القيام بهذا الفرض الكفائي الأستاذ المحقق مؤرخ الجزائر الشيخ مبارك الميلي أمين مال جمعية العلماء، وجمع رسالة تحت عنوان " رسالة الشرك ومظاهره "؛ خدم بها الإِسلام، ونصر بها السنة، وقاوم بها العوائد الضالة والخرافات المفسدة للعقول. وعرض هذه الرسالة على مجلس إدارة الجمعية، فتصفحها، واستقصى مسائلها؛ فإذا هي رسالة تعد في أوليات الرسائل أو الكتب المؤلفة في نصر السنن وإماتة البدع، تقر بها عين السنة والسنيين، وينشرح لها صدور المؤمنين، وتكون نكبة على أولئك الغاشين للإِسلام والمسلمين من جهلة المسلمين ومن أحمرة المستعمرين، الذين يجدون من هذه البدع أكبر عون لهم على استعباد الأمم؛ فيتخذون هذه البدع التي ينسبها البدعيون إلى الدين الإِسلامي مخدراً يخدرون بها عقول الجماهير، وإذا تخدرت العقول وأصبحت تروج [عليها] الأوهام وجدت الأجواء التي يرجوها غلاة المستعمرين للأمم المصابة برؤساء دينيين أو دنيويين يغشون أممهم ويتاجرون فيها. وإن المجلس الإِداري لجمعية العلماء يقرر بإجماع أعضائه أحقية ما اشتملت عليه هذه الرسالة العلمية المفيدة، ويوافق مؤلفها على ما فيها، ويدعو المسلمين إلى دراستها والعمل بما فيها؛ فإنه العمل بالدين. والله وحده يضاعف للمحسنين إحسانهم، والحمد لله رب العالمين. العربي بن بلقاسم التبسي الكاتب العام لجمعية العلماء • • • • •

كلمة في الرسالة

كلمة في الرسالة نسج حسان الدعوة الاصلاحية، وكميت الفرقة الناجية، شاعر الجزائر الفتاة، مدير مدرسة الشبيبة بالجزائر، الأستاذ محمد العيد آل خليفة ــــــــــــــــــــــــــــــ شَرَعَ الْإِلَهُ الدِّينَ لِلاِتِّبَاعِ … وَدَعَا إِلَيْهِ الْخَلْقَ بِالإِقْنَاعِ فَإِلَيْهِ بَادِرْ بِالرُّجُوعِ مُلَبِّياً … قَبْلَ القَضَاءِ عَلَيْكَ بِالإِرْجَاعِ وَلَهُ تَضَرَّعْ رَاغِباً أَوْ رَاهِباً … فَهُوَ الْحَفِيظُ عَلَيْكَ وَهُوَ الرَّاعِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَبُّكَ فَادْعُهُ … فَهُوَ الْمُجِيبُ لِكُلِّ عَبْدٍ دَاعِي وَعَلَيْهِ فِي كُلِّ الرَّغَائِبِ فَاعْتَمِدْ … لَا تَعْتَمِدْ أَبَداً عَلَى الأَشْفَاعِ سُبْحَانَهُ جَلَّى الْفَسَادَ بِنُورِهِ … وَأَمَدَّ مِنْهُ الْكَوْنَ بِالإِشْعَاعِ الْمُلْكُ وَالْمَلَكُوتُ قَامَا بِاسْمِهِ … وَتَسَامَيَا فِي النَّظْمِ وَالْأَوْضَاعِ وَحِّدَهُ فِي ذَاتٍ وَفِي وَصْفٍ وَفِي … فِعْلٍ وَفِي خَلْقٍ وَفِي إِبْدَاعِ * * * وَاحْذَرْ شِرَاكَ الشِّرْكِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ … شَتَّى الْمَظَاهِرِ جَمَّةُ الْأنْوَاعِ كَمْ وَاقِعٍ فِيهَا وَيَحْسَبُ أَنَّهُ … فِي الدِّينِ حُرُّ الْعَقْدِ رَحْبُ الْبَاعِ الشِّرْكُ دَاءٌ فِي الْبَرِيَّةِ كَامِنٌ … مُسْتَفْحِلٌ الْأَضْرَار ِوَالْأَوْجَاعِ الشِّرْكُ سَتْرٌ حِيكَ مِنْ نَسْجِ الْهَوَى … غَطَّى عَلَى الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ * * *

فاقْبِسْ مِنَ التَّوْحِيدِ أَعْظَمَ جَذْوِةٍ … وَتَمَشَّ تَحْتَ ضِيَائِهَا اللَّمَّاعِ يَا عَبْدُ ثِقْ بِاللهِ يَكْفِكَ وَحْدَهُ … يَا عَبْدُ سَلْهُ يُجِبْكَ بِالْإِسْرَاعِ وَاصْبِرْ بِبَابِ اللهِ نَفْسَكَ ضَارِعاً … يَفْتَحْهُ مِصْرَاعاً عَلَى مِصْرَاعِ وَإِلَيْهِ بِالطَّاعَاتِ كُنْ مُتَوَسِّلاً … لَا بِالْمُنَى وَكَوَاذِبِ الْأَطْمَاعِ وَبِآيِهِ الْمُثْلَى فَكُنْ مُتَهَجِّداً … لَا بِالْأَغَانِي الْعَذْبَةِ الإِيْقاَعِ * * * يَا أُمَّةً جَهِلَتْ حَقِيقَةَ دِينِهَا … فَتَفَرَّقَتْ فِيهَا إِلَى أَشْيَاعِ الْعَاصِفُ الزَّعْزاَعُ مِنْ أهْوَائِهَا … يَشْتَدُّ إِثْرَ الْعَاصِفِ الزَّعْزَاعِ فِي الْقَاعِ مَاءٌ كَيْفَ شِئْتِ مُبَارَكٌ … فَرُدِيهِ وَاطَّرِحِي سَرابَ الْقَاعِ هَذَا الْأَخُ الْمِيْلِيُّ فِيكِ مُثَوِّبٌ … للهِ بِالذِّكْرَى فَهَلْ مِنْ وَاعِ يَجْلُو وُجُوهَ الشِّرْكِ وَهِيَ خَفِيَّةٌ … لِلنَّاسِ شَأْنُ الْعَالِمِ النَّفَّاعِ * * * اليَوْمَ مِنْ أَفْكَارِهِ تَجْنِينَ مَا … تَجْنِينَ مِنْ عِلْمٍ وَمِنْ إِمْتاعِ فَأْوِي مِنَ التَّوْحِيدِ خُلْداً طَيِّباً … وَتَنَشَّقِي مِنْ عَرْفِهِ الضَوَّاعِ وَدَعِي الفِئَامَ الْمَارِقِينَ عَنِ الهُدَى … الْخَارِقِينَ حَظِيرَةَ الْإِجْمَاعِ وَعَلَى السُّلُوكِ الْمُسْتَقِيمِ فَقَوِّمِي … عَادَاتِكِ الْمُعْوَجَّةِ الْأَضْلَاعِ وَلَعَلَّ جَهْلَكِ وَاقْتِحَامَكِ لِلرَّدى … وَهَواكِ قَدْ آذَنَّ بِالإِقْلاع فَتَرَقَّبِي حُسْنَ الْمَثَابَةِ فِي الْوَرَى … وَارْجِي شُيُوعَ الذِّكْرِ فِي الْأَصْقَاعِ وَاحْيِي وَحَيِّي بِالرِّضَى مُسْتَقْبَلًا … كَالرَّوْضِ خَصْباً كَامِلَ الإِمْراعِ • • • • •

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإِسراء: 111]. والله أكبر، قضى أن لا يعبد خلقه إلا إياه، وهو أحكم الحاكمين، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. والصلاة والسلام على من نودي: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7]؛ فصدع بالأمر، واحتمل في سبيل الدعوة كل أذى مر، حتى أدى الأمانة، فتركها محجة بيضاء، ليلها كنهارها. ورضي الله عن آله وأصحابه {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وعن تابعيهم من العلماء العاملين، أولياء الله الصالحين، الذين ورثوا علم الدين عن الأنبياء المرسلين، ودعوا إليه مهتدين، من غير أن يكونوا للأجر من السائلين.

تمثيل حال الشرك

• تمثيل حال الشرك: أما بعد؛ فإن حقّ الله على عباده أن يعبدوه لا يشركوا به شيئاً، وإن نسبة الشرك من التوحيد نسبة الليل من النهار والعمى من الإِبصار، يعرض للأمم الموحدة كما يعرض الظلام للضياء، ويطرأ عليها كما تطرأ الأسقام على الأجسام؛ غير أن الظلام باعث لنوم الأبصار لإِفادة الراحة للأشباح، أما الشرك، فعلة لنوم البصائر، الموجب لشقاء الأرواح. وإذا كان حفظ الصحة بالغذاء والدواء، فإن حفظ التوحيد بالعلم والدعوة، ولا يحفظ التوحيد علم كعلم الكتاب والسنة، ولا تجلّي الشرك دعوة كالدعوة بأسلوبهما. • أثر إهمال الدعوة بالكتاب والسنة: وقد مرت أعصر أهمل جلّ العلماء فيها شأن الدعوة، أو حادوا فيها عن أسلوب القرآن والحديث؛ فجهل جمهور المسلمين عقائد الإِسلام، أو خفي عليهم ما ينافيها، وطال عليهم الأمد، فطرأ عليهم ما طرأ على الأمم قبلهم من عقائد زائفة وبدع سائدة، حتى ظنوا الإِسلام جنسية تتمشى مع الأنساب، لا أنه عقائد وآداب تنال بالتلقين والاكتساب؛ فإن منَّ الله عليهم بمن يتلو عليهم الكتاب ويعظهم بآياته، كانوا أشبه حالًا بالذين وصفهم الله بقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج: 172] بل كم سطوا!! وبفسادهم اغتبطوا!! • حياطة الدين وحفظه: أفضت أمة خاتم النبيين إلى ما أفضت إليه أمم الأنبياء الأولين؛ فكانوا {كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ

فَاسِقُونَ} [الحديد: 116] وكاد دين الإِسلام يعتريه ما اعترى الأديان قبله، فتطغى بدع أهله على سننه وتغشاها، لولا ما خص الله به هذا الدين من حفظه بحفظ كتابه وبقيام علماء ربانيين على تبليغه: قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ الله، وَهُمْ ظَاهِرُونَ» (¬1). أخرجه الشيخان، وفسر البخاري هذه الطائفة بأهل العلم. وقال أيضاً: «إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِئَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» (¬2). رواه أبو داود والطبراني في " الأوسط "، وصححه الحاكم، واعتمده الأئمة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه " (13/ 293، برقم: 7311 - بشرح الفتح)، ومسلم في " صحيحه " (3/ 1523، برقم: 1921 - طبعة فؤاد عبد الباقي) من حديث المغيرة بن شُعبة رضي الله عنه. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود في " سننه " (2/ 209 - التازية)، والحاكم في " المستدرك " (4/ 522) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وعزاه في " المقاصد الحسنة " للطبراني في " الأوسط " أيضاً، وفي " الجامع الصغي " للبيهقي في " المعرفة ". قال الحافظ السخاوي [ص:203]: " وسنده صحيح، ورجاله كلّهم ثقات، وكذا صححه الحاكم، فإنه أخرجه في " مستدركه " ... وقد اعتمد الأئمة هذا الحديث. وانظر: " تمييز الطيب " (313) لابن الديبع. وفي " فيض القدير " (2/ 282) للمناوي: " قال الزين العراقي وغيره: سنده صحيح ". وانظر: " الصحيحة " (599)، و " صحيح الجامع الصغير " (1870)، و " صحيح سنن أبي داود " (3606) لمحدّث العصر: شيخنا الألباني حفظه الله تعالى.

صفات المجددين

• صفات المجددين: وإن من المجددين في عصرنا، الظاهرين على الحق بمغربنا، رجالاً حباهم الله بمضاء ذكاء قطعوا به قيود الجمود، وأنعم عليهم بعزائم ثابتة زلزلوا بها راسيات الخرافات، وميزهم بهمم عالية فضحت أطماع المتزهدين؛ فسيماهم علم في مضاء ذكاء، وعمل في ثبات عزيمة، وسيرة في علو همة. • رأس المئة الحاضرة لتجديد الدين: تلك صفات رجال الإِصلاح الديني بوطن الجزائر، التي ظهروا بها في ميدان الدعوة بالكتاب والسنة إلى الكتاب والسنة، منذ سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة وألف، وهي من أوائل المئة الرابعة عشرة، بعد عصري النبوة والخلافة. • أصناف المعارضين للتجديد: وعلى تلك الصفات الثلاث تكسّرت نبال الأذى، ونبت شباة الشتيمة، وفلّ سلاح المعارضة من رؤساء في الدين جهال به، يزهدون الأتباع، ويحرصون على الابتلاع، ومن شيعة لهم طامعة في دينارهم، أو مغرورة بدثارهم، ومن سادة لهم هم المعمّرون، الذين يشبهونهم في شرب عرق الخدامين. • بعض آثار التجديد: وتحت لواء تلك الصفات؛ اجتمع كل نقيّ اللبّ تقيّ القلب؛ فكانت قوة اتحاد إلى قوة الحق والإِعراب عنه، حققت شيئاً من الآمال، وقضت على أنواع من الضلال، وتجلّت تلك القوة في تأسيس " جمعية العلماء المسلمين الجزائريين "، والمحافظة عليها، وتخليصها من عناصر الدجل والضعف.

جمعية العلماء

• جمعية العلماء: تشكلت الجمعية سنة خمسين، فبثت الوعاظ في الجهات، وأنشأت الصحف الصادقة اللهجات، وصبرت على ما تلاقيه من صدمات، وها هي ذي في سنة خمس وخمسين تخاطب الضمائر بصحيفتها الحديثة المسماة " البصائر " (*). • إنشاء الرسالة والباعث عليه: وبهذه الصحيفة نشرنا سلسلة مقالات في موضوع الشرك ومظاهره (**)، وما برزت من تلك السلسلة حلقات، حتى أخذت الرغبات من مختلف الطبقات في عدة جهات تتوارد على تجريد تلك المقالات وجمعها في رسالة خاصة؛ فاستصوبنا اقتراح الراغبين، وأمسكنا عن قراء " البصائر " ما بقي من حلقات السلسلة، وأعْلنَّا بها استعدادنا لتنفيذ مقترحهم، ثم رجعنا إلى ما كتب بالتهذيب والتبويب وتنقيح عبارات للتقريب وتغيير في الترتيب، وأضفنا إليه بعض الفصول، فجاءت في شكل غير ما ظهرت به من قبل. • وصف الرسالة: وقد تحرّينا فيما تخيّرنا من أطراف هذا الموضوع وطرق عرضه والإِبانة عنه ما رأينا حاجة شعبنا إليه أقوى، وأسلوب العصر له أدعى، فكل أمة وحاجتها، وكل عصر وعرضه. ولم أحتذ فيما كتبت إلا ما تخيله فكري، ولم أنسج فيما جمعت على ¬

_ (*) صدر العدد الأول منها يوم الجمعة (شوال 1354هـ، الموافق لـ 27/ 12/ 1935م). (**) انظر الأعداد: (5 و 6 و 9 و 10 و 11 و 12 و 13 و 15 و 16 و 17 و 20 و 22 و 25 و 42 و 44 و 45).

منوال غيري؛ إذ لم أقف على كتاب مجموع على النسق الذي أردته في الموضوع؛ إلا أني بعد كتابة فصول؛ أُهدي إلي كتاب " صيانة الإِنسان "؛ فإذا فيه نبذة منقولة من كتاب " تطهير الاعتقاد من أدران الإِلحاد " لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، أحد علماء القرن الثاني عشر، وفيه أيضاً طائفة من كتاب " الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد " لمحمد بن علي الشوكاني، فألفيتهما في موضوع رسالتي، ولكن لم أستعن بهما في تحرير مقالتي؛ إذ لم تحوهما خزانتي، ولا رأيتهما عند أهل صداقتي. وبعد تمام التأليف، وقبل الشروع في الطبع؛ اتصلت بهدية من جدة، من الأخ في الله السيد محمد نصيف، تشتمل على كتاب " فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد " لابن عبد الوهاب، فعلّقت منه فوائد ألحقتها بمواضعها معزوة إليه، ولو اطلعت عليه قبل كتابة الرسالة؛ لخفف علي من عناء ابتكار العناوين وتنسيقها. فهذه رسالة في موضوع بور، على أسلوب من عندي بكر، ولعل ذلك من أبين العذر وأوجب الصفح عما يكون بها من خلل وضعف، على أن النقص لا يسلم منه كلام؛ إلا أن يكون وحياً؛ فلا ينتظر مني ما فوق منة الكتاب، وحسبنا محاولة الإِتقان، والله المستعان. • • • • •

الحاجة إلى معرفة الشرك ومظاهره

1 - الحاجة إلى معرفة الشرك ومظاهره • مطالب الإِنسان في الحياة: الإنسان جسم وروح (*)، وهو بجسمه ظلماني من عالم الشهادة، يميل إلى كل ما هو جسماني من عالم المادة؛ مثل وسائل الكسب والنسل، وهو بروحه نوراني من عالم الغيب، يطلب ما هو روحاني معقول من علم ودين؛ فالإِنسان بجسمه يهوى دنيا وعادة، وبروحه يحب ديناً وعبادة، وحظه من الكمال على مقياس تأليفه بين جزءيه المتضادين، وتوفيقه بين مطالبهما المختلفة: وفي الكتاب العزيز: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. وعن أنس رضي الله عنه؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه، حتى يصيب منهما جميعا؛ فإن الدنيا بلاع إلى الآخرة، ولا تكونوا كلاًّ على الناس» (¬3). رواه: الديلمي، والخطيب وابن عساكر في ¬

_ (*) قال: " الإنسان جسم وروح "، والصواب: " جسد وروح "؛ فالروح عند أهل السنة جسم أيضاً لكنه جسم لطيف كما في " الروح " لابن القيم. (¬3) باطل: وقد أفاض في تخريجه وبيان بطلانه شيخنا في " الضعيفة " (برقم: 500)، فليراجع. =

مفاسد التفريط والإفراط في مطالب الحياة

" تاريخهما "؛ كما في: " الحاوي " للسيوطي (2/ 202)، و " كشف الخفاء " للعجلوني (2/ 169). • مفاسد التفريط والإِفراط في مطالب الحياة: وانقطاع الإنسان إلى مطالب روحه إضرار بإنسانيته، يفقدها القوةَ التي تحفظ لها سيادتها على ما حولها، ويعدمها النسل الذي به بقاء نوعها. ومما صح معناه وإن لم تصح نسبته إلى الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا رهبانية في الإِسلام» (¬4). وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن لكل أمة رهبانية، ¬

_ = ورُوي بلفظ: " خيركم من لم يترك آخرته لدنياه، ولا دنياه لآخرته، ولم يكن كلًّا على الناس ". رواه الخطيب في " تاريخ بغداد " (4/ 221) من حديث نعيم بن سالم، وكذا الديلمي، عن أنس مرفوعاً؛ كما في " الجامع الصغير "، وشرحه " فيض القدير " (3/ 499). قال المناوي: " قال ابن الجوزي: حديث لا يصح، قال ابن حبان: نعيم يضع على أنس ". وانظر: " الضعيفة " (501) أيضاً. (¬4) قال الحافظ في " فتح الباري " (9/ 111): " لم أره بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند الطبراني: " إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة ". قلتُ: وأخرج الدارمي في " سننه " (2/ 133) من حديثه أيضاً مرفوعاً: " يا عثمان! - هو ابن مظعون- إني لم أومر بالرهبانية ". وسنده حسن. وصحّ من حديث عائشة مرفوعاً: " يا عثمان! إن الرهبانية لم تكتب علينا ". أخرجه أحمد (6/ 226) وغيره. وعند عبد الرزاق في " المصنف " (8/ 448/ 15860)، وابن قتيبة في " غريب الحديث " عن طاووس مرسلًا: " لا زمام، ولا خزام، ولا رهبانية، ولا تبتل، ولا سياحة في الإِسلام ". ورجال إسناده ثقات؛ كما في " الصحيحة " (4/ 387)، والله أعلم.

ميل الإنسان إلى المادة والشرك

ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله " (¬5). أخرجه: أحمد، والحكيم الترمذي في " نوادر الأصول "، وأبو يعلى، والبيهقي في " الشعب "، كما في " الدر المنثور " للسيوطي (6/ 178). واكتفاء المرء بمراغب جسمه يذهب ميزة إنسانيته عن بقية الحيوانات، ويلحقها بالبهائم والعجماوات، بل يضعها دون مرتبة الأنعام؛ كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 43 - 44]. • ميل الإِنسان إلى المادة والشرك: على أن الانقطاع لخدمة الروح والإِفراط في التعبد مما يقلّ عروضه للإِنسان، والذي يغلب عليه هو ما يتفق وجسمانيته، مما يناله الحس، ويحويه ¬

_ (¬5) ضعيف الإِسناد: أخرجه أبو يعلى (4/ 184/ 4189)، وأحمد (3/ 266)؛ إلَّا أنه قال: " لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عزَّ وجلَّ ". قال الهيثمي في " المجمع " (5/ 278): " وفيه زيد العمي، وثقه أحمد وغيره، وضعفه أبو زرعة وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح ". وفي الباب عن أبي أمامة مرفوعاً: " إن لكل أمة سياحة، وإن سياحة أمتي الجهاد في سبي ْالله، وإن لكل أمة رهبانية، ورهبانية أمتي الرباط في نحر العدوّ ". أخرجه الطبراني في " الكبير " (8/ 198/ 7708). قال في " مجمع الزوائد " (5/ 278): " رواه الطبراني، وفيه عفير بن معدان وهو ضعيف ". وقال الحافظ العراقي: " سنده ضعيف "؛ كما في " تخريج الإِحياء " (1/ 266)، لكن جملة السياحة عند أبي داود (1/ 389) بسند حسن. نعم، يغني عن هذا وذاك حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد (3/ 82) بسند رجاله ثقات؛ كما قال الهيثمي (4/ 215)، ولفظه: " وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإِسلام .. ". وانظر: " الصحيحة " (555).

عالم الشهادة؛ فتجد أكثر الناس فاقداً للعلم الذي يصل روحه بعالم الغيب، ومن فاته ذلك العلم؛ فإما أن ينكر الدين والعبادة فيكون دهريّاً، وإما أن يمثل معبوده في صور مادية حسية يخضع لها روحه فيكون مشركاً: كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 156]. وروى أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبهم ذات يوم، فقال: «يا أيها الناس! اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل». فقال له من شاء [اللهُ] أن يقول: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؛ قال: «قولوا: اللهم! إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه» (¬6). نقله ابن كثير في " تفسيره "، وذكر معه روايات أخر ¬

_ (¬6) قويٌّ بطرقه وشواهده: روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم؛ منهم: • أبو موسى الأشعري: أخرج حديثه الإِمام أحمد في " المسند " (4/ 403)، وابن أبي شيبة في " المصنف " (7/ 88) عن أبي علي- رجل من بني كاهل-؛ قال: خطبنا أبو موسى الأشعري؛ فقال: يا أيها الناس! اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل؛ فقام إليه عبد الله بن حزن وقيس بن المضارب؛ فقالا: والله! لتخرجن مما قُلْتَ أو لنأتين عمر، مأذوناً لنا أو غير مأذون! قال: بل أخرج مما قلتُ، خطبنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم؛ فقال: " .. فذكره بلفظ المؤلف ". قال الهيثمي في " المجمع ": (10/ 223 - 224): " رواه أحمد والطبراني في " الكبير " و " الأوسط "، ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي عليّ، ووثقه ابن حبان ". • أبو بكر الصديق: ولحديثه طريقان: 1 - طريق يحى بن كثير، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم عنه. =

في معناه (4/ 486). وسترى إن شاء الله مصداق ميل الإِنسان إلى المادة والشرك في الفصول ¬

_ = أخرجه بنحو حديث أبي موسى أبو القاسم البغوي- كما في " تفسير ابن كثير " (4/ 57) -، وأبو نعيم في " الحلية " (7/ 112)، ويحى بن كثير ضعيف كما في " تقريب ابن حجر "، بل قال الدارقطني: متروك كما في " ديوان الذهبي ". 2 - طريق ليث بن أبي سُليم- وهو ضعيف اختلط- تارة يرويه عن أبي محمد، عن حذيفة، عن أبي بكر رضي الله عنه؛ إمّا حضر حذيفة ذلك من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإمّا أخبره أبو بكر رضي الله عنه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال (فذكره). أخرجه أبو يعلى في " مسنده " (1/ 60/ 54)، وعنه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " (287)، وقال الهيثمي: " وأبو محمد إن كان هو الذي روى عن ابن مسعود، أو الذي روى عن عثمان بن عفان؛ فقد وثقه ابن حبان، وإن كان غيرهما؛ فلم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح ". وتارة يرويه عن أبي محمد عن معقل بن يسار، قال: شهدت النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أبي بكر، أو حدثني أبو بكر عن النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أنه قال: " الشرك فيكم أخفى ... " الحديث. أخرجه أبو يعلى (1/ 61/ 55): ثنا عمرو بن الحصين، ثنا عبد العزيز بن مسلم، عن ليث به، وعمرو متروك كما قال الهيثمي. ومرة قال: أخبرني رجل من أهل البصرة؛ قال: سمعت معقل بن يسار به نحوه، أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (717). • عائشة: وستأتي روايتها إن شاء الله تعالى مخرجة برقم (104). • ابن عباس (مختصراً بالشطر الأول فقط): روي عنه مرفوعاً وموقوفاً؛ أمّا المرفوع، فقد أخرجه الحكيم الترمذي كما في " الجامع الصغير " للسيوطي، وأمّا الموقوف فسيأتي تخريجه برقم (34) إن شاء الله. وخلاصة القول: أن الحديث بمجموع طرقه وشواهده- عدا التي اشتد ضعفه منها- قويّ إن شاء الله تعالى، يرتقي إلى مرتبة الحسن لغيره على الأقل كما هو مقرر في " المصطلح "؛ فلا غرو أن صححه شيخنا وجعله من نصيب كتابه: " صحيح الجامع الصغير وزيادته " (3624 و3625)، والله تعالى أعلم.

واجب المرشد والمسترشد

التي نعرض فيها لعروض الشرك في الأمم؛ فحكم الطبيعة يغري بالشرك، ونص الشريعة يدعو إلى مزيد التيقظ في التحفظ منه، وتاريخ الأديان يكشف عما في ذلك من تسويل الشيطان وخدع النفس. • واجب المرشد والمسترشد: لعلك لا تجد في عيوب النفس ونقائص الإِنسان ما يضاهي الشرك في اقتضاء طبع المتدين له، وخفاء مساربه إلى نفسه، ودفاع المتأولين عنه؛ فكان لزاماً على من يهتم لسعادته في الدار الباقية أن يعترف بحاجته الشديدة إلى معرفة الشرك ومظاهره، وأن يعتني كل الاعتناء بالبحث عن كل ذريعة إلى هذا الداء؛ ليتقيه أيما اتقاء، فلا يسري إلى جنانه، ولا يعلق بلسانه، ولا يظهر على شيء من أركانه، وكان من آيات المرشد النصوح وأخص مظاهر نصحه أن يجعل أولى ما يتقدم به إلى العامة وأول ما يقرع به أسماعهم التحذير من الشرك ومظاهره، وبيان مدلوله وأنواعه، ثم الصبر على ما يلحقه لذلك من أذى جاهل متحمس، ومغرض متعصب، وضال متأول. • أول ما يدعو إليه المرسلون: إن القرآن العظيم يقص علينا في جلاء ووضوح أن أول ما يدعو إليه الأنبياء والمرسلون صلوات الله عليهم أجمعين هو توحيد الله، وأول ما ينكرونه على قومهم الشرك ومظاهره، وعلى حكم هذه السنة الرشيدة جاءت بعثة خاتم النبيين - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فعنيت بالدعوة إلى التوحيد، والتحرز من الشرك، والتحذير منه، وما ذلك إلا لشدة الحاجة إلى معرفته، وإنك لتجد تلك العناية ظاهرة في الكتاب وأطوار البعثة وأركان الدين. • عناية الكتاب بعلاج الشرك: هذا الكتاب العزيز، فاقرأ وتدبر؛ تجد السور- مكيها ومدنيها- تفيض

عناية البعثة بمحاربة الشرك

القول في حديث المشركين الغابرين والمعاصرين، ولا تكاد تخلو سورة من هذا الحديث، ولا تكاد تجد غيره في سور كثيرة، وأول ما نزل الآيات الخمس الأول من سورة العلق؛ فلم تخل من الإِشارة إلى التوحيد، والتعريض بالوثنية؛ للأمر فيها بالقراءة باسم الرب، والتذكير بنعمه في الخلق والتعليم، وآخر ما نزل آية المائدة في إكمال الدين (*)؛ فسدّت باب الابتداع. ومن أسلوبه الحكيم: جمعه في دعوته بين بيان التوحيد ومزاياه وإيضاح الشرك ودناياه، وبضدها تتميز الأشياء. • عناية البعثة بمحاربة الشرك: وهذه أطوار البعثة من حين الأمر بالإِنذار المطلق في سورة المدثر، إلى الأمر بإنذار العشيرة، إلى الأمر بالصدع بالدعوة، إلى الأمر بالهجرة، إلى الإِذن بالقتال، إلى فتح مكة، إلى الإِعلام بدنو الحمام؛ لم تخل من إعلان التوحيد وشواهده، ومحاربة الشرك ومظاهره، ويكاد ينحصر غرض البعثة أولاً في ذلك، فلا ترك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التنديد بالأصنام وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور بالشعب ثلاث سنوات شديدات، ولا نسيه وهو مختف في هجرته والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وهو ظاهر بمدينته بين أنصاره، ولا غلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة، ولا شغل عنه وهو يجاهد وينتصر ويكر ولا يفر، ولا أكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرير عرض البيعة على التوحيد ونبذ الشرك، وهذه سيرته المدونة وأحاديثه المصححة؛ فتتبعها، تجد تصديق ما ادعينا، وتفصيل ما أجملنا. • حكمة مشروعية العبادات: وهذه أركان الإِسلام الخمسة؛ إنما شرعت كسائر العبادات، للاحتفاظ بالتوحيد، والابتعاد عن الوثنية: ¬

_ (*) يعني قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ... } [المائدة: 3].

التعجب من إهمال الكلام في الشرك

فلم يكتف في الشهادتين بالتوحيد المجرد، حتى صرح بنفي التعدد، وحصر التشريع في شخص المرسل بالتبليغ. ولم يقتصر في الصلاة على افتتاحها بالتكبير الذي فيه تعريض باطراح الأوثان، حتى خللت به، وكرر فيها مخاطبة رب العالمين بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وزكاة المرء شعار غناه، ودليل اعترافه للرب بجليل نعماه، وأنه لا دخل فيها للأصنام وكل ما سواه. والصوم يذر فيه الصائم شهوته وطعامه وشرابه من أجل مولاه، ويراقبه وهو صائم، ولو انفرد بمحل سكناه. والحج فاتحته الإِحرام، المصحوب بالتلبية المتكررة في كل حال، وهي صريحة في حياطة التوحيد بنكران الشريك. قال أبو إسحاق الشاطبي في " الموافقات ": " نحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة وغيرهما من العبادات؛ إنما شرعت للتقرب بها إلى الله، والرجوع إليه، وإفراده بالتعظيم والإِجلال، ومطابقة القلب للجوارح في الطاعة والانقياد " (2/ 385). • التعجب من إهمال الكلام في الشرك: وإن لم يكن بعقلك بأس؛ فستسلم معي شدة عناية بعثة خاتم النبيين ببيان الشرك، وعدم الاكتفاء بشرح التوحيد، وستعجب معي من قلة اهتمام أكثر علمائنا بذلك، كأن لا حاجة بالمسلمين إليه؛ تجد في كلامهم على الفروع عناية بتفصيل أحكام مسائل نادرة أو لا توجد عادة، ولا تجدهم يعنون تلك العناية بالأصول؛ فيحددون الشرك، ويفصلون أنواعه، ويعددون مظاهره، حتى

نتيجة إهمال الكلام في الشرك

يرسخ في نفوس العامة الحذر منه والابتعاد من وسائله، ولا يفقد المتأخر نص من قبله في جزئية من ذلك. • نتيجة إهمال الكلام في الشرك: نتج عن قلة الخوض في هذا الموضوع: أن صار الشرك أخفى المعاصي معنى، وإن كان أجلاها حكماً؛ فلظهور حكمه، وكونه من الضروريات، ترى المسلمين عامتهم يتبرؤون منه، ويغضبون كل الغضب إن نسبوا إليه، ولخفاء معناه؛ وقع من وقع منهم فيه، وهم لا يشعرون؛ ثم وجدوا من أدعياء العلم من يسمي لهم عقائد الشرك وأعماله بأسماء تدخل في عقائد الإِسلام وأعماله، ثم يدافع عنهم، ويحشرهم في زمرة أهل السنة، ويشنع على العلماء الناصحين، حتى إنه ليخيل إليك أن العامي الواقع في حمأة الشرك جهلًا واغتراراً أقرب إلى السنة والاستقامة من أولئك العلماء النصحاء المؤتسين برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن خبرة وصدق. • الجمود على المنطق اليوناني: وعني علماء الكلام ببيان عقائد الإِسلام، وسلكوا في التدليل عليها سبيل المنطق اليوناني، ثم جمد المتأخرون على هذا الأسلوب، وحادوا عن بيان القرآن؛ فخفي على الناس ما هو شرك أو سبب إليه. وقد قال الشيخ السنوسي في " شرح صغراه " معللًا وجه ذكر الصفات الواجبة والمستحيلة على التفصيل ما نصه: " لأنه لو استغني فيها بالعام عن الخاص، وبالملزوم عن اللازم، لكان ذلك ذريعة إلى جهل كثير منها، لخفاء اللوازم، وعسر إدخال الجزئيات تحت كلياتها، وخطر الجهل في هذا العلم عظيم؛ فينبغي الاعتناء فيه بمزيد الإِيضاح على قدر الإِمكان، والاحتياط البليغ؛ لتحلية القلوب بيواقيت الإِيمان ".

ذم إيثار المنطق

• ذم إيثار المنطق: وقد أنكر العلماء الفحول إيثار أساليب اليونان على بيان القرآن، ولكن شيوع التقليد وذيوع الجمود أضاعا حجتهم وبرهانهم. فقد ألف محمد بن إبراهيم الصنعاني من أئمة القرن التاسع رسالة سماها: " ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان ". وقال الحافظ في " الفتح ": " وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك، حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل، ولو كان مستكرهاً، ثم لم يكتفوا بذلك، حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه؛ فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن له منه بد؛ فليكتف منه بقدر الحاجة، ويجعل الأول المقصود بالأصالة، والله الموفق " (13/ 214). وفي " الفتاوى الحديثية " للهيتمي المكي: " يتعين على الولاة منع من يشهر علم الكلام بين العامة؛ لقصور أفهامهم عنه، ولأنه يؤدي بهم إلى الزيغ والضلال، وأمر الناس بفهم الأدلة على ما نطق به القرآن ونبه عليه؛ إذ هو بيِّن واضح، يدرك ببداهة العقل " [ص:146]. • الترخيص في علم الكلام للضرورة: وفي " تبيين كذب المفتري " لابن عساكر: عن أبي يوسف؛ أنه قال: " من طلب الدين بالكلام؛ تزندق ". ثم نقل عن أبي بكر البيهقي قوله: " ورُوي هذا أيضاً عن مالك بن أنس،

تعميم أسلوب القرآن وتخصيص أسلوب اليونان

وإنما يريد- والله أعلم- بالكلام: كلام أهل البدع؛ فإن في عصرهما إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع، فأما أهل السنة؛ فقلما كانوا يخوضون في الكلام، حتى اضطروا إليه بعد " (*) [ص:334]. وقال أيضاً صاحب " التبيين ": " وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء، فأما أهل السنة والجماعة؛ فمعوَّلهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة " [ص:345]. • تعميم أسلوب القرآن وتخصيص أسلوب اليونان: ويا ليتنا تركنا كتب المتكلمين للخاصة، يستعينون بها في مواطن الجدال مع الخصوم (* * *)، ووضعنا للعامة كتباً في العقائد على أسلوب الكتاب المجيد (* * *)، فيكون من تلك رياضة للعقول وحماية للحق، ومن هذه طهارة للقلوب وهداية للخير، وليس كل الناس بحاجة إلى تلك الرياضة، ولا لهم قدرة على تلك الحماية، ولكن كلهم في حاجة إلى تطهير البواطن ومعرفة الهدى؛ فعمت الحاجة إلى معرفة الشرك ومظاهره، ولهذا عرف جميع الأنبياء بحكم الشرك. قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ ¬

_ (*) المراد بأهل السنة عند البيهقي وابن عساكر: الأشاعرة والماتريدية " فكلاهما أشعري، إلا أن البيهقي على طريقة مُتقدِّمهم كالباقلاني بخلاف الجويني ومن بعده، فالانحراف عندهم أشد، أما السلف- رضوان الله عليهم- فلم يضطروا إليه، وفي القرآن والسنة غُنْية وكفاية، وكتب ابن رجب حول هذا المعنى كتاباً نفيساً أسماه بـ: " الاستغناء بالقرآن ". (**) وهذا تَنزُّل من المؤلف معهم لا يفهم منه الجواز، فالصحيح تحريم علم الكلام على العامة والخاصة، وكلام السلف في هذا معروف. انظر: " ذم الكلام وأهله " للهروي. (* * *) على هذا الأسلوب جرى شيخ المؤلف العلاّمة ابن باديس رحمه الله تعالى تعليماً وتأليفاً، فانظر رسالته: «العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية».

لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65 - 66]. • • • • •

الغرض من بيان الشرك ومظاهره

2 - الغرض من بيان الشرك ومظاهره • تحسين بيان الشرك: إذا كان الاحتياج إلى معرفة الشرك شديداً، كان تعريف الناس به أمراً لازماً أكيداً، وإذا كان الباعث على هذا التعريف إقامة العقيدة؛ فهو من النصيحة المفيدة الحميدة، وليس الإِرشاد إلى الخير النافع بأولى من التنبيه على الباطل الضار، بل كلاهما غرض حسن وسَنن، لا يعدل عنه الساعون في خير سُنن، وهذا ما حمل المصلحين المجددين على الاهتمام بدعوة المسلمين إلى إقامة التوحيد وتخليصه من خيالات المشركين. • تشنيع المشاغبين: وما رفعنا صوتنا بتلك الدعوة؛ حتى ثارت علينا زوابع ممن سلكوا للشرك كل الذرائع، وشوهوا للعامة غرضنا الحميد بما يجدون الجزاء عنه يوم الوعيد، ومن أقوى ما لبسوا به على العموم، ومدوا به صخب الخصوم: رميهم لنا بأنا نحكم على المسلمين بحكم المشركين، ثم ينتصبون للدفاع؛ محافظة على غفلة الأتباع، الذين ينتفعون منهم بكل وجوه الانتفاع، ولكن قذف الله بالحق على الباطل بعيد الأثر، وسنته في ظهور المصلحين على المعاندين قديمة في البشر.

بيان تكفير مدعي الإسلام

• بيان تكفير مدعي الإِسلام: نحن لا نكفر أحداً من أهل القبلة، ونقول في غير تعيين إنه يوجد في المسلمين من يضاهون في عقائدهم المشركين. قال أبو جعفر الطحاوي الحنفي المعاصر لأبي الحسن الأشعري في عقيدته السلفية ما نصه: " ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين، ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإِيمان ذنب لمن عمله ". وفي " تبيين ابن عساكر " عن أبي علي السرخسي، أنه قال: " لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري رحمه الله في داري ببغداد؛ دعاني، فأتيته، فقال: اشهد علي، أني لا أكفر أحداً من أهل هذه القبلة " [ص:149]. وقال التقي السبكي في رسالة " الاعتبار ببقاء الجنة والنار " رادّاً على التقي ابن تيمية ومشيراً إليه: " فهذا القول الذي قاله هذا الرجل ما نعرف أحداً قاله، وهو خروج عن الإسلام بمقتضى العلم إجمالاً (*)، ولا أكفر أحداً معيناً من أهل القبلة بلساني ولا بقلبي ولا بقلمي، إلا أن يعتقد مشاقة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهذا ضابط التكفير عندي " [ص:77]. وعن سوار بن شبيب، قال: " كنت عند ابن عمر رضي الله عنهما؛ إذ أتاه ¬

_ (*) وَنقْل المؤلف ثم سكوته عجيب، وهذا القول لا يصح نسبته لشيخ الإسلام كما حرَّره الشيخ الألباني في مقدمة " كشف الأستار "، والسُّبكي أشعري قبوري، هذا أصل خلافه مع شيخ الإسلام، وما نسبه لشيخ الإسلام- بالرغم من أنه لم يثبت صحَّة هذا القول له- هو خلاف الرَّاجح من قوليْ السلف في هذه المسالة، وعدم معرفة السبكي بأحدٍ قاله ليس فيه المعرفة بأن أحداً لم يقله. انظر تحرير المسألة في: " شرح الطحاوية "، و " جلاء العينين " للآلوسي، ومقدمة " كشف الأستار " للألباني.

عدم تسارع المجددين إلى التكفير

رجل جليد في العين، شديد اللسان، فقال: يا أبا عبد الرحمن! نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألو، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة إلا الخير، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك. فقال رجل من القوم: وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك؟! فقال الرجل: إني لست إياك أسأل، وإنما أسأل الشيخ. فأعاد على عبد الله الحديث؟ فقال عبد الله: لعلك ترى لا أبا لك أني سآمرك بأن تذهب فتقتلهم؛ عظهم، وانههم، وإن عصوك؛ فعليك بنفسك؛ فإن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ... } (¬7) الآية [المائدة: 105]. نقله الحافظ ابن كثير في " تفسيره " عن ابن جرير (3/ 259)، ونحوه في " الدر المنثور " للسيوطي عن ابن مردويه (2/ 341). • عدم تسارع المجددين إلى التكفير: فنحن بالعقيدة السلفية قائلون، ولما مات عليه الأشعري موافقون، وعلى ضابط السبكي ناهجون، وبفتوى الشيخ أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر مقتدون، ما نحن إلا وعاظ مرشدون، ولم ندع أننا حكام منفذون، ومعاملتنا للناس ترفع كل التباس؛ فتجدنا نصلي خلف من يتقدم للإِمامة، ونسلم على من لقينا، وندفن في المقابر العامة؛ من غير منع لأي مسلم منها، ونشتري اللحم مِمَّنْ يشهد الشهادتين، كل ذلك من غير بحث عن كونه من المسترشدين بإرشادنا أم من الخصوم الطاعنين علينا، ما لم تتبين لنا مشاقته لما جاء به الرسول ¬

_ (¬7) صحيح الإِسناد: أخرجه ابن جرير الطبري في " تفسيره " (7/ 95)، قال: حدثنا محمد بن بشار؛ قال: ثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم؛ قالا: ثنا عوف عن سوار بن شبيب به. وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات مترجمون في " التقريب " غير سوار، فقد وثقه ابن معين كما في " الجرح والتعديل " (4/ 270) لابن أبي حاتم، والله أعلم.

تحكم المشاغبين

الكريم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فهذه شواهد واقعية على أننا لا نحكم على معين بالشرك، وغرضنا من الخوض في حديث الشرك تحذير المسلمين منه لا الحكم عليهم به تعييناً. • تحكّم المشاغبين: والذين يشنعون علينا إن خضنا في هذا الحديث لا ينكرون على من يعلم الناس " أم البراهين " (*) وأمثالها من كتب المتكلمين، ولا على من يعلم أحكام الردة من " المختصر " وغيره؛ فهم في هذه التفرقة مغرضون متحكمون؛ فإن من يعلم العقائد الصحيحة ومن يبين الزائغة منها سواء في خدمة الحق، متظاهرون على النصح: فَفِي " الصَّحِيحَيْن " عَنْ حُذَيْفَة بن الْيَمان رَضي اللهُ عَنْه؛ أنه قال: • حديث حذيفة: «كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ ; مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: " نَعَمْ "، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ "، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: " قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ "، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: " نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا "، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: " هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا "، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: " تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ "، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: " فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، ¬

_ (*) من عقائد متأخري الأشعرية [ناشر ط3]

خطاب المسلم باجتناب الشرك

حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» (¬8). و (الدخن)؛ بفتحتين: الدغل والفساد، وعض أصل الشجرة: كناية عن مكابدة المشقة؛ كما في " فتح الباري " (13/ 30). وهذه آيات وأحاديث تفيد أن مخاطبة المسلم باجتناب الشرك وأمره بالتوحيد ليس من الحكم عليه بالوثنية، ولا التعريض باشتماله عليها. • خطاب المسلم باجتناب الشرك: 1 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136]: وصفهم أولاً بالإِيمان، وطلبه منهم ثانياً، فلو كان أمرهم به يدل على خلوهم منه؛ لتناقض الكلام، وكتاب الله منزه عن الاختلاف، وإنما المقصود أمرهم بالمداومة عليه، وكذلك نَهِيُ المسلمِ عن الشرك طلبٌ منه للاستمرار على اجتنابه. 2 - وقال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } [المجادلة: 13]. وواضح أن المخاطبين بتلك الأوامر كانوا ممتثلين لها من قبل نزول الآية، ولكن لزيادة التذكير فضل تقرير. 3 - وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12]. فوصفهن بالإِيمان قبل المبايعة؛ لأن مبايعة المؤمن على ترك الشرك وعدم العود إليه إنما تزيد إيمانه صفاء. ¬

_ (¬8) أخرجه البخاري (6/ 615 - 616/ 3606)، ومسلم (3/ 1475 - 1476/ 1847) من حديث حذيفة رضي الله عنه.

4 - وفي " الصحيحين " عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال وحوله عصابة من أصحابه: «بَايعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ... » (¬9) الحديث. فطلب من أصحابه وهم في الإِيمان أعلى درجة من كل من يأتي بعدهم أن يبايعوه على اجتناب الشرك. 5 - وفي " مستدرك الحاكم " عنه أيضاً بسند صحيح، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى ثَلَاثٍ؟ (ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151 - 153] حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَاتِ)؛ فَمَنْ وَفَّى؛ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا، فَأَدْرَكَهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا، كَانَتْ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ أُخِّرَ إِلَى الْآخِرَةِ؛ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ» (¬10). ¬

_ (¬9) أخرجه البخاري (1/ 64/ 18)، ومسلم (3/ 1333/ 1709) عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه- وكان شهد بدراً، وهو أحد النقباء ليلة العقبة-؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - وحوله عِصابة من أصحابه-: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا؛ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» فبايعناه على ذلك. (¬10) ضعيف: أخرجه الحاكم (2/ 318) من طريق سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي إدريس عنه مرفوعاً بلفظ: «مَنْ يُبَايِعُنِي عَلَى هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ ... حَتَّى خَتَمَ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ ... »، وقال الحاكم عقبه: " هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرجاه، إنما اتفقا جميعاً على حديث الزهري عن أبي =

نطق الجاهل بالشهادتين لا يمنع عنه وصف الشرك

والآيات الثلاث التي تلاها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنتهي بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والمخاطبون بقوله: " أَيُّكُمْ ": هم أصحابه لا المشركون. • نطق الجاهل بالشهادتين لا يمنع عنه وصف الشرك: وهذه الأدلة وما في معناها؛ كما تدل على أن تحذير المسلم من الشرك ليس حكماً به عليه، تدل أيضاً أن مجرد النطق بالشهادتين لا يطرد عن ساحة القلب شبح الشرك، ولا سيما نطق من لُقِّنَهما تقليداً عاديّاً خالياً من فهم معناهما، وإنما اعترف بهما بحكم الوسط لا باضطرار العلم (*). ¬

_ = إدريس عن عُبادة: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً "، وقد روى سفيان بن حسين الواسطي كلا الحديثين عن الزهري؛ فلا ينبغي أن ينسب إلى الوهم في أحد الحديثين إذا جمع بينهما، والله أعلم ". ووافقه الذهبي!! قلتُ: سفيان بن حسين الواسطي " ثقة في غير الزهري باتفاقهم " كما في " التقريب "، وأمّا في الزهري فضعيف، قال ابن حبان في " المجروحين " (1/ 354): " يروي عن الزهري المقلوبات، وإذا روى عن غيره أشبه حديثه حديث الأثبات، وذاك أن صحيفة الزهري اختلطت عليه؛ فكان يأتي بها على التوهم، فالإِنصاف في أمره تنكب ما روى عن الزهري والاحتجاج بما روى عن غيره ". وانظر: " ميزان الاعتدال " (2/ 165 - 168) أيضاً. نعم، قوله: " فمن وفى فأجره على الله ... " صحيح، مضى قبل هذا الحديث برواية " الصحيحين "، والله أعلم. (*) وقد دخل في الإسلام أمَم من الروم والفرس والديلم والقبط ونحوهم مما لا يعرف لغة العرب فضلاً عن معنى الشهادتين؛ فهل توقَّف أحدٌ أو تردّد في الحكم بإسلامهم؛ بل الصواب الحكم بإسلامهم، ثم يُعرَّفوا بمعناها ومقتضاها، فإن أتى بما ينقضها بعد هذا التعليم والتعريف؛ فهو كافر مرتد. وفي " الصحيحين " قَتْل خالد بن الوليد لقوم لمَّا غزاهم خالد سجدوا وقالوا: صبأنا صبأنا. وامتنع ابن عمر - رضي الله عنه - من قتلهم ومنع أصحابه، فلما قدموا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد- مرتين-. فتّأمًل! لم يعرفوا حتى كيف يدخلوا في الإسلام وليس معناها فقط بل الشهادتين، وكان من أسلم يُسمَّى صابئ، ومما يميزهم السجود؛ فسجدوا وقالوا: صبأنا- أرادوا =

تعظيم مشركي قريش للرسول

ولم ينطق المشركون بالشهادتين لما دعاهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم عالمون بمعناهما، ويرون النطق بهما التزاماً لما يدعو إليه الرسول، ونبذاً لما يخالف دعوته، وقد أصابوا في هذا الرأي، ثم اختاروا بعد ذلك الرأي الناشئ عن العلم باللغة ومعاني الكلام التمسك بما وجدوا عليه آباءهم، وقد أخطأوا في هذا الاختيار، ولو رأوا مجرد التشهد كافياً في رفع وصف الشرك عنهم مع بقائهم على عقائدهم الباطلة وعوائدهم القبيحة؛ لأقروا واستراحوا؛ فإن عظماءهم لم يكونوا يأنفون من سيادة من لقبوه الأمين، ففي " سيرة ابن هشام " أن أبا الوليد عتبة بن ربيعة قال في مجمع قريش: • تعظيم مشركي قريش للرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا معشر قريش! ألا أقوم إلى محمد فأكلّمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها؛ فنعطيه أيها شاء، ويكفّ عنا؛ فقالوا: قم إليه؛ فكلمه. فجاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال له: يا ابن أخي! إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا؛ جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت إنما تريد به شرفاً؛ سوَّدناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً؛ ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً (جنيّاً) تراه لا تستطيع رده عن نفسك؛ طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا، حتى نبرئك منه؛ فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه (أو كما قال له) ... حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستمع منه؛ قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد؟». قال: نعم. قال: «فاستمع مني». قال: أفعل. فقال: «{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ ¬

_ = أسلمنا-. فصوَّب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْل ابن عمر - رضي الله عنه - وحكم بإسلامهم وتبرأ من فِعْل خالد، وقد عنون له مجد الدين ابن تيمية- جد شيخ الإسلام- في " المنتقى " بـ (الحكم بإسلام من كنَّى مع النية). قارن هذا بما ذكره المؤلف يظهر لك الصواب، وما ذكرته استفدته من كلام الشيخ الألباني - حفظه الله وعفا عنه وجعله ذخراً للإسلام والمسلمين-.

من يوصف بالشرك

الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ... } [فصلت: 1 - 5]». ثم مضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة؛ أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى السجدة منها، فسجد، ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت؛ فأنت وذاك» (¬1) (1/ 185). • من يوصف بالشرك: فهذه القصة تريك مبلغ احترام كبراء قريش للنبي، واستعدادهم لقبول رئاسته في الدنيا، وهو في بداية أمره بمكة، قبل أن يفشو فيها الإِسلام؛ فليس امتناعهم من التشهد كراهية لرفعته عليهم، ولكن محافظة على ما ألفوا عليه آباءهم مما يعلمون جدّاً منافاته لمقتضى التشهد. فوصف الشرك يلحق من أخذ بحظ من عقائد وعوائد سمَّى الإسلامُ أهلها من أجلها مشركين، ولا يغني مع ذلك تلفظه بالشهادتين. • علة الجمع بين لفظ الشهادتين ومعنى الشرك: وكثير من علمائنا اليوم- بله عوامنا- لم يفقهوا من العربية ما كان يفقهه أولئك الذين كانت اللغة لغتهم والأسلوب أسلوبهم، ولهذا؛ لم يقتلع التلفظ بالشهادتين من قلوبهم عقائد الشرك، ولا حال دون نفوذه إليها؛ فتجد أحدهم ¬

_ (¬1) قوي: " أخرجه ابن إسحاق في " المغازي " (1/ 185 - من سيرة ابن هشام) بسند حسن عن محمد ابن كعب القرظي مرسلًا، ووصله عبد بن حميد وأبو يعلى والبغوي من طريق أخرى من حديث جابر رضي الله عنه، كما في " تفسير ابن كثير " (6/ 159 - 161) وسنده حسن إن شاء الله "، كذا في " تخريج فقه السيرة " [ص:113] للألباني.

حال المسلمين ومسؤولية العلماء

يردد في صلاته: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، حتى إذا سلم منها، ونهض، استعان بغير الله قائلًا: يا جدي! يا شيخي! يا رجال الداله؛ نساءه ورجاله!! فلانحطاط عقولهم، وفساد أذواقهم العربية، يجمعون بين المتناقضات. فإن كان فرق بين الفريقين من صرحاء المشركين ومشركي المسلمين، فهو إقدام أهل الجاهلية الحديثة على الجمع بين المتنافيات، وإحجام أهل الجاهلية المعاصرة للبعثة عن هذا الهذيان الذي لا يعقل. ولا ينفع أهل جاهليتنا تسميتهم مسلمين؛ كما لم ينفع أولئك تسميتهم بالحنفاء، والإِسلام لا يفرق بين العقائد المتشابهة والأعمال المتماثلة لمجرد الافتراق في الأوصاف الظاهرة والألقاب الاصطلاحية المسلوخة عن معناها الصحيح. وفي " فتح المجيد " لعبد الرحمن [بن حسن] بن عبد الوهاب: " لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط لا تنفع قائلها إلا باجتماعها: أحدها: العلم المنافي للجهل، الثاني: اليقين المنافي للشك، الثالث: القبول المنافي للرد، الرابع: الانقياد المنافي للترك، الخامس: الإِخلاص المنافي للشرك، السادس: الصدق المنافي للكذب، السابع: المحبة المنافية لضدها " [ص:61] • حال المسلمين ومسؤولية العلماء: ها قد أزحنا اللبس عن غرة الغرض من بيان الشرك ومظاهره، ولزيادة التقرير نقول: إن المسلمين قد عمهم الجهل، وفشا بينهم الدجل، وانتشرت فيهم البدع والمعاصي، وكثفت غفلتهم عن يوم الأخذ بالنواصي، وهذا ضروري لا يستطيع جحده المكابر العنيد، والمسؤول عن هذا الحال هم العلماء:

فائدة بيان العلماء لمسائل الشرك

لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]،. ولقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ، فَكَتَمَهُ؛ أَلْجَمَهُ الله بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬12). رواه: أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وأبو يعلى، والترمذي وحسنه، [و] الحاكم وصححه، [و] البيهقي؛ عن أبي هريرة مرفوعاً. كذا في " كشف الخفاء " للعجلوني (2/ 254). • فائدة بيان العلماء لمسائل الشرك: فبيان العلماء لمسائل الشرك أداء للأمانة، وقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم رجاء لصلاح حال المسلمين، وأن لا يكونوا حجة على هذا الدين، ولا سبة بأفواه المتمدنين، وهو غرض الذين ينهون عن السوء حين قالوا: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164]، ممن حكى الله ذلك عنهم من وعاظ بني إسرائيل، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. ¬

_ (¬12) صحيح: أخرجه- كما قال المؤلف نقلًا عن " كشف الخفاء " للعجلوني- أحمد (14/ 5 - 7، برقم: 7561 - من طبعة أحمد شاكر)، وأبو داود (2/ 126 - التازية)، والترمذي (7/ 407 - 408، برقم: 2787 - بشرح التحفة)، وابن ماجه (266)، والحاكم (1/ 101) وغيرهم، وقال الترمذي: " حديث حسن "، وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ ابن كثير في " تفسيره " (1/ 352): " وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضاً عن أبي هريرة وغيره أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ... فذكره ". وصححه العلّامة أحمد شاكر رحمه الله في " تعليقه على المسند "، والألباني في " تخريج المشكاة " (223)، و " صحيح [الجامع الصغير " (6160)، و " سنن أبي داود " (3106)، و " سنن الترمذي " (2135)، و " سنن ابن ماجه " (213)]. وللحديث شواهد عن جمع من الصحابة أشار إليها الحافظ المنذري رحمه الله تعالى في " الترغيب " (1/ 98).

الرجوع في بيان الشرك إلى الكتاب والسنة

3 - الرجوع في بيان الشرك إلى الكتاب والسنة • إجمال الإِسلام في الشهادتين، وتفصيله في الأصلين: يدخل المرء في الإِسلام بقوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ومعنى الجملة الأولى: أنه لا يعترف لغير الله بقوة غيبية تخضع لها روحه؛ فلا يخضع لسواه، ولا يعبد إلا إياه. ومعنى الجملة الثانية: أنه لا يعبده بهواه ولا بهوى أحد من أهل المنزلة والجاه، وإنما يعبده بما جاء به الرسول. فمحصل الجملتين: أن لا يُعْبَد إلا الله، وأن لا يُعْبَد إلا بما شرعه على لسان رسوله. وعلى هذين الأصلين انبنى الإِسلام، وكل ما في الكتاب والسنة تفصيل لما تضمنه هذان الأصلان، وكل ما نافى هذين الأصلين، فهو مناف للكتاب والسنة، أجنبي عن دين الإِسلام. • الحث على الأصلين الكتاب والسنة: فالداعي إلى الكتاب والسنة وتفهمهما إنما هو داع لتحقيق كلمتي الشهادة.

تدبر القرآن

ولهذا تجد فيهما وفي كلام سلف الأمة الحث على تعلمهما واتباعهما وتحكيمهما عند النزاع، والتحذير من مخالفتهما وارتكاب ما أنكراه على من تقدمنا من مشركين وكتابيين. ونثبت من ذلك ما يحصل به إن شاء الله التذكير لمن يخشى. • تدبر القرآن: 1 - قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. 2 - وقال أيضاً: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. 3 - وفي الفرقان: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]. وترك تدبره وتفهمه من هجرانه. قاله ابن كثير. • اتباع القرآن: 4 - وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]. فعاب على بني إسرائيل جهلهم بكتابهم، ومخالفتهم له، ولم يكتف منهم بمجرد قراءتها. 5 - وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]،. 6 - وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121].

الرجوع إلى الكتاب والسنة

في ابن كثير عن ابن عباس وغيره: أن حق التلاوة كونهم يتبعونه حق اتباعه. وفي كتاب التوحيد من " صحيح البخاري " عن أبي رزين: " يتبعونه ويعملون به حق عمله ". • الرجوع إلى الكتاب والسنة: 7 - وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. • الغفلة عن المواعظ: 8 - وقال: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]. • الثناء على صاحب القرآن والحديث: 9 - وعن حذيفة رضي الله عنه؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَنَزَلَ القُرْآنُ؛ فَقَرَءُوا القُرْآنَ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ» (¬13). رواه البخاري في كتاب الفتن، وفي كتاب الاعتصام من " صحيحه ". 10 - وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» (¬14) 0 أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن. ¬

_ (¬13) رواه البخاري في " صحيحه " في (كتاب الفتن، باب إذا بقي في حثالة من الناس، 13/ 38، برقم: 7086)، وفي (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، 13/ 249، برقم: 7276). (¬14) أخرجه البخاري في (كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه، 9/ 74/ 5027).

ووجّه الحافظ في " الفتح " الخيرية بالجمع بين النفع القاصر والمتعدي، وبيَّن أنه لا يلحقها من كان قارئاً أومقرئاً محضاً لا يفهم شيئاً من معاني ما يقرؤه أو يقرِئه، وشرَّف الدعوة إلى الله بالقرآن على الدعوة إليه بسواه، وجعل هذا الداعي أشرف من تناوله قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، وقابل هذا الداعي بالكافر الذي جاء فيه قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام: 157]. (9/ 62). 11 - وفيه أيضاً عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَالأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَرِيحُهَا طَيِّبٌ. وَالَّذِي لاَ يَقْرَأُ كَالتَّمْرَةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَلاَ رِيحَ فِيهَا. وَمَثَلُ الفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ. وَمَثَلُ الفَاجِرِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ، وَلاَ رِيحَ لَهَا» (¬15). ثم رواه في موضع ثان من كتاب الفضائل أيضاً بلفظ: ««الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ». ففسرت هذه الزيادة المراد من الذي يقرأ القرآن، وأنه الذي يعمل بما دل عليه ¬

_ (¬15) أخرجه باللفظ الأوّل: البخاري في (كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام، 9/ 65 - 66/ 5020)، ومسلم في (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة حافظ القرآن، 1/ 549/ 797). وأمّا اللفظ الآخر؛ فهو عند البخاري في نفس الكتاب (باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به أو فجر به، 9/ 100/ 5059).

وصف القرآن

• وصف القرآن: 12 - وأخرج أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ أُمَّتَكَ مُخْتَلِفَةٌ بَعْدَكَ». قَالَ: «فَقُلْتُ لَهُ: فَأَيْنَ الْمَخْرَجُ يَا جِبْرِيلُ؟» قَالَ: «فَقَالَ: فِي كِتَابِ اللَّهِ، بِهِ يَقْصِمُ اللَّهُ كُلَّ جَبَّارٍ، مَنِ اعْتَصَمَ بِهِ نَجَا، وَمَنْ تَرَكَهُ؛ هَلَكَ (مَرَّتَيْنِ) قَوْلٌ فَصْلٌ وَلَيْسَ بِالْهَزْلِ، لَا تَخْلقُهُ الْأَلْسُنُ، وَلَا تَفْنَى أَعَاجِيبُهُ، فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ، وَفَصْلُ مَا بَيْنَكُمْ، وَخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ» (¬16). نقله الحافظ ابن كثير في كتابه " فضائل القرآن " الذي ذيل به " تفسيره " [ص:7]. • شهادة القرآن: 13 - ومن حديث أخرجه مسلم عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً: «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ» (¬17). ¬

_ (¬16) ضعيف جداً: أخرجه أحمد (2/ 88 - 89/ 704)، والترمذي (8/ 218 - 221/ 3070) بنحوه من طريق الحارث الأعور عنه مرفوعاً، وهذا سند ضعيف جداً من أجل الحارث؛ فإنه متهم؛ كما يستفاد من ترجمته في " الميزان " و " الضعفاء والمتروكين " وغيرهما. وقال الترمذي: " هذا حديث غريب، لا نعرفه إلاَّ من حديث حمزة الزيات، وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال ". وقال ابن كثير في " فضائل القرآن " (7/ 434 - من تفسيره): " وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح ". وانظر: " تعليق شاكر على المسند "، و " الضعيفة " (1776)، و " ضعيف الجامع الصغير " (74) للألباني. (¬17) جزء من حديث أخرجه مسلم في " صحيحه " (في كتاب الطهارة- باب فضل الوضوء 1/ 203/ 223) عن أبي مالك الأشعري؛ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: =

نسيان القرآن

• نسيان القرآن: 14 - وأخرج أبو داود والترمذي عن أنس مرفوعاً: «عُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَمْ أَرَ ذَنْباً أَعْظَمَ مِنْ سُورَةِ مِنَ الْقُرآنِ أُوتيهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا» (¬18). وقد قواه الحافظ في " الفتح " بآثار في معناه، ووجهه بأن ترك معاهدة ¬

_ = الطهور شطر الإِيمان، والحمدُ للهِ تملأ الميزان، وسبحان الله والحمدُ للهِ تملآن (أو تملأ) ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حُجَّة لك أو عليك؛ كلّ الناس يغدو، فبايِع نفسه: فمعتقها أو موبقها ". (¬18) ضعيف: أخرجه أبو داود (1/ 76)، والترمذي (8/ 233/ 3083) من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن ابن جُريج، عن المطّلب بن عبد الله بن حنطب، عن أن! مرفوعاً. وهذا سند ضعيف، وفيه ثلاث علل: الأولى: الانقطاع بين المطّلب وأنس، وبه أعلّه الترمذي، قال: " هذا حديث غريب لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، وذاكرت به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه واستغربه، قال محمد: ولا أعرف للمطلب بن عبد الله بن حنطب سماعاً من أحد من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلّا قوله: حدثني من شهد خطبة النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول: لا نعرف للمطلب سماعاً من أحدٍ من أصحاب النّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال عبد الله: وأنكر عليّ بن المديني أن يكون المطّلب سمع من أنس ". والعلة الثانية: عنعنة ابن جريج المعروف بالتدليس. والعلة الثالثة: عبد المجيد- وإن كان من رجال مسلم ووثقه بعضهم-؛ فقد تكلموا في حفظه، ولهذا قال الحافظ في ترجمته من " التقريب " (1/ 517): " صدوق يخطئ، وكان مرجئاً، أفرط ابن حبان فقال: متروك ". والحديث ضعفه غير واحد من أساطين هذا الفن، قال القرطبي: " الحديث غير ثابت "، كما في " فيض القدير " (4/ 313)، وقال ابن حجر في " فتح الباري " (9/ 86): " في إسناده ضعف "، وانظر: " تخريج المشكاة " (730)، و " ضعيف [الجامع الصغير " (3702)، و " سنن أبي داود " (88)، و " سنن الترمذي " (558)].

عدم منع الشهادتين من الضلال الذي ضلته الأمم

القرآن يفضي إلى الجهل، والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد (9/ 71)، وهو يفيد أن نسيان القرآن شامل لإِهمال تلاوته ولترك تدبره، وقد عد هذا النسيان من الكبائر، كما في " الفتح " و " الزواجر ". • عدم منع الشهادتين من الضلال الذي ضلته الأمم: 15 - وفي " الصحيحين " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سُننَ مَنْ قبلكُمْ شبْرًا بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ؛ تَبِعْتُمُوهُمْ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فمن؟!». وفي رواية عن أبي هريرة: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: «وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ» (¬19). • ذم القراءة من غير عمل: 16 - وعن ابن مسعود؛ أنه قال: " أنزل عليهم القرآن ليعملوا به، فاتخذوا درسه عملًا، إن أحدهم ليتلو القرآن من فاتحته إلى خاتمته، ما يسقط منه حرفاً، وقد أسقط العمل به " (¬20). نقله الثعالبي في تفسيره " الجواهر الحسان " (1 - 9). ¬

_ (¬19) أخرجه البخاري في موضعين من " صحيحه ": الأول: في (كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، 6/ 495/ 3456). والموضع الأخر: في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، 13/ 300/ 7320)، ومسلم في (كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، 4/ 2054/ 2669)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وأمّا رواية أبي هريرة، فأخرجها البخاري في الموضع الثاني برقم (7319). (¬20) ..... ذكره الثعالبي في " الجواهر الحسان " (1/ 16) معلقاً بدون إسناد، فالله أعلم.

الحث على تعلم وتفهم الأصلين

• الحث على تعلم وتفهم الأصلين: 17 - وعنه من قوله أيضاً: «إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَإِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» (¬21) . أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، وبعض تلك الجمل مروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 18 - وفيه أيضاً عن ابن عون من صغار التابعين: " ثلاث أحبهن لنفسي ولإِخواني: هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها، والقرآن أن يتفهموه ويسألوا عنه، ويدَعوا الناس إلا من خير " (¬22). 19 - وعن إياس بن معاوية: " مثل الذين يقرؤون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلًا وليس عندهم مصباح، فتداخلتهم روعة، ولا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير؛ كمثل رجل جاءهم بمصباح، فقرؤوا ما في الكتاب ". نقله القرطبي في " تفسيره " (1/ 26). ¬

_ (¬21) أخرجه البخاري (13/ 249/ 7277) عن ابن مسعود موقوفاً، وبعض جمله ثبت مرفوعاً، فعن جابر بن عبد الله؛ قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوتُه، واشتد غضبهُ، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبّحكم ومسّاكم، ويقول: بُعثتُ أنا والساعة كهاتين "، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: " أمّا بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة "، ثم يقول: " أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، من ترك مالاً؛ فلأهله، ومن ترك دَيْناً أو ضياعاً؛ فإليَّ وعليّ ". أخرجه مسلم (2/ 592 / 867). (¬22) أخرجه البخاري (13/ 248) تعليقاً، ووصله محمد بن نصر المروزي في " كتاب السنة "، والجوزقي من طريقه، ووصله أبو القاسم اللالكائي في " كتاب السنة ". انظر: " فتح الباري " (13/ 252)، و " تغليق التعليق " (5/ 319 - 320) للحافظ.

مكايد المعارضين

هذا ما أردنا جلبه في هذا المقام، فمن استزادنا منه، قلنا الاستقصاء ممل معجز، ومن استكثر علينا هذه الإِطالة؛ فالداعي إليها صلابة المشاغبين الذين لم يلينوا في إنكارهم علينا الرجوع إلى الكتاب والسنة في الحكم على العقائد بالاستقامة والزيغ، وعلى الأعمال بالاستنان والابتداع، وكيف لا نرجع إليهما ولا نستمد هدايتنا منهما والسنة تفصيل وتكميل للكتاب، والله يقول: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170]. • مكايد المعارضين: لقد ثقل على من خفت موازينه من الطرقيين والقبوريين والمرابطين نصح المشفقين، وساءهم تحذير العلماء الناصحين، فكادوا لهم مع الحكومة كي يوقعوهم في قبضتها، فسامت الحكومة العلماء بالترغيب والترهيب، وعاملتهم بالشدة العملية واللين القولي، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا، وما استكانوا، ثم حاول أولئك المستاؤون صرف العامة عن علمائها، فلم ينقبضوا عن الإِرشاد، وأشد ما كانوا يثيرون عليهم الضجات عند تفسير الآيات. • ضجات للصد عن التفسير: وأول ما شهدت من ذلك ضجة مدرس دولي بجامع سيدي عقبة قرب بسكرة؛ فقد حضرت سنة أربع وأربعين درساً للأستاذ عبد الحميد بن باديس بذلك الجامع، ونحن سفر، في تفسير أوائل سورة الأعراف، فقام ذلك المدرس رافعاً صوته بعدم الفائدة في التفسير، طالباً درساً في " مختصر خليل "، ولكن لم يجن من مصادمته للحق إلا المقت من الحاضرين. ثم وقعت لي أمثالها من أصحاب زاوية الهامل، لما كنت آتي من الأغواط إلى أبي سعادة للوعظ ببعض مساجدها.

شبه المعارضين

وحكاياتهم في هذا الباب مع بقية الأصحاب أكثر من أن يستوفيها كتاب، وتلك عادة المعاندين لكلام رب العالمين، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. • شبه المعارضين: ولقد فكروا وقدروا، وعن ساعد الجد للتضليل شمروا، وجاؤوا ظلماً وزوراً، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، فقالوا فيما قالوا: إن كلام الله أجل من أن يفسر، وإن الواجب الاقتصار على المألوف من المؤلفات، وإن الرجوع إلى الكتاب والسنة دعوى للاجتهاد وغض من مقام الأئمة، حتى قال قائلهم: " الرجوع إلى الكتاب والسنة ضلال وهلاك وخسارة أبدية وشقاوة سرمدية " من فصل نشره في صحيفة " النجاح القسنطينية "، بعدد (272)، صادر في رجب سنة أربع وأربعين. • الصد عن التفسير ومآله: 1 - أما منعهم من تفسير القرآن؛ فيستدلون له بما يروون عمن لا يعرفون من أن صوابه خطأ وخطأه كفر، ويؤكدون ذلك بحكايات في امتناع مشاهير الشيوخ من الإِقدام على التفسير؛ مثل كذبهم على الشيخ عبد الرحمن الثعالبي دفين الجزائر أنه كان إذا ألح عليه تلاميذه في ذلك؛ قال لهم: لنخرج إلى الشاطئ حتى لا ينقض علينا جدار ولا يخر علينا سقف. يحكون عنه هذه الحكاية، وهو مفسر مشهور، ويعظمون كلام الله هذا التعظيم، ولا يعظمون حدوده وأحكامه، فتجدهم يشهدون الزور، ويَغْشَوْن مجالس الخمور والفجور، ولا يخشَوْن انقضاض الجدران ولا خرور السقوف، وكل هذا نبذ لكتاب الله، وتعطيل لأحكامه، واتباع لسنن اليهود الذين حكى الله عنهم ذلك بقوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ

النهي عن التفسير ومحمله

كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101]. نقل القرطبي في " تفسيره " عن السدي؛ أنه قال: " نبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت ". ونقل عن سفيان بن عيينة؛ أنه قال: " أدرجوه في الحرير والديباج، وحلوه بالذهب والفضة، ولم يحلوا حلاله، ولم يحرموا حرامه؛ فذلك النبذ " (2/ 41). • النهي عن التفسير ومحمله: وقد ورد النهي عن التفسير؛ فأخرج ابن جرير وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " من قال في القرآن برأيه (أو: بما لا يعلم)؛ فليتبوأ مقعده من النار " (¬23). وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن جندب رضي الله عنه؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من قال في القرآن برأيه، فأصاب؛ فقد أخطأ " (¬24)، وجعله ¬

_ (¬23) ضعيف: أخرجه أحمد (3/ 341/ 2069)، والترمذي (8/ 277 - 278/ 4022 و4023) وغيرهما عن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس مرفوعاً. وقال الترمذي عقب إيراده بلفظ: " ... بغير علم ... " في الموضع الأول: " هذا حديث حسن صحيح! "، وقال في الموضع الآخر بلفظ: " ... برأيه .. ": " هذا حديث حسن "! قلتُ: كذا قال! وعبد الأعلى الثعلبي " ضعفه أحمد وأبو زرعة " كما في " ضعفاء الذهبي وميزانه "؛ فإلإِسناد ضعيف. انظر: " فيض القدير " (6/ 190)، و " تعليق أحمد شاكر على المسند "، و " الضعيفة " (1783)، و " ضعيف الجامع " (114 و5749) وغيرها. (¬24) ضعيف: أخرجه أبو داود (2/ 125)، والترمذي (8/ 279/ 4024) وغيرهما من طريق سهيل بن =

الترمذي غريباً، وطعن غيره في بعض رواته، وزاد رزين: " ومن قال برأيه، فأخطأ؛ فقد كفر ". وقد حمل العلماء هذا النهي على التفسير بالرأي والهوى، وصوره القرطبي في " تفسيره " بصورتين: " إحداهما: أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه، فيصرف القرآن إليه؛ تصحيحاً لغرضه. وثانيتهما: أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بالغرائب، ولا جري على مقتضى قوانين العلم " (1/ 33). وعلل ابن كثير تخطئة من أصاب في التفسير برأيه، فقال: " لأنه تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر، لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس عن جهل، فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرماً ممن أخطأ، والله أعلم " (1/ 12). ¬

_ = عبد الله- وهو ابن أبي حزم أخو حزم القُطعي-، حدثنا أبو عمران الجوني، عن جُندب بن عبد الله مرفوعاً، وقال الترمذي: " هذا حديث غريب، وقد تكلَّم بعض أهل الحديث في سُهيل بن أبي حزم ". قلتُ: قال فيه أبو حاتم: " ليس بالقوي "، وكذا قال البخاري والنسائي، كما في " الميزان " (12/ 244)، وقال الحافظ في " التقريب " (1/ 338): " ضعيف ". وانظر: " مختصر سنن أبي داود " (5/ 249) للمنذري، و " ضعيف [الجامع الصغير " (5748)، و " سنن أبي داود " (789)، و " سنن الترمذي " (571)]. وأمّا زيادة رزين: " ومن قال برأيه فاخطأ؛ فقد كفر "؛ فلا أخالها ثابتة! قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمته من " سير أعلام النبلاء " (25/ 205): " أدخل كتابه زيادات واهية لو تنزّه عنها لأجاد ". وانظر: " السيل الجرار " (1/ 77 - 78)، و " الفوائد المجموعة " (ص 49 - 50) للشوكاني، و " الضعيفة " (1/ 373) للألباني.

الغرض من الدعوة إلى تآليف القدماء

• الغرض من الدعوة إلى تآليف القدماء: 2 - وأما دعؤلهم إلى الاقتصار على المألوف من المؤلفات، فيلبسونها لباس التعظيم للعلماء المتقدمين، والاحتياط على العوام في الدين، وما هي إلا صد عن هداية القرآن، وفرار من كشفه لمساوئهم، ما عرفوا الكتب التي يدعون إليها، ولا عرفوا بالغيرة على الدين حتى يحتاطوا للعامة، وما هم في ذلك إلا مرددون لصدى فرعون حيث قال: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]، وما أشبه الليلة بالبارحة!! • اختصاص القرآن بالإِرشاد المؤثر: قال محمد عبده (*) فيما لخص عنه في حياته من التفسير المعروف بـ " تفسير المنار ": " وإن في القرآن من التهذيب، ودعوة الأرواح إلى ما فيه سعادتها، ورفعها من حضيض الجهالة إلى أوج المعرفة، وإرشادها إلى طريقة الحياة الاجتماعية: ما لا يستغني عنه من يؤمن بالله واليوم الآخر، وما هو أجدر بالدخول في الفقه الحقيقي، ولا يوجد هذا الإِرشاد إلا في القرآن، وفيما أخذ منه؛ كـ " إحياء علوم الدين " (**) حظ عظيم من علم التهذيب، ولكن سلطان ¬

_ (*) ومحمد عبده ماسوني كان يحضر محافلهم في باريس ولبنان ومن مقدميهم، وهو تلميذ الأفغاني الباطني، ورسائله له بها ما لا يليق إلا لله- عز وجل-، فقد حوت من الكفر ألواناً. وكان الرجل ينكر المهدي والدجال ويأجوج ومأجوج، بل له كلام كـ " الصريح في إنكار الجن والملائكة "، وكان صديقاً لكرومر في مصر وأوفى أصدقائهم، وهو أول من أباح الفوائد الربوية، وكان أشعري العقيدة، وهو رائد المدرسة العقلية المعاصرة، وقد تأثر به رشيد رضا فترة ثم استقام على السنة في أكثر أحواله. انظر: " المدرسة العقلية في التفسير " لفهد الرومي. (**) " إحياء علوم الدين "؛ من أحسن ما كتب الغزالي؛ غير أن فيه أشياء كثيرة تخالف ما جاء عن رسول الله. كما فيه حكايات عن بعض أهل التصوف [المازري] لا تنسجم مع التعاليم =

خطأ مستصعبي التفسير

القرآن على نفوس الذين يفهمونه وتأثيره في قلوب الذين يتلونه حق تلاوته لا يساميه فيه كلام، كما أن الكثير من حكمه ومعارفه لم يكشف عنها اللثام، ولم يفصح عنها عالم ولا إمام " (1/ 20). • خطأ مستصعبي التفسير: وإنا لنشهد الله- وليس وراء الله للمرء مذهب- أنا قد جربنا فوقفنا على صحة حكم هذا الإِمام وصدق وصفه، ولعل هنالك من يستصعب هذه الطريق، بأن طباعنا العربية قد حالت، وسلائقنا في ذوق الكلام العربي قد فسدت؛ فأنى لنا بفهم كلام ربنا؟! فنقول له: إن من عانى غموض المتون وتعقيد المختصرات يستسهل القرآن الذي يسره الله للذكر، ويجد في تعلم اللغة وعلومها ما يرد عليه سليقة سلفه، أو يكسبه إياها إن لم يكن عربي الأصل، ونقص السليقة المكتسبة يجبره ما كتبه أئمة التفسير. • التشنيع بتهمة دعوى الاجتهاد: 3 - وأما نسبتهم دعاة الرجوع إلى الكتاب والسنة إلى دعوى الاجتهاد والغض من مكانة المجتهدين المتبوعين؛ فلم يستندوا فيها إلى شيء، ولكنه بهتان مضلل، وتعيير يصدق عليه قول الأول: وَعَيَّرَهَا الْوَاشُونَ أَنِّي أُحِبُّهَا … وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا • معنى الاجتهاد: وإن كان لهم مستند، فهو الجهل بمعنى الاجتهاد والتمسك بإيهام ¬

_ = الإسلامية، وقد اعترض عليه كثير من العلماء، حتى إن كثيراً من علماء المغرب يسمونه إماتة علوم الدين، فيجب على من يقرؤه أن يكون على حذر. [ناشر ط3].

إيهام العكس

العكس. أما الاجتهاد؛ فقد عرفه الأصوليون بأنه: " بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني "، وأخرجوا عنه ما فيه أدلة قطعية أو اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع؛ كوجوب الصلوات الخمس، والزكوات، وكحرمة الزنى والخمر. وواضح من هذا أن وزن الاعتقادات والأخلاق بميزان الكتاب والسنة والاتعاظ بمواعظهما أبعد شيء عن موضوع الاجتهاد. • إيهام العكس: وأما إيهام العكس؛ فيطلقه المناطقة على عكس الموجبة الكلية كنفسها، وهو خطأ، وذلك أن قولك: كل إنسان حيوان: صادق، فيتوهم متوهم صدق عكسه، ويقول؛ كل حيوان إنسان، وهؤلاء رأوا كل مجتهد ناظراً في الكتاب والسنة، فتوهموا أن كل ناظر في الكتاب والسنة مجتهد، والأصل صواب، والعكس خطأ، فإن هنالك مفسرين وشراح حديث لم يدَّعوا الاجتهاد، ولا نسبوا إليه (*)؛ من أشهرهم بمغربنا عبد الرحمن الثعالبي صاحب " الجواهر الحسان في تفسير القرآن "، والشيخ السنوسي شارح " مسلم ". • القولة الخاسرة: وتلك القولة المنقولة عن النجاح قولة خاسرة، ولولا ترداد ألسنة المعارضين لها مستحسنين، وتناقل طوائفهم لها مستشهدين، ثم حياة قائلها بعد ¬

_ (*) وللمُفسِّر للقرآن شروط معروفة عند العلماء في كتب " علوم القرآن " و " أصول التفسير "، وليس هذا لكُلّ أحد، أما فهم القرآن وتدبره والنظر فيه، فهو أمر ندبه الشارع وحثَّ عليه حثاً عاماً لا تخصيص فيه، فإن جلس يُفسِّر للناس أو يُصنِّف فبشرطه كما أسلفنا.

منزلة السلف الصالح

نشرها سنوات أصر فيها عليها، لولا ذلك؛ لعددناها من سقطات الأقلام، وهفوات الأحلام، فلم نثبتها في قرطاس، ولا ذكرنا بها من نسيها من الناس، وإن قصد قائلها معنى يحميه من التكفير، لم يسلم من وزر شناعة هذا التعبير. • منزلة السلف الصالح: نحن لا ندعي الاجتهاد، ولا نتنقص أئمة الدين المهتدين، بل نحترمهم، ونعترف لهم بالفضيلة؛ لكونهم سبقونا بالإِيمان، ومهدوا لنا طريق الاتباع بسنهم لنا صناعة التأليف وأصول التعليم. وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]. وروى مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً؛ فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِل بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِل بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» (¬25). ¬

_ (¬25) أخرجه مسلم في " صحيحه " (2/ 704 - 705/ 1017) عن جرير بن عبد الله المجلي رضي الله عنه؛ قال: كُنّا عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صدر النهار، قال: فجاءه قومٌ حفاةٌ عراةٌ مجتابي النِّمار أو العَباء، متقلدي السيوف، عامّتُهم من مُضَر، بل كلُّهم من مُضر، فتمعَّر وجه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا فأذّن وأقام، فصلَّى ثم خطب؛ فقال: «{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1]- إلى آخر الآية- {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]، تصدق رجل مِنْ ديناره، مِنْ دِرهمه، من ثوبه، من صاع بُرّه، من صاع تمره (حتى قال)، ولو بِشِقّ تمرة». قال: فجاء رجل من الأنصار بِصُرَّةٍ كادت كفُّه تعجز عنها، بل قد =

شمول الدعوة إلى الكتاب والسنة للدعوة إلى سائر الكتب والعلوم

• شمول الدعوة إلى الكتاب والسنة للدعوة إلى سائر الكتب والعلوم: ومن اعتقد في إحياء الكتاب والسنة والأنس بهما موتاً لتصانيف المتقدمين وهجراناً لها؛ فقد اعتقد أنها منافية لهما، وأن بينها وبينهما ما بين الضرتين (رضى هذي يحرك سخط هذي)، ثم آثرها- وهي الفرع- عليهما- وهما الأصل-، وتلك غباوة مغبتها شقاوة. ونحن لا نرى منافاة بين تفهم الكتاب والسنة ودراسة مؤلفات العلماء، وليست الدعوة إليهما تزهيداً في تراثنا من أسلافنا، بل هي حث على الانتفاع بذلك التراث القيم، لأن الناظر فيهما يحتاج إلى النظر فيما كتب عليهما وما استنبط منهما وما هو وسيلة إليهما، وقد يتعرف بذلك إلى علوم كونية مجملة فيهما، هذا إلى تحصيل ملكة البيان من أسلوبهما، وإحياء طريقتهما في الهداية، فتكون الدعوة إليهما دعوة إلى الأصل والفرع معاً، أما الدعوة إلى كتب الفقه مثلًا خاصةً كما يريد المعارضون؛ فهي دعوة إلى الفرع وإهمال للأصل، والنهم الذي لا يشبع من طلب العلم لا يتسع لنهمه غير الكتاب والسنة، والقهم غير الشهوان لا يجمل به أن يقيد قدرة غيره بعجزه، ولا يزينه أن يتخذ من ضعفه مقياساً لقوة القوي، والمكابر يتمثل له بقول الشاعر: قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ … وَيُنْكِرُ الْفَمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ وكيف يكون النظر في الكتاب والسنة اجتهاداً، وجل المفسرين والمحدثين مشهورون بالانتماء إلى مذاهب الأئمة الأقدمين؟! وإذا سلموا من النبز بهذه الدعوة، فكيف يرمى بها من قصاراه فهم كلامهم وتفهيمه للناس؟! ¬

_ = عَجَزَتْ. قال: ثم تتابع الناسُ، حتى رأيتُ كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتهلّل، كأنه مُذْهَبَةٌ؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَنَّ ... » الحديث.

تساند الطرقيين والمعمرين في الحملة على المصلحين

• تساند الطرقيين والمعمرين في الحملة على المصلحين: وأرى المشاغبة بنسبة الاجتهاد إلى من يدعو إلى الكتاب والسنة أشبه بالمشاغبة بنسبة طلب الاستقلال إلى أمة محتلة تطالب [حكومتها] بالعدل في التشريع والإِجراء، وإن مشاغبات من هذا النعت يكشفها المنطق، ولكن تواريها قوة الجهل أو كثرة الجيش، ثم المشاغبون في الدين هم الطرقيون والقبوريون والمرابطون، والمشاغبون في الدنيا هم غلاة المعمرين ومن ألف الاستبداد من الموظفين، والفريقان مجتمعان في نقطة المحافظة على جهل الأمة وتأخرها، لاستغلال جمودها والاستئثار بجهودها، وتلك طبيعة المستكبرين مع المستضعفين؛ يصدونهم عن النور ليستبقوهم تحت النير: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31]. • • • • •

تنزيل الآيات النازلة في قوم على من أشبه حالتهم اليوم

4 - تنزيل الآيات النازلة في قوم على من أشبه حالتهم اليوم • تخصيص الآيات بمن نزلت فيهم: رأى الطرقيون ومن لف لفهم أن القرآن فاضحهم وكاشف عوارهم، فتعللوا للتسلل منه بعلل شتى، وما هي بنافعتهم بعدما عمت لفظة " فاقوا "، وكان من تعللهم تقولهم: إن ما جاء في قوم من المشركين وأهل الكتاب، فهو خاص بهم، لا يتناول المسلمين، وإن جاؤوا بما هو أشنع وأضل. • مقصود البعثة وحكمة التكليف: وهذا جهل بمقصود البعثة وحكمة التكليف وتصرف الأئمة في تفقههم؛ فإن الغرض من بعثة كل نبي هو توحيد الخلق على توحيد الخالق وإقامة دينه، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. وحكمة التكليف هو تكميل الإِنسان باتباعه شريعة الملك الديان، وليس الأمر كما يظنه بعض الجهال من أن التكليف كجزية تضرب على العبيد من الملك، ويعفى منها من توسل إليه بمنزلة وجاه، فتراهم يفخرون بكونهم من خير أمة أخرجت للناس، أويعتزون بالاعتزاء إلى مشهور بالفضل والصلاح، من غير أن يأتمروا بينهم بمعروف، أو يتناهوا عن منكر، وقد قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ

تعميم الآيات على غير من نزلت فيهم

أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وقد تصرف الأئمة في الآيات النازلة في الأمم الماضية واستنبطوا منها أحكاماً لهذه الأمة. • تعميم الآيات على غير من نزلت فيهم: إن تنزيل الآيات النازلة فيمن قبلنا على أهل ديننا هو تطبيق للنص على الحادثة، ونصيحة للمؤمنين أن لا يغتروا بالنعوت اللفظية، ويدعوا الصفات النفسانية التي هي أصل تلك النعوت؛ فلا يفيد المرء أن ينعت بالمسلم وصفاته النفسانية صفات مشرك ضال أو كتابي معاند. وقد وضع العلماء قاعدتين في هذا الباب: إحداهما: قولهم: " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ". والثانية: هي " شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ ". وقد شرع الله لمن قبلنا عقائد وأعمالًا أنكر عليهم مخالفتها، ولم يرد ناسخ يعفينا من ذلك الإِنكار عند وقوع المخالفة منا، وكثيراً ما نجد في عبارات المفسرين أن الآية نزلت في بني إسرائيل مثلًا، وأنها متناولة من كان على مثل حالهم من هذه الأمة، مثل آية الكاتمين للعلم ولعنهم، ومثل آية: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 44]. ويشهد للتعميم آيات وأحاديث وآثار نذكر بعضها فيما يلي: • أدلة التعميم: 1 - قال تعالى في وصف كتابه: {هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة: 185]؛ فإن كان الذين نريد هدايتهم بالقرآن من الناس، فلم نزد على أن أوصلناهم لحقهم

من كتاب ربهم. 2 - وقال على لسان نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]؛ فعطف على ضمير المخاطبين من المشركين من بلغه القرآن في زمنهم وبعد عصرهم. 3 - وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51]، والذين يخافون الحشر هم المؤمنون ومن هم مظنة الإِيمان ممن لم يطبع الله على قلوبهم؛ فلم تخص الآية المشركين بالإِنذار. 4 - وقال بعد حكاية حادثة قوم لوط: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83]؛ فسر البغوي الظالمين هنا بمشركي مكة أو ظالمي هذه الأمة، والجمع بين الوجهين غير ممتنع، وعلى كل حال دلت الآية على إلحاق المتأخر بالمتقدم في استحقاق عقوبته متى كان على مثل حالته. وفسر ابن كثير الآية على التعميم، فجعلها بمعنى حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» (¬26). أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي، وحكي عن أبي حنيفة أنه يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط. فالآية دلت على أن ما أصاب قوم لوط غير خاص بهم، والحديث دل على تنفيذ حكمها فيمن أشبههم، وقول أبي حنيفة دل على مراعاة صفة التنفيذ. ¬

_ (¬26) صحيح: خرّجه- متتبعاً طرقه وشواهده، مبيّناً من صححه من الأئمة الحفاظ- الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في رسالته " بلوغ المأمول في خدمة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "، المطبوعة ضمن كتابه " الحاوي للفتاوي " (3/ 110 - 115)؛ فلتنظر بتعليقاتنا، والله الموفق.

5 - وأخرج أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ، فَيَقُولُ: يَا هَذَا! اتَّقِ اللَّهَ، وَدَعْ مَا تَصْنَعُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ. ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ؛ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ؛ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ». ثُمَّ قَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ... } إلى قوله: {فَاسِقُونَ} [المائدة: 78 - 81]. ثُمَّ قَالَ: «كَلَّا؛ وَاللَّهِ؛ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» (¬27). وهذا الحديث صريح في تنزيل ما نزل في اليهود على المسلمين. ¬

_ (¬27) ضعيف: أخرجه أبو داود (2/ 216)، والترمذي (8/ 412 - 414/ 5038 و 5039 و 5040) بنحوه، وكذا ابن ماجه (4006)، وأحمد (5/ 268/ 4713)، والطبراني (10/ 179 - 181/ 10364 - 10268)، وابن وضاح في " البدع والنهي عنها " (ص 89 و 90) وغيرهم من طرق عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً. وهذا سند ضعيف؛ فـ " إنَّ أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه؛ فهو منقطع "، كما قال الحافظ المنذري في " مختصر السنن " (6/ 187). وانظر: " تعليق العلّامة أحمد شاكر على " المسند "، و " الضعيفة " (1105)، و " ضعيف [الجامع الصغير " (1822)، و " سنن أبي داود " (932)، و " سنن الترمذي " (582 و 583)، و " سنن ابن ماجه " (867)]: خمستها لمحدّث العصر.

6 - وروى الشيخان عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرض موته: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، يحذر ما صنعوا (¬28). فقد فهما أن اللعنة غير خاصة بأهل الكتابين، وأن المقصود تحذير المسلمين من فعلهم، حتى لا تشملهم لعنتهم، ومنزلتهما في العلم والدين منزلتهما. وتقدم (*) حديث أبي سعيد الخدري في سلوكنا سبيل من قبلنا في المخالفة؛ فكان الواجب أن نعتني بما نزل في غيرنا لنحفظ أنفسنا من مشابهتهم في العقائد الزائفة، والأقوال المنكرة، والأفعال الخاطئة. 7 - وفي " سيرة الحسن البصري " لأبي الفرج ابن الجوزي: أن الحسن قال: " رحم الله رجلًا خلا بكتاب الله، وعرض عليه نفسه، فإن وافقه، حمد ربه وسأله المزيد من فضله، وإن خالفه؛ تاب وأناب ورجع من قريب " [ص:45] 8 - وقال أبو عبد الله الأبلي التلمساني المتوفى منتصف القرن الثامن: " لولا انقطاع الوحي؛ لنزل فينا أكثر مما نزل في بني إسرائيل " لأننا أتينا أكثر مما أتوا ". نقله ابن مريم في " البستان " (218). 9 - وقال الحافظ ابن حجر المتوفى منتصف القرن التاسع في " فتح الباري " بعدما أشار إلى كثرة ما أنذر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمته: " وقد وقع معظم ما أنذر به، وسيقع بقية ذلك " (13/ 256). ¬

_ (¬28) أخرجه البخاري (1/ 532/ 435 و436)، ومسلم (1/ 377/ 531). (*) مضى مخرجاً برقم (19).

تفضيل علم الكتاب والسنة

فهذه دلائل وشواهد تريك صواب العلماء المجددين في تحذيرهم لإِخوانهم المسلمين، وتكشف لك عن غرض المبطلين وخطأ المعارضين. ثم إنك تجد الإِسلام خاتمة الأديان، ونبيه خاتم النبيين، وكتابه خاتم الكتب، وهذه الأمة خاتمة الأمم، وهي من جنس تلك الأمم الماضية؛ تقسو قلوبها كما قست قلوبهم، وتفسد عقائدها كما فسدت عقائدهم، وتعصي كما عصوا، وتبتدع كما ابتدعوا؛ فهل من حكمة أحكم الحاكمين ورحمة رب العالمين أن يقصر ما عاب به من قبلنا عليهم، ويدعنا سدى من غير دليلٍ يعرفنا فسادنا وقبيح أعمالنا إذا نزل بنا ما نزل بالأمم قبلنا؟! لقد أحاط ربك بكل شيء علماً، ووضع لكل حال حكماً، والقرآن الذي فضح من قبلنا هو الذي يفضحنا، والقرآن الذي هدى من تقدمنا هو الذي يهدينا. ها قد نقضنا في هذا الفصل وسابقه طائفة من شبه الطرقيين ومن في معناهم، وهي شبه ظاهرها حماية الدين، وباطنها استخدام الدين لحماية منافعهم الخاصة، وإن الدين ليبرأ من تلك الحماية الظاهرة، وإن عقبى ذلك الاستخدام عليهم لوخيمة. ولفتنة الناس بظواهر تلك الأقوال أطلنا في هذين الفصلين القول في نقضها، وسبق أن كتبنا في ردها بما عطل من صحف جمعية العلماء فصولاً، تحت عنوان: " آثار وأخبار ": أن حماية الدين لا تكون إلا بالعلم، وأن أصل علم الدين الكتاب والسنة، ولقد أجاد من قال: • تفضيل علم الكتاب والسنة: إِنَّ الْعُلُومَ وَإِنْ جَلَّتْ مَحَاسِنُهَا … فَتَاجُهَا مَا بِهِ الْإِيمَانُ قَدْ وَجَبَا هُوَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ اللهُ يَحْفَظُهُ … وَبَعْدَ ذَلِكَ عِلْمٌ فَرَّجَ الْكُرَبَا

فَذَاكَ فَاعْلَمْ حَدِيثُ الْمُصْطَفَى فَبِهِ … نُورُ النُّبُوَّةِ سَنَّ الشَّرْعَ وَالْأَدَبَا وَبَعْدَ هَذَا عُلُومٌ لَا انْتِهَاءَ لَهَا … فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ يَا مَنْ آثَرَ الطَّلَبَا وَالْعِلْمُ كَنْزٌ تَجِدْهُ فِي مَعَادِنِهِ … يَا أَيُّهَا الطَّالِبُ ابْحَثْ وَانْظُرِ الْكُتُبَا وَاتْلُ بِفَهْمٍ كِتَابَ اللَّهِ فِيهِ أَتَتْ … كُلُّ الْعُلُومِ تُدَبِّرُهُ تَرَ الْعَجَبَا وَاقْرَأْ هُدِيْتَ حَدِيِثَ الْمُصْطَفَى وَسَلْ … مَوْلَاكُ مَا تَشْتَهِي يَقْضِي لَكَ الْأَرَبَا مَنْ ذَاقَ طَعْمًا لِعِلْمِ الدِّينِ سُرَّ بِهِ … إِذَا تَزَيَّدَ مِنْهُ قَالَ وَا طَرَبَا (*) ¬

_ (*) هذه الأبيات نقلتها من " تفسير القرطبي " (1/ 41)، فأوردتها كما هي، والظاهر أن قوله آخرها: " قال وا طربا " محرف عن " مال ".

ذرائع الشرك وطبائعه

5 - ذرائع الشرك وطبائعه • وجه إطالة المقدمات: علمنا من الفصول السابقة شدة حاجة المسلم إلى معرفة الشرك ومظاهره، وضعف عناية المؤلفين في تخصيص هذا الموضوع بالتأليف وجمع مسائله في سفر، وأدركنا حسن غرض المصلحين من إثارة الحديث فيه، ووقفنا على وجه دعوتهم إلى الكتاب والسنة، وحجتهم في وعظ المسلمين بما نزل في أهل الكتاب والمشركين، وتلك نواح تضطر النصوح الواقف على حالة أهل عصره النفسانية إلى تقديم القول فيها على المقصود بالذات، ولو أفضى إلى إطالة المقدمات، والخروج بها عن معتاد أمثالها، بالإِضافة إلى فصول الموضوع، فإن الغرض من تلك المقدمات تهيئة الأفكار إلى قبول ما نعرضه عليها من حقائق الدين بنبذ ما يفرض عليها من بوائق المعتدين، ولا تثبت تحلية إلا عن سبق تخلية. والآن نبتدئ حديثنا عن الشرك ببيان أسبابه وذرائعه وآثاره وطبائعه. • ذم الشرك: الشرك أمّ (*) المساوئ وكلية الرذائل ومعمل الموبقات؛ فهو معصية لا تجدي معها طاعة، ومنقصة لا يجزي عنها كمال، وضعة لا يقوم منها عز، وسفه ¬

_ (*) كذا في الطبعة الأولى، وفي " البصائر ": " أبو "!

آثار الشرك في المجتمع

لا ترشد به نفس، ولولا الجهل، ما نجم له قرن، ولولا الوهم؛ ماحيي له عود، ولولا العادة؛ ما امتد له عرق؛ فهو شجرة خبيثة، ثراها الجهالة، وسقياها الخيال، وعرقاتها الاعتياد، وجناها نار حفت بالشهوات، وعار ستر بالترهات؛ فلا كان الجهل القبيح، ولا كانت العادة الضارة، ولا كان الوهم الضال، ولا كان الشرك ومساوئه. • آثار الشرك في المجتمع: إن كنت باحثاً في علل انحطاط الأمم، فلن تجد كالشرك أدل على ظلمة القلوب وسفه الأحلام وفساد الأخلاق، ولن تجد كهذه النقائص أضر بالاتحاد وأدر للفوضى وأذل للشعوب، وإن كنت باحثاً عن أسباب الرقي؛ فلن تجد كالتوحيد أطهر للقلوب وأرشد للعقول وأقوم للأخلاق، ولن تجد كهذه الأسس أحفظ للحياة وأضمن للسيادة وأقوى على حمل منار المدنية الطاهرة، وإن نظرة في حياة العرب قبل البعثة؛ لتؤيد ما أضفناه إلى الشرك من علل ونتائج، وإن وقفة على حياتهم بعد البعثة؛ لتبعث على التصديق بما أنطناه بالتوحيد من أسباب وثمرات، وإن تلك النظرة وهاته الوقفة لمفتاحان لسر حياة المسلمين بعد عصر النبوة، وكل من قارن بين حياتنا اليوم وحياة جيراننا من غير ملتنا؛ استيقن أن وسائل الشرك قد وجدت في المسلمين منذ أمد، وأن نتائجه قد ظهرت عليهم، فلا تخفى على أحد. • الاهتمام بحياة الإِسلام: إن من انتسب إلى الإِسلام وافتخر بالعربية، ثم رضي بالحالة الحاضرة، ودافع عنها؛ نرى بنوته للإِسلام ولغته ليست لرشده وإنما هي لغيه، والابن الشرعي للإِسلام والعروبة هو من يجعل همه إعادة جدة الدين، واستعادة مجد السلف الأقدمين، وابن الإِنسانية البار بها هو الذي- إن لم يؤازر على تحقيق

الجمع بين التوحيد والوثنية في النفس الجاهلة

ذلك الهم- لا يمنع العاملين لتمثيله، ولا يحول بينهم وبين طرق تحصيله؛ فلن تجد كالدين الخالص مصنعاً للعقول التي تسع الإِنسانية عدلًا، وللقلوب التي تسع الشعوب إخاءً، وللألسنة التي تسع الحياة صدقاً. • الجمع بين التوحيد والوثنية في النفس الجاهلة: هذه آيات التنزيل، ليس لتكررها في موضوع الشرك مثيل، وهذه أحاديث الرسول، تحذر من كل ما هو منه بسبيل، ألا تدل تلك العناية على أن جناية الشرك أفظع جناية، وأن وقاية المجتمع منه أمتع وقاية؟ ليس العجب- لو كنا نسمع أو نعقل- من حديث العلماء في الشرك وبيانهم له، إنما العجب من سكوتهم عنه حتى يتسرب إلى نفوس الموحدين، ويجري على ألسنتهم؛ ممتزجاً بما يتلى في شأنه من القرآن، فتجتمع في ذات واحدة دواعي الضعف والقوة، وتظهر على نفس واحدة أعراض التفرق والوحدة، ويجري من لسان واحد أجاج الجهل وعذب الحكمة، ثم تجد الناحية الفاسدة من يتعاهدها بالفساد حتى تطغى، وتفقد الجهة الصالحة من يغذيها فتفنى. ولنورد بعض ما جاء في سوء أثر الشرك في الفرد والمجتمع، مقابلًا بحسن أثر التوحيد فيهما، زيادة في تصور ضرر الشرك. • وصف الكتاب للشرك: 1 - قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151]؛ فأفادت الآية أن المشرك في الدنيا ذليل رعديد، وجزاؤه في الأخرى الخزي والعذاب الشديد. 2 - وقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا

معنى الظلم وأنواعه

مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]؛ فجمعت هاته الآية للمشرك الخوف والفقر. • معنى الظلم وأنواعه: 3 - وقال: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وأنواعه ثلاثة: ظلم في حق الله، وظلم للناس، وظلم للنفس. والشرك اجتمعت فيه الأنواع الثلاثة: فالظلم في حق الله بعدم توحيده، والظلم للمعبود مع الله بإيذائه إن كان صالحاً، وتغليطه في نفسه إن كان جاهلاً، والظلم للنفس بإذلالها وتعبيدها لمن هو مثلها في الافتقار والاحتياج. • وعد الله للموحدين: 4 - 5 - وقال مخبراً عن الموحدين: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. • وصف السنة للشرك: 6 - ومن حديث أخرجه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنه قال: يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؛ قال: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ

خَلَقَكَ» (¬29). 7 - وعن أبي هريرة عند مسلم؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقول الله: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» (¬30). 8 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما عند: ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في " الأدب المفرد "، والنسائي، وابن ماجه، وأبي نعيم في " الحلية "، والبيهقي في " الأسماء والصفات "؛ أن رجلًا قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ. فَقَالَ: «أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟! قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» (¬31). 9 - وعن حذيفة بن اليمان عند: ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، وصححه النووي في " رياض الصالحين "، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ» (¬32). ¬

_ (¬29) أخرجه البخاري (13/ 491/ 7520)، ومسلم (1/ 90/ 86) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬30) أخرجه مسلم (4/ 2289/ 2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬31) صحيح: أخرجه أحمد (1839 و1964 و2561 و3247)، والنسائي في " سننه الكبرى " بإسناد حسن كما قال الحافظ العراقي في " تخريج الإِحياء " (3/ 162)، وابن ماجه (2117) بنحوه وغيرهم. وله شواهد؛ منها: حديث حذيفة عند أبي داود وغيره، وهو المخرج بعده برقم (32)، وحديث قُتيلة امرأة من جُهينة عند النسائي وصححه، وسيأتي تخريجه برقم (222) إن شاء الله تعالى. وانظر: " الصحيحة " (139)، و " صحيح سنن ابن ماجه " (1720). (¬32) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 384 و394 و398)، وأبو داود (2/ 311)، والنسائي في " الكبرى " =

صور من الشرك

10 - ومن حديث طويل عند أحمد: «فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، فَقُعِدَ عَلَى الشُّرَفِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ: أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِوَرِقٍ أَوْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي غَلَّتَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ؛ فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟! وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ؛ فَاعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» (¬33). أورده بطوله ابن كثير في " تفسيره " (1/ 106). • صور من الشرك: 11 - وأورد فيه عن [ابن] أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس؛ أنه قال في قول ¬

_ = وفي " عمل اليوم والليلة " (985)، وابن ماجه (2118) بنحوه، وغيرهم من حديث حديفة رضي الله عنه. وصححه النووي في " رياض الصالحين " (1745) - كما قال المؤلف-، والحافظ العراقي في " تخريج الإحياء " (3/ 161)، والألباني في " الصحيحة " (137)، و " صحيح [الجامع الصغير " (7283)، و " سنن أبي داود " (4166)، و " سنن ابن ماجه " (1731)]. (¬33) صحيح: أخرجه أحمد (4/ 130 و202)، والترمذي (8/ 160 - 163/ 3033)، وابن خزيمة (2/ 64 - 65/ 930 و3/ 195 - 196/ 1895)، وابن حبان (14/ 124 - 126/ 6233)، والحاكم (1/ 117 - 118 و236) وغيرهم، من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح غريب ". وقال الحاكم في الموضع الأول: " هذا حديث صحيح ". وقال في الآخر: " والحديث على شرط الأئمة صحيح محفوظ "، وأقره الذهبي. وقال الحافظ ابن كثير في " تفسيره " (1/ 102): " هذا حديث حسن ". وانظر: " صحيح [الجامع الصغير " (1720)، و " سنن الترمذي " (2298)، و " الترغيب "] (553) للألباني.

اتهام النفس

الله عز وجل: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]: " الأنداد: هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا، لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار؛ لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلان، هذا كله به شرك " (¬34). وما أطلق عليه الشرك في هذه الأخبار: بعضه شرك صريح، وبعضه ذريعة إليه فنهى عنه حياطة للتوحيد وصيانة له. والأخبار في هذا المعنى كثيرة، ومن يرد الله به خيراً، يهتد ببعض ما ذكرنا، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]، {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]. • اِتهام النفس: وأساس الخير اتهام النفس وعدم الرضى عنها، وقد قال الله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. ¬

_ (¬34) قويٌّ إن شاء الله: أورده ابن كثير في " تفسيره " (1/ 101) عن ابن أبي حاتم؛ قال: حدثنا أحمد بن عمرو ابن أبي عاصم، حدثنا أبي عمرو، حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم، ثنا شبيب بن بشر، حدثنا عكرمة، عن أبن عباس به. وهذا سند رجاله ثقات غير شبيب؛ فقد وثقه ابن معين، وليَّنه أبو حاتم كما في " الميزان " وغيره، وفي " التقريب ": " صدوق يخطئ "، وشيخ أبن أبي حاتم أحمد؛ " صدوق " كما في " الجرح والتعديل " (2/ 67). فالإِسناد يحتمل التحسين، سيما وللجملة الأولى شواهد مرفوعة وموقوفة مضت مخرجة برقم (6) تتقوى بها إن شاء الله تعالى، والعلم عند الله عزّ وجل.

بعض مطاعن المشاغبين

ولا يعين على شهود النقص في النفس كالوقوف على اجتهاد السلف الصالح؛ ففي سيرة الحسن البصري الذي عاش في القرن الأول ومات أوائل الثاني؛ أنه قال: " رأيت سبعين بدريّاً، لو رأيتموهم؛ لقلتم: مجانين، ولو رأوا خياركم؛ لقالوا: ما لهؤلاء من خلاق. ولو رأوا شراركم، لقالوا: هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب " [ص:59]. هذا خطاب الحسن لأهل عصره من التابعين وتابعيهم، فبماذا يخاطب أهل القرن الرابع عشر؟! • بعض مطاعن المشاغبين: إن أهل زماننا قد رضوا حالتهم، وسخطوا على ناصحيهم مقالتهم، وقالوا: قد جاؤونا بعلم جديد، وقد سبقهم علماء أجلاء لم نسمع منهم نكراناً لهذا الأمر؛ فإن كان بين هؤلاء الساخطين مَن شدا شيئاً من العلم؛ زادهم جهالة بتأويل النصوص الشرعية، وبصرف أقوالهم وأعمالهم الدالة على فساد اعتقادهم إلى ما يوافق الإِسلام، وإن كان خلاف مرادهم، ثم زعم لهم أن ما يرشد إليه المصلحون ضلالة ابتدعها ابن تيمية. • الجواب عن المطاعن: لا؛ لم نأت بعلم جديد في نظر الدين، ولكنه جديد في آذان (*) المستمعين. ومن تقدمنا من العلماء بعضهم أنكروا مثلنا فطُعن فيهم وحيل بينهم وبين العامة، وبعضهم أسرُّوا الإِنكار لمن وثقوا بامتثاله، ومنهم من كتم لغلبة يأسه ومحافظته على هناء نفسه، ومنهم من لم يكن يدري هذا الشأن، وإنما اشتهر بمسائل الفروع. ¬

_ (*) بالمد، مفردها: أذن.

ثم العلماء الثقات حجة فيما يأثرون لا فيما يفعلون أويقرون، ولا يكون الفعل أو التقرير حجة إلا من المعصوم. فأما تأويل النصوص؛ فأكثره تحريف للكلم عن مواضعه، وغض من مهابة ظواهرها وعظم موقعها في النفوس. وأما صرف أقوال العامة وأفعالها إلى غير ما أرادت منها، فتغرير بها، وإغراء لها على الباطل. وأما ابن تيمية، فلم يبتدع ضلالة، وإنما أحيا السنة، ودعا إلى الهدى، واجتهد في النصح، وليست الدعوة إلى التوحيد بمذهب خاص، ولكنه دين الله العام. وما جعل العوام يستخفون بما وقعوا فيه من الشرك الجلي إلا الاعتياد، وجبن جل العلماء عن الجهر بالإرشاد، والعادة- كما يقال- طبيعة ثانية، والإِسرار بالعلم إقبار له. ففي كتاب العلم من " صحيح البخاري ": أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم: " انظر ما كان من حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء "، ولا تقبل إلا حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرّاً (¬35). ¬

_ (¬35) أخرجه البخاري تعليقاً في (كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، 1/ 194)، ثم قال: " حدثنا العلاء بن عبد الجبار؛ قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار بذلك - يعني حديث عمر بن عبد العزيز- إلى قوله: " ذهاب العلماء ". قال الحافظ في " الفتح " (1/ 195): " قوله: (حدثنا العلاء): لم يقع وصل هذا التعليق عن الكشميهني ولا كريمة ولا ابن =

ومن حكم الشعراء: وَشَتَّانَ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمَنْطِقِ الْخَفْتِ وقال ابن تيمية: " لولا بعد عهد الناس بأول الإِسلام وحال المهاجرين والأنصار، ونقص العلم، وظهور الجهل، واشتباه الأمر على كثير من الناس، لكان هؤلاء المشركون والآمرون بالشرك مما يظهر كفرهم وضلالهم للخاصة والعامة أعظم مما يظهر ضلال الخوارج والرافضة ". وما جعل بعض العلماء ينتصبون للدفاع عن تدين العامة إلا مجاراة العوام والتقرب منهم ومن مغرضي الحكام لنيل منصب أو حطام، وهذا ظاهر في هذا الزمان، لا يختلف فيه اثنان. وقد عد في " الزواجر من الكبائر " تعلم العلم للدنيا وكتمانه، وعدم العمل به والدعوى فيه، وجلب في ذلك من الآيات والأحاديث والآثار ما يطول تلخيصه؛ فلينظره من يهتم لغده في الكبيرة الثالثة والأربعين وما بعدها من ذلك الكتاب. وفي رسالة ابن الجوزي عن الحسن البصري؛ أنه قرأ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137]، فقال: " يا عجباً لمن يخاف ملكاً أو يتقي ظالماً بعد إيمانه بهذه الآية! أما والله، لو أن الناس إذا ابتلوا صبروا لأمر ربهم؛ ¬

_ = عساكر، إلى قوله: " ذهاب العلماء "، وهو محتمل لأن يكون ما بعده ليس من كلام عمر أو من كلامه ولم يدخل في هذه الرواية، وبه صرّح أبو نعيم في " المستخرج " ولم أجده في مواضع كثيرة إلّا كذلك، وعلى هذا فبقيته من كلام المصنف، أورده تلو كلام عمر، ثم بيّن أن ذلك غاية ما انتهى إليه كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ". وانظر: " تغليق التعليق " (2/ 88 - 90) له أيضاً.

حكايتان عن المجاوي والونيسي

لفرج الله عنهم كربهم، ولكنهم جزعوا من السيف، فوكلوا إلى الخوف، ونعوذ بالله من شر البلاء " [ص:47]. • حكايتان عن المجاوي والونيسي: حدثني تلميذ للشيخ عبد القادر المجاوي، أن هذا الشيخ رأى ذات يوم بيده رسالة محمد عبده في التوحيد، فانتهره لنظره فيها، وأغلظ له القول في مؤلفها، فأمهله هذا التلميذ، ثم راجعه مرة أخرى فيما سمع منه، فأثنى له على الشيخ عبده، واعتذر له عما أسمعه فيه أولاً بمجاراة العامة التي كانت لذلك العهد لا تذكر بالشيخ عبده إلا الإلحاد والإفساد في الدين. وحدثني آخر عمن حضر (زردة) بكدية عاتي من مدينة قسنطينة مع الشيخين عبد القادر المجاوي وحمدان الونيسي؛ أنهم كانوا في بيت كتان نسميه القيطون، فقام أحدهم متلهفاً أن يفوته طعام (الزردة) وبركتها، فقال له الشيخ حمدان: أي بركة فيها؛ إن طعامها حرام، ومجيئنا إليها حرام. هذان الشيخان هما من شيوخ شيوخنا، وهما أشهر شيوخ الجزائر لعهدهما، ومن هاتين الحكايتين عنهما ترى كيف يضيع الدين وينمو المنكر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: " إذا التمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين؛ ظهرت البدع " (¬36). رواه ابن وضاح في " رسالة البدع ¬

_ (¬36) ضعيف الإِسناد: أخرجه ابن وضاح في " البدع والنهي عنها " [ص:39] بسند ضعيف، فيه: يزيد بن أبي زياد الهاشمي الكوفي " ضعيف، كبر فتغير، صار يتلقن "، ونعيم- وهو ابن حماد- " صدوق يخطئ كثيراً " كما في " التقريب ". نعم، ثبت من طرق أخرى عن ابن مسعود، أنه قال: " كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويتخذها الناس سنة، فإذا =

والنهي عنها " [ص:39]. ولقد نصح من قال: وَلَدَتْكَ إِذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ بَاكِياً … وَالْقَوْمُ حَوْلَكَ يَضْحَكُونَ سُرُورًا فَاعْمَلْ لِيَوْمِ تَكُونُ فِيهِ إِذَا بَكَوْا … فِي يَوْمِ مَوْتِكَ ضَاحِكاً مَسْرُورًا • • • • • ¬

_ = غيّرت قالوا: غيّرت السنة! ". قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن؛ قال: " إذا كثرت قراؤكم، وقلّت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلّت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة ". أخرجه الدارمي في " سننه " (1/ 64)، والحاكم في " مستدركه " (4/ 514 - 515)، وابن وضاح [ص:89]، ومن طريقه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (1/ 188)، وأخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " (11/ 359 - 0 36، برقم: 20743) بنحوه أيضاً. وسكت عليه الحاكم وصححه الحافظ الذهبي على شرط الشيخين، وانظر: " صحيح الترغيب " (106) للألباني.

معنى الشرك وأقسامه

6 - معنى الشرك وأقسامه • قاعدة الحكم على الشيء فرع تصوره: كلامنا في الفصل الخامس عن الشرك من ناحية ذرائعه وطبائعه يدخل في باب الحكم عليه، وحديثنا عنه الآن من جهة معناه وأقسامه يعد من قبيل التصور، والحكماء يقولون: الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ فمقتضى هذه القاعدة تأخير الفصل الخامس عن هذا الفصل، ولكنا سلكنا هذا الترتيب، لأن التصور الذي ينبني عنه الحكم ويتوقف عليه هو الشعور بأصل معنى الشيء، وهذا القدر من معنى الشرك حاصل للمسلمين، ولهذا ينفرون منه، بل يكاد تصور الشرك يكون ضروريّاً لكل ناطق بالعربية، ولذلك لم تعن كتب متن اللغة بتحديد معناه كما اعتنت بضبط ألفاظه، والتصور الذي نحاوله هنا هو تحرير معنى اللفظة لغة وشرعاً، وضبطها نطقاً ووضعاً، وهو بالعلم أنسب، وكلامنا في الفصل الخامس إلى الوعظ أقرب؛ فآثرنا تقديم الوعظ الذي هو خطاب للقلوب على العلم الذي هو حديث إلى العقول!؛ لأنني أرى مصيبة هذا الجيل في قلوبهم أعظم من مصيبتهم في عقولهم. • معنى الشرك في اللغة: تقول: شركته في الأمر، أشركه- من باب تعب-، شركاً، وشركة؛ بفتح

الأول، وكسر الثاني فيهما، ويخففان بكسر الأول وسكون الثاني، وذلك إذا صرت له شريكاً، وشاركته كذلك، وأشركته: جعلته شريكاً، قال تعالى: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 31]؛ أي: اجعله شريكي فيه، وشركت بينهما في المال تشريكاً، واشتركنا، وتشاركنا في الشيء، قال الجعدي: وَشَارَكْنَا قُرَيْشًا فِي تُقَاهَا … وَفِي أَحْسَابِهَا شِرْكَ الْعِنَانِ و (العنان): سيرا اللجام المعترضان عن يمين عنق الدابة وشمالها، يكنى به عن المساواة. و (الشرك)، بالتخفيف: أغلب في الاستعمال، ويكون مصدراً واسماً بمعنى النصيب؛ كما في قولهم: أعتق الرجل شركاً له في عبد، والشراك ككتاب: سير النعل على ظهر القدم؛ يقال منه: أشركت نعلي وشركتها تشريكاً: إذا جعلت لها الشراك. و (الشرك)، بفتحتين: حبالة الصائد، واحدتها شركة، ويكون الشرك جمعاً لشركة بمعنى معظم الطريق ووسطه. هذا تلخيص كلام الجوهري في " صحاحه " والفيومي في " مصباحه ". وقال الراغب الأصفهاني في " مفرداته ": " الشركة والمشاركة: خلط الملكين، وقيل: هو أن يوجد شيء لاثنين فصاعداً، عيناً كان ذلك الشيء أو معنى، كمشاركة الإِنسان والفرس في الحيوانية، ومشاركة فرس وفرس في الكمتة والدهمة ". وعبارة الراغب الثانية في شرح الشركة أعم من الأولى، لأن كون الشيء لاثنين يشمل ما كان لهما ملكاً، كالمال، أو وصفاً؛ كالبياض والكمتة، أو جزءاً ذاتيّاً؛ كالحيوانية. ومرجع مادة الشرك إلى الخلط والضم:

معنى الشرك في الشرع

فإذا كان بمعنى الحصة من الشيء يكون لواحد وباقيه لآخر أوآخرين؛ كما في قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 40]؛ فالشريك مخالط لشريكه، وحصته منضمة لنصيب الآخر. وإذا كان بمعنى الحبالة؛ فإن ما يقع فيها من الحيوان يختلط بها وينضم إلى ملك الصائد. وإذا كان بمعنى معظم الطريق، فإن أرجل السائرين وأقدام الماشين تختلط آثارها هنالك، وينضم بعضها إلى بعض. وإذا كان بمعنى سير النعل؛ فإن النعل تنضم به إلى الرجل فيخلط بينهما. ثم اجتماع الشركاء في شيء لا يقتضي تساوي أنصبائهم منه، ولا يمنع زيادة قسط على آخر، فموسى يسأل ربه إشراك أخيه له في الرسالة، وقد أجيب سؤله؛ لقوله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 36]، وضروري أن حظ هارون من الرسالة دون حظ موسى، ولهذا تقول: فلان شريك لغيره في دار أو أرض أو بضاعة، ولو لم يكن له منها إلا معشار العشر، بل الأجير على جزء من الربح كالخماس وعامل القراض شريك لرب المال من غير أن يكون له حظ من الأصل، هذا في الحسيات، ومثله في المعنويات؛ تقول: الأبوان شريكان في طاعة ابنهما لهما، وإن كان حق الأم في الطاعة أقوى، وتقول: أبنائي شركاء في محبتي، وأنت تحب بعضهم أشد من بعض. هذا تقرير معنى الشرك لغة. • معنى الشرك في الشرع: أما في الشرع؛ فقد فسره صاحبا " الصحاح " و " المصباح " بالكفر، وجعله الراغب على ضربين، فقال:

" أحدهما: الشرك العظيم، وهو إثبات شريك لله تعالى؛ يقال: أشرك فلان بالله، وذلك أعظم كفر؛ قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 116]، قال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116]، {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72]،، {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 112]، وقال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148]. والثاني: الشرك الصغير، وهو مراعاة غير الله معه في بعض الأمور، وهو الرياء والنفاق المشار إليه بقوله: {شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} {الأعراف: 190}، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، وقال بعضهم: معنى قوله: {إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}؛ أي: واقعون في شرك الدنيا، أي: حبالتها ". قال: " ومن هذا ما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا» (¬37) ". قال: " ولفظ الشرك من الألفاظ المشتركة، وقوله: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}: محمول على الشركين، وقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوَبة: 5]،؛ فأكثر الفقهاء يحملونه على الكفار جميعاً ". هذا كلام الراغب، وقد اشتمل على آيات في استعمال القرآن لمادة الشرك بالمعنى الشرعي، وهي تفصح عن موافقتها لأصل المعنى اللغوي؛ سنة الحقائق الشرعية في انبنائها على الحقائق اللغوية. وبيان الشرك بالكفر تساهل في المعنى قرَّبه اتحادهما في الحكم. ¬

_ (¬37) قوي: مضى تخريجه برقم (6).

وقد فرق بينهما أبو هلال العسكري في كتابه " الفروق اللغوية "، فقال: " الكفر اسم يقع على ضروب من الذنوب، فمنها الشرك بالله، ومنها الجحد للنبوة، ومنها استحلال ما حرم الله، وهو راجع إلى جحد النبوة، وغير ذلك مما يطول الكلام فيه، وأصله التغطية " [ص:189]. ثم قال: " الفرق بين الكفر والشرك أن الكفر خصال كثيرة على ما ذكرنا، وكل خصلة منها تضاد خصلة من الإِيمان، لأن العبد إذا فعل خصلة من الكفر؛ فقد ضيع خصلة من الإِيمان، والشرك خصلة واحدة، وهو إيجاد ألوهية مع الله أو دون الله، واشتقاقه ينبئ عن هذا المعنى، ثم كثر حتى قيل لكل كفر شرك على وجه التعظيم له والمبالغة في صفته، وأصله كفر النعمة، ونقيضه الشكر، ونقيض الكفر بالله الإِيمان، وإنما قيل لمضيع الإِيمان كافر؛ لتضييعه حقوق الله تعالى، وما يجب عليه من شكر نعمه؛ فهو بمنزلة الكافر لها، ونقيض الشرك في الحقيقة الإِخلاص، ثم لما استعمل في كل كفر، صار نقيضه الإِيمان " [ص:191]. ومحصل كلام أبي هلال: أن الشرك والكفر مختلفان في الأصل، متحدان في استعمالى الشرع (*)؛ فهما كالإسلام والإيمان، واستعمال الكفر في التغطية شائع في لسان العرب؛ قال لبيد في معلقته: فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا ويبين كون الشكر نقيضاً له قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]. ¬

_ (*) وكل كفرٍ شرك، وكل شرك كفر، وهو الذي عليه جماهير أهل العلم. أفاده القاسمي في " محاسن التأويل "، وانتصر له الشيخ الألباني واحتجَّ بقصة أصحاب الجنتين في سورة الكهف في بحث نفيس في عشرة شرائط له.

ولم يحضرني الآن مقابلة القرآن للشرك بالإخلاص (*)، ولكن فيه مقابلة النفاق الذي هو من شعب الشرك بأشياء منها الإِخلاص، وذلك قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء: 145 - 146]. وفائدة البحث عن مقابل كل من الشرك والكفر زيادة الكشف عن معناهما، وفضل التمكن من تصورهما تصوراً واضحاً. وكما لا تقتضي الشركة لغة تساوي الشركاء في الحصص؛ لا يقتضي الشرك شرعاً مساواة الشريك لله في جميع صفاته أو في صفة منها، بل يسمى المرء مشركاً عند الشارع بإثباته شريكاً لله، ولو جعله دونه في القدرة والعلم مثلاً. فأما حكايته تعالى عن المشركين قولهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98]، فالتسوية فيه تسوية في الطاعة والانقياد، لا في القدرة على الخلق والإِيجاد، فهي كآية البقرة: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]. إن الله جل وعلا لا يقبل أن يشرك به الأبرار ولا الفجار ولا الأشجار ولا الأحجار، ولا يرضى شركة عظيم في القدر والمنزلة؛ كمن أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا شركة عظيم في الخلق والحجم، كالشمس والقمر وسائر الكواكب. وقد رد القرآن كل شرك كيفما كان اعتباره من القوة والضعف: ¬

_ (*) النفاق في الآية هو الأكبر، وفي [ص:92] قال: (وهو كفر اتفاقاً)؛ فهو يضاد أصل الإخلاص في القلب.

أقسام الشرك وأحكامها

قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]، {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 85]، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]. هذا بياننا للشرك الشرعي؛ فإن كان فيه طول؛ فإنا نقصد فيما نبسط إفهام العامة وإفحام المعاندين. • أقسام الشرك وأحكامها: وأقسام الشرك قد استوفتها آية سبأ، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23]، فجعلت الآية أقسام الشرك أربعة، ونفتها كلها، ولنضع لكل قسم اسماً يمتاز به: الأول: شرك الاحتياز: فنفى سبحانه أن يكون غيره مالكاً لشيء يستقل به، ولو كان في الحقارة مثقال ذرة في العالم العلوي أو في العالم السفلي. الثاني: شرك الشياع: فنفى سبحانه أن يكون لغيره نصيب يشاركه فيه كيفما كان هذا النصيب في المكان والمكانة. الثالث: شرك الإِعانة: فنفى جل شأنه أن يكون له ظهير ومعين من غير أن يملك معه، كما يعين أحدنا مالك متاع على حمله مثلاً. الرابع: شرك الشفاعة: فنفى تعالى أن يوجد من يتقدم بين يديه يدل بجاهه ليخلص أحداً بشفاعته.

فهو تعالى لم يقبل من أقسام الشركة حتى أضعفها وأخفاها، وهي الشركة بالجاه في تحصيل السلامة والنجاة؛ إلا بعد الإِذن للشفيع، وتعيين المشفوع له، وحينئذ لا تكون في الشفاعة رائحة الشركة، بل الشفاعة- كغيرها من وجوه النفع- هي لله وحده. ولم يخرج عن الآية شيء من أقسام الشركة؛ لأن الشريك إما في الملك، وإما في التصرف، والأول: إما أن يحتاز قسطه، وإما أن يكون على الشياع، والثاني: إما أن يعين المالك، وإما أن يعين أحداً عند المالك؛ فتلك الأقسام الأربعة مرتبة ترتيبها في الآية، وتلك الأقسام على ظهورها من الآية لم أر من أعرب عنها هذا الإِعراب. وقسم أبو البقاء الحنفي في " كلياته " الشرك إلى ستة أقسام؛ فقال: " والشرك أنواع: شرك الاستقلال: وهو إثبات شريكين مستقلين؛ كشرك المجوس. وشرك التبعيض: وهو تركيب الإِله من آلهة؛ كشرك النصارى. وشرك التقريب: وهو عبادة غير الله ليقرب إلى الله زلفى، كشرك متقدمي الجاهلية. وشرك التقليد: وهو عبادة غير الله تبعاً للغير؛ كشرك متأخري الجاهلية. وشرك الأسباب: وهو إسناد التاثير للأسباب العادية؛ كشرك الفلاسفة والطبائعيين ومن تبعهم على ذلك. وشرك الأغراض: وهو العمل لغير الله. فحكم الأربعة الأول الكفر بإجماع، وحكم السادس المعصية من غير كفر بإجماع، وحكم الخامس التفصيل؛ فمن قال في الأسباب العادية: إنها تؤثر بطبعها؛ فقد حكي الإِجماع على كفره، ومن قال: إنها تؤثر بقوة أودعها الله فيها؛ فهو فاسق " (*) [ص:216]. ¬

_ (*) أبو البقاء أشعري مُتكلِّم، وكون الأسباب تُؤثر بقوة أودعها الله فيها هو مذهب السلف؛ فلا يُغترّ بأشعرية أبي البقاء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية- ولله دره-: " الأشعري ومن وافقه لا يُثبتون في المخلوقات قوى ولا طبائع، ويقولون: إن الله فعل عندها لا بها، ويقولون: إن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل ... "، ثم قال شيخ الإسلام: =

وهذه الأقسام متفاوتة قوةَ وضعفاً، ولكنها متحدة في الحكم عليها بالكفر، إذا استثنينا أحد وجهي النوع الخامس، أما السادس؛ فقد أخرجه أيضاً أبو البقاء، وحقه التفصيل؛ كالذي قبله، فإن العمل لغير الله: إما نفاق، أو رياء، والأول كفر اتفاقاً، والثاني معصية من غير كفر إجماعاً، ولكن ما خرج من هذه الوجوه عن حكم الكفر؛ فإنه ذريعة إليه، ولهذا تناوله لفظ الشرك كبقية الأقسام. والنوع الثاني عند أبي البقاء خارج عن الآية؛ لبعده عن العقل والطبع معاً، والأول عنده شامل للأول والثاني في الآية، والثالث والرابع عنده يشملهما الرابع في الآية، والخامس والسادس يتناولهما الثالث في الآية، الذي هو شرك الإِعانة؛ لأن المعتمد على الأسباب مستعين بها، والمرائي والمنافق مستعينان بمن يعملان له. نعوذ بالله من جملة الشرك وتفصيله، قويه وضعيفه، جليه وخفيه. إِنَّ الْأُمُورَ دَقِيقَهَا … مِمَّا يَهِيجُ لَهُ الْعَظِيمُ • • • • • ¬

_ = " وهذا قول من ينكر الأسباب والقوى التي في الأجسام، وينكر تأثير القدرة التي يكون بها الفعل ويقول: إنه لا أثر لقدرة العبد أصلًا في فعله ... " حتى قال شيخ الإسلام: " ومذهب سلف الأمة وأئمتها وجمهور أهل السنة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون: إن العبد فاعل لفعله حقيقة، وإن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية، ولا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية، بل يُقرُّون بما دلّ عليه الشرع والعقل من أن الله تعالى يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء بالسحاب وينبت النبات بالماء، ولا يقولون: القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها، بل يُقرون بأن لها أثراً لفظاً ومعنى، لكن يقولون: هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خالق السبب والمسبب ... " إلخ. بتصرف من " لوامع الأنوار البهية " (1/ 312 - 313).

الشرك في قوم نوح

7 - الشرك في قوم نوح • مبدأ الشرك: أول من عُرفوا بالشرك قوم نوح عليه السلام، وأول من وقعوا فيه منهم القبوريون المنصرفون بقلوبهم إلى الموتى من صلحائهم؛ فكان نوح أول رسول من الله لمقاومة الشرك وإقامة الحجة على المشركين؛ بتذكيرهم بنعم الله ووجوب شكرها، ودلالتهم على سوء مغبة الشرك ولزوم التبري منه، ولكن القوم غلب عليهم هوى الشرك، ففقدوا رشدهم، ولم يفقهوا جدال نبيهم، وأتوا في الدفاع عن وثنيتهم بما هو خارج عن موضوع النزاع. وهاك ما حكاه القرآن في هذا الشأن: • خبط المشركين في الانتصار لوثنيتهم: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 25 - 27]. فانظر إلى هذا السفه والخبال: يدعوهم إلى توحيد الخلاق المتعال،

ذكر نوح في الكتاب

فيردون عليه بأنه بشر، وأن من آمن به من الطبقة المنحطة في مجتمعهم، وأنه وهؤلاء المؤمنين لا يعلمون لهم فضلًا عليهم، كأنهم علموا للأصنام فضلاً على جميع الأنام فعبدوها، واستمروا على هذا الضلال عدة أجيال، يوصي فيها السلف الخلف؛ بأن يعضوا بالنواجذ على وثنيتهم: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]. وأخذالخلف بوصية السلف، فلم يستمعوا لنبيهم على قوة حجته، ولم يتأثروا بآدابه على طول مدته، ولما لم يجدوا مدفعاً لبرهانه، واستبطؤوا عقوبة الله لهم بطوفانه، قالوا: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32]. • ذكر نوح في الكتاب: [ما أحد] صَبَرَ صَبْرَ هذا الرسول وثَبَتَ ثباته، فخلدت ذكره سور القرآن وآياته، تجد حديثه في الأعراف ويونس وهود والأنبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت والصافات والقمر، واختص بسورة من المفصل سميت سورة نوح، وتجد اسمه دون قصته في سور أخر. وفي تكرار قصته والعناية بتصريف القول فيها حض للدعاة على سلوك خطته، وزجر للأمم أن تحذو حذو أمته. وفي ذكرنا لتلك السور إحالة للقارئ على ما فيها من عبر، ونكتفي هنا بإثبات روايات فيها بيان عن الذريعة التي انتهت بهم إلى الشرك. • الأخبار في منشأ الشرك: 1 - ففي كتاب التفسير من " صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: " صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود؛

فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع؛ فكانت لهذيل، وأما يغوث؛ فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق؛ فكانت لهمذان، وأما نسر؛ فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا؛ أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، وتنسخ العلم، عبدت " (¬38). 2 - وأخرج الفاكهي عن عبيد الله بن عبيد بن عمير، قال: " أول ما حدثت الأصنام على عهد نوح، وكانت الأبناء تبر الآباء، فمات رجل منهم، فجزع عليه، فجعل لا يصبر عنه، فاتخذ مثالًا على صورته، فكلما اشتاق إليه؛ نظره، ثم مات، ففعل به كما فعل، ثم تتابعوا على ذلك، فمات الآباء، فقال الأبناء: ما اتخذ هذه آباؤنا إلا أنها كانت آلهتهم، فعبدوها ". نقله الحافظ في " الفتح " (8/ 543)، والسيوطي في " الدر المنثور " (6/ 269)، والروايات الثلاث بعد من " الدر " أيضاً. وقوله: " فجزع عليه ": كذا نقله، من غير تصريح بفاعل الجزع، ولعل لفظة: " عليه " محرفة عن: " ابنه "، فيكون هو الفاعل، وبذلك ينسجم الكلام. 3 - وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب رضي الله عنه في قوله: {وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا}، قال: " كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح، فنشأ قوم بعدهم يأخذون كأخذهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم، فصوروا، ثم ماتوا، فنشأ قوم بعدهم، فقال لهم إبليس: إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها. فعبدوها ". ¬

_ (¬38) أخرجه البخاري في (كتاب التفسير، باب {وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ} (8/ 667/ 4920) عن ابن عباس موقوفاً.

4 - وأخرج أبو الشيخ في " العظمة " عن محمد بن كعب القرظي؛ قال: " كان لآدم خمسة بنين: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، فكانوا عباداً، فمات رجل منهم، فحزنوا عليه حزناً شديداً، فجاءهم الشيطان، فقال: حزنتم على صاحبكم هذا؛ قالوا: نعم. قال: هل لكم أن أصور لكم مثله في قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه؛ قالوا: لا؛ نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئاً نصلي إليه. قال: فأجعله في مؤخر المسجد؛ قالوا: نعم. فصوره لهم، حتى مات خمستهم، فصور صورهم في مؤخر المسجد، وأخرج الأشياء، حتى تركوا عبادة الله، وعبدوا هؤلاء، فبعث الله نوحاً، فقالوا: {لَا تَذَرُنَّ وَدًّا ... } [نوح: 20]، إلى آخر الآية ". وقوله: " وأخرج الأشياء ": لا يظهر له معنى، ولعل فيه تحريفاً وحذفاً، وأصله: وأدرك الأبناء وتناسلوا؛ كما يأتي نحوه في الرواية التالية. وفي " تفسير ابن كثير " عن ابن عباس: أن ودّاً ابن لآدم وأب لسواع ويغوث ويعوق ونسر. 5 - وأخرج عبد بن حميد عن أبي مطهر، قال: " ذكروا عند أبي جعفر يزيد بن المهلب، فقال: أما إنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله، ثم ذكر ودّاً، قال: وكان ود رجلًا مسلماً، وكان محبباً في قومه، فلما مات، عسكروا حول قبره في أرض بابل، وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه، تشبه في صورة إنسان، ثم قال: أرى جزعكم على هذا، فهل لكم أن أصور لكم مثله، فيكون في ناديكم، فتذكرونه به؛ قالوا: نعم. فصور لهم مثله، فوضعوه في ناديهم، وجعلوا يذكرونه، فلما رأى ما بهم من ذكره؛ قال: هل لكم أن أجعل لكم في منزل كل رجل تمثالًا مثله، فيكون في بيته، فتذكرونه؛ قالوا: نعم. فصور لكل أهل بيت تمثالاً مثله، فأقبلوا، فجعلوا يذكِّرونه به ". قال: " وأدرك

الجمع بين الأخبار في منشأ الشرك

أبناؤهم، فجعلوا يرون ما يصنعونه به، وتناسلوا، ودرس أمر ذكرهم إياه، حتى اتخذوه إلهاً يعبدونه من دون الله ". قال: " وكان أول ما عبد غير الله في الأرض ود الصنم الذي سموه بود ". • الجمع بين الأخبار في منشأ الشرك: وبين بعض هذه الروايات اختلاف من أربع جهات: إحداها: هل الذين مع ود أبناء له أم إخوة له؟ وليس لهذا الاختلاف أهمية؛ فإن العهد بعيد، والأعلام قد تتعدد، والمقصود على كل حال متحد. ثانيتها: هل حدوث الأصنام وقع على عهد نوح كما تصرح به الرواية الثانية؟ أم قبله كما هو ظاهر الروايتين بعدها؟ ويمكن الجمع بأن من سميت بهم تلك الأصنام سابقون على نوح، وتسمية الأصنام بهم تأخرت إلى زمنه، فترجع الروايتان الثالثة والرابعة إلى الثانية، ولك أن ترجع الثانية إلى ما بعدها، بأن حدوث الأصنام كان قبل نوح، وإنما أضافته الرواية الثانية إلى عهده لما كان هو الذي عاب الأصنام وقبحها، وهذا الاحتمال الثاني أقرب؛ لأن الإِرسال لإِنكار الشرك إنما يكون بعد ذيوعه وانتشاره في الأمة وطول عهدهم بالتوحيد، ويتأيد ذلك بشدة إصرارهم عليه، مع لبث نوح في محاربته ألف سنة إلا خمسين عاماً. ثالثتها: هل ابتداع التماثيل من برور الأبناء بالآباء كما في الرواية الثانية، أم من ولوع المريد بشيخه كما في الرواية الثالثة؟ وليس هذا من الاختلاف المتعارض، إذ يمكن حدوثه من الفريقين مجتمعين أو متعاقبين.

رابعتها: نسبة هذا الابتداع إلى الناس تارة، وإلى إبليس أخرى، وإلى شيطان في صورة إنسان في رواية. وكل ذلك من اختلاف العبارات الذي لا يختلف به المعنى، فإن شياطين الإِنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً. • • • • •

الشرك في قوم إبراهيم

8 - الشرك في قوم إبراهيم • نبات الشرك بعد الطوفان: غسل الأرضَ الطوفان من وضر الشرك والعصيان، فلم يبق يومئذ على وجهها إلا ناصع الإِيمان، ثم تعاقبت الأجيال، حتى حنت الطباع إلى معتاد الضلال، ففاء الشرك بعد الزوال، وأرسل الله المرسلين مبشرين ومنذرين، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ... } [يوسف: 103]. بعد الطوفان بأزمان ظهرت ببابل من أرض العراق أمة الكلدان التي منها النبط قوم إبراهيم عليه السلام، فكانوا يعرفون الله ويعبدونه ويشركون به الكواكب ويتخذون لها الأصنام تماثيل. • الكلدان ومعارفهم: قال صاعد بن أحمد في كتابه " طبقات الأمم ": " وكانت لهم علوم بأرصاد الكواكب، وتحقق بعلم أسرار الفلك، ومعرفة مشهورة بطبائع النجوم وأحكامها وخواص المولدات وقواها، وهم نهجوا لأهل الشق الآخر من معمور الأرض الطريق إلى تدبير الهيكل لاستجلاب قوى الكواكب، وإظهار طبائعها، وطرح شعاعاتها عليها؛ بأنواع القرابين المؤلفة لها، وضروب التدابير المخصوصة بها،

آلهة الكلدان وعبادتهم

فظهرت منهم الأفاعيل الغريبة، والنتائج العجيبة؛ من إنشاء الطلسمات وغيرها من صناعة السر " [ص:18]. • آلهة الكلدان وعبادتهم: وقال أبو بكر الرازي الجصاص في كتابه " أحكام القرآن ": " وكانت علوم أهل بابل الحيل والنيرنجيات وأحكام النجوم، وكانوا يعبدون أوثاناً عملوها على أسماء الكواكب السبعة، وجعلوا لكل واحد منها هيكلاً فيه صنمه، ويتقربون إليها بضروب من الأفعال على حسب اعتقاداتهم من موافقة ذلك للكوكب الذي يطلبون منه بزعمهم فعل خير أو شر؛ فمن أراد شيئاً من الخير والصلاح يتقرب إليه بما يوافق المشتري من الدخن والرقى والعقد والنفث عليها، ومن طلب شيئاً من الشر والحرب والموت والبوار لغيره؛ تقرب بزعمه إلى زحل بما يوافقه من ذلك، ومن أراد البرق والحرق والطاعون؛ تقرب بزعمه إلى المريخ بما يوافقه من ذلك من ذبح بعض الحيوانات. وجميع تلك الرقى بالنبطية تشتمل على تعظيم تلك الكواكب إلى ما يريدون من خير أو شر ومحبة وبغض، فيعطيهم ما شاؤوا من ذلك، فيزعمون أنهم عند ذلك يفعلون ما شاؤوا في غيرهم، من غير مماسة ولا ملامسة، سوى ما قدموه من القربات للكوكب الذي طلبوا ذلك منه؛ فمن العامة من يزعم أنه يقلب الإِنسان حماراً أو كلباً، ثم إذا شاء أعاده، ويركب البيضة والمكنسة والخابية ويطير في الهواء فيمضي من العراق إلى الهند وإلى ما شاء من البلدان ثم يرجع من ليلته، وكانت عوامهم تعتقد ذلك؛ لأنهم كانوا يعبدون الكواكب، وكل ما دعا إلى تعظيمها اعتقدوه " (1/ 44). وقال رشيد رضا في " تفسير المنار ": " اتخذوا الكواكب أرباباً لما لها من التأثير السببي أو الوهمي في الأرض، وتوسعوا في إسناد التأثير إليها، حتى

عقائد الكلدان

اخترعوا من ذلك ما لا شبهة له، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب النار ونير الأرض، والسماء يدبر الملوك ويفيض عليهم روح الشجاعة والإِقدام، وينصر جندهم، ويخذل عدوهم، ويمزقه كل ممزق، ويعتقدون نحو ذلك في زحل، واسمه (بيني)، ويعتقدون أن مرداخ (وهو المشتري) شيخ الأرباب ورب العدل والأحكام، حافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات، وأن رنكال (وهو المريخ) كمي الأرباب ورب الصيد وسلطان الحرب، فهو يشترك مع زحل في تدبيره؛ إلا أن هذا هو المقدم في الصيد، وذلك المقدم في الحرب، وأن عشتار (أو: نانا، وهي الزهرة) ربة الغبطة والسعادة، ومفيضة السرور على الناس، وتمثل في الآثار بامرأة عارية، وأن نبو (وهو عطارد) رب العلم والحكمة " (7/ 570). • عقائد الكلدان: وقسم ابن حجر الهيتمي في " الزواجر " وأبو السعود في " تفسيره " الكلدانيين باعتبار عقائدهم إلى صابئة دهرية وإلى وثنية مشركة، ثم الوثنيون على طبقتين، فكانوا ثلاث فرق: الأولى: تقول بقدم الكواكب والأفلاك، وأنها المدبرة لعالم الكون والفساد، وغنية عن الخالق المدبر. والثانية: تقول بألوهيتها وتأثيرها في الحوادث بأنفسها. والثالثة: تقول بحدوثها، وأن لها فاعلًا مختاراً، ولكن منحها النفوذ في العالم، وفوض تدبيره إليها. • موازنة بين شرك الكلدان وقوم نوح: تطور الشرك عند الكلدانيين؛ فبعد أن كان بسيطاً مستمدّاً من حسن الظن

دعوة إبراهيم للكلدان وما لقي منهم

ببعض العباد والمبالغة في تعظيمهم من غير وقوف عند حد مشروع؛ أصبح نظريّاً مستمدّاً من خطا العقل وخيال الفلسفة الشعرية؛ فإذا كان شرك قوم نوح يرجع إلى مظاهر الصلاح في الناس؛ فإن شرك قوم إبراهيم ناشئ عن أسرار الطبيعة ودقائق الفلك؛ فشرك الأولين من شرك التقريب والشفاعة، وشرك هؤلاء من شرك الأسباب والإِعانة، ولكن فيه روحاً من شرك التقريب أيضاً؛ لأن فيهم من يعبدون الأصنام التي تمثل لهم الكواكب باعتبارها واسطة بينهم وبين الله، وهؤلاء يستعظمون التوجه لله من غير واسطة. قال ابن النديم في " الفهرست ": " ويقول بعضهم: إنه إذا قرب باسم الباري كانت دلالة القربان رديئة؛ لأنه عندهم تعدٍّ إلى أمر عظيم، وترك ما هو دونه لما جعله متوسطاً في التدبير " [ص:443}. • دعوة إبراهيم للكلدان وما لقي منهم: هؤلاء الكلدانيون هم الذين بعث الله إليهم خليله إبراهيم عليه السلام، وحاجَّهم، فلم يدافعوه بغير التقليد لآبائهم، ونبههم إلى صفات المعبود بسؤالهم عن قدرة أصنامهم على النفع والضر وسماع من يستغيثها وتكليمهم، فاعترفوا بعجزها، ولكن حملتهم الحميَّة على الانتقام لها؛ كما تساءل عن أكل تلك الأصنام لما يقدم لها؛ تنبيهاً على خطل رأي فاعليه. ففي الصافات: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 91 - 96]، ومعنى (راغ): مال، و (يزفون): يسرعون. والمعنى: أن إبراهيم كسر الأصنام بعد سؤاله لها سؤال استخفاف، فأسرع إليه عبدتها منكرين، فوبخهم على عبادتهم لما صنعوه بأيديهم.

ثبات إبراهيم وإصرار قومه

وفي الشعراء: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69 - 74]. وفي سورة الأنبياء: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 62 - 68]. • ثبات إبراهيم وإصرار قومه: أصر الكلدانيون على وثنتيهم مع قيام الحجة عليهم، ولجؤوا بعد هذا العناد إلى القوة شأن أهل البغي والاستبداد، ولم يقطع إبراهيم أمام تصلبهم دعوته، ولا خفف لتوعدهم إياه لهجته، بل استمر يقرع بآيات التوحيد آذانهم، حتى غصوا به على انفراده واجتماعهم، وكون السلطان سلطانهم، وإذ لم ينتفعوا برجاحة حجته وصراحة كلمته- فما أضيع البرهان عند المقلد-، وإذا هو لم يخضع لطغيانهم ولم يبال بتهديدهم، فإن سلطان الله فوق سلطانهم، ووعده أصدق من وعيدهم؛ فقد جعله في سلام من الحريق الأليم، وبشره بغلام حليم، وتلك عاقبة المصلحين التي وعدهم بها رب العالمين إذ قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]. • • • • •

الشرك في العرب

9 - الشرك في العرب • وجه الاقتصار على بيان شرك بعض الأمم: قدمنا الخبر عن شرك قوم نوح لما كانوا أئمة المشركين وقدوتهم الأولين، وأعقبناه بشرك قوم إبراهيم؛ إذ كانت وثنيتهم مركبة من وثنية قوم نوح، والضلال في درس الطبيعة، واقتفاء خيال الشعر دون الاكتفاء بحقائق العلم، وقفينا على ذلك بشرك العرب؛ لأنه متصل بالفريقين بأوثق سبب، وختمنا به هذا الحديث، لانتهائه ببعثة خاتم النبيين، الذي بشريعته ندين، ومنها تعرفنا أخبار المشركين. • علاقة العرب بإبراهيم وقومه وقوم نوح: شرك العرب متحد النوع بشرك قوم نوح، حتى إن أوثان أولئك وقعت إلى هؤلاء، وسبب ابتداع الشركين واحد عند الفريقين، وللعرب اتصال بالكلدانيين، فإن الجميع أبناء سام، ولغاتهم متحدة الأصل، ولهم علاقة خاصة بإبراهيم؛ فهو جد العدنانيين، ومن بني عمومة القحطانيين، ثم هو الذي رفع قواعد البيت معقد عزهم ومنتهى فخرهم (*)، وترك بينهم ابنه إسماعيل ظهيره في مأثرة بناء الكعبة، ينشر فيهم الحنيفية، وينثر عليهم مما في صحف إبراهيم ¬

_ (*) وقع في ط 1: " مفخرهم ".

العناية بتوضيح الشرك

الذي وفى (*)، وكانوا يعرفون تلك الرابطة النسبية، ويعترفون له بتلك المأثرة التاريخية، ويزعمون أنهم حنفاء على ملته، فلم ينكر القرآن عليهم إلا زعمهم هذا، إذ جاء فيه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]. • العناية بتوضيح الشرك: والذي دعانا إلى بيان الشرك في هذه الطبقات الثلاث هو الرغبة في شرح حاله، وتوضيحه فصل توضيح، وخصصنا هذه الأمم بالذكر لما بينها من الروابط والأشباه، واقتصرنا عليهم لشهرتهم في وصف الشرك، ولم نتوسع بالتعرض لغيرهم؛ لأنا لم نقصد إلى تاريخ الأديان في مختلف الأزمان والأوطان، ولا إلى تقصي ما ذكر منها في القرآن. • ابتداع الوثنية في العرب: وسبب مفارقة العرب للحنيفية وتسرب الوثنية إليهم ما جاء في " الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ بْنَ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ» (¬39). هذا ¬

_ (*) لم يكن إسماعيل عليه السلام مقتصراً على تبليغ رسالة إبراهيم، بل كان رسولاً نبياً مستقلاً عليه السلام. [ناشر ط 3]. (¬39) أخرجه البخاري في " صحيحه " في (كتاب المناقب، باب قصة خزاعة، 6/ 547 / 3521)، وفي (كتاب التفسير، باب ما جعل اللهُ من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وصيلة ولا حامٍ، 8/ 283/ 4623)، ومسلم في " صحيحه " في (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، 4/ 2191 و2192/ 2856) عن أبي هريرة مرفوعاً. وللحديث شاهد من حديث عائشة عند البخاري (4624). وأمّا زيادة: " وبحّر البحيرة وغيّر دين إسماعيل " التي عزاها المؤلف لمسلم- تبعاً للحافظ في =

لفظ البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، زاد مسلم في روايته: " وبحر البحيرة، وغير دين إسماعيل ". و (لحي)؛ بضم ففتح، و (القصب)؛ بضم فسكون، يجمع على أقصاب، وهي الأمعاء، وفي كتب الإِخباريين وأصحاب السير تفصيل عن نشؤ الشرك في العرب، وسبب وثنية عمرو بن لحي تجده في " سيرة ابن هشام "، وفي " أخبار مكة " للأزرقي، ونسوقه هنا من لفظ ابن الكلبي: قال في فاتحة كتابه " الأصنام ": " حدثني أبي وغيره- وقد أثبت حديثهم جميعاً- أن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام لما سكن مكة، وولد له بها أولاد كثير، حتى ملؤوا مكة، ونفوا من كان بها من العماليق؛ ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضاً، فتفسحوا في البلاد والتماس (*) المعاش. وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجراً من حجارة الحرم؛ تعظيماً للحرم، وصبابة بمكة، فحيثما حلوا؛ وضعوه، وطافوا به كطوافهم بالكعبة؛ تيمناً منهم بها، وصبابة بالحرم، وحبّاً له، وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة، ويحجون، ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. ثم سلخ بهم ذلك إلى أن عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره؛ فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت ¬

_ = " الفتح " (8/ 285) -؛ فلم أجدها في " صحيح مسلم " المطبوع! ولا في " شرح النووي " عليه، فالله أعلم. نعم، أخرجه أحمد (16/ 319 - 0 32/ 8773) بزيادة " وبحّر البحيرة " فقط، وإسناده صحيح كما قال الشيخ أحمد شاكر. (*) كذا في الأصل، ولعل الصواب: لالتماس أو في التماس ...

عليه الأمم من قبلهم، وانتجثوا (استخرجوا) ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام منها على إرث ما بقي فيهم من ذكرها. وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة ومزدلفة وإهداء البدن والإِهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه: فكانت نزار تقول إذا ما أهلت: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك لك، تمكله وما ملك؛ فيوحدونه بالتلبية، ويدخلون معه آلهتهم، ويجعلون ملكها بيده، يقول الله عز وجل لنبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}؛ أي: ما يوحدونني بمعرفة حقي؛ إلا جعلوا معي شريكاً من خلقي. وكانت تلبية عك إذا خرجوا حجاجاً؛ قدموا أمامهم غلامين أسودين من غلمانهم، فكانا أمام ركبهم، فيقولان: نحن غرابا عك. فتقول عك في بعدهما: عك إليك عانيه، عبادك اليمانيه، كيما نحج الثانيه. وكانت ربيعة إذا حجت فقضت المناسك ووقفت في المواقف، نفرت في النفر الأول، ولم تقم إلى آخر التشريق. فكان أول من غير دين إسماعيل عليه السلام؛ فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وبحر البحيرة، وحمى الحامية: عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي، وهو أبو خزاعة، وكانت أم عمرو بن لحي فهيرة بنت عمرو بن الحارث، ويقال: قمعة بنت مضاض الجرهمي (قمعة بفتحتين وبكسر فتشديد)، وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة، فلما بلغ عمرو بن لحي، نازعه في الولاية، وقاتل جرهماً ببني إسماعيل، فظفر بهم، وأجلاهم عن الكعبة، ونفاهم من بلاد مكة، وتولى حجابة البيت بعدهم.

الجمع بين الأخبار في ابتداع وثنية العرب

ثم إنه مرض مرضاً شديداً، فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برئت. فأتاها، فاستحم بها، فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؛ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو. فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة ". ثم ذكر إسافاً ونائلة، والأصنام الخمسة التي كانت لقوم نوح، ثم قال: " فلما صنع هذا عمرو بن لحي، دانت العرب للأصنام وعبدوها واتخذوها ". ومصير أصنام قوم نوح إلى العرب تقدم عن ابن عباس في الفصل السابع، ولم نر في وجه ظهور تلك الأصنام في العرب رواية تطمئن لها النفس؛ إلا ما نقله الحافظ في " الفتح " عن السهيلي؛ أنه قال في كتابه " التعريف ": " إن يغوث هو ابن شيث ابن آدم فيما قيل، وكذلك سواع وما بعده، وكانوا يتبركون بدعائهم، فلمّا مات منهم أحد، مثلوا صورته، وتمسحوا بها، إلى زمن مهلاييل، فعبدوها بتدريج الشيطان لهم، ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية، ولا أدري من أين سرت لهم تلك الأسماء؛ أمن (*) قبل الهند؛ فقد قيل: إنهم كانوا المبدأ في عبادة الأصنام بعد نوح، أم الشيطان ألهم العرب ذلك؟ " (8/ 542). • الجمع بين الأخبار في ابتداع وثنية العرب: وكلام ابن الكلبي أولاً يعطي أن منشأ وثنية العرب تبرك المغلوبين من بني إسماعيل على الحرم بحجارته، وذلك قبل رئاسة عمرو بن لحي التي انتزعها من جرهم أخوال بني إسماعيل، وكلامه أخيراً صريح في أن عمرو بن لحي هو الذي أحدث هذه الوثنية، فاقتدى به العرب، والأول بالبساطة أنسب، وإلى بداوة العرب أقرب، وبسنة النشوء والارتقاء أشبه، والثاني هو صريح خبر المعصوم، الذي هو حق لا ريب فيه، ولكنا نرى الجمع بين الأمرين ميسوراً، ¬

_ (*) وقعت في ط 1 تبعاً لمطبوعة " الفتح " (8/ 668) دون همزة الاستفهام.

فلا ضرورة بنا إلى الترجيح. ذلك أن عصر المنازعات بين بني إسماعيل الذي حدث فيه التبرك بحجارة الحرم قبل أيام عمرو بن لحي إنما وقع فيه ذلك التبرك من النازحين عن الحرم، المتقلبين في البوادي، فكان ذلك التبرك ذريعة إلى الوثنية في بعض بني إسماعيل ومن رأى رأيهم من القبائل البادية النائية عن الحرم. أما وثنية عمرو بن لحي التي نقلها من الشام؛ فأظهرها بالحرم نفسه، وفرقها في الحجاج، فلم تكن قبله أصنام بالحرم حينما كان بنو إسماعيل ينقلون حجارته للطواف بها، ولو كانت به يومئذ أصنام؛ لقدموا نقلها على نقل مطلق الحجارة، وتقدم هذا الطواف بالحجارة خارج الحرم هو الذي سهل على عمرو ابن لحي إعلان الوثنية داخله وخارجه؛ إذ لو لم يأنس الناس قبله بمبادئ الوثنية؛ ما قبلوها منه لمّا دعاهم إليها؛ فبنو إسماعيل أول من ابتدع في العرب مبادئ الوثنية، ولكن على وجه ضعيف غير مشتهر ولا منتشر، وعمرو بن لحي أول من ابتدع فيهم صريح الوثنية على وجه قوي. وبصفة عامة هذا وجه الجمع عندي بين حديث المعصوم وخبر النقلة، وإطلاق القول بأن عمرو بن لحي أول من غير دين إسماعيل صحيح؛ نظراً لكونه الرئيس المطاع بالحرم، والحرم معقل الدين، وبأهله يقتدي سواهم؛ فظهور الوثنية منه هو الذي سهل تعميمها في سائر الأحياء والقبائل، وضمن لها الحياة والرسوخ؛ كما أن إسلام الحرم بعد فتح مكة هو الذي عمم هذا الدين بين العرب، وسهل عليهم مفارقة ما ألفوه في جاهليتهم؛ فلولا ابتداع عمرو بن لحي؛ لبقي الحرم سالماً من الوثنية، فلم يكن لظهور مباديها ببعض البوادي شأن، ولم ترسخ عروقها في الجهات التي ظهرت بها، ولم تقو على الانتشار منها إلى جهات أخر، ولم تتعاص على أي محارب لها؛ فكان المسؤول عن هذه الوثنية هم أهل الحرم، والمسؤول عنهم هو رئيسهم عمرو بن لحي؛ فكان هو

عقيدة العرب

أول من غير الحنيفية بإطلاق. • عقيدة العرب: ومشركو العرب كأغلب من قبلهم لم يكونوا يعتقدون في شركائهم أنهم يماثلون الله في صفاته أو يشاركونه في إيجاد مخلوقاته، وإنما كان شركهم شرك تقريب وتقليد؛ فقد أخبر عنهم القرآن أنهم يفردون الله بالقدرة على الخلق والإِيجاد، وبالملك للعالم علويه وسفليه، ونطقت أشعارهم بإحاطة علم الله بكل شيء، وحسابه الخلائق في الدار الأخرى، وما دلت عليه الآيات من إنكارهم للبعث لا يوجب أن يكون ذلك عقيدة لهم عامة؛ فقد يكون عقيدة لبعضهم، وقد يكون علالة للنفس وإجابة لهواها في الفرار من ضبط الإِسلام لأعمالها وفطمه لها عن كثير من شهواتها، ولم تزد عقيدتهم في أوليائهم وشركائهم عن تعليقهم الآمال عليهم في تحقيق مآربهم من الله، لما لهم عنده - في زعمهم- من المنزلة والجاه؛ كما ينظر الناس إلى من يتصلون به من حاشية أمير أو ملك في إسماعه مطالبهم. • عقيدتهم في أوليائهم: فأما عقيدتهم في أوليائهم الذين يسميهم القرآن بهذا الاسم، وبالشركاء وبالشفعاء وبالآلهة، فقد أعربت عنها آيتا يونس والزمر، وهما: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. • عقيدتهم في الله وصفاته: وأما عقيدتهم في ملك الله وقدرته، فقد أفصحت عنها آيات: منها في سورة المؤمنون: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *

الحاجة إلى رسالة عامة

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89]. ومنها في الزمر: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38]. ومنها في الزخرف: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]. وأما عقيدتهم في علم الله والبعث؛ فقال زهير في معلقته: فَلَا تَكْتُمُنَّ اللَّهَ مَا فِي نُفُوسِكُمْ … لِيَخْفَى وَمَهْمَا يُكْتَمِ اللَّهُ يَعْلَمِ يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ … لِيَوْمِ الْحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيَنْقُمِ و (الله) في الموضعين من البيت الأول منصوب، و (يكتم) وما بعده من الأفعال مبنية للنائب ما عدا (يعلم) و (ينقم) آخر البيتين، وتقدمت صيغة تلبيتهم المحددة لوثنيتهم. • الحاجة إلى رسالة عامة: ولم تزل وثنية العرب من زمن عمرو بن لحي تطغى وتشتد وتنتشر وتمتد وتمتص على رقتها أزهار الفضائل، وتقتص على ضعفها آثار الرذائل، حتى عم الفساد كل حي وناد، وقلبت الطباع جل ما للحياة من سنن وأوضاع، فكان احتياج تام إلى إصلاح عام، يشمل الفرد والمجتمع، وينزع بهما أكمل منزع، يرجع للعقول رشدها، وللقلوب طهرها، وللنفوس تقاها، ولا يقوى ذلك

رسالة خاتم النبيين

الإِصلاح على التغلب في ميدان الكفاح؛ إلا أن يصدر عن نفس تثبت للعوادي التي تتزلزل لها الرواسي، وتدفع عنها عدوى الأدناس ولو اختلطت بكل الناس، ثم يقوم على أصول مجلوة كتلك النفس ثباتاً وقوة، لا تبلي الأيام جدتها، ولا تنهي الطبيعة مدتها، بل تصبو إليها العقول في رقيها، ولا تنبو هي عن الأذهان في هويها. • رسالة خاتم النبيين: ولقد منَّ الرب الرحيم القادر الحليم بتلك النفس، فكانت نفس محمد الفذة في الطهارة والقدس، وبتلك الأصول المجلوة، فكانت آيات الكتاب المتلوة، هنالك نهض الإِصلاح نهضته، وأبلغ العالم دعوته؛ فسمع الأصم نبراته، وأبصر الأعمى آياته. ولم تزل سيرة ذلك الرسول هي السيرة الراقية، ولم تزل حجة ذلك الكتاب هي الحجة الباقية، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. • • • • •

العبادة والنسك

10 - العبادة والنسك • المبالغة في التعظيم: الذي أوقع الجهال في الشرك والضلال هو المبالغة في تعظيم بعض المخلوقات، حتى ألحقوه بالتعظيم الخاص برب الأرض والسماوات، ومن هنا نشأت عبادة غير الله، التي استحق أصحابها وصف الشرك، واستوجبوا بها سخط مالك الملك، فدعت الحاجة إلى بيان معنى العبادة؛ ليفرق بين ما هو منها شرعي وما هو منها شركي. • العبادة في اللغة: في " المصباح ": " عبدت الله أعبده عبادة، وهي: الانقياد والخضوع، والفاعل عابد، والجمع عباد وعبدة؛ مثل كافر وكفار وكفرة، ثم استعمل فيمن اتخذ إلهاً غير الله، وتقرب إليه، فقيل: عابد الوثن والشمس وغير ذلك ". وفي " الصحاح ": " تقول: عبد بين العبودة والعبودية، وأصل العبودية الخضوع والذل، والتعبيد التذليل؛ يقال: طريق معبد، والبعير المعبد المهنوء بالقطران المذلل ... والعبادة الطاعة، والتعبد التنسك ". وفي " مفردات الراغب ": " العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها،

الفرق بين العبادة والطاعة

لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإِفضال، وهو الله تعالى، ولهذا قال: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ... } [الإِسراء: 23]، ويقال: طريق معبد، أي: مذلل بالوطء، وبعير معبد: مذلل بالقطران، وعبدت فلاناً: إذا ذللته وإذا اتخذته عبداً، قال تعالى: {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22]. • الفرق بين العبادة والطاعة: وفي " فروق العسكري ": " الفرق بين العبادة والطاعة أن العبادة غاية الخضوع، ولا تستحق إلا بغاية الإِنعام، ولهذا لا يجوز أن يعبد غير الله تعالى، ولا تكون العبادة إلا مع المعرفة بالمعبود، والطاعة الفعل الواقع على حسب ما أراده المريد متى كان المريد أعلى رتبة ممَّن يفعل ذلك، وتكون للخالق والمخلوق، والعبادة لا تكون إلا للخالق، والطاعة في مجاز اللغة تكون اتباع المدعو الداعي إلى ما دعاه إليه، وإن لم يقصد التبع؛ كالإِنسان، يكون مطيعاً للشيطان وإن لم يقصد أن يطيعه، ولكنه اتبع دعاءه وإرادته " [ص:182]. ومجاز الطاعة الذي ذكره العسكري لا يختص بها، بل تستعمل فيه العبادة أيضاً، ففي الكتاب العزيز: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: 65]، {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 44]. وقال الأعشى: وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللهَ فَاعْبُدَا • تحرير القول في العبادة لغة وشرعاً: ودل كلام هؤلاء الأئمة أولًا أن العبادة كيفما عبر عنها وكيفما تصرفت في الاستعمال تحمل معنى الذل والسهولة، فالعبد المملوك ذليل بالرق، والطريق

المعبد سهل على المارة، وتفسير العبادة بالانقياد والخضوع لأنهما لازمان للذل والسهولة، وتفسيرها بالطاعة توسع. والعبارة المُعْرِبة عن العبادة هي ما يعبر عنه الجمع بين كلام " المصباح " أوله وآخره، وهو الانقياد والخضوع على وجه التقرب، وثانياً: أن سببها الذي تستحق به هو الإِنعام والإِفضال، وثالثاً: أن شرطها معرفة المعبود، ورابعاً: أن مستحقها هو الله وحده. والتعريف الذي استخلصناه من " المصباح " يتضمن ذلك كله؛ فإن الانقياد والخضوع إلى أحد يبعث عليهما الرغبة فيما يملك من نعمة، والتقرب إليه يستدعي معرفته، ثم من اعتقد انفراد الله بالنعم؛ تقرب إليه وحده بالعبادة، ومن جهل فظن غير الله منعماً بشيء، اعتقد استحقاقه أيضاً للعبادة، فوقع في الشرك، فكان هذا التعريف أصدق عبارة عن معنى العبادة. وترى الشيخ محمد عبده في " تفسير المنار " يتبرم من قصور عبارة المتقدمين عن تحديد معنى العبادة، ويطيل القول في تقرير ذلك القصور، ثم يجهد نفسه في استخراج معناها من تتبع آي القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب، فإذا هو لا يخرج عند التأمل عن التعريف الذي ذكرنا، ولكن ننقل من كلامه ما يصلح إيضاحاً وافياً لتعريفنا، ونرضى عن طوله لبلاغته وعظم فائدته. قال رحمه الله: " تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها، وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه؛ فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال: إنه عبده، وإن قبل موطئ أقدامه، ما دام سبب الذل والخضوع معروفاً، وهو الخوف من ظلمه المعهود، أو الرجاء

النسك

بكرمه المحدود، اللهم إلا بالنسبة للذين يعتقدون أن الملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى، واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا، لأنهم أطيب الناس عنصراً، وأكرمهم جوهراً، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإِلحاد، فاتخذوا الملوك آلهة وأرباباً، وعبدوهم عبادة حقيقية " (1/ 57). • النسك: وتقدم عن الجوهري قوله: " والتعبد التنسك "، فلنشرح هذه المادة أيضاً تمكيناً لمعنى العبادة في الذهن: تقول: نسك ينسك فهو ناسك وهم نساك؛ كعبد يعبد فهو عابد وهم عباد، وزناً ومعنى، والنّسُك- بضمتين- يكون مصدراً بمعنى التعبد والتطوع بالقربة، واسماً للقربة المتطوع بها، وجمع نسيكة، والمَنْسِك- بفتح السين وكسرها- يرد مصدراً وزماناً ومكاناً لذبح النسيكة؛ قال تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128]؛ يريد متعبَّداتنا، وغلبت المناسك في طاعات الحج؛ قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 255]، وغلب النسك على الذبيحة يجبر بها نقص في الحج، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 196]، والنسيكة كذبيحة وزناً ومعنى، وتكون بمعنى السبيكة من الفضة. قال في " القاموس ": " وكأميرٍ الذهبُ والفضةُ، وكسفينةٍ القطعةُ الغليظةُ منه ". وقوله: " منه ": صوابه: منها؛ أي: الفضة؛ كما نبه عليه ناقدوه. وفي " الصحاح ": " نسكت الشيء: غسلته بالماء وطهرته؛ فهو منسوك،

التأله

سمعته من بعض أهل العلم، وأنشد: وَلَا تُنْبِتُ الْمَرْعَى سِبَاخُ عُرَاعِرٍ … وَلَوْ نُسِكَتْ بِالْمَاءِ سِتَّةَ أَشْهُرِ ونبه القرطبي في " تفسيره " على ما بين العبادة والغسل والسبك من التناسب، فقال في المناسبة بين الأولين: " كأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة "، وقال في مناسبة العبادة للسبك: " كأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام وسبكها " (2/ 386). • التأله: ويقال بمعنى التعبد والتَّنسُّك التَّألُّه أيضاً، تقول: أله فلان- كفرح- إلاهة: إذا عبد عبادة، وهو يتأله: يتعبد ويتنسك. قال في " الصحاح ": " والآلهة الأصنام، سموها بذلك لاعتقادهم أن العبادة تحق لها، وأسماؤهم تتبع اعتقاداتهم، لا ما عليه الشيء في نفسه ". قلت: يا حبذا لو أن عامتنا اليوم تسمي الأشياء تسمية تصور بها عقيدتها فيها، إذن، لاسترحنا من عناء هذه الأبحاث، واستراحوا من كلفة التأويل، ولم يبق إلا تعريفهم بحكم الدين: فإما إيمان وتسليم، وإما كفر وتصميم. • معنى الإِله: وإذا كانت العبادة هي الانقياد والخضوع على وجه التقرب؛ فإن الإِله هو المعبود تلك العبادة، فمن قصرها على الله، فقد وحّده وعبد عبادة شرعية، ومن وجد هذا المعنى في نفسه لغير الله؛ فقد اتخذ ذلك الغير إلهاً، وكانت عبادته شركية، سواء سماه إلهاً أم لم يسمه إلهاً، وسواء عبر عن المعنى الذي في نفسه بالعبادة أم عبر عنه بعبارة أخرى، فإن تسمية الشيء بغير اسمه لا يبطل حقيقته،

صور العبادة عند العرب

ولا يغير حكمه، وهل ينتفي الإِسكار أو الحرمة عن الخمر إذا سميتها ماء مطلقاً؟! • صور العبادة عند العرب: وإذا تصورنا معنى العبادة، فلنتعرف بعض صورها المعهودة عند العرب ... ذلك أن عبادتهم لأصنامهم كانت بالمبالغة في تعظيمها، والبناء عليها، والطواف حولها، والتمسح بها، واتخاذ ما يذكر بها في منازلهم؛ فلا يسافر مسافرهم حتى يكون آخر ما يصنع في منزله التمسح بصنمه، ولا يقدم قادمهم حتى يكون أول ما يصنع إذا دخل بيته التمسح به أيضاً. ومن صور عبادتهم لها زيارتها، والنذر لها، وجعل نصيب لها في حروثهم وأنعامهم، والذبح عندها، ثم قسم ما ذبح على الحاضرين، واستشارتها فيما ينوون إحداثه، ويعتقدون أنهم يكلمون منها، ووضع الأقداح عندها للاستقسام بها، وذلك من استشارتها؛ فإذا عزموا على عمل أو سفر، أو وقعت بينهم خصومة، كانت الحكومة للأصنام بواسطة الأقداح، فإذا استقسموا بها؛ عملوا على ما خرج منها، وانتهوا إليه. ومن ضروب عبادتهم لها الحلف بها: قال أوس بن حجر: وَبِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنْ دَانَ دِينَهَا … وَبِاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ مِنْهُنَّ أَكْبَرُ وقد حكى الله عنهم نذرهم في حروثهم وأنعامهم، فقال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا

الفرع

يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]. قال البغوي: " كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيباً، وللأوثان نصيباً؛ فما جعلوه لله، صرفوه إلى الضيفان والمساكين، وما جعلوه للأصنام، أنفقوه على الأصنام وخدمها؛ فإن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان، تركوه، وقالوا: إن الله غني عن هذا، وإن سقط شيء من نصيب الأصنام فيما جعلوه لله؛ ردوه إلى الأوثان، وقالوا: إنها محتاجة، وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه لله، لم يبالوا به، وإذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوا للأصنام، جبروه بما جعلوا لله ". • الفرع: ومن نسائكهم التي كانوا ينسكونها الفرع والعتيرة: أما الفرع، فهو بفتحتين، والفرعة مثله، وهو أول نتاج من الإِبل والغنم؛ يقال: أفرع القوم: إذا ذبحوا الفرع، يتقربون بهذا الفرع لآلهتهم، يطلبون البركة [به] في مواشيهم؛ كما نقله الحافظ في " الفتح " عن الشافعي (9/ 491)، ويرون في جلده من البركة نحو ما يراه عوامنا اليوم في جلد الأضحية، كما يؤخذ من أشعارهم. • العتيرة: وأما العتيرة، ففعيلة من العتر، تقول: عتر يعتر عتراً؛ وزان ضرب يضرب ضرباً: إذا ذبح العتيرة، وتسمى الرجبية أيضاً، لذبحها في رجب؛ يقولون: هذه أيام ترجيب وتعتار، وهي العشر الأول من رجب كما في " الفتح "، ينذر أحدهم لصنمه هذه العتيرة، فيقول: إن بلغ الله غنمي مئة؛ ذبحت منها واحدة- كما في " الزوزني على المعلقات " -، وإن رزقني الله مئة شاة، ذبحت عن كل عشر

شاة في رجب- كما في " شرح المعلقات " للتبريزي-، وربما ضن الناذر بالشاة المنذورة، فيصطاد مكانها ظبياً. قال الحارث بن حلزة في " معلقته ": عَنَنًا بَاطِلًا وَظُلْمًا كَمَا تَعْـ … ـتَرُّ عَنْ حُجْرَةِ الرَّبِيضِ الظِّبَاءُ و (العنن)؛ بنونين: الاعتراض من عن يعن، و (الحجرة): الناحية، وهي هنا موضع الغنم، و (الربيض): جماعة الغنم ومكانها، يقال فيه: ربض، والمعنى: إنكم تطالبوننا بذنوب غيرنا كما ذبح أولئك الظباء عن الشياه. وكان من أصنامهم نهم- بضم فسكون- يسدنه رجل يسمى خزاعي بن عبد نهم من مزينة، فلما سمع بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثار إلى الصنم، فكسره، وأنشأ يقول: ذَهَبْتُ إِلَى نُهْمٍ لِأَذْبَحَ عِنْدَهُ … عَتِيرَةَ نُسْكٍ كَالَّذِي كُنْتُ أَفْعَلُ فَقُلْتُ لِنَفْسِي حِينَ رَاجَعْتُ عَقْلَهَا … أَهَذَا إِلَهٌ أَبْكَمٌ لَيْسَ يَعْقِلُ أَبَيْتُ فَدِينِي الْيَوْمَ دِينُ مُحَمَّدٍ … إِلَهُ السَّمَاءِ الْماجِدُ الْمُتَفَضِّلُ وقال أحد الكلبيين وقد مر بصنم يدعى سعيراً بالتصغير: نَفَرَتْ قَلُوصِي مِنْ عَتَائِرَ صُرِّعَتْ … حَوْلَ السُّعَيْرِ تَزُورُهُ ابْنَا يَقْدُمِ وجُمُوعُ يُذْكَرُ مُهْطِعِينَ جَنَابَهُ … مَا إِنْ يَحِيرُ إِلَيْهِمُ بِتَكَلُّمِ هذه ضروب من عبادة العرب لأصنامهم؛ تجد شواهدها وتفاصيلها في " كتاب الأصنام " لابن الكلبي، و " سيرة ابن هشام "، و " أخبار مكة " للأزرقي، وقد أفاض ابن النديم في " الفهرست " القول في عبادة الكلدانيين، فاستغرقت أكثر من عشر صفحات (442 - 456).

الغرض من العبادة

• الغرض من العبادة: وكان غرض المشركين من هذه العبادة التوقي من المكروه، والترجي للمحبوب؛ باتخاذ الأصنام وسائط بينهم وبين الله؛ لاعتقادهم أنهم أقل من أن يرحمهم الله بدون توسطها، فاشتد لذلك خوفهم من الأصنام، وتعلقت قلوبهم بها في الاستشفاء، والاستسقاء، واستدرار الأموال، واستيهاب الذرية، وتعرف العواقب للإِقدام أو الإِحجام على إنشاء سفر أو عقد نكاح أو غيرهما. ومن العرب من أنكر عبادة الأصنام قبل الإِسلام؛ منهم زيد بن عمرو بن نفيل؛ قال: تَرَكْتُ اللّاتَ وَالْعُزَّى جَمِيعًا … كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْجَلِدُ الصَّبُورُ فَلَا الْعُزَّى أَدِينُ وَلَا ابْنَتَيْهَا … وَلَا صَنَمَيْ بَنِي غُنْمٍ أَزُورُ وَلَا هُبَلاً أَزُورُ وَكَانَ رَبًّا … لَنَا فِي الدَّهْرِ إِذْ حُلُمِي صَغِيرُ • تشديد القرآن في نكران عبادة الأوثان: ولكن لم يقتد بهؤلاء العقلاء القليلين غيرهم، فلم يثمر إنكارهم ثمرة في المجتمع، حتى جاء الإِسلام بقوته الروحية ومبادئه الراسية، فأعلن القرآن أن التقرب لغير الله لنيل غرض من أغراض الحياة على غير الوجه المعتاد شرك بالله؛ يبعد من رحمته، ويستنزل شديد نقمته، وكشف عن هذا الضلال بضرب كثير من الأمثال: ففي سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]. وفي الحج: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].

اتخاذ الوسائط

وفي العنكبوت: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]،. وفي النحل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 75 - 76]. وفي الزمر: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29]. • اتخاذ الوسائط: ونفى تعالى اتخاذ الوسائط في قبول التوبة والجزاء على الأعمال، فقال: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135]، {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52]، {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء: 112]، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25 - 26]. قال القرطبي في " تفسيره ": " ليس لأحد أن يقبل توبة من أسرف على نفسه، ولا أن يعفو عنه. قال علماؤنا: وقد كفرت اليهود والنصارى بهذا الأصل العظيم في الدين، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وجعلوا لمن أذنب أن يأتي الحبر أو الراهب فيعطيه شيئاً، ويحط عنه ذنوبه؛ افتراء على الله، قد ضلوا وما كانوا مهتدين " (1/ 326).

الخوف من المخلوق

• الخوف من المخلوق: ونفى الخوف من المخلوق بلا سبب عادي، فقال عن إبراهيم: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 80 - 181]. وحكى ما دار بين هود وقومه بقوله: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 54 - 55]. وخاطب خاتم النبيين بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36]. وضرب مثلًا لهذا الخوف، فقال: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28]. وقد عقد القرافي في " فروقه " الفرق الخامس والستين والمئتين للفرق بين خوف المخلوق المحظور وغير المحظور، وأبدى وجهاً نفيساً للتشبيه في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]. • نسبة النفع والضر لغير الله: وأنكر نسبة النفع والضر لسوى الله، فقال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]،

إفراد الله بالتصرف والغيب

{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر: 38]، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإِسراء: 56 - 57]. • إفراد الله بالتصرف والغيب: وقال في الاستشفاء عن الخليل: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]. وقال في الاستمطار: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2]. وقال في الاستحفاظ من الآفات: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: 42]. وقال في استمناح الذرية: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 49 - 50]. وقال في استطلاع الغيب: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179]. • تحيل الشيطان لإِحياء ما أماته القرآن: وكل أنواع ضلال المشركين قد تعددت فيها آيات القرآن، وتنوعت لها أساليبه، فكشفتها كل الكشف، ووصفت أدواءها غاية الوصف، وأبانت وجه الحق فيها أبلغ إبانة، وأعانت على سلوك الكمال لمن وُفِّق إليه أنفع إعانة، فولى

الشرك إذ ذاك الأدبار، واختفى أيام ظهور القرآن عن الأبصار، فأصبح اسمه من أنصاره بالأمس مهجوراً، ولم يبق في مظاهره بالاحترام مذكوراً. فلما اختفت عنا معاني القرآن؛ خلع عليه الشيطان ما شاء من ألوان، وقدمه لنا بعناوين أخر، غرت من لم يكن تحت راية القرآن والأثر، فقبلوا آثاره دون اسمه، ولم يهتم إبليس للنفار من اسمه بعد حياة رسمه، وتمثل الشرك لهذه الحال بقول من قال: تِلْكَ آثَارُنَا تَدُلُّ عَلَيْنَا … فَانْظُرُوا بَعْدَنَا إِلَى الْآثَارِ • • • • •

التبرك وسد الذرائع

11 - التبرك وسد الذرائع • انبناء الحياة على الأسباب: إن الباحث في أسرار الحياة وما يحدث في هذا العالم من أحداث يجد لكل شيء سبباً، وينتهي إلى الشعور بقوة غيبية تعلو عن الأسباب وتستغني عنها، ونفتقر نحن إليها في تيسير الأسباب لتسيير الأعمال، ومن أظهر مقومات الإِيمان توحيد تلك القوة الغيبية وتخصيصها بالله. وفي الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]. • الخوارق والمخاريق: ثم إن من الأعمال ما تكون له أسباب خفية لا يدركها قاصر النظر، فيرى أن أصحابها ارتفعوا عن الحاجة إلى الأسباب العادية، وأصبحوا ذوي مكانة غيبية وأولي منزلة خصوصية، ومن الناس من تظهر على أيديهم وفي أحوالهم آيات يعبر عنها المتكلمون بالمعجزات في حق الأنبياء، وبالكرامات في حق الأولياء، فيكون هؤلاء الأنبياء والأولياء مظهراً من مظاهر قدرة الله تعالى، يدعو المتبصر إلى احترامهم والائتساء بهم.

الاعتقاد في أصحاب الخوارق والمخاريق

• الاعتقاد في أصحاب الخوارق والمخاريق: ولضعاف الإِيمان وقليلي المعرفة وبسطاء العقول أمام الفريقين- أهل الآيات الغيبية وأصحاب الأسباب الخفية- موقفان: أحدهما: اعتقاد أن ذواتهم مصدر لتلك الخوارق الحقيقية أو الوهمية؛ فلا يضيفونها إلى الله. وثانيهما: اعتقاد أن لهم نفوذاً في إرادة الله وتحكماً في قدرته يستوجبان التوسط بهم إليه في تحصيل ما قصرت عنه الأسباب. ومن اعتقد أحد هذين الاعتقادين؛ فقد اعتقد عقيدة الكلدان في الكواكب، أو عقيدة العرب في الأصنام، فكان مشركاً صرفاً، وإن أشبه الموحدين في شيء من أقوالهم وأفعالهم الدينية. • التبرك: وهنالك موقف ثالث مع ذينك الفريقين، وهو التبرك بآثارهم وأماكنهم، وما يضاف إليهم في حياتهم من نحو ثيابهم وحيواناتهم، أو ينسب إليهم بعد مماتهم من مثل تماثيلهم وأبنية قبابهم. وليس هذا التبرك نفسه شركاً، ولكنه قد يكون ذريعة إليه، كما وقع لقوم نوح في التبرك بصالحيهم، وللعرب في التبرك بحجارة حرمهم، وتشابه الباعث على الوثنية في أمتين بينهما آلاف السنين، مما يبعث على الحذر من هذا التبرك، ويقوي الظن في اقتضائه للشرك. • معنى التبرك: ونحن نشرح مادة التبرك، ثم نقفي عليه بما جاء فيه إثباتاً ونفياً، ونعقبه بوجه الجمع بين الروايات.

ما جاء في التبرك

قال في " الصحاح ": " البركة: النماء والزيادة، والتبريك: الدعاء بالبركة، وطعام بريك: كأنه مبارك، ويقال: بارك الله لك وفيك وعليك وباركك، وقال تعالى: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [النمل: 8]، و {تَبَارَكَ اللَّهُ} [الأعراف: 54]؛ أي: بارك؛ مثل قاتل وتقاتل، إلا أن (فاعَلَ) يتعدى و (تَفاعَلَ) لا يتعدى، وتبركت به، أي: تيمنت به ". وقال الراغب: " البركة ثبوت الخير الإِلهي في الشيء، قال تعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]، وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، والمبارك ما فيه ذلك الخير ... ولما كان الخير الإِلهي يصدر من حيث لا يحس، وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر؛ قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك، وفيه بركة ". • ما جاء في التبرك: 1 - وفي كتاب الصلاة من " صحيح البخاري " (¬40) باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم أسند إلى موسى بن عقبة، أنه قال: " رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق، فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في تلك الأمكنة ". ففي فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وابنه إثبات للتبرك بآثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 2 - وفي " موطأ مالك " و " سنن النسائي " عن محمد بن عمران الأنصاري عن أبيه؛ أنه قال: " عدل إليَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأنا نازل تحت ¬

_ (¬40) أخرجه البخاري في " صحيحه " في الكتاب والباب المذكورين من المؤلف رحمه الله تعالى (1/ 567، برقم: 483).

سرحة بطريق مكة، فقال: ما أنزلك تحت هذه السرحة؛ فقلت: أردت ظلها. فقال: هل غير ذلك؛ فقلت: لا؛ ما أنزلني إلا ذلك. فقال عبد الله بن عمر: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا كُنْتَ بَيْنَ الأَخْشَبَيْنِ مِنْ مِنًى (وَنَفَخَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ)؛ فَإِنَّ هُنَالِكَ وَادِيًا، يُقَالُ لَهُ: السُّرَرُ، بِهِ شَجَرَةٌ سُرَّ تَحْتَهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا» " (¬41). و (السرحة) كتمرة: شجرة طويلة ذات أغصان، و (الأخاشب): جبال مكة ومنى، و (الأخشبان) هنا: ما تحت العقبة بمنى وفوق مسجدها، و (نفخ): أشار، و (السرر) بضم السين وكسرها، و (سر) بالبناء للنائب: يحتمل أن يكون من السرة؛ أي: قطعت سرتهم هنالك، وقال مالك وابن حبيب: هو من السرور؛ أي: بشروا عندها بالنبوة. ودل الحديث على التبرك بمواضع النبيين، كما قاله الزرقاني في " شرحه " (2/ 285). 3 - وفي " الصحيحين " عن ابن عمر رضي الله عنهما: " كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزور قباء راكباً وماشياً، فيصلي فيه ركعتين " (¬42). ¬

_ (¬41) ضعيف منكر: أخرجه مالك في " الموطأ " (2/ 399، برقم: 978 - بشرح الزرقاني)، وعنه النسائي في " سننه " (5/ 248 - 249 - بشرح السيوطي) عن محمد بن عمران الأنصاري عن أبيه به. وهذا سند ضعيف لجهالة محمد وأبيه عمران. قال الذهبي في ترجمة محمد من " الميزان " (3/ 672): " لا يُدرى من هو ولا أبوه! "، وقال الحافظ في " التقريب " (2/ 197): " مجهول "، وقال في عمران (2/ 85): " مقبول " يعني عند المتابعة، وإلّا؛ فليّن الحديث، كما نصّ عليه في المقدمة، وقال الذهبي فيه (3/ 245): " لا يُدرى مَنْ هو! تفرد عنه ابنه محمد، وحديثه في " الموطأ "، وهو منكر ". وانظر: " ضعيف سنن النسائي " (196) للألباني. (¬42) أخرجه البخاري (3/ 68 و69/ 1191 و1193 و1194)، ومسلم (2/ 1016 و1017/ 1399).

وفيه إثبات للتبرك أيضاً. 4 - وفي " الموطأ " وكتاب الحج من " صحيح البخاري " عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال للحجر الأسود: " أما والله؛ إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استلمك؛ ما استلمتك " (¬43). هذا لفظ البخاري، وفيه نفي للتبرك. قال الباجي في " المنتقى " ما خلاصته: " بيّن عمر للناس أن تقبيل ذلك الحجر إنما هو اقتداء بالرسول، وليس تعظيماً لذات الحجر أو لمعنى فيه حتى يكون من تعظيم الجاهلية أوثانها؛ لاعتقاد النفع والضر فيها " (2/ 287). 5 - وفي رسالة " البدع والنهي عنها ": أن مؤلفها- ابن وضاح قال: سمعت عيسى بن يونس مفتي أهل طرسوس يقول: " أمر عمر بن الخطاب بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقطعها، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم من الفتنة " (¬44). ¬

_ (¬43) أخرجه البخاري (3/ 471/ 1605)؛ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن ... فذكره، وزاد في آخره: [فاستلمه، ثم قال: ما لنا وللرّمل؛ إنما كُنَّا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله. ثم قال: شيءٌ صنعه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا نحبّ أن نتركه]. وفي لفظ له (1598 و1610): " ... قَبَّلَكَ ما قَبَّلْتُكَ " أخرجه مسلم (1270)، ومالك (835) أيضاً. (¬44) ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (2/ 269) عن معاذ بن معاذ، وابن وضاح في " البدع والنهي عنها " [ص:42 - 43] عن عيسى بن يونس- مفتي أهل طرسوس-، كلاهما عن ابن عون عن نافع؛ قال: بلغ عمر بن الخطاب ... فذكره. وهذا سند رجاله ثقات مقبولون؛ إلّآ أن فيه انقطاعاً بين نافع وعمر.

الجمع بين ما جاء في التبرك

قال عيسى بن يونس: " وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع " [ص:42]. 6 - وقال الحافظ في " الفتح ": " ثبت عن عمر أنه رأى الناس في سفر يتبادرون إلى مكان، فسأل عن ذلك؛ فقالوا: قد صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال: من عرضت له الصلاة؛ فليصل، وإلا، فليمض، فإنما هلك أهل الكتاب لأنهم تتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً " (¬45) (1/ 450). ورواه ابن وضاح في " رسالته " بنحوه، وبين في روايته أن ذهاب الناس إلى مصلاه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان للصلاة فيه، ثم نقل عن مالك وغيره من علماء المدينة كراهية إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما عدا قباء وحده، ونقل عن سفيان الثوري ووكيع وغيرهما ممن يقتدى به عدم تتبع الآثار والصلاة فيها، ثم قال: " فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين، فقد قال بعض من مضى: كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند بعض من مضى، ومتحبب إليه بما يبغضه عليه، ومتقرب إليه بما يبعده منه، وكل بدعة عليها زينة وبهجة " [ص:43]. • الجمع بين ما جاء في التبرك: فأنت ترى من هذا إثبات بعض الأخبار للتبرك ونفي بعضها له، حتى إن ¬

_ (¬45) صحيح: رواه بنحوه ابن أبي شيبة في " المصنف " (2/ 270)، وابن وضاح في " البدع والنهي عنها " [ص:41 - 42]، وسعيد بن منصور في " سننه " - كما في " الاقتضاء " [ص:386] لابن تيمية- من طريق الأعمش عن المعرور بن سويد الأسدي رحمه الله تعالى عن عمر رضي الله عنه. ورجال ابن أبي شيبة ثقات رجال الستة، وقد صححه شيخ الإِسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (1/ 281)، وقواه الحافظ في " الفتح " (1/ 569) كما ذكره المؤلف، وصححه أيضاً الألباني في " تحذير الساجد " [ص:137]، والله أعلم.

الاحتياط

عمر وابنه لم يتواردا على التبرك بآثاره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنزلتهما عظيمة في العلم والدين ومحبة أكرم المرسلين. ثم التبرك حيث أثبت في روايات الإِثبات؛ فإنما المقصود منه طلب الزيادة في ثواب الطاعة. قال الباجي في " المنتقى " موجهاً إعلامه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمته بقصة وادي السرر: " وإنما أعلم بذلك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يظهر إلي والله أعلم لفضل الذكر عندها لمن مر بها، ورجاء إجابة الدعاء، وتنزل الرحمة عندها " (3/ 81). والتبرك على هذا الوجه عندي معقول لأن ذكرى الأنبياء والصالحين ورؤية آثارهم مما يزيد الموحدين خشوعاً وتعريفاً بتقصيرهم في طاعة خالقهم، فتخلص بذلك عبوديتهم لله تعالى، وحينئذ تكون الإِثابة على عبادتهم أسمى، وقبول دعائهم أرجى، وطمعهم في تنزل الرحمة أقوى، وروايات نفي التبرك غير معارضة لروايات إثباته بهذا المعنى، لأن النافين إنما يقصدون الاحتياط على عقائد العامة أن تزيغ كما سبق في توجيه مخاطبة عمر للحجر الأسود، وأنه قطع الشجرة خوف الفتنة، وأنه حذرهم أن يهلكوا بتتبع الآثار هلاك أهل الكتاب. • الاحتياط: والاحتياط من الضلال مشروع؛ ففي " الموطأ " و " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ». قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلَا تَرُدَّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ؛ لَفَعَلْتُ» (¬46). ¬

_ (¬46) أخرجه البخاري (3/ 439/ 1583) عن عبد الله بن مسلمة، ومسلم (2/ 969 / 1333 - 1399) عن يحى بن يحى، كلاهما عن مالك، وهذا في " الموطأ " (2/ 297 - 300/ 824) من حديث عائشة رضي الله عنها.

شروط التبرك

• شروط التبرك: والذي تفيده النقول السابقة في مجموعها إثباتاً ونفياً وتوجيهاً: أن التبرك مشروع، ولكنه مقيد بقيود: أحدها: أن يكون التبرك بفعل طاعة مشروعة؛ كصلاة، ودعاء، ورجاء القبول، وزيادة الأجر، لا بِحَمْلِ تراب أو بخور وغيرهما من أجزاء المكان المتبرك به، أو الأشياء الموضوعة فيه. نعم؛ ثبت عن الصحابة أنهم تبركوا بالتمسح بفضل وضوئه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتدلك بنخامته (¬47)، بل إن منهم من شرب دم (¬48) حجامته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن لم يرد أنهم فعلوا ¬

_ (¬47) أخرجه البخاري في " صحيحه " (5/ 329 - 333/ 2731 و2732) من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم مطولاً، وفيه قول عروة بن مسعود الثقفي: " فوالله، ما تنخّم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نخامةً إلّا وقعت في كَفِّ رجل منهم؛ فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ... ". وعن أبي جُحيفة؛ قال: " خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهاجرة، فأتي بوضوء فتوضأ؛ فجعل الناسُ يأخذون من فضل وضوئه فيتمسّحون به ... " الحديث. أخرجه البخاري (1/ 294/ 187) أيضاً. (¬48) ورد ذلك في أحاديث، منها: 1 - حديث عبد الله بن الزبير، قال: احتجم النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأعطاني الدم، فقال: " اذهب فغيّبه ". فذهبت فشربته، فأتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال: " ما صنعتَ؛ ". قلتُ: غيبته! قال: " لعلَّك شربته؟ ". قلتُ: شربته. فقال: " من أمرك أن تشرب الدم؟ ويلٌ لك من الناس! وويلٌ للناس منك ". أخرجه البزار (3/ 145/ 2436)، والطبراني، والحاكم (3/ 554)، وأبو نعيم (1/ 329 - 330) وغيرهم من طريق هنيد بن القاسم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عنه. قلتُ: وهُنيد بن القاسم ترجمه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (9/ 121)؛ فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلًا، سوى رواية موسى بن إسماعيل عنه، وكذا قال ابن حبان، ومع ذلك أورده في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = كتابه " الثقات " (5/ 515)! والحديث سكت عليه الحاكم والذهبي! وقال الحافظ الهيثمي في " المجمع " (8/ 270): " رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار رجال الصحيح غير هنيد بن القاسم وهو ثقة! ". وقال تلميذه الحافظ ابن حجر في " التلخيص " (1/ 30): " وفي إسناده الهنيد بن القاسم ولا بأس به، لكنه ليس بالمشهور بالعلم ". ثم ذكر رحمه الله تعالى أن للحديث شاهدين: أحدهما: عند الطبراني والدارقطني من حديث أسماء بنت أبي بكر نحوه، وفيه علي بن مجاهد وهو ضعيف. والأخر: عند الطبراني وأبي نعيم (1/ 330) عن سلمان. وانظر: " الإِصابة " (2/ 302) له أيضاً. والحديث حسنه الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في " الخصائص الكبرى " (2/ 252)! والعلم عند الله جلَّ وعلا. 2 - حديث سفينة مولى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: احتجم، فقال: " خُذْ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير والناس "، فتغيبت فشربته، ثم ذكرت ذلك له فضحك. أخرجه البزار (3/ 144 - 145/ 2435)، والطبراني (7/ 94 - 95/ 6434)، وابن حبان في " المجروحين " (1/ 111) - وزاد في " التلخيص " نسبته إلى ابن أبي خيثمة والبيهقي في " الشعب " و " السنن " -، كلّهم من طريق بُريه (واسمه إبراهيم) بن عمر بن سفينة مولى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أبيه عن جده به. وهذا سند ضعيف؛ إبراهيم ضعفه النسائي والدارقطني، وقال العقيلي: " لا يتابع على حديثه "، وقال ابن حبان: " يخالف الثقات في الروايات، ويروي عن أبيه ما لا يتابع عليه من رواية الأثبات، فلا يحل الاحتجاج بخبره بحال "، وقال ابن عدي: " أحاديثه لا يتابعه عليها الثقات، وأرجو أنه لا باس به "، وأبو عمر، قال الذهبي: " لا يُعرف "، وقال أبو زرعة: " صدوق "، وقال البخاري: " إسناده مجهول ". فلا تغتر بقول الهيثمي: " رجال الطبراني ثقات "، فإنه من تساهله رحمه الله، والله ولي =

نحو ذلك مع غيره شيئاً من خلفائه الراشدين وأهل بيته الطاهرين، فيكون هذا الضرب من التبرك مقصوراً على ذاته الشريفة، منقطعاً بموته، وقد بسط الحديث في ذلك صاحب " الاعتصام " (2/ 6 - 9). ثانيها: أن لا يحمل المتبرك غيره على التبرك، ولا أن يدعوه إليه؛ فلا ينصب شيء للعموم يتبركون به. ثالثها: أن يتفق له المرور بمكان التبرك، لا أن يقصد إليه من بعيد ويقتحم السفر من أجله. رابعها: أن يكون من المعرفة بدينه بحيث لا تضله خطرات النفس، ولا نزغات الشيطان، لا أن يكون ضعيف الإِيمان قليل المعرفة. ولقلة اطلاعي؛ لم أر من أفصح عن هذه الشروط، ولكنها مقتضى العلم ووحي النصيحة، وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه رضوان الله عليهم يحتاطون على ¬

_ = التوفيق. 3 - حديث ابن عباس، قال: حجم النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلَامٌ لبعض قريش، فلما فرغ من حجامته، أخذ الدم فذهب به من وراء الحائط، فنظر يميناً وشمالاً، فلمّا لَمْ ير أحداً تحسَّى دمه حتى فرغ، ثم أقبل، فنظر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في وجهه، فقال: " ويحك! ما صنعت بالدم؛ ". قلتُ: غيبته وراء الحائط! قال: " أين غيّبته؛ ". قلت: يا رسول الله! نفست على دمك أن أهريقه في الأرض فهو في بطني! قال: " اذهب، فقد أحرزت نفسك من النار ". أخرجه ابن حبان في " الضعفاء " من حديث نافع أبي هرمز عن عطاء عنه؛ كما في " تلخيص ابن حجر "، وقال الحافظ: " ونافع قال ابن حبان: روى عن عطاء نسخة موضوعة، وذكر منها هذا الحديث، وقال يحى بن معين: كذاب ". 4 - حديث سالم أبي هند الحجّام، قال: حجمتُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما فرغتُ شربته، فقلتُ: يا رسول الله! شربته! فقال: " ويحك يا سالم! أما علمتَ أن الدم حرام؛ لا تعد ". رواه أبو نعيم في " معرفة الصحابة ". قال الحافظ في " التلخيص ": " وفي إسناده أبو الحجاف وفيه مقال ".

سد الذرائع

الاعتقاد أي احتياط، حتى لا يزل أو يكدر بالاختلاط. • سد الذرائع: ومن الاحتياط القول بسد الذرائع، وهو مذهب مالك وأصحابه، ومروي عن أحمد بن حنبل، وبهذا الأصل منع المالكية صوراً من بيع العينة وبيوع الآجال. • معنى الذريعة لغة وشرعاً: وضبط ذلك خليل في " مختصره " بقوله: " ومنع للتهمة ما كثر قصده ". قال في " الصحاح ": " و (الذريعة): الوسيلة، وقد تذرع فلان بذريعة؛ أي: توسل، والجمع الذرائع ". وفرق أبو هلال العسكري في " فروقه " بين الذريعة والوسيلة، فقال: " الوسيلة عند أهل اللغة هي القربة، والذريعة إلى الشيء هي الطريقة إليه، وليست الوسيلة هي الطريقة نفسها " [ص:248]. ومعناها في الشرع ما قاله القرطبي في " تفسيره ": " الذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع " (2/ 58). وبنحو هذا عرف الفقهاء بيوع الآجال. ويشهد لسد الذرائع من الكتاب والسنة نصوص وظواهر نقتصر منها على مايلي: • أدلة سد الذرائع: 1 - قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].

فنهى عن سب الآلهة الباطلة حتى لا يسب الإِله الحق. 2 - وقال أيضاً: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163]. وذلك أن الله حرم عليهم الصيد يوم السبت، فأمنتهم الحيتان، وصارت تظهر لهم ذلك اليوم، فسدوا عليها فيه تذرعاً بالسد للصيد يوم الأحد، فعاقبهم الله على ذلك، وحكاه على معنى التحذير. 3 - وفي " الصحيحين " عن عائشة؛ أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهن ذَكَرَتَا لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير، فقال: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، فَمَاتَ؛ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ» (¬49). 4 - وفيهما عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ؛ فَقْد اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَعَ فِي الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ... » الحديث (¬50). ¬

_ (¬49) أخرجه البخاري في (كتاب الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، 1/ 523 - 524/ 427)، ومسلم في (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، 1/ 375 - 376/ 528)، وزادا في آخره: " يوم القيامة ". (¬50) وتمامه: " أَلا وإِنَّ لكلّ مَلِكٍ حِمىً، أَلَا وإِنَّ حمى اللهِ محارمُه، ألا وإنَّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه؛ ألا وهي القلب ". أخرجه البخاري في (كتاب الإِيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ 52)، ومسلم في (كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات) (3/ 1219 - 1220/ 1599).

5 - وفيهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مِنَ الْكَبَائِر شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيهِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؛ قَالَ: «نَعَمْ؛ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» (¬51). فجعل التعرض لسب الآباء كسبهم. ولقد أصاب من قال: إِنَّ السَّلَامَةَ مِنْ سَلْمَى وَجَارَتِهَا … أَنْ لَا تَحِلَّ عَلَى حَالٍ بِوَادِيهَا • • • • • ¬

_ (¬51) أخرجه البخاري في (كتاب الأدب، باب لا يسبّ الرجل والديه، 10/ 403/ 5973)، ومسلم في (كتاب الإِيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها) (1/ 92/ 90).

آثار الشرك في المسلمين

12 - آثار الشرك في المسلمين • آثار فقد العلم النافع في الأمم: إن الأمّة متى فقدت العالم البصير، والدليل الناصح، والمرشد المهتدي، تراكمت على عقولها سحائب الجهالات، وران على بصائرها قبائح العادات، وسهل عليها الإِيمان بالخيالات؛ فانقادت لعالم طماع، وجاهل خداع، ومرشد دجال، ودليل محتال، وازدادت بهم حيرتها، واختلت سيرتها، والتبست عليها الطرائق، وانعكست لديها الحقائق؛ فتتهم العقل، وتقبل المحال، وتشرد من الصواب، وتأنس بالسراب ... هذا يتقدم إليها بما له [مِنْ] أسباب خفية؛ فتراه تصرفاً في الكون، وذلك يلقي إليها بأقوال مجملة ينزلها كل سامع على ما في نفسه، فتراه من علم الغيب، وتقول: " سيدي فلان جاء بالخبر "، ثم نجد من تسميه عالماً يثبت قدمها في هذا الخبال، ويزعم لها أن الحقيقة في هذا الخيال ... وفي مثل هذه الحالة جاء حديث " الصحيحين " عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا ; اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَّلُوا

موازنة بين الجاهلية الغابرة والجاهلية الحاضرة

وَأَضَلُّوا» (¬52). • موازنة بين الجاهلية الغابرة والجاهلية الحاضرة: ولقد سادت هذه الحالة العالم الإِسلامي، فانتهوا إلى جاهلية كجاهلية العرب في الدين لا في اللسان والبيان، فقد ارتقى العرب أيام جاهليتهم في معرفة معاني الكلام والإِبانة عما في أنفسهم بالألفاظ المؤدية لأصل المعنى، ولكن المسلمين شمل انحطاطهم هذه الناحية أيضاً؛ فلم يكونوا مثل أولئك العرب في فصاحة اللسان ووضع الأسماء على مسمياتها؛ فتراهم يعتقدون في الغوث والقطب وصاحب الكشف والتصريف معنى الألوهية، ولكن لا يسمونهم آلهة!! ويخضعون لأوليائهم ويخشونهم كخشية الله أو أشد، ولا يسمون ذلك عبادة!! • محاولة التفرقة بين الجاهليتين في الدين: ويفرقون بينهم وبين من سماهم القرآن مشركين؛ بأنهم لم يعبدوا غير الله، ولم يتخذوا معه إلهاً آخر كأولئك المشركين، وربما مازوا أنفسهم من الجاهلية الأولى بأن وصفهم بالشرك جاء من قبل اعتقادهم في الجماد وغير الصالحين من العباد، أو أن أحداً غير الله يماثله في الخلق والإِيجاد، ويقولون: نحن إنما نعتقد في الصالحين الأخيار أن الله جعل لهم النفع والضر في هذه الدار وتلك الدار، فهم يعطون أو يمنعون، وبأيديهم مفاتح مخيبه، وتحت قبضتهم خزائن فضله؛ ينزلون الأمطار متى شاؤوا، ويعافون من أحبوا، ويبتلون ¬

_ (¬52) أخرجه البخاري في (كتاب العِلْم، باب كيف يقبض العِلْم، 1/ 194/ 100)، ومسلم في (كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، 4/ 2058 / 2673).

عدم جدوى هذه التفرقة

من أبغضوا، ويهبون لمن أرادوا ذكوراً أو إناثاً، أو يزوجونهم ذكراناً وإناثاً، ويجعلون من غضبوا عليه عقيماً. • عدم جدوى هذه التفرقة: وقد قدمنا بيان معنى الألوهية والعبادة، فتذكره، ثم أجد (*) النظر في حال مسلمي اليوم، تجد منهم من ألهوا المخلوق وعبدوه، وتبرؤهم من اللفظ إنما هو لضرورة حكمه الشرعي وجهلهم بالمعنى اللغوي، وما مازوا به أنفسهم عن الجاهلية الأولى فرارٌ أيضاً من حكم الشرك الذي هو ضروري، وجهلهم بمدلوله في الشرع والوضع، وقد كشفنا الغطاء على معنى الشرك، وصورنا حقيقته عند العرب ومن قبلهم في فصول مرت، فارجع إليها، تر تلك التفرقة غير مجدية عند الشارع، ولا صحيحة في الواقع. ثم إن من هؤلاء المسلمين من يعتقدون في الأحجار وغير الصالحين من الأشرار، ولا يفرقون بين قدرتهم وقدرة الواحد القهار!! وهم بعد مسلمون سنيون، متى رضي عنهم شيوخ الطرق أو المرابطون! • مساواة هذه الأمة لمن قبلها في حكم السنن الإِلهية: إن ما وقع فيه العرب ومن قبلهم يقع فيه غيرهم بعدهم إذا ما جهلوا مثلهم أصول الدين وبالغوا في التبرك بالصالحين؛ فإن الله يقول: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23]، وعلماء الاجتماع يقولون: " التاريخ يعيد نفسه "، والمتكلمون يحكمون بأن " ما جرى على المثل يجري على المماثل "؛ فإذا كان مجموع المسلمين قد انتهوا في الدين إلى جهالة المشركين؛ فمحاولة تبرئتهم من الشرك غش وتضليل، وجحد للشريعة وتعطيل. ¬

_ (*) كذا في الأصل! ولعلّه: أَجِل.

صور من الوثنية الحاضرة

• صور من الوثنية الحاضرة: ألست ترى في أوساطهم قباباً تبذل في شيدها الأموال، وتشد لزيارتها الرحال؟! أم لست تسمع منهم استغاثات وطلب حاجات من الغائبين والأموات؛! أم لم تعلم بدور تنعت بدار الضمان تشترى ضمانتها بالأثمان؛! أم لم تجتمع بذرية نسب للمرابطين إعطاؤها بقوة غيبية؟! أم لم تتكرر عليك مناظر مكلفين إباحيين يقدسون بصفتهم مرابطين أو طرقيين؟! هذا إلى اجتماعات تنتهك فيها كل الحرمات باسم الزردات، أو تحت ستار الاعتقادات والدعوة إلى أوضاع مبتدعة صدت الناس عن اتباع السنة المطهرة. والخبير بحياة أهل عصره، العالم بأصول دينه، لا يتردد في ظهور الشرك وانتشاره، وتعدد مظاهره وآثاره، والعامي الفطري لو سألته وأفهمته؛ لوجدت عنده الخبر اليقين لإِثبات أن أمثاله- وما أكثرهم- في ضلال مبين. هذا إجمال تفصيله فيما بعد من الفصول. • دخول الوثنية في أركان الإِسلام الخمس: وارجع البصر نحو أركان الإِسلام الخمس التي ليس في كونها عبادة لبس؛ هل تجد المسلمين يأتون بها على وجهها؛ أم يخصون بها الخالق جل وعلا؛ إنك تجدهم يشهدون شهادة الإِخلاص، ثم لا يخلصون لله، بل يفزعون لأوليائهم، ويخشونهم خشية تأليه، وتراهم يصلون، ولكن لا يخشعون؛ إلا بين يدي من به يتبركون، ويتساهلون في إخراج الزكوات، ويتشددون في الوفاء بما ينذرون للمزارات والمقامات، بل يشحون بما هو منها واجب مشروع، ويسخون بالمقدار المبدوع، كالمكيال المقرر في الحبوب للشيخ عبد القادر الجيلاني، ويصومون رمضان معرضين عن الحجة الشرعية في ثبوته وانقضائه، متعمدين مخالفتها إلى أوامر رؤسائهم الروحيين من المرابطين والطرقيين، ويصبرون على

وجوه الشبه بين الوثنيتين: الحاضرة، والغابرة

الجوع والعطش في زيارة هؤلاء الرؤساء، ويألمون لذلك في الصيام لله، ويحجون بقلة، ويزورون سادتهم بكثرة، ويطوفون ببعض المزارات، ويوقتون لها الأوقات، ويجعلون أعداداً منها تقوم مقام الحج إلى البيت الحرام؛ فهل تفرق مع هذا [بين] (*) جاهلية عصر الوحي وجاهليه زمن الاستعباد والبغي؟! • وجوه الشبه بين الوثنيتين: الحاضرة، والغابرة: لا فرق بينهما في الجهل بما ينافي التوحيد، ولا في الابتلاء بالمبتدعين والدجالين، ولا في التبرك بالآثار احتماء من الأقدار، ولا في التقرب من الأحجار والنفور من المرشدين الأخيار، ولا في عصيان من خلقهم وعبادة ما نحتوه، ولا في افتراق الكلمة والانقسام إلى شيع متعادية، أما الذل والخوف والفقر، فحظ زماننا منها أوفر. • علة الانحطاط الحاضر: إن لم نخسر أنفسنا وبقي فيها مكان للإِنصاف وشعور بحب السلامة؛ اعترفنا بدائنا، وبحثنا عن دوائنا، ولا داء إلا ما نزل بالعقول من الجهالة، وران على القلوب من الضلالة؛ فلا علم بما يصحح العقيدة، ولا شعور بما يبعث على الفضيلة؛ إلا من رحم ربك، وقليل ما هم، وعلى قلتهم لم تعرفهم العامة فتحتذيهم في العقيدة (**) والسيرة، ومن عرفت منهم لم تعرف غير أسمائهم، فاكتفت بمجرد محبتهم، فهي لا تفتح أبصارها إلا على مناظر البدعة، واجتماعات التدجيل، ولا تعرف بصائرها إلا الاعتماد على البركات التي ألصقها الوهم ببعض الجمادات، أو من يرون لهم من الناس خصوصيات، ولا تعد من صالح أعمالها الذي تعده ليوم مالها إلا المبالغة في تعظيم آباء وشيوخ، وكل ما ¬

_ (*) سقطت من ط 1. (**) في الأصل: " العقد ".

نصيحة

يجعل قدمها راسخة في الشرك والرذيلة كل الرسوخ، أما العز والأمن، أما السيادة والغنى، أما الإِباء والشمم؛ فتلك صفات ذهب بها أمس، وتوارت عن الحس، لم يعرفها جيلنا حتى ينشدها، ولم يتذوقها حتى يألم لفقدها، بل انعكست حقائقها لديه فيما انعكس عليه من الحقائق؛ فالعز جبروت، والأمن جبانة، والسيادة وظيف حكومي، والغنى فسوق عمومي، والإِباء جناية، والشمم كبر. إن للشرك آثاراً تختفي في العقائد الباطنة، وتجري مع الأقوال اللفظية، وتظهر في الأفعال البدنية، وتبدو في النفقات المالية. وفي الفصول الآتية نعرض- إن شاء الله- لفصول من تلك الآثار، ونفصل منها ما يلتبس شركيه وشرعيه ببيان فيه مقمع للمكابر، ومقنع للمتردد الحائر، وجلاء للعقول الصدئة، وطهارة للنفوس الدنسة، وحياة للقلوب الآثمة. • نصيحة: ومن شعر عبد الله بن المبارك: رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ … وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ … وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا وتلك هي التقوى التي قال فيها ابن المعتز: خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا … وَكَبِيرَهَا فَهُوَ التُّقَى وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ … ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً … إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى • • • • •

الولاية

13 - الولاية • وجه الابتداء في مظاهر الشرك بالولاية: الولاية والكرامة من الألفاظ الدينية المشهورة عند العامة، ولكن التبس عليهم المعنى الشرعي لها بالمدلول الشركي، فاستغل ذلك الالتباس لتضليل الناس أهل الزهد في العلم والحرص على المال من رؤساء الطرق، وكل من شايعهم وخدمهم من علمائهم أضل من الجهال، ولبَّسوا بتلك الألفاظ على النقاد والوعاظ، فكادوا يلبسون دعوة المصلحين غير لباسها، ويصلون إلى أمنيتهم في نقضها من أساسها، ولكن الثقة بالله حصن لا يقوض، وسنته في علو الحق على الباطل ثابتة لا تنقض ... فكم عولوا على ما قولوا، وأجملوا فيما هولوا، وبهتوا فيما نعتوا، وشتموا بما لم يعلموا؛ كإلقائهم إلى الحكومة بأنا وطنيون نعمل للاستقلال، وبثهم بين العامة أنا وهابيون معتزليون ... إلى أقوال هي أبعد في الخيال من أحاديث الأغوال، وإن كانت إياها في التهويل والتضليل، عند من ليس له في دينه كبير تحصيل. وأقوى دعاية أثرت فيمن لم يعنوا بالبحث عن الحق بعض عناية نسبتنا إلى نكران الكرامة والولاية، وما أكثر في أمتنا اليوم هذا الفريق، الذي هو بالرثاء له

المعنى اللغوي

لا بالجزع منه خليق. ولهذا قدمنا القول في الولاية، وقفينا عليه بالكرامة، بعد أن أزحنا الشك عن معنى الشرك. • المعنى اللغوي: الولي- بفتح فسكون-: القرب والدنو، وحصول ثان بعد أول من غير فصل، يقال: تباعد بعد ولي، وكل مما يليك، أي: يقاربك، ويقال: سقط الولي، وهو المطر، يلي الوسمي ويحصل بعده، والمطر الولي يقال أيضاً بوزن فعيل. والولاء- بالفتح-: القرابة والنصرة، يقال: بينهما ولاء، وبالكسر: الموالاة والمتابعة، تقول: أفعل هذه الأشياء على الولاء، وتوالى عليه شهران، والموالاة بين شخصين تكون أيضاً مضادة للمعاداة. والولاية- بالكسر-: السلطان، يقال: وليت الأمر أليه؛ فأنا وال ونحن ولاة، وبالفتح: النصرة، يقال: هم على ولاية: إذا اجتمعوا على النصرة، وتكون الولاية بالكسر على هذا المعنى عند الجمهور، وجعلها سيبويه اسماً لما توليته وقصت به. والمولى: ابن العم، والعاصب، والحليف، والناصر، والجار. والولي- وزان فعيل- ضد العدو، من وليه: إذا قام به، يكون بمعنى فاعل وبمعنى مفعول، فمن الأول: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]، ومن الثاني: المؤمن ولي الله؛ للمطيع له، وكل من ولي أمر غيره؛ فهو وليه، ويطلق على ابن الم والناصر والصديق والمحب؛ تقول: توليته: إذا جعلته وليّاً، ومنه: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51].

العداوة

كل هذا من " الصحاح "، و " القاموس "، و " الأساس "، و " المصباح ". • العداوة: وفي " فروق أبي هلال العسكري " (106): " (العداوة): البعاد من حال النصرة، ونقيضها الولاية، وهي القرب من حال النصرة "، وفي الأصل: " الهرب "؛ مكان: القرب، وهو تحريف بيّن. ثم قال في الصفحة بعدها: " العداوة إرادة السوء لما تعاديه، وأصله الميل، ومنه: عدوة الوادي، وهي جانبه، ويجوز أن يكون أصله البعد، ومنه: عدواء الدار، أي: بعدها، وعدا الشيء يعدوه: إذا تجاوزه؛ كأنه بعد عن التوسط ". وقال أيضاً [ص:156]: " الولاية قد تكون بإخلاص المودة، والنصرة تكون بالمعونة والتقوية، وقد لا تمكن النصرة مع حصول الولاية ... والولاية - بالفتح-: النصرة لمحبة المنصور، لا للرياء والسمعة؛ لأنها تضاد العداوة، والنصرة تكون على الوجهين ". ونقلنا كلامه في أصل العداوة زيادة في توضيح ضدها (الولاية). • الولي والمولى: وقال في المولى والولي: " الولي يجري في الصفة على المُعان والمُعين، تقول: الله ولي المؤمنين؛ أي: معينهم، والمؤمن ولي الله، أي: المعان بنصر الله عز وجل. ويقال أيضاً: المؤمن ولي الله، والمراد أنه ناصر لأوليائه ودينه، ويجوز أن يقال: الله ولي المؤمنين، بمعنى أنه يلي حفظهم وكلاءتهم؛ كولي الطفل المتولي شأنه. ويكون الولي على وجوه: منها: المسلم الذي يلزمه القيام بحقه إذا احتاج

إليه. ومنها: الولي المحالف المعاقد. ومنها: ولي المرأة القائم بأمرها. ومنها: ولي المقتول الذي هو أحق بالمطالبة بدمه. وأصل الولي جَعْل الثاني بعد الأول من غير فصل، من قولهم: هذا يلي ذاك ولياً، وولاه الله: كأنه يلي أمره ولم يكله إلى غيره، وولاه أمره: وكله إليه، كأنه جعله بيده، وتولى أمر نفسه: قام به من غير وسيطة ... ويجوز أن يقال: معنى الولي: أنه يحب الخير لوليه؛ كما أن معنى العدو أنه يريد الضرر لعدوه. والمولى على وجوه: هو السيد، والمملوك، والحليف، وابن العم، والأولى بالشيء والصاحب ... وتقول: الله مولى المؤمنين؛ بمعنى: أنه معينهم، ولا يقال: إنهم مواليه؛ بمعنى: إنهم معينو أوليائه، كما تقول: إنهم أولياؤه بهذا المعنى " [ص:235]. وفي " مفردات الراغب ": " الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعداً حصولًا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد، والولاية النصرة، والولاية تولي الأمر، وقيل: الوَلاية والوِلاية واحدة؛ نحو الدَّلالة والدِّلالة، وحقيقته تولي الأمر. والولي والمولى يستعملان في ذلك، كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل؛ أي: الموالي، وفي معنى المفعول؛ أي: الموالى؛ يقال للمؤمن: هو ولي الله عز وجل، ولم يرد مولاه، وقد يقال: الله تعالى ولي المؤمنين ومولاهم. فمن الأول: قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]، {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} [الأعراف: 196]، {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 11]، {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40]، {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى} [الحج: 78].

خلاصة معنى الولاية

ومن الثاني: قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} [الجمعة: 6]، {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} [التحريم: 4]، {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] ". وفي " تفسير الثعالبي ": " إذا لازم أحد أحداً بنصره ووده واهتباله؛ فهو وليه، هذا عرفه لغة " (1/ 203). • خلاصة معنى الولاية: وإذا أجلت النظر فيما جلبناه؛ ألفيت مرجع الولاية إلى النصرة والعون في محبة وعطف، وإنما أطلنا فيما نقلنا من تفاصيل استعمالاتها؛ ليسهل عليك فهم تصرفات القرآن فيها، إثباتاً ونفياً، ومدحاً وذماً، وإفراداً وعطفاً. • الولاية الدنيوية الناقصة: فقد أثبتها تعالى بين الكفار والشياطين على معنى الذم لهم في آيات، منها: في النساء: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} [النساء: 76]. وفي الأعراف: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]، {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]. وفي الأنفال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73]. وهذا الضرب من الولاية موالاة دنيوية غير خالصة ولا نافعة في الأخرى؛ لقوله تعالى في أهلها: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر: 16]، {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان: 41].

نفي الولاية بين أهل الحق وأهل الباطل

• نفي الولاية بين أهل الحق وأهل الباطل: ونفاها تعالى بين المؤمنين والكافرين، ونهى عنها في مثل آيات العقود، والأنفال، وبراءة، والممتحنة؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51]، {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81]، {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} [التوبة: 23]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]،. • إثبات الولاية بين أهل الحق: وأثبتها بين المؤمنين [تشريعاً و] تشريفاً في مثل ما في الأنفال وبراءة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 172}، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. • إفراد الله بالولاية: وَخَصَّ- تعالى- نفسه بها، وأبطل ولاية غيره في آيات بالبقرة، والأنعام، والأعراف، وهود، ويوسف، والشورى؛ فقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]، {وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]، {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} [الأعراف: 196]، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]، {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي

الولاية التي [لا] تختص بالله

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 151]، {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشورى: 9]، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28]. • الولاية التي [لا] تختص بالله: وعطف تعالى غيره عليه فيها في مثل ما في العقود والتحريم؛ فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55 - 56]، {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4]. • الولاية الخاصة: واختص تعالى من خلقه طبقة سماهم أولياء، وأثنى عليهم، وبشرهم، فقال في سورة يونس: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 62 - 64]. • بيان المراد من تصرفات القرآن في الولاية: وليس بين كل هذه المواضيع تعارض، بل هي تجري على سنن من الارتباط إلى غاية من البيان، فالولاية بين العباد معناها التناصر والتعاون بما يملكون من أسباب النصر والإِعانة حسب جري العادة، وذلك ممدوح في الحق والخير، مذموم في الباطل والشر، ممكن في الدنيا بين الأبرار وبين الفجار. وتختص الولاية بالله إذا كانت للفاعل، من وَلِيَهُ: إذا قام به وأعانه وتولى حفظه ورعايته، لأنه تعالى هو القائم على كل نفس بما كسبت، والناصر للعبد،

معنى الولي في الشرع

الذي يهيئ له الأسباب العادية، ويعينه بما هو خارج عن الأسباب، ويلطف به فيما يلم به، فمن اتخذ وليّاً غير الله بهذا المعنى، فقد اتخذ معه شريكاً، ولهذا قال في سورة الرعد: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} [الرعد: 33]. ويشترك غير الله به فيها إذا كانت للمفعول، فإن العبد يوالي الله وأولياءه، فمعنى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}: إنما الولي الذي توالونه وتتولونه، لقوله بعد: {وَمَنْ يَتَوَلَّ}، ومعنى {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}: المولى الذي يتولاه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولهذا جعل الراغب فيما تقدم عنه المولى هنا بمعنى اسم المفعول. • معنى الولي في الشرع: والأولياء الذين شرفهم الله بإضافتهم إليه في سورة يونس يصح كما سبق عن العسكري أن يكونوا بمعنى الفاعل، لنصرهم دين الله والدعاة إليه، وأن يكونوا بمعنى المفعول؛ لإِعانة الله لهم على الإِخلاص في الطاعة، وعلى التقديرين؛ فهم من جمع إلى صحة العقيدة القيام بالفرائض، والوقوف عند الحدود، والتزود بالنوافل، وهذا معنى وصفهم في نفس الآية بالإِيمان والتقوى، ووصفهم في غيرها بالإِيمان مع الإِسلام، أو مع الاستقامة، أو مع العمل الصالح، أو ما في معنى ذلك. قال تعالى في البقرة، وفي النحل، وفي الزمر، وفي فصلت، وفي الزخرف: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25]، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17 - 18]، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ

أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 35]، {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف: 68 - 69]. وفصل هذا المعنى أول سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، وحكم لأهله بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11 - 10]. ووردت في هؤلاء الأولياء أحاديث أشرفها- كما قال ابن رجب في " جامع العلوم والحكم " - حديث البخاري: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا؛ فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» (¬53). قال القشيري في باب الولاية من " رسالته ": " الولي له معنيان: أحدهما: فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى الله سبحانه وتعالى أمره؛ قال الله سبحانه: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]؛ فلا يكله إلى نفسه لحظة، بل يتولى الحق سبحانه رعايته. والثاني: فعيل مبالغة من الفاعل، وهو الذي يتولى عبادة الله وطاعته؛ ¬

_ (¬53) وتمامه: " وما ترددتُ عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته". أخرجه البخاري في " صحيحه " (كتاب الرقاق، باب التواضع، 11/ 340 - 341/ 6502) عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله قال ... "؛ فذكره. وللحديث طرق أخرى وشواهد تقوّيه، أشار إليها الحافظ في " الفتح ".

التحذير من الغلو في الولي

فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان. وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولي وليّاً ". ومراده بكون عبادة الولي لا يتخللها عصيان، أنه إن وقع منه الذنب؛ تاب، ولم يصر عليه، كما صرح به في موضع اخر، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]. والوصفان اللذان يجبان لاستحقاق العبد الولاية ليسا جميعاً من كسبه، وإنما الذي من كسبه هو الوصف الثاني بمعنى الفاعل، ولكن متى صدق العبد فيه؛ أنعم الله عليه بالوصف الآخر الذي بمعنى المفعول. • التحذير من الغلو في الولي: وإذا عرفت معنى الولي شرعاً من القرآن والحديث وكلام أهل السنة والجماعة؛ فإياك أن تعدو ذلك الحد فيه إن كنت تؤمن بكتاب الله وما صح عن نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أما إن كنت تركن إلى علم المتقدمين، أو تقبل أقوال الأشاعرة، أو تثق بآراء الصوفية، فإن القشيري ولد في القرن الرابع، وهو من الطبقة الرابعة في الأشعريين. قال ابن عساكر في " تبيينه ": " ولولا تأخر وفاته؛ لذكرته في الثالثة، ثم هو في الصوفية أشهر، وعلى الحسن من أحوالهم أغير ". وإن بقي بعد هذا في قلبك من شيء، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].

منزلة الولي بين الناس

• منزلة الولي بين الناس: وحق الولي حقّاً على العباد أن يوالوه ولا يعادوه، وأن يحبوه ولا يبغضوه، وأن يحترموه ولا يهينوه، فقد جاء عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الْإِيمَانِ» (¬54). أخرجه أبو داود وغيره عن أبي أمامة رضي الله عنه، ومن أحب أحداً، احترمه، وتقدم حديث البخاري في الأولياء وشدة توعد من آذاهم وعاداهم، وعد ابن حجر الهيتمي في " الزواجر " معاداة الأولياء من الكبائر. • خفاء الولي على الناس: والولاية راجعة في الحقيقة إلى أمر باطن لا يعلمه إلا الله؛ فربما ادعيت الولاية لمن ليس بولي، أو ادعاها هو لنفسه، أو أظهر خارقة من الخوارق لكنها سحر أو شعوذة، لا أنها كرامة، فيظنها من لا يفرق بين الكرامة وغيرها كرامة، ويعتقد أن صاحبها ولي، فيضل ضلالًا بعيداً. هذا كلام صاحب " الاعتصام " (2/ 8). ¬

_ (¬54) صحيح: أخرجه أبو داود (2/ 269) عن أبي أمامة مرفوعاً بلفظ: «من أَحبَّ للهِ، وأبغضَ للهِ، وأعطى للهِ، ومنع للهِ؛ فقد استكمل الإِيمان»، وبهذا اللفظ أورده الحافظ في " الفتح " (1/ 47). نعم، أورده بلفظ المؤلف في (10/ 463)؛ فيحرّر. وإسناده حسن، رجاله ثقات غير القاسم- وهو ابن عبد الرحمن الدمشقي صاحب أبي أُمامة-؛ فـ " صدوق " كما في " التقريب ". وللحديث شاهد عن معاذ بن أنس الجُهني: أخرجه أحمد (3/ 438 - مصورة المكتب الإِسلامي عن طبعة صادر)، والترمذي (7/ 224/ 2642) وقال: " حديث منكر حسن "، وفي بعض النسخ- ولعله الصواب-: " حديث حسن ". وانظر: " الفتح " (1/ 47)، و " الصحيحة " (380)، و " صحيح [الجامع الصغير " (5841)، و " سنن أبي داود " (3915)، و " سنن الترمذي " (2036)].

الحكم لمعين بالجنة

• الحكم لمعين بالجنة: ثم من صحت ولايته، فهو من أهل الجنة قطعاً، ولكنا لا نجزم لأحد بالجنة إلا عن نص وارد فيه؛ لحديث أم العلاء الأنصارية رضي الله عنها عند البخاري، أنه لما توفي أبو السائب- عثمان بن مظعون- رضي الله عنه، ودخل عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَتْ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ! شَهَادَتِي عَلَيْكَ، لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ؟!». فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي». قالت: فقلت: وَاللهِ؛ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَداً (¬55). قال الحافظ ابن كثير بعد إيراده في " تفسيره " عن البخاري وأحمد: " وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة؛ إلا الذين نص الشارع على تعيينهم " (7/ 7 457). • الحكم لمعين بالولاية: وإذا لم يجز لنا الجزم لأحد بالجنة مع عدم ورود النص فيه؛ لم يجز لنا الجزم بولايته. قال القرطبي في " تفسيره ": " قال علماؤنا رحمة الله عليهم: ومن أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات؛ فليس ذلك دالَّا على ¬

_ (¬55) أخرجه البخاري في عدة مواضع من " صحيحه "، منها: في (كتاب الجنائز، باب الدخول على الميّت بعد الموت إذا أُدرج في أكفانه، 3/ 114/ 1243)، وفي (كتاب الشهادات، باب القُرعة في المشكلات، 5/ 293/ 2687)، وأحمد (6/ 436) من حديث أم العلاء الأنصارية رضي الله عنها.

الولي عند العامة وعقيدتهم فيه

ولايته؛ خلافاً لبعض الصوفية والرافضة ... ودليلنا أن العلم بأن الواحد منا ولي لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بانه يموت مؤمناً، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمناً، لم يمكننا أن نقطع على أنه ولي لله تعالى " (1/ 297). نعم؛ نحسن الظن بمن صلح ظاهره ونرجو له الخير. وقد نقل الفخر الرازي في " تفسيره " عن المتكلمين: " إن ولي الله من يكون آتياً بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل، ويكون آتياً بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة " (5/ 14). ومحصله أن الولاية تقوم على ثلاث قواعد: إحداها: الإِيمان الصحيح. وثانيتها: العمل الخالص لله. وثالثتها: موافقة السنة. فمن ظهرت عليه هذه الأشياء وتحققت فيه، فهو الولي الشرعي. • الولي عند العامة وعقيدتهم فيه: أما الولي عند الناس اليوم؛ فهو إما من انتصب للإِذن بالأوراد الطرقية، ولو كان في جهله بدينه مساوياً لحماره، وإما من اشتهر بالكهانة، وسموه حسب اصطلاحهم (مرابطاً)، ولو تجاهر بترك الصلاة وأعلن شرب المسكرات، وإما من انتمى إلى مشهور بالولاية، ولو كان إباحيّاً لا يحرم حراماً، وحق هؤلاء الأولياء على الناس الجزم بولايتهم، وعدم التوقف في دخولهم الجنة، ثم الطاعة العمياء، ولو في معصية الله، وبذل المال لهم، ولو أخل بحق زوجته وصبيته، والثقة بهم، ولو خلوا بالخُرُد العين، وبعد، فهم المطلوبون في كل شدة، ولكل محتم بهم عدة، وهم حماة للأشخاص وللقرى والمدن، كبيرها وصغيرها، حاضرها

حرص المبتدعة على بدعهم وسلاحهم في حمايتها

وباديها؛ فما من قرية بلغت ما بلغت في البداوة أو الحضارة، إلا ولها ولي تنسب إليه، فيقال: سيدي فلان هو مولى البلد الفلاني، ويجب عند هؤلاء الناس أن يكون علماء الدين خدمة لهؤلاء الأولياء، مقرين لأعمالهم وأحوالهم، غير منكرين لشيء منها، وإلا، أوذوا بضروب السباب ومستقبح الألقاب، وسلبوا الثقة بعلمهم، ووشي بهم إلى الحكام، وذلك حظ الدعاة إلى السنة من مبتدعي هذه الأمة. • حرص المبتدعة على بدعهم وسلاحهم في حمايتها: قال أبو إسحاق الشاطبي في " الاعتصام ": " إن شأن البدعة في الواقع المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها، وأن تقوم على تاركها القيامة، وتنطلق عليه ألسنة الملامة، ويرمى بالتسفيه والتجهيل، وينبز بالتبديع والتضليل، ضد ما كان عليه سلف هذه الأمة والمقتدى بهم من الأئمة. والدليل على ذلك الاعتبار والنقل؛ فإن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على أهل السنة، إن كان لهم عصبة، أو لصقوا بسلطان تجري أحكامه في الناس وتنفذ أوامره في الأقطار، ومن طالع سير المتقدمين؛ وجد من ذلك ما لا يخفى (لعله ما لا يحصى)، وأما النقل، فما ذكره السلف من أن البدعة إذا أحدثت لا تزيد إلا مضيّاً " (2/ 57). • حكم التعيش بالسعاية: ومن الناس من يرى معيشته في السعاية بالعلماء المرشدين، وفي مثلهم جاء حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ أَكَلَ بِمُسْلِمٍ أَكْلَةً؛ أَطْعَمَهُ اللَّهُ بِهَا أَكْلَةً مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ قَامَ بِمُسْلِمٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ؛ أَقَامَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ، وَمَنْ اكْتَسَى بِمُسْلِمٍ ثَوْبًا؛ كَسَاهُ

حكم الولاية العامية

اللَّهُ ثَوْبًا مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬56). أخرجه الحاكم. قال ابن القيم في " إعلام الموقعيت ": " ومعنى الحديث: أنه توصل إلى ذلك وتوسل إليه بأذى أخيه المسلم؛ من كذب عليه، أو سخرية، أو همزة، أو لمزة، أو غيبة، والطعن عليه، والازدراء به، والشهادة عليه بالزور، والنيل من عرضه عند عدوه، ونحو ذلك ". ساق ذلك في جملة [من] الكبائر (3/ 563). • حكم الولاية العامية: إن الولاية [العامية] التي صورناها ولاية بدعية شركية نهى الله عن اتخاذها بمثل قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]. قال البغوي: " أي: لا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله ". وهو تفسير بما هو أخفى في الشرك، يشير بالأولى إلى المنع من الاعتماد عليهم فيما هو خارج عن الأسباب العادية. وقد سئل الجلال السيوطي عن قول الناس: ما لي إلا الله وأنت؛ هل يجوز عملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]؛ فأجاب بأن ذلك القول لا تشهد لصحته الآية، لأن قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} معطوف على الكاف لا على لفظ الجلالة، فيكون المعنى: الله ¬

_ (¬56) صحيح: أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (240)، وأبو داود (2/ 298)، والحاكم (4/ 127 - 128) من طريقين- يقوي أحدهما الآخر- عن وقاص بن ربيعة عن المستورد به، وقال الحاكم: " هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرجاه "! ووافقه الذهبي!! وللحديث شاهد صحيح مرسل، أخرجه ابن المبارك في " الزهد " (707) عن الحسن (البصري) مرفوعاً، وانظر: " صحيح [الجامع الصغير " (5959)، و " سنن أبي داود " (4084)]، و " الصحيحة " (934).

غرور من حكم للولاية العامية بحكم الولاية الشرعية

حسبك وحسب من اتبعك، واستدل لعدم الجواز بما ورد أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا شَاءَ اللَّهُ، وَشِئْتَ. فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» (¬57). وقد تقدم الحديث في الفصل الخامس، وجواب السيوطي ذكره في " الحاوي " (1/ 337). • غرور من حكم للولاية العامية بحكم الولاية الشرعية: علم العلماء الناصحون الفرق بين الولايتين الشرعية والشركية فأعلنوا به، وجهله خصومهم المغرضون، وأخفاه مَن علمه منهم إيثاراً لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فشوهوا وموهوا، ولبسوا ودلسوا، وبدعوا وشنعوا، ولمزوا ونبزوا، ولقن ذلك من أعماه الغرض كلّ من في قلبه مرض، ثم اغتروا، فهنَّؤوا نفوسهم بالمحافظة على عقيدة أهل السنة والجماعة، وما سنتهم إلا سنة القبوريين والطرقيين، وما جماعتهم إلا جماعة المغرورين والطماعين. • واجب العامة في طلب الحق: ونصيحتنا لهؤلاء أن يربعوا على أنفسهم، ويسألوا أهل الذكر عن حقائق دينهم، ولا يَقْفوا ما ليس لهم به علم، ويخلصوا في طلب الحق، عسى أن يوفقوا للظفر به، ولا يخدعوا في علمائه المرشدين، فإنهم لهم من الناصحين، ومن عاقبة سكوتهم وضلال أبناء دينهم مشفقون، وأن لا تستحل أعراضهم؛ فإن إذايتهم محاربة للدين. • التحذير من الوقيعة في علماء الدين: قال ابن عساكر في " تبيينه " [ص:29]: " واعلم يا أخي- وفقنا الله وإياك ¬

_ (¬57) صحيح: تقدم تخريجه برقم (31).

لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته- أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم، والاقتداء بما مدح الله به قول المتبعين من الاستغفار لمن سبقهم وصف كريم، إذ قال مثنياً عليهم في كتابه- وهو بمكارم الأخلاق وضدها عليم-: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 15]، والارتكاب لنهي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الاغتياب وسب الأموات جسيم؛ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] ". • • • • •

الكرامة

14 - الكرامة • الكرامة في اللغة: كرم الشيء- بضم الراء- كرماً- بفتحتين- وكرامة: إذا نفس وعز؛ فهو كريم، وله علي كرامة، أي: عزازة، وكل شيء شرف في بابه، فإنه يوصف بالكرم، ولا يقال في الإِنسان: كريم، حتى تظهر منه أخلاق وأفعال محمودة. وكرمته تكريماً وأكرمته إكراماً: عظمته ونزهته. والمكرمة- بضم الراء- اسم من الكرم والتكريم، تقول: فعل الخير مكرمة، أي: سبب للكرم أو التكريم. وتكون الكرامة اسماً أيضاً من الإِكرام والتكريم، تقول: نعم وحبّاً وكرامة، وليس ذلك لهم ولا كرامة. والإِكرام والتكريم أن يوصل إلى الإِنسان إكرام- أي: نفع لا يلحقه فيه غضاضة-، أو أن يجعل ما يوصل إليه شيئاً كريماً، أي: شريفاً. هذا كله من " الصحاح " و " القاموس " و " المصباح " و " مفردات الراغب ". وقابل الشاعر الكرامة بالمساءة، فقال: جَزَانِي الزُّهْدُمَانُ جَزَاءَ سَوْءٍ … وَكُنْتُ الْمَرْءَ يُجْزَى بِالْكَرَامَهْ

الكرامة في الشرع

• الكرامة في الشرع: فإذا عرفنا الكرامة في اللغة؛ سهل علينا أخذ المعنى الشرعي منها، فتكون في الشرع عبارة عما يصل من الله إلى الولي ويظهر عليه من كل نافع عزيز نفيس شريف. وقد اختلف علماء الكلام في تحديد هذا الواصل من الله إلى الولي، والمعروف عن الأشاعرة في ذلك ثلاثة أقوال على طرفين وواسطة، والطرفان لأبي إسحاق الإِسفراييني وأبي بكر الباقلاني، والواسطة لأبي القاسم القشيري. • تحديد الأشاعرة للكرامة: فأما أبو إسحاق؛ فيقول: إن الكرامة لا تبلغ مبلغ خرق العادة، وإنما هي إجابة دعوة، أو موافاة ماء في غير موقع المياه، أو مضاهي ذلك، وكل ما جاز معجزة لنبي؛ لم يجز كرامة لولي. وضبط أبو الحسن الماوردي الشافعي ما يخرج عن العادة في عشرة أقسام، ومنع من ظهور أحدها على غير وجه الإِعجاز، حتى لا تلتبس المعجزة بغيرها، ولأن صدق النبي لا يعلم إلا بها، وغير النبوة من الأقوال والأفعال قد يعلم الصدق فيها بالعيان والمشاهدة. ذكر ذلك في رسالته " أعلام النبوة " [ص:20 - 22] وأما الباقلاني ومن معه، فيقولون: كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي، جاز أن يكون كرامة لولي من غير استثناء، ومنعوا الالتباس بما لا ضرورة بنا إلى بسطه. وأما القشيري؛ فيقيد إطلاق الباقلاني وموافقيه: قال في باب كرامات الأولياء من " رسالته ": " ثم هذه الكرامات قد تكون

شرط الكرامة

إجابة دعوة، وقد تكون إظهار طعام في أوان فاقة من غير سبب ظاهر، أو حصول ماء في زمان عطش، أو تسهيل قطع مسافة في مدة قريبة، أو تخليصاً من عدو، أو سماع خطاب من هاتف، أو غير ذلك من فنون الأفعال الناقضة للعادة. واعلم أن كثيراً من المقدورات يعلم اليوم قطعاً أنه لا يجوز أن يظهر كرامة للأولياء، وبضرورة أو شبه ضرورة يعلم ذلك؛ فمنها حصول إنسان لا من أبوين، وقلب جماد بهيمة أو حيواناً وأمثال هذا كثيرة ". ومال التاج السبكي في " طبقاته " إلى تقييد القشيري، فقال: " وهو حق لا ريب فيه " (2/ 65). • شرط الكرامة: وقيد النووي في " بستان العارفين " الكرامة بأن لا تؤدي إلى رفع أصل من أصول الدين، نقله ابن علان في " شرح رياض الصالحين " (7/ 362)، وهو كقول أبي إسحاق في " الموافقات ": " لا يصح أن تراعى وتعتبر؛ إلا بشرط أن لا تخرم حكماً شْرعيّاً ولا قاعدة دينية، فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكماً شرعيّاً ليس بحق في نفسه، بل هو إما خيال أو وهم، وإما من إلقاء الشيطان " (2/ 266). ولا نشك أن هذا القيد مراد لأصحاب الأقوال الثلاثة. • ضابط الكرامة: وبعد، فنحن نثبت كرامات الأولياء، ولا نقيد من ناحية العقل قدرة الله بنوع منها، ولكنا نقيدها من طريق الشرع بغير ما أعلمنا الله أنه من خواص الألوهية، حتى لا نغلو فيها غلوّاً ينتهي إلى الشرك والعياذ بالله. وليست الكرامة هي دليل الولاية؛ لالتباسها على كثير من الناس بما ليس

الحكم على حادث معين بالكرامة

بكرامة، بل الولاية هي دليل الكرامة، وليس للكرامة تأثير في الأحكام الشرعية، ولكنها كما قال أبو إسحاق في " الموافقات ": " تفيد لأصحابها يقيناً وعلماً بالله تعالى وقوة فيما هم عليه " (4/ 85). وهذا صريح كلام أبي الحسن الشاذلي، إذ قال: " الكرامة كرامتان: كرامة الإِيمان بمزيد الإِيقان وشهود العيان، وكرامة العمل على الاقتداء والمتابعة ومجانبة الدعاوى والمخادعة؛ فمن أعطيهما ثم جعل يتشوف إلى غيرهما؛ فهو عبد كذاب مفتر، قد أخطأ في العلم والعمل بالصواب ". نقله العروسي في " حاشيته " على شرح " الرسالة القشيرية " (4/ 155). وأصل هذا كله قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. • الحكم على حادث معين بالكرامة: وقال الشيخ محمد عبده آخر " رسالة التوحيد " بعدما أيد قول مثبتي الكرامة: " وإنما الذي يجب الالتفات إليه هو أن " أهل السنة وغيرهم في اتفاق على أنه لا يجب الاعتقاد بوقوع كرامة معينة على يد ولي معين بعد ظهور الإِسلام، فيجوز لكل مسلم بإجماع الأمة أن ينكر أية كرامة كانت من أي ولي كان، ولا يكون بإنكاره هذا مخالفاً لأصول الدين، ولا مائلًا عن سنة صحيحة، ولا منحرفاً عن الصراط المستقيم ". • الكرامة عند العامة: " أين هذا الأصل المجمع عليه مما يهذي به جمهور المسلمين في هذه الأيام، حيث يظنون أن الكرامات وخوارق العادات أصبحت من ضروب الصناعات، يتنافس فيها الأولياء، وتتفاخر فيها همم الأصفياء، وهو مما يتبرأ منه

الله ودينه وأولياؤه وأهل العلم أجمعون ". ولقد صدق هذا الإِمام فيما وصف، ونصح فيما إليه أرشد، ولكنه لم يفصح رحمه الله عن الخسران المبين، الذي أدى إليه هذيان أولئك المسلمين؛ فإنهم لا يقفون بالكرامة دون التصرف في الكون وعلم الغيب، بل لا يكادون يفهمون منها غير هذين الأمرين اللذين استأثر الله بهما، فهدموا بكرامتهم أصلين عظيمين من أصول الدين المقررة، وصاحوا في وجه من أنكر عليهم هذا المعنى منشدين: وَأَثْبِتَنْ لِلْأَوْلِيَا الْكَرَامَهْ … وَمَنْ نَفَاهَا فَانْبِذَنْ كَلَامَهُ وإذا دعوتهم لتفصّل لهم هذا الإِجمال، {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5]. • • • • •

التصرف في الكون

15 - التصرف في الكون • أقسام نسبة الفعل للمخلوق: التصرف في الكون خاص بالله سبحانه ... وكل لفظ فيه نسبة الفعل للمخلوق لا يخلو من ثلاث حالات: إحداها: أن تكون النسبة على معنى التأثير في الفعل من دون الله. ثانيتها: أن تكون على معنى التأثير بجعل الله وتفويضه. ثالثتها: أن تكون على معنى الإِخبار عن عادة أجراها الله من غير تأثير ذاتي أو جعلي. • حكم نسبة الفعل للمخلوق: والحالتان الأوليان هما المحكيتان في الفصل الثامن عن وثنيي الكلدانيين، وعليهما حمل حديث زيد بن خالد الجهني كل من هأيناه تكلم عليه؛ مثل أبي بكر بن العربي الذي نقل كلامه الزرقاني في " شرح الموطأ " (1/ 347)، وأبي الوليد الباجي في " المنتقى " (1/ 334)، وقبلهما الإِمام الشافعي، ونذكر عبارته بعد إيراد حديث زيد الذي أخرجه مالك والشيخان عنه. والحالة الثالثه ليست كفراً، ولكن يمنع منها ما فيه إيهام، كما صوح بذلك

حديث الجهني في النوء

الباجي في " المنتقى ". • حديث الجهني في النوء: وحديث زيد في " الموطأ " و " الصحيحين " هو قوله رضي الله عنه: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ؛ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، [قَالَ]: قَالَ: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي؛ فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ؛ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا؛ فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» (¬58). • معنى النوء: وقوله: " على إثْر سماء "؛ يريد: المطر، و (النوء): اشتقاقه من ناء ينوء إذا نهض بجهد ومشقة أو سقط؛ فهو من الأضداد؛ كما في " الصحاح "، قال: " والنوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ليلة إلى ثلاثة عشر يوماً، وهكذا كل نجم منها إلى انقضاء السنة، ما خلا الجبهة، فإن لها أربعة عشر يوماً. قال أبو عبيد: ولم نسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها. وقال الأصمعي إلى الطالع منها في سلطانه، فتقول: مطرنا بنؤ كذا ". • عبارة الشافعي في شرح حديث الجهني: وعبارة الشافعي شاملة للأحوال الثلاثة، لكنه أجمل الحالتيني الأوليين في وجه واحد، وهي قوله في " الأم ": ¬

_ (¬58) أخرجه مالك (1/ 388 - 389/ 452)، والبخاري (2/ 522/ 1038)، ومسلم (1/ 83/ 71) عن زيد بن خالد الجُهني رضي الله عنه.

ما جاء في اختصاص الله بالتصرف

" من قال: مطرنا بنؤ كذا وكذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه مطر نوء كذا؛ فذلك كفر، كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن النوء وقت، والوقت مخلوق، لا يملك لنفسه ولا لغيره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومن قال: مطرنا بنؤ كذا على معنى مطرنا في وقت كذا؛ فلا يكون كفراً، وغيره من الكلام أحب إلي منه ". نقله الحافظ في " الفتح " (2/ 419)، وقال عَقِبه: " يعني: حسماً للمادة، وعلى ذلك يحمل إطلاق الحديث. وحكى ابن قتيبة في كتاب " الأنواء " أن العرب كانت في ذلك على مذهبين؛ على نحو ما ذكره الشافعي ". • ما جاء في اختصاص الله بالتصرف: وهذا الحديث إنباء عن اختصاص الله بالتصرف في الكون؛ كما أنبأت عنه آيات آل عمران والأنعام والأعراف والقصص والمنافقون ... وكثير في معناها: قال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50]، {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188]، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون: 7]. • عقيدة العامة في تصرف الأولياء: ومن وقف على مقاصد الكثير من عوامنا في نسبة الأفعال إلى الأولياء وتصرفهم في الكون؛ لم يشك في انطباق الحالة الثانية عليهم؛ إذ يعتقدون أن

حكايتان عن العامة

الأولياء أعزاء على الله، وقد فوض إليهم التصرف، وأنابهم عنه فيه، فما قضوه للناس، وافقهم الله عليه، وقد سمعنا من يعبر عن ذلك بقوله: " إنا نكذب والله يصدق ". وفي " صحيح مسلم " عن جندب بن عبد الله؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: وَاللهِ لا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلانٍ. قَالَ اللهُ عز وجل: مَنْ ذا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ؛ إنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ، وَأحْبَطْتُ عَمَلَكَ» (¬59). بل منهم من ينتهي به الأمر إلى الحالة الأولى، فيعتقد في الولي أنه يفعل ما يفعل بقوته لا بقوة الله!! وتجد من المخذولين من يدعي ذلك لنفسه!! • حكايتان عن العامة: فقد حدثني بقرية أبي سعادة من حضر مجلساً فيه كاهن سكير ممن يعرفون في العرف بالمرابطين، فطلب رجل من مرابطه ذلك ولداً ذكراً، فأعطاه إياه، وعيَّن له علامة تكون بجسمه عند الوضع، وقال له: إن وضع بها، فهو مني، وإن خلا منها؛ فهو من الله!! ولهذه الطامة أشباه ونظائر يعرفها من اختلط بالعامة وسمع أخبارهم مع أوليائهم. وقد كنت سنة أربع وأربعين مع فقيه ميلي بمقهى في قسنطينة، فقص ¬

_ (¬59) أخرجه مسلم في (كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن تقنيط الإِنسان من رحمة الله تعالى، 4/ 2023/ 2621) عن جُنْدَبٍ؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدّث " أنّ رجلًا قال: واللهِ ... وإن الله تعالى قال: من ذا الذي ... فإني قد غفرتُ لفلانٍ ... "، وباقيه موافق للفظ المؤلف.

علينا رجل مصيبة أيس من السلامة منها، ثم حصل له الفرج، فعبر عن خطورتها قائلًا: لوما الناس الصالحين ... فقال له صاحبي مرشداً أو منكتاً: وربي؟ فأجابه: ربي والناس الصالحين. فقال له: وربي وحده. فلم يجاره، وقال له: هكذا سمعنا الناس يقولون. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]. • • • • •

علم الغيب

16 - علم الغيب • معنى الغيب: قال في " الأساس ": " أنا معكم لا أغايبكم، وأراهم يتشاهدون مرة ويتغايبون أخرى، وأوحشتني غيبة فلان، وقد أطلت غيبتك، وفلان حسن المحضر والمغيب، ولقيته عند غيبوبة الشمس، وتكلم بذلك عن ظهر الغيب، وسمعت صوتاً من وراء الغيب، أي: من موضع لا أراه، وشربت الدابة حتى وارت غيوب كلاها، وهي هزومها، جمع غيب، وهي الخمصة التي في موضع الكلية، {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [يوسف: 10]، وهي قعره، وكل ما غيب شيئاً؛ فهو غيابه، ووقعوا في غيابة من الأرض؛ أي: في هبطة، وكأنه ليث غابة، وهو من ليوث الغاب ". وفي " مفردات الراغب ": أن " ما غاب عن الحاسة وعلم الإِنسان؛ فهو غيب ". وفي " منتقى الباجي ": " الغيب هو المعدوم، وما غاب عن الناس " (1/ 334). وفي " أحكام ابن العربي ": " حقيقة الغيب ما غاب عن الحواس مما لا

ما جاء في اختصاص الله بعلم الغيب

يوصل إليه إلا بالخبر دون النظر " (1/ 5). • ما جاء في اختصاص الله بعلم الغيب: وقد جاءت آيات وأحاديث في إفراد الله وحده بعلم الغيب، وهي كثيرة، تقدم بعضها: ونقتصر هنا من الآيات على ما في الأنعام والنمل والجن: قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27]. ومن الأحاديث على حديثي ابن عمر عند البخاري وعائشة عند مسلم: فالذي في " البخاري " قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ؛ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} {لقمان: 34] " (¬60). ¬

_ (¬60) أخرجه البخاري في عدة مواضع من " صحيحه "، أقربها إلى لفظ المؤلف في (كتاب التفسير، باب {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}، 8/ 291/ 4627)، وقال: " {مَفَاتِحُ} بدل " مفاتيح "، ودون قوله: " (لا يعلمهن إلا الله) "، وانظر الأرقام: (1039 و4697 و4778 و7379) منه. وأخرجه أحمد (7/ 5/ 4766 و7/ 153/ 5226)، وأبو بكر الإِسماعيلي كما في " الفتح " (8/ 514)، كلّهم من حديث ابن عمر مرفوعاً. وللحديث شواهد عن جمع من الصحابة ساق رواياتهم ابن كثير في " تفسيره " (5/ 399 - 402).

ورواه أحمد بلفظ (¬61): " أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْخَمْسَ (وذكر الآية) ". والذي في " مسلم " هو قول عائشة رضي الله عنها: " ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ ... " إلى أن قالت في بيان الثالثة: " وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، والله يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} {النمل: 65، " (¬62). ¬

_ (¬61) ضعيف شاذ بهذا اللفظ: أخرجه أحمد (7/ 276/ 5579)، وعنه الطبراني في " المعجم الكبير " (12/ 360 - 361/ 13344)، وقال الهيثمي (8/ 263): " ورجال أحمد رجال الصحيح "، وصححه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في " شرحه وتعليقه على المسند "! قلتُ: لكنه بهذا اللفظ شاذ مخالفٌ للفظ الثابت في " الصحيح " المحفوظ عن ابن عمر: " مفاتيح الغيب خمس: ... "، والله تعالى أعلم. وانظر: " ضعيف الجامع الصغير " (2109) للألباني. (¬62) أخرجه مسلم في (كتاب الإِيمان، باب معنى قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، وهل رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربه ليلة الإِسراء، 1/ 159/ 177) عن مسروق؛ قال: كنتُ متكئاً عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة! ثلاثٌ من تكلّم بواحدةٍ منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلتُ: ما هُنّ؛ قالت: من زعم أن محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى ربّه فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنتُ متكئاً فجلستُ. فقلتُ: يا أمّ المؤمنين! انظِريني ولا تَعْجَليني، ألم يَقُلِ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]؛ فقالت: أنا أوَّل هذه الأمَّة سأل عن ذلك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال: " إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين، رأيتُه منهبطاً من السماء، سادّاً عِظَمُ خَلْقِهِ ما بين السماء والأرض ". فقالت: أولم تسمع أن الله يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، أولم تسمع أن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]، قالت: ومن زعم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتم شيئاً من كتاب الله؛ فقد أعظم على الله الفِرية، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ =

حكم إضافة علم الغيب للمخلوق

• حكم إضافة علم الغيب للمخلوق: وقد بسط القول في تحليل مفاتح الغيب أبو بكر بن العربي في " أحكامه " أول سورة الأنعام، وحكم بكفر من ادعى علم واحدة منها؛ إلا من استند في الساعة إلى أماراتها التي أخبر بها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو من جرى في تعيين ما في الرحم من ذكر أو أنثى على تجربة عادية لم يوجبها في الخلقة، أو من أخبر بالكسوف والخسوف اعتماداً على الحساب، لكن هذا الحاسب يؤدب ويسجن لإِدخاله الشك على العامة في تعليق العلم بالغيب المستأنف، وهم لا يدرون قدر الفرق بين هذا وغيره، فتشوش عقائدهم في الدين. هذا تحصيل كلامه رحمه الله. وحكى ابن الحاج في " حاشيته على صغير ميارة " الاتفاق على كفر من يقول: إن الأنبياء يعلمون ما كان وما يكون إلى يوم القيامة. (2/ 59). ونقل ابن حجر الهيتمي في رسالته " الإِعلام بقواطع الإِسلام " عن الرافعي وغيره كفْر من ادعى علم الغيب، لكنه بحث في هذا الإِطلاق، وقيده بمن ادعى الغيب في سائر القضايا دون من ادعاه في بعضها، وجرى على هذا التفصيل في " فتاويه الحديثية " أيضاً، وهي تفرقة حمله عليها حكايات عن الأولياء، رآها من قبيل علم الغيب، ولكن الصحيح من تلك الحكايات لا يتناوله علم الغيب، والذي يدخل منها فيه لا يقوم له سند، والصواب الإِطلاق، وهو الذي يتمشى مع إطلاق الكتاب والسنة. قال أبو إسحاق في " الموافقات ": " وقد تعاضدت الآيات والأخبار وتكررت في أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهو يفيد صحة العموم من تلك ¬

_ = وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]. قالت: ومن زعم أنه يُخبر بما يكون في غَدٍ؛ فقد أعظم على الله الفِرية، والله يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65].

ابتداع نسبة علم الغيب للمخلوق

الظواهر، حسبما مر في باب العموم من هذا الكتاب؛ فإذا كان كذلك؛ خرج مَن سوى الأنبياء من أن يشتركوا مع الأنبياء صلوات الله عليهم في العلم بالمغيبات " (4/ 84). ومراده بعلم الأنبياء بالغيب ما كان عن طريق الوحي كما لا يخفى. • ابتداع نسبة علم الغيب للمخلوق: وقد بين ابن قتيبة- لسان أهل السنة في القرن الثالث- مبتدعي نسبة علم الغيب للمخلوق مع الحكم بكفرهم، فقال في رسالة " الاختلاف في اللفظ ": " غلت الرافضة في حبّ عليًّ وتقديمه على من قدمه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحابته عليه، وادعائهم له شركة النبي [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]، في نبوته وعلم الغيب للأئمة من ولده، وتلك الأقاويل والأمور السرية التي جمدت إلى الكذب والكفر إفراط الجهل والغباوة " [ص:47]. وقد سرت هذه البدعة من الرافضة إلى متأخري الصوفية؛ لاندماج الطائفتين بعضهما في بعض، وانتحال الصوفية كثيراً من العقائد التي ابتدعها الرافضة. • كلام الرازي في علم الغيب: وقال الفخر الرازي أوائل تفسير سورة البقرة: " الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل، وإلى ما لا دليل عليه، أما ما لا دليل عليه، فهو سبحانه وتعالى العالم به لا غيره، وأما الذي عليه دليل، فلا يمتنع أن تقول: نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل " (1/ 251). وذكر في تفسير آل عمران أن الحكمة في ما أصاب المؤمنين يوم أحد تمييز المنافق من المؤمن، ثم قال:

تأويل الرازي لآية الجن

" بيَّن سبحانه أنه لا يحصل ذلك التمييز بأن يطلعكم الله على غيبه، فيقول: إن فلاناً منافق وفلاناً مؤمن، وفلاناً من أهل الجنة وفلاناً من أهل النار؛ فإن سنة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه، بل لا سبيل لكم إلى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات، مثل ما ذكرنا من وقوع المحن والآفات، حتى يتميز عندها الموافق من المنافق؛ فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع من الغيب، فهو من خواص الأنبياء، فلهذا قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179] " (3/ 155). • تأويل الرازي لآية الجن: وتأول آية سورة الجن على التخصيص، وصرفها عن العموم لكل المغيبات، واستدل لتأويله بأربعة أمور: الأول: صدق بعض أخبار شق وسطيح الكاهنين قبل الإِسلام، وشيوع ذلك عنهما في العرب. ثائيها: اعتبار جميع الملل والأديان لعلم التعبير الذي فيه الإِخبار بالمغيبات. ثالثها: صدق أخبار مغيبة وقعت من الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان. رابعها: تحقق إلهامات وقعت من الأولياء وغيرهم من السحرة، ومطابقة بعض الأحكام النجومية. هكذا رتب أدلته، وحقه إدخال الدليل الثالث في الأول؛ لشمول الكهانة لهما، ثم تفصيل الرابع إلى دليلين، لأن أحكام النجوم غير الإِلهامات؛ فلا يجمعهما دليل واحد.

بحث في مستند الرازي في ذلك التأويل

• بحث في مستند الرازي في ذلك التأويل: وليس في أدلته تلك ما يفيد تخصيص الآية: أما أولاً، فإنها معارضة بكثرة الظواهر التي تخص الله بعلم الغيب، وذلك يفيد العموم؛ كما قدمنا عن " الموافقات ". وأما ثانياً؛ فإن تلك الوجوه التي جلبها ليست من علم الغيب. أما الكهانة، فيختلط حقها بباطلها، وذلك يمنع من إطلاق العلم عليها، وكذلك ما لم يضبط من أحكام النجوم، وما ضبط منها بالحساب لم يبق في طي الغيب عند العارفين بقواعده. وأما التعبير والإِلهام؛ فهما من غير المعصوم غير معصومين من الخطأ، فلا يسميان علماً ما داما في الغيب، فإذا تحققا في الخارج، وصدق عليهما وصف العلم؛ ارتفع عنهما حكم الغيب، فإلهام الولي ورؤياه لا يتناولهما علم الغيب، وهذا بخلاف رؤيا الأنبياء وإلهاماتهم، فإنها حق يصدق عليها علم الغيب بإعلام الله لهم. وقد جعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رؤيا الأولياء جزءً ضعيفاً من النبوة، نازلاً عنها بخمسة وأربعين جزءً، فقال: «الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» (¬63). أخرجه مالك والبخاري. • الباعث على تأويل المتأولين لنصوص اختصاص الله بعلم الغيب: وقد عد بعض المتكلمين في كرامات الأولياء رؤاهم وإلهاماتهم في علم الغيب، وكثرت عندهم، حتى قامت مقام التواتر المعنوي، فلم يجدوا بدّاً من ¬

_ (¬63) أخرجه مالك في " الموطأ " (4/ 350/ 1845)، ومن طريقه البخاري في " صحيحه " (12/ 361/ 6983) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

بيان وجهة نظر ابن خلدون في كلامه على علم المخلوق الغيب

تأويل نصوص الدين في اختصاص الله بعلم الغيب، والحق إبقاء تلك النصوص على عمومها، وإخراج ما هو من قبيل الإِلهام والرؤيا عن علم الغيب، وصرف ما يراد منه علم الغيب من الحكايات عن باب الكرامات بما يناسبها من وجوه الصرف. هذا تقويمنا لكلام الرازي في تفسير سورة الجن الذي نقض به ما صرح به في تفسير سورتي البقرة وآل عمران. والذي أوقعه في هذه المناقضة وأنساه ما أصَّله أولاً ولوعه بمناقضة الزمخشري؛ فإنه ادعى في " كشافه " أن آية الجن مبطلة للكرامات، ولكن ابن المنير في " حاشيته " عليه أقام حيفه من غير أن ينقض ما أصله القرآن، فقال: " ادعى عامّاً واستدل خاصّاً، فإن دعواه إبطال الكرامات بجميع أنواعها، والمدلول عليه بالآية إبطال اطلاع الولي على الغيب خاصة ". • بيان وجهة نظر ابن خلدون في كلامه على علم المخلوق الغيب: وكلام ابن خلدون في بعض فصول الفصل السادس من " مقدمته " لم ينظر فيه إلى الناحية الدينية، وإنما تأثر فيه بالحكايات التي ظاهرها عدم اختصاص الله بعلم الغيب مما هو منتشر بين العامة أكثر مما هو معلوم للخاصة، فحاول تعليلها تعليلًا فلسفيّاً، فكان بذلك متطلعاً لفهم أسرار الطبيعة، لا متقيداً بتقرير أحكام الشريعة. ونحن نعتقد أن عقول البشر قاصرة عن الإِحاطة بأسرار الخليقة، وأن التسليم لنصوص الكتاب والسنة أولى من التخرص في تعليل مظاهر الكون بما يخالف تلك النصوص. • الإِلهام والتحديث والفراسة: وإذ [قد] فرقنا بين علم الغيب وما يلتبس به من الرؤيا والإلهام، فلنذكر

كلمة الشارع في الرؤيا والإلهام، ثم نمثل لهما بمثالين كثر إيرادهما في مبحث الكرامات: أما الإِلهام؛ فالمراد به الإِلهام الخاص دون العام الذي قال الله فيه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8]. والإِلهام الخاص هو الذي عبر عنه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتحديث؛ إذ قال: «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ؛ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ؛ فَإِنَّهُ عُمَرُ» (¬64). أخرجه الشيخان. وعبر عنه أيضاً بالفراسة، فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ؛ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»، ثم قرأ قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] (¬65)؛ قال: " المتفرسين ". ¬

_ (¬64) أخرجه البخاري في (كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، 7/ 42/ 3689) عن أبي هريرة، ومسلم في (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه، 4/ 1864/ 2398) عن عائشة. (¬65) ضعيف: أخرجه الترمذي (8/ 554 - 555/ 5133 - تحفة)، وغيره- ممن ذكرهم المؤلف- من طريق عطيّة عن أبي سعيد الخُدري به، وقال: " هذا حديث غريب لا نعرفه إلّا من هذا الوجه ". قلتُ: وعلّته عطيّة- وهو ابن سعد العوفي الكوفي-؛ فإنه ضعيف مدلّس كما في " الميزان " و " التقريب ". وللحديث طرق أخرى عن غير واحد من الصحابة، لكن كلّها معلولة لا يصح منها شيء. انظر: " المقاصد الحسنة " (23) للسخاوي، و " الضعيفة " (1821) للألباني. " تنبيه ": وأمّا زيادة المؤلف في آخر هذا الحديث: " قال: المتفرسين "؛ فلم أقف عليها مرفوعة إلى النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهي مدرجة! نعم، قال الترمذي بعد قوله السابق: " وقد رُوي عن بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}، قال: لِلمتفرسين "، والعلم عند الله تبارك وتعالى.

قول عمر: " يا سارية ... "

أخرجه عن أبي سعيد الخدري: البخاري في " تاريخه "، والترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن السني، وأبو نعيم في " الطب "، وابن مردويه، والخطيب، قاله في " الدر المنثور " (4/ 103). وهذه الفراسة الناشئة عن الإِيمان غير الفراسة الطبيعية والرياضية، كما في " شرح العقيدة الطحاوية " [ص:425]. • قول عمر: " يا سارية ... ": ومثاله قول عمر رضي الله عنه: " يا سارية! الجبل " (¬66)؛ قاله وهو يخطب على منبر المدينة المنورة، وسارية أمير جيشه عند جبل نهاوند من أرض العجم، وقد كاد يغلبه العدو، فلما قال عمر كلمته؛ سمعها سارية، وانحاز إلى الجبل. أخرج القصة غير واحد، وحسن سندها الحافظ في " الإِصابة ". فأنت ترى أن عمر ألهم حالة أمير جيشه مع عدوه، وألهم تلك الكلمة التي أبلغها الله إلى أذن سارية، فنبهته إلى ما كان غافلًا عنه من التحصن بالجبل. ¬

_ (¬66) حسن: أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " وغيره من طريق ابن وهب، عن يحى بن أيوب، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر؛ قال: وجّه عمر جيشاً، وولّى عليهم رجلًا يدعى سارية، فبينما عمر يخطب جعل ينادي: يا سارية! الجبل (ثلاثاً)، ثم قدم رسول الجيش فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين! هزمنا، فبينما نحن كذلك؛ إذ سمعنا صوتاً ينادي: يا سارية! الجبل، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل، فهزمهم اللهً، قال: فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك. قال الحافظ ابن كثير في " البداية والنهاية " (7/ 131): " وهذا إسنادٌ جيّدٌ حسنٌ "، ووافقه شيخنا في " الصحيحة، (م 3/ ص 101، حديث رقم: 1110)، وحسنه العسقلاني في " الإِصابة " (2/ 3)، ووافقه تلميذه السخاوي في " المقاصد الحسنة " (ص 737، حديث رقم: 1333).

الرؤيا

• الرؤيا: وأما الرؤيا؛ فأخرج البخاري في كتاب التعبير من " صحيحه " عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ». قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ» (¬67). • صدق إخبار أبي بكر عما في بطن زوجه: ومن أمثلتها إخبار أبي بكر رضي الله عنه عما في بطن زوجه حبيبة بنت خارجة رضي الله عنها بأنه أنثى، فكان كذلك، ووضعت بعد موته حبيبة بنتاً سميت أم كلثوم. وقد أخرج مالك في " الموطأ " قصة ذلك عن الزهري عن عروة عن عائشة؛ فالسند كما ترى من الصحة والعلو والاشتمال على الأئمة. وملخص القصة: أن أبا بكر كان نحل ابنته عائشة مبلغ عشرين وسقاً من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة، رده إلى الورثة، وطيب خاطرها بقوله: " إنما هو اليوم مال وارث، وإنما هما أخواك وأختاك "، ولم يكن لعائشة يومئذ أخت غير أسماء، فاستفهمته عن الأخرى، فقال: " ذو بطن بنت خارجة أراها جارية " (¬68). ¬

_ (¬67) أخرجه البخاري في " صحيحه " في (كتاب التعبير، باب المبشرات، 12/ 375/ 6990) عن أبي هريرة. (¬68) صحيح- كما قال المؤلف رحمه الله-: أخرجه مالك في " الموطأ " (4/ 44 - 45/ 1512) عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أنها قالت: إنّ أبا بكر الصديق كان نحلها جَادَّ عشرين وسقاً من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة؛ قال: والله يا بُنَيَّةُ، ما من الناس أحدٌ أحبّ إليَّ غنىً بعدي منكِ، ولا أعزّ عليَّ فقراً بعدي منكِ، وإني كنتُ نحلتك جادّ عشرين وسقاً، فلو كنتِ جدّدتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارثٍ، وإنما هما أخواك وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله. قالت عائشة: =

خروج الإلهام والرؤيا عن علم الغيب

وإنما جعلنا هذا الخبر من أمثلة الرؤيا، لقول ابن مزين: " قال بعض فقهائنا: وذلك لرؤيا رآها أبو بكر تأول فيها ذلك "، نقله الباجي في " المنتقى " (6/ 104)، ولولا هذا النقل، لعددناها من الإِلهام. • خروج الإِلهام والرؤيا عن علم الغيب: وتأمل قول أبي بكر رضي الله عنه: " أراها جارية "، على الظن من غير جزم؛ تجده كما قلنا آنفاً: إن إلهام وتعبير غير المعصوم غير معصومين. قال أبو إسحاق الشاطبي في " الموافقات ": " إذا لاح لأحد من أولياء الله شيء من أحوال الغيب؛ فلا يكون على علم منها محقق لا شك فيه، بل على الحال التي يقال فيها: أرى، أو: أظن، فإذا وقع مطابقاً في الوجود، وفرض تحققه بجهة المطابقة أولاً والاطراد ثانياً؛ فلا يبقى للإِخبار به بعد ذلك حكم؛ لأنه صار من باب الحكم على الواقع " (4/ 85). • بشرى الأولياء: وقد جعل الله لأوليائه البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ ففسرت البشرى الدنيوية بالرؤيا، كما روي عن جمع [من] الصحابة مرفوعاً وموقوفاً تتبعها صاحب " الدر المنثور " (3/ 311)، وتنزل الملائكة عليهم- كما في آية فصلت- يكون عند الموت وفي القبر وحال البعث، كما في " تفسير البغوي " عن وكيع بن الجراح و " تفسير ابن كثير " عن زيد بن أسلم، وذلك خارج عن حكم الدنيا؛ فلهذا خص الحديث المبشرات بالرؤيا، ولم يبق بعد خاتم النبيين وحي ¬

_ = فقلت: يا أَبَتِ! والله لو كان كذا وكذا لتركتهُ، إنما هي أسماءُ، فمن الأخرى؟ فقال أبو بكر: ذُو بَطْنِ بنتِ خارجةَ أُراها جاريةً. وإسناده صحيح كما قال الحافظ في " الفتح " (5/ 215). وانظر: " الإرواء " (6/ 61 - 62/ 1619) لشيخنا.

الكشف

تنزل به الملائكة على أحد، ولا علم غيب يجزم به قبل تحققه وارتفاع الغيب عنه. • الكشف: ولم يبق بعد بيان حكم الرؤيا والإِلهام إلا الكشف الذي كثر من يلفظ به ويردده، وقل من يفهمه أو يحدده. وقد فسر القشيري في " رسالته " كلمة المكاشفة بعبارات غامضة، مرجعها إلى التمكن في العلم، حتى يصير النظري عند المكاشف في حكم الضروري. ومثل في " الموافقات " للمكاشفات بالامتناع من تناول أشياء ظاهرها الجواز؛ كامتناع الشبلي من تناول التين من شجرة ببادية ظنها مواتاً، فأخبرته أنها مملوكة، وكندامة عباس بن المهتدي على التزوج بامرأة، فامتنع من البناء بها، وبعد ثلاثة أيام تبين أن لها زوجاً، وكما كان للحارث المحاسبي عرق في بعض أصابعه يتحرك إذا مد يده إلى ما فيه شبهة فيمتنع عنه (2/ 269). ثم بين أن مثل هذه الحكايات يرجع إلى اجتناب حزاز القلب، لا إلى الحكم بعلم الغيب، وذلك لحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه؛ قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ؟». قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» (¬69). أخرجه أحمد والدارمي في ¬

_ (¬69) صحيح: أخرجه أحمد (4/ 228)، والدارمي (2/ 245 - 246) عن وابصة مرفوعاً، وأعلّه الحافظ ابن رجب في " جامع العلوم والحكم " [ص:236] بالضعف والانقطاع في إسناده، ثم قال: " وقد روي هذا الحديث عن النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه متعددة، وبعض طرقه جيدة ". ثم ذكر رحمه الله تعالى =

نسبة العامة علم الغيب لبعض الناس

" مسنديهما "، وحسنه النووي في " الأربعين "، وذكر له الحافظ ابن رجب في شرحه المسمى " جامع العلوم والحكم " روايات وشواهد. • نسبة العامة علم الغيب لبعض الناس: والعوام ينسبون علم الغيب المطلق إلى من اتخذوهم أولياء، سواء سماهم الشرع أولياء أو كهاناً أو سحرة أو مردة أو مجانين، فيخشون في غيبتهم أن يطلعوا على ما لا يرضونه منهم، ويشدون إليهم الرحال استعلاماً عن سرقة، أو استفتاء عن عاقبة حركة. وبوادي القطن قرب ميلة شرقيها كاهن اسمه سيدي مبارك، يأتيه المستطلعون للغيب من مئات الأميال كسوق هراص وأراضي الحراكتة، ومات، فقام ابنه مقامه، ولم يزل حيّاً- أو: حية- على الجهال، ومثله كثيرون، وإن اختلفت شهرتهم ضيقاً واتساعاً. • حكايتان عن العامة: وحدثني ميليان لم يزالا حيين: قال أحدهما: كنت عند باش تارزي شيخ الطريقة الرحمانية بقسنطينة أعلم القرآن، وكنت فتى تدعوني نفسي إلى غشيان النساء، فلم يكن يمنعني إلا خشية الشيخ أن يطلع علي من طريق الغيب. وقال الآخر: كنت ذا (*) سوق في تاجنانت من أرض أولاد عبد النور، وبقربي ¬

_ = بعض الشواهد التي تقويه، كحديث أبي أمامة وحديث أبي ثعلبة عند أحمد وغيره. والحديث قواه جماعة من الحفاظ؛ كالنووي في " الأربعين "، وفي " رياض الصالحين " [ص:289، رقم: 591] أيضاً، والمنذري في " الترغيب " (4/ 27) وغيرهما. (*) في ط 1: " ذات ".

الفقه الأكبر

اثنان يتنازعان، فحلف أحدهما للآخر بسيده عبد الرحمن بن الحملاوي- شيخ من شيوخ الطريقة الرحمانية- قرب سقان، فتغير وجه المحلوف له، وأنكر على الحالف قائلًا: أليس الشيخ عالماً بما يجري الآن بيننا؟ قال محدثي: ظننته لأول سماع إنكاره أنه ينهاه عن الحلف بالمخلوق؛ فإذا هو يكبره عن الحلف به، ويشركه مع الله في غيبه!! والحكايات في مثل هذه الضلالات مما لا تسعه المجلدات؛ فإن نسبة الغيب المطلق إلى الأولياء مما شاع وذاع، وملأ الحزن والقاع، وهو شرك بإجماع، وإنما حسنه الجهل، والقعود عن العلم حتى فقد طلابه، وتنوعت عقباته وصعابه، ولم يبق من أهله إلا من يدعي فقه الفروع على قلة وجمود. • الفقه الأكبر: أما الفقه الأكبر بالتفقه في الكتاب والسنة، وتصحيح العقائد والأعمال عليهما، وأخذ المواعظ منهما، فقد انقطع منذ أزمان من وطننا، حتى أحياه من ارتحلوا في طلبه ممن تكونت منهم جمعية العلماء، فكانت بهم للوطن توبة، عملوا فيها بآية التوبة: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. • • • • •

الكهانة وما في حكمها

17 - الكهانة وما في حكمها • معنى الكهانة: الكهانة مما فيه معنى الغيب، ومثلها في ذلك العرافة والعيافة والطيرة والطرق والتنجيم. قال في " القاموس ": " كهن له كمنع ونصر وكرم كهانة بالفتح، وتكهن تكهناً: قضى له بالغيب؛ فهو كاهن، والجمع كهنة وكهان، وحرفته الكهانة بالكسر ". • الفرق بينها وبين العرافة: وفي " المصباح ": " العراف مثقل: بمعنى المنجم والكاهن، وقيل: العراف يخبر عن الماضي، والكاهن يخبر عن الماضي والمستقبل ". وفي " مفردات الراغب ": " الكاهن هو الذي يخبر بالأخبار الماضية الخفية بضرب من الظن، والعراف الذي يخبر بالأخبار المستقبلة على نحو ذلك ". • أقسام الكهانة: وفي " معالم السنن " للخطابي: " الكاهن هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب، ويخبر الناس عن الكوائن، وكان في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون

معنى العيافة

كثيراً من الأمور، فمنهم من كان يزعم أن له رئيا من الجن وتابعة تلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يدعي أنه يستدرك الأمور بفهم أعطيه، وكان منهم من يسمى عرافاً، وهو الذي يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها؛ كالشيء يسرق فيعرف المظنون به السرقة، وتتهم المرأة بالزنية فيعرف من صاحبها، ونحو ذلك من الأمور، ومنهم من يسمي المنجم كاهناً " (4/ 229). • معنى العيافة: والعيافة الزجر. قال في " القاموس ": " وعفت الطير أعافها عيافة: زجرتها، وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها وأنوائها، فتتسعد أو تتشاءم، والعائف: المتكهن بالطير أو غيرها ". ونحوه في " الصحاح "، لكنه قال: " وأصواتها "، مكان؛ " أنوائها ". • معنى الطيرة: والطيرة: التشاؤم، يقال: تطيرت من الشيء وبالشيء إذا تشاءمت به؛ كما في " الصحاح ". وقال القرافي في " فروقه ": " التطير: هو الظن السئ الكائن في القلب، والطيرة: الفعل المرتب على هذا الظن من فرار أو غيره " (4/ 238). وقال الحافظ في " الفتح ": " أصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير؛ فإذا خرج أحدهم لأمر؛ فإن رأى الطير طار يمنة؛ تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة؛ تشاءم به ورجع، وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير فيعتمدها، وليس في شيء من ذلك ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلف

الفرق بين الطيرة والفأل

بتعاطي ما لا أصل له؛ إذ لا نطق للطير ولا تمييز فيستدل بفعله على مضمون معنى فيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل من فاعله، وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير ويتمدّح بتركه، وكان أكثرهم يتطيرون ويعتمدون على ذلك، ويصح معهم غالباً؛ لتزيين الشيطان ذلك، وبقيت من ذلك بقايا في كثير من المسلمين " (10/ 174)، وقد حذفنا من كلامه ما لا تمس الحاجة إليه. • الفرق بين الطيرة والفأل: والفأل عكس الطيرة، وقد يلتبس بها فيلحق بها. فأصل الفأل المستحسن شرعاً: أن تسمع كلمة توافق ما أنت بصدده وتبعثك على المضي فيه. قال في " الفروق ": " وأما الفأل الحرام، فقال الطرطوشي في " تعليقه ": إن أخذ الفأل من المصحف وضرب الرمل والقرعة والضرب بالشعير وجميع هذا النوع حرام؛ لأنه من باب الاستقسام بالأزلام. والأزلام: أعواد كانت في الجاهلية، مكتوب على أحدها: افعل، وعلى الآخر: لا تفعل، وعلى الآخر غفل، فيخرج أحدها، فإن وجد عليه: افعل؛ أقدم على حاجته التي يقصدها، أو: لا تفعل، أعرض عنها واعتقد أنها ذميمة، أو خرج المكتوب عليه غفل، أعاد الضرب، فهو يطلب قسمه من الغيب بتلك الأعواد؛ فهو استقسام؛ أي: طلب القسم الجيد يتبعه والرديء يتركه، وكذلك من أخذ الفأل من المصحف أو غيره إنما يعتقد هذا المقصد إن خرج جيداً اتبعه أو رديّاً اجتنبه؛ فهو عين الاستقسام بالأزلام الذي ورد القرآن بتحريمه فيحرم، وما رأيته حكى في ذلك خلافاً " (4/ 241). • معنى الطرق والتنجيم: والطرق قال في " الصحاح ": " الضرب بالحصى، وهو ضرب من

نظر الشريعة إلى بعض علوم العرب

التكهن، والطراق المتكهنون، والطوارق المتكهنات ". وفي " مفردات الراغب ": " التنجيم: الحكم بالنجوم ". ونحوه في " الأساس ". وقد بسط القرافي حكم تعلم النجوم في الفرق الحادي والسبعين والمئتين. • نظر الشريعة إلى بعض علوم العرب: وكل هذه الأشياء من علوم العرب في الجاهلية. قال في " الموافقات " أثناء تعداده لعلوم العرب: " ومنها ما كان أكثره باطلاً أو جميعه، كعلم العيافة، والزجر، والكهانة، وخط الرمل، والضرب بالحصى، والطيرة؛ فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل ونهت عنه، كالكهانة والزجر وخط الرمل، وأقرت الفأل، لا من جهة تطلب الغيب، فإن الكهانة والزجر كذلك، وأكثر هذه الأمور تخرص على علم الغيب من غير دليل، فجاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض، وهو الوحي والإِلهام، وأبقى للناس من ذلك بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جزءً من النبوة، وهو الرؤيا الصالحة، وأنموذجاً من غيره لبعض الخاصة، وهو الإِلهام والفراسة " (2/ 74). • ضروب من الكهانة: وذكر ابن الحاج في كتاب التصوف من " حاشيته على صغير ميارة " ضروباً من الكهانة، بعضها منظوم في أبيات لابن عرضون من مشطور الرجز، فيها أخطاء عربية، والشطر السادس منها غير مستقيم الوزن، ولا ظاهر المعنى، ولكنا لم نرها في غير تلك الحاشية، وأحببنا إيرادها؛ فها هي كما هي: وَقُرْعَةُ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ … وَأَخْذُ مُصْحَفٍ لِأَجْلِ الْفَالِ

حكم حلوان الكاهن ومن في معناه وحكم إتيانهم

وَالْخَطُّ وَالْجَزْمُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ … مِنَ الْكِهَانَةِ وَوِزْرُهُمْ كَبِيْرُ فَاعِلُهُمْ مُجَرَّحُ الشَّهَادَةْ … وَلَا يَوْمَ لَهَا عَلَى السِّمَادَةْ وَمَا بِهِ اكْتَسَبَهُ حَرَامُ … نَصَّ عَلَى ذَا كُلِّهُ الْأَعْلَامُ وَكَلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَاهِناً فَقَدْ … عَصَى إِلَهَهُ وَدِينَهُ فَقَدْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ سِوَى اللَّهِ الْعَظِيمِ … سُبْحَانَهُ جَلَّ إِلَهُنَا الْعَلِيمُ • حكم حلوان الكاهن ومن في معناه وحكم إتيانهم: وفي " زاد المعاد " عن ابن عبد البر: " لا خلاف في حلوان الكاهن أنه ما يعطاه على كهانته، وهو من أكل المال بالباطل، والحلوان في أصل اللغة: العطية ". وقال إثره: " وتحريم حلوان الكاهن تنبيه على تحريم حلوان المنجم والزاجر وصاحب القرعة التي هي شقيقة الأزلام وضاربة الحصى والعراف والرمَّال ونحوهم ممن تطلب منهم الأخبار عن المغيبات، وقد نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إتيان الكهان، وأخبر أن من أتى عرافاً، فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولاريب أن الإِيمان بما جاء به محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبما يجيء به هؤلاء لا يجتمعان في قلب واحد، وإن كان أحدهم قد يصدق أحياناً؛ فصدقه بالنسبة إلى كذبه قليل من كثير، وشيطانه الذي يأتيه بالأخبار لا بد أن يصدقه أحياناً، ليغوي به الناس ويفتنهم به، وأكثر الناس مستجيبون لهؤلاء مؤمنون بهم، ولا سيما ضعفاء العقول؛ كالسفهاء والجهال والنساء وأهل البوادي ومن لا علم لهم بحقائق الإِيمان؛ فهؤلاء هم المفتونون بهم، وكثير منهم يحسن الظن بأحدهم، ولو كان مشركاً كافراً بالله مجاهراً بذلك، ويزوره، وينذر له، ويلتمس دعاءه، فقد رأينا وسمعنا من ذلك كثيراً، وسبب هذا كله خفاء ما بعث الله به رسوله من

ما جاء في الكهانة وما في حكمها

الهدى ودين الحق على هؤلاء وأمثالهم، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] " (4/ 254). • ما جاء في الكهانة وما في حكمها: ولنختم هذا الفصل بأخبار وأشعار في الكهانة وما في حكمها: 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» (¬70). أخرجه أحمد ومسلم. ¬

_ (¬70) صحيح: أخرجه أحمد (2/ 429 - المكتب الإِسلامي)، والحاكم (1/ 8) وقال: " حديث صحيح على شرطهما "، ووافقه الذهبي. وله طريق أخرى عن أبي هريرة أخرجه أحمد (2/ 408 و476) أيضاً، وأبو داود (2/ 157)، والترمذي (1/ 418 - 419/ 135)، وابن ماجه (639) بلفظ: " من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". وفي " فيض القدير " (6/ 23) للمناوي: " وقال الحافظ العراقي في " أماليه ": حديث صحيح ... ، وقال الذهبي: إسناده قوي ". قلتُ: وللحديث شواهد عن جماعة من الصحابة- أشار المؤلف إلى بعضها-، منهم: 1 - جابر رضي الله عنه، ولفظ حديثه: " من أتى كاهناً فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". أخرجه البزار (3/ 400/ 3045 - كشف الأستار)، وقال: " لا نعلمه يروى عن جابر؛ إلّا من هذا الوجه، ولم نسمع أحداً يحدّث به عن غسان إلَّا عقبة ". قلتُ: هو الذي ترجمه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (6/ 311/ 1734)؛ فقال: " عقبة بن سنان بن عقبة بن سنان بن سعد بن جابر بن محمد بن محصن الهدادي بصري، روى عن غسان بن مضر وعثمان بن عثمان الغطفاني، سمع منه أبي في الرحلة الثالثة، سئل أبي عنه، فقال: صدوق ". فالإِسناد جيد كما قال الحافظ في " الفتح " (10/ 217)، ومن قبله الحافظ المنذري في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . = " الترغيب " (5/ 246/ 4388). 2 - حديث أنس، ولفظه: " من أتى كاهناً فصدّقه بما يقول؛ فقد برئ مما أنزل على محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن أتاه غير مصدِّقٍ له؛ لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة ". قال الهيثمي (5/ 118): " رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه رشدين بن سعد وهو ضعيف، وفيه توثيق في أحاديث الرقاق، وبقية رجاله ثقات ". وقال في " الفتح " (10/ 217): " ... بسند ليّن .. ". 3 - حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه مرفوعاً: " من أتى كاهناً فسأله عن شيء؛ حجبت عنه التوبة أربعين ليلة، فإن صدَّقه بما قال، كفر ". رواه الطبراني في " معجمه الكبير " (22/ 69/ 169) بإسناد ضعيف جداً، فيه سليمان بن أحمد الواسطي " وهو متروك " كما في " المجمع " (5/ 118)، وعيسى بن سنان الشامي الفلسطيني " ضعيف "، وأبو بكر بن بشير، لعلّه الذي في " الجرح والتعديل " (9/ 342/ 1522)؛ قال: " روى عن كعب بن عجرة، روى عنه عبد الملك بن أبي جميلة، سمعت أبي يقول ذلك "، فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً! 4 - حديث عمران بن حُصين مرفوعاً: " ليس منّا مَنْ تطيّر أو تُطُيِّر له، أو تكهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له، ومن عقد عُقدة- أو قال:- عُقد عقدة، ومن أتى كاهناً فصدّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". أخرجه البزار (3/ 399 - 400/ 3044)، وقال: " قد روي بعضه من غير وجه، فأما بتمامه ولفظه؛ فلا نعلمه إلّا عن عمران بهذا الطريق، وأبو حمزة بصري لا بأس به ". وقال الهيثمي (5/ 117): " ورجاله رجال الصحيح؛ خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة ". قلتُ: لكنه من رواية الحسن- وهو البصري- عن عمران، وقد اختلفوا في سماعه منه كما في " جامع التحصيل " [ص:163] و " نصب الراية " (1/ 90) وغيرهما، فإن ثبت فعلَّته عنعنة الحسن؛ فإنه مدلس معروف بذلك، ومنه يعلم أن قول المنذري في " الترغيب " (5/ 245)، ثم الحافظ في " الفتح " (10/ 217): " بإسناد جيّد "! غير جيّد، والله أعلم. نعم، الحديث صحيح، له شاهد رواه البزار (3/ 399/ 3043)، والطبراني في " الأوسط " من حديث ابن عباس دون قوله: " ومن أتى- إلى آخره "، وفيه زمعة بن صالح وهو ضعيف؛ =

ورواه البزار عن جابر بن عبد الله مرفوعاً وعن ابن مسعود موقوفاً، والطبراني عن أنس وواثلة مرفوعاً، ذكر رواياتهم الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5/ 117 - 118)، وأخرجه أبو داود عن أبي هريرة بنحو ما تقدم. 2 - وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاسٌ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ». فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَنَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ، يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مئَةَ كَذْبَةٍ» (¬71). أخرجه الشيخان، وقوله: «يَقُرُّهَا»؛ بوزن: يردها، من القر، وهو ترديد الكلام في أذن المخاطب حتى يفهم. 3 - وعن أبي مسعودرضي الله عنه، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن (¬72). أخرجه الشيخان وغيرهما. ¬

_ = كما قال الهيثمي في " المجمع "، والجملة الأخيرة ثابتة في غير ما حديث كما سبق قريباً، والله الموفق. 5 - أثر ابن مسعود الموقوف، وسيأتي إن شاء الله تخريجه برقم: (86). " تنبيه ": عزو المؤلف رحمه الله تعالى حديث أبي هريرة لمسلم وهم! نعم، أخرج في " صحيحه " (4/ 1751/ 2230) عن صفية، عن بعض أزواج النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: " مَنْ أَتى عرَّافاً فسأله عن شيءٍ، لم تُقبل له صلاة أربعين ليلةً "، والله أعلم. (¬71) أخرجه البخاري في (كتاب الطب، باب الكهانة، 10/ 216/ 5763)، ومسلم في (كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، 4/ 1750/ 2228) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬72) أخرجه البخاري في (كتاب البيوع، باب ثمن الكلب، 4/ 426/ 2237)، ومسلم في (كتاب المساقاة، باب تحريم الكلب و ... ، 3/ 1198/ 1567)، وأبو داود (2/ 102)، والترمذي (4/ 495/ 1293) وقال: " حديث حسن صحيح "، والنسائي (7/ 309)، وابن ماجه (2159) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.

4 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " الطيرة شرك، وما منا إلّا ... ولكن الله يذهبه بالتوكل " (¬73). أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه هو وابن حبان، وبين الحافظ في " الفتح " أن قوله: " وما منا " من كلام ابن مسعود (10/ 174). 5 - وعن رويفع بن ثابت رضي الله عنه؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من ردته الطيرة ¬

_ (¬73) صحيح: أخرجه أبو داود (2/ 158) بزيادة " ثلاثاً " بعد قوله: " الطيرة شرك "، والترمذي (5/ 238/ 1663)، وابن ماجه (3538)، وابن حبان (13/ 491/ 6122 - الإِحسان)، والحاكم (1/ 17 - 18)، وأحمد (3687 و4171 و4194) وغيرهم عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً، وقال الترمذي: " حسن صحيح ... سمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث: " وما منّا إلّا، ولكن الله يذهبه بالتوكل ". قال سليمان: هذا عندي قول عبد الله بن مسعود ". وقال الحاكم: " حديث صحيح سنده، ثقات رواته "، وأقره الذهبي، وصححه الشيخ أحمد شاكر والألباني وغيرهم. وانظر: " الصحيحة " (430)، و " غاية المرام " (303)، و " صحيح [الجامع الصغير " (3855)، و " سنن أبي داود " (3309)، و " سنن الترمذي " (1314)، و " سنن ابن ماجه " (285)] للألباني. " تنبيه ": قال المؤلف رحمه الله تعالى: " وبيّن الحافظ في " الفتح " (10/ 213 - طبعة دار المعرفة) أن قوله: (وما منّا ... ) من كلام ابن مسعود ". قلتُ: يعني أنه مدرج ليس من كلامه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اعتماداً على كلام سليمان بن حرب المتقدم قريباً في كلام الترمذي، وإليه مال جمع من الحفاظ كالبخاري والترمذي والمنذري وغيرهم، وذهب الحافظ ابن القطان الفاسي وغيرهُ- واختاره الألباني- أن الإِدراج دعوى لا تقبل إلّا بحجة؛ فالحديث صحيح بكامله، مرفوع بتمامه. والمسألة تحتاج إلى مزيد بيان وتحرير وبحث؛ فلعل الله ييسر ذلك قريباً إن شاء الله تعالى، والله ولي التوفيق.

حكمة مدح الفأل وذم الطيرة

عن شيء؛ فقد قارف الشرك " (¬74). رواه البزار عن شيخه إبراهيم غير منسوب، وفيه سعيد بن أسد بن موسى، روى عنه أبو زرعة الرازي، ولم يضعفه أحد، وبقية رجاله ثقات، قاله في " مجمع الزوائد " (5/ 105). • حكمة مدح الفأل وذم الطيرة: 6 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لاَ طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفأْلُ» قَالُوا: وَمَا الْفأْلُ؟ قَالَ: «الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةِ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ» (¬75). أخرجه الشيخان. وفي " فتح المجيد " عن الحليمي: " وإنما كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعجبه الفأل، لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال " [ص:325]. 7 - وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ليس منا من ¬

_ (¬74) صحيح: أخرجه البزار (3/ 400/ 3046)، وقال: " لا نعلم رواه بهذا اللفظ إلّا رُويفع وحده، وإنما ذكرنا حديث شُيَيْم؛ لأن هذا لا يُروى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلًا عنه ". قال الهيثمي (5/ 105) - كما نقله المؤلف-: " وفيه سعيد بن أسد بن موسى، روى عنه أبو زرعة الرازي، ولم يضعفه أحدٌ، وشيخ البزار إبراهيم غير منسوب، وبقية رجاله ثقات ". قلتُ: قال الحافظ في " لسان الميزان " (2/ 416): " ... من عادة أبي زرعة أن لا يحدّث إلّا عن ثقة "، وفيه أيضاً شيبان بن أمية " مجهول " كما في " التقريب " (1/ 356)، لكن للحديث شواهد تقويه تنظر في " الصحيحة " (1065) لشيخنا. (¬75) أخرجه البخاري في " صحيحه " (كتاب الطب، باب الطيرة، 10/ 212/ 5754، وفي باب الفأل، 10/ 214/ 5755)، ومسلم في " صحيحه " (كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم، 4/ 1745/ 2223) عن أبي هُريرة مرفوعاً.

تطير أو تطير له، أو تكهن له، أو سحر أو سحر له " (¬76). رواه الطبراني، وفيه إسحاق بن الربيع العطار، وثقه أبو حاتم، وضعفه عمرو بن علي، وبقية رجاله ثقات. وأخرجه البزار أيضاً، ورجاله رجال الصحيح؛ خلا إسحاق بن الربيع، وهو ثقة، قاله في " مجمع افزوائد " (5/ 104، 117). 8 - وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه؛ قال: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة، فالتفت إليها، فقال: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَرَّأَ هَذِهِ الْجَزِيرَةَ مِنَ الشِّرْكِ» (¬77)، وفي رواية: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ طَهَّرَ هَذِهِ الْقَرْيَةَ مِنَ الشِّرْكِ إِنْ لَمْ ¬

_ (¬76) صحيح: أخرجه الطبراني في " معجمه الكبير " (18/ 162/ 355)، والبزار في " مسنده " (3044) عن الحسن عن عمران به. وقد تقدم قريباً بيان علّته مع ذكر شاهد له يقويه، فانظره تحت التخريج رقم (70)، وأمّا الهيثمي؛ فقال (5/ 103 - 104): " رواه الطبراني، وفيه إسحاق بن الربيع العطار، وثقه أبو حاتم وضعفه عمرو بن علي، وبقية رجاله ثقات ". (¬77) ضعيف: رواه البزار (3/ 321 - 322/ 2848 - كشف الأستار): حدتنا محمد بن العلاء، وأبو يعلى (6/ 148/ 6678)، ثنا أبو كريب، كلاهما عن الحسن بن عطية، ثنا قيس، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب مرفوعاً باللفظ الأول. وتابع الحسَن بن عطية: موسى بن داود، ثنا قيس به. أخرجه البزار أيضاً بنحوه، ولم يسق في " كشف الأستار " لفظه. وهذا سند ضعيف: قيس- وهو ابن الربيع الأسدي- " صدوق في نفسه، سيئ الحفظ، لا يحتج به "؛ كما قال الحافظ الذهبي في " الميزان " (3/ 393)، و " الديوان " (3457)، والحسن - وهو البصري- مدلس وقد عنعنه! ورواه أبو يعلى (6/ 150/ 6683): ثنا موسى بن محمد بن حيّان، ثنا عبد الصمد، ثنا عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن، عن العباس مرفوعاً باللفظ الآخر. وهذا سند ضعيف أيضاً: موسى ترك أبو زرعة حديثه كما سيأتي في " التخريج " (209)، =

حكم التنجيم

تُضِلُّهُمُ النُّجُومُ». رواه أبو يعلى والطبراني في " الكبير " و " الأوسط "، وفيه قيس ابن الربيع، وثقه شعبة والثوري، وضعفه الناس، وبقية رجاله ثقات، قاله في " مجمع الزوائد ". • حكم التنجيم: 9 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ، اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ، زَادَ مَا زَادَ» (¬78). رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ¬

_ = وعمر بن إبراهيم- وهو العبدي البصري- صدوق، في حديثه عن قتادة ضعف كما في " التقريب " (3/ 51)، وفيه انقطاع بين الحسن والعباس، والظاهر أن بينهما الأحنف بن قيس كما في الرواية المتقدمة، ثم إن الحسن مدلّس وقد عنعنه! والله تعالى أعلم. ومنه تعلم ما في تخريج الهيثمي في " المجمع " من قصور بل تساهل حين قال: " وفيه قيس ابن الربيع وثقه شعبة والثوري وضعفه الناس، وبقية رجال أبي يعلى ثقات "، كذا قال في (3/ 299 و5/ 116 ونحوه في 10/ 54) بل قال في (8/ 114): " وإسناد أبي يعلى حسن "! (¬78) حسن: أخرجه أحمد (3/ 311 - 312، رقم: 2000)، وأبو داود (2/ 157)، وابن ماجه (3726)، كلهم عن يحى بن سعيد، عن عُبيد الله بن الأخنس، عن الوليد بن عبد الله، عن يوسف بن ماهك عنه به. وهذا سند حسن، رجاله ثقات غير عبيد الله بن الأخنس، ترجمه الحافظ في " التقريب " (1/ 530)؛ فقال: " صدوق، قال ابن حبان: كان يخطئ "، وقال في " الفتح " (10/ 199): " وثقه الأئمة، وشذ ابن حبان فقال في " الثقات ": يخطئ كثيراً "! والحديث صححه جمع من أساطين هذا الفن، منهم الإِمام النووي في " رياض الصالحين " (ص 629، برقم: 1671)، وشيخ الإِسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (35/ 193)، والحافظ الذهبي كما في " فيض القدير " (6/ 80) للمناوي، والحافظ العراقي في " تخريج الإِحياء " (4/ 117)، والشيخ المحقق أحمد شاكر في " تعليقه على المسند "، ومحدّث العصر شيخنا الألباني في " الصحيحة " (793)، و " صحيح [الجامع الصغير " (5950)، و " سنن أبي داود " (3305)، و " سنن ابن ماجه " (3002)].

بإسناد رجاله ثقات، وصححه النووي في " رياض الصالحين ". قال ابن رسلان في " شرح السنن ": " والمنهي عنه ما يدعيه أهل التنجيم من علم الحوادث والكوائن التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان، ويزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها، وهذا تعاط لعلم استأثر الله بعلمه ... وأما علم النجوم الذي يعرف به الزوال وجهة القبلة، وكم مضى وكم بقي؛ فغير داخل فيما نهي عنه، ومن المنهي عنه: التحدث بمجيء المطر، ووقوع الثلج، وهبوب الرياح (*)، وتغير الأسعار ". نقله الشوكاني في " نيل الأوطار " (7/ 152). 10 - وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ» (¬79). رواه: أبو داود، والنسائي، وابن حبان في " صحيحه "، وحسنه في " رياض الصالحين ". ¬

_ (*) " يجب أن نفرق بين الوسائل التي يستخدمها المنجمون والعرافون ليسيطروا بها على عقول البسطاء والسذج من البشر، وبين الوسائل العلمية الدقيقة التي تحاول اكتشاف الوقائع الجوية من حَرٍّ وبردٍ ومطرٍ، ذلك أن الله سبحانه خلق الكون على نظام دقيق وقوانين ثابتة، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَا تَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ»، فإذا استطاعت الوسائل العلمية الدقيقة دراسة القوانين التي تسير عليها الظواهر الطبيعية ونتائجها كان توقعها لنتائج هذه الظواهر توقعاً بشيءً كشفه الله، فلا يعتبر إحاطة بغيب خبّأه الله سبحانه ". كذا في " الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة " [ص:71]. (¬79) ضعيف: أخرجه أبو داود (2/ 157)، وأحمد (5/ 60 - مصورة المكتب الإِسلامي)، وعبد الرزاق (10/ 403/ 19502)، وابن حبان (13/ 502/ 6131)، من طريق عوف، ثنا حيان، ثنا قطن ابن قبيصة، عن أبيه مرفوعاً به. وقد حسنه النووي في " رياضه " (629، برقم: 1670) - كما قال المؤلف-، وابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (35/ 192)، وسكت عليه المخذري في "مختصر سنن أبي داود " (5/ 373) وقال: " وأخرجه النسائي (يعني: في سننه الكبرى) ". =

والجبت: كل ما عبد من دون الله، ويطلق على الساحر والكاهن، قاله الراغب في " مفرداته "، والجوهري في " صحاحه ". ومما قاله الشعراء في هذا الباب قول لبيد: لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الطَّوَارِقُ بِالْحَصَا … وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللهُ صَانِعُ آخر: تَعَلَّمْ أَنَّهُ لَا طَيْرَ إِلَّا … عَلَى مُتَطَيِّرٍ وَهُوَ الثَّبُورُ آخر: الزَّجْرُ وَالطَّيْرُ وَالْكُهَّانُ كُلَّهُمُ … مُضَلِّلُونَ وَدُونَ الْغَيْبِ أَقْفَالُ • • • • • ¬

_ = وأمّا شيخنا، فأعلَّه باختلاف الرواة في إسناده عن عوف واضطرابهم الشديد في حيان، وحكم بضعفه في " غاية المرام " (301)، و " ضعيف [الجامع الصغير " (3904)، و " سنن أبي داود " (842)]، والعلم عند الله تبارك وتعالى.

السحر

18 - السحر السحر- بكسر فسكون- مما يلتبس بالكرامات، ويظن صاحبه قادراً على التصرف في الكائنات، نافذاً علمه في حجب المغيبات، فلزم أن نتحدث عنه. • السحر في اللغة: السحر- بفتحتين وبسكون ثانيه مع ضم أوله أو فتحه- هو الرئة، يقال: كل ذي سحر يتنفس ويتطلب الغذاء، ثم قد يطلق على الغذاء نفسه وعلى آخر الليل، لأنه متنفس الصبح، وكل هذا فيه معنى الخفاء، فإن الرئة خفية في ذات الحيوان، والنفس ألطف شيء فيه، والغذاء تخفى مجاريه في البدن ويدق تأثيره، ويطلق السحر بمعنى التعليل والتلهية، وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 185]: فسر بالمعللين، وبمَن خُلِق ذا سحر، ويطلق بمعنى الخداع، تقول: سحرت الصبي إذا خدعته، وبمعنى الصرف والاستمالة، وعليه حمل حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند أحمد والبخاري وغيرهما؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» (¬80). ¬

_ (¬80) أخرجه البخاري (10/ 237/ 5767) عن عبد الله بن يوسف، وأبو داود (2/ 315) عن عبد الله بن مسلمة، وأحمد (6/ 296 - 297/ 4651) عن يحيى، ثلاثتهم عن مالك، وهذا في " الموطأ " (4/ 403/ 1916) عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ =

السحر في الشرع

قال في " القاموس ": " معناه- والله أعلم- أنه يمدح الإِنسان فيصدق فيه حتى يصرف قلوب السامعين إليه، ويذمه فيصدق فيه حتى يصرف قلوبهم أيضاً عنه ". • السحر في الشرع: فالسحر يرجع في معناه إلى الخفاء واللطافة، وإلى الخداع والتمويه، وإلى التلهية والتعليل، وإلى الصرف والاستمالة، وعرفه الجصاص في " أحكامه " بقوله: " كل أمر خفي سببه، وتخيل على غير حقيقته، وجرى مجرى التمويه والخداع " (1/ 42). وقال ابن العربي في " أحكامه ": " حقيقته أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى، وتنسب إليه فيه المقادير والكائنات " (1/ 14). • أنواع السحر: ونوع الراغب في " مفرداته " السحر إلى ثلاثة أنواع، ونوعه الفخر الرازي في " تفسيره " إلى ثمانية تدخل فيها أنواع الراغب، ونحن نلخصها فيما يلي - توضيحاً لمعناه، وتفصيلًا لأحكامه-: ¬

_ = أنه قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجِبَ الناسُ لبيانهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من البيان لسحراً- أو:- إن بعض البيان سحر». وأخرجه البخاري (9/ 251/ 5146) أيضاً عن قبيصة عن سفيان، والترمذي (6/ 175 - 176/ 2097) عن قُتيبة عن عبد العزيز بن محمد، كلاهما عن زيد به. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". وأخرجه مسلم (2/ 594/ 869) عن أبي وائل، قال: خطبنا عمّار، فأوجز وأبلغ، فلما نزل، قلنا: يا أبا اليقظان! لقد أَبْلَغْتَ وأوجزت، فلو كُنْتَ تَنَفَّسْتَ! فقال: إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إنّ طول صلاة الرجل، وقِصَر خُطبته؛ مَئِنَّةٌ من فقهه، فاطيلوا الصلاة وأقصروا الخُطبة، وإنّ من البيان سِحْراً ".

سحر البابليين

• سحر البابليين: النوع الأول: سحر البابليين من الكلدان الذين كانوا يعبدون الكواكب، ويرونها مدبرة هذا العالم، فيستميلونها إليهم، أو يصرفون ضررها عنهم بالرقى والدخن وكل ما يناسب الكواكب ويقرب منها في رأيهم. • سحر أصحاب الأحوال: النوع الثاني: سحر أصحاب الأحوال ذوي النفوس القوية المؤثرة عندهم، يعملون لتقويتها بتقليل الغذاء والعزلة عن الناس وقطع المألوفات والمشتهيات، ويستعينون على تأثيرها بالرقى والدخن. قال ابن كثير في " تفسيره ": " والتصرف بالحال على قسمين: تارة تكون حالًا صحيحة شرعية يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويترك ما نهى الله تعالى عنه ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه الأمة، ولا يسمى هذا سحراً في الشرع، وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يتصرف بها في ذلك، فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة، ولا يدل إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبة لهم؛ كما أن الدجال له من الخوارق للعادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة، مع أنه مذموم شرعاً لعنه الله " (1/ 266). • سحر أصحاب العزائم: النوع الثالث: سحر عبدة الشياطين وخدمة الجان، يتقربون إليهم بالرقى والعزائم والدخن، يزعمون عن خيال ووهم زعماً لا يشهد له عقل ولا أثارة من علم أن ما يعزمون به أسماء لله تعالى كانت الملائكة تتصرف بها في الجن على عهد سليمان فمتى ذكَرهَا المعزم؛ انقادت له الجن في استخراج الخبايا أو الخروج من الممسوس.

سحر أصحاب الشعوذة

• سحر أصحاب الشعوذة: النوع الرابع: سحر المشعوذين يخدعون الناس بحركات خفيفة، يصرفون بها الأنظار عما يريدون فعله والاحتيال فيه إلى شيء معين يحدق الحاضرون إليه بأعينهم. • سحر أصحاب التخييل بالصنعة: النوع الخامس: سحر حذاق أهل الصنعة؛ كتركيب آلات على نسب هندسية تظهر منها أعمال عجيبة، والصناعات- كالعلوم- منها الجلي الذي يدركه كل عاقل رآه أو سمعه، ومنها الخفي الذي لا يدركه إلا الخواص ممن عنوا به، وقد قيل: إن سحر القبط من النوع الرابع، وقيل: من هذا النوع، عمدوا إلى الحبال والعصي، فحشوها زئبقاً، وصارت تتلوى، فخيل للناظرين أنه تسعى باختيارها، وإنما يعد هذا في السحر إذا كتم الصانع أسباب عمله الخفية، وزعم أنه يفعل ذلك خارقاً للعادة بقوة نفسه أو بجاهه عند الله، كالذين يحملون العصي الخاصة لصرخ البارود، يوهمون العامة أنها عصي عادية تصرخ كرامة لهم. • سحر أصحاب التخييل بالخواص: النوع السادس: سحر الواقفين على خواص الأشياء، كخواص الأعداد المعبر عنها عندنا بعلم الجدول، وكخواص الأعشاب، وكخواص الأحجار مثل المغناطيس، فإن للأشياء كما للعباد طبائع وخواص، إنما بعضها ضروري كإرواء الماء وإحراق النار، وبعضها نظري غامض لا يهتدي إليه إلا القليل من الباحثين. قال ابن كثير في " تفسيره ": " يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر، ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص، مدعياً أنها أحوال له؛ [من] مخالطة

سحر أصحاب التنويم

النيران، ومسك الحيات ... إلى غير ذلك من المحالات ". قلت: وقد ارتقى اليوم علم الكيمياء ارتقاء بديعاً، وصارت المركبات الكيماوية بضائع مبتذلة، فتجد عبدة الخوارق يقتنون منها ويدجلون بها على البداة الذين لم يزالوا على الفطرة لم يشعروا بالمدنية الحاضوة وغرائبها. • سحر أصحاب التنويم: النوع السابع: سحر التنويم، وعبر عنه الرازي بتعليق القلب، وهو أن يهول الساحر على ضعيف العقل قليل التمييز، ويوهمه أنه يتصرف في الجن حتى يؤثر عليه، فيصدقه، ويتعلق قلبه به، ويسلب شعوره من الرعب، فيكون معه كالنائم، وهنالك يفعل الساحر به ما شاء، وعامتنا تعبر عن هذا الساحر بالمصروع، وعن حركاته بالتهوال. • سحر النمام: النوع الثامن: سحر النميمة بالسعي بين الناس من وجوه خفية لطيفة، ولم ينفرد الرازي بإدخال النميمة في السحر، بل سبقه إليه أبو بكر الجصاص في " أحكامه "، وفعله أيضاً الراغب في " مفرداته "، وهو مقتضى ما أخرجه مسلم عن ابن مسعود رضى الله عنه، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أَلَا هَلْ أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ» (¬81). والعضه- بفتح فسكون-: السحر في لغة قريش، والعاضه: الساحر عندهم، قاله في " الصحاح ". ¬

_ (¬81) أخرجه مسلم في " صحيحه " في (كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم النميمة، 4/ 2012/ 2606) عن عبد الله بن مسعود؛ قال: إن محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا انَبِّئُكُمْ ما العَضْهُ؛ هي النميمةُ القالَةُ بين الناس»، وإن محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنّ الرَّجُلَ يَصْدُقُ حتى يُكْتَبَ صِدِّيقاً، ويكْذِبُ حتى يُكتب كَذَّاباً»

ما يقع بالسحر

وقال يحيى بن أبي كثير: " يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة ". ومقتضاه أن النمام غير الساحر، ولكن يلتحق به في المعنى. والهيتمي في " الزواجر " تبع الرازي في عَدِّه أنواع السحر بترتيبه وألفاظه، إلا في هذا النوع، فإنه أسقطه. وصرح في " الفتاوى الحديثية " بأن من السحرة أو في معناهم من تجتمع عليهم الخلق في الطرقات لإِلهاء الناس بأشياء عجيبه؛ كقطع رأس الإِنسان وإعادتها، وندائهم له بعد ذلك فيجيبهم، وجعل نحو دارهم من التراب وغير ذلك مما هو مشهور عنهم، وكذلك من يكتبون للمحبة والقبول وإخراج الجان. • ما يقع بالسحر: قال القرطبي في " تفسيره ": " قال علماؤنا: لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات بما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو ... إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات البشر. قالوا: ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوّات والخوخات، والانتصاب على رأس قصبة، والجري على خيط مستدق، والطيران في الهواء، والمشي على الماء، وركوب كلب، وغير ذلك، ومع ذلك؛ فلا يكون السحر موجباً لذلك، ولا علة لوقوعه، ولا سبباً مولداً، ولا يكون الساحر مستقلًّا به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والري عند شرب الماء ". وروى سفيان عن عمار الدّهني أن ساحراً كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ويدخل في است الحمار ويخرج من فيه، فاشتمل له جندب على

السيف، فقتله جندب (¬82). هذا هو جندب بن كعب الأزدي- ويقال: البجلي-، وهو الذي قال في حقه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَكُونُ فِي أُمَّتِي رَجُلٌ، يُقَالُ لَهُ: جُنْدُبٌ، يَضْرِبُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ»؛ فَكَانُوا يَرَوْنَهُ جُنْدُبًا هَذَا قَاتِلُ السَّاحِرِ (¬83). ¬

_ (¬82) قويٌّ إن شاء الله تعالى: قال الحافظ ابن كثير في " تفسيره " (1/ 252): " وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه ... " فذكر القصة بنحو ما ساقها المؤلف، وهي عند البخاري في " تاريخه "، والبيهقي في " الدلائل "، والطبراني في " معجمه الكبير " (2/ 177/ 1725)، والدارقطني في " سننه " (3/ 114) وغيرهم. وانظر: " الاستيعاب " (1/ 220 - 221) لابن عبد البر، و " سير أعلام النبلاء " (3/ 175 - 176) للذهبي، و " الإِصابة " (1/ 251 - 252 و566) لابن حجر، و " الضعيفة " (3/ 642) للألباني. (¬83) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (10/ 181 - 182، رقم: 18748) - وعنه ابن عبد البر في " الاستيعاب " (1/ 221) - من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار؛ قال: سمعت بجالة التيمي؛ فذكر حديثاً مطولاً، وفيه قال: " وأمّا شأنُ أبي بستان، فإن النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لجندب: " جندب وما جندب! يضرب ضربةً يفرّق بها بين الحقّ والباطل ... " الحديث. قلتُ: وهذا إسناد مرسل ضعيف، بجالة التيمي تابعي ثقة وليس صحابيّاً، وابن جريج مدلس وقد عنعنه! وروى ابن السكن- كما في " الإِصابة " (1/ 251) - من طريق يحى بن كثير صاحب البصري: حدثني أبي، حدثنا الجُريري، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه؛ قال: ساق رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحابه؛ فجعل يقول: " جندب! وما جندب؛ " حتى أصبح، فقال أصحابه لأبي بكر: لقد لفظ بكلمتين، ما ندري ما هما، فسأله فقال: " يضرب ضربةً فيكون أمّة وحده ... " الحديث. ويحى بن كثير " ضعيف " كما في " الميزان " و " التقريب " وغيرهما، والجُريري- وهو سعيد =

ما لا يقع بالسحر

• ما لا يقع بالسحر: " وأجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد، والقمل، والضفاح، وفلق البحر، وقلب العصا، وإحياء الموتى، وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام؛ فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: " وإنما منعنا ذلك بالإِجماع، ولولاه؛ لأجزناه " (2/ 47). • ساحر الوليد: وذكر ابن عبد البر في " الاستيعاب " والحافظ في " الإِصابة " جندباً هذا والحديث الذي ورد في حقه، وحديثه مع ساحر الوليد، وأن ذلك الساحر كان يلعب بين يدي الوليد بن عقبة، وهو أمير بالعراق، فيرى أنه يقطع رأس رجل ثم يعيده، أو يضرب رأس نفسه، فيرمي به، ثم يشتد، فيأخذه، ثم يعيده مكانه، فجاءه جندب، فضرب عنقه، وقال: قولوا له: فليحي نفسه الآن ". • حكم السحر: وقال القرطبي في " تفسيره " أيضاً: " من السحر ما يكون كفراً من فاعله، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس وإخراجهم في هيئة بهيمة، وقطع مسافة شهر في ليلة، والطيران في الهواء، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه مُحِقٌّ؛ فذلك كفر منه ". ¬

_ = ابن إياس- وإن كان " ثقة من رجال الشيخين؛ فقد اختلط قبل موته بثلاث سنين " كما في " التقريب " (1/ 291)؛ فلا أدري هل سمع منه أبو يحيى قبل الاختلاط أم بعده؟! ورواه ابن منده بنحوه- كما في " الإِصابة " (1/ 566) أيضاً- من طريق الجُريري به.

ما جاء في السحر

وفي " تفسير ابن كثير " عن ابن هبيرة؛ أنه قال في كتابه " الإِشراف على مذاهب الأشراف ": " واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفر بذلك. ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: إن تعلمه ليتقيه أو يجتنبه؛ فلا يكفر، ومن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفعه؛ كفر، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء؛ فهو كافر. وقال الشافعي رحمه الله: إذا تعلم السحر؛ قلنا له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يُلتمس منها؛ فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر؛ فإن اعتقد إباحته؛ فهو كافر " (1/ 270). وما نسبه لبعض أصحاب أبي حنيفة من عدم تكفير متعلمه اتقاء له ليس معناه الجواز؛ فإن بين الكفر والجواز درجات. قال أبو البقاء الحنفي في " كلياته ": " والصحيح من مذهب أصحابنا أن تعلمه حرام مطلقاً، لأنه توسل إلى محظور عنه غني، وتوقيه بالتجنب أصلح وأحوط " [ص:208]. وقال الهيتمي في " الفتاوى الحديثية ": " الصواب أن التقرب إلى الروحانيات وخدمة ملوك الجان من السحر، وهو الذي أضل الحاكم العبيدي لعنه الله حتى ادعى الألوهية، ولعبت به الشياطين حتى طلب المحال " [ص:88]. • ما جاء في السحر: وهذا بعض ما جاء في السحر: 1 - قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ... } الآية [البقرة: 102].

2 - وقال حكاية عن موسى وخطابه للسحرة: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]. 3 - وقال جل شأنه: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]. 4 - وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا هُنَّ؛ قال: «الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ» (¬84). فجعل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السحر متصلاً بالشرك العلني، ومتقدماً على القتل. 5 - وأخرج النسائي عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً، ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا؛ فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ، فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ ِشَيْئاً وُكِّلَ إلَيْهِ» (¬85). قال في " الزواجر ": " ولم يسمع الحسن من أبي هريرة عند الجمهور " (2/ 93). ¬

_ (¬84) أخرجه البخاري في (كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، 5/ 393/ 2766)، ومسلم في الإِيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 92/ 89) عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬85) ضعيف: أخرجه النسائي (7/ 112) بإسناد ضعيف، لأنه من رواية الحسن- وهو البصري- عن أبي هريرة، ولم يسمع منه عند الجمهور- كما قال المنذري في " الترغيب " (5/ 244)، ونقله المؤلف عن صاحب " الزواجر " -. وانظر: " ضعيف [سنن النسائي " (276)، و " الجامع الصغير " (5714)]. لكن جملة " ومن تعلق ... " لها شاهد، فانظر رقم (96) الآتي.

ضرر السحر في الدين

6 - وروى البزار أن عبد الله رضي الله عنه، قال: " من أتى كاهناً أو ساحراً، فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] " (¬86). قال ابن كثير: " وإسناده صحيح، وله شواهد أخر ". • ضرر السحر في الدين: تلك أقوال الفقهاء مجمعة على أن السحر معصية، ثم جلهم يرونها معصية شرك وكفر بإطلاق، وبعضهم لا ينتهي بها إلى الكفر ما لم ينضم إليها: إما استحلال لها، وإما اعتقاد ينافي التوحيد، وإما فعل يخالف الإِسلام. وهذه الآيات والآثار تنكر على الساحر أي إنكار، وتحذر من السحر كل تحذير، وما ذلك إلا لشدة ضرر هاته الآفة في الدين والدنيا، وأول أضرارها الصد عن كتاب الله، وهذا ما وقع فيه قبلنا بنو إسرائيل، فعابه القرآن عليهم في آية {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 101 - 102]. ¬

_ (¬86) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 436)، والبزار (2/ 443/ 2067) من طريقين عنه موقوفاً، قال الحافظ ابن كثير في " تفسيره " (1/ 251) - كما نقله المؤلف- في أحدهما: " وهذا إسناد صحيح، وله شواهد أخر ". وزاد الهيثمي في " المجمع " (5/ 118) نسبته للطبراني في " الكبير " و " الأوسط "، وقال: " ورجال الكبير والبزار ثقات ". وقال في الطريق الأخر: " رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، خلا هبيرة بن مريم وهو ثقة ". والأثر قواه الحافظ المنذري في " الترغيب " (5/ 247/ 4394 و4395)، وابن حجر في " الفتح " (10/ 217).

ولوع بعض الطبقات به

• ولوع بعض الطبقات به: أبَعْدَ هذا التنبيه وذلك التحذير يتسابق أصحاب هذا الكتاب وأتباع ذلك الرسول إلى ضروب السحر، ويتنافسون في إتقانها، ويفخر فاخرهم بالمهارة فيها؟! تجد بعض المنتسبين إلى بيوت الصلاح أو دور الطرق الصوفية- وما أكثرهم! - يدجلون على بله العوام بمخاريق سحرية، يوهمونهم بها أنهم ذوو كرامات أولوا تصرف في الروحانيات، وترى بعض من تعلموا القراءة والكتابة يكبون على شمس المعارف للبوني، يأخذون منها أقوالاً وأعمالًا مبنية على علم الحروف المنظور فيه إلى طبائع الكواكب المزعوم أنها الحاكمة في هذا العالم، فيعتقدون اعتقاد الكلدان، ويلبسون لباس أهل القرآن، كل ذلك لينعتوا بالحكمة، ويشار إليهم بتطويع ملوك الجان. • العبيدي الميلي: وقد أدركت بميلة جيلاً كله إعجاب برجل يدعونه: العبيدي، وينقلون في مجالسهم أحاديث تصرفه في الجن (*)؛ فهذا يقول: أخرجه من فلانة وسجنه في زجاجة!! وذاك يحدثك عن إحراقه وتصاعد دخانه!! وآخر يروي لك توبيخه لهم وتهديده إياهم!! فهذا الحكيم العبيدي بميلة يكاد يحظى حظوة ذلك الحاكم العبيدي بمصر، وقد قرأت القرآن على من ورث العبيدي الميلي في صنعته، وإن كان دون شهرته، وكنت أتمنى لو يطلعني شيخي على هذا السر، فحفظني الله من ذلك الشر. • ولوع النساء بالسحر: أما النساء؛ فلا تسأل ... هذه تربط الزوج عن زوجه أوتحله، وتلك تبلد ¬

_ (*) في الأصل: " الجنون ".

الرجل حتى تروج عليه زوجه كل شيء، وماهرة تنزل القمر في القصعة كأن القمر خبزة، ولا تجد في الأغلب من تتزوج إلا وهي متزوده من العجائز بوصايا سحرية ورقى وأدوية (وفيهن- لا نكذب- نساء صوالح)، ولو عنيت أمتنا بالعلم عنايتها بالسحر، لم تنحرف في حياتها عن سلم الرقي، ولكنها حادت عن سنة التقدم، وأحاطت بها خطاياها، فحاق بها سوء عملها، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. • • • • •

الرقية والعزيمة

19 - الرقية والعزيمة • الرقية في اللغة: الرقية: المرة من الرقي، والاسم للألفاظ التي يرقى بها، وجمعها رقى، كمدية ومدى، والفعل رقى؛ كرمى، ومعناها: التعويذة بقراءة كلمات على المصاب رجاء البرء، تقول: استرقيته فرقاني؛ فهو راق وهي راقية، وهن رواق. قال الراجز: لَقَدْ عَلِمْتُ وَالْآجِلُ الْبَاقِي … أَنْ لَا تَرُدُّ الْقَدَرَ الرَّوَاقِي أما الرقي بمعنى الصعود؛ فهو بضم أوله وكسر ثانيه وشد آخره، وفعله رقي؛ كرضي، يقال: رقي فهو راق، وارتقى مثله، والترقوة ما يترقى فيه النفس من مقدم الحلق في أعلى الصدر. • معنى العزيمة: ويقال للرقية عزيمة، وجمعها عزائم، تقول: عزم الراقي كضرب، وعزم تعزيماً إذا قرأ العزيمة والرقية، وأصل العزم والعزيمة عقد القلب على إمضاء الأمر، تقول: عزمت الأمر وعلى الأمر واعتزمته واعتزمت عليه. قال الراغب: " والعزيمة تعويذ، كأنه تصور أنك قد عقدت بها على

الفرق بين الرقية والسحر

الشيطان أن يمضي إرادته فيك ". • الفرق بين الرقية والسحر: هذا كلام اللغويين، وظاهره اتحاد الرقية والعزيمة في الاستعمال، واختصاصهما بما يراد به نفع المرقي. وصرح القرافي في " فروقه " بذلك الاختصاص، فقال: " ولا يقال لفظ الرقى على ما يحدث ضرراً، بل ذلك يقال له: السحر " (4/ 147). فأفاد مباينة الرقية للسحر، ولعل هذا في أغلب الاستعمال، وإلا، فإن تصرف الأخبار والآثار على أن بينهما عموماً وجهيّاً. • الفرق بين العزيمة والرقية: وفرق القرافي بين الرقية والعزيمة: فشرح الأولى بقوله: " هي ألفاظ خاصة يحدث عندها الشفاء من الأسقام والأدواء والأسباب المهلكة ". وشرح الثانية بما حاصله: " كلمات تعظمها ملائكة متصرفة في قبائل الجن، متى أقسم المعزم عليها بها؛ أجابت إلى ما طلب منها ". والعزيمة بهذا المعنى من السحر كما تقدم، وهو المعروف عند عامتنا، ويعبرون عن الرقية بالتسبب، فيقولون: " تسبب لي سيدي فلان في هذا الماء أو الزيت "، ولفظ (الرقية) موجود في لسانهم، ولكنهم يريدون منه معنى الطرق المتقدم في فعل الكهانة. • اتحاد حكم الرقية والعزيمة: وسواء كانت العزيمة بمعنى الرقية أم خصت بما يقرأ على المصاب

النهي عن الرقية

بالجن؛ فإن حكمها وحكم الرقية واحد، كما قال ابن الشاط في " حاشية الفروق "، فكل ما ورد في أحدهما ينسحب على الآخر إذناً ونهياً. • النهي عن الرقية: 1 - قال تعالى فيما يستعاذ منه: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]، وهن السواحر يرقين بكلام فيه شرك وينفثن حال الرقي. قال الجصاص في أحكامه عن قتادة: " إياكم وما يخالط السحر من هذه الرقى " (3/ 478). 2 - وقال في التذكير بحال الاحتضار: " {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة: 26 - 27]: إذا كان الراقي من الرقية، والاستفهام للإِنكار؛ أفاد ذم الرقية، ويكون المعنى كما قال الشاعر: هَلْ لِلْفَتَى مِنْ بَنَاتِ الْمَوْتِ مِنْ وَاقِي … أَمْ هَلْ لَهُ مِنْ حِمَامِ الْمَوْتِ مِنْ رَاقِي وهذا المعنى للآية أحد قولين؛ فيها نظمهما الديريني في رجزه " التيسير " بقوله: وقِيلَ مَنْ رَاقٍ لِمَنْ يَرْقِيهِ … مِنَ الرُّقَى لَعَلَّهُ يَسْقِيهِ وَقِيلَ مَنْ يَرْقِي مِنَ الْمَلَائِكَهْ … بِالرُّوحِ هَلْ نَاجِيَةٌّ أَمْ هَالِكَهْ 3 - وعن زينب عن زوجها عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما؛ أنه قال لها: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتَّوَلَةَ شِرْكٌ» (¬87). ¬

_ (¬87) صحيح: أخرجه أبو داود (2/ 154)، وابن ماجه (3530)، وأحمد (5/ 218 - 219/ 3615)، وابن حبان (13/ 456/ 6090)، والبغوي في " شرح السنة " (12/ 156 - 157/ 3240) من طرق عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحى بن الجزار، عن ابن أخي (في نسخة من " ابن ماجه ": أخت) زينب امرأة عبد الله (زاد بعضهم: عن زينب)، عن ابن مسعود به. وأخرجه الحاكم =

قالت: قلت: لم تقول هذا؛ والله؛ لقد كانت عيني تقذف فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيني، فإذا رقاني، سكنت. قال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها؛ كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا». أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم، وصححه [هو و] ابن حبان. والتولة- كهُمَزَة، وتكسر-: ما تتحبب به المرأة إلى زوجها من ضروب السحر. قال ابن العربي في " أحكامه ": " من أقسام السحر فعل ما يفرق به بين المرء وزوجه، ومنه ما يجمع بين المرء وزوجه، ويسمى التولة، وكلاهما كفر، والكل حرام كفر، قاله مالك " (1/ 14). 4 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثَلَاثَةٌ مِنَ السِّحْرِ: الرُّقَى، وَالتَّوَلُ، وَالتَّمَائِمُ» (¬88). رواه الطبراني، وفيه علي بن يزيد ¬

_ = (4/ 417 - 418) عن يحى بن الجزار، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زينب به، وقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي! وأخرجه الحاكم (4/ 217) عن قيس بن السكن الأسدي، عن ابن مسعود مرفوعاً به، وقال: " هذا حديث صحيح الإِسناد "، ووافقه الذهبي، وأخرجه (4/ 216 - 217) من طريق آخر عن ابن مسعود، وسكت عنه هو والذهبي. فالحديث بمجموع هذه الطرق ثابت إن شاء الله تعالى، وقد صححه- كما علمتَ- ابن حبان والحاكم، وحسن طريقه الأولى أحمد شاكر! إلاّ أن جملة: " فكنت اختلف إلى فلان اليهودي يرقيني، فإذا رقاني سكنت " منكرة كما حققه شيخنا في " الصحيحة " (تحت الحديث رقم: 2972) والله أعلم. وانظر: " صحيح [سنن أبي داود " (3288)، و " سنن ابن ماجه " (2845)، و " الجامع الصغير " (1626)]، و " غاية المرام " (299)، و " الصحيحة " (331). (¬88) ضعيف جداً: =

الترخيص في الرقية

الألهاني، وهو ضعيف، قاله في " مجمع الزوائد "، لكنه يصلح شاهداً للحديث قبله. وهذه الأدلة تفيد ذم الرقى والعزائم والنهي عنها. • الترخيص في الرقية: وجاء ما يفيد الإِذن ورفع الحرج: 5 - فعن عائشة رضي الله عنها: رخص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرقية من كل ذي حمة (¬89). والحمة- بضم ففتح-: السم من الحية والعقرب وغيرهما. 6 - وعن عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: كنا نرقي في الجاهلية، ¬

_ = رواه الطبراني في " المعجم الكبير " (8/ 240/ 7823) عن عبيد الله بن زحر، عن علي ابن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة مرفوعاً به. وهذا إسناد ضعيف جداً، وفيه علتان: الأولى: علي بن يزيد- وهو الألهاني الشامي- ضعيف كما قال الهيتمي في " المجمع " (5/ 109)، والحافظ في " التقريب " (2/ 46)، " بل ضعيف جداً، قال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال الدارقطني: متروك " كما في " الميزان " (3/ 161). والعلة الأخرى:- وهي أهون- عُبيد الله بن زحر فيه ضعف، قال في " التقريب " (1/ 533): " صدوق يخطئ ". وانظر: " الميزان " (3/ 6 - 7) أيضاً. فقول المؤلف: " لكنه يصلح شاهداً للحديث قبله " غير سديد، لما عرفت من ضعفه الشديد، والله ولي التوفيق والتأييد. (¬89) أخرجه مسلم (4/ 1724/ 2193) عنها بلفظ: " رخص رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل بيتٍ من الأنصار في الرقية من كلِّ ذي حُمَةٍ "، وفي طريق آخر بلفظ: " من الحُمة ".

أقسام الرقية وأحكامها

فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؛ فقال: «اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ» (¬90). أخرجه مسلم وأبوداود. 7 - وعن عبادة بن الصامت، قَالَ: كُنْتُ أَرْقِي مِنْ حُمَّةَ الْعَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ؛ ذَكَرْتُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «أَعْرِضْهَا عَلَيَّ». فعرضتها عليه، فقال: «ارْقِ بِهَا؛ فَلَا بَأْسَ بِهَا». وَلَوْلا ذَلِكَ مَا رَقِيتُ بِهَا إِنْسَانًا أَبَدًا (¬91). رواه الطبراني بإسناد حسن. • أقسام الرقية وأحكامها: واختلاف الأحاديث في شأن الرقية ليس اختلافاً في حكمها، وإنما هو لاختلاف أحوالها، فإن الرقية على أربعة أوجه: أحدها: أن تكون بألفاظ شركية، أو ينسب إليها النفع والضر؛ فذلك كفر وشرك. ثانيها: أن تكون بألفاظ منقولة غير معقولة المعنى، فهي ذريعة إلى الشرك، محرمة، أفتى بحرمتها ابن رشد المالكي وابن عبد السلام الشافعي وجماعة من أئمة الحنفية وغيرهم، نقل ذلك الهيتمي في " الفتاوى الحديثية ". ثالثها: أن تكون بأسماء غير الله من ملك أو نبي وكل معظم شرعاً؛ فهي غير مشروعة، وحكمها حكم الحلف بغير الله، كما نقله في " الفتح " عن القرطبي (10/ 161). ¬

_ (¬90) أخرجه مسلم (4/ 1727/ 2200)، وأبو داود (2/ 154) عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه. (¬91) حسن: قال الهيثمي في " المجمع " (5/ 111): " رواه الطبراني وإسناده حسن ".

شروط الرقية

رابعها: أن تكون بأسماء الله أو بكلامه أو ما أثر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فهذا مشروع، وكلام الله وحديث رسوله مقدمان على سواهما مما هو بأسماء الله. • شروط الرقية: قال الزرقاني في " شرح الموطأ ": " الرقية المأذون فيها ما كانت باللسان العربي- أو بما يفهم معناه- ويجوز شرعاً، مع اعتقاد أنها لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله، والمنهي عنها ما فقد منها شرط من ذلك " (4/ 152). وقال الباجي في " منتقاه ": " في المستخرجة عن مالك: لا أحب رقى أهل الكتاب "، وكرهه. • قول مالك في بعض ضروب الرقية: وذلك- والله أعلم- إذا لم تكن رقيتهم موافقة لما في كتاب الله تعالى، وإنما كانت من جنس السحر وما فيه كفر مناف للشرع. وروى ابن وهب عنه عن المرأة التي ترقي بالحديدة والملح، وعن الذي يكتب الحرز ويعقد فيما يعلقه به عقداً، والذي يكتب حرز سليمان؛ أنه كره ذلك كله، وكان العقد في ذلك عنده أشد كراهية، لما في ذلك من مشابهة السحر، ولعله تأول قول الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]، والله أعلم. (7/ 261). • حكم ما يعطى على الرقية: وفي " الفتاوى الحديثية " عن ابن أبي زيد: " لا يجوز الجعل على إخراج الجان من الإِنسان، لأنه لا يعرف حقيقته ولا يوقف عليه، ولا ينبغي لأهل الورع فعله ولا لغيرهم، وكذا الجعل على حل المربوط والمسحور " [ص:88]. وفعل هؤلاء [إن كان على الوجه الممنوع؛ فعدم جواز جعلهم لذلك، و]

صفة الرقية

إن كان على الوجه المشروع " فالجهل بحقيقة الإصابة غير ضار؛ لأن الجعل على الشفاء، وهو معلوم " إلا أن يريد أن الجني (*) قد يعود، وأن الجعل على إخراجه الذي لا عود معه، وإلا، تنافى مع ما في " صحيح البخاري " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا، وَلاَ نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا. فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعًا مِنَ الشَّاءِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ القُرْآنِ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ، وَيَتْفِلُ، فَبَرَأَ، فَأَتَوْا بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لاَ نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ - النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ وَقَالَ: «وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ» (¬92). وفيه أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث هذه القصة: وأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيها: «إِنَّ أَحقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ» (¬93). • صفة الرقية: وصفة الرقية أن يقرأ القارئ على محل الألم أو على يديه للمسح بهما، أو في ماء ونحوه، وينفث أثر القراءة نفثاً خالياً من البزاق، وإنما هو نفس معه بلل من الريق. روى البخاري (¬94) عن عائشة من حديث معمر عن الزهري؛ قالت: كان ¬

_ (*) في الأصل: " الجن ". (¬92) رواه البخاري (10/ 198/ 5736)، ومسلم (4/ 1727/ 2201) أيضاً عن أبي سعيد الخدري. (¬93) رواه البخاري (10/ 198 - 199/ 5737) عن ابن عباس. (¬94) رواه البخاري (10/ 195/ 5735) عن عائشة، وفيه: " وأمسحُ بيَدِهِ نَفْسَهُ " بدل " بيد نفثه "، والله أعلم.

صفة العزيمة

النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات، فلما ثقل؛ كنت أنفث عنه بهن، وأمسح بيد نفثه لبركتها. فسألت الزهري: كيف ينفث؛ قال: كان ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه. والمعوذات هن: سورة الإِخلاص، والفلق، والناس؛ كما في " الفتح ". • صفة العزيمة: وصفة العزيمة جاءت في حديث أبي بن كعب؛ قال: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِنَّ لِي أَخًا وَبِهِ وَجَعٌ. قَالَ: «وَمَا وَجَعُهُ؟». قَالَ: بِهِ لَمَمٌ. قَالَ: «فَأْتِنِي بِهِ». فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَوَّذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَأَرْبَعِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163]، وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَآيَةٍ مِنْ آلِ عِمْرَانَ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18]، وَآيَةٍ مِنَ الْأَعْرَافِ {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ}، وَآخِرِ [آيَةِ] الْمُؤْمِنِينَ {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 116]، وَآيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن: 3]، وَعَشْرِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ {وَالصَّافَّاتِ}، وَثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ. فَقَامَ الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَكِ قَطُّ (¬95). رواه عبد الله بن أحمد، وفيه ¬

_ (¬95) ضعيف: أخرجه عبد الله بن أحمد في " زوائد المسند " (5/ 128)، والحاكم في " المستدرك " (4/ 413 - 412) عن عمر بن علي المُقَدَّمي، عن أبي جَناب، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثني أبيّ بن كعب به. وقال الحاكم: " قد احتج الشيخان رضي الله عنهما برواة هذا الحديث كلهم عن آخرهم غير أبي جَناب الكلبي، والحديث محفوظ صحيح، ولم يخرجاه "! وتعقبه الذهبي في " التلخيص " بقوله: " قلتُ: أبو جناب الكلبي ضعفه الدارقطني، والحديث منكر ". =

صفة العزيمة اليوم

أبو جناب، وهو ضعيف لكثرة تدليسه، وقد وثقه ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح. قاله في " مجمع الزوائد " (5/ 115). واللمم: ما ينزل بالمرء ويلم به من الجن. • صفة العزيمة اليوم: وصفة العزيمة اليوم عندنا أن يقرأ القارئ على من يظن به مس الجن بسورة الجن غالباً، وبيده فتيلة قد أحرق رأسها، يكوي بها أنف المصاب، وقد يدخن له ببخور، وقد يكتب له مما هو مدون في نحو " شمس المعارف "، وأكثر من يدعي الصرع بالجن النساء، وأكثرهن فاجرات، يتخذن الصرع وسيلة إلى أهوائهن في المعروفين بالعزائم، فترى المعزم يتلو القرآن بلسانه، ويهوي إلى ¬

_ = وقال الهيثمي في " المجمع " (5/ 115) - كما نقله المؤلف-. " رواه عبد الله بن أحمد، وفيه أبو نَجاب وهو ضعيف لكثرة تدليسه، وقد وثقه ابن حبان! وبقية رجاله رجال الصحيح ". قلتُ: والمقدَّمي وإن كان من رجال الصحيح، محتجاً به في " الصحيحين "؛ فقد " كان يدلّس شديداً "؛ كما في " الميزان " و " التقريب " وغيرهما. وأمَّا ابن حبان؛ فقد اختلف قوله في أبي جَناب، أورده في " الثقات "! وفي " المجروحين " (3/ 111)؛ قال: " كان ممن يدلس على الثقات ما سمع من الضعفاء، فالتزق به المناكير التي يرويها عن المشاهير؛ فوهَّاه يحيى بن سعيد القطّان، وحمل عليه أحمد بن حنبل حملاً شديداً ". وأخرجه أبو يعلى (2/ 250/ 1591) بنحوه، وعنه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " (632) من طريق أبي جَناب، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجل، عن أبيه به. قال الهيثمي: " وفيه من لم يسم، وأبو جَناب وهو ضعيف لتدليسه ووثقه ابن حبان! ". ورواه الحافظ أبو نصر السجزي الوائلي في " الإِبانة " - كما في " التذكار " [ص:204] للقرطبي- من طريق بقية بن الوليد، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي جناب الكلبي، عن زُبيد (في الأصل: زيد) اليامي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه (فذكره). قلت: وبقية " كثير التدليس عن الضعفاء " وقد عنعنه! وأبو جناب سبق الكلام فيه، والله أعلم.

مفاسد أصحاب الرقية والعزيمة

لمس الصريعة بأركانه، ويتحرق لبلوغ أمنيته منها بجنانه. فَهُوَ كَالْجَزَّارِ فِيْنَا … يَذْكُرُ اللهَ وَيَذْبَحْ • مفاسد أصحاب الرقية والعزيمة: قد احترف أناس ممن أصيبوا في مروءتهم بالإِفلاس الرقية بكل ما ليس بمشروع، والعزيمة بما في نحو كتاب " الرحمة " على كل مصروع، وأحدثوا في ذلك الأحداث، وأرخوا الستائر دون الحرائر والأحداث، وهم بين منحل جملة من الدين ومصر على الحرام المهين، ولهم قبول عند ضعفة العقول، يزين لهم تلك الحال، ويغريهم بالمضي في هذا الضلال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. • • • • •

التميمة

20 - التميمة • التميمة في اللغة: التميمة في الأصل: وصف للذات التامة الخلق، تقول: رجل تميم وامرأة تميمة، وتم الشيء يتم- بالكسر-: اشتد وصلب، والمراد هنا: ما يعلق على الإِنسان لدفع الآفات عنه، وأكثر ما تعلق على الرضيع، ويقال فيها: عوذة - بالضم- ومعاذة- بالفتح- وتعويذة، تقول: تعلق عوذة ومعاذة وتعويذة؛ كما تقول: تعلق تميمة. وفي " القاموس ": " التميمة: خرزة رقطاء تنظم في العنق ". وفي " الأساس ": " صبي متمم: علقت عليه التمائم، وتممت عنه العين أتمها تمّاً، أي: دفعتها عنه بتعليق التميمة عليه ". • تعليق التميمة: وتعليق التمائم من فعل الجاهلية، كانوا يعتقدون أنه يدفع عنهم الآفات. قال أبو ذؤيب الهذلي: وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا … أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ

إنكار الشرع لتعليق التميمة

وقال امرؤ القيس: فَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٌ … فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ • إنكار الشرع لتعليق التميمة: ولما في هذا التعليق من اللجوء إلى غير الله في جلب الخير ودفع الضر، بما لم يجعله الله سبباً لذلك، جعله الإِسلام من الشرك والسحر؛ كما في حديثي ابن مسعود وأبي أمامة المتقدمين (*) في فصل الرقية، وسبق في فصل السحر حديث أبي هريرة، وفيه: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا، وُكِلَ إِلَيْهِ» (¬96)، وذلك كاف للمؤمن في النفور من هذه التمائم. وردت في الموضوع أحاديث نقتصر على بعض ما جاء منها في " مجمع الزوائد ". 1 - فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه؛ أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً، فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً، فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ» (¬97). رواه: ¬

_ (*) برقم (87) و (88). (¬96) قويٌّ بشاهده: قطعة من حديث أبي هريرة أخرجه النسائي بإسناد ضعيف كما تقدم برقم: (85)، لكن هذه الجملة تتقوى إن شاء الله بشاهدها عند الترمذي وغيره من حديث أبي معبد الجُهني، وسيأتي تخريجه برقم: (99). (¬97) ضعيف: أخرجه أحمد (4/ 154)، والحاكم (4/ 216 و417) عن عقبة بن عامر مرفوعاً، وقال الحاكم: " صحيح الإِسناد "! ووافقه الذهبي! وقال المنذري في " الترغيب " (6/ 112): " رواه أحمد وأبو يعلى بإسنادٍ جيدٍ ... ". وقال الهيثمي في " المجمع " (5/ 103): " رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، ورجالهم ثقات "! =

أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، ورجالهم ثقات. وذكر في " فتح المجيد " أن الحاكم رواه أيضاً وصححه وأقره الذهبي [ص:86]. و (ودع): فعل ماض بمعنى ترك، والكثير في استعماله أن يجيء مضارعاً وأمراً. و (الودعة): خرزة ييضاء يلفظها البحر، وهي بفتح الدال وسكونها وبالتاء وتركها؛ قال: إِنَّ الرُّوَاةَ بِلَا فَهْمٍ لِمَا حَفِظُوا … مِثْلُ الْجِمَالِ عَلَيْهَا يُحْمَلُ الْوَدَعُ لَا الْوَدْعُ يَنْفَعُهُ حَمْلُ الْجِمَالِ لَهُ … وَلَا الْجِمَالُ بِحَمْلِ الْوَدْعِ تَنْتَفِعُ 2 - وعنه أيضاً أن رهطاً أقبلوا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبَايَعَ تِسْعَةً، وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدٍ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بَايَعْتَ تِسْعَةً وَأَمْسَكْتَ عَنْ هَذَا؟ قَالَ: «إِنَّ عَلَيْهِ تَمِيمَةً». فَأَدْخَلَ يَدَهُ، فَقَطَعَهَا، فَبَايَعَهُ، وَقَالَ: «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً؛ فَقَدْ أَشْرَكَ» (¬98). رواه: أحمد، والطبراني، ورجال أحمد ثقات. 3 - وعن عيسى؛ قال: دخلنا على أبي معبد نعوده، فقلنا: ألا تعلق شيئاً؛ فقال: الموت أقرب من ذلك، إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «مَنْ ¬

_ = كذا قالوا، وفي سنده خالد بن عبيد المعافري، أورده ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (3/ 342) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلًا، ولم يوثقه غير ابن حبان كما في " تعجيل المنفعة " [ص:114] لابن حجر. وانظر: " الضعيفة " (1266)، و " ضعيف الجامع " (5715). (¬98) حسن: أخرجه أحمد (4/ 156)، والحاكم (4/ 219) من طريقين- يقوي أحدهما الآخر- عن عقبة به، وسكت عليه هو والذهبي، وقال الهيثمي (5/ 103)، وقبله المنذري (6/ 112): " رجال أحمد ثقات ". وانظر: " الصحيحة " (492).

عَلَّقَ شَيْئًا؛ وُكِلَ إِلَيْهِ» (¬99). رواه الطبراني، وفي إسناده محمد بن أبي ليلى، وهو سيئ الحفظ، وبقية رجاله ثقات. قلت: يقويه حديث أبي هريرة عند النسائي، وقد مر في السحر. 4 - وعن عمران بن حصين رضي الله عنه؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْصَرَ عَلَى عَضُدِ رَجُلٍ حَلْقَةً (أُرَاهُ قَالَ: مِنْ صُفْرٍ)، قَالَ: «وَيْحَكَ! مَا هَذِهِ؟!». قَالَ: مِنَ الْوَاهِنَةِ. قَالَ: «أَمَا إِنَّهَا لَا تَزِيدُكَ إِلَّا وَهْنًا، انْبِذْهَا عَنْكَ؛ فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا» (100). رواه أحمد والطبراني، وفيه مبارك بن فضالة، وهو ¬

_ (¬99) قويٌّ بشاهده: أخرجه الترمذي (6/ 238 - 239/ 2152)، وأحمد (4/ 311)، والحاكم (4/ 216)، والطبراني (22/ 385/ 960) من طريق محمد بن أبي ليلى، عن أخيه عيسى- وهو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى-، عن عبد الله بن عُكَيم أبي معبدٍ الجُهني مرفوعاً به. وقال الترمذي: " وحديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان في زمن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: كتب إلينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". والحديث سكت عليه الحاكم والذهبي، وقال الهيثمي (5/ 103) - كما نقله المؤلف-: " رواه الطبراني، وفي إسناده محمد بن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ، وبقية رجاله ثقات ". لكن للحديث شاهد عند النسائي من حديث أبي هريرة مضى مخرجاً برقم: (85)، وآخر عند عبد الرزاق (11/ 209/ 20345)، والبيهقي (9/ 351) عن الحسن (البصري) مرسلًا؛ فيتقوى بها، والله أعلم. (100) ضعيف: أخرجه أحمد (5/ 445)، وابن ماجه (3531)، وابن حبان (13/ 449/ 6085)، والحاكم (4/ 216)، والطبراني (18/ 159 و172 و179، الأرقام: 348 و 391 و 414) من طرق عن الحسن، عن عمران بن حصين مرفوعاً بألفاظ متقاربة. قلتُ: وهذا سند ضعيف، فيه علّة سبق بيانها في " التخريج " رقم (70)، ومع ذلك قال =

الإصرار على تعليق التميمة

ثقة، وفيه ضعف. و (الصفر)؛ بضم فسكون: النحاس الأصفر. و (الواهنة): الضعف، أو ريح تأخذ في المنكبين أو في العضد. وفي " فتح المجيد "؛ أن حديث عمران أخرجه أيضاً بنحوه ابن حبان في " صحيحه "، والحاكم وقال: " صحيح الإِسناد "، وأقره الذهبي (84). • الإِصرار على تعليق التميمة: وما زال الناس بعد هذا التشديد ممن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم ينظمون الودعات للصبيان، أو يضعون لهم عقرباً في جعبة، ثم تعلق بأعناقهم ... إلى غير ذلك من التمائم الجاهلية. قال السندي في شرح حديث النسائي: " «وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا»؛ أي: علّق شيئاً بعنقه أو عنق صغير- من التعلق بمعنى التعنيق-. قيل: المراد تمائم الجاهلية؛ مثل: الخرزات، وأظفار السباع، وعظامها، وأما ما يكون من القرآن والأسماء الإِلهية، فهو خارج عن هذا الحكم، بل هو جائز؛ لحديث عبد الله ابن عمرو أنه كان يعلق على الصغار بعض ذلك (101). وقيل: القبح إذا علق شيئاً ¬

_ = الحاكم: " هذا حديث صحيح الإِسناد! "، ووافقه الذهبي! وقال الهيثمي (5/ 103) - كما نقله المؤلف-: " رواه أحمد والطبراني وقال: إن مت وهي عليك وكلت إليها، قال: وفي رواية موقوفة: انبذها عنك؛ فإنك لو مت وأنت ترى أنها تنفعك لمت على غير الفطرة، وفيه مبارك بن فضالة وهو ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات "! وانظر: " الضعيفة " (1029). (101) ضعيف: أخرجه أبو داود (2/ 155)، والترمذي (9/ 507/ 3590)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (765 و766)، وأحمد (2/ 181)، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " (746)، والحاكم =

صور تعليق التميمة وأحكامها

معتقداً جلب نفع أو دفع ضر، أما للتبرك؛ فيجوز، وقال القاضي أبو بكر في " شرح الترمذي ": تعليق القرآن ليس من طريق السنة، وإنما السنة فيه الذكر دون التعليق " (7/ 112). • صور تعليق التميمة وأحكامها: وقول السندي: " قيل: المراد تمائم الجاهلية "، ثم قوله: و " قيل: القبح ": ليس حكاية خلاف معنوي، بل الحالتان معاً ذميمتان؛ لأن اعتقاد جلب النفع أو درء الضر من غير الطريق المشروع شرك وإلحاد، ومشابهة الجاهلية ضلال يشبه العناد. ويخرج من كلام السندي أن للتعليق ثلاث صور: إحداها: اعتقاد نفع المعلق، وهذا شرك، ومنه تعليق المرضى والمحمومين في عهدنا لتراب الأضرحة والمزارات وما أشبهه، وقد حدثوني أن في زواغة غربي ميلة مرابطاً، له أشجار من الشجر المدعو عندنا: الهندي، يعلقون منها في أعناقهم دفاعاً للحمى، وأن هذا التعليق شائع بينهم، وهذا الضرب من التعليق إنما هو لذلك الاعتقاد، وإنكاره إما جهل بحقيقة ما عند ¬

_ = (1/ 548) من طرق عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، " أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعلّمهم من الفزع كلمات: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ» - زادوا كلهم غير النسائي-: " وكان عبد الله بن عمرو يعلّمهن من عقل من بنيه، ومن لم يعقل كتبه فأعلقه عليه ". وقال الترمذي: " حديث حسن غريب "! وقال الحاكم: " حديت صحيح الإِسناد متصل في موضع الخلاف "! والحديث سقط من " تلخيص الذهبي "! قلت: وفيه محمد بن إسحاق مدلس وقد عنعنه! فأنّى لإِسناده الحسن بله الصحة!! نعم، للجزء المرفوع شاهدان أخرجهما ابن السني (740 و748) يتقوى بهما، والله أعلم.

الناس أو عناد. ثانيتها: مشابهة الجاهلية بتعليق ما لا يتبرك به من نحو حلقة أو عقرب أو ودعة، مع السلامة من اعتقاد المشركين؛ فهذا غير شرك، ولكنه ممنوع؛ سدّاً للذريعة، وعملًا بأحاديث الأمر بمخالفة أهل الكتاب والمجوس. ثالثتها: التبرك بما يتبرك به شرعاً من أسماء الله وكتابه، مع السلامة من ذلك الاعتقاد، فهذا الذي قال فيه أبو بكر بن العربي: " ليس من السنة "، وأجازه غيره، وليس ذلك اختلافاً؛ فإن ما ليس من السنة قد يكون خفيفاً خلاف الأولى فقط، فيتصف بالجواز، وفعل أحد الصحابة للشيء من غير أن ينسبه إلى الرسول لا يوجب أن يكون من السنة. وفي " فتح المجيد " أن علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته، فأجازه عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو ظاهر ما روي عن عائشة، وقال به الباقر وأحمد في رواية، ومنعه ابن مسعود وابن عباس، وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم، وقال به من التابعين أصحاب ابن مسعود، وهو رواية عن أحمد اختارها كثير من أصحابه وجزم بها المتأخرون [ص:91]. وقد علمت من الأحاديث السابقة استعظام من استعظم من الصحابة للتعليق، حتى قال: " الموت أقرب من ذلك "، هذا على كمال توحيدهم ومعرفتهم بربهم. فلندع التمائم وما في معناها، ولنقو إيماننا بآية: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]. • • • • •

المحبة

21 - المحبة المحبة من المعاني التي يلتبس شرعيها بشركيها، وتدخل في العقائد الباطنة، كالولاية؛ فرأينا أن نختم بها هذه المباحث في الولاية والكرامة وما يلتبس بها من كهانة وسحر، وما يلابس السحر من رقى وتمائم، ثم نعقبها بمظاهر الشرك القولية كالدعاء، والفعلية كالزيارة، والمالية كالذبائح. • معنى المحبة في اللغة: المحبة والحب: الوداد وإرادة الخير، وتستعمل هذه المادة في معان مرجعها- كما في " مدارج السالكين " - إما إلى الصفاء والبياض، ومنه الحبب - بفتحتين- لتنضد الأسنان، وإما إلى العلو والظهور، ومنه حباب الماء - بالفتح- للفقاقيع التي تعلوه كأنها القوارير، يقال: طفا الحباب على الشراب، وإما إلى اللزوم والثبات، ومنه أحباب البعير، أي: بروكه، يقال: أحب البعير أحباباً: إذا أصابه مرض أو كسر فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت، وإما إلى الأصل واللب، ومنه الحبة من الحنطة ونحوها، وحبة القلب سويداؤه، وإما إلى الحفظ والإِمساك، ومنه الحب- بالضم- للجرة واحدة الجرار، وكل هذه المعاني الخمس لازمة للمحبة بمعنى المودة. وفرق أبو هلال العسكري بين الحب والود بأن الحب يكون فيما يوجبه

أوجه المحبة

ميل الطبع أو الحكمة، فتقول: أحب الرجل وأحب الصلاة، وأن الود يختص بميل الطبع، فتقول: أود الرجل، ولا تقول: أود الصلاة. وفرق أيضاً بين المحبة والإِرادة بأن الإِرادة تتعلق بالشيء لذاته، والمحبة تتعلق به لمعنى فيه، فتقول: أحببت زيداً، تريد نفعه وإكرامه، ولا تقل: أردته؛ بهذا المعنى [ص:98 - 99]. • أوجه المحبة: وقال الراغب: " المحبة إرادة ما تراه أو تظنه خيراً، وهي على ثلاثة أوجه: محبة للذة؛ كمحبة الرجل المرأة، ومنه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا} [الإِنسان: 8]. ومحبة للنفع، كمحبة شيء ينتفع به، ومنه: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]. ومحبة للفضل؛ كمحبة أهل العلم بعضهم لبعض لأجل العلم، وربما فسرت المحبة بالإِرادة في نحو قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]، وليس كذلك، فإن المحبة أبلغ من الإِرادة كما تقدم آنفاً، فكل محبة إرادة، وليس كل إرادة محبة ... ". • معنى المحبة في القرآن: وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]؛ فمحبة الله تعالى للعبد إنعامه عليه، ومحبة العبد له طلب الزلفى لديه. وقوله تعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ... } [ص: 32]، فمعناه: أحببت الخيل حبي للخير. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، أي: يثيبهم وينعم عليهم، وقال: {لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].

المحبة الدينية وثمرتها

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} {لقمان: 18}، تنبيهاً أنه بارتكاب الآثام يصير بحيث لا يتوب لتماديه في ذلك، وإذا لم يتب، لم يحبه الله المحبة التي وعد بها التوابين والمتطهرين. هذا كلام الراغب، وقد وضعنا نقطاً للدلالة على أنا حذفنا من أثنائه ما لم نر نقله. • المحبة الدينية وثمرتها: وقد أورد في " مدارج السالكين " ثلاثين عبارة في تعريف المحبة، نقتصر منها على واحدة، وهي: " إرادة غرست أغصانها في القلب فأثمرت الموافقة والطاعة " (3/ 9). والمحبوب هذه المحبة إما الله أو غير الله، ومحبة الله من أسباب انشراح الصدر، ومحبة سواه مما يعذب القلب وينكد العيش. قال في " زاد المعاد ": " هما محبتان: محبة هي جنة الدنيا، وسرور النفس، ولذة القلب، ونعيم الروح وغذاؤها ودواؤها، بل حياتها وقرة عينها، وهي محبة الله وحده بكل القلب، وانجذاب قوى الميل والإِرادة والمحبة كلها إليه، ومحبة هي عذاب الروح وغم النفس وسجن القلب وضيق الصدر، وهي سبب الألم والنكد والعناء، وهي محبة ما سواه سبحانه " (1/ 153). • حكم المحبة الدينية: وقال في " الفتح ": " محبة الله على قسمين: فرض، وندب، فالفرض: المحبة التي تبعث على امتثال أوامره، والانتهاء عن معاصيه، والرضى بما يقدره؛ فمن وقع في معصية من فعل محرم أو ترك واجب؛ فلتقصيره في محبة الله، حيث قدم هوى نفسه، والتقصير تارة يكون مع الاسترسال في المباحات

علامة المحبة الدينية والباعث عليها

والاستكثار منها، فيورث الغفلة المقتضية للتوسع في الرجاء، فيقدم على المعصية، أو تستمر الغفلة فيقع، وهذا الثاني يسرع إلى الإِقلاع مع الندم، وإلى الثاني يشير حديث: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» (102)، والندب أن يواظب على النوافل، ويتجنب الوقوع في الشبهات، والمتصف عموماً بذلك نادر. وكذلك محبة الرسول على قسمين كما تقدم، ويزاد أن لا يتلقى شيئاً من المأمورات والمنهيات إلا من مشكاته، ولا يسلك إلا طريقته، ويرضى بما شرعه، حتى لا يجد في نفسه حرجاً مما قضاه، ويتخلق بأخلاقه في الجود والإِيثار والحلم والتواضع وغيرها " (1/ 52). • علامة المحبة الدينية والباعث عليها: وقال أيضاً في الباعث على هذه المحبة وعلامة تحققها: " من استكمل الإِيمان، علم أن حق الله ورسوله آكد عليه من حق أبيه وأمه وولده وزوجه وجميع الناس؛ لأن الهدى من الضلال والخلاص من الناس إنما كان بالله على لسان رسوله، ومن علامات محبته نصر دينه بالقول والفعل، والذب عن شريعته، والتخلق بأخلاقه " (10/ 380) • المحبة في الله ومع الله: ولا تنافي بين تخصيص ابن القيم المحبة المحمودة بالله وتعميم الحافظ لها وتعديتها إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإن محبة غير الله: إما أن تكون في الله، أو مع الله. ¬

_ (102) قطعة من حديث أخرجه البخاري (5/ 119/ 2475)، ومسلم (1/ 76 - 77/ 57) عن أبي هريرة مرفوعاً: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ».

ما جاء في المحبة

فالمحبة في الله أن تحب من يحبه الله، والله يحب المحسنين والمتقين والتوَّابين والمتطهِّرين، وإذن تكون محبة غير الله من معنى محبة الله مقوية لها غير متنافية معها، والمحبة مع الله أن يتعلق قلبك بسواه، فتغفل عن الله، وتتوجه إلى غيره بالرغبة والرهبة، فتكون محبتك هذه مغنية عن محبة الله منافية لها؛ فالمحبة في الله محمودة متعدية إلى كل داع إلى الله من الأنبياء المرسلين والأولياء الصالحين والعلماء العاملين، وهذه الحالة هي التي في كلام الحافظ، والمحبة مع الله ذميمة حاملة لكل ما في الشرك من مساوئ وأضرار. • ما جاء في المحبة: وقد جاء في الكتاب والسنة عطف الرسول على الله في المحبة؛ قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]. وفي " الصحيحين " عن أنس رضي الله عنه؛ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ؛ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمّا سِواهُما، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلاّ للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ كَما يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ» (103). ومعنى محبة المرء لله أو في الله: أن لا تحبه لطمع في الدنيا؛ كما ذكره في " طبقات الحنابلة " عن أحمد [ص:33]، بل تحبه لما عليه من الهدى والاستقامة. ¬

_ (103) رواه البخاري (1/ 60/ 16)، ومسلم (1/ 66/ 43) عن أنس.

وفي " الدر المنثور " من رواية ابن أبي حاتم، وأبي نعيم في " الحلية "، والحاكم، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَأَدْنَاهُ أَنْ يُحِبَّ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْجَوْرِ، وَيُبْغِضَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعَدْلِ، وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ؟ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قلْ إِنْ كنْتمْ تحِبّونَ اللهَ فَاتّبِعونِي يُحْبِبْكمُ اللهُ} [ال عمران: 31]» (104) (2/ 17). قال الحافظ في " الفتح ": " وقد اختلف في سبب نزول الآية " فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري، قال: كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله، فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل، فأنزل الله هذه الآية، وذكر الكلبي في " تفسيره " عن ابن عباس أنها نزلت حين قال اليهود: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، وفي " تفسير " محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير: نزلت في نصارى نجران؛ قالوا: إنما نعبد المسيح حبّاً لله وتعظيماً له، وفي " تفسير " الضحاك عن ابن عباس؛ أنها نزلت في قريش، قالوا: إنما نعبد ¬

_ (104) ضعيف: أخرجه ابن أبي حاتم- كما في " تفسير ابن كثير " (2/ 29) -، وأبو نعيم في " الحلية " (8/ 368 و9/ 253)، والحاكم في " المستدرك " (2/ 291) من طريق عبد الأعلى بن أعين، عن يحى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة به. وقال الحاكم: " هذا حديث صحيح الإِسناد، ولم يخرّجاه "! وتعقبه الذهبي في " التلخيص " بقوله: " قلتُ: عبد الأعلى، قال الدارقطني: ليس بثقة ". وفي " الميزان " (2/ 529): " قال العقيلي: جاء بأحاديث منكرة ليس منها شيء محفوظ "، ثم ساق هذا الحديث من منكراته، وقال ابن حبان في " المجروحين " (2/ 156): " يروي عن يحى ابن أبي كثير ما ليس من حديثه، لا يجوز الاحتجاج به بحال ". قلتُ: وله علّة أخرى، وهي عنعنة ابن أبي كثير، فقد كان يدلس كما في " التقريب " وغيره.

لوازم المحبة الشرعية

الأصنام حبّاً لله لتقربنا إليه زلفى، فنزلت " (10/ 459). • لوازم المحبة الشرعية: وقد أرشدت هاته الآية إلى آية الصدق في دعوى حب العبد ربه، وأثبتت آية المائدة لهؤلاء المحبين أربع صفات، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]: - فقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}؛ معناه: الإِخبار عنهم بالسهولة والتواضع في رحمة وعطف مع إخوانهم في الدين، وبعزة النفس وشرف القوة مع خصومهم في الدين، وعن هاتين الصفتين عبر في سورة الفتح بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. - وقوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: إخبار عنهم ببذل نفوسهم وأموالهم في نصرة الدين في مواطن الحرب بالسيف، وفي مواضع السلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - وقوله: {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}: إخبار عن عدم مبالاتهم بمن يغضبون من كلمة فيها رضى الرب. ومجموع ما أفادته آيتا آل عمران والمائدة خمس صفات هي الدلائل على صدق المحبة لله، وهي: اتباع الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتراحم مع الإِخوان في الدين، والشدة على الأعداء فيه، والقيام بكل ما يؤيد الدين، وعدم التقصير في الصدع بالحق مراعاة للناس.

مظاهر المحبة الشركية

• مظاهر المحبة الشركية: تلك لوازم المحبة الشرعية، وخلافها المحبة الشركية، وهي كل محبة تغر في الدين وتبعث على الاكتفاء بها دون الجد في الصالحات وتحري المشروع منها، ولا تثمر ربط القلوب وصلتها بعضها ببعض إذا اتحدت على الشهادتين، ولا توجب النفور من كل من يحاول هدم تعاليم الإِسلام، ولا تدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تعود صاحبها على استعذاب العذاب في خدمة المبدإ الحق المجمل في الشهادتين، وهذه المحبة الشركية هي التي ردها الله على مشركي قريش وضلال اليهود والنصارى بآية آل عمران المتقدمة، وبقوله في المائدة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18]. ومن كلام الحسن البصري: " ابن آدم! لا يغرنك أن تقول: المرء مع من أحب؛ فإنك لن تلحق الأبرار إلا بأعمالهم، وإن اليهود والنصارى ليحبون أنبياءهم، ولا والله؛ ما يحشرون معهم، ولا يدخلون في زمرتهم، وإنهم لحطب جهنم هم لها واردون ". نقله ابن الجوزي في " رسالته " [ص:32]. • فائدة المحبة الشرعية: وقد أشارت هذه الآية إلى فائدة المحبة المشروعة، وأنها النجاة من العذاب، وأفاد حديث " الصحيحين " عن أنس رضي الله عنه؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» (105): فائدة أخرى، وهي أن من أنجته محبته؛ ألحقته ¬

_ (105) رواه البخاري (10/ 557/ 6168 و6169 و6170)، ومسلم (4/ 2034/ 2640 و2641) عن عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، ولفظ حديث ابن مسعود عند مسلم: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال: يارسول الله! كيف ترى في رجل أحبّ قوماً ولمّا يلحق بهم؛ قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ».

حكاية في المحبة

بحبيبه في الدرجة وإن كان دونه في العمل. • حكاية في المحبة: حكى في " كشف الخفاء " عن البيهقي، أن رجلًا من أهل بغداد سأل أبا عثمان الواعظ: متى يكون الرجل صادقاً في حب مولاه؛ فقال: " إذا خلا من خلافه كان صادقاً في حبه ". فوضع الرجل التراب على رأسه وصاح وقال: كيف أدعي حبه ولم أخل طرفة عين من خلافه؟! فبكى أبو عثمان وأهل المجلس، وصار أبو عثمان يقول في بكائه: " صادق في حبه، مقصر في حقه " (2/ 203). • عدم الاتكال على المحبة: وليس معنى هاته الحكاية أن الرجل كان متكلاً على المحبة معرضاً عن العمل، وإنما معناها أنه كان مستقلّا لعمله مستكثراً لذنبه. ومما أورده في " مدارج السالكين " من عبارات العلماء عن المحبة قولهم: " استكثار القليل من جنايتك، واستقلال الكثير من طاعتك " (3/ 8). فلا تظن من هذه الحكاية إسقاط العمل اكتفاء بالمحبة؛ فقد نقل في " كشف الخفاء " عن بعض العلماء بعدما أورد حديث «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» ورواياته أنه: " مشروط بشرط، وعنى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه إذا أحبهم عمل بمثل أعمالهم ". ¬

_ = ورواه البخاري (7/ 42/ 3688)، ومسلم (4/ 2032 - 2033/ 2639) من حديث أنس رضي الله عنه؛ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: قَالَ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟». قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» قَالَ أَنَسٌ: "فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ».

ولقد صدق القائل: تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ … هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ … إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ • • • • •

الدعاء

22 - الدعاء • معنى الدعاء: فسروا الدعاء بالسؤال والطلب والرغبة: ففي " المصباح ": " دعوت الله أدعوه دعاء: ابتهلت إليه بالسؤال، ورغبت فيما عنده من الخير، ودعوت زيداً: ناديته وطلبت إقباله ". وفي " المفردات ": " دعوته: إذا سألته وإذا استغثته ". وفي " الفتح " عن الطيبي: " الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له، وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري وإظهار الافتقار إليه " (11/ 79). وللدعاء أخوات في المادة ومعان في الاستعمال مرجعها إلى السؤال في ضراعة والرغبة في استكانة. وعن هذا المعنى عبر في " تفسير المنار " بقوله: " وحقيقة الدعاء هي شعور القلب بالحاجة إلى عناية الله تعالى فيما يطلب، وصدق التوجه إليه فيما يرغب " (2/ 15)؛ فإن ذلك الشعور الباطني يوجب الضراعة ويثمر صدق التوجه بالسؤال.

صفات المدعو الدعاء العادي

والدعاء بهذا المعنى يصدق بالاستعاذة [والاستعانة] والاستغاثة وغيرهن مما فيه معنى الطلب؛ لأنها طلب العوذ والعون والغوث؛ كاستنصره واستصرخه واستعداه: إذا طلب نصره وصراخه وعدواه، والعوذ: الالتجاء إلى آخر والتعلق به على معنى الامتناع به من المكروه، والغوث والعون والصراخ والعدوى- بالفتح كلها- تحمل معنى النصر والتقوية، تقول: استعذته واستعذت به فأعاذني، واستعنت به فأعانني، واستغثته واستغثت به فأغاثني، واستنصرته فنصرني، واستعديت الأمير على الظالم فأعداني، واستصرخت ابن العم فأصرخني. ويتضمن الدعاء وجود المدعو وغناه وسمعه وجوده ورحمته وقدرته؛ إذ لا يدعى المعدوم ولا الفقير ولا الأصم ولا البخيل ولا القاسي ولا العاجز. • صفات المدعو الدعاء العادي: فإذا طلبت العوذ أو العون أو أمراً آخر من المخلوق القادر عليه عادة، لم يكن طلبك عبادة، فلم يختص بالله، ولم تكن به مشركاً، وكذلك إذا نسبت شيئاً من ذلك لغير الله [لكونه] سبباً عاديّاً فتقول: استعذت بالحاكم من الظالم، واستغثت بالجيران على اللصوص، واستصرخت ذا الغيرة على المغير. • ما جاء في الدعاء العادي: وقالوا: " الصوم عون على العفة "، وفي المثل: " عبد صريخه أمة "، وقال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]، {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]. • الدعاء الديني: وإذا كان المطلوب لا يقدر عليه إلا من له قوة غيبية، وهو فوق الأسباب

ما جاء في الدعاء الديني

العادية؛ كان الطلب عبادة تختص بالله تعالى، ويكون طلب غيره حينئذ شركاً بالله. • ما جاء في الدعاء الديني: قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإِسراء: 110]، {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]، {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9]، {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 112]. وجاءت أحاديث في الحث على الدعاء وأنه من العبادة: 1 - فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ» (106). أخرجه الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم، كما في ¬

_ (106) حسن: أخرجه أحمد (16/ 305/ 8733)، والبخاري في " الأدب المفرد " (713)، والترمذي (9/ 309 - 310/ 3429)، وابن ماجه (3829)، وابن حبان (3/ 151 - 152/ 0 87)، والحاكم (1/ 490) وغيرهم، كلهم من طريق عمران القطان، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن أبي هريرة مرفوعاً. وقال الحاكم: " هذا حديث صحيح الإِسناد "! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي: " هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلَّا من حديث عمران القطان، وعمران القطان هو ابن داوَر ويُكنى أبا العوام ". قلتُ: وقد اختلف كلام النقاد فيه، لكن حديثه لا ينزل عن مرتبة الحسن إن شاء الله تعالى، وقد قال الحافظ في ترجمته في " التقريب " (2/ 83): " صدوق يهم "، وباقي الإِسناد رجاله ثقات، فإسناد الحديث حسن. وانظر: " صحيح [سنن الترمذي " (2684)، و " سنن ابن ماجه " (3087)، و " الجامع الصغير " (5268)] للألباني.

" بلوغ المرام " للحافظ ابن حجر. وفي " تحفة الذاكرين " للشوكاني؛ أنه من حديث عائشة عند أحمد والبخاري في " التاريخ " وابن ماجه، وأن الذهبي أقر تصحيح الحاكم [ص:21]. ورأيته في " الأدب المفرد " عن أبي هريرة. 2 - وعنه أيضاً؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» (107). أخرجه في " الأدب المفرد " بهذا اللفظ، ونسبه في " تحفة الذاكرين " للترمذي والحاكم، زاد في " الفتح " أحمد وابن ماجه والبزار والحاكم، وكلهم أخرجوه من رواية أبي صالح الخوزي- بضم الخاء-: ضعفه ابن معين، وقواه أبو زرعة؛ كما في " الفتح " (11/ 79). 3 - وعن أنس؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» (108). أخرجه الترمذي. ¬

_ (107) حسن إن شاء الله: أخرجه أحمد (19/ 7 و13 و 145/ 9699 و9717 و 10181)، والبخاري في " الأدب المفرد " (658 و659)، والترمذي (9/ 313 - 314/ 3433 و3434)، وابن ماجه (3827)، والحاكم (1/ 491)، كلهم من طريق أبي صالح الخُوزي عنه به. وهو عند بعضهم بلفظ: «من لا يَدْعُ الله ... ». وقال الحاكم: " صحيح الإِسناد "! وسكت عنه الذهبي في " التلخيص "، وقال ابن كثير في " تفسيره " (6/ 150): " إسناده لا بأس به "! قلتُ: وأبو صالح الخوزي قال في " التقريب " (2/ 436): " ليّن الحديث "، وفي " الفتح " (11/ 95) - كما نقله المؤلف-: " مختلف فيه، ضعفه ابن معين، وقوّاه أبو زرعة "، لكن لحديثه شواهد، يرتقي بها إلى درجة الحسن لغيره، ولهذا قال شيخنا الألباني في " الضعيفة " (1/ 76 - الطبعة الجديدة): " وهو حديث حسن، وتجد بسط الكلام في تخريجه وتأكيد تحسينه، والرد على من زعم من إخواننا أنني صححته، وغير ذلك من الفوائد في " السلسلة الأخرى " (رقم: 2654) ". (108) ضعيف بهذا اللفظ: =

4 - وعن النعمان بن بشير؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 65] (109). قال في " كشف الخفاء ": " هو عند: ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في " الأدب المفرد "، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وقال الترمذي: حسن صحيح " (1/ 403). وتقرير الربط بين صدر الآية وعجزها هو أن الدعاء أخص من العبادة وهي أعم؛ فمن استكبر عنها، استكبر عنه، وهذا تقرير التقي السبكي، ونقله غير واحد. وفي " تفسير الثعالبي " عن ابن رشد، أنه قال في " البيان ": " الدعاء عبادة من العبادات، يؤجر فيها الأجر العظيم، أجيبت دعوته فيما دعا به أم لم تجب " ¬

_ = أخرجه الترمذي (9/ 310 - 311/ 3431) وقال: " هذا حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلّا من حديث ابن لهيعة ". قلتُ: وهو ضعيف لسوء حفظه، والراوي عنه الوليد بن مسلم " كثير التدليس والتسوية "، وقد عنعنه! (109) صحيح: أخرجه أحمد (4/ 267 و271 و276 - مصورة المكتب الإِسلامي)، والبخاري في " الأدب المفرد " (715)، وأبو داود (1/ 232)، والترمذي (9/ 311 - 312/ 3432)، وابن ماجه (3828)، وابن حبان (3/ 172/ 890)، والحاكم (1/ 490 - 491) وغيرهم عن النعمان بن بشير مرفوعاً. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح "، وقال الحاكم: " صحيح الإِسناد "، ووافقه الذهبي، وصححه أيضاً النووي في " الأذكار " [ص:333]، وقال الحافظ في " الفتح " (1/ 49): " أخرجه أصحاب السنن بِسَنَد جيّدٍ "، وانظر: " صحيح [أبي داود " (1312)، و " الترمذي " (2685)، و " ابن ماجه " (3086)، و " الجامع الصغير " (3401)] لشيخنا محدّث العصر.

الدعاء بالمأثور وفوائده

(1/ 141). وقد وصفوا الدعاء بالاستحباب الذي هو من خواص العبادة، فكون الدعاء عبادة دل عليه الكتاب والسنة وكلام الأئمة. • الدعاء بالمأثور وفوائده: وإذا كان الدعاء عبادة؛ وجب أن يختص بالله، وأن يحترز فيه من الوقوع في الشرك أو فيما هو ذريعة إليه، ولهذا نصح العلماء للداعين أن يدعوا بالمأثور: ففي " شرح ابن علان للأذكار النووية " عن عياض، أنه قال: " أذن الله في دعائه، وعلم الدعاء في كتابه لخليقته، وعلم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدعاء لأمته، واجتمع فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة؛ فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد احتال الشيطان للناس من هذا المقام؛ فقيض لهم قوم سوء يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقتداء بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأشد ما في الحال أنهم ينسبونها إلى الأنبياء والصالحين، فيقولون: دعاء نوح! دعاء يونس! دعاء أبي بكر الصديق!! فاتقوا الله في أنفسكم، لا تشتغلوا من الحديث إلا بالصحيح " (1/ 17). • أقسام الدعاء الديني: والداعي: إما أن يدعو بنفسه، أو يدعو له غيره، والداعي بنفسه أو لغيره: إما أن يدعو الله أو غير الله، بتوسل أو بدونه، فالتوسل يأتي إن شاء الله في الفصل التالي، والدعاء من غير توسل ثلاثة أقسام: هي دعاؤك الله وحده، ودعاء آخر لك، ودعاء غير الله.

دعاء الله لنفسك

• دعاء الله لنفسك: القسم الأول: دعاء الله وحده في غير توسل، وهو توحيد محض وعبادة خالصة، إن لم يَعْتَدِ الداعي في دعائه. وقد ختم القرافي " فروقه " ببيان ما هو من دعاء الله وحده كفر أو معصية محرمة أو مكروهة، وبسط القول في ذلك في " الفروق " الثاني والثالث والرابع بعد السبعين والمئتين، وتجد في كتب الأدعية والأذكار آداباً للدعاء وشروطاً وأحكاماً ليس تفصيلها من غرضنا، وهذه أمثلة لهذا القسم من الكتاب والسنة. • أمثلته: 1 - قال تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]. 2 - وقال أيضاً: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]. 3 - وقال أيضاً: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]. 4 - وفي " مسلم " وغيره، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اللَّهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى» (110). 5 - وفي " سنن أبي داود " وغيره؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اللَّهُمَّ! أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ ¬

_ (110) رواه مسلم (4/ 2087/ 2721)، والبخاري في " الأدب المفرد " (675)، والترمذي (9/ 461/ 3555)، وقال: " حديث حسن صحيح "، وابن ماجه (3832) عن عبد الله بن مسعود.

وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» (111). 6 - وفي " مسلم "؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اللَّهُمَّ! أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» (112). وقد خصت الأدعية النبوية بالتأليف، ومما هو متداول منها اليوم: " الأذكار النووية "، و " الحصن الحصين " لابن الجزري. ¬

_ (111) صحيح: أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (691)، وأبو داود (1/ 238)، والنسائي (3/ 53)، وفي " عمل اليوم والليلة " (109)، وأحمد (5/ 244 - 245 و247 - مصورة المكتب)، وابن خزيمة (1/ 369/ 751)، وابن حبان (5/ 364 - 366/ 2020 و2021)، والحاكم (1/ 273 و3/ 273 - 274)، وابن السني (117) وغيرهم عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ بِيَدِهِ يَوْمًا، ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ! وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ». فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكَ. قَالَ: «أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ: لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ». وقال الحاكم في الموضبع الأول: " حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. وقال في الموضع الآخر: " حديث صحيح الإِسناد "، ووافقه الذهبي أيضاً. وصححه النووي في " الأذكار " [ص:60]، وفي " رياض الصالحين " (1422)، والألباني في " صحيح [أبي داود " (1347)، والنسائي (1236)، و " الجامع الصغير " (7846)]، وقواه الحافظ في " الفتح " (11/ 133). (112) رواه مسلم (4/ 2087/ 2720) عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ... (فذكره).

دعاء الله لغيرك، وحكم الدعاء للغير بلا طلب منه

• دعاء الله لغيرك، وحكم الدعاء للغير بلا طلب منه: القسم الثاني: دعاء غيرك لك، وهو جائز إذا سأل لك الله، سواء طلبت منه الدعاء أم لم تطلبه. فأما دعاؤه لك من غير طلب؛ فقد وردت به الآيات والأحاديث: 1 - قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]. 2 - وقال أيضاً: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]. 3 - وحكى عن إبراهيم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبرا هيم: 41]. 4 - وحكى عن نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 38]. 5 - وفي " صحيح مسلم " عن أبي الدرداء؛ أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ» (113). • حكم الدعاء للغير بطلب منه: وأما الدعاء لآخر بطلب منه؛ فقد كان الصحابة يسألون الدعاء من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويأتونه بأبنائهم يحنكهم ويدعو لهم (114). ¬

_ (113) رواه مسلم (4/ 2094/ 2732). (114) روى البخاري في " صحيحه " (10/ 578/ 6198) عن أبي موسى؛ قال: ولد =

الاحتياط في إجابة طلب الدعاء

وعن عمر بن الخطاب؛ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعُمْرَةِ، فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ: «لَا تَنْسَنَا يَا أَخِي مِنْ دُعَائِكَ» (115). أخرجه الترمذي، وقال: " حسن صحيح ". وفيه دلالة على أن سائل الدعاء قد يكون أفضل من المسؤول منه. • الاحتياط في إجابة طلب الدعاء: وينبغي طلباً للسلامة أن لا ينصب المطلوب منه نفسه للدعاء، وأن لا يعتقد أنه أفضل من الطالب. وقد ذكر في " الاعتصام " [آثاراً في] امتناع الصحابة من الدعاء لمن سأله منهم، وأن امتناعهم ليس لذات الدعاء، وإنما هو لأمر زائد؛ قال: " هو أن يعتقد فيه أنه مثل النبي، أو أنه وسيلة إلى أن يعتقد ذلك، أو يعتقد أنه سنة تلزم، أو ¬

_ = لي غلام، فأتيت به النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسمَّاه إبراهيم، فحنَّكه بتمرة ودعا له بالبركة، ودفعه إليَّ، وكان أكبر ولد أبي موسى. وانظر: " تحفة المودود " (ص 27 - 28) لابن القيم رحمه الله تعالى. (115) ضعيف: أخرجه أبو داود (1/ 235)، والترمذي (10/ 7/ 3633)، وابن ماجه (3894)، وأحمد (1/ 240/ 195 و7/ 154 - 155/ 5229)، وابن السني (387) وغيرهم، كلهم من طريق عاصم بن عُبيد الله، عن سالم، عن ابن عمر- زاد الترمذي وأحمد في رواية: عن عمر- به. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح "! كذا قال! وفي إسناده عاصم بن عبيد بن عاصم بن عمر بن الخطاب، قد تكلَّم فيه غير واحد من الأئمة كما قال الحافظ المنذري في " مختصر السنن " (2/ 146)، وضعفه جهابذة الفن؛ كما في ترجمته في " الميزان " (2/ 353 - 354/ ترجمة: 4056)، ولخّص كلام أئمة الجرح والتعديل فيه الحافظ ابن حجر- على عادته- في " التقريب " (1/ 384) فقال: " ضعيف ". والحديث أورده شيخنا في " ضعيف [أبي داود " (322)، والترمذي (715)، وابن ماجه (630)، و " الجامع الصغير " (6292)]، وأشار ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (1/ 326 - 327) إلى عدم ثبوته.

مفاسد الانتصاب للدعاء

يجري في الناس مجرى السنن الملتزمة " (2/ 25). ونقل القرافي في أواخر " فروقه " عن مالك وجماعة من العلماء كراهة الانتصاب للدعاء من أئمة المساجد وغيرهم، وعلل الكراهة بتوقع فساد القلوب، وحصول الكبر والخيلاء، ومعلوم أنه إذا تحقق ذلك المتوقع، كان الانتصاب محرماً، وقد يفضي بالمنتصب أو غيره إلى الشرك باعتقاد أنه واسطة بين الخلق والحق في قضاء الحاجات واستدرار الخيرات وربح خصومة أو نيل منصب في حكومة. • مفاسد الانتصاب للدعاء: وقد وُجِدَ في عصرنا من الطرقيين والمرابطين من ينتصب للدعاء، ويصرح بكونه واسطة بين الله وخلقه في جلب المحبوب ودفع المكروه؛ فإذا رضي عن أحد، ضمن له ما يشتهي من حاجات من الدنيا ونعيم الآخرة، وإذا غضب عن آخر، توعده بحلول النقمة، ورضاه وغضبه تابعان لمطامعه فيما في أيدي الناس، ورأينا من الجهال المعتقدين في لصوص الدين هؤلاء من يبذل فوق طاقته طلباً لرضاهم عنه وفوزه بدعوة منهم له، ويشتري ما ينتسب إليهم من شمع وبخور مزايدة بأرفع الأثمان، ليقوم ذلك الشيء المشترى مقام دعوة صاحبه؛ ففي الانتصاب للدعاء وسؤاله ذريعة إلى الشرك والعياذ بالله. • دعاء غير الله وحكمه: القسم الثالث: دعاء غير الله، وهو في مقابلة القسم الأول؛ فهو شرك صريح وكفر قبيح، وله نوعان: أحدهما: دعاء غير الله مع الله؛ كالذي يقول: يا ربي وشيخي! يا ربي وجدي! يا ألله وناسه! يا ألله يا سيدى عبد القادر! وسمعت كثيراً يحكون أنهم كثيراً ما يسمعون فلاناً يقول: يا ربي يا سيدي يوسف! اغفر لي. ويوسف هذا

إنكار القرآن لدعاء غير الله

من أولاد ابن الدرويش إحدى فصائل أولاد العابد من متصرفية الميلية توفي حديثاً. وإطلاق الشرك على هذا النوع واضح؛ لأن الداعي عطف غير الله على الله بالواو ثابتة أو محذوفة، وهي تقتضي مشاركة ما بعدها لما قبلها في الحكم، والحكم المشترك فيه هنا هو عبادة الدعاء. النوع الثاني: دعاء غير الله من دون الله؛ كالذي يقول: يا رجال الدالة! يا ديوان الصالحين! وإطلاق الشرك على هذا النوع باعتبار أن الداعي وإن اقتصر على المخلوق في اللفظ، لم ينكر الله ولم يبرأ منه في العقد، فكأن الله في كلامه مضمر. ويصح في النوع الأول إطلاق أنه دعاء غير الله من دون الله أيضاً، لأن الداعي لما أشرك بالله في دعائه؛ لم يكن داعياً على الوجه المشروع، فكأنه لم يذكر الله لفظاً، لأن المعدوم شرعاً كالمعدوم حسّاً، والمعدوم هنا هو ذكر الله مشركاً بسواه. • إنكار القرآن لدعاء غير الله: كان القسم الثالث معهوداً بنوعيه عند العرب في جاهليتهم، فعالجهم الكتاب العزيز ليصرفهم عنه: تارة بتوجيههم إلى سؤال الله، وأخرى بتعجيز المسؤولين من دون الله، وأحياناً بتذكيرهم بما كمن في نفوسهم من توحيد الله وظهور ذلك في ألسنتهم عند اشتداد الخطب وغلبة اليأس، وتارات بالإِخبار عن تعاديهم عند البعث مع أوليائهم الذين يدعونهم اليوم، أتاهم الكتاب من هذه الجهات الأربع ليقتلع من نفوسهم جذور الشرك. • ما جاء في توجيه الداعي إلى الله: 1 - فمن الآيات في الجهة الأولى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ

ما جاء في تعجيز المسؤولين

أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13 - 14]. • ما جاء في تعجيز المسؤولين: 2 - ومنها في الجهة الثانية: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 106 - 107]، {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21]، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإِسراء: 56]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73 - 74]. • ما جاء في تذكير السائلين بالتوحيد: 3 - ومنها في الجهة الثالثة: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40 - 41]، {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22]، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإِسراء: 67]، {فَإِذَا

ما جاء في تعادي السائلين والمسؤولين

رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]. • ما جاء في تعادي السائلين والمسؤولين: 4 - ومنها في الجهة الرابعة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166]، {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25]، {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]. • حديث ابن عباس: هذا بعض ما في المقام من الآيات، أما الأحاديث، فنقتصر منها على حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ قَالَ: كُنْتَ خَلْفَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْماً، فقال: «يَا غُلامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ الله؛ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ الله؛ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ؛ فَاسْأَلِ الله، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ؛ فَاسْتَعِنْ بِالله، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ؛ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ؛ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» (116). أخرجه الترمذي وقال: " حديث حسن ¬

_ (116) صحيح: أخرجه الترمذي (7/ 219 - 220/ 2635)، وأحمد (4/ 233/ 2669)، وابن السني (427) من طرق عن الليث بن سعد، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس به. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". وقال الحافظ ابن رجب في " جامع العلوم والحكم " [ص:174]: " وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه عليّ، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن =

عموم عجز المخلوق

صحيح "، ورواه غيره بروايات فيها زيادات. ولعظمه في الدين ذكره النووي في " الأربعين حديثاً "، وأفرد الحافظ ابن رجب الكلام على رواياته ومعانيها برسالة سماها: " نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن عباس ". • عموم عجز المخلوق: تأمل تعجيز النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجميع الأمة على اجتماعها عن إسداء الخير أو الإِيذاء بالشر من غير أن يستثني ملكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً، أو وليّاً صالحاً، أو شجرة عتيقة، أو صخرة ضخمة، وهذا التعميم في التعجيز هو ما تنادي به الآيات السابقة وغيرها، حيث صرح بأن خيار خلقه الذين يبتغون التقرب منه ويرجونه ويخافونه لا يملكون كشف الضر عن أحد ولا تحويله. • فشو دعاء غير الله: ولقد فشا في المسلمين دعاء غير الله على شدة إنكار كتابهم له وتحذير نبيهم منه، حتى صار الجهلة ومن قرب منهم يؤثرونه على دعاء الله وحده، ¬

_ = دينار، وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غُفْرة، وابن أبي مليكة وغيرهم، وأصح الطرق كلّها طريق حنش الصنعاني التي خرّجها الترمذي، كذا قال ابن منده وغيره. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه وصى ابن عباس بهذه الوصية من حديث علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن سعد، وعبد الله بن جعفر، وفي أسانيدها كلّها ضعف، وذكر العقيلي أن أسانيد الحديث كلّها ليّنة، وبعضها أصلح من بعض، وبكل حال، فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيّدة ". والحديث أشار شيخ الإِسلام ابن تيمية إلى ثبوته، فقال في " مجموع الفتاوى " (1/ 182): " وهذا الحديث معروف مشهور " بعد أن جزم بنسبته إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصححه العلاّمة أحمد شاكر في " تعليقه على المسند "، ومحدّث العصر في " ظلال الجنّة " (1/ 137 - 139/ 315 - 318)، و " صحيح [سنن الترمذي " (2043)، و " الجامع الصغير " (7834)].

الحكاية العاشورية

والاستشهاد لذلك بالحكايات عنهم واستيعابها ممل معجز؛ فلنقتصر على حكاية واحدة. • الحكاية العاشورية: ففي سنة سبع وأربعين قتل شيخنا محمد الميلي رحمه الله، فأتيت من الأغواط، وجاء للتعزية الشيخ عاشور صاحب " منار الأشراف " وملقب نفسه: كليب الهامل، والهامل قرية بالحضنة قرب أبي سعادة، بها زاوية كانت تمده بالمال، فحضرت مجلسه، ولم أشعره بحضوري؛ إذ كان قد اجتمع عليه العمى والصمم، وذلك لئلا يحترز في حديثه أو نقع في حديث غير مناسب للمقام. سمعت في ذلك المجلس بأذني كليب الهامل يحكي مناقضاً لدعوة الإِصلاح التي اشتهرت يومئذ: أن شيخاً من شيوخ الطرق الصوفية كان مع مريديه في سفينة، فهاج بهم البحر، وعلت أمواجه، فلجؤوا جميعاً إلى الله يسألون الفرج والسلامة، وكان الشيخ منفرداً في غرفة يدعو، فلم تنفرج الأزمة، وعادته أن لا يبطأ عليه بالإِجابة، فوقع في روعه أنه أتي من قبل أتباعه، لا لنقص فيه يوجب هذا الإِعراض عنه، فخرج على أتباعه مغضباً، يقول: ماذا صنعتم في هذه الشدة؟ فقالوا: دعونا الله مخلصين له الدين بلسان المضطرين (إشارة لقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62])، فنكر عليهم اللجوء إلى الله مباشرة، ووبخهم عليه، وعرفهم أن ذلك هو الحائل دون استجابة دعائه، وأنذرهم عاقبة استمرارهم على التوجه إلى ربهم، وأنه الغرق، وعلمهم أن واجبهم هو التوجه إليه وسؤاله، ثم هو وحده يتوجّه إلى الله، فتابوا من دعاء الموحدين، وامتثلوا تعليم الشيخ المخالف لتعليم رب العالمين، وعاد الشيخ إلى غرفته يدعو متوسطاً بين الله ومريديه، فانكشفت الغمة، وسلمت السفينة، وحمد الشيخ ثقته بنفسه وفقهه سر البطء عن استجابة دعائه

إعراض المبتدعين عن محكم الكتاب وصحيح السنة

وتفقيهه لأتباعه سر النجاة وصرفهم إلى الثقة به عن الثقة بالله. هذا معنى ما سمعته من كليب الهامل، ولم أقيد الحكاية حين السماع حتى أؤديها بلفظها وأصورها بنصها، ولم يسعني وأنا في مقام التحذير من الشرك اجتناب إدراج ما ينافي غرض الحاكي في الحكاية حتى تتم ثم أعلق عليها؛ لئلا يعلق بذهن القارئ شيء من الشرك، ولو إلى حين، ولم أميز المدرج في الحكاية؛ لأنه لا يخفى على العارف بحال المعارضين لدعاة الإِصلاح الديني. يستدل الشيخ عاشور وأشباهه بأمثال هذه الحكاية على لزوم التعلق بشيوخ الزوايا وتوسيطهم بين العباد وربهم ناسخين بها نصوص الشريعة الكثيرة المحكمة، وتتلقفها منهم العامة بقلوبها، وتتمسك بها في الاحتجاج لإِيثار دعاء غير الله، وتعتقد أن ذلك أليق بحالها من أن تخاطب بنفسها أرحم الراحمين؛ سنة المشركين من قديم كما تقدم عن الكلدانيين. • إعراض المبتدعين عن محكم الكتاب وصحيح السنة: والحكاية العاشورية تدل على أن معتقدها أحط فكراً وأقبح جهلاً وأبعد كفراً من مشركي العرب، الذين يخلصون الدعاء لله في حال الشدة واضطراب الموج. ولم يزل من يعظ الناس بنحو تلك الحكاية، ويغرس في القلوب ضريب تلك العقيدة، ولا يرجعون في تمحيص ذلك إلى الكتاب والسنة؛ فإن اضطروا إليهما؛ تمسكوا بمتشابه الكتاب؛ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وبضعيف الحديث المتداعي والموضوع الذي لا تحل روايته إلا للتحذير منه، وتلك عادة المبتدعين من قديم، لا يعنون بمحكم الذكر وصحيح الأثر، ولكن بالحكايات المختلقات والأضاليل الملفقات، فإن نصح لهم ناصح؛ رموه بخبال في الرأي أو ضلال في الفهم أو زيغ في العقد، لا عن حجة وبيان، ولكن ثقة بالذين

يصدقونهم في كل بهتان. قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46]، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55 - 55]. • • • • •

الوسيلة

23 - الوسيلة • معنى الوسيلة في اللغة: في " القاموس ": " الوسيلة: هي المنزلة عند الملك والدرجة والقربه ". وفي " الصحاح " و " المصباح ": " هي ما يتقرب به إلى الشيء ". وفي " المفردات ": " هي التوصل إلى الشيء برغبة ". وفي " فروق أبي هلال ": " الوسيلة عند أهل اللغة هي القربة، وأصلها من قولك: سألت أسأل؛ أي: طلبت، وهما يتواسلان؛ أي: يطلبان القربة التي ينبغي أن يطلب مثلها، وتقول: توسلت إليه بكذا، فتجعل كذا طريقاً إلى بغيتك عنده ". • الفرق بين الوسيلة والذريعة: " والذريعة إلى الشيء هي الطريقة إليه، ولهذا يقال: جعلت كذا ذريعة إلى كذا، فتجعل الذريعة هي الطريقة نفسها، وليست الوسيلة هي الطريقة، فالفرق بينهما بيِّن " [ص:248]. ولعل الفرق البيّن هو كون الوسيلة مقصود التوصل بها إلى المرغوب فيه، والذريعة قد توقع فيما ليس بمراد أولاً؛ تقول: وسلت إليه بالعمل- من باب

خلاصة معنى الوسيلة

وعد-: رغبت وتقربت، ووسل إليه توسيلًا، وتوسل توسلًا: عمل عملاً تقرب به إليه، والواسل: الراغب، قال لبيد: أَرَى النَّاسَ لَا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أَمْرِهِمْ … بَلَى كُلُّ ذِي دِينٍ إِلَى اللهِ وَاسِلُ وقال أبو طالب مطلع " لاميته ": وَلَمَّا رَأَيْتُ الْقَوْمَ لَا وُدَّ فيهِمُ … وَقَدْ قَطَعُوا كُلَّ الْعُرَى وَالْوَسَائِلِ يريد أنواع الصلة وضروب الروابط. • خلاصة معنى الوسيلة: واستبان من بيان اللغويين للوسيلة أنها تتضمن ثلاثة أشياء: القربة، والرغبة، والتوصل؛ فهي على هذا قربة موصلة لأمر مرغوب فيه. وعلى هذا ينبني المعنى الشرعي في مستعمل الكتاب والسنة: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]. وقال أيضاً: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإِسراء: 57]. وفي " البخاري " عن جابر بن عبد الله، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ! رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ! آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ؛ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَة» (117). ¬

_ (117) رواه البخاري (2/ 94/ 614)، وأبو داود (1/ 88)، والترمذي (1/ 622 - 623/ 211)، والنسائي (2/ 26 - 27)، وفي " عمل اليوم والليلة " (46)، وعنه ابن السني (94)، وابن ماجه (722)، وأحمد (3/ 354)، والبيهقي (1/ 410)، وابن خزيمة (1/ 220/ 420)، =

معنى الوسيلة في آية المائدة

• معنى الوسيلة في آية المائدة: 1 - أما الوسيلة في الآية الأولى؛ فقد حكى في " الدر المنثور " عن مفسري الصحابة والتابعين فيها أربع عبارات: عبارة حذيفة رضي الله عنه وغير واحد: أنها القربة، وعبارة قتادة: أنها الطاعة لله والعمل بما يرضيه، وعبارة أبي وائل رضي الله عنه: أنها الإِيمان، وعبارة ابن عباس: أنها الحاجة، وأنشد قول عنترة: إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ … أَنْ يَأْخُذُوكِ تكَحَّلِي وتَخَضَّبي والعبارات متواردة على معنى واحد، فطاعة الله وعمل ما يرضيه قربة، والإِيمان عند السلف عقد وقول وعمل، فآل إلى الطاعة، والحاجة من الاحتياج والافتقار، فإن كان لله، فهو من الإِيمان المثمر للطاعة. وقال الراغب بعد هذه الآية: " وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة ". فرجعت الوسيلة إلى أنها القربة والطاعة، وحكى ابن كثير اتفاق المفسرين على هذا المعنى. • معنى الوسيلة في آية الإِسراء: 2 - وأما الوسيلة في الآية الثانية؛ ففسرها البغوي بالقربة [و] بالدرجة العليا وليس بين اللفظين تضارب، لأن الدرجة العليا ثمرة الطاعة والقربة، وفسرها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقرب، وهو بمعنى الدرجة العليا، فقد روى الترمذي وابن ¬

_ = وابن حبان (4/ 586/ 1689)، والبغوي في " شرح السنة " (2/ 283 - 284/ 420) من طرق عن عليّ بن عياش، عن شُعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعاً، وقال الترمذي: " حديث صحيح حسن غريب ".

معنى الوسيلة في حديث جابر

مردويه عن أبي هريرة؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ». قَالُوا: وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ: «الْقُرْبُ مِنَ اللهِ» ثُمَّ قَرَأَ: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإِسراء: 57] (118). ذكره في " الدر المنثور ". • معنى الوسيلة في حديث جابر: 3 - وأما الوسيلة في حديث جابر، فقد فسرتها الأحاديث بأنها أعلى درجة في الجنة، وذلك معنى القرب في حديث أبي هريرة. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً؛ صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ؛ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ؛ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ» (119) ¬

_ (118)؟ لم أقف عليه بتمام هذا اللفظ، نعم، روى الترمذي في " سننه " (10/ 80 - 81/ 3691)، وإسماعيل بن إسحاق القاضي في " فضل الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (46 و47) من طرق عن ليث- وهو ابن أبي سليم-؛ قال: حدثني كعب، حدثني أبو هريرة؛ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ: «أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الجَنَّةِ، لَا يَنَالُهَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ». وقال الترمذي: " هذا حديث غريبٌ، وإسناده ليس بقويٍّ، وكعبٌ ليس هو بمعروف ولا نعلم أحداً روى عنه غير ليث بن أبي سُليم ". قلتُ: لكن لحديثه هذا شواهد يتقوى بها، منها حديث ابن عمرو الآتي بعده برقم (119)، وغيره في " فضل الصلاة على - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (48 - 51)، وأمّا بلفظ الكتاب؛ فلا أخاله يصح ولعله مما انفرد به ابن مردويه في " تفسيره " وهو غير مطبوع، بل في حكم المفقود، والله أعلم. (119) رواه مسلم (1/ 288 - 289/ رقم: 384)، وأبو داود (1/ 87)، والترمذي (10/ 83 - 84/ 3694)، والنسائي (2/ 25 - 26)، وفي " عمل اليوم والليلة " (45)، وعنه ابن السني =

اتحاد معنى الوسيلة في الكتاب والسنة

• اتحاد معنى الوسيلة في الكتاب والسنة: وإذا تأملت معنى الوسيلة في الآيتين والحديث، وجدته متقارباً متلازماً، أصله القربة والطاعة التي ينشأ عنها القرب من الله في دار كرامته. • تحديد معنى الوسيلة في الشرع: وإذا استعنا بالمعنى اللغوي لتحديد المعنى الشرعي؛ كان معناها في الشرع: قربة مشروعة توصل إلى مرغوب فيه، والتوسل هو التقرب إلى الله بتلك القربة، وتوسل الداعي هو طلبه المبني على تلك القربة، وليس في الشرع مطلوب ومدعو إلا الله، وليس فيه من قربة إلا ما شرعه في الكتاب والسنة. قال ابن أبي زيد في " رسالته ": " ولا يكمل قول الإِيمان إلا بالعمل، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ونية إلا بموافقة السنة " ... والنية: القصد والإِخلاص. • أنواع التوسل: والتوسل إما بما يناسب المطلوب عقلاً وأذن فيه شرعاً، وإما بغير ذلك. وتفصيله: أن المتوسل إما أن يتوسل بما لله من صفات وأسماء، وإما بما له من اعتقاد صحيح، وإما بما له من عمل صالح، وإما بما لغيره من دعاء أو جاه، وإما بطاعة تعمه وغيره؛ فتلك ستة أنواع. • التوسل بصفات الله: النوع الأول: التوسل بصفات الله، وهو مشروع؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، ولما رواه الترمذي وحسَّنه عن ¬

_ = (92)، وأحمد (2/ 168)، والبيهقي (1/ 409 - 410)، وغيرهم عن ابن عمرو مرفوعاً، وقال الترمذي: " حسن صحيح ".

معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ! فَقَالَ: «قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ؛ فَسَلْ» (120)، وله أمثلة: 1 - منها ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربع أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم، عن أنس رضي الله عنه؛ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو: "اللَّهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ! يَا قَيُّومُ! ". فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ» (121). ¬

_ (120) ضعيف: أخرجه أحمد (5/ 235 - 236 - مصورة المكتب)، والبخاري في " الأدب المفرد " (726)، والترمذي (9/ 511 - 513/ 3595 و3596) من طريقين عن الجُريري عن أبي الورد عن اللجلاج عن معاذ بن جبل قَالَ: سَمِعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يَدْعُو يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ تَمَامَ النِّعْمَةِ، فَقَالَ: «أَيُّ شَيْءٍ تَمَامُ النِّعْمَةِ؟». قَالَ: دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا أَرْجُو بِهَا الخَيْرَ. قَالَ: «فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ دُخُولَ الجَنَّةِ وَالفَوْزَ مِنَ النَّارِ»، وَسَمِعَ رَجُلًا وَهُوَ يَقُولُ: يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَقَالَ: «قَدْ اسْتُجِيبَ لَكَ؛ فَسَلْ»، وَسَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصَّبْرَ فَقَالَ: «سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَلَاءَ، فَاسْأَلْهُ الْعَافِيَةَ». وقال الترمذي: " هذا حديث حسن "! كذا قال! وأبو الورد- وهو ابن ثُمامة بن حزن القشيري البصري- أورده ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (9/ 451/ 2298)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلًا! سوى رواية الجُريري عنه، وكذا قال الدارقطني كما في " ذيل الميزان " (ص 480/ ت: 795) للحافظ العراقي، وهذا زاد رواية شداد بن سعيد الراسبي عنه أيضاً، فهو مجهول الحال ولذلك قال الحافظ في " التقريب " (2/ 486): " مقبول " يعني عند المتابعة وإلَّا فليّن الحديث كما نص عليه في مقدمة " التقريب ". وانظر: " ضعيف الترمذي " (706) للألباني. (121) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 120 - مصورة المكتب)، وأبو داود (1/ 234)، والترمذي (9/ 529 =

التوسل بالإيمان

2 - ومنها ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ! رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ» (122)؛ فإن إضافة لفظ الرب إلى تلك المخلوقات العظيمة مشعر بعظيم قدرته وكمال حكمته. 3 - ومنها الأبيات المشهورة المنسوبة لابن القاسم السهيلي، ومطلعها: يَا مَنْ يَرَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَيَسْمَعُ … أَنْتَ الْمُعِدُّ لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ • التوسل بالإِيمان: النوع الثاني: التوسل بالإِيمان الصحيح الصادق، وهو مشروع؛ لما فيه من تقوية التوحيد، وله أمثلة: 1 - منها ما حكاه الله عن أولي الألباب: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193]. 2 - ومنها ما رواه الترمذي وحسنه- بل صححه كما في " مدارج السالكين " (1/ 13) - وبقية أصحاب السنن الأربع، وصححه ابن حبان والحاكم؛ عن بريدة رضي الله عنه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو وَيَقُولُ: ¬

_ = / 3612)، والنسائي (3/ 52)، وابن ماجه (3858)، وابن حبان (3/ 175 - 176/ 893)، والحاكم (1/ 503 - 504) من طرق عن أنس به. وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي. (122) أخرجه مسلم (1/ 534/ 770) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف؛ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: «اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» ".

اللَّهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» (123). 3 - ومنها: قول تميم بن المعز بن باديس الأمير الصنهاجي المالكي: فَكَّرْتُ فِي نَارِ الْجَحِيمِ وَحَرِّهَا … يَا وَيْلَتَاهُ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصِ فَدَعَوْتُ رَبِّي أَنَّ خَيْرَ وَسِيلَتِي … يَوْمَ الْمَعَادِ شَهَادَةُ الْإِخْلَاصِ ¬

_ (123) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 349 و350 و360 - مصورة المكتب)، وأبو داود (1/ 234)، والترمذي (9/ 445 - 446/ 3542)، وابن ماجه (3857)، وابن حبان (3/ 173 و 174/ برقم: 891 و892)، والحاكم (1/ 504) من طرق عن مالك بن مِغْوَل عن عبد الله بن بُريدة عن أبيه به. وقال الترمذي: " حديث حسن غريب ". وقال الحاكم: " حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وله شاهد صحيح على شرط مسلم! " ووافقه الذهبي! وقال المنذري في " مختصر السنن " (2/ 145): " قال شيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي: وهو إسناد لا مطعن فيه، ولا أعلم أنه روي في هذا الباب حديث " أجود إسناداً منه ". وقاله في " الترغيب " (3/ 289) أيضاً، وحكاه المباركفوري في " التحفة " (9/ 447) عنه بزيادة: " وهو حديث حسن ". وللحديث شاهد بنحوه أخرجه أبو داود (1/ 156)، والنسائي (3/ 52)، وابن خزيمة في " صحيحه " (1/ 358/ 724) من طريق عبد الوارث ثنا الحسين المعلم عن عبد الله بن بُريدة عن حنظلة بن علي أن محجن بن الأدرع حدثه قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ... أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ: فَقَالَ: «قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ (ثَلَاثاً)». وإسناده صحيح رجاله ثقات رجال مسلم، والله أعلم.

التوسل بالعمل الخاص

• التوسل بالعمل الخاص: النوع الثالث: توسل الداعي بطاعته وصالح عمله، وهو مشروع لما فيه من تغذية الخشوع المناسب للموضوع، وله أمثلة: 1 - منها: حديث الصخرة في " الصحيحين "؛ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَل فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُ ... » ثم ذكر برور الأول بأبويه وانفراج الصخرة قليلاً لدعائه، وعفة الثاني عمن أمكنته من نفسها بعد شوق طويل وانفراج الصخرة له أيضاً، ومبالغة الثالث في حفظ الأمانة وتمام انفراج الصخرة، وأنهم كلهم قالوا في أدعيتهم: «اللَّهُمَّ! إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرِجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ» (124) 2 - ومنها: تقديم الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الدعاء، لما رواه أبو داود، والترمذي وصححه، أَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي وَيَدْعُو، وَلَمْ يَحْمَدْ رَبَّهُ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى نَبِيِّهِ، فَقَالَ: «عَجِلَ هَذَا». ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ؛ فَلْيَبْدَأْ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ؛ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ، وَلْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ» (125). ¬

_ (124) رواه البخاري (6/ 505 - 506/ 3465)، ومسلم (4/ 2099 - 2100/ 2743) عن أبن عمر موقوفاً مطولاً، وقد ذكره المؤلف مختصراً بمعناه. (125) صحيح: أخرجه أحمد (6/ 18)، وعنه أبو داود (1/ 233)، والترمذي (9/ 450 - 451/ 3546)، وابن خزيمة (1/ 351/ 710)، وابن حبان (5/ 290/ 1960)، والحاكم (1/ 230)، وإسماعيل القاضي في " فضل الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (106)، كلّهم عن عبد الله بن يزيد المقرئ حدثني حيوة أخبرني أبو هانئ حميد بن هانئ أن أبا علي عمروبن مالك حدثه أنه سمع فضالة بن عبيد- صاحب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " سَمِعَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلًا ... (فذكره).

التوسل بالدعاء

3 - ومنها: قول محمد بن عبد الله العبدري المالكي: تَوَسَّلْتُ يَا رَبِّي بِأَنِّيَ مُؤْمِنٌ … وَمَا قُلْتُ إِنِّي سَامِعٌ وَمُطِيعٌ أَيُصْلَى بَحَرِّ النَّارِ عَاصٍ مُوَحِّدٌ … وَأَنْتَ كَرِيمٌ وَالرَّسُولُ شَفِيعُ وهذه الأنواع الثلاثة لتقاربها قد تجتمع أو بعضها في الصيغة الواحدة. • التوسل بالدعاء: النوع الرابع: تَوسُّل المرء بدعاء غيره، وهو على وجهين: أحدهما: أن تكتفي عن دعائك بدعاء من سألته الدعاء، وهذا تقدم في فصل الدعاء، وأنه مأذون فيه، ما لم يكن ذريعة إلى منهي عنه؛ كسؤال الدعاء من الميت والغائب؛ لما فيه من مظنة الاعتقاد بعلم الغيب (*). والوجه الثاني: أن تسأل الدعاء من الحي الحاضر، فيدعو لك، وتتوجه أنت إلى الله داعياً متوسلاً بدعائه. • حديث الأعمى: وهو مشروع لحديث الأعمى عند أحمد والنسائي، والترمذي وصححه، وهو أن رجلاً ضريرا جاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأله الدعاء ليرد الله عليه بصره، فخيره ¬

_ = وقال الترمذي: " حسن صحيح "، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم! "، ووافقه الذهبي! وأخرجه الترمذي (9/ 449/ 3544) عن رشدين بن سعد، والنسائي (3/ 44 - 45) عن ابن وهب، وكذا ابن خزيمة (1/ 351/ 709)، وابن السني (112) عن حميد بن مالك: ثلاثتهم عن أبي هانئ به، وقال الترمذي: " حديث حسن ". (*) قال الشيخ محمد صالح العثيمين في " القول المفيد " (1/ 262). " من الشرك أن يدعو غير الله؛ لأن الدعاء لا يكون إلا مع محبة وتعظيم وافتقار وتذلُّل، واعتقاد أن المدعو قادر ".

بين الصبر ودعائه له، فأصر على اختيار دعاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره بالوضؤ وصلاة ركعتين، ثم الدعاء بهذا اللفظ: «اللَّهُمَّ! إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ، نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ! إنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِي، اللَّهُمَّ! فَشَفِّعْهُ فِيَّ» (126). والتوجه بالنبي معناه التوجه بدعائه، دل على هذا المحذوف اختيار الأعمى لدعاء الرسول [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] بعد تخييره له بينه وبين الصبر، وأمره للأعمى بالدعاء بعد دعائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ نظير ما أخرجه مسلم وغيره من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن سأله مرافقته في الجنة: «أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» (127)؛ فنصح لهما بعبادتي الصلاة والدعاء لمناسبتهما للمطلوب. ¬

_ (126) صحيح: أخرجه أحمد (4/ 138)، والترمذي (10/ 32 - 33/ 3649)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (658 و659 و660)، وابن ماجه (1385)، وابن خزيمة (2/ 225 - 226/ 1219)، والحاكم (1/ 313 و519 و526 - 527)، والطبراني في " الكبير " (9/ 17 - 18/ 8311)، و " الصغير " (1/ 306 - 307/ 508) عن عثمان بن حُنيف رضي الله عنه. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح غريب "؛ وقال الحاكم في الموضع الأول: " صحيح على شرط الشيخين "، وفي الموضع الثاني: " صحيح الإِسناد "، وفي الأخير: " صحيح على شرط البخاري "، ووافقه الذهبي فيها، وقال الطبراني بعد ذكر طرقه: " والحديث صحيح " قاله في " الصغير "، ونقله عنه المنذري في " الترغيب " (3/ 67). وقد صححه أيضاً البيهقي وأبو عبد الله المقدسي وابن تيمية كما في " مجموع الفتاوى " (1/ 265 وما بعدها). (127) أخرجه مسلم (1/ 353/ 489) عن ربيعة بن كعب الأسلمي، قال: كنتُ أبيتُ مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتيته بِوَضُوئهِ وحاجته، فقال لي: " سَلْ ". فقلتُ: أسألك مرافقتك في الجنَّة. قال: " أوغير ذلك؛ ". قلتُ: هو ذاك. قال: " فأعني ... " فذكره.

استسقاء عمر بالعباس

• استسقاء عمر بالعباس: ونظير حديث الأعمى ما رواه البخاري في " صحيحه " من استسقاء عمر بالعباس (128) وقوله: " اللَّهُمَّ! إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بَنَبِيِّنَا، فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا؛ فَاسْقِنَا "؛ ففيه إِثبات التوسل بالرسول في حياته، وبأهل الفضل- ولا سيما ذوو قرابته- بعد موته، والمقصود التوسل بدعائهم إذا كانوا معنا في عالمنا، أما من كان في العالم الغيبي؛ فكل شيء منه غائب علينا؛ فلا نعلم هل دعا لنا ولم يرد الشرع بدعائهم لنا، والعباس حاضر وقع منه الدعاء، وأنه قال - كما في " الفتح " -: " اللَّهُمَّ! إِنِّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلاءٌ إِلا بِذَنْبٍ، وَلَمْ يُكْشَفْ إِلا بِتَوْبَةٍ، وَقَدْ تَوَجَّهَ الْقَوْمُ بِي إِلَيْكَ لِمَكَانِي مِنْ نَبِيِّكَ، وَهَذِهِ أَيْدِينَا إِلَيْكَ بِالذُّنُوبِ، وَنَوَاصِينَا إِلَيْكَ بِالتَّوْبَةِ، فَاسْقِنَا الْغَيْثَ" (129) (2/ 398). • التوسل بالطاعة المطلقة: النوع الخامس: التوسل بطاعة تعم المتوسل وغيره. ومن أمثلته: ما في " كبير الطبراني " من طريق فضال بن جبير المجمع على ضعفه عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعاً: " أَسْأَلُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَبِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَكَ، وَبِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ؛ أَنْ تَقْبَلَنِي فِي هَذِهِ الْغَدَاةِ وَفِي هَذِهِ الْعَشِيَّةِ، وَأَنْ تُجِيرَنِي مِنَ النَّارِ بِقُدْرَتِكَ" (130). ¬

_ (128) رواه البخاري (2/ 494/ 1010) عن أنس. (129) صحيح: أخرجه الزبير بن بكار في " الأنساب "؛ كما قال الحافظ في " الفتح " (2/ 497)، وسكت عليه، وأشار إلى ثبوته الألباني في " التوسل: أنواعه وأحكامه " [ص:62]، والله أعلم. (130) ضعيف جداً: أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (8/ 316 - 317/ رقم: 8027) من طريق هشام =

ومنها: ما رواه أحمد وابن ماجه عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه علم الخارج إلى الصلاة أن يقول في دعائه: «وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا، وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، وَلَكِنْ خَرَجْت اتِّقَاءَ سَخَطِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُنْقِذَنِي مِنَ النَّارِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» (131). ¬

_ = ابن هشام الكوفي ثنا فضال بن جبير عن أبي أمامة الباهلي؛ قال: " كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أصبح وأمسى دعا بهذه الدعوات: «اللَّهُمَّ أَنْتَ أَحَقُّ مَنْ ذُكِرَ، وَأَحَقُّ مَنْ عُبِدَ، وَأنْصَرُ مَنْ ابْتُغِي، وَأَرْأَفُ مَنْ مَلَكَ، وَأجْوَدُ مَن سُئِلَ، وَأوسعُ من أعطى، أَنْتَ الْمَلِكُ لاَ شَريكَ لَكَ، وَالفَرْدُ لاَ تَهْلَكُ، كُلّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهُك، لَنْ تُطَاعَ إِلَّا بِإذْنِكَ، وَلَنْ تُعْصَى إِلَّا بِعِلْمِكَ، تُطَاعُ فَتَشْكُرُ، وَتُعْصَى فَتَغْفِرُ، أَقْرَبُ شَهيدٍ، وَأدْنَى حَفِيظ، حِلْتَ دُونَ الثُّغُورِ، وَأَخَذْتَ بِالنَّواصِي، وَكَتَبْتَ الآثَارَ، وَنَسَخْتَ الآجَالَ، القُلُوبُ لَكَ مُفْضِيَّةٌ، وَالسِّرُّ عِنْدَكَ عَلاَنِيَّةٌ، الْحَلالُ مَا أَحْلَلَتَ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمْتَ، والدِّينُ مَا شَرَّعْتَ، وَالأمْرُ مَا قَضَيْتَ، وَالْخَلْقُ خَلْقُكَ، وَالْعَبْدُ عَبْدُكَ، وَأَنْتَ اللهُ الرءوفُ الرَّحيم، أَسأَلُكَ ... » فذكره. قال الهيثمي (15/ 117): " وفيه فضال بن جبير، وهو ضعيف مجمع على ضعفه ". وقال الألباني في " المصدر السابق " (ص 101 - 102): " بل هو ضعيف جداً، اتهمه ابن حبان؛ فقال- في " المجروحين " (2/ 204) -: " شيخ يزعم أنه سمع أبا أُمامة يروي عنه ما ليس من حديثه، لا يحل الاحتجاج به بحال، يروي أحاديث لا أصل لها ". قلتُ: وهشام بن هشام الكوفي لم أجد ترجمته فيما تيسر لي من المصادر؛ فالله أعلم. (131) ضعيف: أخرجه أحمد (3/ 21 - مصورة المكتب)، وابن ماجه (778)، وابن السني (85) من طريق فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي به. وسنده ضعيف، وفيه علتان: الأولى: فضيل بن مرزوق ضعفه جماعة كما في " المجروحين "، و " الميزان "، و " ديوان الضعفاء "، و " التقريب " وغيرها. والأخرى: عطية العوفي، وقد سبق تضعيفه في الحديث المخرج برقم (65). وللحديث شاهد أخرجه ابن السني (84) عن بلال رضي الله عنه، وفيه الوازع بن نافع =

ومنها: ما رواه محمد بن عوف عن جابر في دعاء الأذان مرفوعاً: «اللَّهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ» (132)، وعطية العوفي ضعفوه، وأطال ¬

_ = العقيلي " متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث "، كما قال النووي في " الأذكار " [ص:25]، فلا يصلح جابراً له ولا يصح الاستشهاد به، كما لا يخفى على طلاب هذا العلم وأهله. انظر: " ترغيب المنذري " (3/ 272)، و " أذكار النووي "، و " مجموع فتاوى ابن تيمية " (1/ 288 و240)، و " اقتضاء الصراط المستقيم " [ص:418] أيضاً، و " ضعيفة الألباني " (24)، و " التوسل " (ص 94 - 101) له أيضاً، والله الموفق. (132) شاذ بهذا اللفظ: أخرجه البيهقي في " سننه الكبرى " (1/ 410)، و " السنن الصغير " (1/ 124/ 296) من طريق محمد بن عوف حدثنا عليّ بن عياش عن شُعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدرعن جابر مرفوعاً. قلتُ: ومحمد بن عوف- وهو ابن سفيان أبو جعفر الطائي الحمصي- وإنْ " وثقه غير واحد وأثنوا على معرفته ونبله " كما في " تذكرة الذهبي " (2/ 583)، بل هو " ثقة حافظ " كما في " تقريب ابن حجر " (3/ 197)، فلفظ حديثه شاذ مخالف للفظ المحفوظ «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ» الذي تتابع عليه جماعة من الحفاظ الثقات الأثبات في روايته عن علي بن عياش، منهم: 1 - الإِمام أحمد: في " المسند " و " سنن أبي داود ". 2 - البخاري: في " صحيحه "، وفي " شرح السنة " للبغوي. 3 - عمرو بن منصور: في " سنن النسائي "، و " عمل اليوم والليلة " لابن السني. 4 - محمد بن يحى: عند " ابن ماجه " وابن حبان في " صحيحه ". 5 و 6 - العباس بن الوليد الدمشقي، ومحمد بن أبي الحسين، عند ابن ماجه في " سننه " أيضاً. 7 - موسى بن سهل الرملي: عند ابن خزيمة في " صحيحه ". 8 و 9 - محمد بن سهل بن عسكر البغدادي وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: عند الترمذي. 10 - محمد بن مسلم بن وارة: عند ابن أبي عاصم في " السنة " (826). وانظر: " إرواء الغليل " (1/ 261) للألباني. 302

السهسواني في " صيانة الإِنسان " القول في تعليل حديثه هذا، ومحمد بن عوف فيه مقال. فلم تسلم الأحاديث الثلاثة من الطعن. وتأول التقي ابن تيمية حديث عطية- على فرض صحته- بأن حق السائلين لله الإِجابة، وحق العابدين له الإِثابة، فسؤاله بهذا الحق سؤال له بأفعاله، كالاستعاذة بمعافاته في حديث: «اللَّهُمَّ! إنِّي أعُوذُ بِرِضاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وبِمُعافاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وأعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْكَ أَنْت كَمَا أثْنَيْتَ على نَفْسِكَ». أخرجه مسلم عن عائشة (133) رضي الله عنها، وهذا الحق أوجبه على نفسه تفضلًا منه ورحمة، فقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] [الروم: 47]، {كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103]، {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة: 111]، بسط هذا التأويل في " رده على البكري " [ص:43]، وعرج عليه في " رسالة التوسل والوسيلة " [ص:49]. وتأول السهسواني حديث محمد بن عوف في " صيانة الإِنسان " بقوله: " إن ¬

_ = (تنبيه): تصحّف " محمد بن عوف " في مطبوعة " الفتح " (2/ 95) إلى " محمد بن عون "! فظن السهسواني في " صيانة الإنسان " (ص 202 - ط 5) أنه الخراساني، فنقل من " ميزان الذهبي " قول الشائي فيه: " متروك "، وقول البخاري: " منكر الحديث "، وقول ابن معين: " ليس بشيء "! وقد تابعه المؤلف- عفا الله عنا وعنهما- على هذا الوهم كما ترى، والله الموفق الهادي إلى الصواب. (133) أخرجه مسلم (1/ 352/ رقم: 486) عن عائشة؛ قالت: فقدتُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةً من الفِراش، فالتمسته، فوقعتْ يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ ... » الحديث.

التوسل بالجاه

المراد بهذه الدعوة التامة نوع الأذان لا أذان مخصوص، كما أن المراد مطلق الصلاة لا صلاة مصل معين؛ فغاية ما يثبت منه التوسل بمطلق الأعمال الصالحة من غير إضافتها إلى أشخاص معينين " [ص:205]. وعلى تأويل ابن تيمية يكون هذا التوسل بحق السائلين من النوع الأول. والأقرب عندي أن الحق هنا بمعنى الجاه والحظوة؛ فهو كقولك: بجاه فلان، لكنه ليس توسلًا بالشخص، بل بوصف السؤال الذي يتناول المتوسل، وسؤال الله عبادة، فيكون هذا توسلاً بعبادة مطلقة لا تخص المتوسل ولا المتوسل به، وهذا هو الذي يوافق تأويل السهسواني لحديث محمد بن عوف، وهو الصواب إن شاء الله، وفارق هذا النوع [النوع] الثالث لكونه مطلقاً لا مقيداً بعبادة جزئية. • التوسل بالجاه: النوع السادس: توسل المرء بحق المخلوق وجاهه، وردت آثار لو صحت ولم تؤول لدلت على جوازه بكل معظم شرعاً، من ميت أو غائب أو حاضر لم يقع منه دعاء للمتوسل، ولنقتصر من الآثار على أحسنها إسناداً أو أشهرها على الألسنة. • ما ورد في التوسل بالجاه: 1 - روى ابن السني وأبو نعيم وأبو الشيخ الأصبهاني من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جده؛ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني أتعلم القرآن ويتفلت مني. فعلمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقول: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمُحَمَّدِ نَبِيِّك، وَبِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِك، وَبِمُوسَى نَجِيِّك، وَعِيسَى رُوحِك وَكَلِمَتِك، وَبِتَوْرَاةِ مُوسَى وَإِنْجِيلِ عِيسَى وَزَبُورِ دَاوُد وَفُرْقَانِ مُحَمَّدٍ، وَبِكُلِّ وَحْيٍ

أَوْحَيْته وَقَضَاءٍ قَضَيْته ... » الحديث (134). 2 - وروى الحاكم في " المستدرك " وصححه من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب مرفوعاً: " لما اقترف ¬

_ (134) موضوع: أخرجه أبو الشيخ ابن حيان في كتاب " الثواب " وغيره من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني عن أبيه- زاد بعضهم: عن جدّه -؛ أنّ أبا بكر الصديق أتى النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني أتعلَّم القرآن فيتفلّت منّي، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قل: اللهم إني أسألك بمحمد نبيّك، وإبراهيم خليلك، وموسى نجيّك، وعيسى روحك وكلمتك، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وزابور داود، وفرقان محمد، وكل وحي أوحيته أو قضاء قضيته أو شيء أعطيته أو فقير أغنيته أو غني أفقرته أو ضال هديته، وأسألك باسمك الذي أنزلته على موسى، وأسألك باسمك الذي وضعته على الأرض فاستقرت، وأسألك باسمك الذي وضعته على الجبال فأرست، وأسألك باسمك الذي استقل به عرشك، وأسألك باسمك المطهر الطاهر الأحد الصمد الوتر المنزل في كتابك من لدنك من النور المبين، وأسألك باسمك الذي وضعته على النهار فاستنار، وعلى الليل فاظلم، وبعظمتك وكبريائك وبنور وجهك أن ترزقني القرآن والعلم، وتخلطه بلحمي ودمي وسمعي وبصري وتستعمل به جسدي بحولك وقوتك؛ فإنه لا حول ولا قوّة إلا بدً». وهذا حديثٌ مَوْضوعٌ، وآفته عبد الملك بن هارون؛ فإنه " من أضعف الناس، وهو عند أهل العلم بالرجال متروك، بل كذّاب "، كما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في " مجموع الفتاوى " (1/ 299) ملخصاً كلام أهل الجرح والتعديل فيه، المبثوث في ثنايا " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم، و " المجروحين " لابن حبان، و " الميزان " للذهبي، و " اللسان " لابن حجر، وغيرها. وفيه علة ثانية- وإن كانت دون الأولى- وهي ضعف أبيه هارون كما قاله الدارقطني وغيره. وعلة ثالثة: وهي الانقطاع بين هارون وأبي بكر، قاله العراقي في " تخريج الإِحياء " (1/ 315). وانظر: " مجموع الفتاوى " (1/ 252 - 253) أيضاً، و " اللآلئ المصنوعة " (2/ 357) للسيوطي. وللحديث طرق أخرى عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما بأسانيد مظلمة لا يثبت منها شيء كما في " المجموع " (1/ 258 - 259)، و " اللآلئ " (2/ 356، 357) أيضاً.

آدم الخطيئة؛ قال: يا رب! أسألك بحق محمد لما غفرت لي. قال: وكيف عرفت محمداً؟ قال: لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك، رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. قال: صدقت يا آدم! ولولا محمد ما خلقتك " (135). 3 - وأخرج الطبراني في " الكبير " و " الأوسط " والحاكم وصححه من طريق روح بن صلاح المصري، عن أنس رضي الله عنه، في قصة وفاة فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل لحدها، واضطجع فيه، ثم قال: «الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اللهم! اغفر لي ولأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها، ¬

_ (135) موضوع: أخرجه الحاكم (2/ 615) وقال: " صحيح الإِسناد!! وهو أوَّل حديث ذكرته لعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم في هذا الكتاب ". وتعقبه الحافظ الذهبي في " التلخيص " بقوله: " قلتُ: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ، وعبد الله بن مسلم الفهري لا أدري من ذا؟ "، وفي " الميزان " (2/ 504) حكم على الحديث بالبطلان، وأقره الحافظ العسقلاني في " اللسان " (3/ 360). وقال ابن تيمية (1/ 254): " ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أُنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب " المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم ": عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا تخفى على من تأمّلها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه. قلتُ: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً، وضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم، وقال أبو حاتم بن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك من روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف، فاستحق الترك. وأمّا تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله؛ فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا: إن الحاكم يصحّح أحاديث وهي موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث ... ". وانظر: " الضعيفة " (25)، و " التوسل " (ص 106 - 118) للألباني.

بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي؛ فإنك أرحم الراحمين» (136). ¬

_ (136) ضعيف: أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (3/ 121)؛ قال: حدثنا سليمان بن أحمد- وهو الطبراني- وهذا في (المعجم الكبير " (24/ 351 - 352/ 871) - و " الأوسط " كما في " المجمع " (9/ 257) - ثنا أحمد بن حماد بن زغبة حدثنا روح بن صلاح أخبرنا سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أنس بن مالك؛ قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أمّ عليّ رضي الله عنهما، دخل عليها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجلس عند رأسها، فقال: " رحمكِ اللهُ يا أمّي، كنتِ أمّي بعد أمّي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيّباً وتطعميني، تريد بذلك وجه الله والدار الآخرة "، ثم أمر أن تغسل ثلاثاً، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور؛ سكبه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده، ثم خلع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قميصه فألبسها إياه، وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد، حفره رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده، وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ؛ دخل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاضطجع فيه، فقال: ... " فذكره، وزاد: " وكبَّر عليها أربعاً، وأدخلوها اللحد هو والعباس وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم ". وقال أبو نعيم: " غريب من حديث عاصم والثوري، لم نكتبه إلّا من حديث روح بن صلاح تفرد به!. وقال الهيثمي: " وفيه روح بن صلاح، وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح! ". ولهذا قال المؤلف فيما يأتي [ص:210]: " وروح بن صلاح مختلف في تضعيفه وتوثيقه ". قلت: لكن الراجح تضعيفه لسببين: الأول: أن موثقيه- وهما ابن حبان والحاكم- متساهلان في التوثيق، أمّا الأول؛ فكثيراً ما يوثق المجهولين كما نبّه عليه المحققون من الحفاظ كابن عبد الهادي والذهبي والعسقلاني وغيرهم، وأمّا الأخر؛ فقد سبق في كلام ابن تيمية قريباً " أنه يصحح أحاديث وهي موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث "، فقولهما عند التعارض لا يقام له وزن، حتى ولو كان الجرح مبهماً لم يُبيّن سببه؛ فكيف وهو: السبب الثاني: أنّ جرحه مفسّر، وهو مقدّم على التعديل كما هو مقرر عند العلماء. قال الحافظ في " اللسان " (2/ 466) في ترجمة روح بن صلاح: " ذكره ابن يونس في =

4 - وجاء من طريق عمرو بن ثابت عن ابن عباس رضي الله عنه؛ قال: سألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه، قال: " سأل بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت عليَّ، فتيب عليه " (137). 5 - وروي: " إذا كانت لكم إلى الله حاجة؛ فسلوه بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم " (138). ¬

_ = " تاريخ الغرباء " فقال: ... رويت عنه مناكير، وقال الدارقطني: ضعيف في الحديث، وقال ابن ماكولا: ضعفوه ... وقال ابن عدي بعد أن أخرج له حديثين: له أحاديث كثيرة في بعضها نكرة ". وانظر: " الضعيفة " (23)، و " التوسل " (ص 102 - 103). (137) منكر: آفته عمرو بن ثابت الذي سيذكر المؤلف قريباً أقوال بعض أهل العلم في تضعيفه جداً، ثم هو مخالف للثابت عن ابن عباس في تفسير الكلمات التي تلقاها آدم من ربه، فأخرج الحاكم (2/ 545) عنه: " {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}؛ قال: أي ربّ! ألم تخلقني بيدك؛ قال: بلى، قال: أي ربّ! ألم تنفخ في من روحك؛ قال: بلى. قال: أي ربّ! ألم تسكني جنتك؛ قال: بلى. قال: أي رب! ألم تسبق رحمتك غضبك؛ قال: بلى. قال: إن تبتُ وأصلحتُ أراجعي أنتَ إلى الجنة؛ قال: بلى. قال: فهو قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} ". وقال الحاكم: " صحيح الإِسناد "، ووافقه الذهبي. قلتُ: وهو في حكم المرفوع كما لا يخفى، فدلّ على نكارة حديث عمرو بن ثابت، والله أعلم. (138) باطل لا أصل له: قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في " القاعدة الجليلة " المطبوعة ضمن " مجموع الفتاوى " (1/ 319): " وهذا الحديث كذب ليس في شيءٍ من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحدٌ من أهل العلم بالحديث، مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين ... ". وانظر: (1/ 346 و24/ 335 و27/ 126) منه أيضاً.

الكلام على ما ورد في التوسل بالجاه من ناحية الرواية

6 - وفي الباب الثالث من القسم الثاني من الشفاء عن محمد بن حميد الرازي، أن مالكاً والخليفة المنصور اجتمعا، فسأل المنصور مالكاً: أيستقبل القبلة ويدعو أو يستقبل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فأجابه: " ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامه، بل استقبله واستشفع به؛ يشفعه الله فيك. قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] ". • الكلام على ما ورد في التوسل بالجاه من ناحية الرواية: وللعلماء في الكلام على أمثال هذه الآثار جهتان: جهة السند والرواية، وجهة المعنى والدراية: فأما الرواية؛ فإنه لم يخرج هذه الآثار من يلتزمون الصحة فيما يروون غير الحاكم في " المستدرك "، وقد عاب عليه الحفاظ عدم التزامه الصحة فيه، لاشتماله على الضعاف والواهيات والموضوعات، كما يعلم من كلام الذهبي في " الطبقات " و " الميزان " عند ترجمته، ومن كلام السخاوي في " الضوء اللامع " عند ترجمته لنفسه. وحديث عبد الملك بن هارون في سنده انقطاع، وفيه وفي أبيه مقال، ضعفهما الدارقطني، ووصف عبد الملك بالكذب والوضعِ، وقال ابن حبان في أبيه هارون: " لا يجوز أن يحتج به، منكر الحديث جدّاً ". وروح بن صلاح مختلف في تضعيفه وتوثيقه. وعبد الرحمن بن زيد ضعفه علي بن المديني جدّاً، وقال فيه ابن معين: " ليس بشيء ". وعمرو بن ثابت قال فيه ابن معين: " ليس بشيء، ليس بثقة ولا مأمون "، وقال النسائي: " متروك الحديث "، وقال ابن حبان: " يروي الموضوعات ". ومحمد بن حميد ضعيف موصوف بالكذب وكثرة المناكير. كل هذا من " الميزان ".

تأويل ما ورد في التوسل بالجاه

قال ابن تيمية في " رسالة التوسل والوسيلة " بعد إيراده قصة اجتماع مالك والمنصور من الشفاء: " وهذه الحكاية منقطعة؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكاً، لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور؛ فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومئة، وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومئة، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومئتين، ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه، وهو مع هذا ضعيف عند أكثر [أهل] الحديث، كذبه أبو زرعة وابن وارة ... " إلخ [ص:62]. وفي " تفسير القرطبي " عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد، أن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه هي قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]. وحكى هو والبغوي وابن كثير في المراد من الكلمات أقوالًا أخر ليس فيها ما يوافق رواية عمرو بن ثابت المتقدمة. وهذا القدر كاف في تعرف حال تلك الروايات، وأنها بين الضعيف والموضوع، ليس شيء منها صالحاً للاحتجاج. أما الأثر الحاض، فباطل ليس له سند، ولا رواه من رجال الحديث أحد؛ كما قال ابن تيمية في " رده على البكري " [ص:46] وفي " رسالة التوسل والوسيلة " [ص:124]. • تأويل ما ورد في التوسل بالجاه: وأما الدراية " فإن قول القائل: " بحق فلان ": تحتمل باؤه أن تكون للقسم، وأن تكون للسبب، والاحتمال الأول غير صحيح شرعاً لوجهين: أحدهما: أن الحلف بالمخلوق للمخلوق ممتنع شرعاً؛ فكيف به

حكم التوسل بالذات

للخالق؟ وثانيهما: أن فيه اعتقاد حق للمخلوق على الخالق، وهو اعتقاد فاسد؛ إلا فيما أحقه الله على نفسه تفضلاً منه؛ كما تقدم في النوع الخامس من هذا الفصل، وقد أصاب من قال: مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ … كَلَّا وَلَا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْ نُعِّمُوا … فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُ الوَاسِعُ والاحتمال الثاني: إما أن يقدر فيه مضاف هو لفظ المحبة، أو هو لفظ صالح العمل، وإما أن لا يقدر فيه مضاف؛ فتلك ثلاثة أوجه. • حكم التوسل بالذات: الوجه الأول: أن يبقى اللفظ على ظاهره بلا تقدير مضاف، والمعنى عليه: بسبب كون فلان من عبادك الذين لهم حق عليك بوعدك الصادق أجب دعائي. قال في " شرح الطحاوية ": " وأي مناسبة في هذا وأي ملازمة؛ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء، وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، ولم ينقل عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أحد من الأئمة، وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل التي يكتب بها الجهال والطرقية، والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والاتباع لا على الهوى والابتد اع " [ص:177]. • حكم التوسل بعمل آخر: والوجه الثاني: أن يقدر في اللفظ صالح العمل، فكأنه يقول: بحق عمل

حكم التوسل بمحبة المحبوب

فلان الصالح تقبل دعائي. وهو تأويل الشوكاني في " الدرّ النضيد "؛ مستنداً فيه إلى حديث الصخرة، كما في " صيانة الإِنسان "، وهو تأويل لا يفيد العامة إلا زيادة تضليل، إذ لا يخطر على بالها من هذا المعنى كثير ولا قليل، واستناده إلى حديث الصخرة عجيب، لا يستسيغه عقل عالم ولا ذوق أديب، فإن أصحابها إنما توسل كل منهم بطاعته وإخلاصه [فيها]، ولم يتوسل الثاني مثلاً بطاعة الأول، مع أنه قد عاين كرامته بانفراج الصخرة لدعائه ثم [إن] عمل غيرك ملك له لم يهبه لك؛ فكيف تتقرب به إلى الله ويتناسب مع رغبتك في إجابة دعوتك؟! إن توسلك بعمل غيرك غير مقبول في الطبع ولا منقول في الشرع، وإذا كان إيمان شخص لا يكون وسيلة لنجاة آخر في الأخرى؛ فعبادته لا تصلح وسيلة لدعائك في الدنيا، وكيف تستعير صلاح غيرك لقبول دعائك وقضاء حاجتك؟! والصلاح جمال نفساني غير قابل للاستعارة كالجمال الجسماني. • حكم التوسل بمحبة المحبوب: والوجه الثالث: أن يقدر في اللفظ المحبة؛ فكأنه يقول: بحق محبة فلان - من إضافة المصدر إلى المفعول-، أي: محبتي إياه، وهو وجه أبداه ابن تيمية، وقد قدمنا القول في المحبة، فمن اتصف بها على الوجه المشروع؛ كان توسله بها من باب التوسل بالإِيمان الصحيح والطاعة المشروعة، غير أن المتصف بها قليل، وأكثر المتوسلين بتلك العبارة لا يقصدون إلى هذا المعنى إلا بعد تنبيههم إليه وإعلامهم به. • معنى التوسل بالجاه عند العامة: هذا حكم التوسل بحق فلان، وقس عليه التوسل بجاهه أو بذاته، ومن وقف على مقاصد العوام في توسلهم بهذه الصيغ، وجدهم لا يريدون إلى شيء

الأقوال في التوسل بالجاه

من تلك الاحتمالات والأوجه التي قدمناها، وإنما يقصدون التوسط بفلان إلى الله في قضاء حاجتهم. وقد كتب السيد رشيد رضا على " صيانة الإِنسان " [ص:204] ما نصه: " إن المعلوم من حال هؤلاء المتوسلين بالأشخاص أنهم يتوسلون بذواتهم الممتازة بصفاتهم وأعمالهم المعروفة عنهم، لاعتقاد أن لهم تأثيراً في حصول المطلوب بالتوسل؛ إما بفعل الله تعالى لأجلهم، وإما بفعلهم أنفسهم مما يعدونه كرامة لهم، وقد سمعنا الأمرين منهم وممن يدافع عنهم، وكل من الأمرين باطل ". • الأقوال في التوسل بالجاه: والقصد إلى أحد ذينك الأمرين شرك؛ لأن التوحيد يقتضي أن لا فاعل مع الله ولا مؤثر في إرادة الله، ومن سلم من ذلك القصد؛ فهو بين الحظر والإِباحة؛ لأن العلماء اختلفوا في حكم التوسل بالجاه؛ فمن مانع ومن مجيز من غير تفصيل، وخص العز بن عبد السلام جواز التوسل بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن صح الحديث؛ قالوا: لعله يريد حديث الأعمى (139) الذي صححه الترمذي، ولكن من النقاد من أنكر تصحيحه، وقد بين صاحب " صيانة الإِنسان " ضعفه وضعف أحاديث أخر صححها الترمذي، وحديث الأعمى على ما فيه أصح ما في الباب؛ فينبغي بناء الأقوال الثلاثة عليه؛ فمن أطلق الجواز، قاس حالة عدم الدعاء من المتوسل به على وجود الدعاء منه، وألحق بقية الأنبياء والصالحين به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن أطلق المنع، وقف عند النص ولم يقس، ومن فصل؛ قاس عدم دعائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على دعائه، ولم يلحق بذاته غيرها. ¬

_ (139) تقدم تخريجه برقم (126).

تقوية منع التوسل بالجاه

• تقوية منع التوسل بالجاه: وإطلاق الجواز بالغفلة أشبه، والتفرقة إلى التحكم أقرب، والمنع المطلق أحوط، ويتقوى بوجوه: أحدهما: أن الدعاء عبادة، وهي لا تكون بالرأي والقياس، حتى إن الفقهاء لم يكتفوا بالنص العام لمشروعية أصل الدعاء، فعنوا ببيان المواضع التي يشرع فيها للمصلي الدعاء. ثانيها: عدول عمر رضي الله عنه عن التوسل بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى دعاء العباس، والصحابة متوافرون، لم ينقل عنهم إنكار؛ لا في وجهه، ولا في غيبته. ثالثها: فقد النقل عن السلف الصالح في التوسل بالذات؛ إلا آثاراً لم تصح، مع كثرة ما نقل عنهم من الأدعية المشروعة. رابعها: عدم التناسب بين إجابة الداعي وذات غيره. وبعد؛ فالمجيز للتوسل بالذات لم ينته به إلى تفضيله على بقية أقسام الدعاء المشروعة، والمانع له لم يصل به إلى دركة الشرك ما لم يقصد به معنى [ينافي] التوحيد؛ فما لهؤلاء الذين شنوا الغارة على منكر التوسل بالذات كأنه أنكر عقيدة في الدين مجمعاً عليها؟! • التوسل بالجاه شرك أو ذريعة إليه: والذي نقوله: إن هذا الضرب من التوسل إن لم يكن شركاً؛ فهو ذريعة إليه، وإن الحكم فيه ينبغي أن يفصل على وجه آخر، وهو أن يسلم هذا التوسل للعالم بالتوحيد وما ينافيه، حتى لا يخشى عليه من الشرك، وأن يحذر منه الجاهل المتعرض لمزالق الشرك، الخفيف إلى دواعي الوثنية؛ خشية أن يعتقد

التفرقة بين الجاهل والعالم في مقام الاحتياط

أن لأحد حقّاً على الله في جلب النفع ودفع الضر، وأن الصالحين مع الله تعالى كالوزراء مع الملوك؛ يحملونهم على فعل ما لم يكونوا مريدين لفعله، ومن اعتقد هذا، فقد وقع في صريح الشرك، وجعل إرادة الله حادثة تتأثر بإرادة غيره، وعلمه حادثاً يتغير لعلم المخلوق. • التفرقة بين الجاهل والعالم في مقام الاحتياط: وقد عهدت التفرقة بين العالم والجاهل في الأحكام التي يدخلها الاحتياط، فترى الفقهاء يكرهون للجاهل دون العالم الاقتصار على غسلة واحدة فيما يطلب تثليثه، خشية أن تبقى به لمعة، قال ناظمهم: وَكَرِهُوا وَاحِدَةَ فِي الْغُسْلِ … إِلَّا لِعَالِمٍ كَذَا فِي النَّقْلِ وسند هذه التفرقة ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ خَطِيباً يَقُولُ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا؛ فَقَدْ غَوَى. فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» (140). فأنكر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الخطيب الجمع بين الله ورسوله في ضمير واحد، وثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمع بينهما في عدة أحاديث؛ منها: ما أخرجه أبو داود من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ» (141)، ¬

_ (140) أخرجه مسلم (2/ 594/ 870)، وأبو داود (1/ 172)، والنسائي (6/ 950) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. (141) ضعيف: أخرجه أبو داود (1/ 172) من طريق أبي عياض عن ابن مسعود أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان إذا تشهد قال: الحمد لله نستعينه، و ... " فذكره وزاد: " ولا يضر الله شيئاً ". وإسناده ضعيف لجهالة أبي عياض- وهو المدني- كما في " الميزان " (4/ 560)، و " التقريب " (2/ 458)، وقال المنذري في " مختصر السنن " (3/ 55): " في إسناده عمران بن =

غلو العامة في التوسل بالجاه

وهو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يأتي أمراً نهى عنه غيره إلا أن يكون من خصائصه، ولكنه نهى الخطيب خشية عليه أو على بعض المستمعين أن يتوهم التسوية بين الله ورسوله، أما هو - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه أعرف الناس بربه وبنفسه وبحال من خاطبهم. • غلو العامة في التوسل بالجاه: وقد غلب الجهل بالدين، وضعفت الثقة برب العالمين، واعتمد الناس من سمَّوْهم أولياء صالحين، وعولوا على التوسل بهم في قضاء مطالبهم، وغالوا في اعتباره، وتشددوا في التمسك به، وبادروا إلى الإِنكار على من أراد بيان المشروع منه لهم. ولم تزل مسألة الوسيلة حديث المجالس منذ أزمنة طويلة، فضبطناها ضبطاً يقربها من متناول العامة، عسى أن يخفضوا من غلوائهم، ويرجعوا إلى السنن المشروع في توسلهم، ويهتدوا إلى الحق في دعائهم، فيعبدوا ربهم بما شرع لهم، ويتبعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما سن لهم، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. • • • • • ¬

_ = داور القطان، وفيه مقال ". قلت: لكن لا ينزل حديثه عن مرتبة الحسن، كما سبق التنبيه إليه في الحديث المخرّج برقم (106)؛ فالعلّة ما ذكرنا، والله أعلم.

الشفاعة

24 - الشفاعة • معنى الشفاعة: الشفع: الزوج؛ خلاف الوتر؛ تقول: كان الشيء وتراً فشفعته: إذا ضممت إليه آخر، وشفعت الركعة: جعلتها اثنتين، والشفعة- كغرفة-: ضم ما باعه شريك في أرض أو دار إلى ملكك، وفلان يعاديني وله شافع، أي: معين يعينه على عداوتي، والشفاعة: المطالبة بوسيلة أو ذمام، والفعل في الجميع: شفع؛ كمنع، تقول: شفعت في الأمر شفعاً وشفاعة، وشفعت له إلى فلان، وأنا شافعه وشفيعه، ونحن شفعاؤه، وتشفعت له وفيه إلى فلان فشفعني فيه تشفيعاً: إذا قبل شفاعتي، واستشفعني واستشفع بي إلى اخر: طلب شفاعتي إليه؛ قال الشاعر: مَضَى زَمَنٌ وَالنَّاسُ يَسْتَشْفِعُونَ بِي … فَهَلْ لِي إِلَى لَيْلَى الْغَدَاةَ شَفِيعُ هذا خلاصة ما في " الصحاح "، و " الأساس "، و " القاموس "، و " المصباح ". وقال الراغب: " الشفع: ضم الشيء إلى مثله ... والشفاعة: الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى، ومنه الشفاعة في القيمة ".

أحوال الشفاعة

فالشفاعة تحمل معنى الضم والإِعانة للمشفوع له، ومعنى الجاه والحرمة للشفيع عند المشفوع إليه؛ فسعيك لآخر في حاجة له عند عظيم شفاعة، وأنت شفيع، وذلك الآخر مشفوع له، وذلك العظيم مشفوع إليه، وقضاء تلك الحاجه تشفيع. • أحوال الشفاعة: والشفاعة لا تعدو ثلاثة أحوال: إما أن تكون من المخلوق إلى مثله، أو من الخالق إلى المخلوق، أو من المخلوق إلى الخالق. • شفاعة المخلوق إلى مثله: فأما شفاعة المخلوق إلى مثله، فهي مظهر من مظاهر التعاون، إذا كان المشفوع إليه يملك التصرف فيما طلب منه على مقتضى الأسباب العادية، والتعاون إذا كان على الخير مكتوب بالكتاب والسنة، والشفاعة منه ثابتة بهما: ففي سورة النساء: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85]. وفي " الصحيحين " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة؛ قال: «اشْفَعُوا؛ فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ» (142). فسر الراغب في " مفرداته " الآية بقوله: " أي: من انضم إلى غيره وعاونه وصار شفعاً له أو شفيعاً في فعل الخير والشر، فعاونه، وقوَّاه، وشاركه في نفعه وضره ". ¬

_ (142) أخرجه البخاري (10/ 451/ 6028)؛ ومسلم (4/ 2026/ 2627).

شفاعة الخالق إلى المخلوق

كذا في الأصل (*)!! ولعل الواو في قوله: " وشاركه ": زائدة سهواً أو تحريفاً. ولم يضبط الحسنة منها والسيئة، لأنه بصدد بيان أصل المعنى اللغوي، وضابط الحسنة ما كانت في الخير والصلاح؛ كالشفاعة عند الحكام ليقضوا حاج الناس، أو عند الصديق المستاء على صديقه ليستل منه استياءه، وضابط السيئة ما كانت في الشر والفساد، كالشفاعة عند الحكام لتعطيل الحدود الشرعية، وعند الحانوي ليسقي من كان على مثل حال القائل: فَكَيْفَ لَنَا بِالشُّرْبِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَنَا … دَرَاهِمُ عِنْدَ الْحَانَوِيِّ وَلَا نَقْدُ ومعنى الحديث: ترغيبه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه في إعانة الناس عنده، سواء استطاع قضاء حاجهم أم لم يجد إليها سبيلاً. قال الحافظ في " الفتح ": " وفي الحديث الحض على الخير بالفعل وبالتسبب إليه بكل وجه، والشفاعة إلى الكبير في كشف كربة ومعونة ضعيف " (10/ 270). • شفاعة الخالق إلى المخلوق: وأما شفاعة الخالق إلى المخلوق؛ فممتنعة، محظور طلبها، لما في " سنن أبي داود " وغيرها- واللفظ له- عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، أن أعرابياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: جُهِدَتِ الْأَنْفُسُ، وَضَاعُ الْعِيَالُ، وَنُهِكَتِ الْأَمْوَالُ، وَهَلَكَتِ الْأَنْعَامُ؛ فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا، فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ وَبِكَ عَلَى اللَّهِ. فَقَالَ النبي - اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا تَقُولُ؟» وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا زَالَ ¬

_ (*) وما المانع من وجوده في الأصل فلا سهو ولا تحريف فالمعنى مستقيم. [ناشر ط 3].

يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَيْحَكَ! إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ ... " الحديث (143). وإنما امتنع الاستشفاع بالله، لأن الشفيع سائل، والله مسؤول لا سائل، ثم الشفيع في أصل اللغة ليس على المشفوع إليه أن يطيعه بقبول شفاعته، ففي حديث بريرة رضي الله عنها، أنها لما عتقت، وخيرها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فراق زوجها مغيث؛ اختارت فراقه، فجعل مغيث يبكي من حبه إياها، حتى رق له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لِبَرِيرَة: «لَوْ رَاجَعْتِهِ؟». فَقَالَتْ: تَأْمُرُنِي؟ فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ». قَالَتْ: فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ (144). أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، فلو قال لها - صلى الله عليه وسلم -: آمرك؛ لراجعت زوجها مغيثاً، ولمّا كانت الشفاعة لا تحمل معنى الأمر، بل تترك الاختيار للمشفوع إليه؛ أصرت على اختيارها الفراق؛ فلا جرم كانت الشفاعة إلى أحد مما يجلّ عنه مقام الألوهية. ¬

_ (143) ضعيف: أخرجه أبو داود (2/ 276) من طريق محمد بن إسحاق يحدّث عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جدّه قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعرابيّ ... فذكره، وزاد: " ويحك؛ أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماواته لهكذا- وقال: بأصبعه- مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب ". وسنده ضعيف: ابن إسحاق مدلّس وقد عنعنه، فلا يقبل حديثه إلّا إذا صرح بالتحديث، وجبير بن محمد أورده ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (2/ 513)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلًا سوى رواية يعقوب بن عتبة وحصين بن عبد الرحمن عنه! وفي " التقريب ": " مقبول " يعني عند المتابعة،! وإلّا؛ فليّن الحديث كما نص عليه في المقدّمة، والله أعلم. انظر: " مختصر السنن " (7/ 97 - 101) للمنذري، و " ظلال الجنة " (1/ 252 - 253/ 575 و576) للألباني، و " تفسير ابن كثير " (1/ 550). (144) أخرجه البخاري (9/ 408/ 5283) عن ابن عباس.

شفاعة المخلوق إلى الخالق في الدنيا

• شفاعة المخلوق إلى الخالق في الدنيا: وأما شفاعة المخلوق إلى الخالق؛ فإما في الدنيا، وإما في الأخرى: فالشفاعة إلى الله في الدنيا تكون بالدعاء للمشفوع له؛ كما تقدم في حديث الأعمى، أنه سأل الدعاء من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لما دعا لنفسه، قال: اللهم! فشفعه فيَّ. فطلبُها من الحي الحاضر جائز؛ كما تقدم في القسم الثاني من أقسام الدعاء والنوع الرابع من أنواع التوسل. وسواء دعا الشفيع للمشفوع له بأمر دنيوي أم بنفع أخروي، كان المشفوع له حيّاً أم ميتاً؛ لما في مسلم؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ» (145)، ولما في " الأدب المفرد " للبخاري من دعائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنس رضي الله عنه بقوله: «اللَّهُمَّ! أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَأَطِلْ حَيَاتَهُ، وَاغْفِرْ لَهُ». قال أنس: فدعا لي بثلاث، فدفنت مئة وثلاثة، وإن ثمرتي لتطعم في السنة مرتين، وطالت حياتي حتى استحييت من الناس، وأرجو المغفرة (146). ¬

_ (145) أخرجه مسلم (2/ 655/ 948) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. (146) صحيح: أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (653) عن أنس؛ قال: كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يدخل علينا - أهل البيت-؛ فدخل يوماً فدعا لنا، فقالت أمّ سليم: خويدمك ألا تدعو له؟ قال: " اللهم ... " فذكره. وسنده يحتمل التحسين: سنان- وهو ابن سعد الكندي المصري- " صدوق له أفراد "، وسعيد بن زيد- أخو حماد- " صدوقٌ له أوهام ". لكن للحديث طرق أخرى بنحوه عن أنس في " الصحيحين " وغيرهما، يتقوى بها ويثبت إن شاء الله تعالى.

الشفاعة الأخروية

• الشفاعة الأخروية: والشفاعة إلى الله في الأخرى تكون بدعائه وسؤاله التجاوز عن سيئات المشفوع له، أو التجاوز به إلى درجة أعلى. وهي ثابتة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأحاديث كثيرة: منها حديثا (147) البخاري ومسلم السابقان في فصل الوسيلة. ومنها ما في " الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ» (148). ومنها ما في " البخاري " عنه أيضاً؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ» (149). ومنها عن أنس؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» (150). ¬

_ (147) تقدم تخريجهما برقم (117 و119). (148) أخرجه البخاري (11/ 96/ 6304)، ومسلم (1/ 188 - 190/ 198) وقال: " يوم القيامة " بدل " في الآخرة "، وهي عند البخاري أيضاً (13/ 447/ 7474). (149) أخرجه البخاري (11/ 418/ 6570) عن أبي هريرة رضي الله عنه. (150) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 213 - مصورة المكتب)، وأبو داود (2/ 278 - 279)، والترمذي (7/ 127/ 2552)، وابن حبان (14/ 387/ 6468)، والحاكم (1/ 69)، والطبراني (1/ 258/ 749) عن أنس به، وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح غريب "، وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين "، وصححه ابن خزيمة وقال البيهقي: " إنه إسناد صحيح "؛ كما في " مقاصد السخاوي " (597). وله شواهد عن جماعة من الصحابة، منهم جابر عند الترمذى وأبن ماجه، وابن عباس عند الطبراني، وابن عمر وكعب بن عجرة عند الخطيب وغيره.

الشفعاء في الآخرة

أخرجه الترمذي وقال: " حسن صحيح غريب "، والبيهقي وقال: " إسناده صحيح "، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. قاله في " كشف الخفاء " (2/ 10). • الشفعاء في الآخرة: وهذه الشفاعة ثابتة أيضاً لبقية الأنبياء وللعلماء والشهداء وسائر المؤمنين وللقران وللجنة. 1 - روى ابن ماجه عن عثمان رضي الله عنه مرفوعاً: «يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ» (151). 2 - وأخرج البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال:} إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ إِلَيْهِ فِي دَرَجَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي الْعَمَلِ، لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ»، ثُمَّ قَرَأَ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21] الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَا نَقَصْنَا الْآبَاءَ بِمَا أَعْطَيْنَا الْبَنِينَ} (152). ¬

_ (151) موضوع: أخرجه ابن ماجه (4313) من طريق عنبسة بن عبد الرحمن عن علاق بن أبي مسلم عن أبان بن عثمان عن عثمان بن عفان مرفوعاً. وهذا سند ضعيف جداً بل موضوع، فيه عنبسة " متروك، رماه أبو حاتم بالوضع "، كما في " التقريب " و " الميزان " و " ديوان الضعفاء " وغيرها، وعلاق بن أبي مسلم، قال الذهبي: " وهاه الأزدي وما لينه القدماء "، وقال الحافظ: " مجهول ". وانظر: " الضعيفة " (1978). (152) ضعيف مرفوعاً: أخرجه البزار في " مسنده " (3/ 70 - 71/ 2260 - كشف الأستار) من طريق قيس بن الربيع عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جُبير عن أبن عباس مرفوعاً، وقال: " لا نعلم أسنده إلّا الحسن عن قيس، وقد رواه الثوري عن عمرو بن مرة موقوفاً ". =

قال في " مجمع الزوائد ": " وفيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري، وفيه ضعف " (7/ 114). وفي " الدر المنثور "؛ أن ابن مردويه أخرجه أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً، وأن سعيد بن منصور وهناداً وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في " سننه " أخرجوه عنه موقوفاً عليه (6/ 119). 3 - وروى مسلم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعاً لأَصْحَابِهِ ... » الحديث (153). 4 - وعن جابر مرفوعاً: «الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ» (154). أخرجه ابن حبان والبيهقي. ¬

_ = قلتُ: أخرجه من حديث سفيان الثوري به موقوفاً ابن جرير الطبري في " تفسيره " (27/ 24 - 25)، وابن أبي حاتم- كما في " تفسير ابن كثير " (6/ 432) -، والحاكم (2/ 468)، وكذا رواه ابن جرير من حديث شعبة عن عمرو بن مرة به، والوقف هو الأصوب الأرجح لاتفاق الثوري وشعبة عليه، ورفعه منكر لتفرد قيس بن الربيع- وهو سيئ الحفظ كما تقدم في " التخريج " (رقم 77) - به ومخالفته لهما، والله أعلم. نعم، أثر ابن عباس هذا وإن كان موقوفاً فله الحكم المرفوع كما لا يخفى، والله الموفق. (153) رواه مسلم (1/ 553/ 804) عن أبي أمامة الباهلي مرفوعاً وتمامه: «اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا. اقْرَؤُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ». (154) صحيح: أخرجه البزار في " مسنده " (1/ 78/ 122 - كشف الأستار)، وابن حبان في " صحيحه " (1/ 331/ 124) كلاهما من طريق أبي كُريب محمد بن العلاء بن كُريب، حدثنا عبد الله بن الأجلح عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعاً بالزيادة.

ورواه أيضاً الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود بزيادة: «وَمَاحِلٌ مُصَدِّقٌ، مَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ، قادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ، سَاقَهُ إِلَى النَّارِ». و (الماحل): الخصم؛ قال في " الصحاح ": " والمحل: المكر والكيد، يقال: محل به: إذا سعى به إلى السلطان؛ فهو ماحل ". 5 - وروى الحسن بن سفيان عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَكْثِرُوا مِنْ مَسْأَلَةِ اللَّهِ الْجَنَّةَ, وَاسْتَعِيذُوا بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنَّهُمَا شَافِعَتَانِ مُشَفَّعَتَانِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَكْثَرَ مَسْأَلَةَ اللَّهِ الْجَنَّةَ؛ قَالَتِ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ! عَبْدُكَ هَذَا الَّذِي سَأَلَنِيكَ، فَأَسْكِنْهُ إِيَّايَ، وَتَقُولُ النَّارُ: يَا رَبِّ! عَبْدُكَ هَذَا الَّذِي اسْتَعَاذَ بِكَ مِنِّي، فَأَعِذْهُ» (155). نقله ابن القيم في " حادي الأرواح " (1/ 148). ¬

_ = وقال البزار: " لا نعلم أحداً يرويه عن جابر إلَّا من هذا الوجه ". وقال الهيثمي في " المجمع " (1/ 171): " ورجال حديث جابر المرفوع ثقات ". وقال المنذري في " الترغيب " (1/ 60): " وإسناد المرفوع جيّد ". وله شاهد عن ابن مسعود مرفوعاً وموقوفاً: أمّا المرفوع؛ فأخرجه الطبراني (10/ 244/ 10450)، وأبو نعيم (4/ 108)، وفيه الربع بن بدر وهو متروك كما قال الهيثمي (7/ 164)، وأمّا الموقوف فأخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " (3/ 372 - 373/ رقم: 6010)، والبزار (1/ 77/ رقم: 121) من طريقين عنه، يقوي أحدهما الآخر. وصدره له شاهد عن معقل بن يسار أخرجه الحاكم (1/ 568)، وقال: " صحيح الإِسناد "! وتعقبه الذهبي بقوله: " عبيد الله (ابن أبي حميد)، قال أحمد: " تركوا حديثه "، وآخر عن الحسن مرسلاً أخرجه عبد الرزاق (رقم: 6011) وفيه رجل لم يسم، والله تعالى أعلم. وانظر: " الصحيحة " (2019)، و " صحيح [الجامع الصغير " (4319)، و " الترغيب " (39 و 40)]. (155) ضعيف جداً: رواه الحسن بن سفيان- كما في " حادي الأرواح " [ص:87] لابن القيم-؛ قال: حدثنا المقدَّمي حدثنا عمر بن علي عن يحى بن عُبيد (في المطبوع: عَبد!) الله عن أبيه عن أبي هريرة =

أنواع الشفاعة الأخروية

• أنواع الشفاعة الأخروية: وإن من الشفاعات الأخروية ما يختص بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنها ما لا يختص ففي " الفتح " عن النووي وعياض: " الشفاعة خمس: في الإِراحة من هول الموقف، وفي إدخال قومٍ الجنة بغير حساب، وفي إدخال قوم حوسبوا فاستحقوا العذاب أن لا يعذبوا، وفي إخراج من أدخل النار من العصاة، وفي رفع الدرجات " (11/ 359)، ثم ذكر أدلة هذه الأنواع، وزاد عليها. وفي " شرح الأذكار النووية " لابن علان أن بعض المتأخرين بلغ بها إلى أَحدٍ وعشرين نوعاً (2/ 125). • شروط الشفاعة الأخروية: ولا يتقدم الشفيع يوم القيامة للشفاعة إلا أن يستجمع أربعة شروط: أحدها: أن يكون من المرتضين عند الله بإيمانه الصحيح وعمله الصالح. ثانيها: أن يكون المشفوع فيه من المؤمنين الموحدين الصادقين. ثالثها: أن يأذن الله للشفيع. ¬

_ = مرفوعاً. وهذا سند ضعيف جداً: يحى بن عُبيد الله- هو ابن عبد الله بن موهب التميمي المدني- " متروك "، وأبو، قال فيه أحمد: أحاديثه مناكير، لا يُعرف لا هو ولا أبوه، روى عنه ابنه وابن أخيه عبيد الله بن عبد الرحمن، وذكره ابن حبان في " الثقات " كما في " الميزان "، وقال في " التقريب ": مقبول، يعني عند المتابعة، وإلا؛ فليّن الحديث كما نصّ عليه في المقدمة، وعمر بن علي- هو ابن عطاء بن مقدّم- " ثقة لكنه يدلّس " وقد عنعنه!

ما جاء في الشفاعة

رابعها: أن يحد له من يشفع فيهم. • ما جاء في الشفاعة: ففي حديث الشفاعة الطويل (156) عند البخاري وغيره عن أنس رضي الله [عنه]- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، ثُمَّ أُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ؛ ثُمَّ أَعُودُ، فَأَقَعُ سَاجِدًا مِثْلَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ". فهذا دليل الشرط الرابع، ودلت الآيات على بقية الشروط. 1 - قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. قال ابن كثير: " وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل أن لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه [له] في الشفاعة ". 2 - وقال أيضاً: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3]. وهذا رد على النضر بن الحارث، فإنه كان يقول: إذا كان يوم القيامة؛ تشفع لي اللات والعزى. قاله البغوي. وقال الراغب في تفسير الآية من " مفرداته ": " أي: يدبر الأمر وحده، لا ثاني له في فصل الأمر، إلا أن يأذن للمدبرات والمقسمات من الملائكة، فيفعلون ما يفعلونه بعد إذنه ". 3 - وقال تعالى: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87]. ¬

_ (156) رواه البخاري (11/ 417/ رقم: 6565)، ومسلم (1/ 180 - 184/ رقم: 193) عن أنس رضي الله عنه مطولاً.

قال ابن كثير: " عن ابن عباس: العهد: شهادة أن لا إله إلا الله، ويبرأ إلى الله من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله عز وجل ". 4 - وقال: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]. قال البغوي عن ابن عباس: " يعني برضى قوله: قول: لا إله إلا الله ". وهذا يدل على أنه لا يشفع غير المؤمن. 5 - وقال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28]. قال البغوي عن مجاهد: " أي: لمن رضي عنه ". 6 - وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 43 - 44]. قال البغوي عن مجاهد: " لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ". 7 - وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]. قال البغوي عن ابن عباس: " يريد: لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه ". 8 - وقال: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]. قال ابن كثير: " الصواب: الحق، ومن الحق لا إله إلا الله، كما قاله أبو صالح وعكرمهّ ".

حكمة الشفاعة المشروعة

وفي " تفسير جزء عم " لمحمد عبده: " والذي تفيده [هذه] الآية الكريمة أنهم مع قربهم من الله لا يستطيع أحد منهم أن يشفع لأحد أو يستمنح منحة " إلا إذا أذن الله، ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب، وإنما يكون الكلام ضرباً من التكريم لن يأذن الله له به، يختص به من يشاء، ولا أثر له فيما أراد الله البتة ". • حكمة الشفاعة المشروعة: وبكلام ابن كثير على آية البقرة، وكلام محمد عبده على آية النبأ؛ تعلم سر هاته الشفاعة المقيدة بتلك القيود، وأن حكمتها إظهار جلال الله وعظمته، وإعلان كرامة الشفيع ووجاهته، وإيئاس المسرفين على أنفسهم من كل مخلوق إلا من رحمة الله، وعلى هذا عرفها القرطبي في " تفسيره "؛ إذ قال: " الشفاعة: ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع، وإيصال منفعته للمشفوع " (1/ 378). • سؤال الشفاعة الأخروية: وطلب الشفاعة الأخروية على أربعة أنحاء: أحدها: طلبها من الله؛ كأن نقول: اللهم! شفع فينا خاتم النبيين وإمام المرسلين. فهذا طلب صحيح ودعاء مشروع؛ لأن الشفاعة لله جميعاً. ثانيها: طلبها في هاته الحياة ممن علم أنه من أهلها وهو حي حاضر؛ كأن يقول الصحابي: يا رسول الله! أسألك شفاعتك غداً. وهذا أيضاً صحيح؛ لحديث أنس رضي الله عنه؛ أنه سألها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فَقَالَ: «أَنَا فَاعِلٌ» (157). رواه الترمذي وحسنه، ولقول غلام للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنِي ¬

_ (157) حسن: أخرجه أحمد (3/ 178 - مصورة المكتب)، والترمذي (7/ 119 - 120/ رقم: 2550) =

مِمَّنْ تَشْفَعُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ لَهُ: «فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَشْفَعُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (158). رواه الطبراني بأسانيد بعضها رجاله رجال الصحيح وبعضها رجاله ثقات، قاله في " مجمع الزوائد ". ولا يجوز هذا الطلب من غير الرسول، كما لا يجوز لغير الرسول الوعد بها؛ لأن ذلك يتوقف على العلم بالإِذن بها للمطلوب، وكونه هو والطالب من أهل الجنة، ولا يجزم بشيء من ذلك إلا بوحي، كما تقدم في فصل الولاية. ثالثها: طلبها من الشفيع يوم القيامة، وهو ثابت بحديث الشفاعة المروي ¬

_ = كلاهما من طريق حرب بن ميمون الأنصاري أبي الخطاب أخبرنا النضر بن أنس بن مالك عن أبيه؛ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: «أَنَا فَاعِلٌ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: «اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ». قُلْتُ: فَإِذَا لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟. قَالَ: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ». قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ؟ قَالَ: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْحَوْضِ، فَإِنِّي، لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ مَوَاطِنَ». وقال الترمذي: " حديث حسن غريب لا نعرفه إلّا من هذا الوجه ". وهو كما قال، فإن رجاله ثقات غير حرب الأنصاري فـ " صدوق " كما في " التقريب "، والحديث سكت عليه الحافظ في " الفتح " (11/ 466)، وأورده شيخنا في " صحيح سنن الترمدي " (1981)، والله أعلم. (158) ضعيف: أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (20/ 365/ 851) من طريق جرير بن حازم سمعت، عبد الملك بن عُمير يحدّث عن مصعب الأسلمي قَالَ: انْطَلَقَ غُلَامٌ مِنَّا فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ سُؤَالًا. قَالَ: «وَمَا هُوَ؟». قَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنِي مِمَّنْ تَشْفَعُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: «مَنْ أَمَرَكَ هَذَا أو مَنْ علّمك هَذَا أَوْ مَنْ دَلَّكَ عَلَى هَذَا؟». قَالَ: مَا أَمَرَنِي بِهَذَا أَحَدٌ إِلَّا نَفْسِي. قَالَ: «فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَشْفَعُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قال الهيثمي في " المجمع " (10/ 369): " رجاله رجال الصحيح ". قلتُ: لكن عبد الملك " كان يدلس " كما قال الحافظ في " الإِصابة " (3/ 402)، وفي " التقريب " (1/ 521): " ثقه فقيه، تغيّر حفظه، ربما دلّس "، وقد عنعنه!

رجاء الشفاعة

في " الصحيحين " وغيرهماعن أنس وغيره؛ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: لَوْ اسْتَشْفَعْنا إلَى رَبِّنا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ ... » الحديث (159). رابعها: طلبها اليوم ممن انتقل إلى عالم الغيب: فإن كان المطلوب نبي الرحمة؛ فالطلب بدعة، لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم؛ كما نقله في " صيانة الإِنسان " عن " الصارم المنكي " لابن عبد الهادي [ص:378]. وإن كان المطلوب من صلحاء الأمة؛ ففيه من المفاسد اعتقاد علم المدعو بالغيب، والجزم له بالجنة، وبإذن الله له في الشفاعة، وإدخال الطالب في المأذون بالشفاعة فيهم، ومن التزم هذه اللوازم؛ فقد أشرك أو كان منه قاب قوسين. • رجاء الشفاعة: أيها الراجي لنيل الشفاعة- حقّق اللهُ رجاءك-! لا تجعل الرجاء وحده طريقتك إليها، ولا عمدتك لاستحقاقها، فتكون من المغترين، ولحال المشركين من المشبهين، ولكن اعمد إلى قلبك؛ فاعمره بالإِيمان الخالص من نزعات الوثنية ونزغات إبليس عدو أبويك آدم وحواء، حتى يكون لجنانك السلطان على أركانك، وأحب نبيك محبة اقتداء واستنان، ولا تنس الصلاة عليه وسؤال الوسيلة له بعد حكاية الأذان؛ فإذا فعلت ذلك؛ كان رجاؤك للشفاعة مبنيّاً على حديث: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي» (160)، وحديثي (161) سؤال الوسيلة بعد ¬

_ (159) تقدم قريباً برقم (156). (160) جزء من حديث تقدم تخريجه برقم (149). (161) تقدم تخريجهما برقم (117) و (119).

ما جاء في نفي الشفاعة

الأذان، ومن لم يفعل ذلك، وقع تحت الإِنذار بسوء مغبة الاغترار بسراب الآمال مع التهاون بصالح الأعمال. • ما جاء في نفي الشفاعة: 1 - قال تعالى مخاطباً بني إسرائيل: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48]. قال ابن كثير: " لما ذكرهم الله بنعمه أولاً؛ عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة ". 2 - وخاطب المشركين بقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94]. قال البغوي: " وذلك أن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام؛ لأنهم شركاء الله، وشفعاؤهم عنده ". 3 - وحكى عنهم بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]. قال البغوي: " ومعنى الآية: أتخبرون الله أن له شريكاً وعنده شفيعاً بغير إذنه ولا يعلم الله لنفسه شريكاً ". 4 - وحكى عن صاحب يس قوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 23].

قال البغوي: " أي: لا شفاعة لها أصلاً فتغني ". 5 - وذكر غاية المشركين من عبادتهم الأصنام بقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. قال ابن كثير عن قتادة والسدي ومالك عن شيخه زيد بن أسلم: " أي: ليشفعوا لنا ويقربونا عنده منزلة ". 6 - وحكم على أهل سقر بقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]. قال البغوي عن ابن مسعود: " يشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين، فلا يبقى في النار إلا أربعة، (ثم تلا: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ... } إلى قوله: {يَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 43 - 46،] ". وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: " الشفاعة نافعة لكل أحد دون هؤلاء الذين تسمعون ". 7 - وفي " صحيح مسلم " وغيره عن عائشة رضي الله عنها؛ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}؛ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: «يَا فَاطِمَةُ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ! يَا صَفِيَّةُ ابْنَةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ» (162). 8 - وفي " الموطأ " و " مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث قال في خاتمته: «وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ؛ فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ! أَلَا هَلُمَّ! فَيُقَالُ: ¬

_ (162) أخرجه مسلم (1/ 192/ 205)، والنسائي (6/ 250) عن عائشة.

محمل ما جاء في نفي الشفاعة

إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ!: فَسُحْقًا، فَسُحْقًا، فَسُحْقًا» (163). • محمل ما جاء في نفي الشفاعة: فمن تعلق بالمخلوق وتقرب إليه ليشفع له عند الله، وظن تعلقه ذلك تعظيماً لذلك المخلوق يرضاه الله؛ فقد آذنه الله ورسوله بخطأ ظنه وفساد تقربه، وأن في ذلك التعلق تنقيصاً لله يتنزه عنه. ذلك أن الجاهلين بالله من أهل الكتاب والمشركين يقيسون أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، وأحكام الله على أحكام الملوك؛ فإذا كان المجرم في الدنيا قد ينجو من سطوة القانون وقضاء الحاكم عليه بشفاعة وجيه عنده؛ كان المجرم في الآخرة قد ينجو من عذاب الله بشفاعة نبي أو ملك أو ولي. وهو قياس فاسد نقلاً وعقلاً: أما النقل، فما تقدم من نفي الشفاعة لمن رجوها من غير الله وبلا سببها المشروع. وأما العقل؛ فإن كل مؤمن بالله يعتقد أنه محيط بكل شيء علماً، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يفعل ما يفعل حكمة ورحمة لارغبة ولا رهبة، وملوك الدنيا يجهلون كثيراً من أحوال قصورهم؛ فضلًا عما نأى عنهم، ويريدون الشيء ثم يرجعون عنه، ويرغبون في إرضاء أعيان دولتهم ويرهبون إسخاطهم. والشفاعة إلى الله دعاء يفعل الله عقبه ما سبق في علمه وإرادته أن سيفعله، وقبولها من الشفيع تكرمة له ورحمة بالمشفوع، وأما الشفاعة إلى ملوك ¬

_ (163) أخرجه مالك في " الموطأ " (1/ 62 - 65/ 57 - شرح الزرقاني)، ومسلم في " صحيحه " (1/ 218/ 249) عن أبي هريرة.

الشفاعة الشركية

الدنيا؛ فهي إعلام لهم بما لم يكونوا يعلمون من براءة المتهم أو علاقته بالشفيع، وتغيير لإِرادتهم العقوبة بإرادة العفو، والباعث لهم على التشفيع الرغبة في موافقة الشفيع أو الرهبة من مخالفته، وكل ذلك ينادي بقصور علمهم وضعف إرادتهم وعجزهم عن الاستقلال بتدبير مملكتهم، وهذه سيما الحدوث الشاهدة بانفراد الله بالكمال المطلق. • الشفاعة الشركية: والشفاعة إلى الملوك هي عند التأمل الصائب مشاركة لهم من الشفعاء في الملك، فمن قاس الشفاعة إلى الله عليها؛ فقد أشرك بالله، ووصفه بما يتنزه عنه، كما نطقت بذلك آية: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]، ودلت عليه الآية الجامعة لنفي أقسام الشرك؛ إذ قال إثرها. {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]. وهذا وجه الجمع بين ما جاء في إثبات الشفاعة ونفيها، وأن المثبت منها هي الشرعية، والمنفي هي الشركية. وبه تعلم مراد الدعاة المرشدين في تحذير العامة من الاتكال على الشفاعة والتقرب إلى من تراهم من أهلها، فلم ينكروا عليك أصل اعتقاد الشفاعة، وإنما حذروك من الاعتقاد الفاسد الذي صحبها. • شرك القبوريين والطرقيين: قال في " صيانة الإِنسان " نقلاً عن الشوكاني: " إن الرزية كل الرزية والبلية كل البلية أمر غير ما ذكرنا من التوسل المجرد والتشفع بمن له الشفاعة، وذلك ما صار يعتقده كثير من العوام وبعض الخواص في أهل القبور وفي المعروفين

الطريق إلى الشفاعة

بالصلاح من الأحياء من أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله، ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عز وجل، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم، فصاروا يدعونهم تارة مع الله، وتارة استقلالاً، ويصرخون بأسمائهم، ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعاً زائداً على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء، وهذا إذا لم يكن شركاً، فلا ندري ما هو الشرك؟! وإذا لم يكن كفراً، فليس في الدنيا كفر " [ص:155] • الطريق إلى الشفاعة: أيها المسلم! اتبع القرآن فيما أرشدك إليه؛ يشفع لك عند الله، ولا تحد عن سنة رسول الله؛ تشملك إن شاء الله شفاعته، ولا تقنط من رحمة الله وترجو رحمة سواه، فإنه أرحم الراحمين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57 - 58]. • • • • •

الزيارة والمزارات

25 - الزيارة والمزارات • المعنى الأصلي: الزور- بفتح فسكون-: أعلى الصدر، تقول: زور الطائر تزويراً: إذا أكل حتى ارتفع زوره، وزيارتك الشيء: قصدك إياه، كأنك قصدت زوره أو تلقيته بزورك، تقول: زار الرجل غيره زوراً- كقال قولاً- وزيارة بالكسر ومزاراً بالفتح؛ فهو زائر، وهم زوار وزائرون، وهي زائرة، وهن الزائرات، وزور بضم فتشديد، وأزاره: حمله على الزيارة، واستزاره سأله إياها، وزور زائره تزويراً؛ أكرمه واعتد بزيارته، والتزوير كرامة الزائر، تقول: استضأت بهم فنوروني، وزرتهم فزوروني، والمزار كما يكون مصدراً بمعنى الزيارة يكون اسماً لمكانها، ويجمع على مزارات. • المعنى العرفي: قال في " المصباح ": " والزيارة في العرف قصد المزور إكراماً له واستئناساً به. وفي " شرح الشفاء " للخفاجي: " الزيارة تختص بمجيء بعض الأحياء لبعض مودة ومحبة، هذا أصل معناها لغة، واستعمالها في القبور للأموات لإِعطائهم حكم الأحياء، وصار حقيقة عرفية لشيوعه فيها " (3/ 563).

منزلة الزائر من المزور

• منزلة الزائر من المزور: والمعروف عندنا أن الزائر دون المزور في الفضل، فيقولون: زار المريد شيخه، ولا يقولون: زار الشيخ مريده، واستعمال العرب لا يفيد ذلك، فقد يكون الزائر أفضل أو أوضع أو مساوياً. قال عياض في " الشفاء ": " قيل: إن الزائر أفضل من المزور، وهذا ليس بشيء، إذ ليس كل زائر بهذه الصفة، وليس عموماً، وقد ورد في حديث أهل الجنة زيارتهم لربهم ". • المعنى الاسمي للزيارة: وتطلق الزيارة اليوم بالمعنى الاسمي كما تستعمل في المعنى المصدري، وكثيراً ما تستعمل العرب المصادر أسماء، فتطلق الزيارة عندنا على ما يعطيه الزائر للمزور من عين أو حب أو حيوان أو خشب أو غير ذلك، وهذا عكس التزوير الذي يكرم به المزور الزائر. • دواعي اتخاذ المزارات: والمزارات عندنا هي مواضع قررت العادة زيارتها للتبرك بمن جلس فيها من الصلحاء، أو دفن عندها، أو سميت به، وإن لم يرها، أو أشار معتقد فيه بظهور روحاني بها. • حصر مباحث الموضوع: والكلام على الزيارة وما يتصل بها في سبعة مباحث هي: زيارة الأحياء، وزيارة الأموات، وحياة الأرواح، وعطايا الزوار، واتخاذ المزارات، والسفر إليها، والغرض من الزيارة.

زيارة الأحياء

• زيارة الأحياء: فأما زيارة الأحياء؛ فقد أتى بها النبي [- صلى الله عليه وسلم -] فعلاً ورغب فيها قولاً إذا كانت لغرض صحيح. 1 - ففي " مسلم " عن أنس؛ أن أبا بكر قال لعمر رضي الله عنهما: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها، وأنها بكت عند رؤيتهما من فقد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأبكتهما (164). 2 - وفيه وفي " الأدب المفرد " عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ «أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ؛ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ. قَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُّبُّهَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ. قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ» (160). و (أرصده بالشيء): وكله بحفظه، و (المدرجة) - بفتح فسكون-: الطريق، و (تربها): تقوم بها وتسعى في صلاحها. 3 - وعنه أيضاً؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللهِ، نَادَاهُ ¬

_ (164) أخرجه مسلم (4/ 1907 - 1908/ 2454) عن أنس، قال: قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا. (165) أخرجه مسلم (4/ 1988/ 2567)، والبخاري في " الأدب المفرد " (352) عن أبي هريرة.

زيارة الأموات

مُنَادٍ: [أَنْ] طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا» (166). رواه الترمذي وقال: " حديث حسن "، وفي بعض نسخه: " غريب "، ونحوه في " الأدب المفرد ". • زيارة الأموات: وأما زيارة الأموات؛ فقد منع منها - صلى الله عليه وسلم -، ثم أذن فيها. ودلت الأحاديث على زيارة قبور الوالدين وغيرهم من المؤمنين والكافرين لغرض مشروع، ونص العلماء على استحبابها للرجال، أما النساء، فمنهم من منعهن، ومنهم من كرهها لهن، ومنهم من أذن لهن مع أمن الفتنة (*). 1 - فعن ابن عباس؛ قال: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» (167). أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي. ¬

_ (166) حسن: أخرجه أحمد (2/ 326 و244 و354)، والترمذي (6/ 146 - 147/ 2076)، وابن ماجه (1443)، وابن حبان (7/ 228/ 2961) بنحوه، وابن المبارك في " الزهد " (708)، كلهم من طريق أبي سنان القسملي عن عثمان بن أبي سودة عنه به. وقال الترمذي: " هذا حديث غريب، وأبو سنان اسمه عيسى بن سنان، وقد روى حمّاد بن سلمة عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً من هذا ". قلتُ: فالسند ضعيف، وعلته عيسى بن سنان وهو " ليّن الحديث " كما في " التقريب " (2/ 98)، لكن للحديث شاهد أخرجه البزار (2/ 388 - 389/ 1918)، وأبو يعلى (4/ 160/ 4126) عن أنس مرفوعاً بنحوه، وقال الهيثمي (8/ 173): " ورجال أبي يعلى رجال الصحيح غير ميمون بن عجلان وهو ثقة "، وآخر عن أبي قلابة مرسلًا عند عبد الرزاق في " مصنفه " (11/ 203/ 20327)، وأخرج ابن المبارك في " الزهد " (709) عن سعد الطائي؛ قال: ما زار رجل أخاه في الله شوقاً إليه ورغبة في لقائه أو حُبّاً للقائه؛ إلَّا ناداه ملك من خلفه: ألا طبت وطابت لك الجنة. (*) والإذن أقوى دليلاً وأقوم قيلاً. انظر: " أحكام الجنائز " (م 119/ ص 180 وما بعدها- ط 1) للألباني. (167) ضعيف الإسناد: =

و (السرج) - بضمتين-: جمع سراج. 2 - وعن بريدة رضي الله عنه؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ؛ فَزُورُوهَا،» (168). أخرجه مسلم، وزاد فيه أحمد بسند رجاله رجال الصحيح: «فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً». 3 - وعنه أيضاً: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ لَنَا وَلَكُمْ». أخرجه مسلم وغيره (169). ¬

_ = أخرجه أحمد (3/ 323 - 324/ 2030)، وأبو داود (2/ 72)، والترمذي (2/ 267 / 319)، والنسائي (4/ 94 - 95)، والحاكم (1/ 374)، وغيرهم من طريق محمد بن جحادة؛ قال: سمعت أبا صالح يحدّث بعدما كبر عن ابن عباس قال (فذكره). وقال الترمذي: " حديث حسن، وأبو صالح هذا هو مولى أمّ هانئ بنت أبي طالب، واسمه باذان، ويقال: ياذام أيضاً ". وقال الحاكم: " أبو صالح هذا ليس بالسمان المحتج به، إنما هو باذان ولم يحتج به الشيخان "، ووافقه الذهبي، وقال في " ديوان الضعفاء " (544): " ضعيف الحديث "، وقال فيه الحافظ في " التقريب " (1/ 93): " ضعيف مدلّس ". قلتُ: ومن كان كذلك فأنّى لحديثه الحسن كما قال الترمذي! بَلْه الصحة كما ذهب إليه الشيخ أحمد شاكر في " تعليقه على المسند "؟! وانظر: " الضعيفة " (225) للألباني، و " مختصر السنن " (4/ 349 - 350)، و " الترغيب " (6/ 154) للمنذري. (168) أخرجه مسلم (2/ 672/ 977) من حديث بُريدة، وبالزيادة أخرجه أحمد (3/ 38 و63 و66 - مصورة المكتب)، والحاكم (1/ 374 - 375) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي (3/ 58) بعد عزوه لأحمد: " ورجاله رجال الصحيح "، وكذا قال المنذري في " الترغيب " (6/ 153). (169) أحرجه مسلم (2/ 671/ 975)، والنسائي (4/ 94)، وابن ماجه (1547)، وأحمد (5/ 353 و359 و360 - مصورة المكتب)، وابن السني (590) عن بُريدة رضي الله عنه.

4 - وعن أبي هريرة، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ زَارَ قَبْرَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ؛ غُفِرَ لَهُ وَكُتِبَ بَرًّا» (170). رواه الطبراني في " الأوسط " و " الصغير "، وفيه عبد الكريم أبو أمية، وهو ضعيف، كذا في " مجمع الزوائد "، لكن ضعفه لا يضر (*)؛ لأن مشروعية الزيارة ثابتة. 5 - وعنه أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، وَقَالَ: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْمَوْتَ» (171). أخرجه مسلم، ورواه النسائي تحت عنوان: " زِيَارَةُ قَبْرِ الْمُشْرِكِ ". ¬

_ (170) موضوع: أخرجه الطبراني في " المعجم الصغير " (2/ 160/ رقم: 955 - الروض الداني) - و " الأوسط " كما في " المجمع " وغيره- من طريق محمد بن النعمان بن عبد الرحمن عن يحيى بن العلاء البجلي عن عبد الكريم أبي أمية عن مجاهد عنه مرفوعاً، وقال: " لا يروى عن أبي هريرة إلّا بهذا الإِسناد، تفرد به النعمان بن شبل ". قلتُ: وهذا حديث موضوع، متنه منكر، وإسناده ضعيف جداً، مسلسل بثلاث علل، ظلمات بعضها فوق بعض: الأولى: يحيى بن العلاء البجلي متروك، بل كذبه وكيع وأحمد وغيرهما. والعلة الثانية: عبد الكريم أبو أمية- وهو ابن أبي المخارق- ضعيف. والعلة الثالثة: محمد بن النعمان مجهول؛ كما في " الميزان " و " اللسان " وغيرهما. انظر: " تخريج الإِحياء " (4/ 490)، و " مجمع الزوائد " (3/ 59 - 60)، و " اللآلئ المصنوعة " (3/ 440)، و " الفوائد المجموعة " (849)، و " الضعيفة " (49) للألباني. (*) فيه نظر! فإن الحديث موضوع ليس ضعيفاً فحسب، ثم إنه يتضمن تقييداً للزيارة بالجمعة، فيفتح باب الابتداع في الدين، والله أعلم. (171) أخرجه مسلم (2/ 671/ 976)، وأبو داود (2/ 72)، و " النسائي " (4/ 90) واللفظ له، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

حياة الأرواح

• حياة الأرواح: وأما حياة الأرواح؛ فهي ثابتة؛ سواء أرواح المؤمنين أم الكافرين. 1 - قال تعالى في شهداء بدر: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154]. 2 - وقال في شهداء أحد: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. 3 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ؛ فَمَا كَانَ مِنْ حَسَنٍ حَمِدْت اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْ سَيِّئٍ اسْتَغْفَرْت اللَّهَ لَكُمْ» (172). رواه البزار بإسناد جيد. ¬

_ (172) ضعيف: أخرجه البزار (1/ 397، رقم: 845) عن عبد الله (بن مسعود) عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ»، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَيُحَدَّثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ يُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ». وقال: " لا نعلمه يروى عن عبد الله إلّا بهذا الإِسناد ". قال الحافظ العراقي في " تخريج الإِحياء " (4/ 148): " ورجاله رجال الصحيح، إلّا أنّ عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد وإن أخرج له مسلم ووثقه ابن معين والنسائي؛ فقد ضعفه كثيرون ... "، وقال فيه الحافظ في " التقريب " (1/ 517): " صدوق يخطئ ". قلتُ: فمثله لا تقبل زيادته التي تفرد بها مخالفاً جماعة من الثقات الذين اتفقوا على رواية أوّل الحديث وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ ... » عن سفيان الثوري به، دون آخر الحديث وهو «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ ... »، الذي تفرد به، ممّا يدل على شذوذه، والله أعلم. وللحديث طرق أخرى لا يثبت منها شيء. انظر: " البداية والنهاية " (5/ 275) لابن كثير، و " تخريج الإِحياء " للعراقي، و " فيض القدير " (3/ 401) للمُناوي، و " الضعيفة " (975) للألباني.

4 - وعن ابن مسعود؛ أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن آية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [ال عمران: 169]؛ فقال: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟! فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ! نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا». أخرجه مسلم (173). 5 - وعن جابر بن عبد الله- وقد استشهد أبوه يوم أحد-، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «أَعَلِمْتَ أَنَّ اللهَ أَحْيَا أَبَاكَ، فَقَالَ لَهُ: تَمَنَّ. فَقَالَ لَهُ: أُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا فَأُقتَلُ فِيكَ مَرَّةً أُخْرَى. فَقَالَ: إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ». أخرجه أحمد (174). 6 - وعن كعب بن مالك، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» (175). أخرجه أحمد عن ¬

_ (173) أخرجه مسلم (3/ 1502 - 1503/ 1887)، والترمذي (8/ 361 - 362/ 3198)، وقال: " حسن صحيح "، وابن ماجه (2801) عن ابن مسعود رضي الله عنه. (174) حسن: أخرجه أحمد (3/ 361 - مصورة المكتب)، والترمذي (8/ 360/ 3197) ولفظه أتم، وكذا ابن ماجه (190 و2800)، والحاكم (3/ 203 - 204)، من طريقين عن جابر، وقال الترمذي: " حديث حسن غريب "، وقال الحاكم: " صحيح الإِسناد "، وصححه ابن القيّم في " حادي الأرواح " [ص:301]، وحسنه المنذري في " الترغيب " (3/ 138)، وهو كما قال. وأخرجه الحاكم (3/ 203) أيضاً من حديث عائشة وقال: " صحيح الإِسناد "! وتعقبه الذهبي في " التلخيص " بقوله: " فيض كذاب ". قلتُ: وشيخه أبو عمارة الأنصاري فيه لين كما في " التقريب ". (175) صحيح: =

الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه، فما أجله من سند. و (يعلق) بضم اللام، معناه: يرعى. 7 - وعن أنس؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِنَّ العَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ؛ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ؛ أَتَاهُ مَلَكَانِ، فَيُقْعِدَانِهِ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟، فَأَمَّا المُؤْمِنُ؛ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ؛ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا خَيْراً مِنْهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا الْكَافِرُ [أَوِ] الْمُنَافِقُ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ! فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ" (176). أخرجه البخاري والنسائي، ورواه أبو داود إلى قوله: «قَرْعَ نِعَالِهِمْ». وقوله: (تليت)، معناه: تبعت، وأصله: تلوت، قلبت واوه ياء ليزدوج مع دريت. ¬

_ = أخرجه مالك (2/ 84/ 569)، وعنه أحمد 31/ 455)، والنسائي (4/ 108)، وابن ماجه (4271) عن كعب بن مالك مرفوعاً، وزادوا في أوله: " إنما ". قال الحافظ ابن كثير في " تفسيره " (2/ 156): " وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة ". وصححه أيضاً الحافظ السيوطي في " الحاوي للفتاوي " (2/ 172). (176) أخرجه البخاري (3/ 205 و232 - 233/ برقم: 1338 و1374)، والنسائي (4/ 97 - 98 - شرح السيوطي) واللفظ له، وأخرجه مسلم (4/ 2200 - 2201/ برقم: 2870) إلى قوله: " فيراهما جميعاً "، وأبو داود (2/ 72 - التازية) إلى قوله: " قرع نعالهم "، كلّهم عن أنس رضي الله عنه.

8 - وعن ابن عباس؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا، فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ؛ إلَّا عَرَفَهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» (177). رواه ابن عبد البر في " الاستذكار " و " التمهيد "، وصححه أبو محمد عبد الحق، قاله السيوطي في " الحاوي " (2/ 358). 9 - وعن عائشة رضي الله عنها، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ ¬

_ (177) ضعيف منكر: أخرجه ابن عبد البر في " الاستذكار " (2/ 165) - و " التمهيد " كما في " تخريج الإِحياء " (4/ 491) للعراقي، والحاوي (2/ 170) للسيوطي- من طريق فاطمة بنت الريان المستملي قالت: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي حدثنا بشر بن بكر (في الأصل: بكير) عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس مرفوعاً. وهذا سند رجاله ثقات غير فاطمة فلم أقف على ترجمتها الآن، وقد خولفت؛ فأخرجه ابن حبان في " المجروحين " (2/ 58 - 59) عن محمد بن سهل أبي تراب، والخطيب في " تاريخه "، ومن طريقه ابن عساكر كما في " الجامع الصغير "، والذهبي في " الميزان " (2/ 565) عن الأصم، وابن جُميع في " معجم شيوخه " (ص 350 - 351)، والذهبي في " سير أعلام النبلاء " (12/ 590) عن عيسى بن موسى- إمام المسجد (الجامع) ببلد: ثلاثتهم عن الربيع بن سليمان حدثنا بشر بن بكر حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه- زاد الأصم: عن عطاء بن يسار- عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه. وعبد الرحمن واهٍ بل روى عن أبيه أحاديث موضوعة كما تقدم في الحديث المخرج برقم (135). قال ابن الجوزي- كما في " فيض القدير " (5/ 487): " حديث لا يصح ". وقال الذهبي في " السير " (13/ 590): " غريب، ومع ضعفه ففيه انقطاع، ما علمنا زيداً سمع أبا هريرة ". وقال الحافظ ابن رجب- كما في " الآيات البينات " [ص:28] للآلوسي-: " ضعيف بل منكر ". قال الألباني: " وهو كما قال، وقد بينت ذلك في " الضعيفة " (4493) ".

أَخِيهِ وَيَجْلِسُ عِنْدَهُ إِلَّا اسْتَأْنَسَ بِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ، حَتَّى يَقُومَ» (178). أخرجه ابن أبي الدنيا في " كتاب القبور "؛ كما في " الحاوي ". 10 - وعن جابر بن عبد الله، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى عَشَائِرِكُمْ وَعَلَى أَقْرِبَائِكُمْ فِي قُبُورِهِمْ؛ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا؛ اسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ قَالُوا: اللَّهُمَّ! أَلْهِمْهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِطَاعَتِكَ» (179). رواه أبو داود الطيالسي، ¬

_ (178) ضعيف: أخرجه ابن أبي الدنيا في " كتاب القبور " - كما في " تفسير ابن كثير " (5/ 370)، و " تخريج الإِحياء " (4/ 491)، و " الحاوي " (2/ 175) - " وفيه عبد الله بن سمعان ولم أقف على حاله "، قاله الحافظ العراقي رحمه الله تعالى. (179) قوي إن شاء الله: أخرجه أبو داود الطيالسي في " مسنده " (1794)؛ قال: حدثنا الصلت بن دينار عن الحسن عن جابر به. وهذا سند ضعيف جداً: الصلت بن دينار " متروك "، كما قال أحمد والفلاس والحافظ وغيرهم، والحسن- هو البصري- لم يسمع من جابر فهو منقطع، فإن ثبت سماعه فهو مدلس وقد عنعنه! وأخرجه أحمد (3/ 164 - 165) من طريق سفيان عمن سمع أنس بن مالك يقول: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبَكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُمْ حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا ". وسنده ضعيف للرجل الذي لم يسم بين سفيان وأنس. وله شاهد آخر بلفظ: «إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ، وَعَشَائِرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا، وَقَالُوا: اللَّهُمَّ هَذَا فَضْلُكَ وَرَحْمَتُكَ، فَأَتْمِمْ نِعْمَتَكَ عَلَيْهِ وَأَمِتْهُ عَلَيْهَا، وَيُعْرَضُ عَلَيْهِمْ عَمَلُ الْمُسِيءِ، فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْهُ عَمَلًا صَالِحًا تَرْضَى بِهِ وتُقَرِّبُهُ إِلَيْكَ». أخرجه الطبراني في " الكبير " (4/ 129/ 3887 و 3888) و " الأوسط " و " مسند الشاميين " (1544 و3574) من طريق مسلمة بن علي عن زيد بن واقد وهشام بن الغاز عن مكحول =

ونحوه عند أحمد عن أنس، وعند الطبراني في " الأوسط " عن أبي أيوب الأنصاري من طريق مسلمة بن علي وهو ضعيف، وعند ابن أبي الدنيا في كتاب المنامات عن أبي أيوب أيضاً، ذكر رواياتهم في " الحاوي ". ¬

_ = عن عبد الرحمن بن سلامة عن أبي رهم عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعاً. قال الهيثمي في " المجمع " (2/ 327): " وفيه مسلمة بن علي، وهو ضعيف "، وكذا قال السيوطي في " الحاوي " (2/ 170). قلتُ: بل هو واهٍ متروك كما في " الميزان " و " ديوان الضعفاء " و " التقريب " وغيرها؛ فإسناده ضعيف جداً. وله طريق أخرى موقوفة، أخرجها ابن أبي الدنيا في كتاب " المنامات " عن محمد بن الحسين عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن المبارك عن ثور بن يزيد عن أبي رهم عن أبي أيوب، قال: «تُعْرَضُ أَعْمَالَكُمْ عَلَى الْمَوْتَى، فَإِنْ رَأَوْا حَسَناً فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا، وَإِنْ رَأَوْا سُوءً قَالُوا: اللَّهُمَّ رَاجِعْ بِهِ» وسنده ضعيف، فيه ابن إسحاق مدلّس وقد عنعنه، وشيخ ابن أبي الدنيا هو محمد بن الحسين البرجلاني، روى عنه جماعة كما في " الجرح والتعديل "، وذكره ابن حبان في " التقات " كما في " لسان الميزان "، وقال الحافظ الذهبي في ترجمته في " الميزان " (3/ 522/ ترجمة: 7414): " أرجو أن يكون لا بأس به، ما رأيتُ فيه توثيقاً ولا تجريحاً، لكن سُئل عنه إبراهيم الحربي، فقال: ما علمتُ إلّا خيراً "، وقال في " اللسان " (5/ 137): " وما لذكر هذا الرجل الفاضل الحافظ (يعني في الضعفاء)؟! ". لكن رواه ابن المبارك في " الزهد " (443): أخبرنا ثور به، وصححه الألباني في " الصحيحة " (2758)، وهو في حكم المرفوع لأنه لا يقال بالرأي، والله أعلم. وله طريق أخرى رواها سلاّم الطويل عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أبي رهم به مرفوعاً بلفظ: «تُعْرَضُ عَلَى الْمَوْتَى أَعْمَالَكُمْ، فَإِنْ رَأَوْا خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا وَقَالُوا: اللَّهُمَّ هَذِهِ نِعْمَتُكَ فَأَتْمِمْهَا عَلَى عَبْدِكَ، وَإِنْ رَأَوْا سَيِّئَةً قَالُوا: رَاجِعْ عَبْدَكَ فَلا تُخْزُوا مَوْتَاكُم بِالْعَمَلِ السيء فَإِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ». أورده ابن حبان في " المجروحين " (1/ 336) في ترجمة سلام الطويل وقال: " يروي عن الثقات الموضوعات كأنه كان المتعمد لها "، والله أعلم.

11 - وعن أنس؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الأَنْبِياءُ أحْياءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ» (180). رواه أبو يعلي في " مسنده " والبيهقي في كتاب " حياة الأنبياء ". 12 - وفي " صحيح مسلم " عن أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَرَّ بِمُوسَى وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ». دلت هذه النصوص على حياة الأرواح حياة لا نشعر بها وعلى علمها بزيارة الأحياء لمقابرها وعلى علمها بأحوال من بقي بعد أصحابها من مخالطيهم وعلى سماعها كلامهم. وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أريد فيه من الأسماع معنى الهداية. وهى متفاوتة في هذه الحياة أعلاها أرواح الأنبياء ثم الشهداء ثم سائر ¬

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه الصفحة بها بياض في جزء من النسخة المصورة وللفائدة أدرجت النص الناقص (من المتن فقط)

عطايا الزوار

المؤمنين ثم الكافرين. وعلى كل حال هي حياة غيبية لا تشبه حياتنا الدنيا، فلا معاملة بيننا وبينها بالبيع والإِجارة والنكاح، ولا تكلف مثلنا بالعبادات، وصلاة الأنبياء في قبورهم هي لذة روحانية. وفي " شرح الطحاوية ": أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت، وأن الله ركب هذا الإِنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبعاً لها، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعاً لها، فإذا كان البعث، كان النعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعاً، وأن للروح بالبدن خمس حالات: تعلقها بالجنين، ثم بالمولود، ثم بالنائم، ثم بالميت في البرزخ، ثم بالمبعوث من القبر. هذا خلاصة كلامه (ص 329 - 333). • عطايا الزوار: وأما عطايا الزوار؛ فما يعطى منها على استكشاف الغيب هو من حلوان الكاهن حرام؛ كما تقدم في فصل الكهانة، وما يعطى منها قصد استجلاب النفع من المزور واستدفاع الضر به في الدين أو في الدنيا هو رشق في الدين، وسحت في لغة القرآن. قال الراغب: " السحت: المحظور الذي يلزم صاحبه العار؛ كأنه يُسحت دينه ومروءته ". قال تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]، وأصل السحت: القشر الذي يستأصل. ثم لا نعلم من هؤلاء المزورين إلا من يستشرف لما في أيدي الزائرين. وقد ورد المنع من سؤال ما في أيدي الناس تصريحاً أو تلويحاً إلا لضرورة، وجاء الحث على العمل والاكتساب.

أما التهادي للمحبة وإصلاح ذات البين؛ فمشروع. 1 - عن عمر رضي الله عنه؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُعْطِيهِ الْعَطَاءَ، فَيَقُولُ لَهُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي. فَقَالَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم -: «خُذْهُ، إِذَا جَاءَكَ مِنْ هذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لاَ، فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» (182). رواه الشيخان. والإِشراف على الشيء الرغبة فيه والحرص عليه. 2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا؛ فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا؛ فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» (183). أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه. 3 - وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ؛ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: «مَا يُغَدِّيهِ أَوْ يُعَشِّيهِ» (184). أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان. 4 - وعن أنس؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْمَسْأَلَةُ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ ¬

_ (182) أخرجه البخاري (3/ 337/ 1473)، ومسلم (2/ 723/ 1045) من حديث عمر. (183) أخرجه أحمد (2/ 231)، ومسلم (2/ 720/ 1041)، وابن ماجه (1838) من حديث أبي هريرة. (184) صحيح: أخرجه أحمد (4/ 180 - 181)، وأبو داود (1/ 258)، وابن حبان (2/ 302 - 304 / رقم: 545 و8/ 187 - 188/ رقم: 3394) من طرق عن ربيعة بن يزيد عن أبي كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية مرفوعاً به. وهذا سند صحيح، رجاله ثقات مترجم له في " التقريب "، وقد صححه ابن حبان وأورده الألباني في " صحيح [أبي داود " (1425)، و " الجامع الصغير " (6156)].

مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ» (185). أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. و (المدقع): الشديد من الإِدقاع، وهو اللصوق بالدقعاء؛ أي: الأرض الجرداء. و (الغرم المفظع): المال الكثير يلزمه الرجل في سبيل إصلاح بين الناس. و (الدم الموجع): الدية يتحملها المرء عن قريبه كي لا يقتل. 5 - وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ النَّاسِ: خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ» (186). ¬

_ (185) ضعيف: أخرجه أحمد (3/ 114)، وأبو داود (1/ 260 - 261)، وابن ماجه (2198) من طريق الأخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي عن أنس بن مالك مرفوعاً به. وهذا سند ضعيف، أبو بكر الحنفي " لا يعرف حاله "، كما في " التقريب " (1/ 463)، وبه أعله ابن القطان ونقل عن البخاري؛ أنه قال: "لا يصح حديثه " كما في " التلخيص الحبير " (3/ 15/ 1165)، والله أعلم. " تنبيه ": وأمّا عزو المؤلف- عفا الله عنا وعنه- حديث أنس هذا للترمذي فهو وهم منه، وانظر: " الترغيب " (2/ 143/ 1199) للمنذري. نعم، أخرج الترمذي (3/ 318 - 319/ 648 و649) من طريق مجالد عن عامر عن حُبشي بن جُنادة السلولي مرفوعاً: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ إِلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ لِيُثْرِيَ بِهِ مَالَهُ كَانَ خُمُوشاً فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الِقِيَامَةِ وَرَضْفاً يَأْكُلُهُ مِنْ جَهَنَّمَ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُقِلَّ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ». وقال: " هذا حديث غريب من هذا الوجه ". قلت: لأن في سنده مجالداً وهو ضعيف. (186) رواه البخاري (3/ 335/ 1470)، ومسلم (2/ 721/ 1042) من حديث أبي هريرة.

6 - وعن عائشة عنه - صلى الله عليه وسلم -: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» (187). أخرجه الطبراني في " الأوسط "، والحربي في " الهدايا "، والعسكري في " الأمثال "، ووردت في معناه ¬

_ (187) حسن: روي عن جماعة من الصحابة؛ منهم: 1 - أبو هريرة: أخرج حديثه البخاري في " الأدب المفرد " (594) " بسند جيّد "؛ كما قال العراقي في " تخريج الإِحياء " (2/ 40)، وقال الحافظ في " التلخيص " (3/ 70): " إسناده حسن ". 2 - عائشة: أخرجه الطبراني في " الأوسط " - كما في " الكشف " تبعاً لـ " المقاصد " - وإسناده ضعيف جداً، فيه المثنى أبو حاتم- وهو ابن بكر العبدي العطار البصري- متروك كما قال الدارقطني. وقال الهيثمي في " المجمع " (4/ 146): " وفيه المثنى أبو حاتم ولم أجد من ترجمه! وبقية رجاله ثقات وفي بعضهم كلام ". وأورده عنها بلفظ: «تَهَادَوْا تَزْدَادُوا حُبًّا»، وقال: " رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه المثنى أبو حاتم ولم أجد من ترجمه وكذلك عبيد الله بن العيزار ". وانظر: " التلخيص " للحافظ، و " الإِرواء " (6/ 45) للألباني. 3 - ابن عمرو: أخرجه الحاكم في " علوم الحديث " [ص:80] عنه. 4 - ابن عمر: رواه أبو القاسم الأصبهاني في كتابا الترغيب والترهيب " - كما في " نصب الراية " (4/ 121) - من حديث إسماعيل بن إسحاق الراشدي ثنا محمد بن داود بن عبد الجبار عن أبيه عن العوام بن حوشب عن شهر بن حوشب عنه مرفوعاً. وهذا إسناد ضعيف- كما قال ابن طاهر في كلامه على أحاديث " الشهاب "، كما في " نصب الراية " (4/ 120) - بل ضعيف جداً: داود بن عبد الجبار- لعله الكوفي المؤذن- تركوه كما في " ديوان الضعفاء " للذهبي، وشهر ضعيف، والله أعلم. 5 - عطاء بن أبي مسلم عبد الله الخراساني (التابعي الصغير): أخرجه مالك في " الموطأ " (4/ 364 - 365/ 1750) عنه مرسلاً، ثم هو " صدوق يهم كثيراً "؛ كما في " التقريب ". وفي الباب أحاديث أخر وآثار بمعناه تنظر في " مجمع الزوائد " (4/ 146 - 147)، و " المقاصد الحسنة " (352)، و " إرواء الغليل " (6/ 44 - 47/ 1601)، و " كشف الخفاء " (1/ 381 - 382).

اتخاذ المزارات

آثار تتبعها العجلوني في " كشف الخفاء " (1/ 319). • اتخاذ المزارات: وأما اتخاذ المزارات؛ فممنوع، ولو للصلاة فيها، سواء بالبناء على القبور، أم بتعليق الخيوط على أشجار، أم بوضع المباخر والمصابيح عندها. 1 - ففي " الموطأ " و " الصحيحين " عن عائشة وغيرها: أن آخر ما تكلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قال: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» (188). وروي: " لَعَنَ "؛ مكان: " قَاتَلَ ". 2 - وعن أبي الهياج؛ أن عليّاً قال له: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَدَعَنَّ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ، وَلَا صُورَةً فِي بَيْتٍ إِلَّا طَمَسْتَهَا» (189). رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وهذا لفظه. 3 - وعن أبي هريرة؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تَجْعَلُنَّ قَبْرِي وَثَنًا، لَعَنَ اللَّهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» (190). رواه أبو يعلى، وفيه إسحاق بن أبي ¬

_ (188) رواه البخاري في " صحيحه " (3/ 200/ 1330)، ومسلم في " صحيحه " (1/ 376/ 529) من حديث عائشة بلفظ: (لعن)، وروي بلفظ: (لَعْنَةُ اللهِ عَلَى ... ) من حديث عائشة وعبد الله بن عباس، أخرجه البخاري (1/ 532/ 435 و436)، ومسلم (1/ 377/ 531)، وبلفظ (قاتل) أخرجه مالك في " الموطأ " (4/ 233/ 1716) عن عمر بن عبد العزيز مرسلًا، ووصله البخاري (1/ 532/ 437)، ومسلم (1/ 376/ 530) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (189) أخرجه مسلم (2/ 666 - 667/ 969)، وأبو داود (2/ 70)، والترمذي (4/ 150/ 1054) وقال: " حديث حسن "، والنسائي (4/ 88 - 89) واللفظ له، وأحمد (683 و741 و889 و1064 - من طبعة شاكر). وله طرق أخرى عن عليّ تنظر في " الإِرواء " (3/ 209 - 211/ 759). (190) صحيح: =

ذات أنواط

إسرائيل، وفيه كلام لِوَقْفِهِ في القرآن، وبقية رجاله ثقات. قاله في " مجمع الزوائد ". • ذات أنواط: 4 - وعن أبي واقد الليثي، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ حُنَيْنٍ، فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لِلْكُفَّارِ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، (وَكَانَ الْكُفَّارُ يَنُوطُونَ سِلَاحَهُمْ بِسِدْرَةٍ وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا). فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهُ أَكْبَرُ! هَكَذَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً} [الأعراف: 138] إِنَّكُمْ تَرْكَبُونَ سَنَنَ مِنْ قَبْلِكُمْ» (191). أخرجه ابن أبي شيبة ¬

_ = أخرجه أبو يعلى في " مسنده " (6/ 135/ 6651): حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ثنا سفيان عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً، وهذا سند صحيح رجاله ثقات، وكلام بعضهم في إسحاق لوقفه في القرآن لا يضره كما هو مقرر في " مصطلح الحديث ". وأخرجه أحمد (13/ 86 - 88/ 7352): حدثنا سفيان به بلفظ: " اللهم لا تجعل ... " وإسناده صحيح. وله شاهدان مرسلان: أحدهما عند مالك في " الموطأ " (1/ 351/ 415)، والآخر عند عبد الرزاق في " المصنف " (1/ 406/ 1587). والحديث صححه ابن عبد البر، كما في " تنوير الحوالك " (1/ 186) للسيوطي، و " شرح الموطأ " للرزقاني، وصححه أيضاً العلّامة أحمد شاكر في " تعليقه وشرحه على المسند "، والشيخ الألباني في " تحذير الساجد " (ص 25 - 26)، و " أحكام الجنائز " [ص:217]. (191) صحيح: أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (11/ 369/ 20763)، وعنه أحمد (5/ 218)، والحميدي في " مسنده " (2/ 375/ 848)، وابن أبي شيبة في " المصنف " (8/ 634/ 267)، والترمذي (6/ 407 - 408/ 2271)، وابن جرير في " تفسيره " (9/ 45 و46) من طرق عن الزهري عن سنان بن أبي سنان عن أبي واقد الليثي به. وهذا سند صحيح على شرط الشيخين، وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح "، وقواه ابن =

السفر إلى المزارات

وأحمد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه، نقله ابن كثير والسيوطي في " الدر المنثور " عند آية الأعراف، ورواه الأزرقي في " أخبار مكة " من حديث أبي واقد وابن عباس، فوصف ذات أنواط بأنها شجرة عظيمة خضراء، يأتيها قريش ومن سواهم كل سنة، فيعلقون بها أسلحتهم، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوماً، وأن من حج منهم، وضع زاده عندها، ويدخل بغير زاد؛ تعظيماً لها. • السفر إلى المزارات: وأما السفر إلى المزارات؛ ففي " الموطأ " عن أبي هريرة؛ أنه قال: لقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري، فقال: من أين أقبلت؛ فقلت: من الطور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه؛ ما خرجت، سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " «لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِلَى مَسْجِدِي هَذَا، وَإِلَى مَسْجِدِ إِيلِيَّا أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ» (يَشُكُّ) " (192). وإيليا وبيت المقدس واحد، ¬

_ = القيم في " إغاثة اللهفان " (2/ 300). وأخرجه ابن أبي حاتم- كما في " تفسير ابن كثير " (3/ 216) -، والطبراني- كما في " المجمع " (7/ 24) للهيثمي- من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعاً بنحوه، وكثير متروك، وقال الهيثمي: " ضعفه الجمهور، وحسن الترمذي حديثه "! (192) صحيح: أخرجه مالك في " الموطأ " (1/ 222 - 225/ 239)، ومن طريقه النسائي في " سننه " (3/ 113 - 115)، وأحمد (6/ 7)، وصححه الحافظ في " الإِصابة " (1/ 166)، والألباني في " الإِرواء " (3/ 228 و4/ 142). وله ثلاث طرق عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه: الأولى: أخرجها أحمد (6/ 397 - 398) من طريق ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عنه. وهذا إسناد حسن رجاله ثقات غير ابن إسحاق فصدوق، =

وإنما الشك فيما لفظ به الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهما. وقوله: " لقيت بصرة "، قال ابن عبد البر: " الصواب: أبا بصرة، والغلط من يزيد لا من مالك ". وقال في " مجمع الزوائد ": " رواه أحمد والبزار بنحوه، والطبراني في " الكبير " و " الأوسط "، ورجال أحمد ثقات أثبات " (4/ 3)، ثم أورده عن أحمد من حديث أبي سعيد الخدري (193)، وهذا باعتبار ذكر قصة الطور، أما الحديث ¬

_ = وقد صرح بالتحديث. الثانية: أخرجها أحمد (6/ 7) أيضاً من طريق عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عنه. قال الهيثمي (4/ 3): " ورجاله ثقات أثبات ". الثالثة: أخرجها أبو يعلى في " مسنده " (11/ 435/ 6558)، والطبراني في " الكبير " (3/ 309 و310/ 2157 و2158 و2159)، عن زيد بن أسلم عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عنه، وإسناده صحيح. (193) ضعيف منكر بتمام هذا اللفظ: أخرجه أحمد (3/ 64) من طريق عبد الحميد حدثني شهر؛ قال: سمعت أبا سعيد الخدري وذكرت عنده صلاة في الطور، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تُشَدَّ رِحَالُهُ إِلَى مَسْجِدٍ يُبْتَغَى فِيهِ الصَّلَاةُ، غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا ... » الحديث. أورده- كما قال المؤلف- الهيثمي في " المجمع " (4/ 3) وقال: " هو في " الصحيح " بنحوه، وإنما أخرجته لغرابة لفظه، رواه أحمد وشهر فيه كلام وحديثه حسن! ". قلتُ: هو ضعيف سيئ الحفظ، وفي " التقريب " (1/ 355): " صدوق، كثير الإِرسال والأوهام "، وقد انفرد بزيادة " إلى مسجد ينبغي فيه الصلاة " وخالف جميع الثقات فيه، فالحديث بهذا اللفظ الذي فيه هذه الزيادة ضعيف منكر. وانظر وجهاً آخر يؤكد بطلان هذه الزيادة، وأنها لا أصل لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في " أحكام الجنائز " [ص:228] لشيخنا حفظه الله تعالى. وانظر أيضاً: " تحفة الأحوذي " (2/ 287) للمباركفوري، و " الإِرواء " (3/ 230 و4/ 143) للألباني.

حكمة تخصيص المساجد الثلاثة بشد الرحال

المرفوع إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ففي " الصحيحين " وغيرهما عن غير واحد من الصحابة (194). • حكمة تخصيص المساجد الثلاثة بشد الرحال: وقد تقدم في الفصل الحادي عشر حديث السرحة (195) التي سر تحتها سبعون نبيّاً، وزيارته - صلى الله عليه وسلم - لقباء راكباً وماشياً يصلي فيه ركعتين (196)، وذلك يدل لمشروعية زيارة الأمكنة الفاضلة من غير سفر. قال البيضاوي: " لما كان ما عدا الثلاثة من المساجد متساوية الأقدار في الشرف والفضل، وكان التنقل والارتحال لأجلها عبثاً ضائعاً، نهي عنه، لأنه ينبغي للإِنسان أن لا يشتغل إلا بما فيه صلاح دنيوي أو فلاح أخروي ". قال: " والمقتضي لشرف الثلاثة أنها أبنية الأنبياء ومتعبداتهم ". نقله الزرقاني في " شرح الموطأ " (1/ 201). وفي " معالم السنن " للخطابي: " وإنما خص هذه المساجد بذلك؛ لأنها مساجد الأنبياء، وقد أمرنا بالاقتداء بهم " (2/ 222). وقال الزرقاني في " شرح الموطأ ": " وإنما حظر البناء على القبور خشية أن يعبد المقبور " (4/ 71). ¬

_ (194) صحيح متواتر: ورد عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم في " الصحيحين " و " السنن " و " المسانيد " وغيرها؛ كما قال المؤلف رحمه الله تعالى، وقد خرّج رواياتهم شيخنا في " الإِرواء " (3/ 226 - 232/ حديث رقم: 773)؛ فلينظر، والله الموفق. (195) تقدم تخريجه برقم (41). (196) تقدم تخريجه برقم (42).

شروط الزيارة

• شروط الزيارة: ويخرج من هذا مشروعية زيارة الأمكنة التي اشتملت على معنى يشرفها، لكن بخمسة قيود: الأول: أن لا يتخذ عليها بناء ولا شيء يميزها. الثاني: أن لا يعلق بها خيوط ونحوها. الثالث: أن لا يكون لها سدنة يستشرفون لما في أيدي الزائرين. الرابع: أن لا يرجى منها النفع والخير رجاء المشركين ذلك من أصنامهم، لأنه مِنْ معنى العبادة. الخامس: أن لا يسافر إليها السفر الطويل في غير المساجد الثلاثة وفي غير زيارة المتحابين من الأحياء، على ظاهر حديث أبي هريرة المتقدم في زيارة الأحياء، وكل طاعة يمكن فعلها بغير سفر؛ فهي داخلة في النهي عن إعمال المطي وشد الرحال. • الغرض من الزيارة: وأما الغرض من الزيارة، فليس الناس متحدين فيه، وقد يكون للزائر غرض واحد، وقد تجتمع له أغراض، فإن اتحدت في الحكم؛ أفادته قوة، وإن اختلفت فيه؛ فالمركب من المشروع والمبدوع مبدوع، ولبيان ما هو من الأغراض مسنون أو مبتدع نفصلها إلى سبعة أنواع. • زيارة المحبة: الأول: محبة المزور وإكرامه وبره، وهذا غرض صحيح في زيارة الأحياء والأموات إذا كانت للزائر علاقة بالمزور من قرابة أو صداقة.

زيارة الاستعانة

قال السبكي في " شفاء السقام ": " ويشبه أن تكون زيارة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبر أمه من هذا القبيل " [ص:73]. • زيارة الاستعانة: الثاني: الطمع في إعانة المزور بماله أو جاهه أو رأيه. وهذا لم يذكره من وقفنا على كلامهم في أقسام الزيارة، لكنه مقابل للنوع الذي قبله، وهو غير صحيح في الأموات، لعدم صحة الاستعانة بهم، وصحيح في زيارة الأحياء متى كانت للزائر حاجة حاملة على الاستعانة، وكان للمزور استطاعة معتادة لتلك الإِعانة. • زيارة استطلاع الغيب: الثالث: استطلاع الغيب؛ كما يزور العوام مرابطيهم ممن يسميهم الشرع كهاناً أو مجانين، ليدلوهم على ما ضاع منهم بسرقة أو غيرها، ويكشفوا لهم عن عاقبة ما أرادوه من نكاح أو شركة أو سفر أو فلاحة أو غير ذلك، وهذا القصد فاسد منهي عنه؛ لما تقدم في فصل الكهانة من التشديد في إتيان الكهان، وذكرناه في أنواع الزيارة، وإن لم يذكره غيرنا فيها، لأن عوامنا يسمون هذا زيارة. • زيارة الاتعاظ: الرابع: الاتعاظ بتذكر الموت والاعتبار بحال الميت ومصير الحي، وهذا غرض صحيح في زيارة المقابر، لا فرق بين من فيها من مسلم وكافر، ولا بين القريب منك والأجنبي عنك. • زيارة الترحم: الخامس: الدعاء للموتى والسلام عليهم، وهذا مشروع في مقابر المسلمين، سواء كانت مقابر الأولياء الصالحين أم العصاة المذنبين.

زيارة التأنيس

• زيارة التأنيس: السادس: تأنيس الزائر للمزور إذا كانت بينهما مودة صادقة، وذلك صحيح في زيارة الأحياء والأموات، وهذا النوع أدخله السبكي في النوع الأول. • زيارة التبرك: السابع: التبرك، وهذا لا ينبغي إطلاق القول فيه بأنه مشروع أو مبتدع، حتى يعلم مراد الزائر من التبرك؛ فإن أراد به الانتفاع في قبول الدعاء أو زيادة ثواب الطاعة ولم يرتكب في زيارته مخالفة للشرع، كان غرضه مشروعاً معقولاً، كما بيناه في الفصل الحادي عشر، وهذا القبر الشريف لا يقصد من زيارته أكثر من ذلك، ففي " الشفاء " لعياض: " قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعا؛ يقف ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة، ويدنو، ويسلم، ولا يمس القبر بيديه ". وقال في " المبسوط ": " لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو، ولكن يسلم ويمضي ". وقال ابن عاشر: وَسِرْ لِقَبْرِ الْمُصْطَفَى بِأَدَبِ … وَنِيَّةٍ تُجَبْ لِكُلِّ مَطْلَبِ سَلِّمْ عَلَيْهِ ثُمَّ زِدْ لِلصِّدِيقْ … ثُمَّ إِلَى عُمَرَ نِلْتَ التَّوْفِيقْ وَاعْلَمْ بِأَنَّ ذَا الْمَقَامَ يُسْتَحَبْ … فِيهِ الدُّعَا فَلاَ تَمَلَّ مِنْ طَلَبْ وإن أراد به الانتفاع بالمزور أو المزار في قضاء الحاجات من غير أسبابها المعتادة وطرقها الظاهرة، فهو من نسبة التصرف في الكون للمخلوق، وذلك شرك بواح. قال في " زاد المعاد ": " وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول ويفعل عند زيارتها من

الاستمداد من الأرواح

جنس ما يقوله عند الصلاة عليه من الدعاء والترحم والاستغفار، فأبى المشركون إلّا دعاء الميت، والإِشراك به، والإِقسام على الله به، وسؤاله الحوائج، والاستعانة به، والتوجه إليه، بعكس هديه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم وإلى الميت " (1/ 146). • الاستمداد من الأرواح: وقد يعبرون عن هذا الضرب من التبرك بالاستمداد من أرواح الصالحين، ويعتقدون أنهم أحياء في قبورهم؛ يتصرفون في العالم، ويقضون حاجات قاصديهم، ويستدل مستدلهم بما ورد في حياة الأرواح مما قدمنا أصحه وأصرحه، فيتخذون المزارات؛ يبنون عليها البناءات، ويرون أن روح الصالح فلان هنالك؛ إما لأنه دفن هنالك، أوجلس به. بل تجد بناءات كثيرة على مزارات عديدة، كلها منسوبة للشيخ عبد القادر الجيلاني دفين بغداد رحمه الله، وهو لم يعرف تلك الأمكنة ولا سمع بها، وهذه المزارات الجيلانية تجدها غربي وطن الجزائر أكثر منها في شرقه. أما أن يكون للصالح الواحد قبران؛ فهذا نعرفه لغير صالح، وأشهرهم بوطننا الشيخ محمد بن عبد الرحمن مؤسس الطريقة الرحمانية بمغربنا. ومن مظاهر هذا التبرك الاستمدادي تقبيل الجدران والتمسح بالحيطان وكل ما يضاف إلى ذلك المكان، وكل هذا جهل وضلال؛ فإن توحيد الله متناول لتوحيد التوجه إليه والاستعانة به فيما لم ينصب له سبباً عاديّاً، وابن آدم- بلغ فضله ما بلغ- ليس له إلا التصرف المعتاد، ما دامت روحه بجسده في عالم الشهادة، ولا تأثير للأرواح التي في عالم الملكوت في شيء من عالم الملك، ومن عاند في ذلك؛ فجربه بأن تشتري منه أرضاً مثلاً بالدين؛ فإذا تقاضاك، فقل له: إن جدك الوالي الصالح الذي كان يملك هذه الأرض وورثتها عنه قد جاءتني

قطع السلف لاتخاذ المزارات

روحه وأخذت مني الثمن، فما يكون جوابه؟! وكيف يحكم الناس على هذه الدعوى؟! وقد نسب ابن تيمية القول بالاستمداد من الأرواح إلى الملاحدة من الفلاسفة، وشرح فلسفتهم فيه، فقال في " رسالة التوسل والوسيلة ": " يزعمون أن المؤثر في حوادث العالم هو قوى النفس، أو الحركات الفلكية، أو القوى الطبيعية؛ فيقولون: إن الإِنسان إذا أحب رجلًا صالحاً قد مات- لا سيما إن زار قبره-؛ فإنه يحصل لروحه اتصال بروح ذلك الميت فيما يفيض على تلك الروح المفارقة من العقل الفعال عندهم أو النفس الفلكية، يفيض على هذه الروح الزائرة المستشفعة، من غير أن يعلم الله بشيء من ذلك، بل وقد لا تعلم الروح المستشفع بها ذلك، ومثلوا ذلك بالشمس إذا قابلها مرآة، فإنه يفيض على المرآة من شعاع الشمس، ثم إذا قابل المرآة مرآة أخرى؛ فاض عليها من تلك المرآة، وإن قابل تلك المرآة حائط أو ماء؛ فاض عليه من شعاع تلك المرآة؛ فهكذا الشفاعة عندهم، وعلى هذا الوجه ينتفع الزائر عندهم، وشي هذا القول من أنواع الكفر ما لا يخفى على من تدبره، ولا ريب أن الأوثان يحصل عندها من الشياطين وخطابهم وتصرفهم ما هو من أسباب ضلال بني آدم " [ص:22]. • قطع السلف لاتخاذ المزارات: وقد علمت الحكم في البناء على القبور وحكمته، وأجمع الصحابة على العمل به، فلم يبنوا على الأمكنة التي جلس فيها الرسول في أسفاره إلى الحج والعمرة والغزو، وهم عالمون بها، وشديدو الحب له، ولم ينوطوا بشجرة الرضوان ولا غيرها خيوطاً وخرقاً، ولا وضعوا تحتها مباخر ومصابيح، ولا قبَّلوا غير الحجر الأسود أو تمسحوا بشيء من غير أركان البيت، بل نهى أمير المؤمنين

إحداث الخلف للمزارات

ومحدَّث هذه الأمة عمر بن الخطاب عن تعمد العدول إلى مواضع سجوده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طريق المدينة إلى مكة، وقطع شجرة الرضوان، وبيَّن وجه تقبيله للحجر الأسود؛ كما تقدم في الفصل الحادي عشر. • إحداث الخلف للمزارات: أين أنتم من هذا يا من اتخذتم من القبور والمزارات أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا، وشيدتم عليها القصور، ورفعتم القباب، وأشركتموها برب الأرباب وجاوزتم ذلك " تكثيراً لمظاهر الشرك؛ فبنيتم على [غير] القبور، واتخذتم من شجر البطم والسدر وغيرهما ذات أنواط تعلقون به الخرق والخيوط، وتسرجون له الأضواء، وتعطرونه بالمباخير والرياحين، وجاوزتم ذلك إغراقاً في الشرك إلى الصخور الضخمة والأودية الموحشة، واستبدلتم بالتبرك المسنون تبرككم المبتدع المأفون؟! ها قد أوضحنا لكم ما في الزيارة من رشد وغي؛ فكونوا من عباد الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تكونوا ممن حقت عليهم كلمة الله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146]. • • • • •

الذبائح والزردات

26 - الذبائح والزردات • معنى الذبح والداعي إليه: الذبائح جمع ذبيحة، وهي ما يذبح من الحيوان، وأصل الذبح الشق، وذبح الحيوان شق حلقه، والذبيحة إن قصد بها إلى القربة، فهي من العبادات، وإلا؛ فهي من العادة. والذبح العادي ما يكرم به الذابح نفسه ويوسع به على عياله أو يقدمه لضيفه، وهذا كالذي تراه في أسواق الجزارين، وهو من النعيم المباح إذا استوفيت شروط الذكاة المبينة في كتب الفروع. • النسك: والذبح الديني يسمى نسكاً. وكانت العرب تنسك في جاهليتها النسائك حول أصنامها وأنصابها تقرباً إليها، وتحتفل لذلك على نحو ما تراه اليوم في الزردات، ومن نسائكهم: الفرع، والعتيرة، وأجنة البحائر، والسوائب التي يخصون بما ولد منها حيّاً الرجال؛ فلا تأكل منه النساء، ويشركونهن معهم فيما ولد منها ميتاً، كما حكاه البغوي عن ابن عباس وقتادة والشعبي في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ

تعلق الإخلاص بالعادات كالعبادات

الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} [الأنعام: 139]. • تعلق الإِخلاص بالعادات كالعبادات: وقد جاء الإِسلام بوجوب توحيد الله والإِخلاص له في جميع الأعمال، ما كان منها عادة، وما كان منها عبادة. وقد قرر أبو إسحاق الشاطبي في كتاب " المقاصد من الموافقات " كليات لها تعلق بهذا الموضوع، وشرحها وبسط القول فيها، ونحن نثبتها للاستدلال بها لا لشرحها وتقريرها: الكلية الأولى: إن المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً. الثانية: إن المقاصد الشرعية ضربان: مقاصد أصلية، ومقاصد تابعة، فالأولى هي الفروض التي لا حظ فيها للنفس، والأخرى هي المباحات العادية التي روعي فيها حظ المكلف. الثالثة: إن العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة؛ فلا بد أن تصاحبه المقاصد الأصلية، ومعنى ذلك: أن تكون الأعمال العادية المباحة معمولة على مقتضى المشروع، لا يُقصد بها عمل جاهلي ولا اختراع شيطاني ولا تشبه بغير أهل الملة، ومثَّل لذلك بقوله: " كشرب الماء أو العسل في صورة شرب الخمر، وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود أو النصارى وإن صنعه المسلم، أو ما ذبح على مضاهاة الجاهلية، وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك " (2/ 208). الرابعة: إن كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له؛ فقد

النسك المشروع

ناقض الشريعة، وكل من ناقضها؛ فعمله في المناقضة باطل. ومثل لهذه الكلية بإظهار كلمة التوحيد قصداً لإِحراز الدم والمال لا اعترافاً بوحدانيه الحق، وبالصلاة ليوسم بالصلاح، وبالذبح لغير الله، وبالهجرة لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، في أمثلة غيرها (2/ 335). • النسك المشروع: والنسائك في الإِسلام ثلاثة: الأضحية، والعقيقة، والهدي للكعبة (*) خاصة لا للأضرحة والمزارات، وإذا لم تكن الذبيحة نسيكة تعبدية، وجب أن تكون على الوجه المأذون فيه. • ما جاء في أن الذبح لله وحده: 1 - قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام: 162 - 163]؛ فعطف النسك على الصلاة. 2 - وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]؛ يريد نحر النسك كما فسره الجمهور، وعطفه على الصلاة كما في الآية قبلها ينادي بأن الذبح لغير الله كالصلاة لغير الله، ولو رأى الناس مسلماً يصلي لغير الله؛ لبادروا إلى تكفيره من غير استفتاء علماء الدّين، وهم مصيبون، ولو رأوا- وكم رأوا- من يذبح لغير الله؛ لرضوا بهذا الصنيع، وتأول لهم علماء الأغراض ما يحسن هذا الفعل الشنيع، وما هذه التفرقة إلا أنهم ألفوا الذبح لغير الله ولم يألفوا الصلاة لغير الله. ¬

_ (*) ليس الهدي للكعبة بل هو لله، ولكنه يذبح في مكة ويتصدق به على فقرائها. [ناشر ط 3].

ما جاء في الذبح لغير الله

على أن الصلاة لغير الله قد وقعت من بعض الأغبياء نادراً: حدثني الثقة أن الشيخ يوسف بن الدرويش من شيوخ الطريقة الرحمانية قرب الميلية حدثه عن مريده فلان؛ أنه توجه إليه وصلى له، فجعل هو ينتقل من ناحية إلى أخرى، ومريده يتبعه مستقبلاً إياه! حدثه هذا الحديث وهو مغتبط بتعظيم مريده له!! • ما جاء في الذبح لغير الله: 3 - وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3]. 4 - وفي " صحيح مسلم " ونحوه في " الأدب المفرد " عن علي بن أبي طالب؛ أنه أتاه رجل، فقال: مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسِرُّ إِلَيْكَ؟ فَغَضِبَ، وَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا يَكْتُمْهُ النَّاسَ، غَيْرَ أَنَّهُ حَدَّثَنِي بِكَلِمَاتٍ أَرْبَعٍ. فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا هُنَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ» (197). و (المحدث): هو المفسد في الأرض. و (منار الأرض): تخومها وعلامات حدودها. 5 - وروى أحمد عن طارق بن شهاب البجلي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دَخَلَ الْجَنَّةَ رَجلٌ فِي ذبَاب، وَدَخَلَ النَّارَ رَجلٌ فِي ذبَاب». قَالوا: وَكَيفَ ¬

_ (197) أخرجه مسلم في " صحيحه " (3/ 1567/ 1978)، والبخاري في " الأدب المفرد " (17) بنحوه من حديث عليٍّ رضي الله عنه.

مثل عامي

ذَلِكَ يَا رَسولَ اللهِ؟ قَالَ: " مَرَّ رَجُلَانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لَا يُجَاوِزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا؛ فَقَالُوا لِأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ. قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ أُقَرِّبُ. قَالُوا: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا. فَقَرَّبَ ذُبَابًا، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَدَخَلَ النَّارَ. وَقَالُوا لِلْآخَرِ: قَرِّبْ. قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُقَرِّبَ لِأَحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ " (198). واكتفاء هؤلاء المشركين بتقريب الذباب اعتداد بأضعف مظاهر الطاعة، إذ المقصود الأعظم هو اعتقاد القلب، وهذا كالمثل العام المشهور: " أداها بوحجر " ... يعنون: أخذ الولاية أبو حجر. • مثل عامي: ويذكرون أن قائله [الشيخ] أحمد الزواوي دفين الجبل غربي قسنطينة وأحد شيوخ الطريقة الحنصالية من فروع الطريقة الشاذلية، قاله لرجل عديم جاء مع ¬

_ (198) ...... لم أقف عليه في " مسند الإِمام أحمد " وهو المراد عند إطلاق العزو إليه كما لا يخفى. قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في " تيسير العزيز الحميد " [ص:160]: " وقد طالعت " المسند " فما رأيته فيه، فلعلّ الإمام رواه في " كتاب الزهد " أو غيره "، والله أعلم. ثم وقفت على كتاب " النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد " تصنيف أبي سليمان جاسم الفهيد الدوسري- وأنا على وشك دفع الكتاب للطبع-؛ فالفيته قد خرّجه برقم (1240) فقال: " صحيح موقوفاً: رواه أحمد في " الزهد " (ص 15 و16)، وأبو نعيم في " الحلية " (1/ 203) عن طارق بن شهاب عن سلمان الفارسي موقوفاً بسند صحيح ". قال: " وقد أورد ابن القيّم- كما ذكر المصنف [ص:194]- إسناداً لها هو نفس إسناد الرواية الموقوفة إلّا أنه حذف منه (عن سلمان)؛ فصار (عن طارق بن شهاب)، ولا أظن هذا إلَّا وهماً من ابن القيم- رحمه الله-؛ فإن الروايتين متطابقتان تماماً ما عدا هذا، والله أعلم بالصواب ".

ما جاء في مخالفة الجاهلية في الذبح

الزوار، فلما انتهى إلى أصل الجبل، حمل معه حجراً، وصعد يلهث به، فلما قدم الناس الأموال للشيخ الزواوي؛ قدم له هو ذلك الحجر. • ما جاء في مخالفة الجاهلية في الذبح: 6 - وعن ابن عباس، أَنَّ قُرَيْشاً اسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَتِيرَةِ، فَقَالُوا: أَنَعْتِرُ فِي رَجَبٍ؛ فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعِتْرٌ كَعِتْرِ الْجَاهِلِيَّةِ؟ وَلَكِنْ مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَذْبَحَ لِلَّهِ وَيَتَصَدَّقَ؛ فَلْيَفْعَلْ» (199). وكان عترهم أن يذبحوا، ثم يعمدوا إلى دماء ذبائحهم، فيمسحوا بها رؤوس نصبهم. رواه الطبراني في " الكبير "، وفيه إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة، وثقه ابن معين وضعفه الناس، قاله في " مجمع الزوائد ". ¬

_ (199) ضعيف: أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (11/ 232/ حديث رقم: 11586) من طريق إبراهيم بن إسماعيل عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس به. وهذا سند ضعيف، وفيه ثلاث علل: 1 - إبراهيم بن إسماعيل: هو اليشكري، ويقال: هو النبال أو التبان، وقيل: لعلّه الصائغ: مجهول الحال، كما في " التقريب " (1/ 32)، و " الميزان " (1/ 20)، و " ديوان الضعفاء " (146) وغيرها. 2 - إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة: ضعيف، وبه أعلّه الهيثمي حين قال في " المجمع " (4/ 28): " وثقه ابن معين! وضعفه الناس "؛ إلاّ أنه قال: " إسماعيل بن إبراهيم " على القلب! وابن معين أختلف قوله في إبراهيم هذا كما في " الميزان " (1/ 19). 3 - داود بن الحصين: ثقة إلّا في عكرمة. قال عليّ بن المديني: " ما رواه عن عكرمة؛ فمنكر ". وقال أبو داود: " أحاديثه عن عكرمة مناكير، وأحاديثه عن شيوخه مستقيمة "، كما في " الميزان " (2/ 5).

7 - وفي " الصحيحين " وغيرهما عن أبي هريرة؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ» (200). 8 - وفي " سنن أبي داود " والنسائي وابن ماجه عن نُبَيْشَةَ- بلفظ المصغر- الهذلي، أنهم ذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَتِرَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: " «اذْبَحُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيِّ شَهْرٍ مَا كَانَ، وَبَرُّوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَطْعِمُوا» " (201). ومثله عند الطبراني في " الأوسط " عن أنس مرفوعاً. ¬

_ (200) رواه البخاري (9/ 596/ حديث رقم: 5473)، ومسلم (3/ 1564/ حديث رقم: 1976)، وأبو داود (2/ 8)، والترمذي (5/ 100/ حديث رقم: 1548)، وقال: " حسن صحيح "، والنسائي (7/ 167)، وابن ماجه (حديث رقم: 3168)، وأحمد (2/ 229 و239 و279 و490) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (201) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 75 و76)، وأبو داود (2/ 7 - 8)، والنسائي (7/ 169 - 171)، وابن ماجه (3167)، والحاكم (4/ 235) عن نُبيشة الهذلي به، وقال الحاكم: " صحيح الإِسناد " ووافقه الذهبي، وصححه ابن المنذر كما في " الفتح " (9/ 597) والألباني في " الإِرواء " (4/ 413). وأمّا حديث أنس: فأخرجه الطبراني في " الأوسط " - كما في " المجمع " و " الإِرواء " - عن معاوية بن واهب بن سوارثنا عمي أنيس عن أيوب عن أبي قلابة عنه مثله. قال الهيثمي (4/ 29) في معاوية وعمه أنيس: " كلاهما لا أعرفه ". قلتُ: عمه أنيس لعلّه المترجم في " الجرح والتعديل " (2/ 335/ 1270) لابن أبي حاتم، قال: " أنيس بن سوار الجرمي، أخو قتادة بن سوار، روى عن أبيه عن مالك بن الحويرث، روى عنه عبد الله بن أبي الأسود وابن مقدم وخليفة بن خياط وحميد بن مسعدة، سمعت أبي يقول ذلك ". قلتُ: فقد روى عنه جماعة وأورده ابن حبان في " الثقات " (6/ 82 و8/ 134)؛ فهو معروف مقبول الحديث، فتبقى العلة منحصرة في جهالة معاوية، والله أعلم. وانظر: " الإِرواء " (4/ 412).

معنى الإهلال لغير الله

• معنى الإِهلال لغير الله: وفي " تفسير الثعالبي ": أن معنى الإِهلال الصياح، ومنه استهلال المولود، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك في استعمالهم، حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم. وفي " تفسير ابن كثير " عن مجاهد وابن جريج؛ أن النصب حجارة كانت حول الكعبة، كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم، ويجعلونه على النصب. قال: " فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح (*) عند النصب، من الشرك الذي حرمه الله ورسوله ". وفي " تفسير الشوكاني "؛ أن مما أهل به لغير الله ما يقع من المعتقدين في الأموات من الذبح على قبورهم، ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن. وروى أبو علي القالي في " أماليه " خبر معاقرة جرت بقصد المفاخرة بين سحيم بن وثيل الريحاني وغالب بن صعصعة أبي الفرزدق أيام خلافة علي كرم الله وجهه، فأفتى فيها علي بأنها مما أهل به لغير الله، ونهى عن الأكل منها، وأمر بطرد الناس عنها (3/ 54). وذكر القرطبي عند تفسير {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} من سورة البقرة مثل ما قدمنا عن الثعالبي، وأعقبه بفتوى علي في حكم تلك المعاقرة، ثم نقل عن ابن عطية؛ أنه قال: " رأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها (جمع لعبة) عرساً، فنحرت جزوراً؟ فقال الحسن: لا يحل ¬

_ (*) كذا في " تفسير ابن كثير "، ولعلّ الصواب: فالذبح ... إلخ، فتأمل. [ناشر ط 3].

أكلها، فإنها إنما نحرت لصنم " (2/ 224). وقال النووي في " شرح مسلم " عند الكلام على حديث: " لعن من ذبح لغير الله ": " وأما الذبح لغير الله؛ فالمراد به أن يذبح بغير اسم الله تعالى؛ كمن ذبح لصنم، أو للصليب، أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما، أو للكعبة، ونحو ذلك؛ فكل هذا حرام. ولا تحل الذبيحهّ؛ سواء كان الذابح مسلماً أو نصرانيّاً أو يهوديّاً، نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا. فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له؛ كان ذلك كفراً؛ فإن كان الذابح مسلماً قبل ذلك؛ صار بالذبح مرتدّاً. وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحابنا أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه؛ أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله تعالى. قال الرافعي: هذا إنما يذبحونه استبشاراً بقدومه؛ فهو كذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب التحريم، والله أعلم ". وتفسير النووي الذبح لغير الله بالذبح بغير اسمه تعالى مبني على المعقول من أن ما يراد به غير الله يذكر عليه اسم ذلك الغير، وذكر اسم الله في هذه الحالة لغو؛ لأن النية هي علة التحريم، وتقدم تصريح ابن كثير بعدم الاعتداد بالتسمية في هذه الحال، ويأتي مثله عن الشاطبي، ومما لا ريب فيه أن المعاقرين قد ذكروا اسم الله عند العقر، ومع ذلك جعله علي مما أهل به لغير الله، وعطف النووي العبادة على التعظيم تقييد للتعظيم بما كان فيه معنى العبادة، ونقله عن الرافعي غير مخالف لفتوى أهل بخارى إلا بالقصد، فهو خلاف في حال؛ فمن قصد التقرب للأمير، صدقت عليه تلك الفتوى، ومن

قصد مجرد السرور؛ أفتي له بقول الرافعي. وقال الشاطبي في " الموافقات ": " روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي أجرى عيناً، فقال له المهندسون عند ظهور الماء: لو أهرقت عليها دماً؛ كان أحرى أن لا تغيض ولا تهور فتقتل من يعمل فيها. فنحر جزائر حين أرسل الماء، فجرى مختلطاً بالدم، وأمر فصنع له ولأصحابه منها طعام، فأكل وأكلوا، وقسم سائرها بين العمال فيها. فقال ابن شهاب: بئس والله ما صنع، ما حل له نحرها ولا الأكل منها، أما بلغه أن رسول - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يذبح للجن (202)؟! لأن مثل هذا- وإن ذكر اسم الله عليه- مضاهٍ لما ذبح على النصب وسائر ما أهل لغير الله به. وكذلك جاء النهي عن معاقرة الأعراب، وهي أن يتبارى الرجلان، فيعقر كل واحد منهما يجاود به صاحبه، فأكثرهما عقراً أجودهما، نهي عن أكله؛ لأنه مما أهل به لغير الله. ¬

_ (202) موضوع: أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (2/ 19) من طريق عبد الله بن أُذينة عن ثور بن يزيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة " أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذبائح الجِنّ ". أورده في ترجمة عبد الله بن أذينة وقال فيه: " منكر الحديث جداً، يروي عن ثور ما ليس من حديثه، لا يجوز الاحتجاج به بحال "، وفي " اللسان " (3/ 257): " وقال الحاكم والنقاش: روى أحاديث موضوعة، وقال الدارقطني: متروك الحديث ". ورواه أبو عبيد في " الغريب " والبيهقي من طريق يونس عن الزهري مرفوعاً. قال الحافظ في " التلخيص " (4/ 145): " وهو من رواية عمر بن هارون وهو ضعيف مع انقطاعه ". قلتُ: بل كذبه ابن معين وصالح جزرة، وقال ابن مهدي وأحمد والنسائي وغيرهم: متروك كما في " الميزان " (3/ 228)، وانظر: " ديوان الضعفاء " (3118) للذهبي.

قال الخطابي: وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان، وأوان حوادث يتجدد لهم، وفي نحو ذلك من الأمور، وخرج أبو داود: «نَهَى- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ أَنْ يُؤْكَلَ» (203)، وهما المتعارضين ليرى أيهما يغلب صاحبه. فهذا وما كان نحوه إنما شرع على جهة أن يذبح على المشروع بقصد مجرد الأكل؛ فإذا زيد فيه هذا القصد؛ كان تشريكاً في المشروع، ولحظاً لغير أمر اللهِ تعالى، وعلى هذا وقعت الفتيا من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز، وقوله فيها: إنها مما أهل لغير الله به، وهو باب واسع " (2/ 215). قوله: " وقد جاء النهي عن معاقرة الأعراب ": أخرجه أبو داود عن ابن عباس، قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مُعَاقَرَةِ الْأَعْرَابِ» (204). ¬

_ (203) صحيح: أخرجه أبو داود (2/ 138) عن جرير بن حازم، والحاكم (4/ 128 - 129) عن هارون ابن موسى النحوي، كلاهما عن الزبير بن الخِرّيت عن عكرمة عن ابن عباس، قال: ... " فذكره مرفوعاً. وقال الحاكم: " صحيح الإِسناد ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي! وقال أبو داود: " أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس، وهارون النحوي ذكر فيه عن ابن عباس أيضاً، وحماد بن زيد لم يذكر ابن عباس ". قلتُ: يريد أن أكثر الرواة أرسلوه، فالمحفوظ هو المرسل، وهو الذي صوّبه الحافظ الذهبي في " الميزان " (1/ 334) و " السير " (8/ 527)، لكن للحديث شاهد عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: «الْمُتَبَارِيَانِ لَا يُجَابَانِ وَلَا يُؤْكَلُ طَعَامُهُمَا» أخرجه البيهقي في " شعب الإِيمان "؛ كما في " الجامع الصغير " (6/ 259) للسيوطي، وزاد في " فيض القدير " نسبته لابن لال والديلمي، وانظر: " الصحيحة " (626) أيضاً. (204) حسن: أخرجه أبو داود (2/ 6)، قال: حدثنا هارون بن عبد الله ثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن =

الذبح للجن

وما نقله عن الخطابي ذكره في شرح هذا الحديث (4/ 278). وحديث طعام المتباريين أخرجه في كتاب الأطعمة عن ابن عباس. هذا حكم ما كان من الذبائح على وجه العادة أو على حكم العبادة، كما أعرب عنه الكتاب والسنة وكلام فحول الأئمة من مفسرين ومحدثين وأصوليين، والفقه إنما يكون من هذه العلوم الثلاثة، وبعد هذا البيان العام نخصص بالذكر ضربين من الذبائح هي ما يكون للجن، ومنه ما تسميه العامة النشرة، وما يكون على الأضرحة والمزارات مما يسميه بعض الناس اليوم زردة وبعضهم طعاماً. • الذبح للجن: فأما الذبح للجن " فقال في " الأساس ": " ونهى عن ذبائح الجن [وهي] ما ذبح للطيرة؛ نحو أن تشتري داراً فتذبح لتستخرج العين، ولئلا يصيبك مكروه من جنها ". وتقدمت فتوى ابن شهاب في الذبح لإِجراء العين والحكم عليه بحكم ما ذبح على النصب، وذلك لأنه من عبادة الجن التي كانت معروفة عند العرب، فأنكرها القرآن؛ قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام: 150]، ¬

_ = أبي ريحانة عن ابن عباس؛ قال: ... " فذكره. وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات رجال مسلم غير أبي ريحانة- واسمه عبد الله بن مطر - فصدوق كما قال الذهبي وابن حجر. وأخرج ابن أبي شيبة- كما في " الاقتضاء " [ص:260]- حدثنا وكيع عن أصحابه عن عوف الأعرابي عن أبي ريحانة؛ قال: سُئل ابن عباس عن معاقرة الأعراب؛ فقال: إني أخاف أن يكون مما أهل لغير الله به. وإسناده جيّد، رجاله ثقات صدوقون، وجهالة أصحاب وكيع لا تضر بل تغتفر لأنهم جماعة والعلم عند الله تعالى.

معنى النشرة وحكمها

وقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]. قال الراغب: " رهقه الأمر: غشيه بقهر ". وبين المفسرون للآية استعاذة العرب بالجن التي هي من معنى العبادة، فقالوا- واللفظ للكشاف-: " إن الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض مسايره، وخاف على نفسه، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه (يريد: الجن وكبيرهم)؛ فإذا سمعوا بذلك؛ استكبروا، وقالوا: سُدنا الجن والإِنس. فذلك رهقهم، أو فزاد الجن والإِنس رهقاً بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم ". • معنى النشرة وحكمها: والنشرة في كلام العرب- بضم فسكون- من النشر بمعنى التفريق، وهي تعويذ ورقية يعالج بها المريض والمجنون، تقول: نشرت المريض: إذا قرأت عليه كلمات أوكتبتها له ليعلقها تميمة أو ليمحوها ويشربها ويدهن بها، ونشرت عنه نشراً ونشرت تنشيراً: إذا رقيته بالنشرة، كأنك تفرق عنه العلة، وتطلق النشرة على السحر؛ كما في " معالم السنن " عن الحسن (4/ 220). وأنشد جرير: أَدْعُوكَ دَعْوَةَ مَلْهُوفٍ كَأَنَّ بِهِ … مَسّاً مِنَ الْجِنِّ أَوْ رِيحاً مِنَ النَّشْرِ وتطلق أيضاً على حل السحر عن المسحور. فإذا كان ذلك الحل بسحر أيضاً، فمحظور؛ لما في " سنن أبي داود ": أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنِ النُّشْرَةِ، فَقَالَ: «هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ» (205). ¬

_ (205) صحيح: =

وإن كان بدعوات مشروعة وأدوية مباحة، فلا ضير. وبالجملة: إن النشرة من الطب، ولها حكم الرقية والتميمة. والنشرة في لسان عوامنا: طعام يتخذ على ذبيحة من الدجاج غالباً تقرباً إلى الجن كي يرفعوا داءهم عن المصاب بهم، ولا يذكرون اسم الله على ¬

_ = أخرجه أبو داود (2/ 152)؛ قال: حدثنا أحمد بن حنبل- وهذا في " مسنده " (3/ 294) - ثنا عبد الرزاق ثنا عقيل بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يحدث عن جابر بن عبد الله، قال: سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النشرة فقال: ... " الحديث. وإسناده حسن، رجاله ثقات معروفون غير عقيل بن معقل؛ فصدوق كما في " التقريب ". وأخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " (11/ 13/ 19762)؛ قال: أخبرنا عقيل بن معقل عن همام بن منبه قال: سئل جابر بن عبد الله عن النشر؛ فقال: من عمل الشيطان. وإسناده حسن أيضاً. وللحديث شاهد من حديث أنس أخرجه البزار (3/ 393 - 394/ 3034 - كشف الأستار)، والحاكم (4/ 418) عن مسكين بن بكير عن شعبة عن أبي رجاء عن الحسن عنه مرفوعاً، وقال الحاكم: " هذا حديث صحيح، وأبو رجاء هو مطر الوراق، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. وقال البزار: " لا نعلم أسنده عن شعبة إلا مسكين، وهو حراني مشهور، ولا أسند شعبة عن أبي رجاء إلّا هذا، وأبو رجاء اسمه محمد بن سيف، وهو بصري مشهور، روى عنه شعبة ويزيد بن زريع وإسماعيل بن علية ونوح بن قيس الطاحي ويوسف بن داود السمتي ". وقال الهيثمي (5/ 102): " رواه البزار والطبراني في " الأوسط " إلّا أنه قال: " ذكروا أنها من عمل الشيطان "، ورجال البزار رجال الصحيح. وله شاهد آخر أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 434)؛ قال: حدثنا ابن عيينة وأبو أسامة، وأبو داود في " مراسيله " (435)، حدثنا علي بن الجعد، ثلاثتهم عن شعبة عن أبي رجاء عن الحسن مرسلاً. والحديث حسنه الحافظ في " الفتح " (10/ 233)، وقال ابن مفلح: إسناده جيد كما في " فتح المجيد " [ص:259]، والله أعلم.

معنى الزردة والغرض منها

الذبيحة إرضاء للجن. فالفقهاء الاصطلاحيون يقتصرون على منع الأكل منها لفقد التسمية، والفقهاء في الدين يحكمون بأنها من مظاهر الشرك الأكبر، حيث تقرب بها إلى غير الله قصداً، ولم يلتجئ إلى الله في طرد ذلك الجني، كأنه مستقل في تصرفه، خارج عن متناول قدرة الله وإرادته، وأصل الشرك نسبة القوة الغيبية لغير الله. • معنى الزردة والغرض منها: وأما الزردة؛ فهي في لسان العرب: المرة من زرد اللقمة- كَفَهِمَ- زرداً: بلعها، وازدردها: ابتلعها. وهي في عرفنا طعام يتخذ على ذبائح من بهيمة الأنعام عند مزارات من يعتقد صلاحهم، ولها وقتان: أحدهما: في فصل الخريف عند الاستعداد للحرث. والآخر: في فصل الربيع عند رجاء الغلة. والغرض منها التقرب من ذلك الصالح كي يغيثهم بالأمطار تسهيلاً للحرث أو حفظاً للغلة، فهو عندهم كوزير عند ملك يرشونه بالزردة ليقضي حاجتهم عند الله!! ما أجهلهم بمقام الألوهية!! • حكم الزردة: وهذه الزردة يذكرون اسم الله على ذبيحتها، ونيتهم الذبح للصالح عندهم، فأعمل الجامدون من الطلبة جانب اللفظ، ورأوا إباحة أكلها، وهم يقرؤون قول خليل في نيّة المصلي ولفظه: " وإن تخالفا، فالعقد "؛ يريد أن العبرة عند اختلاف القلب واللسان بما يعقده القلب لا بما يلفظه اللسان، وهي قاعدة عامة في جميع الطاعات، لحديث الشيخين: " «إِنَّمَا الْأَعْمَال

الدلائل على كون الزردة لغير الله

بِالنِّيَّاتِ» (206)، وحديث مسلم عن أبي هريرة عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ, وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ» (207)، ومن كلام العامة: " القلب قاصد واللسان فاسد "، وتقدم القول بأن النيّة هي علة التحريم، وأن اللفظ باسم الله مع القصد إلى سواه غير رافع للحرمة. وقد يقول الجامدون والمغرضون: إنا نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر، وقد ظهر من حال الذابح أنه ذكر اسم الله، فلا نبحث عن نيته الباطنة! فنقول لهم: أولاً: إن المفتي لا يقتصر دائماً على الظواهر؛ ففي الأيمان والطلاق مسائل تنبني على النية والقصد، ويختلف حكمها باختلاف النية مع اتحاد اللفظ، بل تقدم قريباً الاستناد إلى النية في حكم الذبائح عن علي وغيره. وثانياً: إن من السرائر ما تحف به قرائن تجعل الحكم للنية ولا تقبل معه الظواهر. وذبائح الزردة من هذا القبيل؛ فإن كل من خالط العامة يجزم بأن قصدهم بها التقرب من صاحب المزار، ويكشف عن ذلك أشياء: • الدلائل على كون الزردة لغير الله: أحدها: أنهم يضيفون الزردة إلى صاحب المزار؛ فيقولون: زردة سيدي ¬

_ (206) رواه البخاري (1/ 9/ حديث رقم: 1)، ومسلم (3/ 1515 - 1516/ حديث رقم: 1907) وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ». (207) رواه مسلم (4/ 1986 - 1987/ 2564) عن أبي هريرة، وفي رواية له: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».

القول بأن الزردة شرك

فلان، أو: طعام سيدي عبد القادر، مثلاً. ثانيها: أنهم يفعلونها عند قبره وفي جواره، ولا يرضون لها مكاناً آخر. ثالثها: أنهم إن نزل المطر إثرها نسبو إلى سر المذبوح له، وقوي اعتقادهم فيه وتعويلهم عليه. رابعها: أنهم إن نهوا عن فعلها في المكان الخاص، غضبوا ورموا الناهي بضعف الدين أو بالإِلحاد، وقد يجاوزون الجهر بالسوء من القول إلى مد الأيدي بالإِذاية. خامسها: أنهم لو تركوها فأصيبوا بمصيبة نكسوا على رؤوسهم وقالوا: إن وليهم غضب عليهم لتقصيرهم في جانبه. فهذه دلائل من أحوال الناس وأفعالهم وأقوالهم التي لم يلقنها لهم المكابرون المتسترون وراء التأويل تريك أن ذبائح الزردة مما ذبح على النصب وأهل به لغير الله وإن ذكر عليها اسمه. • القول بأن الزردة شرك: وبعد؛ فإن نظر الناس اليوم إلى الزردة على ثلاث درجات: الأولى: أنها من الشرك، فيجب على العلماء تحذير الأمة منها والنصح باجتنابها، ويجب على الأمة الاتباع والمبادرة إلى الإِقلاع. ودليل ذلك مشابهتها في المعنى لعتائر الجاهلية وقرابينها واجتماعاتها على أنصابها وأصنامها، وتقدم حكم الشرع في ذلك، ومشابهتها في الصورة لعقر الجاهلية على قبور أجاودهم.

وقد روى أبو داود عن أنس، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ» (208). قال الشاطبي: " كان أهل الجاهلية يعقرون الإِبل على قبر الرجل الجواد؛ يقولون: نجازيه على فعله، لأنه كان يعقرها في حياته، فيطعمها الأضياف، فنحن نعقرها عند قبره؛ لتأكلها السباع والطير، فيكون مطعماً بعد مماته كما كان مطعماً في حياته ... ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره؛ حشر في القيامة راكباً، ومن لم يعقر عنه، حشر راجلاً " (1/ 316). وعن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب؛ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيءُ إِلَى فُرْجَةٍ كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَدْخُلُ فِيهَا فَيَدْعُو فَنَهَاهُ فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَمَا كُنْتُ» (209). رواه أبو يعلى، ¬

_ (208) صحيح. أخرجه أبو داود (2/ 71)، وأحمد (3/ 197) في أثناء حديت، من طريق عبد الرزاق ثنا معمر عن ثابت عن أنس مرفوعاً. وهذا سند صحيح على شرط الشيخين، والله أعلم. (209) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في " مصحفه " (2/ 268) - وعنه أبو يعلى في " مسنده " (1/ 245/ 465) - حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم- من ولد ذي الجناحين-؛ قال: حدثي علي ابن عمر عن أبيه عن علي بن الحسير أنه رأى رجلًا يجيء إلى فرجة ... " الحديث. قال الهيثمي في " المجمع " (4/ 3) - كما نقله المؤلف! -: " رواه أبو يعلى وفيه جعفر (في الأصل: حفص!) بن إبراهيم الجعفري، ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً، وبقيه رجاله ثقات ". قلتُ: وعلي بن عمر- وهو ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب- مستور؛ كما في " التقريب " (2/ 41). لكن للحديث شواهد يتقوى بها وهي: =

وفيه حفص بن إبراهيم الجعفري، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحاً، وبقية رجاله ثقات، قاله في " مجمع الزوائد ". ومَرَّ نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن جعل قبره وثناً. واتخاذ القبر وثنا بأن يطلب من صاحبه ما لا يطلب إلا من الله، واتخاذه عيداً بأن يزار زيارة مؤقتة تجتمع لها الناس في زينة وسرور على عمل سن العادات أو سن العبادات، وكل من معنى العيد والوثن موجود في الزردة. ¬

_ = 1 - ما أخرجه أحمد (2/ 367)، وأبو داود (1/ 319) عن أبي هريرة مرفوعاً، وإسناده حسن كما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في " الاقتضاء " [ص:321]، وصححه النووي في " الأذكار " [ص:97]. 2 - ما أحرجه أبو يعلى في " مسنده " (6/ 170/ 6728)؛ قال: حدثنا موسى بن محمد ابن حيان حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا عبد الله بن نافع أخبرني العلاء بن عبد الرحمن؛ قال: سمعت الحسن بن أبي طالب؛ فذكره مرفوعاً بنحوه. قلتُ: موسى شيخ أبي يعلى أورده في " الميزان " (4/ 221) وقال: " ضعفه أبو زرعة ولم يترك "، وأمّا ابن أبي حاتم فقال في " الجرح والتعديل " (8/ 161): " ترك أبو زرعة حديثه، ولم يقرأه علينا كان قد أخرجه قديماً في فوائدهِ ". وانظر: " اللسان " (6/ 130)، وعبد الله بن نافع مولى ابن عمر ضعيف كما في " الميزان " و " التقريب " وغيرهما، والله أعلم. 3 - ما أخرحه ابن أبي شيجة في " مصنفه " (2/ 269)، وعبد الرزاق في " مصنفه " (3/ 577/ 6726) - وسعيد بر منصور في " سننه " كما في " الاقتضاء " (ص 322 - 323 - ، وإسماعيل القاضي في " فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - " (رقم: 30) من طريقين عن سهيل بن أبي سهيل عن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب مرسلًا. 4 - ما رواه سعيد بن منصور- كما في " الاقتضاء " [ص:322] أيضاً- عن أبي سعيد مولى المهري مرسلًا. قال ابن تيمية في " الاقتضاء " [ص:323]: " فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله، وذلك يقتضي ثبوته عنده، لو لم يكن روي من وجوه مسندة غير هذين؛ فكيف وقد تقدم مسنداً؟ ".

القول بأن الزردة معصية

• القول بأن الزردة معصية: الدرجة الثانية: أنها معصية لا تنتهي إلى الشرك، وقوفاً عند الظواهر التي تشتمل الزردة عليها؛ من إسراف، واستدانة، وشهود مناكر من تطبيل وتزمير ورقص وصياح وتخبط كالذي يتخبطه الشيطان من المس، إلى موبقات أخر من خمر واختلاء بالأجنبيات واختلاط بهن، وإن لم تشتمل زردة ضعيفة الشهرة على كل هذه المخازي والنقائص؛ لم تخل من بعضها، وقد بنى هذا الفريق نظره على حكم الفروع فأصاب، وأغفل جهات الأصول فأخطأ. • القول باستحسان الزردة وما يرد عليه: الدرجة الثالثة: استحسانها؛ نظراً إلى ما يقع من التزاور ومواساة الفقراء، ثم هي داخلة في النذر وإهداء الثواب للميت!! أما ما فيها من التزاور والمواساة؛ فالجواب عنه: أولاً: إن أغلب المجتمعين يضيعون الصلوات يوم الزردة، ولا يشهد كثير منهم الجمع والأعياد، ولا يصلون الأرحام، وكثير من الفقراء والأيتام مقهورون عن الزردة منهورون. وثانياً: إن المقصود بالذات هو التقرب من صاحب الضريح. وثالثاً: إن ما في الزردة من مفاسد أطم من ذلك الطفيف من المحاسن لو قصد بالذات، وغلبة مفسدة الشيء على مصلحته دليل الحظر منه- كما قال العلماء- أخذاً من قوله تعالى في الخمر والميسر: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. ثم لو كانت الزردات خيراً- وهي كثيرة عندنا-؛ لظهر خيرها، أو لقلت كما قل كل خير، ولكان السلف أولى بها كما هم أولى منا بكل خير.

فهل فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - على قبر سيد الشهداء عمه حمزة؟! أم صنعها الصحابة على القبر الشريف؟! أم اتخذها التابعون على قبور الخلفاء أو الشهداء أو غيرهم ممن كل واحد منهم خير من ألف ممن يزردون لهم اليوم؟! كلا؛ لم يكن شيء من ذلك. لو ضبطنا ما ينفق بوطننا الجزائري على الزردات؛ لهالنا الأمر واستهوتنا الأحزان، إذ نرى التبذير الذي لا يحتمل، في حين حاجتنا الشديدة إلى التعليم الحر، وعجزنا ماليّاً عن سدها. وقد سألت ذات عام تجار الجلفة عما خرج في زردة سيدي عبد العزيز الحاج، وهي على أميال منهم؛ فذكروا لي في خصوص ما باعوه من زيت السيارات المعبر عنه بالليصانص مبلغاً عظيماً نسيته الآن، ولكنه نحو المئة ألف فرنك، هذا في خصوص الزيت، وفي تلك المسافة القليلة، فانظر مبلغ ما اشتري من الزيت من غير الجلفة، وما خرج في غيره من خمر ولهو ثم من لحم ودقيق وغير ذلك، على أن هذه الزردة من متوسط الزردات، وأعلى منها زردة سيدي عابد من نواحي تيهرت (تيارات). إن ما يخرج في الزردات يعد بعشرات الملايين، وتصور ذلك يقف بك على الخسارة الفادحة التي لم تقف على الوجه المادي، بل تناولت ناحية الأخلاق والدين، فاستفرغت الأيدي من المال، والأدمغة من العقول، والأفئدة من الدين، وقضت على الذرية بالإِهمال؛ فكانت خسارة إيجابية في الجهل والجمود والفقر والعصيان، وسلبية في العلم والتفكير والثروة والطاعة؛ فيا ليتها أبقت علينا ديننا، فتمثلنا بقول من مضى:

الحكم للزردة بحكم النذر

إِذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ … فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِرِ • الحكم للزردة بحكم النذر: وأما إدخال الزردات في النذر وإهداء الثواب؛ فقد صوره أحدهم بقوله: " لله علي شاة أو بدنة أو بقرة لسيدي فلان صدقة عليه، أو إن شفى الله مريضي أو ولد لي ولد؛ فعليّ إطعام كذا بمحل كذا ". وهذه الصيغة لا تعرف العامة لفظها ولا معناها؛ فليست تصويراً لما في نفوسهم، إنما هي تأويل فيه تضليل، ثم لا يتأيد من الدين بدليل. • ما جاء في النذر للأوثان وعلى أعياد الجاهلية: عن ميمونة ابنة كردم رضي الله عنهما عن أبيها، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ ثَلَاثَةً مِنْ إِبِلِي، فَقَالَ: - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنْ كَانَ عَلَى جَمْعٍ مِنْ إِجْمَاعِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ عَلَى عِيدٍ مِنْ أَعْيَادِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ عَلَى وَثَنٍ فَلَا. وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَاقْضِ نَذْرَكَ» (210). رواه أحمد، وفيه من لم أعرفه، قاله في ¬

_ (210) صحيح: أخرجه أحمد (4/ 64 و5/ 376): ثنا أبو بكر الحنفي أنا عبد الحميد بن جعفر عن عمرو ابن شعيب عن ابنة كردمة عن أبيها أنه سأل ... " فذكره، وزاد في آخره: " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ عَلَى أُمِّ هَذِهِ مَشْيًا، أَفَأَمْشِي عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ». وأخرجه أبو داود (3315 - طبعة محيي الدين عبد الحميد): حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو بكر الحنفي به بنحوه مختصراً. وهذا سند رجاله ثقات معروفون، وبالصدق موصوفون، فالإِسناد جيّد لولا أن فيه انقطاعاً بين عمرو بن شعيب وميمونة، وهي من صغار الصحابة رضي الله عنهم، وعمرو لم يسمع منهم سوى من الرّبيع بنت معوّذ وزينب بنت أبي سلمة رضي الله عنهما كما في " سير النبلاء " (5/ 165 و177)، و " جامع التحصيل " [ص:244]؛ فلا أدري وجه قول الهيثمي في " المجمع " (4/ 191) - كما نقله عنه المؤلف-: " وفيه من لم أعرفه "! والله أعلم. =

" مجمع الزوائد " (4/ 191). وأخرجه أبو داود من طريقها بلفظ: إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ وُلِدَ لِي ذَكَرٌ أَنْ أَنْحَرَ عَلَى رَأْسِ بُوَانَةَ فِي عَقَبَةٍ مِنَ الثَّنَايَا عِدَّةً مِنَ الْغَنَمِ. قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَلْ بِهَا مِنْ هَذِهِ الأوْثَانِ؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «فَأَوْفِ بِمَا نَذَرْتَ بِهِ لِلَّهِ» (211). ¬

_ = وللحديث طرق وشواهد يتقوى بها ويصح؛ فانظر التخريجين التاليين برقم (211) و (212). (211) صحيح: أخرجه أحمد (6/ 366)، وأبو داود (3314)، وابن ماجه (2131) مختصراً بنحوه، عن ميمونة بنت كردم؛ قَالَتْ:- والسياق لأبي داود- خَرَجْتُ مَعَ أَبِي فِي حِجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَعَلْتُ أُبِدُّهُ بَصَرِي، فَدَنَا إِلَيْهِ أَبِي، وَهُوَ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ مَعَهُ دِرَّةٌ كَدِرَّةِ الْكُتَّابِ، فَسَمِعْتُ الْأَعْرَابَ وَالنَّاسَ يَقُولُونَ: الطَّبْطَبِيَّةَ الطَّبْطَبِيَّةَ، فَدَنَا إِلَيْهِ أَبِي، فَأَخَذَ بِقَدَمِهِ، قَالَتْ: فَأَقَرَّ لَهُ، وَوَقَفَ فَاسْتَمَعَ مِنْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ وُلِدَ لِي وَلَدٌ ذَكَرٌ أَنْ أَنْحَرَ عَلَى رَأْسِ بُوَانَةَ، فِي عَقَبَةٍ مِنَ الثَّنَايَا، عِدَّةً مِنَ الْغَنَمِ- قَالَ: لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهَا قَالَتْ: خَمْسِينَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَلْ بِهَا مِنَ الأَوْثَانِ شَيْءٌ؟». قَالَ: لَا، قَالَ: «فَأَوْفِ بِمَا نَذَرْتَ بِهِ لِلَّهِ» قَالَتْ: فَجَمَعَهَا فَجَعَلَ يَذْبَحُهَا، فَانْفَلَتَتْ مِنْهَا شَاةٌ، فَطَلَبَهَا وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَوْفِ عَنِّي نَذْرِي؛ فَظَفِرَهَا فَذَبَحَهَا. قال المنذري في " مختصر السنن " (3/ 45): " اختلف في إسناد هذا الحديث، وفي إسناده من لا يعرف ". وأخرج أحمد (3/ 419) عن ميمونة بنت كردم عن أبيها كردم بن سفيان، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَذْرٍ نُذِرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلِوَثَنٍ أَوْ لِنُصُبٍ؟». قَالَ: لَا، وَلَكِنْ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. قَالَ: «فَأَوْفِ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا جَعَلْتَ لَهُ، انْحَرْ عَلَى بُوَانَةَ، وَأَوْفِ بِنَذْرِكَ». قال الهيثمي (4/ 191): " وفيه من لا يعرف ". وأخرجه أيضاً ابن ماجه (2131) بنحوه مختصراً، وقال البوصيري في " الزوائد ": " إسناده صحيح "! وقال الشوكاني في " السيل الجرار " (4/ 35) و " نيل الأوطار " (8/ 249): " رجاله رجال الصحيح! ". =

قال الخطابي في " شرحه ": " وفيه دليل على أن من نذر طعاماً أو ذبحاً بمكة أو [في] غيره من البلدان؛ لم يجز أن يجعله لفقراء غير أهل هذا المكان، وعلى هذا مذهب الشافعي، وأجازه غيره لغير أهل المكان " (4/ 60). و (بوانة) - بضم الباء وتخفيف الواو-: هضبة وراء ينبع قريبة من ساحل البحر، قاله ياقوت في " معجم البلدان ". وأخرجه أبو داود أيضاً عن ثابت بن الضحاك بلفظ: إِنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إبِلًا بِبُوَانَةَ. فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَكَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟». قَالُوا: لَا. قَالَ: «فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟». قَالُوا: لَا. قَالَ: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» (212). ¬

_ = وللحديث شواهد تقويه، منها حديث ثابت بن الضحاك المخرّج بعده برقم (212)، وحديث عبد الله بن عمرو أخرجه أبو داود (3/ 81)، وحديث ابن عباس أخرجه ابن ماجه (2130)، والله أعلم. (212) صحيح: أخرجه أبو داود (2/ 80 - 81) حدثنا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي حدثني يحمس بن أبي كثير حدثني أبو قلابة حدثني ثابت بن الضحاك؛ قال: نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلًا بِبُوانة، فأتى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نذرتُ ... الحديث. وأخرجه الطبراني في " الكبير " (2/ 75 - 76/ 1341) من طريق شعيب به. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في " الاقتضاء " [ص:186]: " أصل هذا الحديث في " الصحيحين "، وهذا الإِسناد على شرط " الصحيحين "، وإسناده كلهم ثقات مشاهير، وهو متصل بلا عنعنة ". وقال الحافظ ابن حجر في " بلوغ المرام " (4/ 114 - بشرح سبل السلام) بعدما عزاه لأبي داود والطبراني: " وهو صحيح الإِسناد، وله شاهد من حديث كردم عند أحمد ". وصححه في " التلخيص الحبير " (4/ 180/ حديث رقم: 2070) أيضاً.

المزارات من الأوثان

قال في " نيل الأوطار ": " وفيه دليل على أنه يجب الوفاء بالنذر في المكان المعين إذا لم يكن في التعيين معصية ولا مفسدة من اعتقاد تعظيم جاهلية أو نحوه " (8/ 208). • المزارات من الأوثان: وإذا قيل للناس: إن هؤلاء الضرائح والمزارات من الأوثان، قالوا: إنكم تسبون الصالحين!! يا إخواننا! افهموا لغة العرب والدين؛ تجدوا أن ذلك ليس من الطعن على الأولياء، فإن كل ما نصب ليعبد من دون الله، فهو وثن أو صنم، وكل من عبده؛ فهو هالك، وليس كل معبود من دون الله هالكاً. قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [لأنبياء: 98 - 151]؛ فتلك المزارات والضرائح من الأوثان، وإن كانت منسوبة إلى ولي صالح. • تعيين مكان في النذر: وتلك الاجتماعات عليها للزردات هي من أعياد الجاهلية؛ فلو فرضنا أحداً نذر لها شيئاً؛ فهو عاصٍ بالوفاء به، فإن أضاف إليه التقرب من صاحبها؛ فهو مشرك، وإن عيّن الناذر مكاناً سالماً من تلك الزردات، وقصد به إعانة الأحياء من أهله؛ تعيّن عليه الوفاء في ذلك المكان عند الشافعي، كما تقدم عن الخطابي، أما مذهب مالك؛ فقال الزرقاني في " شرح مختصر خليل ": " من عبر بغير الهدي والبدنة؛ فإن جعله لمكة؛ فحكمه حكم الفدية، وإن جعله لغيرها كقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو كقبر ولي؛ فإن كان مما يهدى، وعبر عنه بلفظ بعير أو خروف أو

النذر للمشاهد

جزور؛ نحره أو ذبحه بموضعه، وفرق لحمه للفقراء، وإن شاء، أبقاه، وأخرج مثل ما فيه من اللحم، ويمتنع بعثه عند القبر، ولو للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو قصد به الفقراء الملازمين له؛ لقول " المدونة " كما في التتائي: " سوق الهدايا لغير مكة ضلال "، وأما إن كان مما لا يهدى به؛ كثوب، أو دراهم، أو طعام، فإن قصد بذلك الملازمين للقبر الشريف أو لقبر الولي- ولو أغنياء-؛ أرسله لهم، وإن قصد نفس النبي أو الشيخ (أي الثواب له)؛ تصدق به بموضعه " (3/ 130). • النذر للمشاهد: وفي " فتح المجيد ": " قال الرافعي في " شرح المنهاج ": وأما النذر للمشاهد التي على قبر ولي أو شيخ، أو على اسم من حلها من الأولياء أو تردد في تلك البقعة من الأولياء والصالحين؛ فإن قصد الناذر بذلك- وهو الغالب أو الواقع من قصود العامة- تعظيم البقعة والمشهد أو الزاوية، أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه أو بنيت على اسمه؛ فهذا النذر باطل غير منعقد، فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء ويستجلب بها النعماء ويستشفى بالنذر لها من الأدواء، حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم: إنه استند إليها عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت، ويقولون: القبر الفلاني أو المكان الفلاني يقبل النذر؛ يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض أو قدوم غائب أو سلامة مال وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة، فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه، بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقاً، ومن ذلك نذر الشمع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل عليه السلام ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء، فإن الناذر لا يقصد بذلك الإِيقاد على القبر إلا تبركاً وتعظيماً، ظانّاً أن ذلك قربة، فهذا مما لا ريب في بطلانه، والإيقاد المذكور [محرّم]، سواء انتفع به هنالك منتفع أم لا.

قال الشيخ قاسم الحنفي في شرح " درر البحار ": " النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد؛ كأن يكون للإِنسان غائب أو مريض، أو له حاجة؛ فيأتي إلى بعض الصلحاء، ويجعل على رأسه سترة، ويقول: يا سيد فلان! إن رد الله غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب كذا، أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من الماء كذا، أو من الشمع والزيت كذا؛ فهذا النذر باطل بالإِجماع، لوجوه، منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق. ومنها: أن المنذور له ميت، والميت لا يملك. ومنها: أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقاد ذلك كفر ... ". إلى أن قال: " إذا علمت هذا، فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأولياء تقرباً إليها، فحرام بإجماع المسلمين " [ص:114]. {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17 - 18]. • • • • •

النذر والغفارة

27 - النذر والغفارة • معنى النذر: النذر مصدر نذر الشيء ينذره؛ كضربه يضربه، وقتله يقتله، ومعناه: إيجاب الشيء على النفس مطلقاً، وقيل: بشرط. وجرى الراغب على الثاني؛ فقال: " أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر ". ومثله قول ثعلب: " النذر وعد بشرط "؛ حكاه الخطابي. وذكر صاحب " القاموس " المعنيين بقوله: " نذر على نفسه ينذُر وينذِر نذراً ونذوراً: أوجبه؛ كانتذر، ونذر ماله ونذر لله سبحانه كذا، أو: النذر ما كان وعداً على شرط؛ فعليّ إن شفى الله مريضي كذا نذراً، وعليَّ أن أتصدق بدينار ليس بنذر ". • نذر الجاهلية: والمعنى الثاني للنذر يسميه المحدثون نذر المجازاة، والفقهاء النذر المعلق، وتسميه عامتنا الوعدة. ومنه ما حكاه في " الصحاح " عن الجاهلية فقال: " وربما كان الرجل ينذر

الغرض من نذر المجازاة وحكمه

نذراً: إن رأى ما يحب؛ يذبح كذا وكذا من غنمه؛ فإذا وجب؛ ضاقت نفسه من ذلك، فيعتر بدل الغنم ظباء ". وتقدم بيان العتر في الفصل العاشر، وذكرنا ثمت طريقتهم في النذر لله والأصنام التي نعتها تعالى بقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ ... } الآية [الأنعام: 136]، وهذا يحتمل أن يكون من النذر المطلق، فتكون العرب قد عرفت نوعي النذر، ولكن لم تجر فيهما على شرع إلهي؛ فأنكر عليها الإِسلام نذرها. قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 153]. وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56]. وعن ابن عمر؛ أنه قال: أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنِ النَّذْرِ؟ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ النَّذْرَ لاَ يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلاَ يُؤَخِّرُ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنَ البَخِيلِ». أخرجه الشيخان وغيرهما (213). • الغرض من نذر المجازاة وحكمه: ونذر المجازاة لا يخلو: إما أن يعتقد الناذر أن له دخلاً في تحقيق ما علقه عليه أو لا. وعلى الحالة الأولى حمل الخطابي في " معالم السنن " حديث ابن عمر، فقال: " وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجلب لهم [في] العاجل نفعاً، ¬

_ (213) أخرجه البخاري (11/ 575/ 6692)، ومسلم (3/ 1260 - 1261/ 1639)، وأبو داود (2/ 78)، والنسائي (7/ 15 - 16)، وابن ماجه (2122)، والدارمي (2/ 185)، وأحمد (5275 و5592 و5994) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ولا يصرف عنهم ضرّاً، ولا يرد شيئاً قضاه الله؛ يقول: فلا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئاً لم يقدره الله لكم، أو تصرفون عن أنفسكم شيئاً جرى القضاء به عليكم " (4/ 53). وعلى الحالة الثانية حمله الباجي في " المنتقى "، فقال: " إنما معنى ذلك أن تنذر لمعنى من أمر الدنيا، مثل أن تقول: إن شفى الله مريضي، أو قدم غائبي، أو نجاني من أمر كذا، أو رزقني كذا، فإني أصوم يومين، أو أصلي صلاة، أو أتصدق بكذا، فهذا المكروه المنهي عنه " (3/ 228). وأباح ابن رشد في المقدمات هذه الحالة، وفي قوله وقول الباجي يقول خليل: " وفي كره المعلق قولان ". وذكر القرطبي في " المفهم " الحالتين، فنقل عنه الحافظ في " الفتح " أنه قال: " هذا النهي محله أن يقول مثلاً: إن شفى الله مريضي، فعليَّ صدقة كذا. ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكور على حصول الغرض المذكور؛ ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى؛ لما صدر منه، بل سلك فيها مسلك المعاوضة، ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه؛ لم يتصدق بما علقه على شفائه، وهذه حالة البخيل؛ فإنه لا يخرج من ماله شيئاً إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالباً، وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث بقوله: «وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنَ البَخِيلِ»؛ ما لم يكن البخيل يخرجه. قال: وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن الله يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإِشارة بقوله في الحديث أيضاً: «فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ شَيْئًا»، والحالة الأولى تقارب الكفر، والثانية خطأ صريح. قلت (هو الحافظ): بل تقرب من الكفر أيضاً.

النذر الشرير والشركي

ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة، وقال: الذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد، فيكون إقدامه على ذلك محرماً، والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك " اهـ. وهو تفصيل حسن (11/ 49). وفي تفصيل القرطبي واستحسان الحافظ له شهادة أخرى لتفرقتنا في التوسل بالذات والجاه بين العالم والجاهل. • النذر الشرير والشركي: والخلاصة أن النذر المشروع لا يكون إلا لله، وأن المحمود منه ما لم يكن معلقا على حصول غرض دنيوي، وأن المعلق منهي عن الإِقدام عليه نهي تحريم أو كراهة، وقد يؤدي إلى الكفر، لكن بعد وقوعه يجب الوفاء به؛ لحديث أبن عمر: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ النَّذْرِ وَأَمَرَنَا بِالْوَفَاءِ بِهِ» (214). رواه الطبراني في " الكبير " بإسنادين، رجال أحدهما رجال الصحيح. قاله في " مجمع الزوائد ". فإن كان النذر للمخلوق من نبي أو ولي، فهو شرك بالله في هذه العبادة، يحرم الإِقدام عليه والوفاء به معاً، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا نَذْرَ إِلا فِيمَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللهِ تَعَالَى» (215). رواه أحمد ¬

_ (214) ..... أخرجه الطبراني في " الكبير " بإسنادين رجال أحدهما رجال " الصحيح ". قاله الهيثمي في " المجمع " (4/ 185) كما نقله المؤلف، والعلم عند الله تعالى. (215) حسن: أخرجه أحمد (11/ 22/ 6732)، وأبو داود (2192 و3273) من طرق عن عبد الرحمن ابن الحارث المخزومي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه مرفوعاً به. =

نذر العوام

وأبو داود والبيهقي والطبراني [في " الأوسط "]، وفي سند الطبراني عبد الله بن نافع المدني ضعيف، وليس هو في سند أبي داود، ولحديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ؛ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ؛ فَلَا يَعْصِهِ» (216)، رواه البخاري وأصحاب " السنن ". • نذر العوام: وقد أصبح الناس في جاهليتهم الحاضرة ينذرون لمن يعتقدون فيه من الأحياء والأموات والمزارات الأموال والثياب والحيوانات والشموع والبخور والأطعمة وسائر المتمولات، ويعتقدون أن نذرهم سبب يقربهم من رضى المنذور له، وأن لذلك المنذور له دخلا في حصول غرضهم؛ فإن حصل مطلوبهم، ازدادوا تعلقاً بمن نذروا له، واشتدت خشيتهم منه، وبذلوا أقصى طاقتهم في الاحتفال بالوفاء له، ولم يستسيغوا لأنفسهم التقصير أو التأخير كما ¬

_ = وهذا إسناد حسن؛ للخلاف المعروف في عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والذي استقر عليه رأي المحققين فيه أنه حسن، والمخزومي هو ابن عبد الله بن عياش " صدوق له أوهام " كما في " التقريب " (1/ 476). وقد حسنه الشوكاني في " السيل الجرار " (4/ 36)، والألباني في " صحيح سنن أبي داود " (1918 و2801)، وصححه أحمد شاكر في " تعليقه على المسند ". وأخرجه أحمد (6714 و6975) بلفظ: " إنما النذر ما ابْتُغِي به وجه الله عزّ وجلّ " وإسناده حسن أيضاً. وأخرجه الطبراني في " الأوسط " بلفظ: «إِنَّمَا النَّذْرُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، وفيه عبد الله بن نافع المدني وهو ضعيف كما قال الهيثمي في " المجمع " (4/ 187). (216) رواه البخاري (11/ 581/ 6696)، وأبو داود (2/ 78)، والترمذي (5/ 123/ 1564)، وقال: " حسن صحيح "، والنسائي (7/ 17)، وابن ماجه (2126)، والدارمي (3/ 184)، وأحمد (6/ 36 و41 و224)، ومالك (3/ 62/ 1049) من حديث عائشة رضي الله عنها.

معنى الغفارة

استساغته جاهلية العرب في تعويض الغنم بالظباء؛ فالعرب مع أصنامهم أقل هيبة من هؤلاء مع أوليائهم، وإن تساوى الفريقان في حق من ألَّهوه أكثر من اعتبار حق الإِله الحق، ذلك أن جاهليتنا على شدة اهتمامها بحق أوليائها منها من لا يبالي مع ذلك بالصلاة أو بالزكاة أو بهما معاً، ومن صلَّى وزكَّى لا ينكر على تاركهما ما ينكره على من تراخى في زيارة شيخ طريقة أو إقامة زردة أو أداء وعدة، وكذلك ما حكاه القرآن عن العرب في آياته: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136]. وقد جرّنا الحديث على الزردات في الفصل السابق إلى نقل أقوال العلماء في نذور العامة، فأتينا منها بما يكفي، ولكن لا نخلي هذا الفصل منها، فنثبت فيه ما قاله الصنعاني في " سبل السلام " زيادة في المقام، قال رحمه الله: " وأما النذور المعروفة في هذه الأزمنة على القبور والمشاهد والأموات؛ فلا كلام في تحريمها، لأن الناذر يعتقد في صاحب القبر أنه ينفع ويضر، ويجلب الخير ويدفع الشر، ويعافي الأليم ويشفي السقيم، وهذا هو الذي كان يفعله عباد الأوثان بعينه؛ فيحرم كما يحرم النذر على الوثن، ويحرم قبضه لأنه تقرير [على] الشرك ويجب النهي عنه وإبانة أنه من أعظم المحرمات وأنه الذي كان يفعله عباد الأصنام، لكن طال الأمد، حتى صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وصارت تعقد اللواءات لقباض النذور على الأموات، ويجعل للقادمين إلى محل الميت الضيافات، وينحر في بابه النحائر من الأنعام، وهذا هو بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون " (4/ 88). • معنى الغفارة: و (الغفارة) - بتخفيف الفاء-: ضرب من النذر، بل أقبح ضروبه، وهي معروفة في عملي الجزائر ووهران أكثر منها في عمل قسنطينة، وبيانها أنها وظيفة

منشأ الغفارة

مالية يلتزم امرؤ بأدائها كل سنة لمن اعتقد فيه جلب منفعة أو دفع مضرة، وينسحب هذا الالتزام على ورثة الملتزِم لورثة الملتزَم له، وبطول المدة وانتشار النسل تصبح الغفارة ضريبة لقبيلة موصوفة بميزة دينية على أخرى منعوتة بالخدمة والطاعة لتلك، فيقولون: هذه القبيلة يغفرها (بالتضعيف) أولاد سيدي فلان، يريدون أنهم يأخذون منها الغفارة، ويقول كل من القابض والمعطي لصاحبه: أنت غفيري!! وهي من الأول بمعنى خديمي، ومن الثاني بمعنى سيدي، كما تطلق العرب المولى على الأعلى والأدنى معاً، قال الشاعر: وَلَنْ يَتَسَاوَى سَادَةٌ وعَبِيدُهُمْ … عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ الْجَمِيعِ مَوَالِي والغفارة مقررة بحكم الالتزام الأول عدداً ونوعاً من إبل أو بقر أو غنم أو صوف أو سمن أو عسل أو غيرها، ثم السادة الغفراء قد تبقى غفارتهم بينهم على الشياع، وقد يقتسمونها باقتسام من يؤدونها لهم قسمة انتفاع؛ فالقبيلة المؤيدة للغفارة كالأرض المحبسة، والغفارة كغلتها. • منشأ الغفارة: ومنشأ الغفارة اعتقاد مؤديها أن لآخذها تصرفاً في الكون دفع به عنه مكروهاً أو أسدى إليه به معروفاً في نفسه أو [في] أهله أو [في] ماله، وبقدر تمكن هذا الاعتقاد الشركي في صاحبه يتمكن فيه الحرص على أداء الغفارات، وإن لم يكن ممن يؤدي الأمانات، ويقول بلسان حاله أو مقاله: ما بنا من نعمة، فهي من الشيخ؛ بسبب حسن قيامنا على عادته، وما أصابنا من مصيبة، فبإذن الشيخ، لتقصيرنا في أمره، وإن لم نشعر بأصل التقصير، وهكذا قلبوا الآيتين: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن: 11].

عصر منشأ الغفارة

• عصر منشأ الغفارة: ولا أعلم الآن متى نشأت هذه الغفارة، وإن كان من الضروري أنها ولدت في ظلام الجهل وعصر الانحطاط الديني، وحضنها رؤساء جهال بالدين، لا يتميزون من العامة إلا بأوضاع ورسوم مخترعة، ثم أقرها علماء اتخذوا علمهم أداة تقرب من أولئك الرؤساء وبضاعة ارتزاق من العامة، واختنق بذلك صوت من كان هواه تبعاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا وجدت أسباب الشرك وتعددت وتمكنت مظاهره وتمددت. • كيف حدثت الغفارة: ولا أدري كيف حدثت الغفارة؛ إلاّ أن ابن خلدون ذكر قبائل مستوطنة وطن الجزائر كانت قوية تأخذ لقوتها الحربية خفارة من أخرى ضعيفة عن حماية نفسها من أعدائها، ولفظ الخفارة لا يفترق من الغفارة إلا بالحرف الأول، وهو حلقي، وكثيراً ما تبدل حروف الحلق بعضها من بعض، وفي لساننا العامي: " حراق الماء "، بمعنى: أراق وهراق، وما زالت الخفارة الحربية معروفة في بعض نواحينا، ويقولون فيها: الغفارة، ويضيفونها إلى العظمة أو الأعظمية، فيقولون: غفارة الأعظمية، فالظاهر أن منشأ الغفارة الدينية من الغفارة الحربية؛ فإن الأسر الماجدة إذا ذهب الزمان بشرفها الحربي تنتحل المجد الديني، وما كانت تأخذه بالسيف تصبح متطلبة له بدعوى التصرف بالغيب؛ فالغفارة بعد أن كانت ضريبة للقبائل الحربية على من ضعف في ساحة الوغى؛ أصبحت غفارة على من ضعف اتكاله على الله لمن ادعى العزة مع ربه بلسان الحال أو بلسان المقال، فكان أصلها الحماية من الأشرار، وصارت للوقاية من الأقدار. • معنى الخفارة واجتماعها مع الغفارة: قال في " الصحاح ": " الخفير: المجير. خفرت الرجل أخفر- بالكسر-

حكم الغفارة

خفراً: إذا أجرته وكنت له خفيراً تمنعه. قال الأصمعي: وكذلك خفرته تخفيراً. وأنشد لأبي جندب الهذلي: يُخَفِّرُنِي سَيْفِي إِذَا لَمْ أُخَفَّرِ" قال: " وتخفرت بفلان: إذا استجرت به وسألته أن يكون لك خفيراً، وأخفرته إذا نقضت عهده وغدرت به، ويقال أيضاً: أخفرته إذا بعثت معه خفيراً، قاله أبو الجراح العقيلي، والاسم الخُفرة بالضم، وهي الذِمّة، يقال: وفت خفرتك، وكذلك الخفارة بالضم وبالكسر ". وجعل في " المصباح " الخفارة مثلثة الخاء، وفسرها بجعل الخفير، وهو معنى الغفارة، فاتخذت مع الخفارة وزناً ومعنى، بل مادة ولفظاً، فصح أن تكون حادثة عنها ابتداعاً. • حكم الغفارة: ولم أرَ من تعرض لحكم الغفارة في كتاب، ولكن حكمها لا يخفى على من له إلمام بأصول الدين ووقوف على عقائد المشركين. ثم ما تقدم من المنقول في حكم نذور العامة يتناولها تناولاً أحرويّاً، ويدل على حكمها بفحوى الخطاب، والله الهادي إلى سنن الصواب. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]. • • • • •

اليمين

28 - اليمين • معنى اليمين: اليمين والقسم والحلف ألفاظ مترادفة في الاستعمال، وأصل اليمين اليد المقابلة للشمال من الإِنسان وغيره، استعملت بمعنى الحلف؛ لأنهم كانوا - كما في " الصحاح " وغيره- إذا تحالفوا؛ ضرب كل امرئ منهم يمينه على يمين صاحبه. قال ابن العربي في " أحكامه ": " وحقيقة اليمين ربط العقد بالامتناع والترك أو بالإِقدام على فعل بمعنى معظم حقيقة أو اعتقاداً " (1/ 265). • تعظيم العبادة وغيرها: فالحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، ومنع النفس من الفعل أو عزمها عليه لمجرد عظمة المحلوف به. والعظمة نوعان: أحدهما: يختص بالله، وهي التي يشعر بها المرء ولا يعرف منشأها، ويرى لصاحبها عليه سلطة غير محدودة، وهي العظمة الغيبية. ثانيهما: ما يتصف به المخلوق، وهي التي تنشأ عن أسباب معروفة وتقتضي سلطة خاصة.

اليمين الشرعية

وأسبابها المعروفة: إما الكمال الديني بالعبادة؛ فالولي عظيم لوقوعها منه، والمسجد عظيم لوقوعها فيه، وإما الكمال الدنيوي بالمال والأتباع، كالتي يعرفها أهل الدنيا للملوك والأمراء والأغنياء، وإما الشرف الأصلي، وهو ما للآباء على أبنائهم. والعظمة الغيبية تقتضي عبادة من وصف بها، والتي تحدث عن أسباب لا تقتضي عبادة المتصف بها. ولما كانت العبادة لا تكون إلا لله؛ كانت العظمة الغيبية لا تكون إلا له؛ فمن اعتقدها في سواه، فهو مشرك. وقد عقد القرافي الفرق الرابع والعشرين والمئة لتمييز التعظيم الخاص بالله من غيره؛ فنوعه إلى ثلاثة: الأول: خاص بالله إجماعاً، كالتعظيم بالصلاة، والصوم، والحج، والنذر، واعتقاد الإِسعاد والإِشقاء، والهداية والإِضلال. الثاني: غير خاص به إجماعاً؛ كالتعظيم بالوجود والعلم ونحوهما؛ فتقول في المخلوق: هو عالم ومريد وحي وموجود، وذلك باعتبار معنى عام، من غير اشتراك في حقيقة اللفظ. الثالث: ما اختلف فيه، وهو اليمين؛ فهل يقسم بالخالق فقط أم يقسم بالمخلوق أيضاً؟ • اليمين الشرعية: وقد عرفوا اليمين الشرعية على أنها خاصة بالخالق: فقال الحافظ في " الفتح ": " هي توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة الله " (*). ¬

_ (*) كذا الأصل، وفي " الفتح " (11/ 516 - طبعة دار المعرفة بيروت): " لِلّهِ ".

ما جاء في اليمين

ونحوه قول خليل: " اليمين تحقيق ما لم يجب بذكر اسم الله أو صفته ". • ما جاء في اليمين: وجاءت أحاديث في الحلف بالله وغيره: 1 - فعن ابن عمر، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا؛ فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ». أخرجه الشيخان (217). 2 - وعنه أيضاً، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اَللَّهِ؛ فَقَدْ أَشْرَكَ أَوْ كَفَرَ» (218). رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه. 3 - وعن عكرمة، أن عمر بن الخطاب قال: حَدَّثْتُ قَوْمًا حَدِيثًا، فَقُلْتُ: لَا وَأَبِي. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» فَالْتَفَتُّ؛ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ حَلَفَ بِالْمَسِيحِ هَلَكَ، وَالْمَسِيحُ خَيْرٌ مِنْ آبَائِكُمْ» (219). أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه "، وهو مرسل يتقوى بشواهده، ¬

_ (217) رواه البخاري (11/ 530/ 6646)، ومسلم (3/ 1266/ 1646) عن ابن عمر. (218) صحيح: أخرجه أحمد (4904 و5375)، وأبو داود (3251)، والترمذي (5/ 135/ 1574)، وابن حبان (10/ 199 - 200/ 4358)، والحاكم (1/ 18 و 4/ 297) من حديث ابن عمر، وقال الترمذي: " حديث حسن "، وقال الحاكم: " حديث صحيح على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! وقال في " الكبائر " - كما في " فيض القدير " (6/ 120) -: " إسناده على شرط مسلم "، وهو كما قال، وقال الزين العراقي في " أماليه ": " رجاله ثقات " كما في المصدر السابق. (219) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (3/ 480) عن عكرمة مرسلًا، ووصله هو وعبد الرزاق في " المصنف " (8/ 467/ 15925) من طريقين عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس =

قاله الحافظ في " الفتح " (11/ 449). 4 - وعن أبي هريرة؛ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ». أخرجه أبو داود والنسائي (220). 5 - وعنه أيضاً، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ وَالعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ» (221). أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي. 6 - وعن قتيلة- بالتصغير- رضي الله عنها؛ أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ، وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ. وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ¬

_ = به دون الجملة الأخيرة، وسماك في روايته عن عكرمة اضطراب كما في " التقريب ". وللحديث شواهد يتقوى بها كما قال الحافظ في " الفتح " (11/ 531) - ونقله عنه المؤلف- منها حديث ابن عمر وقد مضى برقم (217)، وسيأتي حديثه الآخر برقم (223)، وحديث أبي هريرة برقم (220)، وحديث عبد الرحمن بن سمرة عند مسلم (3/ 1268/ حديث رقم: 1648). (220) صحيح: أخرجه أبو داود (3248)، والنسائي (7/ 5) من طريق عبيد الله بن معاذ ثنا أبي ثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعاً. وهذا سند صحيح على شرط الشيخين. والحديث أورده الألباني في " صحيح [سنن أبي داود " (2784) و " سنن النسائي " (3529)]. (221) أخرجه البخاري (11/ 536/ 6650)، ومسلم (3/ 1267 - 1268/ 1647)، وأبو داود (2/ 74)، والترمذي (5/ 150/ 1585)، وقال: " حديث حسن صحيح "، والنسائي (7/ 7)، وابن ماجه (2096) وليس عنده: " ومن قال لصاحبه ... "، وأحمد (2/ 309) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وَيَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتَ (222). أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والطبراني وابن منده، وصححه الحافظ في " الإِصابة " (4/ 389)، وفي " نيل الأوطار " أن النسائي صححه. 7 - وعن ابن عمر؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ؛ فَلْيَصْدُقْ, وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ؛ فَلْيَرْضَ, وَمَنْ لَمْ يَرْضَ [بِاللَّهِ]؛ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ» (223). رواه ابن ماجه بسند حسن. ¬

_ (222) صحيح: أخرجه النسائي في " سننه " (7/ 6) وفي " عمل اليوم والليلة " (برقم: 986 - تحقيق حمادة)، قال: أخبرنا يوسف بن عيسى؛ قال: حدثنا الفضل بن موسى، قال: حدثنا مسعر عن معبد ابن خالد عن عبد الله بن يسار عن قُتيلة امرأة من جُهينة أن يهودياً .... الحديث. وهذا " سند صحيح " كما قال الحافظ في " الإِصابة " (4/ 378)، رجاله ثقات مترجمون في " التقريب "، وصححه النسائي كما في " الفتح " (11/ 540). وأخرجه الطبراني (25/ 14 - 15/ 7) من طريق مسعر به. وأخرجه أحمد (6/ 371 - 372)، والحاكم (4/ 297)، وابن سعد (8/ 238)، كلّهم من طريق المسعودي عن معبد به، والمسعودي " اختلط قبل موته "، ومع ذلك قال الحاكم: " صحيح الإسناد "! ووافقه الذهبي! وللحديث شواهد من حديث ابن عباس وحذيفة مضت برقم (31) و (32). (223) حسن: أخرجه ابن ماجه (2101): حدثنا محمد بن إسماعيل بن سَمُرة ثنا أسباط بن محمد عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر؛ قال: سمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يحلف بأبيه؛ فقال: " ... " فذكره بالزيادة، وقد سقطت من الأصل. وهذا إسناد جيد رجاله ثقات غير ابن عجلان فـ " صدوق، حسن الحديث، كان متوسطاً في الحفظ "، " فحديثه إن لم يبلغ رتبة الصحيح؛ فلا ينحط عن رتبة الحسن " كما في " ديوان الضعفاء " و" الميزان " و " سير النبلاء " للذهبي، و " التقريب " للحافظ.

الحكمة في النهي عن الحلف بغير الله

8 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال: «لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ وَأَنَا صَادِقٌ» (224). أخرجه الطبراني في " الكبير " موقوفاً عليه، ورجاله رجال الصحيح. • الحكمة في النهي عن الحلف بغير الله: قال الحافظ في " الفتح ": " وقال ابن المنذر: اختلف العلماء في معنى النهي عن الحلف بغير الله، فقالت طائفة: هو خاص بالأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون بها تعظيماً لغير الله تعالى؛ كاللات، والعزى، والآباء، فهذه ¬

_ = قال الحافظ في " الفتح " (11/ 536): " سنده حسن ". وقال البوصيري في " الزوائد ": " رجال إسناده ثقات ". (224) صحيح: أخرجه الطبراني في " الكبير " (9/ 205/ 8902) عن عبد الله بن مسعود موقوفاً، وإسناده صحيح على شرط الشيخين؛ كما في " الإِرواء " (8/ 192)، وقال المنذري في " الترغيب " (5/ 209): " ورواته رواة الصحيح "، وقال الهيثمي في " المجمع " (4/ 177): " ورجاله رجال الصحيح ". وأخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (8/ 469/ 15929) عن الثوري عن أبي سلمة عن وبرة قال: قال عبد الله- لا أدري أبن مسعود أو ابن عمر- ... فذكره. وهذا إسناد جيّد إن كان أبو سلمة هو المغيرة بن مسلم السرّاج، والله أعلم. وأخرجه ابن أبي شيبة (3/ 480): وكيع عن مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن أبي بُردة؛ قال: قال عبد الله (فذكره)، وسنده صحيح على شرط الشيخين. " تنبيه ": وقد روي مرفوعاً، أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (7/ 267) من طريق محمد بن معاوية ثنا عمر بن علي المقدّمي ثنا مسعر عن وبرة عن همام عن ابن مسعود مرفوعاً، وقال: " تفرد به محمد بن معاوية عن عمر عن مسعر ". قلتُ: محمد بن معاوية هو: ابن أعين النيسابوري " كذبه ابن معين والدارقطني، وقال مسلم والنسائي: متروك "؛ كما في " الميزان " (4/ 44)، والله أعلم.

حكم اليمين بغير الله

يأثم الحالف بها، ولا كفارة فيها، وأما ما كان يؤول إلى تعظيم الله؛ كقوله: وحق النبي، والإِسلام، والحج، والعمرة، والهدي، والصدقة، والعتق، ونحوها مما يراد به تعظيم الله والقربة إليه، فليس داخلاً في النهي. وممن قال بذلك أبو عبيد وطائفة ممن لقيناه، واحتجوا بما جاء عن الصحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق والهدي والصدقة ما أوجبوه، مع كونهم رأوا النهي المذكور، فدل على أن ذلك عندهم ليس على عمومه، إذ لو كان عامّاً؛ لنهوا عن ذلك ولم يوجبوا فيه شيئاً " انتهى. وتعقبه ابن عبد البر بأن ذكر هذه الأشياء، وإن كانت بصورة الحلف، فليست يميناً في الحقيقة، وإنما خرج على الاتساع، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله. وقال المهلب: " كانت العرب تحلف بآبائها وآلهتها، فأراد الله نسخ ذلك من قلوبهم؛ لينسيهم ذكر كل شيء سواه ويبقي ذكره، لأنه الحق المعبود؛ فلا يكون اليمين إلا به، والحلف بالمخلوقات في حكم الحلف بالآباء " (11/ 453). • حكم اليمين بغير الله: والذي لابن رشد في " المقدمات " تقسيم اليمين باعتبار حكمها إلى مباحة وهي ما كانت بالله، وإلى مكروهة وهي ما كانت بغيره، وإلى محظورة وهي ما كانت باللات والعزى والطواغيت وكل ما عبد من دون الله. وحكى الدردير في " شرح المختصر " قولين بالحرمة والكراهة في الحلف بالمعظم شرعاً؛ كالنبي والكعبة، وجزم بالحرمة فيمن لم يستحق التعظيم شرعاً. وقال الأمير في " مجموعه " الذي هو كتهذيب وتكميل لـ " المختصر ":

تحرير حكم اليمين بغير الله

" وحرم حلف بغير الله؛ إلا أن يعظم شرعاً كولي فيكره، وإن قصد بـ: كالعزى التعظيم؛ فكفر ". ونقل الحافظ في " الفتح " عن بعض أهل العلم أن من اعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله؛ كان كافراً بذلك الاعتقاد، وإن اعتقد فيه من التعظيم ما يليق به؛ فلا يكفر (11/ 450). وما نقله الحافظ تشهد له عباراتهم في تقييد التعظيم بالشرع، لأن معنى ذلك القيد أن يكون المعظم يستحق التعظيم في الشرع، وأن يكون التعظيم سالماً من الإِفراط المحظور، مقتصراً فيه على الحد المشروع. • تحرير حكم اليمين بغير الله: وخلاصة هذه النقول أن الاختلاف في حكم الحلف بغير الله إنما هو مع سلامة الحالف من تعظيم المخلوق تعظيماً من نوع تعظيم الخالق، وإن النهي حينئذ من فطام النفوس عن مألوفاتها الوثنية بالنظر لمن نشؤوا في الجاهلية، ومن سد الذرائع بالإِضافة إلى من نشؤوا في الإِسلام، فأما إن حل بالقلب تعظيم المخلوق كتعظيم الخالق؛ فجرى اللسان لذلك بتلك اليمين، وخشيت النفس في الحنث بها ما تخشاه في الحنث بالله؛ فهذه اليمين مظهر من مظاهر الشرك لا نزاع في ذلك- ولا شك. • حالة العوام في أيمانهم: نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف بالمخلوق؛ فأبى أكثر الناس إلا الحلف به، وأغلظ في النهي، حتى بلغ به نهي الشرك والكفر، فأجروا هذه اليمين على ألسنتهم أكثر من اليمين بالله، وأمر من حلف بالله أن يصدق، فتلاعبوا باليمين الشرعية، واحترموا اليمين الشركية، وأمر من حُلف له بالله أن يرضى ويكل أمر الحالف إلى الله ... فلم يطمئنوا إلا للحلف بأوليائهم ... وهكذا تراهم

يعظمون الأيمان بأوليائهم ويخشون الحنث فيها أكثر من تعظيم اليمين بالله وخشية الحنث فيها؛ فيحلفون بالله كاذبين في استخفاف وعدم مبالاة، ولا يقتنعون بيمين من حلف لهم بالله، ولا يكتفون بها، ولا يقدمون على الحلف بمرابطيهم وشيوخ طرقهم كذباً، ولا يكذبون من حلف بهم، بل يمتقع لون الواحد منهم إذا حاول الحلف بهم أو سمع من أسرع إلى ذلك الحلف، وكم بلغنا أنهم يستحلفون بالله على الشيء فيسرعون إلى الحلف على خلاف الواقع، ثم يستحلفون بشيوخهم أو آبائهم على ذلك الشيء نفسه؛ فتخرس ألسنتهم، وتجف أرياقهم، ويعترفون بكذبهم في اليمين بالله ولا يستحون!! يا لله للمسلمين: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 154]. وليست هذه الحالة المنكرة خاصة بعصرنا أو مصرنا. قال الشوكاني في " نيل الأوطار " عقب ذكر مفاسد البناء على القبور: " وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيراً من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه؛ حلف بالله فاجراً؛ فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني؛ تلعثم وتلكأ وأبى، واعترف بالحق!! وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة!! فيا علماء الدين! ويا ملوك المسلمين! أي رزء للإِسلام أشد من الكفر؟! وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟! وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟! وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجباً؟! " (4/ 72). وقد بقي علينا أن نعرف وجه ما جاء في الكتاب والسنة من القسم بغير

حكمة ما في الكتاب من الإقسام بالمخلوق

الله، ففي الكتاب الإِقسام بالطور والنجم والشمس والقمر والليل والنهار وغيرهن، وثبت أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ» (225). أخرجه أبو داود وغيره. • حكمة ما في الكتاب من الإِقسام بالمخلوق: فأما ما ورد في الكتاب، فقال الأمير في " حاشيته على مجموعه ": " وإقسام الله تعالى بالنجم ونحوه، لأن له أن يقسم بما شاء، وبأسراره التي يعلمها في أفعاله؛ تنبيهاً على عظمتها، ولسريان سر الحق فيها، من غير حلول ولا اتحاد، فإنها مظاهره مع تنزهه كما يُعلم ". ¬

_ (225) شاذ بهذا اللفظ: أخرجه مسلم (1/ 41/ 11)، وأبو داود (392 و3252)، والدارمي (1/ 370 - 371)، وابن خزيمة (1/ 158/ 306) من طرق عن إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل عن أبيه عن طلحة ابن عبيد الله مرفوعاً، وزادوا، " أَوْ (وليست عند أبي داود) دخل الجنة وأبيه إن صدق ". وهو بهذا اللفظ بزيادة: " وأبيه " شاذ مخالف! للرواية المحفوظة: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»، أخرجه البخاري (1/ 106/ 46 و5/ 287/ 2678)، ومسلم (1/ 40 - 41/ 11)، وأبو داود (391)، والنسائي (1/ 226 - 228 و8/ 118 - 119)، وأحمد (2/ 363/ 1390)، وابن الجارود (1/ 145 /144)، وابن حبان (5/ 11 - 12/ 1723 و8/ 53 - 54/ 3262)، والبيهقي (1/ 361 و2/ 8 و466 و467) وغيرهم، من طرق كثيرة عن مالك- وهذا أخرجه في " الموطأ " (1/ 357 - 358/ 425) - عن عمّه أبي سهيل بن مالك عن أبيه عن طلحة بن عبيد الله به، وزاد بعضهم: «أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ». وتابعه إسماعيل بن جعفر: أخرجه البخاري (4/ 102/ 1891 و12/ 330/ 6956)، والنسائي (4/ 120 - 121) وغيرهما من طرق عنه عن أبي سهيل. قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى- كما في " الفتح " (11/ 533): " هذه اللفظة [يعني: " وأبيه "] غير محفوظة، وقد جاءت عن راويها وهو إسماعيل بن جعفر بلفظ: «أَفْلَحَ وَاللَّهِ إِنْ صَدَقَ» ... وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ: " أفلح وأبيه "، لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح، ولم تقع في رواية مالك أصلًا ". ثم وقفت على كلام ابن عبد البر هذا في " التمهيد " (14/ 367) بمعناه.

تأويل ما في السنة من الإقسام بالمخلوق

وفصَّل محمد عبده هذا المعنى أول سورة النازعات من تفسير جزء عم؛ فقال: " جاء في الكتاب العزيز ضروب من القسم بالأزمنة والأمكنة والأشياء، والقَسَم إنما يكون بشيء يخشى المقسم إذا حنث في حلفه به أن يقع تحت المؤاخذة، نعوذ بالله أن يتوهم شيء من هذا في جانب الله، وما كان الله جل شأنه يحتاج في تأكيد أخباره إلى القسم بما هو صنعُ قدرته؛ فليس لشيء في الوجود قدر إذا نسب إلى قدره الذي لا يقدره القادرون، بل لا وجود لكائن إذا قيس إلى وجوده إلا أنه انبسط عليه شعاع من أشعة ظهوره جل شأنه. ولهذا قد يسأل السائل عن هذا النوع من تأكيد الخبر الذي اختص به القرآن وكيف يوجد في كلام الله؟! فيجاب بأنك إذا رجعت إلى جميع ما أقسم الله به؛ وجدته إما شيئاً أنكره بعض الناس، أو احتقره لغفلته عن فائدته، أو ذهل عن موضع العبرة فيه وعمي عن حكمة الله في خلقه، أو انعكس عليه الرأي في أمره فاعتقد فيه غير الحق الذي قرر الله شأنه عليه، فيقسم الله به: إما لتقرير وجوده في عقل من ينكره، أو تعظيم شأنه في نفس من يحقره، أو تنبيه الشعور إلى ما فيه عند من لا يذكره، أو لقلب الاعتقاد في قلب من أضله الوهم أو خانه الفهم ". وقد قفى رحمه الله على هذا البيان بتطبيق الجواب على بعض الأشياء المقسم بها؛ كالقرآن، ويوم القيامة، والنجوم. • تأويل ما في السنة من الإِقسام بالمخلوق: وأما ما ورد في السنة، فقد أبدى فيه الخطابي في " معالم السنن " أربعة أوجه، وزاد عليه الحافظ في " الفتح " وجهين آخرين، ونحن نقتصر على الوجهين الأولين في كلام الخطابي، وقد صدر في " الفتح " بثانيهما، وذكر أن البيهقي جنح إليه، وأن النووي ارتضاه (11/ 452).

لزوم التوبة من اليمين بغير الله

قال الخطابي: " قوله: " أفلح وأبيه " هذه كلمة جارية على ألسن العرب، تستعملها كثيراً في خطابها، تريد بها التوكيد، وقد نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحلف الرجل بأبيه، فيُحتمل أن يكون هذا القول منه قبل النهي، ويحتمل أن يكون جرى ذلك منه على عادة الكلام على الألسن وهو لا يقصد به القسم، كلغو اليمين المعفو عنه؛ قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ... } الآية [البقرة: 225]، قالت عائشة: هو قول الرجل في كلامه: لا والله، وبلى والله، ونحو ذلك " (1/ 121). • لزوم التوبة من اليمين بغير الله: وبعد بيان وجه الإِقسام في القرآن والحديث بغير الله، وأنه ليس من نوع اليمين التي يراد بها توكيد العزم على الإِقدام أو الامتناع والإِحجام؛ لم يبق لمبتدع متعلَّق بذلك الإِقسام، وتعين هجر الحلف بالمخلوق على كل مؤمن بآية: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. • • • • •

هداة الشرك وحماته

29 - هداة الشرك وحماته • قدم البدعة وحكمته: الحق والباطل، والإِيمان والكفر، والسنة والبدعة، والهدى والضلالة، والخير والشر؛ كل أولئك في البشر قديم لا يختص بعصر ولا بمصر، وإنما يمتاز أحد الأزمنة أو بعض الأمكنة بغلبة أحد المتقابلين على الآخر؛ لأن لكل جهة دعاة إليها يدعون، وهداة بها يهدون، وأنصاراً لها يحمون، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:: 118 - 119]. هذا عصره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أزهر العصور، وهذه مدينته أكرم المدن، لم يخلوا من المنافقين أحط أصناف المبطلين. وهذا جيل الصحابة وعهد الخلفاء الراشدين قد تلوثا بالمبتدعين، فقد حدثت البدع زمنهم من غيرهم؛ فكانت على الجهال ظلمة وفتنة، ولأولي الألباب نوراً ورحمة، فمصيبة الجهال فيها أنها قديمة وهم يقدسون كل قديم، ويرون أن ما تقدم جيلهم من الأجيال هو كمال خالص وخير محض، وفائدة العلماء منها الاستنارة بآثار السلف في إنكارها والاستعانة بأنظارهم في تخليص السنة منها.

مصدر البدعة

• مصدر البدعة: ومصدر الابتداع في الإِسلام المنافقون والزنادقة. وأول بدعة تتصل بالشرك إنما عرفت عن أحدهم، وهو عبد الله بن سبأ اليهودي، وبدعته هي التظاهر باحترام آل البيت والتشيع لعلي رضي الله عنه، حتى أتى في ذلك بما لا يتفق والإِسلام، فطلبه علي في خلافته ليقتله، ففر منه، وقد غرس أفكاره وتعاليمه في طائفة نسبت إليه فدعيت: السبئية، ومن بذوره نبتت الشيعة الباطنية والرافضة الإِسماعيلية. • ابتداع الشرك بالغلو في التشيع: نقل في " شرح الطحاوية " [ص:417] عن أبي بكر الباقلاني: " أن من تعاليم الروافض (*) وما يوصون به الدعاة قولهم: يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلماً أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك، واجعل المدخل من جهة ظلم السلف لعلي وقتلهم الحسين، والتبري من تيم وعدي وبني أمية وبني العباس، وأن عليّاً يعلم الغيب، يُفوّض إليه خلق العالم، وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة [وجهلهم؛ فإذا أنِسْتَ من بعض الشيعة] عند الدعوة إجابة ورشداً؛ أوقفته على مثالب علي وولده رضي الله عنهم " انتهى كلام الباقلاني، وفي آخر العبارة غموض، لعل سببه تحريف (**)، وقد يظهر المعنى لو أن العبارة بعد لفظ: ¬

_ (*) والصواب: " الباطنية " وهي هكذا في " شرح الطحاوية "؛ فالباطنية أظهروا الرفض ودينهم الزندقة، فخلط المؤلف الباطنية بالروافض، وهو تَصرف لا يستقيم مع آخر النقل: " ... فإذا أنست من بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشداً؛ أوقفته على مثالب عليُّ وولده رضي الله عنهم "؛ فهذا يتعارض مع الرفض، بل هو مذهب الباطنية الذين أظهروا الرفض، فَتصرُّف المؤلف في اللفظ بهذا التغيير خطأ. (**) نعم، في العبارة غموض سببه السقط، وقد استدركناه من " شرح العقيدة الطحاوية " (ص 490 - 491)، الطبعة التاسعة، المكتب الإسلامي.

عجز الغلو في التشيع عن نشر الشرك

" أعاجيب الشيعة " هي هكذا: " فإن لبى الدعوة إجابة وآنست منه رشداً أوقفته ... "، وقد قدمنا في فصل علم الغيب نسبة ابن قتيبة ابتداع القول بعلم آل البيت الغيب إلى الرافضة أيضاً. • عجز الغلو في التشيع عن نشر الشرك: وقد كان ضلال الرافضة مكشوفاً للعامة والخاصة من الفرق الإِسلامية؛ فكانوا ممقوتين في المجتمعات، لا تروج لهم بضاعة في جميع الطبقات، إلا أن يجدوا غرة في بعض الجهات التي لا تعرف من الدين أكثر من التلفظ بالشهادتين أو صور العبادة المتكررة الفاشية. • مبدأ التصوف واستقامة المتقدمين عليه: ودب في الأوساط الإِسلامية مبدأ التصوف على قدمي الإِفراط في العبادة والتفريط في الدنيا، واشتمل كسائر المبادئ على الصديق والزنديق، ولكن كان الغالب على رجاله العلم بالدين والصدق في العمل وموالاة السلف؛ فكانوا في الاعتقادات محدثين سلفيين، أو متكلمين أشعريين وماتريديين، وفي العبادات مالكيين أو حنفيين أو شافعيين أو حنبليين، واشتهر منهم أبو القاسم الجنيد، فانتسب إليه مَن بعده في آداب السلوك، وبهذا كان التصوف مرضيّاً عند أهل السنة لانتساب رجاله إلى الأئمة المرضيين، كما قال صاحب " الجوهرة ": وَمَالِكٌ وَسَائِرُ اْلأَئِمَّهْ … كَذَا أَبُو الْقَاسِمْ هُدَاةُ اْلأُمَّهْ • اتحاد الباطنية بالصوفية ومظاهره: رضي الناس عن التصوف بذلك الانتساب، وأعجبوا بتقى رجاله وزهدهم أيما إعجاب، ثم غمرت الثقة بالألقاب نقد ما في سير الصوفية من خطأ وصواب، فسال لعاب المبتدعين المنبوذين من هذه الثقة التي نعم بها المتصوفون، فاندسوا تحت هذا العنوان، ولا سيما الرافضة التي كانت لها

الحلول والاتحاد

مطامع سياسية، وكان التصوف والرفض كلاهما في العجم أشهر وأكثر انتشاراً، فسهل لذلك الامتزاج بينهما، فتكون تصوف باطني استقل بقيادة العامة أو كاد، واتقى بعموم الثقة في عنوان التصوف ألسنة النقاد. • الحلول والاتحاد: 1 - وكان من مظاهر اتحاد الرافضة الباطنية بالصوفية ظهور مذهب الحلول والقول بالاتحاد؛ فقد كان ذلك معروفاً أولاً في الباطنية، ثم ظهر على متأخري الصوفية؛ كابن عربي الحاتمي، وابن سبعين، وابن العفيف التلمساني، وابن الفارض، وغيرهم. • القطب وحكومته: 2 - وقال هؤلاء المتأخرون بالقطب، ومعناه: رأس العارفين، ويزعمون أنه لا يساويه أحد في مقامه حتى يموت فيخلفه آخر، وذلك هو معنى الإِمام المعصوم عند الرافضة، واخترعوا للقطب حكومة سرية وديواناً خياليّاً، وذلك على نحو ما تحلم به الرافضة في إنشاء حكومة على مذهبها؛ فحكومة القطب الغيبية ظل لحكومة ذهنية يراد تحقيقها في الخارج على نحو " مؤتمر النهضة الإِسلامية " الذي رسمه الكواكبي في أم القرى، فحكومة القطب عند الخاصة منهم أمنية سياسية، وعند العامة عقيدة دينية. • الأبدال: 3 - وقال متأخرو الصوفية بالأبدال، ورتبوهم ترتيب الشيعة للنقباء. والأبدال قد وردت فيهم أحاديث بعضها تعدهم ثلاثين وبعضها تعدهم أربعين، ولا تخلو أسانيدها من مقال، وأحسنها حديث علي بن أبي طالب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الْبُدَلَاءُ بِالشَّامِ وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ؛ أَبْدَلَ اللَّهُ رَجُلًا مَكَانَهُ، يُسْتَقَى بِهِمُ الْغَيْثُ، وَيُنْتَصَرُ بِهِمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَيُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ

الشَّامِ بِهِمُ الْعَذَابُ» (226). رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح؛ غير شريح بن عبيد، وهو ثقة، وقد سمع من المقداد، وهو أقدم من علي. قاله في " مجمع الزوائد " (10/ 62). وقد بين الحديث أن كونهم أبدالًا لأن من مات منهم خلفه آخر، وما نسب إليهم من السقي والانتصار وصرف العذاب هو من باب رحمة الله للأشرار بطاعة الأخيار، لا من باب التصرف في الكون؛ ففي " مجمع الزوائد ": " باب لولا أهل الطاعة هلك أهل المعصية "، وساق حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَهْلاً، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَدِيدُ الْعِقَابِ، فَلَوْلا صِبْيَانٌ رُضَّعٌ، وَرِجَالٌ رُكَّعٌ، وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ، صُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ [صَبًّا] (أَوْ أُنْزِلَ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ)» (227). رواه البزار، ¬

_ (226) ضعيف: أخرجه أحمد (2/ 171/ 896) من طريق شُريح بن عُبيد؛ قال: ذُكر أهل الشام عند عليّ ابن أبي طالب وهو بالعراق، فقالوا: العنهم يا أمير المؤمنين! قال: لا، إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " الأبدال يكونون بالشام، وهم أربعون رجلًا ... " الحديث. وإسناده ضعيف لانقطاعه، فإن شُريحاً لم يدرك عليّاً، كما قاله غير واحدٍ من الحفاظ، وأمّا قول الهيثمي في " المجمع " (10/ 62) - وقد نقل المؤلف كلامه-: " ورجاله رجال الصحيح؛ غير شريح بن عُبيد وهو ثقة، وقد سمع من المقداد وهو أقدم من عليٍّ " فمن أوهامه اغتراراً بما ذكره المِزّي في ترجمة شُريح في " تهذيب الكمال " (12/ 447)! وقد تعقبه الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (4/ 328). وانظر: " تعليق المعلّمي على الفوائد المجموعة للشوكاني " [ص:247]، وتعليق أحمد شاكر على " المسند ". (227) ضعيف: أخرجه البزار (4/ 66/ 3212 - كشف الأستار)، والزيادة منه والطبراني في " الأ وسط " - كما في " المجمع " (10/ 227) - بنحوه، وأبو يعلى (6/ 44/ 6371) بأخصر منه، كلّهم من طريق إبراهيم بن خُثيم بن (في مطبوعة الكشف: عن!) عراك بن مالك عن أبيه عن جدّه عن أبي هريرة مرفوعاً. وهذا إسناد ضعيف جداً، إبراهيم بن خُثيم " متروك " كما قال النسائي، وقال أبو زرعة: =

والطبراني في " الأوسط " بنحوه وأبو يعلى بأخصر منه، وفيه إبراهيم بن خُثَيم، وهو ضعيف (10/ 227). وذكره بنحوه في " كشف الخفاء " (2/ 163). ووصف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأبدال في حديث ابن مسعود (228) بالسخاء والنصيحة للمسلمين. أخرجه الطبراني كما في " مجمع الزوائد ". ¬

_ = " منكر الحديث "، وقال ابن معين: " كان الناس يصيحون به: لا شيء! وكان لا يكتب عنه "، وقال في موضع آخر: " ليس بثقة ولا مأمون " كما في " اللسان " وغيره. وله شاهد من حديث مسافع الديلمي، أخرجه البيهقي (3/ 345)، والطبراني، وابن عدي في " الكامل " (4/ 315 و6/ 380) من طريق عبد الرحمن بن سعد بن عمار المؤذن عن مالك بن عَبيدة بن مسافع الديلي عن أبيه عن جدّه مرفوعاً بنحوه. وهذا سند ضعيف، فيه عبد الرحمن بن سعد ضعيف كما قال الذهبي والهيثمي والعسقلاني، ومالك وأبوه مجهولان كما في " ديوان الضعفاء " و " الميزان " وغيرهما. وانظر: " المجمع " (10/ 227)، و " فيض القدير " (5/ 344)، و " ضعيف الجامع الصغير " (4860) وغيرها. (228) ضعيف جداً: أخرجه الطبراني في " معجمه الكبير " (10/ 224/ 10390): أنا أحمد بن داود المكي: ثنا ثابت بن عياش الأحدب ثنا أبو رجاء الكلبي ثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَزَالُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْفَعُ اللهُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، يُقَالُ لَهُمُ الْأَبْدَالُ، إِنَّهُمْ لَنْ يُدْرِكُوهَا بِصَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ، وَلَا صَدَقَةٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! فَبِمَ أَدْرَكُوهَا؟ قَالَ: «بِالسَّخَاءِ وَالنَّصِيحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ». وسنده ضعيف جداً، فيه أبو رجاء الكلبي واسمه روح بن المسيب، قال ابن عدي: " أحاديثه غير محفوظة "، وقال ابن حبان: " كان ممن يروي عن الثقات الموضوعات ويقلب الأسانيد ويرفع الموقوفات، لا تحل الرواية عنه ولا كتابة حديثه إلَّا للاختبار ". وقال الهيثمي (10/ 63): " رواه الطبراني عن ثابت بن عياش الأحدب عن أبي رجاء الكلبي، وكلاهما لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح "! وانظر: " الضعيفة " (1478).

ووصفهم في حديث أبي سعيد الخدري (229) بسخاوة النفس وسلامة الصدر والرحمة بجميع المسلمين؛ كما في " كشف الخفاء " (1/ 26). وأخرج الشيخ نصر المقدسي في كتاب " الحجة على تارك المحجة " بسنده عن أحمد بن حنبل، أنه قيل له: هَلْ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ أَبْدَالٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ هُمُ الْأَبْدَالُ؛ فَمَا أَعْرِفُ لِلَّهِ أَبْدَالًا ". نقله في " الحاوي " (2/ 471). ¬

_ (229) ضعيف جداً: أخرجه البيهقي في " شعب الإِيمان " - كما في " الحاوي " (2/ 248) للسيوطي- من طريق ابن أبي شيبة، ثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، أنا سلمة بن رجاء- كوفي- عن صالح المُريّ عن الحسن عن أبي سعيد الخُدري- أو غيره-؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أَبْدَالَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِالْأَعْمَالِ، إِنَّمَا دَخَلُوهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَسَخَاوَةِ الْأَنْفُسِ وَسَلَامَةِ الصُّدُورِ وَرَحْمَةٍ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ». قال البيهقي: " رواه عثمان الدارمي عن محمد بن عمران؛ فقال: عن أبي سعيد، لم يقل - أو غيره-، وقيل: عن صالح المُريّ عن ثابت عن أنس ". وإسناده ضعيف جداً، صالح المُريّ وهو ابن بشير وكنيته أبو بشر، قال النسائي وغيره: " متروك "؛ كما في " ديوان الضعفاء " (1913) للذهبي، بل قال ابن حبان في " المجروحين " (1/ 368): " ظهر في روايته الموضوعات التي يرويها عن الأثبات واستحق الترك عند الاحتجاج ". والحسن- وهو البصري- مدلس وقد عنعنه! وأخرجه ابن أبي الدنيا في " كتاب السخاء "، والبيهقي في " شعب الإِيمان "، والحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " - كما في " الحاوي " (2/ 249) - من طرق عن صالح المُريّ عن الحسن مرسلًا. وروي بنحوه من حديث أنس، أخرجه ابن لال في " مكارم الأخلاق "، وابن عدي والخلال - كما في " الحاوي " (2/ 245) - من طريق محمد بن عبد العزيز الدينوري ثنا عثمان بن الهيثم ثنا عوف عن الحسن عنه مرفوعاً، والدينوري " منكر الحديث " كما في " ديوان الضعفاء " للذهبي، وعثمان " ثقة، تغير فصار يتلقن "؛ كما في " التقريب ".

لباس الخرقة وإسناد الطريقة

فهؤلاء الأبدال هم الطائفة الظاهرون على الحق والمجددون للدين على رأس كل مئة سنة، وليسوا أبدال الصوفية الذين يعتقد فيهم علم الغيب، والتصرف في الكون، والدلال على الله؛ من غير أن يعرفوا بعلم وإتقان عمل، بل من كمال الصوفية المتأخرين الرغبة عن العلم!! ففي " تذكرة الحفاظ " للذهبي أن محمد بن محمد الفاشاني- بالفاء- من أهل القرن الخامس؛ قال: " كنت إذا مضيت إلى أبي القاسم هبة الله بالرباط، أخرجني إلى الصحراء، وقال: اقرأ هنا؛ فالصوفية يتبرمون ممن يشتغل بالعلم والحديث، يقولون: يشوشون علينا أوقاتنا " (4/ 15). • لباس الخرقة وإسناد الطريقة: 4 - واتخذ أولئك الصوفية شعارهم لباس الخرقة وإلباسها، وقالوا: إن الحسن البصري لبسها من علي رضي الله عنه، وتخصيص علي بشيء في الدين هو من بدع الرافضة، وقد تقدم في فصل الذبائح غضبه رضي الله عنه على من اعتقد فيه أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسر إليه شيئاً، وإنكاره عليه، وقوله: " مَا كَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا يَكْتُمُهُ النَّاسَ" (230). قال في " تمييز الطيب من الخبيث ": " حديث لبس الخرقة الصوفية وكون الحسن البصري لبسها من علي؛ قال ابن دحية وابن الصلاح: إنها باطل، ولذا قال ابن حجر: إنه ليس في شيء من طرقها ما يثبت، ولم يرد في خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحداً من أصحابه بفعل ذلك، وكل ما روي في ذلك صريحاً؛ فباطل ". قال: " ثم إن من الكذب المفترى قول من قال: إن عليّاً ألبس الخرقة ¬

_ (230) تقدم تخريجه برقم (197).

ثمرة اتحاد الباطنية بالصوفية

الحسن البصري، فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعاً فضلًا عن أن يلبسه الخرقة " [ص:123]. وقد حاول السيوطي في " الحاوي " إثبات سماع الحسن من علي، وليس ذلك بأولى من إنكار أئمة الحديث له، ثم هو لا يثبت الدعوى الخاصة التي هي لباس الخرقة. وما زال الصوفية يتفننون في وضع الإِسناد ليربطوا طرقهم بعظماء الزهاد، وإن اشتملت على ضروب من الضلال والفساد، حتى جاء أخيراً أحمد بن سالم التيجاني، فاختصر الإِسناد، وادعى أنه تلقى طريقته من خاتم الأنبياء من غير واسطة. • ثمرة اتحاد الباطنية بالصوفية: تلك مظاهر من اتحاد الصوفية بالرافضة، أما ثمرة هذا الاتحاد؛ فهو توصل الرافضة إلى تحقيق ما عجزت عنه من تشويه محاسن الإِسلام وقلب تعاليمه!! وإن تعجب لسلامة الصوفية من سوء سمعة الرافضة مع اتحاد الفريقين، فأعجب من ذلك أن تعلو كلمة [هؤلاء] الصوفية كلمة العلماء، ويخصُّوا بالفضل دونهم، والكتاب والسنة إنما جاءا بفضل العلم وأهله، وترى من هنا أن هذا التصوف سيف ماضي الحدين، مؤثر بالجهتين؛ فجهة النقص فيه- وهي اتحاده بالباطنية- أثر فيها بالتغطية والتعمية، حتى لم تشعر بها العامة، وتطاول الأمد، فخفيت على كثير من الخاصة، وجهة الكمال في غيره، وهي جهة العلم، قلبها رأساً على عقب، فاستأثر بما للعلم من شرف، وجعل أهله محل ريبة، لا يوثق بدينهم إلا بتوثيق شيوخ التصوف، وهم لا يوثقون من العلماء إلا من سدل الستار عما في طرقهم من بدع ومنكرات، فأصبح يخطب وُدَّهم كل عالم طماع وكل

جمعية العلماء والطرق الصوفية

محتال خداع، وانضافت إليهم هذه الجنود المرتزقة؛ فكان جيش يهدد كل مرشد نصوح ومصلح إلى المعالي طموح. • جمعية العلماء والطرق الصوفية: وقد كانت جمعية العلماء لأول تكوينها تحتوي على أخلاط من هؤلاء الرهاط؛ يحضرون جلساتها، لا خدمة لغايتها ولا إعانة لإِدارتها، ولكن عيناً عليها فاجرة، تبلغ وتشي إلى إدارة الأمور الأهلية، وما انقضى عام حتى انقضوا على من فيها من المصلحين المرشدين ليستبدوا بإدارة الجمعية دونهم، فعاملهم الله بنقيض مقصودهم، وخرجوا من الجمعية محاربين، ولأغراض إدارة الأمور الأهلية منفذين، ولم يجنوا من تلك الحرب التي ليس وصفها من غرض هذه الرسالة إلا ما قاله قائدهم العامي الوقح: " نحن فلسناهم عند الحكومة، وهم فلسونا عند الأمة "، وما زالت نار حربهم تشب وتخبو، وما زالت سهامهم نحونا تطيش وتنبو، وما زلنا بأمره تعالى عاملين، وبوعده واثقين؛ إذ قال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 127 - 128]، جعل الله عاقبة هذه الفتنة في خير الإِسلام. • أصناف المحاربين لدعوة جمعية العلماء: إن رؤوس هاته الفتنة من أبناء المسلمين؛ بين مدع للتصوف، ومنتسب للعلم، ومنتصب للحكم، ومفتخر بحمله للقرآن. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ ثَلَاثًا، وَهُنَّ كَائِنَاتٌ: زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَدُنْيَا تُفْتَحُ عَلَيْكُمْ» (231). رواه ¬

_ (231) ضعيف جداً: أخرجه الطبراني في " الكبير " (20/ 138 - 139/ 282)، و " الأوسط " و " الصغير " (2/ =

صنف أدعياء التصوف

الطبراني في " الثلاثة "، وفيه عبد الحكيم بن منصور، وهو متروك الحديث. وعن عمرو بن عوف رضي الله عنه؛ أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ ثَلَاثٍ: مِنْ زَلَّةِ عَالِمٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ» (232). رواه البزار، وفيه كثير بن عبد الله بن عوف، وهو متروك، وقد حسن له الترمذي. قال ذلك في " مجمع الزوائد " (1/ 186 - 187). وإن لم تصح نسبة الحديثين إليه - صلى الله عليه وسلم -؛ لم تسقط حكمتهما، وقد قيل: وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُو … كُ وَأَحْبَارُ سُوْءٍ وَرُهْبَانُهَا • صنف أدعياء التصوف: أما أدعياء التصوف؛ فليعلموا أن منهم صادقين وكاذبين، ولا يفيد كذبتهم ¬

_ = 186/ 1001) من طريق عبد الحكيم بن منصور، ثنا عبد الملك بن عُمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه مرفوعاً. وهذا سند ضعيف جداً، عبد الحكيم " متروك الحديث " كما في " المجمع " (1/ 186) و " التقريب " (1/ 466) وغيرهما، وعبد الملك وإن كان " ثقةً فقيهاً " فقد " تغير حفظه، وربما دلّس " كما قال الحافط، وقد عنعنه! (232) صعيف جداً. أحرجه البزار (1/ 103/ 182 - كشف الأستار) من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو عن أبيه عن جده مرفوعاً. قال الهيثمي (1/ 187): " وفيه كثير بن عبد الله بن عوف وهو متروك، وقد حسن له الترمذي! ". قلت: وأبوه عبد الله بن عمرو بن عوف " ما روى عنه سوى ابنه كثير أحد التلفى " كما في " الميزان " (2/ 467)، وقال في " التقريب " (1/ 437): " مقبول " يعني عند المتابعة، وإلّا، فلين الحديث. وانظر: " الترغيب " (1/ 64/ 81) للمنذري.

صنف المنتسبين إلى العلم

الثناء على بررتهم، كما لا يقدح في فضلائهم الإِنكار على سفهائهم، وأين هؤلاء الأدعياء من أصول الصوفية الأتقياء؟! قال سهل التستري: " أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق ". نقله في " الاعتصام " (1/ 68)، والعروسي في حاشيته على " شرح الرسالة القشيرية " (1/ 111). • صنف المنتسبين إلى العلم: وأما المنتسبون إلى العلم؛ فليسوا في مستوى واحد، وليس كل من أوتي العلم يرفعه الله درجات. وفي " تفسير القرطبي " عن أبي عبد الله سعيد بن يزيد الساجي: " خمس خصال بها تمام العلم، وهي: معرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة، لم يرفع العمل " (208/ 6). أين هذا ممن يتقربون إلى الحكام للسعاية بخدمة الإِسلام ويضللون العباد عن سبيل الرشاد؟! وفي " الإِعلام بقواطع الإِسلام " للهيتمي: " وكذا يقطع بتكفير كل قائل قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة ". وتقدم في فصل الولاية الحديث في وعيد من يرتزق بالسعاية. • صنف المنتصبين للحكم: وأما المنتصبون للحكم؛ فكثير منهم إنما حاربنا مدفوعاً بيد من يخشاه

على منصبه؛ فنذكرهم بحديث: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» (233). رواه أحمد والحاكم عن عمران بن حصين عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورواه أبو داود والنسائي ¬

_ (233) صحيح: أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في " معجمه الكبير " (18/ 170/ 381) عن عمران مرفوعاً، وإسناده ضعيف، لكن للحديث طرق وشواهد يتقوى بها ويصح: فقد روي بلفظ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ»، وبلفظ: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ»، وبلفظ: «لَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ» عند أحمد (4/ 426 و427 و432 و436 وه/ 66 و67)، والطبراني (3/ 236 و237/ 3159 و3160)، و (18/ 150 و165 و171 و177 و184 و185 و229/ 324 و367 و385 و407 و432 و433 و 434 و437 و438 و570 و571)، والبزار (2/ 243 و 244/ 1613 - 1616)، وعبد الرزاق (11/ 335/ 20700)، والحاكم (3/ 443) من طرق عن عمران- وفي بعضها: عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري- مرفوعاً. وقال الحاكم: " صحيح الإِسناد "! ووافقه الذهبي! وقال الحافظ الهيثمي في " المجمع " (5/ 226): " رواه أحمد بألفاظ، والطبراني باختصار، وفي بعض طرقه: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ»، ورجال أحمد رجال الصحيح ". وقال أيضاً: " رواه البزار والطبراني في " الكبير " و " الأوسط "، ورجال البزار رجال " الصحيح ". وقال الحافظ في " الفتح " (13/ 123) بعد عزوه لأحمد والبزار بلفظ: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ»: " وسنده قويّ ". وللحديث شاهد من حديث عليٍّ بلفظ: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ». أخرجه البخاري (8/ 58/ 4340 و13/ 122 و233/ 7145 و7257)، ومسلم (3/ 1469/ 1840)، وأبو داود (1/ 409)، والنسائي (7/ 159 - 160)، وأحمد (622 و 724 و1018 و1065)، وعبد الله بن أحمد في " زوائد المسند " (1095) وغيرهم عنه مرفوعاً وفيه قصة. وله شواهد أخرى عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم؛ فانظر: " صحيح الجامع الصغير " (3558 و3566 و7397)، والله الموفق.

صنف حملة القرآن

بنحوه عن علي؛ كما في " كشف الخفاء " (2/ 376). • صنف حملة القرآن: وأما المفتخرون بحمل القرآن؛ فيا حبذا مفتخَرُهُم لو لم يحملوه حمل بني إسرائيل للتوراة؛ ففي " تفسير القرطبي " عن أبي عمر بن عبد البر: " روي من وجوه فيها لين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه قال: «مِنْ تَعْظِيمِ جَلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ثَلَاثَةٍ: الْإِمَامِ الْمُقْسِطِ، وَذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَلَا الْجَافِي عَنْهُ» (234). قال أبو عمر: وحملة القرآن هم العالمون بأحكامه وحلاله وحرامه، ¬

_ (234) حسن: أخرجه أبو داود (2/ 294): حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف ثنا عبد الله بن حمران أخبرنا عوف بن أبي جميلة عن زياد بن مخراق عن أبي كنانة عن أبي موسى الأشعري؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ». وإسناده حسن، رجاله ثقات معروفون غير أبي كنانة؛ فهو " مجهول، ليس بالمعروف " كما في " الميزان " و " التقريب "، لكن روى عنه أيضاً أبو إياس وزياد الجصاص كما في " الجرح والتعديل " (9/ 430/ 2135)؛ فهو حسن الحديث إن شاء الله. والحديث حسنه النووي في " رياض الصالحين " (ص 191/ حديث رقم: 354)، وفي " الترخيص بالقيام " [ص:56]، والذهبي في " الميزان " (4/ 565)، والعراقي في " تخريج الإِحياء " (2/ 96 1)، والعسقلاني في " التلخيص " (2/ 118/ 762)، والألباني في " صحيح [سنن أبي داود " (4053)، و " الترغيب " (1/ 44/ 93)]. وأخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (359): حدثنا بشر بن محمد أخبرنا عبد الله به، فذكره موقوفاً على أبي موسى. وإسناده حسن، وبشر بن محمد- هو السختياني- صدوق كما في " التقريب ". وللحديث شاهد من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلًا، أخرجه هناد بن السري في " الزهد " (2/ 424/ حديث رقم: 828)، والهيثم بن كُليب في " المسند " (7/ 1)، وأبو عبيدة =

كتابة القرآن للمرضى وقراءته على الموتى

والعاملون بما فيه " (1/ 26). فمن حمل القرآن هذا الحمل؛ فهو من المنعم عليهم، يحق له الفخر بنعمته على معنى الشكر لها، وإلا؛ فقد قال سهل التستري: " اجتنب محبة ثلاثة أصناف من الناس: الجبابرة الغافلين، والقراء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين "، نقله في " الحاوي " (2/ 310). وأغلب طلبة القرآن اليوم لا يطلبون من قراءته إلا حفظ ألفاظه، ولا يعنيهم من حفظهم إلا الارتزاق بكتابتها للمرضى وسردها على الموتى، وكثيراً ما سمعنا الآباء الذين تكون بأبنائهم علة لا يستطيعون معها إذا كبروا مباشرة الأعمال الشاقة؛ يقول أحدهم: ما بقي لابني إلا قراءة القرآن يكتسب قوته. • كتابة القرآن للمرضى وقراءته على الموتى: فأما كتابة القرآن للمرضى؛ فقد تقدم في فصل التميمة قول أبي بكر بن العربي: " وإنما السنة فيه الذكر دون التعليق ". وأما قراءته على الموتى بأجرة، فإن العلماء اختلفوا في هبة المطيع ثواب طاعته لغيره، ولم يختلفوا في منع بيع الثواب لعدم تيقنه، ولا في سقوط الثواب عند قصد العامل إلى الأجرة. ففي " إعلام الموقعين " عند الكلام على القراءة: " والناس لهم قولان: أحدهما: أن القراءة لا تصل إلى الميت، فلا فرق بين أن يقرأ عند القبر أو بعيداً منه عند هؤلاء. والثاني: أنها تصل، ووصولها فرع حصول الثواب للقارئ، ثم ¬

_ = في " فضائل القرآن " (ق 11/ 2) - كما في " الصحيحة " (4/ 169) و " صحيح الجامع الصغير " (2195) - بإسناد ضعيف. وله شواهد أخر أوردها السيوطي في " اللآلئ " (1/ 150 - 153)، وبالله التوفيق.

ينتقل منه إلى الميت؛ فإذا كانت قراءة القارئ ومجيئه إلى القبر إنما هو لأجل الجعل لم يقصد به التقرب إلى الله؛ لم يحصل له الثواب، فكيف ينتقل عنه إلى الميت وهو فرعه؛ وانتفاعه بسماع القرآن مشروط بحياته، فلما مات، انقطع عمله كله، واستماع القرآن من أفضل الأعمال الصالحة، وقد انقطع بموته، ولو كان ذلك ممكناً، لكان السلف الطيب من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أولى بهذا الحظ العظيم لمسارعتهم إلى الخير وحرصهم عليه، ولو كان خيراً؛ لسبقونا إليه " (3/ 422). وفي " شرح الطحاوية ": " وأما استئجار قوم يقرؤون القرآن ويهدونه للميت، فهذا لم يفعله أحد من السلف، ولا أمر به أحد من أئمة الدين، ولا رخص فيه، والاستئجار عن نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف، وإنما اختلفوا في جواز الاستئجار عن التعليم ونحوه مما فيه منفعة تصل إلى الغير، والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله، وهذا لم يقع عبادة خالصة؛ فلا يكون ثوابه ما يهدى إلى الموتى، ولهذا لم يقل أحد: إنه يكتري من يصوم ويصلي ويهدي ثواب ذلك إلى الميت ... ومن قال: إن الميت ينتفع بقراءة القرآن عنه باعتبار سماعه كلام الله؛ فهذا لم يصح عن أحد من الأئمة المشهورين، ولا شك في سماعه، ولكن انتفاعه بالسماع لا يصح، فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة، فإنه عمل اختياري، وقد انقطع بموته، بل ربما يتضرر ويتألم لكونه لم يمتثل أوامر الله ونواهيه، أو لكونه لم يزدد من الخير " (ص 386 - 387). وقد كانت مسألة القراءة على الموتى حديث المجالس في السنة الماضية؛ لإثارة الصحف (*) الدورية لها، حتى إنه ليتكرر عليك السؤال عنها في مجلس واحد، وكان ملخص جوابي فيها: إن كلام الله أرفع الكلام، وإن تلاوته أفضل الأذكار، وإن الأذكار من ¬

_ (*) انظر: جريدة " البصائر ": الأعداد: (16 و 17 و 18 و 19 و20 و 22 و 23 و 24 و ... ).

هداة الشرك وحماته

أفضل العبادات، وإن العبادات لا تكون إلا لله، وإن الله لا يقبل منها إلا ما وافق شرعه، وإن قبولها من المغيبات التي لا نجزم بحصولها، فمن أصر على التلاوة لمعنى حسن كمجاملة ولي الميت؛ فلا تجوز له الأجرة عليها، ولا الأكل من طعام فيه حق القاصرين، ولا أخذ شيء على وجه الصدقة من غير اعتبار معاوضة على القراءة، لأن الواقع أن القارئ لولا الأجرة، ما قرأ، وأن ولي الميت لولا القراءة؛ ما أعطى ذلك القارئ شيئاً، وهذا الواقع هو ما نعلمه في أهل زماننا، ولا نسد باب الإِخلاص على من وفق إليه. • هداة الشرك وحماته: هذا حديثنا مع رؤساء تلك الفتنة، نرجو به نصيحتهم ببيان الحق لهم، ولكنا نخص منهم شيوخ الطرق الصوفية بحديث آخر؛ إذ كانوا هم المشجعين لمن اتحد معهم في الغرض، والمضللين لبعض من وقع معهم في هذا المرض، وقد بلغنا لما أعلنا نشر رسالة ـ[الشرك ومظاهره]ـ أنهم قالوا في مجتمع لهم: لا بد لنا من الدفاع عن الشرك!! فكانوا أحق أن يسموا: هداة الشرك وحماته!! وحديثنا الخاص بهم نجمله في أنهم جمعوا بين عز الألوهية وذل السؤال، وبين غيوب الملائكة وعيوب الأبالسة، وبين تشريع النبوة وإباحية البهيمية، فإذا تشوفت إلى بعض التفصيل؛ فإنا نوجزه في نقط هي أهم ما حضرنا في الموضوع الآن: • البيعة والعهد والميثاق: النقطة الأولى: انتصابهم للتوسط بين الله وعباده في قبول التوبة، وأخذهم عليهم البيعة والعهد والميثاق بالطاعة لهم ولزوم الطريقة وخدمة الزاوية، ويفرضون مشيختهم على غيرهم بقولهم: من لم يكن له شيخ،

فالشيطان شيخه!! يريدون شيخ الطريقة الذي يزار بالكراع والدينار، ويتشددون في التزام ميثاقهم، ويبالغون في الإِنكار على من فارق طريقة إلى أخرى، ولكن شيخ الطريقة الأخرى يقبل المنتقل إليه بسرور، وقد كنت رأيت كتاباً للتيجانية يحكم مؤلفه بردّة من فارق طريقتهم، وسمى كتابه: " تنبيه الناس على شقاوة ناقضي بيعة أبي العباس ". ونحن نشرح كلمات البيعة والعهد والميثاق بالمعنى الديني كما بينه الراغب في " مفرداته "، ثم نقفي عليها ببيان الحق فيما أناطوه بها من أحكام: - فبيعة السلطان ومبايعته: التزام الطاعة له، وعدم الخروج عنه؛ قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]. - والعهد: حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال؛ قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإِسراء: 34]، وعهد الله: إما طبيعي، وهو ما ركزه في العقول، وإما شرعي، وهو ما أمر به في الكتاب والسنة، وإما وضعي، وهو ما يلتزمه المكلف وليس بلازم له في أصل الشرع؛ كالنذور. - والميثاق: عقد مؤكد بيمين وعهد، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81]. والتوسط بين العبد وربه لقبول توبته والعفو عنه أصل من أصول كفر اليهود والنصارى جاء الإِسلام برفعه ونفيه كما سبق في الفصل العاشر، وليس لأحد بعد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأخذ البيعة على أحد بطاعته والتوبة إلى الله؛ إلا أن يكون سلطاناً يقوم على جمع كلمة المسلمين وحفظ وحدتهم لإِظهار قوتهم. وفي " الحاوي " للسيوطي: " مسألة: رجل من الصوفية أخذ العهد على رجل، ثم اختار الرجل شيخاً آخر، وأخذ عليه العهد؛ فهل العهد الأول لازم أم

شيخ الطريقة

الثاني؟ الجواب: لا يلزم العهد الأول ولا الثاني، ولا أصل لذلك " (1/ 336). • شيخ الطريقة: وإيجابهم الشيخ على الناس صواب من الحكم، وشرحه بشيخ الزيارة خطأ في الفهم؛ فإن الشيخ الذي لا بد منه هو من تسأله عن دينك، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، والأنبياء: 7]. والدين منه ظاهر يتعلق بالبدن كصور العبادات، ومنه باطن يستقر بالقلب كتصحيح النيات؛ قال الشريشي: وَلِلشَّيْخِ آيَاتٌ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ … فَمَا هُوَ إِلَّا فِي لَيَالِي الْهَوَى يَسْرِي إِذَا لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِ عِلْمٌ بِظَاهِرٍ … وَلَا بَاطِنٍ فَاضْرِبْ بِهِ لُجَجَ الْبَحْرِ وَإِنْ كَانَ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ … لِوَصْفِهِمَا جَمْعًا عَلَى أَكْمَلِ الْأَمْرِ فَأَقْرَبُ أَحْوَالِ الْعَلِيلِ إِلَى الرَّدَى … إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا الطَّبِيبُ عَلَى خَيْرِ وقد نصح ابن عاشر باستصحاب الشيخ، وبين صفته وفوائد صحبته؛ فقال: يَصْحَبُ شَيْخاً عَارِفَ الْمَسَالِكْ … يَقِيهِ فِي طَرِيقِهِ الْمَهَالِكْ يُذَكِّرُهُ اللهَ إِذَا رَآهُ … ويُوصِلُ الْعَبْدَ إِلَى مَوْلَاهُ قال ابن الحاج في " حاشيته ": " ومفهوم قول الناظم: " شيخاً عارف المسالك ": أن من ليس كذلك لا تطلب صحبته، بل تجب مجانبته وهجرته، لسريان دائه للصاحب، ومشاركته له في سوء العواقب. ومن هنا حذر الناصحون من الدخول في الطريق في هذا الزمان، والاستناد فيه إلى أحد ممن يظن أنه من أهل هذا الشان؛ لكثرة الغلط، وفقد

شيخ يلقي المرء إليه قياده ويقتفيه، بل لا ترى إلا المريدين المبطلين ". قلت: الصوفي الجاهل مصدر الابتداع؛ فكل ما جاء في التحذير من البدعة وصاحبها تحذير من تصوف هذا الزمان وشيوخه. وعن معاذ بن جبل، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ مَشَى إِلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ لِيُوَقِّرَهُ؛ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ» (235). رواه الطبراني في " الكبير "، وفيه بقية، وهو ضعيف، قاله في " مجمع الزوائد " (1/ 188)، وذكره في " الاعتصام " عن عائشة (50/ 1). ¬

_ (235) ضعيف: أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (20/ 96/ 188)، وأبو نعيم في " الحلية " (6/ 97) من طريق بقية بن الوليد ثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل مرفوعاً. وقال الهيثمي (1/ 188) - كما نقله المؤلف-: " وفيه بقية، وهو ضعيف "! قلتُ: هو " صدوق "، لكنهم نقموا عليه " كثرة التدليس عن الضعفاء " كما قال الحافظ في " التقريب "، وقد صرّح بالتحديث فأمنّا شر تدليسه، فالعلّة ليست منه، بل لأنه منقطع بين خالد ومعاذ كما هو محرّر في " جامع التحصيل " [ص:171] للعلائي و " سير أعلام النبلاء " (4/ 537) للذهبي وغيرهما. وروي بلفظ: «مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ». أخرجه ابن عدي (2/ 324)، وابن حبان في " المجروحين " (1/ 235 - 236) من طريق الحسن بن يحى الخشني عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعاً. وهذا سند ضعيف جداً، الخُشني هذا " تركوه " كما قال الذهبي في " ديوان الضعفاء والمتروكين " (960)، بل قال ابن حبان في ترجمته من " المجروحين ": " منكر الحديث جداً، يروي عن الثقات ما لا أصل له، وعن المتقنين ما لا يتابع عليه ". ثم ذكر له حديثين- أحدهما حديث عائشة هذا- من روايته، ثم قال: " وهذا الخبران جميعاً باطلان موضوعان ". وأورده ابن الجوزي في " الموضوعات ". وللحديث طرق أخرى " كلّها ضعيفة " كما قال الحافظ العراقي كما في " فيض القدير " (6/ 237)، والله تعالى أعلم.

ولي الطرقيين

• ولي الطرقيين: النقطة الثانية: حصر الولاية فيمن كان على شاكلتهم ومن ذريتهم، ولَو كان حظه من العلم الأمية ومن العمل الإِباحية. والمعتقدون فيهم يجيبون عن جهلهم بحديث (236): " مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلِيٍّ جَاهِلٍ وَلَوِ اتَّخَذَهُ لَعَلَّمَهُ "، ويدافعون عن منكراتهم بأن شريبهم إنما يشرب عسلاً، أو أنه يطفئ من نور الولاية الشديد غلّته، وبأن زانيهم إنما زناه صورة خيالية يمتحن بها أهل المرأة ومبلغ عقيدتهم فيه، ويعبرون عن ذلك بقولهم: " الشيخ يفسد النية ". فأما أن الخمر تعود عسلًا، فمن البلادة الكثيفة، وقد تقدم في فصل الذبائح عن " الموافقات " أن تناول المباح يتعين أن يكون على الوجه المشروع لا تشبه فيه بالمحظور، وأما أن الشريب يطفئ من نور الولاية؛ فصحيح، وتكرر ذلك يخرج من ولاية الرحمن إلى ولاية الشيطان؛ فلا ترى له نوراً {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحديد: 12]، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]. وأما أن الزنى صورة خيالية؛ فإنكار للحس، وترويج للدياثة. وأما الحديث؛ فليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كما في " كشف الخفاء " (3/ 180). وتأوله في " الفتاوى الحديثية " من غير أن ينسبه للرسول بما لا يتفق ودعواهم لهم إيثار الجهل على العلم، فقال: " المراد الجاهل بالعلوم الوهبية ¬

_ (236) لا أصل له: انظر: " المقاصد الحسنة " (940) للسخاوي، و " تمييز الطيب " (1182) لابن الدّيبع، و " كشف الخفاء " (2/ 180) للعجلوني.

والأحوال الخفية، لا الجاهل بمبادئ العلوم الظاهرة مما يجب عليه تعلمه، فإن هذا لا يكون وليّاً ولا يراد للولاية ما دام على جهله بذلك، بل إذا أراد الله ولايته، ألهمه تعلم ما يجب عليه؛ لأنه لا يمكن الإِلهام فيه " [ص:93]. وفي الحديث: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» (237). علقه البخاري في كتاب ¬

_ (237) حسن: أخرجه البخاري في " صحيحه " (1/ 160 - بشرح الفتح) معلّقاً، ووصله ابن أبي عاصم في " كتاب العلم " - كما في " تغليق التعليق " (2/ 78) للحافظ-، والطبراني في " المعجم الكبير " (19/ 395/ 929) من طريق هشام بن عمّار ثنا صدقة بن خالد ثنا عُتْبة بن أبي حكيم عمّن حدثه عن معاوية مرفوعاً. قال الهيثمي (1/ 128): " وفيه رجل لم يُسم، وعُتبة بن أبي حكيم وثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان، وضعفه جماعة ". وقال العسقلاني في " الفتح " (1/ 161): " إسناده حسن إلّا أنّ فيه مبهماًا عتضد بمجيئه من وجه آخر ". وللحديث شواهد تقويه، منها: 1 - حديث أبي هريرة مرفوعاً، أخرجه الخطيب البغدادي في " تاريخه " (9/ 127) بإسناد حسن إن شاء الله تعالى. 2 - حديث أبي الدرداء مرفوعاً وموقوفاً: أمّا المرفوع؛ فقال في " المجمع " (1/ 128): " رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد، وهو كذاب ". وقال الحافظ العراقي في " تخريج الإِحياء " (3/ 176): " أخرجه الطبراني والدارقطني في " العلل " من حديث أبي الدرداء بسند ضعيف ". وأمّا الموقوف؛ فأخرجه أبو خيثمة في " كتاب العلم " (114)، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (1/ 100 - 101 و135 - 136)، وإسناده صحيح. 3 - أثر عبد الله بن مسعود الموقوف: أخرجه أبو خيثمة (115)، والبزار (1/ 92/ 158 و159)، وابن عبد البر (1/ 100) من طريقين عن أبي الأحوص عنه. قال الهيثمي (1/ 129) بعد أن عزاه للبزار: " ورجاله موثقون ".

محاربة تعاليم الطرق لأصول الإسلام

العلم، ووصله ورفعه ابن أبي عاصم والطبراني، وحسنه الحافظ في " الفتح " (1/ 131)، ورواه البزار من حديث طويل رجاله موثقون؛ كما في " مجمع الزوائد " (1/ 129). ولفظ الطبراني في " الكبير " عن معاوية؛ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ, وَالْفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ, وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا؛ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ, وَإِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ». وفيه رجل لم يسم، وعتبة بن أبي حكيم وثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان وضعفه جماعة. قاله في " مجمع الزوائد ". وعن أبي حنيفة والشافعي: " إن لم تكن العلماء أولياء الله؛ فليس لله ولي ". ذكره في " كشف الخفاء " (1/ 223). • محاربة تعاليم الطرق لأصول الإِسلام: النقطة الثالثة: الترفع عن التكاليف الشرعية، والترخيص لأتباعهم في اتباع أهوائهم، وضمان الجنة للصادقين في خدمتهم. • الطيب بن الحملاوي: فمن الشائع عن الطيب بن الحملاوي- وهو أخو عبد الرحمن نسباً وأدباً- أنه أمر صاحبة نزل بقسنطينة أن تهيئ له غداء في رمضان، فاستفهمته المرأة - وهي مسيحية- عن ذلك متعجبة؟! فأجابها قائلًا: نحن نْفُرْنِوْ الدين على الناس؟! وكلمة (نفرنو) فرنسية استعربت إلى العامية، يريدون منها معنى العطاء والتوزيع، والمقصود أن الدين ملك لهم، يكلفون به الناس ولا يتكلفون به. ومن المعلوم عند الحنصالية- وهي شعبة من الشاذلية- أن شيخهم سوّغ لهم الملاهي وتمتيع النفس بما تشتهي، وكم قائل من الطرقيين لمن رضيه من

يوم النظرة

خدامه: إذا تعرضت للنار يتعرض لها فخذي!! وكم شيخ نقل عنه ضمان الجنة لمن رآه ورأى من رآه إلى ثلاثة أجيال أو سبعة!! ويوم النظرة معروف عند التيجانية. • يوم النظرة: وهو أن الشيخ أحمد بن سالم جمع أحبابه- وهم مريدوه- من صحراء وهران وغيرها، ووقف- بعين ماضي مسقط رأسه قرب الأغواط- على ربوة، ووضع على رأسه قطعة ذهبية كبيرة ليُرى، ونادى في جموعه بضمان الجنة لمن رآه إلى سبعة أجيال. قال في " الموافقات ": " إن كثيراً ليتوهمون أن الصوفية أبيح لهم أشياء لم تبح لغيرهم، لأنهم ترقوا عن رتبة العوام المنهمكين في الشهوات إلى رتبة الملائكة الذين سلبوا الاتصاف بطلبها والميل إليها، فاستجازوا لمن ارتسم في طريقهم إباحة بعض الممنوعات في الشرع بناء على اختصاصهم عن الجمهور ... وهذا باب فتحته الزنادقة بقولهم: إن التكليف خاص بالعوام ساقط عن الخواص " (2/ 249). وقال في " الاعتصام ": " ويحكى عن الشيعة أنها تزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسقط محن أهل بيته ومن دان بحبهم جميع الأعمال، وأنهم غير مكلفين إلا بما تطوعوا، وأن المحظورات مباحة لهم؛ كالخنزير والزنى والخمر وسائر الفواحش، وعندهم نساء يسمين النوابات، يتصدقن بفروجهن على المحتاجين رغبة في الأجر، وينكحون ما شاؤوا من الأخوات والبنات والأمهات، لا حرج عليهم ولا في تكثير النساء " (2/ 38). وقال الهيتمي في " الفتح المبين " نقلاً عن أبي شامة من شيوخ النووي: " إن من البدع السيئة الانتماء إلى جماعة يزعمون التصوف ويخالفون ما كان عليه

ضمان الجنة

مشايخ الطريق من الزهد والورع وسائر الكمالات المشهورة عنهم، بل كثير من أولئك إباحية لا يحرمون حراماً لتلبيس الشيطان عليهم أحوالهم القبيحة الشنيعة؛ فهم باسم الفسق أو الكفر أحق منهم باسم التصوف أو الفقر " [ص:95]. • ضمان الجنة: وقد ضمن الإِسلام الجنة على الوصف لا على الاسم، وذلك الوصف هو الإِيمان الخالص والعمل الصالح في غير ابتداع، قال تعالى: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام: 48]. وفي " صحيح البخاري " وغيره عن سهل بن سعد الساعدي وغيره، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ؛ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ» (238). وللحديث روايات تتبعها في " كشف الخفاء " (2/ 247، 258). وفي " صيانة الإِنسان " عن أبي عقيل الحنبلي: " لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام؛ عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم " [ص:170]. وفي " تذكرة الحفاظ " للذهبي عن علي رضي الله عنه؛ أنه قال: " ألا أنبئكم بالفقيه حق الفقيه: من لم يقنّط الناس من رحمة الله، ولم يرخّص لهم في معاصي الله، ولم يؤمّنهم مكر الله " (239) (1/ 12). ¬

_ (238) أخرجه البخاري (11/ 308/ 6474) عن سهل بن سعد رضي الله عنه. (239) حسن: وله طرق عن عليّ موقوفاً: 1 - طريق عاصم بن ضمرة عنه:- ذكرها الذهبي في " التذكرة " (1/ 13) -: أخرجه أبو بكر الآجرّي في " أخلاق العلماء " (ص 52 - 53)، ومن طريقه الخطيب البغدادي في " الفقيه =

من دعاوى الطرقيين

• من دعاوى الطرقيين: النقطة الرابعة: كثرة دعاويهم الشنيعة، مثل: العروج إلى السماء، وجرهم الشمس مع الملائكة، والاجتماع بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل وقت يقظة، وتصرفهم في العلماء بسلب العلم عمن غضبوا عليه منهم، ويعبرون عن ذلك بقولهم: العلماء مصابح ونحن مراوح!! وقد سبق في الفصل الثاني عشر حديث: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا» (240). • الحسين القشي: ومن الشائع عن الحسين القشي دفين قرية سيدي خليفة جنوب ميلة قوله: بالحُرَيّمْ انْتاع سيدي ربي إلا فتشت على الدجال في السماء السابع وما لقيته!! والحريم- بفتح الراء وتشديد الياء تصغير الحرام- يمين السفهاء، ونسبته ¬

_ = والمتفقه " (2/ 161)، وأبو نعيم في " الحلية " (1/ 77) من طريق أبي بدر شجاع بن الوليد عن زياد بن خيثمة عن أبي إسحاق عنه به. وهذا سند رجاله ثقات صدوقون غير أبي إسحاق- وهو السَّبيعي- مدلس وكان اختلط. 2 - طريق يحى بن عباد (الأنصاري) عنه: أخرجه الدارمي في " سننه " (1/ 89)، وأبو خيثمة في " العلم " (143) من طريقين عن ليث عنه به. وليث- هو ابن أبي سُليم- ضعيف اختلط. 3 - طريق الحارث عنه: أخرجه الخطيب (2/ 160) أيضاً من طريق الصباح بن يحى المزني عن أبي إسحاق عنه به. والصباح " متروك، بل متهم "؛ كما قال الذهبي في " الميزان "، ومثله الحارث كما تقدم برقم (16). وقد روي مرفوعاً، أخرجه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (3/ 44) من حديث عليّ، وقال: " لا يأتي هنا الحديث مرفوعاً إلّا من هذا الوجه، وأكثرهم يوقفونه على علي ". قلتُ: وهو الأصوب، فإن في إسناد المرفوع ضعفاً وجهالةً، والله تعالى أعلم. (240) تقدم برقم (52).

كلاب ابن الحملاوي

إلى الله اعتقاد بأن له صاحبة، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. ونفيه لوجود الدجال تكذيب بما ورد فيه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ورقيه للسماء ردة كما في " مختصر خليل " وغيره. ومع ذلك، فهو ولي مزور وذريته معظمة، وإن كان المعظمون لهم قد يعظمون الكلاب تعظيمهم. • كلاب ابن الحملاوي: فقد تواتر أن كلاب عبد الرحمن بن الحملاوي هامت ذات سنة في عدة جهات، فكان الناس يكرمونها بالذبائح والضيافات، ولكنهم يؤلمونها بانتزاع شعورها تبركاً وزلفى. • اعتماد الطرقيين على الخرافات: النقطة الخامسة: الاعتماد في دينهم على الخرافات والمنامات وما يربي هيبتهم في قلوب مريديهم من حكايات، ولا يتصلون بالعلماء إلا بمن أعانهم على استعباد الدهماء، والرد على المرشدين النصحاء؛ بتأويل ما هو حجة عليهم، وتصحيح الحديث الموضوع إذا كان فيه حجة لهم. قال أبو بكر بن العربي في " العواصم ": " إن غلاة الصوفية ودعاة الباطنية يتشبهون بالمبتدعة في تعلقهم بمشتبهات الآيات والآثار على محكماتها، فيخترعون أحاديث أو تخترع لهم، على قالب أغراضهم؛ ينسبونها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتعلقون بها علينا " (1/ 9). • تأله الطرقيين: النقطة السادسة: صرف قلوب الناس عن الله إليهم؛ بالرجاء فيهم، والخشية منهم، والاعتماد في سعادة الدارين عليهم، وهذا تأله منهم واستعباد

العربي بن حافظ

لأتباعهم. قال الحافظ ابن رجب في رسالة " تحقيق كلمة الإِخلاص ": " إن من أحب شيئاً وأطاعه، وكان من غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله وعادى لأجله، فهو عبده، وكان ذلك الشيء معبوده وإلهه " [ص:7]. واستشهد لهذه القاعدة بنصوص من الكتاب والسنة تركنا نقلها اختصاراً واكتفاء بما قدمناه في الفصول السابقة. • العربي بن حافظ: ويدل لتألّههم وتأليه الناس لهم دلائل كثيرة حالية ومقالية: قال العربي بن حافظ: " يا رب! أنت اشبح ونا نشبح وما خايف إلا على جهتك ". وهو أحد مشاهير المرابطين، معاصر للحسين القشي بقاف بدوية وشين مشددة، يسكن جنوب ميلة قرب العثمانية، ولم يزل أحد أبنائه لصلبه حيّاً، ومعناه اشبح: اضغط، ومرادَه إظهار التبرم بالناس والتضجر منهم، وأنهم أهل لكل ضغط إلهي، وأنه مشارك للإِله في هذا الضغط قاس فيه، ولكن يخشى التخفيف من جانب الله!! والمؤمن الراجي لرحمة الله يكون ذا رحمة، ولا ينازع الله في شيء من أحكامه، ولا يعدم المتأولة وجهاً لستر ذلك الشرك العظيم، ولكن بإخراجه من مراد المتكلم وفهم العامة التي هي راوية أمثال هذه الأقوال. وقال شاعر عامي يخاطب الشيخ عبد القادر الجيلي من قصيدة: يا لعرج ولدام الخير يا سيدي نيف عليه … وانحزنك وندير السير إلى ما درت مزيه

تبليه الطرقيين للناس

• تبليه الطرقيين للناس: النقطة السابعة: بث الجمود في الناس، وتلقيح غفلتهم، ثم حثهم على زيارتهم والرحلة إليهم لاستدرار أموالهم ولاستغلال جمودهم وغفلتهم. فمن أقوالهم الجارية: سلم تسلم، سلم للرجال في كل حال، اعتقد ولا تنتقد، زوروا تنوروا!! ومرادهم من الرجال الذين يسلم لهم ويعتقد فيهم من كان على مثل حالهم- لا علماء الدين ومن كان من أهل الغيرة الناصحين-. والمقصود بالزيارة الجدود والمشاهد لا حلق العلم والمساجد. ويذكرون عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أنه قال: " لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه " (241). ولهذا الحديث صيغ وألفاظ، كلها كذب ولا أصل لها، إنما هي من آثار عبدة الأحجار كما في " كشف الخفاء " (2/ 52). • استلاب الطرقيين للأموال: وقد مر في فصل الزيارة ذكر الوعيد الشديد على سؤال ما في أيدي الناس تكثراً من الدنيا. وشأن شيوخ الطرق في استلاب ما في أيدي الناس عجاب. ¬

_ (241) موضوع: انظر: " مجموع الفتاوى " (24/ 335) لابن تيمية، و " المنار المنيف " (319) لابن القيم، و " المقاصد الحسنة " (883) للسخاوي، و " تمييز الطيب " (1099) لابن الدِّيبع، و " كشف الخفاء " (2/ 198 - 199/ 2087) للعجلوني.

ومما وقع وأنا بالأغواط أرشد الناس إلى ضلال هاته الطرق: أن أحد شيوخها ممن كان يتبرك بغبار سيارته اشترى داراً بسبعين ألفاً، وليس تحته فرنك منها، فخرج إلى من ألِفَ منهم الاعتقاد فيه، وقال لهم: الزاوية مدينة؛ فاجمعوا لها ما تؤدي به الدين. فأجابوه أن لك أربع ديار؛ فإذا بعتها وبقيت الزاوية مدينة؛ فنحن مستعدون لخلاصها من الدين. فكان هذا الجواب أول ما طرق سمعه على خلاف هواه!! مرابط عرفناه فقيراً، فلما أقبل الناس على زيارته، أصبح غنيّاً يتودد بغناه إلى الحكام. ولم تكن الصوفية زمن القشيري على هذا الوصف في ابتزاز الأموال من النساء والرجال، ولو كانوا وكن في الفقر أحط مثال، ومع ذلك حذر منه، فقال آخر رسالته: " ومن شأن المريدين، بل من طريقة سالكي هذا المذهب، ترك قبول رفق النسوان؛ فكيف التعرض لاستجلاب ذلك؟! وعلى هذا درج شيوخهم، وبذلك نفذت وصاياهم، ومن استصغر هذا؛ فعن قريب يلقى ما يفتضح به ". ومن نظم الزمخشري: إِنِّي عَلَى مَا أَرَاكُمْ لَا أُحَذِّرُكُمْ … مَعَرَّةَ اللِّصِّ وَالْأكْرَادِ وَالْفَسَقَهْ لَكِنْ أُحَذِّرُكُمْ مَنْ يَنْبَرِي لَكُمُ … فِي هَيْئَةِ الزُّهْدِ لَكِنْ هَمُّهُ السَّرِقَهْ صَلَاتُهُ الرُّمْحُ وَالتَّسْبِيحُ أَسْهُمُهُ … وَصَوْمُهُ سَيْفُهُ وَالْمُصْحَفُ الدَّرَقَهْ هذا حديثنا عن صوفية الزمان هداة الشرك وحماته، وقد دعوناهم بالكتاب والسنة إلى الوفاق؛ فأخذتهم العزة بالإِثم، ولجوا في الشقاق، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} النساء: 115].

ما يسأل عنه غدا

• ما يسأل عنه غداً: أيها المسلم! إنك لست مسؤولاً [غدا] عن شيخ ورث المشيخة عن آبائه وجدوده، أو اشتراها بعرضه ونقوده، ثم هو ليس له من الفضل إلا أنه قد يفوقك في الجهل ويحسن دونك الدجل، ولكنك مسؤول عن ربك؛ كيف كانت معرفتك به؟ وعن رسولك؛ كيف كان جوابك له؟ وعن كتاب وسنة؛ كيف كان عملك بهما؟ قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 84]. {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]. {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف: 21]. ويرحم الله القائل: كَلَامُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلِي … وَمَا صَحَّتْ بِهِ الْآثَارُ دِينِي • • • • •

إلى الدين الخالص

30 - إلى الدين الخالص • ابتداء الحرب على حكومة القطب: أول صحيفة دعت إلى تحرير الأمة من ضغط ديوان الصالحين هي صحيفة ((المنتقد)) سلف ((الشهاب))، وأعلنت في صدر أول عدد منها مبدأها الانتقادي، وأول استخفاف وسخرية بحكومة القطب وديوانه ما نشرته تلك الصحيفة في عددها السادس من مقال لنا تحت عنوان: " العقل الجزائري في خطر "؛ فاستاءت لها الدوائر الطرقية. • قصيدة العقبي وتأثيرها في الأمة: ولكن أتى الوادي فطم على القوى؛ إذ حمل العدد الثامن في نحره المشرق قصيدة " إلى الدين الخالص " للأخ في الله داعية الإِصلاح وخطيب المصلحين الشيخ الطيب العقبي أمد الله في أنفاسه، فكانت تلك القصيدة أول معول مؤثر في هيكل المقدسات الطرقية، ولا يعلم مبلغ ما تحمله هذه القصيدة من الجراءة، ومبلغ ما حدث عنها من انفعال الطرقية، إلا من عرف العصر الذي نشرت فيه، وحالته في الجمود والتقديس لكل خرافة في الوجود، وقد أحببنا أن نثبتها في هذه الرسالة لمناسبتها لموضوعها؛ فهاكها:

حالة موجبة للاستعبار وعظة موجبة للاعتبار

• حَالَةٌ مُوْجِبَةٌ لِلاسْتِعْبَارِ وَعِظَةٌ مُوْجِبَةٌ لِلْاعْتِبَارِ: مَاتَتِ السُّنَّةُ فِي هَذِي الْبِلَادْ … قُبِرَ الْعِلْمُ وَسَادَ الْجَهْلُ سَادْ وَفَشَا دَاءُ اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ … فِي سُهُولِ الْقُطْرِ طُرّاً وَالنِّجَادْ عَبَدَ الْكُلُّ هَوَاءَ شَيْخِهِ … جده ضَلُّوا وَضَلَّ الاِعْتِقَادْ حَكَّمُوا عَادَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ … دُونَ شَرْعِ اللهِ إِذْ عَمَّ الْفَسَادْ لَسْتُ مِنْهُمْ لَا وَلَا مِنِّي هُمُ … وَيْلَهُمْ يَا وَيْلَهُمْ يَوْمَ الْمَعَادْ يَوْمَ يَأْتِي الْخَلْقُ فِي الحَشْرِ وَقَدْ … نُشِرُوا نَشْرَ فَرَاشٍ وَجَرَادْ يَوْمَ لَا تَنْفَعُهُمْ مَعْذِرَةٌ … وَلَظَى مَأْوَاهُمُ بِئْسَ الْمِهَادْ يُصْهَرُ السَّاكِنُ فِي أَطْبَاقِهَا … كُلَّمَا أُحْرِقَ مِنْهُ الْجِلْدُ عَادْ وَكَّلَ اللهُ بِمَنْ حَلَّ بِهَا … جَمْعَ أَمْلَاكٍ غِلَاظٍ وَشِدَادْ أَكْلُهُمْ فِيهَا ضَرِيعٌ شُرْبُهُمْ … مِنْ حَمِيمٍ لُبْسُهُمْ فِيهَا سَوَادْ كُلَّمَا فَكَّرْتُ فِي أَمْرِهُمُ … طَالَ حُزْنِي وتَغَشَّانِي السُّهَادْ • نَصِيحَةٌ غَالِيَةٌ: أَيُّهَا الْأَقْوَامُ إِنْ تَبْغُوا الْهُدَى … مَا لَكُمْ وَاللَّهِ غَيْرُ الْعِلْمِ هَادْ إِنَّنِي أَنْصَحُكُمْ نُصْحَ امْرِىءٍ … مَا لَهُ غَيْرُ التُّقَى وَالْخَوْفِ زَادْ كُلَّمَا يَنْقُصُ يَوْمًا عُمْرُهُ … خَوْفُهُ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْحَشْرِ زَادْ مَا زَرَعْتُمْ فِي غَدٍ تَلْقَوْنَهُ … لَيْسَ يُجْدِي نَدَمٌ يَوْمَ الْحَصَادْ • اِعْتِقَادٌ نَقِيٌّ وَاتِّصَافٌ بِهِ: أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ مُعْتَقَدِي … يَبْتَغِيَ مِنِّيَ مَا يَحْوِي الْفُؤَادْ إِنَّنِي لَسْتُ بِبِدْعِيٍّ وَلَا … خَارِجِيٍّ دَأْبُهُ طُولُ الْعِنَادْ يُحْدِثُ الْبِدْعَةَ فِي أَقْوَامِهِ … فَتَعُمُّ الْأَرْضَ نَجْدًا وَوِهَادْ لَيْسَ يَرْضَىَ اللَّهُ مِنْ ذِيْ بِدْعَةٍ … عَمَلًا إِلَّا إِذَا تَابَ وَهَادْ

اعتقاد شركي وبراءة منه

لَسْتُ مِمَّنْ يَرْتَضِي فِي دِينِهِ … مَا يَقُولُ النَّاسُ زَيْدٌ أَوْ زِيَادْ بَلْ أنا مُتَّبعٌ نَهْجَ الألى … صَدَعُوا بِالْحَقِّ فِي طُرْقِ الرَّشَادْ حُجَّتِي الْقُرْآنُ فِيمَا قُلْتُهُ … لَيْسَ لِي إِلَّا عَلَى ذَاكَ اسْتِنَادْ وَكَذا مَا سَنَّهُ خَيْرُ الْوَرَى … عُدَّتِي وَهْوَ سِلَاحِي وَالْعَتَادْ وَبِذَا أَدْعُو إِلَى اللهِ وَلِي … أجْرُ مَشْكُورٍ عَلَى ذَاكَ الْجِهَادْ مِنْكُمُ لَا أَسْأَلُ الْأَجْرَ وَلَا … أَبْتَغِي شُكْرَكُمُ بَلْهَ الْوِدَادْ مَذْهَبِي شَرْعُ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى … وَاعْتِقَادِي سَلَفِيٌّ ذُو سَدَادْ خُطَّتِي عِلْمٌ وَفِكْرٌ نَظَرٌ … فِي شُؤُونِ الْكَوْنِ بَحْثاً وَاجْتِهَادْ وَطَرِيقُ الْحَقِّ عِنْدِي وَاحِدٌ … مَشْرَبِي مَشْرَبُ قُرْبٍ لَا ابْتِعَادْ • اِعْتِقَادٌ شِرْكِيٌّ وَبَرَاءَةٌ مِنْهُ: لَا أَرَى الْأَشْيَاخَ فِي قَبْضَتِهِمْ … كُلُّ شَيْءٍ بَلْ هُمُ مِثْلُ الْعِبَادْ وَعَلَى مَنْ يَدَّعِي غَيْرَ الَّذِي … قُلْتُهُ إِثْبَاتُ دَعْوَى الِاتِّحَادِ قَالَ قَوْمٌ سَلِّمِ الْأَمْرَ لَهُمْ … تَكُنِ السَّابِقَ فِي يَوْمِ الطِّرَادِ تَنَلِ الْمَقْصُودَ تَحْظَى بِالْمُنَى … وَتَرَى خَيْلَكَ فِي الْخَيْلِ الْجِيَادْ قُلْتُ إِنِّي مُسْلِمٌ يَا وَيْحَكُمْ … لَيْسَ لِي إِلَّا إِلَى الشَّرْعِ انْقِيَادْ قَوْلُكُمْ هَذَا هُرَاءٌ أَصْلُهُ … مَا رَوَتْ هِنْدٌ وَمَا قَالَتْ سُعَادْ أَنَا لَا أُسَلِّمُ نَفْسِي لَهُمُ … لَا وَلَا أَلْقِي إِلَيْهِمْ بِالْقِيَادْ لَسْتُ أَدْعُوهُمْ كَمَا قُلْتُمْ وَقَدْ … عَجَزُوُا عَنْ طَرْدِ بَقٍّ أَوْ قَرَادْ لَسْتُ مِنْ قَوْمٍ عَلَى أَصْنَامِهِمْ … عَكَفُوا يَدْعُونَهَا فِي كُلِّ نَادْ كُلَّمَا أَنْشَدَ شَادٍ فِيهِمُ … قَوْلَ شِرْكٍ ذَهَبُوا فِي كُلِّ وَادْ كَمْ بَنَوْا قَبْرًا وَشَادُوا هَيْكَلًا … وَصُرُوحُ الْغَيِّ بِالْجَهْلِ تُشَادْ غَرَّهُمْ مَنْ دَاهَنُوا فِي دِينِهِمْ … وَارْتَضَوْا فِي سَيْرِهِمْ ذَرَّ الرَّمَادْ

سوء أثر الطرقية في المجتمع

• سُوءُ أَثَرِ الطُّرُقِيَّةِ فِي الْمُجْتَمَعِ: إِنَّنِي أَلْعَنُهُمْ مِمَّا بَدَا … حَاضِرٌ فِي إِفْكِهِ مِنْهُمْ وَبَادْ وَأَنَا خَصْمٌ لَهُمْ أُنْكِرُهُمْ … كَيْفَمَا كَانُوا جَمِيعاً أَوْ فِرَادْ عَلَّمُونَا طُرُقَ الْعَجْزِ وَمَا … مِنْهُمُ مَنْ لِسِوَى الشَّرِّ أَفَادْ طَالَمَا جَدَّ الْوَرَى فِي سَيْرِهِمْ … وَهُمُ كَمْ صَدَّهُمْ طُولُ الرُّقَادْ • السِّيَادَةُ النَّافِعَةُ: إِنَّ سَادَاتِ الْوَرَى قَادَتْهُمْ … بِعُلُومٍ مَا حَدَا بِالرَّكْبِ حَادْ وَهُمُ رِدْئِي وَعَوْنِي نُصْرَتِي … وَوِقَائِي مَا اعْتَدَتْ تِلْكَ الْعَوَادْ تِلْكُمُ السَّادَةُ مَا صَدَّهُمُ … عَنْ هُدَى دِينِهُمْ فِي الْحَقِّ صَادْ • ضُرُوبٌ مِنَ الْبِدَعِ: لَسْتُ أَدْعُو غَيْرَ رَبِّي أَحَداً … وَهْوَ سُؤْلِي وَمَلَاذِي وَالْعِمَادْ وَلَهُ الْحَمْدُ فَقَدْ صَيَّرَنَا … بِالهُدَى فَوْقَ نِزارٍ وَإِيَادْ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمُ مِنْ دُونِهِ … مَا عَنَانِي مِنْكُمُ ذَاكَ العِنَادْ لَسْتُ مُنْقَاداً إِلَى طَاغُوتِكُمْ … بِظَبِى الْبِيضِ وَلَا السُّمْرِ الصِّعَادْ لَمْ أَطُفْ قَطُّ بِقَبْرٍ لَا وَلَا … أَرْتَجِي مَا كَانَ مِنْ نَوْعِ الْجَمَادْ لَسْتُ أَكْسُو بِحَرِيرٍ جَدَثاً … نُخِرَتْ أَعْظُمُهُ مِنْ عَهْدِ عَادْ لَا أَشُدُّ الرَّحْلَ أَبْغِي حَجَّهُ … قُرْبَةً تَنْفَعُنِي يَوْمَ التَّنَادْ حَالِفاً كُلَّ يَمِينٍ إِنّهُ … سَوْفَ يَقْضِي حَاجَتِي ذَاكَ الْجَوَادْ لا أسوق الهَدْيَ قرْباناً لَهُ … زَرْدَةً يَدْعُونَها أهْل البِلادْ • الزِّيَارَةُ السُّنِّيَّةُ: وَفِرَارِي كُلَّمَا أَفْظَعَنِي … حَادِثٌ يُلْبِسُنِي ثَوْبَ الْحِدَادْ

الدعاء الشرعي والشركي

لِلَّذِي أَطْلُبُ رِزْقِي دَائِماً … مِنْهُ إِذْ لَيْسَ لِمَا يُعْطِي نَفَادْ وِإِذَا زُرْتُ أَزُرْ مُعْتَبِراً … بِقُبُورٍ مَاتَ مَنْ فِيهَا وَبَادْ دَاعِياً رَبِّي لَهُمْ مُسْتَغْفِراً … رَاجِياً لِلْكُلِّ فِي الْخَيْرِ ازْدِيَادْ وَالَّذَي مَاتَ هُوَ الْمُحْتَاجُ لِي … هَكَذَا أَقْضِي وَلَا أَخْشَى انْتِقَادْ • الدُّعَاءُ الشَّرْعِيّ وَالشِّرْكِيّ: لَا أُنَادِي صَاحِبَ الْقَبْرِ أَغِثْ … أَنْتَ قُطْبٌ أَنْتَ غَوْثٌ وَسِنَادِ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَدْعُو بِهِ … إِنَّ ذَا عِنْدِي شِرْكٌ وَارْتِدَادِ لَا أُنَادِيهِ وَلَا أَدْعُو سِوَى … خَالِقِ الْخَلْقِ رَؤُوفٍ بِالْعِبَادْ مَنْ لَهُ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى وَهَلْ … أَحَدٌ يَدْفَعُ مَا اللَّهُ أَرَادْ مُخْلِصًا دِينِي لَهُ مُمْتَثِلًا … أَمْرَهُ لَا أَمْرَ مَنْ زَاغَ وَحَادْ • الاِتِّكَالُ عَلَى الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ: حَسْبِيَ اللهُ وَحَسْبِيَ قُرْبُهُ … عِلْمُهُ رَحْمَتُهُ فَهُوَ الْمُرَادْ • • • • •

خاتمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

خاتمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر • معنى المعروف والمنكر ومنزلة الأمر والنهي: المعروف: ما عرف الشرع حسنه؛ فأمر به إيجاباً واستحباباً، ودعا إليه دعاء طاعة وسنة. والمنكر: ما نكره الشرع وحكم بقبحه؛ فنهى عنه تحريماً أو تنزيهاً، وحذر منه تحذير معصية أو بدعة. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ملاك أمر الدين وصيانة حرمته بين المسلمين، والقيام بهما يحفظ عليهم علم الشريعة المنير للعقول، ويبث فيهم المواعظ المحيية للقلوب، ومن خسر عقله بالجهل وقلبه بالغفلة؛ فقد خسر نفسه وخسر الدنيا والآخرة {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11 والزمر: 15]. وقد جاءت الآيات الكثيرة والأحاديث العديدة في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فنقتصر منها على آية من آل عمران، وحديث من " صحيح مسلم "، وثان من " صحيح البخاري "، وتقدم في الفصل الرابع حديث ابن مسعود عند أبي داود.

حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

1 - قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. 2 - وعن ابن مسعود؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي؛ إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ؛ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ». رواه مسلم (242). 3 - وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَصَارَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، وَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ؛ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا؛ هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ؛ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا». رواه البخاري (2143). • حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وقد أجمع المسلمون على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به بعض الناس، سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع؛ أثم كل من تمكن منه بلا عذر، وقد يتعين على واحد إذا لم يستطعه غيره أو لم ير المنكر والتقصير في المعروف سواه. ¬

_ (242) أخرجه مسلم (1/ 69 - 70/ 50) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (243) أخرجه البخاري (5/ 132/ 2493) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

تأكيد حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقال ابن الحاج في " حاشيته على صغير ميارة ": " يتعين فرض الكفاية بالشروع فيه، أي: يصير فرض عين على الأصح، حتى طلب العلم لمن ظهرت فيه قابلية من نجابة، قاله سحنون، خلاف ما عند المحلي " (1/ 155)، وما قاله في طلب العلم مثله في " أحكام القرآن " لابن العربي (1/ 122). • تأكيد حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 155]؛ فقال النووي في " شرح مسلم ": " المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به؛ فلا يضركم تقصير غيركم؛ مثل قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وإذا كان كذلك، فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب؛ فلا عتب بعد ذلك على الفاعل، لكونه أدى ما عليه؛ فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول، والله أعلم ". وفي " الدر المنثور ": " وأخرج الترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير والبغوي في " معجمه " وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في " الشعب " عن أبي أمية الشعباني، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟ قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «بَلْ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ؛ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ العَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أيَّامَ الصَّبْرِ

شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الصَّابِرُ فِيهِنَّ مِثْلُ القَابِضِ عَلَى الجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» (244) (2/ 339). • شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: [و] يشترط للقيام بأمر المعروف ونهي المنكر شروط: أحدها: العلم بحكم الشرع في الفعل المأمور به أو المنهي عنه. ثانيها: أن يكون ذلك الفعل مما أجمع العلماء على حكمه أو اختلفوا فيه، ولكن فاعله يعتقد القول بالمؤاخذة ويرتكبه مخالفة للشرع. ثالثها: أن لا يؤدي القيام بهذا الأمر إلى محظور أشد. واختلفوا في شرط رابع وهو ظن الإِفادة: فاعتبره من قال: مَعْرِفَةُ الْمُنْكَرِ وَالْمَعْرُوفِ … وَالظَّنُّ فِي إِفَادَةِ الْمَوْصُوفِ ¬

_ (244) ضعيف: أخرجه أبو داود (2/ 217)، والترمذي (8/ 422 - 425/ 5051)، وابن ماجه (4014)، وابن جرير في " تفسيره " (7/ 97)، وابن حبان (2/ 108 - 109/ 385)، والطبراني (22/ 220/ 587)، وأبو نعيم في " الحلية " (2/ 30)، والبغوي في " شرح السنة " (14/ 347 - 348/ 4156) من طرق عن عُتبة بن أبي حكيم؛ قال: حدثني عمرو بن جارية اللخمي: حدثني أبو أمية الشعباني به، وقال الترمذي: " حديث حسن غريب "! قلتُ: كذا قال! وأبو أمية وعمرو بن جارية لم يوثقهما أحذ غير ابن حبان، وقال الحافظ في " التقريب " في كلّ منهما: " مقبول " يعني عند المتابعة وإلّا فلين الحديث كما نصّ عليه في " المقدمة "، وعُتبة " صدوق يخطئ كثيراً " كما في " التقريب " أيضاً، فأنىّ لحديثه الحسن؟! نعم، لجملة " أيام الصبر " شواهد تتقوى بها؛ فانظر: " الصحيحة " (494 و957)، و " صحيح سنن الترمذي " (1844) للألباني.

مطالبة المقصر في طاعة غيره بها

وَالْأَمْنُ فِيهِ مِنْ أَشَدِّ النُّكْرِ … كَقَتْلِ شَخْصٍ فِي قِيِامِ الْخُمْرِ ولم يعتبره جمع من العلماء منهم النووي؛ قال في " شرح مسلم ": " قال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول، وكما قال الله عز وجل: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [المائدة: 99]. • مطالبة المقصر في طاعة غيره بها: ولم يشترطوا للقيام بهذه المهمة أشياء: أحدها: الاستقامة؛ فعلى المخل بالشيء أن يأمر غيره به. قال النووي: " فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه؛ فإذا أخل بأحدهما؛ كيف يباح له الإِخلال بالآخر ". • حرية الوعظ والإِرشاد: ثانيها: الولاية من الأمير؛ فعلى غير المتولي القيام بهذا الشأن. قال النووي عن إمام الحرمين: " والدليل عليه إجماع المسلمين؛ فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية، والله أعلم ". ألا؛ فليعلم هذا من سعوا في منع العلماء غير المتوظفين من الوعظ بالمساجد، وليعلمه من سرهم ذلك المنع، وليعلمه المؤيدون للعلماء في الاحتجاج على ذلك المنع.

الشجاعة في الوعظ والإرشاد

• الشجاعة في الوعظ والإِرشاد: ثالثها: الهيبة؛ فعلى غير المهيب أن ينكر على المهيب أو يأمره؛ لخبر الترمذي وغيره: «أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ» (245). قال النووي في هذا المقام: " واعلم أن الأجر على قدر النصب "، وساق من الآيات: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]، {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2 - 3]. • لزوم النصيحة في الوعظ والإِرشاد: رابعها: المحافظة على رابطة من صداقة أو حظوة؛ فعلى المرء أن يأمر صديقه وينكر عليه، ولو خشي تغير قلبه عليه وسقوط حظوته لديه. قال النووي: " فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقّاً، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته وينقذه من مضارها، وصديق الإِنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه، وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، ¬

_ (245) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 19 و44 و46 - 47 و50 و53 و61 و 84 و87 و92)، والترمذي (6/ 428 - 432/ 2286)، وابن ماجه (4007)، والحاكم (4/ 506)، وغيرهم من طرق عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً. وقال الترمذي: " حديث حسن ". وانظر: " الصحيحة " (168).

عناية السلف بالأمر والنهي

وإنما كان إبليس عدوّاً لنا لهذا، وكانت الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها ". • عناية السلف بالأمر والنهي: وقد مرَّ في كلام النووي التنبيه على عناية السلف بهذا الواجب الديني الاجتماعي، وعدم مبالاتهم في تنفيذه بالأمراء، ومواقفهم في هذا الباب لا يتسع لها كتاب، ولكني أقتصر منها على قصتين: • سعيد بن المسيب والدولة الأموية: إحداهما: عن المطلب بن السائب، قال: " كنت جالساً مع سعيد بن المسيب في السوق، فمر بريد لبني مروان، فقال له سعيد: من رسل بني مروان أنت؟ قال: نعم. قال: كيف تركت بني مروان؟ قال: بخير. قال: تركتهم يجيعون الناس ويشبعون الكلاب؟ فاشرأب الرسول، فقمت إليه، فلم أزل أرجيه حتى انطلق. فقلت لسعيد: يغفر الله لك! تشيط بدمك؟ فقال: اسكت يا أحيمق، فوالله، لا يسلمني الله ما أخذت بحقوقه ". ذكرها الذهبي في " تذكرة الحفاظ " (1/ 52). • الأوزاعي والأمير العباسي: ثانيتهما: عن الفريابي؛ قال: " اجتمع سفيان والأوزاعي وعباد بن كثير بمكة، فقال سفيان: يا أبا عمرو! حدثنا حديثك مع عبد الله بن علي عم السفاح. فقال: لما قدم الشام، وقتل بني أمية، جلس يوماً على سريره وعبى أصحابه أربعة أصناف: صنف بالسيوف المسللة، وصنف معهم الجزرة، وصنف معهم الأعمدة، وصنف معهم الكافركوب، ثم بعث إلي، فلما صرت إلى الباب، أنزلوني عن دابتي، وأخذ اثنان بعضدي، وأدخلوني بين الصفوف،

حتى أقاموني بحيث يسمع كلامي، فقال لي: أنت عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي؛ قلت: نعم؛ أصلح الله الأمير. قال: ما تقول في دماء بني أمية؛ قلت: قد كان بينك وبينهم عهود، وكان ينبغي أن يفوا بها. قال: ويحك! اجعلني وإياهم لا عهد بيننا. فأجهشت نفسي، وكرهت القتل، فذكرت مقامي بين يدي الله، فلفظتها، فقلت: دماؤهم عليك حرام. فغضب، وانتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، فقال لي: ويحك! ولم؟ قلت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: ثَيِّبٌ زَانٍ، وَنَفْسٌ بِنَفْسٍ، وَتَارِكٌ لِدِينِهِ» (246). قال: ويحك! أوليس الأمر لنا ديانة؟ قلت: كيف ذاك؟ قال: أليس كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصى لعلي؟ قلت: لو أوصى إليه، لما حكم الحكمين. فسكت وقد اجتمع غضباً، فجعلت أتوقع رأسي يسقط بين يدي، فقال بيده هكذا (أومى أن أخرجوه). فخرجت، فما أبعدت؛ حتى لحقني فارس، فنزلت، وقلت وقد بعث ليأخذ رأسي: أصلي ركعتين. فكبرت، فجاء وأنا أصلي، فسلم وقال: إن الأمير بعث إليك هذه الدنانير. قال: ففرقتها قبل أن أدخل بيتي ". عن " تذكرة الحفاظ " (1/ 171). ¬

_ (246) صحيح: روي من حديث ابن مسعود وعائشة وعثمان رضي الله عنهم. 1 - أما حديث ابن مسعود، فأخرجه البخاري (12/ 201/ 6878)، ومسلم (3/ 1302 - 1303/ 1676) وغيرهما. 2 - وأمّا حديث عائشة، فأخرجه مسلم (1676)، وأبو داود (2/ 219)، والنسائي (7/ 91 و 101 - 102). 3 - وأمّا حديث عثمان؛ فأخرجه أبو داود (4502)، والترمذي (6/ 372 - 373/ 2247)، وقال: " حديث حسن "، والنسائي (7/ 91 - 92 و103 و104)، وابن ماجه (2533) وغيرهم.

تقصير الخلف عن صراحة وشجاعة السلف

• تقصير الخلف عن صراحة وشجاعة السلف: ذلك موقف سعيد بن المسيب من كبار التابعين ومن فقهاء المدينة السبعة مع الأمويين في شباب دولتهم، وهذا موقف ابن عمرو الأوزاعي عصري الإِمام مالك وأحد الأئمة المجتهدين مع العباسيين في فجر دولتهم وغلبة الشره إلى الدماء عليهم؛ فوازن بين موقفهما وموقف رجال الدين الحكومي مع الدولة الحاضرة وهي دولة مدنية بعد عهدها بأيام الاحتلال، ثم وازن بين تلك الصراحة في الحق وبين ما سمعناه كثيراً من قول رجال الدين الحكومي: وافق أو نافق أو فارق! يريدون وافق الحكام على أعمالهم ظاهراً وباطناً، أو ظاهراً فقط، أو اخرج من مملكتهم. الحق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد قل رجالهما منذ قرون. فهذا الإِمام النووي في القرن السابع قرن أئمة العلوم وحفاظ الحديث يشكو ضياع هذا الواجب، فيقول: " واعلم أن هذا الباب (أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدّاً ". • الإِنكار على الاحتجاج بسكوت العلماء: أبعد هذا يحتج محتج لتقرير بدعة بسكوت من يعرفه من العلماء عنها؛! على أن العلماء العاملين لم يتواطؤوا على السكوت، وقد نقلنا في هذه الرسالة من الأقوال ما تعرف به استمرار الإِنكار على البدع في كل زمان، وأن ما أنكرناه على أهل زماننا أنكره مَن قبلنا على أهل زمانهم، ولم ينفرد بهذه الخطة التقي ابن تيمية رحمه الله، وإن انفرد بالشهرة فيها. • الغرض من بيان مواد الرسالة: وفيما يلي نثبت أسماء الكتب التي صرحنا بالنقل منها في صلب الرسالة،

ختم الرسالة بما فتحت به من تنزيه الله والصلاة على رسوله

إظهاراً للصلة بين كلامنا وكلام المتقدمين، ونرسم أمام أغلبها تاريخ طبعه؛ ليصحح من شاء نقلنا على نفس النسخة المنقول عنها، وإذا كان الطبع في غير مصر، صرحنا بمدينته أيضاً، ونذكر وفيات مؤلفيها تقريراً لاستمرار دعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأكيداً للثقة بهم، ومن لم نقف الآن على وفاته، أثبتنا تاريخ إتمامه لتأليفه إن أرخه. • ختم الرسالة بما فتحت به من تنزيه الله والصلاة على رسوله: وقد انتهينا من تحرير هذه الرسالة في ذي الحجة، سنة خمس وخمسين وثلاث مئة وألف. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين (*). • • • • • ¬

_ (*) وبهذا ينتهي " تخريج أحاديث رسالة " الشِّرك ومظاهره " للعلّامة مبارك الميلي الجزائري رحمه الله تعالى، وكان ذلك ليلة السبت غُرّة محرّم الحرام سنة خمس عشرة بعد أربع مئة وألف من هجرته صلى الله عليه وآله وسلم. " والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، مباركاً عليه، كما يحب ربنا ويرضى، اللهم لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ". و" سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ". وكتب: أبو عبد الرحمن محمود

مواد الرسالة

مواد الرسالة • كتب متن اللغة وفقهها وأدبها: 1 - "تاج اللغة وصحاح العربية": لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، (ت 393هـ)، طبعة 1292هـ. 2 - "المصباح المنير": لأحمد بن محمد الفيومي، (ت 770هـ)، طبعة 1310هـ. 3 - "القاموس المحيط": لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، (ت 817هـ)، طبعة 1281هـ. 4 - "أساس البلاغة": لمحمود بن عمر الزمخشري صاحب "الكشاف"، (ت 538هـ)، طبعة 1241هـ. 5 - "الفروق اللغوية": لأبي الحسن العسكري، (ت 395هـ)، طبعة 1253هـ. 6 - "الكليات": لأبي البقاء الحسيني الكفوي الحنفي، (ت 395هـ)، طبعة 1253هـ 7 - "المفردات في غريب القرآن": للراغب الأصفهاني الحسين بن محمد، (توفي أوائل القرن الخامس الهجري)، طبعة 1324هـ. 8 - "نظم التيسير في علوم التفسير": لعبدالعزيز الديريني، (ت 699هـ)، طبعة 1349هـ. 9 - "شرح المعلقات السبع": للزوزني الحسين بن أحمد، (ت 486هـ)، طبعة 1354هـ. 10 - "شرح القصائد العشر": للتبريزي يحيى بن علي، (ت 502هـ)، طبعة 1352هـ.

كتب التفسير وأحكام القرآن

• كتب التفسير وأحكام القرآن: 11 - "تفسير البغوي": الحسين بن مسعود، (ت 516هـ). 12، 13 - "تفسير ابن كثير" و "فضائل القرآن": إسماعيل بن كثير، (ت 774هـ)، طبعة 1347هـ. 14 - "الدر المنثور في التفسير بالمأثور": لجلال الدين عبدالرحمن السيوطي، (ت 911هـ)، طبعة 1314هـ. 15، 16 - "الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل". للزمخشري، ومعه "الانتصاف من الكشاف ": لناصر الدين أحمد بن المنير، (ت 683هـ)، طبعة 1307هـ. 17 - "تفسير الرازي": فخر الدين محمد بن الخطيب، (ت 606هـ)، طبعة 1294هـ. 18 - "تفسير أبي السعود": (ت 982هـ)، طبعة الأستانة. 19 - "الجواهر الحسان": لعبد الرحمن بن مخلوف الثعالبى، (ت 875هـ)، طبعة الجزائر 1327هـ. 20 - "فتح القدير" = "تفسير الشوكاني": محمد بن علي، (ت 1250هـ)، طبعة 1351هـ. 21 - "تفسير المنار": للسيد رشيد رضا، مات عنه أثناء سورة يوسف (ت 1354هـ)، طبعة 1354هـ. 22 - "تفسير جزء عم": لمحمد عبده، (ت1323هـ)، طبعة 1341هـ. 23 - "الجامع لأحكام القرآن" = "تفسير القرطبي": محمد بن أحمد، (ت 671هـ)، طبعه 1354هـ. 24 - "أحكام القرآن": للجصاص أحمد بن علي الرازي، (ت 370هـ)، طبعة الأستانة 1338هـ. 25 - "أحكام القرآن": لأبي بكر محمد بن العربى، (ت 542هـ)، طبعة 1331هـ. • كتب الحديث وفقهه ورجاله: 26 - "الموطأ": لأبي عبد الله مالك بن أنس، (ت 179هـ)، طبعة 1348هـ.

27 - "المنتقى شرح الموطأ": لسليمان الباجي، (ت 494هـ)، طبعة 1332هـ. 28 - "شرح الموطأ": للزرقاني محمد بن عبد الباقي، (ت 1122هـ)، طبعة 1280هـ. 29، 30 - "الجامع الصحيح" و "الأدب المفرد للبخاري": محمد بن إسماعيل (ت: 256هـ). 31 - "فتح الباري بشرح البخاري" للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني (ت: 852هـ)، ط: 1348هـ. 32، 33 - "صحيح مسلم بن الحجاج" (ت: 261هـ) و"شرحه للنووي ": يحيى بن شرف (ت: 676هـ)، ط: 1307. 34، 35 - "سنن أبي داود" سليمان السجستاني (ت: 275هـ) وشرحها: "معالم السنن" لحمد الخطابي (ت: 388) ط حلب 1352. 36، 37 - "سنن النسائي" (ت: 303) "بحاشية نور الدين السندي " (ت: 1138) ط: 1348. 38 - "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" لعلي بن أبي بكر الهيثمي (ت: 807) ط: 1353. 39 - "تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث" لعبد الرحمن الديبع (ت: 944) ط 1347. 40 - "كشف الخفاء ومزيل الإلباس فيما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس" لإسماعيل العجلوني (ت: 1162) ط: 1351. 41 - "سبل السلام شرح بلوغ المرام" لمحمد بن إسماعيل (ت: 1182) ط: 1349. 42 - "نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار" للشوكاني ط: 1347. 43، 44 - "زاد المعاد" و "إعلام الموقعين" كلاهما لمحمد ابن قيّم الجوزية (ت: 751) ط الأول: 1347 والثاني: 1325. 45 - "البدع والنهي عنها" لمحمد بن وضاح القرطبي (ت: 286هـ) ط: دمشق. 46، 47، 48 - "جامع العلوم والحكم"، و "نور الاقتباس"، و "تحقيق كلمة الإخلاص" لعبد الرحمن بن رجب (ت: 795) ط: 1347 الأخيران ط: مكة.

كتب العقائد والمقالات وتهذيب الأخلاق

49، 55 - "الفتح المبين لشرح الأربعين"، و "الفتاوى الحديثية" لأحمد بن حجر الهيثمي (ت:973) ط:1307 و 1346. 51، 52 - "الاستيعاب" لأبي عمر يوسف بن عبد البر (ت: 463) و "الإصابة" للعسقلاني ط: 1328. 53، 54 - "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين"، و "الفتوحات الربانية على الأذكار النبوية" لابن علان (ت: 1057) ط: 1347 و1350. 55 - "تحفة الذّاكرين بِعُدَّة الحصن الحصين" للشوكاني ط: 1350. 56، 57 - "تذكرة الحفاظ" و "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" لمحمد الذهبي (ت: 748) ط: 1333 و1325 الأوّل ط الهند. 58 - "الضوء اللاّمع لأهل القرن التاسع" لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت: 902هـ) ط: 1355. • كتب العقائد والمقالات وتهذيب الأخلاق: 59، 60 - "الطحاوية" لأحمد بن محمد الطحّاوي (ت: 331) و "شرحها" لبعض تلاميذ ابن كثير المفسر، ط: مكة 1347. 61 - "شرح الصغرى" لمحمد بن يوسف السنوسي (ت: 895) ط: 1299. 62 - "جوهرة التوحيد" لإبراهيم اللقاني (ت: 1041). 63 - "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" لعبد الرحمن بن حسن بن عبد الوهاب ط: 1347. 64 - "رسالة التوحيد" لمحمد عبده ط: 1324. 65 - "أعلام النبوة" لعلي بن محمد الماوردي (ت: 450) ط: 1319. 66 - "الاختلاف في اللفظ" لأبي عبد الله محمد بن قتيبة (ت: 276) ط: 1349. 67 - "ترجيح أساليب القرآن" لمحمد بن إبراهيم الصنعاني (ت: 840). 68 - "العواصم من القواصم" لأبي بكر بن العربي، طبع قسنطينة 1348. 69 - "الاعتصام" لأبي إسحاق إبراهيم الشاطبي (ت: 795). 70، 71 - "الردّ على البكري" و "الردّ على الأخنائي" لتقي الدين أحمد بن تيمية

كتب الفقه وقواعده وأصوله

(ت: 728) ط: 1346. 72 - "التوسل والوسيلة" له أيضاً ط: 1345. 73 - "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" لتقي الدين السبكي (ت: 756) ط: دمشق 1347. 74 - "شفاء السقام في زيارة خير الأنام" له أيضاً ط: 1318. 75 - "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" لمحمد بشير السهسواني (ت: 1326) ط: 1351. 76 - "الزواجر عن اقتراف الكبائر" لابن حجر الهيثمي ط: 1332. 77 - "رسالة القشيري " لأبي القاسم عبد الكريم القشيري (ت: 465). 78 - "نتائج الأفكار القدسية في بيان معنى شرح (!) الرسالة القشيرية" لمصطفى العروسي أتمها سنة 1271 ط: 1290. 79 - "مدارج السالكين" لابن قيم الجوزية ط: 333 1. 80 - "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" له أيضاً، مطبوع مع إعلام الموقعين. • كتب الفقه وقواعده وأصوله: 81 - "مختصر" خليل بن إسحاق الجندي (ت: 776). 82 - "شرحه" لعبد الباقي الزرقاني (ت: 1099) ط: 1293. 83 - "شرحه" أيضاً لأحمد الدردير (ت: 1291) ط 1320. 84، 85، 86 - "المجموع وشرحه وحاشيته": الجميع لمحمد بن محمد الأمير ت: 1332) ط: 1304. 87 - "نظم المرشد المعين على الضروري من علوم الدين" لعبد الواحد بن عاشر (ت:1040). 88 - "حاشيته" لمحمد الطالب بن حمدون بن الحاج (ت: 1273) ط: 1316. 89 - "الرسالة" لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني (ت: 389) ط: 1323. 90 - "المقدمات الممهدات" لأبي الوليد محمد بن رشد (ت: 520) ط: 1325. 91 - "الإعلام بقواطع الإسلام بهامش الزواجر": كلاهما لابن حجر الهيثمى.

كتب التاريخ والسير والتراجم

92، 93 - "الفروق" لأحمد بن إدريس القرافي (ت: 684) و "حاشيتها" لقاسم بن عبد الله بن الشاط (ت: 723) ط: 1346. 94 - "الموافقات في أصول الشريعة" لأبي إسحاق الشاطبي. 95 - "الحاوي للفتاوي في علوم شتى" للجلال السيوطي ط: 1352. • كتب التاريخ والسير والتراجم: 96 - "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" لأبي الفضل عياض (ت: 544). 97 - " نسيم الرياض" لشهاب الدين أحمد الخفاجي (ت: 1069) ط: الآستانة 1317. 98 - "السيرة النبوية" لعبد الملك بن هشام المعامزي (ت: 213) ط: 1332. 99 - "أخبار مكة" لمحمد بن عبد الله الأزرقي من أهل القرن الثالث ط: مكة. 100 - "كتاب الأصنام" لهشام بن محمد الكلبي (ت: 204) ط: 1343. 101 - "رسالة الحسن البصري" لأبي الفرج ابن الجوزي (ت: 597) ط: 1350. 102 - "تبيين كذب المفتري" لأبي القاسم علي بن عساكر (ت: 571) ط: دمشق 1347. 103 - "طبقات الأمم" لأبي القاسم صاعد بن أحمد (ت: 462) ط: بيروت 1913 م. 104 - "الفهرست" لمحمد بن إسحاق النديم (ت: 385) ط: 1348. 105 - "طبقات الشافعية الكبرى" لتاج الدين السبكي (ت: 771) ط: 1324. 106 - "اختصار طبقات الحنابلة" للنابلسي (ت: 797) ط: دمشق 1350. 107 - "البستان" لمحمد بن مريم (ت: 1020) ط: الجزائر 1326. 108 - "معجم البلدان" لياقوت الحموي (ت: 626) ط: 1323. • • • • •

§1/1