رسالة التوحيد المسمى بـ تقوية الإيمان

الدهلوي، إسماعيل بن عبد الغني

كلمة المترجم

كلمة المترجم بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وإمام المتقين، قائد الغر المحجلين، محمد وآله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، من الأئمة المهديين، والدعاة المصلحين، المجددين لهذا الدين، الذين لم يزالوا ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، جزاهم اللَّه عن الإسلام والمسلمين، أفضل ما جزى العلماء الراسخين، النائبين عن الأنبياء والمرسلين. أما بعد: فقد كنا نشعر بمسيس الحاجة منذ زمن طويل إلى نشر كتاب واضح المنهج، صريح العبارة، مشرق الديباجة، سهل المتناول، ينم عن إخلاص مؤلفه، وصدق لهجته، وتوجع قلبه مما يرى الناس عليه في عصره من الجهل لغاية الخلق، وبعثة الأنبياء والرسل أجمعين، من إخلاص الدين لله، وإفراد العبادة له، والخوف والرجاء منه، والاستغاثة به، والتضرع إليه، ولما كان يرى من انتشار العقائد والعادات، التي جاءت الأديان السماوية لمحوها، وأنزلت الكتب وبعثت الرسل لمحاربتها والتخليص منها، حتى أصبح الناس من ذلك في جاهلية جهلاء، وفتنة عمياء، واحتاجوا إلى دعوة صارخة سافرة إلى الدين الخالص، والحنيفية السمحة. وقد شرح اللَّه صدر الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي في مدينة الرسول صلى اللَّه عليه وسلم

في شهر ذي الحجة 1393 هـ لنقل كتاب " تقوية الإيمان " للإمام المجاهد، الداعي إلى اللَّه، الشهيد في سبيل اللَّه، الشيخ إسماعيل بن عبد الغني بن أحمد ولي اللَّه بن عبد الرحيم العمري الدهلوي " ش 1246 هـ "، فإنه كتاب أصبح شعارًا وعلمًا للدعوة إلى التوحيد، وبيان الحق الصريح، وقد نفع اللَّه به خلائق في شبه القارة الهندية لا يحصيهم إلا من أحصى رمل عالج وحصى البطحاء. وقد صدر هذا الكتاب عن قلب جريح متقطع بمشاهدة ما كان عليه المسلمون من بعدٍ عن التعاليم الإسلامية، وخضوع للوثنية الهندية، وتمسك بالعادات الجاهلية، وقد زاد في تأثيره وقبوله، دموع عين باكية على الإسلام، ودم زكي أريق في سبيل إحياء هذا الدين، وتنقيته من الجاهلية، وتأسيس حكومة شرعية تقوم على منهاج الكتاب والسنة، ويكون الدين كله لله. وقد قرن رحمه اللَّه الدعاء بالدعوة، والجهد بالجهاد، والشهادة للحق بالشهادة في الحق، وذلك لباب التوحيد، وغاية الْإخلاص، وكمال الصدق، وتمام الوفاء، وصدق اللَّه العظيم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] ، فكان لكتابه من القبول والتأثير، والذيوع والانتشار، ما لا يكون إلا لكتابات كبار المخلصين، والعلماء العاملين، والدعاة المجددين. وسر قوة الكتاب في صراحته وتشخيصه للأدواء، ومظاهر الشرك، ومواضع الانزلاق، وأنه يضرب على الوتر الحساس، ويصيب ضعف الاعتقاد، وما فتن به المسلمون في العهد الأخير، من الغلو والتقديس والتعظيم، وتقليد الأمم الوثنية، والعادات الجاهلية، في صميمه، وقد اعتاد الناس أن لا يفزعوا للمواعظ والخطب

التي تلقى على المنابر، أو البحوث العلمية التي تتناول موضوع التوحيد والشرك بصفة إجمالية عامة، إذا لم تتعرض للأمراض التي يعانونها، والأخطاء التي يرتكبونها، والعادات التي لا يمكنهم الفطام عنها، وللأشخاص والأماكن والشعائر التي يغلون فيها، فيتجاهلون كل ذلك، ويتظاهرون بأن الواعظ أو الكاتب لا يعنيهم، وإنما يعني المشركين القدامى، وعباد الأوثان في الجاهلية الأولى، أما إذا تعرض هذا الكاتب أو الواعظ لواقع حياتهم، ووضع يده على عللهم وأسقامهم، وحدد مواضع فتنتهم، لم يسعهم أن يتغافلوا عنه، فأعلنوا الحرب عليه، ونادوا بعدائه، وهذا شأن الداعي المخلص الذي ملكته الفكرة، واستحوذ عليه الشعور، وتذوق القرآن، ومنهج الأنبياء في دعوتهم تذوقًا حقيقيًا، فإنه لا يبالي أرضيَ الناس أم سخطوا، إن همه الوحيد أن يبلغ رسالة القرآن، ويرضي ربه، ويريح ضميره، ويبرئ ذمته. ويحسن هنا أن أنقل ما كتبته في كتابي " رجال الفكر والدعوة في الإسلام " وأنا أتكلم عن سر تأثير الإمام الحسن البصري في المجتمع الإسلامي في مستهل القرن الثاني الهجري، ونفوذه في القلوب والعقول، وأن المجتمع لم يستطع أن يتجاهله، وأن يمر به مر الكرام، قلت: " إنه ضرب على الوتر الحساس، ونزل في أعماق المجتمع، ووصف أمراضه، وانتقده انتقاد الحكيم الرفيق، والناصح الشفيق، لقد كان عصره يغص بالدعاة والوعاظ، ولكن المجتمع لم يخضع خضوعه للحسن، لأنه كان يمس قلبه، وينزل في صميم الحياة، ويعارض التيار ". لذلك كله وقع اختيارنا على نقل معاني هذا الكتاب، ومحتوياته إلى لغة الضاد في أسلوب عصري رشيق، وتعبير سهل سائغ. وقد طلب منا الشيخ الجليل محمد زكريا السابق ذكره، أن يكون بداية هذا العمل في مسجد الرسول صلى اللَّه عليه وسلم، وقد يسر اللَّه ذلك في سلخ ذي الحجة 1393 هـ

في ساعة مباركة قبل زوال الشمس يوم الأربعاء، فكتبت السطور الأولى من المقدمة في مكان بين باب الرحمة وباب جبرائيل، مكتظ بالحجاج الوافدين، والمشتغلين بالذكر والتسبيح، والصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وفي جو من السكينة، والخشوع والحب، ونحمد اللَّه أن كانت فاتحة هذا العمل في هذا المسجد العظيم، الذي انبثق منه هذا النور وانطلقت موجة التوحيد، والدعوة إلى اللَّه إلى أنحاء العالم، فبددت الظلام، وغمرت القلوب بفيض من الْإيمان، ونور التوحيد، وطهرت النفوس، وأشرقت الأرض بنور ربها، وتمت نعمة اللَّه على عباده. ويسّر اللَّه إتمام هذا العمل، والقيام به بقدر الطاقة في مدة قريبة، وأيام معدودة، والحمد لله الذي بعزته وجلاله تتم الصالحات. ورأينا أن نلحق بالكتاب ترجمة مؤلفه العلّامة الشيخ إسماعيل بن عبد الغني بن ولي اللَّه الدهلوي، مقتبسة من المجلد السابع لكتاب (نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر " للعلامة السيد عبد الحي الحسني، ليطلع القارئ على علو كعب المؤلف في العلوم الدينية، ورسوخ قدمه في الدين، وحسن بلائه في الإسلام، وغيرته على نقاء العقيدة وأصالتها، وقد أجاد من قال: " إن ترجمة المؤلف نسب الكتاب " ولذلك أكثرَ المؤلفون في الإسلام من تأليف كتب الطبقات والتراجم، والسير والأخبار، وأجادوا في ذلك وأفادوا، ووضعنا عناوين جانبية للكتاب، وتناولنا بعض الكلمات والعادات المحلية، والأعلام التي تختص بالهند بالشرح والإِيضاح والتعريف، حتى يسهل على القارئ العربي الكريم، فهم الكتاب والتذوق به.

ونقلنا بعض المقتطفات من كلام بعض أعلام هذه الأمة وأئمتها تأييدًا لبعض ما ورد في هذا الكتاب من تعبيرات وعبارات لم يألفها كثير من الناس لشيوع الأساليب الإصلاحية في العهد الأخير، التي تعتمد على مجاراة العواطف، ومسايرة المعروف المألوف، إيثارًا لتوسيع الدعوة على تعميقها، وتبليغ العقيدة على ترسيخها، وجلب المنفعة على دفع المضرة، وتفاديًا من وحشة الناس، وسخط العامة، ولكل وجهة هو موليها. ويعرف القارئ العربي من خلال هذا الكتاب، وما ورد فيه من ذكر أنواع الانحراف والضلال، وتقليد الأكثرية من سكان الهند، مدى تغلغل الحضارة الهندية، والعادات الجاهلية والتقاليد الوطنية في أحشاء المجتمع الإسلامي الهندي، وخضوع المسلمين في هذه البلاد، للفلسفة الهندية البرهمية، والهند - كما يعرف المطلع على التاريخ القديم - من أعرق بلاد اللَّه في الوثنية، فهي فيها قديمة وأصيلة، إذ كانت في كثير من البلاد جديدة ودخيلة، وقد عجنت فلسفتها وحضارتها، وآدابها، وعلم الفلك، والعلوم الرياضية، والتقويم، فضلًا عن الديانات، بهذه الوثنية، فهي أرض المؤلهين والمؤلهات، وأرض الأساطير والروايات، وأرض الأعياد والمواسم، والمهرجانات والمآتم، تذكارًا لحوادث تاريخية دينية، وأبطال قومية خرافية، أثر كل ذلك في حياة المسلمين وعاداتهم تأثيرا عميقًا، وغم عليهم الأمر على مدى الأيام، والتبس الحق بالباطل بتهاون الحكام والسلاطين، وقلة انتشار علم الحديث، وكتب السنة الصحيحة، ورواجها، وشدة اختلاط المسلمين بجيرانهم في كل مدينة وقرية، وحي وزقاق، حتى قيض اللَّه للصدع بالدعوة، وتمييز الحق من الباطل، والقشور من اللباب رجالًا من علماء الدين، والدعاة المرشدين. وكان ذلك من أقوى الأسباب التي حملت مؤلف هذا الكتاب - وقد نشأ في بيئة هندية خالصة، وفي مركز هذه الحضارة - على أن يكون صريح العبارة، قوي العارضة، مرهف الحس في هذا الموضوع، لا يحتفل بالنقد واللائمة، ولا يبالي

بسخط الخاصة والعامة، ولو طالت به الحياة، ووجد فرصة للدعوة والبقاء في الهند، فربما أخذ الأمر بالتدريج، ومشى الهوينا، ولكنه كان مضطرًا إلى مغادرة الهند، وكأن حادي الشوق يحدو به إلى الجهاد، والشهادة في سبيل اللَّه، فألف هذا الكتاب إتمامًا للحجة، وبراءة للذمة، وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون. وليس الأمر مقصورًا على الهند التي بعدت عن مهد الإسلام ومهبط الوحي، ودخلها الإسلام عن طريق بلاد العجم، وقد فقد الشيء الكثير من قوته وجدته، بل تبلبلت العقيدة الإسلامية، واختلطت بشيء كثير من البدع والضلالات في العواصم الإسلامية وبلاد العرب، في القرن السابع والثامن الهجريين، بتأثير الشعوب غير العربية التي دخلت في الإسلام جديدة، وحملت معها رواسب كثيرة من دياناتها وعاداتها، واختلاط المسلمين مع غير المسلمين والعجم، ونفوذ الحكومة الباطنية والإِسماعيلية في مصر والشام وتأثيرهما، وانتشار تعليمات بعض المتصوفين الجهلة، ومن قرأ كتابي شيخ الإسلام ابن تيمية " الرد على البكري "، و " الرد على الأخنائي " عرف الشيء الكثير من غلو الجهال في الأئمة والمشايخ والأولياء والصالحين، واعتقاداتهم الفاسدة، وعاداتهم الجاهلية، ولا يزال لهذا الغلو والتعظيم بغير ما أمر اللَّه به، وشرع ما لم يأذن به اللَّه، آثار باقية في بلاد المسلمين والعرب، تستوجب دعوة قوية صريحة، وحكمة بليغة، لذلك ليست فائدة هذا الكتاب محدودة في الهند، بل تعم جميع الأوساط التي استطاع الشيطان أن يتسرب إليها، وانتشر فيها من العقائد والعادات ما لا يرضاها الإسلام، ولا يقرها الشرع، ولا يقبلها ضمير المسلم الواعي. وقد أسمينا هذه الترجمة بـ " رسالة التوحيد للعلامة الشيخ إسماعيل الشهيد " لأن هذا الاسم أدل على مسماه، وقد تولى المؤلف نقل كتابه الذي وضعه بالعربية، وسماه بـ " رد الإشراك " وقد طارت العنقاء بهذا الأصل العربي وفُقِد، وتسميتنا أقرب إلى تسميته الأصلية. والله نسأل أن ينفع بهذه الترجمة كما نفع بالأصل، ويشرح بها صدور المؤمنين، وعلى اللَّه قصد السبيل. أبو الحسن علي الحسني الندوي غرة ربيع الأول 1394 هـ

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف الشيخ العالم الكبير، العلامة المجاهد في سبيل اللَّه، إسماعيل بن عبد الغني بن ولي اللَّه بن عبد الرحيم العمري الدهلوي، أحد أفراد الدنيا في الذكاء، والفطنة، والشهامة، وقوة النفس، والصلابة في الدين. ولد بدهلى لاثنتي عشرة من ربيع الثاني سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف، وتوفي والده في صباه، فتربى في مهد عمه الشيخ عبد القادر بن ولي اللَّه الدهلوي، وقرأ عليه الكتب الدرسيّة، واستفاد من عمّيه الشيخ رفيع الدين، والشيخ عبد العزيز أيضًا، ولازمهما مدة طويلة، وصار بحرًا زاخرا في المعقول والمنقول، ثم لازم السيد الإمام أحمد بن عرفان، وسافر معه إلى الحرمين

الشريفين سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف، فحج وزار، ورجع معه إلى الهند، وساح البلاد والقرى بأمره سنتين، فانتفع به خلق لا يحصون بحد وعد، ثم سافر معه إلى الحدود سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف، فجاهد معه في سبيل اللَّه، وكان كالوزير للْإمام، يجهز الجيوش، ويقتحم المعارك العظيمة بنفسه حتى استشهد في " بالاكوت " من أرض " ياغستان ". وكان نادرة من نوادر الزمان، وبديعة من بدائعه الحسان، مقبلًا على اللَّه بقلبه وقالبه، مشتغلا بالإِفادة، والعبادة، مع تواضع وحسن أخلاق، وكرم وعفاف، وشهامة نفس وصلابة دين، وحسن محاضرة، وقوة عارضة، وفصاحة ورجاحة، فإذا جالسه منحرف الأخلاق أو من له في المسائل الدينية بعض شقاق، جاء من سحر بيانه بما يؤلف بين الماء والنار، ويجمع بين الضب والنون، فلا يكاد يفارقه إلا وهو عنه راض. قال الشيخ محسن بن يحيى الترهتي في " اليانع

الجني ": إنه كان أشدهم في دين اللَّه، وأحفظهم للسنة، يغضب لها، ويندب إليها، ويشنع على البدع وأهلها. وقال صديق بن الحسن القنوجي في " الحطة بذكر الصحاح الستة " في ذكر الشيخ ولي اللَّه بن عبد الرحيم الدهلوي: " إن ابن ابنه المولوي محمد إسماعيل الشهيد، اقتفى أثر جده في قوله وفعله جميعًا، وتمم ما ابتدأه جده، وأدى ما كان عليه، وبقي ما كان له، والله تعالى مجازيه على صوالح الأعمال، وقواطع الأقوال، وصحاح الأحوال، ولم يكن ليخترع طريقًا جديدًا في الإسلام، كما يزعم الجهال، وقد قال اللَّه تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} وهو رحمه اللَّه تعالى أحيا كثيرًا من السنن المماتات، وأمات عظيمًا من الأشراك، والمحدثات، حتى نال درجة الشهادة العليا، وفاز من بين أقرانه بالقدح المعلى، وبلغ منتهى أمله، وأقصى أجله. مصنفاته: وأما مصنفاته فهي عديدة، أحسنها كتابه " الصراط المستقيم " بالفارسي، جمع فيه ما صح عن شيخه السيد الْإمام قولًا وفعلًا، وفيه بابان من إنشاء صاحبه الشيخ عبد الحي بن هبة اللَّه الصديق البرهانوي،

ومنها " إيضاح الحق الصريح في أحكام الميت والضريح " في بيان حقيقة السنة والبدعة، ومنها " منصب إمامة " في تحقيق منصب النبوة والإِمامة، وهو مما لم يسبق إليه، ومنها رسالة له في " مبحث إمكان النظير وامتناع النظير " كلها بالفارسية، ومنها مختصر له بالعربية في أصول الفقه، ومنها رسالة له بالعربية في " رد الإشراك والبدع " رتّبها على بابين، ومنها " تنوير العينين في إثبات رفع اليدين " بالعربية، ومنها " سلك نور " مزدوجة له بالهندية، ومنها " تقوية الْإيمان " كتاب مشهور له بالهندية، وهو ترجمة الباب الأول من رسالة في " رد الإشراك " [ومنها كتاب " عبقات " في الفلسفة والحكمة، تجلى فيها ذكاؤه، واقتداره على هذا العلم] (¬1) . وقال أحمد بن محمد المتقي الدهلوي (¬2) في " آثار الصناديد ": (إن له رسالة في المنطق، ادعى فيها أن الشكل الرابع من أجلى البديهيات، والشكل الأول خلافه، وأقام على ذلك الادعاء من البراهين ما لم يندفع، ولم يجترئ على دفعها أحد من معاصريه " (¬3) . ¬

(¬1) من زيادة مترجم هذا الكتاب. (¬2) هو السيد أحمد خان مؤسس الجامعة الإسلامية بعلي كره الهند. (¬3) ملتقطًا من (نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر) الجزء السابع للعلامة السيد عبد الحي الحسني اليربلوي رحمه اللَّه تعالى.

والشيخ إسماعيل قتل في سبيل اللَّه لستِّ ليالٍ بقين من ذي القعدة سنة ست وأربعين ومائتين وألف بمعركة " بالاكوت ".

مقدمة الكتاب

بسم اللَّه الرحمن الرحيم مقدمة الكتاب خطبة الكتاب: يا رب لك ألف ألف حمد وشكر على ما أنعمت به علينا من نعم لا تعد ولا تحصى، وعلى ما هديتنا إلى الدين القويم، والصراط المستقيم، وأرشدتنا إلى الدين الخالص، والتوحيد النقي، وخرطتنا في سلك أمة نبيك وحبيبك محمد صلى اللَّه عليه وسلم، وبعثت فينا رغبة في تعلم هديه، وألهمتنا حب خلفائه الذين يقودون إلى مسالكه، ويهدون بالحق وبه كانوا يعدلون، اللهم فصلّ وسلم على حبيبك، وآله وأصحابه، وخلفائه ألف ألف صلاة وسلام، وارحم أتباعهم، وأشركنا معهم، وأحينا على طريقهم ما عشنا، وتوفنا عليه إذا أمتّنا، واحشرنا في زمرتهم إذا بعثتنا. قوام العبودية تصحيح العقيدة والإيمان: أما بعد: فاعلموا رحمكم اللَّه، أن البشر كلهم عبيد لله، ووظيفة العبد وقيمته أن يقوم بالعبادة، فالذي لا يقوم بالعبادة، ولا يؤدي وظيفته فقد ثار على فطرته، وفقد قيمته، وقوام العبودية تصحيح العقيدة والإيمان، فمن تطرق إلى عقيدته خلل، أو تعرض إيمانه لفساد لم تقبل منه عبادة، ولم يصح له عمل، ومن صحت عقيدته، واستقام إيمانه

تسويلات الشيطان في الصد عن القرآن

كان القليل من عمله كثيرًا، ومن هنا وجب على كل إنسان أن لا يدخر وسعًا في تصحيح إيمانه، وأن يكون الحصول عليه، والاستيثاق منه غاية أمله، ونهاية سؤله، لا يعدل به شيئًا، ولا يتأخر فيه دقيقة. وقد سلك الناس في هذا العصر في الدين طرائق قددًا، وتشعبوا شعبًا، فمنهم من يتمسك بعادات الأولين وتقاليد السابقين، ويعض عليها بالنواجذ، ومنهم من يحتج بحكايات الصالحين، وأساطير الأولين، ومنهم من يتشبث بكلام من تسمى بالعلماء، وامتاز بتشدق اللسان وحدة الذهن، ومنهم من يركض ركائب العقل في هذا الميدان، ويرخي لها العنان (¬1) . وكان الأفضل الأعدل أن يرد الإنسان كل ذلك إلى اللَّه ورسوله، فيصدر عما ثبت عنهما، ويتحاكم إليه، ويتخذه بيانًا شافيًا، وحكمًا قاطعا، فيقبل من قصص المشايخ والصالحين، ومن كلام العلماء والوعاظ والمذكرين، ما وافق الأصول والنصوص، وينبذ من الكلام والأحاديث ومن العادات والتقاليد ما خالفها. تسويلات الشيطان في الصد عن القرآن: وأما ما اشتهر في العوام أن كلام اللَّه ورسوله من الغموض والدقة بمكان لا يفهمه فيه الناس، ويحتاجون في فهمه إلى علم غزير، ولا قبل لنا بفهم القرآن والحديث، أما العمل بمقتضاه وتطبيقه فلا ينوء به إلا خاصة الخاصة من الذين سمت همتهم، وتزكت نفوسهم من الزهاد ¬

(¬1) مع أن العقائد والشرائع لا تقوم على العقل والقياس، ولا ينفع فيها الذكاء وحدة الذهن، إن مصدرها الوحي والشرع.

والعباد، ولا مطمع لنا في ذلك، وحسبنا أن نفهم كلام أمثالنا، ونهتدي بهديهم، ونمضي على ما درج عليه آباؤنا، وعامة أهل بلادنا. فيعرف الخبير أنه كلام لا نصيب له من الصحة، لأن اللَّه سبحانه وتعالى يصف كتابه المجيد بالبيان والوضوح (¬1) ، فلقد قال في سورة البقرة: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99] ، وقد ثبت من ذلك أنه لا يتعسر فهم ما جاء في القرآن، وإنما يحتج بتعسره وغموضه من جمحت نفسه، وقسا قلبه، فإن النفوس تعاف الانقياد وتتهرب من العمل والطاعة، وإنما تريد أن يلقى حبلها على غاربها، وتترك لها حريتها وانطلاقتها. ولا يتوقف فهم كلام اللَّه ورسوله على علم غزير، وذكاء حاد، فإن الأنبياء لم يبعثوا إلا لهداية الضلال، وتعليم الجهال، وقد قال اللَّه تعالى في سورة الجمعة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2] ، وقد من اللَّه بذلك على عباده، فمن مضى بعد ذلك يقول: إنه لا سبيل لغير العالم إلى فهم ما جاء به النبي، ولا طاقة لغير من سمت همتهم، وتزكت نفوسهم أن يعمل بتعاليمه، ويسلك طريقه، فقد أنكر هذه الآية، وكفر بهذه النعمة، وحري أن يقال إن القرآن يرتقي بالجهال إلى درجة العلماء، والضلال إلى مستوى الصالحين والأصفياء، فرب ¬

(¬1) وقد جاء في سورة يوسف: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ وفي سورة الشعراء: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وفي سورة القمر: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.

أحوج الناس إلى الطبيب، المرضى:

جاهل لا يفقه شيئا بلغ بفهمه مبلغ العلماء الراسخين، ورب ضال تائه استنار بنوره، واهتدى بهديه، وبلغ ذروة الصلاح والإخلاص. أحوج الناس إلى الطبيب، المرضى: إن مثل ذلك كمثل طبيب حاذق، كثر حوله المرضى، وانتشرت في أرضه الأمراض والأوباء، فأشير على مريض اشتدت به العلة، وأضناه المرض، بالاستعانة بهذا الطبيب وغشيانه، ولكنه تعلل بقوله: " أنا مريض، لج بي المرض، وإنما يأتيه وينتفع به من سلم من الأمراض، واعتدلت صحته، وقويت بنيته " فماذا يقول الناس عن عقل هذا الرجل وفطنته؟ ألا يرون أنه ينكر براعة الطبيب وحذقه، فإن الأطباء لا يعنون إلا بالمرضى، والطبيب الذي لا يداوي إلا الأصحاء، ولا ينتفع بدوائه إلا الأقوياء، أما المرضى فهم أشقى الناس بطبه وحذقه، فلا خير في هذا الطبيب، إنه اسم بلا مسمى، ولفظ بلا معنى. كذلك كل من أمعن في الجهالة كانت حاجة أشد إلى تفهم كلام اللَّه ورسوله، وكان حريا بأن يكون أحرص عليه من غيره، ومن كثرت ذنوبه وخطاياه، واشتد ظلمه لنفسه، كان أجدر بالإقبال على كتاب اللَّه، وهدي رسوله، حتى يصلح حياته، وينقذ نفسه، كذلك يجب على كل طبقة من طبقات الناس، الخاصة منها والعامة، أن تتفحص كلام اللَّه ورسوله، وتتفهمه، وتسلكه في حياتها، وتزن إيمانها وعقيدتها في ميزانه، وتحكه على محكه. للإيمان جزءان: وليعلم أن للإيمان جزأين،

الأول الإيمان بالله إلها وربا والثاني الإيمان بالرسول رسولا ونبيا. فالإيمان بالله إلها وربا يعني أن لا يشرك به أحد، والإيمان بالرسول رسولا ونبيا يعني أن لا يسلك طريق غيره، فيجب على كل أحد أن يتمسك بالتوحيد واتباع السنة بقوة وعزم، ويبتعد عن الشرك والبدعة كل الابتعاد، فإن الشرك والبدعة يؤثران في الإيمان، ويحدثان خللا فيه، أما سائر الذنوب والمعاصي فهي تؤثر في الأعمال، وتحدث خللا فيها. من يصلح للاقتداء؟! ويجب أن لا يتخذ قدوة وإماما إلا من رسخت قدمه في التوحيد، واتباع السنة، وكان بمعزل عن الشرك والبدعة، بعيدا عنهما كل البعد، لينتفع الناس بصحبته، ويسري فيهم نور التوحيد وحب السنة. موضوع الكتاب ونظامه: لذلك ذكرنا في هذه الرسالة جملة من الآيات والأحاديث ذات صلة قوية بالتوحيد واتباع السنة، وذم الشرك والبدعة ونبذهما، وآثرنا فيها السهولة والوضوح، حتى ينتفع به الخاصة والعامة بطريق سواء، ويسلك من وفقه اللَّه الصراط المستقيم، ويتقرب به إلى اللَّه من يدعو إلى ذلك، ويكون له وسيلة إلى النجاة. استفحال فتنة الشرك والجهالة في الناس: اعلم أن الشرك قد شاع في الناس في هذا الزمان وانتشر، وأصبح

مظاهر الشرك وأشكاله المتنوعة

التوحيد الخالص غريبا، ولكن معظم الناس لا يعرفون معنى الشرك، ويدعون الإيمان مع أنهم قد تورطوا في الشرك وتلوثوا به، فمن المهم قبل كل شيء أن يفقه الناس معنى الشرك والتوحيد، ويعرفوا حكمهما في القرآن والحديث. مظاهر الشرك وأشكاله المتنوعة: ومن المشاهد اليوم أن كثيرا من الناس يستعينون بالمشايخ والأنبياء، والأئمة (¬1) والشهداء، والملائكة، والجنيات عند الشدائد، فينادونها، ويصرخون بأسمائها، ويسألونها أو يطلبون منها قضاء الحاجات وتحقيق المطالب، وينذرون لها، ويقربون لها قرابين لتسعفهم بحاجاتهم، وتقضي مآربهم، وقد ينسبون إليها أبناءهم طمعا في رد البلاء، فيسمى بعضهم ابنه بعبد النبي وبعضهم بعلي بخش، وحسين بخش، وبير بخش، ومدار بخش (¬2) ، وسالار ¬

(¬1) يعني أئمة أهل البيت الذين غلت فيهم الشيعة، وأحاطوهم بهالات من التقديس والتعظيم، ويعتقدون فيهم العصمة، والاطلاع على الغيب، ويفسرون الإمامة تفسيرا يجعلها مشاركة للنبوة، بل منافسة لها في كثير من الخصائص، وقد تأثر أهل السنة بكثير من العقائد الشيعية بحكم الاختلاط بهم، والجهل بالإسلام. (¬2) هو الشيخ الكبير المعمر بديع الدين المدار الحلبي المكنبوري، أحد مشاهير الأولياء بأرض الهند، ينسبون إليه من الوقائع الغريبة ما يأباه العقل والنقل، وإليه نسب شهر من شهور السنة في التقويم المنتشر عند العامة وأهل القرى في الهند ودخل اسمه في الأمثال السائرة عند عوام الناس، وهو مؤسس الطريقة المدارية التي انحرفت في العهد الأخير، ودخل فيها الشيء الكثير من الخرافات والرياضات البهلوانية، كانت وفاته في عاشر جمادى الأولى سنة 844هـ.

بخش (¬1) ، وغلام محي الدين، وغلام معين الدين (¬2) ، ويرسل بعض الناس ضفيرة في رأسه باسم ولي من الأولياء، وبعضهم يقلد ابنه قلادة باسم شيخ أو ولي، وبعضهم يكسو ولده لباسا، وبعضهم يصفد ابنه بقيد في الرجل باسم أحد المشايخ والأولياء، وبعضهم يذبح حيوانا بأسمائهم، وبعضهم يستغيث بهم عند الشدة، وبعضهم يحلف في حديثه بأسمائهم. تقليد جهال المسلمين للمشركين: والحاصل أنه ما سلك عباد الأوثان في الهند طريقا مع آلهتهم، إلا وسلكه الأدعياء من المسلمين مع الأنبياء والأولياء، والأئمة والشهداء والملائكة والجنيات، واتبعوا سنن جيرانهم من المشركين شبرا بشبر، وذراعا بذراع، وحذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل، فما أجرأهم على اللَّه، وما أبعد الشقة بين الاسم والمسمى، والحقيقة والدعوى. وصدق اللَّه العظيم، إذ قال في سورة يوسف: {وَمَا يُؤْمِنُ ¬

(¬1) هو السيد سالار مسعود الغازي من أشهر الأعلام في الهند، نسجت حوله أساطير كثيرة، وشخصيته لم يسلط عليها الضوء الكافي علميا وتاريخيا، ذكره ابن بطوطة في رحلته، وقال إنه فتح أكثر تلك البلاد، وله أخبار عجيبة، وغزوات شهيرة، مات شهيدا سنة 588 هـ، ودفن في مدينة بهرانج في الولاية الشمالية في الهند، قال في «نزهة الخواطر» : بنى على قبره ملوك الهند عمارة سامية البناء، والناس يفدون إليه من بلاد شاسعة، ويزعمون أنه كان عزبا شابا لم يتزوج، فيزوجونه كل سنة، ويحتفلون لعرسه وينذرون له أعلاما فينصبونها على قبره «. (¬2) معنى (بخش) الهبة والرزق، يعني فلان هبة فلان ورزقه وعلي هو علي بن أبي طالب، وحسين هو حسين بن علي، و «بير» معناه الشيخ، ومدار، وسالار، أسماء رجال صالحين، ومشايخ مشهورين في الهند، وغلام معناه عبد، ومحيي الدين المراد به الإمام عبد القادر الجيلاني المشهور، ومعين الدين هو الشيخ معين الدين الجشتي الأجميري، مؤسس الطريقة الجشتية في الهند، كانت وفاته في سادس رجب سنة 627 هـ. وهذه الأسماء كلها غير شرعية، وتنم عن عقيدة في القدرة والهبة والرزق، في الأولياء والصالحين.

أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] ، فإذا عارضهم معارض، وقال: أنتم تدعون الإيمان، وتباشرون أعمال الشرك، فكيف تجمعون بين الماء والنار، وتؤلفون بين الضب والنون؟ قالوا: نحن لا نأتي بشيء من الشرك، إنما نبدي ما نعتقده في الأنبياء والأولياء من الحب والتقدير، أما إذا عدلناهم بالله، واعتقدنا أنهم والله جل وعلا بمنزلة سواء، كان ذلك شركا، لا شك فيه، ولكننا لا نقول بذلك، بل نعتقد أنهم خلق اللَّه وعبيده، أما ما نعتقده فيهم من القدرة والتصرف في العالم، فهما مما أكرمهم اللَّه وخصهم به، فلا يتصرفون في العالم إلا بإذن منه ورضاه، فما كان نداؤنا لهم، واستعانتنا بهم إلا نداء لله واستعانة به، ولهم عند اللَّه دالة ومكانة ليست لغيرهم، قد أطلق أيديهم في ملكه، وحكمهم في خلقه، يفعلون ما يشاءون، وينقضون ويبرمون، وهم شفعاؤنا عند اللَّه، ووكلاؤنا عنده، فمن حظي عندهم، ووقع عندهم بمكان، كانت له حظوة ومنزلة عند اللَّه، وكلما اشتدت معرفته بهم، اشتدت معرفته بالله، إلى غير ذلك من التأويلات الكاسدة ، والحجج الداحضة، التي ما أنزل اللَّه بها من سلطان. والسر في ذلك أن القوم قد نبذوا كلام اللَّه وحديث رسوله وراءهم، وسمحوا لعقولهم القاصرة أن تتدخل فيما ليس لها مجال فيه، وتشبثوا بالأساطير والروايات الشائعة التي لا تستند إلى تاريخ ونقل صحيح، واحتجوا بتقاليد خرافية. وعادات جاهلية، ولو كانوا عولوا على كلام اللَّه ورسوله وعنوا بتحقيقه، لعرفوا أنها نفس التأويلات، والحجج التي كان كفار العرب يتمسكون بها في عصر النبي صلى اللَّه عليه وسلم، ويحاجونه بها، ولم

يقبلها اللَّه منهم، بل كذبهم فيها، فقال في سورة يونس: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] . وقد تبين من هذه الآية، أن من عبد أحدا من الخلق، اعتقادا بأنه شفيعه، كان مشركا بالله، وقد قال اللَّه تعالى في سورة الزمر: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] . وقد نكب هؤلاء الجهال عن طريق الحق، وأعرضوا عن اللَّه الذي هو أقرب إليهم من كل أحد، وأقبلوا على غير اللَّه، واتخذوه ظهيرا ونصيرا، ووليا من دون اللَّه، وحرموا نفوسهم النعمة الكبيرة، التي أنعم اللَّه بها عليهم، فإنه يحقق جميع المطالب، ويرد جميع الآفات من غير واسطة، فلم يشكروا هذه النعمة، ولم يقدروها قدرها، وأقبلوا على خلقه يوسطونهم ويطلبون منهم قضاء الحاجات، ورفع الآفات، فعسروا الميسور، وفضلوا ملتوي الطريق، وجاهدوا في غير جهاد، وبدلوا نعمة اللَّه كفرا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ويبتغون في ذلك عند اللَّه قربا وزلفى، ولكنهم لم ينالوا بذلك مطلوبهم، ولم يسعدوا بالقرب عند اللَّه، بل بالعكس من ذلك، كلما أمعنوا في هذا الطريق، واستمروا في هذا السلوك، ازدادوا من اللَّه بعدا، وقد وضح من

حقيقة شرك أهل الجاهلية وضلالهم

ذلك، أن من اتخذ وليا من دون اللَّه، وإن كان ذلك على أساس أن عبادته تقربه عند اللَّه كان مشركا بالله، كاذبا، كافرا بنعمة اللَّه. وقال اللَّه تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 88 - 89] . وقد تبين من هذه الآية، أن اللَّه سبحانه وتعالى لم يمنح أحدا من خلقه قدرة التصرف في العالم، وأنه لا طاقة لأحد أن يدافع عن أحد. حقيقة شرك أهل الجاهلية وضلالهم: وكذلك تبين أن الكفار الذين كانوا في عصر النبي صلى اللَّه عليه وسلم، لم يكونوا يعدلون آلهتهم بالله، ويرونهم مع اللَّه بمنزلة سواء، بل كانوا يقرون بأنهم مخلوقون وعبيد، ولم يكونوا يعتقدون أبدا أن آلهتهم لا يقلون عن اللَّه قدرة وقوة، وهم، والله في كفة واحدة، فما كان كفرهم وشركهم إلا نداءهم لألهتهم، والنذور التي كانوا ينذرون لها، والقرابين التي كانوا يقربونها بأسمائهم، واتخاذهم لهم شفعاء، ووكلاء، فمن عامل أحدا بما عامل به الكفار آلهتهم، وإن كان يقر بأنه مخلوق وعبد، كان هو وأبو جهل في الشرك بمنزلة سواء. خلال الشرك وأعماله: فاعلم أن الشرك لا يتوقف على أن يعدل الإنسان أحدا بالله، ويساوي بينهما، فلا فرق، بل إن حقيقة الشرك أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال (خصها اللَّه بذاته العلية، وجعلها شعارا للعبودية) ، لأحد من

الناس، كالسجود لأحد، والذبح باسمه، والنذر له، والاستغاثة به في الشدة، واعتقاد أنه حاضر ناظر في كل مكان، وإثبات قدرة التصرف له، وكل ذلك يثبت به الشرك، ويصبح الإنسان به مشركا، وإن كان يعتقد أن هذا الإنسان، أو الملك أو الجني الذي يسجد له، أو يذبح، أو ينذر له، أو يستغيث به، أقل من اللَّه شأنا، وأصغر منه مكانا، وأن اللَّه هو الخالق، وهذا عبده وخلقه، لا فرق في ذلك بين الأولياء والأنبياء، والجن والشياطين، والعفاريت، والجنيات، فمن عاملها هذه المعاملة كان مشركا، لذلك وصف اللَّه اليهود والنصارى، الذين غلوا في أحبارهم ورهبانهم، مثل ما غلا المشركون في آلهتهم بما وصف به عباد الأوثان والمشركين، وغضب على هؤلاء الغلاة المنحرفين، كما غضب على غلاة المشركين، فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] . وقد ذكر أن جميع الخلق سواء كانوا علماء أو عبادا، حكاما أو ملوكا، كلهم عبيد خاضعون، عاجزون ضعفاء، لا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا يملكون إذا بعثهم اللَّه وطلبهم إلا أن يقفوا أمام ربهم خاضعين مستسلمين، طائعين منقادين، يقول اللَّه تعالى في سورة مريم: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95] ، فظهر أنه هو المتصرف وحده، وأنه لا يملك أحدا غيره في ملكه،

ولا يمكنه فيه، وأن الناس يأتون ربهم فرادى لا يمنع أحد آخر، وقد تظافرت الآيات على ذلك وكثرت. ومن تأمل في آيتين، أو ثلاث من الآيات الكثيرة التي سردناها، والتي لم يتسع المجال لذكرها، عرف الفرق بين الشرك والتوحيد، وتجلت له حقيقتهما، وقد آن الأوان لأن نذكر الخلال والأعمال التي خصصها اللَّه بذاته العلية، ولم يأذن لغيره أن يكون له نصيب منها، وهي كثيرة يطول ذكرها، ولكن لا بد أن نخص بالذكر منها ما يستطيع القارئ الفَهِمُ الذكي أن يقيس عليها، ويميز بين الحق والباطل، والهدى والضلال. 1 - العلم المحيط الشامل من خصائص اللَّه تعالى: وفي مقدمة هذه الأمور: أنه من شأن اللَّه وحده أن يكون ناظرا في كل مكان، يعلم ما دق وجل، وبعد أو دنا، أو خفي أو ظهر، لا تخفى عليه خافية في أي وقت، لا فرق في ذلك بين نور وظلمة، وبين سماوات وأرضين، وبين قمم الجبال، وأغوار البحار، هذا العلم المحيط الشامل لكل زمان ومكان، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة، صفة خاصة بالله تعالى، لا يشاركه فيها أحد، فمن كان يلهج باسم أحد من الخلق، ويناديه قائما وقاعدا، وعن قرب وبعد، ويستصرخه ويستغيث به عند نزول البلاء، ودفع الأعداء أو يختم ختمة باسمه، أو يراقبه، ويركز فكره عليه، ويصرف همته إليه، متمثلا صورته كأنه يشاهده، ويعتقد أنه إذا ذكر اسمه باللسان أو القلب، أو تمثل صورته، أو قبره، واستحضرهما، علم بذلك وعرفه، وأنه لا يخفى عليه من

أمره شيء، وأنه مطلع على ما ينتابه من مرض وصحة، وعسر ويسر، وموت وحياة، وحزن وسرور، ولا يتفوه بشيء من كلام، وتنطق به شفتاه، ولا يساوره هم من الهموم، ولا يجول بخاطره معنى، إلا وعلم ذلك، واطلع عليه، كان بذلك مشركا، وكل ذلك يدخل في الشرك. ويسمى هذا النوع " الإشراك في العلم "، وهو إثبات صفة العلم المحيط لغير اللَّه، وإن كان هذا الإثبات لنبي أو ولي، أو شيخ أو شهيد، أو إمام (¬1) ، أو سليل إمام، أو عفريت أو جنية (سواء اعتقد أنه يعلم من ذاته، أو أن علمه منحة من اللَّه، وعطاء منه) وقد استقل بهذا العلم، وأصبح له صفة لا تنفك عنه، كل ذلك شرك. 2 - التصرف المطلق من خصائص اللَّه تعالى: والأمر الثاني: يجب أن يعتقد الإنسان، أن التصرف في العالم بالإرادة، وإصدار الأمر والنهي، والإماتة والإحياء كما يشاء، والبسط والقبض في الرزق، والإفاضة بالصحة والمرض، والفتح والهزيمة، وتسخير القضاء والقدر، وإنجاح المطالب وتحقيق الأماني، ودفع البلايا، والإغاثة في الشدائد، وإلهاف الملهوف، وإنهاض العاثر، هذه كلها من خصائص اللَّه تعالى، لا يشاركه فيها أحد من الأنبياء والأولياء، والشهداء والصالحين، والعفاريت والجنيات، فمن أثبت هذا التصرف المطلق لأحد منهم، وطلب منه حاجاته، وقرب القرابين والنذر لأجل ذلك، أو استصرخه في نازلة، كان مشركا، ويقال لهذا النوع " الإشراك في التصرف " سواء ¬

(¬1) يعني أئمة أهل البيت.

اعتقد أنهم يقدرون على ذلك بأنفسهم، أو اعتقد أن اللَّه سبحانه وتعالى وهبهم هذه القدرة، وخلع عليهم هذه الكرامة. 3 - أعمال العبادة وشعائرها، خاصة بالله تعالى: والأمر الثالث: أن اللَّه سبحانه وتعالى خصص بعض أعمال التعظيم لنفسه، وهي التي تسمى " عبادة " كالسجود والركوع، والوقوف بخشوع، وتواضع (مثلا يضع يده اليمنى على اليسرى (¬1) وإنفاق المال باسم من يعتقد فيه الصلاح أو العظمة، والصوم له، وقصد قبره من أنحاء بعيدة، وشد الرحل إليه بوجه يعرف كل من رآه أنه يؤم قبره حاجا زائرا، والهتاف باسمه في الطريق كالتلبية، والتجنب من الرفث والفسوق، والقنص وصيد الحيوانات، ويمضي بهذه الآداب والقيود، ويطوف بالقبر ويسجد إليه، ويسوق الهدي إليه، وينذر النذور هناك، ويكسو ذلك القبر، كما تكسى الكعبة، والوقوف على عتبته، والإقبال على الدعاء والاستغاثة، والسؤال لتحقيق مطالب الدنيا والآخرة، وبلوغ الأماني، وتقبيل حجر من أحجار هذا القبر والالتزام بجداره، والتمسك بأستاره، وإنارة السرج والمصابيح حوله تعظيما وتعبدا، والاشتغال بسدانته، والقيام بجميع الأعمال التي يقوم بها السدنة من كنس وإنارة، وفرش وسقاية، وتهيئة أسباب الوضوء والغسل، وشرب ماء بئره تبركا، وصبه على الجسم، وتوزيعه على الناس، وحمله إلى من لم يحضر، واحترام الغابة التي تحيط به، والتأدب معها، فلا يقتل صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا يرعى ماشية في حماها. ¬

(¬1) كما كان يقف العبيد بين يدي سادتهم في مجالس الملوك في بلاد العجم.

كل هذه الأعمال علمها رب العالمين عباده، وأفردها لنفسه، فمن أتى بها لشيخ طريقة، أو نبي، أو جني، أو لقبر فحقق، أو مزور، أو لنصب، أو لمكان عبادة، وعكف فيها أحد الصالحين على العبادة والذكر والرياضة، أو لبيت أو لقبر، أو لأثر من آثار أحد الصالحين، يتبرك به، أو شعار يعرف به، أو يسجد لتابوت أو يركع له، أو يصوم باسمه (¬1) أو يقف أمامه خاشعا متواضعا، واضعا إحدى يديه على الأخرى، أو يقرب له حيوانا، أو يؤم بيتا [أو قبرا] ، من هذه البيوت [أو القبور] من بعيد، فيشد إليه الرحل، أو يوقد السرج فيه تعظيما وتعبدا، أو يكسوه بكسوة (كما تكسى الكعبة) أو يضع على ضريح ستورا (¬2) ، أو يغرز علما، أو عودا باسمه (¬3) ، وإذا رجع رجع على ¬

(¬1) يظهر أن بدعة الصوم بأسماء الصالحين والصالحات من الأمة، قد ظهرت في العصر القديم في الهند، وقد يكون الصوم لشخصيات خيالية لا وجود لها، ولهذا الصوم أحكام وآداب في النية والإفطار؟ وأيام محدودة، ويطلب قضاء الحاجات من أولئك الذين يصام باسمهم، والاستعانة بهم، وقد شنع على ذلك الإمام الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي (المتوفى 1034 هـ) في رسالة له إلى إحدى الصالحات من أتباعه، وعده إشراكا في العبادة. (رسالة رقم 3 / 41 رسائل الإمام أحمد بن عبد الأحد) . (¬2) اعتاد الغلاة في تعظيم الأموات والقبور أن يكسوا ضرائح الأولياء والصالحين بالستور والثياب، ويعاملونها معاملة الأحياء من المشايخ والعظماء. وقد ظهرت هذه البدعة في بعض البلاد العربية، يقول الشيخ علي محفوظ في كتابه «الإبداع في مضار الابتداع» : «ومن البدع الستور التي توضع على الأضرحة ويتنافس فيها» ، إلى أن قال: «ولكن خدمة الأضرحة سول لهم الشيطان ذلك، ليفتح لهم بابا من الارتزاق الخبيث، فتراهم إذا احتاجوا لتجديد ثوب التابوت لكل عام، أو إذا بلي، يوهمون العوام أن بها من البركة ما لا يحاط به، وإنها نافعة في الشفاء من الأمراض، ودفع الحساد وجلب الأرزاق والسلامة من كل المكاره، والأمن عن جميع المخاوف، فتهافت عليها البسطاء، وهان عليهم بذل الأموال في الحصول على اليسير منها» . (الإبداع ص 97 - 97) . (¬3) وهي من عادات الغلاة والجهال في الهند.

علامات التعظيم الدالة على العبودية والاستكانة، خاصة بالله تعالى:

أعقابه، أو يقبل القبر، أو يحرك المراوح عليه، ليذب الذباب، كما يفعل الخدم مع أسيادهم الأحياء، أو ينصب عليه سرادقا، أو يقبل عتبته، أو يضع يده اليمنى على اليسرى، ويتضرع إليه، أو يجلس على ضريحٍ سادنا وقيما، ويتأدب مع ما يحيط به من أشجار وآجام، وأعشاب، فلا يتعرض لها بإهانة أو إزالة، إلى غير ذلك من الأعمال والالتزامات، فقد تحقق عليه الشرك، ويسمى " إشراكا في العبادة " سواء اعتقد أن هذه الأشياء تستحق التعظيم بنفسها، وأنها جديرة بذلك، أو اعتقد أن رضا اللَّه في تعظيم هذه الأشياء، وأن اللَّه يفرج الكرب ببركة هذا التعظيم. علامات التعظيم الدالة على العبودية والاستكانة، خاصة بالله تعالى: والأمر الرابع: أن اللَّه علم عباده طرقا يستقيم بها إيمانهم، وتنزل البركة في حياتهم الدنيا، وتتحقق بها مطالبهم، منها النذر لله في الشدة، ونزول البلاء، والنداء باسمه عند كربة وضيق، وافتتاح كل عمل باسمه، والذبح له حين يرزقون ولدا شكرا لله تعالى، وتسميتهم بأسماء يتجلى فيها التوحيد والعبودية، كعبد اللَّه، وعبد الرحمن، وهبة اللَّه، وجاد المولى، وعطاء اللَّه، وأمة اللَّه، وعطية الرحمن (¬1) ، وتخصيص جزء من حواصل المزارع، وثمار ¬

(¬1) ذكر المؤلف هنا أسماء هندية تنطق بالتوحيد، وتنم عن العقيدة الصحيحة كـ «خدا بخش» يعني هبة اللَّه، و «اللَّه ديا» يعني عطاء اللَّه، والله دي «للأنثى يعني عطية اللَّه، غيرناها بأسماء شائعة في بلاد العرب، تسهيلا للقارئ العربي.

البساتين باسم اللَّه تعالى، وتخصيص جزء من المال، والماشية، ونذره لله تعالى، وتعظيم الهدي والقلائد لبيت اللَّه، وامتثال أوامره، والانتهاء عن نواهيه في المأكل، والمشرب، والملبس، واعتقاد أن كل ما يصيبه من خير وشر، ومجاعة، ورخص وغلاء، وصحة وسقم، وفتح وعزيمة، وسعد وشقاء، ومساعدة الحظ وتخلفه، وحزن وفرح، كله في قبضته، والإحالة إلى مشيئته قبل ذكر إرادته، فيقول: سأعمل كذا إن شاء اللَّه، وتعظيم اسمه تعظيما تتجلى فيه قدرة اللَّه، وعجز العبيد، فيقول مثلا ربي، وسيدي، وخالقي، وإذا أراد أن يحلف يحلف باسمه، إلى غير ذلك من علامات التعظيم وشعائره، فمن أتى بذلك للأنبياء والأولياء، والأئمة والشهداء، والعفاريت والجنيات، مثلا ينذر لها إذا ألمت به كربة، أو نزلت به ضائقة أو ينادي بأسمائها عند ملمة أو نازلة، أو يفتتح عمله بأسمائها، وإذا رزق ولدا، نذر لها نذورا، أو سمى أولاده بـ " عبد النبي " أو " إمام بخش " أو " بير بخش "، ويخصص جزءا من الحبوب أو الثمرات لها، ويقدم لها مما أخرجته الأرض من زروع وأثمار، ثم يستعمله في أغراضها، ويخصص من المال، وقطعان الأنعام، أموالا ودوابا، ثم يتأدب معها، فلا يصرفها، ولا يزجرها عن العلف والتبن، ولا يضربها بعصا أو حجر أدبا وتعظيما، ويتمسك بالعادات القديمة، والأعراف الشائعة في الأكل والشرب، واللباس، ويتقيد بها كما يتقيد بأحكام الشريعة، فيحرم طعاما ولباسا لأناس، ويحلهما لأناس، ويحظرهما على جنس (كالذكور والإناث) ، ويبيحهما لآخر، فيقول: إن الطعام الفلاني لا يقربه الرجال (¬1) ، وإن ¬

(¬1) نوع من الطبخ يطبخ في الهند باسم السيدة فاطمة بنت النبي صلى اللَّه عليه وسلم يمنع منه الرجال دون النساء، فلا يأكلونه، ولا يقربونه.

الطعام الفلاني لا تقربه الجواري، ولا تقربه المرأة التي تزوجت بزوج ثان، وإن الخبيص الذي يعد باسم الشيخ عبد الحق لا يأكله من يستعمل النارجيلة (¬1) ، وينسب ما يحدث من خير وشر، وما ينتاب من بؤس ورخاء، إلى هؤلاء المشايخ والأولياء، فيقول: إن فلانا أدركته لعنة فلان، فجن، وفلان طرده فلان فافتقر، وفلان أنعم عليه فلان فساعده الحظ، وحالفه الإقبال، وأصابت الناس المجاعة بنوء كذا، ونوء كذا، وفلان بدأ عمله بيوم كذا، وفي ساعة كذا فلم يوفق، ولم يتم، أو يقول: إن شاء اللَّه ورسوله كان كذا، أو يقول: إن شاء شيخي وقع كذا، أو يضفي على من يعظمه أسماء أو صفات تختص بالله، وهي من نعوت العظمة والكبرياء، والغنى عن الخلق، والقدرة المطلقة، والجود الذي لا نهاية له، أو القهر والجبروت، مثل المعبود، وأغنى الأغنياء، وإله الآلهة، ومالك الملك، وملك الملوك، أو يحلف بالنبي، أو بعلي، أو بأحد أولاده (الذين يسميهم الشيعة الأئمة الاثنى عشر أو بشيخ، أو بقبره، وكل ذلك يتحقق منه الشرك ويسمى " الإشراك في العبادة " يعني أن يعظم غير اللَّه في الأعمال التي اعتادها تعظيما، لا يليق إلا بالله. وهذه الأنواع الأربعة للشرك، قد جاء ذكرها صريحا في القرآن والحديث، لذلك قسمنا هذا الباب في خمسة فصول، وهي كما يلي: ¬

(¬1) يعني الشيشة.

الفصل الأول في التحذير من الشرك

الفصل الأول في التحذير من الشرك قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116] . الفرق بين الشرك، وسائر الذنوب: اعلم أن هنالك أنواعا من الذنوب والآثام، يقترفها الناس إذا جمحت بهم النفوس، وغلبهم الهوى، فمنهم من لا يميز بين حلال وحرام، ومنهم من يقترف سرقة، أو عملا من أعمال الفسوق، أو يترك الصلاة والصيام، أو لا يأتي بما فرض اللَّه عليه من حقوق الأهل والعيال، أو يسيء إلى والديه، ويغلظ القول لهما، ولكن الذي تورط في الشرك فقد أسرف، وظلم نفسه ظلما مبينا، لأنه قد جنى جناية لا يغفرها اللَّه، أما الذنوب والآثام الأخرى، فربما يغفرها اللَّه، ويتجاوز عنها، ولكن الشرك، لا بد أن يوفى حسابه. الشرك ظلم، ووضع للشيء في غير محله: قال اللَّه تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ،

إن الله لا يقبل إلا خالصا، ليس لأحد فيه نصيب:

وقد هدت لقمان الحكمة العميقة التي أكرمه اللَّه وخصه بها، إلى أن أفحش الظلم أن يجود الإنسان على أحد بحق غيره، فمن أعطى حق اللَّه لأحد خلقه فقد عمد إلى حق أكبر كبير، فأعطاه أذل ذليل، وكان كرجل وضع تاج الملك على مفرق إسكاف، وأي جور أكبر من هذا الجور وأي ظلم أفحش من هذا الظلم؟ . وليعلم يقينا أن كل مخلوق كبيرا كان أو صغيرا هو أذل من إسكاف، أمام عظمة اللَّه وجلالته، وقد دلت الآية، وشهد به الشرع والعقل السليم، أن الشرك أقبح العيوب، وما زال الناس يعتبرون إساءة الأدب مع كبرائهم وسادتهم أكبر عيب وأعظم خرق، فلما كان تبارك وتعالى أكبر من كل كبير، كانت إساءة الأدب إليه، والإشراك معه عيبا ليس فوقه عيب، وخرقا لا يفوقه خرق، وقد اتفقت جميع الشرائع على المنع من الشرك، والأمر بالتوحيد، وهو الصراط المستقيم، وطريق النجاة، وكل ما عداها من طرق وسبل، فهي طرق الضلال، والسبل المردية، قال اللَّه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . إن اللَّه لا يقبل إلا خالصا، ليس لأحد فيه نصيب: أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «قال اللَّه تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه، وأنا منه بريء» .

عهد سبق في عالم الأرواح

وقد دل هذا الحديث على أن اللَّه تعالى لا يقبل عملا أشرك فيه معه غيره، فلا يقبل عبادة المشرك بل يتبرأ منها، وليس شأنه شأن الذين يأخذون نصيبهم من الشيء المشترك بينهم وبين غيرهم، فإنه أغنى من كل غني، وأغير من كل غيور، فلا يقبل إلا خالصا مخلصا، ليس لأحد فيه سهم أو نصيب. عهد سبق في عالم الأرواح: أخرج أحمد عن أبي بن كعب رضي اللَّه عنه في تفسير قول اللَّه عز وجل. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] ، قال جمعهم فجعلهم أزواجا، صورهم، فاستنطقهم، فتكلموا، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق، " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا بلى قال فإني أشهد عليكم السماوات السبع، والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئا، إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك.

وقد فسر أبي بن كعب رضي اللَّه عنه الآية تفسيرا واضحا، وذكر أن اللَّه سبحانه وتعالى قد صنف أولاد آدم أصنافا، فكانت طائفة من الأنبياء، وطائفة من الأولياء، وطائفة من الشهداء، وطائفة من الصلحاء، وطائفة من المطيعين، وطائفة من العصاة والفاسقين، وطائفة من الكفار كاليهود والنصارى، والمجوس والمشركين، وأبرز هذه الطوائف في الصور والأجسام التي أراد خلقها، منها الوسيم ومنها الدميم، ومنها الأصم، ومنها الأعور، ومنها الأعمى، ثم وهبها النطق، ثم قال لها: ألست بربكم؟ فأقرت جميعا، وقالت: بلى! أنت ربنا، ثم أخذ منها العهد والميثاق، أن لا تشرك في ملكه وحكمه أحدا، وأن لا تتخذ غيره ربا وإلها، فقبلته جميعا وأعطت العهد والميثاق، وأشهد اللَّه على ذلك السماوات والأرض وأباهم آدم، وقال: سيبعث الأنبياء ليذكروا بهذا العهد والميثاق، وسيحملون الكتب السماوية، وأقرت كل طائفة على حدة بالتوحيد، وتبرأت من الشرك، فظهر من ذلك أنه لا مسوغ للاحتجاج بكلام عالم أو شيخ، أو كلام آباء وأجداد، أو ملوك وسلاطين. وإن قال قائل: لقد نسينا في هذه الحياة كل ما جرى في عالم الأرواح، فلا معول على شيء منسي، ولا يصح الاحتجاج به، وهذا

الضن بعقيدة التوحيد والاستقامة عليها عند الفتنة والبلاء

لا يصح، لأن الإنسان كثيرا ما ينسى شيئا، ثم يؤمن به إذا أخبره به الثقات، فكلنا ولد من بطن أمه، ولكنه لا يذكر هذه الساعة، ولا هذا الحادث، فإنه كان لا يعي ذلك ولم يكن يعقل في ذلك الحين، ولكن لما استفاض ذلك الخبر، وتواترت به الأنباء، وتناقلته الألسن، آمن به، ولم يشك في أمه أنها له أم، وهو لها ابن، لا يعدل عنها عدولا، ولا يبغي لها بديلا، فمن عق أمه، ولم يبر بها، واتخذ له أما أخرى، كثرت القالة فيه، وأصبح شامة في الناس، فإن تعلل بأنه لا يذكر هذا الحادث، وأنه لا يعتمد على مجرد الإشاعة، ضعف الناس عقله، وسفهوا حلمه، واعتبروه قليل الحياء، قليل الأدب، فإذا كان الناس يعتمدون على حديث العامة، وآمنوا بسببه بحقائق، كان الأنبياء أولى بهذه الثقة، وأجدر بالاحتجاج. وقد تبين من هذا الحديث أنه قد سبق أمر اللَّه بالتوحيد والنهي عن الشرك لكل نسمة في عالم الأرواح، وما بعث الرسل، ونزلت الصحف إلا لتبين ذلك وتؤكده، وقد تلخص كلام الأنبياء، وهو الاعتصام بالتوحيد، وإخلاص الدين لله، والابتعاد عن الشرك، واتخاذ غير اللَّه حاكما، يتصرف في الكون، واتخاذه ربا يطلب منه تحقيق مطالبه وإسعاف حاجته. الضن بعقيدة التوحيد والاستقامة عليها عند الفتنة والبلاء: وأخرج أحمد عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت» .

إقبال المملوك على غير مالكه، وولي نعمه، قلة غيرة وعدم وفاء:

فيجب على المسلم أن يصبر على ما يصيبه من الأذى، من الجن أو العفاريت، كما يجب عليه أن يصبر على ما يصيبه من محنة أو مكروه من بشر في حياته ولا ينبغي أن تحمله هذه الفتنة على وهن في الدين، أو فساد في العقيدة فيحبط بذلك عمله، ويخسر بذلك دينه الذي هو ملاك أمره، ورأس ماله، فيجب عليه أن يعتقد أن الأمر كله بيد اللَّه، ولكنه قد يمتحن عباده، وينال الأخيار أذى من الأشرار ليميز اللَّه الخبيث من الطيب، ويميز بين المؤمن والمنافق، وكما أن المسلمين يكونون عرضة لأذى الكفار والفساق، فلا يسعهم على ذلك إلا الصبر، ولا يرضون أن يتطرق إلى دينهم وهن، أو يتسرب إلى عقيدتهم فساد، كذلك قد يصيب بعض الصالحين مس من الجن، أو خبل من الشياطين، فلا يكون ذلك إلا بإذن اللَّه وعلمه فينبغي لهم أن يصبروا على ذلك الأذى، ولا يخضعوا لهذه القوى بالاستسلام أو التعظيم. وقد دل هذا الحديث على من مقت الشرك ونبذ الآلهة، وكره تقديم النذور، والقرابين إليها؛، وحارب العادات الجاهلية، والتقاليد الباطلة فأصابته خسارة في المال، أو رزية في الأولاد، أو آذاه الشيطان باسم شيخ أو شهيد، يجب عليه أن يصبر على ذلك، ويستقيم على دينه، ويعتقد أن اللَّه ممتحنه في دينه، وكما أن اللَّه قد يمهل الظالمين ولا يهملهم، ويخلص المظلومين منهم، كذلك لا محالة هو معاقب للظلمة من الجن، ومخلص للصالحين من أذاهم. إقبال المملوك على غير مالكه، وولي نعمه، قلة غيرة وعدم وفاء: وأخرج الشيخان عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: «قال رجل

يا رسول اللَّه أي الذنب أكبر عند اللَّه؟ قال: " أن تدعو لله ندا وهو خلقك» . وقد دل هذا الحديث على أن إشراك العبد أحدا لله تعالى في علمه المحيط، وقربه من كل أحد، وقدرته على كل شيء، فيستغيث به ويستصرخه أكبر الكبائر، لأنه ليس في إمكان أحد أن يسعف بحاجته مثله، وأن يكون في كل مكان لا يغيب عنه شيء. ثم إنه إذا كان الواقع أن اللَّه تعالى هو الذي خلقنا وهو ربنا - ونحن نقر بذلك - وجب علينا أن لا ننادي إلا إياه، ولا نستعين إلا به، وما لنا ولغيره (¬1) ؟ فمن كان من جملة عبيد ملك وصنائعه، انقطع إليه كليا، وأطبق عينه عن كل ملك ورئيس، فضلا عن وضيع أو خسيس، أيجمل بنا أن نكون أقل غيرة، وأضعف وفاء من المملوك لمولاه المجازي؟ . ¬

(¬1) وقد شنع الإمام عبد القادر الكيلاني على من يشرك بالله غيره، ويعتقد فيه النفع والضرر، والعطاء والمنع، في بلاغة وقوة، فقال: «يا معرضا عن الحق عز وجل، مقبلا، على الخلق، مشركا بهم، إلى متى إقبالك عليهم؟ أيش ينفعونك؟ ليس بأيديهم ضرر ولا نفع، ولا عطاء ولا منع، لا فرق بينهم وبين سائر الجمادات فيما يرجع إلى الضر والنفع، الملك واحد، الضار واحد، النافع واحد، المحرك والمسكن واحد، المسلط واحد، المسخر واحد، المعطي والمانع واحد، الخالق والرازق هو اللَّه عز وجل» . (الفتح الرباني، المجلد الثالث عشر) .

الموحد المذنب حري بأن يتوب، وتدركه رحمة الله ولطفه بخلاف المشرك العابد:

الموحد المذنب حري بأن يتوب، وتدركه رحمة اللَّه ولطفه بخلاف المشرك العابد: وأخرج الترمذي عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «قال اللَّه تعالى: يا ابن آدم إنك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» . وقد دل هذا الحديث على أن الإنسان مهما أتى به من ذنوب، واقترف من آثام، وإن كانت تعدل ذنوب أكبر العصاة والمجرمين كفرعون وهامان، ولكنه سلم عن الإشراك بدَّل اللَّه سيئاته حسنات، وآتاه بقراب هذه الذنوب مغفرة، فظهر أن الذنوب تتضاءل أمام عقيدة التوحيد، وأن بركتها تغشى المذنب فتمحو خطاياه، كما أن للشرك شؤما وظلمة تطغى على جميع الحسنات، وتحبط جميع العبادات، فإنه إذا وقر في قلب المؤمن، واستقر أنه لا إله إلا هو، لا رب سواه، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وأنه لا معقب لأمره، ولا راد لقضائه، وليس له وكيل ولا شفيع إلا بإذنه، فقد تطهر من أوضاع الشرك، فما صدر عنه من ذنب، فهو من مقتضى البشرية، ونتيجة النسيان، والسهو، ويستولي على قلبه الخوف من هذه الذنوب، وينال منه كل منال، ومن الطبيعي أن يعاف هذه الذنوب ويستوحش منها، حتى تضيق

عليه الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه، فلا تصفو له الحياة، ولا يطيب له طعام وشراب، وكل من كان هذا شأنه أظلته رحمة اللَّه ولطفه، وكلما أكثر من الذنوب اشتدت به الكآبة وأحاطت به الوحشة، فمن رسخت، قدمه في التوحيد عملت ذنوبه ما لا تعمل عبادة غيره، فكان الفاسق الموحد خيرا من المتقي المشرك ألف مرة، كما أن الوفي المقصر من الرعية كان خيرا من الثائر المتملق، لأن الأول نادم على تقصيره، والثاني معجب بخديعته ونفاقه، مدل بنفسه، يحسب أنه يحسن صنعا.

الفصل الثاني في رد الإشراك في العلم

الفصل الثاني في رد الإشراك في العلم الحواس الخمس الظاهرة، والعقل، منحة إلهية عامة للبشر قال اللَّه تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] ، اعلم أن اللَّه تعالى قد وهب عباده قوى ووسائل للاطلاع على أمور ظاهرة، فرزقهم العين ليبصروا، والأذن ليسمعوا، والأنف ليشموا، واللسان ليذوقوا، واليد ليجسوا، والعقل ليفهموا ويتبصروا، وقد مكنهم من هذه الطرق والوسائل، وملكهم إياها ليستخدموها في مآربهم وحاجاتهم، فكلما أراد الإنسان أن يبصر فتح عينه وإلا أطبقها، وإذا أراد أن يتذوق شيئا وضعه في فمه، إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، فكأنما أعطاهم مفاتيح لاكتشاف هذه الأشياء والاطلاع عليها، ومن كان عنده مفتاح كان القفل خاضعا له، تابعا لإرادته، إن شاء فتح، وإن لم يشأ لم يفتح، فكان الاطلاع على الأمور الظاهرة في تصرف الناس، وكانوا أحرارا فيه، يتصرفون فيه كما يشاءون. علم الغيب خاص بالله تعالى، ووراء طور البشر: وهذا شأن الاطلاع على الغيب فيما يختص بالله تعالى، فهو يملكه ويتصرف فيه كما يشاء، وهي صفته الدائمة، ولم يجعل لولي أو نبي،

من ادعى لنفسه، أو اعتقد في أحد علم الغيب بالاستقلال والدوام كان كاذبا آثما:

أو جني أو ملك، أو شيخ أو شهيد، أو إمام، أو سليل إمام، ولا لعفريت ولا لجنية أن يطلعوا على الغيب متى شاءوا، إن اللَّه قد يطلع من يشاء على ما يشاء متى يشاء، لا يجاوز علمه ما أراد اللَّه إطلاعه عليه مثقال ذرة، وكان ذلك خاضعا لإرادة اللَّه تعالى، لا لهواهم. وقد وقع للنبي صلى اللَّه عليه وسلم مرارا أنه رغب في الاطلاع على شيء فلم يتيسر له ذلك، فلما أراد اللَّه ذلك أطلعه عليه في طرفة عين. وقصة الإفك مشهورة معلومة للجميع، وقد أشاع المنافقون عن سيدتنا عائشة ما هي منه بريئة، وقد كبر ذلك على النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وبلغ منه كل مبلغ، وقضى أياما يفحص فيها الأمر فلم تنكشف له الحقيقة، وبقي أياما مشغول الخاطر، فلما أراد اللَّه أن تنجلي عنه هذه الغمة، وتنكشف له الحقيقة أخبره بأن المنافقين هم الكاذبون، وأن عائشة رضي اللَّه عنها بريئة من هذه التهمة، فعلم من ذلك يقينا أن مفتاح الغيب بيد اللَّه تعالى لم يمكن منه أحدا، ولم يملكه إياه، وليس له خازن بل هو الذي يفتح هذا القفل بيده، فيهب من يشاء ما يشاء، لا يمسك يده أحد، ولا يمنعه عن ذلك أحد. من ادعى لنفسه، أو اعتقد في أحد علم الغيب بالاستقلال والدوام كان كاذبا آثما: وقد تبين من هذه الآية أن من ادعى علما يعرف به الغيب متى شاء وأن الاطلاع على الأمور المستقبلة ميسور له، وتحت تصرفه، كان كذابا، مدعيا للألوهية، ومن اعتقد ذلك في نبي أو ولي، أو جني أو ملك، أو إمام أو ابن إمام، أو شيخ أو شهيد، أو مُنِجِّم أو رمَّال، أو جفار، أو من يبحث عن الفال في كتاب (¬1) ، وغير ذلك، أو كاهن أو سادن، أو عفريت أو جنية كان مشركا، منكرا لهذه الآية. ومن وسوست له نفسه، وسول له الشيطان أنه قد يتحقق ما يخبر به منجم، أو رمال، أو كاهن، أو محترف بالأخبار بالسعد والنحس، فيدل ذلك على علمه للغيب، فكل ذلك باطل، فإن كثيرا ما تخطئ أخبارهم ويقع عكسها، فثبت من ذلك أنه لا صلة له بعلم الغيب، وأنه ليس في تصرفهم، وإنما يتكلمون رجما بالغيب، وقد يصيبون، وقد يخطئون، وهذا هو الشأن في الاستخارة والكشف، ومن يبحث عن الفال في ¬

(¬1) اعتاد الناس - في الهند وغيرها أنهم إذا غم عليهم أمر، وكانوا في حيرة وتردد، يقدمون - رجلا، ويؤخرون أخرى، فتحوا كتابا يعتقدون في مؤلفة الخير، وشفوف الروح، فيفتحونه من غير تخير، فما واجههم في الصفحة التي فتحوها تفاءلوا به، وبتوا الأمر، وقد كثر الاعتماد على ذلك في إيران، وشبه القارة الهندية، على «ديوان حافظ» الشاعر الإيراني الغزلي الصوفي، المتوفى سنة 793هـ ويسمون هذا الاستفتاء «برؤية الفال» .

المصحف. وبالعكس من ذلك فإنه لا خطأ في الوحي، والوحي لا يملكون من أمره شيئا، وإنما ذلك إلى اللَّه، إذا شاء أوحى إليهم بما شاء، وإذا لم يشأ لم يوح إليهم، لا أثر لرغبتهم في ذلك، يقول اللَّه تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65] ، فعلم أنه لا سلطان لأحد على الغيب، ودليله أن جميع المؤمنين يؤمنون بأن الساعة آتية لا ريب فيها، ولكنهم لا يعلمون موعدها بالتحديد، يقول اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا

الأمور المستقبلة التي لا تعلم بالقطع

تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] . الأمور المستقبلة التي لا تعلم بالقطع: فإذا كان هذا شأن الساعة التي هي من الأمور القطعية، ومن ضروريات الدين، لا يعلمها أحد، فما ظنك بغيرها من الأخبار والحوادث كالفتح والهزيمة، والمرض والصحة، فإنها لم تشتهر اشتهار القيامة، ولم تكن منزلتها من القطع واليقين كمنزلة القيامة، كذلك لا يعرف أحد متى ينزل المطر، مع أن الفصول معينة، وللأمطار فصل وإبان، تجيء فيه الأمطار في غالب الأحيان، أما الأشياء التي ليس لها فصل معين، ولا يتفق الناس على الحاجة إليه، أو الرغبة فيه، كأن يموت رجل أو يعيش، أو أن يرزق أحد ولدا، أو يغنى الإنسان أو يفتقر، أو أن ينتصر أحد في حرب أو ينهزم أحد، فلا سبيل إلى علمها لأحد، وكذلك ما كان في الأرحام من نطفة، فلا يعلم. العلم بمكنونات الضمائر وهواجس الخواطر، ليس بميسور دائما: وإذا كان هذا شأن أمور تظهر أماراتها، وتعرف مقدماتها، فكيف بما يضمره الإنسان من أفكار وخواطر، وإرادات ونيات، وإيمان ونفاق، وهي في بطون الضمائر، وطيات الصدور، وإذا لم يعلم أحد ما مصيره غدا، وما هو فاعله {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} فكيف يعلم

المدعون المحترفون بالإخبار عن الأمور الغيبية

حال غيره؟ وإذا لم يعلم مكان موته {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فكيف يعلم أين يموت فلان ومتى يموت؟ المدعون المحترفون بالإخبار عن الأمور الغيبية: وجملة القول: أن الذين يدعون الغيب، أو يدعون الكشف منهم من يستخرج الأخبار من تقويم النجوم، أو الرمل، ومنهم من يطوف في الناس، فإنهم كلهم كاذبون مزورون، ويجب على المسلم الصادق أن يبتعد عنهم، ولا يقع في شباكهم. نداء الأموات من بعيد أو قريب للدعاء إشراك في العلم: وقال اللَّه تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] ، وقد دلت هذه الآية على أن المشركين قد أمعنوا في السفاهة، فقد عدلوا عن اللَّه القادر العليم، إلى أناس لا يسمعون دعاءهم، وإن سمعوا ما استجابوا [لهم] ، وهم لا يقدرون على شيء، فظهر من ذلك أن الذين يستغيثون ويظنون أنهم ما أشركوا، فإنهم ما طلبوا منهم قضاء الحاجة، وإنما طلبوا منهم الدعاء، وإن لم يشركوا عن طريق طلب قضاء الحاجة، فإنهم أشركوا عن طريق النداء، فقد ظنوا أنهم يسمعون نداءهم عن بعد، كما يسمعون نداءهم عن قرب.

نفي القدرة المطلقة والاستقلال بعلم الغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم:

نفي القدرة المطلقة والاستقلال بعلم الغيب عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: وقال اللَّه تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الأعراف. وقد خاطب اللَّه في هذه الآية سيد الأنبياء، ومنه تعلم الناس الدين، وباتباعه واقتفاء آثاره نال من نال الشرف عند الناس، والمنزلة عند اللَّه، فأمره بأن يخبر الناس بخبره، حتى يقيس به الناس غيره، فإذا كان هو لا يقدر على شيء ولا يعلم الغيب، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولو كان يعلم الغيب لعرف عواقب الأمور، فإذا عرف عن أمر أنه يؤول إلى نجاح أقدم إليه، وأقبل عليه، وإذا عرف أنه لا خير فيه، أمسك عنه وزهد فيه (¬1) . وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه الشريفة القدرة المطلقة، والعلم بالغيب، إنما أكرمه اللَّه بالرسالة، وشرفه بالنبوة، والنبي مكلف بالإنذار والتبشير لا غير، ينذر السيئات بسخط اللَّه وعذابه، {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} ولا ينفع الإنذار والتبشير إلا أهل الإيمان (¬2) ، وليس من شأن النبي أن يخلق الإيمان في قلوب الناس، إنما هو خلق اللَّه. ¬

(¬1) صح من قوله صلى اللَّه عليه وسلم: «ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي» (صحيح مسلم، كتاب الحج، ص 390، ج 1) . (¬2) يقول اللَّه عز وجل: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: 11] .

سر شرف الأنبياء، وكرامة الأولياء ليس في التصرف المطلق، والعلم المستقل بالغيب:

سر شرف الأنبياء، وكرامة الأولياء ليس في التصرف المطلق، والعلم المستقل بالغيب: وقد دلت هذه الآية على أن الأنبياء والأولياء، إنما شرفهم اللَّه على الخلق، وعلت منزلتهم عند اللَّه، لأنهم يدعون الناس إلى اللَّه، ويرشدون إلى طرائق الحق، ولأنهم يعرفون ما هو صالح الأعمال، وما هو فاسدها، فيعلمون الناس ذلك، وينفع اللَّه بكلامهم، فينفذ في القلب، ويهتدي الناس إلى الصراط المستقيم، وليس شرفهم، لأن اللَّه سبحانه وتعالى منحهم قدرة التصرف في العالم، فيميتون من يشاءون، أو يرزقون من يشاءون الأولاد، أو يفرجون الكرب، ويكشفون الغم، ويحققون أماني الناس، ويقضون حاجاتهم، ويجعلون من يشاءون منتصرا أو منهزما، أو غنيا أو فقيرا، أو ملكا أو أميرا، أو وزيرا، وينتزعون ممن يشاءون ملكا أو إمارة، أو يخلقون في قلب من يشاءون الإيمان، أو ينزعونه منه، أو يشفون المريض، أو يسلبون منه الصحة، قد تساوى في ذلك جميع العباد، فكلهم عاجزون ضعفاء لا يقدرون على شيء. وكذلك لا يمتازون عن الناس بأن اللَّه سبحانه وتعالى مكنهم من علم الغيب، وبسط لهم فيه، فيطلعون على خواطر النفوس متى شاءوا، ويطلعون على شؤون من غاب إذا شاءوا، فيعرفون هل هو حي أم مات، وفي أي مدينة هو، وما تكتنفه من أحوال، وما يتقلب فيه من نعيم أو بؤس، ويعرفون ما هو كائن غدا، فيعرفون أن فلانا سيرزق ولدا، وفلانا لا يولد له، وفلانا يربح في التجارة أو يخسر، وهل يقدر لفلان الانتصار في الحرب، أو سيلقى الهزيمة، فقد تساوى في ذلك جميع العباد كبارهم وصغارهم، هم عن ذلك في عمى، إلا ما ينقل عن بعض

استنكار النبي صلى الله عليه وسلم لنسبة علم الغيب إليه:

العقلاء شيء من الحدس، أو لتقدير مصدره القرائن أو العقل السليم، فيتفق ذلك مع الواقع، كذلك هؤلاء السادة والعظماء قد يحكمون على شيء بعقل أو قرينة، فيتحقق في بعض الأحيان، ويتخلف في بعض الأحيان، أما ما كان عن طريق الوحي والإلهام، فهو لا يقاس على ذلك، ولا يتطرق إليه خطأ، ولا ترتقي إليه شبهة. استنكار النبي صلى اللَّه عليه وسلم لنسبة علم الغيب إليه: أخرج البخاري عن الربيع بنت معوذ بن عفراء، قالت: «جاء النبي صلى اللَّه عليه وسلم فدخل حين بُنِيَ عَلَيَّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: " وفينا نبي يعلم ما في غد " فقال: " دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين» . وقد دل هذا الحديث على أنه لا يصح أن يعتقد الإنسان في نبي أو ولي، وإمام أو شهيد، أنه يعلم الغيب، حتى لا يصح هذا الاعتقاد في حضرة الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه، ولا يصح أن يمدح بذلك في شعر أو كلام، أو خطبة، أما ما اعتاده الشعراء من المبالغة والإسراف في مدح الرسول صلى اللَّه عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والأولياء، والصلحاء والمشايخ، أو الأساتذة، فتخطوا في ذلك حدود الشرع، ونعتوهم في بعض الأحيان بما يليق بالله تعالى، فإذا عورضوا قالوا: إن الشعر جماله المبالغة، وكل شعر تجرد عن المبالغة فهو بالنشر أشبه منه بالشعر، ولكن

لا يصح هذا الاعتذار، فإن النبي صلى اللَّه عليه وسلم نهى جواري الأنصار عن أن ينشدن شعرا نسب إليه في علم الغيب، فما ظنك بعاقل يقول مثل هذا الشعر أو يستحسنه؟ أخرج البخاري عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: «من أخبرك أن محمدا صلى اللَّه عليه وسلم يعلم الخمس التي قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] ، فقد أعظم الفرية» . وهذه الخمس هي التي ذكرها اللَّه في آخر سورة لقمان، فقال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] . وأخرج البخاري عن أم العلاء قالت: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «والله لا أدري وأنا رسول اللَّه ما يفعل بي ولا بكم» .

الفصل الثالث في رد الإشراك في التصرف

عقيدة أهل الجاهلية في اللَّه وحقيقة شركهم: وقد تحقق من هذه الآية الكريمة أن الكفار في عهد الرسول صلى اللَّه عليه وسلم لم يكونوا يرون لله عديلا يساويه في الألوهية والقدرة، وفي الخلق،

التحذير للمسلمين عن تقليد المشركين في نبيهم وأولياء أمته

ولكنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم والأصنام التي كانوا يعبدونها، هم وكلاؤهم عند اللَّه، وبذلك كفروا، فمن أثبت في عصرنا هذا لمخلوق التصرف في العالم، واعتقد أنه وكيله عند اللَّه، ثبت عليه الشرك، ولو لم يعدله بالله، ولم يثبت له قدرة تساوي قدرة اللَّه. التحذير للمسلمين عن تقليد المشركين في نبيهم وأولياء أمته: قال اللَّه تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 21 - 22] . وقد حذر اللَّه في هذه الآية المسلمين من أمة محمد صلى اللَّه عليه وسلم من أن تغرهم نفوسهم فيقولوا: " إن نبينا صلى اللَّه عليه وسلم له دالة عند اللَّه، يضر وينفع، ويدفع ويمنع، ويفعل ما يشاء، ونحن في أمته، فنحن نأوي إلى ركن شديد، وحرز حريز، فإن وكيلنا عند اللَّه، وشفيعنا إليه، من اللَّه بمكان ليس لأحد، فلا خوف علينا ولا خطر، وبذلك يسترسلون في الخيال، ويتوسعون في الأماني ويستخفون بالعمل، ولذلك أمر اللَّه نبيه بأن يخبر الناس أنه لا يملك لهم ضرا ولا رشدا، وأنه - وهو سيد الأنبياء - لن يجيره من اللَّه أحد، فكيف يستطيع أن يجيرهم من اللَّه، ويمنعهم من عذاب اللَّه وعقابه؟ . وبذلك ظهر ضلال أولئك العامة، والغوغاء من الناس الذين ينسون اللَّه، ويستخفون بأحكامه، معتمدين على نصرة المشايخ والشهداء، فإذا كان نبي اللَّه يخاف اللَّه، ولا يرى له ملجأ إلا رحمة اللَّه، فكيف بمن دونه من أفراد أمته، وأتباعه؟ .

عجز الأنبياء وخواص الأمة عن التصرف في العالم

عجز الأنبياء وخواص الأمة عن التصرف في العالم: وقال اللَّه تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: 73] . يقول بعض العامة: إن الأنبياء، والأولياء، والأئمة، والشهداء يقدرون على التصرف في العالم، ولكنهم راضون بقضاء اللَّه وقدره، قد أدبوا نفوسهم وألجموها، فتواضعوا لعظمة اللَّه تعالى، وإلا إذا شاءوا قلبوا هذا العالم رأسا على عقب، ولكنهم أمسكوا عن ذلك تعظيما للشرع، وأدبا معه، وقد نفت هذه الآية هذا الزعم، فبينت عجزهم وضعفهم، وأنهم لا يملكون للناس رزقا من السماوات والأرض، فليس لهم سلطان على الأمطار، ولا على السحاب والريح، وليس لهم سلطان على الأرض فتخرج زهرتها، وتلفظ خزائنها، وإن كل ذلك في قدرة اللَّه وقبضته. وقال اللَّه تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] . ومن السفاهة والظلم أن يعطى الإنسان العاجز الضعيف ما كان من حق القادر القوي، ويعاملهما معاملة سواء. عادات الملوك والأمراء في قبول الشفاعة وأنواع الشفعاء، وأهل الوجاهة: وقال اللَّه تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ

ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 22 - 23] . قد جرت العادة أن من يقضي حاجة من يستصرخه، ويغيثه، إما يكون صاحب الأمر، وإما شريكا له سلطان عليه، أو دالة عنده، فملوك الأرض ينزلون عند رغبة أمرائهم، ويحققون طلبهم، فإنهم أعوانهم، ودعائم ملكهم، فإذا سخطوا أو حقدوا عليهم تزلزل ملكهم، واضطرب أمرهم، وإما أن يشفع إلى الملك أحد المقربين إليه، والذين لهم حظوة عنده، فيحقق رغبتهم طوعا وكرها، وقد يفعل ذلك من غير رضى وطواعية نفس، شأن بنت الملك المدللة، أو إحدى زوجاته الحظيات، فلا يستطيع الملك أن يرفض شفاعتها فيقبلها. أما أولئك الذين يستغيث بهم هؤلاء الجهال، ويطلبون منهم قضاء حاجاتهم، فلا يملكون حبة من شعير، ولا شيئا من نقير أو قطمير في السماوات والأرض، وما لهم فيهما من شرك، وليسوا من دعائم ملك اللَّه، ولا عضده الأيمن، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، حتى يقبل شفاعتهم اضطرارا واستسلاما، إنهم لا يملكون أن يشفعوا إلا بإذنه، ولا يستطيعون أن يحققوا رغبات المستشفعين بقوة أو قهر، بل بالعكس من ذلك قد بلغ بهم العجز والفقر إلى أنه إذا توجه إليهم أمر من اللَّه أخذتهم المهابة وفقدوا رشدهم، ويمنعهم الأدب والفزع عن مراجعة اللَّه،

أنواع الشفاعة التي لا مجال لها عند الله:

واستيضاح ما خوطبوا به وأمروا، بل أقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن الحقيقة، فإذا تبين لهم الأمر، ما زادوا على أن يقولوا: آمنا وصدقنا، فضلا عن معارضة الملك القاهر، وعن الدفاع عن أحد، أو الإدلاء بدليل أو برهان. أنواع الشفاعة التي لا مجال لها عند اللَّه: وهنا يحسن التفطن لملاحظة دقيقة، والتأمل فيها، وهي أن كثيرا من الناس قد اعتمدوا على شفاعة الأنبياء، والأولياء اعتمادا زائدا، وقد أساءوا فهم معنى الشفاعة، فأدى ذلك إلى تناسي اللَّه عز وجل، والتشاغل عنه بخلقه، فلتعرف حقيقة الشفاعة في ضوء نصوص الكتاب والسنة، وما أثبتته الشريعة الإسلامية. لقد تعود الملوك، والأمراء، ورجال الدنيا أنواعا من الشفاعة، يلجئون إليها عند الضرورة لمصالحهم الشخصية، أو مصلحة من مصالح البلاد والرعية، نذكرها أولا، حتى يعرف القارئ الفطن الفرق بين هذه الأنواع من الشفاعة، وبين الشفاعة التي أثبتها القرآن، وبضدها تتبين الأشياء. منها أن رجلا تحققت عليه السرقة، فشفع له أمير، أو وزير إلى الملك، فأطلقه الملك وصفح عنه، ولذلك أسباب: منها أن الملك يريد أن يعاقب السارق، والقانون يأمر بذلك، وهو يستحق العقوبة، ولكن الملك عدل عن رغبته، وصفح عن جريمة هذا المجرم، لأن هذا الأمير هو دعامة قوية من دعائم ملكه، فيعرف

الملك أن الأفضل في هذا المقام أن يملك نفسه ويقهر غضبه، ويصفح عن فرد ارتكب جريمة السرقة، فإنه إذا أسخط هذا الأمير ورفض طلبه، اختلت الأمور، واستشرى الفساد في مملكته، وفقدت الشيء الكثير من بهائها ومهابتها، وهذا النوع من الشفاعة يسمى شفاعة الوجاهة، ومعلوم أنه لا مساغ لهذا النوع من الشفاعة عند اللَّه، ولا مجال له، فمن رجا من نبي أو ولي، أو إمام أو شهيد، أو ملك أو شيخ مثل هذه الشفاعة، ونظر إليه كشفيع تقبل شفاعته لا محالة لعظم جاهه، وعلو منزلته، فقد أوغل في الشرك والجهالة، فإنه لم يقدر اللَّه حق قدره، وما شم رائحة العلم والمعرفة، فإن اللَّه هو رب الأرباب، وملك الملوك، قد وسع كرسيه السماوات والأرض، وإنه يقدر أن يخلق بمجرد الأمر، بكلمة " كن " آلافا مؤلفة من الأنبياء والأولياء، والجن والملائكة، كأول ملك، وأول نبي، فلا أفضل في الملائكة من جبريل، ولا أفضل في الأنبياء من محمد صلى اللَّه عليه وسلم، وإذا شاء قلب هذا العالم رأسا على عقب، من الثريا إلى الثرى، وأنشأ عالما جديدا مكان هذا العالم، لأن كل شيء يظهر إلى الوجود بمجرد أمره، لا يحتاج في إيجاد شيء، أو تحقيق أمر إلى الأسباب والوسائل، أو المواد الأولية، وإذا كان جميع الخلق أولهم وآخرهم، وإنسهم وجنهم على قلب أفضل ملك، أو أفضل نبي، ما زاد ذلك في ملكه، وإذا كانوا كلهم على هيئة شيطان، أو دجال لم ينقص ذلك من بهاء ملكه، فهو في كل حال أعظم من كل عظيم. وقاهر الملوك

والسلاطين، لا يصيبه أحد بنفع ولا ضرر، أو زيادة ونقص (¬1) . والنوع الثاني أن يقوم أحد من أبناء الملك، أو زوجاته، أو من أولع بحبه، بشفاعة لهذا السارق، فيضطر الملك إلى العفو عنه، بدافع من حب هذا الشافع وغرامه، وهذا يسمى شفاعة المحبة، فإن هذا الملك رأى أن كظم الغيظ في هذا المحل، والعفو عن مجرم واحد خير مما يصيبه من الكمد، والكآبة التي تحيط به، وتكدر صفو حياته، إذا سخط عليه هذا المحبوب، أو الحظي، وعاتبه، وأعرض عنه. ومن المعلوم أنه لا مجال لهذا النوع كذلك في حق اللَّه، ومن ظن بأحد أنه شفيع عند اللَّه من هذا النوع، فقد أشبه الأول في الشرك والجهالة، فإن اللَّه سبحانه وتعالى مهما خص عبدا من عباده بنعمه وحبه، ووصف بعض الملائكة بأنه " رسوله كريم " (¬2) ، و" مكين " (¬3) ، ¬

(¬1) أخرج مسلم بسنده عن أبي ذر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن اللَّه تبارك وتعالى: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد اللَّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» . (¬2) قال اللَّه تعالى في سورة التكوير: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وقد ذهب المفسرون إلى أن المراد به جبريل عليه السلام، وقال في سورة الشعراء: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ وقال في سورة البقرة: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وقال في سورة المائدة: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ والمراد بكل ذلك جبريل. (¬3) قال اللَّه تعالى في سورة التكوير: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وقد ذهب المفسرون إلى أن المراد به جبريل عليه السلام، وقال في سورة الشعراء: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ وقال في سورة البقرة: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وقال في سورة المائدة: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ والمراد بكل ذلك جبريل.

الشفاعة الثابتة في الإسلام

و" روح القدس " (¬1) ، أو " الروح الأمين " (¬2) ، ولكن السيد هو السيد، والعبد هو العبد، ولا يستطيع عبد أن يتخطى العبودية، ويتعالى على ما قدر له، ووسم به من ذل الرق، وسيما العبودية، فكما أنه يخضع لسيده طائعا مسرورا، وهو يعطف عليه، ويغمره برحمته، كذلك ينخلع قلبه، وتنفطر مرارة كبده من هيبته وجلاله. الشفاعة الثابتة في الإسلام: والنوع الثالث: أن السارق تحققت عليه الجريمة، ولكنه لم يتخذ السرقة ديدنا وحرفة، ولكنه ارتكب هذه الجريمة بنزوة من نزوات النفس، فهو نادم على فعلته، وهو وجل خجل يجل قانون ملكه، ويعتبر نفسه مخطئا يستحق العقوبة، إنه لا يلوذ بكنف أمير أو وزير هربا من الملك، ولا يدل بنصرة أحد، ولا يعتمد عليها، إن عينه شاخصة إلى الملك، وإن آماله منوطة به لا غير، يتطلع إلى ما يصدر من الملك في أمره، وإلى ما يأمر به، فلما رآه الملك بهذه الحال من القلق، وانقطاع الآمال، والتقلب بين الخوف والرجاء رق له قلبه، ورثى لحاله، ولكنه يعرف أنه إذا صفح عن جريمته من غير سبب، تطرق الوهن إلى قانونه، ونظام مملكته، واستخف الناس بهذا القانون، وزالت عنهم مهابته، فأوعز إلى أمير أو وزير فقام بشفاعته عنده، وأبدى الملك أنه يريد أن يكرم هذا الأمير بقبول شفاعته، فعفا عن هذا السارق وبشفاعة الأمير، والظاهر أن هذا الأمير لم يشفع لهذا السارق، لأنه يتصل به بنسب أو صداقة، أو أنه ¬

(¬1) قال اللَّه تعالى في سورة التكوير: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وقد ذهب المفسرون إلى أن المراد به جبريل عليه السلام، وقال في سورة الشعراء: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ وقال في سورة البقرة: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وقال في سورة المائدة: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ والمراد بكل ذلك جبريل. (¬2) قال اللَّه تعالى في سورة التكوير: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وقد ذهب المفسرون إلى أن المراد به جبريل عليه السلام، وقال في سورة الشعراء: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ وقال في سورة البقرة: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وقال في سورة المائدة: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ والمراد بكل ذلك جبريل.

تكفل بنصرته، ولكنه شفع له لأنه اطلع على رغبة الملك، وهذا النوع من الشفاعة يسمى " الشفاعة بالإذن ". فليعلم أنها هي الشفاعة المأذونة الممكنة، وكل شفاعة يتحدث عنها القرآن والحديث، فهي الشفاعة المأذون لها، فيجب على الإنسان أن يظل داعيا لله تعالى، مشفقا منه، مستغيثا به، مقرا بذنوبه بين يديه، مؤمنا بأنه ربه وناصره، لا يعرف له - إذا سرح طرفه، وأرسل خياله - ملجأ ولا ملاذا إلا اللَّه، فلا يعتمد على نصرة سواه، فإنه غفور رحيم، سيفرج الكرب، ويكشف الغم بفضله، ويغفر الذنوب جميعا برحمته، ويأمر من يشاء بشفاعته، فكما أنه يجب أن يكل إليه جميع حاجاته ومآربه، يتحتم عليه أن يكل إليه أمر نصرته وشفاعته، يختار لها من يشاء، ويأمر بها من يشاء، عوضا عن أن يبحث له عن شفيع ومدافع، فيعتمد عليه اعتمادا ينسيه الاعتماد على اللَّه، ويشغله عنه، ويستهين بأحكام الشريعة، ويتخذ ما يدعو إليه هذا الشفيع أو الوكيل من طريق، وما يسلكه من سبيل، شرعة ومنهاجا، ويفضلها على دين اللَّه، وشريعة رسوله، وسنة نبيه، فإنها سُبَّةٌ، تبرأ منها جميع الأنبياء والأولياء، ومقتوها، وهم لا يشفعون لمن تلبس بها، بل يسخطوا عليه ويعاندونه، لأن سر كرامتهم، ومناط شرفهم، أنهم كانوا يريدون مرضاة اللَّه على مرضاة أزواجهم، وأولادهم، وتلاميذهم، وأتباعهم من عبيد وخدم، وأحبة وأصحاب، فإذا عارض منهم أحد أمرا من أوامر اللَّه تعالى، أو حارب اللَّه ورسوله، عادوه وحاربهم، وما ظنك بهؤلاء العامة الذين لا يتصلون بنسب أو صداقة، أو حب، حتى يقوم هؤلاء بنصرتهم، ويحاجوا اللَّه فيهم، ويكونوا للخائنين خصيما، بل الأمر بالضد، فالحب لله، والبغض لله، قد أصبح شعارا ودثارا، فإذا قضى اللَّه

لا داعي إلى الاعتصام بغير الله:

بإدخال هؤلاء المجرمين في النار أطاعوا اللَّه في أمره، وسعوا في سرعة وصولهم إلى قعر جهنم، وتنافسوا في الإعانة على ذلك. لا داعي إلى الاعتصام بغير اللَّه: أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي اللَّه عنه، قال: «كنت خلف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يوما، فقال: " يا غلام احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف» . ومعنى الحديث أن اللَّه سبحانه وتعالى ملك الملوك، ليس شأنه شأن الملوك، الذين يأخذهم السفه، ويميل بهم التيه، فلا يرقون لمملوك، ولا يعطفون عليه، وإن بالغ في التضرع والاستغاثة، لذلك لجأ كثير من رعية الملوك، وأهل مملكتهم إلى الأمراء، فتوسلوا بهم عند هؤلاء الملوك، وتمسكوا بأهدابهم، ولاذوا بحماهم ليميلوا إليهم، ويشملوهم بعطفهم، ويعفوا عن خطاياهم، تحقيقا لرغبة هؤلاء الشفعاء، أو وجاهة أولئك الأمراء والعظماء، بل هو في منتهى الكرم والرحمة، لا ينسى أحدا، ولا يغفل عن أحد، شفع شفيع، أو لم

الصالحون من عباد الله لا يملكون إلا الدعاء والسؤال من الله:

يشفع، وليس له مجلس كمجالس الملوك، والسلاطين. بل إن اللَّه أقرب إلى عبده من حبل الوريد، فمن أقبل عليه بقلبه، أقبل عليه بعطفه، ووجده تجاه نفسه، ليس بينه وبين ربه حجاب إلا الغفلة والجهالة، فمن بعد عنه بعد بغفلته، ومن حرم رحمته حرم بجهالته ومعصيته، وهو أقرب من كل قريب، ألا يعرف من دعا شيخا، أو نبيا، وناداهما لنصرته، ليقرباه إلى اللَّه زلفى، أن الشيخ والنبي بعيدان عنه، والله قريب منه، ومثله مثل رجل جالس وحده عند الملك، وقد أقبل عليه الملك يسمع طلبه، وما يبديه من حاجة أو رغبة، فانصرف هذا الرجل الجاهل عن الملك، وبدأ ينادي أميرا أو وزيرا، وهما بعيدان، وسألهما أن يبلغا حاجته إلى هذا الملك العظيم، وهو لا يخلو عن حالين: إما أنه أعمى، وإما أنه مجنون. وقد أمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم في هذا الحديث بأن العبد إذا سنحت له حاجة اضطرته إلى السؤال فليسأل اللَّه، وأنه إذا كان في حاجة إلى إعانة، أو إغاثة فليستعن بالله، وأنه قد رفعت الأقلام، وجفت الصحف، فلا ماحي لما أثبته اللَّه، ولا مثبت لما محاه اللَّه، وأن القضاء واقع، والأمر محتوم، وإن اجتمع الناس كلهم صغيرهم وكبيرهم على أن ينفعوا أحدا، أو يضروه، لم يجاوز ذلك قدر اللَّه. الصالحون من عباد اللَّه لا يملكون إلا الدعاء والسؤال من اللَّه: وقد ثبت من هذا الحديث أن ما يعتقده كثير من الجهلة والغوغاء،

المؤمن الموحد رابط الجأش ناعم البال، وضعيف العقيدة مشتت الفكر موزع النفس:

أن اللَّه سبحانه وتعالى قد أذن للأولياء أن يغيروا قضاء اللَّه وقدره، فرب رجل لم يرزقه اللَّه ولدا، يرزقه هؤلاء الأولياء أولادا، ورب رجل انتهى أجله، وحضرته الوفاة، زادوا في عمره؟ وهذا كله باطل، إن الحقيقة أن اللَّه قد يقبل دعاء عبده، وقد لا يقبل، ويمتاز الأنبياء والأولياء عن عامة الناس بأن أكثر دعواتهم مقبولة، وهم مستجابو الدعاء، ولكن التوفيق بيد اللَّه فيلهمهم الدعاء ويتقبل منهم، والدعاء والاستجابة كلاهما مقدران، قد جرى بهما قلم القضاء، ولا يقع في العالم شيء إلا ومضى به علم اللَّه، وجرى به القلم، فلا يخرج شيء من دائرة القضاء والقدر، ولا يقدر أحد على عمل إلا ما قدر في علم اللَّه، ولا يملك نبي أو ولي، إلا أن يسأل اللَّه ويدعوه، لا حيلة له ولا سبيل إلا هذا السؤال والدعاء، وإذا شاء أجاب سؤله، وقضى حاجته، وإذا شاء منعه لحكمة يعلمها. المؤمن الموحد رابط الجأش ناعم البال، وضعيف العقيدة مشتت الفكر موزع النفس: من المشاهد أن الإنسان إذا تعلق قلبه بشيء واستحوذ عليه، أو ألمت به ملمة فلم تنفرج، تشتت فكره، وذهب في طلب الغوث كل مذهب، وهام في كل واد، وقد تسول له نفسه أن يستصرخ النبي الفلاني، وقد تزين له أن ينادي فلانا من الأئمة، وقد يجول بخاطره أن ينذر لفلان من المشايخ، وكذا من الشهداء، أو يخضع لجنية فلانية، أو يرجع إلى المنجم الفلاني، أو الرمال الفلاني، وقد تحدثه نفسه بأن يراجع سادنا، أو إماما من أئمة المساجد الذين اتخذوا هذه

الأمور حرفة، فيطلب منه أن يبحث عن الفال في كتاب، ومن هام في كل واد، واتبع كل ناعق، صرف اللَّه عنه عنايته وأخرجه من عباده الصادقين، وأخطأ طريق التربية والهداية الربانية، وظل يهيم في هذه الأودية، ويتيه في مهامه الأوهام والأحلام إلى أن يتلف ويهلك، فمنهم من تمذهب بمذهب الدهريين، ومنهم من سلك مسلك الملحدين، ومنهم من دخل في غمار المشركين، ومنهم من ابتلي بالسفسطة. وأما من توكل على اللَّه، ولم تتشعب به المذاهب عده اللَّه وفتح اللَّه عليه طريق الهداية، وهدى قلبه، فأذاقه حلاوة الإيمان، وغشيته غاشية من السكينة، ورزق من اجتماع الخاطر ورباطة الجأش، وبرد اليقين، وهدوء النفس ما لا سبيل إليه لمن تثبت فكره، وتفرق هواه، ثم إنه لا يخطئه ما قدر له وقسم، ولكن ضعيف العقيدة متشتت البال يعاني الحزن والقلق من غير جدوى، والمؤمن المتوكل، الموحد ينعم بالهدوء، والطمأنينة والسكينة. ومعنى ذلك أن اللَّه عز وجل وعلا لا يقاس على ملوك الدنيا، فإنهم يباشرون الأمور الخطيرة ويتولونها بأنفسهم، أما الأمور التافهة فيكلونها إلى الخدم والموظفين، فيلجأ الناس إليهم في هذه الأمور التي ليست ذات خطر وشأن، وليس الأمر كذلك فيما يختص بالله تعالى، فإنه هو القادر المطلق الذي يقدر على أن يصلح ما دق وجل من الأمور، وإن كانت في عددها وانتشارها كنجوم السماء، ورمال الدهناء، وليس لأحد تصرف في مملكته، فيحب أن يطلب منه الأمر التافه كما يحب أن يطلب منه الأمر الجليل، والعطاء الجزيل، لأن أحدا لا يملك شيئا سواء الصغير منه والكبير، والدقيق والجليل.

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قرابته من الاعتماد على نسبه إليه وقرابته منه

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قرابته من الاعتماد على نسبه إليه وقرابته منه والاستغناء بهما عن العمل: وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، دعا النبي صلى اللَّه عليه وسلم قرابته، فعم وخص، فقال: «يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من اللَّه شيئا، أو قال فإني لا أغني عنكم من اللَّه شيئا ويا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من اللَّه شيئا، ويا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من اللَّه شيئا، ويا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من اللَّه شيئا، ويا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من اللَّه شيئا، ويا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من اللَّه شيئا، ويا فاطمة أنقذي نفسك من النار، سليني ما شئت من مالي فإني لا أغني عنك من اللَّه شيئا» . ومن المشاهد المجرب أن الذين يتصلون بأحد الصالحين أو المشايخ بنسب يعتمدون على نصرته، وقد يأمنون مكر اللَّه ثقة بهذا النسب، وتيها ودلالا بهذه الزلفى، لذلك أمر اللَّه نبيه صلى اللَّه عليه وسلم أن يحذر من يتصل به بنسب أو قرابة عن هذا الغرور، والاسترسال في الأماني والأحلام، وقد فعل

ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فعم وخص، ولم يترك في هذا التحذير بنته التي هي بضعة منه، وأحب الخلق إليه، وقد أوضح صلى اللَّه عليه وسلم أن الإنسان يوفي حق قريبه، ويصله فيما يملكه فحكمهم في ماله، وخيرهم أن يسألوه ما شاءوا، أما أمور الآخرة أو الحساب والكتاب فإنه لا يملك منها شيئا، ولا يستطيع أن يدافع عن أحد، أو يحتج لأحد، فيجب على كل واحد أن يعنى بإصلاح شئونه، ويسعى في الخلاص من النار، وقد دل هذا الحديث على أن القرابة أو النسب لا يغنيان عن الإنسان شيئا، ولا ينفعان عند اللَّه.

الفصل الرابع في رد الإشراك في العبادة

الفصل الرابع في رد الإشراك في العبادة (¬1) الدعوة إلى التوحيد الخالص، ونبذ الشرك، قديمة ومتصلة: قال اللَّه تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 25 - 26] . ¬

(¬1) العبادة تعني الأمور التي خصها اللَّه لتعظيمه، وبينها للبشر، حتى لا يشركوا فيها غير اللَّه (المؤلف) .

السجود بجميع أنواعه لا يجوز إلا لله تعالى

فقد دلت هذه الآية على أن الصراع بين المسلمين والكفار بدأ من عهد نوح عليه السلام فما زال الصادقون من عباد اللَّه ينهون عن أن يعظم أحد من الخلق تعظيما يليق بالله تعالى، وعن أن تصرف إليه أعمال تقصد منها غاية التعظيم، والذل والتواضع، وهي مختصة بالله تعالى، وظلت الحرب قائمة بين الفريقين على قدم وساق، لم تضع أوزارها. السجود بجميع أنواعه لا يجوز إلا لله تعالى: وقال اللَّه تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] . فقد دلت هذه الآية على أن السجدة من أعظم شعائر العبادة، وهي مختصة بالخالق جل وعلا، فلا تجوز لمخلوق، وقد تساوى في هذه الصفة القمر والشمس، والنبي والولي، ومن قال إنه قد جاز السجود في الأديان القديمة لبعض المخلوقات، ونقل ذلك بالخبر الصحيح، فصح سجود الملائكة لآدم، وسجود يعقوب ليوسف، فلا بأس أن نسجد لشيخ أو ولي، وهذا باطل (¬1) ، فقد جازت أشياء في الأديان السابقة، وحرمت في ديننا، وقد أبيح النكاح بالأخوات الشقيقات في عهد آدم، فهل يبيح هؤلاء المحتجون بهذه الدلائل أن يتزوج الإخوة أخواتهم؟ . والأصل أن العبد مكلف بامتثال أمر ربه، فعليه أن يمتثل أمره عن رضا وطواعية نفس، لا يجد في نفسه حرجا مما أمر به، ولا يحاج ولا يتشبث بأمور الأولين وأخبارهم، لأن هذا يؤدي إلى الكفر، ومثل ذلك ¬

(¬1) وقد اتفق علماء الإسلام قديما وحديثا، وكل من يحتج بقوله وعمله من الفقهاء والداعين إلى اللَّه، على أن السجود - سواء سجود العبادة أو سجود التحية والتعظيم - لا يجوز إلا لله تعالى، هذا عدا الأحاديث الصحيحة التي بلغت حد الاستفاضة، وقد صرح فقهاء المذهب الحنفي، وأئمته بحرمة سجود التحية، وأفتى بعضهم بكفر من يفعل ذلك، قال شمس الأئمة السرخسي في المبسوط: من سجد لغير اللَّه تعالى على وجه التعظيم كفر «وقال العلامة ابن عابدين في رد المحتار ج 5 ص 178:» يكفر بالسجدة مطلقا «، وقال العلامة ابن حجر في» الإعلام بقواطع الإسلام «:» ما يفعله كثيرون من الجهلة الظالمين من السجود بين يدي المشايخ، فإن ذلك حرام قطعا بكل حال، سواء كان للقبلة أو لغيرها، وسواء قصد السجود لله تعالى، أو غفل «وقد جمع الشيخ أحمد رضا خان البريلوي متوفى سنة 1340 هـ، مائة وخمسين نصا فقهيا في حرمة سجود التحية في رسالة» الزبدة الزكية «فلتراجع. وقال الإمام الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي متوفى 1034 هـ، في رسالة له كتبها إلى أحد أصحابه، وقد بلغه أن بعض أصحابه يسجدون له سجدة التحية، فلا يشدد في منعهم عن ذلك، قال رحمه اللَّه:» يا أخي إن السجود الذي هو عبارة عن وضع الجبهة على الأرض يدل على غاية الذل والافتقار، وكمال العجز والتواضع، لذلك حصص هذا النوع من التذلل والتواضع لعبادة اللَّه تعالى، ولم يؤذن به لغير اللَّه « (رسالة عدد 292 إلى السيد محمد نعمان من ضمن رسائل الإمام أحمد السرهندي) .

ضلال الناس فيمن يعتقدون فيهم الصلاح والفضل

أن ملكا أصدر مرسوما في مملكته، وبقي هذا الأمر مدة، ثم نسخ، وأبدل بمرسوم آخر، فمن قال: إني سأظل متمسكا بالمرسوم الأول، ولا أقبل المرسوم الجديد، اعتبر خارجا على الملك محاربا له. ضلال الناس فيمن يعتقدون فيهم الصلاح والفضل: وقال اللَّه تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} [الجن: 18 - 20] . والعادة أن الإنسان إذا أخلص في الدعاء والنداء، وصح ما بينه وبين اللَّه، اعتقد الناس أنه بلغ في الولاية والروحانية منزلة يقدر فيها على أن يعطى من شاء ما شاء، وينزع ممن شاء ما شاء، فيتهافتون عليه تهافت الفراش على النور، ويكادون يكونون عليه لبدا، فينبغي لهذا العبد الصالح أن يبين الحقيقة، ويميز الحق من الباطل، فينهى عن دعاء غير اللَّه، وينفي عن الخلق القدرة على النفع والضر، ويوضح أن من دعا غير اللَّه، ورجا منه النفع، ودفع الضر فقد أشرك، ويعلن أنه بريء من هذا الشرك، غير راض عن هذا العمل. وقد دلت هذه الآية على أن المثول بغاية الأدب والتواضع - كما كان الشأن في مجالس ملوك فارس، وكما هو الشأن في معابد الوثنيين عند الأصنام والهياكل، والسدنة والكهان - أمام شيخ صالح، أو عظيم المنزلة في الروحانية والربانية، كأنه في الصلاة، ونداؤه من قريب وبعيد، واللهج باسمه باستمرار، كأنه اسم من أسماء اللَّه الحسنى، من

المناسك ومظاهر التعظيم الأقصى وشعائر الحب والتفاني

الأعمال التي خصها اللَّه لتعظيمه، ومن أشرك فيها غيره، فقد أشرك بالله. المناسك ومظاهر التعظيم الأقصى وشعائر الحب والتفاني، خاصة بالبيت والحرم: وقال اللَّه تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 27 - 29] . ومعنى ذلك أن اللَّه سبحانه وتعالى قد خصص أمكنة لتعظيمه، كالكعبة، وعرفات، والمزدلفة، ومنى، والصفا والمروة، ومقام إبراهيم، والمسجد الحرام كله، ومكة كلها، والحرم كله، وألهم الناس شوقا لزيارتها، والحنين إليها، فيتوجهون إلى هذه الأمكنة رجالا وركبانا، ويأتون إليها من كل واد عميق، ومرمى سحيق، ويتجشمون في سبيلها مشاق السفر، وعناء التنقل، يصلون إليها غبرا شعثا، متبذلين في الثياب، زاهدين في الشارات والمظاهر، فيذبحون هنالك الأنعام لله تعالى، ويوفون نذورهم، ويطوفون بالبيت، ويقضون لبانتهم من تعظيم اللَّه تعالى، الذي غمر نفوسهم وقلوبهم، ويرضون

الحج وأعماله لا تجوز إلا للبيت

هنالك عاطفة الحب والحنان، التي ملكتهم. ويذهبون في ذلك مذاهب شتى، ويتفننون فيه، فمنهم من يستلم عتبة البيت ويقبلها، ومنهم من يقف داعيا أمام الباب، ومنهم من يتضرع متشبثا بكسوة الكعبة، ومنهم من يعتكف عنده، فيصل بياض النهار بسواد الليل عاكفا على عبادة اللَّه، منصرفا إلى ذكره، إلى غير ذلك من مظاهر التعظيم، وشعائر الحب والتفاني، والله يرتضيها ويثيبهم عليها في الدين والدنيا، فلا تجوز هذه الأعمال - المختصة بهذه الأمكنة - لتعظيم شيء آخر، شخصا كان أو قبرا، أو مكان عبادة لرجل صالح، أو نصبا لصنم. الحج وأعماله لا تجوز إلا للبيت: ومن الشرك أن يقصد الإنسان هذه الأمكنة من أنحاء بعيدة، ويشد إليها الرحال، ويتجشم في سبيلها المشاق، والمصاعب، يصل إليها متبذلا متوسخا أغبر أشعث، ويذبح هنالك الأنعام، ويوفي بالنذور، أو يطوف حول قبر أو بيت، ويتأدب مع الغابة التي تحيط بهذا المكان، ولا يصطاد هناك صيدا، ولا يعضد شجرة، ولا يقتطع عشبا، ويرجو من ذلك الثواب والنفع في الدنيا والآخرة (¬1) ، لأن هذه الأعمال كلها مختصة بالخالق جل وعلا. ¬

(¬1) كما يفعله كثير من الغلاة والجهلة حين يشدون الرحال إلى المشاهد وأضرحة الأولياء في الهند وإيران، ولهم في ذلك آداب والتزامات وأحكام تضاهي آداب الحج والتزاماته وأحكامه وقد تفوقها في الدقة والاحتياط والخشوع.

تخصيص الحيوانات للصالحين، والتقرب باحترامها ونذرها وذبحها إليهم حرام:

تخصيص الحيوانات للصالحين، والتقرب باحترامها ونذرها وذبحها إليهم حرام: قال اللَّه تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] . والمراد به دابة أو حيوان خصص لغير اللَّه، فلا يمس بسوء، ويعيش مدللا محترما، وإذا ذبح ذبح إرضاء لمن خصص به، وتقربا إليه (¬1) ، فإنه حرام ونجس، كالخنزير، والدم، والميتة، لا فرق بينها وبين هذا الحيوان، ولم تقيد الآية بأن يذكر عليه اسم مخلوق عند الذبح (¬2) ، بل ¬

(¬1) قد شدد فقهاء المذاهب التي عليها الاعتماد، وعلماء الإسلام الذين يحتج بقولهم، على حرمة هذا الفعل، وألحق كثير منهم هذه الحيوانات بالميتة، وغير المذكى، راجع تفسير آية: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ في كتب التفسير، وأحكام القرآن، راجع كتب الفقه في المذاهب الأربعة وغيرها، وقد أفاض في تحقيقه الشيخ عبد العزيز بن ولي اللَّه الدهلوي في تفسير فتح العزيز وأجاد، فليراجع. وقد بالغ الفقهاء في المنع عن الذبح لغير اللَّه تعظيما وإجلالا، حتى حرموا ما يذبح لقدوم أمير أو عظيم تقربا إليه وتعظيما له، جاء في الدر المختار ج 5، ص 196 على هامش رد المحتار: (ذبح لقدوم الأمير ونحوه) كواحد من العظماء (يحرم) لأنه أهل به لغير اللَّه، (ولو ذكر اسم اللَّه تعالى) ، انتهى. وعلى ذلك اتفق المشايخ المحققون، والراسخون في العلم، يقول الإمام أحمد بن عبد الأحد السرهندي في رسالة كتبها إلى امرأة صالحة من أتباعه: «اعتاد كثير من الجهال أن ينذروا حيوانات لمشايخهم، وللصالحين، والأولياء، ويسوقونها إلى قبورهم فيذبحونها، وقد عده الفقهاء فيما نقل عنهم شركا، وشددوا في ذلك، وصرحوا بالتشنيع عليه، والتحذير منه، وقد عدوا ذبح هذه الحيوانات من ضمن الذبائح التي كان يذبحها المشركون للجن طمعا في رضاهم، وخوفا من سخطهم، (مكتوب رقم 41 / 35) . (¬2) راجع في فتح العزيز للإمام عبد العزيز بن ولي اللَّه الدهلوي (ص 415 المطبعة المحمدية) تفسير قوله تعالى: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ تجد بحثا وافيا في هذا الموضوع، ونقولا عن أئمة المذاهب وكبار المفسرين.

شركاء متشاكسون، وأسماء من غير مسميات:

إنها اقتصرت على أن كل حيوان نسب إلى مخلوق واشتهر به حرام ونجس، كالبقرة المنسوبة إلى السيد أحمد الكبير، أو التيس المنسوب للشيخ سدو (¬1) ، فكل حيوان دجاجة كانت أو بعيرا نسب إلى مخلوق " تقربا إليه " واشتهر بهذه النسبة، كان حراما ونجسا، سواء نسب إلى ولي أو نبي، أو أب أو جد، أو عفريت أو جنية، ومن فعل ذلك، تحقق عليه الشرك. شركاء متشاكسون، وأسماء من غير مسميات: قال اللَّه تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39 - 40] . من المقرر أن العبد الذي كان فيه شركاء متشاكسون في نصب وعذاب، إن العبد هو الذي كان له سيد قاهر يتكفل بقضاء حاجاته، وإصلاح شؤونه. وبصرف النظر عن ذلك، فإنه لا وجود لهؤلاء السادة الأرباب الذين يشركهم الجهال في ملك اللَّه وملكوته، إنما هم من نسج الخيال، فمن الجهال من يتخيل أن فلانا بيده إنزال الأمطار، وإرسال السحاب، وفلانا بيده الإنبات وإخراج الحب، ومنهم من يرزق الأولاد، ومنهم من ¬

(¬1) شخصية خيالية لا وجود لها، وغالب من يعتقد فيها ويذبح لها لقضاء الحوائج وأداء النذور النساء (راجع معجم نور اللغات ج 3 ص 462) .

يمنح الصحة والشفاء، ثم يخرقون لها أسماء، فيسمون بعضها ببعض الأسماء التي يخترعونها، ثم يعكفون عليها عبادة ودعاء، ونداء، ثم يمضي على ذلك زمان فينتشر في الناس، ويتمسكون بهذه العقائد والعادات، وما هي إلا تخيلات، لا وجوب لها في الحقيقة، فليس لهذه المسميات وجود في العالم (¬1) ، وإذا وجد أحد بهذا الاسم فإنه لا سلطان له في هذا الكون، ومجاري الأمور، والذي يملك أزمة الأمور، هو اللَّه وحده، وليس من أسمائه محمد أو علي، أما الذين سموا بهذه الأسماء، فهم لا يملكون من هذا العالم شيئا، أما الذي ينادى بمحمد أو بعلي، ثم يملك هذا العالم، فلا وجود له البتة، إنما هي أسماء سماها الجهال، وآباؤهم ما أنزل اللَّه بها من سلطان، ومن عارض أمر اللَّه بأمره رفض ولم تكن له قيمة، وقد نهى اللَّه عن الاسترسال في أمثال هذه الأوهام والأحلام. وإن لب الدين وجوهره هو أن يمتثل العبد أوامر اللَّه، ويؤثرها على كل أمر، وعلى كل ما شاع في الناس من الأساطير والتقاليد، ولكن أكثر الناس مع الأسف لا يسلكون هذا الطريق، ويؤثرون تقاليد مشايخهم وأعرافهم على أمر اللَّه تعالى. وقد ظهر من هذه الآية أن التمسك بشرعة ومنهاج، واللجوء إلى أمر يستند إليه، هو من الأمور التي خصصها اللَّه لتعظيمه، فمن عامل ¬

(¬1) اقترن الشرك والوثنية بالزور والاختلاق في أكثر الأمم والطوائف، حتى كأنهما رضيعا لبان، وخدنان لا يفترقان، وقد شاعت في كل بلاد تمسكت بالشرك، وانقطعت صلته عن تعاليم الأنبياء وصحفهم، مشاهد وضرائح منسوبة إلى شخصيات خيالية، أو أسطورية لا وجود لها البتة، وقد كثر التزوير في قضية الأمكنة التي تزار وتشد إليها الرحال، والضرائح والمشاهد التي تقصد من أنحاء بعيدة، ولم يصح منها إلا القليل النادر، وكان من معجزات القرآن، أنه قرن الشرك بالزور، فقال: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. (سورة الحج الآية: 30) .

غاية التعظيم في التذلل والخشوع من حق الله تعالى:

مخلوقا بذلك تحقق عليه الشرك، ولا طريق للعباد للاهتداء إلى شريعة اللَّه وأحكامه إلا الرسول، فمن آثر كلام إمام أو مجتهد، أو " غوت " أو " قطب " (¬1) ، أو عالم أو شيخ، أو أب أو جد، أو ملك أو وزير، أو قس أو سادن، وطريقتهم على قول الرسول (¬2) ، واحتج بقول شيخ أو أستاذ معارضا لآية أو حديث، أو اعتقد عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه هو الشارع الأصلي، وأنه كان يتكلم عن الهوى، وما توحي إليه نفسه، فيفرض ذلك على أمته، فقد أشرك، إن الحكم إلا لله، والرسول هو المخبر الصادق، فما وافق إخباره من كلام الناس قبل، وما خالفه رُدَّ. غاية التعظيم في التذلل والخشوع من حق اللَّه تعالى: أخرج الترمذي عن معاوية قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» . ¬

(¬1) على تعبير الناس وتسميتهم. (¬2) لأن المقصود هو اتباع اللَّه ورسوله، والعلماء المجتهدون وأئمة المذاهب شراح لكلام اللَّه ورسوله، يشرحون الغامض، ويقربون البعيد، ويميزون بين الصحيح والضعيف والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفصل، ويكفون من لم توفر عنده شروط الاجتهاد والترجيح، وصلاحية النقد والتنقيح، أو لمن بعد زمانه، مؤنة البحث والتحقيق، فمن أخذ بقولهم أخذ به كقول شارح ومعلم، وصاحب اختصاص في الفن، وتكليف العامي بالاجتهاد والتحقيق تكليف بما لا يطاق، أما من آثر قول مجتهد على النصوص الشرعية لمجرد هوى أو عصبية، أو حمية جاهلية، كان تابعا لهواه غير متبع سبيل المؤمنين.

أتعبدون ما تنحتون

وهذا وعيد شديد لمن أحب أن يقف الناس أمامه واضعي أيمانهم على شمائلهم في غاية الأدب والتواضع، كتماثيل لا تتحرك ولا تتكلم، ولا تنظر يمينا ولا شمالا، وقد أوعده الرسول صلى اللَّه عليه وسلم بجهنم، فإنه أحب أن يعظمه الناس بما يعظمون به اللَّه إذا وقفوا للصلاة واضعي يمناهم على يسراهم في أدب وخشوع، فكأنه ادعى الألوهية وتشبه بالله، وقد ظهر من هذا الحديث أن المثول أمام عظيم أو كبير في أدب وتواضع لا يقصد به إلا التعظيم من الأمور التي خصصها اللَّه تعالى لتعظيمه. أتعبدون ما تنحتون؟ أخرج الترمذي عن ثوبان قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان» . ويفهم من هذا الحديث أن الشرك نوعان: النوع الأول: أن يجعل لأحد تمثال ثم يعبد، ويقال له في اللغة العربية " صنم " والنوع الثاني: أن يخصص بيت أو شجرة، أو حجر، أو خشب، أو قرطاس، وينسب إلى أحد ثم يعبد، ويجل ويعظم، ويقال له في العربية " وثن " (¬1) ، ويدخل فيه القبر، ومكان جلس فيه أحد ¬

(¬1) لعل المؤلف رحمه اللَّه بنى كلامه هذا على ما نقل عن بعض أئمة اللغة، أن الصنم ما كان على صورة خلقة البشر، والوثن ما كان على غيرها، نقله الزبيدي في تاج العروس عن شرح الدلائل (ج 8، ص 371) ، ويؤيده ما قاله ابن منظور في لسان العرب (ج 15، ص 241) نقلا عن عرفة، قال: ما اتخذوه من آلهة فكان غير صورة فهو وثن، فإذا كان له صورة فهو صنم، وتفرقت أقوال أئمة اللغة في تفسيرهما، والفرق بينهما، فمنهم من قال بالعكس، ومنهم من لم يفرق بينهما وأطلقهما على المعنيين، ويظهر من تتبع الآيات والأحاديث، وكلام العرب ترجيح القول الأول، وهو الذي اعتمد عليه المؤلف، والله أعلم.

الذبح تقربا وتعظيما من حق الله تعالى:

الصالحين، واعتكف للأربعين، أو عكف على العبادة والرياضة، ويدخل فيه اللحد، أو عود ينسب إلى أحد الصالحين والأولياء، أو ضريح مصنوع من القرطاس منسوب إلى سيدنا حسين بن علي، والعلم، و" مينهدي " فيعظمون كل ذلك، ويقدمون إليه النذور، والقرابين، ويصنعون لبعض الشهداء طاقا وعلما، ومدفعا، ويقربون إليه الأنعام، ويحلفون به، ويدعونه. وقد أخبر النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن المسلمين الذين يصبحون فريسة الشرك والوثنية عند دنو الساعة، وفي آخر الزمان، يكون شركهم من نوع العكوف على أشياء تنسب إلى السابقين، فيعتقدون في هذه الأشياء النفع والضرر، ويغلون في تقديسها وتعظيمها. الذبح تقربا وتعظيما من حق اللَّه تعالى: أخرج مسلم عن أبي الطفيل أن عليا رضي اللَّه عنه أخرج صحيفة

عودة الجاهلية في آخر الزمان

فيها: «لعن اللَّه من ذبح لغير اللَّه» . وقد دل هذا الحديث على أن الذبح لغير اللَّه من الأعمال التي خصصها اللَّه لتعظيمه، ومن ذبح لغير اللَّه فقد أشرك. عودة الجاهلية في آخر الزمان: أخرج مسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: «لا يذهب الليل والنهار، حتى يعبد اللات والعزى، فقلت: يا رسول اللَّه: إن كنت لأظن حين أنزل اللَّه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] . أن ذلك تام، قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء اللَّه، ثم يبعث اللَّه ريحا طيبة، فتقبض من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم» . وقد دل هذا الحديث على أن للشرك القديم، والوثنية البائدة عودة

فتنة الشيطان في آخر الزمان

وانتشارا في آخر الزمان، وقد تحقق ما أخبر به الرسول صلى اللَّه عليه وسلم، فقد بدأ الشرك القديم - الذي ظن كثير من الناس أنه قد انقرض - ينتشر بجوار ما يفعله المسلمون مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم، والأولياء، والأئمة، والشهداء من الأعمال الشركية، فمنهم من يؤمن بتماثيل الكفار فيقلدونهم في عاداتهم وتقاليدهم، مثل السؤال من سدنة الهياكل، وبيوت الأصنام، واللجوء إليهم في المعضلات والمبهمات، مثل " ديوالي " في الهند و" النورز " و " المهرجان " من أيام الفرس والمجوس، والاعتقاد في القمر والعقرب تحت الشعاع، وهذه كلها من عادات الهنادك والمجوس التي انتشرت في المسلمين، وقد تبين من ذلك أن الشرك يتسرب إلى المسلمين، إذا هجروا القرآن والحديث، وتمسكوا بعادات الآباء والأجداد، وتقاليدهم. فتنة الشيطان في آخر الزمان: أخرج مسلم عن عبد اللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «يخرج الدجال فيبعث اللَّه عيسى ابن مريم فيطلبه فيهلكه، ثم يرسل اللَّه ريحا باردة من قبل الشام، لا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، فيبقى شرار الناس

في خفة الطير، وأحلام السباع لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، فيتمثل لهم الشيطان، فيقول: ألا تستجيبون فيقولون ماذا تأمرنا؟ ، فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دار رزقهم، حسن عيشهم» . وقد دل هذا الحديث على أنه ينقرض الجيل المؤمن، الراسخ في العلم، ويخلفه السفهاء الذين طاشت أحلامهم، وخفت أجسامهم، وقويت ضراوتهم، وأسفوا إلى مستوى الحيوانات، وفقدوا صلاحية التمييز بين الخير والشر، فلا هم لهم إلا ابتزاز الأموال، والتهام الحرام، فيأتيهم الشيطان، ويقول لهم: إنه من العار أن يعيش الإنسان بلا دين وطريق، فيقبلون على الدين، ويبحثون عنه، ولكنهم لا يصدرون عن كلام اللَّه ورسوله، بل يحكمون عقولهم (الحيوانية الصبيانية) فيخترعون طرقا في الدين، ويتردون في مستنقع الشرك، فيوسع لهم في الرزق، ويطيب عيشهم، فيزدادون بذلك إيغالا في الشرك، وبعدا عن الهدى، اغترارا بأنهم كلما ازدادوا هياما بهذه الأنصاب والأوثان، ازدادوا سعة في الرزق، ونجاحا في المآرب. فيجب أن يحذر الإنسان مكر اللَّه، لأن العبد قد يكون مشركا، طالبا من غير الله تحقيق أمانيه، وقضاء مآربه، فيقضي اللَّه حاجاته، ويعطيه سؤله امتحانا وإمهالا، ويحسب أنه يحسن صنعا، فلا يثق الإنسان بالنجاح ولا بالخيبة في الأماني والرغبات ولا يجعلهما ميزانا لخير أو شر،

وحق أو باطل، ولا يترك دين الحق دين التوحيد، لعدم تحقق بعض الرغبات والخيبة في بعض الآمال. وقد دل الحديث على أن الإنسان مهما غاص في المعاصي، وطرح الحشمة والحياء، ولم يقصر في أكل أموال الناس بالباطل، ولم يميز بين الخير والشر، كان أفضل من المشرك، وممن يعبد غير اللَّه، لأن الشيطان يرضى بأن يقلع الإنسان عن هذه السيئات، ويكشف عن الذنوب، ويتمسك بالشرك. وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة» . وقد دل هذا الحديث على حرمة الطواف حول كل بيت إلا حول البيت العتيق، الذي هو بيت اللَّه، وضع مباركا وهدى للناس.

الفصل الخامس في رد الإشراك في العادات

تغيير خلق اللَّه بأمر الشيطان: وقد أعلن الشيطان أمام اللَّه أنه لا بد أن يتخذ من عباده نصيبا

جحد المشركين بنعمة الله، وتفننهم في تعظيم غير الله وشكره:

مفروضا، ويضلهم ويمنيهم، ويأمرهم، فيبتكون آذان الأنعام تقربا إليه، ويدخل في ذلك كل إشعار لحيوان تقربا إلى إله أو إلهة، وقد وعدهم الشيطان بأنه يأمرهم فيغيرون خلق اللَّه بتغيير دينه بالشرك والابتداع. جحد المشركين بنعمة اللَّه، وتفننهم في تعظيم غير اللَّه وشكره: وقال اللَّه تعالى. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 189 - 190] . وقد دلت الآية على قلة وفاء الإنسان وكنوده، وكفره بالنعمة، فقد خلقه اللَّه، ورزقه زوجا يأنس بها، وجعل بينهما مودة ورحمة، فلما قرب المخاض، دعوا اللَّه ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين، فلما رزقا الولد، أقبلا على غير اللَّه بالخضوع والنذر، وتقديم القرابين، فمنهم من يأخذ الولد إلى قبر، ومنهم من يحمله إلى نصب، أو الأولياء المقربين، ومنهم من يقلده قلادة، ومنهم من يقيد رجله بقيد، ومنهم من يسمي ولده عبد النبي، والله غني عن عبادتهم ونذورهم، فلا يضرونه، ولا ينقصون من ملكه شيئا، ولكن على أنفسهم يجنون، ويستحقون سخط اللَّه ولعنته. تطفيف الكيل مع اللَّه، وإيثار غيره عليه: وقال اللَّه تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ

شرع ما لم يشرع، والتزام ما لا يلزم:

نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136] . وهذا شأنهم في الزروع، فهم يطففون الكيل مع اللَّه، ويكفرون نعمة اللَّه، فهم أكثر أدبا، وأشد دقة في استيفاء ما قسموا لشركائهم، فلا يتساهلون فيه، ولا يسمحون بأن تعبث به يد، أو يعتدي عليه معتد، أما ما كان لله فمعرض للخطر والتلف، والزيادة والنقصان، ينقص ولا يزداد، وما ضم منه إلى قسط الشركاء فلا بأس به (¬1) . شرع ما لم يشرع، والتزام ما لا يلزم: وقال اللَّه تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 138] . والمقصود أن الناس يشرعون شرائع، ويلتزمون التزامات، ليس مصدرها وحي أو تشريع إلهي، إنما هي مجرد الأهواء والظنون، فيقولون: الطعام الفلاني محظور مقدس يتناوله فلان، ولا يمسه فلان، وقد يسيبون أنعاما ويحرمون ظهورها، فلا يركبها أحد، ولا يحمل عليها ¬

(¬1) وهذا شأن كل من كلف التقسيم أو الإنصاف بين فريقين، فريق يتصل به بعاطفة وحب، وخوف ورجاء، وفريق كانت صلته به ضعيفة سطحية، أو تقليدية قانونية، لا يجد في نفسه اندفاعا أو حماسا للإنصاف معه، أو إيفائه حقه، فيبخس نصيبه من حيث يشعر أو لا يشعر.

حمل، فإنها خصصت لفلان، وقصد بها التقرب إليه فيجب تعظيمها، وأنعام لا يذكرون اسم اللَّه عليها، وإنما ينوون بها التقرب إلى غير اللَّه، والذبح باسمه، ثم يعتقدون أنهم بذلك ينالون رضا اللَّه، ويقضي اللَّه بذلك حاجاتهم، وكله افتراء سيلقون جزاءه. وقال اللَّه تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (¬1) {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] . وقد ذكر اللَّه أن شيئا من ذلك لم يشرعه اللَّه، إنما هو افتراء منهم، وقد دلت الآية على أن تخصيص دابة باسم رجل ممن يعتقد فيهم " القدرة على النفع والضرر، والحماية والنصر " وإشعارها بذلك، وتعيين أن لا يتقرب إلى فلان إلا ببقرة، ولا إلى فلان إلا بشاة، ولا إلى فلان إلا بدجاجة، كلها تشريعات باطلة، ما أنزل اللَّه بها من سلطان، والتزامات ليس مصدرها إلا السفاهة، والهذيان، ومعارضة أحكام اللَّه وشريعته. وقال اللَّه تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] . ¬

(¬1) ويفسر هذه الآية ما رواه البخاري في صحيحه بسنده، عن سعيد بن المسيب قال: «البحيرة التي يمنح درها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء، قال: وقال أبو هريرة: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:» رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب «، والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل، ثم تثنى بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم، إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، والحام: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعود للطواغيت، وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء، وسموه الحامي» .

اعتقاد التأثير في الأنواء والكواكب في العالم، إشراك بالله:

والمقصود النهي عن الاستبداد والافتيات، في التحليل والتحريم، والإباحة والمنع، اعتمادا على الأهواء والأعراف، والتقاليد، والعادات، فإن هذا من التشريع في الدين، والتشريع من حق اللَّه سبحانه وحده. أما ما يعتقده بعض الناس، أن من فعل كذا تحققت مطالبه، وإلا أصيب بالإخفاق، وتطرق إليه الفساد، فهذا لا أصل له، فإنه لا يفلح المفتري على اللَّه. اعتقاد التأثير في الأنواء والكواكب في العالم، إشراك بالله: أخرج الشيخان عن زيد بن خالد الجهني، قال: «صلى بنا رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بفضل اللَّه ورحمته، فذلك مؤمن بي، وكافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا، فذلك كافر بي، ومؤمن بالكواكب» .

الاعتماد على العرافة والكهانة، والمخبرين بالمغيبات، كفر:

ومغزى الحديث أن من اعتقد للنجوم تأثيرا في العالم، وما يحدث فيه من الحوادث، كان عند اللَّه ممن كفر به، وعبد النجوم، ومن عزا كل ما يحدث في العالم من خير وشر، ومن حوادث وأمور إلى اللَّه وحده كان عند اللَّه من عباده المقبولين، الذين تبرأوا من عبادة النجوم والكواكب. وقد دل الحديث على أن الإيمان بأن من الساعات ما تأتي بالسعد ومنها ما يأتي بالنحس، وسؤال المنجمين عن ساعة سعد ونحس، والاعتماد على ما يخبرون به، من الشرك، فإن لها صلة بالنجوم، والإيمان بالنجوم وتأثيرها من خصائص عبادته. الاعتماد على العرافة والكهانة، والمخبرين بالمغيبات، كفر: أخرج رزين عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «من اقتبس بابا من علم النجوم بغير ما ذكر اللَّه، فقد اقتبس شعبة من السحر، المنجم كاهن، والكاهن ساحر، والساحر كافر» . ومعلوم أن اللَّه تبارك وتعالى قد ذكر النجوم والكواكب في كتابه، فإنها آية من آيات اللَّه، وتنطق بقدرته وحكمته، وقد زين اللَّه بها السماوات الدنيا، وهي رجوم للشياطين، ولم يذكر أن لها دخلا في ملكوت السماوات والأرض، أو صلة بسعادة البشر وشقائهم، فمن عدل عما ذكره اللَّه من فوائدها إلى ما لم تخلق له هذه النجوم، ويستدل

مظاهر ضعف الاعتقاد والسخافة في أهل الجاهلية، ومقلديهم من المسلمين:

بها على الغيب، وتودد إلى الجن، كما يفعل السحرة بالإيمان بهم وندائهم، وتقديم النذور والقرابين إليهم، فهذا كله من الكفر. أخرج مسلم عن حفصة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلم قالت: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم يقبل له صلاة أربعين يوما» . وقد عرفنا من هذا الحديث أن من أتى العراف الذي يدعي الإخبار بالغيب، لم تقبل عبادته أربعين يوما، لأنه قد أشرك، والشرك يطمس نور العبادات كلها، ويدخل في هذا الحكم المنجمون والرمالون، ومن يدعي الاطلاع على الغيب، والإخبار به عن طريق الاستخارة بالقطع والبت. مظاهر ضعف الاعتقاد والسخافة في أهل الجاهلية، ومقلديهم من المسلمين: ويؤيد هذا الحديث أحاديث أخرى صحيحة، منها ما أخرج أبو داود، عن قبيصة أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «العيافة، والطرق، والطيرة، من الجبت» .

وما أخرج أبو داود عن عبد اللَّه بن مسعود عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك» . وقد اعتاد العرب التطير، وقد نهى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن ذلك مرة بعد أخرى ليقلع الناس عن هذه العادة. وقد اشتهر في جهال العرب أن من قتل ولم يؤخذ بثأره، خرج من هامته طائر، يقال له الهامة، وهي كالبومة، فما تزال تستغيث، وتهيم على وجهها، حتى يؤخذ بثأره، وقد ذكر النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه باطل، فمن زعم أن الإنسان يتمثل بعد موته بحيوان، فقد كذب على اللَّه، وكان من الاعتقادات الشائعة في العرب أن بعض الأمراض، كالجرب والجذام، تتعدى، وتنتقل من إنسان إلى آخر، وهي كلها اعتقادات باطلة، وشائعات لا أصل لها. وقد اشتهر عندهم أن الأمر الفلاني لم يوافق فلانا، وأنه لم يوفق فيه، ولم يكن النجاح حليفه، وإن كان لليمن والشؤم أصل، فهما في الدار، والفرس، والمرأة، فقد تكون ميمونة مباركة، وقد تكون تعسة مشئومة، ولكن لسان النبوة لم يحدد السبيل إلى معرفة ذلك، حتى يحكم الإنسان بيمنها وشؤمها، وما عينه الناس من أمارات لذلك مثل الدار التي يصور الناس على بابها، وعلى ميزابها فم الأسد، ومثل أن يكون على جبين الفرس مثل نجم، وأن تكون المرأة سوداء اللسان، فهي مشئومة، فلا أصل له، بل يجب على المسلمين أن لا يحتفلوا

بأمثال هذه الترهات، ويجب عليهم إذا اشتروا بيتا جديدا، أو استأجروه أو ظفروا بجواد، أو تزوجوا عقيلة أو جارية، أن يدعوا اللَّه أن يقدر فيها الخير، ويبارك فيها، ويتعوذوا بالله من شرها، وشر ما جبلت عليه، ولا يشغلوا نفوسهم بالحكم على أمور قد مضت، فيقولوا وافقنا الأمر الفلاني، ولم يوافقنا الأمر الفلاني. أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لا عدوى (¬1) ولا هامة ولا صفر» . وقد اشتهر في الجهال أن الذي أصيب بالنهامة فيأكل ولا يشبع، ويسميه الأطباء بجوع الكلب، والعامة بجوع البقر، فقد دخل في بطنه عفريت أو شيطان يأكل كل ما يتناوله الإنسان فلا يشبع، وكانوا يسمونه ¬

(¬1) وردت أحاديث بنفي العدوى كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري، ووردت أحاديث أخرى في إثباتها، ومنها «فر من المجذوم فرارك من الأسد» وكثرت أقوال العلماء في ذلك والمرجح حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين فحيث جاء «لا عدوى» كان المخاطب بذلك من قوي يقينه وصح توكله بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى فعلى هذا يحمل حديث جابر في الأكل مع المجذوم كما سيأتي في متن الكتاب وسائر ما ورد من جنسه، وحيث جاء «فر من المجذوم» كان المخاطب بذلك من ضعف يقينه فلا يكون له قوة على دفع اعتقاد العدوى فأريد بذلك من أرباب اعتقاد العدوى، وقد فعل صلى اللَّه عليه وسلم كلا الأمرين ليتأسى به كل من الطائفتين، وقال بعضهم: إن المراد بالنفي أن شيئا لا يعدي بطبعه نفيا لما كانت الجاهلية تعتقده بل بإجراء اللَّه تعالى العادة في التعدي، انتهى مقتبسا من «لامع الدراري على جامع البخاري» للمحدث الكبير الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي.

بصفر (¬1) ، وهو الذي جاء نفيه في هذا الحديث. ومعنى ذلك أن ما يعتقده الناس في بعض الأمراض أنها من تأثير الشياطين، والعفاريت، وأنها من تصرفاتهم، باطل لا أصل له، مثل ما ذكرنا عن مرض الجدري وغيره من الأمراض التي يربطها المشركون في الهند ببعض الآلهة، والقوى المتصرفة في العالم - زعموا -. وقد اشتهر في الجهال أن شهر صفر نحس، يجب أن يكف الناس فيه عن أعمال ذات قيمة وخطر، مثل الزواج، والأسفار، والتجارات، والمعاملات (¬2) ، ويدخل في ذلك ما يعتقده جهال الهند أن الأيام الثلاثة عشر الأولى من شهر صفر مشئومة نحسة بصفة خاصة، ينزل فيها البلاء، ويسمونها " تيره تيزي " (¬3) فتفسد الأعمال وتحبط المساعي، وكذلك يخصصون بعض الأيام من الشهر بالنحس، فيتوقفون عن مباشرة بعض الأعمال المهمة فيها، بل يجب أن يكون جل الاعتماد على اللَّه تعالى، والإيمان بأنه هو الضار النافع، والمعطي المانع، والمؤثر الحقيقي في الأشياء. وقد أخرج ابن ماجه عن جابر «أن رسوله اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أخذ بيد ¬

(¬1) قال القسطلاني في شرح البخاري: وهو فيما قيل: دابة تهيج عند الجوع، وربما قتلت صاحبها، وكانوا يعتقدون أنها أعدى من الجرب، وهذا ذكره مسلم عن جابر بن عبد اللَّه في حديثه المروي عنده فتعين المصير إليه، (ج 8، ص 318) . (¬2) قال البيضاوي في شرح «لا صفر» : هو نفي لما يتوهم أن شهر صفر يكثر فيه الدواهي (شرح البخاري للقسطلاني (ج 8، ص 318) ، وفي «مجمع بحار الأنوار للفتني: وقيل هو الشهر المعروف، زعموا أن فيه يكثر الدواهي والفتن، فنفاه الشارع (مجمع بحار الأنوار ج 2، ص 251) . (¬3) الأيام الثلاثة عشر الحادة، و «تيز» معناه «الحاد الشديد» .

كل كلمة تدل على الجهل بالله وإساءة الأدب معه لا يحل السكوت عليها

مجذوم فوضعها معه في القصعة، فقال: " كل ثقة بالله وتوكلا عليه» . كل كلمة تدل على الجهل بالله وإساءة الأدب معه لا يحل السكوت عليها: أخرج أبو داود عن جبير بن مطعم قال: «أتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أعرابي فقال: جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق اللَّه لنا، فإنا نستشفع بك على اللَّه، ونستشفع بالله عليك، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: " سبحان اللَّه سبحان اللَّه " فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: " ويحك، إنه لا يستشفع بالله على أحد، شأن اللَّه أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما اللَّه، إن عرشه على سماواته هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة عليه، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب» . وقد علمنا من هذا الحديث شدة استنكار النبي صلى اللَّه عليه وسلم للأعرابي الذي قال: إنا نستشفع بك على اللَّه، ونستشفع بالله عليك، وكيف فزع لذلك، واستشعر الخشية وهيبة اللَّه، وجعل يسبح اللَّه، ويكثر من التسبيح والتنزيه، وتغيرت وجوه الناس من الهيبة والدهشة، وأوضح أن من يستشفع به على أحد يكون عادة أحط شأنا من الذي يشفع عنده، وتعالى اللَّه عن ذلك علوا كبيرا، فلا يستشفع به عند أحد، وقد جرت

العادة أن يستشفع عند من يملك الأمر، ببعض خاصته، وأهل المنزلة عنده، فيحقق الرغبة ويعطى السؤال إرضاء لهذا الشفيع، وتشريفا لقدره، والله هو الذي يملك زمام الأمور، وغيره ضعيف عاجز، مفتقر إلى اللَّه، فكيف يستشفع به على أحد من خلقه، فجميع الأنبياء والأولياء إذا قيسوا بعظمة اللَّه وجبروته، كانوا أقل من ذرة، وإن العرش الذي أحاط بالسماوات والأرضين كالقبة، ليئط به أطيط الرحل بالراكب، فليس في طاقة مخلوق أن يشرح عظمته أو أن يتخيلها، فمن يجرؤ على أن يتدخل في مملكته، وينفذ فيها أمره، إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يحتاج في ذلك إلى وزير أو مشير، يصرف أمورا لا يأتي عليها الإحصاء، ولا يبلغها الاستقصاء، في أقل من طرفة عين، فكيف يشفع عند غيره، ومن الذي يستبد بالأمور دونه؟ . يا للعجب إن محمدا صلى اللَّه عليه وسلم الذي شرفه اللَّه على جميع خلقه لا يكاد يسمع من أعرابي جلف كلمة تدل على جهله بالله، وقصور عقله، أن يملأه الخوف أو المهابة، فيفيض في بيان عظمة اللَّه التي ملأت العالم من العرش إلى الفرش، وما بال أقوام طالت ألسنتهم، وحملهم الطيش والجرأة، فتشدقوا بكلام تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا، وبدأوا يتكلمون عن اللَّه جلت عظمته، كأن بينه وبينهم دالة أو قرابة، فقال بعضهم: إني اشتريت ربي بدانق، ومنهم من يقول: أنا أكبر من ربي بسنتين، ويقول الثالث: إذا تجلى ربي في صورة غير صورة شيخي، لم أرفع إليه بصري، ويقول شاعر: إني أحمل قلبا قد جرح بحب محمد صلى اللَّه عليه وسلم وعطفه، فأنا منافس لله تعالى أغار

منه على حبيبي، وقال بعضهم: قل عن اللَّه ما شئت متفننا، واذهب في الجنون مذاهب، ولكن إياك إياك أن تدخل في حمى محمد، وأن تغلب فيه على أمرك (¬1) ، ويقول بعضهم: إن الحقيقة المحمدية أفضل من الحقيقة الإلهية، أعاذنا اللَّه عن أمثال هذه الشطحات، والافتراءات، وقد أحسن شاعر فارسي إذ قال: نسأل اللَّه التوفيق للأدب، فإن قليل الأدب بعيد عن فضل اللَّه. وقد اعتاد بعض الناس إذا عرضت لهم حاجة، أو ألمت بهم ملمة، أن يقرأوا ورد " يا شيخ عبد القادر جيلاني شيئا لله " (¬2) ¬

(¬1) الأقاويل التي نقلها المؤلف، مقتبسة عن كلام الغلاة في مدح الرسول صلى اللَّه عليه وسلم، والتعبير عن عواطفهم، وقد اشتهر بعضها كالأمثال السائرة في الأدب الهندي والفارسي. (¬2) ذهب أكثر فقهاء المذهب ومحققو الصوفية إلى عدم إباحة هذا الورد، ولهم في ذلك مقالات وفتاوى، نقتصر هنا على ما كتبه فخر المتأخرين العلامة الشيخ عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي (متوفى 1304 هـ) صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة، جوابا على استفتاء ورده عن هذا الورد، يقول رحمه اللَّه: «إن الاحتراز عن مثل هذا الورد لازم، أولا لأن هذا الورد متضمن كلمة» شيئا لله وقد حكم بعض الفقهاء بكفر من قاله، وثانيا: لأن هذا الورد يتضمن نداء الأموات من أمكنة بعيدة، لم يثبت شرعا أن الأولياء لهم قدرة على سماع النداء من أمكنة بعيدة، إنما ثبت سماع الأموات لتحية من يزور قبورهم، ومن اعتقد أن غير اللَّه سبحانه وتعالى حاضر وناظر، وعالم للخفي والجلي في كل وقت وفي كل آن، فقد أشرك، والشيخ عبد القادر وإن كانت مناقبه وفضائله قد جاوزت العد والإحصاء، إلا أنه لم يثبت أنه كان قادرا على سماع الاستغاثة والنداء من أمكنة بعيدة، وعلى إغاثة هؤلاء المستغيثين، واعتقاد أنه رحمه اللَّه كان يعلم أحوال مريديه في كل وقت، ويسمع نداءهم، من عقائد الشرك، والله أعلم، انتهى مختصرا. (مجموع فتاوى العلامة عبد الحي اللكنوي ج 1، ص 264) وليت شعري ما ألجأ الناس إلى ذلك، والله أقرب من كل قريب، وأرحم من كل رحيم، وهو القائل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ. والقائل: أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ. وقد جاء في وصية الإمام الشيخ عبد القادر الكيلاني نفسه، لابنه الشيخ عبد الوهاب «وكل الحوائج كلها إلى اللَّه عز وجل واطلبها منه، ولا تثق بأحد سوى اللَّه عز وجل، ولا تعتمد إلا عليه سبحانه، التوحيد، التوحيد، التوحيد. (مجالس الفتح الرباني، ص 665) . وخطبه في فتوح الغيب وفي الفتح الرباني، مليئة بهذه الوصايا والزجر والتوبيخ على الاستعانة بغير اللَّه كما مر بعض النقول.

في عدد مخصوص، ومدة مخصوصة، ودل هذا الحديث على كراهة هذا التعبير وشناعته، فإنه سؤال للشيخ عبد القادر الجيلاني، وتوسل بالله تعالى إليه، والعكس أصح، فيجوز التوسل بدعاء الشيخ إلى اللَّه، لا التوسل بالله إليه. والحاصل أنه لا يجوز التلفظ بكلمة تشم منها رائحة الشرك، أو إساءة أدب مع اللَّه فإن اللَّه هو المتعالى، الغني، القادر، الملك الجبار، لا يبالي بأحد، إذا شاء بطش على شيء دق وصغر، وإذا شاء عفا عن كبير ولو كان مثل جبل، ولا يصح أن يتكلم الإنسان بلفظ ظاهره إساءة الأدب، وباطنه الإجلال والتعظيم، ويقول المتكلم تكلمت بالكلمة الفلانية وإنما أقصد غيرها، فإن الألغاز والمعميات لها مجالات كثيرة، وهي لا تليق بالله تعالى، ولا نعرف عاقلا يهزأ بملكه أو بأبيه، أو يستعمل معهما الصنائع البديعية، والكنايات الأدبية، التي اخترعها الأدباء، بل يكون كلامه واضحا يصدر عن وعي ويدل على أدب، إن مجال هذه الأساليب الأدبية هي مجالس الإخوان والنوادي الأدبية.

الحث على إظهار شعار التوحيد في الأسماء والتحذير من الكلام الموهم

الحث على إظهار شعار التوحيد في الأسماء والتحذير من الكلام الموهم: أخرج مسلم عن ابن عمر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «إن أحب أسمائكم عبد اللَّه وعبد الرحمن» . ويدل هذا الحديث على أن أحب الأسماء إلى اللَّه ما دلت دلالة واضحة على عبودية العبد وذله، وعجزه أمام اللَّه، وما كانت شعارا وعلما للتوحيد، ومنها الأسماء التي ذكرت في هذا الحديث كنموذج، ويدخل فيها أسماء أخرى كعبد القدوس، وعبد الجليل، وعبد الخالق، وهبة اللَّه، وعطاء اللَّه، وجاد المولى وغيره (¬1) . أخرج أبو داود والنسائي عن شريح بن هانئ عن أبيه، «أنه لما وفد إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم فدعاه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: " إن اللَّه هو الحكم وإليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم» . وقد دل هذا الحديث على أن الكلمة التي لا تليق إلا بالله تعالى، والصفة التي هي خاصة به، لا يجوز أن يوصف بها غيره كـ " ملك الملوك " و " ملك العالم " و " يفعل ما يشاء " و " أحكم الحاكمين " ¬

(¬1) ذكر المؤلف هنا أسماء هندية ترجمتها بالعربية كما ذكرنا، والمقصود منها الأسماء التي أضيفت إلى اللَّه خصوصا الأسماء الحسنى التي لا تطلق على غير اللَّه.

و " الحكيم المطلق " و " أغنى الأغنياء " (¬1) ويؤيده ما أخرج في شرح السنة عن حذيفة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «لا تقولوا ما شاء اللَّه، وشاء محمد، وقولوا ما شاء اللَّه ثم شاء محمد» . فقد جاء فيه تحريم إشراك مخلوق في فعل يختص بالله تعالى، ووصفه بصفة لا تليق إلا بالله تعالى، مهما بلغ هذا المخلوق من جلالة الشأن وقرب المكان، لأن اللَّه وحده هو يملك هذا العالم ويتصرف فيه بما شاء، لا يشاركه في ذلك الرسول، لأن اللَّه وحده يعلم الغيب، أما إذا سئل أحد عن شيء في الدين، فلا بأس أن يقول: اللَّه ورسوله أعلم، أو ¬

(¬1) وقد روى التاريخ من مبالغة الشعراء والندماء، وأهل الملق والنفاق في تلقيب ملوك عصرهم وأمرائه بألقاب وإطرائهم لهم، ما يحرمه الشرع، ويمجه الذوق السليم، وقد لقب هؤلاء الملوك أنفسهم في بعض الأحيان بألقاب تدل على قلة علمهم وجراءتهم على اللَّه، وغرورهم بالملك الزائل، والسلطان الراحل. وما أضفى الغلاة من المحبين والمعتقدين على مشايخهم، وعلى الأولياء والصالحين من ألقاب ونعوت، أدهى وأمر. ولم يزل العلماء الغيارى على الدين، وأعلام هذه الأمة ينكرون على هؤلاء المبالغين المتملقين، ومما يستطرف في هذا الباب، ما نقله المؤرخون عن سلطان العلماء شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، أنه لما توفي الخليفة ببغداد أيام الملك الصالح، عمل الملك له عزاء، جمع فيه الأكابر والأعيان، والقراء والشعراء، فأنشد بعض الشعراء في مرثيته: مات من كان بعض أجناده المو ت ومن كان يختشيه القضاء فأنكر عليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه اللَّه تعالى، وأمر بتأديبه وحبسه، وأقام بعد التعزير في الحبس زمانا طويلا، ثم استتابه بعد شفاعة الأمراء والرؤساء فيه، وأمره أن ينظم قصيدة يثني فيها على اللَّه تعالى كفارة لما تضمنه شعره من التعرض للقضاء. (الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ ص 125) .

الحلف بغير الله إشراك بالله:

يقول: إن اللَّه ورسوله أمر بكذا، لأن اللَّه قد أطلع رسوله على أمور الدين، والله أمر عباده بطاعته. الحلف بغير اللَّه إشراك بالله: أخرج الترمذي عن ابن عمر قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم يقول: «من حلف بغير اللَّه فقد أشرك» . وأخرج مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: «إن اللَّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» . أخرج الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم، قال: «من حلف فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل لا إله إلا اللَّه» .

لا يجوز النذر لغير الله ولا الذبح في مكان كان فيه وثن،

وقد دلت هذه الأحاديث على أن الحلف يضر بالإيمان والعقيدة، فإذا صدر هذا من مسلم، فليقل لا إله إلا اللَّه. لا يجوز النذر لغير اللَّه ولا الذبح في مكان كان فيه وثن، أو عيد من أعياد الجاهلية: أخرج أبو داود عن ثابت بن ضحاك، قال: «نذر رجل على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة، فأتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأخبره، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد، قالوا: لا، قال: كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية اللَّه» . وقد دل هذا الحديث على تحريم النذر لغير اللَّه، فلا يحل هذا النذر ابتداء، فإن أخطأ أحد لجهله للدين، فلا وفاء عليه، ولا يجوز التمادي في خطأ، أو الإلحاح والتشبث بذنب، بل هو ذنب أكبر، وقد دل الحديث كذلك على أنه لا يجوز سوق دابة تذبح لله إلى مكان، تقرب فيه القرابين لغير اللَّه، أو يعبد فيه غيره، ويجتمع الناس هناك على شرك وإن صحت النية وصلحت العقيدة. النهي عن الإفراط والتفريط في تعظيم النبي صلى اللَّه عليه وسلم: أخرج أبو داود عن قيس بن سعد، قال: «أتيت

التحذير عن الكلمات الموهمة للشرك

الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أحق أن يسجد له فأتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقلت: إني رأيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت أحق أن نسجد لك، فقال لي: أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له فقلت: لا، فقال: فلا تفعلوا» . وقد نبه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قيس بن سعد رضي اللَّه عنه، على أن من كان مآله الموت، ومصيره إلى القبر، يموت فيدفن، لا يستحق السجدة، إن السجود للحي الدائم الذي لا يموت.، وعرف من هذا أنه لا يجوز السجود لحي ولا لميت، ولا لقبر، ولا لنصب، فإن كل نفس ذائقة الموت، والحي لا يتجرد عن البشرية وخصائصها، فكيف يصير إلها يسجد له إذا فارق الحياة، فالعبد عبد حيا وميتا. التحذير عن الكلمات الموهمة للشرك: أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، كلكم عبيد اللَّه، وكل نسائكم إماء اللَّه، ولا يقل العبد لسيده مولاي، فإن مولاكم اللَّه» . دل هذا الحديث على أنه لا يصح أن يخاطب السيد عبده فيقول: يا عبدي، وأن يضيف ذلك إلى نفسه، وإن كان في الحقيقة رقيقا له، أو

النهي عن تقليد النصارى في إطرائهم لنبيه، وغلوهم فيه:

أن يقول أحد: فلان عبد لفلان، أو أن يقول العبد لسيده: مولاي، وهذا فيمن كانوا عبيدا وسادة، فكيف بمن يدعى العبودية زورا، ويلقب نفسه بعبد النبي " وعبد علي، وعبد صاحب الجلالة، والعبد الخاص، أما السخاء بألقاب " رب الأرباب "، والجواد المطلق، فلا محل له البتة، ولا مبرر، وهو غاية في إساءة الأدب مع اللَّه، وما تعوده بعض الناس من أن يقولوا لبعض الناس: أنت تملك حياتي ومالي، ونحن في تصرفك، تفعل ما تشاء فهو كذب ومين، وشرك. النهي عن تقليد النصارى في إطرائهم لنبيه، وغلوهم فيه: أخرج الشيخان عن عمر قال: قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد اللَّه ورسوله» . ومقصود الحديث أن منصب الرسالة يتضمن جميع المحاسن، والفضائل التي أكرمني اللَّه بها، فإذا أطلقت على هذه الصفة، وقيل: " رسول اللَّه " فلا مزيد على ذلك " فإن الرسالة هي الغاية القصوى التي يصل إليها بشر وكل ما عدا ذلك من المنازل فهو دونها، لذلك قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «فقولوا عبد اللَّه ورسوله» . ولكن البشر إذا أكرم بالرسالة، لا يتجرد عن البشرية، وحسبه فخرا

أن يكون عبدا لله تعالى، لا يتلبس بذلك بالألوهية، فلا يحل القول بذلك لعبد من عباد اللَّه، وكفر النصارى بهذا الاعتقاد في المسيح عليه الصلاة والسلام، وبعدوا عن اللَّه تعالى، ولذلك نهى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أمته عن تقليد النصارى في إطرائهم لنبيهم وغلوهم فيه، فاستحقوا غضب اللَّه ولعنه. ولكن الغلاة من هذه الأمة، مع الأسف، لم يمتثلوا أمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وقلدوا النصارى في أقاويلهم، وما زاد النصارى على أن قالوا: إن اللَّه سبحانه وتعالى قد ظهر في صورة عيسى ابن مريم وكسوته، فهو بشر من جهة وإله من جهة أخرى. وقد تطرف بعض من لا يخشون اللَّه فنسبوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فزعموا أنه قال: " أنا أحمد بلا ميم " وقد زوروا عبارة عربية طويلة جمعوا فيها خرافات كثيرة، وسموها بخطبة الافتخار وعزوها إلى سيدنا علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، سبحانك هذا بهتان عظيم، خذل اللَّه الكذابين وفضحهم، وكما أن النصارى يزعمون أن المسيح عليه السلام يملك الدنيا والآخرة، فيدبر الأمر كما يشاء، فمن آمن به، وتضرع إليه لم يحتج إلى شيء من العبودية والعبادة، وما ضره ذنب، ولا فرق له بين حلال وحرام، فيكون لله كسائبة حبلها على غاربها، ويخلصه عيسى ابن مريم في الآخرة بشفاعته عن النار وعن العذاب. ومثل هذا يعتقد بعض الجهلة المسلمين في النبي صلى اللَّه عليه وسلم وتنزلوا، فاعتقدوا في أئمة أهل البيت، وأولياء الأمة، بل وفي المشايخ مثل هذا الاعتقاد، نسأل اللَّه لنا ولهم الهداية. أخرج أبو داود عن مطرف بن عبد اللَّه بن الشخير، قال: «انطلقت في

وفد بني عامر إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: السيد اللَّه، فقلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال: قولوا بقولكم، أو ببعض قولكم فلا يجترئنكم الشيطان» . وقد أمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم في هذا الحديث بالاقتصاد والتوسط، وتحري الدقة، في مدح من يعتقد فيهم الفضل، وأن لا يتخطى في ذلك حدود البشرية فيلحقه بالله، وأن لا يكون كفرس جموح لا يملكه فارس، ولا يضبطه زمام، فيسيء بذلك الأدب مع اللَّه ويتورط فيما لا يحمد عقباه. وليعلم أن " السيد " له معنيان، فقد يراد به السيد الذي يملك الأمر بالإطلاق، ولا يخضع لأحد، وهذا يختص بالله تعالى، فلا سيد بهذا المعنى إلا اللَّه، وقد يراد به رئيس قبيلة، أو عمدة قرية، أو مرزبان، وبهذا المعنى كل نبي سيد في أمته، وكل إمام مقدم على أتباعه، وكل مجتهد قائد لمن يقتدي به، بأنهم يقومون بامتثال أوامر اللَّه تعالى في نفوسهم، ثم يعلمونها من دونهم، وهكذا، فإن نبينا صلى اللَّه عليه وسلم هو سيد العالمين، ومنزلته عند اللَّه فوق كل منزلة، وهو أشد الناس امتثالا لأوامر اللَّه تعالى، والخلق كلهم عيال عليه، في الاهتداء إلى اللَّه، ومعرفة أحكامه ومرضياته، وبهذا المعنى يصح أن نسميه بسيد، بل يجب هذا الاعتقاد، أما بالمعنى الأول وهو السيطرة على العالم، والتصرف بمطلق الإرادة، فلا يصح ولا يجوز، فإنه لا يتصرف في أضعف مخلوق.

النهي عن تعظيم صور الصالحين

النهي عن تعظيم صور الصالحين: أخرج البخاري «عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قام على الباب ولم يدخل فعرفت في وجهه الكراهة، قالت: قلت: يا رسول اللَّه، أتوب إلى اللَّه، وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة، قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة» . وقد دل هذا الحديث على أن ما يفعله بعض الجهال من تعظيم صور للأنبياء أو الأئمة، أو الأولياء، أو المشايخ عندهم ليتبركوا بها ضلال محض، وإغراق في الشرك، والنبي والملائكة منه براء. بل يجب على المسلم أن يبعدها عن البيت، ويعتقد نجاستها، فينال بذلك رضا اللَّه والرسول صلى اللَّه عليه وسلم وتدخل الملائكة هذا البيت، وتحل البركة بدخولها. عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا، أو قتله النبي، أو رجل يضل الناس بغير علم أو مصور يصور التماثيل» .

تأذي النبي صلى الله عليه وسلم بالغلو في شخصه، والزيادة على ما وصفه الله به:

وبذلك تعرف شناعة عمل التصوير، فإن فاعله قد قرن في هذا الحديث بقاتل نبي. أخرج الشيخان عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: «قال اللَّه تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة أو شعيرة» . تأذي النبي صلى اللَّه عليه وسلم بالغلو في شخصه، والزيادة على ما وصفه اللَّه به: وأخرج رزين عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «أنا محمد عبد اللَّه ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللَّه عز وجل» رواه النسائي. ومعنى ذلك أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم لا يسره أن يبالغ فيه الناس ويطروه شأن الأمراء والملوك الذين يحبون المبالغة والملق، فإنهم لا شأن لهم بدين هؤلاء الندماء والشعراء، واعتقادهم، فلا عليهم إذا فسدت عقيدتهم، أو باءوا بالإثم، أما النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقد كان مربيا عطوفا على أمته: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] ، وكانت عنايته

مصروفة إلى إصلاح عقيدتهم وتقويم دينهم. وقد جرت العادة أن المحبين يبالغون في مدح من يحبونهم، ويسرفون في ذلك لينالوا رضاهم، ويدخلوا السرور عليهم، وقد عرف النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن أمته من أشد الأمم حبا لنبيها، وامتنانا له، ومعرفة لفضله، وقد خاف أن تبالغ أمته في مدحه بدافع هذا الحب فتتخطى الحدود وتسيء الأدب مع اللَّه أحيانا، فيتلف بذلك دينها وتهلك، وتعادي النبي وتؤذيه، لذلك صرح بأنه لا يرضى بالمبالغة والغلو، وأن اسمه ما سماه به أهله، وناداه به ربه، ليس له من أسماء اللَّه شيء، وأنه ولد كما يولد سائر الناس من أب وأم، وحسبه فخرا أن يكون عبدا لله، ولكنه يمتاز عن سائر عباد اللَّه بالرسالة، والناس عنها في جهل وغفلة، لا سبيل لهم إليها إلا عن طريقه، فليرجعوا إليه ويلوذوا به في تعلم دين اللَّه، وفي معرفة أحكامه وشرائعه. اللهم فَصَلِّ وسلم ألف صلاة وألف تسليم على هذا النبي الرحيم الكريم، واجزه عنا على جهاده في تعليم الدين، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، أفضل ما تجزي نبيا عن أمته، وكافئه على ذلك أحسن مكافأة، فأنت تقدر على ذلك، ولا نقدر، وتعلم ما لا يبلغه علمنا، ولا يستوفيه شكرنا. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللَّه لقد جاءت رسل ربنا بالحق.

§1/1