رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب

أبو الحسن الأشعري

مقدمة

مقدمة ... رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب: لأبي الحسن الأشعري (ت/ 324 هـ) تحقيق ودراسة: عبد الله شاكر محمد الجنيدي شكر وتقدير الحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا محمد الداعي إلى مكافأة صانع الجميل.. وبعد: فقد وفقني الله عز وجل ومنَّ عليَّ بالانتهاء من إعداد هذه الرسالة وأرى من الواجب عليَّ أن أعترف بالفضل لأهله، لذا أتقدم بخالص شكري وتقديري لفضيلة أستاذي الدكتور/ علي ابن محمد ناصر فقيهي.. المشرف على هذه الرسالة، والذي لم يدخر وسعاً في توجيهي، وإبداء ملاحظته حول ما أكتب فجزاه الله أحسن الجزاء. كما أقدم خالص شكري وتقديري لفضيلة الأستاذ الشيخ حماد بن محمد الأنصاري الذي تفضل مشكوراً فقرأ كثيراً من هذه الرسالة، وفتح لي بيته ومكتبته في أي وقت أريد. كما أقدم خالص شكري وتقديري لكل من قدم لي عوناً أياً كان من الأساتذة والزملاء، ولكل من ساهم في إخراج هذا البحث. وفي الختام أتوجه إلى الله جل ذكره وأسأله أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه والدار الآخرة.

المقدمة إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} . وبعد: فمن نعمة الله على هذه الأمة أن أرسل فيها النبي العربي صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب الكريم الهادي إلى صراط الله المستقيم، وأكمل الله عز وجل لهذه الأمة دينها ولم يقبض نبيه إليه إلا بعد ما بلّغ البلاغ المبين التام، وترك رجالاً فقهوا الكتاب والسنة وتمسكوا بهما، وكانوا جميعاً على عقيدة صحيحة واضحة ربطت بينهم وجمعتهم على كلمة واحدة، وقد خلف هذا الجيل جيل التابعين الذين كانوا خير خلف لأعظم سلف ورثوا الكتاب والسنة وساروا على هدى النبوة. وقد كان الصحابة، والتابعون يجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمته ونشر دينه، وتم لهم فتح كثير من البلدان والأقاليم، ودخل معظم أبناء هذه البلاد في دين الإسلام، وقد كانت هذه الأقاليم المفتوحة عامرة بالديانات والمذاهب الباطلة، وكان دخول الإسلام فيها على حساب هذه المذاهب والديانات، مما أثار بغض أصحاب النفوس الضعيفة من أهل هذه البلاد للإسلام وأهله، فدخلوا فيه ومعهم معتقداتهم الباطلة، وقاموا بنشرها بين صفوف المسلمين بالخداع والتمويه، فظهرت الفرق الكلامية المختلفة، كما برز دعاة الباطنية وأرادوا القضاء على الإسلام وأهله، ونشأ بسبب ذلك الاختلاف والتفرق بين صفوف الأمة، وكثر الجدل في المسائل الاعتقادية كالكلام في القدر والصحابة ومرتكب

الكبيرة، والذات الإلهية وما ينبغي لها من الصفات وسائر الأمور الغيبية، وكان أصحاب العقيدة الصحيحة في صراع مستمر مع هذه الفرق كلها، وقاموا بالرد عليهم، وألفوا الكتب الكثيرة لتوضيح وشرح عقيدة سلف هذه الأمة على ضوء القرآن والسنة، وبذلوا في سبيل ذلك جهوداً مضنية، ولم يسلموا من أذى الناس وتعذيب الحكام. ومن الفرق التي برزت في هذا الوقت الجهمية المعطلة لأسماء الله وصفاته، ثم خرجت المعتزلة وأساتذة علم الفلسفة، وعلم الكلام واستبدوا بالرأي والهوى دون نصوص الوحي والهدى، وكانت لهم شوكة ومنعة، ووقف بجانبهم بعض خلفاء العباسيين، وتطاولت ألسنتهم وأيديهم على أئمة أهل السنة والحديث من السلف كالإمام أحمد - رحمه الله تعالى - ثم جاء أبو الحسن الأشعري ونشأ على مذهب المعتزلة في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري، وتتلمذ على يد إمام المعتزلة في عصره وهو: أبو علي الجبائي زوج أمه، وبرع الأشعري في علم الكلام على مذهب الاعتزال إلى أن هداه الله عز وجل فخرج عليهم وأعلن براءته منهم، وسلك أولاً الطريقة الكلابية وهي طريقة عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان الذي كان يثبت الصفات العقلية كالإرادة والقدرة والسمع والبصر، ويؤوِّل الصفات الخبرية كالوجه واليد والاستواء ثم ختم الله لأبي الحسن الأشعري بالخير فرجع إلى مذهب السلف وقال بقولهم، وانتسب إلى الإمام أحمد بن حنبل، وسيأتي بيان ذلك بتفصيل - إن شاء الله تعالى - في الفصل الثاني من الباب الأول من هذه الرسالة. ويظهر أن رجوع الأشعري عن الاعتزال في هذا الوقت، ووقوفه ضدهم ناصراً ومؤيداً مذهب السلف الصالح في الوقت الذي شاع فيه مذهب الاعتزال أدى إلى رفع شأنه وعلو منزلته بين الناس، فسرعان ما انتشر أمره وكثر أتباعه في الآفاق، وأرسل إليه الناس من معظم الأقطار يسألونه عن دين الله الحق وعن معتقد السلف الصالح. وظل الأشعري - بعد رجوعه إلى عقيدة السلف - يدافع عن دين الله الحق ويكتب ويؤلف في الرد على أهل الأهواء، والبدع المخالفين لمذهب السلف إلى أن توفاه الله تعالى، والأشعري كغيره من العلماء المشهورين له أتباع كثيرون، وهؤلاء الأتباع لم يرجعوا كما رجع إمامهم إلى عقيدة السلف في طوره الأخير، بل خالفوا إمامهم الأشعري في كثير من الأمور الاعتقادية، ولم يأخذوا بالمنهج الذي سلكه إمامهم في نهاية حياته بعد رجوعه إلى مذهب السلف، بل بقوا على طريقة عبد الله بن سعيد بن كلاب التي سلكها

الأشعري بعد خروجه على الاعتزال وقبل أن يمحص عقيدته بالرجوع الكامل إلى مذهب السلف - وسيأتي الكلام حول ذلك بتفصيل إن شاء الله تعالى. وظل أتباعه إلى يومنا هذا يسلكون منهجاً مخالفاً لمنهج الأشعري الجديد مع انتسابهم إليه، وظنوا في أنفسهم كما ظن بهم غيرهم أنهم حقاً هم أهل السنة والجماعة، والواقع يرفض ذلك، وإن كتب الأشعري التي كتبها على طريقة السلف وكتب أتباعه المخالفة لعقيدة السلف والمشهورة لخير دليل على ما نقول. وكان الأحرى والأولى بالمنتسبين إلى الأشعري أن يقفوا على منهجه بدقة، ويقولوا بقوله الذي لقي الله عليه، أو يتركوا الانتساب إليه إحقاقاً للحق ووضعاً للأمور في نصابها، وحتى لا تخدع العامة بهم فيأخذوا قولهم على أنه قول أهل السنة والجماعة والأمر ليس كذلك.. ولتوضيح هذه الحقيقة اخترت كتاباً من كتب الأشعري لتحقيقه والتعليق عليه، ولبيان مدى موافقة الأشعري فيه لمنهج السلف ومعتقدهم، ومن ثم يظهر لنا مدى مخالفة الأشعريين الذين انتسبوا إلى الأشعري لإمامهم وأستاذهم. وليس لي هدف من وراء ذلك إلا إنصاف الأشعري، ودعوة أتباعه إلى سلوك طريقته ومنهجه الذي لقي الله عليه، مع الوقوف التام على مذهب السلف أهل السنة والحديث كالإمام البخاري وأحمد بن حنبل والدارمي وغيرهم، ولهم - ولله مزيد الحمد والفضل - في كل عصر ومصر أتباع يقولون بقولهم ويعتقدون بعقيدتهم، وهم حقاً أهل السنة والجماعة. أصحاب الحديث والأثر وأعلام السلف. ويجب على جميع الجماعات الإسلامية الجامعات كذلك أن تقف عند عقيدتها وتفحصها لترى مدى مطابقتها لمذهب السلف في أصول الدين أم لا، وخاصة في العصر الذي نعيش فيه اليوم، حيث جهل معظم الناس العقيدة السلفية الصحيحة، واتبعوا أهل الأهواء والبدع وسلكوا طريقة الفلاسفة والمتكلمين، وتركوا طريقة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. ولقد ذكر ذلك الدكتور ((سامي النشار)) و ((جمعة طالبي)) في مقدمة كتاب ((عقائد السلف)) فقال: "إن المؤسسات الثقافية الكبرى عندنا كالأزهر وبقية الجامعات لم تولها أيَّ اهتمام ولا اعتبار في مناهجها ودراستها ذلك أن الدارسين اعتمدوا على كتب المتأخرين

المشوبة بكثير من الأنظار الغربية، وآراء عهد انحطاط الحضارة الإسلامية، مع أن المنهج العلمي التاريخي الصحيح يقتضي أن ترجع إلى الأصول الأولى في كل شيء"1. وختاماً أتوجه بدعوة كل أشعري ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري أن يجرد نفسه من كل عصبية، ويقف على مذهب شيخه كما جاء في كتبه كالمقالات والإبانة ورسالة أهل الثغر، ويلزم منهج شيخه الأخير الذي رجع فيه إلى مذهب السلف، وقال بقول الإمام ((أحمد بن حنبل)) كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه الإبانة، والله من وراء القصد وهو ولينا ونعم النصير.

_ 1 انظر: كتاب عقائد السلف للنشار وطالبي ص5.

الباب الأول: التعريف بالمؤلف

الباب الأول: التعريف بالمؤلف الفصل الأول: عصر المؤلف المبحث الأول: الناحية السياسية ... المبحث الأول الناحية السياسية عاش الأشعري - رحمه الله - في الفترة الواقعة ما بين عام ستين ومائتين حيث كانت ولادته، وعام أربعة وعشرين وثلاثمائة حيث كانت وفاته، وفي هذه الفترة بدأ الضعف يشق طريقه في الدولة العباسية، وبدأ معظم أطرافها يقوم بحركات انفصالية عنها بجانب الثورات الكثيرة التي كانت تقع، وظهرت القرامطة بسواد الكوفة1، وهم قوم خوارج زنادقة، مارقة من الدين، وكان ذلك في عام ثمانية وسبعين مائتين، كما ظهر بالبحرين أبو سعيد الجنابي القرمطي2، وقويت شوكته، وعاث في الأرض فساداً وتبعه خلق كثير، كما حاصر أحد أتباعه وهو يحيى بن ذكرويه دمشق، ودخل أخوه حلب وقتل فيها تسعة آلاف3، واستمروا يغزون هذه البلاد حتى دخلوا البصرة وفعلوا فيها أكثر ما فعلوا في دمشق. كما ظهر العبيديون في مصر وملكوا جيزة الفسطاط في عام ثمانية وثلاثمائة4، كما ظهر الديلم في بلاد الريّ، وأخذت الروم سميساط واستباحوها وضربوا الناقوس في الجامع5. وخلاصة ما يمكن أن يقال عن وضع الدولة في هذا الوقت ما ذكره أحمد أمين في قوله: "أهم مظهر يأخذ بالأبصار في ذلك العصر ما حصل للدولة الإسلامية من الانقسام، فقد كانت المملكة الإسلامية كلها في العصر العباسي الأول - إذا استثنينا الأندلس وبعض بلاد المغرب - تكون كتلة واحدة تخضع خضوعاً تاماً للخليفة في بغداد، هو الذي يعين ولاتها، وإليه يجبى خراجها وإليه يرجع في إدارتها وقضائها وجندها وحل مشاكلها، ويدعى له على المنابر وتضرب السكة باسمه، ونحو ذلك من مظاهر السلطان، ثم أخذ هذا السلطان يقل شيئاً فشيئاً، وأخذ يخشى ولاتها وأمراؤها بعضهم بأس بعض، ويضرب بعضهم بعضاً، فصارت المملكة الإسلامية عبارة عن دول متعددة مستقلة، علاقة بعضها بالبعض الآخر علاقة محالفة أحياناً، وعداء غالباً، وأصبح لكل دولة مالها وجندها وإدارتها وقضاؤها وسكتها وأميرها، إن اعترف بعضها بالخليفة في بغداد حيناً من الزمن فاعتراف ظاهري ليس له أثر فعلي، وسودت صحف التاريخ بالقتال المستمر بين هذه الدول، وشغلوا بقتال أنفسهم عن قتال عدوهم، ومن أجل هذا طمع فيهم الروم يغزونهم كل حين، ويستولون على بلادهم شيئاً فشيئاً، حتى الزنج والحبشة كانوا يعتدون على الدولة الفينة بعد الفينة، فينهبون ويسلبون، ولم تعد المملكة الإسلامية مخشية الجانب كما كانت أيام وحدتها، ففي سنة 324هـ (وهي السنة التي مات فيها الأشعري) كانت البصرة في يد ابن رائق، وفارس في يد علي بن بوية، وأصبهان والريّ والجبل في يد أبي علي الحسين بن بوية، والموصل وديار بكر وربيعة في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد الأخشيديين، وأفريقية والمغرب في يد الفاطميين، وخراسان وما وراء النهر في يد السامانيين، وطبرستان وجرجان في يد ديلم، وخوزستان بيد البريدى، والبحرين واليمامة وهجر بيد القرامطة، ولم يبق للخليفة إلا بغداد وما حولها، وحتى هذه لم يكن فيها إلا الاسم"1.

_ 1 انظر: كتابه ظهر الإسلام 1/90. 1 انظر: البداية والنهاية 11/261، وشذرات الذهب 2/172. 2 انظر: شذرات الذهب 2/190. 3 انظر: شذرات الذهب 2/202. 4 انظر: شذرات الذهب 2/252. 5 انظر: شذرات الذهب 2/269.

الأندلس وبعض بلاد المغرب - تكون كتلة واحدة تخضع خضوعاً تاماً للخليفة في بغداد، هو الذي يعين ولاتها، وإليه يجبى خراجها وإليه يرجع في إدارتها وقضائها وجندها وحل مشاكلها، ويدعى له على المنابر وتضرب السكة باسمه، ونحو ذلك من مظاهر السلطان، ثم أخذ هذا السلطان يقل شيئاً فشيئاً، وأخذ يخشى ولاتها وأمراؤها بعضهم بأس بعض، ويضرب بعضهم بعضاً، فصارت المملكة الإسلامية عبارة عن دول متعددة مستقلة، علاقة بعضها بالبعض الآخر علاقة محالفة أحياناً، وعداء غالباً، وأصبح لكل دولة مالها وجندها وإدارتها وقضاؤها وسكتها وأميرها، إن اعترف بعضها بالخليفة في بغداد حيناً من الزمن فاعتراف ظاهري ليس له أثر فعلي، وسودت صحف التاريخ بالقتال المستمر بين هذه الدول، وشغلوا بقتال أنفسهم عن قتال عدوهم، ومن أجل هذا طمع فيهم الروم يغزونهم كل حين، ويستولون على بلادهم شيئاً فشيئاً، حتى الزنج والحبشة كانوا يعتدون على الدولة الفينة بعد الفينة، فينهبون ويسلبون، ولم تعد المملكة الإسلامية مخشية الجانب كما كانت أيام وحدتها، ففي سنة 324هـ (وهي السنة التي مات فيها الأشعري) كانت البصرة في يد ابن رائق، وفارس في يد علي بن بوية، وأصبهان والريّ والجبل في يد أبي علي الحسين بن بوية، والموصل وديار بكر وربيعة في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد الأخشيديين، وأفريقية والمغرب في يد الفاطميين، وخراسان وما وراء النهر في يد السامانيين، وطبرستان وجرجان في يد ديلم، وخوزستان بيد البريدى، والبحرين واليمامة وهجر بيد القرامطة، ولم يبق للخليفة إلا بغداد وما حولها، وحتى هذه لم يكن فيها إلا الاسم"1.

_ 1 انظر: كتابه ظهر الإسلام 1/90.

المبحث الثاني: الناحية الاجتماعية

المبحث الثاني الناحية الاجتماعية لا شك أن ضعف الناحية السياسية، وضعف سيطرة السلطة الحاكمة - كما رأينا - سيؤثر تأثيراً مباشراً على الناحية الاجتماعية لما بينهما من ارتباط وثيق، فالتمزق الذي ظهر في الدولة والحروب التي وقعت فيها أنهكت البلاد والعباد، وظهر نتيجة لذلك الفقر والضيق وانتشر المرض والفزع والرعب وعدم الاستقرار، كما جاء ذلك في كتب التاريخ. فمثلاً في العام الذي ولد فيه الأشعري (260هـ) يحدثنا ابن كثير فيقول: "وقع غلاء شديد ببلاد الإسلام كلها حتى أجلي أكثر أهل البلدان منها إلى غيرها، ولم يبق بمكة أحد من المجاورين حتى ارتحلوا إلى المدينة وغيرها من البلاد، وخرج نائب مكة منها، وبلغ كر1 الشعير ببغداد مائة وعشرين ديناراً"2. وفي العام الذي توفي فيه الأشعري (324هـ) اشتد الجوع وكثر الموت لدرجة أنه مات بأصبهان وحدها نحو مائتي ألف3، وكما كان الفقر شائعاً وظاهراً، كانت الأمراض كذلك. وهكذا كان الأمر لحال الناس الأمنية، فقد أصاب الناس الفزع والرعب لكثرة الحوادث والحروب ولضيق الحال المادية، ولم يعد أحد يأمن على نفسه وماله وأهله من عبث المجرمين الفاسدين الذين كانوا ينهبون المال والنساء والبيوت4.

_ 1 الكر عند أهل العراق: ستون قفيزاً وهو يساوي اثني عشر وسقاً كل وسق ستون صاعاً. وعند أهل مصر أربعون أردباً. (انظر: لسان العرب 5/137) . 2 انظر: البداية والنهاية 11/31، وشذرات الذهب 2/140. 3 انظر: شذرات الذهب 2/300. 4 انظر: البداية والنهاية 11/83، وشذرات الذهب 2/190.

المبحث الثالث: الناحية العلمية

المبحث الثالث: الناحية العلمية إن الناظر في الحالتين السياسية والاجتماعية - كما ذكرت سابقاً - سيقول: إن الناحية العلمية ضعيفة هزيلة شأنها شأن غيرها مما سبق ذكره لما بينهما من علاقة وترابط، ولكن ما حصل للناحية العلمية كان العكس فالفترة التي عاش فيها الأشعري كانت نتيجة لثمرة طيبة أرسى جذورها جهابذة1 هذه الأمة، وكانت هذه الفترة من أزهى عصور الإسلام الثقافية والعلمية، حيث كتب الناس في معظم العلوم. فالسنة المطهرة كانت قد جمعت بأدق طرق الجمع والتحصيل على يد أئمة السنة والمحدثين، واقتضى ذلك ظهور علم الجرح والتعديل، وهكذا كان الأمر بالنسبة لتفسير القرآن الكريم، فالصحابة ومن بعدهم من التابعين كانوا يعطون هذا الأمر حقه، ويفسرون كتاب الله تعالى بأقوم وأسلم طريق، ولن تجد آية من كتاب الله إلا ولهم فيها قول. كما أخذ الفقه وأصوله حقه في هذا العصر، حيث كان الفقهاء الأربعة وكانت آثارهم في المسائل العلمية الدقيقة تمت ونضجت قبل الأشعري، وورث الناس عنهم هذا العلم وتداولوه كما برز الأدباء منهم، وكثر التأليف عموماً في مجالات الثقافة المختلفة. أما من ناحية العقيدة، فكانت في هذه الفترة - رغم تمسك أهل السنة والحديث بعقيدة السلف كالإمام أحمد والبخاري - تمر بمحنة خطيرة نظراً لظهور الفلسفة وعلم الكلام وموافقة بعض خلفاء العباسيين لأهل الكلام على آرائهم ومعتقداتهم، وكان نتيجة ذلك أن تفرقت الأمة، وظهر كثير من المبتدعة والفرق الضالة التي لعبت دوراً كبيراً في إفساد عقائد المسلمين وإحلال الفكر الفلسفي في قلوب الكثير، وإن نظرة خاطفة لكتاب "مقالات الإسلاميين" الذي ألفه الأشعري لخير دليل على ما نقول.

_ 1 جهابذة جمع جهبذ وجهباذ، وهو النقاد الخبير بغوامض الأمور، وهي كلمة معربة عن الفارسية. (انظر: المعجم الوسيط 2/141 من الطبعة الثانية لمجمع اللغة العربية بالقاهرة) .

وخلاصة ما يمكن أن يقال عن الناحية العلمية في هذا العصر ما ذكره أحمد أمين في قوله: "… والخلاصة أن الحالة العلمية في أواخر القرن الثالث وفي القرن الرابع كانت أنضج منها في العصر الذي قبله، أخذ علماء هذا العصر ما نقله المترجمون قبلهم فشرحوه وهضموه، وأخذوا النظريات المبعثرة فرتبوها وورثوا ثروة من قبلهم في كل فرع من فروع العلم فاستغلوها"1.

_ 1 انظر: كتاب ظهر الإسلام 1/197.

الفصل الثاني: في سيرة الأشعري

الفصل الثاني: في سيرة الأشعري المبحث الأول: اسمه ونسبه ... المبحث الأول اسمه ونسبه هو: علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وكنيته أبو الحسن1.

_ 1 مصادر ترجمته: الفهرست لابن النديم ص257، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 11/346، الأنساب للسمعاني 1/266، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي 6/332، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان 3/85، الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية لابن أبي الوفاء القرشي الحنفي المصري 1/353، 2/247، العبر في خبر من غبر للذهبي 2/202، طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي 3/347، البداية والنهاية للحافظ ابن كثير 11/187، الخطط للمقريزي 3/307، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغرابردى الأتابكي 3/303، إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين لمرتضى الزبيدي 2/3، الأعلام للزركلي 5/69 دائرة المعارف الإسلامية 3/431. وقد أفرد الحافظ ابن عساكر كتاباً خاصاً عن الأشعري تكلم فيه عن اسمه ونسبه وحياته وعلمه، وثناء الناس عليه وشيوخه وتلاميذه، كما رد على من طعن فيه وفي نسبه وسمى كتابه: "تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري". كما كتب فضيلة الشيخ حماد بن محمد الأنصاري رسالة عن الأشعري أبرز فيها الجانب الهام في حياته، ألا وهو: أطواره وعقيدته وذلك تحت عنوان "أبو الحسن الأشعري وعقيدته".

وعلى هذا فالأشعري من سلالة الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وقد ذكر السمعاني أنه قيل له الأشعري؛ لأنه من ولد أبي موسى الأشعري1. وقد طعن الأهوازي2 في نسبة أبي الحسن إلى جده أبي موسى الأشعري، وقد تولى ابن عساكر الدفاع عن أبي الحسن الأشعري في ذلك ورد على الأهوازي قوله فقال: "وأما حكايته النكرة عن بعض شيوخ البصرة من أن أبا بشر كان يهودياً فأسلم على يدي بعض الأشعريين، فحكاية مفتر عن مجاهيل مفترين، ما حكى أن أحداً نفاه عن أبي موسى الأشعري غير هذا الجاهل المتحامل المفترى، وكيف تجاسر - لا رعاه الله - على هذه الكذبة وهو لا يعرف في الشرق ولا الغرب إلا بهذه النسبة"3. وقال أيضاً: "وفي إطباق الناس على تسميته بالأشعري تكذيب لما قاله هذا المفتري"4. كما ذكر الأهوازي أن أبا بشر الوارد في ترجمة الأشعري كنية لأبيه، وأنه كنّي بذلك؛ لأنه غير صحيح النسب، وقد رد ابن عساكر5 ذلك أيضاً، وبين أن أبا بشر جد الأشعري، واسمه إسحاق بن سالم، وهو الصحيح. وقد نص الخطيب البغدادي على ذلك فقال في ترجمته: "علي بن إسماعيل بن أبي بشر - واسمه إسحاق بن سالم …"6. والأشعري نسبته إلى "أشعر"، وهي قبيلة مشهورة باليمن من أولاد سبأ، والأشعر هو: نبت بن أدد. قال ابن الكلبي: "إنما سمي نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب ابن زيد بن كهلان بن سبأ (الأشعري) ، لأن أمه ولدته وهو أشعر، والشعر على كل شيء منه"7.

_ 1 الأنساب للسمعاني 1/267. 2 هو: أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الأهوازي (ت/ 446هـ) ألف كتاباً باسم: "مثالب ابن أبي بشر" طعن وحمل فيه على الأشعري، ولكتابه نسخة بمكتبة الظاهرية تحت رقم (4521 عام) انظر: تاريخ الآداب العربية لبروكلمان 2/374، وتبيين كذب المفتري لابن عساكر ص369. 3 تبيين كذب المفتري ص375. 4 المرجع السابق ص53، وانظر: رسالة البيهقي للشيخ العميد في التبيين ص102. 5 انظر: تبيين كذب المفتري ص35. 6 انظر: تاريخ بغداد 11/346. 7 انظر: الأنساب للسمعاني 1/266، وتبيين كذب المفتري ص37.

ولم أقف على لقب للأشعري في التراجم التي بين أيدينا عنه، إلا أن ابن عساكر ذكر أنه نودي على جنازته "بناصر الدين"1. وعلى هذا يمكن أن نقول: إن لقب الأشعري هو "ناصر الدين" وإن المسلمين في جنازته هم الذين لقبوه به، ولم يعرف بذلك في حياته، إذ لو عرف لنقل لنا شيء من ذلك، كما أنه غير متداول بين المؤرخين، والله أعلم.

_ 1 انظر: تبيين كذب المفتري ص147.

المبحث الثاني: موطنه ومولده

المبحث الثاني موطنه ومولده تجمع المصادر التي بين أيدينا أن الأشعري ولد بالبصرة، وانتقل منها إلى بغداد بعد رجوعه عن الاعتزال، ولم أر في ذلك خلافاً بين المؤرخين، ويقولون في ترجمته: وهو بصري سكن بغداد. أما عن تاريخ ولادته فتكاد تجمع المصادر على تحديده أيضاً، فمعظمهم يثبت أنه ولد سنة ستين ومائتين، وابن عساكر - وهو مؤرخ له قيمته - يذكر ذلك عن أبي بكر الوزان ويعقب عليه بقوله: "لا أعلم لقائل هذا القول في تاريخ مولده مخالفاً"1. ومع هذا نجد بعض من جاء بعد ابن عساكر كابن خلكان (ت/681هـ) والمقريزي (ت/845هـ) يذكران خلافاً في مولده، فالأول يقول: "ولد سنة سبعين، وقيل ستين ومائتين بالبصرة"2، والثاني يقول: "ولد سنة ست وستين ومائتين، وقيل سنة سبعين"3. وفي الحقيقة أن هذا الخلاف لا يعتبر حيث إن أقوى المصادر السابقة واللاحقة تذكر أنه ولد سنة ستين ومائتين، وهو ما يتفق مع حياته وأطواره التي عاشها - حيث تذكر لنا المصادر أنه بقي في الاعتزال أربعين عاماً4، وأن تحوله عنه كان عام ثلاثمائة5، وعليه فيكون مولده عام ستين ومائتين وهو ما أراه صحيحاً. وقد رجح ذلك أيضاً مرتضى الزبيدي6 في ترجمته عن الأشعري فقال: "ولد سنة ستين ومائتين، وقيل سنة سبعين، والأول أشهر، كما رجحت ذلك أيضاً الدكتورة فوقية حسين في ترجمتها للأشعري"7.

_ 1 تبيين كذب المفتري ص146، وانظر: مصادر ترجمته التي أشرت إليها سابقاً. 2 وفيات الأعيان لابن خلكان 3/284. 3 الخطط للمقريزي 3/307. 4 انظر: تبيين كذب المفتري ص39، وطبقات الشافعية الكبرى 3/347. والمراد بهذا التعبير أنه بقي على مذهب الاعتزال من صغره حتى بلوغه سن الأربعين من عمره. 5 انظر: تبيين كذب المفتري ص56. 6 إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 2/3. 7 انظر: مقدمة تحقيقها لكتاب الإبانة ص13.

المبحث الثالث: زهده وعبادته

المبحث الثالث زهده وعبادته أما عن زهده فقد ساق الخطيب البغدادي بسنده إلى بندار بن الحسن، وكان خادماً لأبي الحسن قوله: "كان أبو الحسن يأكل من غلة ضيعة وقفها جده بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري على عقبه، وكانت نفقته في كل سنة سبعة عشر درهماً"1. وقد ذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي قيمة الدرهم في ذلك الوقت، والناظر فيه يتبين له مدى تقلل الأشعري من الحياة الدنيا2. وقال فيه الذهبي: "كان قانعاً متعففاً"3. وأما عن عبادته، فقد ساق ابن عساكر بسنده إلى أبي عمران موسى بن أحمد الفقيه قوله: "سمعت أبي يقول: خدمت الأمام أبا الحسن بالبصرة سنتين، وعاشرته ببغداد إلى أن توفي رحمه الله فلم أجد أورع منه ولا أغض طرفاً، ولم أر شيخاً أكثر حياء منه في أمور الدنيا، ولا أنشط منه في أمور الآخرة"4. ومن طريف ما يذكر عنه أنه كان - مع زهده وعبادته فيه دعابة ومزح كبير5.

_ 1 انظر: تاريخ بغداد 11/347، والتبيين لابن عساكر ص142. 2 انظر: مذاهب الإسلاميين 1/503، 504. 3 العبر في خبر من غبر 2/203. 4 التبيين لابن عساكر ص141. 5 الفهرست لابن النديم ص257.

المبحث الرابع: أسرته وأثرها في تكوين شخصيته

المبحث الرابع أسرته وأثرها في تكوين شخصيته ذكرت سابقاً أن أبا الحسن من سلالة الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وكان من فقهاء الصحابة وقرّائهم1، وقد أثنى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عليه وعلى قومه، وذلك فيما أخرجه الحاكم بسنده إلى سماك ابن حرب قال: "سمعت عياض الأشعري يقول: لما نزلت {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم قومك يا أبا موسى، وأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي موسى الأشعري" 2. وقد كان لأبي موسى وأحفاده من بعده مجهود ضخم في رعاية أمور المسلمين وخدمتهم3، وقد كان أبو موسى نفسه أحد الحكمين بين علي ومعاوية رضي الله عن الجميع، ولا شك أن هذا الأصل الطيب له أثر في ثمرته الطيبة، ولا شك أن هذا ليس قاعدة مطردة، ولكني أردت هنا أن أبين مدى تأثر الأشعري بالبيئة التي عاش فيها، وما هو الدافع وراء تأثره بالاعتزال منذ حداثة سنه، وهذا ما سيتضح لنا فيما يأتي. أما أبوه، فقد ذكر أبو بكر بن فورك أنه كان سنياً جماعياً حديثياً4 وأنه أوصى بالأشعري عند وفاته إلى زكريا بن يحيى الساجي5، وهو إمام في الفقه والحديث. فوالد الأشعري إذاً من أهل السنة والجماعة، بل من أهل الحديث، ويظهر لنا حرصه وتمسكه بمذهب أهل الحديث ما قام به عند وفاته، حيث دفع ابنه إلى إمام من أئمة الحديث، وهو الحافظ زكريا الساجي محدث البصرة، وقد ذكر الذهبي في التذكرة أن الأشعري أخذ عنه مقالة أهل الحديث، كما ذكر ابن عساكر أن الأشعري روى عنه كثيراً في تفسيره6.

_ 1 انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد6/16، والتهذيب لابن حجر 5/362. 2 أخرجه الحاكم وقال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي 2/313. وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد 7/16. 3 انظر: ما ذكره ابن عساكر في التبيين عن أبي موسى وفضله ومكانته، وكذلك أولاده من بعده ص57–91. 4 انظر: تبيين كذب المفتري ص35. 5 هو الإمام الحافظ محدث البصرة أبو يحيى زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الساجي (ت/ 307هـ) . انظر: ترجمته في تذكرة الحفاظ 2/709، والتبيين ص35، وطبقات الشافعية الكبرى 3/299، وشذرات الذهب 2/250. 6 التبيين ص35.

والناظر في ذلك يقول: بأن الأشعري سينهج نهج أبيه وأستاذه المحدث على الدوام، ولكن شاء الله أن يموت أبوه، وهو صغير السن وقت أن كان يتلقى دروسه الأولى1، ولم تحدد لنا المصادر تاريخ وفاته. ولما مات أبوه تزوجت أمه2 برجل من كبار رجال الاعتزال وهو أبو علي الجبائي3، ومن ثم تأثر به الأشعري، ونحا نحو المعتزلة في الأمور الاعتقادية بل إنه برع فيها لدرجة أن شيخه وزوج أمه الجبائي كان ينيبه عنه في المجالس والدروس4. وبذلك اتجه الأشعري منذ حداثة سنه إلى الاعتزال للعلاقة التي نشأت بينه وبين الجبائي المعتزلي، ولم يستطع وقتئذٍ - وهو صغير السن - أن يسير على نهج أبيه، وظل كذلك حتى هداه الله إلى الحق، ورجع عن الاعتزال وفارق الجبائي، وسأذكر ذلك بتفصيل عند الكلام على أطواره وعقيدته - إن شاء الله -. ولقد كان لهذا الاتجاه أثره البالغ في هضم الأشعري لآراء المعتزلة الكلامية وإحاطته بها، ومن ثم تمكن - بعد رجوعه عنها - من الرد عليها ونقدها نقد الخبير المتمكن العارف بأخبارها وأوزارها، كما كان لهذه النشأة أثر سيئ للغاية، وهو صرف الأشعري عن الحديث وعلومه، لو كان له فيه ما لغيره من الأئمة لكان له شأن آخر.

_ 1 انظر: مقدمة تحقيق الإبانة للأشعري، للدكتورة فوقية حسين ص16. 2 انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية 2/247، والخطط للمقريزي 3/308. 3 هو أبو علي: محمد بن عبد الوهاب بن سلام المعروف بالجبائي (ت/ 303هـ) كان إماماً في علم الكلام، وأخذ هذا العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبد الله الشحام البصري رئيس المعتزلة بالبصرة، وله في مذهب الاعتزال مقالات مشهورة، وعنه أخذ الأشعري علم الكلام. انظر: ترجمته في تاريخ بغداد 6/97، ومعجم البلدان 2/12–31، ووفيات الأعيان 4/267، وشذرات الذهب 2/241، والخطط للمقريزي 3/308. 4 انظر: التبيين ص91.

المبحث الخامس: مكانته العلمية وثناء الناس عليه

المبحث الخامس: مكانته العلمية وثناء الناس عليه لقد برع الأشعري في معظم العلوم والفنون، وكتب فيها كتابات قيمة تدل على عمق بحث وسعة أفق. وإذا استعرض الباحث مؤلفاته - التي سأذكرها فيما بعد - يجد أنه كتب في الجدل ورد على أرسطو في كتابه: "السماء والعالم والآثار العلوية" كما رد على الدهرية والمجوس والمشبهة والخوارج والرافضة والقدرية، وبرع في الرد على المعتزلة، بل إنه ألف كتاباً رد فيه على نفسه وقت أن كان معتزلياً كما أنه كان مؤرخاً للعقائد من الصف الأول، وحسبنا في ذلك كتابه "مقالات الإسلاميين" كما أن له إلماماً بالسير والأخبار، وقد ألف كتاباً خاصاً بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم. ومما يفضي إلى العجب أن الرجل كانت له قدم راسخة في علوم الشريعة فقد كتب في القياس والاجتهاد، وألف في خبر الواحد والإجماع، ورد على ابن الراوندي في إنكاره التواتر، وله كتاب ضخم في التفسير. وهذا يدل على علو منزلته وعظيم قدره، ودفع أهل العلم والفضل إلى الثناء عليه، وإليك بعض ما قيل في ذلك: قال الخطيب البغدادي: "أبو الحسن الأشعري المتكلم صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة، وغيرهم من المعتزلة والرافضة والجهمية والخوارج وسائر أصناف المبتدعة"1. وذكر بسنده عن أبي بكر الصيرفي أنه كان يقول: "كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله تعالى الأشعري فحجزهم في أقماع السمسم"2. وقال ابن خلكان: "هو صاحب الأصول والقائم بنصرة مذهب السنة وإليه تنسب الطائفة الأشعرية، وشهرته تغني عن الإطالة في تعريفه"3.

_ 1 تاريخ بغداد 11/346. 2 تاريخ بغداد 11/347. 3 وفيان الأعيان 3/284.

وقال ابن العماد: "ومما بيض به وجوه أهل السنة النبوية، وسود به رايات أهل الاعتزال والجهمية، فأبان به وجه الحق الأبلج، ولصدور أهل الإيمان والعرفان أثلج مناظرته مع شيخه الجبائي التي بها قصم ظهر كل مبتدع مرائي"1، ثم ساقها نقلاً عن ابن خلكان، وملخص هذه المناظرة أن الأشعري سأل الجبائي عن ثلاثة إخوة، مات أحدهم بعد تكليفه مستحقاً للجنة والثاني مات بعده مستحقاً للنار، والثالث مات صغيراً، فحين رأى الصغير منزلة الكبير في الجنة قال لربه: هلا بلغتني منزلة هذا، فقال الجبائي يقول الله له: إني علمت أنك لو كبرت كفرت ودخلت النار، فقال الأشعري للجبائي فإذا قال الذي في النار: فهلا أمتني صغيراً فماذا يكون الجواب، وعند ذلك انقطع الجبائي ولم يجد جواباً. كما نقل ابن عساكر2 نقولاً كثيرة عن من تقدمه من العلماء في مدح الأشعري والثناء عليه بما يثبت رجوعه إلى مذهب السلف أهل السنة والجماعة، وهكذا فعل السبكي في الطبقات3.

_ 1 شذرات الذهب 2/303. 2 انظر: تبيين كذب المفتري ص90 – 128. 3 انظر: طبقات الشافعية الكبرى 3/347.

المبحث السادس: مؤلفاته

المبحث السادس: مؤلفاته سبق أن ذكرت مكانة الأشعري العلمية، وما منَّ الله به عليه من سعة الأفق التي جعلته يكتب بعمق وأصالة في معظم العلوم والفنون. ومؤلفات الأشعري كثيرة للغاية، ولم يتمكن الدارسون والباحثون من العثور إلا على جزء قليل، بل إننا إذا اعتبرنا ما ذكره ابن عساكر في التبيين1، والزركلي في الأعلام2 من أن مؤلفات الأشعري بلغت ثلاثمائة مصنفاً سنقول: إننا لم نعرف الكثير عن أسماء مؤلفاته فضلاً عن محتواها. وقد ذكر ابن حزم أن مؤلفات الأشعري بلغت خمسة وخمسين مصنفاً، ورد ابن عساكر هذا القول وقال: "قد ترك من عدد مصنفاته أكثر من النصف، وذكر أبو بكر بن فورك مسميات تزيد على الضعف"3، وقال السبكي: "ذكر ابن حزم ما وقف عليه في بلاد المغرب"4. ولقد قام بعض المسلمين والمستشرقين بدراسات واسعة عن تراث الأشعري الضخم الذي خلفه للمسلمين5، وذلك بتحقيقه وإخراج ما عثر عليه منه، أو بالكلام حول ما لم يتيسر العثور عليه كما فعل الدكتور "عبد الرحمن بدوي" في كتابه مذاهب الإسلاميين. وآخر ما وصلنا من دراسة لكتب الأشعري، ما قامت به الدكتورة "فوقية حسين" في مقدمتها لكتاب الإبانة. وفي الحقيقة أنها قامت بجهد تشكر عليه في هذا الباب حيث أثبتت تعليقات الباحثين من مسلمين ومستشرقين حول مصنفات الأشعري مع الإدلاء برأيها في ذلك بعد الدراسة والبحث.

_ 1 تبيين كذب المفتري ص136. 2 الأعلام 5/69. 3 تبيين كذب المفتري ص92. 4 طبقات الشافعية الكبرى 3/359. 5 انظر: مقدمة الدكتورة فوقية حسين لكتاب الإبانة ص38.

ولقد دفعني ذلك إلى الاكتفاء هنا بسرد مؤلفات الأشعري ذاكراً ما تمس الحاجة إلى ذكره، وذلك مثل التعريف ببعض محتويات كتبه، أو بيان صحة نسبتها إليه. وأولى ما يمكن أن يعتمد عليه في ذلك ما ذكره الأشعري نفسه عن مؤلفاته في كتابه "العمد في الرؤية" الذي ساق فيه أسماء كتبه حتى سنة عشرين وثلاثمائة، كما ذكر ذلك ابن فورك، وعقب عليها - أي ابن فورك - بذكر ما جاء بعد هذه السنة من مؤلفات للأشعري حتى تاريخ وفاته، ثم استدرك ابن عساكر على ابن فورك ثلاثة مؤلفات أخر لم يذكرها. ولنبدأ بذكر ما أثبته الأشعري من مؤلفاته، كما جاء في كتابه العمد1. 1- (الفصول) في الرد على الملحدين والخارجين عن الملة. 2- (الموجز) اشتمل على اثني عشر كتاباً على حسب تنوع مقالات المخالفين من الخارجين عن الملة والداخلين فيها، وآخره كتاب الإمامة. 3- (كتاب في خلق الأعمال) نقض فيه اعتلالات المعتزلة والقدرية في خلق الأعمال. 4- (كتاب في الاستطاعة) رد على المعتزلة. 5- (كتاب كبير في الصفات) تكلم فيه عن أصناف المعتزلة والجهمية ورد عليهم، وذكر أنه اثبت فيه الوجه واليدين والاستواء. 6- (كتاب في جواز رؤية الله بالأبصار) نقض فيه جميع اعتلالات المعتزلة. 7- (كتاب كبير في اختلاف الناس في الأسماء والأحكام والخاص والعام) . 8- (كتاب في الرد على المجسمة) . 9- (كتاب في الجسم) ذكر فيه أن المعتزلة لا يمكنهم أن يجيبوا عن مسائل الجسمية، كما يمكنه ذلك، وبين فيه لزوم مسائل الجسمية على أصولهم. 10- (إيضاح البرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان) . 11- (اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع) مطبوع قام بنشره أولا "مكارثي" (مستشرق) ، ثم الدكتور "حمودة غرابة" الذي قدم له وعلق عليه. 12- (اللمع الكبير) وهو مدخل لكتاب إيضاح البرهان الذي سبق ذكره. 13- (اللمع الصغير) وهو مدخل للّمع الكبير.

_ 1 انظر: تبيين كذب المفتري ص128– 136.

14- (الشرح والتفصيل في الرد على أهل الأفق والتضليل) جعله مقدمة ينظر فيها قبل كتاب اللمع، وهو للمبتدئين ويصلح للمتعلمين. 15- (كتاب مختصر مدخل إلى الشرح والتفصيل) . 16- (كتاب في نقض كتاب الأصول للجبائي) كشف فيه عن تمويهه في سائر الأبواب، بل إنه ذكر فيه حججاً للمعتزلة لم يذكرها أحد منهم، ثم نقضها بحجج الله وبراهينه. 17- (كتاب كبير نقض فيه الكتاب المعروف بنقض تأويل الأدلة للبلخي) رد فيه على شبهه التي أوردها ومنها الصفات. 18- (مقالات المسلمين) استوعب فيه اختلافهم ومقالاتهم وهو الكتاب المطبوع حالياً باسم "مقالات الإسلاميين". 19- (جمل المقالات) أثبت فيه جمل مقالات الملحدة، وجمل أقاويل الموحدين. 20- (الجوابات في الصفات عن مسائل أهل الزيغ والشبهات) وهو كتاب كبير في الصفات. يقول عنه ابن عساكر: إنه أكبر كتبه1، ويقول عنه الأشعري: "نقضنا فيه كتاباً كنا ألفناه قديماً فيها على تصحيح مذهب المعتزلة، لم يؤلف لهم مثله، ثم أبان الله سبحانه لنا الحق فرجعنا عنه، فنقضناه وأوضحنا بطلانه"2. 21- (كتاب في الرد على ابن الراوندي في الصفات والقرآن) . 22- (كتاب نقض فيه كتاباً للخالدي ألفه في القرآن والصفات قبل أن يؤلف كتابه الملقب بالملخص) . 23- (القامع لكتاب الخالدي في الإرادة) نقض به كتابه في إثبات حدث إرادة الله تعالى، وأنه شاء ما لم يكن، وكان ما لم يشأ. 24- (نقض كتاب المهذب للخالدي) ذكر الأشعري أن الخالدي ألف كتاباً في المقالات فنقضه الأشعري بهذا الكتاب وسماه "الدافع للمهذب"3. 25- (نقض كتاب الخالدي الذي نفى فيه رؤية الله تعالى بالأبصار) . 26- (نقض كتاب الخالدي الذي نفى فيه خلق الله للأعمال وتقديرها) . 27- (كتاب نقض به على البلخي كتاباً ذكر أنه أصلح به غلط ابن الراوندي في الجدل) .

_ 1 تبيين كذب المفتري ص131. 2 نفس المصدر ص131. 3 تبيين كذب المفتري ص131.

28- (كتاب في الاستشهاد) بين فيه كيف يلزم المعتزلة على محجتهم في الاستشهاد بالشاهد على الغائب، أن يثبتوا علم الله وقدرته وسائر صفاته. 29- (المختصر في التوحيد والعدل) تكلم فيه عن الرؤية وسائر الصفات وأبواب القدر، وقال عنه الأشعري: "سألناهم فيه عن مسائل كثيرة ضاقوا بالجواب عنها ذرعاً ولم يجدوا إلى الانفكاك عنها بحجة سبيلاً"1. 32- (شرح أدب الجدل) . 31- (كتاب الطبرانيين) في فنون كثيرة من المسائل. 32- (جواب الخراسانية) . 33- (كتاب الأرجانيين) . 34- (جواب السيرافيين) . 35- (جواب العمانيين) . 36- (جواب الجرجانيين) . 37- (جواب الدمشقيين) . 38- (جواب الواسطيين) . 39- (جواب الرامهرمزيين) . ما تقدم ذكره من رقم (31 - 39) كتباً تحمل أجوبة من الأشعري لأهل هذه البلاد، ويذكر الأشعري أنها في مسائل من الكلام، وأشياء كانت تدور بينه وبين المعتزلة2. 40- (المسائل المنثورة البغدادية) في مسائل دارت بينه وبين أعلام المعتزلة. 41- (المنتخل) في المسائل المنثورات البصريات. 42- (الفنون في الرد على الملحدين) . 43- (النوادر في دقائق الكلام) . 44- (الإدراك في فنون من لطائف الكلام) . 45- نقض الكتاب المعروف باللطيف على الإسكافي) . 46- (كتاب نقض فيه كلام عباد بن سليمان في دقائق الكلام) . 47- (كتاب نقض فيه كتاباً لعلي بن عيسى) . 48- (المختزن) في مسائل من الكلام.

_ 1 تبيين كذب المفتري ص131، 132. 2 تبيين كذب المفتري ص132.

49- (كتاب في باب "شيء" وأن الأشياء هي أشياء وإن عدمت) قال عنه الأشعري: "رجعنا عنه ونقضناه فمن وقع إليه فلا يعول عليه"1. 50- (كتاب الاجتهاد في الأحكام) . 51- (كتاب في أن القياس يخص ظاهر القرآن) . 52- (كتاب في المعارف) . 53- (كتاب في الأخبار وتخصيصها) . 54- (الفنون) في أبواب من الكلام، وهو غير الفنون في الرد على الملحدين السابق ذكره. 55- (جواب المصريين) في مسائل من الكلام. 56- (كتاب في أن العجز عن شيء ليس العجز عن ضده، وأن العجز لا يكون إلا من الموجود) . 57- (المسائل على أهل التثنية) . 58- (كتاب ذكر فيه جميع اعتراض الدهريين في قول الموحدين) قال عنه الأشعري: "وهو مرسوم بالاستقصاء لجميع اعتراض الدهريين، وسائر أصناف الملحدين"2. 59- (كتاب على الدهريين) . 60- (كتاب نقض به اعتراضاً على داود بن علي الأصبهاني في مسألة الاعتقاد) . 61- (كتاب تفسير القرآن) . رد فيه على الجبائي والبلخي ما حرفا من تأويله. 62- (كتاب زيادات النوادر) . 63- (كتاب جوابات أهل فارس) . 64- (كتاب أخبر فيه عن اعتلال من زعم أن الموت يفعل بطبعه) . 65- (كتاب في الرؤية) رد فيه على الجبائي. 66- (الجوهر في الرد على أهل الزيغ والمنكر) . 67- (كتاب أجاب فيه عن مسائل الجبائي في النظر والاستدلال وشرائطه) . 68- (أدب الجدل) . 69- (كتاب في مقالات الفلاسفة) .

_ 1 تبيين كذب المفتري ص133. 2 المصدر السابق.

70- (كتاب في الرد على الفلاسفة) قال عنه الأشعري: "يشتمل على ثلاث مقالات، ذكرنا فيه نقض علل ابن قيس الدهري، وتكلمنا فيه على القائلين بالهيولى، والطبائع ونقضنا فيه علل أرسطو طاليس في السماء والعالم، وبيّنا ما عليهم في قولهم بإضافة الأحداث إلى النجوم وتعليق أحكام السعادة والشقاوة بها"1. هذه هي أسماء الكتب التي ذكرها الأشعري في كتابه "العمد في الرؤية"، وبين لنا شيئاً مما احتوت عليه، وذلك بذكر تعريف مختصر عن الكتاب دون ذكر اسمه في الغالب. وقال ابن فورك بعد سرده لها: "هذه هي أسماء كتبه التي ألفها إلى سنة عشرين وثلاثمائة سوى أماليه على الناس والجوابات المتفرقة عن المسائل الواردة من الجهات المختلفات، وسوى ما أملاه على الناس مما لم يذكر أساميه هنا، وقد عاش بعد ذلك إلى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وصنف فيها كتباً منها"2. 71- (نقض المضاهات على الإسكافي في التسمية بالقدر) . 72- (العمد في الرؤية) وهو الكتاب الذي ساق فيه أسماء كتبه السابق ذكرها. 73- (كتاب في معلومات الله ومقدوراته) رد فيه على أبي الهذيل. 74- (كتاب على حارث الوراق في الصفات فيما نقض على ابن الراوندي) . 75- (كتاب على أهل التناسخ) . 76- (كتاب في الرد في الحركات على أبي الهذيل) . 77- (كتاب على أهل المنطق) ذكر ابن فورك أنه مسائل سئل عنها الجبائي في الأسماء والأحكام ومجالسات في خبر الواحد وإثبات القياس3. 78- (كتاب في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم) . 79- (كتاب في الوقوف والعموم) . هكذا ورد اسم الكتاب في التبيين، ولم يعلق عليه أحد بشيء حتى نفهم المراد من كلمة "الوقوف" غير أن المستشرق مكارثي ذكر أنه قد يكون في "خلق القرآن" بعد أن أثبت صعوبة فهم المقصود من كلمة "وقوف"4، وقد يكون عنوان الكتاب "الخصوص والعموم" ونقل إلينا بالعنوان الأول من باب الخطأ.

_ 1 تبيين كذب المفتري ص134. 2 تبيين كذب المفتري ص135. 3 تبيين كذب المفتري ص135. 4 انظر: مقدمة تحقيق كتاب الإبانة للدكتورة فوقية حسين ص65 – 66.

80- (كتاب في متشابه القرآن) . 81- (نقض كتاب التاج على ابن الراوندي) . 82- (كتاب فيه بيان مذهب النصارى) . 83- (كتاب في الإمامة) . 84- (كتاب فيه الكلام على النصارى) ، وقد ذكر ابن فورك: أنه مما يحتج به عليهم من سائر الكتب التي يعترفون بها1. 85- (كتاب في النقض على ابن الراوندي في إبطال التواتر) . 86- (كتاب في حكايات مذاهب المجسمة وما يحتجون به) . 87- (كتاب نقض شرح الكتاب) والعنوان كما ترى لا يفهم المقصود منه وقد أثبتت الدكتورة فوقية دهشة مستشرق مكارثي من هذا العنوان وتذكر أنه أثبت رأي مهرن في قراءة هذا العنوان وهو: (كتاب نقض شرح الكبار) 2. 88- (كتاب في مسائل جرت بينه وبين أبي الفرج المالكي في علة الخمر) . 89- (نقض كتاب الآثار العلوية على أرسطو طاليس) . 90- (كتاب في جوابات مسائل لأبي هاشم استملاها ابن أبي صالح الطبري) . 91- (كتاب الاحتجاج) . 92- (كتاب الأخبار) الذي أملاه على البرهان. 93- (كتاب في دلائل النبوة) . 94- (كتاب في الإمامة) . هذه هي آخر الكتب التي ذكرها ابن فورك عقب ذكر الأشعري لكتبه في كتاب العمد، ولقد نقل ابن عساكر ذلك كله في التبيين، ثم استدرك على ابن فورك كتباً لم يذكرها وهي: 95- (الحث على البحث) . 96- (رسالة في الإيمان) وقد ذكرت الدكتورة فوقية أن شبيتا حققها ونشرها مع ترجمة ألمانية في كتاب له عن الأشعري ومذهبه3.

_ 1 تبيين كذب المفتري ص135. 2 مقدمة الدكتورة فوقية لكتاب الإبانة ص68. 3 انظر: مقدمتها لكتاب الإبانة ص86، 87.

97- (جواب مسائل كتب بها إلى أهل الثغر في تبيين ما سألوه عنه من المذهب الحق) ، وهي موضوع الرسالة التي نحن بصدد تحقيقها وسيأتي الكلام عليها بالتفصيل - إن شاء الله -. هذا كل ما أثبته ابن عساكر في كتابه التبيين عن كتب الأشعري كما ذكرها الأشعري نفسه وابن فورك. ويلاحظ أنها جميعًا اشتركت في عدم التنصيص على أهم كتاب وردنا عن الأشعري، وهو ما يمثل عقيدته النقية الصافية التي رجع بها إلى أصول مذهب السلف، وهذا الكتاب هو: 98- (الإبانة عن أصول الديانة) . وابن عساكر وإن لم ينص عليه فيما استدركه على ابن فورك إلا أنه نقل كثيراً منه في التبيين، واعتمد عليه في بيان عقيدة الأشعري1، وأشاد به كثيراً، وبين مكانته في نفوس أتباع الأشعري الملتزمين بمنهجه كالحافظ الصابوني الذي ذكر عنه ابن عساكر أنه كان لا يخرج إلى مجلس درسه إلا بكتاب الإبانة، ويقول: "ما الذي عليّ من هذا؟ الكتاب شرح مذهبه"2. وقد ساق ابن درباس في رسالته الذب عن الأشعري عن كثير من العلماء ما يثبت أن هذا الكتاب من تأليفه. وابن النديم (ت/381هـ) وهو قريب العهد بالأشعري يذكر أن للأشعري كتاباً اسمه "التبيين عن أصول الدين"3 ولعله هو الإبانة. ولفضيلة الشيخ حماد الأنصاري رسالة عن الأشعري - أشرت إليها سابقاً - ذكر فيها نقولاً كثيرة عن أهل العلم في إثبات هذا الكتاب للأشعري، بل إن المستشرق جولد تسيهر عدّ الإبانة رسالة مهمة، ومن الوثائق الأساسية في تاريخ العقائد الإسلامية، وأفاد منه مراراً في كتابه "محاضرات في الإسلام" وقرر أنه يمثل العرض النهائي لمذهب الأشعري4.

_ 1 انظر: تبيين كذب المفتري ص 152. 2 انظر: تبيين كذب المفتري ص389. 3 الفهرست ص257. 4 انظر: مذاهب الإسلاميين للدكتور عبد الرحمن بدوي.

ولقد طبع هذا الكتاب أكثر من مرة، وأخيراً قامت الدكتورة "فوقية حسين" بتحقيقه والتعليق عليه مع مقدمة واسعة عن الأشعري. وكتاب الإبانة يمثل الطور الأخير لدى أبي الحسن الأشعري، فهو بهذا آخر كتبه، ومما ذكره الدكتور "حمودة غرابة" في مقدمته لكتاب اللمع من أن اللمع متأخر عن الإبانة1، وكذلك الدكتورة فوقية في مقدمتها للإبانة2 قول لا دليل عليه ولا يعتمد على البحث العلمي الدقيق حيث إن معظم المصادر تذكر أنها من آخر كتبه، وهو ما يتفق مع أطواره التي سيأتي الإشارة إليها3. بقي بعد ذلك رسالة مطبوعة ومنسوبة للأشعري لم يرد لها ذكر في القائمة السابقة وهي بعنوان "استحسان الخوض في علم الكلام" ولقد ناقش الدكتور بدوي موضوع هذه الرسالة وتوصل أخيراً إلى أنها ليست من تأليف الأشعري، ورجح أنها من وضع أشعري متأخر عن زمن الأشعري، وقد يكون في القرن الخامس أو السادس4، وقد أيدت الدكتورة فوقية هذا الرأي، وذكرت أنها من الكتب المنسوبة للأشعري5. ويظهر أن هذا رأي صحيح لعدم ورود هذه الرسالة - كما ذكر - في القائمة السابقة، وحتى لو كانت حقاً من تأليف الأشعري، فمما لا شك فيه أنها وقعت منه فترة وجوده على مذهب المعتزلة ودفاعه عن آرائهم ومعتقداتهم، كما ذكر أيضاً الأستاذ "فؤاد سزكين" أن الأشعري له رسالة بعنوان "عقيدة" مخطوطة بمكتبة الأزهر، وهي أربع ورقات ضمن مجموع 511 تحت رقم 3203، ولها نسخة أخرى في برلين تحت رقم 21096. كما ذكر الأستاذ "فؤاد السيد" أن للأشعري كتاباً بعنوان "شجرة اليقين" وهو نسخة مصورة بالفوتوستات عن أصل مكتوب بخط مغربي سنة 11747.

_ 1 انظر: اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع ص7. 2 انظر: مقدمة تحقيق الإبانة ص91. 3 انظر: رسالة الشيخ حماد الأنصاري عن الأشعري وعقيدته ص8 – 15. 4 انظر: مذاهب الإسلاميين 1/518 – 521. 5 انظر: مقدمة تحقيقها لكتاب الإبانة ص72 – 74. 6 تاريخ التراث العربي 2/377. 7 فهرس مخطوطات دار الكتب المصرية القسم الثاني /3.

المبحث السابع: المراحل والأطوار التي مر بها

المبحث السابع المراحل والأطوار التي مر بها مر الأشعري بأطوار مختلفة نظراً لاختلاف البيئة التي نشأ فيها وتربى بينها، وقد أشرت إلى ذلك سابقاً، وتكاد المراجع كلها تتفق على أن الأشعري نشأ معتزلياً ثم انتقل إلى المذهب الكلامي، ثم هداه الله إلى الحق ورجع إلى مذهب أهل السنة والحديث. وابن النديم (ت/385هـ) وهو أول من ترجم للأشعري يقول: "كان أولاً معتزلياً ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة"1، وقول ابن النديم هذا سار عليه معظم المؤرخين القدامى والمحدثين، إلا أن الحذاق منهم، وأهل الفقه والعلم بعقيدة السلف ذكروا أنه تنقل في أطواره فكان أولاً معتزلياً، ثم سلك طريقاً وسطاً بين الاعتزال وأهل السنة، وأخيراً رجع إلى عقيدة السلف. وعلى هذا فالأطوار التي مر بها الأشعري ثلاثة كما يلي: 1 - الطور الأول: كان فيه معتزلياً يقول بقولهم ويأخذ بأصولهم حتى صار إماماً لهم. 2 - الطور الثاني: خرج فيه على المعتزلة ومال إلى أهل السنة والحديث ولماَّ يلحق بهم. وفي هذا الطور سلك طريقة عبد الله بن سعيد بن كلاب2.

_ 1 الفهرست ص257. 2 عبد الله بن سعيد، ويقال: عبد الله بن محمد أبو محمد بن كلاب القطان، أحد أئمة المتكلمين، ووفاته فيما يظهر بعد الأربعين ومائتين بقليل. انظر: طبقات الشافعية 2/299. وهو من المتكلمين الذين يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة وليسوا منهم، ولكنهم أقرب من غيرهم نسبياً وزاد عليه قوله: إن كلام الله تعالى لا يتصف بالأمر والنهي والخبر في الأزل لحدوث هذه الأمور وقدم الكلام النفسي، وإنما يتصف بذلك فيما لا يزول. انظر: طبقات الشافعية 2/300. ويقول ابن تيمية: "إن ابن كلاب أثبت الصفات اللازمة به سبحانه كالعلم والقدرة والحياة، ونفى عنه ما يتعلق منها بمشيئته وقدرته من الأفعال، وذلك كالإتيان والمجيء وغير ذلك، وقد كان الناس قبله صنفين فقط". انظر: موافقة صريح المعقول لصريح المنقول 2/4 – 8. والمراد بالصنفين في كلام ابن تيمية السلف المثبتون، والمعطلة النفاة.

وأنا أرى أن خير كتاب يمثل هذا الطور عند الأشعري - فيما بين يدينا من كتب - هو كتاب (اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع) ، ذلك أن الأشعري يهاجم فيه المعتزلة هجوماً شديداً، ويدخل معهم في مناقشات جدلية تصل إلى حد التعقيد أحياناً، فهو بهذا يتخلص من مذهب الاعتزال ويرد عليه ويفنده، ومع هذا نجد أنه لا يذكر الإمام أحمد ولا يشيد بمذهبه كما فعل في الإبانة، كما أنه لم يتعرض لذكر كثير من الصفات التي يؤمن بها السلف كالوجه والاستواء، ويتكلم عن نظرية الكسب بإسهاب. فلذا أمكن القول بأنه كان في هذا الطور وسطاً بين السلف كالإمام أحمد بن حنبل والمعتزلة، وقد أشار ابن تيمية إلى ذلك في قوله: "وأبو الحسن لما رجع عن مذهب المعتزلة سلك طريقة ابن كلاب ومال إلى أهل السنة والحديث وانتسب إلى الإمام أحمد كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها كالإبانة والموجز والمقالات وغيرها"1. ويلاحظ أن ابن تيمية هنا ذكر طورين للأشعري دون أن يفصل بينهما ويوضح، وإن كان يفرق بين طريقة ابن كلاب ومذهب الإمام أحمد، ولكني لم أقف على تحديد للمدة التي بقاها الأشعري على طريقة ابن كلاب بعد البحث والتحري، ولكن الثابت عنه أنه انتقل إلى مذهبه، وقد أوضح ذلك وفصله تلميذه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فقال في الطبقة الثالثة من كتابه طبقات الفقهاء عند الشافعية "ذكروا للشيخ أبي الحسن الأشعري ثلاثة أحوال: أولها: حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة. والحال الثاني: إثبات الصفات العقلية السبعة وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، وتأويل الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق، ونحو ذلك. والحال الثالث: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جرياً على منوال السلف، وهي طريقته في الإبانة التي صنفها آخراً"2. ويقول المقريزي: "إن الأشعري خرج على الاعتزال وأخذ في الرد عليهم وسلك بعض طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب القطان وبنى على قواعده"3.

_ 1 انظر: الموافقة 2/10 , 11. 2 انظر: كتاب طبقات الفقهاء عند الشافعية ورقة 26/ ب. 3 انظر: الخطط للمقريزي 3/308.

وقد فصل هذا الأمر أكثر العالم الفاضل محب الدين الخطيب في تعليقه على المنتقى من منهاج الاعتدال فقال: "أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري من كبار أئمة الكلام في الإسلام، نشأ في أول أمره على الاعتزال وتتلمذ فيه على الجبائي، ثم أيقظ الله بصيرته وهو في منتصف عمره وبداية نضجه، فأعلن رجوعه عن ضلالة الاعتزال ومضى في هذا الطور نشيطاً يؤلف ويناظر ويلقي الدروس في الرد على المعتزلة سالكاً طريقاً وسطاً بين طريقة الجدل والتأويل وطريقة السلف، ثم مَحضّ طريقته وأخلصها لله بالرجوع الكامل إلى طريقة السلف في إثبات كل ما ثبت بالنص من أمور الغيب التي أوجب الله على عباده إخلاص الإيمان بها، وكتب بذلك كتبه الأخيرة ومنها في أيدي الناس كتاب الإبانة، وقد نص مترجموه على أنها آخر كتبه، وهذا ما أراد أن يلقى الله عليه، وكل ما خالف ذلك مما ينسب إليه، أو صارت تقول به الأشعرية فالأشعري رجع عنه إلى ما في كتاب الإبانة"1. ونقطة تحول الأشعري هذه هي أهم شيء حدث له في تاريخ حياته وكان لها أثر كبير في نصرة مذهب السلف أهل السنة والجماعة ودحض الباطل الذي كان عليه قبل ذلك، وخاصة بعد ما حرر نفسه بالرجوع الكامل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وكان ذلك في طوره الأخير وهو: 3 - الطور الثالث: هو الذي أعلن فيه الأشعري انتسابه إلى الإمام أحمد كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه الإبانة، وتصريحه بذلك يدل على أنه وقف على كتب الإمام أحمد، واستقى منها كثيراً في العقيدة، وهذا يظهر في كلامه على الصفات ومطابقته لكلام الإمام أحمد وذلك مثل صفة الكلام، وقد أشرت إلى ذلك في التحقيق. ويذكر في سبب رجوعه عن الاعتزال أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ثلاث مرات، في كل مرة كان يأمره باتباع منهجه وسلوك طريقته2، كما تذكر لنا المصادر - المشار إليها سابقاً - أن الأشعري كان يورد الأسئلة على أستاذه في الدرس، فلا يجد في جوابه ما يكفي

_ 1 انظر: التعليق على المنتقى من منهاج الاعتدال ص41. 2 انظر: التبيين ص38 – 43، وطبقات الشافعية 3/348.

ويشفي، وكان يناظره أحياناً في هذه الأسئلة، ولعل ذلك كان سبباً في رجوعه عن الاعتزال إلى الحق. ولا شك أن الأشعري كان يعيش مرحلة حرجة في تلك الفترة التي سبقت رجوعه إلى منهج السلف بعد إعلانه خروجه من الاعتزال، حتى إنه اعتزل الناس خمسة عشر يوماً في بيته، خرج بعدها بالقرار الذي أعلنه على الناس في المسجد الجامع بالبصرة في يوم الجمعة، حيث رقى كرسياً ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة1. ويلاحظ من هذا القرار أن الأشعري يعلن براءته صراحة من المعتزلة وينص على بعض العقائد التي خرج عليهم فيها، وسلك فيها سبيل أهل الهدى والرشاد. ومن وقت الإعلان بدأ الأشعري يدافع عن عقائد أهل السلف ويحارب المعتزلة بكل ما أوتي من لسان وبيان حتى صار شجى في حلوق المعتزلة.

_ 1 الفهرست لابن النديم ص257.

المبحث الثامن: منهج الأشعري

المبحث الثامن: منهج الأشعري تعدد منهج الأشعري تبعاً لمواقفه المختلفة من العقيدة الإسلامية فنجده أولاً ينهج نهج المعتزلة ويسلك مسلكهم في الاستدلال على العقائد فيقدم العقل على النقل، ولا يهتدي في ذلك بكتاب أو سنة، وبرع في استخدام العقل والمجادلة والنظر حتى أن شيخه الجبائي كان ينيبه عنه في مجلسه وكان هذا في الطور الأول الذي سبقت الإشارة إليه. ولما هداه الله إلى الحق، وخلع ثوب الاعتزال سلك منهجاً آخر، وهو التسليم لما جاء به النقل مع محاولة تحليل ما يتعارض مع رأيه بالعقل، مثل قوله في نظرية الكسب1 كما جاءت في كتابه اللمع، وكذلك سكوته عن الصفات الخبرية وعدم ذكره لها، ويعدّ ذلك مرحلة انتقالية من مذهب تصور أصوله ومسائله إلى مذهب آخر لم يقف إلا على القليل منه، وكان ذلك في طوره الثاني. ولما استقر على مذهب السلف أهل السنة والجماعة، ووقف على مسلكهم ممثلاً في الإمام أحمد بن حنبل الذي شاد به وأثنى عليه في طوره الأخير نهج نهجهم وسلك طريقتهم، والتي تعتمد أساساً على الكتاب والسنة، وقد صرح بذلك في كتابه الإبانة، والرسالة التي معنا. وعلى هذا يمكن أن نقرر أن الأشعري كان ينطلق من منطلق السلف في هذه المرحلة، ويقدم النقل على العقل، ويجعل العقل تابعاً لما ورد به النص ويؤمن بأسماء الله وصفاته وجميع ما جاء به النقل من الغيبيات، ويرى الاحتجاج بأحاديث الآحاد، بل يستدل بها في العقيدة، ثم في النهاية يستخدم الحجج العقلية ليدحض آراء الخصوم ويؤيد النص المنزل من عند الله، وقد شهد له ابن تيمية - رحمه الله - بذلك فقال: "والأشعري يثبت الصفات بالشرع تارة وبالعقل أخرى، ولهذا يثبت العلو ونحوه مما تنفيه المعتزلة، ويثبت الاستواء على العرش، ويرد على من تأوله بالاستيلاء ونحوه مما لا يختص بالعرش"2.

_ 1 الكسب من الأمور الغامضة ولا حقيقة له كما قيل عند الأشاعرة اقتران قدرة العبد بالفعل دون أن يكون لقدرته تأثير البتة. (انظر الإرشاد للجويني ص187- 203) . 2 انظر: الموافقة 2/8.

ويقول في موطن آخر: "وليس للأشعري نفسه في إثبات صفة الوجه واليد والاستواء وتأويل نصوصها قولان، بل لم يختلف قوله إنه يثبتها ولا يقف فيها، بل يبطل تأويلات من ينفيها"1. كما تكلم الدكتور "محمد أبو زهرة" عن منهج الأشعري وحدده في نقاط أربع كما يلي: 1 - أنه يرى أن يأخذ بكل ما جاء به الكتاب والسنة من عقائد، ويحتج بكل وسائل الإقناع والإفحام. 2 - أنه يأخذ بظواهر النصوص في الآيات التي يظن أنها توهم التشبيه من غير أن يقع في التشبيه2، فهو يعتقد أن لله وجهاً لا كوجه العبيد، وأن لله يداً لا تشبه أيدي المخلوقات. 3 - أنه يرى أن أحاديث الآحاد يحتج بها في العقائد وهي دليل لإثباتها وقد أعلن اعتقاد أشياء ثبتت بأحاديث الآحاد. 4 - أنه في آرائه كان يجانب أهل الأهواء جميعاً ومنهم المعتزلة ويجتهد في ألا يقع فيما وقع فيه كثير من المنحرفين. ثم عقب أبو زهرة على ذلك بقوله: "وقد سلك الأشعري في الاستدلال على العقائد مسلك النقل ومسلك العقل، فهو يثبت ما جاء به القرآن الكريم والحديث الشريف من أوصاف الله ورسله واليوم الآخر والملائكة والحساب والعقاب والثواب ويتجه إلى الأدلة العقلية، والبراهين المنطقية يستدل بها على الله سبحانه وتعالى … "3. كما حددت الدكتورة "فوقية حسين" منهج الأشعري في المسائل الدينية والاعتقادية من خلال كتبه وخرجت منها بعدة أصول سار عليه الأشعري في كتبه، وهي في جملتها الأصول التي عليها السلف الصالح وهي كما يلي:

_ 1 انظر: الموافقة 3/239. 2 آيات الصفات كلها لا توهم التشبيه إلا عند من لا يعرف الله تعالى ولا يقدره حق قدره، ويقيس الغائب على الشاهد. 3 انظر كتابه: ابن تيمية حياته وعصره - آراءه الفقهية ص189 – 191.

الأصل الأول: إعطاء الأولوية للنص المنزل قرآناً كان أم سنة. الأصل الثاني: تفسير القرآن بالقرآن. الأصل الثالث: تفسير القرآن بالحديث. الأصل الرابع: أخذه بما أجمع عليه السلف قبله. الأصل الخامس: أن القرآن الكريم على ظاهره وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة. الأصل السادس: الاعتقاد واليقين بأن الله خاطب العرب بلغتهم. الأصل السابع: مراعاة مناسبة النزول. الأصل الثامن: مراعاة الخصوص والعموم1. والناظر في هذه الأصول يتبين له أنها أصول سليمة لفهم القرآن والسنة والسائر عليها لا شك متبع لطريق الهدى والرشاد وهو ما صار عليه الأشعري أخيراً بعد عودته إلى مذهب السلف، ولقد اتبع هذه الأصول في كتابه الإبانة والرسالة التي نحن بصدد تحقيقها. هذا هو منهج الأشعري الذي سلكه وسار عليه بعد رجوعه عن الاعتزال والكلابية مع ميوله إلى النزعة الكلامية في تأييده لهذا المنهج وذلك بسبب نشأته الأولى الاعتزالية وقيامه بالدفاع عن العقيدة الإسلامية ضد من انحرفوا عنها من المتكلمين، فكان لابد له من سلوك طريقتهم في الرد عليهم لأنهم لا يقتنعون بأدلة النصوص. ولقد خالف هذا المنهج تلامذة الأشعري والمنتسبون إليه من بعده حتى وصل إلى طور جديد نوضحه في المبحث التالي - إن شاء الله -.

_ 1 انظر: مقدمة كتاب الإبانة للدكتورة فوقية ص110 – 134.

المبحث التاسع: مخالفة الأشعريين لمنهج الأشعري

المبحث التاسع: مخالفة الأشعريين لمنهج الأشعري لقد تطور المذهب الأشعري تطوراً سريعاً ومخالفاً لما كان عليه واضعه الذي ينتسب المذهب إليه، حيث أصبح أتباع الأشعري يسلكون منهجاً آخر يخالف المنهج المذكور عن الأشعري سابقاً، وتعرضوا لآيات الصفات، فلم يثبتوا منها إلا ما أثبته العقل فقط، أما ما لا مجال للعقل فيه فتعرضوا له بالتأويل والتعطيل، ثم نسبوا ذلك كله للأشعري، دون أن يبينوا للناس أن هذا هو مذهب الأشعري الكلابي الذي كان عليه قبل أن يرجع إلى عقيدة السلف، ولكنه بعد رجوعه عنه لا يصح أن ينسب إليه. ولتوضيح هذه الحقيقة سأسوق هنا كلام بعض من جاء بعد الأشعري في بعض الصفات وموقفهم منها، ومدى موافقته لمذهب الأشعري أو مخالفته. أثبت الأشعري في كتابه الإبانة1، والرسالة التي نحن بصدد تحقيقها أن الله استوى على العرش، وأن عرشه فوق سماواته وأبطل قول المعتزلة في تأويلهم الاستواء بالاستيلاء فقال: "وأنه تعالى فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وقد دل على ذلك بقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْض} ، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وليس استواه على العرش استيلاء كما قال أهل القدر، لأنه عز وجل لم يزل مستوياً على كل شيء"2. ومع هذا التصريح الواضح من الأشعري عن هذه الصفة وموقفه منها نجد أتباعه من بعده يذهبون فيها مذهباً آخر تماماً وهذا المذهب قد نص الأشعري نفسه على فساده وبطلانه. فعبد القاهر البغدادي (ت/429هـ) وهو من كبار الأشاعرة ينسب إلى الأشعري قولاً لم يقله في هذه الصفة وذلك بعد رجوعه إلى مذهب السلف، وهو أن الله أحدث فعلاً في العرش سماه استواء، ثم يقول: "والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك، كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره"3.

_ 1 انظر: الإبانة ص30- 40 طبعة الجامعة الإسلامية. 2 انظر: رسائل الثغر ص23 ب من المخطوطة. 3 انظر: كتابه "أصول الدين" ص113 من الطبعة الأولى بتركيا.

وإذا ذهبنا إلى أشعري آخر ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري فسنجد نفس التأويل بل أشد. فأبو حامد الغزالي (ت/505هـ) وهو من المعدودين عند ابن عساكر من الطبقة الخامسة السائرين على منوال الأشعري1 يذهب إلى أن الاستواء بمعنى الاستيلاء ويدافع عن ذلك دفاعاً شديداً فيقول: "ويصلح الاستيلاء عليه - أي على العرش - لأن يمتدح به، وينبه به على غيره الذي هو دونه في العظم، فهذا مما لا يحيله العقل، ويصلح له اللفظ، فأخلق بأن يكون هو المراد قطعاً، أما صلاح اللفظ له فظاهر عن الخبير بلسان العرب، وإنما ينبو عن فهم مثل هذا أفهام المتطفلين على لغة العرب الناظرين إليها من بعد الملتفتين إليها التفات العرب إلى لسان الترك حيث لم يتعلموا منها إلا أوائلها، فمن المستحسن في اللغة أن يقال: استوى الأمير على مملكته، حتى قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق"2 وإذا جئنا إلى صفة أخرى كاليد مثلاً نجد أن الأشعري يثبت اليدين صفة لله عز وجل، ويقرر أن هذه الصفة لا يمكن أن يكون المراد بها النعمة أو القدرة كما ذهب إلى ذلك من ذهب من المعطلين بعده وقبله فيقول: "وأن له تعالى يدين مبسوطتين، وأن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه من غير أن يكون جوارحاً، وأن يديه غير نعمته، وقد دل على ذلك تشريفه لآدم عليه السلام حيث خلقه بيده، وتقريعه لإبليس على الاستكبار عن السجود مع ما شرفه به بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} "3. ومع هذا التصريح الواضح من الأشعري في إثبات هذه الصفة نجد تلامذته من بعده يؤولونها ويذهبون فيها المذهب الذي نص الأشعري نفسه على بطلانه كما سبق في صفة الاستواء فالبغدادي يقول فيها: "وقد تأول بعض أصحابنا اليد على معنى القدرة وذلك صحيح على المذهب إذا أثبتنا لله القدرة، وبها خلق كل شيء، ولذلك قال في آدم عليه السلام {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ووجه تخصيص آدم بذلك أنه خلقه بقدرته لا على مثال

_ 1 انظر: التبيين ص291. 2 انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص31. 3 انظر: رسائل الثغر / ق 22 ب، والإبانة ص35 – 38.

له سبق، ولا من نطفة، ولا نقل من الأصلاب إلى الأرحام، كما نقل ذريته من الأصلاب إلى الأرحام"1. وهكذا نجد أتباع الأشعري والمنتسبين إليه يضعون مذهباً لأنفسهم بعيداً كل البعد عن عقيدة الأشعري التي لقي الله عليها فأولوا الصفات التي أثبتها الأشعري لله عز وجل، وتلقى الناس عنهم ذلك على أنه مذهب الأشعري وقد سار في هذا المنوال جميع المتأخرين المنتسبين إليه بلا استثناء كالفخر الرازي والنسفي وابن عاشر والباجوري وغيرهما كثير، بل إن كثيراً من الجامعات الإسلامية اليوم تدرس هذا المذهب الباطل المنسوب إلى الأشعري على أنه مذهب الأشعري، والأشعري منه بريء، كما يلاحظ أنهم يطلقون على هذا المذهب مذهب أهل السنة والجماعة باعتبار أنه منسوب لإمام أهل السنة والجماعة وهو الأشعري وكل ذلك زعم باطل وقول غير سديد. ولولا الرغبة في الاختصار لعرضت لأمثلة كثيرة من هذا النوع، ولكني أكتفي بما سبقت الإشارة إليه كدليل واضح لما أردت الوصول إليه من حقيقة وهي: أن بين الأشعري والأشاعرة فجوة كبيرة، أحدثها المنتسبون إليه بخروجهم عن عقيدته، وهذا ضياع للحقيقة وهدم لمكانة الأشعري السلفية التي رجع إليها بانتسابه إلى الإمام أحمد كما أوضحت سابقاً. ولقد تبين لكثير من العلماء والباحثين مدى مخالفة الأشاعرة لإمامهم الأشعري فنصوا على ذلك في كتبهم وسأسوق هاهنا بعضاً مما وقفت عليه من ذلك تأكيداً لهذه الحقيقة، وأسأل الله جل ذكره أن يكون فيما أكتب مفتاحاً لطلاب الحق حتى يصلوا إليه. يقول ابن تيمية وهو بصدد الكلام على أتباع الأشعري: "…ولم يكن الأشعري وأئمة أصحابه على هذا، بل كانوا موافقين لسائر أهل السنة في وجوب تصديق ما جاء به الشرع مطلقاً، والقدح فيما يعارضه، ولم يكونوا يقولون: الأدلة السمعية، لا تفيد اليقين، بل كل هذا مما أحدثه المتأخرون الذين مالوا إلى الاعتزال والفلسفة من أتباعهم"2. وهذا ينطبق على الأشعري بعد رجوعه إلى مذهب السلف وترك الاعتزال والعقيدة الكلابية التي كان عليهما فترة من الزمن.

_ 1 انظر: أصول الدين ص111. 2 موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول 2/8، 9.

ويقول المقريزي (ت/845هـ) بعد ما ذكر جملة أصول عقيدة الأشعري: "والأشعرية يسمون الصفاتية لإثباتهم صفات الله تعالى القديمة، ثم اختلفوا في الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة كالاستواء والنزول والأصبع واليد والقدم والصورة والجنب والمجيء على فرقتين: فرقة تؤول جميع ذلك على وجوه محتملة اللفظ، وفرقة لم يتعرضوا للتأويل ولا صاروا إلى التشبيه ويقال لهؤلاء الأشعرية الأثرية"1. ويقول محب الدين الخطيب: "أما الأشعرية أي المذهب المنسوب إليه في علم الكلام فكما أنه لا يمثل الأشعري في طور اعتزاله، فإنه ليس من الإنصاف أيضاً أن يلصق به فيما أراد أن يلقى الله عليه، بل هو مستمد من أقواله التي كان عليها في الطور الثاني، ثم عدل عن كثير منها في آخرته التي أتمها الله عليه بالحسنى"2. ويقول أئمة المستشرقين في العالم: "وإن منهج الأشعري في التدليل في عين القارئ الأوربي لا يختلف للنظرة الأولى عن منهج أتباع أحمد بن حنبل المغالين في المحافظة؛ ذلك أن كثيراً من حججه يقوم على تفسير القرآن والحديث على أن السبب في ذلك كان مرجعه إلى أن خصومه أيضاً بما فيهم المعتزلة أنفسهم قد استعانوا بحجج من هذا القبيل، وأن الأشعري كان يعتمد دائماً على مخاطبة عواطف المرء لا عقله، ومع ذلك فإن خصومه حين يسلمون بدليل عقلي صرف، فإن الأشعري كان لا يتردد في استخدامه في دحض أقوالهم وما إن تقرر جواز مثل هذه الحجج في نظر كثير من المتكلمين على الأقل، حتى استطاع الأشعرية أن ينموا هذا الجانب من منهجه، وانتهى الأمر في القرون المتأخرة بأن أصبح الكلام عقلياً تماماً، على أن هذا كان بعيداً أشد البعد من مزاج الأشعري نفسه"3. ثم استمروا يوضحون هذه الحقيقة إلى أن قالوا: "وختاماً يجوز لنا أن نقول: إن المذهب قد اختفى في وهج من الفلسفة"4. ويقول الدكتور حمودة غرابة: "أما مذهب الأشعري نفسه فقد مزجه أغلب أتباعه بآرائهم، ومن حاول منهم كالشهرستاني أن يضعه في صورة خاصة تميزه عن رأي تلامذته، فإنه لم يسلم من الخطأ في هذا التصوير مما كان له أسوأ الأثر في تكوين فكرة خاطئة عن هذا المذهب في نفس قارئه ومن تعرض لذلك"5.

_ 1 الخطط للمقريزي 3/310. 2 انظر: تعليقه على المنتقى من منهاج الاعتدال ص43. 3 انظر: دائرة المعارف الإسلامية 3/434، 435. 4 انظر: دائرة المعارف الإسلامية 3/438، 439. 5 انظر كتابه: الأشعري أبو الحسن ص4 مطبعة الرسالة – القاهرة.

المبحث العاشر: وفاته

المبحث العاشر: وفاته اختلف المؤرخون في تحديد سنة وفاة الأشعري، ومعظم المؤرخين ذكر أكثر من تاريخ، وكلها تدور في أنه مات بين سنة عشرين وثلاثمائة وبين سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة1، وبعض المؤرخين ذكره فيمن مات سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ومن هؤلاء ابن كثير2، وابن تغرى بردى3، والذهبي4، ورجحه السبكي في الطبقات5، وجزم به ابن عساكر في التبيين6 معللاً أن ابن فورك هو الذي ذكر هذا التاريخ وابن فورك تلميذ الباهلي، وهو تلميذ الأشعري، وبناءً على ما تقدم تكون وفاة الأشعري سنة 324هـ؛ إذ خير من يعتمد عليه في معرفة وفاة العلماء تلاميذهم.

_ 1 انظر: تاريخ بغداد 11/347، والأنساب للسمعاني 1/267، ووفيات الأعيان 3/284، 285، والخطط للمقريزي 3/307. 2 البداية والنهاية 11/187. 3 النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 3/259. 4 العبر في خبر من غبر 2/202. 5 طبقات الشافعية الكبرى 3/355. 6 تبيين كذب المفتري ص147.

الفصل الثالث: شيوخه وتلاميذه

الفصل الثالث: شيوخه وتلاميذه المبحث الأول: شيوخه ... المبحث الأول شيوخه علمنا مما سبق أن الأشعري عاش فترته الأولى من حياته إلى سن الأربعين من عمره على مذهب الاعتزال، وكان الجبائي1 هو شيخه الوحيد في هذه الفترة. ولما هداه الله إلى الحق وخلع ثوب الاعتزال وتخلص من المذهب الكلابي تتلمذ على أئمة أهل السنة والجماعة، وقد وصلنا من شيوخه في هذه الفترة ما يلي: 1 - أبو خليفة الجمحي: هو الفضل بن الحباب الجمحي البصري مسند العصر، وكان محدثاً متقناً ثبتاً إخبارياً عالماً، روى عن مسلم بن إبراهيم، وسليمان بن حرب وطبقتهما، وتوفي عام (305هـ) 2. 2 - ابن سريج: هو أحمد بن سريج القاضي أبو العباس البغدادي (ت/306هـ) إمام أصحاب الشافعي في وقته، شرح المذهب ولخصه، وحدث شيئاً يسيراً عن الحسن بن محمد الزعفراني، وعباس بن محمد الدوري، ومحمد ابن عبد الملك الدقيقي، وأبي داود السجستاني ونحوهم3.

_ 1 تقدمت ترجمته في ص33. 2 انظر: شذرات الذهب 2/355، 356. 3 انظر: تاريخ بغداد 4/287، وطبقات الشافعية الكبرى 3/21، ووفيات الأعيان1/ 66، 67، وشذرات الذهب 2/247، 248.

3 - الحافظ زكريا الساجي: هو الإمام الحافظ محدث البصرة أبو يحيى زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الساجي (ت/ 307هـ) وعنه أخذ الأشعري تحرير مقالة أهل الحديث والسلف، وروى عنه بعض الأحاديث1. 4 - أبو إسحاق المروزي: هو إبراهيم بن أحمد بن إسحاق المروزي الفقيه الشافعي إمام عصره في الفتوى والتدريس، أخذ الفقه عن أبي العباس بن سريج وبرع فيه وانتهت إليه الرئاسة بالعراق بعد ابن سريج (ت/ 340هـ) 2. وهؤلاء المشايخ سلفيون، لأن الأشعري أخذ عنهم بعد رجوعه إلى مذهب السلف كما ذكرت ذلك في الصفحة السابقة.

_ 1 انظر: تذكرة الحفاظ 3/709، والبداية والنهاية 11/187، وطبقات الشافعية الكبرى 3/354، وشذرات الذهب 2/250. 2 انظر: وفيات الأعيان 1/26، 27، وشذرات الذهب 2/355، 356.

المبحث الثاني: تلاميذه

المبحث الثاني: تلاميذه لقد اهتم ابن عساكر1 من بين المؤرخين الذين كتبوا عن الأشعري بالحديث عن تلامذته والآخذين منه، واستدل بذلك على عظم منزلته وجلالة قدره - رحمه الله -، وقد قسم ابن عساكر الآخذين عن الأشعري إلى خمس طبقات بدأ فيها بأصحابه الذين أخذوا منه وأدركوه واعتبرهم الطبقة الأولى ثم أتبع ذلك بمن أخذ عن تلامذة الأشعري واعتبرهم الطبقة الثانية، وهكذا إلى أن وصل إلى الطبقة الخامسة. وينبغي التنبيه هنا على أن هؤلاء التلاميذ المذكورين في الطبقات الخمس عند ابن عساكر ليسوا جميعاً قائلين بمذهب الأشعري السلفي وإن انتسبوا إليه وأخذوا ببعض أقواله وخاصة في المرحلة الثانية التي عاشها من حياته - كما أوضحت سابقاً -. وسأكتفي هنا بذكر الآخذين عن الأشعري نفسه وهم كما يلي: 1 - أبو عبد الله بن مجاهد البصري. 2 - أبو الحسن الباهلي البصري. 3 - أبو الحسين بندار بن الحسين الشيرازي. 4 - أبو بكر القفال الشاشي. 5 - أبو سهل الصعلوكي النيسابوري. 6 - أبو زيد المروزي. 7 - أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي. 8 - أبو بكر الجرجاني المعروف بالإسماعيلي. 9 - أبو الحسن عبد العزيز بن محمد بن إسحاق الطبري. 10 - أبو الحسن علي بن محمد بن مهدي الطبري. 11 - أبو جعفر السلمي البغدادي النقاش. 12 - أبو عبد الله الأصفهاني.

_ 1 انظر: تبيين كذب المفتري ص177 – 228.

13 - أبو محمد القرشي الزهري. 14 - أبو بكر البخاري المعروف بالأودني الفقيه. 15 - أبو منصور بن حمشاد النيسابوري. 16 - أبو الحسين بن سمعون البغدادي. 17 - أبو عبد الرحمن الشروطي الجرجاني. 18 - أبو علي الفقيه السرخسي.

الباب الثاني: التعريف بالكتاب ووصف المخطوطة

الباب الثاني: التعريف بالكتاب ووصف المخطوطة الفصل الأول: التعريف بالكتاب المبحث الأول: اسم الكتاب ... المبحث الأول: اسم الكتاب لم يذكر مؤلف الكتاب عنواناً مثبتاً باسم معين، ولعل السبب في ذلك هو أنه عبارة عن أجوبة موجهة إلى أهل الثغر بباب الأبواب فيما سألوه عنه من مذهب أهل الحق، ولذلك يمكن لنا أن نقول: إن مؤلف الرسالة لم يضع لنا عنواناً تعرف به للسبب السابق ذكره. ومن هنا عرفها من جاء بعده بنسبتها إلى المكان المرسلة إليه فقال ابن عساكر فيها: "جواب مسائل كتب بها إلى أهل الثغر في تبيين ما سألوه عنه من مذهب أهل الحق"1. وقال عنها ابن تيمية: رسالة أهل الثغر2. وهكذا ذكرها فؤاد سزكين3. وذكرها ابن القيم في نونيته باسم "رسائل الثغر"4. ولم أجد لهذه الرسالة غير ذلك فيما بين يدينا من المراجع، ولكن إحدى نسخ هذه المخطوطة كتب عليها ناسخها "الأصول الكبير"، ولا شك أن الناسخ اجتهد في وضع هذا العنوان لهذه الرسالة نظراً لما احتوت عليه من أصول الدين وهو العقيدة، وهذا يدل على أهمية هذه الرسالة في بابها والذي فعل ذلك هو الناسخ "أحمد سعيد" هندي. ولم نقف له على ترجمة كما لم نعرف تاريخ النسخ. وسيأتي الكلام في ذلك بتفصيل - إن شاء الله تعالى -.

_ 1 انظر: تبيين كذب المفتري ص136. 2 انظر: بيان تلبيس الجهمية، ودرء تعارض العقل والنقل 7/186 بتحقيق الدكتور محمد رشاد سالم. 3 انظر: تاريخ التراث العربي 2/376. 4 انظر: النونية، وهي المسماة "بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية" ص69.

المبحث الثاني: موضوع الكتاب وتحليل محتوياته

المبحث الثاني: موضوع الكتاب وتحليل محتوياته بدأ الأشعري كتابه هذا بحمد الله والثناء عليه، ثم عقب بالصلاة والسلام على النبي الكريم - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - ناعتاً له بصفاته الحميدة التي على رأسها تبليغ رسالة ربه إلى الناس كافة. ثم وجه الخطاب مباشرة إلى أهل الثغر بباب الأبواب، فذكرهم بنعم الله عليهم التي تستوجب حمده وشكره، وعرَّفهم بما يريد أن يكتب لهم فيه وهو بيان ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم إلى زمن الأشعري. وبدأ كلامه ببيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كافة في وقت طغى فيه الباطل على الحق، حتى اندرست، أو ضاعت معالمه، وتمسك كل قوم بدين حسب ما أملاه عليهم الشيطان والهوى، وتحقق فيهم قول الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} 1. في هذا الجو بعث النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الناس إلى الله وإلى عبادته وحده دون سواه ملفتاً نظرهم إلى آثار قدرة الله فيهم والتي أوجدتهم من العدم مشيراً إلى بعض الآيات القرآنية الداعية إلى النظر في خلق الإنسان وأطواره، ثم استخلص من هذه المقدمة أن الإنسان حادث بعد أن لم يكن، وعليه فليس بقديم، كما أن له محدِثاً أحدث وجوده، واستدل على وجود الله وحدوث الإنسان من وجود الإنسان نفسه، وأشار إلى أن الله أكد هذا الطريق حينما دعا العباد جميعاً إلى أن يتفكروا في خلق السماوات والأرض، وما بث فيهما من منافع ومصالح لا تخفى على كل ناظر. وبعد ما ذكر الأشعري ذلك، وبيّن أن الله هو الذي خلق كل شيء أبطل قول الفلاسفة القائلين بالطبائع، أي أن هذه الأشياء وجدت من الطبيعة وعن طريق الصدفة لا غير.

_ 1 سورة الروم آية: (41) .

ثم انتقل إلى الكلام على وحدانية الله عز وجل، وأنه سبحانه واحد لا شريك له، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1، وبينتُ هناك في تعليقي على الآية مدى صحة الاستدلال بها في هذا الموضع. ثم تعرض لقضية البعث والإعادة، ورد على المشركين الذين عبدوا الأصنام المنحوتة بأيديهم من دون الله، مؤيداً قوله بآيات من القرآن الكريم. ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحجة على أهل الكتاب من خلال ما جاء في كتبهم عنه، وذلك كاسمه وصفته كما تحداهم بالمباهلة فنكصوا على أعقابهم لعلمهم بصدقه، وبدأ بتقرير نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم من خلال ما أيد به من معجزات، وبدأ بالمعجزة الكبرى الخالدة ألا وهي "القرآن الكريم" مشيراً إلى بعض وجوه الإعجاز فيه، ثم ذكر بعض المعجزات الحسية التي وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم كتكثير الطعام وزيادة الماء ونبعه من بين أصابعه، وكلام الذئب عنه، وشهادته له بالرسالة وإخبار الذراع له بأنها مسمومة، وانشقاق القمر، ومجيء الشجر إليه وانصرافه بأمره، وإخباره ببعض الغيبيات التي يطلعه الله عليها لمصلحة الدعوة والرسالة كما أشار إلى عصمة الله لنبيه حتى بلغ الرسالة وأوضح الحجة وأقامها على العباد، ولم يؤخر بيان ما أمر به عن وقت الحاجة. ثم أشار الأشعري إلى اتفاق السلف على ما سبق ذكره من حدوث العالم وتوحيد محدثه، والإقرار بصفاته ورد جميع الأمور إليه، وسيأتي ذكر ذلك بتفصيل في الباب الذي عقده لهذا الغرض, كما ذكر أن السلف تمسكوا بما جاءهم من الوحي، ولم يكلفوا أنفسهم البحث إلا فيما يجِّد من الحوادث التي تقع بينهم، وتتطلب الاجتهاد، كما قطعوا عذر من جاء بعدهم بنقلهم الكتاب والسنة إليهم، كما بلغهم إياها الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الصدق والأمانة، كما هو معلوم عند أهل النقل من المحدثين والفقهاء. ثم قرر أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي أوضح في الدلالة والحجة والبرهان، بخلاف ما استدل به الفلاسفة ومن سلك مسلكهم من أهل البدع المنحرفين عن التمسك بالسنن والآثار، وخاصة فيما ذهبوا إليه من القول بالجوهر والعرض لإثبات حدوث العالم، وقرر الأشعري أنها طريقة مخالفة لطريقة الأنبياء، وفيها من الخفاء والغموض ما يجعلها عاجزة عن إقامة دليل على هذه القضية، ومن هنا تمسك سلفنا الصالح بما جاء به الوحي، وأعرضوا عن كل طريق يخالفه، واحتاطوا في نقل الرواية عن

_ 1 الأنبياء آية: (22) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتثبت من عدالة الرواة، والسفر الطويل إلى المكان البعيد حرصاً على معرفة الحق من وجهه، وطلباً للأدلة الصحيحة فيه. كما حفظ الله كتابه من أن تمتد إليه يد التحريف أو التبديل، وبذلك حفظ الله دينه وأتم على العباد نعمته، ومن هنا يجب أن تختفي كل ملامح الفلسفات والبدع المحدثة من أهل الأهواء، لأنها لا مجال لها مع البيان والبرهان الساطع، ولم ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه إلا بعد إرسائه لقواعد الدين، وتركه رجالاً تعلموا الكتاب والسنة، وكانوا على خير هدي وأحسن طريق؛ ولذلك عقد الأشعري باباً ذكر فيه معتقد هؤلاء الأخيار وما أجمعوا عليه من أصول الدين والتي بلغت في عدّه لها واحداً وخمسين إجماعاً، وهي على الترتيب كما يلي: الإجماع الأول: ويشتمل على نقطتين: الأولى: إثبات حدوث العالم، وأنه وجد بعد أن لم يكن موجوداً. الثاني: إثبات الأسماء الحسنى والصفات العلا للذات العلية مع ذكر بعض الصفات. الإجماع الثاني: بيان أن إثبات الأسماء والصفات لا يقتضي مشابهة المخلوق للخالق، كما أشار إلى حدوث العالم. الإجماع الثالث: يذكر الأشعري في هذا الإجماع بعض صفات الله عز وجل ويبين أن هذه الصفات كما تطلق على الخالق، فهي تطلق على المخلوق، ولا يقتضي مجرد الاشتراك في الاسم المشابهة بين الله وبين خلقه، وهذا واضح للغاية. الإجماع الرابع: ذكر أيضاً بعض الصفات، ثم ذكر أن صفات الله أزلية قديمة ليس شيئاً منها محدثاً، فالله بصفاته وذاته إله واحد فكما أن ذاته قديمة فكذلك صفاته كلها قديمة. الإجماع الخامس: يدخل الأشعري في هذا الإجماع في نقاش طويل مع المعتزلة ويغلب على كلامه النزعة الكلامية، لأنه يخاطب أهل الكلام، وكان أحياناً يستعمل بعض الألفاظ التي كان السلف لا يستعملونها، وذلك كلفظ الجسم مثلاً، وخلاصة ما ذكره في هذا الإجماع هو، قوله للمعتزلة أنتم تثبتون الأسماء دون الصفات، والأسماء مشتقة من الصفات فكيف تثبتون المشتق دون المشتق منه؟. الإجماع السادس: يثبت فيه صفة الكلام لله عز وجل ويستدل على ذلك بأدلة من القرآن وبقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإقرار الصحابة له.

الإجماع السابع: يثبت فيه صفة السمع والبصر لله عز وجل، ثم يتكلم عن ثبوت صفة اليدين للذات العلية، وأبطل حجة من زعم أن اليد بمعنى النعمة. الإجماع الثامن: يذكر فيه الإجماع على مجيء الرب عز وجل يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده مستنداً في ذلك إلى ما جاء في القرآن الكريم، ثم ينتقل إلى ذكر إجماع السلف على نزول الرب عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا مستنداً في ذلك إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول. الإجماع التاسع: يستهل الأشعري هذا الإجماع بالكلام على صفة الرضا والغضب، إلا أن كلامه عنهما ليس صريحاً في إثباتهما، ثم انتقل إلى الكلام على استواء الله على عرشه مستدلاً بآيات الكتاب العزيز، كما أبطل قول من زعم أن الاستواء هو الاستيلاء، وبين وصرح أن علوه على عرشه حقيقة مع ثبوت معيته لعباده بالعلم والإحاطة، كما تعرض للكرسي الثابت بالقرآن والسنة. الإجماع العاشر: تأكيد لما سبق ذكره في الإجماع الثاني من إثبات الصفات دون تشبيه أو تكييف. الإجماع الحادي عشر: تكلم فيه عن رؤية المؤمنين لربهم في يوم القيامة مستدلاً بالقرآن والسنة، كما رد على المانعين للرؤية وأبطل حجتهم التي ذهبوا إليها. الإجماع الثاني عشر: رد على المعتزلة القائلين بوجوب فعل الأصلح على الله عز وجل، وأنه لم يضل الكافرين. الإجماع الثالث عشر: رد على المعتزلة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين وبين أن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح مثله، وقد بينت في التحقيق هناك حقيقة وقفة السلف في هذه القضية. الإجماع الرابع عشر: تكلم فيه عن التسليم والرضا بقضاء الله وقدره في الواجبات والمنهيات الشرعية. الإجماع الخامس عشر: نص فيه على أن الله سبحانه وتعالى عادل في جميع أفعاله وأحكامه. الإجماع السادس عشر: تكلم فيه عن تقدير الله وكتابته لما هو كائن إلى يوم الدين. الإجماع السابع عشر: عن تقسيم الله لخلقه في الأزل فرقتين. الإجماع الثامن عشر: متفرع عما قبله من إجماعات سبقت حول القضاء والقدر.

الإجماع التاسع عشر: إثبات أن الله خالق لجميع الحوادث، ولا خالق لها غيره من القرآن. الإجماع العشرون: الإشارة إلى أسباب الهداية والضلال. الإجماع الحادي والعشرون: إثبات الغنى المطلق لله عز وجل، وحاجة العباد جميعاً إليه. الإجماع الثاني والعشرون: إثبات أن الإنسان لا يفعل شيئاً إلا بتقدير الله له وعلمه إياه. الإجماع الثالث والعشرون: الإشارة إلى أن الله كلف العباد جميعاً الإيمان به وزودهم بطرق المعرفة المؤدية إلى ذلك، ومنها بعثة الرسل عليهم السلام. الإجماع الرابع والعشرون: بيان أن من ترك طريق الهداية وسار في طرق الضلالة أنه من الآثمين المذمومين. الإجماع الخامس والعشرون: بيان أن الكفار اختاروا لأنفسهم طريق الكفر، ولو كرهوه لآمنوا، ولكنهم أعرضوا عن الإيمان فوقعوا في الكفر. الإجماع السادس والعشرون، والسابع والعشرون: بيان أن الله سبحانه وتعالى أقدر العباد بقدرة قبل الفعل بها كان الأمر والنهي، كما أن لكل فعل قدرة أخرى تخصه عند القيام بالفعل المعين. الإجماع الثامن والعشرون: إثبات أن جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ولا يخرج شيء في ملكه عن علمه وإرادته. الإجماع التاسع والعشرون: بيان أن الله يتفضل على بعض خلقه فيشرح صدورهم للإسلام، ولا يتفضل على آخرين فيحدث العكس، وأنه سبحانه لا يجب عليه فعل الأصلح لعباده. الإجماع الثلاثون والحادي والثلاثون والثاني والثلاثون: هذه الإجماعات الثلاثة متفرعة عما قبلها فيما يختص بالقضاء والقدر. الإجماع الثالث والثلاثون: يحذر من الاعتراض على حكم الله تعالى وإرادته وأن من فعل ذلك صار متبعاً لإبليس - عليه لعنة الله -.

الإجماع الرابع والثلاثون: نص فيه على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لأمته أصول الدين وفروعه مع الاستشهاد بحديث سؤال جبريل. الإجماع الخامس والثلاثون: ذكر إجماع السلف على أن الإيمان يزيد وينقص. الإجماع السادس والثلاثون: بيان أن المؤمن لا يخرج بمعاصيه عن الإيمان كما رد على المخالفين في ذلك بأدلة من القرآن الكريم. الإجماع السابع والثلاثون: متفرع عما قبله. الإجماع الثامن والثلاثون: الإيمان بالكرام الكاتبين. الإجماع التاسع والثلاثون: نص الأشعري في هذا الإجماع على كثير من الأمور الغيبية التي يجب التسليم بها، وذكر منها عذاب القبر وسؤاله وفتنته والصور والنفخ فيه، وإعادة الناس بعد النفخ للحساب والجزاء، ونصب الموازين لوزن الأعمال وإخراج الصحف التي كتبتها الملائكة. الإجماع الأربعون: الإيمان بالصراط، وأنه جسر ممدود على ظهر جهنم. الإجماع الحادي والأربعون: وجوب الاعتقاد بأن الله لا يخلد في النار من كان في قلبه شيء من الإيمان. الإجماع الثاني والأربعون: الإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وكذلك حوضه الذي يشرب المؤمنون منه، والإيمان بإسرائه وعروجه صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإيمان بأشراط الساعة كما ورد في القرآن والسنة. الإجماع الثالث والأربعون: وجوب الإيمان والتصديق بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه، والعمل بمحكمه والإيمان بنص متشابهه. الإجماع الرابع والأربعون: تكلم فيه عن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الإجماع الخامس والأربعون: تكلم فيه عن طاعة أئمة المسلمين في غير معصية ونهى عن الخروج عليهم بالسيف، وأوجب أداء الفرائض معهم، كما نهى عن الصلاة خلف من يكفر ببدعته. الإجماع السادس والأربعون: بيان أن خير القرون هو قرن الصحابة، وعلى أنهم جميعاً عدول، وأن خلافتهم جميعاً صحيحة، وواقعة حسب ما يرضاه الله سبحانه وتعالى.

الإجماع السابع والأربعون: أكد ما أشار عليه في الإجماع السابق، وذكر تعريف الصحابي وما ناله من فضل على من جاء بعده لتشرفه برؤية النبي صلى الله عليه وسلم وصحبته. الإجماع الثامن والأربعون والتاسع والأربعون: أوجب الكف عن ذكر الصحابة بسوء، وذكر أنهم من خيار الناس، وينبغي أن تنشر محاسنهم وأن تحمل أفعالهم على أفضل المخارج مؤكداً فضلهم على من بعدهم بشهادة القرآن والسنة. الإجماع الخمسون: نص على إجماع السلف على ذم المبتدعة، والتبرى منهم وعدم الاختلاط بهم وذكر منهم الروافض والخوارج والمرجئة والقدرية. الإجماع الحادي والخمسون: تأكيد لما سبق ذكره في الإجماع السابق مع النص على وجوب تقديم النصح للمسلمين.

المبحث الثالث: سبب تأليفه

المبحث الثالث: سبب تأليفه لقد ذكر لنا الأشعري نفسه سبب تأليفه لهذا الكتاب، وذلك أن أهل الثغر بباب الأبواب، أرسلوا إليه يسألونه عن مذهب أهل الحق في أصول الدين، وما كان عليه سلف هذه الأمة، فكتب لهم هذا الكتاب مجيباً لهم عما سألوه وكان ذلك سبب تأليفه له. وأما باب الأبواب فقد قال فيه الاصطخري: "إنه مدينة ربما أصاب ماء البحر حائطها وفي وسطها مرسى السفن، وهذا المرسى من البحر قد بني على حافتي البحر سدين، وجعل المدخل ملتوياً، وعلى هذا الفم سلسلة ممدودة فلا مخرج للمركب ولا مدخل إلا بإذن، وهذان السدان من صخر ورصاص. وباب الأبواب على بحر طبرستان، وهو بحر الخزر … وهي محكمة البناء موثقة الأساس من بناء أنو شروان، وهي أحدث الثغور الجليلة العظيمة؛ لأنها كثيرة الأعداء الذين حفوا بها من أمم شتى وألسنة مختلفة وعدد كثير … وكانت الأكاسرة كثيرة الاهتمام بهذا الثغر لا يفترون عن النظر في مصالحه لعظم خطره وشدة خوفه1. وقال بدوي: "باب الأبواب: هو ممر وحصن في الطرف الشرقي من القوقاز في دربند الفارسية، وسمي في العصر الحديث "باب الحديد" أو "الباب الحديدي"، والأبواب: هي مخارج الأودية في شرقي القوقاز"2.

_ 1 انظر: معجم البلدان 1/303. 2 انظر: مذاهب الإسلاميين 1/521.

المبحث الرابع: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف

المبحث الرابع: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف هذا الكتاب وهو رسائل الثغر ثابت النسبة قطعاً للأشعري، وذلك من عدة طرق: أولاً: أن ابن عساكر ذكرها في كتابه التبيين مستدركاً على ثبت ابن فورك الذي ذكر مؤلفات الأشعري1. ثانياً: اعتمد عليها ابن تيمية كثيراً وذكر نسبتها إلى الأشعري في أكثر من كتاب له، كما نقل في كتابه القيم "درء تعارض العقل والنقل" ما يقرب من نصف هذا الكتاب، وقد راجعت ما نقله ابن تيمية فوجدته يطابق ما في رسائل الثغر2، وهذا يدل على أن ابن تيمية وقف عليها ونقل منها، وهو معروف بالأمانة والإنصاف لدى أعدائه وخصومه قبل أصدقائه، وهذا من أقوى الأدلة على صحة نسبة الرسالة للأشعري. ثالثاً: أشاد بها ابن القيم في نونيته واستند إلى صحة عقيدة الأشعري بما جاء فيها وفي غيرها من كتبه فقال: وكذا علي الأشعري فإنه ... في كتبه قد جاء بالتبيان من موجز وإبانة ومقالة ... ورسائل للثغر ذات بيان وأتى بتقرير استواء الرب فو ... ق العرش بالإيضاح والبرهان وأتى بتقرير العلو بأحسن ... التقرير فانظر كتبه بعيان3

_ 1 انظر: تبيين كذب المفتري ص136. 2 انظر: نص ما نقله ابن تيمية من رسائل الثغر في هذا الكتاب 7/186 - 219 بتحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، وهو يقابل ورقة 2/ أ - 17/ أمن النسخة الأصلية، وصفحة 1 - 9 من النسخة التركية. 3 انظر: نونية ابن القيم ص69، 70.

رابعاً: ذكرها فؤاد سزكين ضمن مؤلفات الأشعري تحت عنوان: "رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب"، وقال عنها: "مخطوطة بمكتبة ريفان كشك 510/10 (من 88 أ - 98 أ، 1084) "نشرها قوام الدين في مجموعات الكلية الإلهيات باستنبول"1، وهذه المخطوطة قامت الجامعة الإسلامية بتصويرها وضمها إلى مكتبتها، وهي نسخة ثانية اعتمدت عليها في تحقيق هذا الكتاب، ولم يشر فؤاد سزكين إلى النسخة الأولى التي اعتمدت عليها في التحقيق ولعله لم يقف عليها وهي موجودة بالهند. خامساً: يلاحظ أن أسلوب الأشعري في كتابه هذا هو نفس أسلوبه في كتبه التي بين أيدينا الآن، وخاصة إذا قورن بكتابه اللمع، وقد أشرت إلى ذلك في التحقيق. كما أن الأدلة التي يسوقها لإثبات قضية معينة هي نفس الأدلة في الغالب التي يسوقها في كتابه الإبانة ومقالات الإسلاميين. وبهذا أمكننا القطع بأن هذه الرسالة من تأليف الأشعري نفسه، ولا يمكن أن يكون غير هذا. بقي شيء مهم جداً ينبغي أن نناقشه هنا وهو: أنه ورد في هذه الرسالة تاريخ يثبت أن هذه الرسالة كتبت بعده بعام وهذا التاريخ محدد بعام سبع وستين ومائتين، ومعنى ذلك أن الأشعري كتب رسالته هذه في عام ثمانية وستين ومائتين في حين أنه ولد عام ستين ومائتين، وبذلك لا يمكن أن يكون قد كتب هذه الرسالة بناء على هذا التاريخ إن صح. والواقع أن هذا التاريخ خطأ يقيناً، وقد تعرض المستشرق "آلار" لهذه الرسالة كما ذكر الدكتور بدوي2، وتناول موضوعها، كما تعرض للتاريخ المثبت عليها، وذكر أن هناك حججاً تؤيد نسبتها إلى الأشعري وأخرى تنفيها. فمما يؤيد نسبتها إليه أن ابن عساكر ذكرها في ثبته الذي استدرك به على ابن فورك والأشعري، ثم المواضع المتناطرة بين اللمع والرسالة، والاتفاق عموماً في المذهب الوارد في الرسالة مع مذهب الأشعري. ومما ينفي نسبتها إليه هذا التاريخ المثبت عليها وهو عام سبع وستين ومائتين، ثم عدم ورود إشارة فيها إلى آراء المعتزلة، ثم التحفظ في تقرير الموقف للقول بأن القرآن

_ 1 انظر: تاريخ التراث العربي 2/376. 2 انظر: كتابه مذاهب الإسلاميين 1/522، 523.

قديم غير مخلوق، كما ذكر "آلار" أن الأشعري كتب هذه الرسالة قبل تركه لمذهب المعتزلة بوقت قليل، ولم يكن قد قطع صلته نهائياً بشيوخه المعتزلة. ومع ذلك فقد قرر "آلار" بأنه يميل إلى القول بصحة نسبة هذه الرسالة للأشعري ويفسر التاريخ المذكور بأنه ربما ورد محرفاً وصوابه عام سبع وتسعين ومائتين. وقد تعرضت الدكتورة فوقية1 لرأي "آلار"، وناقشته فيما ذهب إليه منه، وأزيد ذلك وضوحاً فأقول في الرد على النقاط التي ذكرها "آلار" ما يلي: الأمر الأول: أن التاريخ المذكور في هذه الرسالة لعله من وضع أشعري متأخر يخالف عقيدة شيخه التي كان عليها، أو من وضع معتزلي أراد أن يموه على الناس وينفي هذه العقيدة عن الأشعري. أما الاحتمال الذي ذكره "آلار" وهو أن التاريخ ورد محرفاً وصوابه عام سبع وتسعين ومائتين فلا أميل إليه؛ وذلك أن الأشعري لم يكن في هذه الفترة رجع إلى عقيدة السلف حتى يكتب فيها، ولم يكن وقتئذ مشهوراً كإمام من أئمة أهل السنة حتى يرسل إليه أهل باب الأبواب من مكان بعيد يسألونه عن أصول اعتقاد أهل السنة. ووجود هذا التاريخ على الرسالة لا ينفي نسبتها إلى الأشعري لما يمكن أن يرد عليه من احتمالات، ثم إن ما ذكرته في صحة نسبتها إلى الأشعري يقطع بخطأ هذا التاريخ ويؤكد صحة نسبتها إليه. الأمر الثاني: أما قول "آلار" بأن الرسالة لم يرد فيها إشارة إلى آراء المعتزلة، وعليه فليست من وضع الأشعري. فأقول: إن الأشعري هنا في هذه الرسالة بالذات بعيد كل البعد عن الاحتكاك بالمعتزلة، أو الخوض معهم في مناقشات جدلية؛ وذلك أنه بصدد الإجابة على سؤال محدد وهو بيان اعتقاد أهل السنة، وعليه فلا داعي مطلقاً لإقحام المعتزلة هنا، كما أن في هذه الرسالة رداً على آراء المعتزلة في العقيدة بإثبات عقيدة السلف أهل السنة والجماعة، وكان أحياناً يدخل معهم في مناقشات كما جاء ذلك في الإجماع الثالث والخامس من هذه الرسالة.

_ 1 انظر: مقدمة تحقيقها لكتاب الإبانة ص71، 72.

الأمر الثالث: أما قوله بأن الأشعري كان متحفظاً في القول بأن القرآن قديم غير مخلوق. فأقول في الرد عليه ما يلي: يظهر لي جلياً بأن "آلار" لم يستوعب موضوعات الرسالة كلها قراءة، أو طاش بصره عن هذه النقطة بسبب ما قاله عنها وذلك أن الأشعري قرر في هذه الرسالة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وكلامه فيها صريح وواضح، وقد سار في إثبات هذه القضية على مذهب من تقدم من سلف هذه الأمة كالإمام أحمد والبخاري رحمهم الله جميعاً، وتأمل قول الأشعري في الإجماع السادس: "وأجمعوا على أنّ أمره عز وجل وقوله غير محدث ولا مخلوق وقد دل الله تعالى على صحة ذلك بقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} ففرق تعالى بين خلقه وأمره، وقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} "… إلى غير ذلك مما ذكره الأشعري في هذه الرسالة مستدلاً به على أن القرآن كلام الله غير مخلوق. الأمر الرابع: ذكر "آلار" أن الأشعري كان معتزلياً وقت كتابة هذه الرسالة، ولم يقطع صلته بشيوخه من المعتزلة، وهذا مخالف تماماً لما جاء في هذه الرسالة التي تخالف مذهب الاعتزال وتبعد عنه كل البعد، ويكفي للتأكد من أن هذه الرسالة صدرت من الأشعري بعد رجوعه إلى مذهب السلف وتركه الاعتزال ما جاء فيها من رد على المعتزلة كما ذكرت سابقاً، ثم ذكره لإجماع السلف على أصول الدين وإثباته لحقيقة صفات الرب عز وجل كما جاء ذكرها في القرآن والسنة وإبطاله لشبه المعتزلة التي كانت تؤول الصفات بها، وكذلك قوله في مرتكب الكبيرة وإثباته للشفاعة وغير ذلك من الأمور السمعية التي ورد بها نص. الأمر الذي يجعلنا نقطع بأن هذه الرسالة لا تصدر إلا من رجل سلفي العقيدة بعيد عن غيرها. وبما تقدم ذكره أقول: "إنه لا وجه إذاً للاعتراضات التي ذكرها "آلار" في نفي نسبة هذه الرسالة للأشعري، ولم يبق أمامنا إلا القطع بصحة نسبة الرسالة إليه، وهو ما مال إليه "آلار" ورجحه كما سبق كلامه في ذلك"1.

_ 1 انظر: ص108 من هذه الرسالة.

المبحث الخامس: قيمته العلمية

المبحث الخامس قيمته العلمية تظهر قيمة هذا الكتاب العلمية في أنه صدر من الأشعري الذي ينتسب الناس في معظم أقطار الدنيا إليه، فشخصيته مشهورة لها مكانتها في دنيا الناس، ثم هو يكتب في أهم أصول الدين، ويذكر ما كان عليه سلف هذه الأمة، وما تلقوه من الرسول صلى الله عليه وسلم وساروا عليه، ولم يكتبه بصورة تاريخية خاطفة، وإنما ذكر علماً عقد له باباً فقال: "باب ذكر ما أجمع عليه السلف من الأصول التي نبهوا بالأدلة عليها وأمروا في وقت النبي صلى الله عليه وسلم بها"، ثم ساق واحداً وخمسين إجماعاً في ذلك، جمع فيها الكلام على الذات الإلهية، وما ينبغي لها من صفات الجلال والكمال، ثم تكلم عن الأمور الغيبية بتفصيل، ثم ذكر موقف أهل السنة من الخلاف الذي وقع بين الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين -، وموقفهم من أهل البدع والمخالفين. كما قرر صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وبين أن أسلم الطرق هو الطريق الذي رسمه ووضعه لأمته، وأن الخروج عليه خروج عن الحق والدليل. كما تطرق إلى طريقة الفلاسفة والمتكلمين وإلى مسلكهم في إثبات حدوث العالم، وبين أن طريقتهم فيها من الخفاء والغموض ما يجعلها عاجزة عن إقامة دليل على هذه القضية. ومن هنا كان الكتاب جامعاً لعقيدة السلف، متطرقاً لمعظم ما كان عليه الصدر الأول، ومرجعاً لمن أراد الوقوف على عقيدة السلف وما أجمعوا عليه في الصدر الأول مؤيداً بالقرآن والسنة.

المبحث السادس: نقد الكتاب

المبحث السادس: نقد الكتاب من المعلوم أنه لا يخلو عمل البشر من نقص فالكمال لله وحده، وليس معنى الإقدام على نقد كتاب لأحد العلماء إخلال بمكانته أو قدره، أو أن الناقد أعلى منه وأرفع وقد يكون ما يراه الناقد خطأ هو الصواب وهو لا يدري. والملاحظات التي رأيتها على هذا الكتاب مرجعها إلى أطوار المؤلف المختلفة التي عايشها، وهي في جملتها قليلة إذا قورنت بما فيها من حق وخير، وهي كما يلي: 1- ميول الأشعري في هذه الرسالة إلى النزعة الكلامية التي ورثها من المعتزلة. 2- استعماله لبعض الألفاظ التي لم يستعملها السلف، لا إثباتاً ولا نفياً، وذلك فيما يتعلق بالذات الإلهية كنفي لفظ الجسم، والجوهر، والحركة وغير ذلك1. 3- لم يكن صريحاً في بعض المواقف وهو يتكلم عن الصفات وذلك كما فعل في صفة الرضا والغضب. 4- كان أحياناً لا يجمع الكلام على المسألة الواحدة في مكان واحد، ونتج عن ذلك تكراره لما سبق أن ذكره كما فعل في الكلام عن مسألة القضاء والقدر في مواطن مختلفة. هذا ما وقفت عليه في هذه الرسالة من مآخذ على الأشعري، والله يوفقنا للحق والصواب

_ 1 انظر الإجماع الخامس والثامن.

الفصل الثاني: وصف المخطوطة

الفصل الثاني: وصف المخطوطة المبحث الأول: عدد نسخ المخطوطات ... المبحث الأول: عدد نسخ المخطوطة هذه المخطوطة لها نسختان: إحداهما: نسخة في مكتبة ريفان كشك بتركيا ضمن مجموعة تحت رقم 510، وهي التي ذكرها فؤاد سزكين في كتابه1، ومنها نسخة مصورة بمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية تحت رقم 105 توحيد، كما صورت منها الجامعة الإسلامية نسخة وهي بمكتبتها تحت رقم 116 مكبرة. وناسخها هو: علي بن محمد بن أحمد الحراني الحنبلي عام 1084هـ، ولم أقف له على ترجمة. وقد نشر قوام الدين هذه الرسالة في "مجموعة كلية الإلهية" ج7/154 وما يتلوها، وج8/50 وما يتلوها عام 1928م معتمداً على هذه النسخة، كما نشرت في مجلة الفنون باستنبول2. وثانيهما: نسخة بمكتبة الجامعة العثمانية، بالهند، تحت رقم 41/297، وهذه هي التي كتب عليها ناسخها "كتاب الأصول الكبير" للشيخ الأشعري، وقد قامت الجامعة الإسلامية بتصوير هذه النسخة وجعلتها ضمن مكتبتها تحت رقم 725 ميكروفيلم. وناسخها هو: أحمد سعيد الذي كان يملك نسخة منها كما ذكر، ولم أقف له على ترجمة، كما لم يتبين لي تاريخ النسخ، ولم يشر الناسخ إلى شيء من ذلك.

_ 1 انظر: تاريخ التراث العربي 2/376. 2 انظر: تاريخ التراث العربي 2/376، ومذاهب الإسلاميين 1/521، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية - تعليق المحقق 7/186.

المبحث الثاني: وصفها

المبحث الثاني: وصفها أولاً: النسخة التركية: وتقع في عشرين صفحة، وعدد الأسطر في كل صفحة يتراوح بين واحد وثلاثين سطراً إلى ثلاثة وثلاثين، وقد كتبت بخط دقيق وصغير جداً. وفيها بعض الأخطاء، وكذلك عدم وضوح لبعض الكلمات، كما أن الناسخ كان يترك كثيراً وضع النقاط والهمزات، كما وقع في بعض الأخطاء اللغوية. ثانياً: النسخة الهندية: وتقع في أربعين ورقة، وعدد الأسطر في كل صفحة اثنا عشر سطراً، وقد كتبت بخط فارسي كبير وواضح، وهي أدق من النسخة الأولى، وليس بها أخطاء كثيرة، وقد اعتنى الناسخ بوضع النقاط والهمزات وعنده بعض الأخطاء اللغوية.

المبحث الثالث: النسخة الأصل وسبب اختيارها

المبحث الثالث: النسخة الأصل وسبب اختيارها لقد اعتمدت في التحقيق على النسخة الهندية، واعتبرتها أصلاً في تحقيق هذه الرسالة، وإن لم نعرف تاريخ نسخها وذلك للاعتبارات التالية: 1- وضوح خطها وسهولة قراءته. 2- قلة الأخطاء الواقعة فيها إذا قورنت بالنسخة الأخرى، ويبدو أن ناسخها وقف على أصل جيد مصحح، فجاء النص عنده سليماً غالباً بخلاف الأخرى. ولهذه الأسباب اخترت هذه النسخة لتكون أصلاً في تحقيق النص، واعتبرت النسخة التركية نسخة ثانوية قابلت بينها وبين النسخة الأصلية وأشرت إليها في التحقيق بحرف "ت" إشارة إلى أول حرف للبلد الموجودة فيه، وهي تركيا.

المبحث الرابع: عملي في الكتاب

المبحث الرابع: عملي في الكتاب لقد اجتهدت حسب الوسع والطاقة في خدمة هذا الكتاب وإخراجه للناس بهذه الصورة، يتلخص عملي في التحقيق في الخطوات التالية: 1- ترقيم الآيات القرآنية وذكر السورة التي وردت فيها. 2- تخريج الأحاديث النبوية بذكر أهم أماكن وجودها. 3- المقابلة بين نسختي المخطوطة، وذكر الفروق الواقعة بينهما، كما قابلت بين الجزء الذي نقله ابن تيمية من هذه الرسالة في كتابه "درء تعارض العقل والنقل"، وبين النسختين اللتين عندي. 4- خدمة النص: سبق أن قلت في التعريف بنسخ المخطوطة، أن النسختين لم تسلما من الأخطاء، واحتاج ذلك إلى أن أقوم بالتحري والتثبت في كتابة النص الصحيح الذي به يستقيم المعنى وتصلح العبارة، كما قمتُ بتصويب الأخطاء اللغوية فيهما. ووضعت الصواب بين معقوفتين في الأصل وأشرت إلى ذلك في الحاشية. 5- الإشارة إلى أماكن وجود النص في الكتب اللاحقة. 6- رقمت الإجماعات التي ذكرها الأشعري عن السلف، والتي بلغت واحداً وخمسين إجماعاً. 7- لسهولة الرجوع إلى أصل المخطوطة وضعت أرقام صفحات المخطوطة على هامش التحقيق وأشرت إلى الوجه الأول من الورقة بحرف "أ" وإلى الوجه الثاني بحرف "ب". 8- في الجزء الذي ذكره الأشعري لبيان إجماع السلف في أصول الدين ذكرت من تقدم الأشعري ومن جاء بعده من أئمة أهل السنة الذين وافقوه في هذا الإجماع لتثبيته، ولبيان أن ما ذكره الأشعري هو حقيقة إجماع السلف، وفي بعض المواطن - وخاصة النواحي الكلامية - كنت لا أجد لمن سبق الأشعري كلاماً فيها، فاعتمدت فيها على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إن كان له فيها كلام.

ولقد وضعت بين يدي مجموعة من كتب السلف التي اعتمدت عليها في بيان صحة ما ذكره الأشعري عن السلف وأهمها ما يلي: 1- كتاب الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد بن حنبل. 2- رسالة السنة للإمام أحمد بن حنبل. 3- كتاب السنة للإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل. 4- الرد على الجهمية للإمام عثمان بن سعيد الدارمي. 5- رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد. 6- كتاب السنة للإمام عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني. 7- كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل لابن خزيمة. 8- كتاب الشريعة للإمام محمد بن الحسين الآجري. 9- كتاب أصول السنة لأبي عبد الله محمد بن أبي زمنين المالكي. مخطوطة مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية تحت رقم 18631. 10- كتاب الإيمان لابن مندة. 11- كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم. للإمام هبة الله بن الحسن ابن منصور الطبري اللالكائي. 12- عقيدة السلف وأصحاب الحديث للحافظ الصابوني. 13- مختصر العلو للعلي الغفار للحافظ الذهبي وباختصار الألباني. 14- كتب شيخ الإسلام ابن تيمية المختلفة والمذكورة ضمن قائمة المراجع ومشار إليها في مواطنها. 15- كتب تلميذه الإمام ابن القيم المذكورة في المراجع. 16- شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي. 17- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية. لمحمد أحمد السفاريني. هذا إلى جانب الكتب التي اعتمدت عليها عرضاً في التحقيق ومشار إليها في مواطنها.

_ 1 يقوم الآن أحد طلاب شعبة العقيدة بالجامعة الإسلامية بتحقيقها.

نص الكتاب

نص الكتاب ... في هذه الصفحة يوجد رسم الخريطة

نص الكتاب " بسم الله الرحمن الرحيم " قال السيد الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي1 بشر الأشعري البصري - رحمه الله -: الحمد لله الذي حبب إلينا التمسك بالسنن2 الهادية وجنبنا سبل البدع3 المردية، وكنف4 قلوبنا بثلج5 اليقين، وأعزنا بسلطان الدين، وجعلنا لرسوله6 صلى الله عليه وسلم متبعين وبإمامته معتصمين، ووهب لنا من أنس الجماعة7 ما زالت به عنا8 وحشة الشذوذ والبدع.

_ 1 في (ت) ابن علي بن بشر، والصواب ما ذكر في النسخة التي اعتمدت عليها، وقد استوفيت ترجمته في المقدمة. 2 السنن: جمع سنة، وتطلق على ما يقابل البدعة، ولها تعريفات متنوعة عند الفقهاء والأصوليين والمحدثين. انظر كلاماً جامعاً في ذلك في كتاب "البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها" للدكتور عزت عطية ص119 طبعة دار الكتب الحديثة بالقاهرة. 3 البدع: جمع بدعة، ومن أحسن التعريفات التي وقفت عليها لتحديد معنى البدعة ما ذكره ابن رجب الحنبلي في قوله: "والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً، وإن كان ببدعة لغة". انظر: جامع العلوم والحكم ص252 مطبعة الحلبي بالقاهرة 1347هـ. والمراد بما كان له أصل من الشرع يدل عليه، ما كان له مستند شرعي وذلك مثل جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس على إمام واحد في رمضان فلقد فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال، وكذلك جمع المصحف في كتاب واحد في عهد أبي بكر رضي الله عنه وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة الوحي، فلا فرق بين أن يكتب مفرقاً أو مجموعاً. 4 كنف هنا: بمعنى حفظ وستر، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما في النجوى: "يدني المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه" قال ابن المبارك: "يعني يستره". انظر في ذلك لسان العرب لابن المنظور 11/219 طبعة الدار المصرية للتأليف والترجمة، والقاموس المحيط 3/198 طبعة المؤسسة العربية للطباعة والنشر بيروت. 5 ثلجت: يعني اطمأنت، يقال ثلجت نفسي بالأمر: إذا اطمأنت إليه وسكنت، وثبت فيها، ووثقت به. لسان العرب 3/45، والقاموس المحيط 1/187. 6 في (ت) لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 7 المقصود بالجماعة: جماعة المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ومن المعلوم أن العدد في الجماعة لا عبرة له، بل المعتبر قيامهم بكتاب الله والسنة كيف كانوا وأين كانوا وقد ختم النبي صلى الله عليه وسلم حديثه الطويل الذي أخرجه مسلم من طريق ثوبان قوله: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى". قال ابن عبد الوهاب تعليقاً على هذا الحديث: "وفي الآية العظيمة أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم". انظر: تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد ص379 الطبعة الرابعة - المكتب الإسلامي عام 1400هـ. 8 ساقطة من (ت) .

حمداً1 نحوز فيه شرف طاعته، ونستمري2 به جميل مواهبه، وصلى الله على محمد نبيه3 الداعي إليه والسفير بيننا وبين الذي أيده الله عز وجل بآياته وقطع دواعي الشبه فيه لمعجزاته4 حتى أنهج السبيل إليه، ونبه على ما في أفعاله من وجود الأدلة عليه بأوضح بيان وأظهر برهان. حتى غاض5 الباطل خاسئاً حسيراً، وأضاء الحق غالباً منصوراً، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وعلا بالحجة6 صلى الله عليه وسلم 7. أما بعد: أيها الفقهاء والشيوخ من أهل الثغر8 بباب الأبواب9 حرسكم الله بسلطانه وأيدكم بنصره.

_ 1 لقد استهل الأشعري مصنفه بحمد الله كما رأينا سابقاً، وهنا أكد هذا الحمد مرة أخرى بقوله: "حمداً"، وهو بهذا يقدم بين يدي رسالته أجمل الثناء والتمجيد لربه عز وجل ليطلب بذلك مدده وتوفيقه. 2 أصل كلمة "نستمري" مرى - قال الكسائي: المري: الناقة التي تدر على من يمسح ضرعها، وقيل هي الناقة الكثيرة اللبن. انظر: لسان العرب 20/144، 145. والأشعري بهذا التعبير يطلب جميل مواهب الله ونعمائه عطاء بعد عطاء، وإمداد بعد إمداد دون توقف أو انقطاع. 3 في (ت) "سيد". 4 في (ت) "بمعجزاته" والمعجزة: أمر يظهر بخلاف العادة على يد مدعي النبوة مع تحديه قومه بها، ومع عجز قومه عن معارضته بمثلها على وجه يدل على صدقه في زمان التكليف. انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص344 طبعة دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت. وقد ذكر المصنف بعضاً من المعجزات الحسية كما سيأتي. كما تكلم عن المعجزات المعنوية الكبرى ألا وهي القرآن الكريم، وسيأتي الكلام على ذلك في حينه إن شاء الله تعالى. 5 غاض: معناها نقص، أو غار فذهب، والمغيض هو المكان الذي يغيض فيه الماء، وقال الكسائي في قوله تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} معناه: ما نقص الحمل عن تسعة أشهر، وقالت عائشة رضي الله عنها تصف أباها رضي الله عنه وغاض نبع الردة: أي أذهب ما نبع منها وظهر. انظر: لسان العرب 9/65. 6 لعل أنسب ما يقال في هذا المقام ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه". انظر: كتاب بدء الخلق باب 1، 4/73. وسيأتي مزيد تفصيل لذلك فيما يأتي - إن شاء الله تعالى -. 7 في (ت) صلى الله وسلم تسليماً. 8 الثغر من البلاد: الموضع الذي يخاف منه هجوم العدو، فهو كالثلمة في الحائط يخاف هجوم السارق منها، والجمع: ثغور مثل فلس فلوس. المصباح المنير ص81 نشر دار المعارف بالقاهرة. 9 انظر المقدمة لترى تعريفاً شافياً عن باب الأبواب وأهميته في ذلك الوقت واهتمام الأكاسرة به.

فقد وقفت على ما ذكرتموه في كتابكم الوارد عليّ بمدينة السلام1 من خير نعم الله عليكم، واستقامة أحوالكم، (فأسرني) 2 وكثر لله عز وجل شكري ورغبت إليه تعالى مجتهداً في تمام ما أولاكم وإسباغ نعمه علينا وعليكم، وهو تعالى ولي الإجابة وحقيق لجميل الموهبة3. ووقفت أيدكم الله على ما ذكرتموه من إحمادكم جوابي عن4 المسائل التي كنتم أنفذتموها إلي في العام الماضي، وهو سنة سبع وستين ومائتين5، ووقوع ما ذكرته لكم فيها الموقع الذي حمدتموه، وعرفتم وجه الصواب فيه6، وإعراضكم عمن ألقى تلك المسائل، واحتال في بثها عندكم7. وحمدت الله عز وجل على حراستنا وإياكم من شبه الملحدين8 في دينه، والصادين

_ 1 مدينة السلام: هي بغداد، ودار السلام: الجنة، ويجوز أن تكون سميت بذلك على التشبيه أو التفاؤل، لأن الجنة دار السلامة الدائمة، وقال ابن الأنباري: "سميت بغداد مدينة السلام لقربها من دجلة، ودجلة تسمى نهر السلام، ويوجد قصر بناه الرشيد بالرقة يسمى قصر السلام". انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي 3/233، نشر دار إحياء التراث العربي - بيروت. 2 في الأصل: "فأثرنى" وما أثبته من (ت) . 3 على الداعية المسلم أن يتأمل هذا الكلام جيداً، وأن يكون خير خلف لخير سلف، فالأشعري - رحمه الله - لما رأى من أتباعه استقامة على الحق الذي يدعو إليه سر بذلك، وازداد شكره لله عز وجل، ورغب إليه مجتهداً بتقديم الطاعات والمسابقة إلى فعل الخيرات لينال مطلوبه ويظفر بمقصوده، كما يتبين ذلك من كلامه. 4 في (ت) على. 5 الواقع أن هذا التاريخ خطأ يقيناً؛ لأن أبا الحسن الأشعري ولد عام ستين ومائتين، وقد بينت ذلك بتفصيل في المقدمة. 6 يبدو من هذا التعبير أن دعوة الأشعري - كما هي رائجة وشائعة الآن - كانت كذلك في عهده، وهذا واضح من ردهم عليه وحمدهم لأجوبته التي أرسلها من قبل، إلا أن شهرة الأشعري السابقة لأمثال هؤلاء كانت على معتقد صحيح، وعقيدة سلفية خالصة وذلك بعد تخلصه من عقائد المعتزلة والكلابية كما يظهر لنا في هذه الرسالة بخلاف أشاعرة اليوم الذين بقوا على المنهج الكلابي، ولقد أشرت إلى ذلك في المقدمة، وبينت أن هذا الأمر هو الذي دفعني إلى اختيار هذا الموضوع، والكتابة حول الرجل. 7 وهذا يفيد أن أهل الأهواء في كل زمان ومكان، يتلاعبون بعقائد المسلمين ويبتكرون في ذلك أساليب الحيل، ليخدعوا العامة والبلهاء، وغرضهم من ذلك واضح ومعروف، وهو الصد عن دين الله، وعن اتباع أنبيائه ورسله. 8 الإلحاد في اللغة: الميل عن القصد. وقال ابن السكيت: "الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس فيه، ويقال قد ألحد في الدين ولحد أي: حاد عنه". انظر: لسان العرب 4/393، 394.

عن اتباع رسله، وسألته أن يجعلنا وإياكم من المتمسكين بحبله1، والمقيمين على الوفاء بعهده2، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ووقفت على ما التمستموه من ذكر الأصول3 التي عول سلفنا4 رحمة الله عليهم عليها، وعدلوا إلى الكتاب والسنة من أجلها، واتباع خلفنا الصالح5 لهم في "ذلك"6. وعدولهم عما صار إليه (أهل) 7 البدع من المذاهب التي أحدثوها، وصاروا إلى مخالفة الكتاب والسنة بها8، وما ذكرتموه من شدة الحاجة إلى ذلك، فبادرت أيدكم الله

_ 1 الحبل: هو السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة، واختلف في المراد بحبل الله المذكور في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} فقيل هو الجماعة، وقيل القرآن، وقيل غير ذلك، وأنا أميل إلى أن المراد به هنا دين الله كله قرآناً وسنة، وهذا لا يتنافى مع من قال بأن المراد به القرآن؛ لأن القرآن أساس الدين، وقد ورد في المسند عن زيد بن ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض هو كتاب الله. (انظر: المسند 5/182) . وقال الهيثمي: "رواه أحمد وإسناده جيد". (انظر: مجمع الزوائد 9/163 نشر مكتبة القدس بالقاهرة عام 1353هـ) . 2 لعل المراد بعهد الله هنا هو: عبادة الله وعدم الإشراك به، ولقد أخذ الله عهداً وميثاقاً بذلك، قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ …} يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} . ثم ذكر حديث الصحيحين في أن كل مولود يولد على الفطرة (انظر تفسيره: 3/500، 5019) ، والحديث أخرجه البخاري من رواية أبي هريرة في كتاب الجنائز باب92ج2/104، ومسلم في كتاب القدر باب 6 ج4/2047، وفي مسند أحمد عن أنس ابن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي". المسند 3/127، وقد ساق ابن مندة في الرد على الجهمية روايات عديدة حول هذا المعنى. انظر: ص59 من الطبعة الأولى 1401هـ. 3 يطلب أهل باب الأبواب من الأشعري أن يذكر لهم أصول العقائد التي كان عليها السلف الصالح، وهذا يدل على أن الأشعري رجل سلفي كما ذكرت سابقاً. وثانيا: على أن هذا المصنف الجليل يحتوي على أصول الديانة التي كان عليها سلف هذه الأمة، وسيظهر ذلك بتفصيل إن شاء الله. 4 ترد هذه الكلمة كثيراً في هذا المصنف وغيره من كتب أهل السنة والجماعة والمقصود من كلمة السلف: ما كان عليه الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - وأعيان التابعين لهم بإحسان وأتباعهم، وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة وعرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلفاً عن سلف كالأئمة الأربعة، والسفيانين، والليث بن سعد، وابن المبارك، والنخعي، والبخاري، ومسلم وسائر أصحاب السنن دون رمي ببدعة، أو شهر بلقب غير مرضي مثل: الخوارج، والروافض، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والمعتزلة، وسائر الفرق الضالة، (انظر: العقائد السلفية لأحمد بن حجر آل بوطامي قاضي المحكمة الشرعية بقطر ص11 من الطبعة الأولى 1970م) . 5 الخلف الصالح: هم السائرون على منهج من سبقهم من السلف الصالح العاملين بالكتاب والسنة. 6 في الأصل "في الله" وما أثبته من (ت) . 7 ما بين المعكوفتين من (ت) . 8 ساقطة من (ت) . والأشعري يمدح السلف بانصرافهم إلى الكتاب والسنة في قوله: "وعدلوا إلى الكتاب والسنة"، كما أنهم حادوا عن طريق المبتدعة كما ذكر ذلك عنهم في قوله: "وعدولهم عما صار إليه أهل البدع".

بإجابتكم إلى ما سألتموه لما أوجبه من حقوقكم، والكرامة لكم، وذكرت لكم جملاً من الأصول مقرونة بأطراف من الحجاج تدلكم على صوابكم في ذلك1. وخطأ أهل البدع فيما صاروا إليه من مخالفتهم وخروجهم2 عن الحق الذي كانوا عليه قبل هذه البدع معهم، ومفارقتهم بذلك الأدلة الشرعية، وما أتى به3 الرسول عليه السلام منها4، ونبه عليها، وموافقتهم بذلك طرق الفلاسفة5 والصادين عنها والجاحدين لما أتت به الرسل عليهم السلام منها.

_ 1 يطالعنا الأشعري في مقدمته هذه المنهج الذي اتخذه طريقاً يسير فيه - بعد رجوعه عن الكلابية المعروفة اليوم بالأشعرية - يبني أسس العقيدة عليه، وهو الكتاب والسنة، وهذا أمر واضح جلي في مصنفاته التي صنفها بعد رجوعه عن الاعتزال، وتمسكه بالحق الذي هداه الله إليه، ولقد ذكر في مقدمة كتاب الإبانة أن الالتزام بالقرآن والسنة هو الحق الذي ينبغي أن لا يحيد عنه المسلم، وإلا فقد ضل وغوى، واسمع إليه وهو يقول عن القرآن الكريم: "… جمع فيه علم الأولين، وأكمل به الفرائض والدين، فهو صراط الله المستقيم، وحبله المتين، من تمسك به نجا، ومن خالفه ضل وغوى، وفي الجهل تردى، وحث الله في كتابه على التمسك بسنة رسوله عليه السلام فقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (انظر: الإبانة ص5 طبعة الجامعة الإسلامية 1389هـ) . والأشعري برده أصول الديانة إلى الخبر المنزل من عند الله قرآناً كان أو سنة يسير على منهج السلف - كما ذكرت سابقاً - وقد مكنه السير على هذا المنهج والتمسك به من الانتصار والغلبة على خصومه من مختلف المذاهب والطوائف. 2 في (ت) وخرجوهم. 3 ساقطة من (ت) . 4 في (ت) عليه الصلاة والسلام، ويلاحظ هذا الأمر متكرراً في النسخة من أولها إلى آخرها بحذف لفظ "الصلاة" من الأصل كما الآن، وثبوته في نسخة (ت) . 5 الفلسفة: الحكمة، وهي كلمة أعجمية. انظر: لسان العرب 11/180. والفلسفة كلمة يونانية، ومعناها عندهم: محبة الحكمة، والفيلسوف هو: فيلا وسوفا، وفيلا هو: المحب، وسوفا: الحكمة، أي هو محب الحكمة. (انظر: الملل والنحل للشهرستاني 2/62 مطبعة مخيمر الطبعة الثانية) . والفلاسفة جمع لكلمة فيلسوف، وهو العالم بالفلسفة. وقد ابتليت الأمة الإسلامية بمن سموا أنفسهم: فلاسفة المسلمين، وهم في الحقيقة طائفة خرجوا عن الحق واستبدلوا الوحي بالعقل، فضلوا وأضلوا، وقد اقتبسوا علومهم من الفلاسفة اليونانيين الوثنيين، وابن سينا نفسه وهو عميد الفلاسفة المسلمين كما يقولون، يؤكد هذا الأمر فيقول: "وكما كان المشتغلون بالعلم شديد الاعتزاز إلى المشائين من اليونانيين كرهنا شق العصا ومخالفة الجمهور" (انظر: كتاب تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص44 لمصطفى عبد الرزاق) . ولقد ذهب إلى هذا أيضاً الدكتور "حمدي حيا الله" وهو يعطينا صورة عن مضمون كتابه: (أثر التفلسف في الفكر الإسلامي) : "… وإنما قصدت بها - أي بصفحات كتابه - عرض التحريف المنهجي الذي أصاب الفكر الإسلامي باختلاطه بالفكر اليوناني الوثني على يد المتفلسفة من المتكلمين، أو استبداله كلية بالمنهج اليوناني على يد من يطلق عليهم فلاسفة الإسلام، أو المتفلسفة من المتصوفين" (انظر: كتابه ص7 من الطبعة الأولى 1395هـ) . ويقول الدكتور النشار: "ظهر الكندي والفارابي وابن سينا وأبو البركات البغدادي وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وغيرهم، واتصل كل واحد من هؤلاء بتلك الفلسفة على الصورة التي وصلته، وكتبوا كتباً فلسفية، ولكن ما وصل إلينا عنهم لم يكن شيئاً جديداً … كان فقط صورة مختلفة من المشائية أو الأفلاطونية الحديثة، مع محاولة غير ناجحة للتوفيق بينها وبين الفكر الإسلامي". (انظر كتابه: نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام 1/49 ط 7 - 1977م) .

ولم ألكم1 وسائر من تأمل ما ذكرته نصحاً لما يوجب عليّ من حق نعم الله فيكم (وأرجوه) 2 من نيل الثواب بإجابتكم مستعيناً3 في جميع ذلك بالله عز وجل، وتوكلاً4 عليه، وهو حسبي ونعم الوكيل. اعلموا - أرشدكم الله - أن الذي مضى عليه سلفنا5 ومن تبعهم من صالح خلفنا6 أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى سائر العالمين7، وهم أحزاب متشتتون وفرق متباينون8. منهم كتابي9 يدعو10 إلى الله بما تعبد11 به في كتابه،

_ 1 ألا يألوا ألوا: بمعنى قصر وأبطأ. (انظر: لسان العرب 18/41، 42) . وفي مختار الصحاح ألا: من باب عدا: أي قصر، وفلان لا يألوك نصحاً فهو آل، والآلاء: النعم واحدها أَلى بالفتح وقد يكسر، يكتب بالياء مثل: معي أمعاء. (انظر: المختار ص23 من الطبعة الأولى 1967م) . والأشعري هنا يخبر أنه لم يقصر في طلبهم، وفي إجابته ورده على أسئلتهم، كما أنه لم يقصر - رحمه الله - في توضيح الحق بعد أن هداه الله له، ويظهر ذلك لأي متأمل ينظر في كتبه، وباعثه على ذلك وجه الله والدار الآخرة. 2 في الأصل: "وأرجوكم" والتصحيح من (ت) . 3 في (ت) مستغنياً. 4 هكذا بالأصل، و (ت) ولعل الصواب أن يقال: "ومتوكلاً". 5 سبق تعريف السلف. انظر ما تقدم ص135. 6 سبق تعريف الخلف. انظر ما تقدم ص136. 7 من المعلوم المقطوع به، أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل برسالة جامعة خاتمة عالمية في الزمان والمكان. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} سبأ آية (28) . وقال الطبري في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} الأعراف آية (158) . يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم "قل" يا محمد للناس كلهم: "إني رسول الله إليكم جميعاً" لا إلى بعضكم دون بعض. (انظر: تفسيره 13/170 طبعة أحمد شاكر) . وأخرج البخاري في صحيحه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه وفيه: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة وأعطيت الشفاعة". (انظر: كتاب التيمم باب 1 ج1/86، وكتاب الصلاة باب 56 ج1/113، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة 1/370، والدارمي في كتاب الصلاة باب الأرض كلها طهور خلا المقبرة والحمام 1/323. 8 كانت البشرية جمعاء قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في ظلام دامس، وجاهلية عمياء، وأودت بحياة البشرية وأخذتها إلى الضياع ولقد تكلم البغدادي في الفرق بين الفرق عن أصنافهم وأوصافهم بكلام جيد يطول ذكره هنا، فليراجع في كتابه المشار إليه ص353، وكذلك اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص2. 9 المراد بالكتابي: كل من انتسب أو دان بديانة اليهود والنصارى وسموا أهل كتاب؛ لأن الله أنزل عليهم كتباً وهي: "التوراة والإنجيل" ولقد قسم الشهرستاني في الملل والنحل أهل الكتاب قسمين: قسم له كتاب محقق، مثل التوراة والإنجيل، وهم أمة اليهود وأمة النصارى، وقسم له شبهة الكتاب، مثل المجوس والمانوية. (انظر: كتابه 1/189) . ولعل ما يشهد لكلام الشهرستاني هذا ما جاء في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر - انظر: سنن الدارقطني باب جزية المجوس 2/154، 155- ولأن في أخذ الجزية منهم إلحاق لهم بأهل الكتاب، إلا أن القرآن الكريم يعني بأهل الكتاب "اليهود والنصارى" انظر: ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ …} 2/65 من طبعة دار الشعب بالقاهرة. 10 في الأصل "تدعو" وما أثبته من (ت) . 11 في (ت) تقول.

وفلسفي1 قد تشعبت به الأباطيل في أمور يدعيها بقضايا العقول2. وبرهمي3 تنكر أن يكون لله رسول، ودهري4 يدعي الإهمال5 ويخبط في عشو الضلال. وثنوي6 قد اشتملت عليه الحيرة، ومجوسي يدعي ما ليس له به خبرة، وصاحب

_ 1 في (ت) لنور. 2 تكلمت في ص137 عن الفلاسفة، وبينت هناك مخالفتهم لمنهج النبوة، واتباعهم العقل والهوى، وهو ما أشار إليه الأشعري هنا، ويقرر ذلك أيضاً ابن تيمية فيقول: "وبالجملة فالمنهج الذي يسلكه هؤلاء الفلاسفة - يعني فلاسفة المسلمين - في بحث هذه الأمور الإلهية منهج عقلي لا يرجعون في العلم بشيء منها إلى ما جاء به الرسول، ولا يعرفون من العلوم الكلية، ولا العلوم الإلهية إلا ما يعرفه الفلاسفة المتقدمون مع زيادات تلقوها عن بعض أهل الكتاب وأهل الملة". (انظر: تفسيره لسورة الإخلاص ص84 من الطبعة الثالثة) . 3 البراهمة: قوم ينتسبون إلى رجل منهم يقال له "براهم". (انظر: الملل والنحل 2/258، والفصل لابن حزم 1/69 من الطبعة الثانية 1395هـ) . وكانت تسمى من قبل بالهندوسية، ومن عقائدهم الكارما أي: الجزاء ثواباً كان أو عقاباً، وهو يقع في هذه الحياة، فلا قيامة ولا بعث ونشور عندهم، كما قالوا بتناسخ الأرواح، ومنهم جاءت فكرة التثليث التي دان بها النصارى، ووحدة الوجود التي دان بها بعض ملاحدة المسلمين كعبد الله بن سبأ اليهودي والحلاج وابن عربي وغيرهم، ولقد قال ابن سبأ: بأن علياً صار إلهاً بحلول روح الإله فيه. (انظر: الفرق بين الفرق 254، 255، وأديان الهند الكبرى لأحمد شلبي ص61-69 من الطبعة الرابعة 1976م) . 4 الدهريون: صنف من الناس أنكروا الخالق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المغني. ولقد أخبر الله عنهم في قوله: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} الجاثية آية (24) . ولقد أصبح العالم اليوم يسخر من الذين يقولون ذلك، ويعده من سخافة العقول، وخاصة بعدما تطورت العلوم، وأرى الله الناس من آياته ما يدل على وجوده، ولعلي أشير إلى بعض أقوال العلماء الذين اعترفوا بذلك فيما يأتي إن شاء الله، وانظر أيضا: الملل والنحل 2/3. 5 في (ت) الإمهال. 6 الثنوية والمجوسية: ديانتان متفقتان على قول واحد، مع فروق قليلة فيه. يقول الشهرستاني في حديثه عن الثنوية: أنهم يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان، بخلاف المجوس فإنهم قالوا بحدوث الظلام، وذكروا سبب حدوثه، وهؤلاء قالوا بتساويهما في القدم. (انظر: الملل والنحل 1/224) . ويقول البغدادي عن الثنوية: أنهم زعموا أن النور والظلمة صانعان قديمان، والنور منهما فاعل الخيرات والمنافع، والظلام فاعل الشرور والمضار. ثم يقول عن المجوس: بأنهم شاركوا الثنوية في اعتقاد صانعين، غير أنهم زعموا أن أحد الصانعين قديم، وهو الإله الفاعل للخيرات، والآخر شيطان محدث فاعل للشرور. (انظر: الفرق بين الفرق ص285) .

صنم يعتكف عليه، ويزعم أنّ له رباً يتقرب بعبادة ذلك الصنم إليه1. لينبههم جميعاً على حدوثهم، ويدعوهم إلى توحيد المحدث لهم2 ويبين لهم طرق معرفته بما فيهم من آثار صنعته، ويأمرهم برفض كل ما كانوا3 عليه من سائر الأباطيل. بعد تنبيهه عليه السلام لهم على فسادها4، ودلالته على صدقه فيما يخبرهم به

_ 1 كان العرب في الجاهلية منغمسون في الوثنية بأبشع صورها وأشكالها، فكان لكل بيت صنم يعبدونه، ويعكفون عليه. يقول الكلبي في ذلك: "كان لأهل كل دار في مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به، وإذا قدم من السفر كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح أيضاً" (انظر: كتاب الأصنام ص33) . والأشعري بكلامه هنا يبين الدافع والسبب الذي أدى بالمشركين إلى عبادة هذه الأصنام والعكوف عليها، وهو: زعمهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، فهم كانوا يعرفون أن لهم رباً وإلهاً، ولكنهم كانوا يتوسلون إليه فقط بهذه الأصنام، فسماهم الله مشركين لاتخاذهم الوسائط والشفعاء، ولقد وقع في هذا بعض المسلمين، فتوسلوا بالأنبياء والصالحين، ولم يكن لهم حجة ولا برهان إلا ما سار فيه أهل الجاهلية السابقون، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لما قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب اتبعتموهم. قلنا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ ". الحديث أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام باب 14 ج8/151، ومسلم في كتاب العلم باب 3 ج4/2054، وابن ماجه في كتاب الفتن باب 17 ج2/1322. 2 ينص الأشعري على أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الطوائف التي سبق أن أشار إليها في كلامه، وكان على رأس دعوته إليهم العودة بهم إلى ربهم، وإلى توحيده وحده والخضوع له سبحانه وتعالى. والواقع أن توحيد الله عز وجل هو أساس الديانات كلها فما من رسول بعثه الله إلا وجعل رأس دعوته "التوحيد" واستعرض قصص القرآن كله وخاصة سورتي الأعراف وهود لترى أن كل نبي ابتدأ خطاب قومه بقوله "اعبدوا الله ما لكم من إله غيره". ولا يفوتني هنا أن أنص على أمرين هامين: أولهما: أن المراد بتوحيد الله ما نص عليه علماء السلف من توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات. ثانيهما: يتحتم على كل داعية إلى الله عز وجل أن يبدأ دعوته بتعليم قومه التوحيد، فإذا علموه انتقل بعد ذلك إلى الشرائع والأحكام، والتوحيد هو الأساس والأصل، وبدونه ينتفي الدين والإيمان، ولا عذر هنا لأحد يظن أو يتوهم أن هذا الأمر فيه تفريق للأمة، وقضاء على وحدتها، فالنجاح الكامل في اتباع منهج النبوة، والله الهادي إلى سواء السبيل. 3 في الأصل "ما كان" والتصحيح من (ت) وهو الصواب الذي به يستقيم المعنى. 4 ذكرت سابقاً التعليق على ما سبق أن ذكره الأشعري من حال الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وما صاروا إليه من فساد وضلال فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله على بينة وبصيرة، موضحاً لكل أمة فساد ما هم عليه من الضلال. فمثلاً في جزيرة العرب دعاهم إلى التوحيد، وبين لهم أن آلهتهم التي يشركونها مع الله لا تملك لنفسها أقل نفع فضلاً عن غيرها، وإليك هذا المثل القرآني الرائع الذي إذا تأملته البشرية كلها خرت لربها ساجدة، وما جعلت له شريكاً في أي لون من ألوان العبادة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} سورة الحج آية 73، 74.

عن ربهم تعالى بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة1، ويوضح لهم سائر ما تعبدهم الله عز وجل (به) 2 من شريعته3. وأنه عليه السلام دعا جماعتهم إلى الله، ونبههم على حدوثهم4 بما فيهم من اختلاف الصور والهيئات وغير ذلك من اختلاف اللغات، وكشف لهم عن طريق معرفة الفاعل لهم بما فيهم وفي غيرهم، بما يقتضي وجوده5 يدل على إرادته وتدبيره6؛

_ 1 جعل الأشعري آيات الأنبياء دليلاً على صدقهم، ويعني بذلك أنه إذا أتى بالمعجزة فقد ثبت صدقه، وإذا ثبت صدقه وجب اتباعه. ويقول شارح الطحاوية: "… ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح، لكن دليل غير محصور في المعجزات" (انظر: ص89) . 2 ما بين المعقوفتين من (ت) . 3 ذكرت سابقاً الهدف من إرسال الرسل وهو التوحيد. ويتبع ذلك توضيح الشريعة وبيانها ليوحد الله بالعبادة من خلال ما شرع وأمر، وأسوتنا وقدوتنا في ذلك رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} سورة الحشر آية 7. 4 في الأصل، و (ت) : "حدثهم"، والصواب ما أثبته. 5 أشار القرآن الكريم إلى أن العالم حادث، بمعنى أنه خلق ووجد بعد أن لم يكن. قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} . وقد ذكر الأشعري إجماع السلف على ذلك، وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. والأشعري هنا يستدل على حدوث الإنسان بالتغير الواقع فيه ليصل بذلك إلى وجود محدِثه وهو الله تعالى. والواقع أن الأشعري في هذه النقطة خالف المنهج الصحيح لاستدلاله بالصور والهيئات التي هي عبارة عن الأعراض التي تأتي على الإنسان، وهذا مسلك الفلاسفة والمتكلمين، وهو ما أخذه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وذكره أنه سار خلف طريقة المتكلمين في رسالته هذه. (انظر: مجموع الفتاوى 16/386، والنبوات ص49، ودرء تعارض العقل والنقل 7/228) . كما أن الأشعري استدل على حدوث الإنسان، ولم يستدل بحدوثه على وجود الله تعالى، وهناك فرق بين الأمرين، والصواب الاستدلال بحدوثه لا على حدوثه، وقد ذكر ذلك ابن تيمية فقال: "إن الاستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحسن والاستقامة وهي طريقة عقلية صحيحة، وهي شرعية دل القرآن عليها وهدى الناس إليها وبينها، وأرشد إليها، فإن الإنسان هو المستدل وهو الدليل والبرهان. قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} . (انظر: النبوات ص48، وانظر تعليق ابن تيمية على ما ذكره من رسالة الأشعري هذه في درء تعارض العقل والنقل 7/219- 224) . ومع هذا فالأشعري ذكر في هذه الرسالة نفسها أن طريقة الاستدلال بالأعراض غير واضحة، وهي مسلك أهل البدع ومن اتبعهم. وقد أيده في ذلك القول ابن تيمية وذكر ذلك عنه. (انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/10، والموافقة 1/24، 25) . وقد خالف في حدوث العالم الفلاسفة الملاحدة، وقالوا: إن العالم قديم، وفصل الغزالي مذهبهم في كتابه تهافت الفلاسفة، وذكر أنهم استقروا على القول بقدمه، وأنه لم يزل موجوداً مع الله تعالى ومعلولاً له. (انظر: تهافت الفلاسفة ص76، وما بعدها من الطبعة الثانية) . ويعلل ابن تيمية هذا القول من الفلاسفة فيقول: "وإنما يعظم على الجهال من المتفلسفة وأمثالهم وأشباههم تقرير حدوث العالم وتغيره لأنهم لم يقدروا الله حق قدره". (انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/145) . 6 ينص الأشعري على خلق الله للعالم بإرادته وتدبيره، وفي ذلك دفع لكلام الفلاسفة القائلين بأن العالم صدر عن الله صدور المعلول عن العلة كصدور شعاع الشمس من الشمس، ولهم في ذلك كلام يطول عرضه هنا. (انظر: كتاب تهافت الفلاسفة ص120) .

حيث قال عز وجل: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 1، فنبههم عز وجل بتقلبهم في سائر الهيئات التي كانوا عليها (على ذلك وشرح ذلك) 2 بقوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 3. وهذا من أوضح (ما يقتضي الدلالة على حدث4 الإنسان) 5، ووجود المحدث له من قبل أن العلم قد أحاط بأن كل متغير لا يكون قديماً، وذلك أن تغيره يقتضي مفارقة حال كان عليها قبل تغيره وكونه قديماً ينفي تلك الحال، فإذا حصل متغيراً بما ذكرناه من الهيئات التي لم يكن6 قبل تغيره عليها (دل ذلك على حدوثها، وحدوث الهيئة التي كان

_ 1 الذاريات آية: (21) . وهذه الآية من الآيات التي استدل بها الأشعري على وجود الله سبحانه ووحدانيته، لأنها تلفت نظر الإنسان إلى التأمل في ذاته، وسيأتي مزيد توضيح لهذه الآية في الآية التالية، وانظر تعليق البيهقي عليها في الاعتقاد ص8، وابن القيم في الجواب الكافي ص23. 2 ما بين المعقوفتين من نسخة ابن تيمية وفي الأصل "على الله شرح ذلك". وفي (ت) "على ذلك شرح"، ولعل الأولى حذف الجار والمجرور "على ذلك"، والكلام مستقيم بدونه. 3 المؤمنون آية: (12، 13) . وقد ذكر الأشعري أن هذه الآية شرح لما قبلها، وهو بهذا يحدد لنا مجال النظر الذي أمر به القرآن، وهو أن ينظر الإنسان في أصل خلقته، والأطوار والمراحل التي مر بها، وهي سبعة كما في الآية، ثم ينتقل من هذا النظر إلى الإقرار بالله رباً ومعبوداً، وهذا هو الهدف من النظر كما قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} . وانظر كلام البيهقي حول الآية في كتاب الاعتقاد ص9. ويقول محمد الأمين الشنقيطي: "بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أطوار خلق الإنسان ونقله له من حال إلى حال، ليدل خلقه بذلك على كمال قدرته واستحقاقه للعبادة وحده جل وعلا". (انظر: أضواء البيان 5/776) . 4 في الأصل: "حدوث"، ولعل الصواب ما أثبته. 5 ما بين المعقوفتين في (ت) هكذا "ما يقتضي وجوده ويدل على إرادته وتدبيره حيث قال عز وجل الدلالة على حدوث الإنسان". 6 ساقطة من (ت) .

عليها قبل حدوثها) 1؛ إذ لو كانت قديمة لما جاز عدمها، وذلك أن (القديم) 2 لا يجوز عدمه3. وإن كان هذا على ما قلنا وجب أن يكون ما عليه الأجسام من التغير منتهياً إلى هيئات محدثة لم تكن4 الأجسام قبلها موجودة، بل كانت قبلها محدثة، ويدل ترتيب ذلك على محدث قادر حكيم من قبل أن ذلك لا يجوز أن يقع بالاتفاق5 فيتم من غير مرتب له، ولا قاصد إلى ما وجد منه فيها

_ 1 ما بين المعقوفتين هنا مخالف لما في (ت) ولفظه هناك: "وكونه قديماً ينفي تلك الهيئة التي كان عليها قبل حدوثها". 2 في الأصل: "العدم" والتصحيح من (ت) . 3 يقيم الأشعري هنا دليلاً عقلياً على وجود الله سبحانه وتعالى، وهذا الدليل يسمى عند المتكلمين "بطريق الوجود"، ويقولون فيه: إن العقل ليقتضي بضرورة إثبات وجود موجِد لهذا الكون سابق وجوده عليه. وذلك أن كل موجود متغير، وكل متغير حادث، وكل حادث لابد له من موجِد أحدث وجوده. فإذا نظر الإنسان بتأمل فيما حوله من الكائنات أدرك وأيقن بالمشاهدة أن هذه الموجودات لابد لها من موجد أحدث وجودها وما فيها من تغير، وقد توسع المتكلمون في ذكر هذا الدليل وتقريره، وذكره ابن تيمية عنهم وذكر ما فيه من حق وما عليه من قصور، حيث إنه لا يتعدى إلى إثبات توحيد الألوهية بعد إثباته للربوبية. (انظر: مجموع الفتاوى ج2/7- 25) . ورغم أننا لا نوافق الفلاسفة والمتكلمين عموماً إلا أن القرآن الكريم وجه الإنسان إلى النظر في الموجودات بتأمل وتدبر ليعلم من حالها ضرورة افتقارها إلى خالق لها، مدبر أمرها، هو الله تعالى ثم ينتقل من ذلك كله إلى إفراد الله بالعبادة والوحدانية، لأنه هو المقصود من الاستدلال. ولقد سلك المتكلمون لإثبات وجود الله طرقاً متعددة حصرها صاحب المواقف في أربع طرق. (انظر: المواقف للإيجي ص266) . ويقول "خليل هراس" عنهم: "إن المتقدمون منهم بنوا رأيهم في إثبات الله تعالى على حدوث العالم ذهاباً منهم إلى أن الحدوث هو العلة المحوجة إلى المؤثر، وأنه إذا ثبت أن العالم حادث كان لابد من محدث يخرجه من حيز العدم إلى حيز الوجود، ويقول المتكلمون: إن هذه قضية بديهية، ويوافقهم ابن تيمية على ذلك، إلا أنه لا يسلم لهم طريقتهم في إثبات حدوث العالم". (انظر: كتابه ابن تيمية السلفي ص70، 71) . 4 في (ت) "لم يكن". 5 في (ت) "إلا باتفاق"، والاتفاق هنا معناه المصادفة، تقول وافقت فلاناً في موضع كذا أي: صادفته، (انظر: لسان العرب 10/382) . والأشعري هنا يرد على الملاحدة الذين ينكرون وجود الله، ويقولون بأن العالم وجد عن طريق الصدفة، ولو تأمل هؤلاء في أنفسهم، وفي آثار القدرة والحكمة التي أوجدتهم لأيقنت قلوبهم بالقاهر المدبر القادر الحكيم ولكن على القلوب أقفالها!! وما سبق ذكره وما سيأتي من كلام الأشعري يقيم الحجة على هؤلاء الكافرين ولكني هنا أنقل بعض الاعترافات التي ذكرها بعض علماء العصر الحديث من الكافرين، لأقيم الحجة بها على أنفسهم أولاً، وعلى أمثالهم من الكفرة ثانياً. يقول "إسحاق نيوتن" العالم الإنجليزي ومكتشف قانون الجاذبية: "لا تشكوا في الخالق فإنه مما لا يعقل أن تكون المصادفات وحدها هي قائدة هذا الوجود" (نقلاً من كتاب العقائد للشيخ حسن البنا ص54) . ويقول "أينشتين" أكبر عالم كوني في الأعصار الحديثة: "إن ما يراه في الكون يدفع إلى إيمان عميق بوجود قدرة مهيمنة تتراءى حيثما نظرنا في هذا الكون المعجز للأفهام"، ثم يقول: "ذلك هو فهمي لمعنى الألوهية" (نقلاً باختصار من مقال للشيخ محمد الغزالي في مجلة الأمة بعنوان "رحلة من العلم إلى الإيمان") . ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتاب "الله يتجلى في عصر العلم". ومع هذا فإن هذا الإيمان لا ينفعهم حتى يعبدوا الله وحده ويؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار". رواه مسلم في كتاب الإيمان باب 170/134، وأحمد في المسند 2/317.

دون ما كان يجوز وقوعها عليه من الهيئة1 المخالفة لها، وجواز تقدمها في الزمان وتأخرها2 بذلك إلى محدثها ومرتبها، لأن سلالة الطين والماء المهين يحتمل من الهيئات ضروباً كثيرة3، لا يقتضي واحد منها سلالة الطين، ولا الماء المهين بنفسه، ولا يجوز أن يقع شيء4 من ذلك فيها بالاتفاق لاحتمالها لغيره5. فإذا وجدنا ما صار إليه الإنسان في هيئته المخصوصة به دون غيره من الأجسام، وما فيه من الآلات المعدة لمصالحه كسمعه وبصره، وشمه وحسه، وآلات ذوقه6، وما أعد

_ 1 في (ت) "الهيئات". 2 في (ت) "تأخرها وحاجتها تلك" ولعل الصواب: "وتأخرها وحاجتها بذلك" كما جاءت العبارة في نسخة ابن تيمية. 3 في الأصل "ضرورياً كثيراً" وما أثبته من (ت) . 4 في الأصل، و (ت) : "شيئاً" بالنصب، وما أثبته من نسخة ابن تيمية وهو الصواب قطعاً؛ لأنها فاعل يقع. 5 يبين الأشعري النظر إلى أن الصدفة لا يمكن لها أن تقيم هذا النظام البديع الدقيق المتمثل في هذه السنن الكونية من خلق وتكوين وتنشئة وتطور. فالإنسان مثلاً يعلق نطفة في الرحم، ثم تمر به عدة مراحل لا دخل لأحد غير الله فيها، يخرج بعدها بشراً سوياً، وأصله من طين ثم من ماء مهين ولا يوجد أدنى صلة بين الماء والطين وأعضاء الإنسان وأجزائه، فكيف إذا تكونت هذه الأعضاء بما فيها من دم ولحم وعصب وعظم؟. ويقول الدكتور "محمود قاسم": "ولو كانت هذه الوظائف وليدة الصدفة، أو توجد من تلقاء ذاتها، لوجب أن توجد للأجسام جميعها دون تفرقة، فوجودها إذن في بعض الأجسام دون بعض دليل على وجود صانع اقتضت إرادته أن تكون مخلوقاته أسمى مرتبة من بعضها الآخر وينطبق هذا القول على الكون بأسره، لأنه مجموعة". (انظر: كتابه ابن رشد وفلسفته الدينية ص100 من الطبعة الثالثة) . 6 هذه الحواس التي زود الله سبحانه وتعالى الإنسان بها، ليطالع الأشياء التي في متناوله على حقيقتها من أعظم نعم الله على الإنسان وفيها من الحكمة والقصد والإرادة، ما يعجز عن وصفه. قال تعالى منبهاً عباده إلى ذلك: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} سورة السجدة: آية (7- 9) . ويقول ابن القيم عن الحواس التي أنعم الله بها على الإنسان: "… ثم تأمل الحكمة في أن جعل الحواس خمساً في مقابلة المحسوسات الخمس، ليلقى خمساً بخمس، كي لا يبقى شيء من المحسوسات لا يناله بحاسة، فجعل البصر في مقابلة المبصرات، والسمع في مقابلة الأصوات، والشم في مقابلة أنواع الروائح المختلفات، والذوق في مقابلة الكيفيات المذوقات، واللمس في مقابلة الملموسات …" (انظر: مفتاح دار السعادة ص285 من الطبعة الثانية) .

له من آلات الغذاء التي لا قوام له إلا بها على ترتيب ما قد حوج1 إليه من ذلك، حتى يوجد في حال حاجته إلى الرضاع بلا أسنان تمنعه من غذائه وتحول بينه وبين مرضعته. فإذا نقل من ذلك وحوج2 إلى غذاء لا ينتفع به، ولا يصل منه إلى غرضه إلا بطحنها له جعل له منها بقدر ما به الحاجة في ذلك إليه3. والمعدة المُعَدَّة4 لطبخ5 ما يصل إليها من ذلك، وتلطيفه6 حتى يصل إلى الشعر والظفر، وغير ذلك من سائر الأعضاء في مجار لطاف قد هيئت لذلك بمقدار ما يقيمها7، والكبد المعدّة لتسخينها بما يصل من حرارة القلب8، والرئة المهيأة لإخراج بخار الحرارة التي في القلب، وإدخال ما يعتدل به من الهواء البارد باجتذاب المناخر9،

_ 1 هكذا في الأصل، و (ت) وعند ابن تيمية: "أحوج". 2 هكذا بالأصل، و (ت) وفي نسخة ابن تيمية "وخرج". 3 اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يمر الإنسان بمراحل في تنشئته فمن صبا وطفولة، إلى شباب وفتوة، إلى كهولة وشيخوخة، وقد أعد الله سبحانه وتعالى لكل مرحلة ما يناسبها. وقد ذكر ابن القيم كلاماً نفيساً حول ذلك، فلينظر في كتابه "مفتاح دار السعادة". ومما قال: "… فحين تولد قد تلمظت وحركت شفتيك للرضاع فتجد الثدي المعلق كالأداوة قد تدلي إليك، وأقبل بدوره عليك… إلى أن قال: حتى إذا قوي بدنك واتسعت أمعاؤك، وخشنت عظامك ويقوى عليه لحمك، وضع فيك آلة القطع والطحن، فنصب لك أسناناً تقطع بها الطعام، وطواحين تطحنه بها، فمن الذي حبسها عنك أيام رضاعك رحمة بأمك ولطفاً بها، ثم أعطاكها أيام أكلك رحمة بك وإحساناً إليك ولطفاً بك ... " (انظر: ص277) . 4 ساقطة من (ت) . 5 في (ت) "أطبخ". 6 في الأصل "ويلطفه" والتصحيح من (ت) . 7 المعدة: خزانة يستقر فيها الغذاء فتنضجه وتطبخه وتصلحه إصلاحاً ورتب الله سبحانه وتعالى منها مجاري وطرقاً يسوق بها الغذاء إلى كل عضو وعظم وعصب ولحم وشعر وظفر. (انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم ص281) . وعلى كل عاقل أن يتأمل أمر هذه المعدة، ويسأل نفسه: إن المعدة تهضم اللحم وهي لحم، فلماذا لا تهضم نفسها؟ ثم هي تهضم مختلف الأصناف والألوان والأشكال بطرق منتظمة دقيقة، تسوقنا إلى أن نردد قول الله عز وجل: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} . 8 للكبد مشاركة فعالة في عملية الهضم، فهو يفرز "العصارة الصفراوية" التي تقوم بأدوار ثلاثة في الهضم، ثم هو ينظم نسبة السكر في الدم وهو أكبر عدة في جسم الإنسان تزن حوالي اثنين من الكيلو جرامات. (انظر: جسم الإنسان في علم الصحة ص95- 101 لحسن نصر ومحيي الدين) . ويذكر ابن القيم فوائد الكبد فيقول: "وجعل الكبد للتخليص وأخذ صفو الغذاء وألطفه"، والمراد بالتخليص هنا هو قتل الجراثيم. (انظر مفتاح دار السعادة ص281) . 9 يوجد في جسم كل إنسان جهاز للتنفس الرئوي، وهو يقوم بتجديد هواء الرئتين باستمرار بطريقة طبيعية، وتسمى عمليتي الشهيق والزفير. (انظر: جسم الإنسان في علم الصحة ص122) .

وما فيها من الآلات المعدة لخروج ما يفضل من الغذاء عن وقت الحاجة في مجاري1 ينفذ ذلك منها2، وغير ذلك مما يطول شرحه مما لا يصح وقوعه بالاتفاق3، ولا يستغني فيما هو عليه عن مقوم يرتبه. إذ كان ذلك لا يصح أن يترتب وينقسم في سلالة الطين والماء المهين بغير صانع ولا مدبر عند كل عاقل متأمل4، كما لا يصح أن يترتب الدار على ما يحتاج فيها من البناء بغير مدبر يقسم ذلك فيها، ويقصد إلى ترتيبها5. ثم زادهم تعالى في6 ذلك بياناً بقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ

_ 1 هكذا بالأصل، و (ت) ، وعند ابن تيمية "مجار" بدون ياء. 2 ركبّ الله سبحانه وتعالى في جسم كل إنسان جهاز الإخراج ليتخلص به من فضلات الطعام التي لو بقيت لأضرت بالجسم، وهو جهاز دقيق للغاية، فيه من كمال الصنعة والإتقان ما يعجز عنه وصف الإنسان. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عقب قضاء الحاجة: "غفرانك" أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة باب 17ج1/30، والترمذي في كتاب الطهارة باب 5ج1/12، وابن ماجة في كتاب الطهارة باب 10ج1/110، وأحمد في المسند 6/155، والدارمي في كتاب الوضوء 1/174. وعلل الساعاتي عدة تعليلات لهذا الاستغفار واختار منها: أنه صلى الله عليه وسلم استغفر لتقصير في شكر نعمة الله عليه بإقداره على إخراج ذلك الخارج، ثم قال: وهو المناسب لما رواه ابن ماجة عن أنس رضي الله عنه قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" ورواه أيضاً النسائي عن أبي ذر، ورمز السيوطي بصحته والله أعلم. (انظر: الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل 1/270) . 3 انظر ما سبق ذكره في صفحة 149- 150. 4 في (ت) "يتأمل". 5 هذه من القضايا البديهية التي يؤمن بها الجميع، وهي فطرية ضرورية في النفوس، ويقول ابن تيمية عن هذا المثال وغيره: بأنه من القضايا المعينة الفطرية الضرورية التي لا تحتاج إلى دليل، ثم يقول: "… ولهذا لا تجد أحداً يشك في أن هذه الكتابة لابد لها من كاتب، وهذا البناء لابد له من بان، بل يعلم هذا ضرورة". (انظر: موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول 3/94) . ولقد فصل الأشعري هذه النقطة في "اللمع" في الباب الأول، وهو يتكلم عن وجود الصانع وصفته، ومن قوله: "مما يبين ذلك أن القطن لا يجوز أن يتحول غزلاً مفتولاً، ثم ثوباً منسوجاً بغير ناسج صانع، ,لا مدبر، ومن اتخذ قطناً ثم انتظر أن يصير غزلاً مفتولاً، ثم ثوباً منسوجاً بغير صانع ولا ناسج كان عن معقول خارجاً، وفي الجهل والجاً …" (انظر: ص18) . ويقول ابن الجوزي: "… فإن الإنسان لو مر بقاع ليس بنيان ثم عاد فرأى حائطاً مبنياً علم أنه لابد له من بان بناه، فهذا المهاد الموضوع، وهذا السقف المرفوع، وهذه الأبنية العجيبة القوانين الجارية على وجه الحكمة، أما تدل على صانع!! " (انظر: تلبيس إبليس ص41) . 6 ساقطة من (ت) .

اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} 1 فدلهم تعالى بحركة الأفلاك على المقدار الذي بالخلق الحاجة إليه في مصالحهم التي لا يخفى2 مواقع3 انتفاعهم بها. كالليل الذي جعل لسكونهم، ولتبريد ما زاد عليهم من حر الشمس في زروعهم وثمارهم، والنهار الذي جعل لانتشارهم وتصرفهم في معايشهم على القدر الذي يحتملونه في ذلك، ولو كان دهرهم كله ليلاً لأضر بهم ما فيه من الظلمة التي تقطعهم عن التصرف في مصالحهم، وتحول بينهم وبين إدراك منافعهم، وكذلك لو كان دهرهم كله نهاراً لأضر بهم ذلك، ودعاهم ما فيه من الضياء4 إلى التصرف في طلب المعاش مع حرصهم على ذلك إلا ما لا يطيقونه (فأداهم قلة الراحة إلى عطبهم) 5، وجعل لهم من النهار قسطاً لتصرفهم لا يجوز بهم قدر الطاقة فيه، وجعل لهم من الليل قسطاً لسكونهم، لا يقصر على قدر حاجتهم لتعتدل في ذلك أحوالهم، وتكمل مصالحهم، "وجعل لهم"6 من البرد والحر7 فيهما مقدار ما لهم ولثمارهم ولمواشيهم من الصلاح رفقاً لهم8، وجعل

_ 1 سورة آل عمران: آية (190) . هذه الآية لها شأن عظيم، فهي تلفت النظر إلى بديع صنع الله في خلق السماوات والأرض، وما أودع فيهما من الحكم الجليلة والمنافع العظيمة كما أنها تقرر أن الإيمان يتأكد ويثبت عند ملاحظة آيات الله في الكون، وتتبع العلامات التي بثها الله فيه لتدل عليه وتسوق إلى عبادته وتوحيده. قال ابن كثير: وقد ذم الله سبحانه وتعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} ومدح عباده المؤمنين الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض قائلين: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (انظر: تفسير ابن كثير 2/161) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "بتُ عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية. (انظر: البخاري كتاب التفسير 6/51) . وقال أبو السعود: "والتنكير في "آيات" للتفخيم كماً وكيفاً، أي الآيات كثيرة عظيمة لا يقادر قدرها، دالة، على تعاجيب شئونه التي من جملتها ما مر من اختصاص الملك العظيم به سبحانه". (انظر: تفسيره إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم 1/622 مطبعة السعادة بالقاهرة الناشر مكتبة الرياض الحديثة) . 2 في (ت) "لا تخفى". 3 في (ت) "واقع". 4 في (ت) "من الضياء به". 5 ما بين المعقوفتين من نسخة ابن تيمية، وفي الأصل، و (ت) "فإذا هم قلة الراحة إلى عطيهم". 6 ساقطة من (ت) . 7 في (ت) "الحر والبرد". 8 هكذا بالأصل، و (ت) ، وعند ابن تيمية "بهم".

لون ما1 يحيط بهم من السماء ملاوماً لأبصارهم، ولو كان لونها على خلاف ذلك من الألوان لأفسدها2. ودلهم على حدثها بما ذكرناه من حركاتها واختلاف هيئاتها3 كما ذكرنا آنفاً، ودلهم على حاجتها وحاجة الأرض، وما فيهما من الحكم على4 عظمتهما وثقل أجرامهما إلى إمساكه عز وجل لهما بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} 5. فعرّفنا تعالى أن وقوعهما6 لا يصح7 أن يكون من غيره، وأن وقوفهما لا يجوز أن يكون8 بغير مُوقف لهما9.

_ 1 ساقطة من (ت) . 2 في (ت) "فسدتها". يشير الأشعري بكلامه السابق إلى بعض مظاهر عظمة الله في الكون ومنها الليل الذي تستريح فيه العوالم من كد السعي والتعب، ففيه تأوي الحيوانات إلى بيوتها، والطيور إلى أوكارها، وتهدأ به نفوس وأجساد البشر كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} . وكما جعل الليل راحة وسكوناً، جعل النهار حركة وانتشاراً لطلب المعاش وقضاء المصالح قال تعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} . ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى عباده بهذه النعم الجليلة مبيناً لهم ما فيها من آثار رحمته وقدرته، ومشيراً بها إلى وحدانيته وعظمته قائلاً: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة القصص الآية (70- 73) (وانظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم ص228) . ويقول أبو الوفاء درويش: "وفي اختلاف الليل والنهار من مظاهر الرحمة ما لا يأتي على بيانه الوصف، وفي اختلاف الليل والنهار وحلول كل منهما محل الآخر، ما يعين الكائنات الحية على أن تراوح بين نومها ويقظتها، وعملها وراحتها، ولو كان الليل سرمداً، والنهار سرمداً لقضت برودة الليل الدائم وحرارة النهار الدائم على حياة الأحياء". (انظر: كتابه الأسماء الحسنى ص19) . 3 في (ت) "هيهاتها" وهو تحريف. 4 في (ت) "مع". 5 فاطر: آية (41) . وفي هذه الآية مظهر من أروع مظاهر العظمة الإلهية، ويشير ابن القيم إلى ذلك بقوله: "ثم تأمل الممسك للسماوات والأرض الحافظ لهما أن تزولا، أو تقعا، أو يتعطل بعض ما فيها، أفترى مَن الممسك لذلك ومَن المقيم بأمره، ومَن المقيم له، فلو تعطلت بعض آلات هذا الدولاب العظيم والحديقة العظيمة من كان يصلحه، وماذا كان عند الخلق كلهم من الحيلة في رده كما كان…" (انظر: مفتاح دار السعادة ص233، 234) . وعلق أبو الوفاء درويش على هذه الآية بقوله: "انظر إلى هذه الأجرام التي بثها الله في آفاق السماء بنظام وإحكام وجعلها متماسكة أشد التماسك لا يخرج شيء منها عن المدار الذي وضعه الله فيه، إذ لو خرج شيء منها عن مداره لاصطدم بغيره، فحدثت الطامة الكبرى، وهلك العالم وما فيه. قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (انظر: الأسماء الحسنى ص18) . 6 في الأصل "وقوفهما"، وما أثبته من (ت) . 7 في (ت) "لا يكون". 8 ساقطة من (ت) . 9 ساقطة من (ت) .

ثم نبهنا على فساد قول الفلاسفة بالطبائع1، وما يدعونه من فعل الأرض، والماء والنار، والهواء في الأشجار، وما يخرج منها من سائر الثمار بقوله عز وجل: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى2 بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} 3، ثم قال عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 4. ثم نبه تعالى خلقه على أنه واحد باتساق أفعاله وترتيبها وأنه تعالى لا شريك له فيها بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ، ووجه الفساد بذلك، لو كان إلهان ما اتسق أمرهما على نظام، ولا يتم على إحكام، وكان لابد5 أن يلحقهما العجز، أو يلحق أحدهما عند التمانع في الأفعال، والقدرة (على ذلك) 6 وذلك أن كل واحد منهما لا يخلو أن يكون قادراً على ما يقدر عليه الآخر على طريق البدل من (فعل) 7 الآخر، أو لا يكون كل واحد منهما قادراً على ذلك (فإن "كان" كل واحد منها قادراً على فعل ما يقدر عليه الآخر على طريق البدل من بدل الآخر، أو لا يكون كل واحد منهما

_ 1 في (ت) "بالطباع". وملخص قول الفلاسفة في ذلك ما ذكره ابن الجوزي عنهم من أنهم قالوا بأن هذه المخلوقات من فعل الطبيعة، وقالوا: ما من شيء يخلق إلا من اجتماع الطبائع الأربع فيه، التي هي الماء والتراب والنار والهواء. (انظر: تلبيس إبليس ص43) . ويحكي ابن تيمية قولهم فيقول: "إنهم يقولون إن الموجب بذاته على حال واحدة من الأزل إلى الأبد، فيمتنع أن يصدر عنه حادث بعد أن لم يكن ذلك الحادث صادراً منه، وعلى هذا فهم يقولون: بأن كل ما يجدُّ في العالم من حوادث إنما هو من فعل الطبيعة، وقالوا: إن الفلك يتحرك حركة اختيارية بسببها تحدث الحوادث من غير أن يكون قد حدث من جهة الله ما يوجب حركته". ثم يقول: "ففي الحقيقة ليس عندهم الرب لا إلهاً ولا رباً للعالمين غاية ما يثبتونه أن يكون شرطاً في وجود العالم وأن كمال المخلوق في أن يكون متشبهاً به، وهذا هو الإله عندهم، وذاك هو الربوبية، ولهذا كان قولهم شراً من قول اليهود والنصارى،.. إلى أن قال: فتبين أن هؤلاء المتفلسفة قدرية في جميع حوادث العالم، وأنهم من أضل بني آدم، ولهذا فهم يضيفون الحوداث إلى الطبائع التي في الأجسام". (انظر: منهاج السنة النبوية 2/73- 76) . 2 في (ت) "تسقى"، وهما قراءتان صحيحتان، قال الطبري: "وقرأ بالتاء عامة قراء أهل المدينة والعراق من أهل الكوفة والبصرة، وبالياء بعض المكيين والكوفيين" (انظر: تفسيره 13/101) . 3 سورة الرعد: آية (4) . وفيها كما ذكر الأشعري رد بليغ على قول الفلاسفة، ومن سار في ركابهم من أهل الزيغ والضلال، ومنهم طائفة المفوضة من الرافضة التي نفت خلق الله للعالم بكل ما فيه، وقالوا إن الله تعالى خلق محمداً، ثم فوض إليه خلق العالم وتدبيره، فهو الذي خلق العالم دون الله تعالى ثم فوض محمد تدبير العالم إلى علي بن أبي طالب، فهو المدبر الثاني. انظر: في ذلك الفرق بين الفرق ص251، والتبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن فرق الهالكين ص75) . 4 سورة الرعد: آية (4) . 5 في (ت) "ولو كان لابد". 6 ما بين المعقوفتين من (ت) ، وفي الأصل "على الله". 7 ما بين المعقوفتين من نسخة ابن تيمية وفي الأصل، و (ت) كلمة "بدل" مكانها، وما أثبته ألصق بالسياق.

قادراً على ذلك) 1، فإن كان واحد منهما قادراً على فعل ما يقدر عليه الآخر بدلاً منه لم يصح أن يفعل كل واحد منهما ما يقدر عليه الآخر إلا بترك الآخر له، وإذا كان كل واحد منهما لا يفعل إلا بترك الآخر له جاز أن يمنع كل واحد منهما صاحبه من ذلك، ومن يجوز2 أن يُمنع ولا يفعل إلا بترك غيره له فهو مدبَّر عاجز، وإن كان كل واحد منهما لا يقدر فعل مثل مقدور الآخر بدلاً منه وجب عجزهما وحدوث قدرتهما، والعاجز لا يكون إلهاً ولا رباً3.

_ 1 لعل ما بين المعقوفتين كتب خطأ من الناسخ، والكلام مستقيم بدونه، وهو هكذا في (ت) وما بين الحاصرتين المزدوجتين منها، والجملة كلها ليست موجودة في نسخة ابن تيمية. 2 في (ت) "ومتى يجوز". 3 في هذه الصفحة وما سبقها يسوق الأشعري الدليل على وحدانية الله سبحانه وتعالى من خلال الآية الكريمة: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ، إلا أنه - رحمه الله - سلك طريقة المتكلمين في ذلك، وإن كانت طريقة صحيحة مفضية إلى المطلوب إلا أنها ليست المقصودة من الآية، والاستدلال بها في هذا الموطن غير سليم، بل هو مناف للفهم السلفي الدقيق؛ وذلك أن المتكلمين ذهبوا إلى أن الله واحد. بمعنى: عدم مشاركة الغير له في الألوهية، ويقول ابن تيمية: "إن المتقدمين منهم اعتمدوا دليل التمانع، وظنوا أنه هو الدليل المذكور في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} مع أن الأمر ليس كذلك" (انظر: منهاج السنة 2/81) . ويرى "ابن تيمية" أن المقصود من الآية بيان امتناع الألوهية من جهة الفساد الناشئ عن عبادة ما سوى الله تعالى؛ لأنه لا صلاح للخلق إلا بالمعبود المراد لذاته من جهة غاية أفعالهم ونهاية حركاتهم، وما سوى الله تعالى لا يصلح أن يكون معبوداً، فلو كان فيهما معبود غيره لفسدتا من هذه الجهة فإنه سبحانه هو المعبود المحبوب لذاته، كما أنه هو الرب الخالق بمشيئته وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل ويوضح الدكتور "محمد خليل الهراس" وجهة نظر ابن تيمية فيقول: "فالآية في نظر "ابن تيمية" ليس المقصود منها تقرير توحيد الربوبية وبيان أنه سبحانه الخالق لكل شيء، فإن هذا النوع من التوحيد كان يعرفه المشركون من العرب وغيرهم في نظر "ابن تيمية" ثم يقول: "ولكن المقصود منها هو تقرير التوحيد في الألوهية بمعنى بيان امتناع وجود إله يستحق العبادة مع الله، وهو متضمن أيضاً لتوحيد الربوبية، والحاصل أن ابن تيمية يرى أن برهان التمنانع الذي ذهب إليه نظار المتكلمين كاف في إثبات امتناع صدور العالم عن اثنين الذي هو توحيد الربوبية، ولكنه قاصر عن توحيد الألوهية، والقرآن إنما جاء بتقرير النوعين معاً". (انظر: كتابه ابن تيمية السلفي ص88) . ومما تجدر الإشارة إليه هنا: أن "ابن تيمية" لم يبطل طريقة المتكلمين التي ذكرها الأشعري، وإنما أشار إلى أنها ليست طريقة القرآن وإن كانت طريقة عقلية صحيحة، وطريقته في ذلك هي تقرير توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية، ويذكر ابن تيمية أن أعظم دليل جاء في ذلك هو قول الله جل ذكره: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (المؤمنون/ 91) فهذه الآية ذكر فيها برهانين يقينين على امتناع أن يكون مع الله إله آخر بقوله: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، وقد عرف أنه لم يذهب كل إله بما خلق، ولا علا بعضهم على بعض. ويستمر "ابن تيمية" في الكلام على هذه الآية مبيناً أن توحيد الله وعبادته أمر هام جداً دعا إليه القرآن ووضحه الرسول توضيحاً شافياً؛ لأن الحاجة تدعو إليه، وخاصة أن مشركي قريش كانوا يعترفون بتوحيد الربوبية. (انظر: منهاج السنة 2/84- 90) . وهذا التحليل الذي عرضه "ابن تيمية" لهذه القضية يدل على أنه - رحمه الله - كان صاحب فهم دقيق عميق بكتاب الله جل ذكره. ولقد أشاد بهذا الفهم الدكتور "محمد خليل الهراس" فعقب على كلام ابن تيمية بقوله: "ومن الحق أن نقرر أننا لم نجد من سبق "ابن تيمية" إلى تفسير تلك الآية، وتقرير ما فيها من الأدلة على التوحيد على هذا النحو من البسط والبيان". (انظر: كتابه ابن تيمية السلفي ص91) ، وانظر: شرح وتعليق "ابن القيم" على هذه الآية في مختصر الصواعق 1/95) . ولقد تعرض الأشعري أيضاً في اللمع لهذه المسألة، واستدل بالآية نفسها، وكلامه هناك يشبه تماماً ما في رسائل الثغر التي معنا، بل هناك تعبيرات تكاد تكون واحدة، وهذا مما يقطع بثبوت الرسالة له بلا نزاع. (انظر: اللمع 20/21) .

ثم نبه المنكرين للإعادة مع إقرارهم بالابتداء1 على جواز إعادته تعالى لهم حيث قال لهم: لما استكبروها2، وقالوا: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 3. ثم أوضح لهم ذلك بقوله عز وجل: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} 4 فدلهم بما يشاهدونه من جعله النار من (العفار والمرخ)

_ 1 في (ت) "بالإبتواء". 2 هكذا بالأصل، و (ت) وعند ابن تيمية "استكروها". 3 سورة يس: آية (78، 79) . وهاتان الآيتان من أقوى الأدلة على البعث والدار الآخرة، ويستنبط "ابن تيمية" من هذه الآية قاعدة فيقول: "إن وجود الشيء دليل على ما دونه أولى بالإمكان منه" ويفصل ذلك عند تعرضه لقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاس} فيقول: "إنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم والقدرة عليه أبلغ, وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك، وكذلك استدلاله على ذلك بالنشأة الأولى في مثل قوله: " وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ". (انظر: الموافقة 1/20) . ولقد ذكر "الشنقيطي" أن براهين البعث بعد الموت في القرآن أربعة: الأول: خلق السماوات والأرض كقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} . الثاني: خلق الإنسان أولاً، كما في الآية التي استدل بها الأشعري. الثالث: إحياء الأرض بعد موتها، كما جاء في قوله: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} . الرابع: إحياء الله بعض الموتى في دار الدنيا كما جاء في قوله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} . (انظر: أضواء البيان 3/203، 204) . وانظر ما كتبه الدكتور "علي ناصر" حول ذلك في مجلة الجامعة الإسلامية العدد "50، 51" ص73- 76 وذلك تحت مقال بعنوان "مسلك القرآن الكريم في إثبات البعث". 4 سورة يس: آية (80) . وهذه الآية جاءت دليلاً آخر لتأكيد البعث والجزاء، وقد ذكر الأشعري أنها موضحة للآية السابقة، وذلك أنها تبين أن الذي يخرج من الشجر الأخضر ناراً تحرق لا يمتنع عليه فعل ما أراد، ومن ذلك بعث الأجساد. (وانظر: تفسير الطبري 23/32، وفي ظلال القرآن لسيد قطب 5/297) . 5 ما بين المعقوفتين من نسخة ابن تيمية وفي الأصل "القشر والمرخ" وفي (ت) "المعشر والمرخ"، والصواب ما جاء في نسخة ابن تيمية، وفي تفسير القرطبي ما يؤكد صحة هذا التعبير في قوله: "ويعني بالآية: ما في المرخ والعفار، وهي زنادة العرب، ومنه قولهم: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار، فالعفار الزند وهو الأعلى، والمرخ الزندة وهي الأسفل…". (انظر: تفسير القرطبي 15/59، 60، وابن كثير 6/581) . والمرخ: شجر كثير الوري سريعه. (انظر: لسان العرب 4/22، والقاموس المحيط 1/269، ومحاسن التأويل للقاسمي 14/5021) .

وهما شجرتان (خضراوان) 1 إذا حكت2 إحداهما الأخرى بتحريك الريح لهما اشتعل النار فيهما - على جواز إعادته المياه في العظام النخرة والجلود المتمزقة. ثم نبه عباد الأصنام بتعريفه لهم على فساد ما صاروا إلى عبادتها3 مع نحتها بقوله عز وجل: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} 4 ثم قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 5 فبين لهم فساد عبادتها، ووجوب عبادته دونها بأنها إذا كانت لا تصير أصناماً إلا بنحتكم لها، فأنتم أيضاً أولى أن تكونوا على ما أنتم عليه من الصور والهيئات (التي لم تكن) 6 إلا بفعلي، وإني مع خلقي لكم وما تنحتونه (خالق) 7 لنحتكم إذ8 كنت9 أنا المقدر لكم عليه10 والممكن لكم11 منه12.

_ 1 ما بين المعقوفتين من نسخة ابن تيمية، وفي الأصل، و (ت) "خضراوتان". 2 في الأصل: "حلت"، وما أثبته من (ت) ونسخة ابن تيمية. 3 في (ت) "عبادتهم". 4 سورة الصافات: آية (95) . 5 سورة الصافات: آية (96) . 6 ما بين المعقوفتين غير موجود بالأصل، و (ت) والسياق يقتضيه. 7 في الأصل "خالقاً" وفي (ت) "خلقاً" وما أثبته من نسخة ابن تيمية وهو الصواب. 8 في (ت) "إذاً". 9 ساقطة من (ت) . 10 في الأصل كلمة "عليه" مكررة. 11 في (ت) "لهم". 12 مراد الأشعري بكلامه هذا إبطال الآلهة المزيفة التي عبدها المشركون من دون الله تعالى، وإبطال قول القدرية في أن العبد يخلق فعل نفسه، ولقد استدل على ذلك بالآيات التي ذكرها، وقد اختلف العلماء في إعراب "ما" في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وقد ساق "ابن حجر" في الفتح معظم الأقوال في ذلك، ورجح أنها مصدرية ليقرر أن الله خالق لأفعال العباد. وذهب البعض إلى ترجيح كونها موصولة لمناسبة السياق. قال أبو حيان: "الظاهر أن "ما" موصولة بمعنى الذي معطوفة على الضمير في "خلقكم"، أي: أنشأ ذواتكم وذوات ما تعملون من الأصنام والعمل هو التصوير والتشكيل، كما يقال: عمل الصانع الخلخال، ويحمل ذلك على أن "ما" بمعنى "الذي" ليتم الاحتجاج بأن كلا من الصنم وعابده هو مخلوق لله تعالى…". (انظر: البحر المحيط 7/967) . وذهب "ابن تيمية" إلى ذلك وأشار إلى هذا المعنى فقال: "فإنه في أصح القولين "ما" بمعنى "الذي"، والمراد به ما تنحتونه من الأصنام كما قال تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أي: والله خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها، ومنه حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله خالق كل صانع وصنعته". ولكن قد يستدل بالآية على أن الله خلق أفعال العباد من وجه آجر - فيقال: إذا كان خالقاً لما يعملونه من المنحوتات لزم أن يكون هو الخالق للتأليف الذي أحدثوه فيها، فإنها إنما صارت أوثاناً بذلك التأليف، وإلا فهي بدون ذلك ليست معمولة لهم، وإذا كان خالقاً للتأليف كان خالقاً لأفعالهم" (انظر: مجموع الفتاوى 8/121، وانظر كتاب إيثار الحق على الخلق ص349- 357) .

ثم رد على المنكرين لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} 1 وقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 2. ثم احتج النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الكتاب بما في كتبهم من ذكر صفته، والدلالة على اسمه ونعته3، وتحدى النصارى لما كتموا ما في كتبهم4 من ذلك وجحدوه بالمباهلة عند أمر الله عز وجل له بذلك بقوله تعالى5: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} 6.

_ 1 سورة الأنعام: آية (91) . ولقد ساق ابن جرير في تفسيره روايات عديدة تفيد أنها نزلت في اليهود، وروايات تفيد أنها نزلت في المشركين، وهو الراجح لمناسبة السياق، لذلك عقب ابن جرير على الروايات بقوله: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: عني بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} مشركو قريش". (انظر: جامع البيان 11/524) . والآية توبيخ شديد للكافرين بنعم الله على عباده، المنكرين لنزول الوحي من عنده، كما أنها تلزمهم الإيمان بالقرآن، والإقرار بأنه وحي من عند الله، كما آمنوا بالتوراة، وقد أشار أبو السعود في تفسيره إلى ذلك فقال: "وليس المراد بهذا مجرد إلزامهم الاعتراف بإنزال التوراة فقط، بل بإنزال القرآن أيضاً، فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعاً لما فيها من الشواهد الناطفة به". (انظر: تفسيره 2/249) . 2 سورة النساء: آية (165) . وهذه الآية حجة من الله على عباده قطع بها عذر من صد عن سبيله وعبد الأنداد من دونه، لأن الله أرسل الرسل مبشرين بثوابه لمن أطاعهم ومنذرين بعقابه لمن خالفهم. قال ابن جرير فيها: "… فقطع حجة كل مبطل ألحد في توحيده وخالف أمره، بجميع معاني الحجج القاطعة عذره، إعذاراً منه بذلك إليهم لتكون لله الحجة البالغة عليهم، وعلى جميع خلقه". (انظر: تفسيره 9/408) . 3 أخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن هذه الآية التي في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} قال في التوراة: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين. أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق…." الحديث (البخاري كتاب 65 باب 3 ج6/44، ومسند أحمد 2/174، وسنن الدارمي 1/4) . كما أن عيسى عليه السلام بشَّر النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وجاء ذلك صريحاً في القرآن. (انظر سورة الصف: آية 6) . 4 في (ت) "كتبهم". 5 في (ت) "عز وجل". 6 سورة آل عمران: آية (61) . وهي تسمى آية المباهلة، وعن حذيفة رضي الله عنه قال: "جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله إن كان نبياً فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا..". (انظر: البخاري كتاب المغازي 5/120، والمسند 1/414، والترمذي كتاب المناقب باب 32 ج5/667) . وقد ذكر ابن هشام قصتهم كاملة في سيرته. (انظر: 1/573- 575 من الطبعة الثانية - طبع شركة الحلبي بالقاهرة) .

وقال لليهود لما بهتوه: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1، فلم (يجسر) 2 أحد3 منهم على ذلك مع اجتماعهم على تكذيبه، وتناهيهم في عداوته واجتهادهم في التنفير4 عنه، لما أخبرهم بحلول الموت بهم إن أجابوه إلى ذلك. فلولا معرفتهم بحاله في كتبهم وصدقه فيما يخبرهم لأقدموا على إجابته ولسارعوا إلى فعل ما يعلمون أنه فيه (توهين) 5 أمره، ثم إن الله عز وجل بعد إقامة6 الحجج عليهم أزعج خواطر جماعتهم للنظر فيما دعاهم إليه ونبههم عليه بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة، وأيده بالقرآن الذي تحدى به فصحاء قومه الذين بعث إليهم لما قالوا إنه مفترى أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات أو بسورة مثله وقد خاطبهم فيه بلغتهم فعجزوا عن ذلك مع إخباره له7 أنهم لا يأتون بمثله ولو تظاهر على ذلك الإنس والجن8. وقطع عليه السلام عذرهم به وعذر غيرهم، كما قطع موسى عليه السلام عذر السحرة وغيرهم في زمانه بالعصى التي فضحت سحرهم، وبان بما كان منها لهم

_ 1 سورة الجمعة: آية (6) . وهذه مباهلة خاصة باليهود، وقد ربط ابن كثير بين هذه الآية وبين ما جاء في سورة البقرة من مباهلتهم أيضاً في آية (94، 95) ، وعلق بقوله: "فهم عليهم لعائن الله، لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى. دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم، أو من المسلمين، فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون…" (انظر: تفسيره 1/183) . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال أبو جهل: لئن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ عنقه قال: فقال: "لو فعل لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم في النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً". أخرجه أحمد في المسند 1/248، وأخرج البخاري ما يتعلق بأبي جهل في كتاب التفسير عند تفسيره سورة العلق 6/289، وكذلك الترمذي 5/244، وانظر: مجمع الزوائد 8/228. وذهب ابن حجر في الفتح إلى أن تحدي الله لليهود في القرآن من أظهر معجزات القرآن فقال: "ومن أظهر معجزات القرآن إبقاؤه مع استمرار الإعجاز، وأشهر من ذلك تحديه اليهود أن يتمنوا الموت، فلم يقع ممن سلف منهم، ولا خلف من تصدى لذلك، ولا أقدم مع شدة عداوتهم لهذا الدين، وحرصهم على إفساده، والصد عنه فكان في ذلك أوضح معجزة". (انظر: فتح الباري 6/582) . 2 ما بين المعقوفتين من (ت) ونسخة ابن تيمية وفي الأصل: "فلم يجيبوه". 3 في (ت) "أحداً". 4 في الأصل: "التغير" وما أثبته من (ت) ونسخة ابن تيمية. 5 ما بين المعقوفتين من نسخة ابن تيمية، وفي الأصل و (ت) "توهن". 6 في (ت) "إقامته". 7 في (ت) "لهم". 8 يشير الأشعري هنا إلى ما جاء في القرآن من تحدي الله للكفرة والمشركين أن يأتوا بمثل القرآن، ولقد كرر الله عليهم هذا التحدي ليظهر عجزهم ويفضح أمرهم، فدعاهم أولاً أن يأتوا بمثله كما في سورة الإسراء آية: (88) ، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله كما في سورة هود آية: (12) ، ثم بسورة واحدة مثله كما في سورة يونس آية: (38) ، ثم بسورة واحدة من مثله كما في سورة البقرة آية: (23) . وفي كل مرة يفسح لهم المجال ويبيح لهم الاستعانة بمن رغبوا دون قيد أو شرط. ويلفت الدكتور "عبد الله دراز" النظر إلى أسلوب هذا التحدي فيقول وهو بصدد الكلام عن التحدي الوارد في سورة البقرة: "انظر كيف تنزل معهم في هذه المرتبة من طلب المماثلة إلى طلب شيء مما يماثل، كأنه يقول: لا أكلفكم بالمماثلة العامة، بل حسبكم أن تأتوا بشيء فيه جنس المماثلة ومطلقها، وبما يكون مثلاً على التقريب لا على التحديد، وهذا أقصى ما يمكن من التنزل…". (انظر كتابه: النبأ العظيم ص84) . والواقع أن القرآن الكريم في قمة المعجزات على الإطلاق بلغ ذروة الإعجاز في نظمه وأسلوبه، وفصاحته وبلاغته، وتأثيره في المؤمنين وحتى الكافرين دليل على ذلك، ويكفي أن رؤساء الكفر والضلال خافوا على أنفسهم من سماعه وحذر بعضهم بعضاً منه، وفي ذلك يقول الله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} سورة فصلت: آية (26) . ولقد ذكر الباقلاني بعض وجوه الإعجاز في القرآن في كتابه الإنصاف (انظر: ص62، 63) . كما عقد "القاضي عياض" في كتابه "الشفا" فصلاً ذكر فيه وجوه الإعجاز في القرآن. (انظر: كتابه 1/258) .

ولغيرهم أن ذلك من فعل الله وأن ليس يبلغه قدرهم، ولا يطمع فيه خواطرهم1. وكما قطع عيسى عليه السلام عذر من كان في زمانه من الأطباء الذين قد برعوا في معرفة العقاقير، وقواماً2 في الحشائش، وقدر ينتهي إليه علاجهم "وتبلغه حيلهم"3، بإحياء الموتى بغير علاج، وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك مما قهرهم به، وأظهر لهم منه ما يعلمون بيسير4 الفكر أنه خارج عن قدرهم5 وما يصلون إليه بحيلهم6.

_ 1 أيد الله سبحانه وتعالى نبيه موسى عليه السلام بتسع آيات كما ذكر في كتابه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ …} . سورة الإسراء: آية (101، 102) . قال ابن عباس: الآيات التسع هي: يده، وعصاه، ولسانه، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. (انظر: تفسير الطبري 15/171 من الطبعة الثالثة 1388هـ طبع شركة الحلبي بالقاهرة) . وكان على رأس هذه المعجزات العصا التي أعجزت فرعون الطاغية وحاشيته، ولما رأى السحرة أمرها أيقنوا أن الحق مع صاحبها، وأنه مؤيد من الله الذي يدعو إليه، فخروا له ساجدين، وفي ذلك يقول الله في القرآن الكريم: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} . سورة الأعراف: آية (117- 122) . 2 في (ت) "وحواماً" وفي نسخة ابن تيمية "وقوى ما في الحشائش". 3 ما بين القوسين سقط من (ت) وفي الأصل: "وتبلغوه حيلهم" وما أثبته من نسخة ابن تيمية. 4 في الأصل "بتيسير" والتصحيح من (ت) . 5 في الأصل "قهرهم"، وما أثبته من (ت) . 6 أرسل الله عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، وأيده الله سبحانه وتعالى بمعجزات خارقة جمعها القرآن الكريم في خمسة أشياء وهي: أ - خلق الطين طيراً بإذن الله. ب- إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله. جـ _ إحياء الموتى بإذن الله. د - إنزال المائدة له من عند الله. هـ - الإنباء بأمور غائبة عن حسه. ويرى الأشعري أن هذه المعجزات جاءت موافقة لما كان عليه أهل عصره وزمانه. وابن كثير يوافق الأشعري فيما ذهب إليه، ويعرض هذا الأمر بتفصيل فيقول: "كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان فذكروا أن موسى عليه السلام كانت معجزته مما يناسب أهل زمانه، وكانوا سحرة أذكياء …، وهكذا عيسى بن مريم بعث في زمن الطبائعية الحكماء، فأرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها…، وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين بعث في زمن الفصحاء البلغاء، فأنزل الله عليه القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه…". (انظر: البداية والنهاية 2/84) . ويعرض الدكتور محمد أبو زهرة لرأي ابن كثير، ويرد عليه، ويرى أن معجزة عيسى عليه السلام لم تكن على هذا النحو ولكن من بعث فيهم أطباء بل لأنه قد ساد إنكار الروح في أقوال بعضهم وأفعال جميعهم، فجاء عليه السلام يعلن عن عالم الروح، ويتمثل ذلك في نفخه للطين المصور على شكل طير فيكون طيراً بإذن الله…". (انظر: كتابه محاضرات في النصرانية ص22) . وأنا أرى أنه لا معارضة بين القولين، لأننا إذا تأملنا معجزات عيسى عليه السلام سنجد أنها جمعت الأمرين معاً، فهي أقهرتهم وأقامت الحجة عليهم لما عجزوا عن معارضتها وهي من جنس ما يفعلون، وهي في نفس الوقت دالة على وجود الروح وأهميتها، ومبينة لمنزلتها ومكانتها. والله أعلم.

وكذلك أزاح نبيّنا عليه السلام بالقرآن وما فيه من العجائب علل الفصحاء من أهله، وقطع به عذرهم لمعرفتهم1 أنه خارج عما انتهت إليه فصاحتهم في لغاتهم ونظموه في شعرهم وبسطوه في خطبهم، وأوضح لجميع من بعث إليه من الفرق الذي ذكرنا فساد ما كانوا عليه بحجج الله وبيانه، ودل على صحة ما دعاهم2 إليه ببراهين الله وآياته حتى لم يبق لأحد منهم شبهة فيه (ولا احتيج) 3 مع ما كان منه عليه السلام في ذلك إلى زيادة من غيره، ولو لم يكن ذلك كذلك لم يكن عليه السلام حجة على جماعتهم، ولا كانت طاعته لازمة لهم، مع خصامهم وشدة عنادهم4 قد5 احتجوا عليه بذلك، ودفعوه عما يوجب طاعتهم له وقرعوه بتقصيره عن إقامة الحجة عليهم فيما يدعوهم إليه مع طول تحديه لهم وكثرة تبكيتهم، وطول مقامه فيهم، ولكنهم لم يجدوا سبيلاً مع حرصهم عليه6، وإذا كان هذا على ما ذكرناه علم صحة ما ذهبنا7 إليه في

_ 1 في (ت) "لمعرفته". 2 في (ت) "ما دعهم". 3 في الأصل، و (ت) "احتج"، وما أثبته من نسخة ابن تيمية. 4 في (ت) "غيارتهم". 5 هكذا بالأصل، و (ت) ، وفي نسخة ابن تيمية "ولكانوا قد احتجوا". 6 يشير الأشعري بكلامه السابق إلى أن الله أيد الرسول صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن، وهو غاية في الوضوح والبيان، والفصاحة والإحكام حتى أعجز الجميع عن معارضته، أو الانتقاص من قيمته وشأنه وبذلك أقام الله الحجة عليهم، وقطع به عذرهم. 7 في (ت) "مذهبنا".

دعوته عليه السلام إلى التوحيد وإقامة الحجة على ذلك وإيضاحه الطرق إليها1. وقد أكد الله تعالى دلالة نبوته بما كان من2 خاص آياته عليه السلام التي نقض3 بها عاداتهم كإطعامه الجماعة الكثيرة في المجاعة الشديدة من الطعام اليسير4، وسقيهم الماء في العطش الشديد من الماء اليسير، وهو ينبع من بين أصابعه حتى رووا ورويت مواشيهم5،

_ 1 أشرت سابقاً إلى أن الله قطع عذر الكافرين ببيان القرآن ووضوحه، وهنا ينص الأشعري على أن الله جعل توحيده وعبادته في المقام الأول من ذلك. ولقد تعرض ابن القيم لهذه المسألة، وذكر أن حجج الله سبحانه وتعالى جمعت بين كونها عقلية، سمعية. ظاهرة واضحة، قليلة المقدمات وذلك مثل قوله تعالى فيما حاج به عباده من إقامة التوحيد وبطلان الشرك وقطع أسبابه، وحسم مواده كلها: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين مجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك، وسد بها عليهم أبلغ سد وأحكمه". (انظر: مختصر الصواعق المرسلة 1/94) . 2 ساقطة من (ت) . 3 في (ت) "تنقضي". 4 تكلم الأشعري فيما مضى عن القرآن الكريم، وهو المعجزة المعنوية الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتبع بذكر بعض المعجزات الحسية، وهي كثيرة جداً، وبعضها تكرر مراراً كتكثير الطعام وفوران الماء وهي ثابتة ثبوتاً قطعياً عند أهل العلم بالسنن والآثار. قال البيهقي: "ودلائل النبوة كثيرة، والأخبار بظهور المعجزات ناطقة، وهي وإن كانت في آحاد أعيانها غير متواترة، ففي جنسها متواترة متظاهرة من طريق المعنى، لأن كل شيء منها مشاكل لصاحبه في أنه أمر مزعج للخواطر ناقض العادات، وهذا أحد وجوه التواتر التي يثبت بها الحجة ويقطع بها العذر". (انظر: الاعتقاد ص127) . وقال ابن حجر: "… وأما ما عدا القرآن من نبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام، وانشقاق القمر، ونطق الجماد، فمنه ما وقع التحدي به، ومنه ما وقع دالاً على صدقه من غير سبق تحد، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يديه صلى الله عليه وسلم من خوارق العادات شيء كثير". (انظر: فتح الباري 6/582) . وأما إطعام الجماعة الكثيرة من الطعام اليسير فقد أخرجه البخاري في عدة مواضع، وكذلك مسلم وغيرهما، ومن ذلك ما جاء عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أهل الخندق قائلاً: "إن جابراً قد صنع لكم سؤراً فحي هلا بكم، ثم قال لجابر: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء، فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي، فقالت: بك، وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت، فأخرجت له عجيناً، فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثم قال: ادعي خابزة لتخبز معك، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها، وهم ألف، فأقسم بالله، لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا لتخبز كما هو". (انظر: البخاري كتاب المغازي باب 29ج51/46، 47، ومسلم كتاب الأشربة باب 19ج3/1611، ودلائل النبوة للأصبهاني ص353. 5 أخرج البخاري في كتاب المناقب باب 25 عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر، فالتمس الوضوء فلم يجده، فأوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء، فأمر الناس أن يتوضؤا منه، فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم". (انظر: 4/170) ، والحديث هكذا في مسلم كتاب الفضائل باب 3 ج4/ 1783. وأخرجه البخاري أيضاً من حديث جابر وفيه يقول: "… فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون. قال: فشربنا وتوضأنا، قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة". (انظر كتاب المغازي باب … ج5/63) . وقد عقد الأصبهاني في الدلائل مقارنة بين نبوع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وبين حجر موسى عليه السلام وبين أن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأبلغ. (انظر دلائل النبوة ص 345) . وقد ذكر الأشعري أن المواشي قد رويت من هذا الماء، ولم أقف على نص في ذلك، ولكن الماء إذا توافر وكان كثيراً استفاد منه من يحتاج إليه انساناً كان أو حيواناً وهذا واضح بحمد الله.

وكلام الذئب1، وإخبار الذراع المشوية أنها مسمومة2، وانشقاق القمر3، ومجيء الشجرة إليه عند دعائها إليه ورجوعها إلى مكانها بأمره لها4، وإخباره لهم عليه

_ 1 أخرج أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "عدا الذئب على شاة فأخذها، فطلبه الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، فقال: ألا تتقي الله؟ تنزع مني رزقاً ساقه الله إلي، فقال: يا عجبي ذئب يكلمني كلام الإنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك. محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي الصلاة جامعة، ثم خرج، فقال للراعي: أخبرهم فأخبرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق …الحديث". (انظر المسند 2/306، ورواه أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري انظر: 3/83، 84) . وقال الهيثمي بعد رواية أبي سعيد الخدري: "رواه أحمد والبزار بنحوه باختصار، ورجال أحد إسنادي أحمد رجال الصحيح، وقال بعد رواية أبي هريرة التي ذكرناها: هو في الصحيح باختصار، ورواه أحمد ورجاله ثقات". انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 8/291، 292) . كما أخرج القصة ابن كثير تحت عنوان "قصة الذئب وشهادته بالرسالة" ثم قال بعد سردها، وهذا إسناد على شرط الصحيح، وقد صححه البيهقي. (انظر: البداية والنهاية 6/143) . 2 بوب البخاري في الصحيح لذلك بقوله: "باب الشاة التي سمت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، وروى عن أبي هريرة أنه قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم" (انظر كتاب المغازي باب 41 ج5/84) . وأخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فأرسل إليها فقال ما حملك على ما صنعت؟ قالت: أحببت أو أردت إن كنت نبياً فإن الله سيطلعك عليه … الحديث" قال الهيثمي: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير هلال بن خباب وهو ثقة" (انظر: مجمع الزوائد 8/295، والفتح الرباني للساعاتي 21/124) . وقد أخرج ابن هشام القصة كاملة في سيرته، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم. (انظر: سيرة ابن هشام 3/338) . 3 أخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اشهدوا" (انظر كتاب المناقب باب 26 ج4/186، وأخرجه مسلم في كتاب المنافقين باب 43 ج4/50، وأحمد في مسنده 1/377، وانظر دلائل النبوة للبيهقي 2/40، ودلائل النبوة للأصبهاني ص233- 236) . 4 عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأقبل أعرابي، فلما دنا قال له النبي صلى الله عليه وسلم أين تريد؟ قال: إلى أهلي، قال: هل لك في خير؟ قال: وما هو؟ قال تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله، قال: من شاهد على ما تقول؟ قال: هذه الشجرة، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض خداً، حتى جاءت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً فشهدت أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها…". (رواه الطبراني في الكبير 12/432) . وقال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح" (انظر: مجمع الزوائد ج8/292) . وقد ذكر أحمد في مسنده مجيء الشجرة لاستتار النبي صلى الله عليه وسلم في قضاء الحاجة. (انظر: المسند 4/172) .

السلام بما تجنه1 صدورهم، وما يغيبون2 به عنه من أخبارهم3، ثم دعاهم عليه السلام إلى معرفة الله عز وجل وإلى طاعته فيما كلف تبليغه إليهم بقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 4، وعرفهم أمر الله تعالى بإبلاغه ذلك، وما ضمنه5 له من عصمته منهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 6 فعصمه7 الله منهم مع كثرتهم وشدة

_ 1 جن الشيء يجنه جناً ستره، وكل شيء ستر عنك فقد جن عنك، وبه يسمى الجن جناً لاستتارهم واختفائهم. (انظر: لسان العرب 16/244) . 2 في الأصل و (ت) "يعينون" وما أثبته من نسخة ابن تيمية وهو الصواب. 3 كان الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره عما يغيب عنه من أخبار المنافقين، وقد دل على ذلك ما جاء في سورة التوبة. (انظر: تفسير الطبري 10/173) ، كما ثبت في الصحيح والسير قصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عنه، وكذلك أخبر عن موت زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، ونعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه. (انظر: الاعتقاد للبيهقي ص151) . وينبغي أن يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب من عند نفسه، بل علمه به من قبل ربه، وفيما هو مصلحة للدعوة، وتأمل قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ …} الجن آية: (26- 28) . 4 الآية من سورة النساء، وتمامها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} آية: (59) . ويتبين من هذه الآية ونظائرها أن الله أوجب في كتابه اتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا يجب التنبيه إليه، حيث إن كثيراً من المسلمين أهملوا هذا الجانب، فتركوا السنة، أو ابتعدوا عنها قليلاً أو كثيراً، بحجة أن الله لم يفرض علينا سوى القرآن، والواقع يخالف ذلك، فالذي فرض القرآن هو الذي أوجب علينا اتباع سنة خير الأنام صلى الله عليه وسلم، ولقد قال الشافعي - رحمه الله - في الرسالة: "وضع الله رسوله من دينه وفرضه وكتابه الموضع الذي أبان جل ثناؤه أنه جعله علماً لدينه بما افترض من طاعته، وحرم من معصيته، وأبان من فضيلته بما قرن من الإيمان برسوله مع الإيمان به". (انظر: الرسالة ص73 من الطبعة الأولى 1358هـ) . وقال الشوكاني عقب ذكره للآيات الآمرة باتباع النبي صلى الله عليه وسلم: "ويستفاد من جميع ما ذكره أن ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه كان الأخذ به واتباعه واجباً بأمر الله سبحانه، وكانت الطاعة لرسول الله في ذلك طاعة لله، وكان الأمر من رسول الله أمراً من الله". (انظر: شرح الصدور بتحريم رفع القبور ص11) . 5 في الأصل، و (ت) "لهم". وأثبته من نسخة ابن تيمية وهو الصواب. 6 المائدة آية: (67) . وهذه الآية تفيد إفادة قطعية أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الإبلاغ المبين، وجاهد في سبيل ذلك حتى أتاه اليقين. وقد أخرج البخاري في تفسيره لهذه الآية قول عائشة - رضي الله عنها - "من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل عليه فقد كذب، الله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (انظر: تفسير المائدة 5/188، وسورة النجم 6/250، وكتاب التوحيد باب 46 ج8/210، ومسلم كتاب الإيمان باب 77ج1/159، والترمذي كتاب التفسير باب 7 ج5/262) . وفي هذه الآية أيضاً رد على الباطنية والروافض وغلاة المتصوفة الذين يقولون بالظاهر والباطن. ولقد تعرض لهم رشيد رضا في تفسيره للآية فقال: "… فأما الباطنية فأئمتهم في مذاهبهم زنادقة..، وأما المتصوفة فقد راج على بعضهم بعض الشبهات والتأويلات لضعفهم في علم الكتاب والسنة، ثم قال: والحق الذي لا مرية فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ جميع ما أنزل إليه من القرآن وبينه، ولم يخص أحداً بشيء من علم الدين، وأنه لا يمتاز أحد في علم الدين على أحد إلا بفهم القرآن…" (انظر تفسيره: 6/463- 474) . 7 في الأصل: "فعصمة" بالتاء، وما أثبته من (ت) ونسخة ابن تيمية.

بأسهم، وما كانوا عليه من شدة عنادهم وعداوتهم له حتى بلغ رسالة ربه تعالى إليهم مع (كثرتهم) 1، ووحدته2 وتبري أهله منه، ومعاداة عشيرته، وقصد جميع المخالفين له حين سفه آراءهم فيما كانوا عليه من تعظيم أصنامهم، وعبادة النيران وتعظيم الكواكب3 وإنكار الربوبية4 وغير ذلك مما كانوا عليه حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وأوضح الحجة في فساد جميع ما نهاهم عنه مما كانوا عليه، ودلهم على صحة جميع ما دعاهم إلى اعتقاده وفعله بحجج الله وتبيانه (لهم) 5. وأنه عليه السلام لم يؤخر عنهم بيان شيء مما دعاهم إليه عن وقت تكليفه لهم، وإنما جوز فريق من أهل العلم تأخير البيان فيما (أجمله) 6 الله من الأحكام قبل بروز فعله لهم، فأما تأخير ذلك عن وقت فعله فغير جائز عند كافتهم7.

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت) ، ونسخة ابن تيمية. 2 هكذا بالأصل ونسخة ابن تيمية وفي (ت) "وحدته". 3 وقد وقع هذا من المجوس، وقد سبق التعريف بهم. (انظر ص142، والملل والنحل 2/70- 93 عل هامش الفصل لابن حزم. 4 وقد وقع هذا من الدهريين. (انظر ما تقدم ذكره عنهم ص141) ، أما مشركو العرب فكانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية مع إشراكهم بالله في توحيد الألوهية ولم ينفعهم إيمانهم بالربوبية وحده، بل ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم رقابهم في بدر لكونهم أشركوا بالله في الألوهية. 5 ما بين المعقوفتين ساقط من (ت) . سبق أن أشرت إلى تعريف الطوائف التي ذكرها الأشعري، وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاها إلى الله عز وجل وإلى عبادته وحده لا شريك له، وهنا ينص على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخر وسعاً في تبليغ رسالة الله إلى هذه الطوائف كلها رغم العوائق الكثيرة في طريقه، ولم يداهن أحداًًً من قومه رغم وقوفهم جميعاً ضده، بل دعا إلى الله على بينة وبصيرة من ربه. وتتجلى قدرة الله وعظمته هنا، بأن حفظ نبيه ومصطفاه منهم، حتى بلغ رسالة ربه كاملة، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. 6 في (ت) "حمله" وفي الأصل "جملة" وما أثبته من نسخة ابن تيمية. 7 يذكر الأشعري هنا قاعدة اتفق عليها أهل الأصول، وهي أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. قال الفراء البغدادي: "لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأن وقت الحاجة وقت الأداء، فإذا لم يكن مبيناً تعذر الأداء، فلم يكن بد من البيان". (انظر: كتابه العدة في أصول الفقه 3/724، وانظر كذلك شرح الكوكب المنير ص321) . وأما تأخير البيان فيما أجمله الله من الأحكام قبل بروز فعله، فقد قال به جمهور الأصوليين، ونص عليه أحمد بن عبد العزيز الفتوحي في شرح الكوكب المنير، وخلاصة ما ذكر: أنه يجوز تأخير البيان وتأخير تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم الحكم إلى وقت الحاجة، وقال: "حكاه ابن عقيل عن جمهور الفقهاء، وذكره المجد عن أكثر أصحابنا فهو جائز وواقع مطلقاً" (انظر: شرح الكوكب المنير ص231- 232) . وقال القرافي: "من جوز تكليف ما لا يطاق، جوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وتأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز عندنا…". (انظر شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول ص282) . وبهذا يظهر أن كلام الأشعري أعلاه يوافق موافقة تامة ما قاله علماء الأصول ومراده منه واضح.

ومعلوم عند سائر العقلاء أن ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليه من واجهه من أمته من اعتقاد حدثهم ومعرفة المحدث لهم وتوحيده ومعرفة أسمائه1 الحسنى وما هو عليه من صفات نفسه2 وصفات فعله3، وتصديقه فيما بلغهم من رسالته مما لا يصح4 أن يؤخر عنهم البيان فيه5؛ لأنه عليه السلام لم يجعل (لهم) 6 فيما كلفهم من (ذلك) 7 من مهلة، ولا أمرهم بفعله في الزمن المتراخي عنه، وإنما أمرهم بفعل (ذلك) 8 على الفور، وإذا9 كان ذلك من قبل أنه لو أخر ذلك عنهم لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إلى فعله، وألزمهم ما لا طريق لهم إلى الطاعة فيه، وهذا غير جائز عليه لما يقتضيه ذلك من بطلان أمره وسقوط طاعته10. وهذا (المعنى) 11 لم تجد عن أحد من صحابته خلافاً12 في شيء مما وقف عليه السلام جماعتهم (عليه) 13، ولا شك في شيء منه، ولا نقل عنهم كلام في شيء من ذلك، ولا زيادة على ما نبههم عليه من الحجج، بل نصوا جميعاً (رحمة الله عليهم) 14

_ 1 في الأصل: "أسماء" وما أثبته من (ت) . 2 الأولى أن يقول: "من صفات ذاته"، لأنها تقابل صفات فعله. 3 ينص الأشعري هنا على أن توحيد الله وإفراده بالعبادة، ومعرفة أسماء الله وصفاته من أهم الأمور التي دعا إليها الإسلام، بل هي لب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يؤخر بيانها ولم يفتر عن دعوة الناس إليها. ويفهم من ذلك أنه ينبغي على كل مسلم أن يوحد الله ويؤمن بأسمائه وصفاته على الوجه اللائق به سبحانه، وأن ذلك من أصول الدين، ومن أشرف العلوم. 4 في الأصل و (ت) "يصح" بدون "لا" وأثبتها ليستقيم المعنى، وهي كما أثبتها في نسخة ابن تيمية. 5 في (ت) "البيان فيهم فيه". 6 ساقطة من الأصل، وأثبتها من (ت) ونسخة ابن تيمية. 7 في الأصل: "الله" مكان "ذلك" وأثبتها من (ت) ونسخة ابن تيمية. 8 في الأصل: "الله" مكان "ذلك" وأثبتها من (ت) ونسخة ابن تيمية. 9 هكذا بالأصل و (ت) وفي نسخة ابن تيمية "وإنما كان". 10 سبق أن نص الأشعري على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخر البيان عن أمته فيما تدعو الحاجة إليه. ويقيم هنا حجة على ذلك ملخصها: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من أمته تحقيق ما يأمرهم به على الفور، ويتطلب ذلك حصول البيان منه على الفور أيضاً، حتى يتم تنفيذ ما طلب، ولو طلب منهم ما لم يبينه لهم لعد ذلك من باب المستحيلات ولكان ضرباً من العبث المنزه عنه صلى الله عليه وسلم. 11 ساقط من الأصل، وأثبتها من (ت) ونسخة ابن تيمية. 12 في الأصل، و (ع) : "خلاف"، والصواب ما أثبته. 13 ليست في الأصل، (ت) والسياق يقتضيها. 14 ما بين القوسين ساقط من (ت) .

على ذلك، وهم متفقون لا يختلفون في حدوثهم1 ولا في2 توحيد المحدث لهم وأسمائه وصفاته، وتسليم جميع المقادير إليه والرضا فيها بأقسامه3، لما قد ثلجت به صدورهم، وتبينوا وجوه الأدلة التي نبههم عليه السلام (عليها) 4 عند دعائه لهم إليها. وعرفوا بها صدقه في جميع ما أخبرهم به، وإنما تكلفوا البحث والنظر فيما كلفوه5 من الاجتهاد في حوادث الأحكام عند نزولها بهم، وحدوثها6 فيهم، وردها إلى معاني الأصول التي وقفهم عليها، ونبههم بالإشارة على ما فيها، فكان منهم - رحمة الله عليهم - في ذلك ما نقل إلينا من طريق الاجتهاد التي اتفقوا عليها، والطرق التي اختلفوا فيها7. ولم يقلد بعضهم بعضاً فيما صاروا إليه من جميع ذلك، لما كلفوه من الاجتهاد وأمروا به8.

_ 1 في الأصل، و (ع) : "حدثهم" ولعل الصواب ما أثبته. 2 ساقطة من (ت) . 3 هذا أمر مقطوع به عن الصحابة - رضي الله عنهم - والأقوال عنهم في ذلك ثابتة ومتوافرة، وقد جمع بعضها ابن أبي عاصم في كتابه السنة، والبخاري في الصحيح، والذهبي في كتابه العلو، وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية، وسيأتي ذكر ما أجمع عليه السلف في أصول الدين فيما بعد إن شاء الله تعالى. 4 في الأصل، و (ت) : "عليه"، وما أثبته من نسخة ابن تيمية. 5 في (ت) : "كلفوا". 6 في الأصل: "وحدثوها"، والتصحيح من (ت) ونسخة ابن تيمية. 7 الاجتهاد: عبارة عن بذل المجهود، واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال. (انظر: المستصفى للغزالي 2/352) . ويعرفه الدكتور محمد مدكور بقوله: "هو بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها بالنظر المؤدي إليها". (انظر: كتابه أصول الفقه الإسلامي ص343) . أما مجال الاجتهاد فهو في الأحكام الشرعية التي لم يرد بشأنها نص قطعي أو إجماع، فالعقائد وغيرها من الأحكام المنصوص عليها لا مجال فيها لرأي أو اجتهاد، فإن الحق فيها واحد، والمصيب واحد، والمخطئ آثم معاقب. وهذا معنى كلام الأشعري أعلاه، بل إنه ينص على أنه ينبغي على المجتهد أن يرد الأحكام الجديدة التي تنزل به إلى أصولها في الشريعة الإسلامية، ولا يحكم عليها برأيه، أو هواه، وهذا ما قرره علماء الأصول. ويقول الدكتور محمد مدكور: "ينبغي للمجتهد أن ينظر أولاً في النصوص من كتاب الله وسنة رسوله، فإن لم يجد في نصوصهما حكم مسألته، أخذ بالظواهر منهما، وما يستفاد من منطوقهما ومفهومهما، فإن لم يجد نظر في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وتقريراته لبعض أفراد أمته، ثم في الإجماع، ثم في القياس على ما يقتضيه اجتهاده من العمل بمسالك العلة ملاحظاً القواعد الكلية. والاجتهاد بالرأي لا يكون صحيحاً إلا إذا كان منضبطاً بعدم مخالفته للنص". (المرجع السابق ص348) . 8 التقليد: هو أخذ قول الغير بغير حجة شرعية كأخذ العامي عن عامي مثله وأخذ المجتهد عن مجتهد مثله دون نظر في الدليل، وهذا هو الذي لم يقع في الصحابة كما ذكر الأشعري، فلم يقلد بعضهم بعضاً في مسائل الاجتهاد، بخلاف العامة فإنهم يقلدون المجتهدين، وقد ذكر القرافي أن مذهب مالك وجمهور العلماء إبطال التقليد، واستثنى مالك من ذلك مسائل منها: تقليد العوام المجتهدين في الأحكام. (انظر: شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول ص 430) . وقال ابن تيمية: "… وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند الجمهور". (انظر: مجموع الفتاوى 19/262) . ويفهم مما ذكر أن أخذ قول الغير بدليل شرعي ليس من باب التقليد ولذلك قال صاحب فواتح الرحموت بعد تعريفه للتقليد: "… فالرجوع إلى النبي- عليه الصلاة والسلام - أو إلى الإجماع ليس منه، فإنه رجوع إلى الدليل، وكذا رجوع العامي إلى المفتي، والقاضي إلى العدول ليس هذا الرجوع نفسه تقليداً". (انظر: فواتح الرحموت بشرح مُسَلَّم الثبوت في أصول الفقه بذيل المستصفى 2/400) . وأحب أن أؤكد على أنه لا يجوز للعامي أن يتخذ آراء الرجال ديناً ومذهباً، ولكن يجب عليه إذا نزلت به النازلة أن يذهب إلى عالم بالكتاب والسنة فيسأله عن حكم الله تعالى ورسوله في هذه النازلة. ولقد فصل القول في هذه المسألة الفلاتي (ت/ 1218هـ) في كتابه إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار.

فأما ما دعاهم إليه عليه السلام من معرفة حدثهم، والمعرفة1 بمحدثهم، ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا وعدله وحكمته، فقد بين2 لهم وجوه الأدلة في جميعه، حتى ثلجت صدورهم به، وامتنعوا عن3 استئناف الأدلة فيه، وبلغوا جميع ما وقفوا عليه من ذلك، واتفقوا عليه إلى من بعدهم، فكان عذرهم فيما دعوا إليه من ذلك (مقطوعاً) 4 بما نبههم النبي صلى الله عليه وسلم من الدلالة5 على ذلك، وما شاهدوه من آيات الدلالة6 على صدقه7. وعذر سائر من تأخر عنه مقطوع بنقلهم ذلك إليهم8، ونقل أهل كل زمان حجة

_ 1 في (ت) "ومعرفة". 2 في (ت) "تبين". 3 في (ت) "على". 4 في الأصل و (ت) : "مقطوع" وما أثبته من نسخة ابن تيمية. 5 في (ت) "الأدلة". 6 في (ت) ونسخة ابن تيمية: "من آياته الدالة". 7 ينص الأشعري هنا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوضح الطريق إلى الله غاية الوضوح، وخاصة فيما يتعلق بالعقيدة التي هي أساس الدين، وتلقى ذلك منه الصحابة وأجمعوا عليه فصار عذر من جاء بعدهم مقطوع بتبليغ ذلك إليهم. يقول ابن تيمية في ذلك: "… أما القسم الأول فكل ما يحتاج الناس إلى معرفته واعتقاده والتصديق به من هذه المسائل فقد بينه الله ورسوله بياناً شافياً قاطعاً للعذر، إذ هذا من أعظم ما بلغه الرسول البلاغ المبين وبينه للناس، وهو من أعظم ما أقام الله به الحجة على عباده فيه بالرسل الذين بينوه وبلغوه، وكتاب الله الذي نقل الصحابة، ثم التابعون لفظه ومعانيه، والحكمة التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتملة من ذلك على غاية المراد وتمام الواجب والمستحب". (انظر: الموافقة 1/16) . ويقول ابن القيم: "… والله سبحانه حاج عباده على ألسن رسله فيما أراد تقريرهم به، وإلزامهم إياه بأقرب الطرق إلى العقل، وأسهلها تناولاً وأقلها تكلفاً، وأعظمها غنى ونفعاً". (انظر: مختصر الصواعق 1/93) . ويتضح لنا من ذلك، أنه لا يجوز لأحد أن يزيد أو ينقص في مسائل الاعتقاد المنصوص على جميعها في القرآن والسنة، بل يسعنا في ذلك ما وسع سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ويقين. 8 ينص الأشعري هنا على أن الحجة قد قامت على العباد بنقل الصحابة والتابعين ومن بعدهم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلزم كل من وصلته الحجة، أن لا يحيد عنها، ولا ينظر في سواها، ولا عذر له عند ربه إن تركها، أو فرط فيها.

على من بعدهم1، من غير أن يحتاج - أرشدكم الله - في المعرفة لسائر ما دُعينا إلى اعتقاده إلى استئناف أدلة غير الأدلة التي نبه النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ودعا سائر أمته إلى تأملها. إذ كان من المستحيل أن يأتي بعد ذلك أحد بأهدى مما أتى، أو يصلوا من ذلك إلى ما بعد عنه عليه السلام 2 وجميع ما اتفقوا عليه من الأصول مشهور في أهل النقل الذين عنوا بحفظ ذلك، وانقطعوا إلى الاحتياط في (طلب) 3 الطرق الصحيحة إليه من المحدثين والفقهاء. يعلمه أكابرهم أصاغرهم، ويدرسونه4 صبيانهم في كتاتيبهم ليقروا ذلك عندهم5، وشهرته فيهم، واستغناؤهم في العلم بصحة جميع ذلك بالأدلة التي نبههم صاحب الشريعة عليها في وقت دعوته. واعلموا - أرشدكم الله - أن ما دل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات بعد تنبيه لسائر المكلفين6 على حدثهم ووجود المحدث لهم قد أوجب

_ 1 يدخل في كلام الأشعري أيضاً ما أجمع عليه أهل عصر من العصور، ويقول الأصوليون بأنه حجة على من جاء بعد هذا الإجماع، وعلى هذا يجب عليهم اتباعه ولا يجوز لهم مخالفته، وهذا ينطبق على إجماع أي عصر بلا استثناء. قال الغزالي: "ذهب داود وشيعته من أهل الظاهر إلى أنه لا حجة في إجماع من بعد الصحابة، وهو فاسد، لأن الأدلة الثلاثة على كون الإجماع حجة - أعني الكتاب والسنة والعقل - لا تفرق بين عصر وعصر، فالتابعون إذا أجمعوا فهو إجماع من جميع الأمة، فمن خالفهم فهو سالك غير سبيل المؤمنين". (انظر: المستصفى من علم الأصول 1/189، وكذلك التبصرة في أصول الفقه للشيرازي ص359) . 2 وهذا حق لا مرية فيه إلا من أعمى الله بصيرته عن الحق الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في الصحاح والسنن بأسانيد عديدة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم "، كما جاء: "إن خير الحديث كتاب الله… الخ". (انظر: البخاري كتاب الأدب باب 770/96، وكتاب الاعتصام باب 2 ج8/139، ومسلم كتاب الجمعة باب 13 ج2/592، والنسائي كتاب صلاة العيدين 3/78، والمسند 3/310، 319، 371، وابن ماجة في مقدمته 1/17) . وقد عقد ابن تيمية فصلاً في رسالته معارج الوصول قال فيه: "فصل في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جميع الدين، أصوله وفروعه باطنه وظاهره، علمه وعمله، فإن هذا الأصول هو أصل الأصول في الدين". (انظر: ج1/175 ضمن مجموعة الرسائل الكبرى) . ويقول في موطن آخر "بأن الله قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وهو الرد إلى كتاب الله أو إلى سنة الرسول بعد موته، وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} شرط، وشيء نكرة في سياق الشرط، فأي شيء تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول، ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلاً للنزاع لم يؤمروا بالرد إليه" (المرجع السابق ص190) . 3 ما بين المعقوفتين من (ت) . 4 في (ت) "يدسونه". 5 تكلم ابن أبي حاتم في تقدمة الجرح والتعديل عن مدى تحمل الصحابة والتابعين وأتباعهم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه وبلغوا ذلك لمن جاء بعدهم. (انظر: الجرح والتعديل 1/107) . 6 في (ت) ونسخة ابن تيمية: "المتكلفين".

صحة أخباره، ودل على أن ما أتى به من الكتاب والسنة من عند الله عز وجل 1. وإذا ثبت بالآيات صدقه، فقد علم صحة كل ما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وصارت أخباره عليه السلام أدلة على صحة سائر ما دعانا2 إليه من الأمور الغائبة عن حواسنا وصفات فعله، وصار خبره عن ذلك سبيلاً إلى إدراكه، وطريقاً إلى العلم بحقيقته3. وكان ما يستدل به من أخباره عليه السلام على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض4 التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة، ومن اتبعها من القدرية5، وأهل

_ 1 سبق أن تكلم الأشعري عن المعجزات النبوية، وأشار إلى أنها دليل قوي على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وهنا يعود فيؤكد ويقرر ما سبق، وينص على أن ما أيد به صلى الله عليه وسلم من المعجزات يوجب علينا تصديقه فيما يدعو إليه، لأنه مبلغ عن الذي أيده بهذه المعجزات. ويقول ابن حزم، وهو بصدد الكلام عن النبوة: "فصح ضرورة أن الله تعالى شهد لهم بما اظهر على أيديهم صحة ما أتوا به عنه، وأنه تعالى صدقهم فيما قالوه". (انظر: المحلى 1/29، والفصل 1/73، 74) . 2 في (ت) "ما دعا". 3 يشير الأشعري هنا إلى نقطة هامة جداً، وهي ما يمكن أن نطلق عليه "واجب العقل بعد إرسال الرسل"، وخلاصة قوله في ذلك هو أنه يلزم من الإيمان الرسالة وتصديق الرسول التصديق المطلق له في كل ما أخبر به عن ربه، وخاصة فيما لا يقع تحت حواسنا من الأمور الغيبية التي أخبر بها، ومنها صفات الباري جل وعلا، لأن مقتضى العقل تصديق الصادق ومنه تصديق أبي رضي الله عنه بخبر الإسراء والمعراج، ومنه أيضاً ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بينما راع في غنمه عدا الذئب فأخذ منها شاة، فطلبها حتى استنقذها فالتفت إليه الذئب فقال له: من لها يوم السبع؟ ليس لها راع غيري، فقال الناس: سبحان الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر، وما ثم أبو بكر وعمر". (البخاري باب مناقب عمر بن الخطاب 4/200، ومسلم باب فضائل أبي بكر 4/1858، والمسند 2/246) . فإيمان رسول الله بذلك وهو لم يشهده دليل على أنه أوحي به إليه، وحكمه على أبي بكر وعمر بتصديقهما لذلك وهما غير موجودين عند الحديث، لعله بتصديقهما إذا علما أن الخبر صادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قد ثبت عندهما صدقه، فلزم تصديقه في كل ما يخبر به. ويقول الشيخ محمد عبده: "بعد أن ثبت نبوته صلى الله عليه وسلم بالدليل القاطع على ما بيناه، وأنه إنما يخبر عن الله تعالى، فلا ريب أنه يجب تصديق خبره، والإيمان بما جاء به". (انظر: رسالة التوحيد ص200) . وعلى هذا أقول: يجب تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من أمور الغيب كأشراط الساعة وغيرها، ومن ذلك أسماء الله وصفاته دون إعمال العقل بنظر في ذلك. 4 في (ت) "الاعتراض" والعرض لغة ما يقل لبثه، واصطلاحاً: ما يعرض في الوجود ولا يجب له من اللبث ما للجواهر. (انظر: المغني للقاضي عبد الجبار 6/166) . 5 القدرية من الألفاظ المشتركة التي تطلق على من يقول بالقدر خيره وشره، ويقولون مع هذا بأن العبد مجبور في جميع حركاته ويسمون الجبرية، قال شارح الطحاوية: "وقد تسمى الجبرية قدرية لأنهم غلوا في إثبات القدر" (انظر: ص471) . وتطلق أيضاً على من ينفون الإرادة عن الله تعالى، ويقولون بأن العبد يخلق فعل نفسه، وهم المعنيون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم القدرية مجوس هذه الأمة. وعرفهم الإمام أحمد بقوله: "والقدرية وهم الذين يزعمون أن إليهم الاستطاعة والمشيئة والقدر، وأنهم يملكون لأنفسهم الخير والشر، والضر والنفع، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، وأن العباد يعملون بدءاً من غير أن يكون سبق لهم ذلك من الله عز وجل، أو في علمه، وقولهم يضارع قول المجوسية والنصرانية، وهو أصل الزندقة". (انظر: رسالة السنة ص81 بتصحيح الشيخ إسماعيل الأنصاري) . وأول من تكلم في القدر معبد الجهني البصري، وكان ذلك في زمن المتأخرين من الصحابة كعبد الله بن عمر وابن عباس وغيرهم، وأنكروا عليهم ذلك وهجروهم. (انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص18، والتبصرة في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن فرق الهالكين لأبي المظفر الإسفرائيني ص13، وتيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد ص687) . وذهب الملطي إلى أنهم سبع فرق أولاها: "من يزعمون أن الحسنات والخير من الله، والشر والسيئات من أنفسهم…". (انظر: تنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص157) . وقسم ابن تيمية القدرية إلى ثلاثة أصناف: أولاً القدرية المشتركة المعترفين بالقضاء والقدر، إلا أنهم قالوا بأن ذلك يوافق الأمر والنهي، وقالوا: لو شاء الله ما أشركنا وهؤلاء يؤول أمره إلى تعطيل الشرائع. ثانياً: القدرية المجوسية: وهم الذين يجلون لله شركاء في خلقه ويقولون خالق الخير غير خالق الشر، وهما قسمان: غلاة القدرية الذين يقولون بأن الله لم يسبق له علم بأفعال العباد، والقدرية المعتزلة الذين يقولون سبق بها إلا أنه لم يخلقها ولم يقدرها. ثالثاً: القدرية الإبليسية: وهم الذين صدقوا بأن الله صدر عنه الأمران لكن عندهم هذا تناقض. (انظر: مجموع الفتاوى 8/256- 261) .

البدع المنحرفين عن الرسل - عليهم السلام - من قبل أن الأعراض1 لا يصح الاستدلال (بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها، ويدق الكلام عليها، فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال) 2 على وجودها والمعرفة بفساد شبه المنكرين لها، والمعرفة بمخالفتها للجواهر في كونها لا تقوم بنفسها، ولا يجوز ذلك على شيء منها، والمعرفة بأنها لا تبقى والمعرفة باختلاف أجناسها3، وأنه لا يصح انتقالها من محالها، والمعرفة بأن ما لا ينقل منها فحكمه في الحدث حكمها، ومعرفة ما يوجب ذلك من الأدلة وما يفسد به شبه المخالفين في جميع ذلك حتى يمكن الاستدلال بها على ما هي أدلة عليه عند4 مخالفينا الذين يعتمدون في الاستدلال على ما ذكرناه بها؛ لأن العلم بذلك لا يصح عندهم إلا بعد المعرفة بسائر ما ذكرناه آنفاً، وفي كل مرتبة مما ذكرنا فرق تخالف فيها،

_ 1 في (ت) "الاعتراض". 2 ما بين المعقوفتين ساقط من (ت) وهو كما أثبته في الأصل ونسخة ابن تيمية. 3 الأجناس: جمع جنس، وهو الضرب من الشيء. قال الخليل: "كل ضرب جنس، وهو من الناس، والطير والأشياء جملة". (انظر: معجم مقاييس اللغة 1/486) . وفي اصطلاح علماء المنطق: "كل مقول على كثيرين مختلفين بالحقيقة في جواب "ما هو" من حيث هو كذلك" (انظر: التعريفات ص69، وكشاف اصطلاحات الفنون لمحمد علي الفاروقي التهانوي 1/317) . 4 في (ت) "على ما هي له له عليه عند".

ويطول الكلام معهم عليها1. وليس يحتاج - أرشدكم الله - في الاستدلال بخبر الرسول عليه السلام على ما ذكرناه من المعرفة بالأمر الغائب عن حواسنا إلى2 مثل ذلك3، لأن آياته والأدلة الدالة4 على صدقه محسوسة مشاهدة قد أعجزت القلوب، وبعثت الخواطر على النظر في صحة ما يدعو إليه، وتأمل ما استشهد به على صدقه، والمعرفة بأن آياته من قبل الله تدرك بيسير الفكر فيها5، وأنها لا يصح أن تكون6 من البشر لوضوح الطرق إلى ذلك،

_ 1 سبق أن تكلم الأشعري عن إثبات حدوث العالم، واستدل هناك ص145، 147 على حدوث الإنسان بالتغير والاختلاف، وذكرت هناك أن هذا المسلك أخذه عليه ابن تيمية - رحمه الله - وهنا يخالف الأشعري مسلك المتكلمين وينص على غموض الطريقة التي سلكوها في إثبات حدوث العالم - وهي الجوهر والعرض وبين أنها مخالفة لطريقة الأنبياء - وما سبق الأشعري قرره ابن تيمية أتم تقرير، وفي ذلك يقول: "… وتقرير المقدمات التي يحتاج إليها هذا الدليل من إثبات الأعراض التي هي الصفات أولا أو إثبات بعضها كالأكوان التي هي الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق وإثبات حدوثها بإثبات إبطال ظهورها بعد الكون، وإبطال انتقالها من محل إلى محل بعد إثبات امتناع خلو الجسم، إما عن كل جنس من أجناس الأعراض، بإثبات أن الجسم قابل لها، وأن القابل للشيء لا يخلو عنه أو عن ضده، وإما عن الأكوان وإثبات امتناع حوادث لا أول لها رابعاً, والثانية: أن ما لا يخلو عن الصفات التي هي الأعراض فهو محدث، لأن الصفات التي هي الأعراض لا تكون إلا محدثة، وقد يفرضون ذلك في بعض الصفات التي هي الأعراض كالأكوان، وما لا يخلو عن جنس الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا تتناهى". ثم يصل ابن تيمية بعد هذا العرض الدقيق لمذهبهم إلى بطلانه، ويؤكد ما سبق إليه الأشعري فيقول: "فهذه الطريقة مما يعلم بالاضطرار أن محمد صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بها إلى الإقرار بالخالق ونبوة أنبيائه، ولهذا قد اعترف حذاق أهل الكلام كالأشعري وغيره أنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم، ولا سلف الأمة وأئمتها، وذكروا أنها محرمة عندهم، بل المحققون على أنها طريقة باطلة وأن مقدماتها فيها تفصيل وتقسيم يمنع ثبوت المدعى بها مطلقاً…". (انظر: الموافقة 1/24، 25) . وبعد هذا الكلام من ابن تيمية، وما ذكره عن الأشعري يجعلني أقرر أن الأشعري يخالف المتكلمين عموماً ويصف طريقتهم بأنها طريقة مخالفة لمنهج النبوة، وما ذكره سابقاً من استدلاله على حدث الإنسان بالتغير والاختلاف على حدوثه ووجود خالقه يعتذر له فيه بأنه لم يكن خبيراً بدقائق مذهب السلف كغيره من المتقدمين، وخاصة أن هذه الرسالة - كما ذكرت - كتبت قبل الإبانة، ووقتئذ لم يكن في دقة فهمه لمذهب السلف كدقته بعد الإبانة. ولقد اعتذر له شيخ الإسلام بمثل هذا في أكثر من موطن، وانظر درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 7/219- 224. 2 ساقطة من (ت) . 3 أي لا يحتاج المؤمن المصدق بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ذهب إليه الفلاسفة والمتكلمون من ترك النصوص، وردها بالتكذيب أو التأويل واستعمال العقل والهوى، كما فعلوا في حدوث العالم. 4 ساقطة من (ت) ونسخة ابن تيمية. 5 وعلى رأس هذه الآيات أكبر معجزة، وهي القرآن الكريم الذي قال الله فيه: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} (القمر آية: 17) . قال ابن كثير: "أي سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس، كما قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} (انظر تفسير ابن كثير 7/453) . وقال القاسمي: "سهله الله للادكار والاتعاظ، لكثرة ما ضرب فيه من الأمثال الكافية الشافية" (انظر: محاسن التأويل 15/5599) . 6 هكذا بالأصل ونسخة ابن تيمية وفي (ت) "أن يكون".

ولا سيما مع إزعاج الله تعالى قلوب سائر من أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم على النظر في آياته بخرق عوائدهم له، وحلول ما يعدهم من النقم عند إعراضهم عنه ومخالفتهم له على ما ذكرنا مما كان من ذلك عند دعوة موسى وعيسى ومحمد - عليهم السلام -، وإذا كان ذلك على ما وصفنا بَان لكم - أرشدكم الله - أن طريق1 الاستدلال بأخبارهم - عليهم السلام - على سائر ما دُعينا إلى معرفته مما لا يدرك بالحواس أوضح من الاستدلال بالأعراض، إذ كانت أقرب (إلى) 2 البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة ومن تبعهم من أهل الأهواء، واغتروا بها لبعدها عن الشبه كما ذكرنا، وقرب من3 أخلد (ممن) 4 ذكرنا إلى الاستدلال به من الشبه، ولذلك5 ما منع الله رسله6 من الاعتماد عليه لغموض ذلك على كثير ممن أمروا بدعائهم وكلفوا - عليهم السلام - إلزامهم فرضه. فأخلد سلفنا - رضي الله عنهم - ومن تبعهم من الخلف الصالح بعدما عرفوه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما دعاهم إليه من العلم بحدثهم ووجود المحدث لهم بما نبههم عليه من الأدلة إلى التمسك بالكتاب والسنة وطلب الحق في سائر ما دعوا إلى معرفته منها، والعدول عن7 كل ما خالفهما لثبوت نبوته عليه السلام عندهم، ونبههم8 بصدقه فيما أخبرهم به عن ربهم لما وثقته الدلالة لهم فيه، وكفتهم العبرة بما ذكرناه له9.

_ 1 في (ت) ونسخة ابن تيمية "طرق". 2 ما بين المعقوفتين من نسخة ابن تيمية. 3 في الأصل، و (ت) "ما أخلد" وما أثبته من نسخة ابن تيمية. 4 في الأصل، و (ت) ونسخة ابن تيمية "ما ذكرنا"، ولعل ما أثبته هو الصواب الذي به يستقيم المعنى. 5 في (ت) ونسخة ابن تيمية "وكذلك". 6 في الأصل "ورسله" بالواو، وما أثبته من (ت) ، ونسخة ابن تيمية. 7 في الأصل "على" وما أثبته من (ت) ونسخة ابن تيمية. 8 هكذا بالأصل، و (ت) وفي نسخة ابن تيمية "وثقتهم". 9 هكذا جاءت العبارة بالأصل، وفي (ت) "وكفتهم العبرة بها بما ذكرناه له" وفي نسخة ابن تيمية: "وكشفته لهم العبرة". وهذا هو شأن أهل السنة والجماعة في كل مسائل الدين تمسكوا بما دل عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف هذه الأمة، وما أحسن ما قال الإمام أحمد بن حنبل فيما وصفهم بقوله: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى… إلى أن قال: ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم". (انظر: مقدمة كتاب الرد على الجهمية والزنادقة ص13) .

وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة ومن تبعهم من القدرية وغيرهم من أهل البدع من الاستدلال بذلك على ما كلفوا معرفته لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في ذلك عنه، وإنما صار من أثبت حدث العالم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر لدفعهم الرسل وإنكارهم لجواز مجيئهم1. وإذا كان العلم قد حصل لنا بجواز مجيئهم في العقول2 وغلط من دفع ذلك وبان صدقهم بالآيات التي ظهرت عليهم لم يسع لمن عرف من ذلك ما عرفه أن يعدل عن طرقهم إلى طرق من دفعهم وأحال مجيئهم3.

_ 1 يشير الأشعري إلى العلة الحقيقية التي أوقعت الفلاسفة في الضلال المبين ألا وهي: إنكارهم وعدم إيمانهم بالأنبياء. ويقول ابن تيمية - رحمه الله - عنهم: "… ولهذا من لم يكن عارفاً بالأنبياء من فلاسفة اليونان والهند وغيرهم لم يكن له فيهم كلام يعرف، كما لم يعرف لأرسطو وأتباعه فيهم كلام يعرف". (انظر: النبوات ص22) . أما الذين تسموا بفلاسفة الإسلام فيقول عن زعيمهم: بأنه بنى أمر النبوة على أنها من قوى النفس، وقوى النفس متفاوتة، واشترط في النبي شروطاً ثلاثة، من اتصف بها فهو نبي وهي: 1- أن تكون له قوة علمية. 2- أن تكون له قوة تخيلية. 3- أن تكون له قوة فعالة. (انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص734 ضمن مجموعة التوحيد) . وعلى هذا فهم لا يؤمنون بوحي، ولا برسالة، ولا بملائكة إلى آخر هذا الضلال، وقد ختم ابن تيمية حديثه عنهم بقوله: "… ولكن هؤلاء من أجهل الناس بالنبوة، ورأوا ذكر الأنبياء قد شاع، فأرادوا تخريج ذلك على أصول قوم لم يعرفوا النبوة". (انظر: النبوات ص122) . ويقول ابن الجوزي عنهم: "وإنما تمكن إبليس من التلبيس على الفلاسفة من جهة أنهم انفردوا بآرائهم وعقولهم، وتكلموا بمقتضى ظنونهم من غير التفات إلى الأنبياء". (انظر: تلبيس إبليس ص45) . 2 العقل لكونه يفرق بين الحسن والقبيح، يدرك بيسر وسهولة صدق النبي المرسل للدلائل والقرائن التي تلازمه، فإذا آمن به وجب اتباع النبي فيما جاء به. (انظر ما سبق ص186، 188) . 3 وقد نص العلماء على تكفير من يسلك طريقاً غير طريق النبوة بعد وضوحه وتبيانه، مستندين إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء آية: 115) . ويذكر المفسرون أن الآية نزلت في الخائنين ومنهم طعمة بن الأبيرق. (انظر: تفسير ابن جرير 9/204) . ويقول القرطبي: "والآية وإن كانت نزلت في سارق الدرع أو غيره، فهي عامة في كل من خالف طريق المسلمين". (انظر: تفسيره 5/385) . وبهذا يظهر ويتضح أن كل من عرف الحجة ووقف على الدليل لا ينبغي له الخروج عنه أو مخالفته، وإلا فهو من الهالكين. وقد ورد عن السلف لعن من تكلم في الجوهر والعرض فقد نقل عن أبي حنيفة لما سئل عن الكلام في الأعراض والأجسام؟ قال: لعن الله عمرو بن عبيد، هو فتح على الناس الكلام في هذا. (انظر: شرح الطحاوية ص471) .

فلما كان هذا واجباً كما1 ذكرناه عند سلف (الأمة) 2 والخلف رحمهم الله3 كان اجتهاد الخلف4 في طلب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم والاحتياط في عدالة الرواة لها واجباً عندهم، ليكونوا فيما5 يعتقدونه من ذلك على يقين6. ولذلك كان أحدهم يرحل إلى البلاد البعيدة في طلب الكلمة تبلغه عن رسول صلى الله عليه وسلم حرصاً على معرفة الحق من وجهه، وطلباً7 للأدلة الصحيحة فيه حتى تثلج صدورهم بما يعتقدونه، وتسكن نفوسهم إلى ما يتدينون به8،

_ 1 في (ت) ونسخة ابن تيمية "لما". 2 في الأصل "الأئمة". وما أثبته من (ت) ونسخة ابن تيمية. 3 هذا الدعاء ساقط من (ت) ونسخة ابن تيمية. 4 المراد بالخلف هنا كل من جاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمته واجتهد وبحث لمعرفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه. 5 في (ت) "فيها". 6 ذكر الأشعري سابقاً قيمة اتباع منهاج النبوة، والسير خلف طريقة صاحبها صلى الله عليه وسلم وترك كل ما عداها، وهذا يقتضي نقل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم نقلاً علمياً أميناً لتقوم به الحجة ويسلك الناس به صراط الله المستقيم. ومن هنا حفظ الله هذا الدين بظهور العلماء الأفذاذ الذين تحملوا الرواية، واحتاطوا فيها، حتى لا يدخل في حديث النبوة كذب أو خلل وانتهجوا في ذلك طرقاً علمية صحيحة لنقد الروايات واختبارها، وتمييز صحيحها من سقيمها. وقد حث علماء هذه الأمة منذ القرن الأول على الاحتياط في الحديث والتثبت من أحوال الرواة، وكان يوصي بعضهم بعضاً بذلك، فقد أخرج مسلم في مقدمة صحيحه عن "محمد بن سيرين" أنه قال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم". (انظر: صحيح مسلم 1/14) . وكان عبد الله بن المبارك يقول: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء". (المرجع السابق 1/15) . ويذكر الدكتور مصطفى السباعي أن الطرق التي سلكها العلماء منذ عصر الصحابة إلى أن تم التدوين: هي أقوم الطرق العلمية للنقد والتمحيص، وهم أول من وضعوا النقد الدقيق للأخبار والمرويات بين الأمم كلها، ثم ذكر الخطوات التي سلكوها للاحتياط في الرواية. انظر ذلك بتفصيل في كتابه السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص90- 96، وكذلك منهج النقد في علوم الحديث للدكتور نور الدين عتر، وكتاب السنة قبل التدوين لمحمد عجاج الخطيب ص219 وما بعدها. وإسناد الأحاديث خاصية خص الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم دون سائر الأمم، وفضلها به، ويقرر ذلك ابن حزم وهو يتكلم عن صفة وجوه النقل عند هذه الأمة فيقول: "إن ما نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خص الله به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها". (انظر: الفصل 2/81، 82) . 7 في الأصل "طلباً" بدون "واو" وأثبتها من (ت) ونسخة ابن تيمية. 8 أشرت فيما سبق إلى مكانة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بذله علماء هذا الشأن من الاحتياط فيه، ومن مقتضيات الوصول إلى هذه البغية: الرحلة والتنقل لطلب الحديث والوقوف عليه بأعلى إسناد وكان أحد الصحابة يرحل من بلده إلى مكان آخر ليتثبت من إسناد حديث واحد، وقصة جابر بن عبد الله أوضح شاهد على ذلك، وفيها يذكر أنه سار شهراً حتى أتى الشام، والتقى بعبد الله بن أنيس، وقال له: "حديث بلغني أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة، أو قال العباد عراة غرلاً بهما… الحديث" (أخرجه أحمد في مسنده 3/495، والبخاري في الأدب المفرد باب المعانقة حديث رقم 970 ص337، وذكره في صحيحه تعليقاً في موضعين، في كتاب العلم باب 19 ج1/27، وكتاب التوحيد باب 32 ج8/194، والحاكم في المستدرك 4/574، 575، وصححه ووافقه الذهبي) . وكانت الرحلة في طلب الحديث من لوازم طريقة المحدثين ومنهجهم في التحصيل العلمي. قال ابن الصلاح: "إذا فرغ من سماع العوالي والمهمات التي في بلده فليرحل إلى غيره". (انظر: علوم الحديث ص222) . ويقول الدكتور نور الدين عتر: "ويبدو أثر الرحلة للناظر في أسانيد الأحاديث واضحاً جلياً، إذا ما تناولنا أي إسناد منها، ودرسنا تاريخ رواته نجد في أغلب الأحيان أنهم ينتمون إلى أكثر من موطن، بل ربما وجدنا كل واحد منهم من بلدة، جمعت الرحلة في الحديث شتاتهم وقربت ما بعد بينهم حتى تسلسلوا في قرن واحد في سند الحديث الواحد". انظر مقدمته لكتاب الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي، ومن أراد الوقوف على كثير من الرحلات، فلينظر كتاب الخطيب المذكور الطبعة الأولى 1395هـ) .

ويفارقوا1 بذلك من ذمه الله في تقليده لمن يعظمه في سادته بغير دلالة تقتضي ذلك2. ولما كلفهم الله عز وجل ذلك، وجعل أخبار نبيه صلى الله عليه وسلم طريقاً إلى المعارف بما كلفهم إلى آخر الزمان حفظ أخباره عليه السلام في سائر الأزمنة، ومنع من تطرق الشبه عليها حتى لا يروم أحد تغيير شيء منها، أو تبديل معنى كلمة3 قالها إلا كشف الله عز وجل سره، وأظهر في الأمة أمره، حتى يرد4 ذلك عليه العربي والعجمي5، ومن قد أُهّل لحفظ ذلك من حملة علمه عليه السلام والمبلغين عنه6. كما حفظ كتابه حتى لا ينطق7 أحد من أهل الزيغ على تحريك حرف ساكن، أو تسكين حرف متحرك إلا تبادر8 القراء في رد ذلك عليه مع اختلاف لغاتهم وتباين أوطانهم لما أراده الله عز وجل من صحة الأداء عنه9.

_ 1 في (ت) "ويقارفوا". 2 سبق أن عرفت التقليد، وبينت حكمه هناك بتوضيح (انظر ما تقدم ص187) , وهنا ينص الأشعري على إبطال التقليد الذي يتبع فيه المقلد غيره دون حجة أو برهان وهو التقليد المذموم الذي صار إليه معظم أهل هذا الزمان، وهو شيم الكفار الذين قال الله فيهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} (الأنفال آية: 23) . قال ابن عبد البر: "… ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء، وقد احتج العلماء بها على بطلان التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج به - أي من الاحتجاج بها على بطلان التقليد للمسلمين - لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان آخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة" (انظر: جامع بيان العلم وفضله 2/109، 110) . ثم ذكر - رحمه الله - روايات كثيرة عن الصحابة والتابعين في ذم التقليد والنهي عنه: "ونقل عن عبيد بن المعتز قوله: لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد" واستثنى من ذلك العامة - كما ذكرت سابقاً صفحة 187 فقال: "وهذا كله لغير العامة، فإن العامة لابد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها، لأنها لا تتبين موضع الحجة ولا تصل بعدم الفهم إلى علم ذلك…". (المرجع السابق ص114) . 3 ساقط من (ت) . 4 في (ت) "يره". 5 في (ت) "والأعجمي". 6 من فضل الله على هذه الأمة أن حفظ لها سنة نبيها، كما حفظ لها قرآن ربها، وهذا أمر مقطوع به، لأن الله سبحانه وتعالى أمرهم أن يرجعوا في موارد النزاع إلى الله وإلى الرسول، ولا يمكن إحالتهم على شيء غير محفوظ. وقد تولى الله حفظها إذ بها يحفظ الكتاب وتعلم أحكامه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر آية: 9) . وما فعله أرباب هذا الشأن من جمع الحديث والاحتياط في نقله كما سبق ذكره دليل على ذلك. قال الألباني وهو بصدد الحديث عن الأحاديث الضعيفة: "ولكن الله تبارك وتعالى سخر لهذه الأحاديث طائفة من الأئمة بينوا ضعفها، وكشفوا عوارها، وأوضحوا وضعها، ولذلك لما قيل للإمام عبد الله بن المبارك هذه الأحاديث المصنوعة؟ أجاب بقوله: يعيش لها الجهابذة، ثم نقل عن ابن الجوزي قوله: لما لم يمكن أحداً أن يدخل في القرآن ما ليس منه أخذ أقوام يزيدون في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضعون عليه ما لم يقل، فأنشأ الله علماء يذبون عن النقل، ويوضحون الصحيح ويفضحون القبيح، وما يخلي منهم عصراً من الأعصار". (انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/6) . ولقد عقد السباعي باباً كاملاً في كتابه ذكر فيه سبعة فصول في الشبه التي أوردها أعداء السنة على السنة في مختلف العصور، وفندها جميعاً ورد عليها رداً متقناً. (انظر: كتابه السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص127- 373) . ويقول الدكتور محمد أبو شهبة: "… ولن يخلو عصر من العصور من عالم ينقى عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". (انظر: دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين ص6) .

ووقوع التبليغ لما أتى به نبينا عليه السلام إلى من يأتي في آخر الزمان لانقطاع الرسل بعده، واستحالة خلوهم من حجة الله عليهم1. حتى قد ظهر ذلك بينهم وأيست من نيله خواطر2 المنحرفين عنه.

_ 1 ساقطة من (ت) . وما ذكره الأشعري هنا هو معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة" أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله في كتاب الإيمان باب 71 ج1/137، والبخاري من حديث المغيرة بن شعبة في كتاب الاعتصام باب 10ج8/141، وفي أبي داود من حديث ثوبان في كتاب الفتن باب 51ج4/450، وكذلك ابن ماجة في مقدمته 1/5) . والحديث ظاهر الدلالة على أنه لا يخلو زمان من قائم لله فيه بحجة "وهم الطائفة المنصورة". وأخرج الترمذي الحديث عن معاوية بن قرة عن أبيه ثم قال: قال محمد بن إسماعيل يعني - البخاري - قال علي بن المديني: هم أصحاب الحديث. انظر سننه كتاب الفتن باب ما جاء في أهل الشام 4/485. كما ذكر البخاري في كتابه خلق أفعال العباد عقب حديث أبي سعيد في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} هم الطائفة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي…" الحديث. انظر كتابه 152، 153، ضمن مجموعة عقائد السلف للنشار. وبوجود هذه الطائفة يبقى الحق ظاهراً محفوظاً، ويبقى أهله ظاهرين به، وبذلك تقوم حجة الله على عباده في جميع الأزمان. قال ابن عبد الوهاب: "وفي الحديث بشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة" (انظر: تيسير العزيز الحميد ص379) . 2 في (ت) : "خواطرهم".

وجعل الله ما حفظه من ذلك وجمع1 القلوب عليه حجة على من تعبد بعده2 عليه السلام بشر بعثه، ودلالة لمن3 دعا إلى قبول ذلك ممن لم يشاهد الأخبار، وأكمل الله عز وجل لجميعهم طرق الدين، وأغناهم عن التطلع إلى غيرها من البراهين، ودل على ذلك بقوله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 4، وليس يجوز أن يخبر الله عز وجل عن إكماله الدين مع الحاجة إلى غير ما أكمل لهم الدين به. وبين النبي صلى الله عليه وسلم معنى ذلك في حجة الوداع لمن كان بحضرته من الجم الغفير من أمته عند اقتراب أجله، ومفارقته لهم صلى الله عليه وسلم بقوله5: "اللهم هل بلغت …" 6.

_ 1 في (ت) "وجميع". 2 ساقطة من (ت) ، ومكانها كلمة "تعبد" مكررة. 3 في (ت) "إلى من". 4 المائدة آية: (3) . وهذه الآية حجة قاطعة على الذين يدخلون البدع والمحدثات في الإسلام متوهمين أن ذلك من القربات، وهي في الحقيقة جلب لغضب الله وسخطه، وقد روى ابن جرير أن ابن عباس قال في الآية: "أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبداً وقد رضيه فلا يسخطه أبداً". (انظر: تفسير الطبري 9/518 طبعة أحمد شاكر) . ويقول ابن حجر في تعليقه على الآية: "… وإذا كان الدين قد كمل فلا تكون الزيادة فيه إلا نقصاناً في المعنى، مثل زيادة أصبع في اليد، فإنها تنقص قيمة العبد الذي يقع به ذلك". (انظر: فتح الباري 13/352 المطبعة السلفية بالقاهرة) . ويناقش القاسمي - رحمه الله - الذين يستخدمون الرأي بعد هذا البيان والإكمال فيقول: "ويكفي في دفع الرأي، وأنه ليس من الدين قول الله تعالى هذا، فإنه إذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيه صلى الله عليه وسلم فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه؟ لأنه إذا كان من الدين في اعتقادهم فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم، وهذا فيه رد للقرآن، وإن لم يكن من الدين فأي فائدة في الاشتغال بما ليس منه؟ وما ليس منه فهو رد بنص السنة المطهرة كما ثبت في الصحيح، وهذه حجة قاهرة ودليل باهر لا يمكن أهل الرأي أن يدفعوه بدافع أبداً". ثم يقول: "فمن جاء بشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له: إن الله أصدق منك، ومن أصدق من الله قيلاً، اذهب لا حاجة لنا في رأيك وليت المقلدة فهموا هذه الآية حق الفهم حتى يستريحوا ويريحوا". (انظر: محاسن التأويل 6/1836) . وعلى هذا يمكن القول بأن كل من أدخل في الدين شيئاً من عند نفسه فقد عصى الله ورسوله، وخرافة البدعة الحسنة والبدعة السيئة في دين الله لا مجال لها هنا، لأن كل بدعة في الدين ضلالة. 5 "بقوله" ساقطة من (ت) . 6 هذا جزء من حديث رواه البخاري عن ابن عباس في كتاب الحج باب الخطبة أيام منى وفيه يقول: "ثم رفع رأسه فقال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ ". (انظر 2/191) ، كما أخرجه في كتابه خلق أفعال العباد ص167، 182، وأحمد في مسنده 1/30، كما أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر بلفظ: "اللهم أشهد؟ اللهم أشهد؟ ثلاث مرات". (انظر كتاب الحج باب 19 ج2/890، وأخرجه البخاري بهذا اللفظ في كتابه خلق أفعال العباد ص183. قال ابن كثير: "وقد شهدت له أمته ببلاغ الرسالة وأداء الأمانة واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من الصحابة نحو من أربعين ألفاً" (انظر تفسير ابن كثير 3/142) . وقال المقريزي: "والحق الذي لا ريب فيه أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه، وجوهر لا سر تحته، وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه ولم يكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشريعة ولا كلمة ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو لد عم على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده صلى الله عليه وسلم سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه، ولو كتم شيئاً لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا فهو كافر بإجماع الأمة". (انظر: الخطط 3/313) . وبهذا يندفع قول من قال بالظاهر والباطن من الزنادقة كالباطنية والرافضة وغيرهم من الذين أولوا أحكام الشريعة على وجه يؤدي إلى رفع الشريعة. (انظر: مقالات الإسلاميين 1/65، والفرق بين الفرق ص81، والتبصير في الدين ص83، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص119) لتقف على شيء من أمر هؤلاء الملاحدة.

فلو كنا نحتاج مع ما1 كان منه عليه السلام في معرفة ما دعانا إليه إلى ما رتبه أهل البدع من طرق الاستدلال لما كان مبلغاً (إذ كنا نحتاج في المعرفة بصحة ما دعانا إليه) 2 إلى علم ما لم يبينه لنا من هذه الطرق التي ذكروها، ولو كان هذا كما قالوا لكان فيما دعا إليه وقوله بمنزلة اللغو3، ولو كان ذلك كذلك لعارضه المنافقون وسائر المرصدين لعداوته في ذلك، ولم يمنعهم منه مانع كما لم يمنعهم من تعنيته في طلب الآيات ومجادلته في سائر الأوقات، ولكنهم لم4 يجدوا سبيلاً إلى الطعن5؛ لأنه عليه السلام لم يدع شيئاً مما تهم6 الحاجة إليه في معرفة سائر ما دعاهم إلى اعتقاده، أو مثل فعله إلا وقد بين لهم. ويزيد7 هذا وضوحاً قوله عليه السلام: "إني قد تركتكم على مثل الواضحة ليلها كنهارها"8، وإذا كان هذا على ما رضينا علم أنه لم يبق بعد ذلك عتب لزائغ، ولا

_ 1 في (ت) : "مما". 2 ما بين المعقوفتين من نسخة ابن تيمية، وفي (ت) : "إذ كنا نحتاج إلى المعرفة إليه". وفي الأصل ما يزيد على سطرين مع تكرار بعض كلمات العبارة السابقة وعدم وضوح بعض الكلمات وكل ذلك تحريف، والصواب ما أثبته من نسخة ابن تيمية. 3 في نسخة ابن تيمية "الملغز". 4 في الأصل "لا"، وما أثبته من (ت) ونسخة ابن تيمية. 5 يبين الأشعري هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لأمته بياناً شافياً أصول الدين وفروعه، ومن أوضح الأدلة على ذلك أن المشركين الذين ناصبوه العداء لم يجدوا فيما دعاهم إليه أي خلل أو نقص يتهمونه فيه بالتقصير أو عدم الكمال، وبناءً عليه فلسنا بحاجة إلى ما جاء به أهل البدع والضلال، ويكفينا ما جاء من عند الله ورسوله. 6 في نسخة ابن تيمية: "بهم". 7 في الأصل: "ومزيد" وما أثبته من (ت) ونسخة ابن تيمية. 8 يشير إلى معنى هذا الحديث ما أخرجه الحاكم عن العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله: إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعد إلا هالك …" الحديث. انظر المستدرك 1/96، ومسند أحمد 4/126، وابن ماجة في مقدمة سننه 1/4، وابن أبي عاصم في كتابه السنة، وقد حكم الألباني على مجموع أسانيد هذه الروايات بالصحة. انظر: تخريجه لكتاب السنة المسمى بظلال الجنة 1/19، 20، 26، 27، وكلمة "الواضحة" الواردة في كلام الأشعري لم أقف عليها في الروايات المشار إليها، كما لم يشر إليها الألباني، لكن قد أخرج مالك في الموطأ قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "… أيها الناس قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتكم على الواضحة…". (انظر تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك 3/42) .

طعن لمبتدع، إذ كان عليه السلام قد أقام الدين بعد أن أرسى أوتاده1، وأحكم أطنابه2. ولم يدع صلى الله عليه وسلم لسائر من دعاه3 إلى توحيد الله حاجة إلى غيره ولا لزائغ طعناً عليه، ثم مضى صلى الله عليه وسلم محموداً بعد إقامته الحجة، وتبليغ الرسالة، وأداء الأمانة، والنصيحة لسائر الأمة، حتى لم يحوج أحداً4 من أمته البحث عن شيء قد أغفله هو مما ذكره لهم، أو معنى أسره إلى أحد من أمته5 بل قد قال صلى الله عليه وسلم في المقام الذي لم ينكتم قوله فيه لاستحالة كتمانه على من حضره، (أو طي شيء منه على من شهده) 6 "إني خلفت فيكم ما إن تمسكتم به7 لن تضلوا كتاب الله وسنتي"8 ولعمري إن فيهما الشفاء من كل أمر

_ 1 الأوتاد: جمع وتد، وهو ما رز في الحائط أو الأرض من الخشب قال تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} (انظر: لسان العرب 3/444، والقاموس 1/356) . 2 الأطناب: جمع طنب، والطنب: حبل طويل يشد به البيت من الحبال بين الأرض والطرائق. (انظر: لسان العرب 2/49، وقال ابن فارس: "هو لفظ يدل على ثبات الشيء وتمكنه في استطالة". انظر معجم مقاييس اللغة 3/426. 3 في (ت) : "ما ادعاه". 4 في (ت) : "أحد". 5 ذكر الأشعري في الصفحات السابقة تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم لجميع ما نزل عليه من الوحي، وشهدت أمته له بذلك، وهنا يتعرض للطائفة الرافضة الذين يقولون بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص علياً بشيء من الرسالة لم يعرفه أحد من أمته، بل ذهبوا إلى أن القرآن الموجود بين يدي المسلمين اليوم محرف مبدل ناقص، والقرآن الحقيقي جمعه علي بن أبي طالب وهو محفوظ عند الإمام الغائب كما يزعمون. انظر ما ذكره أحد أئمتهم في الضلال المدعو حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي في كتابه: فصل الخطاب في تحريف كلام رب الأرباب، مطبوع مصور بمكتبة الجامعة الإسلامية المركزية تحت رقم عام 45093، وانظر الخطوط العريضة لمحب الدين الخطيب ص14، 15، طبعة الجامعة الإسلامية. ومما يدفع هذا الضلال والبهتان قول علي نفسه لما سئل هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: "لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهماً يعطيه الله أحداً في كتابه وما في هذه الصحيفة…" الحديث أخرجه البخاري في كتاب العلم باب 39 ج1/36، ومسلم في الإيمان باب 121، والترمذي في الديات باب 16 ج4/24، والنسائي في القسامة 8/23، والدارمي في الديات 2/190، وأحمد في مسنده 1/79. 6 ما بين المعقوفتين من نسخة ابن تيمية، وفي الأصل، و (ت) : "أو ظن منه من شهده". 7 ساقطة من (ت) . 8 أخرج هذا الحديث محمد بن نصر المروزي في كتابه السنة بلفظ: "… وقد تركت فيكم أيها الناس ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه…". انظر كتابه السنة ص20، 21، وهكذا أخرجه الحاكم في المستدرك 1/93 وصححه ووافقه الذهبي، وقال: وله أصل في الصحيح وذلك فيما أخرجه مسلم في كتاب الحج باب 19 ج2/190.

مشكل، والبرء من كل داء معضل1، وإن في حراستهما من الباطل على ما تقدم ذكرنا له آية2 لمن نصح نفسه، ودلالة لمن كان الحق قصده. وفيما ذكرنا دلالة على صحة ما استندوا إلى الاستدلال، وقوة لما عرفوا الحق منه، فإذا كان ذلك على ما وصفنا، فقد علمتم بهت أهل البدع لهم في نسبتهم لهم إلى التقليد، وسوء اختيارهم في المفارقة لهم، والعدول عما كانوا عليه معهم وبالله التوفيق3. وإذ قد بان بما ذكرناه استقامة طرق استدلالهم وصحة معارفهم فلنذكر الآن ما أجمعوا عليه من الأصول.

_ 1 معضل: يعني شديد. قال ابن منظور: "وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أعضل بي أهل الكوفة ما يرضون بأمير ولا يرضاهم أمير". قال الأموي في قوله: أعضل بي: هو من العضال، وهو الأمر الشديد الذي لا يقوم به صاحبه". (انظر: لسان العرب 13/479) . 2 ساقطة من (ت) . 3 ذهب البعض إلى أن السلف كانوا في إيمانهم مقلدين، لا يعرفون معاني النصوص وما تدل عليه، وخاصة في باب الأسماء والصفات. وقال بعضهم: إن السلف أعلم، والخلف أحكم، وهو قول باطل فاسد؛ لأن السلف أعلم بكتاب الله وسنة رسوله فهم متبعون لا مبتدعون كالخلف ويكفيهم أنهم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، لا يزيدون على ذلك ولا ينقصون، والمبتدعون من الخلف لا يعرفون قدر السلف ومنزلتهم، ولقد رد عليهم ابن تيمية في ذلك. (انظر: الفتوى الحموية الكبرى ص6 الطبعة الثالثة بالمطبعة السلفية بالقاهرة. وكذلك مختصر الصواعق 1/8 لابن القيم، وفتح الباري 13/352 لابن حجر) . ولقد عرف السابقون علم السلف فشادوا به ودعوا الناس إلى تعلمه، قال الأوزاعي: "العلم ما جاء عن أصحاب محمد، وما لم يجيء عن واحد منهم فليس بعلم"، وورد مثل هذا عن الإمام أحمد وغيره. انظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/29. ونقل ابن رجب كلام الأوزاعي السابق، ثم قال: "وفي زماننا يتعين كتابة كلام السلف المقتدى بهم في زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم". انظر رسالته فضل علم السلف على الخلف ص13. ويلحق بعلوم السابقين من سار على طريقتهم من العلماء المتمسكين بالكتاب والسنة السائرين على منهاج النبوة.

(باب ذكر ما أجمع عليه السلف من الأصول) 1 التي نبهوا بالأدلة عليها وأمروا في وقت النبي صلى الله عليه وسلم بها2.

_ 1 ما بين المعقوفتين من (ت) . 2 في الجزء الآتي من الرسالة يذكر الأشعري معظم ما أجمع عليه سلف هذه الأمة في باب العقائد، لذا أحب أن أقدم بين يدي ما ذكره من إجماعات كلمة قصيرة عن معنى الإجماع وحكمه ومنزلته تاركاً التفصيلات في ذلك لكتب الأصول. الإجماع لغة: العزم والاتفاق. قال تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُم} أي: أعزموه، ويصح إطلاقه على الواحد فيقال: أجمع. (انظر: القاموس المحيط 3/15، وشرح الكوكب المنير 2/211) . وفي الاصطلاح: اتفاق مجتهدي الأمة في عصر على أمر، ولو كان الأمر فعلاً اتفاقاً كائناً بعد النبي صلى الله عليه وسلم. (انظر المرجع السابق وشرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول ص322، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي ص19، 20) . حكم الإجماع: ذهب جمهور العلماء إلى أن الإجماع حجة قاطعة يجب اتباعه وتحرم مخالفته، واستدلوا بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء آية: 115) . قال ابن حزم: "ثم اتفقنا نحن وأكثر المخالفين لنا على أن الإجماع من علماء أهل الإسلام حجة وحق مقطوع به في دين الله عز وجل" (انظر الإحكام في أصول الأحكام 4/640 الطبعة الأولى بتحقيق محمد أحمد عبد العزيز. وقد ذكر الغزالي النص على حجية الإجماع من ثلاثة طرق، وهي الكتاب والسنة والعقل. انظر المستصفى 1/174. منزلة إجماع السلف وأهميته في باب العقائد: ذكر علماء السنة أن ما أجمع عليه في باب العقائد لا يمكن لأحد مخالفته ولا الخروج عنه؛ لأنه موافق للقرآن والسنة، وعلى هذا فالخارج عليه خارج عن الكتاب والسنة، ومن هنا قال اللالكائي في مقدمة كتابه: "أما بعد فإن أوجب ما على المرء: معرفة اعتقاد الدين، وما كلف الله به عباده من فهم توحيده وصفاته وتصديق رسله بالدلائل واليقين والتوصل إلى طرقها والاستدلال عليها بالحجج والبراهين، وكان من أعظم مقول وأوضح حجة ومعقول: كتاب الله الحق المبين. ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار المتقين، ثم ما أجمع عليه السلف الصالحون. ثم التمسك بمجموعها والمقام بها إلى يوم الدين". (انظر: أصول اعتقاد أهل السنة 1/9 من النص المحقق) . ويقول ابن تيمية: "كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصاً عليه من الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه فقد بينه الرسول، وهذا هو الصواب، فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص كالأمثال المضروبة في القرآن، وكذلك الإجماع دليل آخر، كما يقال قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها فإن ما دل عليه الإجماع، فقد دل عليه الكتاب والسنة، وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص". انظر رسالة معارج الوصول ضمن مجموعة الرسائل المنيرية ص205، مطبعة محمد علي صبيح، وانظر مجموع الفتاوى 3/157. وهذا التوضيح من ابن تيمية لا يحتاج إلى تعليق، غاية الأمر هو أنني أود أن أنبه بذلك إلى قيمة ما يذكره الأشعري من إجماعات في هذه الرسالة، وأن ما أجمع عليه في مسائل العقيدة، وورد إلينا عن سلف هذه الأمة هو دين الله الذي لا دين سواه، ومخالف ما صح من ذلك مخالف لله والرسول، وإليك الآن حكم مخالف. قال القرافي: "تكفير المخالف له وإن قلنا به، فهو مشروط بأن يكون المجمع عليه ضرورياً من الدين، أما من جحد ما أجمع عليه من الأمور الخفية في الجنايات وغيرها من الأمور التي لا يطلع عليها إلا المتبحرون في الفقه فهذا لا نكفره، إذا عذر بعدم الاطلاع على الإجماع". (انظر: شرح تنقيح الفصول ص337) .

الإجماع الأول واعلموا - أرشدكم الله - أن مما أجمعوا عليه - رحمة الله عليهم - على اعتقاده مما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه، ونبههم بما ذكرناه على صحته أن العالم بما فيه من أجسامه وأعراضه محدث لم يكن ثم كان1، وأن لجميعه محدثاً واحداً اخترع أجناسه، وأحدث جواهره وأعراضه، وخالف بين أجناسه2. وأنه عز وجل لم يزل قبل أن يخلقه واحداً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وأنهم عرفوا ذلك بما نبههم الله عز وجل عليه، وبين لهم صلى الله عليه وسلم وجه الدلالة فيه على ما تقدم شرحنا له قبل هذا الموضع3.

_ 1 مصداق هذا من كتاب الله قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} (الإنسان آية: 1) . ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "… كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء…" الحديث أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب 22 ج8/ 175. 2 هذا الجزء من الإجماع الأول ذكره أيضاً البغدادي ضمن الأصول التي أجمع عليها أهل السنة والجماعة فقال: "وأما الركن الثاني وهو الكلام في حدوث العالم - فقد أجمعوا على أن العالم كل شيء هو غير الله عز وجل وعلى أن كل ما هو غير الله تعالى وغير صفاته الأزلية مخلوق مصنوع، وعلى أن صانعه ليس بمخلوق ولا مصنوع، ولا هو من جنس العالم، ولا من جنس شيء من أجزاء العالم". (انظر الفرق بين الفرق ص328) . 3 يطالعنا الأشعري في مستهل كلامه عن الصفات بموقف السلف جملة في أسماء الله وصفاته، ذاكراً بعض الصفات على سبيل المثال، وسيأتي إفراد بعضها بالحديث عنه وإثباته. وقد ساق اللالكائي بإسناده إلى عبد الله بن أبي حنيفة الدبوسي قال: "سمعت محمد ابن الحسن يقول: "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر شيئاً من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة، فإنهم لم ينفوا ولم يفسروا ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة، ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ لأنه وصفه بصفة لا شيء". (انظر أصول اعتقاد أهل السنة 2/417، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 4/4، 5، ومختصر العلو للذهبي ص159) . ومراد السلف هنا في نهيهم عن تفسير صفات الله هو عدم الخوض والبحث عن معرفة كنهها وحقيقتها، فإن هذا لا علم لأحد به، أما الإيمان بها وبمعناها وبما دلت عليه فهم يعرفونه، ومن هنا قال الإمام مالك لما سئل عن الاستواء: "الاستواء معلوم والكيف مجهول…". (انظر: أصول اعتقاد أهل السنة 2/379) .

الإجماع الثاني وأجمعوا على أنه عز وجل غير مشبه لشيء من العالم، وقد نبه الله عز وجل على ذلك بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1.

_ 1 سورة الشورى آية: (11) . وتمامها {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . ولقد اتفق أهل السنة والجماعة على معنى هذه الآية، وآمنوا أن الله سبحانه وتعالى لا يشبه أحداً من خلقه. قال أبو حنيفة: "لا يشبه شيئاً من الأشياء من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته الذاتية والفعلية". (انظر الفقه الأكبر لأبي حنيفة ص15) . وقال الطحاوي: "ولا شيء مثله". وعلق شارحه على ذلك بقوله: "اتفق أهل السنة على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله…". (شرح الطحاوي ص38) . ولقد ضل فريقان في هذا الباب أحدهما: الكرامية أتباع محمد بن كرام السجستاني. الذين شبهوا الله بخلقه، وأطلق عليهم الأشعري اسم المجسمة، وذكر أن أقوالهم بلغت ست عشرة مقالة. (انظر: مقالات الإسلاميين 1/281، والفرق بين الفرق ص216، ولوامع الأنوار البهية 1/91) . ولقد سار في هذا الطريق أيضاً مقاتل بن سليمان وهشام بن الحكم قال ابن رجب: "وقد أنكر السلف على مقاتل قوله في رده على جهم بأدلة العقول، وبالغوا في الطعن عليه، ومنهم من استحل قتله، منهم مكي بن إبراهيم شيخ البخاري وغيره". (انظر فضل علم السلف على الخلف ص8) . والفريق الثاني: الجهمية النافون للأسماء والصفات ومن شاكلهم كالمعتزلة، وذلك لما قام في قلوبهم من رجس التشبيه. قال الإمام أحمد عنهم: "إذا سألهم الناس عن قول الله تعالى: {ليس كمثله شيء} ما تفسيره؟ يقولون: ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السبع كما هو على العرش لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان…". (انظر الرد على الجهمية والزنادقة ص 28) . وكلا الفريقين السابقين في بعد عن الصواب، أما سلف هذه الأمة فقالوا: إن الله موصوف بصفات الجلال والكمال، كما وصف نفسه، وأنه مع اتصافه بهذه الصفات لا يشبه شيئاً من المخلوقات، فكانوا في ذلك وسطاً بين المشبهة والمعطلة. (انظر: في ذلك شرح الطحاوية ص39، 58، 466، 447، وشرح العقيدة الواسطية ص49) . وقال نعيم بن حماد: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيهاً". (انظر مختصر العلو للذهبي ص184) . وقد اختلف في إعراب الكاف في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} على وجوه ذكرها شارح الطحاوية ص78، 79، وتعرض لذلك الدكتور عبد الله دراز، ورجح أن الكاف أصلية وليست زائدة، وجودها ضروري وهادف من طريقين. الطريق الأول: أن في وجود الكاف نفي المماثلة وما يشبهها أو يدنو منها. الطريق الثاني: أنها نفت التشبيه وأقامت البرهان على نفيه، كأن الآية قالت: مثله تعالى لا يكون له مثل، تعني أن من كانت له تلك الصفات الحسنى وذلك المثل الأعلى لا يمكن أن يكون له شبيه، ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه. (باختصار وتصرف من كتابه النبأ العظيم ص132- 136) .

وبقوله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 1 وإنما كان ذلك كذلك، لأنه تعالى لو كان شبيهاً لشيء من خلقه لاقتضى من الحدث والحاجة إلى محدث له ما اقتضاه ذلك الذي أشبهه، أو اقتضى ذلك قدم ما أشبهه من خلقه، وقد قامت الأدلة2 على حدث جميع الخلق واستحالة قدمه على ما بيناه آنفاً، وليس كونه عز وجل غير مشبه للخلق ينفي وجوده؛ لأن طريق إثباته كونه تعالى على ما اقتضته3 العقول من دلالة أفعاله عليه دون مشاهدته. الإجماع الثالث وأجمعوا أنه تعالى لم يزل موجوداً حياً قادراً عالماً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً على ما وصف به نفسه، (وتسمى) 4 به في كتابه، وأخبرهم به ورسوله، ودلت عليه أفعاله، وأن وصفه بذلك لا يوجب شبهه لمن وصف من خلقه بذلك من قبل الشيئين لا يشبهان بغيرهما، ولا باتفاق أسمائهما5، وإنما يشبهان بأنفسهما فلما كانت نفس الباري تعالى غير مشبهة لشيء من العالم بما ذكرناه آنفاً، لم يكن وصفه بأنه حي وقادر وعالم يوجب تشبهه لمن وصفناه بذلك منا، وإنما يوجب اتفاقهما في ذلك اتفاقاً6 في7 حقيقة الحي والقادر والعالم، وليس اتفاقهما في حقيقة ذلك يوجب (تشابهاً) 8 بينهما، ألا ترى أن وصف الباري عز وجل بأنه موجود ووصف الإنسان بذلك لا يوجب تشابهاً بينهما، وإن كانا قد اتفقا في حقيقة الموجود، ولو وجب تشابههما بذلك لوجب تشابه السواد والبياض بكونهما

_ 1 سورة الإخلاص آية: (4) . وهذه الآية كالآية السابقة نص في نفي الشبيه والنظير لله سبحانه وتعالى، وقد جاء في الحديث أن سورة الإخلاص هي صفة الرحمن. (انظر البخاري كتاب التوحيد باب 1 ج8/165، والأسماء والصفات للبيهقي ص279) . 2 في (ت) "الدلالة". 3 في الأصل: "ما اقتضاه". وما أثبته من (ت) . 4 في الأصل: "وسمى". وما أثبته من (ت) . 5 هكذا جاءت العبارة بالأصل، و (ت) ولعل الصواب "لا يشبهان بغيرهما لاتفاق أسمائهما" بدون "لا". 6 في الأصل، و (ت) : "اتفاق" بالرفع، وهي مفعول يوجب. 7 ساقطة من (ت) . 8 في الأصل و (ت) : "تشبهاً"، ولعل الصواب ما أثبته.

موجودين، فلما لم يجب بذلك بينهما (تشابه) 1 وإن كانا قد اتفقا في حقيقة الموجود، لم يجب أو يوصف الباري عز وجل بأنه حي عالم قادر، ووصف الإنسان بذلك تشابههما، وإن اتفقا في حقيقة ذلك، وإن كان الله عز وجل لم يزل مستحقاً لذلك، والإنسان مستحقاً لذلك عند خلق الله ذلك له وخلق هذه الصفات فيه2. الإجماع الرابع وأجمعوا على إثبات3 حياة الله عز وجل لم يزل بها حياً، وعلماً لم يزل به عالماً، وقدرة لم يزل بها قادراً، وكلاماً لم يزل به متكلماً، وإرادة لم يزل بها مريداً، وسمعاً وبصراً لم يزل به سميعاً بصيراً4. وعلى أن شيئاً من هذه الصفات لا يصح أن يكون محدثاً، إذ لو كان شيئاً5 منها

_ 1 في الأصل و (ت) : "تشابهاً" بالنصب، وهي فاعل يجب. 2 يقرر الأشعري في هذا الإجماع أن مجرد الاتفاق في الأسماء بين الله وبين خلقه لا يلزم منه نفي الأسماء والصفات عن الله عز وجل، إذ لا يلزم من اشتراكهما في الأسماء حدوث تماثل بينهما، ولقد ضرب الأمثلة على ذلك (وانظر التوحيد لابن خزيمة ص28، 29) . ولقد فصل ابن تيمية هذه القضية تفصيلاً تاماً فقال: "وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه، وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم، فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا، بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد ولا في غيره فلا يقول عاقل إذا قيل إن العرش شيء موجود، وإن البعوض شيء موجود أن هذا مثل هذا لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود". (انظر رسالة التدمرية ص8 من الطبعة الثانية بالمطبعة السلفية بالقاهرة) . ثم ساق ابن تيمية عدة أمثلة على ذلك مبيناً أن بين أسماء الله وصفاته من الفرق، كما بين ذات الخالق وذات المخلوق، وعقب على ذلك بذكر الأصلين والمثلين الذين يوضحان كل شبهة ويزيلان كل إشكال، ثم ختم بخاتمة جامعة حول هذا الباب. (انظر التدمرية ص13- 46) . 3 في الأصل: "وأثبتوا على إجماع"، وما أثبته من (ت) ، ولعل الصواب أن يقال: "وأجمعوا على أن لله حياة لم يزل بها حياً". 4 سبق أن ذكر الأشعري هذه الصفات السبع في الإجماع السابق، وهذه الصفات هي التي يؤمن بها من ينتسب إلى الأشعري اليوم - وهي عقيدته وقت أن كان كلابياً- ولا يتعداها إلى غيرها كالاستواء واليد، مع أن الأشعري يؤمن بذلك بعد رجوعه إلى مذهب السلف، وسيأتي كلامه عن الاستواء واليد والنزول وغير ذلك. ولقد تعرض السفاريني لتعريف كل صفة من هذه الصفات السبع وذكر مذهب أهل الحق فيها ورد على المخالفين. (انظر كتابه لوامع الأنوار البهية 1/131- 152) . 5 كذا في الأصل، ولعل الصواب "شيء".

محدثاً لكان تعالى قبل حدثها موصوفاً بضدها، ولو كان ذلك لخرج1 عن الإلهية2، وصار إلى حكم المحدَثين الذين يلحقهم النقص ويختلف عليهم صفات الذم والمدح، وهذا يستحيل على الله عز وجل، وإذا استحال ذلك عليه وجب أن يكون لم يزل بصفة الكمال؛ إذ كان لا يجوز عليه الانتقال من حال إلى حال3. الإجماع الخامس وأجمعوا (على) 4 أن صفته عز وجل لا تشبه صفات المحدثين، كما أن نفسه لا تشبه أنفس المخلوقين، واستدلوا على ذلك بأنه لو لم يكن له عز وجل هذه الصفات لم يكن موصوفاً بشيء منها في الحقيقة، (من قبل أن من ليس له حياة لا يكون حياً، ومن لم يكن له علم لا يكون عالماً في الحقيقة، ومن لم يكن له قدرة فليس بقادر في الحقيقة، وكذلك الحال في سائر الصفات، ألا ترى من لم يكن له فعل) 5 لم يكن فاعلاً في الحقيقة، ومن لم يكن له إحسان لم يكن محسناً، ومن لم يكن له كلام لم يكن متكلماً في الحقيقة، ومن لم يكن له إرادة لم يكن في الحقيقة مريداً، وأن من6 وصف بشيء من ذلك مع عدم الصفات التي توجب هذه الأوصاف له لا يكون مستحقاً لذلك في الحقيقة، وإنما يكون وصفه مجازاً7 أو كذباً، ألا ترى أن وصف الله عز وجل للجدار بأنه يريد أن ينقض، لما لم يكن له إرادة في الحقيقة كان مجازاً، وذلك أن هذه الأوصاف مشتقة من أخص أسماء هذه الصفات ودالة عليها، فمتى لم توجد هذه الصفات التي وصف بها كان وصفه بذلك

_ 1 في الأصل و (ت) : "يخرج" بالياء. 2 في (ت) : "الأهلية". 3 ما ذكره الأشعري هنا من أن صفات الله أزلية قديمة صرح به جمهور أهل السنة والجماعة. قال البغوي: "ويجب أن يعتقد أن الله عز اسمه قديم بجميع أسمائه وصفاته، لا يجوز له اسم حادث ولا صفة حادثة". (انظر شرح السنة 1/179) . وقال الطحاوي: "ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه، لم يزدد لكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته، كما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً". (شرح الطحاوية ص62) . 4 ما بين المعقوفتين من (ت) . 5 ما بين المعقوفتين ساقط من (ت) . 6 ساقطة من (ت) . 7 ذكر ابن تيمية أن وصف الله عز وجل للجدار بأنه يريد أن ينقض ليس من باب المجاز، بل هو حقيقة ومن مشهور اللغة، وذلك أن لفظ الإرادة يستعمل في الميل الذي يكون معه شعور، وهو ميل الحي، وفي الميل الذي لا شعور فيه وميل الجماد، وعلى هذا يفسر معنى إرادة الجدار للانقضاض. (انظر كتاب الإيمان ص103 من الطبعة الثالثة 1399هـ، المكتب الإسلامي) .

تلقيباً أو كذباً، فإذا كان الله عز وجل موصوفاً بجميع هذه الأوصاف في صفة الحقيقة وجب إثبات الصفات التي أوجبت هذه الأوصاف له في الحقيقة، وإلا كان وصفه بذلك مجازاً1 كما وصف الجدار بأنه يريد، لما لم يكن له إرادة مجازاً ويبين هذا أن وصف الإنسان بأنه مريد وسارق وظالم مشتق من الإرادة والسرقة والظلم، وكذلك وصفه بأنه أسود مشتق من السواد، فإذا وصف بذلك من ليس له هذه الصفات في الحقيقة كان وصفه بذلك تلقيباً2، ألا ترى أن من سمت العرب من أولادها بذلك لم يستحق الذم، لأن تسميته بذلك لا يقتضي إثبات هذه الصفات، وإنما وضعوا ذلك لهم تلقيباً، كما يلقبونهم بزيد وعمرو، وعلى مثل هذا (جاء) 3 السمع في تسمية الجدار بأنه يريد، لما لم يكن له إرادة، وإذا كان وصف الباري عز وجل بسائر ما ذكرناه من كونه عز وجل حياً وقادراً وعالماً ومتكلماً ومريداً وسميعاً وبصيراً في الحقيقة دون المجاز والتلقيب، وجب إثبات هذه الصفات التي اشتق له عز وجل الأوصاف من أخص أسمائها، وقد أوضح ذلك بقوله عز وجل: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 4، وقال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 5، وقال6: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} 7 ولا يجب8 إذا أثبتنا هذه الصفات له عز وجل على ما دلت العقول واللغة والقرآن والإجماع عليها أن تكون محدثة، لأنه تعالى لم يزل موصوفاً بها، ولا يجب أن تكون أعراضاً؛ لأنه عز وجل ليس بجسم، وإنما توجد الأعراض في الأجسام9،

_ 1 في الأصل توجد كلمة "قال" قبل "وصف" وليست موجودة في (ت) ، ولعلها مصحفة من كلمة "كان"، وكلمة "مجازاً" الواردة في نهاية العبارة خبرها. 2 تلقيباً يعني: علماً على المسمى باللقب. 3 ما بين المعقوفتين ليس من المخطوطتين، والسياق يقتضيه. 4 سورة الذاريات آية: (58) . 5 سورة النساء آية: (166) . 6 ساقطة من (ت) . 7 سورة البقرة آية: (255) . 8 في الأصل: "ولا يجب أن إذا"، و"أن" هنا زائدة لا معنى لها وهي غير واضحة. 9 في (ت) : "الأجساد"، وأحب أن أنبه هنا على أمر هام جداً، وهو أن السلف كانوا لا يطلقون هذا اللفظ على الذات الإلهية لا بنفي ولا بإثبات، بل ذموا من فعل ذلك. قال ابن تيمية عنهم: "وأما لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والمركب والمنقسم، فلا يوجد له ذكر في كلام أحد من السلف، كما لا يوجد له ذكر في الكتاب والسنة لا بنفي ولا بإثبات، إلا بالإنكار على الخائضين في ذلك النفاة الذين نفوا ما جاءت به النصوص، والمشبهة الذين ردوا ما نفته النصوص، كما ذكرنا أن أول من تكلم بالجسم نفياً وإثباتاً هم طوائف من الشيعة المعتزلة، وهم من أهل الكلام الذين كان السلف يطعنون عليهم". (انظر بيان تلبيس الجهمية 1/54، ومجموع الفتاوى 7/102) ، وبهذا يظهر أن إطلاق هذه الألفاظ على الذات الإلهية من البدع المحدثة، وهذه الألفاظ من آثار الاعتزال والكلابية التي كان عليها الأشعري.

ويدل بأعراضها فيها وتعاقبها عليها على حدثها، ولا يجب أن تكون غيره عز وجل؛ لأن غير الشيء هو ما يجوز مفارقة صفاته له من قبل أن في مفارقتها له ما يوجب حدثه وخروجه عن الألوهية، وهذا يستحيل عليه (كما لا يجب) 1 أن تكون نفس2 الباري عز وجل جسماً أو جوهراً، أو محدوداً، أو في مكان دون مكان، أو في غير ذلك3 مما لا يجوز عليه من صفاتنا لمفارقته لنا، فلذلك لا يجوز على صفاته ما يجوز على صفاتنا، ولا يجب إذا لم تكن هذه الصفات غيره أن تكون نفسه4 لاستحالة كونه حياة، أو علماً، أو قدرة؛ لأن من كان كذلك لم يتأت منه الفعل، وذلك أن الفعل يتأتى من الحي القادر العالم دون الحياة والعلم والقدرة5.

_ 1 ساقط من (ت) . 2 في (ت) : "تفسير". 3 يؤمن الأشعري كما يؤمن غيره من السلف أن الله على العرش استوى وسيأتي إثبات ذلك، ولعله هنا يقصد شيئاً آخر. والله أعلم. وعبارة "أوفي مكان دون مكان" خطأ، لأن الله استوى على عرشه وعرشه فوق سماواته، وقد أخبر الله بذلك في غير آية من كتاب الله تعالى، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وحديث الجارية التي قالت إن الله في السماء، وشهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أوضح دليل في هذا. (انظر نص الحديث في صحيح مسلم 1/381، وسنن النسائي 3/17، ومسند أحمد 5/447، وموطأ مالك 3/5، 6) . 4 الصفات معان زائدة على الذات، وليست غيرها؛ لأن الله بأسمائه وصفاته إله واحد، ولا يتحقق الإيمان بالله إلا إذا آمنا بذات متصفة بصفات الكمال، وعليه فالمغايرة بين الذات والصفات بهذا المعنى باطلة، مع التأكيد على أن للصفات معان نفهمها منها زائدة على الذات. (انظر بدائع الفوائد 1/21، وكتاب الصفات الإلهية في الكتاب والسنة المحمدية للدكتور محمد أمان ص341- 343) . 5 يشير الأشعري في هذا الإجماع إلى ما سبق أن قرره من عدم مشابهة الله لأحد من خلقه، وأن صفات الله عز وجل ليست كصفات المخلوقين، ثم أخذ في الرد على المعتزلة الذين نفوا صفات الله عز وجل، وقالوا بأنه لا يوصف بالعلم والقدرة وسائر الصفات، لأنها قديمة ولو وصف بها لتعدد القدماء وهو باطل. (انظر شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص182، والمقالات للأشعري 1/244، والإبانة ص38، والفرق بين الفرق للبغدادي ص114، والملل والنحل للشهرستاني 1/49) . والمعتزلة يثبتون الأسماء وينفون الصفات، فألزمهم الأشعري الإيمان بها كما آمنوا بالأسماء، وقد وضح هذا الإلزام لهم في كتابه الإبانة فقال: "وجدنا اسم عالم اشتق من علم، واسم قادر اشتق من قدرة، وكذلك اسم حي من حياة، واسم سميع من سمع، واسم بصير من بصر. ولا تخلو أسماء الله عز وجل من أن تكون مشتقة، إما لإفادة معنى، أو على طريق التلقيب، فلا يجوز أن يسمى الله عز وجل على طريق التلقيب باسم ليس فيه إفادة معنى، وليس مشتقاً من صفة، فإذا قلنا إن الله عز وجل عالم قادر فليس ذلك تلقيباً كقولنا زيد وعمرو، وعلى هذا إجماع المسلمين وإذا لم يكن ذلك تلقيباً، وكان مشتقاً من علم وجب إثبات العلم". (انظر: الإبانة ص40) . ويؤكد الرازي كلام الأشعري في هذا المقال فيقول: "إن صدق المشتق لا ينفك عن صدق المشتق منه خلافاً لأبي علي وأبي هاشم فإن العالم والقادر والحي أسماء مشتقة من العلم والقدرة والحياة، ثم إنهما يطلقان هذه الأسماء على الله تعالى، وينكران حصول العلم والقدرة والحياة لله تعالى". (انظر المحصول في علم أصول الفقه ص327 بتحقيق د/ طه جابر) . ويقول محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -: "والمعتزلة ينفونها - أي الصفات - ويثبتون أحكامها فيقولون: هو تعالى حي قادر، مريد عليم، سميع بصير، متكلم بذاته لا بقدرة قائمة بذاته، ولا إرادة قائمة بذاته، وهكذا فراراً منهم من تعدد القديم. ومذهبهم الباطل لا يخفى بطلانه وتناقضه على أدنى عاقل، لأن من المعلوم أن الوصف الذي منه الاشتقاق إذا عدم فالاشتقاق منه مستحيل، فإذا عدم السواد عن جرم مثلاً استحال أن تقول هو أسود، إذ لا يمكن أن يكون أسود ولم يقم به سواد، وكذلك إذا لم يقم العلم والقدرة بذات استحال أن تقول: هي عالمة قادرة لاستحالة اتصافها بذلك، ولم يقم بها علم ولا قدرة. قال في مراقي السعود: وعند فقد الوصف لا يشتق ... وأعوز المعتزليَ الحق (انظر أضواء البيان 2/277) .

الإجماع السادس وأجمعوا على أن1 أمره عز وجل وقوله غير محدث ولا مخلوق وقد دل الله تعالى على صحة ذلك بقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 2، ففرق تعالى بين خلقه وأمره.

_ 1 ساقطة من (ت) . 2 سورة الأعراف آية: (54) . ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الله متصف بصفة الكلام وأنه سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وقد خالف في ذلك المبتدعة من الجهمية والمعتزلة، وسائر الفرق الضالة. (انظر أقوال الناس في مسألة الكلام في شرح الطحاوية ص106، والصواعق 2/286، وفتح الباري 13/493) . ولقد عقد الإمام أحمد فصلاً في كتابه "الرد على الجهمية" عَنوَن له من مفهوم الآية السابقة فقال: "باب بيان ما فصل الله بين قوله وخلقه وأمره" ثم ذكر أن الله سبحانه وتعالى إذا سمى الشيء الواحد باسمين، أو ثلاثة أسامي جاء به مرسلاً مفصلاً، وإذا سمى شيئين مختلفين لا يدعهما مرسلين حتى يفصل بينهما. من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} ، فهذا شيء واحد سماه بثلاثة أسامي وهو مرسل، ولما كان الخلق غير الأمر فصل بينهما فقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وهذا يدل على أن الخلق بخلاف الأمر الذي هو صفة من صفات ذاته". (انظر الرد على الجهمية والزنادقة ص34) ، وقال في رسالة السنة: "والقرآن كلام الله تكلم به ليس بمخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر". (انظر ص76، وانظر كتاب السنة أيضاً لعبد الله ابن الإمام أحمد ص33- 40) . كما ذكر البخاري هذه الآية في بابي 30، 56 من كتاب التوحيد وعقب عليها في الباب الأخير بقول ابن عيينة: "بين الله الخلق من الأمر بقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} . قال ابن حجر: "وسبق ابن عيينة إلى ذلك محمد بن كعب القرظي وتبعه الإمام أحمد بن حنبل وعبد السلام بن عاصم وطائفة أخرج كل ذلك ابن أبي حاتم عنهم". (انظر فتح الباري 13/533) . وقال سفيان بن عيينة: "أدركت مشايخنا منذ سبعين سنة، منهم عمرو بن دينار يقولون: "القرآن كلام الله وليس بمخلوق". (رواه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد ص117) ، وقال ابن أبي عاصم: "والقرآن كلام الله تبارك وتعالى تكلم الله به ليس بمخلوق، ومن قال مخلوق ممن قامت عليه الحجة فكافر بالله العظيم، ومن قال من قبل أن تقوم عليه الحجة فلا شيء عليه". (انظر السنة لابن أبي عاصم 2/645) . وقال ابن تيمية: "إن مذهب السلف وأهل السنة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود هكذا قال غير واحد من السلف. روي عن سفيان بن عيينة وكان من التابعين الأعيان وقال: ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك". (انظر مجموع الفتاوى (3/401) . ويقول أيضاً: "إنه لم يزل متكلماً إذا شاء بكلام يقوم به، وهو متكلم بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديماً، وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة". (انظر منهاج السنة النبوية 1/296، وانظر أيضاً باب الرد على الجهمية في شرح السنة للبغوي 1/81، والشريعة للآجري ص75، وأصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/221- 306، وعقيدة أصحاب الحديث للصابوني ص106 ضمن الرسائل المنيرية، ومختصر الصواعق المرسلة 2/277- 332، وشرح الطحاوية ص115، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/132- 143) .

وقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1، فبين بذلك تعالى أن الأشياء المخلوقة تكون شيئاً بعد أن لم تكن بقوله وإرادته. وأن قوله غير الأشياء المخلوقة من قبل أن2 أمره تعالى للأشياء وقوله لها كوني، لو كان مخلوقاً لوجب أن يكون قد خلقه بأمر آخر، وذلك القول لو كان مخلوقاً (لكان مخلوقاً) 3 بقول آخر، وهذا يوجب على قائله أحد شيئين: إما أن يكون كل قول محدث قد تقدمه قول محدث إلى ما لا نهاية له، وهذا قول أهل الدهر بعينه، أو يكون ذلك القول حادثاً بغير أمره عز وجل له، فبطل معنى الامتداح بذلك4. وقد نص على هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحضرة أوليائه من الصحابة وأعدائه من الخوارج لما أنكروا عليه التحكيم فقال: والله ما حكمت مخلوقاً وإنما حكمت كلام الله5، فلم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة الذين يوالونه، ولا أحد من الخوارج الذين يعادونه، ولا روي عن أحد منهم خلاف له في ذلك.

_ 1 سورة يس آية: (82) . استدل الأشعري بهذه الآية أيضاً على إثبات صفة الكلام لله تعالى، وقد استدل بها البخاري أيضاً للغرض نفسه في كتابه خلق أفعال العباد، وذكرها أيضاً عقب استدلاله بالآية السابقة التي استدل بها الأشعري. انظر كتابه ص136. كما بوب البخاري في الصحيح بما يشبه هذه الآية وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} انظر كتاب التوحيد باب 29، والإبانة ص19. ووجه الاستدلال من الآية: أن الله خلق الخلق بقوله: "كن" فلا يمكن أن يكون مخلوقاً، لأن المخلوق لا يخلق، وهو أمر مسلم به. وقال ابن أبي حاتم: "حدثنا أبي قال: قال أحمد بن حنبل دل على أن القرآن غير مخلوق حديث عبادة: أول ما خلق الله القلم فقال اكتب… الحديث. قال: إنما نطق القلم بكلامه لقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . قال: فكلام الله سابق على أول خلقه فهو غير مخلوق". (انظر فتح الباري 13/443) . 2 ساقطة من (ت) . 3 ما بين المعقوفتين ساقط من (ت) . 4 ما ذكره الأشعري هنا أشار إليه في الإبانة ص20 وما بعدها، وإلزامه لهم بما ألزمهم به حق لا يستطيعون الفرار منه، ولقد ألزمهم الربيع بن سليمان بشيء من ذلك أيضاً فقال: "خلق الله الخلق كله بقوله "كن" فلو كان "كن" مخلوقاً لكان قد خلق الخلق بمخلوق وليس كذلك". (انظر فتح الباري 13/443، وانظر أيضاً الرد على الجهمية للإمام أحمد ص36) . 5 قال اللالكائي: "روي عن علي رضي الله عنه أنه قال يوم صفين ما حكمت مخلوقاً، وإنما حكمت القرآن، ومعه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع معاوية أكثر منه فهو إجماع بإظهار وانتشار وانقراض عصر من غير اختلاف ولا إنكار". ثم قال: "وعن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود مثله". (انظر أصول اعتقاد أهل السنة 1/221) . ثم ساق اللالكائي ثلاث روايات فيها نسبة هذا القول إلى علي اثنتان من طريق "عمرو بن جميع" وقد كذبه ابن معين، وقال الدارقطني وجماعة: متروك الحديث، وقال ابن عدي: يتهم بالوضع، وقال البخاري منكر الحديث. (انظر ميزان الاعتدال 3/215 طبعة الحلبي بالقاهرة) . والأثر الثالث فيه عتبة بن السكن. قال فيه الدارقطني: متروك الحديث. (انظر ميزان الاعتدال 3/28) . وقد ذكره البيهقي بالإسناد نفسه وقال عقبه: "هذه الحكاية شائعة فيما بين أهل العلم ولا أراها شاعت إلا عن أصل". (انظر الأسماء والصفات ص313) . قلت: هذا غير لازم، وقد شاعت الأحاديث الموضوعة والباطلة، ومع هذا فليس لها أصل، وشيوع الشيء لا يدل على صحته، والعبرة في ذلك ثبوت الدليل وصحته. وهذه الآثار مع ضعف أسانيدها إلا أن معناها ثابت وصحيح. وبعد هذا العرض، وبيان مذهب السلف في هذه الصفة يتبين لنا أن ما عليه الأشاعرة اليوم من قولهم بأن القرآن عبارة عن كلام الله، وليس هو كلام الله، خطأ واضح، ولم يكن السلف يعتقدون ذلك، ومعهم الأشعري بعد عودته إلى المذهب السلفي. ويذهب ابن تيمية إلى أن ابن كلاب هو أول من قال في الإسلام هذه المقالة، فأخذ بذلك بنصف قول المعتزلة ونصف قول أهل السنة، ثم جاء بعده أبو الحسن الأشعري فسلك مسلكه في إثبات أكثر الصفات وفي مسألة القرآن أيضاً، واستدرك عليه قوله: بأن القرآن حكاية عن كلام الله، وقال المناسب أن نقول: عبارة عن كلام الله. (انظر مجموع الفتاوى 12/272) . أما ما استقر عليه الأشعري وكانت عليه خاتمته في الاعتقاد هو ما ذكره هنا وفي الإبانة والمقالات من أن القرآن كلام الله حقيقة، وكتبه أمامنا ناطقة بذلك وتأمل قوله في الإبانة: "والقرآن مكتوب في مصاحفنا في الحقيقة، مسموع لنا في الحقيقة كما قال عز وجل: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} ". (الإبانة ص29) . وتأمل أيضاً قوله: "ولا يجوز أن يقال أن شيئاً من القرآن مخلوق؛ لأن القرآن بكماله غير مخلوق" (الإبانة ص30) . وعليه أقول: ينبغي لكل أشعري يسلك مذهب شيخه أن يقف على معتقده الذي لقي الله عليه وأن يقول به ولا يفتري عليه فينسب إليه ما تبرأ منه، وقد بينت ذلك في المقدمة.

الإجماع السابع وأجمعوا على أنه عز وجل يسمع ويرى، وأن له تعالى (يدين مبسوطتين) 1 وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه من غير أن يكون جوارحاً، وأن يديه تعالى غير نعمته2.

_ 1 في الأصل و (ت) : "يدان مبسوطتان" بالرفع، وهي اسم أن فتكون منصوبة وعليه فما أثبته في صلب النص هو الصواب. 2 يستدل الأشعري على إثبات صفة اليد لله عز وجل بما أشار إليه من آيات، وهكذا فعل الدارمي في رده على بشر المريسي لما قال بأن اليد بمعنى النعمة. (انظر كتابه ص25، وكتاب التوحيد لابن خزيمة ص53- 90، والأسماء والصفات للبيهقي ص314- 341، والرد على الجهمية لابن مندة ص68- 94، وأصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 2/ 394) . كما رد الأشعري أيضاً في الإبانة على من ذهب إلى أن اليد بمعنى النعمة وقرر أنهم لا يجدون دليلاً لا من اللغة، ولا من الإجماع. (انظر ص34- 38) . كما تعرض لهم الباقلاني في التمهيد ورد عليهم بعد حكايته لقولهم بقوله: "يقال لهم: هذا باطل، لأن قوله "بيدي" يقتضي إثبات يدين هما صفة له، فلو كان المراد بهما القدرة لوجب أن يكون له قدرتان… وقد أجمع المسلمون من مثبتي الصفات والنافين لها، على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان فبطل ما قلتم، وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين؛ لأن نعم الله تعالى على آدم وغيره لا تحصى …". (انظر كتابه التمهيد ص209) . وقال اللالكائي: سياق ما دل من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن من صفات الله عز وجل الوجه والعينين واليدين، ثم ساق ما يؤيد ذلك من القرآن والسنة. (انظر شرح اعتقاد أهل السنة 3/412- 434، وانظر تتمة الكلام حول صفة اليد في الصفحات التالية) .

وقد دل على ذلك تشريفه لآدم عليه السلام حيث خلقه بيده، وتقريعه لإبليس على الاستكبار عن السجود مع ما شرفه به بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 1. الإجماع الثامن وأجمعوا على أنه عز وجل يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً لعرض الأمم وحسابها وعقابها وثوابها، فيغفر لمن يشاء من المذنبين، ويعذب منهم من يشاء كما قال، وليس مجيئه حركة ولا زوالاً، وإنما يكون المجيء حركة وزوالاً إذا كان الجائي جسماً أو جوهراً، فإذا ثبت أنه عز وجل ليس بجسم ولا جوهر لم يجب أن يكون مجيئه نقلة أو حركة2، ألا ترى

_ 1 سورة ص آية: (75) . استدل الأشعري بهذه الآية أيضاً على إثبات صفة اليد لله عز وجل وقد ذكر الاستدلال منها كما ترى. وقال الآجري: "ويقال للجهمي الذي ينكر أن الله عز وجل خلق آدم بيده كفرت بالقرآن ورددت السنة، وخالفت الأمة". (انظر كتابه الشريعة ص323) . ومجيء الآية على هذا التركيب يدل دلالة قاطعة على ثبوت هذه الصفة وبطلان ما ذهب إليه أهل التأويل فيها، وفي ذلك يقول ابن القيم: "إن هذا التركيب المذكور في قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} يأبى حمل الكلام على القدرة؛ لأنه نسب الخلق إلى نفسه سبحانه، ثم عدى الفعل إلى اليد، ثم ثناها، ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قولك "كتبت بالقلم"، ومثل هذا نص صريح لا يحتمل المجاز". (انظر الصواعق المرسلة 2/157) . ومما يؤيد ثبوت هذه الصفة لله كغيرها من الصفات اطراد لفظها في موارد الاستعمال وتنوعه، وتأمل في ذلك في الآيات التي جاء فيها ذكر اليد لله، وكذلك في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث ذكر أن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، وكذلك الأحاديث التي جاء فيها الهز والقبض وأخذ الذرية من ظهر آدم وما إلى ذلك. (انظر ما أحلناك عليه سابقاً في كتاب التوحيد لابن خزيمة والأسماء والصفات للبيهقي والصواعق لابن القيم) . وقال ابن حجر: "لو كانت اليد بمعنى القدرة، لم يكن بين آدم وإبليس فرق لتشاركهما فيما خلق كل منهما به وهي قدرته، ولقال إبليس: وأي فضيلة له علي، وأنا خلقتني بقدرتك كما خلقته بقدرتك، فلما قال {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} دل على اختصاص آدم بأن الله خلقه بيديه، ولا جائز أن يراد باليدين النعمتان؛ لاستحالة خلق المخلوق بمخلوق، لأن النعم مخلوقة". (انظر فتح الباري 13/294) . وقال ابن التين في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وبيده الأخرى الميزان" يدفع تأويل اليد هنا بمعنى القدرة، وكذا قوله في حديث ابن عباس: "أول ما خلق الله القلم، فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين". (المرجع السابق، نفس الصفحة) . ولقد بوب البخاري في الصحيح لهذه الآية في كتاب التوحيد باب 19 وذكر تحتها ستة أحاديث لا تحتمل تأويلاً على الإطلاق. 2 سبق القول أن إطلاق مثل هذه الألفاظ على الله عز وجل لا يجوز نفياً أو إثباتاً. (انظر ما تقدم ص226- 227) .

أنهم لا يريدون بقولهم: جاءت زيداً الحمى أنها تنقلت إليه، أو تحركت من مكان كانت فيه إذ لم تكن جسماً ولا جوهراً، وإنما مجيئها إليه وجودها به1. وأنه عز وجل ينزل إلى السماء2 الدنيا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس نزوله نقله، لأنه ليس بجسم ولا جوهر، وقد نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم عند من خالفنا3.

_ 1 ينص الأشعري في هذا الإجماع على إثبات صفة المجيء لله سبحانه وتعالى كما نطق بذلك القرآن الكريم في أكثر من موضع، وصح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أبي هريرة: "إذا كان يوم القيامة نزل الرب إلى العباد" أخرجه الحاكم في المستدرك 1/481 وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضاً في العلو. (انظر مختصر العلو ص110) . وفي حديث الرؤية الطويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفونه…" أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب 24 ج8/79، وكتاب الرقاق باب 52 ج7/205، ومسلم في كتاب الإيمان باب 81 ج1/163. وقال الحافظ أبو نعيم وهو يذكر ما أجمع عليه السلف: "… وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفاً صفاً كما قال تعالى {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (انظر الفتوى الحموية الكبرى لابن تيمية ص35، 36) . كما تعرض ابن القيم لهذه الصفة، وأبطل تأويل المعطلة لها من عشرة أوجه أذكر منها: أن عطف مجيء الملك في الآية على مجيء الله سبحانه وتعالى يدل على تغاير المجيئين، وأن مجيئه سبحانه حقيقة كما أن مجيء الملك حقيقة، وهكذا الأمر في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} حيث فرق سبحانه بين إتيان الملائكة، وإتيانه، وإتيان بعض الآيات، فقسم ونوع، ومع هذا التقسيم يمتنع أن يكون القسمان واحداً. انظر مختصر الصواعق 2/106- 108) . وذكر الأشعري هنا أن مجيء الله ليس كمجيء البشر، بمعنى أنه لا يترتب عليه ما يترتب على مجيء البشر، لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، أما ما ذكره من كون مجيئه ليس حركة ولا انتقالاً، فهذا شيء لم يتكلم السلف فيه، ولم يوردوه في كتبهم؛ لأن الأصل الذي اعتمدوا عليه في ذلك - وهو إثبات الصفات دون تكييف - رفع عنهم البحث في ذلك. (انظر ما سبق ذكره في التعليق على الإجماع الثاني) . ويقول الهراس وهو يعرض لمسألة نزول الرب عند ابن تيمية - أن ابن تيمية يؤمن بنزول الرب حقيقة من على العرش، ثم يطرح سؤالاً موجهاً إلى كلام ابن تيمية: هل يجوز عليه الحركة والانتقال؟، ثم يجيب قائلاً: "لم أجد لابن تيمية نصاً يفيد هذا، بل مذهبه الصريح الذي يذكره في عامة كتبه أن الله فوق سماواته على عرشه بائن عن خلقه، وأنه لا يحصره ولا يحيط به شيء من مخلوقاته، كما أنه لا يحل في شيء منها". (انظر كتابه ابن تيمية السلفي ص156) . وما يقال في النزول يقال في المجيء، فالكل من باب واحد، وسيأتي الكلام على صفة النزول. 2 في (ت) : "سماء" بدون أل. 3 ذهب أهل السنة والجماعة إلى ما ذكره الأشعري من أن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن خزيمة: "باب ذكر أخبار ثابتة السند صحيحة القوام رواها علماء الحجاز والعراق عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب جل وعلا إلى سماء الدنيا كل ليلة" ثم ساق الأحاديث. (انظر كتاب التوحيد ص125) . وقال ابن أبي زمنين: "ومن قول أهل السنة أن الله ينزل إلى سماء الدنيا ويؤمنون بذلك من غير أن يروا فيه حداً". (انظر أصول السنة ورقة 4/ ب، وانظر السنة لابن أبي عاصم 1/216، والشريعة للآجري ص306، واعتقاد أهل السنة للالكائي 2/418، وعقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني ص112، ومختصر العلو للذهبي ص128) . كما نص على إجماع السلف على ذلك الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف فيما نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية. (انظر الحموية الكبرى ص46) . وقد ألف الدارقطني كتاباً سماه "أحاديث النزول" تضمن ستة وتسعين حديثاً وأثراً في إثبات هذه الصفة، كما ألف ابن تيمية كتاباً سماه "شرح حديث النزول" قرر فيه هذه الصفة على ضوء عقيدة السلف ورد على المخالفين. وقال الذهبي: "وأحاديث نزول الباري متواترة قد سقت طرقها وتكلمت عليها بما أسأل عنه يوم القيامة" (انظر مختصر العلو ص110) . وقد ذكر ابن القيم تسعة وعشرين صحابياً رووا أحاديث النزول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (انظر الصواعق 2/230، ولوامع الأنوار البهية 1/242) . وقال ابن حجر آل بوطامي: "… والحاصل أن حديث النزول حديث صحيح فقد رواه نحو من ثمانية وعشرين صحابياً عن النبي صلى الله عليه وسلم واشتملت عليه كتب الإسلام كالبخاري ومسلم ومسند أحمد وموطأ مالك، ورواه علماء الحجاز والعراق، وأطبق على اعتقاد نزوله بلا كيف جميع علماء الأمصار، كالإمام أبي حنيفة ومالك والسفيانين والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وسائر المحدثين والفقهاء، ولم يخالف في ذلك إلا أهل التعطيل والتأويل هدانا الله وإياهم سواء السبيل". (انظر كتابه العقائد السلفية ص76) . وقد ذهب الخلف إلى تأويل هذه الصفة قائلين: إن المراد من النزول نزول أمره ورحمته، وقد رد عليهم أعلام السلف في ذلك، قال الدارمي في رده على بشر المريسي: "… وهذا أيضاً من حجج النساء والصبيان ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان، لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان ... " (انظر كتابه ص20) . وقد حاول المعطلة الاعتراض على أحاديث النزول من وجه آخر قائلين: إن ثلث الليل يختلف باختلاف البلدان، فلا يمكن أن يكون النزول في وقت معين، ولقد رد عليهم ابن رجب الحنبلي بعد حكاية قولهم قائلاً: "ومعلوم قبح هذا الاعتراض، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أو خلفاءه الراشدين لو سمعوا من يعترض به لما ناظروه، بل بادروا بعقوبته وإلحاقه بزمرة المخالفين المنافقين المكذبين". (انظر فضل علم السلف على الخلف ص6) . كما رد عليهم ابن تيمية في شرح حديث النزول ص68- 106، والهراس في تعليقه على كتاب التوحيد لابن خزيمة ص128.

الإجماع التاسع وأجمعوا على أنه عز وجل يرضى عن الطائعين له، وأن رضاه عنهم إرادته لنعيمهم، وأنه يحب التوابين ويسخط على الكافرين ويغضب عليهم، وأن غضبه إرادته لعذابهم، وأنه لا يقوم على غضبه شيء1. وأنه تعالى فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وقد دل على ذلك بقوله: {أَأَمِنْتُمْ

_ 1 ما ذكره الأشعري هنا مخالف لما عليه سلف هذه الأمة، ولم يجمعوا مطلقاً على ما ذكره؛ لأنهم كما ذكرت عنهم فيما مضى آمنوا بجميع الصفات، وفوضوا علم الكيفية إلى الله تعالى. ولعل الأشعري هنا أراد أن يفسر الصفة، أو يذكر شيئاً من لوازمها أما إذا كان قصده تأويل الرضى بالنعيم، والغضب بالعذاب فهذا لم يصح عن السلف، بل هو تأويل باطل يأباه منهج السلف الذي رجع إليه في آخر حياته. والقول الحق في ذلك وما عليه سلف الأمة ما ذكره الطحاوي في قوله: "والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى" وعلق شارح الطحاوية على قوله بذكر بعض الآيات التي تثبت هاتين الصفتين، ثم قال: "ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب والرضا، والعداوة والولاية، والحب والبغض، ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى". (انظر شرح الطحاوية ص411، 412) . وقال ابن القيم: "والقرآن مملوء بذكر سخطه وغضبه على أعدائه وذلك صفة قائمة به يترتب عليها العذاب واللعنة، لا أن السخط هو نفس العذاب واللعنة، بل هما أثر السخط والغضب وموجبهما ولهذا يفرق بينهما كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} ففرق بين عذابه وغضبه ولعنته، وجعل كل واحد غير الآخر، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، ,أعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك". فتأمل ذكر استعاذته صلى الله عليه وسلم بصفة "الرضا" من صفة "الغضب" وبفعل "المعافاة" من فعل "العقوبة" فالأول للصفة، والثاني لأثرها المترتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره…" (انظر مدارج السالكين 1/254، طبعة دار الكتب / بيروت 1392هـ) وقال ابن حجر آل بوطامي: "ومن الصفات التي جاء بها القرآن والسنة، وأثبتها السلف صفة الرضا لله تعالى …، كما ورد اتصافه بالغضب…، ثم قال: قال الخلف: إن الرضا إرادة الإحسان، والغضب غليان دم القلب لإرادة الانتقام، وهذا نفي للصفة". (انظر العقائد السلفية ص86، 87) .

مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} 1 وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 2. وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3، وليس استواؤه على العرش استيلاء كما قال أهل القدر؛ لأنه عز وجل لم يزل مستولياً على كل شيء. وأنه يعلم السر وأخفى من السر، ولا يغيب عنه شيء في السماوات والأرض حتى

_ 1 سورة تبارك آية: (16) . 2 سورة فاطر آية: (10) . ينص الأشعري في هذا الإجماع على أن الله فوق سماواته على عرشه، كما نطق بذلك القرآن، وآمن وصدق بذلك أهل الهدى والإيمان، قال الإمام أحمد وهو يذكر مذهب أهل السنة: "… والماء فوق السماء العليا السابعة وعرش الرحمن عز وجل فوق الماء والله عز وجل على العرش…" (انظر رسالة السنة ص74، 75، وكذلك نقل هذا الإجماع عن السلف اللالكائي في كتابه أصول اعتقاد أهل السنة 2/969، وانظر التوحيد لابن خزيمة ص101، والأسماء والصفات للبيهقي ص405- 430، والحموية الكبرى لابن تيمية ص23- 32، وشرح الطحاوية ص229- 235) . كما بوب البخاري في الصحيح لذلك وأثبت العرش وعلو الله عليه، ونقل عن أبي العالية قوله: استوى إلى السماء: ارتفع، وعن مجاهد: استوى: علا على العرش. (انظر كتاب التوحيد باب 22 ج8/175) . وقد أفرد كل من الإمامين الجليلين الذهبي وابن القيم مصنفاً في هذه المسألة جمع الأول في كتابه نقولاً عن ثمانية وستين ومائة عالم من علماء السلف ذكرهم حسب طبقاتهم وتاريخ وفياتهم وسمى كتابه "العلو للعلي الغفار"، أما الثاني فذكر العلماء الذين أثبتوا هذه الصفة من كل فن على حدة، فذكر أقوال المفسرين والفقهاء وعلماء اللغة وغيرهم حتى استدل بأقوال الطيور والحشرات كالنمل وسمى كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية". ومع هذه النقول الكثيرة عن السلف في إثبات الاستواء ذهب الخلف إلى إنكاره وتأويله، وسيأتي توضيح ذلك في الصفحة التالية. 3 سورة طه آية: (5) . وصف الله سبحانه وتعالى نفسه في سبع آيات من كتابه بأنه استوى على العرش كما جاء في هذه الآية، ومع هذا ذهب المعطلة إلى تأويلها قائلين: إن استوى بمعنى استولى، وهذا في الحقيقة تحريف لكتاب الله ورد له، وقد بين الأشعري فساد هذا التأويل وأبطله كما ترى، وكذلك فعل في الإبانة ص30، 34، كما رد عليهم الدارمي وأبطل تأويلهم لذلك بقوله: "فهل من مكان لم يستول عليه ولم يعله حتى خص العرش بالذكر من بين الأمكنة والاستواء … ثم قال: هذا محال من الحجج وباطل من الكلام لا تشكون أنتم - إن شاء الله - في بطوله واستحالته، غير أنكم تغالطون به الناس". (انظر الرد على الجهمية ص18) . وسئل الباقلاني: هل تقولون إنه في كل مكان؟ قال: "معاذ الله بل مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (انظر كتابه التمهيد ص 260) وقال الذهبي - رحمه الله - كلمة حكيمة بعد ذكره لكثير من الآيات والآثار التي تثبت فوقية الله واستواءه على العرش: "والقرآن مشحون بذكر العرش وكذلك الآثار بما يمتنع أن يكون مع ذلك، أن المراد بذلك الملك (أي: الاستيلاء) ، فدع المكابرة والمراء، فإن المراء في القرآن كفر ما أنا قلته، بل المصطفى صلى الله عليه وسلم قاله" (انظر مختصر العلو ص100) . كما تعرض ابن القيم في الصواعق لذلك وأبطل تأويل المعطلة لهذه الصفة من اثنين وأربعين وجهاً. (انظر كتابه 2/126- 153) . وقال الهراس: "أخبر الله عن استوائه على عرشه في سبع مواضع من القرآن، وكلها بلفظ "استوى" مما يدل أعظم دلالة أنه أراد بالاستواء حقيقة معناه الذي هو العلو والارتفاع، فإن فعل الاستواء إذا عدي بالحرف "على" لا يفهم منه إلا ذلك، ولهذا روى البخاري عن أبي العالية ومجاهد تفسيره بالعلو والارتفاع". (انظر تعليقه على التوحيد لابن خزيمة ص101) .

كأنه حاضر مع كل شيء، وقد دل الله عز وجل على ذلك بقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 1 وفسر ذلك أهل العلم بالتأويل أن علمه محيط بهم حيث كانوا. وأنه له عز وجل كرسياً دون العرش، وقد دل الله سبحانه على ذلك بقوله: {وَسِعَ

_ 1 سورة الحديد آية: (4) . يستدل الأشعري بهذه الآية على أن الله عز وجل مع استوائه على عرشه لا يغيب عنه شيء من أطراف مملكته، أي أن علمه بكل شيء محيط. وقد احتج المعطلة على نفي الاستواء بهذه الآية وأمثالها، وقد رد عليهم الإمام أحمد بقوله: "إنما يعني بذلك العلم،؛ لأن الله تعالى على العرش فوق السماء السابعة العليا، ويعلم ذلك كله، وهو بائن من خلقه، لا يخلو من علمه مكان" (انظر رسالة السنة ص75) . وقال في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} يعني إلا الله بعلمه رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم يعني الله بعمله "سادسهم" {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ} يعني بعلمه فيهم {أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يفتح الخبر بعلمه ويختم الخبر بعلمه". (انظر الرد على الجهمية والزنادقة ص52) . وقال الدارمي في رده على المعطلة: "… فاحتج بعضهم فيه - أي في الاستواء - بكلمة زندقة استوحش من ذكرها، وتستر آخر من زندقة صاحبه فقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ …} الآية" قلنا: هذه الآية لنا عليكم لا لكم إنما يعني أنه حاضر كل نجوى، ومع كل أحد من فوق العرش بعلمه، لأن علمه بهم محيط، وبصره فيهم نافذ…" (انظر كتابه الرد على الجهمية ص19) . وقال الإمام أبو عمر الطلمنكي في كتابه: "الوصول إلى معرفة الأصول": "وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء". (انظر بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية 2/38) . وقال ابن تيمية: "وليس معتنى قوله {وَهُوَ مَعَكُمْ} أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان…". (انظر العقيدة الواسطية مع شرحها ص134. وانظر أيضاً مختصر الصواعق لابن القيم 2/262- 279) .

كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} 1 وقد جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه. الإجماع العاشر وأجمعوا على وصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه، ووصفه به نبيه من غير اعتراض فيه ولا تكييف له، وأن الإيمان به واجب، وترك التكييف له لازم2.

_ 1 سورة البقرة آية: (255) . وقد أخرج ابن مندة بسنده إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله عز وجل هذا فقال: "كرسيه موضع قدمه، والعرش لا يقدر قدره إلا الله". (انظر كتابه الرد على الجهمية ص45، 46) . وقد أجمع أهل السنة على أن لله كرسياً هو موضع قدميه، قال الإمام أحمد في "رسالة السنة": "والماء فوق السماء العليا السابعة، وعرش الرحمن عز وجل فوق الماء، والله عز وجل على العرش، والكرسي موضع قدميه". (انظر ص74، 75) . وقال الطحاوي: "والعرش والكرسي حق" وعلق شارح الطحاوية على ذلك بقوله: "وأما الكرسي فقال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} وقد قيل: هو العرش، والصحيح أنه غيره، نقل ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره، ثم ذكر الحديث الذي أخرجه الحاكم عن ابن عباس أنه قال: "الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى". (انظر شرح الطحاوية ص225، 226) ، وحديث الحاكم في المستدرك 2/282 موقوفاً على ابن عباس. قال الحاكم بعد روايته هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن أبي زمنين: "باب في الإيمان بالكرسي"، ثم قال: "ومن قول أهل السنة أن الكرسي بين يدي العرش، وأنه موضع القدمين" (انظر كتابه أصول السنة ورقة 3/ ب) 2 ذهب أهل السنة والجماعة إلى وصف الله عز وجل بما وصف به نفسه أو جاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يزيدوا على ذلك شيئاً، كما لم ينقصوا منه شيئاً، وقد سبق أن أشرت إلى ذلك عند الكلام على الإجماع الأول، ويوضح هذا أن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن نفسه وبما هو عليه سبحانه من صفات الجلالة والكمال واعتقد ذلك خيار هذه الأمة، وكل خير في اتباع من سلف. أما ما نص عليه الأشعري من تركهم التكييف لصفات الله فهذا حق لا مرية فيه، وما كان عليه سلف الأمة أكبر دليل على ذلك، وما قاله ربيعة ومالك في الاستواء هو من هذا الباب، ومن قول أحمد بن حنبل: "لا يتجاوز القرآن والحديث"، وهذا يعني الوقوف عند حدود النصوص ومعرفة الصفات وما تدل عليه دون البحث عن كيفياتها. وقال الحافظ الصابوني: "أصحاب الحديث حفظ الله أحياءهم، ورحم أمواتهم يشهدون لله تعالى بالوحدانية وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالةوالنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له جل جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله…، ولا يعتقدون تشبيهاً" (انظر عقيدة السلف وأصحاب الحديث 1/106 ضمن مجموعة الرسائل المنيرية) . ويحكي ابن تيمية مذهب أهل السنة في ذلك، ويؤكد أنهم لا يكيفون ولا يمثلون صفات الله بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفء له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى. (انظر في ذلك شرح العقيدة الواسطية ص21- 26، وانظر رسالة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات) .

الإجماع الحادي عشر وأجمعوا على أن المؤمنين يرون الله عز وجل يوم القيامة بأعين وجوههم على ما أخبر به تعالى في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1. وقد بين معنى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ودفع كل إشكال فيه بقوله للمؤمنين: "ترون ربكم عياناً" 2.

_ 1 سورة القيامة آية: (22، 23) . وهاتان الآيتان نص في رؤية المؤمنين لربهم في الدار الآخرة، ولقد وردت روايات كثيرة عن أعلام المفسرين من السلف بذلك. (انظر تفسير الطبري 29/191- 193) . ويذكر البيهقي وجه الدليل من الآية، ويبين أن لفظ "ناضرة" من النضرة بمعنى السرور، ولفظ "ناظرة" يحتمل في كلام العرب أربعة أشياء: نظر التفكر والاعتبار كقوله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} ، ونظر الانتظار كقوله: {مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} ، ونظر التعطف والرحمة كقوله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} ، ونظر الرؤية كقوله: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} ، والثلاثة الأول غير مرادة أما الأول: فلأن الآخرة ليست بدار الاستدلال، وأما الثاني: فلأن في الانتظار تنغيصاً وتكديراً، والآية خرجت مخرج الامتنان والبشارة، وأما الثالث: فلا يجوز، لأن المخلوق لا يتعطف على خالقه، فلم يبق إلا نظر الرؤية، وانضم إلى ذلك أن النظر إذا ذكر مع الوجه انصرف إلى نظر العينين اللتين في الوجه، لأنه هو الذي يتعدى "بإلى"، وإذا ثبت أن "ناظرة" بمعنى "رائية" اندفع قول من زعم أن المعنى: "ناظرة إلى ثواب ربها"، لأن الأصل عدم التقدير. (انظر الاعتقاد للبيهقي ص45، 46، وانظر أيضاً الرد على الجهمية للإمام أحمد 44- 46، والتوحيد لابن خزيمة ص180، والإبانة للأشعري ص12، 13، وحادي الأرواح لابن القيم ص203) . كما بوب البخاري في الصحيح مستدلاً على ثبوت الرؤية ووقوعها بهذه الآية، ثم تلاها بالأحاديث. (انظر كتاب التوحيد باب 24 ج8/176) . وقد نص على إجماع السلف في هذه المسألة أيضاً الإمام أحمد في رسالة السنة. (انظر ص76) . وقال ابن أبي زمنين: "ومن قول أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، وأنه يحتجب عن الكفار والمشركين فلا يرونه، وقال عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (انظر أصول السنة ورقة 5/ ب) . وقال ابن أبي شامة: "أطبق أهل السنة على أن الله تعالى يرى بالأبصار في الدار الآخرة خلافاً للمعتزلة، والدلائل السمعية دالة على حصول الرؤية" (انظر ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري ورقة 2/ أ) . وقال البغدادي: "وأجمع أهل السنة على أن الله تعالى يكون مرئياً للمؤمنين في الآخرة" (انظر الفرق بين الفرق ص335) . وقال ابن القيم: "اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وجميع الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام على تتابع القرون، وأنكرها أهل البدع المارقون، والجهمية المتهوكون، والفرعونية المعطلون، والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون ومن حبل الله منقطعون، وعلى مسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عاكفون…" (انظر حادي الأرواح ص196) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه عن جرير بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم عياناً". (انظر كتاب التوحيد باب 24 ج8/176) .

وقوله: "ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته" 1. فبين أن رؤيته تعالى بأعين الوجوه. ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل مثل القمر من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه الله تعالى بالقمر وليس يجب إذا رأيناه تعالى أن يكون شبيهاً لشيء مما نراه، كما لا يجب إذا علمناه أنه يشبه شيئاً نعلمه، ولو كان يجب إذا رأيناه عز وجل أن يكون مثل المرئيين منا لوجب إذا كان الله رائياً لنا وعالماً بنا أن يكون مثل الرائين العالمين منا2. الإجماع الثاني عشر وأجمعوا على أنه عز وجل غير محتاج إلى شيء مما خلق، وأنه تعالى3 يضل من يشاء

_ 1 انظر ما يشير إلى معنى هذا الحديث في البخاري كتاب التوحيد باب 24 ج8/ 176، وكتاب المواقيت باب 16 ج1/139، وأبو داود في كتاب السنة باب 20 ج5/97، والترمذي في كتاب الجنة باب 16 ج4/687، ومسند أحمد 3/216، وابن ماجة في المقدمة باب 13 ج1/63. وأحاديث الرؤية كثيرة جداً أخرجها المحدثون بألفاظ مختلفة وبأسانيد متعددة. (انظر ما أحلناك عليه سابقاً، وانظر كتاب التوحيد لابن خزيمة ص167- 196) . وقال ابن مندة: "ذكر وجوب الإيمان برؤية الله عز وجل ثم ساق ثمانية وعشرين حديثاً صريحة في الرؤية" (انظر كتاب الإيمان 3/758- 781 والرد على الجهمية له أيضاً ص95- 103، وأصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 2/441- 496) . وقال ابن بطال عن أحاديث الرؤية: "تلقاها المسلمون بالقبول من لدن الصحابة والتابعين حتى حدث من أنكر الرؤية وخالف السلف" (انظر فتح الباري 13/426) . وقال شارح الطحاوية: "وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على الرؤية فمتواترة رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن" (انظر الطحاوية ص134) . وقال ابن حجر: "جمع الدارقطني طرق الأحاديث الواردة في رؤية الله تعالى في الآخرة فزادت على العشرين، وتتبعها ابن القيم في حادي الأرواح فبلغت الثلاثين وأكثرها جياد، وأسند الدارقطني عن يحيى بن معين قال: عندي سبعة عشر حديثاً في الرؤية صحاح". (انظر فتح الباري 13/434) . 2 يبين الأشعري هنا مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "كما ترون القمر ليلة البدر"، ويقرر أن المراد من هذا التشبيه إنما هو تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي، لأن الله ليس كمثله شيء". (انظر في ذلك شرح العقيدة الواسطية ص123) . ويقول شارح الطحاوية: "وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيهاً لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي". (انظر ص135، وانظر الإبانة للأشعري ص17) . 3 ساقطة من (ت) .

ويهدي1 من يشاء، (ويعذب من يشاء، وينعم على من يشاء) 2 ويعز من يشاء، ويغفر لمن يشاء3، ويغني من يشاء4. وأنه لا يسأل في شيء من ذلك عما يفعل، ولا لأفعاله علل؛ لأنه مالك غير مملوك، ولا مأمور ولا منهي5.

_ 1 في (ت) : "ويهدي وينعم على من يشاء". 2 ما بين المعقوفتين ساقط من (ت) . 3 ساقطة من (ت) . 4 يستهل الأشعري كلامه عن القدر بالرد على المعتزلة القائلين: بوجوب فعل الأصلح للعبد، حيث ذهبوا إلى أن الله لا يضل الكافرين، لأن الكفر قبح والله لا يفعل القبيح، ولذلك يجب عليه فعل الأصلح لعباده. (انظر تفصيل مقالتهم في شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص132- 134، ومقالات الإسلاميين 1/325، والملل والنحل للشهرستاني 1/50، والطحاوية ص87) . أما أهل السنة والجماعة فقد ذهبوا إلى ما ذكره الأشعري عنهم، قال الطحاوي: "يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً". (انظر الطحاوية ص86، والفرق بين الفرق للبغدادي ص340، 341، وانظر منهاج السنة لابن تيمية 1/171) ، ويقول ابن القيم: "وقد اتفقت كل رسل الله من أولهم إلى آخرهم وكتبه المنزلة عليهم على أنه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والضلال بيده لا بيد العبد، وأن العبد هو الضال أو المهتدي، فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه…". (انظر شفاء العليل ص142، ولوامع الأنوار البهية 1/334- 335) . 5 ما ذكره الأشعري هنا من إجماع أهل السنة على أنه ليس لأفعال الله علل غير سليم، بل هو مذهب له ولبعض الطوائف من أصحاب مالك والشافعي وابن حنبل. (انظر في ذلك مجموع الفتاوى 8/83) ، ولم أقف على نص عن الأشعري يفيد رجوعه عن هذا القول، وبالتالي فهذا القول أثر من آثار الكلابية التي اعتقدها فترة من الزمن، أما أهل السنة وكذلك المعتزلة فيقولون بالحكمة والتعليل لأفعال الله تعالى. يقول القاضي عبد الجبار: "إن الله ابتدأ الخلق لعلة، ولا يقال خلقه لا لعلة، لما فيه من إيهام أنه خلقهم عبثاً". (انظر المغني 11/92) . ويقول ابن تيمية: "والقول بإثبات هذه الحكمة ليس هو قول المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة فقط، بل هو قول جماهير طوائف المسلمين من أهل التفسير والفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم، فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في أحكامه الشرعية". (انظر منهاج السنة النبوية 1/44) . ويقول ابن القيم: "إن الله لا يفعل شيئاً عبثاً ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة، لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلام الله ورسوله على ذلك". (انظر شفاء العليل ص400) . كما تعرض الشاطبي لهذه المسألة، وقرر رأي أهل السنة فيها، وأكد أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل، ورد على الرازي في مخالفته لذلك، واستدل بقوله الله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (انظر الموافقات 2/6) . ومن الجدير بالذكر هنا أن أذكر الفرق بين قول المعتزلة والسلف رغم اشتراكهما في القول بالحكمة والتعليل، وذلك أن السلف يؤمنون بأن الحكمة صفة لله غير مخلوقة، أما المعتزلة فهي عندهم مخلوقة منفصلة، وتعود على العباد. (انظر مجموع الفتاوى 8/35، 36، 89- 94) . ولعله من المناسب هنا أن أذكر دافع الأشعري، ومن ذهب مذهبه إلى هذا القول، وذلك أنهم قالوا: لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصاً بدونها مستكملاً بها، وهذا محال وعليه فلا نقول ذلك، وهذه شبهة باطلة؛ لأن مالك الملك ليس بحاجة إلى غيره، ويلزم على قولهم هذا أن لا يحدث شيئاً في الوجود وأن كل ما حدث حدث بغير محدث، وهذا من أبين الباطل. (انظر تفصيل ذلك في مجموع الفتاوى 8/83، ولوامع الأنوار البهية 1/380) . والذي يظهر أن الأشعري أخذ هذا القول من ابن كلاب، وقد ذكر ابن تيمية أن هذا من أصول ابن كلاب ومن تابعه. (انظر مجموع الفتاوى 8/432) .

وأنه يفعل ما يشاء، (ويفضل على من يشاء، كما قال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} 1 وقال: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} 2 وبين تعالى أنه ليس يجري في أفعاله مجرى خلقه بقوله عز وجل: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 3، وقال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 4. الإجماع الثالث عشر وأجمعوا على أن القبيح من أفعال خلقه ما نهاهم عنه، وزجرهم عن فعله، وأن الحسن ما أمرهم به، أو ندبهم إلى فعله، أو أباحه لهم، وقد دل عز وجل على ذلك بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 5.

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقط من (ت) ، والآية من سورة الجمعة (4) . 2 سورة الأعراف آية: (156) . 3 سورة الأنبياء آية: (23) . 4 سورة البروج آية: (16) . يؤكد الأشعري ما سبق أن قرره في بداية هذا الإجماع، وهي مسألة الهدى والضلال، ويستدل بهذه الآيات على أن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، ولا يرد على فعله ما يرد على فعل العبيد، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فمن أكرمه وهداه وأدخله الجنة فبفضله ورحمته، ومن أضله وأدخله النار فبعدله وحكمته. 5 سورة الحشر آية: (7) . يقرر الأشعري في هذا الإجماع مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الحسن والقبح، ويبين أن القبيح ما قبحه الشرع، والحسن ما حسنه الشرع. وذهبت المعتزلة والكرامية: إلى أن الحسن والقبح راجع إلى العقل وأوجبوا على العباد فعل الحسن والكف عن القبيح حتى ولو لم يرد بذلك شرع، يقول الشهرستاني عن المعتزلة: "وقال أهل العدل: المعارف كلها معقولة بالعقل، واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع والحسن والقبح صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح" (انظر الملل والنحل 1/48، 103) . ويظهر من كلام الأشعري - كما ذكر ابن تيمية - أن الأشياء في ذاتها ليست حسنة ولا قبيحة إلا بعد ورود الشرع بالتحسين أو التقبيح، ويميل ابن تيمية إلى أن الشيء قد يشتمل على مصلحة أو مفسدة، أي: يكون حسناً، أو قبيحاً قبل ورود الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم مشتمل على فساده، لكن لا يلزم من ذلك أن يثاب فاعل المصلحة، أو يعاقب فاعل المفسدة قبل ورود الشرع، فترتيب الثواب والعقاب على الفعل لا يكون إلا بعد ورود الشرع، كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . (انظر مجموع الفتاوى 8/434، 435) . وما ذكره ابن تيمية هو الصواب، كما تشهد له الفطرة وتؤيده الطباع السليمة، ولذلك لما أتى الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم وكان وقتئذٍ غريباً عليه، وخشي منه على نفسه قالت له زوجته خديجة - رضي الله عنها -: "والله لا يخزيك الله أبداً، إنك تصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم… الخ" (انظر البخاري كتاب بدء الوحي 1/3) . ففهم السيدة خديجة ومعرفتها أن هذه صفات حميدة لو توفرت في شخص حفظ برعاية الله وعنايته دليل على أن الصفات الحميدة تدرك بالعقل وكذلك الحال في القبيحة. وقد يتوهم متوهم أن هناك توافقاً بذلك بين السلف والمعتزلة في هذه المسألة، والأمر ليس كذلك، وذلك أن المعتزلة ترتب الثواب والعقاب على تحسين العقل وتقبيحه قبل ورود الشرع، أما السلف فيقولون: إن الأشياء قد تكون حسنة أو قبيحة قبل ورود الشرع ولكن لا يثبت لها حكم قبل ورود الشرع فالثواب والعقاب مترتب على ما جاء به الشرع ومن جهته فقط، وفي ذلك يقول ابن تيمية أيضاً: "والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرة ترد على من قال من أهل التحسين والتقبيح أن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم" (انظر مجموع الفتاوى 8/435) .

الإجماع الرابع عشر أجمعوا على أن على جميع الخلق الرضا بأحكام الله التي أمرهم أن يرضوا بها، والتسليم في جميع ذلك لأمره، والصبر على قضائه، والانتهاء إلى طاعته فيما دعاهم1 إلى فعله، أو تركه2.

_ 1 في (ت) : "دعواهم". 2 ذهب أهل السنة إلى أن من حقيقة الإيمان بالقضاء والقدر التسليم المطلق لله عز وجل، والرضا بحكمه، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} . وأخرج أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه" المسند 6/441 وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة، وقال الألباني: إسناده صحيح 1/110. ويقول ابن تيمية: "ينبغي للإنسان أن يرضى بما يقدره الله عليه من المصائب التي ليست ذنوباً مثل: أن يبتليه بفقر أو مرض، أو ذل وأذى الخلق له، فإن الصبر على المصائب واجب، وأما الرضا بها فهو مشروع" (مجموع الفتاوى 8/191) . وتقييد الأشعري الرضا بأحكام الله على ما أمر به، وكذلك ابن تيمية في كلامه السابق يفيد أن ما لم يأمر به فهو غير مرضي له ولا محبوب، وإن كان داخلاً فيما أراده وقضاه؛ لأنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وسيأتي تفصيل ذلك. (انظر ما سيأتي ص256، 258) . ويقول ابن تيمية: "ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله آية ولا حديث يأمر العباد أن يرضوا بكل مقضي مقدر من أفعال العباد حسنها وسيئها، فهذا أصل يجب أن يعتنى به، ولكن على الناس أن يرضوا بما أمر الله به، فليس لأحد أن يسخط ما أمر الله به". (المرجع السابق ص190) . وعلى هذا أقول: يجب على المرء المسلم أن يصبر ويرضى بما قدره الله عليه ولا يسخط منه شيئاً وهذا في المصائب لا في الذنوب، فالذنوب من فعل العبد واختياره لا يجب الرضا بها، بل عليه الندم والاستغفار وإن كان كل شيء بقدر الله عز وجل وخلقه، فلا يخرج شيء من أفعال عباده عن خلقه حتى العجز والكيس كما هو اعتقاد أهل السنة.

الإجماع الخامس عشر وأجمعوا على أنه عادل في1 جميع أفعاله وأحكامه ساءنا ذلك، أم سرنا، نفعنا2، أو ضرنا3.

_ 1 في (ت) "على". 2 ساقطة من (ت) . 3 سبق أن أشار الأشعري في الإجماع الثاني عشر إلى أن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وسيأتي ذكره لتقسيم الله لخلقه فرقتين، فرقة في الجنة، وفرقة في السعير. وقد يعترض معترض على مقادير الله عز وجل، فنص الأشعري هنا على أن الله عادل في أفعاله كلها. قال الشهرستاني: "وأما العدل، فعلى مذهب أهل السنة: أن الله تعالى عدل في أفعاله، بمعنى أنه متصرف في ملكه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فالعدل وضع الشيء في موضعه، وهو التصرف في الملك على مقتضى المشيئة والعلم، والظلم بضده، فلا يتصور منه جور في الحكم وظلم في التصرف". (انظر الملل والنحل 1/48، وانظر أيضاً شفاء العليل لابن القيم ص377) . وذهب المعتزلة إلى أن العدل: هو ما يقتضيه العقل من الحكمة وهو إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة. (انظر الملل والنحل 1/48، والمقالات 1/298، 299، والإبانة للأشعري ص42) . ومن هنا قالوا: إن الله لا يريد من العباد خلاف ما يأمر به. فالله لا يريد الشر والمعاصي، ولا يقدر شيئاً من ذلك، وعليه فالعبد خالق لأفعال نفسه، ولا دخل لله فيها. والذي دفعهم إلى ذلك تسويتهم بين الإرادة العامة، وهي مشيئته المطلقة، وبين الإرادة الدينية وهي المتضمنة للمحبة والرضا، ولما لم يفرقوا بينهما قالوا: إن الله لا يرضى الكفر ولا يحبه، فهو لا يريده ولا يخلقه. أما المحققون من أهل السنة فهداهم الله إلى الحق وفرقوا بينهما قائلين: إن الإرادة في كتاب الله نوعان: أحدهما: إرادة كونية قدرية، وهي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث، ومنها قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} وكقول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة هي التي يجب مرادها سواء أحبه الله ورضيه، أم لا. والأخرى: إرادة دينية شرعية، وهي المتضمنة للمحبة والرضا ومنها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وهذه الإرادة لا يجب مرادها، ولذلك تجد الناس يقولون لمن يفعل القبائح هذا ما لا يحبه الله ولا يرضاه. وهذا التقسيم وارد عن أعلام السلف، وبه يزول كل إشكال ويتضح المراد في هذه القضية، كما يظهر خطأ المعتزلة في ذلك ويتضح أن قولهم بأن العبد يخلق فعل نفسه باطل. انظر ذلك بتفصيل في منهاج السنة النبوية 1/359، 360، وشفاء العليل ص585- 592، وشرح الطحاوية ص198، 199، ولوامع الأنوار البهية 1/338.

الإجماع السادس عشر وأجمعوا على أنه تعالى قد1 قدر جميع أفعال الخلق وآجالهم وأرزاقهم قبل خلقه لهم، وأثبت في اللوح المحفوظ جميع ما هو كائن منهم إلى يوم يبعثون2، وقد دل (على) 3 ذلك4 بقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} 5.

_ 1 ساقطة من (ت) . 2 في (ت) : "منهم يوم القيامة تبعثون". 3 ما بين المعقوفتين من (ت) . 4 ساقطة من (ت) . 5 سورة القمر آية: (52، 53) . ذهب أهل السنة إلى أن الله قدر جميع أفعال العباد خيرها وشرها وعلم ما هم صائرون إليه، وكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ. قال الإمام أحمد: "والقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه وحلوه ومره، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وأوله وآخره من الله قضاء قضاه، وقدراً قدره عليهم، لا يعدوا واحد منهم مشيئة الله عز وجل ولا يجاوز قضاءه، بل هم كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم لا محالة، وهو عدل منه ربنا عز وجل، والزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس، وأكل المال الحرام، والشرك بالله والمعاصي كلها بقضاء وقدر من غير أن يكون لأحد من الخلق على الله حجة، بل لله الحجة البالغة على خلقه…". (انظر رسالة السنة ص68، 69) . وقال البخاري: "فأما أفعال العباد فقد حدثنا علي بن عبد الله، ثنا مروان بن معاوية، ثنا أبو مالك عن ربعي بن خراش عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يخلق كل صانع وصنعته". وتلا بعضهم عند ذلك: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة". (انظر كتاب خلق أفعال العباد ص137) . كما بوب في الصحيح للمشيئة والإرادة، وذكر سبعة عشر حديثاً كلها في إثبات المشيئة العامة المطلقة لله تعالى. (انظر البخاري مع الفتح 13/445) . كما بوب لقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال ابن حجر: "مراد البخاري بذلك بيان كون أفعال العباد بخلق الله تعالى، إذ لو كانت أفعالهم بخلقهم لكانوا أنداداً لله وشركاء له في الخلق، كما تضمنت الرد على الجهمية في قولهم: لا قدرة للعبد أصلاً، وعلى المعتزلة حيث قالوا: لا دخل لقدرة الله تعالى فيها". (انظر فتح الباري 13/491) ، ويلاحظ من كلام ابن حجر أن الجهمية تقابل المعتزلة في هذه المسألة فهما طرفا نقيض فيها، ومع هذا فقد اتفقا على نفي الصفات الثابتة لله عز وجل. كما رد الأشعري عليهم في كتابه الإبانة أيضاً (انظر ص42، 43) . ويقول ابن تيمية: "ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع إيمانهم بالقضاء والقدر وأن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأن العباد لهم مشيئة وقدرة يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليهم مع قولهم: "إن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله" (انظر مجموع الفتاوى 8/459) . وبهذا الكلام الجامع من ابن تيمية تخرج الطوائف المنحرفة عن الحق في هذا الباب وهم: القدرية الأولى: الذين نفوا علم الله بالأشياء، وقالوا لا قدر والأمر أنف، هؤلاء نفوا علم الله بالأشياء وخلقه لها وقد سبق ذكر مقالتهم، انظر ص193، 194. والقدرية الثانية: الذين أثبتوا العلم ونفوا أن يخلق الله، أو يريد أفعال العباد وهم المعتزلة، وهم بهذا يختلفون عن القدرية الأولى لإثباتهم العلم، ويتفقون معهم في نفي خلق الله لأفعال العباد. والجبرية: الذين يقولون بأن العبد مجبور في جميع أفعاله كالريشة في الهواء. انظر تفصيل ذلك في الإبانة للأشعري ص38- 48، والمجلد الثاني من الفتاوى لابن تيمية، وشفاء العليل لابن القيم، وشرح الطحاوية ص84- 88، وجامع العلوم والحكم 24، 25، 182، 184، وشرح النووي على مسلم ج1/154، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني ج1/300، 301.

وأخبر أنه عز وجل يقرع الجاحدين لذلك في جهنم بقوله: {يَوْمَ 1 يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 2. الإجماع السابع عشر وأجمعوا على أنه تعالى قسم خلقه فرقتين، فرقة خلقهم للجنة وكتبهم بأسمائهم (وأسماء آبائهم) 3، وفرقة خلقهم للسعير وذكرهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ممتثلين في ذلك بقوله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} 4.

_ 1 ساقطة من الأصل، و (ت) . 2 سورة القمر آية: (48، 49) . قال الطبري في تفسيره عن هاتين الآيتين: "وفي هذا بيان أن الله جل ثناؤه توعد هؤلاء المجرمين على تكذيبهم في القدر مع كفرهم به، ثم ساق بسنده إلى ابن عباس أنه كان يقول: "إني أجد في كتاب الله قوماً يسحبون في النار على وجوههم، يقال لهم: "ذوقوا مس سقر" لأنهم كانوا يكذبون بالقدر، وإني لا أراهم، فلا أدري أشيء كان قبلنا أم شيء فيما بقي". (انظر جامع البيان 27/110) . وقال ابن كثير: "يستدل أئمة أهل السنة بهذه الآية الكريمة على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرق القدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة". (انظر تفسيره 7/457 طبعة الشعب بالقاهرة) . وقد ثبت في سبب نزول هذه الآيات ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت: {يوم يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (انظر مسلم كتاب القدر باب4 ج4/2046، والترمذي في كتاب التفسير 5/398، وقال حديث حسن صحيح، ومسند أحمد 2/444، 476، وابن ماجة في مقدمة سننه باب في القدر 1/32) . 3 ساقطة من (ت) . 4 سورة الأعراف آية: (179) . يستدل الأشعري بهذه الآية على تقسيم الله السابق لخلقه إلى فرقتين، وهو ما ذكره علماء التفسير قال ابن كثير: "خلق الله لجهنم كثيراً من الجن والإنس، أي: هيأهم لها وبعمل أهلها يعملون، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق علم ما هم عاملون قبل كونهم فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ورد في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء" (مسلم كتاب القدر باب حجاج آدم وموسى 4/2042) . وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث عائشة بنت طلحة عن خالتها عائشة أم المؤمنين أنها قالت: "دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت يا رسول الله: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه، فقال: أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم" (مسلم كتاب القدر 4/2047، وتفسير ابن كثير 3/514، وتفسير الطبري 13/222، والرد على الجهمية لابن مندة ص53- 63، وشرح الطحاوية ص193- 195) .

ولقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 1. وقد بين ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث القبضتين2. وحديث الصادق المصدوق عن عبد الله بن مسعود3، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - حين قال: يا رسول الله أرأيت ما نحن فيه4 أمر قد فرغ منه، أم أمر مستأنف، فقال عليه السلام: بل أمر قد فرغ منه، قال عمر: ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" 5 وغير ذلك مما جاء في الكتاب والسنة.

_ 1 سورة الأنبياء آية: (101) . يواصل الأشعري استدلاله بالقرآن الكريم على ما سبق أن ذكره في مقدمة هذا الإجماع، وهو استدلال صحيح يتفق مع ما ورد عن المفسرين في ذلك يقول ابن جرير: قال بعضهم: "عنى به كل من سبقت له من الله السعادة من خلقه أنه عن النار مبعد" (انظر تفسير الطبري 17/96) . ويقول ابن تيمية: "وأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى …} فمن سبقت له من الله الحسنى فلابد أن يصير مؤمناً تقياً فمن لم يكن من المؤمنين لم يسبق له من الله حسنى، ولكن إذا سبقت للعبد من الله سابقة استعمله بالعمل الذي يصل به إلى تلك السابقة كمن سبق له من الله أن يولد له ولد، فلابد أن يطأ امرأة يحبلها، فإن الله سبحانه قدر الأسباب والمسببات فسبق منه هذا وهذا، فمن ظن أن أحداً سبق له من الله حسنى بلا سبب فقد ضل، بل هو سبحانه ميسر الأسباب والمسببات، وهو قدر فيما مضى هذا وهذا". (انظر مجموع الفتاوى 8/266) . 2 وردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ما أخرجه أحمد والحاكم عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي، قال: فقال قائل: يا رسول الله: فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر". (انظر المسند 4/186، والمستدرك 1/31، وقال الحاكم بعد روايته: صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي، وانظر مجمع الزوائد 7/185، 186، وقال الألباني القدر وحديث القبضتين حق. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الأول ص76) . 3 عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق قال: إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع برزقه وأجله وشقي أو سعيد، فوالله إن أحدكم، أو الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع، أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع، أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها". (انظر البخاري كتاب القدر باب 1 ج7/ 210، ومسلم كتاب القدر باب 1 ج4/2036، ومسند أحمد 1/382، 430) . 4 ساقطة من (ت) . 5 الحديث أخرجه الترمذي من رواية علي بن أبي طالب بهذا اللفظ، وقال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح، وأخرج نحوه من حديث عمر وقال عقبه: وفي الباب عن علي وحذيفة بن أسيد وأنس وعمران بن حصين". (انظر سننه 4/445، وانظر البخاري كتاب التوحيد باب 54 ج8/ 215، وكتاب القدر باب 4 ج7/ 212، ومسند أحمد 1/29، 52) . وقد ورد في معنى هذا الحديث أحاديث كثيرة، وكلها تفيد تقدم علم الله وكتابته للأشياء قبل كونها، وأن ذلك لا ينافي وجود الأعمال التي يقوم بها العبد فتحصل بسببها السعادة، أو الشقاوة، ولذلك نهي عن الاتكال وترك العمل. (انظر ذلك بتفصيل في مجموع الفتاوى 8/272- 280) .

الإجماع الثامن عشر وأجمعوا على أن الخلق لا يقدرون على الخروج مما سبق في علم الله فيهم، وإرادته لهم، وعلى أن طاعته تعالى واجبة عليهم فيما أمرهم به، (وإن كان) 1 السابق من علمه فيهم وإرادته لهم أنهم لا يطيعونه، وأن ترك معصيته لازم لجميعهم، وإن كان السابق في علمه وإرادته أنهم يعصونه، وأنه تعالى يطالبهم بالأمر والنهي، ويحمدهم على الطاعة فيما أمروا به، ويذمهم على المعصية فيما نهوا عنه، وأن جميع ذلك عدل منه تعالى عليهم كما أنه تعالى عادل على من خلقه منهم مع علمه أنه يكفر إذا أمره، وأعطاه القدرة التي يعلم أنها تصيره إلى معصيته، وأنه عدل في تبقيته المؤمنين إلى الوقت الذي يعلم أنهم يكفرون فيه ويرتدون عما كانوا عليه من إيمانهم، وتعذيبهم لهم على الجرم المنقطع بالعذاب الدائم، لأنه عز وجل ملك لجميع ذلك فيهم غير محتاج في فعله إلى تمليك غيره له ذلك، حتى يكون جائراً فيه قبل تملكه، بل هو تعالى في فعل جميع ذلك عادل له وله مالك يفعل ما يشاء، كما قال عز وجل: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 2.

_ 1 في (ت) : "والكفر". 2 سورة البروج آية: (16) . ينص الأشعري في هذا الإجماع أيضاً على أن الله قدر المقادير خيرها وشرها، وأن العباد لا يقدرون على الخروج عما قدر عليهم، وهو سبحانه وتعالى عادل في جميع ذلك، ولا يعترض على الله سبحانه في شيء من ذلك أو يدعي أحد أن ذلك فيه إسقاط للأمر والنهي، أو أنه ظلم وجور تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. (انظر ما سبق ذكره في الإجماع السابع عشر) كما تعرض الأشعري في الإبانة لهذه المسألة بتفصيل أكثر. (انظر 9، 10) ولعله من الملاحظ أن الأشعري هنا يعرف الظلم الذي نزه الله نفسه عنه، بأنه: التصرف في ملك الغير، أما التصرف فيما يملك فليس بظلم، وتأمل قوله في ذلك: "… لأنه عز وجل ملك لجميع ذلك فيهم…". وتعريف الأشعري الظلم بذلك يخالف ما عليه سلف الأمة، كما ذكر ذلك عنهم ابن تيمية في تعريفه الظلم عند الطوائف المختلفة في قوله: "قالت طائفة: الظلم ليس بممكن الوجود، بل كل ممكن إذا قدر وجوده منه عدل، والظلم هو الممتنع مثل الجمع بين الضدين، وكون الشيء موجوداً ومعدوماً، فإن الظلم: إما التصرف في ملك الغير، وكل ما سواه ملكه، وإما مخالفة الأمر الذي تجب طاعته، وليس فوق الله تعالى آمر تجب عليه طاعته، وهذا قول المجبرة مثل جهم ومن اتبعه، وهو قول الأشعري وأمثاله من أهل الكلام. والطائفة الثانية قالت: بأنه عدل لا يظلم، لأنه لم يرد وجود شيء من الذنوب، لا الكفر ولا الفسوق، ولا العصيان، بل العباد فعلوا ذلك بغير مشيئته، وهذا قول القدرية من المعتزلة وغيرهم. والطائفة الثالثة قالت: إن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والعدل وضع الشيء في موضعه، وهو سبحانه حكم عدل يضع الأشياء مواضعها.. ثم قال: وما ذكرناه من الأقوال الثلاثة نضبط أصول الناس فيه، ونبين أن القول الثالث هو الصواب، وبه يتبين أن كل ما يفعله الرب فهو عدل، وأنه لا يضع الأشياء في غير موضعها، فلا يظلم مثقال ذرة، ولا يجزي أحداً بغير ذنبه، وهذا قول أهل السنة". (انظر في ذلك رسالته في معنى كون الرب عادلاً وفي تنزهه عن الظلم ضمن جامع الرسائل 123- 126) . ويقول ابن القيم: "إن الله نزه نفسه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها وذلك خير كله، والشر وضع الشيء في غير محله، فإذا وضع في محله لم يكن شراً". (انظر شفاء العليل ص378) .

الإجماع التاسع عشر وأجمعوا على أنه خالق لجميع الحوادث وحده، لا خالق لشيء منها (سواه) 1 وقد زجر الله عز وجل من ظن ذلك بقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2 كما زجر من ادعى إلهاً غيره بقوله تعالى: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} 3، وإنما سمى غيره خالقاً في قوله: {اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 4 وإن كان خالقاً وحده على طريق الاتساع، كما يقال: عدل العمرين على طريق الاتساع، وإن كان عمر واحداً.

_ 1 ما بين المعقوفتين من (ت) . 2 سورة فاطر آية: (3) . 3 وردت مرتين في سورة القصص آية: (71، 72) . 4 سورة المؤمنين آية: (14) . أجمع أهل السنة على أن الله خالق لجميع الحوادث، ومنها أفعال العباد خيرها وشرها، وقد سبق توضيح ذلك. (انظر الإجماع الخامس عشر والسادس عشر) . أما ما ذهب إليه في الآية {اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} من أنها من باب الاتساع، ولا يطلق لفظ الخلق إلا على الله، فليس كذلك. وذلك أن الخلق في الآية بمعنى الصنع كما ذكر ذلك أهل اللغة والتفسير وقد ذكر ابن جرير عن مجاهد أنه قال في الآية: "يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين". ورجح ابن جرير ذلك، وقال: إن العرب تسمى كل صانع خالقاً، ومنه قول زهير بن أبي سلمى: ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري. (انظر تفسير الطبري 18/11) . وقال القرطبي: "أحسن الخالقين"، أي: أتقن الصانعين يقال لمن صنع شيئاً خلقه، ثم ذكر قول زهير السابق وقال: ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع، وإنما هي منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم". (انظر الجامع لأحكام القرآن 12/110) . وقال أبو حيان: "ومعنى الخالقين: المقدرين، وهو وصف يطلق على غير الله تعالى كما قال زهير". (انظر البحر المحيط 6/398) . وقال أبو بكر الأنباري: الخلق في كلام العرب على وجهين: أحدهما: الإنشاء على مثال أبدعه. والآخر: التقدير. ثم ذكر أنه هو المراد في الآية (انظر لسان العرب 11/372، 373) .

وكما سمى غيره إلهاً في قوله: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} 1 في المجاز. الإجماع العشرون وأجمعوا على أن جنس استطاعة الإيمان غير جنس استطاعة الكفر من قبل أن جنس استطاعة2 الإيمان هدى وتوفيق يرغب إلى الله عز وجل في فعلها، ويشكر على التفضل بها، واستطاعة الكفر ضلال وخذلان يستعاذ بالله منها، ويسأل العصمة بالهدى وقوة الإيمان بدلها، وأن قدر المحدثين تختلف وتتجانس وتتضاد، كما يختلف علمهم ويتجانس ويتضاد3.

_ 1 سورة طه آية: (97) . الإله في الآية بمعنى المعبود، وقد اتخذ المشركون غير الله إلهاً بمعنى أنهم عبدوا غيره. قال الراغب: "وإله جعلوه لكل معبود لهم وكذلك الذات، وسموا الشمس إلهة لاتخاذهم إياها معبوداً" (المفردات ص21) . وعلى هذا فلفظ الإله يطلق على المعبود سواء كان حقاً أو باطلاً، والآية التي نحن بصددها أطلقت لفظ الإله على المعبود الباطل، ولذلك قال ابن جرير في تفسيرها: "وانظر إلى معبودك الذي ظلت عليه مقيماً تعبده" (انظر تفسير الطبري 16/209، وتفسير أبي السعود 3/664) . 2 في (ت) : "الاستطاعة". 3 مراد الأشعري بذلك هو تأكيد ما سبق أن أشار إليه في مسألة الهدى والضلال، وبيان أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ومن مقتضيات ذلك أن يفرق سبحانه بين أسباب الهداية، وأسباب الضلال، ويجعل لكل طريق منهما صفات تخصه، ولذلك نقول: إن الله سبحانه زين لأوليائه طريق الإيمان وكره إليهم الكفر بخلاف الكافرين، فلم يفعل ذلك لهم، وعليه فاستطاعة الإيمان التي مكن الله عباده المؤمنين من تحصيلها هدى وتوفيق من رب العالمين لعباده المؤمنين، ويجب عليهم شكر ربهم عليها، واستطاعة الكفر خذلان من الله للكافرين يجب على كل مسلم أن يستعيذ بالله منها. (وانظر ما سيأتي ص274- 275) . وقد أوضح ابن جرير هذا المعنى وهو بصدد تفسيره لقوله تعالى: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال: "وفي هذا أوضح البيان على تكذيب الله الزاعمين أن الله فوض الأمور إلى خلقه في أعمالهم، فلا صنع له في أفعالهم، وأنه قد سوى بين جميعهم في الأسباب التي بها يصلون إلى الطاعة والمعصية، لأن ذلك لو كان كما قالوا، لكان قد زين لأنبيائه وأوليائه من الضلالة والكفر نظير ما زين من ذلك لأعدائه وأهل الكفر به، وزين لأهل الكفر به من الإيمان به نظير الذي زين منه لأنبيائه وأوليائه…" (انظر تفسير الطبري 12/92، 93) .

الإجماع الحادي والعشرون وأجمعوا على أن الإنسان غير غني عن ربه عز وجل في سائر أوقاته، وعلى الرغبة إليه في المعونة على سائر ما أمر به ممتثلين لما أمرهم به في قوله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1 فلم يفرق بين العبادة وبين الاستعانة2. الإجماع الثاني والعشرون وأجمعوا على أن الإنسان لا يستطيع أن يفعل ما علم الله عز وجل أنه لا يفعله3 وقد نص على ذلك تعالى فيما حكاه عن الخضر في قوله لموسى - عليهما السلام - لما لم يصبر معه {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} 4 ولم ينكر موسى قوله، ولا رد عليه ما ذكره5.

_ 1 سورة الفاتحة آية (5) . 2 لم يفرق الله عز وجل بين العبادة والاستعانة، لأن العبادة لا تكون إلا لله، والاستعانة لا تكون إلا بالله، والعبد في جميع أحواله وأوقاته محتاج إلى ربه وعونه ومدده، ولا تقع العبادة من العبد إلا بعون الله له وتوفيقه إياه. وقد قال ابن جرير في قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} "وإياك ربنا نستعين على عبادتنا إياك، وطاعتنا لك، وفي أمورنا كلها لا أحد سواك، وساق بسنده إلى ابن عباس أنه قال: "إياك ربنا نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلها". (انظر تفسير الطبري 1/162) . وقال ابن كثير في الآية: "الأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عز وجل، وهذا المعنى في غير آية من القرآن، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ". (انظر تفسير ابن كثير 1/41) . 3 سبق أن نص الأشعري على أن الله سبق في علمه ما يكون في ملكه وأنه كتب ذلك في اللوح المحفوظ، واستدل هنا بقصة الخضر وموسى على ذلك. (انظر ما سبق ذكره في الإجماع السادس عشر وما بعده) . 4 سورة الكهف آية: (75) . والمراد بالصبر المنفي عنه في الآية هو: نفي حقيقة قدرته على الصبر لا نفي أسباب الصبر وآلاته فإنها ثابتة له. (انظر شرح الطحاوية ص380) . 5 الخضر عبد من عباد الله تعالى كان موجوداً في زمن موسى بن عمران، وقد ذكر أبو حيان أنه كان نبياً، وقال: إن هذا رأي الجمهور. (انظر تفسير البحر المحيط 6/147) . والذي يعنينا هنا في موضوع الخضر أن نناقش ما ذهب إليه المتصوفة من ادعاء أئمتهم معرفة علم الغيب استناداً إلى ما وقع من الخضر مع موسى، وقصتهما معروفة في القرآن، وكذلك سنتكلم عن حياته وهل هو حي أو مات؟. والواقع الذي تشهد له النصوص أن الخضر كان على علم علمه الله إياه وهذا العلم جاءه من طريق علام الغيوب سبحانه، ولولا ذلك ما عرف شيئاً، وعليه نقول: إنه لم يشاهد غيباً، ولم يطلع على اللوح المحفوظ، كما ذهب إليه من يقول بذلك، وقد ذكر الله عن الخضر قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} وهذا دليل في غاية الوضوح، كما أن موسى عليه السلام كان على علم من ربه لا يعلمه الخضر أيضاً، فكل منهما كان يعلم علماً من قبل الله عز وجل ليس عند الآخر، وقد قال الخضر نفسه لموسى عليه السلام "يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وأنت على علم من علمه علمكه لا أعلمه". (الحديث أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب 27 ج4/126، وكتاب التفسير 5/230) . وبهذا يظهر أن الخضر وموسى اشتركا في أن كلاً منهما على علم لا يعلمه الآخر، فما يقال في موسى يقال في الخضر ولا يزاد. وأما اختلاف الناس في حياته فقد قال به الكثيرون من المتصوفة، والحق أنه مات. قال أبو حيان: "الجمهور على أن الخضر مات، ونقل عن أبي الخضر المرسي أنه قال: أما خضر موسى بن عمران فليس بحي؛ لأنه لو كان حياً للزمه المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به واتباعه". (انظر البحر المحيط 6/147) . ونقل القاسمي عن ابن تيمية أنه قال في بعض فتاويه: "وكذلك الذين يرون الخضر أحيانا هو جني رأوه، وقد رآه غير واحد ممن أعرفه وقال "انني" وكان ذلك جنياً لبس على المسلمين الذين رأوه، وإلا فالخضر الذي كان مع موسى عليه السلام مات، ولو كان حياً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه، فإن الله فرض على كل نبي أدرك محمداً أن يؤمن به ويجاهد معه كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} (انظر محاسن التأويل للقاسمي 11/4094، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/27، 28) . وقال ابن حجر: "… وأخرج النقاش أخباراً كثيرة تدل على بقائه لا تقوم بشيء منها حجة. قاله ابن عطية، قال: ولو كان باقياً لكان له في ابتداء الإسلام ظهور، ولم يثبت شيئاً من ذلك". ثم ساق ابن حجر الروايات الواردة في بقائه وحكم عليها بالضعف. (انظر فتح الباري 6/434) كما كتب ابن حجر رسالة خاصة في هذا الموضوع بعنوان "الزهر النضر في نبأ الخضر" وختمها بقوله: "وأقوى الأدلة على عدم بقائه عدم مجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانفراده بالتعمير من بين أهل الأعصار المتقدمة بغير دليل شرعي". (انظر رسالته هذه ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 2/234) . ونقل صديق حسن خان أقوال العلماء السابقين في ذلك فقال: "قال النووي: قال الأكثرون: هو حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه بين الصوفية ... وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث: إنه مات قبل القضاء مائة سنة من الهجرة.. وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: وأما رواية اجتماعه مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعزيته لأهل البيت، فلا يصح من طرقها شيء… كما نقل عن أبي الحسين بن المناوي مثل ذلك، وعقب على هذه الأقوال بقوله: "والحق ما ذكرناه عن البخاري وأضرابه في ذلك، ولا حجة في قول أحد كائناً من كان إلا الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يرد في ذلك نص مقطوع به ولا حديث مرفوع إليه صلى الله عليه وسلم حتى يعتمد عليه ويصار إليه، وظاهر الكتاب والسنة نفي الخلد وطول التعمير لأحد من البشر وهما قاضيان على غيرهما، ولا يقضي غيرهما عليهما". (انظر فتح البيان 5/492) .

الإجماع الثالث والعشرون وأجمعوا على أن الله عز وجل قد كلف الكفار الإيمان والتصديق بنبيه صلى الله عليه وسلم وإن كانوا غير عاملين بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوضح لهم الدلالة، ولزمهم حكم الدعوة، وإنما وجب عليهم من إيجاب الله عز وجل له، وطريق معرفتهم بذلك العقول التي جعلت آلة تمييزهم، وأنهم أثموا في الجهل في ذلك من قبل إعراضهم عن تأمل ما دعوا إلى تأمله من

الأدلة لتي جعل لهم بها السبيل إلى معرفة وجوب ما دعوا إليه من النظر في آياته التي أزعج بخرق العادات فيها قلوبهم، وحرك بها دواعي نظرهم1. الإجماع الرابع والعشرون وأجمعوا على أنهم يستحقون الذم بإعراضهم وتشاغلهم بما نهوا عنه عن التشاغل به2. الإجماع الخامس والعشرون وأجمعوا أيضاً على أن الكافرين غير قادرين على العلم بما دعوا إليه مع تشاغلهم بالإعراض3 عنه، وإيثارهم للجهل عليه مع كونهم غير عاجزين عن ذلك، ولا ممنوعين منه لصحة أبدانهم وقدرتهم على ما تشاغلوا به من الإعراض عنه، وآثروه من الجهل عليه، وإنما أتوا في ذلك من جهة إعراضهم عنه، وسوء الاختيار في التشاغل بتركه، ولو

_ 1 يشير الأشعري هنا إلى أن الله كلف الكافرين وأمرهم بالإيمان مع سبق علمه أنهم لا يؤمنون، كما حدث مع أبي جهل مثلاً، وهذا يؤكد ما سبق ذكره في مسألة الهدى والضلال، وأنه لا يجب على الله فعل الأصلح لعباده. كما أنه ينص على أن الحجة قامت على العباد ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وتبليغه الرسالة، وأن من أعرض وكذب بعد ذلك فهو جاحد معاند مخالف للحق الذي وجب عليه الإيمان به، ومقصر في تركه الاستفادة من نعم الله عليه. (وانظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص327) . ويتفرع على هذه المسألة القول في التكليف وأقسامه، وسأفرد الكلام عليه في الإجماع الآتي. 2 ذكر الأشعري في الإجماع السابق أن الله أمر الكافرين بالإيمان مع علمه السابق أنهم لا يؤمنون، فهل هذا تكليف بما لا يطاق؟. يجيب الأشعري عن ذلك ضمناً بكلامه في هذا الإجماع وما قبله ويفصل ذلك في اللمع فيقول: "فإن قال قائل: أليس قد كلف الله تعالى الكافر الإيمان؟ قلنا له: نعم، فإن قال: أفيستطيع الإيمان؟ قيل له: لو استطاع لآمن، فإن قال: أفكلفه ما لا يستطيع؟ قيل له: هذا كلام على أمرين: إن أردت بقولك أنه لا يستطيع الإيمان لعجزه عنه فلا، وإن أردت أنه لا يستطيعه لتركه والاشتغال بضده فنعم". (انظر اللمع ص99) . ويذهب ابن تيمية إلى ما ذهب إليه الأشعري فيقول: "ما لا يطاق يفسر بشيئين: مالا يطاق للعجز عنه فهذا لم يكلفه الله أحداً، ومالا يطاق للاشتغال بضده، فهذا هو الذي وقع فيه التكليف". (انظر منهاج السنة النبوية 1/374، والموافقه 1/43) . 3 في (ت) : "باعراض".

كرهوا ما هم (عليه) 1 من الإعراض عن تأمل أدلة الله التي نبههم نبيه صلى الله عليه وسلم عليها ودعاهم إلى تأملها لتأتى لهم ذلك وحصل لهم العلم به والقدرة عليه2. الإجماع السادس والعشرون وأجمعوا على أن الإنسان لا يقدر بقدرة واحدة على مقدورين، كما أنه لا يعلم بعلم واحد يكتسبه شيئاً من تصرفه إلا بقدرة تخصه في حال وجوده؛ لأن التصرف لا يصح وجوده إلا بها، فلو وجد تصرفه مع عدم القدرة عليه لاستغنى في وجوده عنها، كما أنها3 لو وجدت الحركة مع عدم محلها لاستغنت في الوجود عنه ولم تحتج إليه4.

_ 1 ما بين المعقوفتين غير موجود في المخطوطتين والسياق يقتضيه. 2 خلاصة ما ذكره - رحمه الله - في هذا الإجماع هو ما سبق ذكره من أنه لا يخرج أحد من عباد الله عما قدره الله وقضاه، وأن العبد له اختيار فيما يفعل، فمن سلك طريق العلم الموصل إلى الإيمان بالله حدث له ذلك، ويكون هذا مما قدره الله له، ومن سلك طريق الجهل وصرف جهده إليه واشتغل به عن الإيمان بالله حدث له الكفر والشقاق، ويكون هذا مما قدره عليه، وسيأتي توضيح الأشعري لذلك أكثر في الإجماع السابع والعشرين، والمراد بالأدلة التي نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها هي ما دعاهم القرآن إليها من التأمل في أنفسهم وفيما خلق الله عز وجل ليصلوا من خلال ذلك وبدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإذعان لخالقهم والإيمان به، وترك الكفر المتلبسين به. 3 في (ت) "أنه". 4 مراد الأشعري هنا الرد على القدرية القائلين بأن القدرة لابد وأن تكون قبل الفعل، ولا يوجد للفعل قدرة تخصه عند القيام به. (انظر شرح أصول الخمسة ص391) . كما ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وعقب عليه بقوله: "وبنوا ذلك على أصلهم الفاسد، وهو أن أقدار الله للمؤمن والكافر والبر والفاجر سواء، فلا يقولون إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان". (انظر منهاج السنة النبوية 1/370) . أما مذهب أهل السنة والجماعة، فهو مذكور في كلام الأشعري السابق وفصله ابن تيمية بقوله: "جمهور أهل السنة يثبتون للعبد القدرة هي مناط الأمر والنهي، وهذه قد تكون قبل الفعل، لا يجب أن تكون معه ويقولون أيضاً: إن القدرة التي يكون بها الفعل لابد أن تكون مع الفعل لا يجوزون أن يوجد الفعل بقدرة معدومة ولا بإرادة معدومة، كما لا يوجد بفاعل معدوم، وأما القدرية فيزعمون أن القدرة لا تكون إلا قبل الفعل ومن قابلهم من المثبتة يقولون: لا تكون إلا مع الفعل، وقول الأئمة والجمهور هو الوسط، أنها لابد أن تكون معه، وقد تكون مع ذلك قبله، كقدرة المأمور العاصي، فإن تلك القدرة تكون مقدمة على الفعل بحيث تكون لمن لم يطع". (انظر منهاج السنة 1/369) . ويقول في موطن آخر: "والصواب الذي عليه أئمة الفقه والسنة أن القدرة نوعان: نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي، فهذه تصلح للمطيع والعاصي وتكون قبل الفعل، وقد تبقى إلى حين الفعل إما بنفسها عند من يقول ببقاء الأعراض، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول: إن الأعراض لا تبقى، وهذا قد يصلح للضدين وأمر الله لعباده مشروط بهذه الطاقة فلا يكلف الله من ليست معه هذه الطاقة ... ، ولكن هذه الاستطاعة مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل، بل لابد من إحداث إعانة أخرى تقارن هذا، مثل جعل الفاعل مريداً، فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة، والاستطاعة المقارنة للفعل تدخل فيها الإرادة الجازمة بخلاف المشروطة في التكليف، فإنه لا يشترط فيها الإرادة، فالله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده، لكن لا يأمر به من أراده فعجز عنه، وهذا الفرقان هو فصل الخطاب في هذا الباب". (انظر منهاج السنة النبوية 1/372، 373، والموافقة 1/39، 40، وشرح الطحاوية ص379) .

الإجماع السابع والعشرون وأجمعوا على أنه لا يصح تكليف الإنسان الطاعة ونهيه عن المعصية إلا مع صحة بدنه وسلامة آلات فعله، وإن كان لكل فعل يكتسبه قوة تخصه غير القوة عليه1 على تركه، وغير الفعل المقدور بها وغير صحة بدنه، كما أنه لا يصح أن يكلف فعلاً إلا مع2 صحة عقله وآلات تمييزه، وإن كان يحتاج في المعرفة لكل ما دعي3 إلى معرفته إلى علم يخصه ويصح معه فعله، وليس يجب إذا كلفوا معرفة ما لا يعلمونه في حال التكليف لإعراضهم4 عنه أن يكلفوا الفعل مع عدم جميع علومهم إذ كان عدم جميع علومهم يخرجهم عن صحة عقولهم، ويصيرهم إلى الجنون الذي لا يصح تكلف الاستدلال معه، وكذلك الحكم في تكليفهم الإيمان الذي علم الله أنهم لا يفعلونه وسبق في الكتاب أنهم لا يكتسبونه وهم غير قادرين عليه ولا عن الخروج من علم الله فيه (وخبره عنهم به لا يخل) 5 بتكليفهم فعله من قبل أن أبدانهم صحيحة، وآلات فعل ما كلفوه موجودة، وقد مكنوا في فعله فهم غير عاجزين عنه ولا ممنوعين منه، وإنما أتوا في ذلك بإعراضهم عما أمروا به وتشاغلهم بالكفر الذي قد آثروه عليه وشغلوا قدرهم بكسبه. ولو كرهوا الكفر وما هم عليه من الإيثار له، وأرادوا الإيمان لقدروا عليه، ولا يجب إذا كلفوا ما هم غير قادرين على ما كلفوه من الإيمان لتشاغلهم عنه بالكفر الذي نهوا عنه أن يكلفوا الأفعال مع عدم جميع القدر من قبل أن خروجهم عن جميع القدر يصيرهم إلى العجز وفساد الأبدان والآلات التي لا يصح منهم الفعل مع عدمها، كما لا يصح تكليفهم الاستدلال مع عدم جميع العلوم، من قبل أن عدم جميع العلوم يصيرهم إلى فساد آلات الاستدلال التي لا يتأتى لهم الاستدلال مع فسادها، وإنما يصح تكليفهم

_ 1 هكذا بالأصل، و (ت) ولعلها زائدة. 2 ساقطة من (ت) . 3 في (ت) : "ما ادعى". 4 في (ت) : "لا اعتراضهم". 5 في الأصل: "وخيرهم عنه به لا يخل" وفي (ت) : "وخبرهم عنه به لا يحل" ولعل الصواب ما أثبته.

الأفعال مع صحة عقولهم وأبدانهم التي يتأتى لهم الأفعال معها، وكونهم غير قادرين على ما تركوا من الأفعال وتشاغلوا عنه لا يخرجهم عن صحة أبدانهم، ولا يصيرهم إلى العجز الذي لا يصح معه فعلهم، كما أن (قولهم غير) 1 عالمين إلى ما دعوا إلى معرفته وتشاغلهم بالإعراض عن الاستدلال عليه لا يخرجهم عن صحة عقولهم ولا يصيرهم إلى2 الجنون الذي لا يصح معه تكليفهم3. الإجماع الثامن والعشرون وأجمعوا على أن جميع ما عليه سائر الخلق من تصرفهم قد قدره الله عز وجل قبل خلقه لهم، وأحصاه في اللوح المحفوظ لهم، وأحاط علمه به وبهم وأخبر بما يكون منهم، وأن أحداً لا يقدر على تغيير شيء من ذلك ولا الخروج عما قدره الله تعالى وسبق علمه به، وبما يتصرفون في علمه وينتهون إلى مقاديره فمنهم شقي وسعيد4. الإجماع التاسع والعشرون وأجمعوا على أنه تعالى تفضل على بعض خلقه بالتوفيق والهدى وحبب إليهم الإيمان وشرح صدورهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم راشدين، كما قال عز

_ 1 في (ت) : "كونهم" بدلاً من "قولهم غير". 2 ساقطة من (ت) . 3 انظر ما سبق ذكره في الإجماع الثالث والعشرين حيث قد سبق ذكر ما جاء في هذا الإجماع فيما تقدم. 4 يواصل الأشعري كلامه حول القضاء والقدر مؤكداً ما سبق أن ذكره من تقدير الله السابق وعلمه الشامل بأفعال العباد، وما سيكونون عليه، وأن كل شيء قد كتب في اللوح المحفوظ. وقد سبق أن ذكرت طوائف القدرية، ومنهم قوم أنكروا علم الله السابق للأشياء قبل وجودها، وزعموا أن الله لم يتقدم له علم بما يقع في ملكه، وكل هذا رد على باطلهم وإحباط لما ذهبوا إليه من ذلك. وانظر ما سبق ذكره في الإجماع السادس عشر صفحة 257، وقال الآجري باب الإيمان بأن الله عز وجل قدر المقادير على العباد قبل أن يخلق السماوات والأرض ثم ذكر حديث عبد الله بن عمر: "فرغ الله عز وجل من مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء". كما ذكر غيره من الأحاديث. (انظر الشريعة ص176) . ثم عقب باباً بعده قال فيه باب الإيمان بما جرى به القلم مما يكون أبداً وذكر فيه ما يؤيد ذلك. (انظر المرجع السابق ص177) . وقال ابن تيمية: "جميع الأسباب قد تقدم علم الله بها وكتابته لها وتقديره إياها وقضاؤه بها …" (انظر مجموع الفتاوى 8/277) .

وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} 1 وقال: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} 2 فعدد بذلك نعمته عليهم. الإجماع الثلاثون وأجمعوا على أن ما يقدر عليه من الألطاف التي لو فعلها لآمن3 جميع الخلق غير متناهية، وأن فعل ذلك غير واجب عليه، بل هو تعالى متفضل بما يفعله منها، وأنه تعالى لم يتفضل على بعض خلقه بذلك، بل أضلهم كما قال: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} 4، وقد قال موسى عليه السلام لما جيء بالعجل الذي عمله السامري لبني إسرائيل، وكان خواره فعل الباري تعالى عنه: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} 5 ولم ينكر الله ذلك عليه، ولو كان وصفه بذلك جوراً كما يقول القدرية لما ترك الإنكار ذلك عليه وزجره عنه، وقد قال نبينا عليه السلام: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" 6.

_ 1 سورة الأنعام آية: (125) . ومعنى شرح صدر العبد للإسلام أن يفسح للإيمان صدره وأن يهونه عليه وييسره له. (انظر تفسير الطبري 12/99، وابن كثير 3/328) . والأشعري بذلك يرد على القدرية القائلين بأن العبد يخلق فعل نفسه، وأن الله يجب عليه فعل الأصلح لعباده، وهذه الآية من أعظم الحجج عليهم، ولذلك علق عليها ابن جرير بقوله: "وفي هذه الآية أبين البيان لمن وفق لفهمها عن أن السبب الذي يوصل إلى الإيمان والطاعة غير السبب الذي يوصل إلى الكفر والمعصية، وأن كلا السببين من عند الله". (انظر تفسير الطبري 12/108) . 2 سورة الحجرات آية: (7) . وهذه الآية كالتي قبلها في الهدف والمضمون، وقد علق عليها أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية واستخرج منها مذهب أهل السنة في ذلك فقال: "أهل السنة متفقون على أن لله على عبده المطيع المؤمن نعمة دينية خصه بها دون الكافر، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يُعِنْ بها الكافر كما قال تعالى: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} ، فبين أنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، فالقدرية يقولون: هذا التحبيب والتزين على كل الخلق، أو هو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق، والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمنين ولهذا قال: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} والكفار ليسوا براشدين، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} ". (انظر منهاج السنة النبوية 1/370) . وقد سبق ذكر إجماع السلف على أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء. (انظر الإجماع الثاني عشر/ وسيأتي مزيد كلام للأشعري حول هذا المعنى في الصفحات القادمة. 3 في (ت) : "لأن". 4 سورة الأنعام آية: (125) . 5 سورة الأعراف آية: (155) . 6 الحديث سبق تخريجه انظر ص262 وانظر الإجماع الآتي.

الإجماع الحادي والثلاثون وأجمعوا على أن الله تعالى كان قادراً على أن يخلق جميع الخلق في الجنة متفضلاً عليهم بذلك؛ لأنه تعالى غير محتاج إلى عبادتهم له، (وأنه قادر أن يخلقهم كلهم في النار، ويكون بذلك عادلاً عليهم؛ لأن الخلق خلقه والأمر أمره لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولأنه عز وجل فعل من ذلك ما أراد لا معقب لحكمه وهو السميع البصير) 1. الإجماع الثاني والثلاثون وأجمعوا على أنه تعالى لا يجب عليه أن يساوي بين خلقه في النعم، وأنّ له أن يختص من يشاء منهم بما شاء من نعمة، وقد دل على صحة ذلك قولنا قوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} 2 وأخبرنا تعالى عما أراده في تفضل بعض خلقه المكلفين فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} 3، وقال في فريق آخر وهم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 4 وإنما اختلف الفريقان لاختلاف ما أراده الله عز وجل لهم5.

_ 1 ما ذكره الأشعري هنا هو معنى قول الله جل ذكره: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ، (يونس آية: 99) . وقال أيضاً: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود آية: 118، 119) . والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، كلها دالة على تفويض الأمر لله وأنه سبحانه يفعل ما يشاء. وقد قال ابن جرير في الآية السابقة: "ولو شاء ربك يا محمد لجعل الناس كلهم جماعة واحدة على ملة واحدة، ودين واحد، ثم ساق بسنده إلى قتادة أنه قال: لجعلهم مسلمين كلهم". (انظر تفسير الطبري 12/141، وتفسير ابن كثير 4/233، 292، والإجماع الآتي) . 2 سورة الحديد آية: (21) . 3 سورة المائدة آية: (41) . 4 سورة الأحزاب آية: (33) . 5 انظر ما تقدم ذكره في الإجماع التاسع والعشرين إلى هذا الإجماع، وكله يدل على أن فضل الله يؤتيه من يشاء، فمن أعطاه فهو فضل منه وإحسان ومن منعه فبعدله سبحانه. قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} ، وقال: {… ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} ، (وانظر في ذلك مجموع الفتاوى ج8/78- 80، والباب الرابع عشر من كتاب شفاء العليل لابن القيم ص117- 149، ولوامع الأنوار ج1/334- 338) .

الإجماع الثالث والثلاثون وأجمعوا على أنه ليس لأحد من الخلق الاعتراض على الله تعالى في شيء من تدبيره، ولا إنكار لشيء من فعله إذْ كان مالكاً1 لما يشاء منها غير مملوك وأنه تعالى حكيم قبل أن (يفعل) 2 سائر الأفعال، وأن جميع ما يفعله لا يخرجه عن الحكمة، وأن من يعترض عليه في أفعاله متبع3 لرأي الشيطان حين امتنع من السجود لآدم عليه السلام وزعم أن ذلك فساد في التدبير وخروج من الحكمة حين قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} 4. الإجماع الرابع والثلاثون وأجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جميع الخلق إلى معرفة الله وإلى نبوته، ونهاهم عن الجهل بالله عز وجل وعن تكذيبه، وأنه عليه السلام بين (لهم) 5 جميع ما دعاهم إليه من الإسلام والإيمان، وما رغبهم فيه من منازل الإحسان، وأوضح (لهم) 6 الأدلة عليه وبين لهم الطريق إليه، وأن جبريل عليه السلام جاءه في صورة أعرابي بحضرة أصحابه فقال له: ما الإسلام؟ فقال عليه السلام: "أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت - في الحديث

_ 1 في الأصل، و (ت) : "مالك"، والصواب ما أثبته، لأن مالكاً خبر كان. 2 ما بين المعقوفتين من (ت) . 3 في الأصل و (ت) : "متبعاً" وهي خبر أن. 4 سورة ص آية: (76) . هذه الآية تبين أن إبليس هو أول مخلوق اعترض على الله في حكمه وفعله، وأن من فعل فعله فقد سلك طريقه واتبع هواه. ولقد عقد الشهرستاني مقدمة خاصة بهذا القول في كتابه الملل والنحل فقال في المقدمة الثالثة: "اعلم أن أول شبهة وقعت في الخليقة شبهة إبليس لعنه الله، ومصدرها: استبداده بالرأي في مقابلة النص، واختياره الهوى في معارضة الأمر، واستكباره بالمادة التي خلق منها - وهي النار - على مادة آدم عليه السلام وهي الطين". (انظر الملل والنحل 1/23) . كما ذكر الشهرستاني سبع شبه انبثقت من هذه الشبهة، والمتأمل فيها يرى مدى انطباقها على المعتزلة والمشبهة والروافض والخوارج وهي في جملتها ترجع إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحق، والجنوح إلى الهوى في مقابلة النص، ودفع التكاليف الشرعية. 5 ما بين المعقوفتين من (ت) . 6 ما بين المعقوفتين من (ت) .

الطويل - فقال: صدقت، قال فما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره - وغير ذلك - فقال: صدقت، قال فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ثم انصرف ونحن نتعجب من تصديقه النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم1 النبي صلى الله عليه وسلم بعد أمره لهم بطلبه فلم يجدوه بعد انصرافه هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم" 2، ولذلك قد بين لهم قبل ذلك طرق المعارف بحدثهم ودلهم على وجود المحدث لهم، ودلهم على صدقه فيما أنبأهم به عن3 ربه تعالى على ما قد سلف شرحنا له. الإجماع الخامس والثلاثون وأجمعوا على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وليس نقصانه عندنا شك فيما أمرنا بالتصديق به، ولا جهل به، لأن ذلك كفر، وإنما هو نقصان في مرتبة العلم وزيادة البيان كما يختلف وزن طاعتنا وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كنا جميعاً مؤدين للواجب علينا4.

_ 1 ساقطة من (ت) . 2 الحديث أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب 37 ج1/18، وفي تفسير سورة لقمان 6/20، ومسلم في كتاب الإيمان باب 1 ج1/36، والترمذي في أبواب الإيمان باب 4 ج4/119، 120، وابن ماجة في مقدمة سننه باب 9 ج1/24، 25، وأحمد في مسنده ج1/27، 28، 51، 52، 53، ج2/107، 426. والأشعري لم يذكر الحديث بتمامه كما جاء في المصادر التي أحلت عليها، وواضح أنه قصد بذكر الحديث هنا الاستشهاد به على وقوع التبليغ التام الواضح من النبي صلى الله عليه وسلم لجميع أصول الدين أمام أصحابه وتصديق جبريل عليه السلام له في ذلك، وهذا أمر متفق عليه بين المسلمين، ولم يخالف فيه إلا الزنادقة والملحدين. وهذا الحديث له شأن عظيم وقدر رفيع لما يحمل من جمل مفيدة ومعان سامية جمعت الدين كله، وقد نقل ابن حجر قول القاضي عياض فيه: "اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداء وحالاً ومآلاً، ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه". (انظر فتح الباري 1/125) . 3 ساقطة من (ت) . 4 أجمع أهل السنة - كما ذكر الأشعري - على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قال الإمام أحمد: "إن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة والإيمان يزيد وينقص". (انظر رسالة السنة ص67) . وقال الإمام البخاري في صحيحه في أول كتاب الإيمان: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس، وهو قول وفعل ويزيد وينقص"، ثم ذكر ما يؤيد ذلك من القرآن والسنة. (انظر 1/7) . كما ذكر الأشعري أيضاً في حكايته لمذهب أهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص. (انظر مقالات الإسلاميين 1/347) ، وهو بهذا يتفق مع السلف فيما يشمله لفظ الإيمان. وقال ابن أبي زمنين: "ومن قول أهل السنة أن الإيمان درجات ومنازل يتم ويزيد وينقص، ولولا ذلك لاستوى فيه، ولم يكن للسابق فضل على المسبوق". (انظر كتابه: أصول السنة ق/12/ أ) . وقال الآجري: "باب ما دل على زيادة الإيمان ونقصانه" ثم ساق كثيراً من الأدلة. (انظر كتابه الشريعة ص111، وهكذا فعل البغوي في كتاب شرح السنة 1/33، كما نقل اللالكائي عن جمع كثير ممن يدور عليهم الإجماع إثبات ذلك. (انظر كتابه أصول اعتقاد أهل السنة ج1/149- 184) . وقال الحافظ الصابوني: "ومن مذهب أهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ومعرفة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية" (انظر عقيدة السلف وأصحاب الحديث 1/123 ضمن مجموعة الرسائل المنيرية) . وقال ابن تيمية: "… ولهذا كان أهل السنة والحديث على أنه يتفاضل، وجمهورهم يقولون: يزيد وينقص…، وقد ثبت لفظ الزيادة والنقصان فيه عن الصحابة، ولم يعرف فيه مخالف من الصحابة". (انظر كتاب الإيمان ص210، 211) . وقال السفاريني: "ومذهب أهل الحق من السلف ومن وافقهم أن الإيمان يتفاضل فيزيد وينقص" (انظر لوامع الأنوار 1/411) . ولعلنا نلاحظ من كلام السلف السابق ذكره عنهم أنهم نصوا أيضاً على أن الإيمان قول وعمل، وهو الذي استقر عليه الأشعري أخيراً، وقد ذكر ذلك في حكايته لمذهب أهل الحديث فقال: "… ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق" (انظر مقالات الإسلاميين 1/347) . وفي قول الأشعري هنا "وليس نقصانه عندنا شك…". رد على القائلين بأن الإيمان هو التصديق فقط، وأنه لو نقص صار شكاً وإيمان الشاك لا يصح، وهذا يدل أيضاً على أن الأشعري يقول بأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان؛ لأن زيادة الإيمان ونقصانه لا تكون إلا بالأعمال مع الاعتقاد بالقلب واللسان. وقد خالف في ذلك المرجئة فقالوا: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان والإيمان لا يزيد ولا ينقص وهم على ثلاثة أصناف كما ذكر ابن تيمية، فصنف قال الإيمان مجرد ما في القلب، والصنف الثاني قال: الإيمان هو مجرد قول اللسان، والصنف الثالث قال: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان. (انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج7/195، ومقالات الإسلاميين 1/213، والملل والنحل 1/115- 131، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص107) . وقد ذهب الجهم وأتباعه في هذه المسألة إلى مثل هذه الأقوال الفاسدة وزادوا عليها أقوالاً أخرى أشد فساداً. (انظر في ذلك مقالات الإسلاميين 1/214) .

الإجماع السادس والثلاثون وأجمعوا على أن المؤمن1 بالله تعالى وسائر ما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به لا يخرجه عنه شيء من المعاصي، ولا يحبط إيمانه إلا الكفر، وأن العصاة من أهل القبلة مأمورون بسائر الشرائع غير خارجين عن الإيمان بمعاصيهم2.

_ 1 في (ت) : "المؤمنين". 2 ذهب أهل السنة إلى أن مرتكب المعاصي بما فيها الكبائر غير خارج عن الإيمان إلى الكفر، بل هو مؤمن ناقص الإيمان. قال الإمام أحمد: "… والكف عن أهل القبلة، ولا نكفر أحداً منهم بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل إلا أن يكون في ذلك حديث فيروى الحديث كما جاء، ونصدقه ونقبله". (انظر رسالة السنة ص72) . وقال الطحاوي: "ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله" (انظر شرح الطحاوية ص261) . وقال البيهقي: "باب القول في مرتكب الكبائر" قال الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، بلا عقوبة وقد يعاقب بعضهم على ما اقترف من الذنوب، ثم يعفو عنه، ويدخل الجنة بإيمانه لقوله: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} ثم ساق عدة أحاديث تؤيد ذلك ومنها حديث عبادة الذي يقول في إحدى رواياته "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بها لم يضيع منها شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة" (انظر الاعتقاد ص85، 86) . وقال ابن حجر: قال المازني في حديث عبادة: "فيه رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه تحت المشيئة، ولم يقل أنه لابد أن يعذبه". (انظر فتح الباري 1/68) . وقال الحافظ الصابوني: "ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر أو كبائر، فإن لا يكفر بها…" (انظر عقيدة السلف وأصحاب الحديث 1/124، 125 ضمن مجموعة الرسائل المنيرية) . وقال شارح الطحاوية: "أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام، ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين كما قالت المعتزلة، فإن قولهم باطل أيضاً، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى أن قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} لم يخرج القاتل من الذين آمنوا وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بلا ريب". (انظر شرح الطحاوية ص267) .

وقد سمى الله1 عصاة أهل القبلة مؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ …} 2 الآية، فلو كانوا خرجوا من الإيمان بمعاصيهم كما قالت القدرية لما تعلق عليهم فرض الطهارة، وكان خطاب الله تعالى منصرفاً إلى المؤمنين دونهم، وكذلك قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} 3 ولم يخص بالحض على ذلك الطائعين دون العاصين.

_ 1 في (ت) : "الله تعالى". 2 سورة المائدة آية: (6) . 3 سورة الجمعة آية: (9) . يستدل الأشعري بهذه الآية وما قبلها على أن الله خاطب المؤمنين جميعاً على اختلاف مراتبهم - وفيهم أصحاب ذنوب ومعاصي - بلفظ الإيمان، وهذا يؤكد ما سبق ذكره في مقدمة هذا الإجماع. وهناك آيات أخر أصرح في الدلالة على ذلك منها قوله: تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} نزلت في حاطب بن أبي بلتعة لما ارتكب ذنباً، وهو إعلام قريش بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ومع هذا خاطبه الله بلفظ الإيمان. ومنها قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا …} فسماهم مؤمنين مع اقتتالهم. قال ابن كثير: "بهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم، وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوماً ومعه على المنبر "الحسن بن علي " فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين" فكان كما قال صلوات الله وسلامه عليه، أصلح به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة". (انظر تفسير ابن كثير 7/353) . والحديث الذي ذكره أخرجه البخاري في كتاب الصلح باب 9 ج3/170، وانظر محاسن التأويل للقاسمي 15/5454، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/368.

الإجماع السابع والثلاثون وأجمعوا على أنه لا يقطع على أحد من عصاة أهل القبلة في غير البدع بالنار، ولا على أحد من أهل الطاعة بالجنة إلا من قطع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك1، وقد دل الله عز وجل على ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2. ولا سبيل لأحد3 إلى معرفة مشيئته تعالى إلا بخبر4، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لاتنزلوا أحداً من أهل القبلة جنة ولا ناراً" 5.

_ 1 ساقطة من (ت) . 2 سورة النساء آية: (48، 117) . وهذه الآية نص صريح على أن مرتكب أي ذنب كان دون الشرك أمره مفوض إلى الله عز وجل، ولا يعلم أحد حكم الله فيه، وقد قال ابن جرير في تفسيرها: "وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرته شركاً بالله". (انظر تفسير الطبري 8/450، وتفسير ابن كثير 2/286- 291) . 3 في (ت) : "إلى أحد". 4 في (ت) : "إلا بخبره". 5 يشير إلى معنى هذا الحديث ما أخرجه الطبراني عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنزلوا عبادي العارفين الموحدين من المذنبين الجنة ولا النار حتى أكون أنا الذي أنزلهم بعلمي فيهم، ولا تكلفوا من ذلك ما لم تكلفوا ولا تحاسبوا العباد دون ربهم". (انظر المعجم الكبير 5/224) ، والحديث ضعيف لأن في إسناده نفيع بن الحارث قال فيه ابن حجر: متروك وقد كذبه ابن معين. (انظر تقريب التهذيب ومجمع الزوائد ج10/193) . وقال الإمام أحمد: "ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون في ذلك حديث…، ولا نشهد على أحد أنه في الجنة بصالح عمله، ولا بخير أتاه إلا أن يكون في ذلك حديث…". (انظر رسالة السنة ص70، 71) . وقال الحافظ الصابوني: "ويعتقد ويشهد أصحاب الحديث أن عواقب العباد مبهمة لا يدري أحد بم يختم له، ولا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل الجنة، ولا يحكمون على أحد بعينه أنه من أهل النار، لأن ذلك مغيب عنهم…" (انظر عقيدة السلف وأصحاب الحديث 1/127) . وقال النووي: "واعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب" (انظر شرح النووي على صحيح مسلم 1/150) . ويظهر لي أن مراد الأشعري بقوله: "لا يقطع على أحد من عصاة أهل القبلة - غير البدع - بالنار" أنه يعني بذلك البدع الشركية التي توقع صاحبها - لا محالة - في عذاب الجحيم كما نطق بذلك القرآن الكريم، ويؤيد ذلك استدلاله بالآية الكريمة عقب قوله السابق. وهذه البدع الشركية كثيرة جداً وواقعة في الباطنية والروافض وغلاة المتصوفة، وذلك كبدعة المشركين الذين اتخذوا لله الأنداد وكبدعة المنافقين المبطنين للكفر، وكسبِّ الصحابة ولعنهم، وهناك بدع ليست مكفرة وذلك كبدعة التبتل والصيام قائماً في الشمس والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع. ولقد فصل ذلك الإمام الشاطبي في الاعتصام. (انظر ج2/37) .

الإجماع الثامن والثلاثون وأجمعوا على أن على العباد2 حفظة يكتبون أعمالاً3، وقد دل على ذلك بقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} 4. الإجماع التاسع والثلاثون وأجمعوا على أن عذاب القبر حق، وأن الناس يفتنون في قبورهم بعد أن يحيون فيها ويسألون، فيثبت الله من أحب تثبيته5.

_ 2 في (ت) : "للعباد". 3 في (ت) : "أعمالهم". 4 سورة الانفطار آية: (10، 11) . أجمع أهل السنة على وجود ملائكة كرام يكتبون أعمال العباد كما نطق بذلك القرآن الكريم، وهذه الكتابة سيوقف عليها العبد يوم القيامة وهي المرادة في قوله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} (انظر تفسير الطبري 15/53) . وقال الطحاوي: "ونؤمن بالكرام الكاتبين فإن الله جعلهم علينا حافظين". (انظر شرح الطحاوية ص337) . وقال ابن حزم: "وأما كتاب الملائكة لأعمالنا فحق…، وكل هذا مما لا خلاف فيه بين أحد ممن ينتمي إلى الإسلام، إلا أنه لا يعلم أحد كيفية ذلك الكتاب". (انظر الفصل 4/66) . وهذه الكتابة عامة شاملة لكل شيء صغيراً كان أو كبيراً. وقال السفاريني: "وظاهر النص أنهما يكتبان أفعال العباد من خير أو شر، أو غيرهما قولاً كان أو عملاً أو اعتقاداً، همّاً كانت أو عزماً أو تقريراً فلا يهملان من أفعال العباد شيئاً في كل حال، وعلى كل حال، ولهذا قال مجاهد: يكتبان عليه حتى أنينه في مرضه". (انظر لوامع الأنوار البهية 1/450) ، ومن أراد الوقوف على تفصيل أكثر فليرجع إلى: (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 19/245، 246، وشرح الطحاوية ص337، ولوامع الأنوار البهية 1/446- 453) . 5 اتفق أهل السنة على ما ذكره الأشعري أعلاه. قال الإمام أحمد: "وعذاب القبر حق، يسأل العبد عن دينه وعن ربه، وعن الجنة وعن النار، ومنكر ونكير حق، وهما فتانا القبر، نسأل الله الثبات". (انظر رسالة السنة ص72، 73) . وقال ابن أبي زمنين: "وأهل السنة يؤمنون بعذاب القبر، أعاذنا الله وإياك من ذلك. قال عز وجل: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} وقال: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (انظر أصول السنة/ ق/ 7/ ب) . وقال الطحاوي: "ونؤمن بعذاب القبر لمن كان له أهل، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم". (شرح الطحاوية ص334، وانظر باب التصديق والإيمان بعذاب القبر للآجري في كتاب الشريعة ص358، والفرق بين الفرق للبغدادي ص348، والاعتقاد للبيهقي ص107- 111) . وقال ابن القيم بعد روايته لبعض أحاديث عذاب القبر: "وهذا كما أنه مقتضى السنة الصحيحة فهو متفق عليه بين أهل السنة" (انظر الروح ص57) . وقد أنكر الزنادقة عذاب القبر، وذكر الإمام أحمد أن ذلك ورد عن المعتزلة. (انظر رسالة السنة ص81) ، ولعل هذا ورد عن بعضهم لا عن جميعهم. (انظر المقالات 2/116) ، وقد حكاه ابن حزم عن ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة، وكذلك حكاه عن الخوارج (انظر الفصل 4/66، والروح لابن القيم ص57، 58) . وقدر تعرض السفاريني للشبه التي أوردها المنكرون لعذاب القبر ورد عليها. (انظر لوامع الأنوار 2/107- 111) . أما فتنة القبر فهي كما ذكر الإمام أحمد سؤال منكر ونكير، ومن المعلوم أن السؤال يتم للروح والجسد معاً، وقد أجمع جمهور الأمة على ذلك وشذ ابن حزم فقال: إن الميت لا يحيا في قبره… ولم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر يصح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم… (انظر الفصل 4/67، 68) ، وقد رد عليه ابن القيم رداً قوياً مبيناً خطأه في ذلك وموضحاً لإجمال قوله إن الميت لا يحيا في قبره، لأنه إن أراد الحياة المعهودة في الدنيا فهذا خطأ، وإن أراد الحياة التي يتم بها السؤال في القبر فهذا حق ونفيه خطأ، وأما تضعيف ابن حزم لحديث إعادة الأرواح إلى الأجساد لتفرد المنهال بن عمرو به وقوله إنه لم يأت خبر صحيح بذلك فكلام غير صحيح، وقد رد عليه ابن القيم قائلاً: "… فهذا من مجازفته - رحمه الله - فالحديث صحيح لا شك فيه، وقد رواه عن البراء بن عازب جماعة غير زاذان منهم عدي بن ثابت ومحمد بن عقبة ومجاهد"، ثم ساق ابن القيم الحديث بطرقه ليبين صحة ما ذهب إليه. (انظر كتاب الروح ص42- 46) . وقال السفاريني: "والإيمان بمنكر ونكير واجب شرعي لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أخبار يبلغ مجموعها مبلغ التواتر، وقد استنبط ذلك واستدل عليه بقوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ …} " (انظر لوامع الأنوار 2/5) . ويلاحظ أن الأشعري سبق إلى الاستدلال على سؤال القبر بهذه الآية، كما هو واضح من كلامه، وهو ما قرره علماء التفسير. (انظر تفسير الطبري 13/213، وتفسير القرطبي 9/363، وابن كثير 4/412، وغير ذلك) . وأخرج البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} " (انظر البخاري كتاب التفسير 5/220، وكتاب الإيمان لابن مندة 3/941) .

وأنهم لا يذوقون ألم الموت كما قال تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى} 1. وعلى أنه ينفخ في الصور2 قبل يوم القيامة، ويصعق من في السماوات ومن في

_ 1 سورة الدخان آية: (56) . قال ابن جرير في تفسيره للآية: "لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا". (انظر تفسيره 2/137) . وقال ابن كثير: "هذا الاستثناء يؤكد النفي، فإنه استثناء منقطع ومعناه: أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة: خلود فلا موت، ويا أهل النار: خلود فلا موت". (انظر تفسيره 7/247) . والحديث الذي ذكره أخرجه البخاري بأتم من هذا في كتاب التفسير من صحيحه 5/236، وكذلك مسلم في كتاب الجنة باب 13 ج4/ 2188، وأحمد في مسنده 3/9. 2 الصور: هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام (انظر تفسير الطبري 11/436، وتفسير القرطبي 13/239، وتفسير ابن كثير 3/276) . وقد جاء في السنن عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: "قال أعرابي يا رسول الله: ما الصور؟ قال: قرن ينفخ". أخرجه أحمد في مسنده 2/192، وأبو داود في كتاب السنة باب ما جاء في البعث والصور 5/107، والترمذي في باب ما جاء في الصور 4/620 وقال: هذا حديث حسن، ورواه الحاكم في المستدرك 4/560 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقد أجمع أهل السنة على النفخ في الصور - كما ذكر الأشعري - قال الإمام أحمد: "والصور حق ينفخ فيه إسرافيل فيموت الخلق، ثم ينفخ فيه الأخرى فيقومون لرب العالمين" (انظر رسالة السنة ص73، والإيمان لابن مندة 3/937- 940، ولوامع الأنوار 2/161- 165) .

الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. وعلى أن الله تعالى يعيدهم1 كما بدأهم حفاة عراة غرلاً، وأن الأجساد التي أطاعت وعصت هي التي تبعث يوم القيامة وكذلك الجلود التي كانت في الدنيا والألسنة والأيدي والأرجل هي التي تشهد عليهم يوم القيامة2. وأن الله تعالى ينصب الموازين لوزن أعمال العباد، فمن ثقلت موازينه أفلح، ومن خفت موازينه خاب وخسر، وأن كفة السيئات تهوي إلى جهنم وأن كفة الحسنات تهوي عند زيادتها إلى الجنة3.

_ 1 في (ت) : "يعذبهم". 2 بعد أن ذكر الأشعري النفخ في الصور الذي به نهاية الدنيا أشار إلى البعث والنشور بعد ذلك، وهذا أمر ثابت بالكتاب والسنة واتفاق جمهور الأمة. قال الطحاوي: "ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة" (شرح الطحاوية ص353، وانظر الإيمان لابن مندة 3/951، 952) . قال ابن حزم: "اتفق جميع أهل القبلة على تنابذ فرقهم على القول بالبعث في القيامة، وعلى تكفير من أنكر ذلك…" (انظر الفصل 4/79) . وقال الحافظ الصابوني: "ويؤمن أهل الدين والسنة بالبعث بعد الموت يوم القيامة، وبكل ما أخبر الله سبحانه من أهوال ذلك اليوم الحق واختلاف أحوال العباد فيه…" (انظر عقيدة السلف وأصحاب الحديث 1/121) . كما ذكر الأشعري الهيئة التي يحشر الله الناس عليها كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل فيه: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً كما خلقوا، ثم قرأ: كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين" الحديث أخرجه مسلم في كتاب الجنة باب 14 ج4/2194، والترمذي في كتاب القيامة باب 3 ج4/615، وقال هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند 1/229، ثم ذكر أن الأجساد التي كانت في الدنيا هي بعينها التي تبعث للحساب والجزاء، وهذا من مقتضيات العلم والحكمة والعدل، وقد رد الله على من أنكر ذلك بقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} ولما استبعد المنكر للبعث إعادة العظام النخرة وقال: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} رد الله عليه بقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} والحياة المقصودة هنا عودة العظام البالية إلى البعث والنشور، وهو ما أنكر المكذب للبعث والنشور. وقد جاء في القرآن والسنة أن أعضاء الإنسان وجوارحه التي أصابت الحسنات وارتكبت السيئات في الدنيا، ستأتي بأعيانها وستنطق على ما قدمت قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وفي الحديث عن أنس بن مالك قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب: ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى. قال فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني قال فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي قال: فتنطق بأعماله…". الحديث أخرجه مسلم في كتاب الزهد 4/2280. وقضية البعث والإعادة من القضايا التي اهتم بها القرآن الكريم، وأقام الأدلة الوفيرة عليها، (انظر ما سبق ذكره 131- 133، ومقال بعنوان "مسلك القرآن الكريم في إثبات البعث" للدكتور علي بن محمد ناصر فقيهي في مجلة الجامعة الإسلامية العدد (50، 51) من السنة الثالثة عشر ص65- 103) . 3 أجمع أهل السنة على أن أعمال العباد توزن يوم القيامة، كما نطق بذلك القرآن الكريم في أكثر من موضع، وكذلك السنة المطهرة، كما نص على ذلك أئمة أهل السنة والجماعة، وقول الأشعري وأن كفة السيئات… الخ يدل بوضوح على أن الميزان له كفتان، وهذا من معتقد السلف، وسيأتي ذكر ما يؤيد ذلك من أقوالهم، حتى يتبين لنا صحة قول الأشعري. قال الإمام أحمد: "والميزان حق توزن به الحسنات والسيئات كما يشاء الله أن توزن". (انظر رسالة السنة ص73) . وختم البخاري جامعه الصحيح بقوله: "باب قول الله تعالى: ونضع موازين القسط ليوم القيامة، ثم قال: وأن أعمال بني آدم وقولهم يوزن". (البخاري كتاب التوحيد باب 58 ج8/219) . كما ذكر الإيمان به عند أهل السنة ابن أبي زمنين في كتابه أصول السنة ق/ 8/ ب، وابن مندة في كتابه الإيمان 3/957، والبيهقي في الاعتقاد ص102) . وقال أبو إسحاق الزجاج: "أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال، وأنكرت المعتزلة الميزان، وقالوا: هو عبارة عن العدل فخالفوا الكتاب والسنة…" (انظر فتح الباري 13/538) . وقال ابن فورك: "أنكر المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها، إذ لا تقوم بأنفسها…" (المرجع السابق نفس الصفحة) . وقد ذهب جمهور أهل السنة إلى أن الميزان له كفتان كما ذكر الأشعري، والزجاج في كلامهما السابق، وقال شارح الطحاوية "والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان". (انظر شرح الطحاوية ص366، ومجموع الفتاوى 4/302) . وقال السفاريني: "والحاصل أن الإيمان بالميزان كأخذ الصحف ثابت بالكتاب والسنة والإجماع…، فقد دلت الآثار على أنه ميزان حقيقي ذو كفتين ولسان، كما قال ابن عباس والحسن البصري…" (انظر لوامع الأنوار 2/184، 185) . وقد خالف ابن حزم في ذلك، فنفى كفتي الميزان. (انظر الفصل 4/65، 66) وهو مردود بما ذكر سابقاً، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فيقول احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء". الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان باب 17 ج5/24، وابن ماجة في كتاب الزهد باب 35 ج2/1437، وأحمد في المسند 2/213. وهذا الحديث قاطع الدلالة في المراد حيث جاء فيه أن السجلات توضع في كفة، والبطاقة في الكفة الأخرى، فالميزان إذا بكفتين، والله أعلم بما وراء ذلك.

وأن الخلق يؤتون1 يوم القيامة بصحائف فيها أعمالهم، فمن أوتي كتابه بيمينه حوسب حساباً يسيراً، ومن أوتي كتابه بشماله فأولئك يصلون سعيراً2.

_ 1 في (ت) : "يوت". 2 أجمع أهل السنة على أن العباد يأخذون يوم القيامة صحائف أعمالهم التي كتبتها الملائكة الكرام. قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} (الإسراء: 13، 14) . وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما العرضة الثالثة: فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بسماله". (انظر سننه كتاب القيامة باب 4 ج4/617، وقال الألباني حديث ضعيف لأن الحسن البصري رواه عن أبي هريرة والحسن مدلس ولم يصرح بالتحديث. (انظر الطحاوية ص468، وانظر ضعيف الجامع للألباني 6/116) . وقد نص أئمة أهل السنة على ما جاء في ذلك وآمنوا به. (انظر عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني 2/121، وشرح الطحاوية ص360، 361) . وقال السفاريني: "والحاصل أن نشر الصحف وأخذها باليمين والشمال مما يجب الإيمان به وعقد القلب بأنه حق لثبوته بالكتاب والسنة والإجماع". (انظر لوامع الأنوار 2/181) .

الإجماع الأربعون وأجمعوا على أن الصراط (جسر) 1 ممدود على جهنم يجوز عليه العباد بقدر أعمالهم، وأنهم يتفاوتون في السرعة والإبطاء على قدر ذلك2. الإجماع الحادي والأربعون وأجمعوا على أن الله تعالى يخرج من النار من كان في قلبه شيء من الإيمان بعد الانتقام منه3.

_ 1 ما بين المعقوفتين من (ت) . 2 أجمع أهل السنة على الإيمان بالصراط، وأنه جسر ممدود على ظهر جهنم، وقالوا: إن المراد من قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} المرور على الصراط في أرجح الأقوال. (انظر الفصل لابن حزم 4/266.، وعقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني 1/121، ومجموع الفتاوى 4/279، ولوامع الأنوار 2/189) . وقال شارح الطحاوية: "واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} ما هو؟ والأظهر والأقوى أنه المرور على الصراط. قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة، قالت حفصة: فقلت يا رسول الله: أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} ؟ فقال: ألم تسمعيه قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} والحديث في مسلم بنحو هذا المعنى" (انظر شرح الطحاوية ص364) . والحديث الذي ذكره أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب 37 ج4/1942، وأحمد في المسند 6/420، وابن أبي عاصم في السنة، وقال الألباني: إسناده جيد على شرط مسلم وقد أخرجه. انظر السنة 2/414. 3 أجمع أهل السنة على أن الله لا يخلد في النار من كان في قلبه شيء من الإيمان إذا أدخله فيها، وقد جاءت النصوص بذلك، منها ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تبارك وتعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسوّدوا… الحديث". أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب 15 ج1/11، ومسلم في كتاب الإيمان باب 82 ج1/172، وابن أبي عاصم في السنة 2/405، وأحمد في المسند 3/56، والآجري في الشريعة ص345، وقد عقد ابن خزيمة في كتابه التوحيد باباً في ذلك وساق فيه كثيراً من الروايات المؤيدة لهذا المذهب الحق. انظر ص286، وهكذا فعل ابن مندة في كتابه الإيمان انظر 3/783، والبيهقي في الاعتقاد ص88. وقال الإمام أحمد: "ويخرج قوم من النار بعدما دخلوها ولبثوا فيها ما شاء الله، ثم يخرجهم من النار". (انظر السنة ص73، 74) . وقال الطحاوي: "وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته" (انظر شرح الطحاوية ص317) . وقال ابن أبي زمنين: "وأهل السنة يؤمنون بأن الله عز وجل يدخل ناساً الجنة من أهل التوحيد بعدما مستهم النار برحمته تبارك وتعالى اسمه، وبشفاعة الشافعين". (انظر أصول السنة/ ق/ 9/ ب، وانظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص348، والفصل لابن حزم 4/45، وعقيدة السلف وأصحاب الحديث للحافظ الصابوني 1/124، 125، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 3/375. وقد خالف الخوارج والمعتزلة في ذلك، حيث ذهبوا إلى أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار تنفيذاً لوعيد الله لهم، وغاب عنهم الموانع التي ذكرها الله في القرآن والسنة من إنفاذ هذا الوعيد مثل التوحيد وكثرة الحسنات الماحية، وكثرة المصائب المكفرة، وإقامة الحدود في الدنيا… إلى غير ذلك. انظر تفصيل مقالتهم في شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص666، ومقالات الإسلاميين 1/168، والفصل لابن حزم 4/44- 58، والملل والنحل 1/50، 105، ولوامع الأنوار للسفاريني 1/370، 371.

الإجماع الثاني والأربعون وأجمعوا على أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وعلى أنه يخرج من النار قوماً من أمته بعد ما صاروا حمماً، فيطرحون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السبيل1.

_ 1 أجمع أهل السنة على أن الشفاعة حق وواقعة في يوم الدين، وقالوا إن المراد من قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} الشفاعة وقد روى ذلك أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن، وابن أبي عاصم في السنة وقال الألباني: حديث صحيح لكثرة شواهده. (انظر 2/364) . وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" أخرجه الترمذي من حديثه ومن حديث أنس في كتاب القيامة باب 11 جـ4/625، وابن ماجة في كتاب الزهد باب 37 ج2/1441، وأحمد في المسند 3/213، وانظر أيضاً كتاب الرقاق من صحيح البخاري باب 51 ج7/204- 206، وكتاب التوحيد باب 31 ج8/192. وقال الإمام أحمد: "والشفاعة يوم القيامة حق، يشفع قوم في قوم فلا يصيرون إلى النار، ويخرج قوم من النار بشفاعة الشافعين، ويخرج قوم من النار بعدما دخلوها ولبثوا فيها ما شاء الله ثم يخرجهم من النار". (انظر رسالة السنة ص73، وانظر أيضاً التوحيد لابن خزيمة ص241- 317، والشريعة للآجري ص331، والفرق بين الفرق ص348، والفصل لابن حزم 4/3، 64) . وقال ابن أبي زمنين: "وأهل السنة يؤمنون بالشفاعة، وقال عز وجل: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} (انظر أصول السنة/ ق/ 9/ ب) . وقال ابن تيمية: "أما شفاعته لأهل الذنوب من أمته فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم وأنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والزيدية" (انظر مجموع الفتاوى 1/ 148، و11/ 184، 185) . وقال السفاريني: "شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم نوع من السمعيات وردت بها الآثار حتى بلغت مبلغ التواتر المعنوي، وانعقد عليها إجماع أهل الحق من السلف الصالح قبل ظهور المبتدعة" (انظر لوامع الأنوار 2/ 208) . وقد أنكر الخوارج والمعتزلة الشفاعة، وردوا النصوص الصريحة في ذلك وقد سبق أن أشرت إلى مقالتهم في الإجماع السابق، وانظر شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص688- 693. ومما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أن الشفاعة لا تكون إلا لمذنبي أهل القبلة الموحدين فقط، أما من أشرك بالله سبحانه وتعالى بأي لون كان من ألوان الشرك - لم يتب - فليس له نصيب في الشفاعة، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه". انظر البخاري كتاب العلم باب 33 ج1/233، وكتاب الرقاق باب 51 ج7/204، ومسند أحمد 2/373. والشفاعة أنواع متعددة، يطول بنا الكلام لو ذكرت، وقد أشار الإمام أحمد إلى ذلك في كلامه السابق. وانظر شرح الطحاوية ص174- 178) .

وعلى أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضاً يوم القيامة ترده أمته لا يظمأ من شرب منه، ويذاد عنه من بدل وغيّر بعده1. وعلى أن الإيمان بما جاء به من خبر الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات واجب2.

_ 1 أجمع أهل السنة على أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضاً عظيماً كما جاءت بذلك الروايات، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسماً، قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفاً سورة فقرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدث بعدك". الحديث أخرجه مسلم في كتاب الصلاة باب 14 ج1/300، وأبو داود في كتاب السنة باب 26 ج5/110، والنسائي في كتاب الافتتاح باب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم 2/133، 134، وأحمد في المسند 3/102. وقال الإمام أحمد: "وحوض محمد صلى الله عليه وسلم حق ترده أمته، وله آنية يشربون بها منه". انظر رسالة السنة ص73، وانظر أيضاً كتاب الشريعة للآجري ص352، وأصول السنة لابن أبي زمنين ق/ 8/ أ، والإيمان لابن مندة 3/953، والفرق بين الفرق للبغدادي ص348، والفصل لابن حزم 4/66، وعقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني 1/132 ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، والفتن والملاحم لابن كثير 2/3- 39 بتصحيح وتعليق الشيخ إسماعيل الأنصاري. وقال شارح الطحاوية: "الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابياً" (انظر شرح الطحاوية ص171) . وقال السفاريني: "وحوض النبي صلى الله عليه وسلم حق ثابت بإجماع أهل الحق، وقال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قال الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه البدور السافرة: ورد ذكر الحوض من رواية بضعة وخمسين صحابياً منهم الخلفاء الأربعة الراشدون وحفاظ الصحابة المكثرون وغيرهم - رضوان الله عليهم أجمعين - ثم ذكر الأحاديث عنهم واحداً واحداً". (انظر لوامع الأنوار 2/194- 195) . ولعلك تلاحظ مما سبق ذكره في حديث أنس أن الشرب من الحوض لا يكون إلا لأهل السنة والجماعة الذين اتبعوا سنته وساروا على نهجه، أما أهل الأهواء والبدع الذين أحدثوا وغيّروا، فهم مطرودون مبعدون عنه. قال السفاريني: "… والحاصل أن من الذين يذادون عن الحوض جنس المفترين على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم من المحدثين في الدين من الروافض والخوارج وسائر أصحاب الأهواء والبدع الضالة…" (انظر لوامع الأنوار 2/197) . ويدخل في أهل الأهواء أيضاً الباطنية الملاحدة وأصحاب الاتحاد ووحدة الوجود وكثير من المتصوفة الذين هجروا السنن والآثار واتبعوا الهوى وآراء الرجال. 2 من المعلوم أنه يجب الإيمان بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وما نطق به القرآن الكريم ومن ذلك الإيمان بخبر الإسراء والمعراج. قال الطحاوي: "والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى فصلى الله عليه في الآخرة والأولى". (انظر شرح الطحاوية ص168، وانظر الإجماع الآتي) .

وكذلك ما روي من خبر الدجال ونزول عيسى ابن مريم وقتله الدجال1. وغير ذلك من سائر الآيات التي تواترت الرواية بين يدي الساعة من طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وغير ذلك مما نقله إلينا الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفونا صحته2. الإجماع الثالث والأربعون وأجمعوا على التصديق بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله، وما ثبت به النقل من سائر سنته، ووجوب العمل بمحكمه والإقرار بنص مشكله ومتشابهه، ورد

_ 1 أجمع أهل السنة على نزول عيسى في آخر الزمان وقتله المسيح الدجال وأن ذلك من علامات الساعة. قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: ليؤمنن بعيسى قبل موته، وذلك عند نزوله من السماء آخر الزمان. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} الحديث أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب 49 ج4/ 139، ومسلم في كتاب الإيمان باب 71 ج1/135، 136، وابن ماجة في كتاب الفتن باب 33 ج2/1363، وأحمد في المسند 2/411. وقال الإمام أحمد: "والأعور الدجال خارج لا شك في ذلك ولا ارتياب وهو أكذب الكاذبين". (انظر رسالة السنة ص72) . وقال الطحاوي: "ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها". (انظر شرح الطحاوية ص447، والفرق بين والفرق ص343) . وقال السفاريني: "أجمعت الأمة على نزوله، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافه وقد انعقد إجماع الأمة على أنه ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية…" (انظر لوامع الأنوار البهية 2/94، 95) . 2 كما آمن السلف بنزول عيسى وخروج الدجال - كما سبق ذكره - آمنوا كما ذكر الأشعري ببقية أشراط الساعة التي وردت بها الرواية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها ما رواه أبو الطفيل عن حذيفة الغفاري رضي الله عنه قال: "اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة قال: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات، فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم" الحديث أخرجه مسلم في كتاب الفتن باب 21 ج4/225، وأبو داود في كتاب الملاحم باب 13 ج4/491، والترمذي في كتاب الفتن باب 31 ج4/477، وابن ماجة في الفتن باب 25 ج2/1341) . وقال ابن مندة: "ذكر وجوب الإيمان بالآيات العشر التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تكون قبل الساعة"، ثم ساق كثيراً من الروايات في ذلك. انظر كتاب الإيمان 3/896، 940، وشرح الطحاوية ص447- 449.

كل ما لم يحط به علماً بتفسيره إلى الله مع الإيمان بنصه، وأن ذلك لا يكون إلا فيما كلفوا الإيمان بجملته دون تفصيله1.

_ 1 يشير الأشعري هنا إلى أن أهل السنة والجماعة آمنوا بكل ما جاء من عند الله سواء كان محكماً، أو متشابهاً. وقد اختلف العلماء قديماً في المراد بالمحكم والمتشابه في القرآن الكريم على عدة أقوال ذكرها ابن جرير في تفسيره مسنداً كل قول إلى صاحبه فذكر أن ابن عباس قال: المحكم: هو ناسخ القرآن وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابه: منسوخ القرآن ومقدمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به، ولقد ورد مثل هذا عن ابن مسعود وقتادة والربيع والضحاك ومجاهد. وقال آخرون: المحكم: ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه، والمتشابه: ما أشبه بعضه بعضاً في المعاني وإن اختلفت ألفاظه. وقال آخرون: المحكم: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه، والمتشابه: ما احتمل من التأويل أوجهاً. وقال آخرون: المحكم: ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم ووقت طلوع الشمس من مغربها وقيام الساعة وفناء الدنيا ومثل كيفية نفسه، وما أعده لأوليائه من النعيم في دار القرار. وبعد أن ساق الطبري هذه الأقوال مال إلى القول الأخير، وأكد أن الله سبحانه وتعالى أنزل جميع القرآن على رسوله بياناً له ولأمته وهدى للعالمين. (انظر تفسير الطبري 6/175- 182) . وهذا الرأي الذي ارتضاه ابن جرير هو في الغالب رأي الأشعري ويفهم ذلك من قوله فيما سبق: "وأن ذلك لا يكون إلا فيما كلفوا الإيمان بجملته دون تفصيله"، وذلك يكون فيما استأثر الله بعلمه من وقت وقوع الساعة مثلاً وغير ذلك. (انظر منتصف الصفحة السابقة) . وذكر صاحب المنار أن القاضي أبا يعلى ذكر عن الإمام أحمد أنه قال: المحكم: ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان، والمتشابه: ما احتاج إلى بيان. (انظر تفسير المنار 3/190) . وهذا القول يتفق مع وجهة نظر الإمام أحمد في تفسيره للآيات المتشابهة، وانظر صنيعه في كتابه المشهور: "الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله". ويذهب ابن تيمية أيضاً إلى هذا القول فيقول: "في الآيات المتشابهات قولان: أحدهما: أنها آيات بعينها تتشابه على كل الناس. والثاني: - وهو الصحيح - أن التشابه أمر نسبي، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد، وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة، بل القول كله محكم كما قال: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} … إلى أن قال: من قال من السلف إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله فقد أصاب أيضاً، ومراده بالتأويل: ما استأثر الله بعلمه مثل وقت الساعة، ومجيء أشراطها، ومثل كيفية نفسه، وما أعده في الجنة لأوليائه". (انظر مجموع الفتاوى 13/144، وتفسير سورة الإخلاص ص179) . وبعد هذا العرض لآراء العلماء في المحكم والمتشابه أرى لزاماً علي أن أتعرض لقضية هامة تتعلق بما سبق وهي: هل يوجد في كتاب الله ما لا يعلم معناه؟. الواقع أنه ليس في كتاب الله ما لا يعلم معناه، لأن الله أنزل كتابه هدى للعالمين، وأسند بيانه للمبلغ الكريم صلى الله عليه وسلم وأمر العباد بتدبر جميع ما جاء فيه، ولم يستثن من ذلك شيئاً، والدليل على ما قلناه قول مجاهد: "عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه على كل آية وأسأله عندها". ويقول ابن تيمية بعد حكايته لقول مجاهد السابق وما ورد في معناه من الصحابة: "وكلام أهل التفسير من الصحابة والتابعين شامل لجميع القرآن إلا ما قد يشكل على بعضهم فيقف فيه؛ لا لأن أحداً من الناس لا يعلمه، لكن لأنه هو لم يعلمه". (انظر تفسير سورة الإخلاص ص187، 188) . وبهذا يندفع قول من يقول: إن آيات الصفات من المتشابه وفي الحقيقة أن أصحاب هذا القول أرادوا به تعطيل أسماء الله وصفاته وتأويلها عن ظاهرها اللائق بجلال الله وكماله. ولقد آمن السلف جميعاً بكل ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله وعرفوا معاني الصفات وما تدل عليه، ولم يشتبه عليهم فهم شيء من ذلك. أما حقيقة الصفة وكيفيتها فهذا ما فوض السلف فيه العلم إلى الله تعالى، ولمزيد من التفصيل في ذلك انظر تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية من ص183- 243.

الإجماع الرابع والأربعون وأجمعوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليهم بأيديهم وبألسنتهم إن استطاعوا ذلك، وإلا فبقلوبهم، وأنه لا يجب عليهم بالسيف إلا في اللصوص والقطاع بعد مناشدتهم1. الإجماع الخامس والأربعون وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين وعلى أن كل من ولي شيئاً من أمورهم عن رضى أو غلبة وامتدت طاعته من بر وفاجر لا يلزم الخروج عليهم بالسيف جار

_ 1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أصول الدين، وهو من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى عنه: {… يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} كما أمر عباده المؤمنين بذلك فقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} . والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون - كما ذكر الأشعري - باليد واللسان والقلب، وقد جاء ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب 20ج1/69، وأبو داود في كتاب الصلاة باب 248ج1/677، وكتاب الملاحم باب 17ج4/511، والترمذي في كتاب الفتن باب 11ج4/469، والنسائي في كتاب الإيمان 8/111، وابن ماجة في كتاب الفتن باب 20ج2/1330، وأحمد في مسنده 3/10، 20، 92. وقد ذهب أهل السنة إلى ما جاء في هذه النصوص وسيرتهم أكبر دليل على ذلك، إلا أنهم اشترطوا أن تكون مصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر راجحة على المفسدة، أما إذا ترتب على الأمر والنهي مفسدة أعظم من المصلحة، لم يكن هذا مما أمر الله به، ومن هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة. (انظر ما سيأتي ذكره في الإجماع الآتي) . ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة، وهو مراد الأشعري هنا؛ حيث قيد استعمال السيف في اللصوص وقطاع الطريق. وانظر في ذلك رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية ص350 وما بعدها ضمن كتاب شذرات البلاتين. أما المعتزلة والخوارج فخالفوا في ذلك، وقالوا بالخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف، ومن أصول المعتزلة الخمسة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" إلا أنهم عنوا به الخروج على الأئمة وقتالهم، ولعل الأشعري هنا أراد أن يرد عليهم في ذلك، وانظر المقالات 1/337، 2/140، والملل والنحل 1/106، ورسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية ص352، ومجموع الفتاوى 13/98.

أو عدل، وعلى أن يغزوا معهم العدو، ويحج معهم البيت، وتدفع إليهم الصدقات إذا طلبوها ويصلى خلفهم الجمع والأعياد1. وأنه لا يصلى خلف أحد من أهل البدع منهم من أجل2 أنهم قد فسقوا بالبدع، والإمامة موضع فضل، ولا يصح أن يأتم العدل بالفاسق، كما لا يجب أن يأتم القارئ بالأمي ((إلا أن)) 3 يخاف منهم فيصلي معهم، وتعاد الصلاة بعدهم4.

_ 1 ذهب أهل السنة والجماعة إلى ما ذكره الأشعري أعلاه مستندين في ذلك إلى ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عنه عوف بن مالك رضي الله عنه: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنوهم ويلعنونكم، قيل يا رسول الله: أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يداً من طاعة". الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإمارة باب 17ج3/ 1481، وأحمد في مسنده 6/24، 28، والدارمي 2/324، وابن أبي عاصم في السنة 2/509. وقال الإمام أحمد: "والجهاد ماض قائم مع الأئمة بروا أو فجروا لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والجمعة والعيدان والحج مع السلطان، وإن لم يكونوا بررة على أتقياء، ودفع الصدقات والخراج والأعشار والفيء والغنائم إلى الأمراء، عدلوا فيها أم جاروا والانقياد إلى من ولاه الله أمركم، لا تنزع يداً من طاعته ولا تخرج عليه بسيفك حتى يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً". (انظر رسالة السنة 71، 72) . وقال الطحاوي: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة" (انظر شرح الطحاوية ص327) . وقال الحافظ الصابوني: "ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً، ويرون جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جورة فجرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف". (انظر عقيدة السلف وأصحاب الحديث 1/129) . وقال النووي: "… لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق…" (انظر شرح النووي على مسلم 12/229، ومجموع فتاوى ابن تيمية 23/247) . وقد سبق أن ذكرت قول الخوارج والمعتزلة في هذه المسألة انظر الإجماع السابق. 2 ساقطة من (ت) . 3 في الأصل: "لأن" وما أثبته من (ت) . 4 في الجزء الأول من هذا الإجماع - كما رأينا - ذكر الأشعري حكم الصلاة خلف البر والفاسق، وهنا يخصص كلامه في الصلاة خلف المبتدعة وهذا الموضوع له جوانب متعددة يضيق بسطها في هذا المقام. لذا سأوجز القول باختصار وبالله التوفيق. اعلم أولاً أنه لا يجوز للمسلم أن يصلي خلف المبتدع ما أمكنه ذلك أما إذا لم يتمكن فنظر: إن كان هذا المبتدع يجهر ببدعته ويدعو إليها، فلا يصلي خلفه، وإن صلى أعاد الصلاة، وهذا عند الإمام أحمد والإمام مالك. وإن كان لا يدعو إلى بدعة فيصلى خلفه ولا تعاد الصلاة على الراجح. (انظر المغني لابن قدامة 2/185، 186) . وبهذا يظهر أن إطلاق الأشعري القول بعدم الصلاة خلف المبتدعة فيه نظر، ويميل ابن تيمية إلى عدم إعادة الصلاة خلف المبتدعة ويستدل على ذلك بأن الله لم يأمر أحداً قط إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة. (انظر مجموع الفتاوى 3/286، 287) . وهذا كله في المبتدع الذي لا يكفر ببدعته، أما من كانت بدعته مكفرة كالروافض والباطنية ومن شاكلهم، فلا تجوز الصلاة خلفهم، كيف وهم كفار زنادقة، وعليه يحمل إطلاق الأشعري السابق، والله أعلم.

الإجماع السادس والأربعون وأجمعوا على أن خير القرون قرن الصحابة، ثم الذين يلونهم على ما قال صلى الله عليه وسلم: "خيركم قرني"1 وعلى أن خير الصحابة أهل بدر، وخير أهل بدر العشر، وخير العشرة الأئمة الأربعة أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي - رضوان الله عليهم-2.

_ 1 الحديث أخرجه النسائي بهذا اللفظ من رواية عمران بن حصين في كتاب الأيمان والنذور باب الوفاء بالنذر 7/17، وأخرجه البخاري من رواية عبد الله بن مسعود بلفظ: "خير الناس قرني" ومن رواية عمران بن حصين "خير أمتي قرني". (انظر البخاري كتاب فضائل أصحاب النبي باب 1ج4/189، ومسلم فضائل الصحابة باب 52ج4/1962، وأبو داود في كتاب السنة باب 10ج5/44، والترمذي في كتاب الفتن باب 45ج4/500. 2 ذهب الأشعري إلى هذا التفضيل كما سبقه غيره إليه أخذاً من مفهوم القرآن والسنة - كما سيأتي بيانه-. فالقرآن مثلاً فضل السابقين إلى الإسلام، والمجاهدين في سبيل الله على غيرهم، قال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (النساء آية: 95) . وقد أشار الأشعري إلى ذلك في الإجماع الآتي. وعلى هذا الأساس السابق فضل أهل السنة والجماعة أهل بدر على غيرهم من الصحابة، وقد خصهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه بأفضلية لم يشاركهم فيها غيرهم لما قال: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم" أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب 9ج5/10، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب 36ج4/1941، وأبو داود في كتاب الجهاد باب 108ج3/108، والترمذي في كتاب التفسير باب 61ج5/409، والدارمي في كتاب الرقاق باب فضل أهل بدر 2/313، وأحمد في المسند 1/80. وكذلك جاء في السنة تفضيل العشرة على هؤلاء للنص عليهم بأعيانهم بأنهم في الجنة، وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير بن العوام، وطلحة بن خويلد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد. انظر سنن الترمذي كتاب المناقب باب 26ج5/2647، وأبو داود في كتاب السنن باب 9ج5/39، وابن ماجة في مقدمة سننه باب 11ج1/48. أما الخلفاء الأربعة فهم في المقدمة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباع سنتهم دون غيرهم كما جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: "… عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي.." أخرجه الترمذي في كتاب العلم باب 16ج5/244، وأبو داود في كتاب السنة باب 6ج5/213، وابن ماجة في مقدمة سننه باب 6ج1/15، وأحمد في المسند ج4/126، والدارمي في مقدمة سننه باب اتباع السنة 1/44. وهم على الترتيب الذي ذكره الأشعري في أرجح الأقوال، قال ابن عمر: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم". أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب 4ج4/191، وانظر سنن أبي داود كتاب السنة باب 8ج5/24، والترمذي كتاب المناقب باب 19ج5/629. وقال ابن حجر في تعليقه على هذا الحديث: "وفي هذا الحديث تقديم عثمان بعد أبي بكر وعمر، كما هو المشهور عند جمهور أهل السنة" ثم حكى الخلاف في ذلك وختمه بقوله: "وحديث الباب حجة للجمهور" انظر فتح الباري 7/16، 34. وقال الإمام أحمد: "وخير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر، وعلي بعد عثمان، ووقف قوم على عثمان، وهم خلفاء راشدون مهديون، ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس" (انظر رسالة السنة ص87) . وقال ابن الصلاح: "أفضلهم على الإطلاق أبو بكر، ثم عمر، ثم إن جمهور السلف على تقديم عثمان على علي…، وتقديم عثمان هو الذي استقر عليه مذاهب أصحاب الحديث وأهل السنة، وأما أفضل أصنافهم صنفاً، فقد قال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان. قال ابن الصلاح: وفي نص القرآن تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلوا إلى القبلتين في قول سعيد بن المسيب..". (انظر علوم الحديث ص268، 269) . وقال ابن حجر: "تقرر عند أهل السنة قاطبة تقديم علي بعد عثمان وتقديم بقية العشرة المبشرة على غيرهم، وتقديم أهل بدر على من لم يشهدها وغير ذلك". (انظر فتح الباري 7/58) .

وأن إمامتهم كانت عن رضى من جماعتهم، وأن الله ألف قلوبهم على ذلك لما أراده من استخلافهم جميعاً بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} 1 فجمع الله قلوب المؤمنين على ترتيبهم في التقديم من قبل أنهم لو قدموا عمر على الجماعة لخرج أبو بكر عما وعده الله به، وكذلك لو قدم عثمان لخرج أبو بكر وعمر؛ لأن الله قد علم أنه يبقى بعدهما، وأنهما يموتان قبله، وكذلك لو قدم علي على جميعهم لخرجوا من الوعد لعلم الله أنهم يموتون قبله فرتبهم وألف بين قلوب المؤمنين على ذلك، لينالوا جميعاً ما وعدوا به، وإن كان كل واحد منهم يعلم ذلك2. الإجماع السابع والأربعون وأجمعوا على أن الخيار بعد العشرة في أهل بدر من المهاجرين والأنصار على قدر الهجرة والسابقة3، وعلى أن كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة، أو رآه ولو مرة مع إيمانه به وبما دعا إليه أفضل من التابعين بذلك4.

_ 1 سورة النور آية: (55) . 2 يشير الأشعري إلى أن ترتيب الخلفاء الراشدين على ما سبق ذكره، هو ما أراد الله كونه، وهيأ له أسباب وجوده، وانظر إجماع الناس على بيعة أبي بكر في صحيح البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي باب 5ج4/194، ثم فوض أبو بكر الخلافة بعده لعمر واتفقت الأمة عليه. (انظر شرح الطحاوية ص424، وحول بيعة عثمان بوب البخاري في الصحيح بقوله: "قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان". ثم ساق القصة كاملة. انظر كتاب فضائل أصحاب النبي باب 8 ج4/204، ثم اعتقد أهل السنة أن علياً هو الخليفة الرابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر ما سبق ذكره في بداية هذا الإجماع، والفرق بين الفرق للبغدادي ص350، والفصل لابن حزم 4/144، 157، 158، وشرح الطحاوية ص430. 3 انظر ما تقدم ذكره في الإجماع السابق. 4 لشرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وعظم مكانته أعطي من رآه ولو مرة واحدة مع إيمانه به حكم الصحابة. قال أبو المظفر السمعاني: "أصحاب الحديث يطلقون اسم الصحابة على كل من روى عنه حديثاً، أو كلمه، ويتوسعون حتى يعدون من رآه رؤية من الصحابة وذلك لشرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم أعطوا كل من رآه حكم الصحابة". انظر علوم الحديث لابن الصلاح ص263. وقد اختلف في تعريف الصحابي على أقوال: قال البخاري: "ومن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه". انظر البخاري كتاب فضائل أصحاب النبي باب 1ج4/188، وقد ذكر ابن حجر أن تعريف البخاري هذا هو أولى التعريفات إلا أنه قيده بقيد وهو "ومات على ذلك" حتى يخرج بذلك من ارتد، وعليه عرف الصحابي بقوله: "وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه، أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى". انظر الإصابة في تمييز الصحابة 1/7. وقد أخذ السيوطي أيضاً بهذا التعريف، انظر تدريب الراوي 2/209. وذهب بعض أهل الأصول إلى أن الصحابي من طالت مجالسته على طريق التبع للنبي صلى الله عليه وسلم كما ورد من طريق ضعيف عن سعيد بن المسيب أنه لا يعد صحابياً إلا من أقام معه سنة أو سنتين، أو غزا معه غزوة أو غزوتين. وهناك أقوال أخر ذكرها السيوطي في التدريب انظر 2/210- 212، والراجح ما سبق ذكره عن البخاري، وغيره وهو ما اعتمده الأشعري في تعريفه.

الإجماع الثامن والأربعون وأجمعوا على الكف عن ذكر الصحابة - عليهم السلام - إلا بخير ما يذكرون به، وعلى أنهم أحق أن ينشر محاسنهم، ويلتمس لأفعالهم أفضل المخارج، وأن نظن بهم أحسن الظن، وأحسن المذاهب ممتثلين في ذلك لقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا" 1. وقال أهل العلم معنى ذلك لا تذكروهم إلا بخير الذكر2.

_ 1 الحديث أخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن مسعود. انظر المعجم الكبير 10/244، وقال المناوي: "قال الحافظ العراقي في سنده ضعيف، وقال الهيثمي فيه يزيد ابن ربيعة ضعيف، وقال ابن رجب: روي من وجوه في أسانيدها مقال" انظر فيض القدير 1/348، وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير وحكم له بالصحة. انظر 1/209، وقال في سلسلة الأحاديث الصحيحة: روي من حديث ابن مسعود وثوبان وابن عمر وطاوس مرسلاً وكلها ضعيفة الأسانيد ولكن بعضها يشد بعضاً. انظر 1/42. 2 ذهب أهل السنة والجماعة إلى ما ذكره الأشعري عن صحابة النبي الكريم - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - قال الإمام أحمد: "ومن الحجة الواضحة الثابتة البيّنة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين والكف عن ذكر مساويهم، والخلاف الذي شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحداً منهم فهو مبتدع رافضي خبيث، مخالف لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة". انظر رسالة السنة ص77، 78. وقال الطحاوي: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان". انظر شرح الطحاوية ص414. وقال الخطيب البغدادي: "عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن، فمن ذلك قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} انظر الكفاية في علم الرواية ص93. وقال ابن حجر العسقلاني: "اتفق أهل السنة على أن جميع الصحابة عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شرذمة من المبتدعة". انظر الإصابة في تمييز الصحابة 1/9. وقال ابن حجر الهيتمي: "اعلم أن الذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة أنه يجب على كل مسلم تزكية جميع الصحابة بإثبات العدالة لهم والكف عن الطعن فيهم والثناء عليهم…، ثم نقل قول أبي زرعة: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة، فيكون الجرح به ألصق والحكم عليه بالزندقة والضلال والكذب والفساد هو الأقوم الأحق" انظر الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة بتحقيق الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف ص208- 211. وقد خالف في ذلك الخوارج والروافض، والروافض في ذلك أشد حيث إنهم يعيشون الآن لسب الصحابة ولعنهم، ولهم دولة ترعاهم قاتلهم الله تعالى. وانظر ما سيأتي ذكره عنهم في الإجماع الخمسين.

وقوله: "لا تؤذوني في أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه" 1 وعلى ما أثنى الله تعالى به عليهم بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ …} إلى آخر ما قص الله عز وجل من ذكرهم ثم قال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} 2. الإجماع التاسع والأربعون وأجمعوا على أن ما كان بينهم من الأمور الدنيا لا يسقط حقوقهم، كما لا يسقط ما

_ 1 الحديث أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً…" الحديث انظر كتاب فضائل أصحاب النبي باب 5 ج4/195، وأخرجه أبو داود أيضاً من رواية أبي سعيد بلفظ: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده…" الحديث. انظر كتاب السنة باب 11ج5/45، وأخرجه الترمذي في كتاب المناقب باب 58ج5/696، وأخرجه ابن ماجة من رواية أبي هريرة، انظر مقدمة سننه باب 11ج1/57، وانظر مسند أحمد 3/11، 54، 63. 2 سورة الفتح آية: (29) . استدل أهل السنة والجماعة بهذه الآية على أفضلية الصحابة - رضوان الله عليهم- كما ذكر الأشعري، ولقد بدأ البيهقي كلامه عن الصحابة بهذه الآية، ثم عقب عليها بقوله: "فأثنى عليهم ربهم وأحسن الثناء عليهم، ورفع ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، ثم وعدهم المغفرة والأجر العظيم فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} انظر كتاب الاعتقاد ص159. وقال ابن كثير: "ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك - رحمه الله - في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة قال: لأنهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة ويكفيهم ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم". انظر تفسير ابن كثير 7/343.

كان بين أولاد يعقوب النبي عليه السلام من حقوقهم1، وعلى أنه لا يجوز لأحد أن يخرج عن أقاويل السلف فيما أجمعوا عليه، وعما اختلفوا فيه، أو في تأويله؛ لأن الحق لا يجوز أن يخرج عن أقاويلهم2. الإجماع الخمسون وأجمعوا على ذم سائر أهل البدع والتبري3 منهم، وهم الروافض4، والخوارج5،

_ 1مراد الأشعري بذلك أن ما كان بين الصحابة من أمور الدنيا يقتص لبعضهم من بعض فيه، كما حدث بين أولاد يعقوب عليه السلام حيث كان ليوسف على إخوته حق فعفا عنه، وقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف آية: 92) . وكذلك الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فمن كان له حق عند أخيه، وعفا عنه في الدنيا فقد سقط، وإن لم يعف عنه في الدنيا فيأخذ له حقه في الآخرة. 2 ينهى الأشعري هنا عن الخروج على مذهب السلف - رضوان الله عليهم - وهي وصية قيمة منه ينبغي على كل مسلم اتباعها، لأن الحق والخير مع سلف هذه الأمة وفي أقوالهم، فهم الذين حفظوا السنن والآثار وفهموا كتاب ربهم على ضوء ذلك، ولم ينحرفوا عن صراط الله المستقيم إلى طريق المبتدعة من سائر الطوائف والفرق، ويكفي أن أقوالهم لا تخرج عن القرآن والسنة، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعهما وحذر من مخالفتهما، كما أن هؤلاء السلف سلكوا سبيل المؤمنين الذي كان عليه الصدر الأول، وقد نهى الله عز وجل عن الخروج على سبيلهم قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} . 3 انظر ما سيأتي ذكره في الإجماع الآتي. 4 قال الإمام أحمد عن الروافض: "هم الذين يتبرؤن من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبونهم ويتنقصونهم، ويكفرون الأئمة الأربعة: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وعماراً أيضاً، والمقداد، وسلمان، وليست الرافضة من الإسلام في شيء" انظر رسالة السنة ص82. وقال الأشعري: "… وإنما سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر وهم مجمعون على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على استخلاف علي بن أبي طالب باسمه، وأظهر ذلك وأعلنه وأن أكثر الصحابة ضلوا لتركهم الاقتداء به". انظر مقالات الإسلاميين 1/89. وقال البغدادي: "وأما الروافض فإن السبئية منهم أظهروا بدعتهم في زمان علي رضي الله عنه فقال بعضهم لعلي: أنت الإله، فأحرق علي قوماً منهم، ونفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن وهذه الفرقة ليست من فرق أمة الإسلام لتسميتهم علياً إلهاً". انظر الفرق بين الفرق ص21. وقال ابن حزم: "إن الروافض ليسوا من المسلمين وهي تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر". انظر الفصل 2/78. وقال أبو بكر ابن العربي: "وأكثر الملحدة على التعلق بأهل البيت وتقدمة علي على جميع الخلق، حتى إن الرافضة انقسمت إلى عشرين فرقة أعظمهم بأساً من يقول: إن علياً هو الله". انظر العواصم من القواصم ص247، وانظر التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع للملطي ص25- 40. 5 الخوارج: اسم يطلق على كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه، وهذا يتناول أئمة المسلمين في كل زمان ومكان. انظر الملل والنحل1/105، ومراد الأشعري بالخوارج هنا: من خرجوا على الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكفروه، وهم أصناف متعددة ويجمعهم القول بتكفير مرتكبي الكبائر وخلودهم في النار. انظر مقالات الإسلاميين 1/167، 168، والتنبيه للملطي ص167، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص51.

والمرجئة1، والقدرية2، وترك الاختلاط بهم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وما أمر به من الإعراض عنهم في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} 3. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الخوارج كلاب أهل النار"4، وما روي عنه عليه السلام أنه قال: "فرقتان لا تنالهما شفاعتي المرجئة والقدرية" 5. وأنه عليه السلام قال: "القدرية مجوس هذه الأمة" 6. وأنهم الذين (يعترضون) 7 على الله في مقاديره، ويزعمون أنهم يقدرون على الخروج من علمه، وأنهم يخلقون كخلقه، وإنما شبههم النبي صلى الله عليه وسلم بالمجوس دون سائر الفرق من اليهود والنصارى في مشاركتهم لهم فيما يختصون به من قولهم: إن الشر لا يفعله إلا

_ 1 قال الإمام أحمد: "المرجئة: هم الذين يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل، وأن الإيمان قول والأعمال شرائع، وأن الإيمان مجرد، وأن الناس لا يتفاضلون في إيمانهم، وأن إيمانهم وإيمان الملائكة والأنبياء واحد، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن الإيمان ليس فيه استثناء، وأن من آمن بلسانه ولم يعمل فهو مؤمن حقاً، هذا كله قول المرجئة وهو أخبث الأقاويل وأضله وأبعده من الهدى". انظر رسالة السنة ص81. وقال البغدادي: "المرجئة ثلاثة أصناف صنف منهم قالوا بالإرجاء في الإيمان وبالقدر على مذاهب القدرية المعتزلة، وصنف منهم قالوا بالإرجاء في الإيمان، وبالجبر في الأعمال على مذهب جهم بن صفوان، فهم إذاً من جملة الجهمية، والصنف الثالث: خارجون عن الجبرية والقدرية وهم فيما بينهم خمس فرق…، وإنما سموا مرجئة: لأنهم أخروا العمل عن الإيمان، والإرجاء: بمعنى التأخير، يقال: أرجيته، وأرجأته إذا أخرته" انظر الفرق بين الفرق ص202. 2 سبق التعريف بالقدرية وطوائفهم بالتفصيل، انظر صفحة 194 من هذه الرسالة، وانظر كلام الأشعري عنهم في نهاية هذا الإجماع. 3 سورة الأنعام آية: (68) . 4 الحديث أخرجه أحمد في مسنده من طريق ابن أبي أوفى 4/355، 382، وكذلك ابن ماجة في مقدمة سننه 1/61، وابن أبي عاصم في كتاب السنة 2/438، وقد حكم الألباني له بالصحة. 5 الحديث لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولكن أخرج الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية بلفظ: "صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي يوم القيامة المرجئة والقدرية". انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير 4/208. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط عن واثلة بن الأسقع وفيه محمد بن محصن وهو متروك، ورواه في الأوسط أيضاً عن جابر بن عبد الله وفيه يحيى بن كثير السقاء وهو متروك. انظر مجمع الزوائد 7/206. 6 الحديث أخرجه أبو داود في كتاب السنة باب 17ج5/66 من حديث ابن عمر. قال المنذري: "هذا حديث منقطع، أبو حازم - سلمة بن دينار - لم يسمع من ابن عمر، وقد رُوي هذا الحديث عن ابن عمر من طرق ليس فيها شيء يثبت". انظر سنن أبي داود 5/66. وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي 1/85. 7 في الأصل و (ت) : "يتعرضون"، والصواب ما ذكرته.

الشرير، وأن الله لا يفعل ذلك كما قالت المجوس في النور الذي يعبدونه، وأنه لا يضر أحداً، لأن من ضر غيره كان سفيهاً، وقد أجمع المسلمون على أن الله الضار النافع، وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} 1. الإجماع الحادي والخمسون وأجمعوا على النصيحة للمسلمين2 والتولي بجماعتهم3، وعلى التوادد في الله، والدعاء لأئمة المسلمين، والتبري ممن ذم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأزواجه، وترك الاختلاط بهم، والتبري منهم4.

_ 1 سورة الفلق آية: (1، 2) . وقد سبق الكلام على المجوس وتفصيل مقالاتهم. انظر ص142. وقال الخطابي: "إنما جعلهم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بأصلين، وهما النور والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة فصاروا ثانوية، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله عز وجل والشر إلى غيره، والله سبحانه خالق الخير والشر لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته". انظر معالم السنن على هامش سنن أبي داود 5/66. 2 قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وقوله تعالى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} انظر كتاب الإيمان باب 42 ج1/20. 3 هكذا بالأصل وفي (ت) : "والتولي لجماعتهم". أمر الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة وعدم الخروج عليها، وقد عقد الآجري في كتابه الشريعة بابين حول هذا المعنى، عنون للأول بقوله: باب ذكر الأمر بلزوم الجماعة، وللثاني بقوله: باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بلزوم الجماعة. انظر الشريعة ص3- 14. كما فعل اللالكائي فقال: سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على اتباع الجماعة والسواد الأعظم وذم تكلف الرأي والرغبة عن السنة والوعيد في مفارقة الجماعة، ثم أورد كثيراً من النصوص في ذلك. انظر أصول اعتقاد أهل السنة 2/93. 4 أجمع أهل السنة على ما ذكر الأشعري عنهم، وسيرتهم أكبر دليل على ذلك. قال البغوي: "وقد اتفق علماء السنة على معادات أهل البدعة ومهاجرتهم". انظر شرح السنة 1/227. وقال البيهقي "لا تجالسوا أهل الأهواء فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون". انظر الاعتقاد ص117. وساق اللالكائي بسنده إلى الفضيل بن عياض أنه قال: "من جلس مع صاحب بدعة فاحذره، ومن جلس مع صاحب البدعة لم يعط الحكمة، وأحب أن يكون بيني وبين صاحب البدعة حصن من حديد، آكل عند يهودي ونصراني أحب إلي من أن آكل عند صاحب بدعة". انظر أصول اعتقاد أهل السنة 2/617. وقال محمد بن سعيد القحطاني: "يدخل في معتقد أهل السنة والجماعة البراءة من أرباب البدع والأهواء". انظر رسالته الولاء والبراء في الإسلام ص140.

فهذه الأصول التي مضى الأسلاف عليها، واتبعوا حكم الكتاب والسنة بها واقتدى بهم الخلف الصالح في مناقبها. نفعنا الله وإياكم آخره، والحمد لله رب العالمين وهو حسبنا1 ونعم الوكيل (ولا حول ولا قوة إلا بالله) 2.

_ 1 في (ت) : "حسبي". 2 ما بين المعقوفتين من (ت) .

الخاتمة انتهيت بحمد الله ومَنِّه وكرمه من دراسة وتحقيق كتاب ((رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب)) لأبي الحسن الأشعري، ويمكن تلخيص ما اشتمل عليه موضوع الكتاب في قسمين: 1- الأول: وهو ما يتعلق بالمقدمة، والتي كانت دراسة وافية عن المؤلف وكتابه، وقد اشتملت على بابين: الباب الأول: دراسة وافية عن أبي الحسن وسيرته، وقد أبرزت فيها جوانب هامة من حياته، وذلك فيما يتعلق بعقيدته وأطواره المختلفة، ومنهجه في كل حالة، ثم تعرضت لموقف تلامذة الأشعري والمنتسبين إليه، وبينت مدى مخالفة الأشعريين لمنهج الأشعري في طوره الأخير. وأما الباب الثاني: فقد تناولت فيه الكتاب المحقق من ناحية اسمه وموضوعه، وسبب تأليفه، وبيان صحة نسبته إلى المؤلف، وقيمته العلمية في بابه، وما أخذ عليه فيه، كما تعرضت لنسخ المخطوطة وعرفت بها كعادة المحققين، وأخيراً ذكرت المنهج الذي سلكته في تحقيق هذا الكتاب. 2- الثاني: مادة الكتاب الأصلية، أعني التي تضمنها ذات الكتاب وهي قضايا هامة في أصول الدين، وافق الأشعري فيها غالباً مذهب السلف وخالفهم أحياناً في بعض المسائل. وقد توصلت من خلال تحقيقي لهذا الكتاب إلى عدة نتائج أجملها فيما يلي: 1 أن النجاح الكامل في اتباع منهاج النبوة وما كان عليه السلف الصالح. 2- التمسك بالكتاب والسنة وطرح ما عداهما فيه صيانة للإنسان من البدع والضلال. 3- تمكن النزعة الكلامية عند الأشعري، وذلك بسبب نشأته الأولى. 4- سلك الأشعري مسلك السلف عموماً بعد رجوعه إلى مذهبهم، وخالفهم في بعض المسائل عند تطبيقه لهذا المنهج، وذلك لبعده فترة طويلة عن مذهبهم.

5- مخالفة الأشعري للفلاسفة والمتكلمين، وذمه لهم وبيانه لفساد طريقتهم في الاستدلال، وإن سلك مسلكهم أحياناً، كما حدث في الكلام حول حدوث العالم. 6- إثبات الأشعري للصفات التي جاء بها الوحي قرآناً كان أو سنة دون تفرقة في ذلك وإن كان عليه بعض المآخذ التي أشرت إليها في التحقيق، كما وافق السلف في مسائل القضاء والقدر. 7- موافقة الأشعري لمذهب السلف فيما جاء به الوحي من أخبار الساعة وما يقع فيها. 8- موافقة الأشعري لمذهب السلف في مرتكب الكبيرة، وما وقع من خلاف بين الصحابة وما يتعلق بذلك. 9- إعلان براءته من جميع الفرق الضالة المخالفين لمنهج السلف، أهل السنة والجماعة. وختاماً أرجو أن أكون قد وفقت في تقديم عمل علمي يستفيد منه المسلمون، وخاصة من سموا أنفسهم ((الأشعرية)) أو ((أهل السنة والجماعة)) . وأسأل الله جل ذكره أن يوفقنا جميعاً لهدي كتابه والسير على سنة رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ((وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين)) .

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... الفهارس فهرس ثبت المصادر. ثبت المصادر والمراجع روعي في هذا الفهرس ما يلي: ترتيب المراجع حسب أسماء مؤلفيها. ترتيب هذه الأسماء ترتيباً أبجديا. إغفال أداة التعريف ((أل)) وكلمة ((ابن)) ، و ((أبو)) عند ذكر الأعلام. إذا كان العلم المترجم له مبدوءً ((بابن أبي)) يكتفى بإغفال ((ابن)) . أولاً: المطبوعات: (الألف) ابن أبي العز الحنفي: صدر الدين علي بن محمد بن أبي العز الحنفي قاضي القضاة وعلامة عصره (ت 792هـ) . شرح العقيدة الطحاوية ط/ الأولى 1392هـ. الأشعري: أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري البصري (ت 324هـ) . الإبانة عن أصول الديانة. طبعة الجامعة الإسلامية. مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين. ط/ الثانية 1389هـ. بتحقيق د. محمد محيي الدين عبد الحميد. الناشر مكتبة النهضة المصرية. اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع. بتحقيق د. حمودة غرابة مطبعة مصر 1955م. الأصبهاني: أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 430هـ) . دلائل النبوة ط/ الثالثة، مطبعة دار المعارف الإسلامية بحيدر آباد الدكن بالهند. الأسفرايني: أبو المظفر الأسفرايني. (ت 471هـ) . التبصرة في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن فرق الهالكين. ط/ الأولى 1359هـ. بتحقيق زاهد الكوثري. طبع ونشر السيد عزت العطار بالقاهرة. الآجري: أبو بكر محمد بن الحسين الآجري (ت 360هـ) . الشريعة. بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي. ط/ الأولى 1369هـ بمطبعة أنصار السنة المحمدية بالقاهرة. ابن أبي عاصم: الحافظ أبو بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني (ت 287هـ) . كتاب السنة ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني. ط/ الأولى 1400هـ المكتب الإسلامي. الإيجي: عبد الرحمن بن أحمد الإيجي (ت 756هـ) . المواقف في علم الكلام. نشر عالم الكتب ببيروت بدون تاريخ. ابن أبي حاتم: عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي. الجرح والتعديل. ط/ الأولى ((بدون تاريخ)) بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند. ابن أبي الوفاء القرشي الحنفي: أبو محمد عبد القادر بن أبي الوفاء محمد بن محمد بن نصر الدين سالم بن أبي الوفاء القرشي الحنفي المصري. (ت 775هـ) .

الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية. ط/ الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية الهند. بدون تاريخ. أحمد أمين. ظهر الإسلام. ط/ الخامسة 1388هـ. الناشر: دار الكتاب العربي بيروت. الألباني: محمد ناصر الدين الألباني. سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها. طبع المكتب الإسلامي. بدون تاريخ. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة. ط/ الثالثة 1392هـ. المكتب الإسلامي. (الباء) البخاري: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري (ت 256هـ) . صحيح البخاري. نشر المكتب الإسلامي لمحمد ادذمير بتركيا طبع مؤسسة أليف أوفست. الأدب المفرد. ط/ الثانية 1379هـ بتحقيق محب الدين الخطيب. كتاب خلق أفعال العباد. ضمن مجموعة عقائد السلف. بتحقيق د. سامي النشار وعمار جمعي طالبي. الناشر دار المعارف بالإسكندرية سنة 1971م. البغدادي: عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي الأسفرائيني التميمي (ت 429هـ) . الفَرق بين الفِرق. بتحقيق د. محمد محيي الدين عبد الحميد. الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت. أصول الدين. ط/ الأولى 1346هـ تركيا. البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458هـ) . دلائل النبوة. ط/ الأولى 1389هـ بتحقيق عبد الرحمن عثمان – مطبعة دار النصر للطباعة – القاهرة. الأسماء والصفات. تحقيق محمد زاهد الكوثري. دار إحياء التراث العربي بيروت بدون تاريخ. الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد. صححه ونشره أحمد محمد مرسي 1380هـ وطبع بالقاهرة. البغوي: أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي (ت 516هـ) . شرح السنة. بتحقيق شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش ط/ الأولى 1390هـ المكتب الإسلامي.

البنا: حسن البنا. العقائد. - بتحقيق رضوان محمد رضوان - صادرة عن الدار السعودية للنشر والتوزيع. آل بو طامي: أحمد بن حجر آل بو طامي قاضي المحكمة الشرعية بقطر العقائد السلفية بأدلتها النقلية والعقلية. ط/ الأولى 1970م بيروت. (التاء) الترمذي: أبو عيسى محمد بن عيسى بن سوره (ت 279هـ) . الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي بتحقيق جماعة من العلماء. ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني (ت 728هـ) . النبوات. الناشر مكتبة الرياض الحديثة – بدون تاريخ. بيان تلبيس الجهمية. بتحقيق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم. ط/ الأولى 1391هـ بمطبعة الحكومة بمكة المكرمة. منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية. الناشر مكتبة الرياض الحديثة, بدون تاريخ. بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول. على هامش كتاب منهاج السنة النبوية السابق ذكره، كما استخدمت نسخة أخرى لهذا الكتاب وهي النسخة التي قام بتحقيقها الدكتور/ محمد رشاد سالم. طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم. بتحقيق الشيخ/ محمد حامد الفقي - رئيس أنصار السنة بالقاهرة – طبع مطابع المجد التجارية بدون تاريخ. تفسير سورة الإخلاص. الناشر مكتبة المنار الإسلامية بالكويت. رسالة معارج الوصول. ضمن مجموعة الرسائل الكبرى – الناشر مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده – بدون تاريخ. الرسالة التدمرية في تحقيق الإثبات لأسماء الله وصفاته، وبيان حقيقة الجمع بين الشرع والقدر. ط/ الثانية بمطبعة السلفية بالقاهرة. الفتوى الحموية الكبرى. ط/ الثالثة 1398هـ بالمطبعة السلفية بالقاهرة. رسالة في معنى كون الرب عادلاً وفي تنزهه عن الظلم، وفي إثبات عدله وإحسانه. ضمن كتاب جامع الرسائل. تحقيق د/ محمد رشاد سالم، مطبعة المدني بالقاهرة؛ بدون تاريخ. الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان – ضمن مجموعة التوحيد – الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، بدون تاريخ. الإيمان. ط/ الثالثة 1399هـ طبع المكتب الإسلامي. مجموعة فتاوى شيخ الإسلام.

ابن تغرى بردى: جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغرى بردى (ت 874هـ) . النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة. نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب بدون تاريخ. الناشر وزارة الثقافة والإرشاد القومي. التهانوني: محمد علي الفاروقي التهانوني من علماء الهند توفي في القرن الثاني عشر. كشاف اصطلاحات الفنون. تحقيق د/ لطفي عبد البديع، وترجمة د/ عبد المنعم حسنين، ومراجعة الأستاذ/ أمين الخولي. طبع المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر سنة 1382هـ. (الجيم) ابن جرير: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ) . جامع البيان عن تأويل آي القرآن، وهو المعروف بتفسير الطبري، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر ومحمود شاكر. طبعة دار المعارف بالقاهرة، بدون تاريخ. كما استخدمت نسخة أخرى بدون تحقيق ط/ الثالثة بمطبعة الحلبي 1388هـ، لأن الأولى ناقصة. ابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي القرشي البغدادي. (ت 596هـ) . نقد العلم والعلماء، أو تلبيس إبليس. بتحقيق محمود مهدي استنبولي. طبع مؤسسة علوم القرآن بدمشق سنة 1396هـ. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. ط/ الأولى بمطبعة دار المعارف العثمانية بالهند سنة 1357هـ. الجرجاني: علي بن محمد بن علي السيد الزين أبي الحسن الحسيني الجرجاني الحنفي (ت 816هـ) . التعريفات. مطبعة الحلبي بالقاهرة / 1357هـ. جماعة من المستشرقين. دائرة المعارف الإسلامية. أصدرها بالإنجليزية والفرنسية والألمانية أئمة المستشرقين في العالم ونقلها إلى العربية إبراهيم زكي خورشيد، وأحمد الشناوي، وعبد الحميد يونس. مطبعة دار الشعب بالقاهرة، بدون تاريخ. (الحاء) أبو حنيفة: النعمان بن ثابت الكوفي (ت 150هـ) . الفقه الأكبر بشرح ملا علي القاري. ط/ الثانية 1375هـ مطبعة الحلبي بالقاهرة. ابن حنبل: أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد (ت 241هـ) .

مسند الإمام أحمد. ط/ الثانية 1398هـ المكتب الإسلامي للطباعة والنشر/ بيروت. الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأويله على غير تأويله. رسالة السنة. كلاهما في كتاب واحد بتحقيق الشيخ/ إسماعيل الأنصاري. نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد. الحاكم: الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405هـ) . المستدرك. الناشر دار الكتاب العربي بيروت / بدون تاريخ. ابن حزم: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري (ت 456هـ) . الفصل في الملل والأهواء والنحل. ط/ الثانية 1395هـ طبع دار المعرفة / بيروت. الإحكام في أصول الأحكام – بتحقيق محمد أحمد عبد العزيز. ط/ الأولى 1398هـ. الناشر مكتبة عاطف بالقاهرة. أبو حيان: محمد بن يوسف الأندلسي الغرناطي (ت 754هـ) . تفسير البحر المحيط. ط/ الثالثة 1398هـ دار الفكر بيروت. ابن حجر: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852هـ) . فتح الباري شرح صحيح البخاري. بترقيم وإخراج/ محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب – طبع المطبعة السلفية بالقاهرة - بدون تاريخ. الإصابة في تمييز الصحابة. طبعة جديدة بالأوفست بدون تاريخ – نشر دار صادر بيروت. تهذيب التهذيب. ط/ الأولى 1326هـ مطبعة دائرة المعارف النظامية بالهند. حمودة غرابة: دكتور. الأشعري أبو الحسن. طبع مطبعة الرسالة بالقاهرة بدون تاريخ. حسن نصر ومحيي الدين صالح – كاتبان معاصران. جسم الإنسان في علم الصحة. طبع مصلحة الطباعة بالمعهد التربوي الوطني بالجزائر، بدون تاريخ. حمدي حيا الله: دكتور معاصر بكلية البنات بجامعة الأزهر. أثر التفلسف في الفكر الإسلامي. ط/ الأولى 1395هـ، مطبعة الجبلاوي بالقاهرة. (الخاء) ابن خزيمة: الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت 311هـ) . كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل. بتحقيق الدكتور محمد خليل هراس ط/ الثانية 1393هـ دار الفكر / بيروت. الخطيب البغدادي: الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي (463هـ) .

تاريخ بغداد أو مدينة السلام. الناشر دار الفكر العربي – بيروت – بدون تاريخ. الكفاية في علم الرواية - تقديم / محمد الحافظ التيجاني. ط/ الأولى بدون تاريخ – طبع مطبعة دار السعادة بالقاهرة. الرحلة في طلب الحديث – بتحقيق د. نور الدين عتر – ط/ الأولى 1395هـ - الناشر دار الكتب العلمية بيروت. ابن خلكان: أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان (ت 681هـ) . وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. بتحقيق د. إحسان عباس – نشر دار صادر بيروت 1397هـ. (الدال) أبو داود: الحافظ سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي (ت 275هـ) . سنن أبي داود ومعه معالم السنن للخطابي (ت 388هـ) . بتعليق عزت عبيد الدعاس. ط/ الأولى 1388هـ، نشر وتوزيع محمد علي السيد. الدارمي: عثمان بن سعيد الدارمي. (ت 280هـ) . الرد على الجهمية – بتحقيق زهير الشاويش. ط/ الثالثة 1398هـ، نشر المكتب الإسلامي. رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد. بتحقيق محمد حامد الفقي ط/ الأولى 1358هـ مطبعة أنصار السنة المحمدية بالقاهرة. الدارقطني: الإمام علي بن عمر الدارقطني (ت 385هـ) . سنن الدارقطني بتحقيق السيد عبد الله هاشم يماني، وبذيله التعليق المغني على الدارقطني لمحمد شمس الحق العظيم آبادي، مطبعة دار المحاسن بالقاهرة بدون تاريخ، الناشر: السيد عبد الله هاشم يماني بالمدينة المنورة. دراز: محمد عبد الله دراز. دكتور. النبأ العظيم. ط/ الرابعة 1397هـ. درويش: أبو الوفاء محمد درويش. الأسماء الحسنى – ط/ الأولى 1390هـ. طبع ونشر الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية. (الذال) الذهبي: الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748هـ) . مختصر العلو للعلي الغفار. اختصره وحققه محمد ناصر الدين الألباني، ط/ الأولى 1401هـ وطبع المكتب الإسلامي بدمشق.

ميزان الاعتدال في نقد الرجال. تحقيق علي محمد البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي بدون تاريخ. تذكرة الحفاظ. بتصحيح الشيخ/ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، طبعة إحياء التراث العربي – بيروت – بدون تاريخ. المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال. وهو مختصر منهاج السنة لابن تيمية، بتحقيق محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية / 1374هـ. العبر في خبر من غبر. سلسلة تصدرها دار المطبوعات والنشر بالكويت / 1960م. (الراء) ابن رجب: أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين بن أحمد بن رجب الحنبلي. فضل علم السف على الخلف. مطبعة الحلبي 1347هـ. جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم. ط/ الرابعة 1393هـ مطبعة الحلبي. الرازي: فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي (ت606هـ) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين. الناشر مكتبة الكليات الأزهرية 1398هـ. المحصول في علم أصول الفقه. بتحقيق الدكتور/ جابر فياض العلواني ط/ الأولى 1399هـ، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. الراغب الأصفهاني: أبو القاسم حسين بن محمد بن المفضل المعروف بالراغب الأصفهاني. المفردات في غريب القرآن. بتحقيق محمد سيد كيلاني. طبع مطبعة الحلبي بالقاهرة 1961م. رضا: محمد رشيد رضا. تفسير القرآن الحكيم. ط/ الرابعة 1380هـ مطبعة القاهرة. (الزاي) الزركلي: خير الدين الزركلي. الأعلام. ط/ الثالثة بيروت 1389هـ. أبو زهرة: محمد أبو زهرة (ت 1394هـ) . محاضرات في النصرانية. ط/ الثالثة 1385هـ مطبعة المدني بالقاهرة. ابن تيمية: حياته وعصره آراؤه الفقهية. مطبعة الدجوي بالقاهرة. - نشر دار الفكر العربي – بدون تاريخ.

(السين) ابن سعد: أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري (ت 230هـ) . الطبقات الكبرى. دار صادر للطباعة والنشر بيروت بدون تاريخ. السمعاني: أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني. (ت 562هـ) . الأنساب. بتعليق الشيخ عبد الرحمن المعلمي. ط/ الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند. السبكي: تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي (ت 771هـ) . طبقات الشافعية الكبرى. بتحقيق محمد محمد الطناحي وعبد الفتاح الحلو. ط/ الأولى مطبعة عيسى الحلبي 1384هـ. السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. (ت 911هـ) . تدريب الراوي شرح تقريب النووي. بتحقيق د/ عبد الوهاب عبد اللطيف. ط/ الثانية 1392هـ. الناشر المكتبة العلمية بالمدينة المنورة. أبو السعود: أبو السعود بن محمد بن محمد العماد الحنفي (ت982هـ) . تفسير أبي السعود، أو إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم. بتحقيق عبد القادر أحمد عطا، طبع مطبعة السعادة بالقاهرة، ونشر مكتبة الرياض الحديثة. السفاريني: محمد بن أحمد السفاريني الأثري الحنبلي (ت 1128هـ) لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية في عقد الفرقة المرضية. طبع مطابع دار الأصفهاني وشركاه بجدة 1380هـ. الساعاتي: أحمد بن عبد الرحمن البنا المعروف بالساعاتي. الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني. ط/ الأولى 1377هـ. السباعي: مصطفى السباعي. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي. ط/ الثانية 1396هـ طبع المكتب الإسلامي بيروت. سيد قطب. في ظلال القرآن. ط/ التاسعة 1400هـ طبعة دار الشروق

(الشين) الشافعي: محمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ) . الرسالة. بتحقيق وشرح أحمد شاكر. ط/ الأولى 1358هـ طبع شركة الحلبي بالقاهرة. الشيرازي: إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز آبادي الشيرازي (ت 476هـ) . التبصرة في أصول الفقه. بتحقيق د. محمد حسن هيتو. طبع دار الفكر بدمشق 1400هـ. الشهرستاني: محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت 548هـ) . الملل والنحل. بتحقيق د. محمد بن فتح الله بدران. ط/ الثانية مطبعة مخيمر الناشر مكتبة الأنجلو المصرية. الشاطبي: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي (ت 790هـ) . الموافقات في أصول الشريعة. بتحقيق الشيخ عبد الله دراز. ط/ الثانية 1395هـ. الناشر المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة. الشوكاني: محمد بن علي الشوكاني. شرح الصدور بتحريم رفع القبور مطبعة المدني بجدة 1395هـ. الشنقيطي: محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (ت 1393هـ) . أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. مطبعة المدني بدون تاريخ. منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات. مطبعة الجامعة الإسلامية 1400هـ. أبو شهبة: محمد محمد أبو شهبة - دكتور. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكُتَّاب المعاصرين. مطبعة الأزهر بدون تاريخ. شلبي: أحمد شلبي – دكتور. أديان الهند الكبرى. ط/ الرابعة 1976م. (الصاد) الصابوني: الحافظ أبو عثمان إسماعيل الصابوني (ت 449هـ) . عقيدة السلف وأصحاب الحديث الرسالة السادسة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية. الناشر/ محمد أمين دمج - بيروت 1970م. ابن الصلاح: أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوزي (ت 643هـ) . كان والده يلقب بصلاح الدين فنسب إليه وعرف بابن الصلاح.

علوم الحديث. بتحقيق د. نور الدين عتر. مطبعة الأصيل بحلب 1386هـ، الناشر المكتبة العلمية بالمدينة المنورة. صديق حسن خان (ت 1307هـ) . فتح البيان في مقاصد القرآن. مطبعة العاصمة بالقاهرة، الناشر/ عبد الحي علي محفوظ 1965م. (الطاء) الطبراني: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت 360هـ) . المعجم الكبير: حققه وخرج أحاديثه حمدي عبد المجيد السلفي – الدار العربية للطباعة بغداد – بدون تاريخ. (العين) عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل (ت 290هـ) . كتاب السنة. بتحقيق جماعة من العلماء تحت إشراف الشيخ/ عبد الله بن حسن بن حسين آل الشيخ. طبع مطبعة السلفية ومكتبتها بمكة المكرمة. ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي الأندلسي (ت 463هـ) . جامع بيان العلم وفضله، وبيان ما ينبغي في روايته وحمله. الناشر/ المكتبة العلمية بالمدينة المنورة بدون تاريخ. ابن العربي: القاضي أبو بكر بن العربي (ت 543هـ) . العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي (بتحقيق محب الدين الخطيب. ط/ الرابعة 1396هـ المطبعة السلفية بالقاهرة. عياض: القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي (ت 544هـ) . الشفا بتعريف حقوق المصطفى. الناشر/ المكتبة التجارية الكبرى بدون تاريخ. عبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري. فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت بذيل كتاب المستصفى للغزالي. ط/ الأولى 1322هـ - المطبعة الأميرية بالقاهرة. ابن العماد: أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي (ت1089هـ) شذرات الذهب في أخبار من ذهب. نشر المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع بيروت بدون تاريخ.

ابن عبد الوهاب: سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ت 1233هـ) . تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد. ط/ الرابعة 1400هـ، المكتب الإسلامي. عبد الرحمن بدوي – دكتور. مذاهب الإسلاميين – ط/ الثانية 1979م. الناشر دار العلم للملايين بيروت. عطية محمد سالم. مذكرة في توحيد الربوبية – ضمن المنهج المقرر على طلاب السنة المنهجية في شعبة العقيدة للعام الدراسي 1400/ 1401هـ. عبد الكريم عثمان – دكتور. نظرية التكليف، آراء القاضي عبد الجبار الكلامية. طبع مؤسسة الرسالة / بيروت 1391هـ. عزت عطية – دكتور. البدعة، تحديدها وموقف الإسلام منها. الناشر: دار الكتب الحديثة – بدون تاريخ. (الغين) الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي (ت 505هـ) . تهافت الفلاسفة – بتحقيق د. سليمان دنيا. ط/ الثانية، مطبعة دار المعارف. المستصفى من علم الأصول – ط/ الأولى 1322هـ، المطبعة الأميرية. الاقتصاد في الاعتقاد – مطبعة الحلبي – بدون تاريخ. الأربعين في أصول الدين. الناشر/ المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة، بدون تاريخ. (الفاء) الفراء البغدادي: محمد بن الحسين الفراء البغدادي الحنبلي (ت 458هـ) . العدة في أصول الفقه. بتحقيق د. أحمد علي سير المباركي. ط/ الأولى 1400هـ، مؤسسة الرسالة/ بيروت. الفيومي: أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي (ت 770هـ) . المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي. تحقيق د. عبد العظيم الشناوي. الناشر/ دار المعارف بدون تاريخ.

الفيروز آبادي: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت 817هـ) . القاموس المحيط – الناشر/ المؤسسة العربية للطباعة والنشر بيروت – بدون تاريخ. الفتوحي: أحمد بن عبد العزيز بن علي بن إبراهيم الفتوحي. شرح كوكب المنير، المسمى بمختصر تحرير. تحقيق الشيخ محمد حامد الفقي، ط/ الأولى 1372هـ مطبعة السنة المحمدية. ابن فارس: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا. معجم مقاييس اللغة. بتحقيق عبد السلام هارون – ط/ الثانية 1389هـ. مطبعة الحلبي بالقاهرة. فؤاد السيد: أمين مخطوطات دار الكتب المصرية سابقاً. فهرست المخطوطات لدار الكتب المصرية - مطبعة دار الكتب 1382هـ. فؤاد سزكين. تاريخ التراث العربي - طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977م. (القاف) ابن قدامة: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة (ت 620هـ) . المغني على مختصر أبي القاسم عمر بن حسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي – الناشر: مكتبة الرياض الحديثة – بدون تاريخ. القرافي: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي (ت 684هـ) . شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول – ط/ الأولى 1393هـ. طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة. الناشر/ مكتبة الكليات الأزهرية ودار الفكر. القرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. الجامع لأحكام القرآن نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية. الناشر: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر القاهرة 1387هـ. ابن قيم الجوزية: أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي زين الدين الزرعي ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بابن قيم الجوزية (ت 751هـ) . الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي - الناشر دار الكتب العلمية / بيروت - بدون تاريخ. مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة. تحقيق محمود حسن ربيع. ط/ الثانية 1358هـ.

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة. مطبعة المدني بالقاهرة، بدون تاريخ. مدارك السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق محمد حامد الفقي الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت بدون تاريخ. اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية. الناشر/ المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، بدون تاريخ. القاسمي: محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) . محاسن التأويل. بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط/ الأولى 1397هـ، مطبعة الحلبي. (الكاف) الكلبي: أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي (ت 204هـ) . الأصنام. نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية 1343هـ، بتحقيق الأستاذ أحمد زكي. الناشر/ الدار القومية للطباعة والنشر. ابن كثير: أبو الفداء إسماعيل عماد الدين بن كثير (ت774هـ) . تفسير القرآن العظيم – تحقيق عبد العزيز غنيم، ومحمد إبراهيم البنا، ومحمد أحمد عاشور – مطبعة الشعب بالقاهرة بدون تاريخ. البداية والنهاية. ط/ الثالثة 1977م، مكتبة المعارف بيروت. الفتن والملاحم. بتصحيح وتعليق الشيخ إسماعيل الأنصاري، ط/ الأولى 1388هـ، مطابع مؤسسة النور بالرياض. (اللام) اللالكائي: أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي (ت 418هـ) . شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم. بتحقيق: أحمد بن سعد بن حمدان. حصل به على رسالة الدكتوراة من جامعة أم القرى بمكة المكرمة 1402هـ. (الميم) مالك بن أنس. إمام دار الهجرة (ت 179هـ) . موطأ مالك مع شرحه تنوير الحوالك للسيوطي, مطبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر بدون تاريخ.

مسلم بن الحجاج: الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري. صحيح مسلم. بترتيب وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، نشر إدارات البحوث العلمية والإفتاء بالرياض. ابن ماجه: الإمام أبو عبد الله بن يزيد القزويني (ت 275هـ) . سنن ابن ماجه. بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي – مطبعة الحلبي – بدون تاريخ. الملطي: أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي (ت 377هـ) . التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع. بتحقيق محمد زاهد الكوثري، الناشر: السيد عزت العطار الحسيني، مؤسس ومدير مكتب نشر الثقافة الإسلامية 1368هـ. ابن مندة: الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة (ت 395هـ) . الإيمان. بتحقيق د. علي ناصر فقيهي ط/ الأولى 1401هـ، من مطبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة والمنورة. الرد على الجهمية. بتحقيق د. علي ناصر فقيهي – ط/ الأولى 1401هـ. ابن منظور: محمد بن مكرم بن علي، وقيل رضوان بن أحمد بن أبي القاسم بن حقة بن منظور الأنصاري الإفريقي المصري (ت 711هـ) . لسان العرب. طبع المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، بدون تاريخ. المرتضى اليماني: أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني. إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد. مطبعة الآداب والمؤيد بمصر 1318هـ. محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي (ت 666هـ) . مختار الصحاح. ط/ الأولى 1967م. الناشر: دار الكتاب العربي بيروت. المقريزي: أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد المعروف بالمقريزي (ت 845هـ) . الخطط. أصدرته دار التحرير للطبع والنشر عن مطبعة بولاق 1270هـ. مرتضى الزبيدي: محمد بن محمد الحسيني الزبيدي. إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين. مطبعة دار الفكر بيروت بدون تاريخ. مصطفى عبد الرزاق. تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية. ط/ الأولى 1386هـ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة. محمد عبده.

رسالة التوحيد. بتعليق محمد رشيد رضا. ط/ العاشرة 1361هـ، مطبعة الحلبي بالقاهرة. محب الدين الخطيب. الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الإثني عشرية. من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1400هـ. محمود قاسم – دكتور. ابن رشد وفلسفته الدينية. ط/ الثالثة 1969م. مطبعة الأنجلو المصرية. محمد عجاج الخطيب. دكتور. السنة قبل التدوين. ط/ الأولى 1383هـ، مطبعة أحمد مخيمر الناشر: مكتبة وهبة القاهرة. محمد سلام مدكور. دكتور. أصول الفقه الإسلامي. ط/ الأولى 1976م. الناشر: دار الاتحاد العربي للطباعة بمصر. محمد بن سعيد القحطاني. الولاء والبراء في الإسلام. ط/ الأولى نشر دار طيبة بالرياض. (النون) النووي: الإمام الحافظ محيي الدين أبو زكريا شرف بن مري الحزامي الحواربي الشافعي (ت 676هـ) . شرح النووي على صحيح مسلم. المطبعة المصرية ومكتبتها، بدون تاريخ. النسائي: الإمام أحمد بن شعيب بن علي النسائي (ت 303هـ) . سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين وحاشية الإمام السندي – دار إحياء التراث العربي – بيروت 1372هـ. ابن النديم: محمد بن إسحاق النديم (ت 385هـ) . الفهرست. الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت 1398هـ.

نور الدين عتر. دكتور. منهج النقد في علوم الحديث. الناشر: دار الفكر بدون تاريخ. النشار: علي سامي النشار. دكتور. نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام. ط/ السابعة 1977م. الناشر دار المعارف. عقائد السلف للأئمة أحمد بن حنبل والبخاري وابن قتيبة وعثمان الدارمي. جمع وتحقيق علي سامي النشار وعمار جمعة طالبي، الناشر: منشأة المعارف بالإسكندرية 1971م. (الهاء) ابن هشام: أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري (ت 218هـ) . السيرة النبوية. تحقيق مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ شلبي، ط/ الثانية 1375هـ، مطبعة الحلبي بالقاهرة. الهمذاني: قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني (ت 415هـ) . شرح الأصول الخمسة. بتعليق أحمد بن الحسن بن أبي هاشم، وتحقيق وتقديم د. عبد الكريم عثمان، ط/ الأولى 1384هـ، مطبعة الاستقلال الكبرى، الناشر: مكتبة وهبة. المغني في أبواب التوحيد والعدل. بتحقيق إبراهيم مدكور، وطه حسين، مطبعة وزارة الثقافة والإرشاد القومي بالقاهرة بدون تاريخ. الهيتمي: أحمد بن حجر الهيتمي المكي (ت 974هـ) . الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة. تحقيق د. عبد الوهاب عبد اللطيف. ط/ الثانية 1385هـ، مطبعة شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة. الناشر: مكتبة القاهرة. الهيثمي: الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807هـ) . مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. الناشر: مكتبة القدس بالقاهرة 1353هـ. هراس: محمد خليل هراس. دكتور. ابن تيمية السلفي نقده لمسالك الفلاسفة والمتكلمين في الإلهيات. ط/ الأولى 1372هـ، المطبعة اليوسفية بطنطا. (الياء) ياقوت الحموي: شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي (ت 626هـ) . معجم البلدان. الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت - بدون تاريخ.

ثانياً: المراجع المخطوطة: ابن أبي زمنين: أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين المالكي (ت 378هـ) . أصول السنة. نسخة مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية تحت رقم (1863) 1. ابن أبي شامة: أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي المعروف بأبي شامة (ت 665هـ) . 2- ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري. نسخة مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة2. ثالثا: المجلات: مجلة الأمة: إسلامية شهرية جامعة. العدد الرابع عشر من السنة الثانية. تصدرها وزارة الأوقاف وشئون الإسلامية بقطر. 2- مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. مجلة دورية تصدر أربع مرات في العام – العدد 50، 51 من السنة الثالثة عشر.

_ 1 يقوم الآن أحد طلاب شعبة العقيدة بالجامعة بتحقيقها. 2 يقوم الآن أحد طلاب شعبة العقيدة بالجامعة بتحقيقها.

§1/1