رسالة أبي داود إلى أهل مكة

السجستاني، أبو داود

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن أَحْمد بن سُلَيْمَان الْمَعْرُوف بِابْن البطي إجَازَة إِن لم أكن سمعته مِنْهُ قَالَ أَنبأَنَا الشَّيْخ أَبُو الْفضل أَحْمد ابْن الْحسن بن خيرون الْمعدل قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا حَاضر أسمع قيل لَهُ أَقرَأت على أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله الصُّورِي الْحَافِظ قَالَ سَمِعت أَبَا

الْحُسَيْن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن جَمِيع الغساني بصيدا فَأقر بِهِ قَالَ سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن الْفضل بن يحيى بن الْقَاسِم ابْن عون بن عبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل بن الْحَارِث ابْن عبد الْمطلب الْهَاشِمِي بِمَكَّة يَقُول سَمِعت أَبَا دَاوُد سُلَيْمَان بن الأشعت بن إِسْحَاق بن بشير بن شَدَّاد السجسْتانِي وَسُئِلَ عَن رسَالَته الَّتِي كتبهَا إِلَى أهل مَكَّة وَغَيرهَا جَوَابا لَهُم فأملى علينا سَلام عَلَيْكُم فَإِنِّي أَحْمد إِلَيْكُم الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وأسأله أَن يُصَلِّي على مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلما ذكر أما بعد عَافَانَا الله وَإِيَّاكُم عَافِيَة لَا مَكْرُوه مَعهَا وَلَا عِقَاب بعْدهَا فَإِنَّكُم سَأَلْتُم أَن أذكر لكم الْأَحَادِيث الَّتِي فِي كتاب السّنَن أَهِي أصح مَا عرفت فِي الْبَاب

اختياره أحد الحديثين الصحيحين لقدم حفظ صاحبه

اخْتِيَاره أحد الْحَدِيثين الصَّحِيحَيْنِ لقدم حفظ صَاحبه ووقفت على جَمِيع مَا ذكرْتُمْ فاعلموا أَنه كَذَلِك كُله إِلَّا أَن يكون قد روى من وَجْهَيْن صَحِيحَيْنِ فأحدهما أقوم اسنادا وَالْآخر صَاحبه أقدم فِي الْحِفْظ فَرُبمَا كتبت ذَلِك وَلَا أرى فِي كتابي من هَذَا عشرَة أَحَادِيث قلَّة أَحَادِيث الْأَبْوَاب وَلم أكتب فِي الْبَاب إِلَّا حَدِيثا أَو حديثين وَإِن كَانَ فِي الْبَاب أَحَادِيث صِحَاح فَإِنَّهُ يكثر وَإِنَّمَا أردْت قرب منفعَته إِعَادَة الحَدِيث وَإِذا أعدت الحَدِيث فِي الْبَاب من وَجْهَيْن أَو ثَلَاثَة فانما هُوَ من زِيَادَة كَلَام فِيهِ وَرُبمَا تكون فِيهِ كلمة زِيَادَة على الْأَحَادِيث

اختصار الحديث

اخْتِصَار الحَدِيث وَرُبمَا اختصرت الحَدِيث الطَّوِيل لِأَنِّي لَو كتبته بِطُولِهِ لم يعلم بعض من سَمعه وَلَا يفهم مَوضِع الْفِقْه مِنْهُ فاختصرت لذَلِك الْمُرْسل والاحتجاج بِهِ وَأما الْمَرَاسِيل فقد كَانَ يحْتَج بهَا الْعلمَاء فِيمَا مضى مثل سُفْيَان الثَّوْريّ وَمَالك بن أنس وَالْأَوْزَاعِيّ حَتَّى جَاءَ الشَّافِعِي فَتكلم فِيهَا وَتَابعه على ذَلِك أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره رضوَان الله عَلَيْهِم

ليس في الكتاب حديث عن متروك

فَإِذا لم يكن مُسْند غير الْمَرَاسِيل وَلم يُوجد الْمسند فالمرسل يحْتَج بِهِ وَلَيْسَ هُوَ مثل الْمُتَّصِل فِي الْقُوَّة لَيْسَ فِي الْكتاب حَدِيث عَن مَتْرُوك وَلَيْسَ فِي كتاب السّنَن الَّذِي صنفته عَن رجل مَتْرُوك الحَدِيث شَيْء يبين الْمُنكر وَإِذا كَانَ فِيهِ حَدِيث مُنكر بيّنت أَنه مُنكر وَلَيْسَ على نَحوه فِي الْبَاب غَيره موازنة بَينه وَبَين كتب ابْن الْمُبَارك ووكيع وَمَالك وَحَمَّاد وَهَذِه الْأَحَادِيث لَيْسَ مِنْهَا فِي كتاب ابْن الْمُبَارك وَلَا كتاب وَكِيع إِلَّا الشَّيْء الْيَسِير وعامته فِي كتاب هَؤُلَاءِ مَرَاسِيل

جمعه السنن واستقصاؤه

وَفِي كتاب السّنَن من موطأ مَالك بن أنس شَيْء صَالح وَكَذَلِكَ من مصنفات حَمَّاد بن سَلمَة وَعبد الرَّزَّاق وَلَيْسَ ثلث هَذِه الْكتب فِيمَا أَحْسبهُ فِي كتب جَمِيعهم أَعنِي مصنفات مَالك بن أنس وَحَمَّاد بن سَلمَة وَعبد الرَّزَّاق جمعه السّنَن واستقصاؤه وَقد ألفته نسقا على مَا وَقع عِنْدِي فَإِن ذكر لَك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنه لَيْسَ مِمَّا خرجته فَاعْلَم أَنه حَدِيث واه إِلَّا أَن يكون فِي كتابي من طَرِيق آخر فَإِنِّي لم أخرج الطّرق لِأَنَّهُ يكبرعلى المتعلم وَلَا أعرف أحدا جمع على الِاسْتِقْصَاء غَيْرِي وَكَانَ الْحسن بن عَليّ الْخلال قد جمع مِنْهُ قدر تِسْعمائَة حَدِيث وَذكر أَن ابْن الْمُبَارك قَالَ السّنَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْو تِسْعمائَة حَدِيث فَقيل لَهُ

يبين ما فيه وهن شديد

إِن أَبَا يُوسُف قَالَ هِيَ ألف وَمِائَة قَالَ ابْن الْمُبَارك أَبُو يُوسُف يَأْخُذ بِتِلْكَ الهنات من هُنَا وَهنا نَحْو الْأَحَادِيث الضعيفة يبين مَا فِيهِ وَهن شَدِيد وَمَا كَانَ فِي كتابي من حَدِيث فِيهِ وَهن شَدِيد فقد بَينته وَمِنْه مَالا يَصح سَنَده الْمَسْكُوت عَنهُ صَالح مَا لم أذكر فِيهِ شَيْئا فَهُوَ صَالح وَبَعضهَا أصح من بعض وَهَذَا لَو وَضعه غَيْرِي لَقلت أَنا فِيهِ أَكثر استقصاؤه وَهُوَ كتاب لَا ترد عَلَيْك سنة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِسْنَاد صَالح إِلَّا

قيمته ومقداره

وَهِي فِيهِ إِلَّا أَن يكون كَلَام استخرج من الحَدِيث وَلَا يكَاد يكون هَذَا قِيمَته ومقداره وَلَا أعلم شَيْئا بعد الْقُرْآن ألزم للنَّاس أَن يتعلموه من هَذَا الْكتاب وَلَا يضر رجلا أَن لَا يكْتب من الْعلم بعد مَا يكْتب هَذِه الْكتب شَيْئا وَإِذا نظر فِيهِ وتدبره وتفهمه حِينَئِذٍ يعلم مِقْدَاره أَحَادِيث كِتَابه أصُول الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة وَأما هَذِه الْمسَائِل مسَائِل الثَّوْريّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ فَهَذِهِ الْأَحَادِيث أُصُولهَا آراء الصَّحَابَة ويعجبني أَن يكْتب الرجل مَعَ هَذِه الْكتب من رَأْي أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَامع سُفْيَان وَيكْتب أَيْضا مثل جَامع سُفْيَان الثَّوْريّ فَإِنَّهُ أحسن مَا وضع النَّاس فِي الْجَوَامِع

أحاديث السنن مشاهير ولا يحتج بالغريب

أَحَادِيث السّنَن مشاهير وَلَا يحْتَج بالغريب وَالْأَحَادِيث الَّتِي وَضَعتهَا فِي كتاب السّنَن أَكْثَرهَا مشاهير وَهِي عِنْد كل من كتب شَيْئا من الحَدِيث إِلَّا أَن تمييزها لَا يقدر عَلَيْهِ كل النَّاس وَالْفَخْر بهَا أَنَّهَا مشاهير فَإِنَّهُ لَا يحْتَج بِحَدِيث غَرِيب وَلَو كَانَ من رِوَايَة مَالك وَيحيى بن سعيد والثقات من أَئِمَّة الْعلم وَلَو احْتج رجل بِحَدِيث غَرِيب وجدت من يطعن فِيهِ وَلَا يحْتَج بِالْحَدِيثِ الَّذِي قد احْتج بِهِ إِذا كَانَ الحَدِيث غَرِيبا شاذا فَأَما الحَدِيث الْمَشْهُور الْمُتَّصِل الصَّحِيح فَلَيْسَ يقدر أَن يردهُ عَلَيْك أحد وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ كَانُوا يكْرهُونَ الْغَرِيب من الحَدِيث

قد يوجد المرسل والمدلس عند عدم وجود الصحاح

وَقَالَ يزِيد بن أبي حبيب إِذا سَمِعت الحَدِيث فأنشده كَمَا تنشد الضَّالة فَإِن عرف وَإِلَّا فَدَعْهُ قد يُوجد الْمُرْسل والمدلس عِنْد عدم وجود الصِّحَاح وَإِن من الْأَحَادِيث فِي كتابي السّنَن مَا لَيْسَ بِمُتَّصِل وَهُوَ مُرْسل ومدلس وَهُوَ إِذا لم تُوجد الصِّحَاح عِنْد عَامَّة أهل الحَدِيث على معنى أَنه مُتَّصِل وَهُوَ مثل الْحسن عَن جَابر وَالْحسن عَن أبي هُرَيْرَة وَالْحكم عَن مقسم وَسَمَاع الحكم من مقسم أَرْبَعَة أَحَادِيث

وَأما أَبُو أسْحَاق عَن الْحَارِث عَن عَليّ فَلم يسمع أَبُو إِسْحَاق من الْحَارِث إِلَّا أَرْبَعَة أَحَادِيث لَيْسَ فِيهَا مُسْند وَاحِد وَأما مَا فِي كتاب السّنَن من هَذَا النَّحْو فقليل وَلَعَلَّ لَيْسَ لِلْحَارِثِ الْأَعْوَر فِي كتاب السّنَن إِلَّا حَدِيث وَاحِد فَإِنَّمَا كتبته بِأخرَة وَرُبمَا كَانَ فِي الحَدِيث مَا تثبت صِحَة الحَدِيث مِنْهُ إِذا كَانَ يخفى ذَلِك عَليّ فَرُبمَا تركت الحَدِيث إِذا لم أفقهه وَرُبمَا كتبته وبينته وَرُبمَا لم أَقف عَلَيْهِ وَرُبمَا أتوقف عَن مثل هَذِه لِأَنَّهُ ضَرَر على الْعَامَّة أَن يكْشف لَهُم كل مَا كَانَ من هَذَا الْبَاب فِيمَا مضى من عُيُوب الحَدِيث لِأَن

عدد أجزائها

علم الْعَامَّة يقصر عَن مثل هَذَا عدد أَجْزَائِهَا وَعدد كتب هَذِه السّنَن ثَمَانِيَة عشر جُزْءا مَعَ الْمَرَاسِيل مِنْهَا جُزْء وَاحِد مَرَاسِيل حكم الْمَرَاسِيل وَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمَرَاسِيل مِنْهَا مَا لايصح وَمِنْهَا مَا هُوَ مُسْند عَن غَيره وَهُوَ مُتَّصِل صَحِيح عدد أَحَادِيث كِتَابه وَلَعَلَّ عدد الَّذِي فِي كتابي من الْأَحَادِيث قدر أَرْبَعَة آلَاف وَثَمَانمِائَة حَدِيث وَنَحْو سِتّمائَة حَدِيث من الْمَرَاسِيل منهجه فِي الِاخْتِيَار فَمن أحب أَن يُمَيّز هَذِه الْأَحَادِيث مَعَ الْأَلْفَاظ فَرُبمَا يَجِيء حَدِيث من طَرِيق وَهُوَ عِنْد الْعَامَّة من طَرِيق الْأَئِمَّة الَّذين هم مَشْهُورُونَ غير أَنه رُبمَا

طلبت اللَّفْظَة الَّتِي تكون لَهَا معَان كَثِيرَة وَمِمَّنْ عرفت نقل من جَمِيع هَذِه الْكتب فَرُبمَا يَجِيء الاسناد فَيعلم من حَدِيث غَيره أَنه غير مُتَّصِل وَلَا يتبينه السَّامع إِلَّا بِأَن يعلم الْأَحَادِيث وَتَكون لَهُ فِيهِ معرفَة فيقف عَلَيْهِ مثل مَا يرْوى عَن ابْن جريج قَالَ أخْبرت عَن الزُّهْرِيّ وَيَرْوِيه

اقتصاره على الأحكام

البرْسَانِي عَن ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ فَالَّذِي يسمع يظنّ أَنه مُتَّصِل وَلَا يَصح بتة فَإِنَّمَا تَرَكْنَاهُ لذَلِك هَذَا لِأَن أصل الحَدِيث غير مُتَّصِل وَلَا يَصح وَهُوَ حَدِيث مَعْلُول وَمثل هَذَا كثير وَالَّذِي لَا يعلم يَقُول قد تركنَا حَدِيثا صَحِيحا من هَذَا وَجَاء بِحَدِيث مَعْلُول اقْتِصَاره على الْأَحْكَام وَإِنَّمَا لم أصنف فِي كتاب السّنَن إِلَّا الْأَحْكَام وَلم أصنف كتب الزّهْد وفضائل الْأَعْمَال وَغَيرهَا

فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة آلَاف والثمانمائة كلهَا فِي الْأَحْكَام فَأَما أَحَادِيث كَثِيرَة فِي الزّهْد والفضائل وَغَيرهَا من غير هَذَا لم أخرجه وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل

§1/1