رسائل في اللغة (رسائل ابن السيد البطليوسي)

ابن السِّيد البَطَلْيَوسي

الرسالة الأولى: جواب اعتراضات ابن العربي على شرح ابن السيد البطليوسي لديوان أبي العلاء المعري

الرسالة الأولى: جواب اعتراضات ابن العربي على شرح ابن السيد البطليوسي لديوان أبي العلاء المعري

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم تسليما أخبرني الفقيه النحوي أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي بهذا الجزء قراءة مني عليه، قلت له: قلت - رضي الله عنك -: إن أولى ما ابتدى به كل ذكر وافتتح، وأحجى ما تيمن به في كل أمر واستنجح، ذكر الله تعالى، ثم الصلاة على رسوله المصطفى الذي هدانا بهداه، وعلمنا ما تقصر عقولنا عن بلوغ أدناه، وأهدى إلينا الاستبصار مفروغا منه، ولم يحوجنا إلى البحث بالمقاييس عنه، نشكره شكر المعترف بالعجز عن شكر نعماه، ونسأله أن يوفقنا إلى ما يزلف إليه ويرضاه، ونستعيذ به من وساوس الصدور، وسوء عواقب الأمور. رأيت - أراك الله منهج الحق وسننه، وجعلك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اعتراضات ابن العربي علينا في شرح شعر المعري، ولسنا ننكر معارضة المعارضين، ومناقضة المناقضين، فإنها سبيل العلماء المعروفة وطريقهم المألوفة: (ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلا أن تعد معايبه) وإنما ننكر من أمر هذا الرجل - وفقنا الله وإياه إلى صالح العمل - أنه تسعف وما

أنصف، وجاء في المعارضة والخلاف، بأشياء استظرفتها غاية الاستظراف. وذلك أنه وجد أبياتا أفسدها ناسخ الديوان، بالزيادة والنقصان، فعادت مكسور الأوزان، ونبت العين عما فيها من الشين، فنبه عليها في طرر الكتاب، وبين فيها وجه الصواب. كأنه توهم - عفا الله عنه - أننا من الطائفة التي لا تقيم الشعر، ولا تحسن شيئا من النظم والنثر. وكذلك وجد خطأ من الناسخ في بعض الأحرف، فظنه من قبل المؤلف المصنف، فتفضل بأن نبه عليه في طرر الكتاب، فحصلنا عنده في مرتبة من لا يقيم وزن الشعر ولا يحسن الإعراب. ولولا أن يظن بنا هذا الرجل - وفقه الله - عجزا من الانتصاف والانتصار، كما توهم علينا الجهل بالإعراب وكسر الأشعار، لصمتنا عن مراجعته صمت الرخم، ولم نتشاغل يتصرف لسان في مجاوبة ولا قلم. ولكن سوء معاملته أحوج إلى الكلام، ولو ترك القطا ليلا لنام، وقد الله تعالى: {وعسى أن تكرهوا سيئا وهو خير لكم} [البقرة 2: 216] ثم قال أبو الطيب: (رب أمر أتاك لا تحمد الفعـ ... ـعال فيه ونحمد الأفعال) (وقسى رميت عنها فردت ... في نحور الرماة عنها النصالا) فأول ما نقوله لهذا الرجل - وفقنا الله وإياه-: إن كان ما يجري مجرى السهو ويعد من اللغو، يحسب من الذنوب، ويعتد به في العيوب، فقد كتبت بخطك في معارضتك إيانا أشياء صحفت فيها وحرفت، وكسرت صحيح الوزن، ولحنت أقبح لحن، فنحن نتوخى فيها معك مناقشة الحساب، ونعاتبك أشد ما يكون من العتاب:

(فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها ... وأول راض سيرة من يسيرها) ولقد أذكرني أمري معك حكاية الصولي - رحمه الله - قال: كتبت إلى بعض إخواني كتابا، فورد على جوابه يقول فيه: ورد في كتابك وقد أعبت عليك حرفا فراجعه. وأفاني جوابك ووقفت عليه، وقد عبت عليك قولك "أعبت"، وهذا حين نبدأ للمناقشة، ونتهيأ للمخاصمة". وجدناك - أعزك الله - لما انتهيت إلى قول المعري: (أراني في الثلاثة من سجوني ... فلا تسأل عن الخبر النبيث) (لفقديناظري ولزوم بيتي ... وكون النفس في الجسد الخبيث) كتبت في الطرة منكرا لروايتنا، متوهما للتصحيف علينا الذي قرأناه: "شجوني" - بالشين المعجمة - فأي مدخل ههنا لـ "الشجون" - أبقاك الله -؟ ! وهل هذا إلا من التصحيف الطريق؟ ! إنه وصف المعري أنه مسجون في ثلاثة سجون، ثم فسر

السجون فجعل جسمه سجنا لنفسه، وبيته سجنا لشخصه، وعماه سجنا لبصره، لأنه كان يرى أن النفس معذبة بكونها في الأجسام، وأن رأحتها في مفارقتها عند الحمام. وبنحو من هذا المنزع سمى نفسه رهين المحبسين. وقد كرر هذا المعنى في مواضع كثيرة من شعره استحسانا له، وإن لم يستوف هذا الغرض كله. فمنها قوله: (أتحدث للأرواح راحة مطلق ... إذا فارقن، إن الجسوم سجون؟ ) ومنها قوله: (أتأسى النفس للجثمان تبلى ... وهل يأسى الحيا لفراق دجن) (وما ضر الحمامة كشر ضنك ... من الأقفاص كما أصر سجن) ووجدنا من لحنك وتصحيفك أنك لماوصلت إلى قول المعري: (ولولا حفاظي قلت للمرء صاحبي ... [بسيفك] قيدها فلست أبالي)

أنكرت قولنا وكتبت في الطرة قول ابن مقبل اقعد به: (يا صاحبي على ثاد سبيلكما ... علما يقينا الما تعلما خبري؟ ) (إني أقيد بالمأثور راحلتي ... ولا أبالي لو كنا على سفر) فاستطرفنا ما كتبته جدا، لأنك أردت أن تخطئنا من وجه واحد فأخطأت أنت من أربعة وجوه: أحدها: أنك كتبت "ثأد" بدال غير معجمة، وهمزت الألف، وإنما هو "ثاج" - بالجيم غير مهموز، وهو ماء لخثعم. وفيه قول الشاعر: (يا دار مية بالخفين من ثاج ... سقيت أخلاف هامي الودق ثجاج)

والوجه الثاني: أنك كتبت "يا صاحبي" وإنما هو "يا جارتي"، كذا في شعر ابن مقبل. ويدل على صحة ذلك قوله قبل البيت: (قالت سليمي ببطن القاع من سرع ... لا خير في العيش بعد الشيب والكبر) (واستهزأت تربها مني فقلت لها ... ماذا تعيبان مني يا ابنتي عصر) (لولا الحياء وباقي الدين عبتكما ... ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري) (ما أنتما والذي خالت حلومكما ... إلا محيران إذ يسري بلا قدر) ثم قال: يا جارتي، وعنى بالجارتين سليمي وتربها المتقدمتي الذكر. والوجه الثالث: أنك قلت: "ولو كنا على سفري"؛ فأثبت ياء بعد الراء وكأنك توهمت أنه أضاف السفر إلى نفسه، وتأنقت في تعريق الباء غاية التأنق ليتحقق خطؤك غاية التحقق. وليس بعد هذه الراء إلا ياء الإطلاق، وهي ياء تزاد بعد حرف الروي للترنم إذا كان مكسورا، كما تزاد بعده واو إذا كان مضموما وألف إذا كان مفتوحا. ولا تصور [في] الخط من هذه الأحرف الثلاثة إلا ألف، وسبيلها سبيل التنوين، نحو قول جرير:

(أقلي اللوم عاذل والعتابا ... وقولي إن أصبت: لقد أصابا) والوجه الرابع: أنك قلت: معنى بيت ابن مقبل: "أقعد" بمعنى بيت أبي العلاء. وهو لا يشبه إلا في ذكر التقييد بالسيف لا غير؛ لأن ابن مقبل أراد أن يعرقبها للأضياف جودا وكرما، وأراد المعري عرقبتها ضجرا من نزاعها إلى أوطانها وتبرما. وإن غلطك في هذا لعجيب، لأن الشعر يدل على ما قلناه دلالة لا تخفى على متأمل. ووجدناك من خطئك أنك لما وصلت إلى قوله: (فلولاك بعد الله ما عرف الندى ... ولا ثار بين الخافقين قتام) انكرت قولنا: إن الخافقين هما المشرق والمغرب، وكتبت في طرة الكتاب، لتعلمنا بوجه الصواب: المعلوم أن "الخافقان": جانبا الأرض من الهواء، فأردت أن تخطئنا من وجه واحد فأخطأت أنت من ثلاثة أجوه، أحدها: أنك رفعت "الخافقين" وهما منصوبان بـ"أن"، ثم صححت عليها فكان تصحيحك على اللحن أشد من اللحن. والوجه الثاني: أنك جعلت قولنا غير معروف وقولك هو المعروف. وهذا من المقلوب الذي قلناه نحن هو يعقوب بن السكيت في إصلاح المنطق. وقال مثله أيضا في كتابه "المثنى والمكنى والمبنى". وكذلك قال أبو عبيد وأبو حاتم.

وكذلك قال الأصبهاني في كتاب "أفعل من كذا"، وقولك هو الذي ليس بمشهور لا قولنا. والوجه الثالث من خطئك في هذه المسألة: أنك رأيت شيئا ولم تحسن العبارة عنه، أو رأيته في كتاب من لم يحسن إيراده فحكيت قوله. وحقيقة هذا - أبقاك الله - أن هذه المسألة من المسائل التي أنكرها بعض اللغويين على يعقوب وقال: لا يصح أن يقال للمشرق والمغرب: خافقان، لأن الخافق هو [الهواء] المتحرك المضطرب، والمشرق والمغرب لا يوصفان بالاضطراب، إنما يضطرب الهواء فيهما أول الليل والنهار، فإنما ينبغي أن يقال لهما: مخفقان لا خافقان، كما يقال لموضع الضرب: مضرب، ولموضع الغرس: مغرس، وهكذا يقال للقفر الذي يخفق فيه السراب. قال رؤية: (ومخفق من لهله ولهله) وهذا الذي قاله هو المعترض على يعقوب حكاه من وجهين: أحدهما: أن يعقوب لم يقله وحده، يل قاله جماعة غير يعقوب. والثاني: أن العرب قد تأتي بالمفعول به والمفعول فيه على صيغة فاعل، كقولهم: ماء دافق، وعيشة راضية،

وسر كاتم، ونهارك صائم، وليلك قائم. ولو جمع هذا النوع لجاء منه جزء ضخم، فمنه قول جرير: (لقد لمتنا يا أم غيلان في السري ... ونمت وما ليل المطي بنائم) وقال علقمة: (فظل الأكف يختلفن بخاند ... إلى جؤجؤ مثل المداك المخضب) ووجدناك - أبقاك الله - لما انتهيت إلى قول المعري: (وغيض السير عينيها فلو وردت ... نطافها الطير لم تشرب بلا شطن) أنكرت "النطاف" وكتبت في الطرة: "جميمها" روايته وصوابه. ونحن نقول: بل هذا انقلاب معناه وفساده. أي مدخل للجميم في هذا الموضوع؟ وإنما المشهور في الجميم أنه من صفة النبات لا من صفة الماء. قال أهل اللغة: تسمى البهمى قبل

انعقاد ثمرتها جميما، فإذا انعقدت ثمرتها فهي بسرة، فإذا صارت كاللوزة قيل لها: صمعاء، وأنشدوا: (رعت بارض البهمى جميما وبسرة ... وصمعاء حتى اثقبتها نصالها) فأي مدخل لهذا في هذا الموضع؟ وإن كنت ذهبت إلى أن الجميم هو الماء المجتمع بمنزلة الجمة والجمام فذاك خطأ أيضا، لأن الماء لا يسمى بهذا الاسم إلا إذا جم وكثر لعد الاستسقاء منه، وعين الإبل عند الغؤور لا تشبه بالماء الكثير، إنما تشبه بالثمد من الماء، والنطاف: البقايا منه؛ ولذلك قال المعري في قصيدة أخرى: (كأنا توقت وردنا ثمد عينها ... فضم إليه ناظريها جبينها) فذكر الثمد وهو كالنطفة.

وقال القطامي: (خوصا تدير عيونا ماؤها سرب ... على الخدود إذا ما اغرورق المقل) (لواغب الطرف منقوبا حواجبها ... كأنها قلب عادية مكل) فشبه عيون الإبل حين غارت بآبار قديمة جف ماؤها. وقال العجاح: (كأن عينيه من الغؤور ... قلتان في جوف صفا منقور) (أذاك أم حوجلتا قارور ... غيرتا بالنضج والتصيير) وقال الشماخ - ووصف حمير وحش-: (فظلت بأعراف كأن عيونها ... إلى الشمس هل ترتو - ركي نواكز)

ووجدناك لما وصلت بالمطالعة إلى قول المعري: (ثلاثة أيام هي الدهر كله ... وما هن غير اليوم والأمس والغد) وجدت "غير" في البيت مرفوعا فأثبته في الطرة منصوبا، وضبطت النصب ضبطا محكما، فما الذي حاولته بما فعلت؟ أحسبت أن الرفع لا يجوز أم أردت أن "ما" يجوز نصب خبرها ورفعه؟ إن هذا لمن أعجب الأعاجيب. ولقد أحسن القائل إذ يقول: (وهلك الفتى ألا يراح إلى الندى ... وألا يرى شيئا عجيبا فيعجبا) ووجدناك لما وصلت بالمطالعة إلى قوله: (ولم يثبت القطبان فيه إلا تخيرا ... وما تلك إلا وقف عن تبلد) ولم ترض بقولنا الذي قلناه، وكتبت: ما لنا ولهذا الاقتحام؟ ! وما أراد أن يصف طول الليل وثبوت النجم بثبوت القطبين وعدم الحركة؛ كما قال الكندي:

(كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل) فما هذه الغفلة الشديدة؟ ! وهلا تأملت ما تقوله تأمل من يفكر في انتقاد المنتقدين واعتراض المعترضين؟ هذا الكلام فيه خطأ من وجهين: أحدهما: من جهة تنظير بيت المعري ببيت الكندي وغرض الشاعرين مختلف، وإن كان بين البيتين بعض المناسبة، لأن الكندي إنما أراد وصف طول الليل وثبات النجم، ولم يتعرض لذكر قطب ولا وصف قمر، والمعري لم يقصد في بيته إلى ذكر نجوم ولا وصف ليل، وإنما وصف قفرا مخوفا يفزع منه كل من يمر به من هوله. فعظم أمره بأن ذكر أن ثبات القطبين فيه ليس باختيار منهما وإنما هو من أجل أنهما فزعا من هول هذا القفز فوقفا وقفة حائر. ألا ترى أن قبله: ([خرق يطيل الجنح فيه سجوده ... وللأرض زي الراهب المتعبد) (ولو نشدت نعشا هناك بناته ... لماتت ولم تسمع له صوت منشد) (وتكتم فيه العاصفات نفوسها ... فلو عصفت بالنبت لم يتأود)

وقد يستحسن هذا المعنى ويصرفه في شعره كثيرا كقوله: (كأن الصبا فيه تراقب كامنا ... يسور إليها من خلال إكامه) (يمر به راد الضحى متنكرا ... مخافة أن يغتاله بقتامه) (بلاد يضل النجم فيها سبيله ... ويثنى دجاها طيفها عن لمامه) وإنما عرضت لك هذه الشبهة فيه لذكره الجنح وسجوده فحسبته يصف ليلا، وإنما يصف قفرا، وجعل من جملة هوله طول ليله، وليس يوجب ما عرض من وصف الليل في وصف القفر أن يقال: إنه وصف ليلا. كما أن ذكره ضلال النجم عن سبيله وصرف دجا هذه البلاد الطيف عن لمامه لا يوجب أن يقال: وصف الليل والنجوم، فهذا أحد الخطأين. وأما الخطأ الثاني فقولك: إنه أراد ثبوت النجوم لثبوت القطبين؛ لأن ثبوت القطبين لا يوجب ثبوت النجوم؛ لأنها أبدا ثابتة والفلك دائر، والنجوم طالعة وغاربة، وهذا كلام من لا يحسن علم الهيئة. ورأيناك لما وصلت إلى قول المعري:

(فلك دائر أبى فتياه ... ونية، أو يفقر الفتيان) كتبت في الطرة "يفرق" بالرفع، فما هذا الغلط؟ أليست "أو" هذه هي التي تنصب بعدها الفعل المضارع في نحو قولك: لألزمنك أو تقضيني حقي، ولأسيرن في البلاد أو استغنى، وقول أمرئ القيس: (فقلت له: لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا؟ ) وكذلك رأيناك لما وصلت بالنظر إلى قول المعري: (فكأني ما قلت والليل طفل ... وشباب الظلماء في العنفوان) (ليلتي هذه عروس من الزنج عليها قلائد من جمان) كتبت في الطرة: "صوابه وروايته: والبدر طفل"، وحكيت عن شيخك أنه فسره فقال: يعني أول الشهر. وقد رأيت في الرواية في بعض النسخ "السقط" فلم أعرض عليها وأنزلتها منزلة الغلط؛ لأنه كلام متناقض، وذلك أنه لا يصح أن يوصف بالطفولية إلا الهلال، لأنه في أول نشئه. وأما البدر فلا يجب أن يقال له: طفل، لأن اسم البدر إنما يقع في حال تمامه وامتلائه. فمن سمى البدر طفلا كان كمن سمى الكهل صبيا، والتام ناقصا، فلا يصح أن يسمى البدر طفلا ولا هلالا، كما لا يصح أن

يسمى الهلال بدرا، وأما الليل فإنه يشبه في أول انبعاثه بالطفل، وفي حين انتصافه واستحكام ظلامه بالكهل، وفي حال إدباره بالشيخ، وفي ذلك كثير من الشعر. فمن مليح ما جاء في ذلك قول أبي فراس: (لبسنا رداء الليل راضع ... إلى أن تردى رأسه بمشيب) فجعل الليل في أوله كالطفل الرضيع، وفي آخره كالشيخ الأشيب. وقد وصفه أبو العلاء بالاكتهال في قصيدة أخرى فقال: (من الزنج كهل شاب مفرق رأسه ... وأوثق حتى نهضه متثاقل) وقد ألممت ببعض هذا المعنى استحسانا له فقلت: (ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شبت، أم في الجو روض بهار؟ ) (كأن الليل الشفع في الأفق جمعت ... ولا فضل فيما بينها لنهار) ومما يدل على أن ذكر البدر هنا غلط خروجه من التشبيه المذكور في البيت الذي بعده؛ لأنه شبه الليلة بسوداء، وشبه النجوم بقلائد الجمان ولم يشبه البدر ولا الهلال بشيء. ورأيناك قد زدت في القصيدة المهموزة بيتا فاسد الوزن، وهو:

(أنت يا آد! آدم السرب حواؤك فيه حواء أو أدماء) وهذا البيت إنما أسقطناه من الشعر متعمدين لإسقاطه لما فيه من الاستخفاف بآدم - صلى الله عليه - وهكذا فعلنا بكثير من شعره، وإنما ذكرنا منه ما لم له تأويل حسن، فكيف أفسدت علينا الكتاب بإثباته فيه وكان يجب أن تتنزه عنه كما تنزهنا؟ وقوله: "يا آد! " أراد: يا آدم فرخمه. وأما معناه فلا حاجة بنا إلى ذكره، فاذكره أنت إن شئت كما ألحقته. ورأيناك لما وصلت إلى قوله: (هذه الشهب خلتها شبك الدهر لها فوق أهله إلماء) وقرأت تفسيرنا له فوجدتنا قد قلنا: إنه أراد أن الفلك محيط بالخلق والخلق في قبضته لا يقدرون على الخروج منه، فكأنه لما فيه من النجوم المشتبكة شبكة أرسلها قانص على صيد فهو يضطرب فيها ولا يقدر على التخلص منها، فحملك قلة التثبت على أن كتبت في الطرة: هذا اللفظ لا يطلق إلا على الله - تعالى - ونسيت قول الله - على أن كتبت في الطرة: هذا اللفظ لا يطلق إلا على الله - تعالى - ونسيت قول الله - عز وجل: {يا معشر الجن والإنس إن استطتعم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانقذوا لا تنفذون إلا بسلطان} [الرحمن 55: 33] فوصف تعالى أن الخلق في قبضة الفلك لا يقدرون على الخروج منه، فلم يزد الشاعر على معنى الآية أكثر من تشبيه الفلك بالشبكة. فإن أنكرت أن يكون الفلك هو السماء بعينها أوجدناك. ذلك في القرآن العزيز، قال الله - جل من قائل -: {تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا} [الفرقان 25: 61] وقال تعالى: {ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجع الشمس سراجا} [نوح 71: 15 - 16] فذكر في هاتين الآيتين العزيزتين أن الشمس والقمر في السماء. ثم قال في آية أخرى: {ولا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون] [يس 36: 40] فنتج

من مجموع هذه الآيات أن الأفلاك [هي] السموات. ولما وصلت إلى قوله: (وإني لمئر يا بن آخر ليلة ... وإن عز مالي فالقنوع ثراء) وجدت الناسخ قد عظم الراء فصارت كالنون، فنبهت عليه في الطرة أنها "مثر" لا "مثن". فهلا تأملت - أبقاك الله - الشرح فيكون لك فيه كاف ومغن؟ ! ولكن صدق الله - تعالى - إذ يقول: {خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء 21: 37]، وكذا فعل في مواضع كثيرة كتبت في الطرة ما كنت غنيا عن كتابته لو تأملت الشرح كفعلك حين وصلت بالمطالعة إلى قول المعري: (بالله يا دهر أذق غرابها ... موتا من الصبح بباز كرز) فإن وجدت الباء من "باز" قد سقطت عليها نقطة فتوهمت أنا رويناه: "ناز - بالنون - فكتبت في الطرة: "صوابه بباز". فهلا قرأت الشرح فوجدت كلامنا على البازي، وتمثيلنا هذا البيت بقول تميم بن المعز؟ :

(وكأن الصباح في الأفق باز ... والدجي بين مخلبيه غراب) ما هذا الحيف - أبقاك الله - في الحكم، والميل إلى حيز الظلم؟ أظننتنا جهالا بهذا القدر، كما توهمت أننا ممن يكسر وزن الشعر، هل دلك كتابنا هذا على أن لنا حظا من كثير من العلوم، وتصرفا في الحديث منها والقديم؟ وقد ضمنا معنى بيت المعري في شعر صنعناه أيام الصبا، وقبل أن يعظنا واعظ النهي، ونحن نستغفر الله منه، ونسأله التجاوز عنه، وهو: (يارب ليل قد هتكت حجابه ... بمدامة وقادة كالكوكب) (يسعى بها أحوى الجفون كأنها ... من خده ورضاب فيه الأشنب) (بدران: بدر قد أمنت غروبه ... يسعى ببدر جانح للمغرب) (فإذا نعمت برشف بدر غارب ... فانعم برشفة طالع لم يغرب) (حتى ترى زهر النجوم كأنها ... حول المجرة ربرب في مشرب)

(والليل منحفز يطير غرابه ... والصبح يطرده بباز أشهب) ورأيناك لك - أبقاك الله - تصحيفا طريفا في قول المعري: (تحلي بأسنى الحلى واجتلبى الغنى ... فأفضل من أمثالك النفر الشعث) (يسيرون بالأقدام في سبل الهدى ... إلى الله حزن ما توطأن أو وعث) (وما في يد قلب، ولا اسؤق برا ... ولا مفرق تاج ولا أذن رعث) ثم كتبت عليه: "هذا وهم"، وصوابه: "واجتنبى الغنا". وكتبت على الحلي: "الخلق"، وكتبت: المعنى مفهوم وعليه يدل ما بعده وخاصة الثالث من الأبيات. وليس لذكر الخلق واجتنال الغنى مدخل في هذا الشعر، ولا علم كيف قام ببالك أن البيت الثالث يدل على استحالو ذكر التحلي بالحلة واجتلاب الغنى في البيت الأول؟ إلا أن تكون توهمت أنه نفى القلب و"البرا" والتاج والعرث عن المرأة المخاطبة، وليس كذلك، وإنما نفى هذه الأصناف من الحلى عن النفر الشعث، وأراد بهم الحجاج فقال: الحجاج الشعث الذين لا يستعملون شيئا من أصناف الحلى زهادة في الدنيا، وانقطاعا إلى الله - تعالى - أفضل منك ومن أمثالك ممن يتحلى بالحلى، ويجتلب أخلاف الغنى، ويظن الفضل في ذلك. وكذلك فعلت في قول المعري:

(يا راعي المصر ما سومت في دعة ... وعرسك الشاة فاحذر جارك الذيبا) كتبت مكان في "دعة" في "رغد" وليس للرغد هنا مدخل، إنما هو تصحيف تصحف من (الدعة). ومعنى الشعر يقتضي "الدعة"، لأنه يقول: يا راعي المصر! أراك ترسل شاتك وتظن أنك من أمن من الذئاب فكن على حذر وخوف لا على دعة وأمن، فإن جارك ذئب يأكلها إن كان منك لها تسيب. وأما قول المعري: (هجر العراق تطربا وتغربا ... ليفوز من سمط العلا بغرابه) فإني رأيتك قد أنكرت كسر (الغين) من "غراب" وما فسرناه، وكتبت في الطرة: هو ضرب من الحلى: فلبتك إذ كتبت هذا زدت أنه مضموم الغين فيسلم اعتراضك من الخطأ. ولكنك شرحت "الغراب" المكسور الغين بأنه نوع من الحلى فلم يقم اعتراضك بخطئك. وهذا النوع من الحلى إنما يقال له: غراب - مضموم العيم - وصورته صورة "الغراب" كما قالوا لنوع منه: "أرنب" لكونه على شكل الأرنب، ولنوع منه: "نخل" لكونه على شكل النخل، قال رؤية: (وعلقت من أرنب ونخل) وقد أولع الناس بروايته مضموم الغين وعندنا فيه رواية صرفتنا عن ذلك. أخبرنا أبو الفضل البغدادي شيخنا في شعر أبي العلاء، قال: جرى بيني وبين رجل ببغداد

تشاجر في هذا البيت فضم "الغين" وأبيت أنا إلا كسرها، وقلت له: ليس للغراب الذي يراد به الحلى من الفضيلة ما يوجب تخصيصه بالذكر وإنما الوجه بـ"غرابه- مكسور الغين - أي أنه فاز بالغريب من الحلى الذي لا نظير له فيكون جمع غريب أو غريبة، وهو مدح لأنه يدخل في كل حلى نفيس. فذكر أنه بالضم، رواه عن المعري. قال: فلما لقيت المعري أخبرته مما جرى فقال: أنا مسرور لحسن فهمك، بورك فيك! الكسر أفخم للمعنى وأمدح للفتى، فلا تروه عني إلا هكذا. ورأيناك لما انتهيت إلى قول المعري: (وإن يك وادينا من الشعر واحدا ... فغير خفي أثله من ثمامه) أنكرت "الأثل" وعوضت عنه "النبت"، وهذا تصحيف؛ لأن الثمام نوع من النبت. وإنما كان يصح ما ذكرت لو كان النبت اسما واقعا على غير الثمام. وإنما يستقيم الذي قصده بذكر "الأثل"؛ لأنه قال للممدوح: "منزلة شعرك من شعري في الفضل كمنزلة "الثمام" من "الأثل"؛ لأن "الأثل" شجر قوي، و"الثمام" شجر ضعيف". وكذلك لما وصلت إلى قول المعري: (متى يقول صاحبي لصاحبي ... بدا الظلام موجزا فأوجز) ذكرت أن الصواب "بدا الصباح"، وهو خطأ؛ لأنه قد ذكر الصباح في البيت الذي

بعده، وهو قوله: (ويطلع المصبح وفوق جفنه ... من النجوم حلية لم تخرز) وإنما أراد إشراف الظلام على الذهاب وأخذه في الانحفاز، فلذلك استعار له لفظة الإيجاز. ونحو منه قوله في قصيدة أخرى: (وقد اعتدى والليل يبكي تأسفا ... على نفسه والنجم في الغرب مائل) فوصفه الليل بالبكاء على نفسه نظير وصفه بالإيجاز. وكذلك لما وصلت إلى قوله: (عن لاعج باتوا برملة عالج ... في ربوتي عود كظهر الفالج) ذكرت أنك رويته عن شيخك أبي زكريا: "ربوتي عور" والأمر في هذا أمم؛ لأنه يحتمل الوجهين وليس كالتصحيفات المتقدمة. وما روينا عن شيخنا أبي الفضل البغدادي وعبد الدائم القيرواني: إلا "ربوتي عود"، والعود: الطريق القديم، شبه بالعود من الرجال والإبل وهو الكبير المسن، قال الراجز:

عود على عود على عود خلق أي: شيخ مسن على جمل مسن على طريق قديم. ووصف الطريق بالسن إشارة إلى قدمه وبلاه من كثرة سلوك السالكين له، وما الذي أفدتنا - أعزك الله - أن كتبت على قول المعري حين وصلت إليه: (بأشنب معسول الغريزة مقسم ... لسائفه إن القسيمة متفال) إن معطارا أشبه من "معسول"، ونحن قلنا في شرحه: إن معطارا أحسن لما فيه من الطباق، وهلا تأملته فلا تحتاج إلى تكلف ما كتبته؟ إنما يستدرك على المؤلف ما غلط فيه أو غفل عن ذكره. وكذلك لما وصلت إلى قوله: (طويت الصبا طي السجل وزادني ... زمان له بالشيب حكم وإسجال) أنكرت (زادني) - بالدال) -، وكتبت (زارني) - بالراء - وما نعرفه إلا "زادني" - بالدال - ومعناه صحيح. إنما أراد به طوى ثوب صباه في حال الصغر، وزاده رغبة في طيه الشيب الوارد عليه عند الكبر فعف في حالتي صغره وكبره وامتنع من نيل

لذاته ووطره، وهذا معنى حسن، لأن النسك المحمود أن يعف الإنسان وسربال شبابه جديد ومحبوبه مطاوع له على ما يريد، وذكر هذا في موضع آخر فقال: (تنسكت بعد الأربعين ضرورة ... ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ) (وكيف ترجي أن تثاب وإنما ... يفضل نسك المرء والمرء شارخ) ونحو قول أبي فراس الحمداني: (عفافك غي إنما عفة الفتى ... إذا عف عن لذاته وهو قادر) وقال أبو الطيب المتنبي: (يرد يدا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصى الهوى في طيفها وهو راقد)

ورأيناك - أعز الله - لما أنتهى بك النظر إلى قوله: (فذكرني بدر السماوة بادنا ... شفا لاح من بدر السماوة بال) انكرت "السماوة" الثانية وكتبت: "السماءة" - بالهمز - فلم أنكرتها علينا؟ أحسبت أنها لا تقال أم حسبت أنها أليق بالبيت؟ وكلا الأمرين لنا الظهور عليك؛ لأن أهل اللغة حكوا أنه يقال: سماء وسماءة - بالهمز - وسماوة بالواو، وسماة على وزن "قطاة". فمن قال: سماءة فهمز بناها على سماء كما همزت السماء. ومن قال: سماوة - بالواو - بناها على الفعل الذي هو سما يسمو، وهذا كما يقال: امرأة سقاءة وسقاية فمن همز بناها على سقاء ومن لم يهمز بناها على سقيت، فهذا ما فيها من طريق اللغة. وأما من طريق الترجيح بين اللفظتيبن؛ فإن السماوة أحسن لوجهين: أحدهما: أنه أفصح اللغتين، لأنها أكثر استعمالا، وأوسع مجالا. ويدل على ذلك أنهم قالوا في الجمع: سماوات، وبذلك قرأ القراء ولا يكادون يقولون: سماءات. والوجه الثاني: أنها أليق بالبيت لما تقدم في صدره من ذكر السماوة الأخرى، فأفسدت على الرجل التجنيس الذي جرى إليه، وحام فكره عليه، فما هذا الخلاف والعناد؟ ! وأين النظر الحسن والانتقاد؟ ّ ورأيناك - أعزك الله - لما وصلت إلى قول المعري: (ذكي القلب يخضبها نجيعا ... بما جعل الحرير لها جلالا)

قرأت شرحنا للبيت قراءة منتقد، وتتبعه طالب للعثرات مجتهد، فوجدتنا قد قلنا إن هذه الباء تسمى باء الجزاء وباء البدل وباء العوض، فكتبت في طرة الكتاب متوهما أنك ظفرت بتمرة - الغراب: أين الجزاء؟ وإنما المعنى أنه أكرمها بأن صير جلالها حرير استجاز أن يتبعها في الحرب حتى تختضب بالدم. وقد أخطأت - أبقاك الله - من وجهين: أحدهما: أنا لم ترد أن هذه الباء تكون بمعنى الجزاء في كل موضع، وإنما أردنا أن نبين مواضعها من كلام العرب. والثاني: أن هذا البيت لا يستنكر أن يكون فيه معنى الجزاء مضمنا على وجه نذكره: أما كون هذه الباء بمعنى الجزاء فكقول العرب: هذه بتلك والبادئ أظلم، وقوله الله تعالى: {ذلك بما قدمت يداك} [الحج 22: 10] وكقولهم في المثل السائر: "يوم بيوم الخفض المجور". وأما كونها بمعنى العوض والبدل، فكقول طرفة: (بما قد أرى الحي الجميع بغبطة ... إذا الحي حي والحلول حلول) وقول الآخر

(فلئن كنت لا تحير جوابا ... لبما قد ترى وأنت خطيب) وأما تضمن بيت أبي العلاء لمعنى الجزاء؛ فوجهه أن يكون من المقلوب، وقد أراد أنه جعل لها الحرير لما يخضبها نجيعا؛ أي: أنه يحسن إليها مجازاة على اختضابها بالدم في محاربة أعدائه. والقلب كثير في الكلام المنثور والشعر المنظوم، كقولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي، وأدخلت الخاتم في إصبعي، وإنما الوجه: أدخلت رأسي في القلنسوة، وإصبعي في الخاتم. وكذلك يقولون: أعطي درهم زيدا، والوجه: أعطي زيد درهما. ومنه قول الفرزدق: (غداة أحلت لابن أصرم طعنة ... حصين عبيطات السدائف والخمر) وقد جاء المعري بهذا المعنى غير مقلوب في قصيدة أخرى: (غذاهن محمر النجيع قوارحا ... بما قد غذاهن الضريب مهارا) كذلك وقع في بعض نسخ "سقط الزند"، وفي بعضها "كما". وقد يمكن أن يظن بيت المعري غير مقلوب فيكون قد أراد أن الخيل تختضب بالنجيع في مرضاته مكافأ له على إحسانه إليها، فيقول كقول مالك بن نويرة: [الطويل]

(جزاني دوائي ذو الخمار وصنعتي ... بما بات أطواء بني الأصاغر) ورأيناك - أكرمك الله - لما انتهيت بالقراءة إلى قول المعري: (ومازالت الحمر الرواهن للقرى ... تكش غمات الوجوه القواتم) كتبت في الطرة: "الصواب: الزواهر"، وهذه لفظة وجدناها مفسرة عن المعري أنها الثابتة المقيمة، كما قال الشاعر: (والماء والخبز لهم راهن) وقوله: "للقرى" يبين ذلك، أي أنها محبوسة للقرى وقف عليه، كما قال الشاعر: (حبسنا فلم نسرح - لكيلا يلومنا ... لنفريه صبرا - معودة الحبس) وقول الآخر: (وأموالنا وقف على مبتغي القرى ... رواهن للمستنتخين وللجمم)

والمستنيخون: الذين ينيخون بالليل إذا لم يعلموا أين الحي لتجيبهم الكلاب فيهتدوا بها. والجمم: جمع جمة، وهم القوم يسألون العون في الديات. ولما وصلت إلى قول المعري: (زمان لا ينال بنوه خيرا ... إذا لم يخلطوه بالتمني) أنكرت "يخلطوه" وكتبت "يلحظوه" و"الخلط" بهذا البيت أليق من "اللحظ"؛ لأن التمني ههنا إنما هو "الكذب" فأراد أن الزمان لا يصل بنوه إلى الخير الذي يؤملونه حتى يمزجوا الباطل بالحق، ويخلطوا الكذب بالصدق. وقد أوضح المعري هذا المعنى في موضع آخر من شعره فقال: (تعال الله فهو بنا خبير ... فقد اضطرت إلى الكذب العقول) (تقول على المجاز وقد علمنا ... بأن القول ليس كما تقول) وقال آخر: (تخلق من الأقوام إن رمت ودهم ... بصدق وكذب خفية وعلانية) (فإن من الأقوام من إن صدقته ... طوى لك حقدا أو رماك بداهيه)

ورأيناك لما انتهيت إلى قول المعري: (وقد تبين قدري أن معرفتي ... أبا الرضا سوف ترضيني عن القدر) ذكرت أن شيخك أبا زكريا إنما قرأه على المعري: "من تعلمين سترضيني عن القدر". ومثل هذا - أبقاك الله - لا يعد خطأ، إنما هو لفظ قاله أبو العلاء ثم غيره، كما غير كنية الممدوح الذي مدحه: (أبا فلان دعاك الله مقتدرا ... أبا المكارم وابن الصارم الخلس) وكذلك فعل بأشياء كثيرة من شعره في آخر عمره؛ فمنها أشياء أسقطها بالجملة، ومنها ما ذكر بعضه وحذف بعضه، ومنها ما غير لفظه إلى لفظ آخر استقباحا له، كقوله في رثاء أبيه: (رآها سليل الطيب والشيب شامل ... لها بالثريا والسماكين والوزن)

(زمان تولد وأد حواء بنتها ... وكم وأدت من قبل حواء من قرن) هكذا قال أولا - فيما أخبرنا أبو الفضل البغدادي، ثم عوض منه: "في إثر حواء". ورأيناك أيضا لما انتهيت إلى قوله: (بوقت لا يطيق الليث فيه ... مساورة، ولا الأيم اختيالا) ذكرت أنك رويته عن شيخك أبي زكريا: "ولا السيد". وما ثبت في أصلنا الذي رويناه إلا "الأيم"، ومثل هذا الخلاف لا يلتفت إليه. ورأيناك لما وصلت بالتصفح والنظر إلى قوله: (والعيش أين وفي مثوى امرى دعة ... والله فرد وشرب الموت مشترك) ذكرت أن الصواب: "مين" لا "أين". وهذا بيت وجدناه في بعض كتب الشيخ كما ذكرت، ووجدناه في بعضها كما ذكرنا فاخترنا "الأين" على "المين" ورأيناه أنيق بذكر المثوى والدعة. وإنما معناه أن عيش الفتى كأنه وطن له قد نودع فيه وسكن كأنه من فراقه قد أمن ولم يفكر في أن كل ساكن في منزل فلا بد له أن ينتقل عنه، وأن شرب الموت مشترك بين الخلق لا بد له منه. وهذا معنى نظر فيه إلى قول الطبيب المتنبي: (ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما العمر)

فجعل أبو العلاء العيش للإنسان وطنا كما جعل المتنبي العمر دارا، فلا يقال في هذا تصحيف وتحته معنى شريف، والمين أولى بأن يكون تصحيفا؛ لأن المثوى والدعة لا يلتئمان بالمين كالتئامهما بـ "الأين". ورأيناك - أبقاك الله - قد قلت في قول المعري: (عفا أثري الزمان وما أغبت ... ضباع في المحلة تعتفيني) إنه أراد: ضباع في منزلي تأخذ عفوي ولم ترض قولنا: إن معانه "تقصدني في"، وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أنه لا يقال: اعتفيت الرجل إذا أخذت عفوه، وإنما يقال واعتفيته: إذا قصدته. والخطأ الثاني: أن هذا التفسير لا يوافق معنى الشعر؛ لأن المعري إنما أراد أنه فر من الناس واستتر في منزله، وإذا هم - مع ذلك - واصلون إليه، مقتحمون عليه. ويدل على ذلك قوله قبل هذا البيت: (قد استخفيت كالجسد الموارى ... ولكن الطوائف تختفيني) ومعنى "تختفيني": تستخرجني، فكيف توهمت أنه أراد ضباعا في منزله تأخذ عفوه؟ وأين النقد الحسن ولذهن الذهن؟ ! هيهات ضاع ضيعة هبود ونام نومة عبود! وهكذا رأيناك قد قلت في قوله: (لقد مسخن قلبي وفاتك طائرا ... فأقسم ألا يستكن على وكن) أن الصواب: "لقد مسخت مني"، وإنما هو تصحيف تصحف، ولفظ تحرف. إنما

أراد الشاعر أن قلبه لا يستقر خفقانه، كما قال عروة بن حزام: (كأن قطاة علقت بجناحها ... على كبدي من شدة الخفقان) وقال المجنون: (وداع دعا إذ نحن بالحيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري) (دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرا كان في صدري) وهذا كثير في الشعر جدا، ومنه قول بشار بن برد: (كأن فؤاده كرة تنزى ... حذار البين لو نفع الحذار) ورأيناك لما وصلت بالقراءة والتصفح إلى قوله: (فإن رأيت وليدا والنوى كثب ... يوم القيامة لم أعدمه تبكيتا)

ذكرت أن رواية شيخك "قذف". وهذا من الألفاظ التي ذكر أن المعري غيرها في آخر عمره لما فيها من نبيح التأويل، والقال والقيل؛ لأن الكثب: القرب، وهو الشيء القريب أيضا، والقذف: ضده؛ فإذا قال: والنوى كثب؛ فإن فيه تقريب الأمد، وإن هامة اليوم أو الغد، وإذا قال قذف، ففيه استبعاد ليوم القيامة. ورأيناك لما وصلت إلى قوله: (لا يرهب الموت من كان امرا فطنا ... فإن في العيش أرزاء وأحداثا؟ ) وجدتنا قد فسرناه بما يطابق غرضه وفحواه فقلنا: يقول: لا يحب العيش ويكره الموت إلا رجل لا يفهم حقائق الأمور. وأما من فهم الحقائق فإنه يرة أن الموت خير له من الحياة، وهو نحو من قول الله - عز وجل-: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} [الجمعة 62: 6] فأخبر أن أولياء الله يحبون الموت ويتمنونه، فكتبت في الطرة: هذا وهم قبيح، هذه معجزة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها اليهود فما منهم أحد تجرأ أن يتمنى الموت، ولو تمنوه أو تمناه أحدهم لمات، وهذا اعتراض طريف، متى أنكرنا أنه معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وما الذي أدخل ذكر المعجزة فيما نحن بسبيله؟ وإنما قلنا: إن في ضمن هذا الكلام إخبارا بأن أولياء الله يحبون لقاءه، وهذا ما لا ينكره مسلم، ولو لم تكن هذه صفة من صفات أولياء الله لما قامت بهذا حجة عليهم، ولكنهم لما ادعوا أنهم أولياء الله قيل لهم: فتمنوا الموت كما يتمونه لتصح دعواكم. ولكن من يعتقد أن النفس عرض تنحل بانحلال الأجسام لا يتمنى لقاء الحمام، وإنما يتمنى لقاءه من هو واثق ببقاء نفسه بعد هلاك جسمه، وهو خفيف الظهر من الآثام والأوزار، فإنه حينئذ يقول ما قاله بعض الفضلاء الأبرار:

(جزى الله عنا الموت خيرا فإنه ... أبر بنا من كل بر وأرأف) (يعجل تخليص النفوس من الأذى ... ويدنى من الدار التي هى أشرف) وفي قوله تعالى: {ولا يتمونه أبدا بما قدمت أيديهم} [الجمعة 62: 7] نبأ كاف، وإيضاح لهذا شاف. فإن قيل: فكيف كره الأنبياء والفضلاء الموت مع معرفتهم بفضيلة الدار الآخرة، وما يصيرون إليه من الدرجات العالية؟ فالجواب: أن كراهيتهم للموت ليست من أجل رغبتهم في الدنيا، وإنما ذلك لأمرين: أحدهما: ما يلاقون من غصص الموت وألمه وسكراته وغممه. والثاني: أن في بقائهم صلاحا للعالم، وكفا لهم عن التعدي والتظالم، فهم يحبون أن يمد لهم في البقاء ليسكثروا من الأعمال، ويهتدي بهم أهل الزيغ والضلال، فتكثر حسناتهم وتعلو درجاتهم. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يهدي الله - تعالى - بك رجلا واحدا خير مما طلعت عليه الشمس". ولما وصلت إلى قوله: (لم يستريحوا من شرور زمانهم ... إلا بنقلهم إلى الأجداث)

كتبت في الطرة: "ديارهم أشبه". فليت شعري! فمتى صارت نسبة الشر إلى الديار عندك أحسن من نسبته إلى الزمان؟ ! وما هذا الانتقاد الذي ينبغي أن يكتب في الحدق والأكباد؟ ولما وصلت إلى قوله: (كأن الركض أبدى المحض منه ... فمج لبانه لبنا صريحا) وجدتنا قد قلنا في شرحه "إنما هذا؛ لأن عرق الخيل إذا جف عليها أببض"، وأنشدنا بيت الغنوي يصف الخيل: (كأن يبيس الماء فوق متونها ... أشارير فلح في مباءة مجرب) وأنشدنا شاهدا آخر على ذلك قول بشر: (تراها من يبيس الماء شبها ... مخالط دره منها غرار) كتبت في الطرة: فلم احمر عرق فرس الكندي مع كمتته؟ فما هذه

الأعجوبة - أبقاك الله - متى وصف الكندي قط عرق فرسه أنه أحمر؟ ! إنما قال: (كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مرجل) فشبه حمرة الصيد على صدره بحمرة الحناء على الشيب، فانتقد هذا عليه بعض أصحاب المعاني وقالوا: إنما كان يصح تشبيه حمرة الدم على صدره بحمرة الحناء على المشيب لو كان الفرس أشهب. وقد ذكر أنه كان كميتا في قوله: (كميت يزل اللبد عن حاله متنه ... كما زلت الصفواء بالمتنزل) فإذا صح أنه كان كميتا بطل التشبيه. فقال آخرون: إنما قال هذا لأن الفرس عرق ويبس العرق على صدره فابيض فصار لذلك كالأشهب، كما قال بشر: (تراها من يبس الماء شبها) فرد عليه آخرون فقالوا: قد وصف امرؤ القيس فرسه بأنه لم يعرق في قوله: (ولم ينضج بماء فيغسل) فبطل ما اعتذر ثم به، فرد عليهم حصماؤهم بأن قالوا: لم بنف عنه امرؤ القيس العرق في جميع الأوقات، لأن ذلك عيب في الفرس، وإنما وصفه أنه صاد قبل أن يعرق، وهذا لا يبطل أن يكون [قد] عرق، والدليل على أنه عرق بعد الصيد قوله:

(ورحنا وراح الطرف ينفض رأسه ... متى ما ترقى العين فيه تسهل) [هذا إفصاح بأنه إنما نفى عنه العرق في وقت الصيد وقبله، ولم ينفه بعده]. واختلف أصحاب المعاني في اختضاب صدره بالدم على أي جهة كان؟ فقال بعضهم: أراد أن راكبه لما طعن الثور أو النعجة ثار الدم من الطعنة إلى صدره فاختضب به. وقال آخرون: بل كانوا يخضبون قوائم الفرس أو صدره بدم صيده ليعلم من يراه أنه قد صاد، واحتجوا بقول امرئ القيس: (وقام طوال الشخص إذ يخضبونه ... قيام العزيز الفارسي المنطق) وقال زهير: (فرحنا به ينضو الجياد عشية ... مخضبة أرساغه وعوامله) ورأيناك لما وصلت إلى قول المعري في هذه القصيدة: (ويوشع رد يوحا بعض يوم ... وأنت متى سفرت رددت يوحا) وجدت في الشرح أن بعض النسابين ذكر أن يوشع ابن أخت موسى - صلى الله عليهما وسلم - فكتبت في الطرة: إنما هو عبد موسى في كتاب الله تعالى. وهذا

شيء لا يلزمنا؛ لأنا لم ننكر أنه كان فتى موسى، وإنما حكينا ما قاله النسابون: فإن كان ما قالوه صحيحا فليس في كونه عبد موسى وفتاه ما يناقض ذلك ويأبأه؛ لأن العبد يسمى به غير المملوك، وذلك معروف في اللغة، كقول الشاعر: (نعى الناعي الزبير فقلت تنعي ... فتى أهل الحجاز وأهل نجد) (خفيف الحاذ، نسأل الفيافي ... وعبدا للصحابة غير عبد) ورأيناك لما انتهيت إلى قول المعري: (أفوق البدر يوضع لي مهاد ... أم الجوزاء تحت يدي وساد؟ ) عارضتنا في شرحه في موضعين، أحدهما: أنا قلنا: إن هذا الاستفهام يستدعى به تقرير المخاطب على أمر قد ثبت وعرف، والمراد أن ينبه على أمر يتوقع أن يكون ينكره، أو قد غفل عنه، وأن يجعل توطئة ومقدمة لأمر يراد إنتاجه منه، فكأنه قال: ألست قد اتخذت البدر مهادا؟ ألست قد اتخذت الجوزاء وسادا، فلم ترض بقولنا، وأنكرت دخول "ألست" ههنا، وما ذكرناه من معنى التوطئة والمقدمة، وكتبت في الطرة:

هو استفهام فيه معنى التعجب عن إعجابه بنفسه، ولا يقدر بـ"ليس"، وهي من حروف النفي. ولو تأملت - أبقاك الله - حق التأمل لرأيت أنك لم تأت بشيء غير ما قلناه؛ لأن التعجب مضمن فيما ذكرنها، ولم نرد أن لفظ البيت كما هو يقدر بـ"ليس"، إنما أردنا أن المعنى راجع إلى ذلك. وبيان هذا أن حرف النفي إذا دخل عليه حرف الاستفهام دخل الكلام معنى التقرير واستدعاء ما عند المخاطب من إثبات لما يقرر أو يكتم، والشيء المسؤول عنه ثابت في نفسه، ولكن يتوقع من المخاطب أن ينكره. فإذا قلت لمن تخاطبه: ألم أحسن إليك. فمعناه: أتقول: إني لم أحسن إليك؛ فلذلك يقول هو في جوابه: "بلى" دون "نعم"؛ ليحقق الإحسان ويعترف به. ولو قال: نعم لحقق النفي وكان معناه: نعم، لم تحسن إلي. فإذا اعترف بإحسانك إليه قلت له حينئذ فلم لم تشكر ذلك؟ فتنتج له من التقرير استحقاق الملامة واستيجاب العقوبة، ويتضمن الكلام معنى التعجب للسامعين من سوء معاملته إياك مع إحسانه إليك، وتوالي أياديك لديه. وكذلك لو قلت له: ألست قد أحسنت إليك؟ لأفاد ذلك المعنى بعينه. فلما كان غرض المعري أن يعجب المخاطبين ويقدمهم على مرتبته في الشرف آل معنى كلامه إلى معنى قول من يقول: ألست قد اتخذت البدر مهادا؟ ألست قد اتخذت الجوزاء وسادا؟ فظهر كلامه راجعا إليه وإن كان ذلك غير ظاهر فيه. ومن هذا الباب قول جرير: (ألستم خير من ركب المطايا ... واندى العالمين بطون راح) هو تقرير وتعجب معا. فقال لع عبد الملك بن مروان: بلى. نحن كذلك. ولو قال جرير: أنتم خير من ركب المطايا لكان جوابه: نعم. نحن كذلك، والمعنيان

راجعان إلى غرض واحد، وإن اختلف الجوابان واللفظان. فهذا جواب عن اعتراضك الأول. وأما اعتراضك الثاني فإنا قلنا في الشرح: إنما خص البدر وقد كانت الشمس أنوه في الذكر، وأعظم في الفخر؛ لما أراد من التصاعد من أول مرتبة في الفخر إلى آخر مرتبة فيه. فذكر البدر الذي هو أقرب الكواكب إلينا، ثم تصاعد إلى الجوزاء التي هي في الفلك الثامن، وهي أرفع مراتب الكواكب، فكان أن أخذ بطرفي الفخر. وتكلمنا على تخصيصه الجوزاء دون سائر الكواكب الثانية، لئلا يطول ذكره فعارضتنا بأن كتبت في الطرة: لا، إنما ذكر البدر لأجل ذكره الجوزاء، والليل يجمعهما. ولو ذكر الشمس مع الجوزاء لافترقا له وافترق المعنى. وهذا الذي قلته - أبقاك الله - معنى آخر ممكن أن يقال. غير أن الذي أومأنا نحن إليه، ونبهنا عليه أحسن معنى، وألطف مغزى. والشعراء يستعملون التصاعد من الأدنى إلى الأعلى مبالغة في المعاني، فتقول: هو كوكب، بل هو بدر، بل هو شمس، فيكون أبلغ من قولهم: هو شمس دون أن يذكر البدر والكوكب. وأما اعتراضك بأنه لو ذكر الشمس مع الجوزاء لتناقض الكلام؛ لأن الشمس تطلع بالنهار، والجوزاء بالليل، فكلام غير صحيح؛ لأن الجوزاء طالعة بالنهار مع وجود الشمس كطلوعها مع وجود القمر، وإن كانت تمتنع من رؤيتها الأبصار؛ لأن نور الشمس يغلب جميع الأنوار، وكيف تنافرها الشمس وهي من بروجها ومن أوجها؟ وأما قولك: والليل مجمعها؛ فكلام طريف؛ لأن الموضع الذي فيه الشمس والجوزاء لا يصل إليه الليل والظلماء، كما يصل الليل إلى موضع البدر، ونحن نمسك ههنا عن الكلام، ونقبض عنان العلم تأدبا، كقول المتنبي: (أبلغ ما يطلب النجاح به الـ ... ـقصد وعند التعمق الزلل)

ورأيناك - وفقنا الله وإياك - لما وصلت إلى قول المعري: (فبعدا لهذا الجسم يا روح مسلكا ... وبعدا لهذا الروح يا جسم سالكا) (تواصلتما فاستحدث الوصل منكما ... عجائب كانت للرجال مهالكا) فأنكرت علينا في بعض كلامنا أن الروح طاهر شريف، والجسم دونه موات لا يقع عليه تكليف، وكتبت في الطرة: صوابه: موجود شريف، وكيف حدثت باقترابهما حطيئة، وهو قول بقدم الأعراض، أو مجاز لا يعدم انتقاضا. وهذا كلام أول ما ينتقد منه فساد الإعراب بترك نصب "الانتقاض" ووجهه الانتصاب. وبعد ذلك نقول: كيف أنكرت قولنا: إن الروح طاهر شريف، وقد طهره الله - تعالى - وشرفه وكرمه على النفس، وقدمه في القرآن المنزل علينا، وفي كتبه المتقدمة لنا؟ أما في كتابنا العزيز فإنه نسب الشر إلى النفس فقال: {إن النفس لأمارة بالسوء} [يوسف 12: 35]، ولم يقل إن الروح لأمارة بالسوء وذكر أن النفس هي المثابة المعاقبة فقال تعالى: {كل مفس بما كسبت رهينة} [المدثر 74: 38]، وقال عز من قائل: {أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله} [الزمر 39: 56]. ولم يقل في الروح شيئا من هذا، بل قدسه وشرفه بأن أضاف إليه فقال في آدم - عليه السلام-: {ونفخت فيه من روحي} [الحجر 15: 29]، ولم يقل: ونفخت فيه من نفسي. وقد أجمع المسلمون على الاستعاذة بالله من شرور أنفسهم لا من شرور أرواحهم، فهذا من كتابنا العزيز، وملتنا الحنيفة التي شرفنا الله بها. وأما في ملل غيرنا؛ فذكر وهب بن منبه أنه وجد فيما قرأه من

التوراة وكتب الله المنزلة أن الله - تعالى - قال: إني خلقت آدم وركبت بدنه من أربعة أشياء، ثم جعلتها وراثة في ولده وذريته، تنشأ في أجسادهم وينمون عليهم إلى يوم القيامة؛ وذلك أني ركبت جسده من رطب ويابس، وسخن وبارد؛ وذلك أتى ركبته من تراب وماء، ثم نفخت فيه نفسا وروحا، فيبوسة جسده من التراب، ورطوبته من الماء، وحرارته من النفس، وبرودته من الروح، وذكر كلاما طويلا قال فيه: فمن النفس تكون حدته وخفته ولعبه ولهوه، وضحكه وسفهه، وخداعه، وشكره، وعنفه وخرقه. ومن الروح يكون حلمه ووقاره، وعفافه وحياؤه، ونقاؤه وصفاؤه، وكرمه وصدقه، ورفقه، وصبره، فنسب إلى النفس الأمور المدمومة، وإلى الروح الأمور المحمودة. فصارت الروح بظاهر ما ذركاه أشرف من النفس، وذلك خلاف ما يقوله المتفلسفون؛ لأن النفس عندهم أشرف من الروح، فكان الشيء المسمى في الفلسفة نفسا هو المسمى في الشرائع روحا. وهذا مجال ضيق لم يكن بنا حاجة إلى الحوض فيه لولا ما رأيناه من إنكارك علينا وصف الروح بالطهارة. وكذلك توهمك أن فيما قاله المعري، القول لقدم العرض توهم فاسد، وكلامك فيه منتقض. ورأيناك - وفقنا الله وإياك - قد قلت: إن تفريقنا بين الزمان والدهر تحكم، وإن لك في ذلك تحقيقا ذكرته في كتاب "المقسط"، فليتنا رأيناه حتى نرى ما قلت في قول الله - عز وجل-: {إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} [الحج 22: 47] وقوله: {تعرج الملائكة والروح فيها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج 70: 4] فمن أي قسم يعد هذان اليومان؟ أمن قسم الدهر أم من قسم الزمان؟ ووجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر الدهر في قوله: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر»، ولم يذكر الزمان. وكذلك قالت العرب للذبي يقول بالدهر: "دهري" بفتح الدال، وللمسن: "دهري" بضم الدال، ولم يقولوا: "زمني". وقالوا: لا أفعله دهر الداهرين، ولم يقولوا زمن الزامنين، ولا زمن الزمنين، ولعل كتاب "المقسط" سيقع إلينا فنرى ما تضمنه إن شاء الله.

ورأيناك - وفقنا الله وإياك - قد أنكرت علينا قولنا: إن المعري كان لا يرى أكل اللحم، ويعتقد أن ذبح الحيوان من الظلم. وذكرت أنه إنما كان يمتنع من أكله لعلة بجسمه. ويدل على خلاف ما قلته من استفاضة الخبر بذلك عنه، وما في شعره منه. بل كان يغلو في ذلك ويفرط، حتى إنه كان ينكرا أكل البيض واللبن ونحوهما مما يختص بالحيوان كقوله في صفة الديك - وهي قصيدة قد أنشدناها وشرحناها - أولها: (أيا ديك! عدت من أياديك صيحة ... بعثت بها ميت الكرى وهو نائم) يقول فيها مخاطبا الديك: (ولو كنت ما أرهفت لك مدية ... ولا رام إفطارا بأكلك صائم) (ولم يغل ماء كي تمزق حلية ... حبتك بأسناها العصور القدائم) (ولا عمت في الخمر التي حال طعمها ... كأنك في غم من السيل غائم) وكقوله وهو يخاطب الحمامة: (أعكرم! إن غنيت ألفيت نادبا ... فلا تتغنى في الأصائل عكرما) (بنظم شجا في الجاهلية أهلها ... وراق مع البعث الحنيف المخضرما) (وقد هاج في الإسلام كل مولد ... وأطرب ذا نسك وآخر مجرما)

(لك النصح مني لا أغاديك خاتلا ... بمكر ولكني أغاديك مكرما) (إذا ما حذرت الصقر يوما فحلذري ... أخا الأنس أياما وإن كان محرما) (يصوغ لك الغاوي قلاذة هالك ... من الدم تجني وجدك المتضرما) (وكم سحتت كفاه مثلك في ضحى ... شبيبتها إذا لم تر الدهر مهرما) (وراع بقص من جناحيك آمنا ... فظل على الريش النهوض محرما) (وقد يبرم الحين القضاء بناشئ ... يراوح خيطا شده بك مبرما) (كما قيض السلطان حل جناته ... ليقتص منه، أو ليغرم مغرما) (فزوي وبار القفر من كل وابر ... وإلا فرومي خلف ذلك مخرما) (بحيث توافقين الصحابي معوزا ... من الناس، والماء السمائي خضرما) (وحلي ثقافي إن أطقت بلوغه ... فأفنى لديه عمرك المتصرفا) وكقوله ينكر أكل البيض في قصيدة قد أنشدها: (وما الظبيات مني خائفات ... أرحن مع الأصائل أم ربضنه)

(فلا تأخذ ودائع ذات ريش ... فمالك أيها الإنسان بضنه) وله أشعار كثيرة في مثل هذا المنزع. وأخبرني أبو الفضل البغدادي: سمعنا في شعره: لما مرض أبو العلاء مرضه الذي مات فيه، وكان ذلك في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وكان قد بلغ ستا وثمانين سنة، ودخل عليه الطبيب ورأى ما به من الضعف، فلما خرج قال لأهله: لو أكل اللحم لرجعت إليه قوته وتماسكت، وإلا فهو هالك، فسهلوا عليه ذلك فأخبر بما ذكر الطبيب وقيل له: ما عليك في أكل اللحم حتى تتراجع قوتك ثم تستمر بعد ذلك على مذهبك، ؛ فأنزل ذلك منزلة أكل الميتة عند الضرورة، فأجاب إلى ذلك، ثم سمع صوت دجاجة تستغيث، فقال: وما لها؟ ! قالوا نريد ذبحها، ويصنع لك منها طعام. فقال: ناولوني إياها، فأخذها ولمسها، فوجدها ترعد، وقلبها يخفق. فقال: إن لم تبق نفسي في جسمي إلا بهلاك هذه النفس، فلا أبقاها الله! خلوا عنها. وهكذا رأيناك قد أنكرت علينا قولنا: إن ذا النون الأخميمي الزاهد من الباطنية وقلت: الباطنية لفظة تقع على الزنادقة و"ذو النون" رجل فاضل، وهذه اللفظة لا تقع على الزنادقة فقط، كما قلت، بل هي في الحقيقة لفظة يصح أن يسمى بها كل من خالف الظاهرية. إلا أن هذه اللفظة جعلت لقبا للقرامطة والإسماعيلية وغلبت عليهم. وهم قوم يظهرون محبة علي - رضي الله عنه - والتشيع له ويزعمون علم الباطن وأسرار القرآن والشريعة، ويقسمون الأشياء إلى ناطق وصامت، والأدوار: دور ستر ودور كشف، ولهم مذاهب سخيفة. ولأبي بكر الباقلاني كتاب في الرد عليهم. وقد نزه الله - تعالى - ذا النون عن أن يكون منهم؛ فإن كفر هذه الفرقة لا يخفي على من له أدنى بصر. وإنما أراد بقولنا المذكور أنه كان ممن يقولون بالباطن مع قوله بالظاهر، وكانت له مشاركة في العلوم القديمة مع خيره وفضله. والصوفية كلها تقول بالباطن، إلا أن منهم من كان يفرط في ذلك إفراطا يخرجه إلى الكفر، نعوذ بالله من الخذلان.

ورأيناك - وفقنا الله وإياك - قد عارضتنا في أشياء من العلوم النظرية: مثل مخالفتك لنا في الدهر والزمان، وإثبات إرادة الإنسان، وقولنا إن النفس جوهر باق لا يهلك بهلاك الأجسام ونحو هذا مما يمتد فيه باع الكلام؛ كأنك نقمت علينا أن لم نقتصر في هذه الأمور النظرية على مذهب الأشعرية، ولو شئت لأجبناك عنها كما فعلنا بالأمور الأدبية فاستدللنا ببعض على بعض. واعلم بأن اتباع الناس على آرائهم ليس بواجب ولا فرض، ولا سيما بمن ينزه نفسه عن أن يكون من أهل التقليد الذين ينادون من مكان بعيد. وليس إمساكنا عن القول في هذه الأشياء والخوض جهلا منا بأغراضها ومعانيها، ولكنها أمور نكتفي بالإشارة والتلويح عن الإبانة والتصريح، فنحن نطويها على غرها، مخافة أن تدنسنا بعرها، وليس يخفي التعسف والإنصاف، ولا يعلم ما في الخف إلا الله والإسكاف. وكذلك رأيناك قد عبتنا بذكرنا في هذا الشرح بعض الفلاسفة المتقدمين من الطبيعين والإلهيين، وذلك أمر قد اضطررنا إليه؛ إذ كان شعر هذا الرجل يبعث عليه، لأنه سلك بشعره غير مسلك الشعراء، وضمنه نكتا من المذاهب والآراء، وأراد أن يرى الناس معرفته بالأخبار والأنساب، وتصرفه في جميع الآداب. ولم يقتصر على ذكر مذهب المتشرعين حتى خلطها بمذاهب المتفلسفين؛ فتارة يخرج ذلك مخرج من يرد عليهم، وتارة يخرجه مخرج من يميل إليهم، وربما صرح بالشيء تصريحا، وربما لوح به تلويحا. فمن تعاطى تفسير كلامه وشعره، وجهل هذا من أمره، بعد عن معرفة ما يومئ إليه، إن ظن أنه عير عليه؛ ولهذا لا يفسر شعره حق تفسيره إلا من تصرف في أنواع العلوم، ومشاركة في الحديث منها والقديم، فلم يكن بد من ذكر المعاني التي أوما إليها، وحام فكره عليها، كمثل ما أنشدناه من قوله:

(أزرى بك المبتز يا بائسا ... وخالفت هيلاجك الكذ خذاه) (فطال منك العمر في شقوة ... كالينم استولى عليه خذاه) (كأنما النصبة قد أومأت ... للفقر والبؤس وقالت: خذاه) فهذه قطعة لا تبين إلا بذكر مذاهب المنجمين. ونحو قوله: (شكل غدا يجذبه شكله ... كالأرقم المرهوب من منكزه) (تشاكلا في البرد فاستجمعا ... والبرد يدني الشيء من مركزه) وهذه القطعة لا تبين إلا بذكر مذاهب الطبيعين. ونحو قوله: (يا ليت شعري! وهل ليت بنافعة ... ماذا وراءك أم ما أنت يا فلك؟ ) (كم خاض في أمرك الأقوام واجتهدوا ... قدما، فما أوضحوا حقاً ولا تركوا)

(شمس تعيب ويقفو إثرها قمر ... ونور صبح يوافي بعده حلك) (طحنت طحن الوحي من قبلنا أمما ... بانوا ولم يدر خلق أية سلكوا) (وقال: إنك طبع خامس نفر ... عمري لقد زعموا بطلا وقد أفكوا) (راموا سرائر للرحمن حجبها ... ما تالهن نبي، لا، ولا ملك فهذه قطعة تحوج إلى ذكر الفلاسفة في الخلاء والملاء، وتنازعهم في الفلك، هل هو من الطبائع الأربع أو طبيعة خامسة. وكذلك قوله: (وقال أناس ما لأمر حقيقة ... فما أثبتوا يوما شقاء ولا نعمى) فهذا بيت يحوج إلى ذكر مذاهب السوفسطائين. وكذلك قوله: (وشكلك في الإيجاب والنفي معشر ... حيارى جرت خيل الضلال بهم سعما) ففي هذه إشارة إلى اختلاف الفلاسفة في إثبات الهوية ونفيها، وهي من العلم الإلهي

ذكرها أرسطاطاليس في كتابه (في ما بعد الطبيعة) فلا بد فيها ذكر المتفلسفين المتنازعين في هذه المسألة، كأرسطاطاليس، وأقراطيس، وديوجانيس، [وزيتون وأركفانيس] ونحوهم. وهذه مسألة لم يتكلم فيها أحد علمناه من متكلمي المسلمين. ونحو قوله: (مكان ودهر أحرزا كل مدرك ... وما لهما لون يحس ولا حجم) فهذه إشارة لا يفهمها إلا من رأى اختلاف الناس في المكان والزمان، وما حقيقة كل واحد منها. وكذلك قوله: (ونحن غواة يرجم الظن بعضنا ... ليعلم ما نور الكواكب والرجم) فهذا بيت يحوج إلى الكلام في الآثار العلوية واختلاف النور في الكواكب، هل هو ذاتي لها أن مستعار من نور الشمس. وكذلك قوله: (لنا شرف ينيف على الثريا ... وتغشى دونه الحدق الجحاظ)

(كثالثة الدوائر لا حرام ... روى فيها المحال ولا وحاظ) (وأنت كرابع الأشكال يؤبى ... وتنكره المسامع واللحاظ) فهذه القطعة فيها إشارة إلى علوم شتى، فقوله: "كثالثة الدوائر" يتعلق بعلم العروض، وقوله: "ولا حرام روى فيها المحال ولا وحاظ" يتعلق بعلم رجال الحديث، و"أنت كرابع الأشكال" يتعلق بعلم المنطق. فمثل هذا لا يفهمه ولا يقدر على تقسيمه إلا من لا بصر بهذه العلوم الثلاثة، وقد جمع فيها بين علوم حديثة وعلوم قديمة، ولا بد في مثل هذا من ذكر الأشكال المنطقية التي يدور عليها البرهان المنطقي وهي على مذهب أرسطاطاليس إمام هذه الصناعة ومذهب جميع أهل المنطق، وهي ثلاثة إلا جالينوس فإنه زاد فيها شكلا رابعا وظن أنه قد أتى بزيادة، والذي توهمه مضمن في الأشكال الثلاثة. ونحو قوله: (مقال كالأئمة عند قوم ... رأوا منهم عليا والحسينا) وقوله: أحد الخمسة الذين هم الأغـ ... راض في كل منطق والمعاني. وقوله:

(لا تكن مجبرا ولا قدريا ... واجتهد في توسط بين بينا) وقوله: (مغيرية ورزامية ... وبترية كلهم قد لغا) (وعتبية وميمية ... أطاعت شياطينها النزغا) (وقالوا سوانا حمارية ... وكلهم مثل شاء ثغا) فهذه الأبيات تحوج إلى ذكر فرق الشيعة كالقطعية والمغيرية والرزامية، والبترية، والعتبية، والميمية، والغرابية، والصالحية، والسبئية، و [المخمسة]، وتحوج إلى ذكر الجبرية والقدرية. وكذلك قوله: (وقال بأحكام التناسخ معشر ... غلوا فأجازوا النسخ في ذاك والرسخا)

فهذا الباب لا يفهمه إلا من علم مذاهب القائلين بالتناسخ، وقولهم: إنه أربعة أنواع: نسوخ ومسوخ وفسوخ ورسوخ، وله أيضا أشعار في مناقضة الأشعري لم نر لذكرها وجها، ولأجل هذا صار شعر هذا الرجل ديوان علوم، من حديث وقديم، وإنما تكلفنا شرحه لما رأينا الناس يخبطون فيه العشواء، ويفسرونه بغير الأغراض التي أراد والأنحاء. ولو استقبلنا من الرأي فيه ما استدبرناه لما تعرضنا للكلام في شعره ولا شرحناه، لقبح ذكره، ولما نعى علينا نت تفسير شعره، ولكن سبق السيف العدل، وخلق الإنسان من عجل، ولو تكلف غيرنا من شرحه ما تكلفناه لقصر عن مدانا الذي بلغناه، ولأكثر تصحيفه وتحريفه، ولم يبلغ مدنا فيه ولا نصيفه، ونحن نستعيذ بالله من الزلل، ونسأله التوفيق لصالح العمل، إنه المرجو والمؤمل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [كمل الجزء والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي الكريم وعلى آله وذريته أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين].

الرسالة الثانية: الفرق بين الاسم والمسمى

الرسالة الثانية: الفرق بين الاسم والمسمى

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد النبي الكريم وآله مسألة تتصل بهذا الكتاب قال الفقيه النحوي أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي - رحمه الله -: الحمد لله الذي من علينا بالهدى وأنعم، وعلمنا ما لم نكن نعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم: سألتني - أعزك الله بالتقوى، وجمع لك خير الآخرة والأولى - عما كثر فيه خوض الخائضين من أمر الاسم والمسمى، وقلت: كيف يصح أن أحدهما هو الآخر، وذلك محال في الظاهر، لأن العبارة غير المعبر عنه باتفاق؟ ولو صح أن يكون الاسم هو المسمى لوجب أن يروى من قال: ماء، ويشبع من قال: طعام، ويحترق من قال: نار، ويموت من قال: سم، كما قال ابن جدار: هيهات يا أخت آل بم غلطت في الاسم والمسمى لو كان هذا وقيل: سم مات - إذن - من يقول: سما ولعمري! لقد جرت في القضية، وملت مع العصبية، فإني لا أعلم أحدا من أصحابنا قال: إن العبارة هي المعبر عنه، فيلزم من قولهم ما أردت أن تقول. وإنما قالوا: إن الاسم هو المسمى على وجه غير الوجه الذي ذهبت إليه، حسب ما تراه من كتابنا هذا وتقف عليه. وقد تأملت القولين على شدة ما بينهما من التباين والتنافر، فوجدت كل واحد منهما [يصح] من وجه غير الوجه الذي يصح منه الآخر، وقسمت الكلام في ذلك على أربعة أبواب: الأول منها: أذكر فيه كيف يكون الاسم غير المسمى. والثاني: أذكر فيه كيف يكون الاسم هو المسمى. والثالث: أذكر فيه كيف يكون المسمى هو التسمية.

الباب الأول: (في تبيين كيف يكون الاسم غير المسمى)

والرابع: أذكر فيه كيف يكون الشيء الواحد مسمى من جهة وتسمية من جهة أخرى. وأنا اسأل الله العون على ما أنويه، والتجاوز عما عسى أن يقع من الخلل فيه، إنه ولي الفضل ومسديه، لا رب غيره. الباب الأول: (في تبيين كيف يكون الاسم غير المسمى) هذا النوع أشهر الأنواع الأربعة عند الجمهور؛ فلذلك قدمنا لقول فيه. اعلم أن الاسم الذي يقال: إنه غير المسمى الذي يراد به التسمية والعبارة عن المعنى الذي يروم المتكلم تقريره في نفس من يخاطب، وهذا الاسم هو المراد بقولهم للرجل: ما اسمك؟ وعرفني باسمك لأنه ليس يريد أن يعلمه بذاته ما هي؟ وإنما يلتمس منه أن يعلمه بالعبارة المعبر بها عنه، المشار بها إلى ذاته، وكذلك قولهم: محوت اسم زيد من الكتاب، وأثبت اسمه في الديوان، فالاسم في هذا كله غير المسمى اضطرارا، لأن اللفظة ليست الشخص الواقع تحتها. والاسم والتسمية في هذا الكتاب لفظان مترادفان على معنى واحد، كما يقال: سيف، وحسام، وصمصام. والاسم ههنا -. وإن كان يفيد ما تفيده التسمية - فبينهما فرق؛ وذلك أن التسميى مصدر من قولك: سميته أسميه تسمية، فأنا مسم، وهو مسمى. كذلك: سويته أسويه تسوية، فأنا مسو، وهو مسوى. والاسم ليس بمصدر، لأنه يراد به الألفاظ المعبر بها عن الأشياء، كـ"زيد" و"عمرو"، "جوهر"، و"عرض". يدلك على الفرق بينهما أن التسمية تعمل عمل الفعل والاسم لا يعمل عمل الفعل. ألا ترى أنك تقول: عجبت من تسمية "زيد" ابنه كلبا، كما تقول: عجبت من تسوية زيد الثوب، ولا تقول: عجبت من اسم زيد ابنه كلبا كما تقول: عجبت من قوت زيد عياله - بفتح القاف - فإن ضممت "القاف" لم يجز، لأن القوت - بفتح القاف - مصدر قاته، يقوته، قوتا، والقوت - بضم القاف-: الطعام نفسه، فجرى مجرى الاسم في الامتناع من العمل، لأنه نوع من أنواع الاسم. فمما جاء من هذا الباب قوله تبارك وتعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف 10: 180]. يريد التسميات. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لله

تسعة وتسعون اسما، من أحصاها دخل الجنة». ولو كان الاسم - ههنا - المسمى لكان الله تسعة وتسعين شيئا، وهذا كفر بإجماع. ومن هذا الباب قول عائشة للنبي - عليه السلام -: «والله - يا رسول الله: ما أهجر إلا اسمك». ومنه قول النابغة: (نبئت زراعة والسفاهة كاسمها ... يهدي إلى غرائب الأشعار) ومنه قوله الراجز: (سميتها إذا ولدت تموت) وقول الآخر: (وسميته يحيي ليحيا فلم يكن ... لرد قضاء الله فيه سبيل) ولو كان الاسم - هنا - هو المسمى، لوجب أن يموت من سمى "يموت"، ويحيا من سمى "يحيي". ومنه قول علي - رضي الله عنه-:

الباب الثاني: (في تبيين كيف يصح أن يقال: إن الاسم هو المسمى)

أنا الذي سمتن أمي حيدره وهذا النوع كثير في القرآن، والحديث، وكلام العرب، يغني ما ذكرناه عن الإكثار فيه. الباب الثاني (في تبيين كيف يصح أن يقال: إن الاسم هو المسمى) اعلم أنه لا يصح أن يقال: إن الاسم هو المسمى على معنى [أن] العبارة هي المعبر عنه، وأن اللفظ هو الشخص، فإن ذلك محال لا يتصور في الذهن، وإذا ثبت هذا سقط اعتراض من قال: إنه يلزم من ذلك أن [يحترق] فم من قال: نار، ويشبع من قال: طعام، وصح أن الاعتراض جهل منه أو مغالطة. ولكن يقال: الاسم هو المسمى على معان ثلاثة: منها ما يجري مجرى المجاز، ومنها ما يجري مجرى الحقيقة. الأول منها: أن [العلة] التي أوجبت وضع الأسماء على المسميات إنما هي مغيبها عن مشاهدة الحواس لها. ولو كانت الأشياء كلها بحيث تدركها الحواس لم يحتج [إلى] الأسماء، ولكن ما لم تمكن مشاهدة الأشياء كلها احتاج من شاهد [شيئا] أن يخبر عنه من لم يشاهده، فأوجب ذلك وضع الأسماء باتفاق، أو

لمعنى آخر على الخلاف في ذلك، فقيل: رجل، ورس، وحمار، ونحو ذلك. فصارت هذه الأسماء تنوب في تصور المعاني في نفوس السامعين مناب المسميات أنفسها لو شاهدوها. فإذا قال القائل: رأيت جملا، تصور من هذا الاسم في نفس السامع ما كان يتصور من المسمى الواقع تحته لو شاهده. فلما ناب الاسم من هذا الوجه مناب المسمى في التصور، وكان المتصور من كل واحد منهما شيئا واحدا، جاز من هذا الوجه أن يقال: إن الاسم هو المسمى على ضرب من التأويل، وإن كنا لا نشك في أن العبارة غير المعبر عنه، فهذا وجه. والوجه الثاني: أكثر ما يتبين في الأسماء التي تشتق للمسمى من معان موجودة فيه، قائمة به، كقولنا لمن وجدت فيه الحياة: حي، ولمن وجدت فيه الحركة: متحرك، ونحو ذلك. فالاسم في هذا النوع لازم للمسمى، يرتفع بارتفاعه، ويوجد بوجوده. ألا ترى أن الحياة إذا بطل وجودها من الجسم بطل أن يقال له: حي، وإذا بطل أن يقال له: حي بطل أن تكون به حياة؟ ! وكذلك إذا بطل وجود الحركة في الجسم بطل أن يقال له: متحرك، وإذا بطل أن يقال له: متحرك بطل أن تكون فيه حركة؟ فيجوز من هذت الوجه أيضا أن يقال: إن الاسم هو المسمى، إذا كان يوجد بوجوده، ويرتفع بارتفاعه على ضرب من التأويل، وإن كنا لا نشك أن العبارة غير المعبر عنه. والوجه الثالث: أن العرب قد تذهب بالاسم إلى المعنى الواقع تحت التسمية، فيقولون: هذا مسمى زيد، [أي] هذا المسمى بهذه اللفظة التي هي: الزاني، والياء، والدال. ويقولون في هذا المعنى: هذا اسم زيد، فيجعلون الاسم والمسمى في هذا الباب مترادفين على المعنى الواقع تحت التسمية، كما جعلوا الاسم والتسمية في الباب الأول مترادفين على العبارة. وهذا باب طريف من كلام العرب يحتاج إلى فضل نظر، ويجي في كلام العرب على ضر بين: أحدهما: صرح فيه بلفظ الاسم حتى بان لمتأمله. والثاني: لم يصرح فيه بلفظ الاسم، ولكنه موجود من طريق المعنى.

فمما صرح فيه بلفظ الاسم قول ذي الرمة: (كأنها أم ساجي الطرف أخدرها ... مستودع خمر الوعساء مرخوم) (لا ينعش الطرف إلا ما تخونه ... داع يناديه باسم الماء مبغوم) ووصف غزالا استودعته أمه في الخمر، وهو كل ما يواري الإنسان من شجر وغيره. والوعساء: رملة لينة. ومرخوم: محبوب، يقال: أرخى عليه رخمته أي: محبته. يقول: هو نائم في الخمر، لا ينتبه من النعاس إلا إذا تقفزته أمه للرضاع فصاحت به: يا ماء، وهو حكاية صوت الظبي. ويعني بالداعي أمه. والبغام: صوت الظبي. يقال: بغمت الظبية فهي باغمة، والمدعو به مبغوم به، فتقديره: يناديه بمسمى الماء، أي: بالصوت المسمى يـ"ماء"، فوشع الاسم موضع المسمى، وصارت الفائدة من قوله: يناديه باسم الماء ومن قوله: بالماء واحدة. وقد بين ذو الرمة [ذلك] في قصيدة أخرى فقال: (فنادى به ماء إذا ثار ثورة ... أصيبح نوام يقوم ويخرق)

يريد بقوله: فنادى به ماء ما أراد بقوله: يناديه باسم الماء سواء ونحو من ذلك. أيضا قول ذي الرمة يصف إبلا تشرب الماء في الحوض: (تداعين باسم الشيب في متثلم ... جوانبه من بصرة وسلام) و"شيب": صوت مشافر الإبل إذا شربت الماء، فمعنى تداعت باسم الشيب: تداعين بمسمى الشيب؛ أي: بالصوت المسمى شيبا. وقد بين ذلك الراعي بقوله: (إذا ما دعت شيبا بجنبي عنيزة ... مشافرها في ماء مزن وباقل) فصار قول الراعي: إذا ما دعت شيبا، وقول ذي الرمة تداعين باسم الشيب يرجعان إلى معنى واحد. ومن هذا الباب قول لبيد: (إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر)

تقديره: إلى الحول، ثم مسمى السلام عليكما؛ أي: ثم الشيء المسمى سلاما عليكما، فصارت الفائدة من قوله: "ثم اسم السلام عليكما" مثل الفائدة من قول جرير: (يا أخت ناجية السلام عليكم ... قبل الرحيل وقبل لوم العذل) فالاسم في هذه المواضع هو المسمى بعينه، وهما مترادفان على معنى واحد، كما كان الاسم والتسمية في الباب الأول. وقد تأول الناس في هذه الأبيات تأويلين غير التأويل الذي ذكرنا: أحدهما: تأويل أبي عبيدة معمر بن المثنى؛ وذلك أنه كان يذهب إلى أن الاسم في هذه المواضع زائد، والتقدير عنه: تداعين بالشيب وداع يناديه وإلى الحول، ثم السلام عليكما. والتأويل الثاني: حكاه ابن جني عن أبي علي الفارسي، وهو أنه كان

يحمل هذه الأبيات على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والتقدير عنده يناديه باسم معنى الماء، واسم معنى الماء هو الماء بعينه. وكذلك تداعين باسم الشيب؛ أي باسم معنى الشيب، واسم معنى الشيب هو الشيب بعينه. وكذلك قول لبيد: ثم اسم السلام تقديره عنده: ثم اسم معنى السلام، واسم معنى السلام هو السلام بعينه، فتأولها أبو عبيدة على أن في الكلام زيادة، وتأولها الفارسي أن في الكلام حذفا، وهو ضد قول أبي عبيدة. والقول الأول لا يوجب في الكلام حذفا وهو قول ضد قول أبي عبيدة، والقول: [الثاني لا يوجب] زيادة ولا حذفا، فهو أولى بالتأويل. فمما يمكن أن يتأول على هذا قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى 87: 1]، تقديره: سبح مسمى ربك، وكذلك قوله تعالى: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها} [يوسف 12: 40]، أي: مسميات. وإنما قلنا: إن هاتين الآيتين يمكن تأويلهما على هذا، ولم نقل: إنه لا يجوز غير ذلك؛ لأنه يمكن تأويلهما على أن الاسم غير المسمى، لأن التسبيح في اللغة هو

التنزيه، واسم الله الذي هو عبارة عنه ينبغي أن ينزه ويكرم فلا يذكر في المواضع التي لا يليق ذكره فيها. ويكون التقدير في الآية الثانية إلا [أ] صحاب أسماءٍ، فحذف المضاف، فهذا هو النوع الذي صرحت فيه العرب، [ب] وضع الاسم موضع المسمى. وأما النوع الثاني الذي لم يصرح فيه بذكر الاسم إلا أنه موجود من طريق المعنى، فمنه قولهم: "كتبت اسم زيد"، فليس المراد أنه كتب اسم هذه اللفظة التي هي الزاي والياء/ / والدال، إنما يريد أنه كتب هذه اللفظة التي هي المسمى الواقع تحتها، فأقام اللفظة التي هي الاسم مقام المعنى الواقع تحتها، ولا يصح تأويله إلا على ذلك. وإن لم تقل ذلك لزمك أن تجعل للتسمية تسمية، وللعبارة عبارة. وكذلك قولهم: "رأيت زيداً"، إنما يريدون رأيت المعنى الواقع تحت هذه اللفظة، وعلى هذا مجرى كلام العرب وغيرهم. فلما كان المسمى من هذه الجهة لا سبيل إلى تصويره في نفس من تخاطبه إلا بواسطة اسمه، جاز من هذه الجهة أن يقال: إن الاسم هو المسمى، وإن كان العلم محيطاً بأن اللفظ ليس المعنى الواقع تحته. ومما أضافوا فيه المسمى إلى اسمه الذي يراد به التسمية والعبارة، وإن كانوا لم يصرحوا فيه بالمسمى، ما حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي في قولهم: "هذا ذو زيدٍ"، أي: صاحب هذا الاسم. فهذا كقولهم: هو مسمى زيدٍ، أي: المسمى

بهذه اللفظة فأجروه مجرى قولهم: "هذا ذو مالٍ". وعلى هذا قول الكميت: (إليكم ذوي آل النبي تطلعت ... نوازع من قلبي ظماء وألبب) يريد المسمين بآل النبي. ومثله قول الأعشى: فكذبوها بما قالت فصبحها ... ذو آل حسان يردي الموت والشرعا) أي: صبحهم المسمون بـ (آل) حسان. ومثله قول جميل: (بثينة من آل النساء وإنما ... يكن لأدنى لا وصال لعاتب)

يريد: المسميات بالنساء، فهذا كله شبيه بقوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] أي سبح مسمى هذه اللفظة التي هي الرب، ومسماها هو الله [تعالى]. وقد احتج كثير من أصحابنا - رحمهم الله تعالى - على أن الاسم هو المسمى بقول سيبويه في كتابه: "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء". ورد هذا كثير من المتكلمين وقالوا: هذا الكلام ليس فيه دليل قاطع على ما قالوه؛ لأنه يمكن أن يريد بالأسماء: المسميات، كما قلنا في هذا الباب. ويمكن أن يريد أصحاب الأسماء فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. والذي// عندي في ذلك أن سيبويه لا ينكر أن يكون الاسم هو المسمى من جهة، ويكون غيره من جهة أخرى على ما قدمنا ذكره. وقد جاء في كتابه الأمران معاً فقال في آخر باب الفاعل الذي لم يتعده فعله إلى مفعول: "فالأسماء المحدث عنها، والأمثلة دليل على ما مضى، وما لم يمض من المحدث به عن الأسماء، وهو الذهاب، والجلوس، والضرب. وليست الأمثلة بالأحداث، وما تكون فيه الأحداث ومعنى الأسماء". فظاهر كلامه

الباب الثالث: (في تبيين: كيف يكون المسمى بمعنى الاسم الذي يراد به التسمية؟ )

هذا أنه أوقع الأسماء موقع المسميات، لأن الألفاظ لا يحدث عنها، ولا توصف، بأن الأحداث تكون منها، فهذا ما قاله في هذا الكتاب. ثم قال في باب تسمية الحروف بالظروف وغيرها من الأسماء: "وتقول إذا نظرت في الكتاب: هذا عمرو، وإنما المعنى هذا اسم عمرو، وهذا ذكر ونحو هذا، إلا أن هذا يجوز على سمعه الكلام كما تقول: جاءت القرية، وإن شئت قلت: هذه عمرو، أي: هذه الكلمة اسم عمرو". فهذا نص جلي بأن الاسم قد يكون عنده غير المسمى، فقد ظهر مما أوردناه من كلامه أن الاسم عنده قد يكون المسمى وقد يكون غيره على ما تقدم من قولنا، وبالله التوفيق. الباب الثالث (في تبيين: كيف يكون المسمى بمعنى الاسم الذي يراد به التسمية؟ ) هذا الباب ينكره أكثر من يسمعه ممن لم يتميز في معرفة كلام العرب حتى يتبين له وجهه، وهو شيء يخص اللغة العربية، ولا يكاد يوجد في شيء من سائر الألسنة، ولا غناء له في الغرض الذي يقصده المتكلمون في الاسم والمسمى. وإنما ذكرنا هذا وشبهه لنستوفي الكلام في هذا الشيء الذي قصدناه. اعلم أنه لا خلاف بين البصريين والكوفيين- فيما أعلمه- أن كل فعلٍ تجاوز ثلاثة أحرف فإنه يجوز أن يأتي مصدره على مثال مفعوله قياساً مطرداً، كقولك:

انطلق انطلاقاً، ومنطلق، والمفعول: منطلق به، وأدخل إدخالاً ومدخلاً، والمفعول مدخل، ومزقته تمزيقاً وممزقاً، وسرحته تسريحاً ومسرحاً، قال الله تعالى: {وندخلكم مدخلا كريماً} [النساء 4: 31] وقال: {ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدقٍ} [يونس 10 - 93]. وقال تعالى: {ومزقناهم كل ممزق} [سبأ 34: 19]. وقال جرير: (ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عياً بهن ولا اجتلابا) وقال القطامي: (ما اعتاد حب سليمى حين معتاد) وقال النابغة:

(فأضحى في مداهن بارداتٍ ... بمنطلق الجنوب على الخيام) وقال آخر: (أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً ... وأنجو إذا غم الجبان من الكرب) ويروى عن أبي حاتم أنه قال: قرأت على الأصمعي شعر العجاج فلما انتهيت إلى قوله: (جأب ترى بليته مسحجا) رد علي فقال: تليله، قلت له: ما قرأت على أبي زيد إلا هكذا. فقال: وما يكون "مسحج"، فقلت له: مصدر: فقال: هذا لا يجوز. فقلت له: ألم يقل جرير: (ألم تعلم مسرحي القوافي؟ ) فكأنه أراد تقليل ذلك وإنكاره. فقلت له: قد قال الله- تبارك وتعالى-:

الباب الرابع: (في تبيين: كيف يكون الشيء الواحد مسمى من جهة وتسمية من جهة أخرى؟ )

{ومزقناهم كل ممزق} [سبأ 34: 19]، فسكت. وإنما أوتي الأصمعي من ضعفه في صناعة النحو، فقال على قياس ما ذكرناه: سميته، أسميه تسمية ومسمى، كما تقول: سويت الشيء أسويه تسوية ومسوى. وتقول: أعجبني مسمى ابنك عمراً، كما تقول: أعجبني تسمية ابنك محمداً، فيكون الاسم والمسمى والتسمية في هذا الباب ثلاثة أسماءٍ مترادفة على معنى واحدٍ، ومن هذا الباب قول الشاعر: (فلو كان في ليلى شداً من خصومةٍ ... للويت أعناق الخصوم الملاويا) يريد بالملاوي جمع "ملوى"، وهو مصدر بمعنى التلوية، كقوله: المسوى بمعنى التسوية، وبالله التوفيق. الباب الرابع (في تبيين: كيف يكون الشيء الواحد مسمى من جهة وتسمية من جهة أخرى؟ ) اعلم أن قولنا: اسم، لفظة تجري مجرى الجنس والنوع، لأنها تقع على جميع الألفاظ التي يعبر بها عن المعاني كجوهر، وعرضٍ، ورجلٍ، وفرسٍ، وزيدٍ،

وعمروٍ. كل واحد من هذه الألفاظ يقال له: اسم، وهو تسمية لما تحته من معناه، فيكون بإضافته إلى الاسم الذي فوقه مسمى، ويكون بإضافته إلى المعنى الذي تحته تسميةً واسماً. ومثال ذلك قولنا: "زيد"، و"إنسان"، و"حي"، فإنك تجد الإنسان الذي هو واسطة بين "زيدٍ" أو"الحي" مسمى إذا كان يقال عليه: الحي، واسماً إذا كان يقال: "زيد"، وتجد "زيداً" و"الإنسان"- وإن كان أحدهما مسمى والآخر اسماً له- قد تساويا في أنهما مسميان للحي إذا كان (الحي) يقال على كل واحدٍ منهما. وتجد الحي الذي هو اسم للإنسان، والإنسان الذي هو مسمى له قد تساويا في أنهما اسمان لزيدٍ، فيجوز من هذه الجهة أيضاً أن يقال: إن الاسم هو المسمى على ضربٍ من التأويل، وإن كان غيره من جهةٍ أخرى. فهذا ما حضرني- أعزك الله- من القول في الاسم والمسمى. وأما الثمرة والنتيجة من معرفة الاسم هل هو المسمى أو هو غيره؟ فإنا أضربنا عن الخوض فيه لأن غرضنا في هذه المقالة إنما كان تبيين كيف يقال: إن الاسم هو المسمى، وكيف يقال: إنه غيره، وأن كل واحدٍ من القولين صحيح. ونحن نحمد الله- تعالى- على نعمه، ونسأله المزيد من قسمه، لا رب غيره، ولا معبود سواه. تمت المقالة في الاسم والمسمى والحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمدٍ.

الرسالة الثالثة: في تحقيق معنى لفظ (رب)

الرسالة الثالثة: في تحقيق معنى لفظ (رب)

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم أفضل التسليم [ ..... ] المؤلف بهذا الكتاب قراءة مني عليه قلت له: قلت - رضي الله عنك-: سألت - أدام الله عزك، وحرص على النوب حوزتك، وملكك [نوا] صي النعم، وبلغك أقاصي الهمم - عن قول النحويين: إن (رب) للتقليل، وقلت: كيف يصبح ما قالوه، وكلام العرب المنظوم والمنثور يشهد بضد ما زعموه؟ لأن القائل إذا [قال: رب عالم] لقيت، ورب طعام [طيب] أكلت: فإنما غرضه أن يكثر من لقيه من العلماء وما أكله من الطعام الطيب؟ وكذلك قول امرئ القيس:

(ألا رب يوم لك منهن صالح ... ولا سيما يوم بدارة جلجل) وقال الأعشى: (رب رفد هرقته ذلك اليوم وأسرى من معشر أقتال) لا يليق بهما التقليل؛ لأن بيت امرئ القيس بيت افتخار بكثرة الأيام الصالحة التي تنعم فيها بالنساء، وأن يوم (دارة جلجل) كان أجلها وأحسنها. وبيت الأعشى بيت مدح، ولم يمدح الذي مدحه بأنه أراق رفدا واحدا. ومثل هذه الأبيات - أدام الله عزك - حمل القائلين على أن يقولوا: إن (رب) للتكثير، مع أن سيبويه قال في باب (كم): "ومعناها كمعنى رب، فتوهموا أن مذهبه أنها للتكثير.

وقد كان أشكل على من أمرها قبل فوتي في هذه الصناعة ما أشكل عليك، وحسبت أن أبا القاسم الزجاجي وأبا جعفر النحاس ونحوهما من صغار النحويين غلطوا في ذلك، فجعلت أبحث عما قال فيها جلة النحويين، فوجدت كبراء البصريين ومشاهيرهم مجمعين على أنها للتقليل، وأنها ضد (كم) في التكثير؛ كالخليل، وسيبويه، وعيسى بن عمر، ويونس، وأبي زيد الأنصاري،

وأبي عمرو بن العلاء، والأخفش سعيد بن مسعدة، والمازني، وأبي عمر الجرمي، وأبي العباس المبرد، وأبي بكر بن السراج، وأبي إسحاق الزجاج، وأبي علي الفارسي، وأبي الحسن الرماني، وابن جني،

والسيرافي. وكذلك جلة الكوفيين، كالكسائي، والفراء، ومعاذ الهراء، وابن سعدان، وهشام، ولم أجد لهم مخالفا في ذلك إلا صاحب كتاب (العين)؛ فإنه صرح بأنها للتكثير، ولم يذكر أنها تجيء بمعنى التقليل، وهذا من أطرف شيء، لأن (رب) قد كثر استعمالها في مواضع [لا يسوغ] التكثير فيها، سنذكرها إذا انتهينا إليها إن شاء الله.

ورأيت الفارابي قد ذكر في كتاب (الحروف) أنها تكون تكثيرا وتقليلا و [رأيت] قوما من نحويي زماننا هذا ومن قرب زمانه من زمانهم يعتقدون أنها للتكثير مثل (كم)، وكأنهم يعتقدون و [ن] أن النحويين المتقدمين غلطوا فيها، ورأيتهم يتعلقون بالمواضع التي ظاهرها التكثير، ويغفلون المواضيع التي لا تحتمل إلا التقليل. ورأيت قوما منهم يحتجون بقول سيبويه في (كم): "إن معناها كمعنى رب) ". وقد يتعين على المنصف إذا رأى رأيا يخالف ما رآه المبرزون في صناعة من الصنائع أن يتهم رأيه، ولا يتسرع إلى تخطئتهم، وإنما ينبغي أن يلتمس معرفة حقيقة ما قالوه، فلسنا نشك في أن الخليل وجميع من سميناه من البصريين والكوفيين قد رأوا الأبيات التي ظاهرها التكثير، كما رآها هؤلاء المعترضون عليهم؛ لأنها كثير جدا. وليس مجيئها للتكثير شاذا قليلا أنه عاب عنهم لقلته، بل تكاد

المواضع التي ظاهرها الكثرة تكون موازنة للمواضع التي تقع فيها للقلة. ففي اتفاق جميع ما ذكرناه على أن أطلقوا أن (رب) للتقليل و (كم) للتكثير دليل على أن لهم في ذلك غرضا ينبغي أن يعلم ويوقف عليه، وكذلك قول سيبويه: "إن (كم) معناها كمعنى رب لا دليل فيه على أنها عنده للتكثير من ثلاثة أوجه: أحدها: أن سيبويه لم ينازع غيره في قولهم: إن (رب) للتقليل، و (كم) للتكثير. والثاني: أن سيبويه إذا تكلم في الشواذ في كتابه فمن عادته في كثير منها أن يقول: "ورب شيء هكذا؛ يريد أنه قليل نادر، كقوله في باب (ما) وقد أنشد بيت الفرزدق: (فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريس وإذ ما مثلهم بشر) "وهذا لا يكاد يعرف، كما أن (لات حين مناص) [ص 38: 3] كذلك، ورب شيء هكذا، وهو كقول بعضهم: هذه ملحقة جديدة، في القلة". فكيف

يتوهم عليه أنه أراد بقوله: إن معنى (كم) كمعنى (رب) أنها مثلها في الكثرة، وهو يستعلمها في كلامه، وما يتكلم عليه من مسائل كتابه بضد ذلك؟ والوجه الثالث: أن كل من شرح كتاب سيبويه لم يقل أحد منهم: إن سيبويه أراد بهذا الكلام أن (رب) للتكثير. وقد فسر أبو علي الفارسي هذا الموضع فقال: "إنما قال: إن معنى (كم) كمعنى (رب) لأنها تشارك (رب) في أنهما يقعان صدرا، وأنهما لا يدخلان إلا على نكرة، وأن الاسم المنكور الواقع بعدها يدل على أكثر من واحد، وإن كان الاسم الواقع بعد (كم) يدل على كثير، والاسم الواقع بعد (رب) يدل على قليل، فيختلفان في هذا الوجه، ويختلفان في أن (كم) اسم، و (رب) حرف". وكذا قال ابن دستوريه والرماني وغيرهما في شرح هذا الموضع من

باب (الكلام في رب وحقيقة وضعها)

كلام سيبويه. وإن كانت المواضع التي ظاهرها التكثير عند هؤلاء توجب أنها للتكثير. فقد يجب أن تكون المواضع التي ظاهرها التقليل توجب أن تكون للتقليل، فلا أقل من أن يعادل الأمران عندهم، فيقولوا: إنها تكون تقليلا وتكثيراً، كما قال أبو نصر الفارابي. وأنا أؤصل في (رب) أصلاً ينبني تفريع مسائلها عليه، وأصرح بما أشار أهل هذه الصناعة المتقدمون إليه، إن شاء الله. باب (الكلام في رب وحقيقة وضعها) اعلم أن (رب) و (كم) بنيا على التناقض في أصل وضعهما؛ لأن أصل وضع (رب) للتقليل، وأصل (كم) للتكثير، هذه حقيقة وضعهما، ثم يعرض لهما المجاز للمبالغة وغيرهما من الأغراض، فتقع كل واحدةٍ منهما

موقع صاحبتها مع حفظها لأصل وضعها، وهذه سبيل المجاز: لأنه عارض يعرض للشيء فيستعار في غير موضعه، ولا يبطل ذلك حقيقته التي وضع عليها. ومثال ذلك: المدح والذم، فإنهما وضعا على التناقض في أصل وضعهما، ثم يعرض لهما المجاز [لأنه عارض يعرض] فيستعمل الذم مكان المدح، كقول القائل: أخزاه الله ما أشعره ولعنه الله ما أفصحه! وقد يستعمل المدح مكان الذم فيقال للأحمق: «يا عاقل! »، وللجاهل: «يا عالم! »، وللبخيل: «يا جواد! ». وذلك على سبيل الهزء. قال الله تعالى حكاية عن قوم (شعيب) أنهم قالوا له: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود 87: 11] وقال فرعون: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان 49: 44]. ومثله قول الشاعر: (وقلت لسيدنا: يا حكيـ ... ــــم إنك لم تأس أسواً رفيقاً).

وقال بعض شعراء اليمن يخاطب جريراً: (أبلغ كليباً وأبلغ عنك شاعرها ... أني الأغر وأني زهرة اليمن). فأجابه جرير يقول: (ألم تكن في وسوم ٍ قد وسمت بها ... من حان موعظة يا زهرة اليمن؟ ! ). فسماه (زهرة اليمن) حكاية لقوله وهزءاً به. وكذلك التذكير والتأنيث نقيضان في أصل وضعهما، ثم يلحقهما المجاز فيقع كل واحد منهما موقع الآخر، مع حفظه لأصله الذي وضع عليه، فيقولون للرجل: علامة، ونسابة، ويرون أنه أبلغ من قولهم: علام ونساب. ويقولون: امرأةٌ طاهرٌ وعاقرٌ وحاسرٌ، ويرون ذلك أبلغ من التأنيث لو جاؤوا به ههنا. ووجه المبالغة عندهم في هذا النقيضين إنما بينهما حد يفصل بعضهما من بعض، فإذا زاد أحدهما على حده انعكس إلى ضده؛ لأنه لا مذهب إليه إذ لا واسطة بينهما، ولهذا

قال الشاعر: ( .... وشر الشدائد ما يضحك). وقال أبو الطيب المتنبئ: (ولجدت حتى كدت تبخل جائلاً ... للمنتهى، ومن السرور بكاءُ) [وقال أبو العلا المعري: ( ... فقد تدمع العينان من شدة الضحك)] وعلى هذه السبيل من المجاز يضعون النفي موضع الإيجاب، والإيجاب موضع النفي، ويخرجون الواجب بصورة الممكن والممكن بصورة الواجب، وغير ذلك من المجازات التي تكثر إن ذكرناها، وتخرجنا عن الغرض الذي نحن بصدده وقاصدون نحو مقصده. فكما أن وقوع بعض الأشياء موقع بعض لا يبطل أصل وضعها، فكذلك وقوع (رب) في موقع (كم) موقع (رب) لا يبصل أصل وضعهما على

باب (المواضع التي تقع فيها (رب) للتقليل والتخصيص على حقيقة وضعها)

ما نذكره بعد، إن شاء الله. باب (المواضع التي تقع فيها (رب) للتقليل والتخصيص على حقيقة وضعها) فمن ذلك قول العرب إذا مدحوا الرجل: «ربه رجلاً» وهو شبيه بقولهم: «لله دره رجلاً! » وهذه مسألة قد اتفق عليها البصريون والكوفيون قاطبةً، ونص عليها سيبويه في كتابه، وهذا تقليل محض لا يتوهم فيه كثرةٌ؛ لأن الرجل

لا يمدح بكثرة النظراء والأشباه، وإنما يمدح بقلة النظير أو عدمه// بالجملة؛ ولذلك قالوا في التعجب: إنه ما خفي سببه خفاء وخرج عن نظائره. وإنما يريدون بقولهم: «ربه رجلاً» أنه قليل غريبٌ في الرجال؛ فكأنهم قالوا: ما أقله في الرجال وما أشده فيهم! . ويدل على ذلك تصريحهم في المدح بلفظ القلة في نحو قولهم: هل من يقول هذا، وقل من يعلم ذلك إلا زيد، ونحو ذلك. وقال أبو زيد الأنصاري: (بيد) بمعنى (غير) وربما كانت بمعنى (من أجل). وقال أبو عبيدة: «الأسد توصف بـ (الفدع)، وهو أن تقبل الرجل الواحدة على الأخرى، وربما كان الفدع أن ينقلب الرسغ إلى الجانب الوحشي، أراد أن هذا قليل، والأول هو الأكثر». وقال أبو العباس المبرد في الكامل: «وكانت الخنساء وليلى مباينتين في أشعارهما لأكثر الفحول، ورب امرأة تتقدم في صناعة، وقلما يكون ذلك. والجملة ما قال الله_عز وجل_: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف 18: 43] ومما جاءت فيه- (رب) بمعنى القلة قول العرب: ربما خان الأمين، وربما سفه

الحليم؛ أي أن هذا قد يكون، وإن كان الأكثر غيره، كما قال قيس بن زهير: (أظن الحلم دل علي قومي ... وقد يستجهل الرجل الحليم) وقال سالم بن وابصة: (لا تغترر بصديق أنت ممحضه ... وخفه خوفك من ذي الغدر والملق) (إن الزلال، وإن أنجاك من غصص ... دأبا، فربتما أدراك بالشرق). وقال أعشى باهلة: (لا يبطرن ذامقة أحبابه ... فربما أردى الفتى لعابه) وقال حاتم الطائي: (وإني لأعطي سائلي ولربما ... أكلف ما لا يستطاع فأكلف)

وقال زهير: (وأبيض فياض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغب فواضله) وهذه نصوص لا وجه للتكثير فيها؛ لأنه إنما أراد بالأبيض حصن بن حذيفة ابن بدر الفزاري ولم يرد جماعة كثيرة هذه صفتهم، ألا تراه يقول بعده: (حذيفة ينميه وبدر كلاهما ... إلى باذخ يعلو على من يطاوله) وقال خوات بن جبير الأنصاري صاحب ذات النحيين:

(وذات عيال واثقين بعقلها ... خلجت لها جار استها خلجات) وإنما أراد بقوله: «وذات عيال» ذات النحيين وحدها، ولم يرد أنه فعل هذه// القصة مراراً كثيرة. وكذلك قوله في هذه القصة: (وأهل خباء صالح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله) فإنما أراد: ما هاج بين حيه وحيها من الحرب بسبب هذه القصة، ولم يرد أهل أخبية كثيرة. وقال صخر بن الشديد أخو الخنساء: (وذي إخوة قطعت أقران بينهم ... كما تركوني واحداً لا أخا ليا) إنما أراد بذي إخوة ههنا دريد بن حرملة المري، وهو الذي كان قتل أخاه

معاوية، فلما قتلته بأخيه قال هذا الشعر. وقوله: ( ... كما تركوني واحداً لا أخا ليا) يبطل توهم معنى الكثرة ههنا؛ لأن الذين تركوه بلا أخ إنما كانوا بني حرملة ولم يكن له أخ قتل غير معاوية وحده. وقال بعض شعراء غسان يصف وقعة كانت بينهم وبين مذحج في موضع يعرف بالبلقاء: (ويوم على البلقاء لم يك مثله ... على الأرض يوم في بعيد ولا دان) وأنشد سيبويه وغيره من النحويين: (ويوم شهدناه سليماً وعامراً ... قليل سوى الطعن النهال نوائله) وقال ابن مخلاة الحمار في يوم مرج راهط:

(ويوم ترى الرايات فيه كأنها ... حوائم طير مستدير وواقع) فهؤلاء إنما وصفوا أياماً مخصوصة بأعيانها، يرى ذلك أيضاً إذا نظر في أخبار هذه الأشعار التي قيلت فيها. ومن ذلك ما أنشده النحويون [من قوله]: (ونار قد حضأت بعيد وهن ... بدرا ما أريد بها مقاما) وهذا شعر مشهور، ولا معنى فيه للكثرة؛ لأنه إنما وصف قصة جرت له مع الحي مرة واحدة. ونحن نذكر أبياتاً كثيرة من أشعار المحدثين يبين [في] جميعها أن (رب) للتقليل، كثر استعمالهم لها، فلم ينكرها أحد من العلماء عليهم فصارت لذلك كأنها حجة؛ فمن ذلك قول أبي تمام الطائي:

(عسى وطن يدنو بهم ولعلما ... وإن تعتب الأيام فيهم فربما) يريد: فربما أعتبت في بعض الأحيان. وقال أبو الطيب المتنبي: (وربما تحسن الصنيع لياليه ولكن تكدر الإحسانا) وقال أيضاً: (ولربما أطر القناة بفارس ... وثنى فقومها بآخر منهم) وقال: (ويوم كيوم العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشمس أيان تغرب) وقال يهجو كافوراً: (وأسود أما القلب منه فضيق ... نخيب، وأما بطنه فرحيب)

وقال يمدحه: (وأبلج يعصي باختصاصي مشيره ... عصيت بقصديه مشيري ولومي) وإنما عنى بالأبلج (كافوراً)، وبمشيره (أباً حنزابة) وزيره. وكذلك قوله لسيف الدولة: (علينا لك الإسعاد إن كان نافعاً ... بشق قلوب لا بشق جيوب) (فرب كئيب ليس تندي جفونه ... ورب كثير الدمع غير كئيب) وقد أوضح ما أراده من التقليل ههنا في موضع آخر، فأخرجه بغير لفظ (رب) وهو:

(وفي الأحباب مختص بوجد ... وآخر يدعي معه اشتراكاً) ومن أشعار المحدثين قوله: (الحر طلق ضاحك ولربما ... تلقاه، وهو العابس المتجهم) وقال الآخر: (احذر عدوك مرة ... واحذر صديقك ألف مره) (فلربما انقلب الصديـ ... ــق فكان أعلم بالمضره) وقال عدي بن زيد العبادي، وقد أغفلت ذكره في الشعراء المتقدمين: (يا لبيني أوقدي النارا ... إن من تهوين قد حارا) (رب نارٍ بت أرمقها ... تقضم الهندي والغارا)

(عندها ظبي يؤرثها ... عاقد في الجيد تقصارا) فتبين من هذا الشعر أنه إنما أراد نار لبينى وحدها. وقد أوضح ذلك المعري بقوله: (ليست كنار عدي نار عادية ... باتت تشب على أيدي مصاليتا) (وما لبيني- وإن عزت بربتها ... لكن غذتها رجال الهند تربيتا) ومما تأتي فيه (رب) للتقليل والتخصيص إتياناً مطرداً، ويرى ذلك من تأمل الأشعار التي في اللغز والأشعار التي يصف فيها الشعراء أشياء مخصوصة بأعيانها؛ فإنهم كثيراً ما يستعملون في أوائلها (رب) مصرحاً بها، والواو التي تنوب منابها، كقول ذي الرمة: (وجارية ليست من الإنس تشتهي ... ولا الجن قد لاعبتها ومعي ذهني)

(فأدخلت فيها قيد شبر موفر ... فصاحت، ولا الله ما وجدت تزني) (فلما دنت إهراقة الماء أنصتت ... لأعزله عنها، وفي النفس أن أثنى) (وإنما وصف بكرة استسقى عليها ماءً ..... ) وكذلك قوله الآخر: (رب سهم رأيت في جوف خرج ... يترامى بموجه الزخار) ونهار رأيت منتصف الليل وليل رأيت نصف النهار (وثلاثين ألف شيخ قعوداً ... فوق غصن لا تنثني لانكسار) يعني بـ (الخرج) الوادي الذي لا منفذ له، وبـ (النهار) فرخ الحبارى، وبالليل فرخ الكروان. وبـ (الشيخ) الرذاذ الصغير من المطر. وقال الأغلب العجلي، ووصف ثعلباً أرسل عليه كلب فعقره:

(وثعلب بات قرير العين ... لاقى مع الصبح غراب البين) (وقد غدا مجرمز الشخصين ... فاستقبلته لحضور الحين) (طلعة كلب أعضف الأذنين ... فمر يهوي ثابت الساقين) (إلى وجار بين صخرتين ... والكلب منه راكب المتنين) (فلم يرعه غير روعتين ... حتى رأيت شلوه نصفين) وقال يصف صقراً: (يا رب صقر يفرس الصقورا ... ويكسر العقبان والنسورا) (ترى الإوز منه مستجيرا ..... ) وقال ابن الرومي: (وارزقني مخطف الخصور ... كأنه مخازن البلور) وقال أبو الطيب، وقد أمره أبو العشائر أن يصف بطيخة:

(وسوداء منظوم عليها لآلئ ... لها صورة البطيخ وهي من الند) ومن ذلك قوله في نزهة أمره أبو علي الأرواجي بوصفها: (ومنزل ليس لنا بمنزل ... ولا لغير الغاديات الهطل) وكذلك قوله في صفة صيد شاهده مع ابن طغج: (وشامخ من الجبال أقود ... مرد كيا فوخ البعير الأصيد) وإنما أراد منزلاً بعينه، ويدل على ذلك قوله: (زرناه للأمر الذي لم يعهد) كذلك قوله في اللعبة التي امتحنه بها ابن طغج: (وذات غدائر لا عيب فيها ... سوى أن ليس تصلح للعناق)

باب (ذكر المواضع التي وقعت (رب) فيها بمعنى التكثير على طريق المجاز)

قال البطليوسي: فهذه المواضع كلها (رب) فيها للتقليل، وهي كثيرةٌ جداً، وإنما تخيرت منها أوضحها، وهذه حقيقة (رب) وموضوعها، وبالله التوفيق. باب (ذكر المواضع التي وقعت (رب) فيها بمعنى التكثير على طريق المجاز) إنما تأتي (رب) بمعنى التكثير في معظم أحوالها في المواضع التي يذهب بها إلى الافتخار والمباهاة، كقول القائل: «رب عالم لقيت»، و «رب يوم سرور شهدت»، لأن الافتخار لا يكون إلا بما كثر من الأمور في الغالب من أحوالها، وقد يكون لقاء الرجل الواحد أذهب في الفخر من لقاء الجماعة، ولكن الأول هو الأكثر، فمن ذلك قول امرئ القيس: (ألا رب يوم لك منهن صالح ... ولا سيما يوم بدارة جلجل) وقوله: (فإن أمس مكروباً فيا رب بهمة ... كشفت إذا ما اسود وجه الجبان) (وإن أمس مكروباً فيا رب قينة ... منعمة أعملتها بكران)

وقوله: (وخرق بعيد قد قطعت نياطه ... على ذات لوث سهوة المشي مذعان) (ومجر كغلان الأنيعم بالغ ... ديار العدو ذي زهاء وأركان) (فهذه مواضع لا يليق بها إلا التكثير .... ) وكذلك قول أبي كبير الهذلي: (أزهير إن يشب القذال فإنه ... رب هيضل مرس لفف بهيضل) وكذلك قول أبي العطاء السندي يرثي عمرو بن هبيرة الفزاري:

(فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام بعد الوفود وفود) وهذا النوع في الشعر كثير جداً. والفرق بين هذا الباب والباب الأول، أن الأول حقيقة في (رب)، وهذا الباب مجاز يعرض لها كما يعرض للمدح أن يخرج مخرج الذم، وللذم أن يخرج مخرج المدح، وللتذكير أن يخرج مخرج التأنيث، وللتأنيث أن يخرج مخرج التذكير كما ذكرنا في الباب الأول. ومن الفرق بينهما، أن (كم) يصلح استعمالها في هذا الباب مكان// (رب) ولا يصلح ذلك في الباب الأول؛ ولذلك تجد المعنى الواحد في هذا الباب يأتي بلفظ التقليل مرة وبلفظ التكثير مرة، كقول رجل من بني فقعس أنشده أبو تمام في الحماسة: (وذوي ضباب مظهرين عداوة ... قرحى القلوب معاودي الإفناد)

(ناسيتهم بغضاءهم وتركتهم ... وهم إذا صرخ الصديق أعادى) وقال ربيعة بن مقروم الضبي في نحو من هذا المعنى، أنشده أبو تمام: (وكم من حامل لي ضب ضغن ... بعيد قلبه حلو اللسان) (ولو أني أشاء نقمت منه ... بشغب أو لسان تيجان) (ولكني وصلت الحبل منه ... مواصلة بحبل أبي بيان) وغرض الشاعرين في هذين الشعرين واحد. وقد أخرجه أحدهما بلفظ التقليل، وأخرجه الآخر بلفظ التكثير فدل ذلك على أن (كم) و (رب) تتعاقبان على الشيء الواحد في هذا الباب. وربما جمعهما الشاعر في شعر واحد كقول عمارة ابن عقيل:

(فإن تكن الأيام شيبن مفرقي ... وكثرن أشجاني وقللن من غربي) (فيا رب يوم قد شربت بمشرب ... شفيت به غم الصدى بارد غرب) (وكم ليلة قد بتها غير آثم ... بشاجية الحجلين مفعمة القلب) ألا تراه قد أراد تكثير أيامه ولياليه، فأخرج بعض ذلك بلفظ (رب) وبعضه بلفظ (كم) ورأى الأمرين سواء؟ فإن قائل: إن كانت (رب) في أصل وضعها وحقيقتها للتقليل نقيضة (كم)، فما الوجه في استعمالهم إياها في مواضع التكثير التي لا تليق إلا بـ (كم)؟ فالجواب: أن ذلك لأغراض يقصدونها؛ فمنها: أن المفتخر يزعم أن الشيء الذي يكثر وجوده منه يقل وجوده من غيره، وذلك أبلغ في الامتداح والفخر من أن يكثر من غيره ككثرته منه، فاستعبرت لفظة التقليل في موضع التكثير إشعاراً بهذا المعنى، كما استعيرت ألفاظ الذم في موضع المدح، فقيل: أخزاه الله ما أفصحه! ، ولعنه ما أشعره إشعاراً بأن الممدوح قد حصل في مرتبة من //يشتم حسداً له على فضله؛ لأن الفاضل هو الذي يحسد ويوقع في عرضه، والناقص لا يلتفت إليه، وقد صرح الشاعر بهذا في قوله:

(ولا خلوت الدهر من حاسد ... فإنما الفاضل من يحسد) ولذلك قال بعض العرب «السيد من إذا أقبل هبناه، وإذا أدبر عبناه». وكذلك تستعار ألفاظ المدح في موضع الذم فيكون ذلك أشد على المذموم من لفظ الذم بعينه؛ لأن في ذلك مع الذم نوعاً من الهزء، كقولهم للأحمق: يا عاقل، وللجاهل: يا عالم! وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم؛ فكذلك إذا استعيرت لفظة التقليل مكان التكثير [كان أبلغ في المدح والفخر؛ لأنه يصير المعنى ما ذكرناه من أن الشيء الذي يكثر منه يقل من غيره، فيكون] أبلغ من لفظ التكثير المحض ولو وقع ههنا. وكذلك يستعيرون (كم) في موضع التقليل على وجه الهزء ويقولون: كم بطل قتل زيد! وكم ضيف قرى! وهو لم يقتل بطلاً ولم يقر ضيفاً، فيكون أبلغ من قولهم: جبان، وهو بخيل. ويدل على أن هذا غرضهم في ذكر (رب) في هذا الموضع أنهم قد صرحوا به في مواضع كثيرة من أشعارهم، كقول سالم بن وابصة: (وموقف مثل حد السيف قمت به ... أحمي الذمار وترميني به الحدق)

(فما زلقت وما أبليت فاحشة ... إذا الرجال على أمثالهم زلقوا) ألا تراه يفتخر بأن هذا الموقف يكثر منه مع قلة وجوده من غيره؟ ومثله قول الآخر: (يا رب ليلة هول قد سريت بها ... إذا تضجع عنها العاثر الوكل) وكذلك قول العجاج: (ومهمه هالك من تعرجا ... هائلة أهواله من أدلجا) (إذا رداء ليله ترجرجا ... علوت أخشاه إذا ما أجبجا) ونظير هذا [في] أن له نسبتين مختلفتين، نسبة كثرة إلى المفتخر ونسبة إلى [قلة] إلى من يعجز عنه فيأتي [تارة على نسبة الكثرة بلفظ الكثرة بلفظ (كم) و] تارة

على نسبة القلة بلفظ (رب) أنهم إذا سموا رجلاً بالعباس، والحارث، والحسن، ونحوه من هذه الصفات، فربما أقروا فيها الألف واللام مراعاة لمذهب الصفة التي انتقلت عنها وربما حذفوا الألف واللام مراعاة لمذهب العلم الذي صارت إليه فتكون [لها] نسبتان مختلفتان تأتي بإحداهما تارة وبالأخرى تارة. ونظير اجتماع الكثرة والقلة في هذا الباب لغرض من الأغراض، اجتماع اليقين والشك في نحو قولهم: (قد علمت: أزيد في الدار أم عمرو؟ ) وهذا كلام طريف على ظاهره؛ لأن الذي يدعي العلم لا يستفهم، والذي يستفهم لا يدعي العلم. وإنما تأويله أني علمت حقيقة ما يستفهم عنه غيري؛ فهذا وجه من وجوه التقليل في هذه الأشياء. وقد يدخلها معنى التقليل على وجه آخر، وهو أن القائل قد يقول: (رب عالم لقيت)، وهو قد لقي كثيراً من العلماء، ولكنه يقلل من لقيه تواضعاً ويكون أبلغ من التكثير؛ لأن الإنسان إذا حقر نفسه تواضعاً ثم امتحن فوجد أعظم مما يقول جل قدره، وإذا عظم نفسه وأنزلها فوق منزلتها، ثم امتحن فوجد دون ذلك هان على من كان يعظمه، فهذا وجه من التقليل الذي يستعمل في هذه المسألة التي معانيها معاني الكثرة. وقد يدخلها التقليل على معنى ثالث، وهو قول الرجل لصاحبه: لا

تعادني فربما ندمت. وهذا موضع ينبغي أن يكثر فيه الندامة وليس بموضع تقليل، وإنما تأويله أن الندامة على هذا لو كانت قليلة لوجب أن يتجنب ما يؤدي إليها، فكيف وهي كثيرة؟ فصار لفظ التقليل ههنا أبلغ من التصريح بلفظ التكثير. وعلى هذا تأول النحويون قول الله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر 2: 15]. وعلى نحو هذا أيضا يتأول أيضاً قول امرئ القيس: ألا رب يوم لك منهن صالح. وقول أبي كبير الهذلي: رب هيضل لجب لقيت بهيضل. إن استعارة لفظة التقليل ههنا إشارة إلى أن قليل هذا فيه فخر لقائله فكيف كثيره؟ ! وأما قول أبي عطاء السندي في رثائه عمرو بن هبيرة الفزاري:

(فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود) فقد يتناول على هذا المعنى، ويحتمل أن يريد أن مدة حياته التي كثرت عليه فيها الوفود كانت قليلة، فعلى نحو هذه التأويلات يتأول النحويون الذين أصلوا أن (رب) لتقليل هذه الأشياء التي ظاهرها التكثير. ومن قال: إنها في هذه المواضع للتكثير تلقى الكلام على ظاهره، ولم يدقق الكلام فيها هذا التدقيق، ولم يقسمها إلى الحقيقة والمجاز كما فعلنا نحن، والحمد لله كما هو أهله، [وصلى الله على محمد النبي الكريم وآله وسلم].

الرسالة الرابعة: في قوله تعالى: {الولاية لله الحق}

الرسالة الرابعة: في قوله تعالى: {الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ}

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على النبي الكريم وآله وسلم مسألة أخرى: كتب إلى الفقيه النحوي أبي محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي، رحمة الله: ما تقول _يرحمك الله_ في قوله الله تعالى: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ

لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف 43: 18 - 44] هل يجوز الوقف على (الولاية) على قراءة من قرأ: (لله الحق) برفع القاف، أم لا؟ وتبيين المانع منه وما موضع (هنالك) من الإعراب؟ وبأي شيء يتعلق؟ وكذلك قوله: (لله) وقد علم أن كل مجرور لا بد له من التعلق إما بظاهر فعل وإما بفعل مضمر، بين لنا ذلك [بياناً شافياً]، يعظم لك أجرك، [ويجزل ذخرك، الجواب ... ]؟ فقال _رحمة الله_: لا أحفظ عن أحد من السلف أنه أجاز الوقف على (الولاية)؛ لأنهم رأوها متعلقة بما بعدها، محتاجة إليه، ألا ترى أن المعنى: هنالك ولاية الله الحق لعبده؟ فهي مفتقرة إلى ذكر الله _تعالى_ لأن الولاية تكون لله

ولغير الله، والوقف على الموصوف دون صفته قبيح. وقد تأملت الوقف على (الولاية) فرأيته يستحيل من وجه لا يستحيل من وجه. أما من وقف على قوله: (هنالك) [فالوقف على الولاية في هذا الوجه لا يجوز البتة. وأما من وقف على قوله: (منتصراً) وجعل ما بعده مستأنفاً] فالوقف على هذا غير ممتنع، وإن كان غير مختار، وينبغي أن يجعل من الوقف الذي يسميه القراء حسناً وصالحاً، وإن لم يكن تاماً ولا كافياً. وهذا النوع من الوقف

أجازه بعض القراء، ومعناه عندهم أن يوقف على الكلمة _وإن كان لا يصح أن يبتدأ بما بعدها_ كالوقف على الموصوف دون الصفة، والمؤكد دون التأكيد، ولهذا استحب جماعة من القراء الوقف عند رؤوس الآيات، وإن كانت الآية متعلقة بما بعدها، ووقفوا على قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح 10: 71] وهو كلام ناقص؛ لأن قوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح 11: 71] جواب لقوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح 10: 71] فيكون الوقف على (الولاية) من هذا النوع. ولصاحب هذا الرأي أن يقول: إن الموصوف إنما يقبح الوقف عليه دون صفته، إذا كان محتاجاً إليها في البيان، وإن كان قائما بنفسه غير مفتقر إلى الصفة جاز السكوت عليه، وليست (الولاية) مفتقرة إلى أن توصف بأنها حق؛ لأن ولاية الله تعالى حق وصفت بالحق أم لم توصف. ولو كانت الولاية _ههنا_ مفتقرة إلى وصفها بالحق لما جاز خفص (الحق)، وممكن أن يجعل لله تفسيراً، كأنه لما قال: هنالك الولاية، قال قائل: لمن؟ فقال المجيب: لله، وهذا كله توجيه لمذهب من أجاز الوقف على الولاية ظهر لي من غير أن أراه لمن تقدم.

وأما إعراب الآية؛ فإن (الولاية) ترتفع بالابتداء على مذهب سيبويه، وبالاستقرار على مذهب الأخفش، فإذا كانت مبتدأ كان الخبر (هنالك)، وإن شئت كان (لله). فإن اعتقدت أن (هنالك) هو الخبر، كان موضعه رفعاً، وإن كان ظرفاً لتضمنه الخبر المرفوع والعامل فيه الاستقرار، ويكون (لله) في موضع نصب على الحال، والعامل في هذه الحال ما تضمنته الولاية من معنى الفعل، و (هنالك) بما تضمنه من معنى الاستقرار. وإن قلت: (لله) هو الخبر، كان موضع المجرور (رفعاً) لتضمنه الخبر المرفوع، وكان (هنالك) منصوب الموضع على الظرف المتضمن لمعنى الحال، كما تقول: رأيت زيداً خلفك، وخلفك _وإن كان ظرفاً_ متضمن معنى الحال، والعامل في الحال ما تضمنه قوله: (لله) من الاستقرار، ومن رفع (الولاية) بالاستقرار، وهو مذهب الأخفش، فلا موضع لـ (هنالك) عن الإعراب؛ لأنه ناب مناب الفعل الذي

يرتفع به فاعله، ويكون (لله) في موضع نصب على الحال أيضاً. ومن أجاز الوقف على (هنالك) فالعامل فيه قوله: (منتصراً)، وهو مذهب غير مختار؛ ولأبي عمرو الداني في هذا الموضع كلام مشكل؛ لأنه ذكر في كتاب (المكتفي في معرفة الوقف) قول من جعل العامل في (هنالك) (منتصراً)، ثم قال: «والأوجه أن يكون (هنالك) مبتدأ». وهذا كلام يوهم من سمعه أنه مبتدأ مسند إليه ما بعده، وذلك غير صحيح، وإنما أراد أنه كلام مستأنف منقطع مما قبله. فإن قال قائل: فإذا جاز أن يكون (لله) في موضع نصب على الحال جاز الوقف على الولاية؛ لأن (الحال) فضلة يجوز السكوت دونها [ففي هذا _لعمري] حجة يتعلق بها صاحب هذا القول. ولكن ليس معنى قول النحويين: إن الحال فضلة، أنها مستغنى عنها في كل موضع، ألا ترى أن من الأحوال ما

يسد مسد الخبر الذي لا بد منه في نحو: ضربي زيداً قائماً. وكذلك [نجد] من الفضلات ما لا يسوغ سقوطه من الكلام، كقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص 4: 112]، و (له) لا تستغني الآية عنه، وإن لم يكن خبراً ولا جزاءاً منه. إنما أراد النحويون بقولهم: إن الحال فضلة؛ أنها لا ينعقد بها وحدها خبر مفيد مستقل بنفسه، وإنما تنعقد فائدة بغيرها دونها أو بها مقترنة مع غيرها. أما أن تكون هي وحدها خبرا يستقل به كلام فلا، وفي هذا الموضع نظر أكثر من هذا، ليس هذا موضعه، ولله الحمد. وكملت المسألة والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآله الطبيبين. ومما أنشده الفقيه النحوي ابن محمد البطليوسي لنفسه:

(قالت: أرى ليل الشباب بدت ... للشيب فيه أنجم زهر) (فأجبتها لا تكثري عجباً ... من شيبة لم يحنها كبر) (لكن طويت من الهموم لظى ... أضحى لها في عارضي شرر)

الرسالة الخامسة: في تحقيق المثال المشهور: ضرب زيد عمرا

الرسالة الخامسة: في تحقيق المثال المشهور: ضرب زيد عمراً

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد النبي الكريم قال الفقيه الأستاذ المحدث، أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي: سألت _سددك الله إلى الغرض الأقصد، وحملك على السنن الأحمد عن قولنا: ضرب زيد عمراً وقلت: ما العامل في زيد؟ وما العامل في زيد؟ وما العامل في عمرو؟ وهل عاملها واحد؟ أم العامل في الآخر؟ وما هذا الكلام؟ أحقيقة أم مجاز؟ فإن كان حقيقة فكيف هو؟ وإن كان مجازاً فمن كم وجهاً دخله المجاز؟ أمن وجه واحد أم من أكثر من ذلك؟ وقلت: ما معنى قولنا: زيد فاعل بـ «ضرب»، وعمرو مفعول به؟ فإن كنتم تريدون أن للفعل تأثيرا في الفاعل فكيف يصح ذلك والأمر في الحقيقة بعكس ما زعمتوه؛ لأن الفاعل هو الموجد للفعل والمحدث له. وإن كان لا تأثير للفعل في فاعله فبأي شيء ارتفع الفاعل؟ وقلت: أتزعمون أن زيداً يرتفع باختراعه الضرب وإحداثه إياه أم بإسناد الفعل إليه؟ وكيف ترتيب هذه المسألة وما أشبهها على رأي البصريين والكوفيين؟ وما الأحكام التي يختص بها (زيد) دون (عمرو)؟ وقد أجبتك _أرشدك الله_ إلى ما سألتني عنه، وجلوت الحقيقة منه، واستوفيت فيها من القول ما رجوت أن يوافق مرادك، ويطابق اعتقادك، وما العون إلا بالله _عز وجل_.

(فصل) أما ارتفاع (زيد) من قولنا: ضرب زيد عمراً؛ فلا خلاف بين البصريين والكوفيين فيما علمته أنه بالفعل نفسه، وأما انتصاب (عمرو)؛ ففيه أربعة أقوال: أما سيبويه وأصحابه؛ فذهبوا إلى أن الناصب له الفعل نفسه، وأما هشام الكوفي فذهب إلى أن الناصب له الفاعل نفسه، وأما الفراء فذهب إلى أن العامل فيه مجموع الفعل والفاعل، وأنه لا يصح أن بنتصب بأحدهما دون الآخر. وذهب [خلف] الأحمر ومن رأى رأيه [إلى] أن الناصب له المعنى.

والذي يعتمد عليه من هذه الأقوال الأربعة هو قول سيبويه، وسائر الأقوال إما راجع إليه، وإما ساقط فلا يعرج عليه. فمما يدل على أن الناصب له هو الفعل اتفاق النحويين على تسمية (عمرو) في هذه المسألة ونظيرتها مفعولاً به؛ ذلك أن فعل زيد الضرب وقع به؛ لأن (عمراً) ليس بمفعول لـ (زيد) على الحقيقة. وإنما المفعول على الحقيقة (الضرب) ولأجل هذا سمي حدثاً؛ لأن الفاعل أحداثه، ولأجل هذا سمي الضرب مفعولاً مطلقاً. فإذا كان (عمرو) إنما صار مفعولاً بمباشرة فعل زيد إياه ووقوعه به صح أن فعل (زيد) هو الناصب له، لا زيد. وأما قول هشام: إن الفاعل الذي هو [زيد هو] العامل في (عمرو) دون الفعل؛ فإنما قال ذلك من قبل أن الاعتماد إنما هو الفاعل لأنه الموجد للضرب والمحدث له، فلما كان كذلك صار الضرب وعمرو معاً مفعولين لـ (زيد)، إلا أن الضرب مفعول لـ (زيد) لا واسطة بينه وبينه، وعمرو مفعول لـ (زيد) بواسطة الضرب. وهذا الذي اعتقده هشام. وإن كان صحيحاً من طريق المعنى، فإنه لا يوجد أن يكون (زيد) هو الناصب لـ (عمرو) على مقاييس النحويين، بل هو خارج عن قوانينهم غير مستمر على أصولهم، وهو منتقض عليه من وجوه: أحدهما: أن النحويين لا يريدون بقولهم: (فاعل) في صناعة النحو الفاعل الحقيقي، وإنما الفاعل عندهم ما أسند إليه الحديث قبله، وحدث به عنه، سواء كان مخترعاً للفعل أو غير مخترع، ألا تراهم يقولون: مات زيد، ومرض عمرو، ولم

يفعلا شيئاً في الحقيقة فيرفعونهما ويسمونهما فاعلين، كما يقال: أمات الله زيداً، وأمرض الله عمراً. ووجه ثان: وهو أن النحويين متفقون على أن أصل العمل إنما هو للأفعال والحروف، وأن الأسماء لاحظ لها في العمل. وإنما يعمل من الأسماء ما ضارع الفعل الذي في أوله إحدى الزوائد في قول جمهور النحويين، وأما كان بمنزلة الفعل الماضي في قول الكسائي وحده، والمصادر المقدرة بـ (أن) والفعل، والصفات المشبهة بأسماء الفاعلين والمفعولين، وأسماء الأفعال، نحو: نزال، وتراك، وشتان، وهيهات. وأما الأسماء الجامدة التي لا معنى للفعل فيها، خاصة الأعلام منها، نحو (زيد) و (عمرو) فلا تعمل شيئاً عند أحد// من النحويين. وقد رأى قوم من النحويين أن الاسم لا يعمل شيئاً في غيره وإن كان مشتقاً من الفعل، جارياً عليه، وزعموا أن (زيداً) في قولنا (هذا ضارب زيداً غداً) إنما ينتصب بفعل مضمر دل عليه (ضارب). وزعم قوم أن (ضارباً) ونحوه من أسماء الفاعلين إذا انتصب ما بعده؛ فإنما هو فعل لا اسم، وإنما يكون اسماً عندهم إذا أضفته إلى ما بعده فقلت: هذا ضارب زيد. وقولنا في الأسماء الجوامد: إنها لا تعمل، إنما نريد بذلك أنها لا تنصب مفعولاً به ولا مفعولاً فيه. فأما الرفع فقد جاء في بعضها كقولهم: مررت برجل ٍ

مئة إبله، وخز ثوبه. وقد جاء منها ما يعمل في التمييز، نحو: خمسة عشر درهماً، وهذا إنما جاء في غير الأعلام؛ لأنها ضارعت الصفات بما فيها من التنكير والعموم. فأما الأعلام فلم يأت منه شي يرفع ولا ينصب، ولو كان ما توهمه هشام صحيحاً لجاز لجميع الأسماء أن يعمل إذا كان فاعلاً من طريق المعنى، وذلك غير جائزٍ باتفاق. وهذا الذي ذكرناه مما يدل على أن الأشياء عند النحويين ليست على موضعها عند أهل النظر من المتكلمين، وأن لكل صناعة سبيلاً يجب ألا يتعداها من أراد تعلم تلك الصناعة، وإلا فسدت عليه المعاني بإدخاله في تلك الصناعة ما ليس منها. ألا ترى أن النحويين قد جعلوا في هذا الذي ذكرناه الأفعال أصلاً والأسماء فرعاً محمولاً عليه، وذلك بعكس ما عليه الأمر في الحقيقة. وقد رد أبو علي الفسوي قول هشام بأن قال: «الدليل على أن انتصاب (عمرو) من قولنا: (ضرب زيد عمراً) بالفعل أن المفعول يختلف في تصرفه بحسب الفعل؛ فإذا كان الفعل متصرفاً تصرف المفعول، وإذا لم يكن الفعل متصرفاً لم يتصرف المفعول. فلو كان انتصابه بالفاعل _كما قال هشام_ لم يختلف بحسب اختلاف الفعل، وكان يكون في جميع المواضع على وجه واحد». قال أبو علي: «ولو كان العامل فيه الفاعل لوجب أن يعمل فيه غير مسند إليه الفعل [وقد كان العامل فيه] قال أبو علي: «فإن قال هشام إنما يعمل فيه إذا كان بهذا الوصف، قيل له: فأجز أن تنصب بالابتداء، نحو: زيد ذاهب عمراً؛ لأنه مثل الفاعل في أنه يحدث عنه، // [فإذا لم يجز انتصابه بالمبتدأ مع أنه يحدث عنه] كما يحدث عن الفاعل دل على أنه لا يجوز انتصابه بالفاعل.

(فصل) وأما قول الفراء: إن العامل في (عمرو) من قولنا: ضرب زيد عمراً مجموع الفعل والفاعل معاً، فإنما قال ذلك فيما نرى _والله أعلم_ لأنه تأمل الفعل والفاعل فوجد كل واحد منهما مفتقراً إلى صاحبه، فالفعل مفتقر إلى فاعله؛ لأنه هو الذي أوجده وأحدثه، والفاعل مفتقر إلى فعله؛ لأنه به يصبح تأثيره في المفعول. ولو لم يكن للفاعل فعل لم يصح له تأثيره، ولا صح أن يسمى فاعلاً. وجد الحال على ما وصفناه جعل العامل في المفعول مجموعهما، إذ كان لا يصح نصب المفعول إلا باقترانهما. ونظير هذا من آراء البصريين رأي من رأى منهم أن الابتداء والمبتدأ جميعاً يرفعان الخبر حين كان الخبر لا يصح إلا بتقدمهما جميعاً، وهذا الذي قاله الفراء راجع عندنا إلى قول سيبويه. ألا ترى أن سيبويه لا ينكر أن الفعل والفاعل كل واحد منهما مفتقر إلى صاحبه، وإن كان يعتقد مع ذلك أن الفعل وحده هو العامل في المفعول؟ قال أبو علي القسوي: «ومما يفسد قول الفراء إجازة النحويين: (ضرب زيداً عمرو) فيقدمون المفعول على الفاعل. فلو كان العامل في عمرو مجموع الفعل والفاعل لم يجز ذلك؛ لأنك كنت تعمل العامل قبل أن يتم. ويدل على فساده أيضاً أن الفاعل والفعل جملة والجملة معنى، فلو كانت الجملة هي العاملة لم يجز: زيداً ضرب عمرو؛ لأن العامل المعنوي لا يتقدم معموله عليه، إلا أن يكون ظرفاً، فصح أن الناصب له الفعل، كما قال سيبويه.

(فصل) وأما قول الأحمر ومن رأى رأيه: إن (عمراً) من قولنا: (ضرب زيد عمراً) ينتصب بالمعنى؛ فإنه أضعف الأقوال وأوهاها؛ لأن المعاني لا تنصب عندنا، إنما ترفع المعاني وذلك في موضعين من الكلام، أحدهما: الابتداء، والآخر: الفعل المضارع. وقد تنصب المعاني المفعول فيه على وجه آخر غير الوجه الأول، وهي الظروف والأحوال. وأما المفعول به؛ فلا يجوز ذلك عند البصريين. قال أبو علي: «ويبين فساد قول الأحمر أن الفاعل يرتفع إذا أسندت// الفعل إليه حدث المعنى في الحقيقة أو لم يحدث. ألا ترى أنك تقول: قام زيد في حال الصدق والكذب. وكذلك تقول: لم يقم زيد فيرتفع وإن كان لم يفعل في المعنى شيئاً. وتقول: لم يضرب زيد عمراً، فتنصب عمراً وإن كان زيد لم يفعل به في المعنى شيئاً، فبطل ما قاله وصح قول سيبويه». هذا قول الفسوي. وقول الأحمر عندي ينحو نحو قول هشام وقد تقدم ذكره، وغرض كل واحد منهما قريب من غرض الآخر. (فصل) [وأما] سؤالك الثاني: وهو قولك: إذا قلنا: ضرب زيد عمراً، فهل هذا الكلام حقيقة أم مجاز؟ فأقول: إنه مجاز لا حقيقة، وإن المجاز يدخله من خمسة أوجه لا من وجه واحد؛ فمنها: أن (زيداً) يجوز أن يباشر ضرب عمرو بنفسه، ويجوز أن يأمر غيره بضربه فينسب الضرب إليه؛ لأنه أمر به، وإن كان غيره هو الذي تولاه دونه. كما يقال: ضرب السلطان فلاناً ألف سوط، أي: أمر بضربه، وقطع السلطان يد فلان؛ أي أمر بذلك من المجاز لا يختص المسألة وحدها، بل هو جائز في كل فعل حدث به عن الفاعل، ولأجل هذا احتيج إلى وضع التوكيد في الكلام، تقول: كتب

زيد، فيجوز أن يباشر الكتابة بيده، ويجوز أن يكتب عنه بأمره. فإذا أردت رفع المجاز قلت: كتب زيد بنفسه، وكذلك قوله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ} [النحل 26: 16] وليس هنالك إتيان في الحقيقة؛ لأن الله تعالى لا يوصف بالانتقال، لأن الانتقال للمحدثات، جل عن قول الجاهلين، وإنما معناه: فعل في البنيان فعلاً فهو إتيان فعل لا إتيان ذات. ومما يرفع به المجاز عندنا المصادر إذا أكدت بها الأفعال، كقولنا: ضربت ضرباً، وقتلت قتلا؛ ولأجل ما ذكرناه استدل أهل السنة _رحمهم الله_على أن تكليم الله لموسى_ عليه السلام_ حقيقة لا مجاز بقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء 164: 4] فإن قال قائل من المعتزلة المخالفين لنا في هذا: قد جاء في الشعر ما ينقض عليكم هذه الدعوى، وهو قول الشاعر: (بكى الخز من روح وأنكر جاره ... وعجبت عجيجاً من جذام المطاف) الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن الشاعر قصد المبالغة// في الهجو فجعل عجيج المطارف كالحقيقة لذلك، كما يقول القائل: زيد كالحمار، فيقول له الآخر: هو الحمار بعينه، وقد علم أنه ليس الحمار بعينه في الحقيقة، ولكنه جعله إياه مبالغة. وكذلك يقولون: هند القمر، وزيد الأسد، فيسقطون الحرف الدال على المماثلة والمشابهة ويجعلون الأول الثاني مبالغة، فهذا أحد الجوابين.

والجواب الثاني: أن هذا البيت لو لم نجد له تأويلاً لم نعتد به حجة؛ لأن الشاعر يجوز له على وجه الضرورة ما لا يجوز في الكلام. (فصل) وأما المجاز الثاني الذي في قولنا: ضرب زيد عمراً؛ فهو أن (ضرب) لفظة موضوعة في اللغة ليعبر بها عن نوع الضرب كله، ألا ترى أنك تقول: ضرب زيد، وضرب الزيدان، وضرب الزيدون فيعبر بها عن النوع كله؟ ! ومعلوم أن زيداً لم يوقع بعمرو نوع الضرب كله، وإنما أوقع به جزءاً منه، فبان بهذا أنه عموم وضع موضع خصوص، وهذا النوع من المجاز أيضاً مطرد في جميع الأفعال. ألا ترى أنك تقول: أكلت خبزاً، أو شربت ماء، وقد علم أنك لم تفعل جميع الأكل ولا جميع الشرب. ويبين ذلك قول الشاعر: (لعمري لقد أحببتك الحب كله ..... ) فأتى بالتوكيد ليرفع المجاز الذي وقع في الحب. وكذلك قول الآخر: (وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظن ألا تلاقيا)

(فصل) وأما المجاز الثالث في قولنا: ضرب زيد عمراً؛ فهو أن الضرب لم يقع بجميع أجزاء عمرو، وإنما وقع ببعضه فنسب الفعل إلى جملته. ويدلك على ذلك تأكيدهم إياه بما يرفع المجاز عنه، وهو ما حكاه سيبويه من قولهم: ضرب زيد ظهره وبطنه، وضرب زيد الظهر والبطن. وهذا النوع الثالث من المجاز أيضاً مستمر في جميع المفعولات، فإن الفعل إذا وقع عليها جاز أن يستوعب جميعها، وجاز أن يختص بعضها. ألا ترى أنك تقول: أكلت الخبز وشربت الماء وقد علم أنك لم تستوعب كل نوع الخبز بالأكل ولا جميع نوع الماء بالشرب. وقد يقع مثل هذا في ظروف// تقول: صمت اليوم، وخرجت اليوم، فتجعل (اليوم) ظرفاً للصيام والخروج، والصيام قد استوعب جميع ساعات اليوم، والخروج لم يستوعبها؛ لأنه إنما وقع في بعض النهار. (فصل) وأما المجاز الرابع في قولنا: ضرب زيد عمراً، فقولنا: إن زيداً فاعلٌ بـ (ضرب)، ولسنا نريد بالفاعل في صناعة النحو أن يكون محدثاً للفعل ومخترعاً له كما ذكرنا فيما تقدم، وإنما نريد أن الفعل يسند إليه ويحدث به عنه سواء أخترعه أو لم يخترعه، فلذلك نقول: مات زيد، ومرض عمرو، ولم يقم أخوك. (فصل) وأما المجاز الخامس؛ فقولنا: إن عمراً مفعول لـ (زيد) وليس بمفعول له في الحقيقة؛ لأن (زيداً) لم يفعل (عمراً) ولا أحدثه، وإنما فعل فعلاً أوقعه به، ولذلك سمي مفعولاً به ولم يسم مفعولاً على الإطلاق، فهذا ما في المسألة من المجاز الذي سألت عنه، وفيها أيضاً ما يشبه هذا وإن لم يكن مثله، ونحن نذكره في الفصل الذي يلي هذا، إن شاء الله.

(فصل) وأما سؤالك الثالث وهو قولك: إذا قلت: ضرب زيد عمراً، فهل لـ (ضرب) تأثير في (زيد) أم ليس له فيه تأثير؟ فإن قلت: له فيه تأثير؛ فهذا عكس ما عليه الأمر في الحقيقة؛ لأن الفاعل هو المحدث للفعل. وإن قلت: إن (ضرب) لا تأثير له في (زيد) فبأي شيء ارتفع؟ فإن هذا سؤال من لا دربة له بأغراض النحويين ومقاصدهم؛ وذلك أن غرض النحويين في قولهم: زيد فاعل بالضرب، إنما يريدون أنه فاعل بإحداثه لهذا النوع من الفعل، وبإسناده إليه حسب اختلافهم في السبب الذي به يرتفع الفاعل من إسناد الحديث إليه أو اختراعه للفعل على ما تقدم من قولنا، كما يرتفع المبتدأ بإسنادك الحديث إليه، ولا يريدون أن للفعل تأثيراً في فاعله في الحقيقة، وإنما يؤثر الفعل في اللفظ الذي يعبر به عن الفاعل لا في المعنى الواقع تحته. وكذلك جميع صناعة النحو إنما تفيد المتعلم لها حكم الألفاظ التي يعبر بها عن المعاني لا حكم المعاني في أنفسها. ألا ترى أنك تقول: مات زيد، فيكون (زيد) فاعلاً من طريق اللفظ، وإن كان مفعولاً من طريق المعنى؟ // وكذلك تقول: ذكرت زيداً، ومررت به، فتؤثر العوامل في لفظ (زيد) بالنصب والخفض، والمعنى الواقع تحته لا تأثير للعوامل فيه. كذلك تقول: سبح زيد ربه، وعظم عمرو خالفه، وتقول في إعرابه: زيد وعمرو فاعلان، وربه وخالقه مفعولان، عكس ما على المعنى، فصح بهذا كله أن الإعراب حكم لفظي لا معنوي. وقد تجد المعاني أيضاً مطابقة الألفاظ التي يعبر بها عنها، ألا ترى أنا نقول: قام زيد، فيكون المعنى الواقع تحت هذه اللفظة فاعلاً كما أن اللفظة التي عبر بها عنه كذلك.

وتقول: ضربت زيداً فيكون المعنى في نفسه الذي هو مفعول به قد وصل إليه التأثير من المعنى الذي هو فاعل، كما وصل تأثير أحدهما إلى الآخر من طريق اللفظ المعبر به عنهما. وليس هذا قادحاً فيما قدمنا؛ لأن غرضنا من ذلك كله أن نعلم حكم الألفاظ وكيف نوقعها على المعاني ونعبر بها عنها. وقد يؤثر الفاعل في نفسه، وإن كان قصده التأثير في غيره؛ فإن (زيداً) ربما ضرب عمراً فألمت يده، وربما أراد أن يرميه بسهم فعاد سهمه عليه فقلته، وقد يؤثر المفعول في الفاعل في وقت تأثير الفاعل فيه. وليس مراد النحويين في هذه المسألة شيئاً من هذين الوجهين الأخيرين، وإنما مرادهم ما قدمناه، وإنما ذكرنا هذا ليتم القول في هذا المعنى لا لنجيز جميع هذه الوجوه في المسألة التي سأل عنها، فاعلم ذلك. (فصل) وأما سؤالك عن الفاعل من قولنا: ضرب زيد عمراً، أيرتفع باختراعه للفعل أم بإسناد الحديث إليه؟ فكلا القولين قد قاله النحويون. والصحيح عندنا القول الثاني، وهو أن الفاعل إنما يرفعه إسناد الحديث إليه على نحو ما يرتفع المبتدأ؛ فإنهما في الارتفاع بإسنادك الحديث إليهما سواء، إن كانا يفترقا في أن عامل المبتدأ معنوي وعامل الفعل لفظي، وأن حديث الفاعل المسند إليه متقدم عليه، وغير ذلك مما ينفصلان به، وهذا رأي أبي علي الفسوي ونظيره ممن تعقب كلام النحويين وحرره. ومما يدل على ذلك قولنا: مات زيد ومرض عمرو، ولم يقم أخوك، وتسمية كل واحد من هذه الأسماء فاعلاً في صناعة النحو، ولم يفعل واحد منهم شيئاً في الحقيقة. ويدلك على ذلك حذفك الفاعل وإقامتك المفعول// مقامه في قولك: ضرب

عمرو. فلو كان الفاعل إنما يرفعه إحداثه للفعل واختراعه لم يجز ذلك كله على رأي أبي علي. والكلام فيه يطول إذا ذكرنا حجج من قال بالقول الأول ونقضناها عليهم فنحن نتركه؛ لأن في ما ذكرناه كفاية في هذا الموضع، إن شاء الله. (فصل) وأما السؤال الرابع، وهو قولك: كيف يترتب الكلام في هذه المسألة؟ فإن هذه المسألة لها ثلاث مراتب؛ فأحسنها أن تقول: ضرب زيد عمراً، فتقدم الفعل، ثم الفاعل، ثم المفعول. والرتبة الثانية أن تقول: ضرب عمراً زيدٌ، فتقدم الفعل على الفاعل ثم المفعول. والرتبة الثالثة أن تقدم المفعول على الفعل والفاعل معاً فتقول: عمراً ضرب زيد، وهي أضعف المراتب الثلاث. وإنما كان تقديم الفعل أولاً؛ لأنك بنيت الكلام عليه، وكان تقديم الفاعل على المفعول أولاً؛ لأنه المعتمد عليه في إسناد الحديث إليه؛ ولأن الفعل لا يستغنى عن فاعل وقد يستغنى عن المفعول. وأيضاً فإن الفاعل قد يستتر في الفعل فلا يظهر نحو قولهم: زيد قام، ويتغير له آخر الفعل في قولك: قمت وضربت، ولا يتغير آخر الفعل للمفعول في قولك: ضربك وقتلك. وقد يقع حشواً في الفعل في قولك: يضربان، ويضربون، فلما كان كذلك قبح أن يفرق بين الفعل والفاعل بالمفعول أو غيره؛ لأنهما قد حلا محل الشيء الواحد. وقد جاء الفصل بين الفعل والفاعل مع ذلك في الكلام الفصيح، فمنه ما لا يجوز إلا الفصل لعلل توجب ذلك، كقولك: ضرب زيداً غلامه، وقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة 124: 2]. فالفاعل _ههنا_ لا يجوز فيه إلا التأخير؛ لأنه قد اتصل به ضمير يعود إلى المفعول، فإن قدمت الفاعل هنا على ما تقتضيه الرتبة كنت قد قدمت المضمر على الظاهر وذلك لا يجوز إلا في الشعر كقوله:

(جزى ربه عني عدي بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل) وقد ذهب قوم من النحويين إلى أن (الهاء) في (ربه) تعود على الجزاء؛ أي جزى رب الجزاء، ودل (جزاء) عليه، كما تقول: «من كذب كان شراً له»، فتضمر الكذب لدلالة (كذب) عليه. وعلى هذا تقول: ضربته زيداً، تريد: ضربت الضرب زيداً، فلا// ضرورة البيت على هذا التأويل. وقد يفرق بين الفعل والفاعل بما فيه تأكيد الكلام؛ كقولك: قام _والله_ زيد. وعلى ذلك ما أنشده ابن جني من قول الشاعر: (وقد أدركتني _والحوادث جمة_ ... أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل) وقد يفصل بينهما بما لا تأكيد فيه وذلك كله مجاز واتساع. وإنما صار قولك: عمراً ضرب زيد أضعف الرتب الثلاث؛ لأنك قدمت (المفعول) على (الفعل) الذي بني عليه الكلام، وعلى الفاعل الذي حكمه التقديم لفظاً، كما أنه متقدم معنى. ويدلك على ضعفه جواز الرفع فيه بالابتداء إذا تقدم، وإن كان لا ضمير في الخبر يعود عليه، وامتناع ذلك فيه إذا تأخر نحو ما أنشده سيبويه من قول أبي

النجم العجلي: (قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنباً كله لم أصنع) فرفع (كله) بالابتداء من غير دعته إلى ذلك، ولو نصبه لم ينكسر الشعر، وكان النصب الوجه؛ لأن الفعل الذي بعده لا ضمير فيه يشغله عم العمل في كل، ومثله كثير. وقد حكي عن الكوفيين أنهم قالوا: الرتبة أن يقال: زيد ضرب عمراً، وهذا ليس بصحيح؛ لأنك إذا قدمت (زيداً) صار مبتدأ، وإنما كلامنا عن الفاعل، فإذا أردت الابتداء فللكلام أيضاً ثلاث مراتب، أحسنها أن تقول: زيد ضرب عمراً، كما قالوا يلي ذلك أن تقول: زيد عمراً ضرب. وبعد ذلك أن تقول: عمراً زيد ضرب، وهذه المرتبة أضعف المراتب الثلاث من وجهين: أحدهما: أنك إذا أخرت (زيداً) وحكمه التقديم؛ لأن الكلام مبني عليه، وهو فاعل في المعنى، وإن كان مبتدأ في اللفظ فحكمه أن يتقدم على المفعول، كما يتقدم الفاعل. والوجه الثاني: أن عمراً من صلة الخبر وتمامه؛ فإذا قدمته على المبتدأ وأخرت الفعل كان بعض الخبر مقدماً وبعضه مؤخراً، وهو مع هذا جائز، يدلك على جوازه، ما أنشده الفارسي من قول الشماخ: [الوافر]

(كلا يومي طوالة وصل أروى ... ظنون إن مطرح الظنون) فقدم (كلا) وهو صلة (ظنون) الذي هو خبر المبتدأ، فصار المبتدأ// الذي هو (الوصل) متوسطاً بين جزأي خبره. فإن قلت: من أين فر أبو علي من أن يكون ظرفاً للوصل دون أن يكون ظرفاً لـ (ظنون)، فلا يحتاج إلى ما ذكره من كون المبتدأ متوسطاً بين جزأي خبره، وذلك ممكن فيه شائع؟ فالجواب أن الوصل مصدر في مثل هذا يقدر بـ (أن) الخفيفة والفعل، فلو جعل (كلا) ظرفاً للوصل كان قد قدم الصلة على الموصول، وذلك خطأ. وأيضاً فإن الشاعر لم يرد أن الوصل وقع في كلا اليومين، وإنما وقعت فيهما الظنة، فقد صح بما ذكرناه ما قاله الكوفيون، إنما يكون ترتيب هذه المسألة إذا كان (زيد) مبتدأ لا فاعلاً، لأن الفاعل لا يتقدم على فعله. على أن الكوفيين قد أجازوا تقديم الفاعل في الشعر، وأنشدوا: (ما للجمال مشيها وئيداً) وقالوا: التقدير: وئيداً مشيها، وذلك خطأ عند البصريين. وزعم بعضهم أن (وئيداً) حال تسد مسد خبر المبتدأ، وشبهه بقولهم: ضربي زيداً قائماً، وهو أيضاً غير صحيح؛ لأنه ليس مثله. وقيل: وئيداً حال من المشي والخبر محذوف كأنه قال: مشيها وئيداً واقع، أو كائن، وهذا أقرب إلى الجواز. ومن خفض (مشيها) جعله بدلاً من (الجمال)، ومن نصبه فعلى المصدر، وإنما

فسرناه على مذاهب الكوفيين. ومما تأوله الكوفيون على تقديم الفاعل للضرورة على فعله قول علقمة: (فظل لنا يوم لذيذ بنعمة ... فقل في مقيل نحسه متغيب) (تأوله الكوفيون على معنى في مقيل ٍ متغيب ٍنحسه ..... ) زمن النحويين من يقول: أراد (ياء) النسبة فخففها كما قال النابغة: ( .... وبذاك خبرنا الغراب الأسودي) أراد الأسودي؛ وذلك أن الصفات تزاد فيها ياء النسبة مبالغة في الوصف، فيقال: أحمر وأحمري، ورجل ضياط وضياطي، وأنشد ابن جني: (قد علقت أحمر ضياطا) وقد يزيدونها في أسماء الفاعلين، وإن لم تكن صفات، كقول العجاج: (والدهر بالإنسان دواري) أي: دوار.

وذهب بعضهم في بيت علقمة إلى أنه أراد نحسه متغيب عني، ثم حذف حرف الجر كحذفهم إياه في قوله: (أمرتك الخير) و: (أستغفر الله ذنباً) فلما حذف (عن) ذهبت نون// الوقاية التي تزداد في (مني) و (عني)، و (ضربني)، ونحو ذلك فبقيت ياء الضمير مفردةً فانكسر من أجلها الاسم كما تقول: هذا ثوبي وجاء غلامي. وإلى نحو هذا ذهب أبو إسحاق، ولكنه لم يوضحه هذا الإيضاح. وزعم قوم: أن النحس مرتفع بـ (المقيل) على حد قولك: مررت بقائم غلامه ظريف، وهذا يحكي عن علي بن سلمان الأخفش، وهذا القول خطأ؛ لأن

(المقيل) ههنا لا يخلو من أن يكون مكاناً، أو زماناً، أو مصدراً، فإن كان مكاناً، أو زماناً لم يصح أن يرتفع به (نحسه)؛ لأن أسماء الأمكنة والأزمنة لا تعمل شيئاً، وإنما تعمل المصادر. وإن جعلت (المقيل) مصدراً فسد المعنى، وأوجبت أن النحس ثابت حاضر فيه، والشاعر إنما أراد أنه لا نحس فيه. (فصل) وأما السؤال الخامس، وهو قولك: ما الأحكام التي يختص بها (زيد) دون (عمرو) في هذه المسألة؟ فالجواب عنه: أن كل فاعل في هذه المسألة وغيرها يختص بعشرة أحكام دون المفعول، فمنها: أن يلي الفعل، ومنها أن لا يتقدم عليه، ومنها أن يستتر في الفعل إذا تقدم ذكره. ومنها أن يسكن آخر الفعل الماضي إذا كان مضمراً، نحو: ضربت، وقتلت. ومنها: أن يكون واحداً ولا يكون أكثر من واحد إلا على سبيل الاشتراك. أما الأسماء المختلفة الألفاظ فيكون اشتراكها بحروف العطف، وأما الأسماء المتفقة الألفاظ فيكون اشتراكها بالتثنية والجمع سواء كان الجمع مسلماً أو مكسراً. فالمسلم نحو قولك: جاء الزيدون، والمكسر نحو: جاء الرجال. ولا يجوز أن تقول جاء زيد عمرو، فتجعل للفعل فاعلين فصاعداً على وجه الاشتراك، كما تجعل للفعل مفعولين وثلاثة وأكثر من ذلك على غير وجه الاشتراك، نحو قولك: علمت زيداً عمراً أخاك ونحو ذلك. ومنها أن الفعل مفتقر إلى الفاعل لا يخلو من المفعول ولا يفتقر إليه. ومنها أن الفاعل قد يفرق بين الفعل وإعرابه؛ وذلك في الأفعال المضارعة إذا قلت: يقومان، وتقومان، ألا ترى أن النون هي إعراب الفعل وقد وقعت بين الضمير

الذي هو فاعل. ومنها// أن الفعل يقترن بالفاعل وحده فيقوم منهما كلام مفيد، نحو: قام زيد، ولا يكون كلام مفيد من فعل ومفعول حتى يكون هناك فاعل ظاهر أو مضمر. زمنها أن العطف لا يحسن عليه إذا كان مضمراً حتى يؤكد في نحو: قمت أنت وزيد، وخرجت أنا وعمرو. ومنها أن التعجب إنما يكون من الفاعل ولا يكون من المفعول به، ألا ترى أن فعل التعجب إنما يكون من الفاعل ولا يكون من المفعول؟ ألا ترى أن فعل التعجب منقول بالهمزة ولا ينقل الفعل إلا عن الفاعل، نحو: قام زيد، وأقمته، وخرج عمرو، وأخرجته؟ قال أبو محمد _رحمة الله_: فهذا ما عندي من الجواب عما سألت عنه، والحمد لله على ما من به وأنعم، وصلى الله على محمد وآله وسلم وشرف وكرم. [تمت المسألة والحمد لله على ذلك كثيراً].

(المقيل) ههنا لا يخلو من أن يكون مكانًا، أو زمانًا، أو مصدرًا، فإن كان مكانًا، أو زمانًا لم يصح أن يرتفع به (نحسه)؛ لأن أسماء الأمكنة والأزمنة لا تعمل شيئًا، وإنما تعمل المصادر، وإن جعلت (المقيل) مصدرًا فسد المعنى، وأوجبت أن النحس ثابت حاضر فيه، والشاعر إنما أراد أنه لا نحس فيه. (فصل) وأما السؤال الخامس، وهو قولك: ما الأحكام التي يختص بها (زيد) دون (عمرو) في هذه المسألة؟ فالجواب عنه: أن كل فاعل في هذه المسألة وغيرها يختص بعشرة أحكام دون المفعول، فمنها: أن يلي الفعل، ومنها أن لا يتقدم عليها، ومنها أن يستتر في الفعل إذا تقدم ذكره، ومنها أن يسكن آخر الفعل الماضي إذا كان مضمرًا، نحو: ضربت، وقتلت، ومنها: أن يكون واحدًا ولا يكون أكثر من واحد إلا على سبيل الاشتراك. أما الأسماء المختلفة الألفاظ فيكون اشتراكها بحروف العطف، وأما الأسماء المتفقة الألفاظ فيكون اشتراكها بالتثنية والجمع سواء كان الجمع مسلمًا أو مكسرًا، فالمسلم نحو قولك: جاء الزيدون، والمكسر نحو: جاء الرجال، ولا يجوز أن تقول جاء زيد عمرو، فتجعل للفعل فاعلين فصاعدًا على وجه الاشتراك، كما تجعل للفعل مفعولين وثلاثة وأكثر من ذلك على غير وجه الاشتراك، نحو قولك: علمت زيدًا عمرًا أخاك ونحو ذلك، ومنها أن الفعل مفتقر إلى الفاعل لا يخلو من المفعول ولا يفتقر إليه، ومنها أن الفاعل قد يفرق بين الفعل وإعرابه؛ وذلك في الأفعال المضارعة إذا قلت: يقومان، وتقومان، ألا ترى أن النون هي إعراب الفعل وقد وقعت بين الضمير

الرسالة السادسة: في قوله تعالى: {فأنساه الشيطان ذكر ربه]

الرسالة السادسة: في قوله تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ]

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد النبي الكريم وآله وسلم قال الفقيه الأستاذ أبو محمد- رحمه الله-: سألت عن الضميرين من قوله تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42]، وقلت على من يعودان؟ وفي عودتهما وجهان أحدهما: أنهما يعودان على يوسف، صلى الله عليه وسلم، وكذلك روي عن مجاهد، والحسن البصري، والمعنى عندهما: فأنسى الشيطان يوسف أن يذكر ربه تعالى، ويرغب إليه، حتى قال للناجي من الفئتين: اذكرني عند ربك، فعاقبه الله- تعالى- بأن لبث في السجن بضع سنين، ومما يحتج به لهذا القول ما رواه إسماعيل بن إبراهيم عنه، قال نبي الله- صلى الله عليه وسلم-: «لولا كلمة يوسف ما لبث في السجن ما لبث». والوجه

الآخر أنهما يعودان على الذي ظن أنه ناج من الفئتين، فيكون المعنى أن يوسف قال للفتي الذي ظن أنه ناج: ذكر الملك بأمري، ويعني بالرب- على هذا- الملك، وهذا القول أصح القولين، لقوله- عز وجل بعد ذلك-: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]، أي بعد حين. وقرأ ابن عباس: (بعد أمه)، بالهاء وفتح الهمزة والميم وتخفيفهما، ومعناه: بعد نسيان، فهذا يدل على أن يوسف- صلى الله عليه وسلم-// سأل الناجي من الفئتين أن يذكر ربه بأمره، فنسي تذكيره بأمره، ثم تذكر بعد ذلك، وإن لم يكن التأويل على هذا فلا وجه لذكر تذكر الفتى بعد النسيان، والذكر على هذا التأويل يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى التذكير، أو الإذكار، كما توضع المصادر بعضها مكان بعض في نحو قوله: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17]، فوضع النبات موضع الإنبات، وقال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 236] بوضعه [متاعًا] موضع التمتيع، والثاني: أن يكون مصدر ذكرته ذكرًا، ويكون التقدير: فأنساه الشيطان ذكره عند ربه، فأضاف الذكر إلى الرب، وهو في

الحقيقة مضاف إلى ضمير يوسف [عليه السلام]، وجاز ذلك لما بينهما من الملابسة والاتصال، ونظيره قول الله- عز وجل-: {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم: 14] ولا مقام لله- تعالى- ولا هو من صفاته، وإنما المقام للعبد بين يديه، وإنما المعنى: مقامه عندي، أو بين- يدي، فأضاف المقام إلى شيء والمراد غيره، ومثله قول زهير: (وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى رهنها غلقا) هكذا رواه السكري، فأضاف الرهن إليها، وإنما هو لعاشقها والمراد فأمسى رهنك عندها، ومثله ما أنشده الأخفش: (فلست مسلمًا مادمت حيًا ... على زيد بتسليم الأمير) وقال: أراد بتسليمي على الأمير، فإن قلت: كيف تصنع بقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «لولا كلمة يوسف ما لبث [في السجن ما لبث]»، وأن مقامه في

السجن بضع سنين إنما كان معاقبة له حين نسي ذكر ربه، ولم يفزع إلى ذكر الله- تعالى- على ما قاله مجاهد والحسن؟ فالجواب: أن عودة الضميرين على الناجي من الفئتين لا يمنع من أن يكون لبثه في السجن ما لبث عقابًا من الله- تعالى- ويكون الله- عز وجل- لم يلهم الفتى الناجي لذكر ربه قصته إلا بعد تلك المدة]. وليس في حديث النبي- صلى الله عليه وسلم- ما يمنع من هذا، ولا فيه بيان أن الشيطان أنسى يوسف دون أن يكون أنسى الفتى الناجين، وإنما أراد- صلى الله عليه- بقوله: «لولا كلمة يوسف» قوله للفتى: اذكرني عند ربك، فذكر أن العقاب أصابه من أجل هذه الكلمة، وليس في حديثه ما يقطع بأن// الشيطان أنسى يوسف دون أن يكون أنسى الفتى، فهذا ما عندي من الجواب عما سألت عنه، والله الموفق للصواب برحمته، كملت المسألة، والحمد لله حق حمده، وصلى الله على نبيه الكريم وعبده.

الرسالة السابعة: في تحقيق الدواء المعروف بـ «حب الملوك»

الرسالة السابعة: في تحقيق الدواء المعروف بـ «حب الملوك»

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد النبي الكريم وآله وسلم قال الفقيه الأستاذ أبو محمد- رحمه الله ونضر وجهه-: سألتني- أدام الله عزتك، وحرس من النوائب حوزتك- عن قول الناس لهذا الحب المشهور: حب الملوك، وذكرت أن بعض أهل الأدب نازعك فيه، وأبى إلا فتح الميم، وزعم أن ضمها خطأ؛ لأن هذا الحب لا يختص بالملوك دون غيرهم من الناس، فلا معنى لإضافتهم إليهم، وما الخطأ- أعزك الله- إلا ما قال؛ لأنه قد جمع بين الغلط في الاشتقاق، والغلط في الإعراب معًا. أما الخطأ في الاشتقاق فإنه إذا فتح الميم كان اسم مفعول من لاك الشيء يلوكه، سمي بذلك لأنه يلاك، وهذا غير صحيح؛ لأن اللوك إنما يستعمل فيما يمضغ ويدار في الفم مرة بعد مرة، وليست هذه الصفة موجودة في هذا الحب، وكذلك قال صاحب كتاب (العين): اللوك: مضع الشيء الصلب، وإدارته في الفم، وأنشد: (ولوكهم جزل الحصى بشفاههم ... كأن على أكتافهم علقًا صخرًا)

وقال أبو العباس المبرد في (الكامل): «يروى أن أحيحة بن الجلاح الأنصاري- وكان يبخل- إذا هبت الصبا طلع من أطمه، فنظر إلى ناحية هبوبها، ثم يقول: هبي هبوبك قد أعددت لك ثلاثمئة وستين صاعًا من عجوة، أدفع إلى الوليد منها خمس تمرات، فيرد علي منها ثلاثًا؛ أي لصلابتها بعد جهد ما تلوك منها اثنتين». وحكى ابن القوطية في (الأفعال): لاك الشيء لوكًا مضغه وفيه صلابة، وقال ذو الرمة//: (كأن على أنيابها كل سدفة ... صياح البوازي من صريف اللوائك) وصف إبلاً تحك بعض أنيابها ببعض فتصر، أي: تصوت، وشبه صوت أنيابها إذا لاكت بعضها ببعض بصياح البزاة. وقال أبو تمام الطائي في الخيل:

(في مقام تلوكها الحرب فيه ... وهي مفقودة تلوك الشكيما) والشكيمة: الحديدة التي تدخل في فم الفرس من اللجام، فهذا كله يبين لك أنه لا وجه لوصف الحب بأنه يلاك. وأما الخطأ من جهة الإعراب فلأنه إذا فتح الميم صار (الملوك) صفة من الصفات فلزم أن يقول: الحب الملوك، فإذا قال: حب الملوك أضاف الموصوف إلى صفته، فإن قال: قد حكي عن العرب أشياء أضيفت فيها الموصوفات إلى صفاتها، نحو قولهم: صلاة الأولى، ومسجد الجامع، فما الذي يمنع أن يجعل من هذا الباب؟ قيل له: يمنع من ذلك شيئان: أحدهما: أن هذا الباب موقوف على السماع لا يجوز القياس عليه؛ فلو صحت عندنا رواية، أو ورد سماع، بفتح الميم لجعلناه من هذا النوع، فإذا عدمنا السماع حملناه على ما يستعمل الجمهور، ولم نعدل عنه إلى شيء فاسد في القياس؛ لأن إضافة الموصوف إلى صفته خطأ. والثاني: أنا- إن جعلناه من هذا الباب على ما أراده هذا المخالف لنا- لزمنا أن نجعل (الملوك) صفة لموصوف محذوف، وتقديره: حب الطعام الملوك، ونحو ذلك؛ لئلا تلزمنا إضافة الموصوف إلى صفته كما قال النحويون في قولهم: صلاة الأولى، ومسجد الجامع، أن تقديره: صلاة الساعة الأولى من زوال الشمس، ومسجد اليوم الجامع، وإذا قدرنا هذا التقدير لزمنا أن نطالب بالعلة التي لها أضيف هذا الحب إلى

الطعام الملوك دون غيره من أنواع [الحبوب]، ولزم هذا المخالف من تخصيصه هذا الحب بالإضافة إلى طعام الملوك دون سائر الحبوب، مثل الذي ألزمنا في إضافته إلى الملوك دون سائر الناس، فقد فر من شيء ووقع في مثله مع ارتكاب القياس الفاسد، ومخالفة السماع، ولزمه مع هذا كله أن يقال: ما وجه إضافته إلى الطعام الملوك، وليس هذا الحب مما يلاك. فإن قال قائل: فما الوجه// في إضافته إلى الملوك دون غيرهم وليس مختصًا بهم؟ فالجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن هذا السؤال لا يلزم؛ لأن العرب تسمي الشيء باسم مشتق من معنى موجود فيه ولا يسمى غيره بذلك الاسم، وإن وجد فيه ذلك المعنى؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن تصير الأشياء الكثيرة شيئًا واحدًا فيرتفع البيان، ألا تراهم قد سموا بعض النجوم (سماكًا) لسموكه، وهو ارتفاعه، سمو بعضها (دبرانًا)؛ لأنه يدبر الثريا، ولا يلزم من ذلك أن يقال لكل شيء دبر شيئًا (دبران)، وهذا كثير جدًا يقف عليه من صرف اهتباله إليه. والوجه الثاني: أنه غير ممتنع أن يكون بعض الملوك- فيما مضى من الزمان- مولعًا بهذا الحب، مؤثرًا له على غيره، فنسب إلى الملوك من أجله، ولزمه هذا الاسم وعرف به، كما قيل في (شقائق النعمان)، فنسبت إلى النعمان بن المنذر [اللخمي]،

لأنه رأى منها روضة فأعجبته فجعلها حمى لا يقرب، فعرف به إلى يومنا هذا وقد يسمى الشيء باسم ما لعلة توجب ذلك في بعض الأوقات، ثم ترتفع العلة ويبقى الاسم، كما قالوا في (رمضان): إنه سمي بذلك لشدة الرمضاء فيه، وأن جمادى سمي بذلك لجمود الماء فيه، وأن (المحرم) سمي بذلك لتحريم القتال فيه، ثم ارتفعت الأسباب التي وقعت التسمية من أجلها، وبقيت الأسماء، وهذا كثير، فقد تبين لك بما أوردناه ضعف قول هذا المخالف للجمهور، وأنه اختار ما ليس بمختار ولا مشهور، وبالله التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. كملت المسألة، والحمد لله رب الحمد والنعم.

الرسالة الثامنة: رسالة في الفرق بين النعت والبدل وعطف البيان

الرسالة الثامنة: رسالة في الفرق بين النعت والبدل وعطف البيان

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد النبي الكريم وآله وسلم جواب الفقيه الأستاذ أبي محمد بن السيد البطليوسي- رحمه الله- على سؤال من سأل عن الفرق بين النعت وعطف البيان والبدل// وتمييز كل واحد منهم من صاحبه بخواصه اللازمة له، ولِمَ لمْ يجز في النعت أن توصف النكرة بالمعرفة ولا المعرفة بالنكرة، وجاز ذلك في البدل؟ وهل هو جائز في عطف البيان أم لا؟ ولِمَ لمْ

يجز أيضًا وصف المضمر وجاز البدل منه؟ وهل يجوز أن يُعطف على المضمر عطف بيان أم لا؟ ولِمَ لمْ يجز في المعارف أن توصف المعرفة بما هو أخص منها وأكثر تعريفًا، وجاز ذلك في نعت النكرة، نحو: مررت برجل كاتب [بين لنا- يرحمك الله- وجه الحقيقة فما سألتك عنه تبيين من بلغ في العلم مبلغك، يُعظم الله أجرك، ويُجْزِل عليه ذخرك، فأجاب: وقفت على سؤالك- وفقنا الله وإياك لما يُرضيه، وجعلنا ممن يتحرى الصواب فيما يقوله ويأتيه. وقد أجبتك على كل فصل بما رأيت أنه يوافق مرادك ويطابق اعتقادك. وستقف من جوابي هذا على أشياء لا تجدها في كتب أصحاب هذه الصناعة، وإن كنت إنما سلكت على منهجهم، واهتديت بأمثلتهم، وأنا أحمد الله على ما منح من آلائه، وأسأله العون على شكر ما خول من نعمائه، لا رب غيره. أما سؤالك عن الفرق بين النعت وعطف البيان والبدل، وتمييز كل واحد منهم من صاحبيه، فإن هذه التوابع الثلاثة يمتاز كل واحد منها من صاحبيه بفضول تخصه، وهي مع ذلك مشتركة في أشياء تعملها، وأنا أذكر ما تنفصل به وما تشترك فيه، وبالله أستعين.

أما النعت والبدل فإنهما ينفصلان من سبعة أوجه: أحدها: أن النعت سبيله أن يكون بالصفات المشتقة من الأفعال، أو ما هو في حكم المشتق، جارية كانت الصفات على أفعالها أو غير جارية، والبدل حكمه أن يكون بالأسماء الجامدة والمصادر. والثاني: أن النعت يجري على المنعوت في تعريفه وتنكيره، والبدل لا يلزم فيه ذلك [و] الثالث: أن النعت جزء من المنعوت؛ أعني أنه صفة من جملة صفاته التي

يوصف بها، والبدل ليس بجزء في كل موضع، بل قد يكون جزءًا منه، كقولك: (ضرب زيد رأسه)، وقد يكون هو إياه، كقولك: (جاءني أخوك زيد)، وقد يكون حدثًا من أحداثه، كقولك: (أعجبني زيد حسنه) وقد يكون اسمًا مصاحبًا له صحبة عرضية، يمكن زوالها وانفصالها منه كقوله: (سلب زيد ثوبه). والرابع: أن البدل// يجري مجرى جملة أخرى ذهبت بها الجملة الأولى، وتقدر فيه إعادة العامل، والنعت لا يجري مجرى جملة أخرى، ولا تقدر معه [إعادة] العامل ولكن هو الأول بعينه، ومن جملته. والدليل على أن البدل يجري مجرى جملة أخرى [ظهور العامل معه في نحو قوله- عز وجل-: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف 7: 75]، وفي نحو قول الشاعر:

(ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد) والخامس: أن النعت يكون بما هو من المنعوت وبما هو من سببه، كقولك: (مررت برجل قائم)، فتصفه بصفة هي له، و (مررت برجل قائم أبوه) فتصفه بصفة هي لسببه، ولا يبدل من الاسم إلا ما هو هو، أو جزء منه، أو مصاحب له، ولا يبدل منه ما هو لسببه، ألا ترى أنك تقول: (ضُرِبَ زيد رأسه)، ولا يجوز: (ضُرِبَ زيد رأس أبيه)؟ . والسادس: أن البدل قد يكون منه ما يجري مجرى الغلط، ولا يكون ذلك في النعت. والسابع: أن النعت قد يكون منه ما يراد به المدح، أو الذم، أو الترحم، ولا يكون

ذلك في البدل. فهذه سبعة فصول ينفصل بها النعت من البدل. وأما النعت وعطف البيان، فإنهما ينفصلان من ثلاثة أوجه: أحدها: أن النعت يكون بالصفات- كما قدمنا- وعطف البيان يكون بالأسماء الجوامد كالبدل.

والثاني: أن النعت يكون بالمعارف والنكرات، وعطف البيان لا يكون إلا بالمعارف. والثالث: أن النعت يكون بما هو للمنعوت، وبما هو من سببه- كما قدمنا- وعطف البيان هو المعطوف عليه بعينه. وأما البدل وعطف البيان فينفصلان من أربعة أوجه: أحدها: أن البدل قد يكون هو المبدل منه بعينه، وقد يكون جزءًا منه، وقد يكون اسمًا مصاحبًا له، وقد يكون حدثًا من أحداثه، كما قدمنا، وعطف البيان هو المعطوف عليه أبدًا.

والثاني: أن البدل يكون بالمعارف والنكرات [والأسماء الظاهرة والأسماء المضمرة]، وعطف البيان لا يكون إلا بالأسماء المعارف الظاهرة. والثالث: أن البدل- كما قلنا- يقدر معه إعادة العامل، وكأنه من جملة أخرى، وعطف البيان لا يُقدر فيه ذلك، بل هو في هذا الوجه كالنعت.

والرابع: أن البدل يجيء منه ما يراد به الغلط، وعطف البيان لا غلط// فيه، فهذه وجوه الانفصال بين هذه التوابع الثلاثة. أما وجوه الاشتراك، فإنها كلها تشترك في أن الغرض فيها البيان، والزيادة في الإيضاح، وفي أنها جارية على الأسماء التي قبلها في إعرابها، وفي العربية مواضع تشترك فيه الثلاثة كلها، وفيها مواضع يشترك فيها بعضها، فمن المواضع التي تشترك فيها كلها قولك: (رأيت زيدًا أبا عمرو)، فإن (أبا عمرو) ههنا يصلح أن يقال فيه: إنه نعت، ويصلح أن يقال فيه: إنه بدل، ويصلح أن يقال فيه: إنه عطف بيان. وأما المواضع التي يشترك فيها النعت وعطف البيان [فنحو]، قولك: بعثت إلك بالثوب الخز، وبالباب الساج. وأما المواضع التي يشترك فيها البدل وعطف البيان، فنحو قولك: (رأيت أبا عمرو زيدًا)، ومن هذه المواضع ما يشترك فيه التوكيد وعطف البيان وهو الموضع الذي

يكرر فيه الاسم كقولك (رأيت زيدًا زيدًا)، و (لقيت عمرًا عمرًا). وأما المواضع التي ينفرد بها البدل، والمواضع التي ينفرد بها النعت، فلا حاجة لنا إلى ذكرها [لشهرتها]، وأما المواضع التي ينفرد بها عطف البيان، ومن أجلها احتيج إليه في صناعة النحو، فنذكرها لغرابتها عند النحويين، وهي ثلاثة مواضع: أحدها: باب النداء، والآخر: باب المبهمات، والثالث: باب اسم الفاعل، أما باب النداء فهو قولك: (يا حارثًا زيدًا)، ومنه قول رؤبة: (إني- وأسطار سطرن سطرًا ... لقائل يا نصر نصرًا نصرًا)

فمن نصب جعلهما معًا عطف بيان على موضع (نصر) الأول، ومن رفع (نصرًا) الثاني ونونه جعله عطف بيان على اللفظ، وجعل (نصرًا) الثالث عطف بيان على الموضع، هذا رأي سيبويه والأصمعي وأبي عبيدة، وفي هذا البيت قولان آخران ليس هذا موضع ذكرهما، ومن هذا الباب قول الآخر: (فيا أخوينا عبد شمس ونوفلاً ... أعيذكما بالله لا تحدثا حربًا) وقد روي: "عبد الله شمس ونوفل" [بالرفع] على إضمار مبتدأ.

وأما باب المبهمات فنحو قولهم: (مررت بهذا الرجل)، و (لقيت هذا الغلام)، والنحويون يتسامحون في هذا ويسمونه نعتًا، وإنما هو في الحقيقة عطف بيان. وأما باب اسم// الفاعل، فنحو قولك (هذا الضارب الرجل زيد) بخفض (زيد) على عطف البيان، ولا يصلح أن يكون بدلاً؛ لأن البدل يحل محل المبدل منه، ولو قلت: (هذا الضارب زيد) لم يجز؛ لأن ما فيه الألف واللام لا يضاف إلى ما ليس فيه ألف ولام، وأنشد سيبويه للمرار الأسدي: (أنا ابن التارك البكري بشر ... عليه الطير ترقبه وقوعًا)

وقد رده أبو العباس المبرد من رأى رأيه على سيبويه، وقالوا: لا يصح إلا على النصب، والخفض خطأ، وتوهموا أن سيبويه أجازه على جهة البدل، وإنما أجازه سيبويه على عطف البيان الذي ذكرناه، فلا يلزمه ما اعترضوا به، فهذه هي المواضع التي يختص بها عطف البيان دون سائر التوابع، وأكثر ما يُستعمل عطف البيان في رد الأعلام على الكنى، ورد الكنى على الأعلام، كقولك: (رأيت أبا بكر زيدًا) و (رأيت زيدًا أبا بكر)، وسمي عطف البيان؛ لأنك عطفت على الأول فبينته؛ لأن معنى العطف الرجوع إلى الشيء بعد الزوال عنه، والفرق الذي بينه وبين العطف الذي بالحروف، أنك في عطف البيان تعطف الشيء على نفسه، وفي

عطف الحروف تعطف الشيء على غيره. فإن قال قائل: فإذا كان معنى العطف هو الرجوع، فكيف سمي اشتراك الاسم الثاني مع الأول بالواو، وغيرها من أخواتها عطفًا؟ فالجواب: أن حرف الاشتراك في نحو: (قام زيد وعمرو) ينوب مناب العامل، والأصل: (قام زيد وقام عمرو)، وينفرد كل واحد منهما بقيام يختص به؛ لأنه لا يصح وقوع فعل واحد من فاعلين، غير أنهم قصدوا الاختصار، فحذفوا العامل الثاني اجتزاء بالأول، وجعلوا (عمرًا) شريكًا لـ (زيد) في الفعل الأول نفسه ليفهم السامع أن لكل واحد منهما فعلاً يخصه، فكأنهم عطفوا على الأول فجعلوا له شريكًا في الفعل، بعد أن كانوا قد خصوه به وأفردوه، كما عطفوا عليه في الوجه الأول، فبينوه وأوضحوه، وهذا هو الفرق بين العطفين. فإن قال قائل: هذا المعنى موجود في النعت والبدل، فهلا سميتموه عطف بيان؟ فالجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن الشيء إذا سمي باسم مشتق من معنى موجود فليس يلزم أن// يسمى كل من وجد فيه ذلك المعنى بذلك الاسم في اللغة العربية، ألا تراهم سموا النجم (سماكًا) لسموكه وارتفاعه ولا يلزم

من ذلك أن يسمى كل مرتفع سماكًا؟ وكذلك سموا (الدبران)؛ لأنه يدبر (الثريا)، ولم يلزم من ذلك أن يُسمى كل من يدبر شيئًا (دبرانًا)، وهذا كثير تغني عنه شهرته عن القول فيه. والجواب الثاني: أن النعت، والبدل، وعطف البيان، أغراضها مختلفة، فجعل لكل واحد منها اسم يدل على الغرض المراد منه، فالغرض في النعت تخصيص النكرة، وإزالة الاشتراك الذي يعرض في المعرفة، أو المدح

أو الذم، وهذا المعنى إنما يكون بذكر صفة من صفات الاسم داخلة فيه أو خارجة عنه، فكان النعت أليق الأسماء بهذا المعنى؛ لأن العرب تقول: نعت الشيء أنعته نعتًا، إذا ميزته ببعض صفاته، قال الراجز: (ومهمهين قذفين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور الترسين) (جبتهما بالنعت لا بالنعتين) أي: وصفا لي مرة واحدة فلم أحتج إلى أن يوصفا لي مرة ثانية. وقال الراعي: (وأرض إذا أمست تشابه بيدها ... على نعت نعات أتى الليل دونها) وأما البدل فله ثلاثة أغراض، أما بدل الشيء من الشيء وهما لمعنى واحد، فالغرض منه إعلام المخاطب بمجموع الاسمين احتياطًا في البيان، فإن فهم المراد بأحدهما كان

الآخر تأكيدًا في البيان، وإن لم يفهم بأحدهما فهم بالآخر. وأما بدل الاشتمال، فالغرض فيه ذكر بعض ما يشتمل عليه الكلام الأول إيضاحًا للمراد، كقولك: سُلب زيد، فيحتمل أن يقع السلب بثوبه وبغيره من أسبابه، ثم تقول ثوبه أو نعله، تبيينًا لما تريد، وهذه الوجوه الثلاثة يقدر فيها ارتفاع الأول وحلول الثاني محله، فكان البدل [أليق] الأسماء به ليبين عن معناه؛ لأن العرب تقول: أبدلت الشيء من الشيء إذا// عوضته منه، وتقول: خذ هذا بدلاً من هذا، أي: عوضًا. وأما بدل البعض من الكل، فإن الغرض فيه تخصيص ما يجوز أن يكون عامًا لأنك إذا قلت: لقيت القوم جاز أن تريد جميعهم، وجاز أن تريد بعضهم، فإذا قلت: أكثرهم أو بعضهم، أزلت العموم وحققت الخصوص. وأما قولك: لمَ جاز أن تبدل النكرة من المعرفة، والمعرفة من النكرة، ولم يجز مثل ذلك في النعت؟ فإنما امتنع ذلك من النعت لعلتين: إحداهما: أن المنعوت في أكثر مواضعه لا يبين إلا بالنعت.

فلما كان كذلك صار هو والنعت كالشيء الواحد، ولا يصلح أن يكون شيء واحد معرفة نكرة في حال واحدة من جهة واحدة. والعلة الثانية أن المعرفة لما كانت خاصة أشبهت المفرد، والنكرة لما كانت عامة أشبهت الجمع، فمن حيث لم يجز أن ينعت جمع بمفرد، ولا مفرد بجمع، لم يجز أن تنعت معرفة بنكرة، ولا نكرة بمعرفة، والبدل ليس مع المبدل كالشيء الواحد، وإنما يقدر تقدير جملة ثانية، والدليل على ذلك جواز إعادة العامل معه فيما قدمنا ذكره، فلم يستحل فيه من أجل ما استحال في النعت. وأما سؤالك: هل يجوز في عطف البيان ما جاز في البدل من حمل المعرفة على النكرة، وحمل النكرة على المعرفة؟ فقد أعلمتك فيما تقدم من كلامي أن

عطف البيان إنما يستعمل في المعارف الجامدة الظاهرة خاصة عند جمهور النحويين، على أن قومًا من النحويين قد سموا رد الأجناس المنكورات على الأسماء في نحو قولك: مررت بثوب خز وباب ساج، عطف بيان. ورأيت أبا علي الفارسي قد قال في قوله تعالى: {زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور 24: 335]: إن (زيتونة) عطف بيان، وهذا غلط منه، والدليل على أنه غلط منه شيئان أحدهما: أن الفارسي نص في الإيضاح على أن عطف البيان إنما يكون في الأسماء المعارف الجامدة، وهذا يناقض ما قاله في (زيتونة). والثاني: أن الغرض في عطف البيان تبيين الاسم الذي يجري عليه وإيضاحه، لذلك سموه النحويون عطف بيان، والنكرة لا يصح أن يبين بها غيرها؛ لأنه لا يبين مجهول بمجهول، إنما يبين المجهول بالمعروف. فإن قال قائل: فقد وجدناكم تبينون المجهول بالمجهول في قولكم: «مررت برجل

ظريف»، ووجدناكم تبينون المعروف بالمجهول في قولكم: (مررت [بزيد] // رجل صالح)، وهذا عكس القياس، فالجواب أن (ظريفًا) من قولك: (مررت برجل ظريف) لم يعرف رجلاً حتى يصير بحيث توضع عليه اليد، وإنما أفادته الصفة نوعًا من التخصيص، والدليل على ذلك أن من جهل رجلاً يعرفه وأخبر أنه ظريف لم يفده ذلك معرفة رجل بعينه، فقد سقط هذا الاعتراض. وأما قولنا: (مررت بزيد رجل صالح)، فليس غرض المخبر أن يعرف (زيدًا) عند من يجهله، فيلزم هذا الاعتراض. والدليل على ذلك أن من جهل (زيدًا) وخبر بأنه رجل صالح لم يكن في ذلك ما يعرفه به، فثبت بهذا أن القائل: (مررت بزيد رجل صالح) ليس غرضه تعريف (زيد) وإنما غرضه أن يثني على زيد بأنه رجل صالح، أو يكون المخاطب قد علم (زيدًا) ولم يعلم أنه رجل صالح، أو علم رجلاً صالحًا ولم يعلم بأنه (زيد)، فأفاده المخبر بذلك.

وأما سؤالك عن وصف المضمر فإن المضمر لا يوسف ولا يوصف به، أما امتناعه من أن يوصف فلثلاث علل: إحداها: أن المضمر لا يضمر إلا بعد أن يعرفه المخاطب، فلما كان كذلك استغنى عن النعت. والعلة الثانية أن المنعوت لما كان لا يبين في أكثر المواضع إلا بالنعت، صار مع نعته كالشيء الواحد، فكما لا يجوز أن يكون الشيء مظهرًا مضمرًا في حال واحدة، فكذلك لا يجوز أن يكون الموصوف مضمرًا وصفته اسمًا ظاهرًا يدل على صحة هذا أن العرب يقولون: (مررت به هو)، و (قمت أنا) فيؤكدون المضمر بالمضمر لما كان مشاكلاً له.

والعلة الثالثة: أن المضمر أشبه حروف المعاني؛ لأنه لا يُعقل حتى يتقدم ما يعود عليه، فضارع الحرف الذي معناه في غيره، فلم يجز أن يوصف كما لا توصف الحروف. فإن قلت: فيلزمك على هذا ألا تصف شيئًا من المبينات لأنها كلها مضارعة للحروف، فالجواب: أن المضمر أشد المبينات شبهًا بالحروف، فلشدة توغله في شبهها لم يكن حكمه حكم غيره، والدليل على شدة توغله في شبه الحروف أنك تجد من الضمائر ما هو على حرف واحد، ولا تجد ذلك في غيرهما، وتجد المضمر قد يتعدى من الاسمية في بعض المواضع ويصير حرفًا محضًا، نحو (التاء) في (أنت)، والكاف في (ذلك) وفي قولهم: (النجاءك) ونحو ذلك، وأما// امتناع المضمر من أن يوصف به؛ فلأن النعت لا يخلو من أن يراد به رفع الإشكال، أو المدح، أو الذم، والمضمر لا يصح فيه شيء من ذلك، ألا ترى أنك إذا قلت: جاءني زيد، فأشكل على المخاطب والتبس بغيره، فليس في قولك: (هو) ما يجعله معروفًا عنده.

وكذلك إن أردت أن تمدحه أو تذمه فليس في قولك: (هو) معنى يمدح به، ولا معنى يذم به، فبطل الوصف به لذلك. فإن قال قائل: فكيف جاز أن يبدل من المضمر وقد قلتم: إنه في نهاية البيان، فيقال: مررت به زيد؟ فالجواب عن هذا من وجوه، منها: أن البدل مع المبدل منه كالشيء الواحد فيستحيل فيه ما يستحيل في النعت، إنما يقدر تقدير جملة أخرى، ومنها: أنه [ليس] كل بدل تقصد به رفع إشكال يعرض في المبدل منه، بل من المبدل ما يراد به التأكيد، وإن كان ما قبله غنيًا عنه، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى 52 - 53]، ألا ترى أنه لو لم يذكر (الصراط) الأول لم يشك أحد في أن الصراط المستقيم هو صراط الله؟ ، وقد نص سيبويه على أن من البدل ما الغرض فيه التأكيد، فإذا لم يلزم في كل بدل أن يكون رافعًا للإشكال لم يلزم ما سأل عنه هذا السائل.

ويزيد هذا عندك وضوحًا ما أجازه النحويون من إبدال المضمر من المضمر، كقولهم: (لقيته إياه)، فلو كان المراد بكل بدل رفع الإشكال لم يجز هذا؛ لأن الهاء في قولك: (لقيته) إن كانت مجهولة عند السامع فليس في ذكرك إياه ما يجعلها معرفة لديه. ومن ذلك أن قول النحويين: إن المضمر امتنع وصفه؛ لأن في غاية البيان، ليس المراد به أن كل مضمر بهذه الصفة؛ لأنا نجد من المضمرات ما هو مجهول، كقولك: (وجدت في الدار رجلاً فجالسته)، فهذا الضمير ونحوه ليس بمعروف، وإنما سماه النحويون معرفة؛ لأن السامع يعلم أنه يعود إلى الرجل المذكور في أول الكلام دون غيره، فإذا كان كذلك ثبت أنهم إنما أرادوا بهذا التعليل أن بعض المضمرات لما كان في غاية البيان، فاستغنى عن النعت حمل سائر المضمرات عليه، ولهذا نظائر في صناعة النحو، ومع هذا فلو كان// كل ضمير في غاية البيان على ما توهمه المتوهم لوجدنا لقولهم: «مررت به زيد» وجهًا يصح فيه البدل، وذلك أن يجري ذكر (زيد) في

مجلس فيقول قائل: «مررت به»، فيضمره لما جرى من ذكره، ثم يتوقع أن يظن به أنه أراد غيره، فيذكر اسمه رفعًا للإشكال، وهذا وجه صحيح لا ينكره منكر. ومما يؤيد بطلان هذا الاعتراض أيضًا- وإن كان بعض ما ذكرناه يكفي- أنه لا يصح إلا في بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، فأما بدل البعض من الكل، وبدل الاشتمال، وبدل الغلط، فلا يصح اعتراضه في شيء من ذلك. ألا ترى أنك إذا قلت: ضربته وجهه، وجدت في (الهاء) من الاحتياج إلى البيان- وإن كانت معرفة عند المخاطب- مثل الذي تجد في الاسم الظاهر إذا قلت: ضربت زيدًا وجهه، وكذلك تجد قولك: (انتفعت به علمه) محتاجًا إلى البيان كاحتياج قولك: (انتفعت بزيد علمه). وقد اختلف النحويون في ضمير المتكلم وضمير المخاطب: هل يجوز إبدال الظاهر منهما على إبدال الشيء من الشيء وهما لعين واحدة فيقال: (ضربتك زيدًا).

و (ضربتني أخاك)؟ فكان الأحفش يجيز ذلك ويحتج بقوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا} [الأنعام: 12]، وهذا خطأ عند النحويين؛ لأن ضمير المتكلم في نهاية البيان، وكذلك ضمير المخاطب فلا يصح فيه البدل، فإن احتج الأخفش بأن من البدل ما يراد منه التأكيد على ما قدمناه لم يصح ذلك في هذا الموضع؛ لأنه إذا أبدل الظاهر من ضمير المتكلم وضمير المخاطب فقد حل الظاهر محلهما، ولا تستعمل الأسماء الظاهرة في إخبار المتكلم عن نفسه ولا في الخطاب، ألا ترى أنك تقول عن نفسك: قمت، ولا يصح أن تقول للمخاطب: قام زيد وأنت تريد: (قمت)؛ لأنك توهم أنك تخبره عن غيره. ولم يختلف النحويون في جواز البدل من ضمير المتكلم والمخاطب إذا كان بدل بعض من كل وبدل اشتمال، كقولك: ضربتني وجهي، وسلبتك ثوبك، وأنشد سيبويه: (ذريني أن أمرك لن يطاعا ... وما ألفيتني حلمي مضاعا) وأما سؤالك: هل يجوز أن يعطف على المضمر عطف بيان؟ فإن لم أر في// ذلك لأحد من النحويين قولاً، والقياس عندي ألا يجوز؛ لأنهم قد جعلوا عطف البيان بمنزلة النعت، فيجب أن يجري في الامتناع من الجواز مجراه.

وأما سؤالك: لمَ لمْ يجز أن توصف المعرفة بما هو أخص منها وأكثر تعريفًا، وجاز ذلك في النكرة؟ فإنما ذلك لأن الغرض في صفة المعرفة خلاف الغرض في صفة النكرة، فلاختلاف الغرضين اختلفت حالتا الصفتين. أما الغرض في صفة المعرفة، فإنما هو إزالة الاشتراك العارض فيها أو المدح أو الذم، فلم يجز أن تكون أخص من موصوفها لثلاث علل: إحداها: أن المعرفة لا يعرض الشك لجميع المخاطبين بها، ولو كانت كذلك لم تسم معرفة، وإنما يعرض فيها الشك عند بعض من يخاطب بها فهي غنية عن الوصف في أكثر أحوالها، وأما الصفة فهي مجهولة عند كل من يسمعها حتى يذكر موصوفها الذي يخصصها، فلما كان موصوفها غنيًا في أكثر أحواله وهي مفتقرة إليه في جميع أحوالها، صار موصوفها أخص منها. ألا ترى أن (العاقل) و (الظريف) و (الكريم) ونحوها صفات عامة يوصف بها كل من وجد فيه عقل أو ظرف أو كرم، فإذا ذكر المخبر شيئًا منها لم يعلم السامع من المقصود بتلك الصفة؟ فإذا قال: زيد العاقل، أو عمرو الظريف، أو جعفر الكريم، صارت هذه الصفات مختصة بهؤلاء المذكورين دون غيرهم ممن يجوز أن يوصف بها. ولم يوضع (زيد) ونحوه من الأعلام في أصل وضعه ليسمى به كل من هو على صورته، كما وضع (العاقل) ونحوه من الصفات ليوصف به كل من وجدت فيه تلك الصفة، فقد بان بهذا أن الموصوف أخص من الصفة، وأن الصفة أعم منه، أعني ما تقدم ذكره من المعارف. والعلة الثانية: أن صفة المعرفة إنما المراد منها الزيادة في البيان، والزيادة جزء من

المزيد، فيلزم من ذلك أن يكون حظ المزيد فيه من البيان أكثر من حظ الزيادة. والعلة الثالثة- وبها ينبغي أن تعلل الصفات التي يقصد بها المدح أو الذم: أن صفة المعرفة بعض ما يشتمل عليه الموصوف من الصفات. ألا ترى أنك إذا قلت: جاءني زيد العاقل، و (زيد) يشتمل على صفات كثيرة والعاقل واحدة منها// تخصصه إذا ذكرت كما يخصص (العاقل)، فكان حظ (زيد) من التخصيص لهذا الاعتبار أضعاف حظ (العاقل)، ولهذا قال سيبويه وغيره من البصريين: «إن العلم كأنه مجموع صفات كثيرة» يريدون بذلك أن (زيدً) و [نحوه] لو لم يكن اسم علم يخصه ثم احتاج المخبر إلى الإخبار عنه لاحتاج أن يقول: جاءني الرجل الطويل صاحب الثوب الأبيض ابن الرجل الفلاني الساكن في موضع كذا، فيذكر عشرين صفة ونحوها حتى يفهم السامع عنه، وربما لم يفهم السامع وعجز المخبر عن تعديد صفات المخبر عنه، فاختصر ذلك كله بأن سمي (زيدًا) أو (عمرًا) فناب هذا الاسم العلم في الإخبار عنه مناب تلك الصفات الكثيرة. فإن عرض بعد ذلك شيء من الإشكال عند بعض المخاطبين زاد المخبر عنه صفة أو صفتين من صفاته التي اشتمل عليها فيكون ذلك أخف وأيسر من تعديد الصفات، فلهذه العلل الثلاث لزم أن يكون الموصوف إذا كان معرفة أخص من صفته. فأما النكرة فالغرض في وصفها تقريبها من المعرفة، فلم تخل صفتها من أحد ثلاثة أشياء، إما أن تكون أعم منها، وإما أن تكون مساوية لها، وإما أن تكون أخص منها، فلو كانت صفتها أعم منها كان ذلك مبعدًا لها من المعرفة لا مقربًا، وهذا

نقض الغرض، وإن كانت صفتها مساوية لها في العموم عريت من الإفادة، وكان ترك الصفة وذكرها سواء، فلزم أن يكون أخص منها اضطرارًا. ويبين هذا أنك لو قلت لصاحبك: اذهب فجئني برجل، لخرج وأتاك بأول رجل يجده، فإن قلت له: جئني برجل ظريف، لم يجئك بكل من يجده من الرجل، وتعذر وجوده عليه أشد من تعذر وجود الأول، فإن قلت له: جئني برجل ظريف عاقل، كان أشد تعذرًا وأقل لوجوده، ولهذا قال المتكلمون: «الزيادة في الحد نقصان من المحدود»، وفي هذا المعنى يقول بعض المحدثين: (يسر الفتى بالحين يجلب راحة ... وأيامه تمضي كما انتثر العقد) (وينقص منه كل وقت يزيده ... كما نقص المحدود حين نما الحد) // قال أبو محمد- رحمه الله-: فهذا ما عندي من الجواب عن سؤالك، والحمد لله كثيرًا، وصلى الله على محمد بكرة وأصيلاً، وسلم تسليمًا. كملت المسألة بحمد الله تعالى وعونه لا رب سواه ولا معبود إلا إياه.

الرسالة التاسعة: في تحقيق معنى بعض الأبيات

الرسالة التاسعة: في تحقيق معنى بعض الأبيات

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد النبي الكريم وآله وسلم قال الفقيه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي- رحمه الله-: سألتني- أراك الله سؤلك، ولقاك مأمولك- عن أبيات من الشعر ذكرت أن التنازع وقع هناك في إعرابها ومعانيها، وقد راجعتك بما عند فيها. أما قول النابغة الذبياني: (وأضحى ساطعًا بجبال حسمى ... دقاق الترب محتزم القتام) وسؤالك عن معنى هذا البيت، ونصب (محتزم) أو رفعه فإن ابن الأعرابي فسره فقال: «معناه: وأضحى الغبار ساطعًا رقيقًا بحبال حسمى وهي التي اختزمت بالقتام، وأخرج (محتزمًا) قطعًا من (حسمي)، ورفع (الدقاق) بأضحى، و (حسمى) هو الذي احتزم به القتام»، وهذا نص جلي من كلام ابن الأعرابي على أن: محتزم القتام منصوب لا مرفوع. وذكر الطوسي أن الأصمعي، وأبا عمرو رويا: (وأضحى عاقلاً بجبال حسمى ... .................... )

فذكر أنهما خالفاه في صدر هذا البيت، ولم يذكر أنهما خالفاه في غير ذلك. وهذا الذي قاله ابن الأعرابي من أن (محتزمًا) نصب على القطع من (حسمى) مذهب كوفي مشهور عنهم، ومعنى القطع عندهم أن أصل هذا وما أشبهه أن يكون صفة بالألف واللام، ثم تحذف الألف واللام منه فينصب، وتقدير البيت على هذا الرأي: وأضحى دقاق الترب ساطعًا بجبال حسمى المحتزم بالقتام، فكان (المحتزم) صفة لـ (حسمى)، ثم قطع الألف واللام ونصب، وهكذا قالوا في قول امرئ القيس: ( ............... ... وعالين قنوانًا من البسر أحمرا). بأنه أراد: من البسر الأحمر، ثم قطع الألف واللام منه ونصب، وهذا ونحوه يسميه البصريون حالاً. وفي// تحقيق مذهب الفريقين في هذا الكلام طول ليس هذا موضعه؛ لأنه يخرجنا عن غرضنا الذي نحن بصدده، و (ساطعًا) خبر (أضحى)، و (دقاق) اسمها، وإن جعلت (أضحى) ههنا تامة، لا خبر لها كان انتصاب (ساطع) على الحال من الدقاق. وأما سؤالك عن (محتزم): هل يجوز رفعه فإني لا أعلم أحدًا رواه مرفوعًا، وإنما الرواية ما قدمته، ورفعه- مع ما فيه من عدم الرواية- بعيد جدًا، ومخرج للكلام إلى معنى غير المعنى الذي قصده الشاعر وفسره به الرواة؛ لأن الذي يرفعه لا يخلو من أحد

وجهين: إما أن يجعله صفة للدقاق، وإما أن يجعله بدلاً منه، وكلا الأمرين لا يصح؛ لأنه يصير المعنى إذا دقاق التراب احتزم بالقتام، وليس المراد هذا، وإنما المراد أن (حسمى) احتزم بالقتام واشتمل به لكثرة ما أحاط به منه، وهذا الذي فسره به الأصمعي وابن الأعرابي. وفي انتصاب (محتزم) على الحال- في قول البصريين- سؤال من وجهين: أحدهما: أن يقال: كيف انتصب على الحال وهو مضاف إلى المعرفة؟ ، والثاني: أن المعروف في العربية أن العامل في الحال هو العامل في صاحبها، والعامل في (حسمى) الإضافة، ولا يصح لهذه الإضافة أن تعمل في (محتزم)؛ لأنه يصير المعنى أن الجبال إنما هي مضافة إلى (حسمى) في حال احتزامه بالقتام دون سائر أحواله، وهذا غير صحيح، ومن أجل هذا الإلزام عدل الكوفيون عن نصبه على الحال إلى نصبه بالقطع في ما أحسب. وإنما ينبغي- على ما يقتضيه معنى البيت- أن يكون العامل في (محتزم) (ساطعًا)، أو (أضحى) في قول من جعلها تامة، وأما من جعلها ناقصة ففي ذلك نظر؛ لأن (كان) الناقصة وأخواتها- عند حذاق النحويين- لا تعمل في الفضلات. فأما السؤال الأول فإن الجواب عنه أن يقال: إن إضافة (محتزم) إلى (القتام) إضافة غير صحيحة ينوي بها الانفصال، والمضاف إليه منصوب في المعنى، كما أن إضافة (وارد) إلى (الثمد) من قول النابغة: ( ....................... ... إلى حمام شراع وارد الثمد)

غير صحيحة، و (الثمد) منصوب في المعنى، فلذلك صار (محتزم) حالاً من (حسمى)، و (وارد) صفة لـ (حمام) حين لم تكن إضافته محضة. وأما السؤال الثاني فسؤال عويص، وفي الجواب عنه غموض محتاج إلى تلخيص، والجواب عنه: أن العامل فيه (أضحى) أو (ساطعًا) - وإن// كان كل واحد منهما لم يعمل في حسمى لفظًا؛ لأنه عامل فيه معنى لأن الشاعر لو قال: وأضحى (حسمى) محتزم القتام، ساطعًا عليه دقاق الترب، أو قال: ساطعًا عليه دقاق الترب، أو قال: ساطعًا عليه دقاق الترب في حال احتزامه بالقتام لأدى ذلك المعنى بعينه، ونظيره من الأحوال المحمولة على المعاني قول النابغة الجعدي: (كان حواميه مدبرًا ... خضبن وإن كان لم يخضب) ألا ترى أن (مدبرًا) حال من الهاء، والعامل في الهاء الإضافة؟ ، ولا يصح لهذه الإضافة أن تعمل في (مدبر)؛ لأنه يصير المعنى أن حواميه ليست مضافة إليه إلا في حال إدبار، وهذا غير صحيح، وإنما العامل فيه معنى التشبيه؛ لأن التشبيه إذا عمل في (حواميه) فقد عمل [في الحال]، فكأنه قال: كأنه (مدبرًا) مخضوب الحوامي، ونحو هذا من الأخبار التي ليست بأحوال قوال الشاعر: [الطويل]

(لعلي إن مالت بي الريح ميلة ... على ابن أبي زبان أن يتندما) فأخبر عن اسم (لعل) بقوله: (أن يتندم)، وليس فيه ضمير يعود إليه؛ لأن الضمير إنما يرجع إلى ابن أبي ربان، وجاز ذلك حملاً على المعنى؛ لأنه لو قال: لعل ابن أبي زبان أن يتندم إن مالت بي الريح ميلة عليه لأدى ذلك المعنى بعينه، ونحوه من الأحوال المحمولة على المعاني دون موضوع الألفاظ قول امرئ القيس: (خرجت بها تمشي تجر وراءنا) فقوله: (تمشي) في موضع الحال من الباء والهاء، كأنه قال: ماشيين. وقد قال النحويون: إنه لا يعمل في الحال عاملان، وإذا صيرت (تمشي) حالاً من الباء والهاء أعملت فيه (خرج) وحرف الجر، فصار بمنزلة قولك: (خرج زيد ومررت بعمرو راكبين)، وهذا لا يجوز، وإنما جاز ذلك ههنا حملاً على المعنى؛ لأن الباء تنوب مناب همزة النقل فصار قوله: (خرجت بها) بمنزلة أخرجتها، وإذا صار معناه إلى هذا التقدير كان العامل واحدًا، وهذا كثير جدًا. وأما قولك: إن الأعلم- رحمه الله- رواه مرفوعًا فلا أعلم من أين ادعيت ذلك عليه، ولم يصرح فيه برفع ولا نصب، وإنما قال قولاً ينحو نحو ما حكيناه عن ابن الأعرابي، وإن كان قوله: (وحسمى محتزم القتام) قد أوهمك أنه خبر مبتدأ مضمر فليس كذلك، إنما// جعلها جملة في موضع نصب على الحال كأنه قال: وأضحى دقاق الترب ساطعًا بجبال حسمى وحسمى محتزم القتام، أي وحسمى هذه حاله. وأما قول زهير: [السريع]

(يحفظك ما وقى الأكارم من ... حوب تسب به ومن غدر). فإن فيه روايتين ذكرهما الشنتمري: إحداهما (وقى الأكارم)، بنصب (الأكارم) وفتح الواو من (وقى) وتشديد القاف، والثانية (ما وقى الأكارم) برفع (الأكارم) وضم الواو من (وقى) وكسر الكاف وتخفيفها، وهذه الرواية الثاني هي التي أولع جمهور الناس بها، وكلا الروايتين جائزة، والأولى هي المختارة، ومن أجل ذلك لا أكاد أعرج على الثانية. وإنما صارت الأولى هي المختارة لما فيها من مطابقة بعض الألفاظ لبعض، وألفاظ البيت- على الرواية الثانية- لا يطابق بعضها بعضًا، وفيها مجاز، وحمل على المعنى دون الألفاظ، وذلك معدوم في الرواية الأولى، ألا ترى أن معنى البيت وتقدير ألفاظه على الرواية الأولى: ويحفظك من الحوب والغدر ما حفظ الأكارم قبلك، فجاء بالفعلين معًا على صيغة فعل الفاعل، وكان يجب في الرواية الثانية أن يقول: وتوقى من الحوب والغدر وما وقي الأكارم، فيأتي بالفعلين على صيغة ما لم يسم فاعله لتتلاءم الألفاظ وتتشاكل، فلما جاء بالفعل الأول على صيغة فعل الفاعل، وبالثاني على صيغة فعل ما لم يسم فاعله فتنافرت الألفاظ، واحتاج البيت إلى تأويل يصرف ألفاظه إلى التلاؤم والتشاكل، ووجه الصيغة في ذلك أن يقال: ويقيك: تضمن المعنى أنه قد وقي ذلك، فدلت صيغة فعل الفاعل على ما تضمنه الكلام من صيغة فعل المفعول، كما أن القائل إذا قال: ضرب زيد عمرًا فقد تضمن معنى ضرب عمرو، وهذا عكس قراءة من قرأ: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ} [النور: 36]؛ لأن المفعول

في هذه القراءة قد تضمن فعل الفاعل، وبيت زهير خلاف ذلك. وأما قول زهير: (وكانت تشتكي الأضغان منها ... لجون الخب واللجج الحرون) فإن هذا البيت رواه السكري: (وكانت تشتكى الأضغان .............. ) بضم التاء وفتح الكاف// ورفع (الأضغان) على صيغة ما لم يسم فاعله، وفسره تفسيرًا يدل على ذلك؛ لأنه قال: يقول أربابها يشكون الأضغان، فجعل الشكوى لأصحاب الخيل لا للخيل، ومعنى ذلك أن هذه الخيل كان فيها التواء على أصحابها لنشاطها؛ لأنها تذهب بهم حيث لا يريدون وتجمح، فلا يستطيعون على إمساكها إلا بجهد، ويتعذر عليهم إلجامها وركوبها، كما قال في قصيدته الأخرى: (فبتنا عراة عند رأس جوادنا ... يزاولنا عن نفسه ونزاوله).

(ونضربه حتى اطمأن قذاله ... ولم يطمئن قلبه وخصائله) فلما كانت بهذه الصفة من النشاط صارت كأن في صدورها أضغانًا على أصحابها، فوصف زهير أنها كانت في أول أمرها على هذه الصفات، وأنهم لم يزالوا يركبونها لكل صارخ يستغيث، ويروضونها بكثرة الركض والركوب حتى أزالت أضغانها، ولانت عرائكها، وذهب ما فيها من الالتواء والإعراض. وتقدير البيت على مذهب الكوفيين: كانت تشتكي أضغانها فأقام الألف واللام مقام الضمير على حد قولهم: مررت برجل حسن الوجه، أي: على معنى وجهه، وفي قوله تعالى: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} [ص: 50] أن المعنى مفتحة أبوابها، فقسم ونوع فقال: اللجون الخب ومنها اللجج الحرون، فيرتفع (اللجون) بالابتداء، وخبره في قولها منها، واللجج مبتدأ [ثان] وخبره محذوف، أراد: ومنها اللجج الحرون، وعطف جملة على جملة، ولابد من تقدير (منها) مرة ثانية لأنه تقسيم وتنويع، فإن لم تضمر (منها) مرة ثانية كان التقسيم ناقصًا، ونظيره قول الله- عز

وجل-: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100]، تقديره: ومنها حصيد، فهو عطف جملة على جملة. ونحوه قول الكميت: (لنا راعيا سوء مضيعان منهما ... أبو جعدة العادي وعرفاء جيأل) والتقدير: ومنها عرفاء جيأل. وأما على أصول البصريين فله تقديران: أحدهما: أن يريد وكانت تشتكي الأضغان منها اللجون الخب، وحذفوا (منها)، قالوا في (مررت برجل حسن الوجه) إن معناه الوجه منه، وفي الآية المذكورة أن المعنى مفتحة لهم الأبواب منها، فحذف الضميرين من الموضعين لما في الكلام عليه من الدليل، وقوله: (منها اللجون) مبتدأ وخبر، كما قال الكوفيون لا خلاف// بينهم في ذلك، والتقدير الآخر: ألا تضمر (منها) ولكن تجعل (منها) المذكورة في البيت هي التي يعود منها الضمير فتكون (منها) على هذا متصلة بالأضغان، وتكون الجملة الأولى قد تمت في قوله: (منها) ويجعل (اللجون) وما بعده بدلاً من الأضغان، ولا يصح هذا البدل إلا على تقدير مضاف محذوف، كأنه قال: أضغان اللجون، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، فيكون مثل قول امرئ القيس: ( .................. ... بناظرة من وحش وجرة مطفل)

في قول من جعل الناظرة ههنا (العين)؛ لأن تقديره على هذا القول بناظرة ناظرة مطفل، على إبدال (ناظرة) الثانية من ناظرة الأولى، فمن حذف (الناظرة) وأقام [المضاف إليه] مقامها، صار (مطفل) بدلاً من (ناظرة) لحلوله محل ما كان بدلاً منها، ومثله قول الآخر: (نضر الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات) في راوية من روى (طلحة) بالنصب؛ لأنه أبدلها من (أعظم)، ولا يصح ذلك على حذف مضاف، كأنه قال: أعظم طلحة، ثم حذف وإنما احتيج إلى هذه الصنعة لأن الكل لا يبدل من البعض، وإنما يبدل البعض من الكل، وكذلك احتيج في إبدال (اللجون) من (الأضغان) للصنعة المذكورة. وإذا كان لا يصح البدل على ظاهر الكلام فهذا في رواية من روى: تشتكى- على ما لم يسم فاعله- ورواه قوم: تشتكي الأضغان بالنصب وفتح التاء من (تشتكي) وكسر الكاف)، فالشكوى- على هذه الرواية- للخيل لا لأصحابها، فيكون الكلام قد تم في قوله: «وكانت تشتكي الأضغان»، ثم ابتدأ منها فقال: منها كذا، ومنها كذا، على نحو ما ذكرناه من التنويع والتقسيم.

فإن قيل: كيف وصف الخيل بأنها تشتكي أضغانًا؟ وما هذه الأضغان التي تشتكيها؟ فإن ذلك يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون أراد بالأضغان ما فيها من الحران، واللجاج، والعسر، والأمور التي ذكرنها؛ لأن الصفات المذمومة تجري مجرى الأمراض والأدواء والعيوب، ألا ترى أن العرب يقولون للمتكبر الذي لا يلتفت عجبًا وزهوًا: (أصيد)؟ وإنما الأصيد في الحقيقة البعير الذي لا يقدر أن يثني عنقه، ولا يلتفت لداء يصيبه، فأجروا الزهو، والتكبر مجرى الداء. وكذلك قول الشاعر: (//ما برح التيم يعتزون وزر .. ق الخط تشفي السقيم من سقمه) أنه أراد [أن] الرماح تزيل نخوة المتكبر وإعجابه بنفسه، فهذا وجه، والمعنى الآخر: أن أصحاب هذه الخيل كانوا يصرفونها، ويعتبون عليها لما فيها من العسرة والأدواء، وكأنهم مضطغنون عليها، وهي مضطغنة عليهم، فلم تزل الحروب تروضها حتى ذهب عسرها والتواؤها، وصارت إلى ما يوافق أصحابها، وصار أصحابها إلى ما يوافقها، فذهبت أضغانها عليهم، وأضغانهم عليهم. قال أبو محمد- رحمه الله-: فهذا ما حضرني من القول في جواب ما سألت عنه، ولله الحمد على جزيل نعمه، وصل الله على محمد وآله.

الرسالة العاشرة: في تحقيق بعض الأمثال والأبيات

الرسالة العاشرة: في تحقيق بعض الأمثال والأبيات

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا قال الشيخ الجليل أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي- رحمه الله-: سألتني- أبقاك الله- عن قولهم في الأمثال: دهدرين سعد القين، وعن قولهم: وهو يضرب أخماسًا لأسداس، وعن قول عارق الطائي: (أبو عدني والرمل بيني وبينه ... تأمل رويدًا ما أمامة من هند) فأما قولهم: دهدرين سعد القين فقد اختلفت الرواة في حقيقة لفظه، وحقيقة معناه، وحقيقة إعرابه، كثر فيه التخليط، فرواه قوم: دهدرين سعد القين، هذه رواية الأصمعي، وكان يقول: لا أدري ما أصله، وروي عنه برفع (سعد) و (القين)، وبرفع (سعد) وإضافته إلى (القين)، ودهدرين متصل غير منفصل، ورواه قوم د هـ منفصلاً من درين. وكان أبو زياد الكلابي يقول: ده دريه- بالهاء- و (ده) منفصل من (دريه)،

كذا رواه أبو عبيد القاسم عنه، ورواه ابن الأعرابي: دهدر بن سعد، ورواه أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب الأمثال: دهدرين وسعد القين، وفسره فقال: تركوا تنوين (سعد) استخفافًا، ونصبوا (دهدرين) على إضمار فعل ينصبه، // وهذا تفسير يحتاج إلى تفسير آخر، وذكر أن بعضهم رواه: دهدرين سعد القين، بحذف التنوين، وخفض (سعد) وترك تنوينه. ورواه يعقوب في كتاب (الأمثال): دهدرين ساعد القين، وقال: يريد سعد القين، ذكر ذلك الأصمعي عن خلف الأحمر أنه سمع أعرابيًا يرويه كذلك. وقال أبو زيد الأنصاري: «يقال للرجل يهزأ منه: دهدرين وطرطبين»، ودهدرين، ودهدري، فهذا جميع ما وقع إلينا الاختلاف في حقيقة لفظه. فأما القول في حقيقة معناه وحقيقة إعرابه فإني لم أر فيه لأحد قولاً شافيًا يسرد عنه ويخبر بالجلية منه، وأنا أتكلم في معناه بما يقتضيه، وأبين ما لم أجد لهم بيانًا فيه، إن شاء الله.

أما من روى (دهدرين) سعد القين فالوجه فيه أن يكون (دهدرين) كلمة واحدة؛ لأن أبا عبيدة معمر بن المثنى قد صرح فيه بأنها تثنية؛ لأن أهل اللغة قد حكوا أنه يقال للباطل: (دهدرين)، بالراء، و (دهدن) بالنون، وأنشدوا: (لأجعلن لابنة عثم فنا ... حتى يكون مهرها دهدنا) وإعرابه- على هذا- أنه اسم للفعل بمنزلة (هيهات) و (سرعان)، كذلك حكى ابن جني عن الفارسي، ومعناه: بطل سعد القين، فـ (سعد): فاعل بـ (دهدرين) مرتفع به، كما كان يرتفع بالفعل الذي ناب عنه، وهو مضاف إلى القين، والمراد بالسعد: السعادة، هذا على رواية من خفض (القين)، ومعناه أن (القين) كان من عاداته أن ينزل في الحي فيشيع أنه متحفز للحرب، غير مقيم، ليبادر إليه بالعمل، فكان له في كذبه سعادة، فلما علم بكذبه بطل سعده، ولم ينتفع بكذبه، ولذلك قالوا: إذا سمعت بسرى القين فإنه مصبح، ومن رفع (القين) جعله صفة لـ (سعد)، وجعل (سعدًا) اسم رجل قين، وقدر في الكلام مضافًا محذوفًا، كأنه قال: بطل كذب سعد القين، أو قول سعد القين، وكان يجب على هذا أن ينون (سعدًا) ولكنه حذف التنوين استخفافًا لالتقاء الساكنين، كما قرأ بعض القراء: (قل هو الله أحد

الله)، وكما أنشد سيبويه: .................. ... ولا ذكر الله إلا قليلاً) ويجوز في رواية من رفع (سعدًا) و (القين) أن يكون المعنى: اكذب كذبتين يا سعد القين، فيكون (دهدرين) اسمًا وقع موقع// المصدر، كما وقعت (الحافرة) في قوله: (أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفع وعار) موقع الرجوع الذي هو مصدر صحيح، كأنه قال: أأرجع إلى الصبا رجوعًا بعدما شبت وصلعت؟ ويرتفع (سعد) على أنه منادى مفرد، و (القين) صفته. وأما من روى (ده درين) بفصل (ده) عن (درين)، فقالوا: معنى (ده) بالغ في

الدهاء والكذب، و (درين) من در الشيء، يدر، إذا تتابع فأرادوا بتثنيته المبالغة في الدر، كقولهم: لبيك وسعديك ودواليك، فإعرابه على هذا القول أن (ده) أمر، و (درين) منصوب على المصدر المحمول على المعنى، وسعد اسم رجل، وهو منادى مفرد، و (القين) في هذا القول مرفوع على الصفة له كأنه قال: بالغ مبالغتين في الكذب يا سعد القين، ويجوز في هذا القول نصب (القين) على أن يكون صفة على الموضع، كما تقول: يا زيد الطويل والطويل، ويجب أن يكون (ده) على هذا الرأي مقلوبًا؛ لأن الدهاء معتل اللام، و (ده) لا يكون إلا معتل العين، فلا يستقيم أن يكون منه إلا على القلب. وأما من رواه (دهدريه) - بالهاء- فيكون معناه إذا فصل (ده) من (دريه) بالغ في الكذب مبالغتيه يا سعد القين، أي المبالغتين المعروفتين للكذب، فالهاء في (دريه) عائدة على الكذب، وإن لم يتقدم له ذكر؛ لأن (ده) قد دل عليه، كما قالوا: (من كذب كان شرًا له) وتكون هذه التثنية يراد بها الجمع والترديد، ولا يراد بها حقيقة التثنية، كما قالوا: (لبيك)، ومن رواه متصلاً كان اسمًا للفعل على ما تقدم. وأما من روى (دهدري سعد القين) فحذف النون من (دهدرين) وخفض (سعدًا) و (القين)، فليس على هذه الرواية اسمًا للفعل؛ لأن أسماء الأفعال لا تضاف كما لا تضاف الأفعال، وإنما هو مصدر مثنى أضيف إلى (سعد) والعامل فيه مضمر، كأنه قال: اكذب كذبتي سعد القين، و (سعد) اسم رجل، و (القين) صفة له، وحذف التنوين من (سعد) لالتقاء الساكنين على ما ذكرناه فيما تقدم. وأما رواية ابن الأعرابي (دهدر بن سعد) فالأظهر في هذه الرواية أن يكون (دهدر) اسم رجل معروف بالكذب، فإذا كذب رجل شبه به، فقيل: (دهدر بن

سعد)، أي: هذا دهدر// بن سعد، أي: هذا مثله، ومنزل منزلته، كما قالوا: أبو يوسف أبو حنيفة، وإنما قلت هذا لأن ابن الأعرابي رواه برفع ابن، ويجوز على هذه الرواية أن يكون (الدهدر) الكذب بعينه، ووصفوه بالبنوة مبالغة، كما قالوا: الضلال بن فهلل، والضلال بن ثهلل، كأنهم أرادوا بذكر البنوة أنه معروف بالكذب والباطل، أو كأنه كذب تولد من كذب، كما قالوا للخبز: جابر بن حبة، لتولده من الحب. وأما رواية أبي عبيدة معمر بن المثنى (دهدرين وسعد القين) بعطف (سعد) على (دهدرين) ونصب (سعد) و (القين) فإن أبا عبيدة قال: تركوا تنوين (سعد) استخفافًا، ونصبوا (دهدرين) على إضمار فعل، ولم يمثل الفعل الناصب له، والوجه في هذه الرواية أن يكون (دهدرين) اسم رجل كذاب سمي بالتثنية، كرجل سمي (زيدين) أو (عمرين)، وكأنهم فعلوا ذلك قصدًا إلى المبالغة في وصفه بالكذب؛ لأن (الدهدر): الكذب، كما سمو (الضبع) حضاجر، مبالغة في وصفها بعظم البطن؛ لأن حضاجر جمع حضجر وهو العظيم البطن، و (سعد) أيضًا اسم رجل قين كذاب، و (القين) صفة لـ (سعد)، وحذفوا التنوين من (سعد) لالتقاء الساكنين كما مضى. وأما قوله: إنه انتصب بفعل مضمر، فالوجه فيه أن الرجل إذا كذب فقال: ما معه دهدرين وسعد القين، فكأنه قال لمن حضر: عاينوا دهدرين وسعد القين، فإنهما حضرا بحضور هذا الكذاب، فهذا ما عندي في هذا المثل. وأما قولهم في الرجل الذي يستعمل المكر والخديعة: (هو يضرب أخماسًا لأسداس)

ففيه قولان: قال ابن الأعرابي: «كان شيخ في إبل ومعه أولاده الرجال، قد طالت غربتهم عن أهلهم، فقال لهم ذات يوم: ارعوا إبلكم ربعًا فرعوها ربعًا نحو طريق أهلهم، فقالوا: لو رعيناها خمسًا فزادوا يومًا قبل أهاليهم، فقال: ارعوها خمسًا، فقالوا له: لو رعيناها سدسًا، ففطن الشيخ فقال: ما أنتم إلا ضرب أخماس لأسداس، ما همتكم وشأنكم رعيها، وإنما همتكم أهلكم، فضرب مثلاً للذي يراوغ صاحبه ويريه أنه يطيعه، وأنه معه، وهو في أمر آخر»، وقال غير ابن الأعرابي: أصله أن الرجل كان إذا أراد سفرًا بعيدًا عن أهله عود إبله أن تشرب خمسًا ثم سدسًا، لتعتاد الصبر عن الماء في السفر، فضرب ذلك مثلاً// للمكر والخديعة؛ لأن الماكر ينقل صاحبه من حال إلى حال لأمر ينضوي عليه كما تنقل الإبل من خمس إلى سدس لأمر يراد بها، ومعنى (يضرب) هنا يجعل ويصير، كما قال- الله عز وجل-: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} {آل عمران: 112]، وقال تعالى: {لا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ} [النحل: 74]، واللام في قولهم (لأسداس) لام العلة والسبب كأن المعنى أنه يعود الإبل الأخماس ليدرجها [بذلك] إلى الأسداس. وأما قول عارق الطائي:

( ....................... ... تأمل رويدًا ما أمامة من هند) فإن صاعدًا اللغوي ذكر أن (هندًا) مئتان من الإبل، و (أمامة) ثلاثمئة، ولا أحفظ هذا عن غيره، وذكر أبو عمر المطرز أنهما جبلان، والله الموفق والمرشد لا رب سواه، ولا معبود إلا إياه.

الرسالة الحادية عشر: في تحقيق بعض الأبيات

الرسالة الحادية عشر: في تحقيق بعض الأبيات

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا قال الفقيه الأستاذ أبو محمد- رحمه الله-: سألت- أيدك الله- عن قول الشاعر: (ولا ثوب البقاء بثوب عز ... فيطوى عن أخي الخنع اليراع) بعد قوله: (فصبرًا في مجال الموت صبرًا ... فما نيل الخلود بمستطاع) [فقال- أعزه الله] تأويله: أنه أمر نفسه بالإقدام، ونهاها عن الإحجام، فقال [لها]: لا تستوحشي من قصر عمر الشجاع وطول عمر الجبان، فترغبي في الجبن حسدًا للجبان على طول بقائه، فإن البقاء ليس بثوب عز فيعطاه الجبان، ويحرمه الشجاع، ولكنه ثوب ذلة وصغار لما يلحق الجبان من الخزي في فراره والعار، فلذلك يعطاه الجبان، ويحرمه الشجاع، والعرب تصف الشجاع بقصر

العمر، والجبان بطول العمر، وذلك كثير في الشعر القديم والمحدث، قال السموأل [ابن عادياء]: (يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول) وقال أبو تمام: (فيم الشماتة إعلانًا بأسد وغى ... أفناهم الصبر إذ أبقاكم الجزع) وقد ذكر أبو الطيب أن البقاء على غير الاختيار ليس مما يرغب [فيه] فقال: (وما الحياة ونفسي بعد ما علمت ... أن الحياة كما لا تشتهى طبع) وقال الديمرتي: يقال: الناس قد استووا في الممات، غنيهم وعديمهم وقويهم وضعيفهم// لا يزداد واحد منهم ساعة في أجله، وليس البقاء والعمر كالعز الذي لا يدركه الشجاع والقوي، ولا يدركه الجبان ولا الضعيف، [والحمد لله كثيرًا كما هو أهله]. كملت المسألة.

الرسالة الثانية عشرة: في بيان مسألة وقع النزاع فيها بين المصنف وابن الصائغ

الرسالة الثانية عشرة: في بيان مسألة وقع النزاع فيها بين المصنف وابن الصائغ

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم قال الفقيه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي- رحمه الله-: جمعني مجلس مع رجل من أهل الأدب، يعرف بابن الصائغ، فنازعني في مسألة من مسائل النحو، ثم دبت الأيام ودرجت الليالي وأنا لا أعيرها فكري، ولا أخطرها على بالي، ثم اتصل بي أن قومًا يتعصبون له ويقرظونه يعتقدون أني أنا المخطئ فيها دونه، فرأيت أن أذكر ما جرى بيننا فيها من الكلام، وأزيد ما لم أذكره وقت المنازعة والخصام، ليعلم المزجى البضاعة في هذه الصناعة، وبالله التوفيق. كان مبتدأ الأمر أن هذا الرجل المذكور قال لي: إن قومًا من نحويي (سرقسطة) - حرسها الله- اختلفوا في قول كثير: (وأنت التي حببت كل قصيرة ... إلي، وما تدري بذاك القصائر)

(عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... فصار الخطأ، شر النساء البحاتر) فقال بعضهم: (البحاتر) مبتدأ، و (شر النساء): خبر، وأنكرت أنها هذا القول، وقلت: لا يجوز إلا أن يكون (البحاتر) هو المبتدأ و (شر النساء) الخبر، فقلت له: الذي قلت- أعزك الله- هو الوجه المختار، وما قاله النحوي الذي حكيت عنه جائز، غير ممتنع، فقال: وكيف يصح ما قال؟ وهل غرض الشاعر إلا أن يخبر أن (البحاتر) شر النساء؟ ، وجعل يكثر من الموضوع والمحمول، ويورد الألفاظ المنطقية التي يستعملها أهل البرهان، فقلت له: أنت- أعزك الله- تريد أن تدخل صناعة المنطق في صناعة النحو، وصناعة النحو تستعمل فيها مجازات ومسامحات لا يستعملها أهل المنطق، وقد قال أهل الفلسفة: يجب أن تحمل كل صناعة على القوانين لمتعارفة بين أهلها، وكانوا يرون أن إدخال بعض الصناعات في بعض إنما// يكون من جهل المتكلم، أو عن قصد منه للمغالطة واستراحة بالانتقال من صناعة إلى أخرى إذا ضاقت عليه طرق الكلام. وصناعة النحو قد تكون فيها الألفاظ مطابقة للمعاني، وقد تكون مخالفة لها إذا فهم السامع المراد فيقع الإسناد في اللفظ إلى شيء، وهو في المعنى مسند إلى شيء آخر، إذا علم المخاطب غرض المتكلم، وكانت الفائدة في كلا الحالين واحدة، فيجيز النحويون في صناعتهم: (أعطي درهم زيدًا) ويرون أن فائدته كفائدة قولهم:

أعطي زيد درهمًا فيسندون الإعطاء إلى الدرهم في اللفظ، وهو مسند في المعنى إلى زيد، وكذلك يجيزون: ضرب بزيد الضرب، وخرج بزيد اليوم، وولد لزيد ستون عامًا، وقد علم أن الضرب لا يضرب، واليوم لا يخرج، وأن الستين عامًا لا تولد، فهذه الألفاظ [كلها] غير مطابقة للمعاني؛ لأن الإسناد وقع فيها إلى شيء آخر، اتكالاً على فهم السامع، وليس هذا بضرورة شاعر بل هو كلام العرب الفصيح المتعارف بينهما في محاوراتهما، وهذا أشهر عند النحويين من أن يحتاج فيه إلى بيان. ومما يبين هذا أن النحويين قد قالوا: إذا اجتمعت معرفتان فأيهما شئت الاسم، وأيهما شئت الخبر، فتقول: كان زيد أخاك، وكان أخوك زيدًا، فإن قال قائل: الفائدة فيهما مختلفة؛ لأنه إذا قال: كان زيد أخاك أفادنا بالأخوة، وإذا قال: (كان أخوك زيدًا أفادنا أنه زيد)، // فالجواب أن هذا جائز صحيح لا ينازع فيه منازع،

ويجوز أيضًا أن يقال: كان أخوك زيدًا، والمراد: كان زيد أخاك، فيقع الإسناد في اللفظ إلى الأخ وهو في المعنى إلى زيد، والدليل على ذلك أن القراء قرؤوا: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} [النمل: 56] برفع (الجواب) ونصبه، فتارة يجعلون الجواب الاسم والقول الخبر، وتارة يجعلون القول هو الاسم والجواب الخبر، وليس يشك أحد في أن الغرض في كلتا القراءتين واحد، وأن الإخبار- في الحقيقة- إنما هو عن الجواب، وكذلك قوله: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ} [الحشر: 17]، قرئ برفع (العاقبة) ونصبها، ولا فرق بين الأمرين عند أحد من البصريين والكوفيين، وكذلك قال الفرزدق: (لقد شهدت قيس فما كان نصرها ... قتيبة إلا عضها بالأباهم) ينشد برفع (النصر) ونصب (العض) وبرفع (العض) ونصب (النصر)، والفائدة في الأمرين جميعًا واحدة.

وكذلك قول الآخر: (وقد علم الأقوام ما كان داؤها ... بثهلان إلا الخزي ممن يقودها) ينشد برفع (الداء) ونصب (الخزي)، ونصب (الداء) ورفع (الخزي)، والفائدة فيها جميعًا واحدة، ونما تساوى ذلك؛ لأن المبتدأ هو الخبر، ومما يبين ذلك بيانًا واضحًا أن القائل إذا قال: شر الناس الفاسق، أو: الفاسق شر الناس، فقد أفادنا في كلا الحالين فائدة واحدة. وكذلك إذا قال: (أبوك خير الناس) فائدته كفائدة قوله: (خير الناس أبوك)، لا يمكن أحدًا أن يجعل بينهما فرقًأ، ويشهد لذلك قول زهير: (وإما أن يقولوا قد أبينا ... فشر مواطن الحسب الإباء)

فهذا البيت أشبه الأشياء ببيت كثير، وقد جعل زهير فيه (شرًا) هو المبتدأ، و (الإباء) هو الخبر، وإنما غرضه أن يخبر أن (الإباء) هو شر مواطن الحسب، ولا يجوز لزاعم أن يزعم أن (الإباء) هو المبتدأ، و (شر) خبره؛ لأن الفاء لا يجوز دخولها على خبر المبتدأ إلا أن يتضمن المبتدأ معنى الشرط، ألا ترى أنه لا يجوز: زيد فقائم؟ ، وكذلك من رواه: وشر مواطن- بالواو- لأن الواو لا تدخل على الأخبار، لا يجوز: زيد وقائم. ومما يبين لك تساوي الأمرين عند النحويين باب الإخبار بـ «الذي» وبالألف واللام، فمن تأمل قول النحويين فيه رأى ما قلنا نصًا؛ لأن القائل إذا سأل فقال: أخبرني عن (زيد) من قولنا: قام زيد، فجوابه- عند النحويين أجمعين- أن يقال: الذي قام زيد، أو القائم زيد، ألا ترى أن المجيب قد جعل (زيدًا) خبرًا، وإنما

سأله السائل أن يخبر عنه، ولم يسأله أن يخبر به، فلو جاء الجواب على حد السؤال لقال: زيد الذي قام، وزيد القائم، وباب الإخبار كله مطرد على هذا، وإنما جاز ذلك- عندهم- لأن الفائدة في قولك زيد القائم كالفائدة في قولك: القائم زيد، ولولا أن الأمرين- عندهم- سواء لما جاز هذا. ومن أطرف ما في الأمر أن جماعة من النحويين لا يجيزون تقديم خبر المبتدأ عليه إذا كان معرفة، فلا يجيزون أن يقال: أخوك زيد، والمراد//: زيد أخوك، واحتجوا بشيئين: أحدهما: أن المعرفتين متكافئتان، ليست إحداهما أحق بأن يسند إليها من الأخرى، وليس ذلك بمنزلة المعرفة النكرة إذا اجتمعتا.

والحجة الأخرى: أنه يقع الإشكال فلا يعلم السامع أيهما المسند وأيهما المسند إليه، فلما عرض فيها الإشكال لم يجز التقديم والتأخير، وكان ذلك بمنزلة الفاعل والمفعول إذا وقع الإشكال فيهما لم يجز تقديم المفعول، كقولك: ضرب موسى عيسى، وهذا قوي جدًا غير أن النحويين كلهم لم يتفقوا عليه، فعلى مذهب هؤلاء لا يجوز أن يكون (شر النساء) خبرًا مقدمًا بوجه من الوجوه، فإن كان هؤلاء القوم يريدون صناعة النحو فهذا ما توجبه صناعة النحو، وإن كانوا يريدون صناعة المنطق فقد قال جميع أهل المنطق، لا أحفظ في ذلك خلافًا بينهم: إن في القضايا لمنطقية قضايا تنعكس فيصير موضوعها محمولاً، ومحمولها موضوعًا، والفائدة في كلتا الحالتين واحدة، وصدقها، وكيفيتها محفوظان عليها، قالوا: فإذا انعكست ولم يحفظ الصدق والكيفية سمي ذلك انقلاب القضية لا انعكاسها. ومثال المنعكس من القضايا قولنا: لا إنسان واحد حجر، ثم نعكس فنقول: لا حجر واحد إنسان [فهذه قضية] قد انعكس موضوعها محمولاً ومحمولها موضوعًا

والفائدة في الأمرين جميعًا واحدة، ومن القضايا التي لا تنعكس قولنا كل إنسان حيوان]، فهذه قضية صادقة، إن صيرنا موضوعها محمولاً، ومحمولها موضوعًا، وقلنا: كل حيوان إنسان، عادت قضية كاذبة، فهذا يسمونه انقلابًا لا انعكاسًا. وإنما ذكرنا هذا- وإن كان لا مدخل له في صناعة النحو- ليعرف هؤلاء القوم أن صناعة المنطق قد ناسبت صناعة النحو في هذا المعنى بعض المناسبة، ولم يكن غرض الصناعتين واحدًا، وبالله التوفيق. تمت المسألة، والحمد لله حق حمده، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

الرسالة الثالثة عشرة: في تحقيق أن لفظ أمهات جمع ما هي؟

الرسالة الثالثة عشرة: في تحقيق أن لفظ أمهات جمع ما هي؟

//بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد النبي الكريم وآله قال الفقيه الأستاذ أبو محمد بن السيد البطليوسي- رحمه الله- مجاوبًا لمن سأله عن لفظة (أمهات) جمع ما هي؟ فإن كانت جمع (أم) فلأي شيء دخلت الهاء فيها؟ وإن كان فيها لغة أخرى، فجمعت هذا الجمع فبينه؛ لأن متوهمًا توهم أن واحدتها (أمهة) مثل (حمرة) ودخلها التعليل، فهل ذلك صحيح أم لا؟ وهل يؤتى هذا الجمع في بني آدم والبهائم أو في أحدهما، وكذلك (أم)؟ وإن قيل: إن الهاء زائدة فلم زيدت؟ وهل لها أخت في اللغة أم لا؟ بينه لنا موفقًا مأجورًا إن شاء الله] [فقال- أعزه الله]: الذي ذهب إليه جمهور النحويين والعلماء بالتصريف منهم أن الهاء في (أمهات) زائدة، ووزنها عندهم (فعلهات) وأما الواحدة منها فالمشهور أن يقال: أم، وأمة، ولا يكاد يقال: أمهة، والغالب على (أمة) - بالتأنيث- أن تستعمل في الندء كقولهم: يا أمتي لا تفعلي، وتاء التأنيث فيه معاقبة ياء الإضافة لا تجتمع معها، وقد جاءت في الشعر مستعملة في غير النداء، أنشد الطوسي: [الطويل]

(تقيلتها من أمة لك طالما ... تنوزع في الأسواق عنها خمارها) وقد حكى اللغويون (أمهة) - بالهاء- وأنشدوا: ( ............... ... أمهتي خندف وإلياس أبي) ووزنها- عندهم- (فعلهة). وذهب بعض النحويين إلى أن الهاء في (أمهات) و (أمهة) أصلية، وذكر ابن جني أنه مذهب أبي بكر بن السراج، ووزنها عندهم (فعلهة) بمنزلة (ترهة) و (أبهة)، ويقوي ذلك أن صاحب كتاب (العين) حكى (تأمهته أما ووزنه (تفعلته). وجمهور النحويين مخالفون لهذا الرأي، ومعتقدون أن (أمًا) و (أمات) الأصل، وأن الهاء زيدت فرقًا بين من يعقل وما لا يعقل، فيقولون في من يعقل: (أمهات) وفيما لا يعقل: (أمات)، قال الله عز وجل: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2]، وقال الراعي يصف إبلاً: (كانت نجائب منذر ومحرق ... أماتهن وطرقهن محيلا)

هذا هو الأكثر في الاستعمال، وقد جاء عكس ذلك، قال ذو الرمة:// (سوى ما أصاب الذئب منه وسربة ... أطافت به من أمهات الجوازل) يعني القطا، وقال جرير: (لقد ولد الأخيطل أم سوء ... مقلدة من الأمات عارًا) وليس في حكاية صاحب كتاب العين (تأمهت). أما دليل على أن الهاء أصل فمن وجهين: أحدهما: أن كتاب (العين) كتاب مطعون عليه، معيب عند كبراء البصريين لا يرونه حجة فيما ينفرد به، ولا يوجد في غيره؛ لأن فيه خطأ كثيرًا في التصريفي يخالف مذهب الخليل، ولو كان الكتاب تأليف الخليل- كما زعموا- لم يكن مخالفًا لما رواه سيبويه وغيره من أصحابه. والوجه الثاني: أنه لو صح قولهم: تأمهت أما، لم يدل ذلك على أن الهاء أصلية؛ لأنا قد وجدنا العرب ربما صرفوا من الكلمة المزيد فيها فعلاً فحذفوا الزيادة، كقولهم في تصريف الفعل من الشمال: (شملت الريح)، وربما تركوا الزيادة في الفعل على حالها، كقولهم في تصريف الفعل من (القلنسوة): تقلنس الرجل، ومن (المسكين) تمسكن، فتركوا الميم والنون- وهما زائدتان-، فوزن (تقلنس) تفعنل ووزن

(تمسكن) تمفعل، فإن كان هذا معلومًا من مذاهبهم لم ينكر أن يكون (تأمهت) من هذا الباب، فتكون الهاء زائدة كزيادتها في (أمهة)، ويكون وزن (تأمهت) تفعلت، فإن قال قائل: ما ينكر من أن تكون (أمهة) هي الأصل ووزنها (فعلة) وتكون (أم) محذوفة منها، فيكون بمنزلة (شفة، وشية، وعضة) في أن الهاء محذوفة منها، وأصلها: (شفهة، وشيهة، وعضهة)؟ فالجواب: أن هذا يبطل من وجوه منها: -أن هذا التوهم- لو كان صحيحًا- لكانت الميم من (أم) مخففة ولم تكن مشددة؛ لأن تشديد الميم يوجب أن يكون وزن (أم) (فعلاً) [ولام الفعل منها ميم]، ولام الفعل من (أمهة) على هذا الرأي هاء، ودل هذا على أن (أمًا) ليست محذوفة من (أمهة)، ويشهد بصحة ذلك قولهم: أم بينة الأمومة، وما كنت أمًا، ولقد أممت، فهذا كله يدل على أن الميم من (أم) مضاعفة كالميم في (سم) و (هم) - ومنها: أن الحروف الزوائد التي الهاء أحدها إنما سماها النحويون حروف الزيادة ولم يسموها حروف الحذف، وإن كان منها ما يحذف في بعض المواضع؛ لأن الغالب عليها أن تزاد لا أن تحذف، فنسبت إلى الزيادة التي هي أغلب عليها، فإذا جاء منها حرف يحتمل الزيادة والحذف لزم أن يحكم بالزيادة التي هي الباب فيه حتى يقوم دليل على الحذف الذي هو أقل حاليه، هذا هو محض القياس وطريقه. - ومنها: أن الذين تكلموا في الاشتقاق لا نعلم أحدًا منهم جعل (الأم) مشتقة من (أمه، يأمه)، وإنما قال بعضهم: إنها مشقة من (أم يؤم) إذا قصد، سميت

بذلك لأن ولدها يؤمها ويتبعها، وقال بعضهم: سميت أمًا لأنها أصل الولد، وأم كل شيء: أصله، كما قالوا لـ (مكة) أم القرى، وقالوا لفاتحة الكتاب أم الكتاب، وقالوا للوح المحفوظ الذي كتب الله- تعالى- فيه كل شيء أم الكتاب، ويقال: فلان أم القوم، وأبو القوم إذا كان مفزعًا لهم، وأصلاً يرجعون إليه، ويعتصمون به، قال ابن مقبل يمدح عثمان بن عفان- رضي الله عنه-: (وملجأ مهروئين يلفى به الحيا ... إذا صرحت كحل هو الأم والأب) يقال: هرأه البرد إذا أضر به، وقد سمى الله- تعالى- النار أم الكفار لأنها مجمع الكفار ومقرهم، فقال: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 9] وقال العجاج: (ما عندهم من الكتاب أم) أي: أصل يرجعون إليه، فهذا كله يدل على أن أصل الكلمة عندهم (الأم) دون (الأمهة). وأما قولك: هل لزيادة هذه الهاء نظير في كلام العرب؟ فإن الهاء المزيدة نوعان:

نوع متفق على زيادته، ونوع مختلف فيه، فمن المتفق عليه زيادة الهاء في الندبة، كقولهم: وازيداه، وفي الإنكار كقولهم: أزيدنيه، وفي الوقف كقوله- تعالى-: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} [الحاقة 28 - 29]، وقول الراجز: (ويقلن: شيب قد علاك .. وقد كبرت فقلت إنه) أي: نعم, ومن المواضع المختلف فيها قولهم: رجل هجرع للطويل، وهبلع للكثير المال، وامرأة هركولة للعظيمة الوركين، فإن الأخفش ذهب إلى أن هذه الهاءات زوائد، وجعل (الهجرع) مشتقًا من الجرع وهو// رمل مستطيل، وجعل (الهبلع)

مشتقًا من البلع، والهركولة التي تركل في مشيها. والذي عليه أكثر الناس أن الهاء في هذه الألفاظ أصل، ويؤيد ذلك أن أبا العباس ثعلبًا حكى: «هذا أهجر من هذا، أي: أطول منه»، وأما قولهم: أهرقت الماء فإن الهاء فيه زائدة عند جمهور أهل التصريف، وزعموا أنها زيدت عوضًا من ذهاب عين الفعل؛ لأن الأصل: أريقت، وأروقت، على الخلاف في ذلك. وزعم بعض ضعفاء النحويين أنها أصل، وحملهم على ذلك قولهم في معناه: هرقت، وكذلك قال ابن قتيبة في بعض كلامه؛ لأنه أدخل هذه الكلمة باب (فعلت وأفعلت)، وهذا غلط، وإنما الهاء في (هرقت) بدل من الهمزة في أرقت، ويدل على أن (أهرقت) ليس وزنه (أفعلت) كما قال هؤلاء الجاهلون بالتصريف قولهم في اسم الفاعل منه: مهريق- بالياء- وفي اسم الفاعل: مهراق- بالألف- ولو

كان (أهرقت): (أفعلت) لقالوا: مهرق ومهرق، كما يقال في أكرمت: مكرم ومكرم، ولم يكن للياء والألف فيها مدخل، فدل هذا على أن أصلها (مريق) و (مراق)، وهذا بين جدًا، قال العديل بن الفرخ العجلي: (فكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آل فوق رابية صلد) وقال آخر: (ما غناء الحذار والإشفاق ... وشابيب دمعك المهراق) فهذا ما حضرني في جواب ما سألت عنه، والله الموفق للصواب بمنه، لا رب سواه، ولا معبود إلا إياه.

الرسالة الرابعة عشرة: في قوله تعالى: {يستفتونك}

الرسالة الرابعة عشرة: في قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ}

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد النبي الكريم قال الفقيه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد- رحمة الله عليه- مجاوبًا على سؤال من سأله عن قول الله- تعالى وجل-: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176]، ما النكتة في الضمير الذي في (كَانَتَا اثْنَتَيْنِ) وهو ضمير التثنية، وليس في الآية إلا// واحد يقع عليه الضمير؟ ذهب الأخفش سعيد بن مسعدة إلى أن الضمير إنما يثنى- وإن كان لم يتقدم اسم شيء يعود عليه- حملاً على المعنى كأنه قال: فإن كان من ترك اثنين، فثنى الضمير على معنى (من)، وهذا كلام غير بين، وتلخيص تأويله أن يقال: إن الضمير في (كانتا) يعود على الكلالة، والكلالة: اسم مفرد يقع على الواحد، والاثنين، والجميع، والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، فيجوز في الضمير العائد عليها أن يفرد، ألا ترى أنك تقول من في الدار يحبانك، ومن في الدار يحبونك، ومن في الدار يحبك، ومن في الدار تحبانك، ومن في الدار يحببنك فتثني الضمير وتجمعه وتؤنثه حملاً على معنى (مَنْ)؟ ، ولك أن تذكر الضمير أبدًا وتفرده حملاً على لفظها، وكذلك القول في الكلالة؛ ولأجل

هذا الذي قلنا جاز أن يخبر عن الضمير بقوله: (اثنتين). وقد أجمع النحويون على أنه لا يجوز: إن الزيدين كانا اثنين؛ لأن ما تقدم من تثنية الضمير وزيد قد أفاد أنهما اثنان، فصار الخبر لغوًا لا فائدة فيه، وسبيل الخبر أن تكون فيه فائدة ليست في الاسم المخبر عنه، وإنما حسن في الآية لما ذكرناه من أنه كلام حمل على المعنى، ولم يتقدم لنا شيء يعود الضمير من (كانَتَا) إليه، فصار بمنزلة قول القائل: انظر من في الدار، فإن كان واحدًا فدعه، وإن كانا اثنين وكانوا أكثر فأخرجهم منها، فيحسن هذا في الموضع من حيث كانت التثنية معنوية لا لفظية، ولم يمتنع كما يمتنع قولك: إن الزيدين كانا اثنين من حيث كان الضمير يعود إلى تثنية لفظية. وقد قال أبو علي الفارسي: «إنما جاز {فَإن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ [النساء: 176] من حيث كان يفيد العدد مجردًا من الصغر والكبر»، وهذا كلام غير واضح، وما قدمناه أوضح، ويدل على استجازتهم في الأمور المعنوية ما لا يستجيزونه في اللفظ قول الله- تعالى-: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] فجعل اسم (كان) مفردًا حملاً على لفظها، وخبرها جمعًا حملاً على معناها. ولو حمل الاسم والخبر معًا على معناها// لقال: إلا من كان هودًا أو نصارى صارت هذه الآية العزيزة بمنزلة قول القائل: لا يدخل الدار إلا من كان غافلين، وهذه مسألة لم يجزها ابن السراج وجماعة من النحويين، قالوا لا يجوز إلا أن يحمل الاسم والخبر معًا على اللفظ، فيقال: إلا من كان غافلاً، ويحملا معًا على المعنى فيقال: إلا من كانوا غافلين، وقد جاء في كتاب الله- تعالى- بخلاف ما قالوا، هذا ما حصرني من جواب مسألتك، وبالله التوفيق، تمت المسألة والحمد لله.

الرسالة الخامسة عشرة: في تحقيق قوله تعالى: {الله نور السماوات والأرض} [النور: 35]

الرسالة الخامسة عشرة: في تحقيق قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد النبي الكريم وآله وسلم قال الفقيه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي- رحمه الله-: سألت- أعلى الله قدرك، وحرس من النوائب طورك، ونور بالعلم صدرك- عن قول الله- عز وجل-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35] إلى آخر الآية، وذكرت أنك لم تر فيها للمفسرين قولاً يزيل الحيرة، ويكشف الغمة، وأئمتنا المتقدمون- رضي الله عنهم- وإن كانوا لم يوضحوها كل الإيضاح، ولم يفصحوا عن معناها غاية الإفصاح، لقد نهجوا لنا السبيل إلى معرفة معناها، ونبهوا بيسير كلامهم على لطف غرضها وبعد مرماها، ونحن نقول فيها بحول الله قولاً يعرب عنها، ويشرح المبهم منها، فإن

المجسمة من أهل ملتنا قد اغتروا بظاهر قوله- عز وجل-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فحملهم الجهل بحقيقة معناه على أن زعموا أن ربهم نور ونسوا قوله عز من قائل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقد كذبهم الله- تعالى- في دعواهم هذه لقوله في عقب الآية: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]، فأخبرنا نصًا بأن جميع ما ذكره في الآية من النور، والمشكاة، والمصباح، والزجاجة، والشجرة والزيتونة أمثال مضروبة يعقلها عن الله- تعالى- من وفق لفهمها، وكشفت له الحجب عن مكنون// علمها، كما قال- تعالى-: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وبحق ما قيل: لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف. وإنما معنى قول الله- تعالى-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] الله هادي السماوات والأرض، فشبه الهدى بالنور، كما شبه الكفر بالظلمات في قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور: 40] واختلفوا في الضمير من قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} [النور: 35] على من يعود؟ فذهب قوم إلى أنه يعود على الله [تعالى]، وذهب

آخرون على أنه يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: بل يعود على المؤمن، واحتجوا بقراءة أبي بن كعب: {مثل نور المؤمن] وأحسن هذه الأقوال أن يكون عائدًا على الله- تعالى- لتقدم ذكره في الآية، ولم يتقدم للنبي صلى الله عليه وسلم ولا للمؤمن ذكر فيعود الضمير إليه، وأحسب أن الذين جعلوا الضمير عائدًا على النبي صلى الله عليه وسلم أو على المؤمن إنما كرهوا عودته على الله- تعالى- لئلا يشبهوا نور الله الذي لا يحد لعظمته وجلاله بنور المصباح في صغره وقلته، وليس الأمر على ما توهموا؛ لأن المعنى مثل نوره الذي يضعه في قلب المؤمن كمثل المصباح في المشكاة، والمشكاة الكوة بلسان الحبشة، فشبه الهدى بالنور لأنه يزيل ظلمة الجهل كما يزيل النور ظلمة الليل، وشبه قلب المؤمن بالزجاجة، وصدره بالمشكاة؛ لأن الوعظ والتذكير يقويان الإيمان والهدى في قلوب المؤمنين فيصيران مادة للهدى، كما يكون الزيت مادة للمصباح، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم بالزيتونة لأن الهدى انبعث من قلبه كانبعاث الزيت من الزيتونة، وجعل الزيتونة لا شرقية ولا غربية؛ لأن مبعثه صلى الله عليه وسلم كان بمكة، وهي بين المشرق والمغرب، فهذا تمثيل خرج على أحسن وجوه التمثيل، وتشبيه جرى على أبرع مجارى التشبيه، بخلاف ما توهمته المجسمة، نعوذ بالله من عدم التوفيق. وقوله- عز من قائل-: {وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] كلام خرج مخرج مجاري

كلام العرب الذي تستعمله في ألفاظها، وتقدي الكلام: مثل نوره كمصباح في مشكاة؛ لأن النور لم يشبه بالمشكاة، إنما شبه// بالمصباح فوقع التشبيه على المشكاة في اللفظ، وهو واقع على المصباح في المعنى، وهذا نحو مما حكاه سيبويه من قول العرب: «ما رأيت كاليوم رجلاً»، والمعنى: ما رأيت كرجل أراه اليوم رجلاً، فأوقعوا التشبيه على اليوم في اللفظ، والمراد به الرجل في المعنى، وتحقيق تقديره: ما رأيت كرجل اليوم، فحذف المضاف إليه مقامه، ومثله قول النابغة: (تحيد من أستن سوء أسافله ... مشي الإماء الغوادي تحمل الحزما) فأوقع التشبيه على (مشي الإماء) والمراد به الإماء أنفسها. وقوله- تعالى-: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور: 35]، قال الفارسي: «من دهن شجرة»، فحذف المضاف، قال: و (زيتونة) عطف بيان على الشجرة، وقال غيره:

زيتونة بدل من الشجرة، وقوله تعالى: {لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] صفتان منفيتان، كقوله: مررت برجل لا قائم ولا قاعد. وقال المفسرون: إنما جعلها لا شرقية ولا غربية؛ لأنه أنعم لها وأحسن لنباتها، تقول العرب: «لا خير في شجرة في مقناه» وهي المكان الذي لا تصيبه الشمس، «لا خير في مضحاة» وهي المكان الذي لا يصيبه الظل، وإنما صلاح النبت بأن تصيبه الشمس تارة، ويصيبه الظل تارة. وقال الفارسي: (قوله: لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ) أي: هي شرقية غربية، كان نسبتها إلى كل واحد من الشرق والغرب مثل نسبتها إلى الآخر، لا يغلب عليها أحدهما، وإذا كان كذلك كان أشد لاعتدال زيتها، وبحسب اعتداله يكون صفاؤه وإشراق المصباح إذا أسرج به. وقوله: (يَكَادُ زيتُها يُضِيءُ) أي يكاد يضيء دون أن يسرج به مصباح من شدة صفائه، والوقف عند قوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} ثم ابتدأ فقال: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} يعني نور المصباح على نور الزجاجة والدهن.

وقوله- عز وجل-: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} شبه الزجاجة بالكوكب لشدة ضفائها وبياضها، وإنما وصفها بهذه الصفة لأنه شبه بها قلب المؤمن الذي قد ملأه نور الهدى فأشرق وأنار، وهذا نظير الحديث [المأثور]: «الإيمان يبدأ في القلب لمظة [بيضاء] أي لمعة بيضاء، فكلما ازداد العبد من العمل والطاعة ازدادت تلك اللمظة، وإذا غلبت على القلب فذلك الذي لا تضره فتنة، وإن

الكفر يبدأ في القلب طمسة، فكلما اقترف// العبد من المعصية ازدادت تلك اللمظة، فإذا غلبت على القلب فذلك المطبوع على قلبه [الذي] لا تنفع فيه موعظة، ولا يهتدي أبدًأ» نعوذ بالله من ذلك، هذا آخر ما عندي من القول في هذه الآية، وأنا أشكر الله على ما وفق إليه وألهم، وصلى الله على نبينا محمد وعلي آله وسلم وشرف وكرم.

الرسالة السادسة عشرة: في قوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} [آل عمران: 18]

الرسالة السادسة عشرة: في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18]

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد النبي الكريم وآله قال الفقيه الأستاذ أبو محمد- رحمه الله-: سألت- سددنا الله وإياك إلى الصواب، ووفقنا إلى فهم ما تضمنه محكم الكتاب- عن قوله تعالى-: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، وقلت بأي شيء انتصب (قائمًا)؟ وما العامل فيه؟ وأين خبر التبرئة من هذه الآية؟ وذكرت أن بعض المنتحلين لصناعة النحو أنكر قولنا: إن قائمًا- ههنا- منصوب على الحال، وزعم أنه كفر من قائله. وإنما ذكر ذلك- فيما يرى- لأن الحال- فيما ذكر النحويون- منتقلة وفضلة في الكلام، والقيام بالقسط صفة لله- تعالى- لم يزل موصوفًا بها ولا يزال، ولا يصح فيها الانتقال، ونحن نربأ بأنفسنا أن نكون ممن يجهل ما يوصف به الله تعالى مما لا يجوز أن يغيب عنا هذا المقدار من علم اللسان، وإنما أوتي هذا المعترض من قلة بصره بهذه الصناعة، وسوء فهمه لباب الحال، وقد أجبتك عن ذلك فيما فيه كفاية وإقناع، وبالله أستعين وعليه أتوكل. أما خبر التبرئة في هذه الآية فمحذوف، تقديره عند البصريين: لا إله في الوجود

إلا هو، [أو لا إله موجود إلا هو] ونحو ذلك من التقدير، وخبر التبرئة قد يحذف إذا كان في الكلام دليل عليه، كقولهم: (لا بأس) ويريدون: لا بأس عليك، كقول عبد يغوث الحارثي: (فيا راكبًا إما عرضت فبلغن ... نداماي من نجران ألا تلاقيا) أراد أن لا تلاقي لنا. وقوله: (هو) بدل من موضع (لا) وما عملت فيه؛ لأن التبرئة// وما تعمل فيه في موضع رفع على الابتداء وهي في ذلك بمنزلة (إن) وما تعمل فيه، فإن قيل:

فما الذي يمنع من أن يكون (هو) خبر التبرئة فلا يحتاج إلى تكلف هذا الإضمار؟ فالجواب أن ذلك خطأ من ثلاثة أوجه: أحدها: أن (لا) هذه لا تعمل إلا في النكرات، فإن جعلت (هو) خبرها أعملتها في المعرفة، وذلك لا يجوز. والثاني: أن ما بعد (لا) موجب، و (لا) لا تعمل في الموجب، وإنما تعمل في المنفي. والثالث: أنك إن جعلت (هو) خبر التبرئة كنت قد جعلت الاسم نكرة والخبر معرفة، وهذا عكس ما توجبه صناعة النحو؛ لأن الحكم في العربية إذا اجتمعت معرفة ونكرة أن تكون المعرفة هي الاسم، والنكرة هي الخبر، فلذلك جعل النحويون الخبر في نحو هذا محذوفًا، وأما قوله تعالى: {قَائِماً بِالقِسْطِ} [آل عمران: 18] فإنه لا

يخلو من أحد ثلاثة أوجه: إما أن يكون منصوبًا على المد والتعظيم، وإما أن يكون منصوبًا على الحال، وإما أن يكون منصوبًا على النعت لـ (إله) المنصوب بالتبرئة. فأما نصبه على المدح والتعظيم فواضح يغني وضوحه عن القول فيه، وأما نصبه على الصفة لـ (إله) فإن ذلك خطأ؛ لأن المراد بالنفي ههنا العموم والاستغراق، فإذا جعلت (قائمًا) صفة لـ (إله) صار التقدير: لا إله قائمًا بالقسط إلا هو، فرجع النفي خصوصًا، وزال ما فيه من العموم، وجاز أن يكون ثمة إله آخر غير قائم بالقسط، كما أنك إذا قلت: لا رجل ظريفًا في الدار إلا زيد، فإنما نفيت الرجال الظرفاء خاصة، وجاز أن يكون هناك رجل آخر غير ظريف، وهذا كفر صريح، نعوذ بالله منه.

وأما نصبه على الحال فلا يخلو من أحد أربعة أوجه: إما أن يكون حالاً من اسم الله تعالى، وإما أن يكون حالاً من المضمر في خبر التبرئة المقدر. فإن جعلته حالاً من اسم (الله) تعالى فالعامل فيه (شهد) تقدير: شهد الله في حال قيامه بالقسط أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة وأولوا العلم، وليس هذا قبيحًا من أجل أنك قد ذكرت أسماء كثيرة وجئت بالحال من بعضها دون بعض، قال ابن جني: «ألا ترى أنك لو قلت جاء زيد راكبًا وعمرو وخالد، فجعلت الحال من// بعضهم دون بعض لجاز باتفاق»، وإذا جعلت (قائمًا) حالاً من (هو) فالعامل في الحال معنى النفي؛ لأن الأحوال تعمل فيها المعاني كما تعمل في الظروف، فيكون التقدير: شهد الله الربوبية ليست إلا له في حال قيامه بالقسط، فهذان الوجهان صحيحان. فأما كونه حالاً من الضمير المنصوب بـ (أن)، ومن الضمير الذي في خبر التبرئة المحذوف فكلاهما خطأ لا يجوز، أما امتناعه من أن يكون حالاً من الضمير المنصوب وما بعدها من اسمها وخبرها صلة لها، فإن جعلت (قائمًا) حالاً من اسمها كان داخلاً في الصلة فتكون قد فرقت بين الصلة والموصول بما ليس من الصلة، وذلك مستحيل.

والعلة الثانية: أنك إن جعلته حالاً من اسم (أن) لزم أن تعمل (أن) في الحال، و (أن) لا تعمل في الأحوال شيئًا ولا في الظروف، فإن قلت: قد قال النابغة: ( .................... ... كأنه خارجًا من جنب صفحته) فنصب على الحال من اسم (كأن) وجعل العامل فيها ما في (كأن) من معنى التشبيه، فهلا أجزت مثل ذلك في (أن)؟ فالجواب: أن ذلك إنما يجوز- عند البصريين- في (كأن) و (ليت) و (لعل) خاصة؛ لأن هذه الأحرف الثلاثة أبطلت معنى الابتداء مما يدخل عليه، وأحدثت في الكلام معنى التمني، والترجي، والتشبيه، فأشبهت الأفعال. فإن قيل: فـ (أن) المفتوحة تدخل على الجملة فيصير بها إلى تأويل المصدر، ألا ترى أنك تقول: بلغني أنك قائم، فيكون معناه: بلغني قيامك، فهلا أعملت في الحال ما فيها من تأويل المصدر؟ فالجواب: أن ذلك خطأ؛ لأن المصدر الذي تقدر به (أن) المفتوحة إنما ينسبك منها ومن صلتها التي هي اسمها وخبرها، فإذا جعلت (قائمًا) حالاً من اسم (كأن) داخلاً في صلتها فيلزمك من ذلك أنك تعمل الاسم في نفسه، وذلك محال، فلهذا الذي ذكرناه استحال أن ينتصب (قائمًا) على الحال من اسم (أن). وأما امتناعه من أن يكون حالاً من الضمير المقدر في خبر التبرئة المحذوف فمن أجل أن المراد بالنفي العموم والاستغراق على ما قدمنا، فإذا جعلته حالاًَ من المضمر الذي في الخبر المحذوف صار التقدير: لا إله موجود في حال قيامه بالقسط إلا هو، فيصير النفي واقعًا على الآلهة القائمين بالقسط// وعلى غيرهم ويوهم هذا الكلام أن

[الله] غير قائم بالقسط [كما أنك] إذا قلت: [لا رجل] موجود سخيًا إلا زيد قائمًا [فإنما نفيت] الرجال الأسخياء خاصة [دون غيرهم] وهذا كفر، نعوذ بالله من مثله، فصح بجميع ما قدمناه أن قائمًا لا يصح أن يكون حالاً إلا من اسم الله تعالى، أو من ضميره، والحال منتقلة وفضلة في الكلام، وهذه الصفة لم يزل الله تعالى موصوفًا بها ولا يزال، فالجواب: أنه ليس كل حال منتقلة، ولا فضلة في الكلام كما زعم هذا الزاعم، بل من الأحوال ما لا يصح انتقاله، ولا يجوز أن يكون فضلة، ألا ترى أن النحويين قد أطلقوا الحال على أشياء من القرآن غيره لا يصح فيها الانتقال؟ كقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} [البقرة: 91]، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 153] والحق لا يفارق التصديق، وصراط الله- تعالى- لا تفارقه الاستقامة. وقالوا في قوله تعالى: {نَعْبُد إلَهك وَإِلَه آبَاءَك إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق إلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، حال، وقالوا في قول الله- تعالى-: {الم* اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ* نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 1 - 3]، إنها جملة في موضع الحال من (الله) - تعالى- كأنه قال: الله الحي القيوم نزل عليك الكتاب متوحدًا في الربوبية، وأجازوا أيضًا أن يكون في موضع الحال من الضمير في (نزل)، وكذلك قول

العرب: «هذا زيد منطلقًا» و «أكثر شربي السويق ملتوتًا»، ونحو ذلك مما يكثر إذا تتبعناه. فإن قال قائل: فكيف يصح أن تسمى هذه الأشياء أحوالاً وهي غير منتقلة، والكلام محتاج إليها؟ فالجواب عن ذلك من وجوه كلها مقنع: أحدها: أن الحال شبيهة بالصفة، والصفة ضربنا: ضرب يحتاج إليه الموصوف، ولابد له منه وذلك إذا التبس بغيره، وضرب لا يحتاج إليه وإنما يذكر للمدح أو للذم أو للترحم، فوجب أن يكون الحال كذلك. ومنها: أن الشيء إذا وجد فيه بعض خواص نوعه ولم يوجد فيه بعضها لم يخرجه من نوعه نقصان ما نقص منها، ألا ترى أن الاسم له خواص تخصه مثل التنوين، ودخول الألف واللام عليه، والنعت، والتصغير، والنداء، ولا يلزم أن توجد هذه الخواص كلها في جميع الأسماء، ولكن حيثما وجدت كلها أو بعضها// حكم له بأنه اسم، وكذلك الأحوال في هذه المواضع فيها أكثر خواص الحال، وشروطها موجودة، فلا يخرجها عن حكم الحال نقصان ما نقصها منها، كما لا يخرج (من) و (ما) ونحوهما عن حكم الأسماء نقصان ما نقصها من خواص الأسماء. ومنها: أن النحويين لم يريدوا بقولهم: إن الحال فضلة في الكلام أن الحال مستغنى عنها في كل موضع على ما يتوهمه من لا دراية له بهذه الصناعة، وإنما معنى ذلك أنها تأتي على وجهين: إما أن يكون اعتماد الكلام على سواها والفائدة منعقدة بغيرها، وإما أن تقترن بكلام آخر تقع الفائدة بهما معًا، ولا تقع الفائدة بها مجردة، وإنما كان

ذلك لأنها لا ترفع، ولا يسند إليها حديث، واعتماد كل جملة مفيدة إنما هو على الاسم المرفوع الذي يسند إليه الحديث، أو ما هو في تأويل المرفوع، ولا تنعقد جملة مفيدة بشيء من المنصوبات والمجرورات حتى يكون فيها مرفوع أو ما هو في تأويل المرفوع، كقولنا: ما جاءني من أحد، وإن زيدًا قائم، فتأمل هذا الموضع فإنه يكشف عنك الحيرة في أمر الحال، وفيه لطف وغموض. وأما القيام الذي وصف به الله- تعالى- نفسه في هذه الآية فليس يراد به المثول والانتصاب؛ لأن هذا من صفة الأجسام- تعالى الله عن ذلك- وإنما المراد بالقيام- ههنا- بالأمر: المحافظة عليه، يقال: فلان يقوم بأمر فلان، أي يعتني به ويهتبل شأنه، ومنه قوله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، أي: متكفلون بأمورهن، ومعنيون بشؤونهن، ومنه قول الأعشى: (يقوم على الرغم في قومه ... فيعفو إذا شاء أو ينتقم) هذا آخر ما عندي في القول في هذه الآية، ولله الحمد على ما سوغ من نعمه، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا.

الرسالة السابعة عشرة: في تحقيق أقوال الحكماء: إن ترتيب الموجودات عن السبب الأول

الرسالة السابعة عشرة: في تحقيق أقوال الحكماء: إن ترتيب الموجودات عن السبب الأول

// بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي قال الفقيه ابن السيد البطليوسي رحمة الله عليه: سألتني- أبان الله لك الخفيات، وعصمك من الشبهات، وأمدك بنور من العقل، يجلو عن عين بصيرتك ظلم الجهل، حتى ترى بعين لبك مراتب المعقولات، كما رأيت بعين جسمك مراتب المحسوسات- عن معنى قول الحكماء: إن ترتب الموجودات على السبب الأول يحكي دائرة وهمية تبدأ من نقطة وترجع إليها ومرجعها في صورة الإنسان، وعن قولهم: إن الإنسان تبلغ ذاته بعد مماته إلى حيث يبلغ علمه في حياته، وأن علمه أيضًا يحكي دائرة وهمية، وعن قولهم: إن في قوة العقل الجزئي أن يتصور في صورة العقل الكلي، وعن قولهم: إن العدد دوائر وهمية: دائرة الآحاد، ودائرة العشرات، ودائرة المئين، ودائرة الآلاف فما زاد، وعن قولهم: إن صفات الباري- تعالى- لا يصح أن يوصف بها إلا على طريق السلب، وعن قولهم: إن البارئ- تعالى- لا يعرف إلا نفسه، وما البرهان على بقاء النفس الناطقة بعد

الباب الأول: (في شرح قولهم: إن ترتب المجودات عن السبب الأول يحكي

الموت؟ وهي- أعزك الله- مطالب ضيقة المسالك، وكثيرًا ما تفضي بسالكها إلى المهالك، وسأقول فيها ما انتهي إليه علمي، وأحاط به فهمي، وبالله أعتصم من الخطأ والزلل، وإياه أسال التوفيق إلى الصواب في القول والعمل، [لا رب غيره]. الباب الأول (في شرح قولهم: إن ترتب المجودات عن السبب الأول يحكي دائرة وهمية مرجعها إلى مبدئها في صورة الإنسان) أقول- وبالله أعتصم- مخبرًا عن مقاصدهم وأغراضهم، وإن كنت أستعمل- على جهة التقريب ألفاظًا غير ألفاظهم-: إن البارئ- تعالى- هو الذي يسمونه السبب الأول، ويسمونه العلة الأولى، ويسمونه علة العلل، لما كان هو الذي أفاض الموجودات، وأعطى كل موجود منها قسطه

من الوجود، ولما لم يجز في الحكمة أن تكون كلها في مرتبة واحدة، صار بعضها أرفع من بعض، وبعضها أحط من بعض، وصار وجود أقربها [مرتبة] منه وساطة لوجود// [أبعدها فلا يوجد أبعدها منه إلا بوجود أقربها منه وتوسطه، ولست أريد بذكر القرب والبعد إثبات مكان]؛ لأن الباري- عز وجل-[لا يوصف بالمكان وكذلك كل] معقول لا مادة له، وإنما أريد بذكر القرب و [البعد مراتبها في الـ] وجود، وأقرب ما يمثل به وجود الموجودات عنه- تعالى- وجود الأعداد عن الواحد، وإن كان الباري- تعالى- لا يجوز أن يشبه بشيء، وكذلك صفاته وأفعاله، ولكنه على جهة التقريب، فكما أن الثلاثة لا توجد عن الواحد ألا بتوسط [وجود] الاثنين، كذلك الأربعة لا توجد إلا بتوسط وجود الثلاثة والاثنين، ولا توجد الخمسة إلا بتوسط [وجود] الأربعة والثلاثة والاثنين، وكذلك سائر الأعداد، ولهذا صار وجود كل عدد علة لوجود ما بعده مع كون الواحد علة لوجود جميعها، إذا كان لا يصح وجود الأبعد إلا بوساطة وجود الأقرب، فكذلك يمثل بالتقريب وجود الموجودات عن الباري- تعالى- لا على الحقيقة، ومعلوم أن الشيء لا يشبه بغيره من جميع جهاته، وإنما يشبه به في بعض معانيه وصفاته، فلما كان وجود الموجودات عنه-

تعالى- على هذه الصفة، كان كمال كل موجود على قدر مرتبته منه في الوجود، فكان أكملها وجودًا أقلها نقصًا في الوجود، فكان أكملها في المرتبة الاثنين تمثيلاً وتقريبًا- كما قدمنا- من العدد في ذلك، ثم الثالث أنقص من الثاني، ثم الرابع أنقص من الثالث، وهكذا لم تزل الموجودات تنقص مرتبة مرتبة على قدر بعدها من المرتبة الأولى، حتى انتهت إلى أنقصها مرتبة الذي لا أنقص منه، إذ كانت مراتب الموجودات متناهية، وكان إثبات ما لا نهاية له بالفعل من المحال قطعًا، إنما يصح إثباته بالقوة والإمكان، ثم تنعكس الموجودات متصاعدة من أدناها مرتبة إلى أعلاها، إلى أن تنتهي إلى أكمل المراتب التي جعل لها بالطبع أن تبلغها، وتسلك في تصاعدها المسلك الذي سلكته في تسافلها، أعني ألا تصعد إلى المرتبة الثانية إلا بعد الأولى، ولا إلى الرابعة إلا بعد الثالثة، بيان ذلك أن البارئ- تعالى- له المرتبة الأولى من الوجود، وهو متوحد بوجوده، لا يشركه في وجوده شيء، كما لا

يشركه// في شيء من صفاته، وأول موجود أوجده وأبدعه- تعالى- الموجودات التي يسمونها الثواني، ويسمونها العقول المجردة عن المادة، وهي تسعة، على عدد الآحاد التسعة، ترتبت في الوجود عنه كمراتب الأعداد أول، وثان، وثالث، إلى التاسع الذي هو نهايتها، كما صار التاسع من العدد نهاية الآحاد. وأول هذه الثواني بالنسبة إلى البارئ- تعالى- في مرتبة الاثنين على وجه التقريب، وبالنسبة إلى الموجودات المبدعات في مرتبة الواحد؛ لأن البارئ- تعالى- بائن عن الموجودات غير موصوف بشيء من صفاتها، وكل واحد من هذه التسعة موجود عن الباري- تعالى- بتوسط وجود كل واحد من هذه التسعة، [ثم تلي مرتبة هذه الثواني التسعة] في الوجود مرتبة العقل الموكل بعالم العناصر، وهو الذي يسمونه العقل الفعال، وهو يوافق الموجودات الثواني التسعة في أنه عقل مجرد من

المادة مثلها، وإنما فصلوه منها وجعلوا لها مرتبة عاشرة على حدة لوجهين: أحدهما: أن الثواني التسعة موكلة بالأفلاك التسعة، والعقل الفعال موكل بعالم العناصر، والوجه الثاني: أن هذا العقل الفعال تسري قوته في الأجرام الناطقة التي دون فلك القمر، كما يسري نور الشمس وعنه يحصل النطق في كل مكون مشعر لقبول القوة الناطقة، وكل ما تجوهر من الموجودات الطبيعية فهو به ملحق، وهذا المعنى ليس بموجود في الثواني. وذكروا أن فيض العقول المجردة عن المادة انقطع عن العقل الفعال، وليس بعد مرتبته إلا مرتبة النفس الناطقة، وإنما وجب أن ينقطع فيض العقول المجردة عنده؛ لأنه اجتمعت فيه قوى العقول التسعة كلها فصار مبدأ لما دونه من الموجودات، كما اجتمعت قوى الآحاد التسعة من العدد في العشرة فصارت بذلك مبدأ لما بعدها من العشرات، ولذلك جعلوا هذا العقل المجرد عن المادة في مرتبة الاثنين، والثلاثين في مرتبة الثلاثة، حتى تصير التسعون في مرتبة التسعة، فينتهي وجود العشرات في التسعين وتصير المائة في مرتبة واحدة، وسنزيد هذا بيانًا عند ذكرنا دوائر الأعداد الوهمية،

إن شاء الله [تعالى]. // ثم تلي مرتبة العقل الفعال في الوجود مرتبة النفس، وهي موافقة للعقول المجردة من المادة في أنها ليست بجسم، كما أن تلك ليست أجسامًا، وهي مخالفة لها في أنها توجد مع الجسم وتقترن به فأكسبها ذلك كدرًا وظلمة، ولذلك صارت نفس الإنسان تجهل ذاتها ولا تراها حتى تستضيء بنور العقل، وهي في ذلك بمنزلة رجل حصل في ظلمة فهو لا يرى جسمه ولا غيره، فإذا أضاء له الجو وسرى في عينه نور الشمس رأى حينئذ جسده وما حوله من الجسمان كذلك النفس تمنعها ظلمة الجهل من رؤية ذاتها ورؤية الصور العقلية المجردة، فإذا أفاض عليها العقل نوره رأت ذاتها وغيرها من المعقولات، ولها مراتب كثيرة كما كان للعقول المجردة المذكورة مراتب، فمن الحكماء من رأى أن مراتبها اثنتا عشرة: تسع للأفلاك، وثلاث لما تحت فلك القمر، وهي: النفس النباتية، والنفس الحيوانية، والنفس الناطقة. ومنهم من جعلها خمس عشرة مرتبة: تسع للأفلاك، وخمس لما دون فلك القمر،

وهي: النفس النباتية وهي أدناها مرتبة، وفوقها النفس الحيوانية، وفوقها النفس الناطقة، وفوقها النفس الفلسفية، وفوقها النفس النبوية، فهذه أربع عشرة مرتبة، والخامسة عشرة مرتبة النفس الكلية، ونحن نذكر خواص كل واحدة من هذه النفوس، وفصولها لتتبين صحة هذا التقسيم إذا فرغنا من هذا الباب، إن شاء الله [تعالى]. ونرجع إلى ما كنا فيه من مراتب الموجودات، فنقول: إن الذي يلي مرتبة النفس في الوجود مرتبة الصورة، ثم يلي مرتبة الصورة مرتبة الجوهر الحامل للصورة [وإنما جعلت مرتبة الصورة قبل مرتبة الجوهر الحامل للصورة] لوجهين: أحدهما أنا بدأنا من أعلى مراتب الموجودات منحدرين إلى أدناها، فكانت الصورة على هذا الترتيب قبل الجوهر الحامل لها، ولو بدأنا من أدنى مراتب الموجودات متصاعدين إلى أعلاها لكان الجوهر الحامل للصورة قبل الصورة في الرتبة،

وهذا الجوهر الحامل للصورة صنفان: أرفعهما: الجوهر الذي يحمل [صورة الأفلاك وما فيها، وأدناهما الجوهر الذي يحمل] الصورة التي كانت تحت فلك القمر، وهذا الجوهر الحامل للصورة هي الموجودات التي دون فلك القمر يسمونه// الهيولى. وإنما فصل هذا الجوهر من الجوهر الحامل لصورة الأفلاك وما فيها من الكواكب- وإن كانا قد اتفقا في أن كل واحد منهما جوهر حامل للصور- لأن صور الأفلاك والكواكب ثابتة في موضوعاتها، وهذا الجوهر الآخر صورة غير ثابتة؛ لأنه يلبس الصورة تارة ويخلعها تارة، وهو مستحيل متغير بجملته وذلك إنما يتغير ويستحيل بالمكان وما فيه من اختلاف النسب. [وهذه الهيولى عندهم أحط الموجودات وأنقصها مرتبة، ومنها تبدأ الموجودات] الطبيعية بالترقي صاعدة نحو أعلى مراتبها، بعكس حالها حين انحدرت إلى أدنى مراتبها، وإنما يكون ذلك كدوران الأفلاك حولها وإيابها

للصور التي كانت فيها بالقوة، ثم تخرج بدوران الأفلاك إلى الفعل كما شاء بارئها لا إله إلا هو، فأول صورة لبستها الهيولى صور الأركان الأربعة التي هي الأرض، والماء، والهواء، والنار، فكان ذلك أول كمال لحقها، ثم لبست صور المعادن بوساطة صور الأركان، ثم صور النبات بوساطة صور المعادن وصور الأركان، ثم صور الحيوان غير الناطق بوساطة صور النبات وصور المعادن وصور الأركان، ثم صور الإنسان الذي هو حيوان ناطق بتوسط صور الحيوان غير الناطق النبات وصور المعادن وصور الأركان، فكانت صورة الإنسان أكمل الصور الطبيعية، ولا مرتبة بعدها إلا أن يتجوهر الإنسان بالمعارف فيلحق بمرتبة المعقولات المجردة من الهيولى والمادة الشبيهة بالهيولى، أعني موضوع صور الأفلاك وما فيها، فإذا حصل بالتجوهر في مرتبة المعقولات حصل في المرتبة التي منها انحطت النفس الناطقة إلى الإيهام، وهي مرتبة العقل الفعال فصارت الموجودات لهذا الاعتبار كدائرة استدارت حتى التقى طرفاها وصار الإنسان آخر الدائرة الذي يرجع على أولها. إلا أن الإنسان عندهم لا يلحق عند تجوهره بأول الثواني الذي هو أعلاها مرتبة، وإنما أقصى كماله أن يلحق بالمرتبة العاشرة، وهي مرتبة العقل الفعال.

وهذا مذهب أرسططاليس، وأفلاطون، وسقراط، وغيرهم من مشاهير الفلاسفة وزعمائهم القائلين بالتوحيد، وأما فلاسفة المجوس فزعموا أن العقول المفارقة// للمادة يترقى بعضها إلى مرتبة بعض حتى يصير أعلاها في مرتبة البارئ- عز وجل- تعالى الله عما يقول الجاهلون علوًا كبيرًاـ وهذا القول كفر محض عند أرسططاليس وجميع من ذكرناه؛ لأنه يوجب استحالة البارئ تعالى عن قولهم. فإن قال قائل: فكيف صار كافرًا؟ وإنما الحق بمرتبة العقل الفعال على رأي أرسطو، وهي المرتبة العاشرة، وإنما كان حكمه- إذا كان كالدائرة- أن يرجع إلى الثاني الذي هو أول موجود بدأ منه الفيض؟

فالجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن العقل الفعال هو في المرتبة العاشرة عندهم، وهو آخر المعقولات المفارقة عند انحدار الوجود، وهو أولها عند تصاعد الأشياء، فإذا بلغ العقل الإنساني تلك المرتبة كان بمنزلة رجوع أخر طرفي الدائرة على الآخر. والوجه الثاني: أن العقل الإنساني ليس مبدؤه من الثواني- عندهم- إنما مبدؤه من العقل الفعال فإذا عاد إليه كان بمنزلة الدائرة. وقد وجب علينا أن نصل بهذا الباب ذكر خواص النفوس الخمس التي قدمنا ذكرها ليتبين الفرق بينها إذ كانت الخاصة قد تقوم مقام الفصل الجوهري فيما يتعذر تحديده. خواص النفس النباتية وتسمى الشهوانية: خواص هذه النفس: النزاع إلى الغذاء وطلبه، والالتذاذ بوجوده إذا وجدته، والاستضرار بفقده إذا فقدته، واستدعاء الموافق من الأغذية، ودفع المخالف، وحفظ الشيء بشخصه ونوعه. أما حفظ شخصه فإنه يكون بالغذاء، وأما حفظ نوعه فبالتوليد، ويسمى هذا الحفظ التقويم الطبيعي ولها الهياكل غير اللحمية، والأعضاء المتشابهة [الأجزاء] ولها سبع قوى جاذبة، وممسكة، وهاضمة، ومغذية، ودافعة، ومنمية، ومصورة

ولها من الشعور والإحساس: تمييز الجهات الست، وإرسال العروق نحو المواضع الندية، وتوجيه الفروع والأغصان نحو المواضع المتسعة، والانحراف عن المواضع الضيقة. (خواص النفس الحيوانية وتسمى العصبية): خواص هذه النفس: شهوة النكاح، وشهوة الانتقام، وشهوة الرئاسة// والغلبة، ولها الهياكل اللحمية والدموية، وقد يوجد من هياكلها ما لا دم له، ولها الأعضاء الآلية والحركة الإرادية الاختيارية، ولها الحواس الخمس، ومنها ما ينقصه بعض الحواس، ولها اللذة والألم، ويوجد لبعضها التخيل والوهم. (خواص النفس الإنسانية وهي الناطقة) خواص هذه النفس الروية، والفكر ومحبة العلم والمعرفة، ولها الهياكل المنتصبة، والعمل باليدين. (خواص النفس الحكمية الفلسفية) خواص هذه النفس محبة العلوم النظرية التي لا يراد منها أكثر من الوقوف على

حقائقها فقط، والحرص على معرفة أسباب الأشياء وعللها، والاستدلال بظواهر الأمور على بواطنها، ومعرفة مراتب الموجودات في الوجود، وكيف انبعثت عن البارئ- عز وجل-؟ وكيف انبعث بعضها من بعض بما سوى فيها من وحدانية الله- تعالى- التي حصلت لكل موجود ذات ينفصل بها من ذات موجود آخر؟ وبها يكون وجود الصور في الهيولى وفي الموضوع الشبيه بالهيولى، وهو الجوهر الحامل لصور الأفلاك والكواكب، وهل العالم قديم أو محدث؟ وما الفرق بين الأزلي والمحدث؟ وما الفرق بين الأزلي المطلق والأزلي المضاف؟ وما الفرق بين المبدع والمكون؟ ، وكيف صار المبدع واسطة بين الأزلي والمكون؟ وهل خالق العالم واحد أو أكثر من واحد؟ وإقامة البراهين على أنه لا يصح أن يكون إلا واحدًا لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء، وما الحكمة في وجود الأشياء على ما هي عليه؟ وما المكون منها وما المبدع؟ وما الفرق بين الفاعل على الحقيقة والفاعل على المجاز والفاعل [على] المطلق، [وما الحكمة] في دوران الأفلاك حركة مستديرة غير مستقيمة؟ وما الواجب وما الممكن وما الممتنع؟ وكيف صار ما فوق الأربعة الأركان من حيز الواجب وما تحت الأركان من حيز الممكن؟ وما الموجودات التي أوتيت كمالها في

جواهرها وأفعالها [وما الموجودات التي لم تؤت كمالها لا في جواهرها ولا في أفعالها] فهما طرفان؟ ، وما الموجودات التي أوتيت كمالها من جواهرها ولم تؤت كمالها في أفعالها// فصارت متوسطة بين الطرفين؟ ولم سكن الصنف الأول فلم تكن به حركة وتحرك الصنفان الآخران؟ وما الحكمة في وجود النواميس والنبوات في عالم الكون والفساد؟ وما الفرق بين النبوة والسحر والكهانة والفلسفة؟ وكيف تفيض قوة الوحي على الأنبياء؟ وما الفرق بين الإنسان الذي يوحى إليه والذي لا يوحى إليه؟ ولم صار الإنسان مأمورًا منهيًا دون غيره؟ ولم سمي العالم إنسانًا كبيرًا؟ وما السياسة؟ وكم أنواعها؟ . فهذه الأمور كلها من خاصة النفس الفلسفية على جهة التصور، وبعضها على جهة التصديق من غير تصور ولكن ليست كل نفس تتعاطى الفلسفة يتهيأ لها أن تعرف ذلك كله، ولكن تعرف بعضه، وإنما تتهيأ معرفة هذه الأمور على كمالها للنفس التي اتفق لها في فطرتها [وكونها إن فطرت وفيها] استعداد لقبول ذلك، وكانت هاجرة للذات مميتة للشهوات، زاهدة في الدينار والدرهم، محبة للخير وأهله، مبغضة للشر وأهله، مرتبطة بالنواميس، مكتسبة للفضائل مطرحة للرذائل، قد اجتمع لها العلم والعمل، فهذا هو الفيلسوف الحق عند ارسطو وأفلاطون وزعماء الفلاسفة، ومن لم يكن عندهم بهذه الصفة فليس بفيلسوف،

ولذلك قال أرسطو: ليس الغرض أن نعلم فقط، وإنما الغرض أن نعلم ونعمل ونكون أخيارًا فضلاء مرتبطين بالنواميس، وقال: اقتلوا من لا دين له، وقال أفلاطون: من أراد قراءة الفلسفة فليطهر أخلاقه من الرذائل؛ فإنه لا يتعلم الفلسفة الطاهرة من كان نجسًا، كما لا يمكن أحدًا أن يرى وجهه في ماء كدر، ومرآة صدئة. (خواص النفس النبوية) خواص هذه النفس الشريفة تلقي الوحي والإلهام، والاتصال بالعقل الفعال، وتقويم سائر النفوس المنحرفة عن الحق، وتشديد الإنسان حتى يفعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي من أجل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي، وإكمال الفطر الناقصة بوضع السنن والوعظ والتذكير والترغيب والترهيب، والإخبار بالأشياء التي ليست في قوى النفس// الفلسفية أن تعلمها؛ لأن النفس الفلسفية إنما تتعاطى النظر في الكليات خاصة، ولذلك قال أفلاطون: «نحن عاجزون عن فهم ما جاءت به الشرائع، وإنما نعلم من ذلك قليلاً، ونجهل كثيرًا ولذلك كان أرسطو يأمرنا بالتسليم لما

جاءت به الشرائع، ويأمرنا بتأديب من تعرض لتعليل أوامرها ونواهيها، وتعاطي الخوض فيها» وهذه النفس أشرف النفوس التي في عالم الأركان وأعلاها، وهي السائسة المدبرة لسائر النفوس، ولا يتفق أن توجد هذه النفس الشريفة إلا في ذوي الفطر الكاملة، وهذه النفس لا تحتاج إلى اكتساب المعارف والعلوم بالمقاييس والمقدمات، كما تحتاج النفس الفلسفية؛ لأن المقاييس العلمية إنما هي قوانين وضعها ذوو الفطر الكاملة، تسديدًا وتقويمًا لذوي الفطر الناقصة، فإذا اتفق للإنسان في أصل مولده أن يعطى فطرة كاملة استغنى عن تلك المقاييس ووجد الأمور العقلية كأنها مصورة في نفسه. وكما أنا نجد في الفطر الإنسانية فطرًا في نهاية النقص قريبة من فطر البهائم، كذلك لا محالة أن نجد فيها فطرًا في نهاية الكمال قريبة من فطر الملائكة، فتكون هذه الفطرة لا تحتاج [إلى تقويم بالمقاييس العلمية كما لا تحتاج الملائكة] بل يكفيها أقل إشارة وأيسر عبارة، ويكون الله- تبارك وتعالى- قد أكمل هذه الفطر في أصل خلقتها لتسوس العالم بوساطتها، وهذا يوجب أن تكون النبوة إلهامًا غير اكتساب. (خواص النفس الكلية) مرتبة هذه النفس الكلية عند من أثبتها من الفلاسفة تحت أفق العقل الفعال،

الباب الثاني: في شرح قولهم: إن علم الإنسان يحكي دائرة وهمية

فالعقل محيط بها من جميع جهاتها، وهي محيطة بكرة الأفلاك، ولها- كما زعموا- دائرتان وخط مستقيم، فالدائرة الأولى متصلة بالفلك المحيط وهو طرفها الأعلى، والدائرة الثانية هي الطرف الأدنى، ومكانها مركز الأرض، وهذا تقريب؛ لأن الجواهر المعقولة لا توصف بالأمكنة ولا الجهات الست. وزعموا أن بين طرفها الأعلى وطرفها الأدنى خطًا يصل بين الدائرتين يسمونه: سلم المعراج، وبه يتصل الوحي بالأنفس// الجزئية الطاهرة، وتنزل الملائكة وتصعد الأرواح الزاكية إلى العالم الأعلى ولهم فيها كلام طويل اقتصرنا منه على هذه الجملة؛ لأن غرضنا في هذا الكتاب غير ذلك. الباب الثاني: في شرح قولهم: إن علم الإنسان يحكي دائرة وهمية وأن ذاته تبلغ بعد مماته إلى حيث يبلغ علمه في حياته قد تأملت- أرشدنا الله وإياك إلى صواب القول والعمل، وعصمنا من الخطأ والزلل- هذا الذي قالوه، واعتبرت ما ذكروه، فوجدته يحتمل تأويلين: أحدهما:

أن الإنسان يفتح نظره بشيء لا مادة له، وينتهي نظره إلى شيء لا مادة له، فيكون مرجع علمه ونظره إلى مثل مبدئه، كما أن مبدأ صورة الإنسان من شيء لا مادة له وغايته أن يعود شيئًا لا مادة له ولست أعني مبدأ صورة جسمه التي هي شكل هيولاه؛ لأن هذه مبدؤها المادة، وإنما أعني مبدأ صورته الناطقة التي صار بها الإنسان إنسانًا، وانفصل عن الحيوان الذي لا نطق له؛ لأن هذه الصورة مبدؤها من العقل [الفعال] ومرجعها إليه، وشرح هذه الجملة: أن مبدأ علم الإنسان الأعداد التي لا يحتاج في تفهمها إلى مادة، ثم يترقى منها إلى النظر في الأعظام التي يحتاج في تفهمها إلى المادة،

غير أن [ما] يحتاج إليه في بعضها من المادة أقل مما يحتاج إليه في بعض؛ لأن مبدأ الأعظام النقطة التي هي مبدأ الخط ولا بعد لها، ثم الخط الذي هو مبدأ السطح، ثم السطح الذي هو مبدأ الجسم، وهذه يحتاج في تفهمها إلى مادة يسيرة، فإذا انتهى إلى النظر في الجسم استغرق في المادة وحصل بنظره في العلم الطبيعي، ثم يبدأ ينسلخ من المادة قليلاً قليلاً على تدرج، كما ترقى إليها قليلاً قليلاً عند نظره في النقطة، والخط، والسطح فلا يزال كذلك حتى يفارق المادة قليلاً، وذلك أنه إذا نظر في العناصر والمعادن فإنما ينظر في أجسام محضة ليس فيها مبدأ غير الطبيعة فإذا صار إلى النظر في النبات وجد فيه مبدأ من مبادئ النفس. وتسمى هذه النفس النباتية، فيكون قد ابتدأ بالانسلاخ من المادة قليلاً قليلاً// فإذا صار إلى النظر في الحيوان غير الناطق وجد أمر النفس فيه أقوى،

وتسمى هذه النفس [النفس] الحيوانية، فيكون قد انسلخ من المادة أكثر، فإذا صار إلى النظر في الحيوان الناطق وجد فيه أمر النفس أقوى، ووجد فيه مبدأ آخر غير النفس الحيوانية، وهو الاستعداد لقبول الأمور المعقولات، ثم يشرع بالنظر في أمور النفس فيصير متوسطًا بين الأمور العقلية المجردة من المادة وبين الأمور الجسمانية ذوات المواد، فإذا أمعن [في النظر] في أمر النفس [الناطقة] لاحت إليه المبادئ العقلية التي ليست بمادة، فيكون قد انسلخ من المادة كلها، وحصل في أول مراتب العلم الإلهي، ثم يشرع بالنظر في الأمور العقلية المفارقة للمادة، فأول معقول يصادفه باعتباره عند صعوده العقل الفعال، فإذا أكمل النظر فيه وعلم مرتبته من المعقولات المفارقة، وأنه في المرتبة العاشرة صعد بالاعتبار إلى النظر في التاسع، ثم إلى الثامن، ثم إلى السابع، ثم إلى السادس، حتى يصير بفكره إلى المعقول الأول الذي هو في مرتبة الواحد، فيجده بداية الموجودات

الذي أفاد كل شيء الوجود، وكل موجود مفتقر إليه، مقتبس الوجود منه، فيكون قد انسلخ من النظر في الثواني التسعة والعقل الفعال. وهذه هي التي تسمى بالملائكة المقربين والكروبيين، فيكون قد انتهى باعتباره وفكره إلى الباري- تعالى- فيشرع حينئذ بالنظر في صفاته، وما يجوز أن يوصف به وما لا يجوز، وكيف انبعثت الموجودات عنه؟ وعلى أية جهة يصح أن يقال: إنه فاعلها وعلتها حتى لا يلحقه نقص؟ وكيف دبر عالم الأفلاك بتوسط الثواني والعقل الفعال في دوران الأفلاك حول الأركان الأربعة فيقع في العلم السياسي والنواميس، ولا يزال ينحدر حتى يرجع إلى الأشخاص المحسوسة التي منها بدأ بالنظر عند صعوده بالاعتبار. فشبهت الحكماء رتبة هذا النظر والاعتبار بالدائرة؛ لأنه ينظر في الموجودات عند انحداره غير النظر الذي ينظر فيها في حين صعوده، كما يبدأ خط الدائرة من نقطة، ثم يعود إليها// على غير الجهة التي ذهب منها. ويسمى النظر الأول:

الإنساني، والنظر الثاني: الإلهي، ويسمون النظر الأول: الطريق إلى الله- تعالى- فكما أن مبدأ الإنسان من معقول ومنتهاه إلى معقول، وهو فيما بين الطرفين محسوس فكذلك علمه يبدأ من معقول وينتهي إلى معقول بينهما العلم المحسوس، فيكون منتهى علم الإنسان هو منتهى ذاته، فيصل إلى عالم العقل في حياته الأولى بعلمه ونظره وفي حياته الثانية بذاته وجوهره، فهذا هو المراد بقول من قال: إن ذات الإنسان تصل بعد مماته إلى حيث وصل علمه في حياته، إلا أنه لا يتجاوز مرتبة العقل الفعال، وهي المرتبة العاشرة من مرتبة السبب الأول. وقال بعضهم: إن غايته أن يلحق بمرتبة النفس الكلية، ومرتبتها دون مرتبة العقل الفعال- كما ذكرنا فيما تقدم- فهذا ما ظهر إلي في شرح كلامهم الذي سألت عنه و [ثبت] ههنا وجه آخر، وهو أن كل موجود يوصف بالنطق فإن تجوهره لا يكمل إلا بأن يعقل السبب الأول الذي منه انبثقت الموجودات، إلا أن كل موجود تبعد مرتبته من مرتبته لا يمكن أن يعقله حتى يعقل ما بينه وبينه من الموجودات السابقة له بالمرتبة، فالموجود الثاني الذي هو أقرب الموجودات إليه بالمرتبة لا يحتاج في تكميل جوهره إلى واسطة، وأما الموجود الثالث فإنه لا يعقل

الأول إلا بتوسط الثاني، فكذلك الموجود الرابع لا يمكن أن يعقله إلا بتوسط الثاني والثالث، وكذلك ما بعد ذلك، ولا يحتاج موجود من هذه الموجودات غير الناطقة في كمال تجوهره إلى أن يعقل ما دونه في مرتبته إلا الإنسان وحده، فإنه يحتاج في كمال تجوهره إلى أن يعقل ما فوقه وما دونه، ولذلك احتاج في كمال تجوهره إلى أن يعقل جميع الموجودات، والعلة في ذلك أن مرتبته من الوجود الفائض من السبب الأول- تعالى- آخر المراتب؛ لأنه إنما يكون بعد تقدم الحيوان غير الناطق، والنبات، والمعادن، والأركان، والهيولى، فصارت هذه الأشياء أسبق منه [بالمرتبة إلى الوجود]- وإن كان هو أفضل منها- لأن النفس الناطقة// صورة في النفس الحيوانية، والنفس الحيوانية صورة في النفس النباتية، والنفس النباتية صورة في المعادن، والمعادن صورة في الأركان الأربعة، والأركان الأربعة صورة في الهيولى، فلما كانت هذه الأشياء كلها قبله في رتبة الوجود وكان لا سبيل له إلى أن يعقل السبب الأول حتى يعقل ما بينه وبين الموجودات، احتاج إلى أن يعقل ما دونه كما احتاج إلى أن يعقل ما فوقه، ولما كانت الموجودات الفائضة من السبب [الأول] شكلها شكل دائرة آخرها الإنسان- كما ذكرنا في الباب الأول- احتاج الإنسان إذا سلك

على رتبة وجوده أن يعكس الدائرة عند الاعتبار فينحط من مرتبته في الوجود إلى مرتبة الحيوان غير الناطق التي هي أدنى المراتب إليه، ثم إلى النبات، ثم إلى المعادن، ثم إلى الأركان، ثم إلى الهيولى، فإذا بلغ إلى الهيولى كان قد وصل إلى أحط المراتب في الموجودات فيبدأ بالصعود منها نحو المبدأ الأعلى، فيكون إلى الصورة أو صعوده، ثم إلى النفس، ثم إلى العقل الفعال، ثم إلى الثواني التسعة [التي تسمى الملائكة المقربين] ثم إلى الباري- تعالى-، غير أنه إذ وصل إلى مرتبة العقل الفعال وقف [ولم يحتج في كمالها إلى أن يتخطى العقل الفعال]؛ لأن قوته الناطقة منه بدأت وإليه تعود، وإنما يحتاج إلى معرفة ما فوق العقل لتكمل ذاته وجوهره، لا لتكمل دائرة علمه ونظره. ونحن نكمل هذا الباب بأن ندير دائرة نمثل بها ما ذكرناه، ونقسمها تسعة أقسام على مراتب الآحاد التسعة، ونجهل مبدأها العقل الفعال، ونتلوه بما

يتصل بمرتبته في الوجود، ثم ما يلي ذلك منحدرًا أو صاعدًا حتى ينعطف آخر الموجودات عليه، ولا نذكر في هذه الدائرة شيئًا مما فوق العقل الفعال، ليتبين لمن رآها أن الإنسان مرجعه إلى العقل الفعال، وهذه صورة الدائرة الدائرة

الباب الثالث: (في شرح قولهم إن في قدرة العقل الجزئي أن يتصور بصورة العقل الكلي)

(الباب الثالث) (في شرح قولهم إن في قدرة العقل الجزئي أن يتصور بصورة العقل الكلي) هذا- أوضح الله لك الخفيات، وأعانك على فهم أسرار الموجودات- فرع لطيف تحته معنى شريف، ومرادهم بهذا أن الإنسان مهيأ بفطرته// إذا فاض عليه نور العقل فخرجت قوته الناطقة إلى الفعل لأن يتصور جميع الموجودات، فيتحصل في عقله الجزئي الصور التي في العقل الكلي؛ وذلك أن الباري- تعالى- لما أبدع العقل الكلي أفاض عليه صورة الأشياء التي شاء إيجادها دفعة أيضًا بلا زمان ولا حركة، وأفاضها العقل الكلي على النفس الكلية دفعة أيضًا بلا زمان، ووساطته حركة الفلك إذ لم تكن في قوة الهيولى أن تقبلها كلها دفعة، وإنما تقبلها على المعاقبة وخلق الله- تبارك وتعالى- الإنسان آخر المخلوقات، وجمع في خلقته جميع ما في العالم فصار، مختصرًا منه؛ ولذلك سمي العالم الأصغر. وقيل: إنه مختصر من اللوح المحفوظ، وجعله حدًا بين عالم الحس وعالم العقل،

فهو آخر الموجودات الطبيعية، وأول الموجودات العقلية، وهو معرض لأن يعلو فيلحق بالعالم الأعلى أو يسفل فيلحق بالعالم الأدنى، وقد قلت في ذلك: (أنت وسطى ما بين ضدين يا إن ... سان ركبت صورة في هيولى) (إن عصيت [الهوى] علوت علوًا ... أو أطعت الهوى سفلت سفولا) فمن أجل أنه جمع في خلقه جميع ما في العالم الأكبر صار مهيأ بفطرته الفاضلة مستعدًا بقوته العاقلة؛ لأن يتصور جميع ما في العالم الأكبر، وبيان ذلك أن مدركات الإنسان صنفان: محسوسات، ومعقولات، فالأشخاص هن محسوساته، وأنواعها وأجناسها ومبادئه هن معقولات، وله إدراكان، إدراك بالحس للأشياء المحسوسة، وإدراك بالعقل للأشياء المعقولات، لأن كل شيء إنما يدرك بشكله، فإدراكه المحسوسات يسمى كماله الأول وحياته الأولى، وإدراكه المعقولات يسمى كماله الثاني وحياته الأخرى، فإذا كان العالم كله صنفين: محسوس

ومعقول، وكان كمال تجوهر الإنسان بإدراكهما معًا، وكان مهيأ بفطرته لذلك صار الإنسان إذا أدرك المحسوسات والمعقولات قد تصور بصورة العالم الأكبر، فالإنسان- إذن- يستحق أن يسمى عالمًا صغيرًا من جهتين: إحداهما: خلقة لا عمل له فيها، والثانية: اكتساب يكتسبه، إلا أن سعادته إنما هي بالاكتساب وحصول العقل المستفاد. وأما// الخلقة فإنما هي هيئة واستعداد جعل معرضًا بهما لنيل السعادة، إن فهم ذاته وعلم مرتبته من العالم، أي مرتبة [تحصيل؟ هي نجا وسعد، وإن جهل ذاته ولم يعرف أي مرتبة] كونه آخر الموجودات هلك وطال شقاؤه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»، وقال: «أعلمكم بنفسه أعلمكم بربه»، وقال لعلي- رضي الله عنه-: «تعرف إلى الله [تعالى] بعقلك إذا تعرف الناس إليه بأعمالهم»، ولهذا الذي قدمناه صار العالم خمسة أصناف من الوجود سوى وجوده في علم البارئ تعالى: وجود في العقل الفعال، ووجود في النفس الكلية، ووجود في الهيولى، ووجود في قوة الإنسان المتخيلة، ووجود في قوته الناطقة، إذا حصل له العقل المستفاد، فيصير بهذا الاعتبار كالدائرة التي تبدأ من نقطة وتعود إليها؛ لأن مبدأه أن يكون صورة مجردة في العقل، ونهايته أن يصير صورة مجردة في العقل، وعند ذلك يتصور العقل الجزئي بصورة العقل الكلي، ويصير الإنسان موضوعًا بصورة العالم، يحمل صورة في ذاته، كما تحمل الهيولى الصورة.

فالإنسان- إذا اعتبر به المعتبر- أغرب المخلوقات صنعة، وأكثرها أعجوبة، ولهذا قالت الحكماء: «إن العرض في وجوده كمال الحكمة؛ لأنه انتظم بفطرته طرفي العالم، وصار واسطة بينهما، وكمال الطرفين بالواسطة التي تنتظمهما»، أرادوا بذلك أن الباري- جل جلاله- لما خلق جوهرًا معقولاً وجوهرًا محسوسًا، كان كمال الخلقة في أن خلق جوهرًا ثالثًا يصل بين الجوهرين، وينظم الطبيعتين، فصار الإنسان حدًا بين عالم العقل وعالم الحس، وصار من جهة صورته الطبيعية في أعلى مراتب الصور [الطبيعية، ومن جهة صورته العقلية في أدنى مراتب الصور] العقليات. وفي كتب بني إسرائيل أن الإنسان خلق على التخوم بين الطبيعة المائية والطبيعة التي ليست بمائية، ويدل أيضًا على أنه واسطة بطبعه أنه من قسم الممكن، والممكن بطبيعته واسطة بين الواجب والممتنع، وقد قلت في ذلك على سبيل الوعظ: (تتيه وقد أيقنت أنك ممكن ... فكيف لو استيقنت أنك واجب) (وهل لك عن عدن إذا مت أو لظى ... محيص ترجي أو عن الله حاجب)

الباب الرابع: في شرح قولهم: إن العدد دوائر وهمية

ومعنى كون الإنسان من الممكن أنه صورة من الصور التي موضوعها الهيولى، وبالهيولى قامت طبيعة الممكن؛ لأنها تلبس الصورة تارة، وتخلعها تارة، وتكون فيها الصور تارة بالقوة وتارة بالفعل، ولولا الهيولى لبطلت طبيعة الممكن، ولم يوجد للأشياء إلا عنصران: واجب وممتنع. الباب الرابع في شرح قولهم: إن العدد دوائر وهمية اعلم أن الواحد أصل العدد ومبدؤه، وهو غاية لوجود العدد وليس بعدد، وكل عدد منسوب إليه، ومنعطف عليه انعطاف آخر الدائرة على أولها، وللأعداد إليه نسبتان: إحداهما: نسبة تضعيف وتكثير، والثانية: نسبة تجزئة وتقليل، فأما نسبة التكثير فقولنا: واحد، واثنان، وثلاثة، وأربعة، وخمسة، فما زاد، وأما نسبة التقليل فهي نسبة الكسور، كقولك: نصف، وربع، وخمس، وثلث، ونحو ذلك. والنصف أول مراتب التجزئة والتقليل، كما أن الاثنين أول مراتب التضعيف والتكثير، وهو يذهب في كلتا الجهتين إلى غير نهاية، غير أن [التكثير يبتدئ بأقل الكمية ويذهب في تزيد إلى غير نهاية و] التقليل يبتدئ من أقل الكمية وهو النصف، ويذهب في التجزئ إلى غير نهاية، فإذا اعتبرت بفكرك الأعداد كلها والواحد وجدتها ناشئة منه وراجعة إليه. أما نشوؤها منه فإن قوة الواحد تسري إلى الأعداد فتصوغها بواسطة وبغير

واسطة، والعدد الذي يتولد منه بغير واسطة هو الاثنان، وأما الثلاثة فلا توجد من الواحد إلا بتوسط الاثنين، وكذلك الأربعة لا توجد منه إلا بتوسط الثلاثة والاثنين، وكذلك الخمسة لا توجد إلا بتوسط الأربعة والثلاثة والاثنين، وهكذا كل عدد لا يوجد من الواحد إلا بتوسط ما بينه [وبين ذاك] من الأعداد فيكون العدد الذي بينهما هو الذي يؤدي إليه قوة الوحدانية، فيصير موجودًا بها، يسري إليه من تلك القوة، فالاثنان يؤديان قوة الواحد إلى الثلاثة، والاثنان والثلاثة يؤديان قوته إلى الأربعة، والاثنان والثلاثة والأربعة تؤدي قوته إلى// الخمسة، وهكذا ما زاد بالغًا ما بلغ، فهذه كيفية نشوء العدد وتولده من الواحد، وأما كيفية انعطافه عليه كانعطاف أحد طرفي الدائرة على الطرف الآخر فإن ذلك لا يكون إلا بعد تولد الأعداد منه، واستيفائها مراتب الآحاد التسعة التي عليها تدور مراتب الأعداد، وليست للعدد بعد التسعة مرتبة، ولكن كلما بلغ عدد إلى مرتبة التسعة انعطف إلى مرتبة الواحد، فصار دائرة وهمية. بيان ذلك: أن الواحد نشأ منه الاثنان، وتؤدي الاثنان قوته إلى الثلاثة، [فيكون الثلاثة من الواحد بواسطة الاثنين وكلاهما علة لوجود الثلاثة] غير أن

الاثنين علة قريبة والواحد على بعيدة، ثم تؤدي الثلاثة ما سرى إليها من قوة الاثنين وقوة الواحد إلى الأربعة، فتكون الأربعة من الواجد بواسطة الثلاثة والاثنين، فيكون لوجود الأربعة ثلاث علل، ثم يستمر الأمر كذلك إلى أن تكون التسعة بما يسري إليها من قوة الواحد بوساطة الثمانية، ومنتهى مراتب العدد التسع عند وجود التسعة، فإذا تجاوزت قوة الواحد التسعة كونت العشرة بتجاوز قوة الواحد إليها مع قوة التسعة، واستدار العدد دوائر وهمية إلى مرتبة الواحد لكمال المراتب، فكانت عشرة كواحد، وعشرون كاثنين، وثلاثون كثلاثة إلى أن يكون تسعون كتسعة، وتسمى هذه دوائر العشرات، ثم تزيد على التسعين تسعة لتقوم طبيعة العشرة التي بها يصح وجود المئة، فيصير العدد تسعة وتسعين، فإذا تجاوزت قوة الواحد السارية في الأعداد التسعة والتسعين قامت طبيعة المئة بما انتهى إليها من قوة الواحد، وقوى التسعة والتسعين واستدار العدد استدارة وهمية إلى مرتبة الواحد فتكون مئة كواحد، ومئتان كاثينين، وثلاث مئة كثلاثة، وأربع مئة كأربعة إلى أن تصير تسع مئة كتسعة، وتسمى هذه دوائر المئين، فإذا بلغ العدد تسع مئة كملت مراتب

الآحاد التسعة، فتزيد عليها تسعة وتسعين لتقوم بها طبيعة المئة، فيجتمع لديك تسع مائة وتسعة وتسعون، فإذا تجاوزت قوة الواحد السارية في الأعداد هذا العدد تكون الألف بما سرى إليه// من قوة الواحد وقوى الأعداد التي بينه وبينه، واستدار العدد استدارة وهمية فرجع إلى مرتبة الواحد فيكون ألف كواحد، وألفان كاثنين، وثلاثة آلاف كثلاثة إلى أن تصير تسعة آلا كتسعة، وتسمى هذه دوائر الآلاف، وهكذا أبدًا تنمي الأعداد بما يسري إليها من قوة الواحد بوساطة الأعداد التي قبلها، ويكون كل عدد سبق وجوده علة لما تأخر وجوده، فيكون لما بعدت مرتبته عن مرتبة الواحد علل كثيرة، كل واحد منها علة لوجوده، ويصير الواحد علة العلل وسبب الأسباب، وكلما كملت مراتب الآحاد التسعة استدار العدد إلى مرتبة الواحد فصارت منه دوائر وهمية، وعلى مقدار بعد ذلك العدد من الواحد يكون عظم دائرته وصغرها، فاعتبر ذلك تجده على ما قلناه. ولأهل الهند وغيرهم في هذه الدوائر العددية رموز وألغاز طوي عن الناس علمها، إذ

كانت أذهان الجمهور تنبو عن فصها وعقولهم تقصر عن علمها، ويرون أن في معرفة نشوء العدد من الواحد ونسبته إليه وانعطافه عليه، وكمال مراتب الأعداد التسعة عليه معرفة العالم وكيف وجد عن الباري- تعالى- قالوا: وليس يمكن الإنسان أن يعلم حدوث الموجودات وانبعاثها عن الباري- تعالى- بطريق أقرب من طريق العدد، وقد علم الباري- جل جلاله- أن العقلاء المستعدين بفطرتهم الشريفة لقبول الحكمة سيفكرون في حدوث الموجودات عنه، فلا يقدرون على تصور ذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يتصور حدوث شيء إلا من هيولى، وفي زمان، وفي مكان، وبحركة وآلات وأدوات ووجود الموجودات عن الباري- تعالى- ليس هكذا لأن [هذه] الأشياء كلها محدثة مبدعة، حدثت كلها معًا فجعل الباري- عز وجل- لمعرفة ذلك طريقًا أسهل من هذه الطريق، وهو الاعتبار بنشوء العدد عن الواحد، فكما أن الواحد علة لوجود العدد وليس من العدد، فكذلك البارئ- جل جلاله- علة لوجود العالم، وليس من العالم، وكما أن الواحد لو توهم ارتفاعه وعدمه لارتفعت الأعداد كلها، وعدمت، فكذلك الباري-

تعالى-// لو ارتفع وعدم لم يكن شيء موجودًا، وكما أن الأعداد كلها لو ارتفعت لم يوجب ارتفاعها عدم الواحد، كذلك الموجودات كلها لو ارتفعت لم يوجب ذلك ارتفاع البارئ- تعالى-، فثبت بهذا أن البارئ- عز وجل- غني عن العالم والعالم مفتقر إليه، وكما أن وجود الواحد وجود مطلق، أعني أنه لا يحتاج في وجوده إلى غيره، ووجود الأعداد كلها وجود مضاف، [أعني أنها غير مستقلة بأنفسها في وجودها] لأن وجودها مقتبس من وجوده، فائض عنه، وكما أن الأعداد كلها اكتسبت الوجود من الواحد من غير حركة ولا زمان ولا مكان، ولم يحتج الواحد في إيجادها إلى شيء آخر غير ذاته، فكذلك حدوث الموجودات عن الباري- تعالى- بغير حركة ولا زمان، وبغير مكان، وبغير أدوات، ومن غير أن يحتاج في إيجادها إلى شيء غيره، وكما أن الواحد لا يوصف بأنه تقدم الأعداد بالزمان، ولا يبطل ذلك بأن تكون الأعداد محدثة عنه، فكذلك لا يوصف الباري- سبحانه وتعالى- بأنه تقدم العالم بالزمان، ولا يبطل ذلك أن يكون العالم محدثًا عنه لا يوصف، وكما أن الواحد لم يتغير عن الوحدانية بكثرة ما حدث من الأعداد عنه، ولم يوجب ذلك تكثرًا في ذاته ولا استحالة في جوهره، فكذلك حدوث العالم على

كثرته لم يوجب تغير الباري- تعالى- عن وحدانيته، ولا تكثرًا في ذاته- تعالى الله عن صفات النقص-، وكما أن الأعداد توجد عن الواحد بتوسط الآحاد التسعة وما يجتمع في العشرة من قواها، كذلك وجدت الموجودات عن الباري- تعالى- بوساطة الثواني التسعة وما اجتمع في الموجود العاشر من القوى السارية إليه من الثواني، وما فاض عليه من قوة الوحدانية بوساطتها. وكذلك إذا اعتبر المعتبر وفكر المفكر وجد كل شيء من الموجودات إنما حصل موجودًا بأن صارت له ذات يوجد بها، وانفصل عن غيره، وتلك الوحدة التي بها قد توحد، إنما سرت إليه من الباري- تعالى- بوساطة ما بينه وبينه من الموجودات، وتلك الوحدة هي هويته وصورته التي بها قوامه، وتميز عمن سواه، فمتى فارقته تلك// الوحدة عدم، فسريان الوحدة من الباري- تعالى- إلى الأشياء هو الذي كونها واقتضى وجودها على مراتبها، وصير بعضها عللاً لبعض، وهو- تعالى- علة وجود الجميع؛ ولذلك سموه علة العلل، والفاعل المطلق، والفاعل بالحقيقة لأن فعل غيره إنما هو فعل بالمجاز وبالإضافة، لأنه تقبل الفعل عما هو

أسبق منه وجودًا، ويؤدي به إلى ما بعده، فهو منفعل لما فوقه، وفاعل لما دونه، وهو منفعل بالحقيقة وفاعل بالمجاز والإضافة، فيكون مبدأ الفاعل من فاعل لا ينفعل كغيره البتة ومنتهاها إلى منفعل لا يفعل البتة، وما بينهما فاعل فيما دونه، منفعل لما فوقه، ولما ذكرناه في هذا الباب قالت الحكماء: إن الباري- تعالى- مع كل شيء، وإنما أرادوا بذلك وجود آثار صنعته في الموجودات وسريان الوحدة منه، التي بها تكونت المحدثات، ولم يريدوا بذلك أنه يحل الأمكنة، ويقع تحت الأزمنة، أو يلتبس بشيء من العالم، تقدس عن ذلك وعلا علوًا كبيرًا. وقد غلط قوم من الفلاسفة في هذا الموضع غلطًا فاحشًا فزعموا أن الباري- تعالى عن قولهم- صورة سيالة في العالم، ولهذا قال تالس: إن الله تعالى ناشب في الأشياء، وقال زينون: إن كرة العالم هو العالم تعالى، وأن المعلول هو العلة، وإنما حملهم على هذه الآراء الفاسدة ما رأوه من سريان الوحدة في الموجودات، وأن وجود كل شيء متعلق بوجود الباري تعالى، وسمعوا مع ذلك قول القدماء من الحكماء: إن الله- تعالى- مع كل شيء، فنتج لهم من ذلك هذا التوهم الخبيث، ولم

يفكروا في أن ذلك يقودهم إلى المحال؛ لأنه لو كان كذلك لكان الباري- تعالى محمولاً في غيره؛ لأن كل صورة مفتقرة إلى موضوع يحملها، ويلزم من ذلك أن يكون العالم قديمًا، وتبطل دلائل الحدوث، ويلزم أن يكون الباري- تعالى- واقعًا تحت الأزمنة محلاً في الأمكنة، في استحالة دائمة؛ لأن من شأن الهيولى أن يلبس الصورة تارة ويخلعها تارة، وأن يكون الباري- تعالى- شخصًا تارة وتارة نوعًا، وتارة جنسًا، وتارة فاعلاً، وتارة// منفعلاً وشبه هذا من المحال، ونعوذ به من الخذلان-، ومثل هؤلاء إنما يذكرون في سخفاء الفلاسفة لا في عقلائهم، وفي جهالهم لا في علمائهم، وقد أجمع العارفون بالله- عز وجل- أن الله- تعالى- مباين للعالم من جميع الجهات، لا [يشبهه شيء] ولا يشبه شيئًا، مباينة لا تقتضي تحيزًا في مكان وانفصالاً، وأنه موجود مع كل شيء وجودًا لا يقتضي ممازجة أو اتصالاً، بل صفته مباينة، وصفته صفة لا

تحيط بها العقول، وإنما يعلم ذلك مما يدل عليه الدليل من غير تصوير ولا تمثيل كسائر صفاته التي تثبت ولا تكيف، وقد رد أرسطاطاليس كل قول من هذه الأقوال وأنكره، وضلل قائله وكفره. فإن قال قائل: كيف أنكر هذه الأقوال وكفر من قالها، وهو قد قال في كتابه الموسوم بـ (ما بعد الطبيعة): «إن الباري- تعالى- علة العالم على معنى أنه فاعل له، وأنه غاية له، وأنه صورة له؟ »، فالجواب: أنه لم يرد ما توهمته، وكيف يصح أن ينكر شيئًا ويقول بمثله، وقد صرح بأن الباري- سبحانه- لا يوصف بالصورة الشخصية ولا الصورة النوعية، ولا بصفة بها نقص- تعالى الله عن ذلك- وأنه مباين للأشياء، غير موصوف بصفاتها؟ . فثبت بهذا أنه إنما وصفه بأنه صورة للعالم بمعنى لا يلحقه به نقص-[تعالى عن ذلك]- ولا شبه، [وأنه مباين للأشياء غير موصوف بصفاتها] كما يسمى حيًا، وعالمًا، وقادرًا، ونحو ذلك

على معان [لا توجب شبهًا ولا تقتضي نقصًا، وذلك على ثلاثة معان]: أحدها: أنه لما لم يكن وجود على الحقيقة إلا البارئ تعالى ومصنوعاته، ولم يكن له ضد ولا ند، وكان هو الموجود على الإطلاق، فوجود مصنوعاته مقتبس من وجوده، حتى إنه لو توهم ارتفاعه- تعالى- لارتفع كل موجود، وصار وجود العالم كلا وجود، إذ لم يكن له قوام بذاته، وصار كأنه موجود واحد، وصار كأنه صورة له إذ كان وجوده به كما يوجد تصور بصورته، وإن كان- تعالى- لا يوصف بالصورة. وقد قال أفلاطون نحو هذا في كتاب (طيماوس)؛ وذلك أنه قال: «ما الشيء الذي هو موجود الدهر وليس له تكون// البتة؟ وما الشيء الذي يتكون الدهر وليس له البتة وجود؟ فالأول: الأنواع والأجناس، والثاني: الأشخاص» فجعل الأشخاص التي هي موجودة عنده كأنها غير موجودة؛ لأنها في سيلان متصل واستحالة دائمة وأثبت الوجود لأنواعها وأجناسها، وإن كانت غير موجودة بالحواس عندنا لثباتها على حال واحدة لا تتغير عن طبعها، فهكذا جعل

(أرسططاليس) العالم حين كان لا قوام له بنفسه كأنه غير موجود، وجعل الوجود إنما هو البارئ- عز وجل- وحده، وجعله كالصورة التي لا يوجد المصور إلا بها تقريبًا لا حقيقة، حتى كان وجوده سببًا لوجودها، كما تكون الصورة سببًا لوجود مصورها، وتسمي الصوفية هذا الفناء في التوحيد، ويرونه أرفع مراتبه، فهذا أحد المعاني التي بها سمي الباري- تعالى- صورة للأشياء، والمعنى الثاني: أنه- تعالى- أفاض من وحدته على كل موجود ما صارت له به هوية يتصور بها، فكل موجود إنما يوجد بتلك الوحدة التي سرت منه إليه بصورته، والمعنى الثالث: أن الصورة هي غاية المصور وكماله؛ لأن الشيء إذا كان بالقوة فهو على كماله الأول، فإذا خرج إلى الفعل كان على كماله الآخر، وخروجه من القوة إلى الفعل إنما هو بالصورة، فلما كان الباري- تعالى- هو الذي أخرج العالم من القوة إلى الفعل، أعني من العدم إلى الوجود صار من هذا الوجه كأنه صورة للعالم وإن كان غير صورة على الحقيقة، وسترى كلامنا فيما بعد هذا بما يزيد هذا المعاني وضوحًا إن شاء الله تعالى.

الباب الخامس: في شرح قولهم: لا يصح أن يوصف بها إلا على وجه السلب

الباب الخامس في شرح قولهم: لا يصح أن يوصف بها إلا على وجه السلب اعلم أن الصفات نوعان: نوع يوصف به الموصوف لإزالة اشتراك يكون بينه وبين موصوف آخر كقولك: «جاءني زيد»، والمخاطب يعرف رجلين كل واحد منهما يسمى بهذا الاسم، أو رجالاً كل واحد منهم له هذا الاسم// يحتاج المخبر أن يصفه بصفة يمتاز بها عند المخاطب ممن يشاركه في اسمه، والنوع الآخر: لا يراد به إزالة اشتراك، ولكن يراد به مدح الموصوف أو ذمه، والمخاطب غني عن أن يوصف له المذكور كقول القائل: رأيت ابنك النجيب، وليس لمن يخاطبه إلا ابن واحد، ونحو ذلك، وصفات الباري- جل جلاله- كلها من هذا [وهذا النوع] إنما هو صفات يمجده بها الواصفون ويثني عليه بها المثنون، ولما كان الباري- جل جلاله- بائنًا عن جميع الموجودات غير مشبه بشيء من المخلوقات، صار المثني

عليه مقصرًا في ثنائه وإن اجتهد، غير بالغ ما يستوجبه، وإن عظم ومجد. وبيان ذلك أن المدح ثلاثة أنواع: إفراط، واقتصاد، وتقصي، فالإفراط أن يرفع المادح الممدوح إلى مرتبة أرفع من مرتبته ومنزلة أعلى من منزلته، والاقتصاد: ألا يتجاوز به مرتبته ولا يتخطى منزلته، والتقصير: أن يحطه عن مرتبته، ولا يوفيه حق منزلته، فالوجهان الأولان: محال في وصف الباري- تعالى- لأنه لا يمكن المادح أن يمدحه بما يستحقه ويستوجبه؛ لأن مرتبته مجهولة الكنه، لا تحيط بها العقول، وليس فوق مرتبته مرتبة أعلى منها فيرفع إلها؛ لأنه نهاية الأشياء وغايتها، فليس في مدح المادح له إفراط ولا اقتصاد، وكل مادح مقصر في مدحه، غير واصف له بالواجب من حقه لأن يصفه بصفات المعقول منها معان مخالفة لما هو عليه، فإذا قال: إنه حي، وإنه عالم، وإنه سميع، وإنه بصير، فإنما يصفه بصفات إن حملت على تعلقه بجزء منها لم يلق به- عز وجل- وأوجبت شبهه بالمخلوقات، تعالى عن ذلك، فلهذه العلة افترق الناس في وصفه- جل جلاله-

فرقتين، فقالت فرقة: لا نثبت له صفة على طريق الإيجاب؛ لأن ذلك يوجب شبهه بخلقه، ولكن نسلب عند أضداد هذه الصفات، فلا نقول عنه: عالم، ولكن نقول: ليس بجاهل، ولا نقول: هو قادر، ولكن [نقول]: ليس بعاجز، ولا نقول: هو موجود، لكن [نقول]: ليس بمعدوم. وقالت فرقة ثانية: نوجب له الصفات// ونتبعها حرف السلب لنزيل ما توهم فيه من التشبيه بالمخلوقين، فنقول: هو حي لا كالأحياء، وعالم لا كالعلماء، وموجود لا كالموجودات، قالوا: وإذا قلنا: هو حي، وموجود، وعالم، وقادر، ولم نذكر حرف السلب، فإنما نترك ذلك اختصارًا، ولابد أن يكون مضمنًا في الصفة، وإن لم يكن مضمنًا فيها لم تصح. فإن قال قائل: من أين كرهت الفرقة الأولى إيجاب الصفة وأبو أن يصفوه إلا على وجه السلب، وقد علمنا أن قول القائل: زيد ليس بجاهل، يفيد ما يفيده قولنا: زيد عالم؟ فالجواب: أن القول المنفي لا يوجب حكمًا غير حكم النفي، وليس يحصل منه

تشبيه، ولا تمثيل يقع بهما قياس كما يحصل من الإيجاب، ألا ترى أنك إذا قلت: زيد غير قائم، وعمرو غير قائم، فقد نفيت عنهما جميعًا القيام ولم توجب لهما اجتماعًا في معنى آخر؛ لأنه قد يجوز أن يكون أحدهما قاعدًا والآخر نائمًا ومضطجعًا، وكلاهما غير قائم، وكذلك أنا إذا نفينا عن نفسين البياض لم نوجب لهما اجتماعًا في لون آخر من حمرة، أو صفرة، أو سواد، أو غير ذلك، وكذلك لو شهد شاهدان عند حاكم بأن زيدًا لم يبع ضيعته من عمرو، لم يكن ذلك موجبًا أن عمرًا لا يملكها؛ لأن للملك وجوهًا كثيرة غير البيع، فليس في شهادتهما أكثر من نفي البيع، وهذا أمر متفق عليه في الأضداد التي بينها وسائط، فأما الأضداد التي ليس بينها وسائط، ففيها خلاف فقوم يرون أن القائل إذا قال: في الدار رجلان أحدهما ليس بحي، فقد أوجب أن الآخر حي، وقوم يرون أنه لم يوجب أكثر من موت الذي نفى عنه الحياة فقط، وكذلك إذا قال: أحدهما حي، فقد أوجب الموت للآخر عند من رأى الرأي الأول، وليس فيه إيجاب موت الآخر على رأي من رأى الرأي الثاني، ولا حاجة بنا إلى ذكر ما احتج به كل واحد من الفريقين في هذا الموضع؛ لأن ذلك ليس مما قصدناه، وإنما قصدنا ههنا شرح معنى قولهم: إن صفات الباري، جل جلاله، لا تصح حتى يقرن بها حرف السلب//.

باب ذكر الشبهة التي اغتر بها من زعم أن صفات الله [تعالى عن قولهم] محدثة، جل عن ذلك

باب ذكر الشبهة التي اغتر بها من زعم أن صفات الله [تعالى عن قولهم] محدثة، جل عن ذلك: اعلم- عصمنا الله- وإياك من الضلالة، وأرانا سبل العالم والجهالة: الذي دعا هؤلاء القوم إلى هذا الاعتقاد الخبيث أنهم رأوا أن إثبات الصفات لا يصح إلا على وجهين: أحدهما: العقل والنظر، والآخر: السمع والبصر، ولا طريق إلى إثباتها إلا من هذين الوجهين [بوجود المحدثات]، وإنما يصح كل واحد من هذين الوجهين لوجود المحدثات، فلما كان البارئ- تعالى- في القدم قبل حدوث الأشياء منفردًا بالوجود، ولم يكن هناك موجود يستدل عليه بآثاره ومصنوعاته، ويخاطبه هو- تعالى- بمشروعاته، لم يكن حينئذ موصوفًا بصفة القدم كالمخاطبين والمعتبرين، فلما أحدث الموجودات وقع حينئذ الاستدلال به ومخاطبته للبشر بأنه حي، وبأنه عالم، وبأنه قادر، ونحو

ذلك، يوصف حينئذ بالصفات، ووصف نفسه هو بها، فصارت الصفات محدثة بحدوث الموجودات. ومن لا يقر بالنبوات ولا يعترف بأن الله بعث بشرًا، فالصفات على رأيه أمور أحدثها المخلقون، ثم استدلوا عليه بآثار مصنوعاته، واشتقوا له من أفعاله، وما تقرر في نفوسهم من معرفة صفات وصفوه بها، فيقال لمن قال، هذا القول الفاسد: هذا الذي قلتموه [من معرفة أنه صفات وصفوه بها]، لا يبطل أن يكون موصوفًا بالصفات النفسانية في الأزل، فيكون عالمًا، قادرًا، موجودًا، وإن لم يكن هناك مخلوق يستدل أو يخاطب، وليس من جهة الشرط في الصفات النفسانية إلا تثبت لموصوفها حتى يوجد من يصفه بها المخاطب بصحتها، وإنما حدث العلم للعلماء من الخلق باعتبارهم بمخاطبة الله تعالى إياهم، بعد أن كانوا جهالاً بالصفات

وأما الصفات نفسها فثابته له- تعالى- لا يبطلها جهل من جهلها، كما لا يثبتها علم من علمها، ويدل على صحة قولنا وبطلان قولهم: أن الكاتب لا يبطل كتابته عدم المكتوب، وكذلك الباني لا يبطل صفته بالبنيان عدم// المبني، ولا يلزم إذا علمنا الشيء أن يكون المعلوم والعلم معًا بالزمان، ولكن العالم قد يعلم الشيء الموجود في وقت علمه، وقد يعلمه بعد مضيه، ويعلم أنه سيكون في الوقت الذي يجب أن يكون فيه. ومن الدليل على فساد ما قالوه أن من صفاته- عز وجل- ما لا يتعلق بالذات [وما لا يتعلق بالشيءٍ]، كقولنا: إنه شيء وإنه موجود وإنه حي، فيجب على هذا الرأي الفاسد أن يكون الباري- تعالى- كان في الأزل قبل خلقه للأشياء غير شيء، وغير موجود وغير حي، وهذا يوجب أنه كان معدومًا، ويلزمهم إن كانت الصفات محدثة مع الأشياء أن يخبرونا من أحدثها له، فإن كان هو الذي أحدثها لنفسه فكيف يجعل نفسه موجودًا من معدوم؟ وشيئًا من ليس بشيء؟ وحيًا من ليس بحي؟ وحقًا من ليس بحق؟ وإن كان غيره أحدثها له لم يخل ذلك الغير أن يكون إلهًا آخر غيره، أو يكون البشر هم الذين أحدثوها له، فإن كان

أحدثها له إله آخر فهو أحق بالعبادة منه، وإن كان أحدثها البشر فكيف يحدثونها له وهو الذي أحدثهم؟ وإن جاز للمعدوم أن يحدث موجودًا فكما الذي ينكر من أن يكون العالم هو الذي أحدث نفسه؟ وكيف يحدث غيره من هو محتاج إلى أن يحدث نفسه؟ وكيف يصح أن يوصف بالأزل من ذاته وصفاته محدثات؟ فإن قال قائل: «فإذا أثبتم له- تعالى- الصفات فهل يقولون: إنها راجعة إلى الذات بنفسها أم إلى معان غير الذات؟ »، ففي هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ترجع إلى معان غير الذات، وهو قول المجسمة، وهذا كفر بحت، نعوذ بالله منهم؛ لأنهم جعلوا الباري- تعالى- حاملاً ومحمولاً وجوهرًا تتعلق به الصفات والأعراض- تعالى الله عن قولهم-. والوجه الثاني: أنها- على اختلافها- ترجع إلى الذات لا إلى معنى غيرها زائد عليها بأنه عالم وأنه علم، وأنه حياة ذات واحدة لا تغاير فيها، وكذلك سائر صفات الذات، وهذا قول كبراء الفلاسفة وزعمائهم، وإليه ذهب الشافعي،

وداود، وجماعة من علماء// المسلمين. وقال قوم: «لا نقول إنها هو ولا إنها غيره»، فاعترض عليهم من قال: «إنها غير زائدة على الذات بأن قالوا: ليس يعقل شيئان ليس أحدهما الآخر ولا هو غيره»، فاعترض عليهم أصحاب هذا القول، وقالوا: من أين استحال إثبات شيئين ليس أحدهما هو الآخر ولا هو غيره؟ فإن قلتم: لأن هذا خلاف المعهود قلنا لكم: فكيف جاز لكم أن يكون العالم هو العلم، والحياة هو الحي، والقادر هو القدرة، وهذا كله خلاف المعهود؟ فإن جاز هذا جاز لنا إثبات شيئين لا يقال: إن أحدهما هو الآخر ولا هو غيره، وإن كان خلاف المعهود؟ قالوا: ونسألكم: هل يجب إذا قام الدليل على صحة شيء إثبات شيء حتى يكون له نظير من المعهود أم لا؟ فإن أوجبتم أنه لا يصح إثبات شيء حتى يكون له نظير من المعهود لزمكم أن يبطل قولكم: إن العلم هو العالم، والحياة هو الحي على ما قدمناه، ولزمكم ألا تثبتوا شيئًا ليس في زمان ولا مكان، ولا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء؛ لأنه كله خلاف المعهود، وإن وجب أن يثبت الشيء إن دل عليه الدليل من غير أن يوجد له نظير

صح قولنا: إن صفات الباري- تعالى وجل- لا يقال: إنها هو ولا يقال: إنها غيره، كما صح وصفه بأشياء يخالف جميعها المعهود، قالوا: إن قال قائل: فمن أين صححتم قولكم وأبطلتم قول خصومكم من المعتزلة: إن الله عالم بلا علم، قادر بلا قدرة، ونحو ذلك، وقد استوى قولكم وقولهم في أنه خلاف المعهود؟ فالجواب: إنا إنما قلنا: إن قولنا هو الصحيح؛ لأن قولنا مبني على أصل صحيح يجوز أن يوصف الله- تعالى- به، وقولهم مبني على أصل فاسد، وهو أن صفات الله تعالى محدثة، وهو أمر يبطله الشرع والعقل، وأيضًا فإن نصوص الشرع تصحح قولنا وتبطل قولهم، فإن الله- تعالى- قد أثبت لنفسه علمًا في نص القرآن، وتواترت الأخبار عن النبي- صلى الله عليه وسلم- بأن له قدرة وإرادة ونحو ذلك، مما لا تقدر المعتزلة على دفعه، وإنما في قولنا شبهة عرضت وقفنا عندها؛ فإذا صح الأصل لم تزل الشبهة تعرض في الـ[تفريع، وأما قولهم ففاسد الأصل والتفريع معًا]. // وأما صفات الأفعال كخالق، ورازق، فالقول فيها: إن الباري- تعالى- لم يزل موصوفًا بها؛ لأنه يستحيل أن يكون الباري- تعالى- في الأزل غير خالق وغير رازق، ثم صار كذلك، وإنما المحدثات الخلق والزرق والمخلوق والمرزوق، فإن قيل: هذا يوجب

الباب السادس: في شرح قولهم: إن الباري- تعالى- لا يعلم إلا نفسه

عليكم تقدم العالم، وأنه لم يزل موجودًا معه، قلنا: لا يوجب ذلك؛ لأن الصفات في اللغة يوصف بها من فعل فيما مضى، ومن يفعل في الحال، ومن هو مريد أن يفعل في المستقبل، فيقال: إنه ضارب عمرو أمس وضارب عمرًا الآن، وضارب عمرًا غدًا، وهذا أشهر في اللغة العربية من أن يحتاج إلى شاهد. الباب السادس في شرح قولهم: إن الباري- تعالى- لا يعلم إلا نفسه هذا القول- عصمنا الله وإياك من الزلل- قد أوهم كثيرًا من الناس أنهم أرادوا به غير عالم بغيره، واستعظم قوم منهم أن يصفوه بهذه الصفة، فزعموا أنه عالم بالكليات غير عالم بالجزئيات، وزعم آخرون أنه عالم بعلم الكليات والجزئيات بعلم كلي، وهذا القول الثالث أقرب أقوالهم إلى الحق، وإن كان فيه موضع للتعقب. وأما القولان الآخران فقد اجتمع فيهما الخطأ الفاحش والجهل بصفات الباري-

جل جلاله- وسوء التأول لكلام القدماء من الفلاسفة، ويجب علينا أولاً أن نبين معنى قول الفلاسفة المتقدمين: إن الباري- تعالى- لا يعلم إلا نفسه، وأنهم لم يريدوا بذلك أنه جاهل بغيره، ونورد من كلامهم ما يدل على براءتهم مما توهمه هؤلاء عليهم، ثم نناقضهم بعد ذلك فيما احتجوا به وبالله التوفيق. (فصل) أما قولهم: إن الباري- تعالى- لا يعلم إلا نفسه فيحتمل أربعة معان يقرب بعضها من بعض: أجدها أن الوجود نوعان: وجود مطلق ووجود مضاف، فالوجود المطلق هو الذي لا يفتقر إلى موجد، ولا هو معلول لعلة هي أقدم منه، والوجود المضاف هو الذي يفتقر إلى موجد يكون علة له، فالوجود المطلق// هو الوجود الذي يوصف به الباري- جل جلاله- لأنه الموجود المطلق الذي لا علة لوجوده، والوجود المضاف: هو الذي يوصف به سواه من الموجودات؛ لأن وجود كل موجود مقتبس من وجوده، وتابع له، ومتعلق به، حتى إنه لو توهم ارتفاع وجوده- تعالى- لارتفع وجود كل شيء، لأجل هذا شبهوا وجود الأشياء عنه بوجود نور الشمس

عن الشمس؛ لأن الشمس إذا ذهبت ذهب نورها، ولم يريدوا بهذا الكلام تشبيهه بالشمس على الحقيقة؛ لأن الباري- تعالى عن أن يكون له نظير-، وإنما أرادوا بهذا تمثيل افتقار الموجودات إلى وجوده على جهة التقريب من الأفهام، كما قالوا أيضًا: إن وجود الموجودات عنه كوجود الكلام من المتكلم، [لا كـ] وجود الدار من البناء- تعالى-، فلما كان الباري- تعالى هو [المـ] وجود الصحيح الوجود، كان وجود غيره لاحقًا بوجوده وتابعًا له، ولم يكن في الوجود إلا هو في مصنوعاته صار الوجود من هذه الجهة كأنه موجود واحد، والمعلوم كأنه معلوم واحد، وصار إذا علم نفسه فقد علم كل وجود تابع لوجوده. والمعنى الثاني: أن المعقول تتميم للعاقل وتتميم للجوهر، ولولا ذلك ما احتاج إلى أن يعقل غيره، وليس في [كثرة] معقولات العاقل دليل على فضله، بل فيها دلالة على شدة نقصه على قدر كمال الشيء في جوهره

تقل معقولاته، وعلى قدر نقصه تكثر معقولاته، ولأجل هذا صار النقص لازمًا لكل موجود دون الباري- تعالى-[لأنها كلها لا تنال الفضيلة والكمال إلا بعقلها الباري- جل جلاله- فأقربها] [منه] أكملها وأقلها نقصًا، لأنه لا يحتاج في كمال جوهره إلى أكثر من عقله العلة الأولى، وكلما انحطت مراتب الموجودات كثر نقصها واحتاج كل واحد منها في كمال جوهره إلى أن يعقل كل موجود قبله مع عقله العلة الأولى، ولا يمكنه عقل العلة حتى يعقل الوسائط التي بينه وبينها، فلما كان الباري- تعالى- هو نهاية الكمال كان غنيًا عن أن يعقل غيره، // وإذا كان عقل نفسه فقد عقل سواه. والمعنى الثالث: قد ذكرناه في باب شرح قولهم: إن الأعداد دوائر وهمية عند شرح قول أرسطو: إن الباري- تعالى- علة الأشياء على أنه فاعل لها، وعلى أنه غاية لها، وعلى أنه صورة لها، وذكرنا أنه لم يرد الصورة التي هي شكل وتخطيط، ولا الصورة التي هي النوع؛ لأنه لا يوصف بالصورة، وقلنا: إن معنى ذلك أن وجود غيره لما كان مقتبسًا من وجوده صار من هذه الجهة كأنه صورة للموجودات إذ كانت إنما توجد بوجوده كما يوجد المصور بصورته، وصار وجوده كالجنس الذي يجمع الأنواع والأشخاص، وإن كان الباري تعالى يتنزه عن أن يوصف بجنس أو نوع أو شخص

ولكنه تمثيل وتقريب لا حقيقة، فيصير المعلوم أيضا من هذه الجهة أيضًا واحدًا. والمعنى الرابع: أن الإنسان لا يعلم الأشياء بذاته وجوهره، ولو علمها بذلك لكانت ذاته عالمة أبدًا، ولم يحتج إلى اكتساب العلم، وإنما يعلم الأشياء بأمور زائدة على ذاته يتخذها آلات يتوصل بها إلى نيل معقولاته وهي الحواس الخمس، والمعقولات الأول التي يجدها مركوزة في نفسه ولا يدري من أين حصلت له، فهذين الصنفين من الآلات يتوصل إلى اكتساب المعارف التي يتجوهر بها ويحصل له عقل مستفاد، والباري- تعالى- لا يوصف بأنه يعلم الأشياء بهذه الصفة- جل عن ذلك- وإذا استحال أن يعلم الأشياء على هذا السبيل صح أن علمه ذاتي ليس باكتساب، وإذا استحال أن يوصف بأن علمه شيء زائد على ذاته كانت ذاته هي العلم بعينه، وإذا لم يصح أن يوصف بأنه مفتقر إلى غيره بل كل شيء مفتقر إليه صح أن العالم والعلم والمعلوم منه شيء واحد، بخلاف ما نعقله من أنفسنا، وإذا ثبت هذا بالدلائل التي يظهر إليها صار إذا علم نفسه فقد علم كل شيء. (فصل) ومما يدل على اعتقاد كبراء الفلاسفة وجلتهم أن الباري- تعالى- عالم//

بكل شيء، لا يغيب عنه مقدار الذرة وما هو ألطف منها، وأنه عالم بضمائر النفوس ووساوس الصدور، مع قولهم إنه لا يعرف إلا نفسه، قولهم إن الباري- تعالى- موجود مع كل شيء يريدون أن الوحدة السارية منه- تعالى- بها حصل لكل موجود ذات ينفصل بها عن ذات أخرى وبها يهوي كل منهو فكيف يتوهم على من يعتقد هذا أن يقول: إن الباري- تعالى- يجهل شيئًا أو يغيب عنه شيء؟ وهذا إثبات الشيء ونقيضه معًا. ومن ذلك قولهم: إن الباري- تعالى- عقل متجرد عن المادة بخلاف ما يوصف من أنه عقل إذا كان لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء، إذا كان عندهم عقلاً متجردًا من المادة لم يخف عنه شيء؛ لأن المانع لنا من إدراك الأشياء إنما هو المادة. ومن ذلك قولهم: إن العاقل والعقل والمعقول منه شيء واحد، وكذلك العالم والعلم والمعلوم شيء واحد، فذاته- عندهم- عقل وعلم، فكيف يتوهم على من ذاته عقل وعلم أنه يغيب عنه شيء. ومن ذلك قولهم: إن الغرض في العلم القرب من الله- تعالى- في الصفات، وقولهم في حد الفلسفة: «إن معناها التشبه بالله- تعالى-» بمقدار طاقة الإنسان، فصح بهذا أنه- تعالى- العالم على الإطلاق وأن علمه هو العلم على الإطلاق. ومن ذلك قول أفلاطون في كتاب (طيماوس) حين تكلم في العوالم العالية

فذكر فضلها ثم قال: «وهذا ليس لنا في عالمنا هذا، بل لو عسى أنا في العوالم العالية إذا نحن تهذبنا فجزنا الأفلاك السبعة وحركاتها بتطلعنا، وجزنا عالم النفس بتهذيبنا حتى نحل في عالم العقل الذي لا تخفى عليه خافية، ولا تحوزه صورة، وليس فيه زمان ولا مكان ولا حركة ولا كيفية ولا هيولى، بل الأشياء فيه حقائق مجردة مكشوفة، ليس فيه قوة بل الصورة فيه ثابتة راجعة على نفسها وغيرها لما فيه من مطالعة الباري -عز وجل- لها». وقال في موضع آخر: «وهو ينفي عن نفسه أن يتوهم عليه القول بأزلية العالم وإنما نريد// بقولنا إن العالم لم يزل أن العوالم قد كانت مصورات عند الباري- عز وجل- متمثلات بالقوة قبل كونها، وذلك أن الباري- تعالى- لم يزل متطلعًا إليها ناظرًا، إلى ذاته عارفًا بوحدانيته، فترداده على ذاته بالمعرفة هو عالم العقل المطابق له فيه الصور محضة»، وهذا الكلام- وإن كان فيه ما يحتاج إلى التعقب- فقد صح منه أن مذهبه أن الباري- جل جلاله- عالم بالأشياء قبل كونها بخلاف ما يتوهم عليه. ومما يدل على ذلك أيضًا من مذهبه قوله في النواميس: «ما من شيء أعون على صلاح أمر كل واحد من الناس وأمر جماعتهم من أن يعلموا ويعتقدوا ثلاثة

آراء ولا أضر من أن يجهلوها ويعتقدوا خلافها: أحدها: أن يعلموا أن للأشياء صانعًا، والثاني: أن يعلموا أنه لا يغفل شيئًا ولا يفوته شيء، بل كل الأشياء تحت علمه وتحت عنايته وتدبيره، والثالث: لا يرضيه ولا يقبل من أحد أن يخطئ خطيئه يتعمدها على أن يقيم بإزائها قربانًا إليه فيغفر له، بل إنما يقبل قربانه إذا عمل عملاً صالحًا»، ثم قال: «وهذه معان إنما معدنها وموضع تعلمها من علم الأمور الإلهية، وهو يسمى باليونانية (ناولينا). ومما يدل على ذلك من مذاهبهم اعتقادهم وتصريحهم بأن العالم إنسان كبير، كما أن الإنسان عالم صغير، فكما أن المحسوسات تصل إلى النفس الجزئية بتوسط الحواس الجسمانية بلا زمان فتنطبع صورها في العقل الجزئي الهيولاني فكذلك في العالم الذي هو الإنسان الكبير أشياء هي بمنزلة الحواس للنفس الكلية التي هي نفس الإنسان الأكبر، يتصل بها من قبلها أحوال العالم بلا زمان، وإذا اتصلت بالنفس الكلية اتصلت بالعقل الكلي كاتصالها بالعقل الجزئي، وإذا اتصلت بالعقل الكلي اتصلت بالباري- جل وتعالى- لأن العقل الكلي لا واسطة بينه وبين الله- تعالى فهذه جمل من كلامهم تدل من تأملها على براءتهم من سوء تأويل من نسب إليهم القول بأن الباري لا يعلم الأشياء ولا يعلم إلا نفسه. (فصل) وقد احتج من زعم أن الله- تعالى- لا يعلم الأشياء [بأن قال: «إنما

استحال] أن يوصف بأنه يعلم// الأشياء؛ لأن العلم بالأشياء يحتاج فيه إلى إدراك الحواس وتقديم المقدمات التي بها يتوصل إلى معرفة الكليات من الجزئيات، وفيه كمال العالم، ويحتاج فيه إلى تصور وتخيل، والباري -سبحانه- جل عن أن يوصف بأنه يتصور شيئًا أو يتخيله، أو أنه ذو حواس يتوصل بها إلى معرفة شيء أو يحتاج إلى مقدمات، وأن غيره يفيده كمالاً في ذاته، بل هو مفيد الكمال لكل كامل على مقدار مرتبته، وهو غني عن غيره، وغيره مفتقر إليه، ففي وصفنا له بأنه يعلم غيره نقص له لا كمال». جوابنا عن هذا هو أن نقول لهم: هل تزعمون أن الباري- تعالى- يشبه البشر في ذاته وصفاته، أم هو مخالف لهم؟ فإن زعموا أنه مشبه لهم بالذات والصفات أو في بعض ذلك لزم أن يلحقه من النقص ما يلحق البشر، وأن يلزمه من الحدوث ما يلزم سائر الأشياء، وإن قالوا إنه مخالف للبشر لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء، قلنا لهم: من أين قستم علمه على علمكم وأوجبتم أنه إن كان عالمًا لزم أن يعلم باستنباط ومقدمات، واحتاج إلى حواس؟ وما تنكرون من أن يكون يعلم الأشياء بنوع آخر من العلم لا يكيف ولا يشبه علم البشر، وما الذي تبطلون به؟ هذا فإن قالوا: لا يعقل علم إلا بهذه الطرق لزمهم تشبيه الباري- تعالى- بمخلوقاته، وقلنا لهم: من أين زعمتم أنه عالم وأنه علم وأنه معلوم شيء واحد لا تغاير فيه؟ وكذلك أنه عاقل وأنه عقل وأنه معقول شيء واحد من صفاته، وهذا أمر غير معقول فيما نعهده من

أنفسنا؟ ويقال لهم كذلك: لا نعقل موجودًا إلا أن يكون جوهرا حاملاً للأعراض أو عرضًا محمولاً في جوهر فاحكموا على الباري- تعالى وجل- أنه جوهر من جنس الجواهر المعقولة ولا فرق. ويقال لمن زعم منهم أنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات: من أين فرقتم بين الأمرين؟ فإن قالوا لأن الجزيئات تدخل تحت الزمان وتتغير بتغيره، ويحتاج في معرفتها إلى الحواس الخمس، والكليات التي هي الأنواع والأجناس لا تدخل تحت الزمان ولا تتغير بتغيره، ولا يحتاج في معرفتها// إلى الحواس الخمس. وجوابنا عن هذا أن نقول: ألستم تعلمون أن الإنسان إنما يعلم الكليات بمشاهدة الجزئيات الواقعة تحت الزمان والاستدلال عليها بالمقدمات الغريزيات؟ فهل تزعمون أن الله- تعالى- يدرك الكليات بهذا السبيل؟ فإن قالوا نعم شبهوه بالبشر، وقلنا لهم: إذا جاز عندكم أن يشبه البشر في علم الكليات فما الذي يمنعه أن يشبههم في علم الجزيئات؟ وإن قالوا لا يجوز أن يعلم الكليات على نحو ما يعلمها البشر وإنما يعملها بنوع آخر من العلم لا يكيف ولا يشبه علم البشر، قلنا: فما المانع أن يعلم الجزيئات بهذا العلم ولا فرق. وعمدة هذا الباب وغيره من الكلام في صفات الله- تعالى- أن تجعل أصلك أن الباري- سبحانه- لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء، وتجتهد في أن تعلم هذه الجملة

بالبراهين الواضحة، فإذا تقررت في نفسك سقطت عنك هذه الوساوس كلها؛ لأن الذين غلطوا في هذه المعاني إنما عرض لهم الغلط لأنهم يقيسون الله- تعالى- بالبشر، ويشبهون صفاته بصفاتهم. وقد أثبتت شريعتنا الحنيفية التي شرفنا الله- تعالى- بها أن الله عالم بكبير الأشياء وصغيرها، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، وهذه صفات الكمال التي تليق بالله- تعالى- لا ما زعمه هؤلاء المبطلون، وقد ذكرنا من كلام الفلاسفة المتقدمين ما يطابق هذا الذي ورد به شرعنا وقد قلت في ذلك: (يا واصفًا ربه بجهل ... لم تقدر الله حق قدره) (كيف يفوت الإله علم ... بسر مخلوقه وجهره؟ ) (وهو محيط بكل شيء ... وكلها كائن بأمره)

الباب السابع: (في إقامة البراهين على أن النفس الناطقة حية بعد مفارقة الجسد)

الباب السابع (في إقامة البراهين على أن النفس الناطقة حية بعد مفارقة الجسد) النفوس ثلاثة: نباتية، وحيوانية، وناطقة، فأما النفس النباتية والنفس الحيوانية فلا نعلم خلافًا في عدمها بعد الجسم، وإنما وقع الخلاف في النفس// الناطقة، وهي العاقلة المميزة، فزعم قوم أنها تعدم عند فراقها الجسم كعدم النباتية والحيوانية، وقال قوم: إنها باقية حية لا عدم لها، وهو مذهب سقراط، وأرسطو، وأفلاطون، وسائر زعماء الفلاسفة، وعلى ذلك تدل الشرائع كلها، وأنا أذكر جملة من البراهين الفلسفية على بقائها؛ لأن الشرعية لا تليق بهذا الموضع وبالله التوفيق. برهان أول: ميل الإنسان إلى الشهوات الطبيعية، وانغماره في اللذات الجسدية يمنعه من تصور الحقائق وقبول المعارف، ويكسب ذهنه بلادة، وإقلاله من ذلك يفيد ذهنه حدة، ويعينه على قبول المعارف وتصور الحقائق، فدل ذلك على أن المادة الطبيعية آفة النفس الناطقة، وأنها كلما انسلخت منها كانت أكثر تمييزًا وأصح معرفة، وينتج من هذه المقدمات أن تكون عند الموت أصح تمييزًا وأبصر للحقائق، لانسلاخها من جميع المادة، ولا يكون التمييز والتصور إلا لحي، فالنفس إذًا حية بعد موت الجسم، وقد وافق هذا البرهان الفلسفي من نصوص شرعنا قول الله- تعالى-: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، وقول نبينا- عليه السلام-: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا».

برهان ثان: كل موجود بالفعل من الأشياء الطبيعية، فقد كان موجودًا بالقوة، وكل ما كان موجودًا بالقوة ثم وجد بالفعل فمخرجه إلى الوجود شيء آخر هو موجود بالفعل؛ كالماء الذي هو بارد بالقوة ويخرجه إلى الحرارة بالفعل النار التي هي حارة بالفعل، وهذا اضطرار إذ لا يصح أن يوجد الشيء نفسه، ولا يصح أيضًا أن يخرجه من الوجود بالقرة إلى الوجود بالفعل ما هو موجود بالقوة، لأنهما قد تساويا في العدم، وكل واحد منهما مفتقر إلى موجود، وإذا استحال الأمران صح أن مخرج الشيء من القوة إلى الفعل لا يكون إلا غيره، إلا موجود بالفعل، وإذا ثبت هذا قلنا: إن بعض الأجسام حي بالقوة [لم يصر حيًا بالفعل فمخرجه إلى الحياة] // جوهر آخر غيره حي بالفعل، والجسم أيضًا إنما يصير حيًا بمقارنة النفس له، فالنفس إذًا حية بالفعل، ومن هو حي بالفعل لا يعدم الحياة، فالنفس- إذًا- لا تعدم الحياة. برهان ثالث: نفوسنا الناطقة إنما تفتقر إلى الحواس الجسدية مادامت عارية من الصور العقلية، فإذا حصلت فيها صورة من الصور العقلية لم تحتج إلى استعمال الحاسة التي كانت تتوصل بها إليها، فدل ذلك على أن للنفس استقلالاً بذاتها تستغني به عن الجسم، وأن أعضاء الجسم إنما هي آلات تلتقط بها معارفها، فأنتج من ذلك أن النفس الناطقة إذا تجوهرت بالمعارف، وحصل لها العقل المستفاد، لم تحتج إلى التعلق بالجسم.

برهان رابع: نفوسنا تجد الأشياء الهيولانية مصورة في ذاتها عند مغيب الأشياء المصورة عن حواسنا، وكذلك نرى الأشياء في حال نومنا، وما تراه نفوسنا من ذلك في حالتي اليقظة والنوم إنما هي صورة مجردة من هيولاتها، فثبت بذلك أن الصور لها وجودان: وجود في الهيولى، ووجود خلق من الهيولى، ولولا ذلك لم يستنكر وجود الإنسان بعد الموت صورة مجردة من الهيولى، ولم يمنع من ذلك مانع. برهان خامس: تجد الإنسان بالمشاهدة يبدأ طفلاً لا يعلم شيئًا، ثم لا يزال كلما نشأ يترقى في المعارف وتكثر المعقولات في نفسه، حتى يصير فيلسوفًا حكيمًا، فلا يخلو ما يستفيد من التمييز والمعرفة أن يكون من قبل جسمه فقط، أو من قبل نفسه فقط، أو من قبلهما معًا، فإن كان من قبل جسمه فيجب أن يكون الإنسان كلما ضخم جسمه وكثرت مادته كان أقعد بقبول المعارف، وكلما ضؤل وقلت مادته كان أبعد عن قبول المعارف، ونحن نجد الأمر بعكس ذلك؛ لأنا نرى من به السلال والذبول ينقص جسمه كل يوم، وذهنه باق على كماله إلى أن تفارقه النفس، فبطل بهذا الدليل [أن يكون ذلك من قبل جسمه، وبنحو هذا الدليل يبطل أن] يكون من قبل نفسه// وجسمه معًا، فإذن ما يستفيده الإنسان من

التمييز والمعارف [إنما هو من النفس فقط، ولاحظ في ذلك للجسم أكثر من أنه آلة لها بمنزلة الآلات للصناعة، ولا يصح وجود التمييز والمعارف] من موات، وإنما يصح وجودهما من حي فالنفس إذن حية بالطبع؛ لأن في طبيعتها قبول العلوم والمعارف، والجسم موات بالطبع، إذ ليس في طبعه قبول شيء من ذلك فبان بالبرهان أن الإنسان مركب من جوهرين: أحدهما: حي بالطبع وهو النفس والآخر موات بالطبع وهو الجسم، وأنهما لما افترقا عرض لكل واحد منهما عرض من قبل صاحبه، [فعرض للجسم الحياة التي هي الحس من قبل النفس، وعرض للنفس الموت الذي يراد به الجهل من قبل الجسم]. فالنفس- إذًا- حية بالطبع ميتة بالعرض، والجسم ميت بالطبع حي بالعرض، فإذا انفصل كل واحد منهما من صاحبه خلص للجسم الموت المحض الذي هو طبعه، وفارقته الحياة العرضية التي كان استفادها من النفس، وخلص للنفس الحياة المحضة التي هي طبعها، وفارقها الموت العرضي الذي كان عرضًا لها من قبل استغراقها في الجسم. برهان سادس: النفس الناطقة تناقض النفس الحيوانية؛ لأنها ترغب في كسب الفضائل واطراح الرذائل، وتزهد في اللذات الجسدية وترغب في اللذات العقلية، والنفس الحيوانية بضد ذلك، ولذلك سميت بهيمية، فإن كان لا بقاء للنفس الناطقة بعد فراق الجسد ولا لها حياة أخرى تجني فيها ثمرة ما تسعى فيه وتحض عليه، فالنفس الحيوانية [إذًا أشرف من الناطقة، وما تأمر به النفس الحيوانية] من

استغراقها في الشهوات هو الصواب والعقل، وما تأمر به النفس الناطقة هو الخطأ والجهل، وهذا قلب للمعقول وعكس لما تقتضيه الحكمة. برهان سابع: كل شيء مركب من بسائط فإنه ينحل إلى بسائط، والإنسان مركب من سببين: روحاني وجسماني، ونحن نرى الإنسان إذا مات لحق جسمه بجسماني مثله، فكذلك روحانيته يجب أن تلحق بروحاني مثلها، وقد صح- بما قدمناه في البراهين السالفة- أن ذلك الروحاني هو الذي يفيد جسمه الحياة، وأنه حي بالفعل، فهو- إذن- حي بعد مفارقة الجسم لا يعدم الحياة. برهان ثامن:// معنى الحياة الجسدية عند مقارنة النفس للجسم واستعمالها إياه، ومعنى الموت: مفارقة النفس إياه وتركها استعماله. وقال من زعم أن النفس هالكة بهلاك الجسم: «معنى الحياة أن تكون النفس ذات حس، ومعنى الموت أن تعدم الحس»، فنسألهم عن الحس الموجود للنفس طول مقاربتها للجسم، هل هو ذاتي لها أو عرضي فيها؟ فإن كان ذاتيًا لها بطل أن تعدم الحس بعد مفارقتها للجسم، وإن كان عرضيًا فيها فلا يخلو من أن تكون استفادته من الجسم أو من جوهر آخر مصاحب له، فإن كان الجسم هو الذي يفيدها الحس وجب ألا يعدم الجسم الحس إذا فارقته النفس، وهذا خلاف ما نشاهد

من حالها وحال جسمها، وإن كانت النفس إنما تستفيد الحس من جوهر آخر روحاني متصل بها وجب أن نسألهم عن ذلك الجوهر الآخر: هل هو حساس بذاته أم بجوهر آخر أيضًا؟ ويستمر ذلك إلى ما لا نهاية له، وما لا نهاية له بالعقل محال، فثبت أن النفس حساسة بذاتها وجوهرها، وما كان حساسًا بذاته وجوهره بطل أن يعدم الحياة فالنفس- إذن- حية بعد فراق الجسم، وقد استدل الحكماء على بقاء النفس الناطقة بأدلة كثيرة غير هذه، وفيما ذكرناه منها مقنع، وبالله التوفيق، كملت المسألة الفلسفية والحمد لله كثيرًا.

الرسالة الثامنة عشرة: في تحقيق تصحيح عطف جملة التصليه على جملة الحمد له

الرسالة الثامنة عشرة: في تحقيق تصحيح عطف جملة التصليه على جملة الحمد له

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على النبي محمد وكرم وآله وسلم قال الفقيه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي- رحمه الله-: سألتني- قرر الله لديك الحق ومكنه، وجعلك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه- عن قول الكتاب في صدور كتبهم: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد، وذكرت أن قومًا من نحويي زماننا [هذا] ينكرون عطف الصلاة على البسملة فكنت أخبرت بذلك قديمًا// فحسبت أنهم إنما يتعلقون في إنكاره [في] أنه أمر لم ترد فيه سنة مأثورة، وأنه شيء أحدثه الكتاب، حتى أخبرني مخبرون أنه فاسد عندهم في الإعراب، وليسوا ينكرونه من أجل أنه [شيء] محدث عند الكتاب، وأخبروني أن الصواب- عندهم- إسقاط الواو، ورأيت ذلك أيضًا في رسائل بعضهم، ورأيت بعضهم يكتب في صدور كتبه: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلوت على نبيه الكريم، وقد تأملت

الأمر الذي حملهم على إنكاره فلم أجد شيئًا يمكن أن يتعلقوا به إلا أمرين: أحدهما: أن المعطوف حكمه أن يكون موافقًا للمعطوف عليه وهاتان جملتان قد اختلفتا، فتوهموا من أجل اختلافهما أنه لا يصح عطف إحداهما على الأخرى. والثاني: أن قولنا: «بسم الله الرحمن الرحيم» جملة خبرية، وقولنا: وصلى الله على محمد جملة معناها الدعاء، فلما اختلفتا فكانت الأولى إخبارًا وكانت الثانية دعاء، وكان من شأن واو العطف أن تشرك الثاني مع الأول لفظًا ومعنى لم يصح عندهم عطف هاتين الجملتين بعضهما على بعض لاختلافهما لفظًا ومعنى، فإن كانت العلة التي حملتهم على إنكار ذلك اختلاف إعراب الجملتين فإن ذلك غير صحيح، بل هو دليل على قلة نظر قائله؛ لأن تشاكل الإعراب في العطف إنما يراعى في الأسماء المفردة المعربة خاصة، وأما عطف الجمل على الجمل فإنه نوعان: أحدهما: أن تكون الجملتان متشاكلتين في الإعراب، كقولنا: إن زيدًا قائم وعمرًا خارج، وكان زيد قائمًا وعمرو خارجًا، فتعطف الاسم على الاسم والخبر على الخبر، والنوع الثاني لا يراعى فيه التشاكل في الإعراب، كقولنا: قام زيد ومحمدًا أكرمته، ومررت بعبد الله وأما خالد فلم ألقه، وفي هذا أبواب قد نص عليها سيبويه وجميع البصريين والكوفيين، لا أعلم بينهم خلافًا في ذلك، وذلك كثير في القرآن

والكلام منثوره والمنظوم، كقوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النساء: 162]، وكقول خرنق: (النازلين [بكل معترك ... والطيبين معاقد الأرز] // وقد ذكر ذلك في الموضوعات المختصرات في النحو، كـ (الجمل و [الكافي] لابن النحاس وغيرهما. وإن كانوا أنكروا ذلك من أجل أن قولنا: بسم الله الرحمن الرحيم جملة خبرية، وقولنا: صلى الله على محمد جملة معناها الدعاء، فاستحال عندهم عطف الدعاء على الخبر، لا سيما ومن خاصة الواو أن تعطف ما بعدها على ما قبلها لفظًا ومعنى،

وهاتان جملتان قد اختلف لفظهما ومعناهما، فما اعترضوا به غير صحيح أيضًا، وهذا الذي قالوا يفسد عليهم من وجوه كثيرة لا من وجه واحد: فأولها: أنا وجدنا كل من صنف كتابًا من العلماء مذ بدأ الناس في التصنيفات إلى زماننا هذا يصدرون كتبهم بأن يقولوا: الحمد الذي فعل كذا وكذا، ثم يقولون بإثر ذلك: وصلى الله على محمد، فيعطفون الصلاة على التحميد، ولا فرق بين عطفهما على التحميد وعطفهما على البسملة؛ لأن كلتا الجملتين خبر، وليس هذا مختصًا بكتب الضعفاء في العربية دون الأقوياء، ولا بكتب الجهال دون العلماء، بل كل ذلك موجود في كتب الأئمة المتقدمين والعلماء المبرزين، كالفارسي وأبي العباس المبرد والمازني وغيرهم، فلو لم يكن بأيدينا دليل ندفع به مذهب هؤلاء إلا هذا لكفانا من غيره، فتأمل خطبتي كتاب (الإيضاح) للفارسي، وصدر (الكامل) لأبي العباس المبرد، وصدر كتاب سيبويه وغير ذلك [من الكتب]، وتأمل خطب الخطباء وكلام الفصحاء فإنك تجدهم مطبقين على ما وصفته لك، فهذا وجه واضح يدل على فساد ما قالوه. ومنها أن قولنا: وصلى الله على محمد بإثر البسملة، منصرف إلى معنى الخبر-

وإن كان دعاء- على تأويلات مختلفة، أحدها: أن يكون تقدير: ابدأ بسم الله الرحمن الرحيم، وأقول: وصلى الله على محمد، فتضمر القول وتعطفه على (ابدأ) مما يصرف الكلام إلى الإخبار، والعرب تحذف ذكر القول حذفًا مطردًا تغني شهرته عن إيراد أمثلة منه، كقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ [يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ] * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ] [الرعد 23 - 24]، أي يقولون: سلام عليكم، وكذلك قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، أي يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، ويجوز أن يتأول على معنى: ابدأ باسم الله وبالصلاة على محمد، فيكون من الكلام المحمول على التأويل، كما أجاز سيبويه: «قل رجل يقول ذلك إلا زيد»، لأنه في معنى: ما أحد يقول ذلك إلا زيد، وهذا كثير لا يستطيع أحد من أهل هذه الصناعة على دفعه، وإن شئت كان التقدير: ابدأ باسم الله، وأصلي على محمد،

فيكون محمولاً أيضًا على المعنى، وهذه التأويلات الثلاثة تصيره- وإن كان دعاء- إلى معنى الإخبار، فهذا وجه آخر صحيح. ومنها: أنه لا يستحيل عطف قولنا: «وصلى الله على محمد» على قولنا: باسم الله- وإن كان دعاء محضًا من غير أن يتأول فيه تأويل الإخبار، لأنا وجدنا العرب يوقعون الجمل المركبة تركيب الدعاء والأمر والنهي والاستفهام التي لا يصح أن يقال فيها: صدق ولا كذب، موقع الجمل الخبرية التي يجوز فيها الصدق والكذب، وهذا أشد من عطف بعضها على بعض، كنحو ما أنشدوه: [من قول الجميح بن منقذ]: (ولو أصابت لقالت وهي صادقة ... إن الرياضة لا تنصبك للشيب) فأوقع النهي موقع خبر (إن) وقال آخر:

(ألا يا أم فارع لا تلومي ... على شيء رفعت به سامعي) (وكوني بالمكارم ذكريني ... ودلي دل ماجدة صناع) فأوقع الأمر موقع خبر (كان). وقال الراجز: ( .............. .. فإنما أنت أخ لا تعدمه) فأوقع الجملة التي هي: (لا نعدمه) - ومعناها الدعاء- موقع الصفة للأخ حملاً على المعنى، كأنه قال: إنما أنت أخ ندعو له بألا يعدم، وليس يسوغ لمعترض علينا أن يزعم أن هذا شيء خص به الشعر، فإن ذلك قد جاء في القرآن والكلام الفصيح، فمن ذلك قول الله- تعالى-: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]، وأجاز النحويون- بلا خلاف بينهم- «زيد اضربه»، و «عمرو لا تشتمه»، «زيد كم مرة رأيته»، و «عبد الله هل أكرمته؟ »، و «زيد [جزاك الله

عنه حسنًا». وجاء عن العرب عطف// الفعل الماضي على المستقبل، واسم الفاعل على الفعل المضارع، والفعل المضارع على اسم الفاعل، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 18]، وقال امرؤ القيس: ( .................. ... ألا عم صباحًا أيها الربع وانطق) فعطف الأمر على الدعاء، وهذا كثير، وقد قال سيبويه في باب (ما ينتصب فيه الاسم لأنه لا سبيل له إلا أن يكون صفة): «واعلم أنه لا يجوز من عبد الله وهذا زيد الرجلين الصالحين؟ رفعت أو نصبت؛ لأنك لا تثني إلا على ما أثبته وعلمته، ولا يجوز أن تخلط من تعلم ومن لا تعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة، وإنما الصفة علم فيمن قد علمته»، فأبطل جواز هذه المسألة من جهة جمع الصفتين، ولم ينكرها من أجل عطف الخبر على الاستفهام، ووافقه جميع النحويين على هذه المسألة. إنما كان ذلك؛ لأن الجمل لا يراعى فيها التشاكل في المعاني ولا في الإعراب، وقد استعمل بديع الزمان عطف الدعاء على الخبر في بعض مقاماته، وهو قوله:

«فقلت: ظفرنا والله بصيد، وحباك الله أبا زيد»، وما نعلم أحدًا أنكر ذلك عليه، وإذا كان التشاكل لا يراعى [في أكثر المفردات كان أجدر ألا يراعى] في الجمل، ألا ترى أن المعرب يعطف على المبني، والمبني على المعرب، وما يظهر فيه الإعراب على ما لا يظهر فيه؟ وفي هذا الموضع شيء عجيب يجب أن يوقف عليه، وذلك أن قول النحويين: إن الواو تعطف ما بعدها على ما قبلها لفظًا ومعنى كلام خرج مخرج العموم وهو في الحقيقة خصوص، وإنما تعطف الواو الاسم على الاسم في نوع الفعل أو جنسه لا في كميته وكيفيته، ألا ترى أنك إذا قلت: ضربت زيدًا وعمرًا فقد يجوز أن تضرب زيدًا ضربة واحدة وعمرًا ضربتين وثلاثًا فتختلف الكميتان [وكذلك يجوز أن تضرب زيدًا جالسًا وعمرًا قائمًا فتختلف الكيفيتان]، ويبين ذلك قول العرب: إياك والأسد، فيعطفون الأسد على الضمير المخاطب، والفعل الناصب لهما مختلف المعنى؛ لأن المخاطب مخوف والأسد مخوف منه،

فجاز العطف، وإن اختلف نوعا التخويف؛ لأن جهة التخويف قد انتظمت، ونحو منه قوله تبارك وتعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71]؛ لأن الإجماع على الأمر هو العزم عليه، والجمع الذي يراد به ضم الأشياء المفترقة، وإن اختلف نوعاهما فإن لهما جنسًا يجتمعان فيه، ألا ترى أنهما جميعًا يرجعان إلى معنى الصيرورة والانجذاب؟ ألا ترى أن من عزم على شيء فقد انجذب إليه وصار، كما أن الأشياء المفترقة إذا جمعت انجذب بعضها إلى بعض، وصار كل واحد منهما إلى الآخر؟ وكذلك قول الشاعر: (يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدًا سيفًا ورمحا) ومعناه: وحاملاً رمحًا؛ لأن التقلد نوع من الحمل؛ ولأجل هذا الذي ذكرناه من حكم العطف بالواو قلنا في قول الله- تعالى-: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] في قراءة [مَنْ] خفض الأرجل؛ لأن الأرجل تغسل، والرؤوس تمسح، ولم يوجب عطفها على الرؤوس أن تكون ممسوحة كمسح

الرؤوس لأن العرب تستعمل المسح على معنيين: أحدهما: النضح، والآخر: الغسل، حكى أبو زيد: تمسحت للصلاة، أي توضأت، وقال الراجز: ( .................. ... أشيلت عنزي ومسحت قعبي) أراد: أنه غسله ليحلب فيه، فلما كان المسح نوعين أوجبنا لكل عضو ما يليق به إذا كانت واو العطف- كما قلت- إنما توجب الاشتراك في نوع الفعل أو جنسه، لا في كميته، ولا في كيفيته، فالنضح [والغسل] قد جمعهما جنس الطهارة، كما جمع تقلد السيف، وحمل الرمح جنس التأهب للحرب والتسلح، وهكذا قولنا: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد: إن كان الإخبار والدعاء قد اختلفا فإنهما قد اتفقا في معنى التقدمة والاستفتاح، أو في معنى التبرك والاستنجاح فإن قال قائل: قد أنكر النحويون أن يقال: ليت زيدًا قائم وعمرو، بالرفع عطفًا على موضع (ليت) وما عملت فيه، وهل ذلك من اختلاف الجملتين بأن إحداهما تصير خبرًا والثانية تمنيًا؟ فالجواب: أن هذا الذي توهمته لا يصح من وجهين: أحدهما: أن إنكار النحويين العطف على خبر [ليت] ليس من أجل ما

ظننته، وإنما منعوه لأن (ليت) قد أبطلت الابتداء، فلم تبق له لفظًا ولا تقديرًا، ولو كان لـ (ليت) ومعمولها موضع وعطف (عمرو) عليه لم يكن عطف خبر على تمن؛ [لأن التمني كان بعامل اللفظ دون الموضع، لو كان هناك موضع] كما توهمت، وإنما كان يكون عطف خبر على خبر. والوجه الثاني: أن قولنا: ليت زيدًا قائم وعمر لا يعد جملتين إنما يعد جملة واحدة؛ لأن الجزء الذي كان يتمم الجملة الثانية سقط استغناء بخبر الاسم الأول، ولو قلت: ليت زيدًا قائم وليت عمرًا قائم لكانتا جملتين، وهذا كقولك: قام زيد وقام عمرو، فيكون الكلام جملتين، فإذا قلت: قام زيد وعمرو صار جملة واحدة، ويدل على ذلك أن النحويين يجيزون: مررت برجل قائم زيد وأبوه، ولا يجيزون: مررت برجل قائم زيد وقائم أبوه؛ لأن الكلام الأول جملة واحدة، فاكتفى فيها بضمير واحد يعود إلى الموصوف، والثانية تجري مجرى جملتين، فلابد في كل واحدة منهما من ضمير، وكذلك يجيزون: زيد قائم عمرو وأبوه، ولا يجيزون: زيد قائم عمرو وقام أبوه لتعري الجملة الواحدة من ضمير يعود إلى المبتدأ. نجزت المسألة والحمد لله حق حمده، وصلى الله على محمد وآله وسلم، وشرف وكرم، وبتمامها تم السفر.

§1/1