رسائل الشيخ الحمد في العقيدة

محمد بن إبراهيم الحمد

الإيمان بالله

الإيمان بالله تأليف الشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله_صلى الله عليه وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً_. أما بعد: فإن علم العقيدة أشرف العلوم، وأجلها قدراً، وأهمها على الإطلاق. وأشرف وأجل وأهم ما في هذا العلم مبحث الإيمان بالله_عز وجل_. فالإيمان بالله أصل الأصول، وهو أول ركنٍ من أركان الإيمان الستة كما قال_تعالى_: [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ] (البقرة: 177) . وكما قال"عندما سأله جبريل_عليه السلام_عن الإيمان: =أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره+ (1) . والإيمان بالله_عز وجل_رأس كل فلاح، وأسُّ كل نجاح، فما أنزلت الكتب، ولا أرسلت الرسل إلا لأجل تقريره وتثبيته في النفوس. وفيما يلي من صفحات سيكون الحديث عن الإيمان بالله وذلك من خلال المباحث التالية: _معنى الإيمان بالله. _ماذا يتضمن الإيمان بالله؟ _الأدلة على وحدانية الله. _ثمرات الإيمان بالله. _ما ضد الإيمان بالله؟ _معنى الإلحاد. _أسباب الإلحاد. _كيف دخل الإلحاد بلاد المسلمين؟ _الآثار المترتبة على الإلحاد. فما كان في ذلك من صواب فذلك من الله وحده، وما كان فيه من زلل فمن نفسي والشيطان. وأخيراً أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينفع بهذه السطور كاتبها، وناشرها، وقرّاءها؛ إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير. محمد بن إبراهيم الحمد الزلفي: ص. ب: 460 www.toislam.net

_ (1) رواه البخاري في كتاب الإيمان رقم (50) ، ومسلم في كتاب الإيمان رقم (8) . والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

معنى الإيمان بالله

معنى الإيمان بالله للإيمان بالله وتوحيده عدة تعريفات، تتفق في المعنى وربما اختلفت ألفاظها، فمن تلك التعريفات مايلي: 1_هو إفراد الله بما يستحق. 2_إفراد الله بحقوقه. 3_=التصديق الجازم من صميم القلب بوجود ذاته_تعالى_الذي لم يسبق بضد، ولم يعقب به، هو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء، حيٌّ قيوم، أحد صمد [لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ] (الإخلاص:3، 4) وتوحيده بألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته+ (1) . 4_=الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق وحده، المدبر للكون كله، وأنه هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، وأن كل معبود سواه فهو باطل، وعبادته باطلة، قال_تعالى_: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ] (الحج: 62) . وأنه_سبحانه_متصف بصفات الكمال ونعوت الجلال، منزه عن كل نقص وعيب. * * * ماذا يتضمن الإيمان بالله؟ من خلال ما مضى يتبين أن الإيمان بالله يتضمن أموراً أربعة: 1_الإيمان بوجود الله. 2_الإيمان بربوبيته. 3_الإيمان بأسمائه وصفاته. 4_الإيمان بألوهيته. * * * الأدلة على وحدانية الله ـ سبحانه وتعالى ـ الأدلة على وحدانية الله كثيرة جداً ويكفي منها شهادته_عز وجل_لنفسه حيث قال: [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ] (آل عمران: 18) . وصدق من قال: وفي كل شيء له آيةٌ **** تدل على أنه الواحد

_ (1) أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة للشيخ حافظ الحكمي. تحقيق: مصطفى أبو النصر الشلبي، مكتبة السوادي بجدة، ص50.

1ـ دلالة الفطرة

فواعجباً كيف يعصى الإله **** أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكةٍ **** وتسكينه أبداً شاهد ومن الأدلة على وحدانية الله، وعلى تفرده بالخلق والرزق، وأنه وحده المستحق للعبادة ما يلي: 1_الفطرة. 2_الشرع. 3_العقل. 4_الحس. 5_الاستدلال بأسماء الله وصفاته. وهذه الأدلة بمجموعها تدل على وجود الله، وتدل على أنواع التوحيد الثلاثة؛ ذلك أن أنواع التوحيد الثلاثة متلازمة، ومن أشرك في واحد منها فهو مشرك في البقية. مثال ذلك من دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، فدعاؤه عبادة صَرَفَهَا لغير الله، وهذا شرك في الألوهية. وهذا الدعاء لغير الله متضمن لاعتقاد الداعي أن المدعو متصرف مع الله، وقادر على قضاء ذلك، وهذا شرك في الربوبية. ثم إنه لم يدعه إلا لاعتقاده أنه يسمعه، وهذا شرك في الأسماء والصفات؛ لاعتقاده أن للمدعو سمعاً محيطاً بجميع المسموعات لا يحجبه قرب ولا بعد. ومن هنا نجد أن الشرك في الألوهية مستلزم الشرك في الربوبية والأسماء والصفات (1) . وفيما يلي تفصيل للأدلة السابقة. * * * 1ـ دلالة الفطرة الفطرة في اللغة هي الخلقة، أما في الشرع فهي الإسلام على القول الراجح كما رجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (2) _رحمهما الله تعالى_. =وكل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه+ (3) . قال النبي": =ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه+. وفي رواية: =إلا على هذه الملة+ وفي رواية =إلا على الملة+ (4) .

_ (1) انظر أعلام السنة المنشورة، ص77، السؤال رقم 73. (2) انظر شفاء العليل لابن القيم، ص572_ 575، وانظر درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية 8/371. (3) نبذة في العقيدة الإسلامية، للشيح محمد بن عثيمين، ص11. (4) رواه البخاري 2/97، ومسلم 4/2047 برقم (1258) .

وفي حديث عياض بن حمار÷يقول _تعالى_ في الحديث القدسي: =وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم+ (1) . قال ابن القيم×=وذكروا عن عكرمة، ومجاهد، والحسن، وإبراهيم، والضحاك، وقتادة في قوله_عز وجل_: [فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] (الروم: 30) قالوا: (فطرة الله) دين الإسلام (لا تبديل لخلق الله) قالوا: لدين الله+ (2) . ثم إن الإنسان مفطور على اللجوء إلى ربه_تبارك وتعالى_عند الشدائد، فإذا ما وقع الإنسان_أي إنسان_حتى الكافر الملحد_في شدة، أو أحدق به خطر_فإن الخيالات والأوهام تتطاير من ذهنه، ويبقى ما فطر عليه ليصيح بأعلى صوته، ومن قرارة نفسه، وعميق قلبه، منادياً ربه؛ ليفرج كربته وهمه، ويلجأ إليه وحده دون سواه (3) . وصدق الله_تعالى_إذ يقول: [فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ] (العنكبوت: 65) . وليس المراد بأنه يولد على الفطرة أنه يولد عالماً بأمور الإسلام؛ فالله_سبحانه وتعالى_يقول: [وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً] (النحل:78) . وليس المراد_أيضاً_أنه يولد ساذجاً لا يعرف شركاً ولا توحيداً؛ لأن الرسول"قال: =إلا ويولد على الملة+ وفي رواية: =على هذه الملة+. بل المراد أن كل مولود يولد على محبته لفاطره، وإقراره له بربوبيته، وادعائه له بالعبودية، فلو خُلِّي وعدمَ المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية، والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه ويغذيه (4) .

_ (1) مسلم 4/2197 برقم (2865) . (2) شفاء العليل، ص 572_573، وانظر درء تعارض العقل والنقل 8/376. (3) مستفاد من مذكرة للشيخ عبد الله الجاسر. (4) انظر شفاء العليل لابن القيم، ص578_579.

2 ـ دلالة الشرع

ولذلك قال": =فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه+ ولم يقل يسلمانه؛ لأنه باقٍ على الأصل، فاعتناق غير الإسلام يعد خروجاً عن الأصل والقاعدةِ بأسباب خارجة. * * * 2 ـ دلالة الشرع أما دلالة الشرع فواضحة معلومة؛ فما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب يدل دلالة قاطعة على وحدانية الله، فالكتب السماوية كلها تنطق بذلك، وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح العباد في دنياهم وأخراهم؛ كالصلاة، والزكاة، والحج، وغيرها، وما جاءت به من الأخبار الكونية، والمغيبات التي شهد الواقع بصدقها_كل ذلك يدل على أنها من ربٍّ حكيمٍ عليمٍ مستحقٍ للعبادة وحده لا شريك له (1) . * * * 3 ـ دلالة العقل أما دلالة العقل على وحدانية الله فلأن المخلوقاتِ جميعَها لابد لها من مُوجِد وخالق؛ إذ لا يمكن أن توجِد نفسَها بنفسِها، ولا يمكن أن توجَدَ صدفة؛ فهذه المخلوقات لا يمكن أن تُوجِد نفسها بنفسها؛ لأن الشيء لا يخلق نفسه؛ لأنه قبل وجوده معدوم، فكيف يكون خالقاً؟ كذلك لا يمكن أن توجد صدفة؛ لأن كل حادث لابد له من مُحدِثٍ، ولأن وجودها على هذا النظام المتسق البديع المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب والمسببات وبين الكائنات بعضها مع بعض_يمنع منعاً باتاً أن يكون وجودُها صدفةً (2) . أضف إلى ذلك ما تجده من افتقار المخلوق الشديد؛ فالافتقار وصف ذاتي للمخلوق ملازم له؛ مما يدل على أنه لابد من وجود خالق، كامل، غني عما سواه، وهو رب العالمين. وقد ذكر الله _سبحانه وتعالى_ هذا الدليل العقلي والبرهان القاطع في سورة الطور، حيث قال: [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ] (الطور: 35) . يعني أنهم لم يُخلقوا من غير خالقٍ، ولا هم الذين خلقوا أنفسهم، فتعين أن يكون خالقهم هو الله_تبارك وتعالى_ (3) .

_ (1) انظر نبذة في العقيدة الإسلامية، ص11_12. (2) انظر الرياض الناضرة لابن سعدي ص194، ونبذة في العقيدة الإسلامية، ص11_ 15. (3) مرجع سابق.

ولهذا لما سمع جبير بن مطعم÷رسول الله"يقرأ سورة الطور فبلغ قوله_تعالى_: [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ] الآية وكان يومئذٍ مشركاً_قال: =كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي+. رواه البخاري مُفَرَّقاً (1) . ولهذا نجد أن الله_سبحانه وتعالى_يحث كثيراً في كتابه على التعقل والتبصر؛ ولا أدل على ذلك من كثرة الآيات التي تُخْتَمُ بمثل قوله: [أّّفّلا تّعًقٌلٍونّ] [لّعّلَّكٍمً تّعًقٌلٍون] ؛ لأن الإنسان إذا تفكر تذكر، وعرف الحق، وإذا تذكر خاف واتقى وانقاد. ولهذا نجد أن العقلاء الجادين الباحثين عن الحق_يصلون إليه، ويوفقون له، وليس أدل على ذلك من حال العقلاء في الجاهلية أمثال قُس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد وعم عمر بن الخطاب÷فنحن نجد في ثنايا كلامهما الإقرار بوحدانية الله_عز وجل_مع أنهما يعيشان في مجتمع يعج بالجهل والشرك. يقول قس في خطبته المشهورة التي ألقاها في سوق عكاظ: =أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آتٍ، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تُزهر، وبحار تزْخَر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة، إن في السماء لخبراً وإن في الأرض لعبراً، ما بال الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا في المقام فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟ يقسم قُسٌّ بالله قسماً لا إثم فيه أن لله ديناً هو أرضى له وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكراً، ثم أنشأ يقول: في الذاهبين الأوليـ **** ـن من القرون بصائر لما رأيت موارداً **** للقوم ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها **** يمضي الأكابر والأصاغر لا يرجع الماضي إلـ **** ـي ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا **** له حيث صار القوم صائر ويقول زيد بن عمرو في شعره المشهور: وأسلمت وجهي لمن أسلمت **** له الأرض تحمل عذبا زلالا

_ (1) انظر صحيح البخاري، كتاب التفسير، 6/49_50.

دحاها فلما استوت شدَّها **** جميعا وأرسى عليها الجبالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت **** له المزن تحمل عذبا زلالا إذا هي سيقت إلى بلدةٍ **** أطاعت فصبت عليها سجالا ويقول: أرباً واحداً أم ألف رب **** أدين إن تقسمت الأمور هجرت اللات والعزى جميعاً **** كذلك يفعل الجلد الصبور بل إن كثيراً من كبار المفكرين الغربيين اهتدوا إلى الحق بسبب إجالتِهم أفكارَهم وبحثهم عن الحق. ومن نظر في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) _وقد كتبه ثلاثون من علماء الطبيعة والفلك ممن انتهت إليهم الرياسة في هذه الأمور_ومثله كتاب (كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك (الإنسان لا يقوم وحده) وترجم إلى العربية تحت عنوان (العلم يدعو إلى الإيمان) _يدرك أن العالِمَ الحقيقيَّ لا يكون إلا مؤمناً، وأن العاميَّ لا يكون إلا مؤمناً، وأن الإلحاد والكفر لا يكون إلا من أنصاف العلماء وأرباع العلماء؛ ممن تعلم قليلاً من العلم، وخسر بذلك الفطرة المؤمنة، ولم يصل إلى العلم الذي يدعو إلى الإيمان (1) . وبهذا يتبين لنا أن العقل يدل على وحدانية الله_عز وجل_. أما إذا أنكر العقل ذلك فإن الخلل في العقل نفسه، وصدق من قال: إذا ادعى عقلك إنكاره **** فأنكر العقل ودعواه ومن هنا يتبين لنا بطلان قول من قال: إن هذا الكون نشأ بالصدفة، أو أن الطبيعة هي الخالق.

_ (1) مستفاد من مذكرة للشيخ: د. ناصر القفاري، وانظر كتاب الله يتجلى في عصر العلم، تأليف نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبيعيات الأرض، أشرف على تحريره: جون كلوفرمونسيما، ترجمة د. الدمرداش عبد المجيد سرحان، راجعه وعلق عليه. د. محمد جمال الدين الفندي. وانظر كتاب العلم يدعو للإيمان، تأليف: كريسي موريسون، ترجمة محمد صالح الفلكي، والكتابان من منشورات دار القلم، بيروت.

إن هذه الدعاوى ليست إلا مكابرةً وعناداً لما هو متقرر بالمعقول والمنقول، فمن قال: إن هذا الكون نشأ عن طريق الصدفة يقال له: كيف نشأ هذا الكون الفسيح العظيم المتسق المتناسق عن طريق الصدفة؟ ! وخذ هذا المثال الذي نقله وحيد الدين خان عن العالم الأمريكي (كريسي موريسون) يبين فيه استحالة القول بوجود الكون مصادفة قال: =لو تناولت عشرة دراهم وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة، ثم رميتها في جيبك وخلطتها جيداً، ثم حاولت أن تخرج من الواحد إلى العشرة بالترتيب العددي، بحيث تلقي كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى، فبإمكانك أن تتناول الدرهم المكتوب عليه واحد في المحاولة الأولى هي واحد في المائة وإمكان أن تخرج الدراهم (1_2_3_4) بالترتيب هو واحد في عشرة آلاف، حتى أن الإمكان في أن تنجح في تناول الدراهم من (1_10) بالترتيب واحدٌ في بلايين من المحاولات+ (1) . وعلى ذلك فكم يستغرق بناء هذا الكون لو نشأ بالمصادفة والاتفاق؟ إن حساب ذلك بالطريقة نفسها يجعل هذا الاحتمال خيالاً يصعب حسابه فضلاً عن تصوره. إن ما في هذا الكون يحكي أنه إيجاد موجد حكيم عليم خبير، لكن الإنسان ظلوم جهول [قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ] (عبس: 17_19) (2) . أما القول بأن الطبيعة هي الخالق فتلك فرية عظيمة لا دليل عليها، وتهافتها واضح بيِّن لا يحتاج إلى أي رد بل إن تصور ذلك كافٍ في الرد على أصحابه (3) .

_ (1) انظر العقيدة في الله، للشيخ عمر الأشقر، ص74_75. (2) انظر العقيدة في الله ص74_75. (3) انظر تفصيل ذلك في المرجع السابق، ص74_98، وانظر إلى كتاب: العلم يتبرأ من نظرية دارون، لزياد أبو غنيمة.

4 ـ دلالة الحس

ومن تلك الدعاوي نظرية (دارون) التي حاول أصحابها أن يعللوا بها وجود الأحياء، وتزعم هذه النظرية أن أصل الإنسان حيوان صغير نشأ من الماء، ثم أخذت البيئة تفرض عليه من التغييرات في تكوينه، مما أدى إلى نشوء صفات جديدة في هذا الكائن، وأخذت هذه الصفات المكتسبة تورَّث في الأبناء حتى تحولت مجموع هذه الصفات الصغيرة الناشئة من البيئة عبر ملايين السنين إلى نشوء صفات كثيرة راقية جعلت ذلك المخلوق البدائي مخلوقاً أرقى، واستمر ذلك النشوء للصفات بفعل البيئة والارتقاء في المخلوقات حتى وصل إلى هذه المخلوقات التي انتهت بالإنسان. هذا هو ملخص تلك النظرية، وعوارها وزيفها واضح بيِّن (1) . وقد ثبت بطلانها حتى عند أهلها، ومما يقال في ذلك، أنه على فرض صحتها فمن الذي أنشأ ذلك الحيوان الصغير؟ ومن الذي جعله يتطور حتى وصل إلى ما وصل إليه؟ ! * * * 4 ـ دلالة الحس فالحس يدل بوضوح على وجود الله ووحدانيته_سبحانه وتعالى_والأدلة الحسية على ذلك كثيرة جدَّاً، ومنها: أ_إجابة الدعوات: ويعني بها إجابة دعوات الملهوفين والمكروبين وغيرهم، ممن يدعون الله _سبحانه وتعالى_ فيستجاب لهم، ويحصل لهم مقصودهم. والأمثلة على ذلك لا تحصى ولا تحصر، سواء كان ذلك في حق الأنبياء_عليهم السلام_أم في حق غيرهم. ومن ذلك ما قاله الله_سبحانه وتعالى_عن نوح_عليه السلام_: [فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ] (القمر: 10_12) .

_ (1) انظر العقيدة في الله ص79_92 ففيه تفصيل الرد على تلك الدعوى، وانظر العلم يتبرأ من نظرية دارون.

وما قَصَّهُ الله_سبحانه_عن يونس_عليه السلام_: [فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ] (الأنبياء: 87) فاستجاب دعاءه، ونجاه من بطن الحوت. وقال عن أيوب_عليه السلام_: [وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ] (ص:41_43) . وفي صحيح البخاري عن أنس÷قال: =إن أعرابيَّاً دخل يوم الجمعة والنبي"يخطب فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع لنا، فرفع النبي"يديه، فدعا، فثار السحاب كأمثال الجبال، فلم ينزل عن منبره_حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. وفي الجمعة الثانية قام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال؛ فادع الله لنا، فرفع يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت+ (1) . وما زالت إجابة الداعين أمراً مشهوداً إلى هذا اليوم لمن أتى بشرائط الإجابة، وكثيراً ما نسمع أن الناس ذهبوا للاستسقاء وقبل أن يخرجوا من المسجد إذا هم يمطرون. فإجابة الدعاء دليل قاطع على وحدانية الله_عز وجل_. ب_صدق الرسل_عليهم السلام_: وهذا دليل حسي واضح، فالرسل_عليهم السلام_هم أكمل البشر، قد بلَّغوا عن الله رسالاته، وقد اصطفاهم الله، واختارهم من بين الخلق، وأيَّدهم بالآيات البينات، ونصرهم، وجعل الغلبة لهم، والدولة على أعدائهم.

_ (1) انظر البخاري (1033) .

فالإنسان إزاء الأنبياء لا يملك إلا أن يقطع بصدقهم؛ إذ إن دعوى النبوة أعظم الدعاوى، ولا يدعيها إلا أصدق الناس أو أكذبهم، فالأنبياء هم أصدق الناس على الإطلاق؛ فظهور المعجزات على أيديهم، وتأييد الله لهم، وخذلانه لأعدائهم، وما جبلوا عليه من كريم الخلال، وحميد الخصال، كل ذلك يدل على صدقهم، وبالتالي نعلم أنهم مبعوثون من عند الله، وأنه_سبحانه_حق، وعبادته حق. جـ_ دلالة الأنفس: لقد صور الله الإنسان على أحسن صورة، وخَلَقَهُ في أحسن تقويم؛ كما قال_سبحانه وتعالى_[وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ] (التغابن: 3) . وكما قال_عز وجل_[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] (التين: 4) . ولو أن الإنسان أمعن النظر في نفسه وما فيها من عجائب صنع الله، ونظر ظاهره وما فيه من كمال خلقه، وأنه متميز عن سائر الحيوانات_لأدرك أن وراء ذلك رباً خالقاً حكيماً في خلقه، ولعلم أن هذا الخالق هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه. يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي×في تقرير هذا المعنى عند قوله_تعالى_: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا] (الشمس: 7) : =وعلى كلٍّ فالنفس آيةٌ كبيرة من آيات الله التي يحق الإقسام بها؛ فإنها في غاية اللطف، والخفة، سريعة التنقل، والحركة، والتغير، والتأثر، والانفعالات النفسية من الهمة، والإرادة، والقصد، والحب. وهي التي لولاها لكان البدن مجرد تمثالٍ لا فائدة فيه، وتسويتُها على ما هي عليه آيةٌ من آيات الله العظيمة. والمقصود أن نفس الإنسان من أعظم الأدلة على وجود الله وحده، ومن ثم تفرده بالعبادة+. د_ هداية المخلوقات: وهذا مشهد من مشاهد الحس الدالة على وحدانية الله_عز وجل_فلقد هدى الله الحيوان: ناطقه وبهيمه، وطيره ودوابه، وفصيحه وأعجمه إلى ما فيه صلاحُ معاشه وحاله. ويدخل تحت قوله_تعالى_: [رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] (طه:50) .

تلك الآية التي رد بها موسى_عليه السلام_على فرعون_يدخل تحتها من العجائب والغرائب ما لا يحصيه إلا الله_عز وجل_. فَمَن الذي هدى الإنسان ساعة ولادته إلى التقام ثدي أمه؟ ومن الذي أودع فيه معرفة عملية الرضاع؟ تلك العملية الشاقة التي تتطلب انقباضات متوالية من عضلات الوجه، واللسان، والعنق، وحركات متواصلة للفك الأسفل، والتنفس مع الأنف، كل ذلك يتم بهداية تامة وبدون سبق علم أو تجربة، فمن الذي ألهمه ذلك؟ إنه [رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) ] . ثم إن هدايته بعد أن يكبر إلى السعي في مصالحه من الضرب في الأرض، والسير فيها، كل ذلك من الهداية التامة العامة للمخلوقات. أما هداية الطير، والوحش، والدواب_فحدث ولا حرج، فلقد هداها الله إلى الأفعال العجيبة التي يعجز عنها الإنسان. وقد ذكر العلامة ابن القيم×في كتابه (شفاء العليل) أموراً عجيبة من هذا القبيل، فقد تحدث عن هداية النحل بما يأخذ بالألباب، ويزيد إيماناً برب الأرباب (1) . حيث تحدث عن اتخاذها اليعسوبَ أميراً، وعن طريقة ولادتها، ورعيها، ودقة تنظيمها، وتوزيعها المهام على فرق شتى، فمنها فرقة تلزم الملك ولا تفارقه، ومنها فرقة تهيِّيء الشمع وتصنعه، وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل. وإذا رأت النحل بينها نحلةً مهينةً بطالةً قطَّعَتْها، وقتلتها؛ حتى لا تفسد عليهن بقيةَ العمال، وتُعْديهِنَّ ببطالتها ومهانتها.

_ (1) انظر شفاء العليل، ص144_164.

ثم تحدث×عن طريقة بنائها البيوت، فقال: ثم يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية، كأنها سككٌ ومحالٌّ، وتبني بيوتها مسدسةً متساويةَ الأضلاع، كأنها قرأت كتاب =إقليدس+ حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها؛ لأن المطلوب من بناء الدُّور هو الوثاقة والسعة، والشكل المسدس دون سائر الأشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صار شكلاً مستديراً كاستدارة الرحى، ولا يبقى فيه فروج ولا خلل، ويشد بعضه بعضاً حتى يصير طبقاً واحداً محكماً، لا يدخل بين بيوته رؤوس الإبر، فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناءَ المحكمَ+. ثم تحدث عن طريقة خروجها للمرعى، وادخارها للكسب ثم قال: =وفي النحل كرامٌ لها سعيٌ وهمةٌ، واجتهادٌ، وفيها لئامٌ كسالى قليلةُ النفع مؤثرةٌ للبطالة؛ فالكرام دائماً تطردها وتنفيها عن الخلية+. وفي ختام حديثه عنها قال: =ولما كانت النحل من أنفع الحيوانات وأبركها، قد خُصت من وحي الرب_تعالى_وهدايته بما لم يَشْرَكْها فيه غيرُها، وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام والنور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام_كان أكثر الحيوان أعداءها، وكان أعداؤها من أقل الحيوانات منفعة وبركة، وهذه سنة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم+. ثم تحدث_أيضاً_عن هداية النمل (1) قائلاً: =وهدايتها من أعجب شيءٍ؛ فإن النملةَ الصغيرةَ تخرج من بيتها وتطلب قُوْتَها، وإن بعدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته، وساقته في طرق معوجة بعيدةٍ ذاتِ صعودٍ وهبوطٍ في غاية التوعر، حتى تصلَ إلى بيوتها فتخزن فيها أقواتها وقت الإمكان، فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين؛ لئلا ينبت، فإن كان ينبت مع فَلْقِهِ باثنتين فَلَقَتْه بأربع، فإذا أصابه بلل، وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يوماً ذا شمس، فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها، ثم أعادته إليها. ولا تتغذى منه نملة مما جمعه غيرها.

_ (1) انظر شفاء العليل، ص147_151.

ويكفي في هداية النمل ما قاله الله_سبحانه_في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها [يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ] (النمل: 18) . فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه مَنْ خاطبته، ثم بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما يثبته من اسم الجنس؛ إرادة للعموم، ثم أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم فيتحصنوا من العسكر، ثم أخبرت عن سبب الدخول؛ خشية أن تصيبهم معرةُ الجيش، فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك. والنمل من أحرص الحيوان، ويضرب بحرصه المثل، ولها صدق الشم، وبعد الهمة، وشدة الحرص، والجرأة على محاولة نقل ما هو أضعاف أضعاف وزنها. وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل، إلا أن لها رائداً يطلب الرزق، فإذا أوقف عليه أخبر أصحابه، فيخرجن مجتمعاتٍ، وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها غير مختلسة من الحب شيئاً لنفسها دون صواحبها. وهذا الهدهد من أهدى الحيوان، وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض، ولا يراه غيره. ومن هدايته ما قصه الله عنه في كتابه؛ مما قاله الهدهد لسليمان_عليه السلام_وقد فقده، وتوعده، فلما جاءه بادره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة، وخاطبه خطاباً هَيَّجه به على الإصغاء إليه والقبول منه فقال: [أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ] وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفْتُهُ بحيث أُحطتُ به، وهو خبر عظيم له شأن؛ فلذلك قال: [وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ] (النمل: 22) . والنبأ هو الخبر الذي شأن، والنفوس متطلعة إلى معرفته، ثم وصفه بأنه نبأ يقين لاشك فيه ولا ريب، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ اسْتَفْرَغَتْ قَلْبَ المُخبَر لتلقي الخبر، وأوْجَبَتْ له التشوقَ إلى سماعه ومعرفته، وهذا نوع من براعة الاستهلال، وخطاب التهييج.

ثم أخبر بباقي القصة عن بلقيس وقومها، وبين بطلان ما هم عليه من عبادة الشمس. وهذا الحمام من أعجب الحيوان هدايةً، قال الشافعي: أعقل الطير. وبُرُدُ الحمامِ هي التي تحمل الرسائل والكتب، وربما زادت قيمة الطير منها على قيمة المملوك والعبد؛ فإن الغرض الذي يحصل به لا يحصل بمملوك ولا بحيوان غيره. وهداية الحمام على قدر التعليم والتوطين، وهو موصوف باليمن والإلف للناس، ويحب الناس ويحبونه، ويألف المكان، ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه، وإن أساء إليه، ويعود إليه مسافات بعيدة، وربما صُدَّ فترك وطنه عشرَ حججٍ وهو ثابت على الوفاء حتى إذا وجد فرصة واستطاعةً عاد إليه. أما طريقة سِفاده وجمعه عِشَّه، واعتنائه ببيضه وصغاره_فهي من أعجب العجب، وقد ذكر ابن القيم في كتابه (شفاء العليل) أوجه شبه كثيرة بين الإنسان والحمام. ومن عجيب هداية الديك الشاب أنه إذا أُلْقِيَ له حبٌّ لم يأكلْه، حتى إذا هرم وشاخ أكله من غير تفريق، كما قال المدائني: إن إياس بن معاوية مر بديك ينقر حبَّاً ولا يفرقه فقال ينبغي أن يكون هرماً؛ فإن الديك الشاب يفرق الحب؛ ليجتمع الدجاج فتصيب منه، والهرم قد فنيت رغبته فليس له همة إلا نفسه. ومن عجيب أمر الثعلب أن ذئباً أكل أولاده وكان للذئب أولاد، وهناك زبية، فعمد الثعلب وألقى نفسه فيها، وحفر فيها سرداباً يخرج منه، ثم عمد إلى أولاد الذئب، فقتلهم وجلس ناحية ينتظر الذئب، فلما أقبل وعرف أنها فِعْلَتُه هرب قُدَّامه وهو يتبعه فألقى نفسه في الزبية، ثم خرج من السرداب، فألقى الذئب نفسه وراءه، فلم يجده ولم يطق الخروج، فقتله أهل الناحية. ومن عجيب أمره أنه رأى رجلاً ومعه دجاجتان، فاختفى له، وخطف إحداهما، وفَرَّ ثم أعمل فكره في أخذ الثانية، فتراءى لصاحبها من بعيد، وفي فمه ما يشبه الطائر، وأطمعه في استعادتها بأن تركه وفر، فظن الرجل أنها الدجاجة، فأسرع نحوها، فخالفه الثعلب إلى أختها فأخذها وذهب.

ومن هداية الحمار_وهو من أبلد الحيوان_أن الرجل يسير به، ويأتي به إلى منزله في البعد في ليلة مظلمة، فيعرف المنزل، فإذا خُلِّي جاء إليه. ثم إنه يُفرِّق بين الصوت الذي يُسْتَوْقَفُ به، وبين الصوت الذي يُحث به على السير. ومن عجيب أمر الفأرة أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلى الجرة فَنَقَصَ، وعَزَّ عليها الوصولُ إليه_ذهبت وحملت في أفواهها ماءً وَصَبَّتْهُ في الجرة؛ حتى يرتفع الزيت فتشربه. وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أموراً تنفعه في معاشه وأخلاقه، وصناعته، وحربه، وحزمه، وصبره. وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس، قال_تعالى_: [أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً] (الفرقان: 44) . قال أبو جعفر الباقر: =والله ما اقتصر على تشبيههم بالأنعام حتى جعلهم أضل سبيلاً منها+. قيل لرجل: مَنْ علمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخل به؟. قال: مَنْ علم الطير تغدو خماصاً كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها لا تسأم ذلك، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض. وقيل لآخر: مَنْ عَلَّمك السكونَ، والتحفظ، والتماوت حتى تظفر بإربك، فإذا ظفرت به وثبت وثوب الأسد على فريسته؟. فقال: الذي علم الهرة أن ترصد جحر الفأرة فلا تتحرك، ولا تتلوى، ولا تختلج، حتى كأنها ميتة، حتى إذا برزت الفأرة وَثَبَتْ عليها كالأسد. وقيل لآخر: مَنْ عَلَّمك حسن الإيثار والبذل والسماحة؟. قال: مَنْ علم الديك يصادف الحبة في الأرض وهو يحتاج إليها ولا يأكلها، بل يستدعي الدجاج، ويطلبهن طلباً حثيثاً حتى تجيء الواحدةُ منهن، فتلقطها وهو مسرور بذلك طيب النفس به، وإذا وضع له الحب الكثير فَرَّقه ها هنا وها هنا وإن لم يكن له دجاج؛ لأن طبعه قد ألف البذل والجود؛ فهو يرى أنه من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام.

ومَنْ علَّم الأسد إذا مشى وخاف أن يُقْتَفَى أثره ويُطلب؟ عَفَّى مِشْيَته بذنبه؟!. ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها، وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع؟ !. ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وَقْتُ ولادتها أن تأتي إلى الماء، فتلدَ فيه؛ لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة؛ لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان، وهي عالية، فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع، أو ينشق، فتأتي ماء وسطاً تضعه فيه يكون كالفراش اللين والوطاء الناعم؟ !. ومَنْ علم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر؟!. ومَنْ علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نُوَباً بين عينيه، فينام بإحداهما حتى إذا نعست الأخرى نام بها، وفتح النائمة حتى قيل فيه: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي **** بأخرى المنايا فهو يقظان نائم وهذا باب واسع جدَّاً، ويكفي فيه قوله_سبحانه وتعالى_: [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ] (الأنعام: 38) . قال مجاهد: =أمم أمثالكم+ أصناف مصنفة تُعْرف بأسمائها. وقال الزجاج: =أمم أمثالكم+ في أنها تبعث، وقال ابن قتيبة: =أمم أمثالكم+ في طلب الغذاء وابتغاء الرزق وتَوَقِّي المهالك، وقال سفيان بن عيينة: ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم؛ فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم يعدو كعدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي إليها الطعام الطيب لعافته، فإذا قام الرجل من رجيعه ولغت فيه؛ فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمةً لم يحفظ منها واحدة وإن أخطأ رجلٌ تروّاه وحفظه.

وهذا كله من أدل الدلائل على الخالق لها_سبحانه وتعالى_وعلى إتقان صنعه، وعجيب تدبيره، ولطيف حكمته؛ فإن فيما أودعها من غرائب المعارف، وغوامض الحيل، وحسن التدبير، والتَّأتي لما تريده_ما يستنطق الأفواه بالتسبيح، ويملأ القلوب من معرفته، ومعرفة حكمته، وقدرته، وما يعلم به كل عاقل أنه لم يخلق عبثاً، ولم يترك سدىً، وأن له حكمةً باهرةً، وآيةً ظاهرة، وبرهاناً قاطعاً، يدل على أنه رب كلِّ شيءٍ ومليكُه، وأنه المنفرد بكل كمالٍ دون خلقهِ، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم (1) . هـ _ دلالة الآفاق: ومن آياته الدالة على وحدانيتة دلالة الآفاق التي يراها كل أحدٍ؛ العالم والجاهل، المؤمن والكافر، فلو تأمل الإنسان بعين البصيرة والتدبر والتفكر_لأدرك عظمة مَنْ أنشأها، ولَدَعاه ذلك إلى عبادته وحده لا شريك له. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي×عند قوله تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] (فصلت:53) : =وقد فعل_تعالى_فإنه أرى عباده من الآيات ما به تبين أنه الحق، ولكن الله هو الموفق للإيمان من شاء، الخاذل لمن يشاء+ (2) . وقال×في موطن آخر_أيضاً_: =كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات، وتغلغل فكره في بدائع الكائنات_علم أنها خلقت للحق بالحق، وأنها صحائف آيات، وكتب براهين، ودلالات على جميع ما أخبر به عن نفسه ووحدانيته، وما أخبرت به الرسل عن اليوم الآخر، وأنها مدبرات، مسخرات، ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها، فتعرف أن العالَم العلويَّ والسفلي كلَّهم إليه مفتقرون، وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا هو ولا رب سواه+ (3) .

_ (1) انظر شفاء العليل، ص147_164. (2) الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده ص72_73. (3) الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده ص72_73.

وقال رحمه في موطن آخر: =فهذا خبره_تعالى_عن أمور مُسْتَقْبَلَةٍ أنه يُري عباده من الآيات والبراهين في الآفاق وفي الأنفس ما يدلهم على أن القرآن حق، والرسول حق، وما جاء به هو الحق+ (1) . وفي كل عصر من العصور يُطلع الله عباده على أمور عظيمة في هذا الكون الفسيح. وفي العصور المتأخرة ظهر العديد من الاكتشافات والمخترعات والحقائق العلمية، ولا يزال الباحثون يكتشفون في كل يوم سراً من أسرار هذا الكون العظيم، مما جعلهم يقفون حائرين واجمين معترفين بالتقصير والعجز، وأن هناك عوالمَ أخرى مجهولةً، وأخرى لم تكتشف بعد. وخلاصة القول في هذا أن كل ما في الآفاق يدل دلالة قاطعة على وجود مدبر حكيم، رب عليم، مستحق للعبادة، ولكن: إذا لم يكن للمرء عينٌ صحيحةٌ **** فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر و_عبودية الكائنات (2) : فالله_سبحانه_قد خلق جميع الكائنات؛ إنسها، وجنها، وملائكها، وحيوانها، وجمادها، ونباتها، وغيرها من الكائنات_لعبادته_سبحانه_وفطرها على توحيده، والاعتراف بألوهيته، والإقرار بفقرها وحاجتها وخضوعها وصمودِها له_جل وعلا_. فكل هذه الكائنات تقوم بعبادة الله_عز وجل_ولا يُخِلُّ بذلك إلا الإنسان المعاند الزائغ عن شرع الله_سبحانه وتعالى_المخالف لنظام هذا الكون المحكم البديع؛ الذي ما قام إلا على عبودية الله. هذا وتختلف العبوديات من مخلوق إلى مخلوق. فمن تلك العبوديات: عبودية الإنس، فهي أشرفها وأفضلها. وأشرف ما فيها عبوديةُ الأنبياء لربهم، وقيامهم بالدعوة والجهاد وغير ذلك، ثم عبودية أتباعهم وأتباع أتباعهم. ومن ذلك: عبودية الملائكة، والجن وهذا ليس بمستغرب. أما الغريب حقَّاً فهو عبودية الجمادات والحيوانات، التي يعتقد كثير من الناس أنها لا تعقل ولا تدرك، وليس لها أيُّ عبودية لله.

_ (1) الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده ص72_73. (2) انظر عبودية الكائنات لرب العالمين، للشيخ فريد التوني، دار الضياء، ص234، و245.

إن هذا الكون الواسع بما فيه من الكائنات كلّه يخضع لخالقه وبارئه، ويؤدي عبودية له_سبحانه وتعالى_فلقد ثبت لهذه الكائنات في الكتاب والسنة طاعاتٌ كثيرةٌ كالسجود، والتسبيح، والصلاة، والاستغفار، والإسلام، والإشفاق، وغيرها. فعن سجود هذه الكائنات يقول الله_عز وجل_: [أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ] (الحج: 18) . وليس بالضرورة أن يكون هذا السجود مثل سجود الآدميين من المسلمين؛ فسجود كلِّ أحدٍ بحسبه. وأما عن تسبيح الكائنات فذلك كما في قوله_تعالى_: [تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً] (الإسراء: 44) . فالكائنات كلها تسبح خالقها تسبيحاً لا نفقهه نحن البشر، وعدم معرفتنا به ليس دليلاً على نفيه؛ فلقد خص الله بعض خلقه بالاطلاع على تسبيح بعض الكائنات، وأفهمه تسبيحها كداود_عليه السلام_. أما صلاتُها فقد قال الله_تعالى_: [أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ] (النور: 41) . فكلها يصلي، ويسبح لله، وليس بالضرورة أن نفهم ذلك. أما عن استغفارها ففي حديث أبي الدرداء÷قال: سمعت رسول الله"يقول: =وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء+ (1) .

_ (1) ابن ماجه، 1/81 برقم (223) ، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع 2/1079 رقم (6297) .

أما عن إسلامها لله_تعالى_فقد قال_عز وجل_: [أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ] (آل عمران:83) . إلى غير ذلك من العبوديات المتنوعة التي لا يتسع المقام لذكرها (1) . وهناك كتاب صدر مؤخراً بعنوان (عبودية الكائنات لرب العالمين) (2) حيث تكلم مؤلفه على عبودية الكائنات بالتفصيل، ومن ضمن ما تلكم عليه: سجود الدواب، وإشفاقها من يوم القيامة، وراحتها من موت الفاجر، وعن كلام الدواب، كالبقرة، والجمل، والحيتانِ، والديك، والذئب، والفرس، والنمل، والهدهد. كما تحدث عن عبودية الشجر، وسجودها، وسماعها لأذان المؤذن، وتلبيتها في الحج أو العمرة، وعن ولاء الشجر وبرائه، وعن موقف الشجرة من النبي"وسلامها عليه، وانقيادها له، وحنينها إليه، وشهادتها له بالتوحيد، ومواقفها مع المسلمين، كما تحدث عن عبودية الجبال، وسجودها لله، وتسبيحها له، وعن تلبية الحجر، وسماعه للأذان، وعن خشية الجبال، وخوفها، وعرض الأمانة عليها، وسرورها، وفرحها بمن يذكر الله عليها، وعن مواقف الجبال مع بعض الأنبياء_عليهم السلام_. كما تحدث عن عبودية السموات والأرض وتسبيحها لله، وإنكارها قول النصارى: إن المسيح ابن الله، وبكائها على فراق المؤمنين الصالحين. وتحدث أيضاً عن عبودية الملائكة والإنس والجن، كل ذلك مقرون بالأدلة من الكتاب والسنة. ومن هنا يتبين لنا أن المخلوقاتِ مفتقرةٌ إلى الله_سبحانه وتعالى_=وأن فقرَها وحاجَتها إليه وصفٌ ذاتيٌ لهذه الموجودات المخلوقة، كما أن الغنى وصف ذاتي للرب الخالق+ (3) . فصمود الكائنات كلها وفقرها إلى الله يدل دلالة واضحة على وحدانيته_سبحانه وتعالى_.

_ (1) انظر جامع الرسائل لابن تيمية تحقيق د. محمد رشاد سالم، 1/1_45. (2) الكتاب لفريد التوني، وهو رسالة علمية. (3) مجموع الفتاوى لابن تيمية 2/9.

5 ـ دلالة أسمائه وصفاته

ز_اختلاف الطعوم والألوان والروائح في النبات: وهذا دليل حسي على وحدانية الله؛ فالماء ينزل من السماء عديم اللون والطعم والرائحة، ينزل على الأرض الجرداء، ثم يخرج_بإذن الله_من جَرَّاء ذلك نباتاتٌ مختلفة في اللون، والطعم، والرائحة، فبعضها حلو، وبعضها حامض، وبعضها مُزٌّ، وبعضها أخضرُ، وبعضها أصفرُ، وبعضها أسود. بل إن النوع الواحد من بعض الثمار متنوع تنوعاً عجيباً؛ ومن ذلك على سبيل المثال (العنب) فمنه جنات معروشات وغير معروشات، ومنه الحلو، ومنه الحامض، ومنه الحامض الحلو، ومنه الأخضر، ومنه الأحمر، ومنه الأسود، ومنه الطويل، ومنه المدور إلى غير ذلك. وقل مثل ذلك في النخل؛ فمنها ما تكون حلاوته بسراً أكثرَ من حلاوته رطباً والعكس بالعكس، ومنه الأسود، ومنه الأصفر، ومنه الطويل، ومنه المدور، كل ذلك وهو يسقى بماء واحد. فمن الذي فضَّل بعضها على بعض في الأكل؟ ومن الذي أودعها هذه المزايا من الألوان والأطعمة؟. إنه الله [وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى] (الأعلى: 3_5) . ح_ اختلاف الألسن: فنحن نرى اختلاف الألسن واللغات من شعب إلى شعب، ومن إنسان إلى إنسان، فمن الذي علم الإنسان البيان؟ ومن الذي يعلم تلك اللغات جميعاً، ويحصي ما يقولون فلا تختلط عليه؟. إنه الله الواحد الأحد. فاختلاف الألسن آية عظيمة تدل على وحدانيته_سبحانه وتعالى_ (1) . * * * 5 ـ دلالة أسمائه وصفاته (2) وهذه هي طريقة الخواص يستدلون بالله على أفعاله، فإن قيل: كيف يُسْتَدل بأسمائه وصفاته على استحقاقه للوحدانية، فإن ذلك لا يعهد في الاصطلاح؟

_ (1) انظر تفاصيل ما مضى في الجزء الأول من مفاتيح دار السعادة لابن القيم. (2) شرح العقيدة الطحاوية، ص95_96.

فالجواب: إن الله قد أودع الفطرة التي لم تتنجس بالجحود والتعطيل، ولا بالتشبيه والتمثيل أنه_سبحانه_الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسلُه، وما خفي عن الخلق من كماله أعظمُ مما عرفوه منه. ومَنْ كماله المقدس شهادتُه على كل شيء، واطِّلاعه عليه؛ بحيث لا يغيب عنه ذرة في السموات ولا في الأرض باطناً وظاهراً. ومن هذا شأنُه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به، وأن يعبدوا غيره، ويجعلوا معه إلهاً آخر؟!. وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك، ويؤيده، ويعلي شأنه، ويجيب دعوته، ويهلك عدوه، ويظهر على يديه من الآيات والبراهين ما يعجز عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه مفترٍ؟ !. فأنت ترى من خلال ما مضى أن الاستدلال جرى باسم الله (الشهيد) لتقرير الوحدانية وصدق الرسل. أما تقرير الوحدانية فإن الإيمان باسم الشهيد يقتضي المراقبة الدائمة لله_عز وجل_فكيف يليق بالعبد أن يعصي الله وهو يعلم أن الله مطلع عليه في كل أحواله؟. وهذه المراقبة هي أعلى مراتب الدين؛ لأنها مرتبة الإحسان. أما صدق الرسل من خلال الإيمان بهذا الاسم (الشهيد) ؟ فوجهه أنَّ مَنْ كمال الله_سبحانه_أنه لا يعزب عنه شيءٌ، فكيف يليق بمن هذا شأنه أن يقر من يكذب عليه؟ بل ويؤيده وينصره ويهلك عدوه، بل ويعلي ذكره ودعوته؟ !. هذا لا يليق، فلو كان الرسل كاذبين لأخذهم الله كما أخذ الدجالين في الماضي والحاضر كمسيلمة والقادياني وغيرهما. ومن هنا نعلم صدق الرسل من خلال الإيمان باسم (الشهيد) . ولهذا قال بعض أهل العلم إن إنكار رسالة الرسول"جحد للرب بالكلية. وهذا باب من أبواب الاستدلال على وحدانية الله. والقرآن مملوء من هذه الطريق، ومن الأمثلة على ذلك قوله

ثمرات الإيمان بالله

_تعالى_: [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] (الحشر: 23) . * * * ثمرات الإيمان بالله للإيمان بالله ثمرات جليلة، وفوائدة جمة، وفضائل كثيرة، منها: 1_الأمن التام والاهتداء التام: فبحسب الإيمان يحصل الأمن والاهتداء في الدنيا والبرزخ والآخرة قال_عز وجل_: [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ] (الأنعام: 82) . 2_الإيمان بالله طاعة لله_عز وجل_: فالله أمرنا بالإيمان به، وطاعتُه واجبةٌ، وهي أصل كل خير، قال_تعالى_: [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ] (البقرة: 136) . 3_الاستخلاف في الأرض والتمكين والعزة: قال_عز وجل_: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً] (النور: 55) . 4_دخول الجنان والنجاة من النيران: قال_تعالى_: [إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] (محمد: 12) . 5_الحياة الطيبة: فالحياة الطيبة الحافلة بكل ما هو طيب_إنما هي ثمرة من ثمرات الإيمان بالله_عز وجل_[مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً] (النحل: 97) .

قال ابن كثير×في شرح هذه الآية: =وهذا وعد من الله_تعالى_لمن عمل صالحاً وهو العمل المتابع لكتاب الله_تعالى_وسنة نبيه"من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وأن هذا المأمور به مشروع من عند الله_بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الآخرة. والحياة الطيبة تشتمل على وجوه الراحة من أي جهة كانت+ (1) . 6_حلول الخيرات ونزول البركات: قال_تعالى_: [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] (الأعراف: 96) . 7_الهداية لكل خير: قال _تعالى_: [وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ] (التغابن:11) . وقال: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ] (يونس:9) . 8_زيادة الإيمان والثبات عليه: فالمؤمنون يتقلبون من نعمة إلى نعمة، وأعظم نعمة يجدونها من الإيمان بالله هي أن يثبتهم الله على الحق، ويزيد إيمانهم، فالثبات على الإيمان سبب لزيادته قال_تعالى_: [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] (محمد: 17) . 9_الفوز بولاية الله_عز وجل_: وأكرم بها من ولاية، قال_تعالى_: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11) ] (محمد: 11) . 10_السلامة من الخسارة: قال_تعالى_: [وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ] (العصر: 1_3) . 11_الإيمان بالله سبب لدفاع الله عن أهله: قال_عز وجل_[إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا] (الحج: 38) .

_ (1) تفسير ابن كثير 2/566.

12_تكفير السيئات: قال_تعالى_: [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ] (محمد:2) . 13_الرفعة والعلو: قال_تعالى_[يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] (المجادلة: 11) . 14_إخلاص العمل: فلا يمكن للعبد أن يقوم بالإخلاص لله، ولعباد الله، ونصيحتهم على وجه الكمال إلا بالإيمان. 15_قوة التوكل: فالإيمان بالله يوجب للعبد قوة التوكل على الله، [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] (الطلاق: 3) . 16_الشجاعة: فالإيمان بالله يبعث على الشجاعة والإقدام؛ لأنه يملأ قلب المؤمن بالخوف من الله، والخشية له، وتعظيمه، وإجلاله. وإذا كان كذلك ذهب خوف الخلق من قلبه كليةً؛ فالجزاء من جنس العمل؛ فمن خاف الله آمنه من كل شيء، وجعل مخاوفه أمناً والعكس بالعكس. 17_حسن الخلق: فالإيمان يدعو إلى حسن الخلق مع جميع طبقات الناس، وإذا ضعف الإيمان أو نقص أو انحرف أثَّر ذلك في أخلاق العبد انحرافاً بحسب بُعْده عن الإيمان. 18_الإعانة على تحمل المشاق: فالإيمان أكبر عون على تحمل المشاق، والقيام بالطاعات، وترك الفواحش والمنكرات. 19_الذكر الحسن: فالإيمان يوجب لصاحبه أن يكون معتبراً عند الخلق أميناً. 20_عزة النفس: فالإيمان يوجب للعبد العفة، وعزة النفس، والترفع عن إراقة ماء الوجه؛ تذللاً للمخلوقين. 21_أن الإيمان هو السبب الوحيد للقيام بذروة سنام الإسلام وهو الجهاد البدني والمالي والقولي في سبيل الله. هذا شيء من ثمرات الإيمان، وبالجملة فخير الدنيا والآخرة كله فرع عن الإيمان، ومترتب عليه، والهلاك والنقصان إنما يكون بفقد، الإيمان، أو نقصه (1) . * * *

_ (1) انظر تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، لابن سعدي، 130_134.

ما ضد الإيمان؟

ما ضد الإيمان؟ يضاد الإيمان بالله_سبحانه وتعالى_الكفر بالله، أو بأي نوع من أنواع التوحيد، أو أن يأتي الإنسان بأي ناقض من نواقض الإسلام. وفي هذا الموضع سيكون الحديث عن ظاهرة خطيرة تنافي الإيمان بالله، وتعارضه معارضة كلية، ألا وهي ظاهرة الإلحاد، تلك الظاهرة القديمة الجديدة، فما معنى الإلحاد؟ وما أسبابه؟ وكيف دخل بلاد المسلمين؟ وما آثاره؟. =معنى الإلحاد+ (1) : الإلحاد في لغة العرب: هو الميل. وفي الشرع: هو الميل عما يجب اعتقاده أو عمله. المقصود بالإلحاد هنا الكفر بالله، والميل عن طريق أهل الإيمان والرشد، والتكذيب بالبعث، والجنة، والنار، وتكريس الحياة كلها للدنيا فقط، وتكذيب الرسل، وإنكار وجود الرب_تبارك وتعالى_. =انتشاره+: الإلحاد اليوم أصبح ظاهرة عالمية، فالعالم الغربي في أوربا وأمريكا_وإن كان وارثاً في الظاهرة للعقيدة النصرانية التي تؤمن بالبعث والجنة والنار_إلا أنه_في الأغلب_ترك هذه العقيدة الآن وأصبح إيمان الناس هناك بالحياة الدنيا فحسب، وأصبحت الكنيسة مجرد تراثٍ تافهٍ جداً؛ وقد أصبح الإلحاد هو الدين الرسمي المنصوص عليه في كل دساتير البلدان الأوروبية والأمريكية، ويعبر عن ذلك بالعلمانية تارة، وباللادينية أخرى. أما في الشرق فقد قامت أكبر دولة على الإلحاد، وهي الدولة الروسية، التي تحمل العقيدة الشيوعية، التي تحمل في بنودها رفض الغيب، والنظر إلى الحياة كلها وفي جميع الجوانب من منظور مادي بحت.

_ (1) انظر الإلحاد أسباب هذه الظاهرة وطرق علاجها، للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، ص8_9.

=أسبابه+ (1) : لقد انتشر الإلحاد ومد رواقه في كثير من بلدان العالم، ومنذ مائتي عام لم تكن مشكلة الإلحاد بهذه الحدة والانتشار، ولكن في القرنين الأخيرين ظهرت عوامل عديدةٌ جعلت من الإلحاد والكفر ديناً عامَّاً منتشراً. وتلك العوامل منها ما يعود إلى المجتمع الذي عاشت فيه منها ما يعود إلى شخصيات مؤسسيها المنحرفة. وفيما يلي ذكرٌ لشيء من تلك الأسباب بإجمال؛ إذ المقام ليس مقامَ بَسْطِها، فمن ذلك: 1_أنها كانت ردة فعل للطغيان الكنسي، الذي حارب العلم، وحارب العقل، وأعان الحكام الظلمة، ومَكَّنَ للخرافة، وفرض على الناس الضرائب والعشور، وما إلى ذلك مما قامت به الكنيسة الأوروبية. 2_مظالم العالم الرأسمالي، فكان أن قامت الحركة الإلحادية الشيوعية كردة فعل_أيضاً_للرأسمالية. 3_كثرة المشكلات في المجتمع الأوروبي، وفقدان التوازن فيه اجتماعياً واقتصادياً خصوصاً في القرنين السابعَ عشرَ والثامنَ عشرَ. 4_غياب المنهج الصحيح؛ وهو دين الإسلام عن الساحة التي نشأ فيها الإلحاد، وتقصير المسلمين في أداء رسالتهم في قوامة المجتمع البشري، وانتشاله من الهاوية. 5_كثرة الاتجاهات، والنظريات، والمباديء التي وجدت في المجتمع الأوروبي. 6_الخواء الروحي لدى أوروبا؛ إذ الكنيسة لا تقدم منهجاً يزكي النفس، ويجلب السعادة والطمأنينة للأفراد والمجتمعات؛ مما جعل النفوس تتعلق بخيط العنكبوت، وتتشبث بعود الثمام؛ لتنجو مما هي فيه من الحيرة، والاضطراب، والقلق.

_ (1) انظر المرجع السابق، ص10_18، وانظر إلى كتاب: بعض أسباب الإلحاد وأثر الإيمان بالله تعالى، للدكتور عبد الحليم أحمدي، وانظر إلى: نقد أصول الشيوعية، للشيخ صالح بن سعد اللحيدان، ص40، والشيوعية خلاصة ضروب الكر والموبقات، لأحمد عبد الغفور عطار، ص31_32، وحكم الاشتراكية في الإسلام، للشيخ عبد العزيز البدري، ص58، وانظر الشيوعية للكاتب.

7_الاستعمار وما خلَّفه من دمار؛ فله أثره الواضح في انحطاط الشعوب المستعمرة، وذلك عن طريق الكتب، وقفل باب الحرية، الأمر الذي أفسح المجال للإلحاد. 8_المكر اليهودي على العالم كله، وتآمره عليه لإفساده؛ تميهداً للسيطرة عليه، حيث استغلوا هذه المذاهب ومكنوا لها. 9_الانقلاب الصناعي، وما يقوم به الشيوعيون من بحثٍ علميٍّ جادٍّ مستندٍ على أدلةٍ مغريةٍ تقول: بأن الدين خرافة. 10_ملذات الحياة، ومباهج الحضارة، ونسيان الخالق؛ فلقد فتح العلمُ الماديُّ أبواباً عظيمةً من أبواب الرفاهية والترف، فالمراكب الفارهة الفخمة؛ من سيارات، وقطارات، وبواخرَ وطائراتٍ، كذلك الملابس، والمطاعم، ووسائل التسلية، كل ذلك جعل الغفلة تستحكم على النفوس ولا تشعر بالعاقبة، مما فتح المجال لترويج أي مبدأ. 11_انحراف مؤسسي الشيوعية، وشذوذهم؛ فهذا ماركس اليهودي_على سبيل المثال_كان حبراً يهودياً، وكان مُخففاً في شؤون حياته الخاصة، وكان ذا طبيعة ميالة للهدم والفساد. أضف إلى ذلك ما كان عليه من فسادٍ خلقي وسلوكي، كذلك موت ابنتيه منتحرتين، كل هذه العوامل تحركت في نفس هذا المجرم، فأخرجت أكلَها النتنَ القبيحَ. وقل مثل ذلك أو أشد في شأن زعماء الشيوعية كلينين، وستالين، وخرتشوف، وغيرهم. وبالجملة فأقل ما يقال عن الإلحاد أنه عقوبةٌ إلهيةٌ للبشرية بسبب تماديها في الغواية والضلال. =كيف دخل الإلحاد بلاد المسلمين+؟ (1) : لقد دخل الإلحاد في كثير من بلاد المسلمين وما كان له أن يدخل، إلا أن هناك أسباباً عديدة مكنت لدخوله في بلاد المسلمين منها:

_ (1) انظر السرطان الأحمر، د. عبد الله عزام، من ص99_106، والإلحاد أسباب هذه الظاهرة وطرق علاجها، والشيوعية للكاتب.

1_انحراف كثير من المسلمين عن دينهم، ونسيانهم حظَّاً ما ذُكِّروا به، وإلا فإن الصبر والتقوى كفيلان برد كل باطل [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] (آل عمران: 120) . 2_هزيمة العالم الإسلامي أمام الهجمة الأوروبية، فما كاد الأوروبيون يمتلكون القوة المادية، ويستخدمون الآلة، ويبنون المصانع_حتى اتجهوا إلى دول العالم الثالث؛ بحثاً عن الأسواق لبيع منتجاتهم الصناعي، وجلباً للمواد الخام اللازمة للصناعة. ولما كانت هذه الدول تطمع في الحصول على ما تريد بأبخس الأثمان، أو بلا ثمن أصلاً_فإنها استخدمت قوتها العسكرية. ولما كان العالم الإسلامي في غاية التخلف عسكرياً، وسياسياً وصناعياً_لم يصمد أمام تلك الهجمة، وكان للهزيمة العسكرية أثرُها في زعزعة العقيدة، ووجود الشعور بالنقص، وتقليد الغالب، والتشبه بأخلاقه؛ ظناً منهم_لفرط جهلهم_أن أوروبا لم تتطور إلا عندما اعتنقت الإلحاد، ورفضت الدين. 3_الاستعمار الغربي لكثير من بلاد المسلمين؛ فلقد عانى المسلمون من الاستعمار وويلاته، حيث امتص الغرب دماء المسلمين، وخيراتهم، وأوطانهم. 4_تركيز الغرب على إفساد التعليم، والإعلام، والمرأة، وتشويه صورة علماء المسلمين، مع الحرص على نشر الفوضى الجنسية، والإباحية والعري، حيث غرق كثير من الشباب في هذا المستنقع الآسن، والإلحادُ لا يُفَرَّخ إلا في مثل هذا الجو. 5_انحسار عقيدة الولاء والبراء عند كثير من المسلمين. 6_انتشار الجهل بدين الإسلام. 7_انتشار المذاهب الهدامة، والفرق الضالة، والطرق الصوفية المخذلة؛ التي تقوم على الدجل، والخرافة، وعبادة القبور والمبالغة في قصص الكرامات، كل ذلك استغله الملاحدة، ونفذوا من خلاله إلى الطعن في الدين.

8_الابتعاث وما فيه من مفاسد؛ حيث يذهب إلى بلاد الكفر مَنْ هو خالي الوفاض في الغالب، فلا علم لديه، ولا ورع يزمُّه، ولا تقوى تردعه، فيعيش في تلك البلاد ويتأثر بما فيها من أفكار وأخلاق، وربما رجع بشهادة الدكتوراه بعد أن يفقد شهادة أن لا إله إلا الله. 9_التقصير في جانب الدعوة إلى الله. 10_سقوط الخلافة الإسلامية. 11_ترك فريضة الجهاد، والركون إلى ملذات الدنيا، والإخلاد إلى الراحة. =الآثار المترتبة على الإلحاد+ (1) : للإلحاد والكفر آثار سيئة، وثمرات منتنة على الأفراد والجماعات. فالأمم الكافرة تعيش حياة صعبة معقدة، ولا يجدون حلاً لمشكلاتهم، فهم يعاقبون في هذه الدنيا أشد أنواع العقوبات بالإضافة إلى ما سيلقونه يوم القيامة من النكال والعذاب والخلود في النار_إن ماتوا على كفرهم_. وفيما يلي إجمال للآثار المترتبة على الإلحاد: 1_القلق النفسي، والاضطراب، والحرمان من طمأنينة القلب، وسكون النفس. قال_سبحانه وتعالى_: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى] (طه: 124) . كيف لا يصيب الملاحدة الهم والغم والقلق وفي داخل كل إنسان أسئلة محيرة؟ مَنْ خَلَق الحياة؟ وما نهايتها؟ وما بدايتها؟ وما سر هذه الروح التي لو خرجت لأصبح الإنسان جماداً؟. من يجيب عن تلك التساؤلات؟ آلشيوعية؟ ! أنى لها؟ !. ثم إن هذه الأسئلة قد تهدأ في بعض الأحيان بسبب مشاغل الحياة إلا أنها ما تلبث أن تعود، وما نراه اليوم من كثرة الانتحارات، وإدمان المخدرات دليل على ذلك.

_ (1) انظر الكيد الأحمر للشيخ عبد الرحمن حنبكة الميداني، ص553 وما بعدها، والإلحاد أسباب هذه الظاهرة وأسباب علاجها للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، ص20_33.

2_الأنانية والفردية؛ نظراً لاشتغال كل فرد بنفسه؛ فلا رحمة ولا شفقة ولا عطف ولا حنان؛ أين ذلك كله من الرحمة في الإسلام؟ كما قال النبي_عليه الصلاة والسلام_: =لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه+ (1) . 3_حب الجريمة؛ وهذا لا يحتاج إلى دليل فواقع الحياة في الغرب، ومعدلات السرقة والخطف_شاهد على ذلك. 4_هدم النظام الأسري؛ وذلك أن الأسرة الكافرة تعيش في تفكك وتشرذم وضياع. 5_فساد المجتمع؛ إذ أن فساده من فساد الأسرة. 6_الرغبة في الانتحار؛ تخلصاً من الحياة: والغريب في الأمر أن أكثرية المنتحرين ليسوا من الفقراء حتى يقال بسبب فقرهم، بل من الأغنياء المترفين، ومن الأطباء، بل ومن الأطباء النفسانيين الذي يظن بهم أنهم يجلبون السعادة للناس!. والغريب أن الانتحار في بعض بلدان الغرب له مؤيدون، وهناك كتب تعين الذين يريدون الانتحار، وتبين لهم الطرق المناسبة! (2) . 7_إرادة الانتقام، والظمأ النفسي للتشفي من كل موجود. 8_شيوع الكراهية والبغضاء. 9_انعدام الثقة بين الناس؛ فكل شخص يخاف من أقرب الناس إليه، ولا أدل على ذلك مما حصل في ألمانيا الشرقية عندما انهارت فيها الشيوعية، حيث ذهب الناس إلى أقسام الشرطة؛ لينظروا ما كتب عنهم من تقريرات من خلال العمليات التجسسية، فوجد كثير منهم أن الذي كتب عنه التقرير أمُّه أو أختُه أو زوجتُه أو صديقُه!. 10_شيوع الأوهام والمخاوف. 11_الإجرام السياسي: وهو من أعظم آثار الإلحاد؛ ذلك أن الأخلاق المادية الإلحادية التي جعلت قلب الإنسان يمتليء بالقسوة_دفعته إلى تطبيق ذلك عملياً، لذلك رأينا الدول الكبرى كيف تفعل بالدول المُسْتَعْمَرة من الإهانة، والإذلال، والقتل، والتشريد.

_ (1) رواه البخاري رقم (13) ، ومسلم رقم (45) . (2) انظر إلى كتاب: التوبة وظيفة العمر للكاتب، ففيه تفصيل لذلك.

ولا أدل على ذلك مما فعله ستالين إبَّان فترة حكمه؛ حيث قتل في تلك المدة أكثر من ثلاثين مليوناً. هذا شيء من آثار الإلحاد المدمرة. ومن خلال ذلك يتبين لنا مدى ما تصل إليه البشرية عندما تبتعد عن وحي السماء، ويتبين لنا_أيضاً_مدى حاجتها إلى المنهج الصحيح الذي يقودها إلى سعادة الدارين. ولا يتم ذلك إلا بالجد، والاجتهاد في الدعوة إلى الله، وبيان محاسن الإسلام، والتصدي لشبهات الملاحدة، مع العناية بتربية الناس على العقيدة الصحيحة، والأخلاق القويمة المستمدة من مشكاة الوحي، فيهدي الله بذلك من شاء هدايته ممن سبقت له الحسنى. * * *

توحيد الألوهية

توحيد الألوهية تأليف الشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فغير خافٍ على من عنده أدنى إلمام بعلم العقيدة ما لتوحيد الألوهية من الأهمية؛ فهو توحيد العبادةِ، والعبادةُ هي الغاية المرضية والمحبوبة لله عز وجل وهي الغاية العظمى والمقصود الأسمى؛ فلأجلها خلقت الجنة والنار، وقام سوق الجهاد بين المؤمنين والكفار، ولأجلها أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل. ثم إن توحيد الألوهية دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، ومن اقتفى أثرهم من العلماء، والدعاة والمصلحين. وفيما يلي من صفحات سيكون الحديث عن توحيد الألوهية، وذلك من خلال المباحث التالية: _تعريف توحيد الألوهية. _أسماؤه الأخرى. _أهمية توحيد الألوهية. _أدلته. _أركانه. _تعريف العبادة لغةً، واصطلاحاً. _الفرق بين العبادة وتوحيد العبادة. _متى تقبل العبادة؟. _أهمية الإخلاص والمتابعة. _أركان العبادة. _أيُّهما يغلب، الرجاء أو الخوف؟. _الخوف الواجب والخوف المستحب. _أنواع العبادة. _عبودية الخلق لله عز وجل. _فضائل توحيد الألوهية. _أسباب نمو التوحيد في القلب. _طرق الدعوة إلى توحيد الألوهية في القرآن الكريم. _علاقة توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية في القرآن الكريم. _ما ضد توحيد الألوهية؟. _الفرق التي أشركت في توحيد الألوهية. هذا ما تيسر جمعه وتقييده في هذا الباب، فأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن ينفع بهذه الصفحات، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. محمد بن إبراهيم الحمد الزلفي ص. ب: 460 www.toislam.net

تعريف توحيد الألوهية

تعريف توحيد الألوهية عرف العلماء توحيد الألوهية بتعريفات متقاربة، إلا أن بعضها قد يكون أطول من بعض، فمن تلك التعريفات مايلي: 1_هو إفراد الله بأفعال العباد. 2_هو إفراد الله بالعبادة. 3_هو إفراد الله_تعالى_بجميع أنواع العبادة؛ الظاهرة، والباطنة، قولاً، وعملاً، ونفي العبادة عن كل من سوى الله_تعالى_كائناً من كان (1) . 4_وعرفه الشيخ عبد الرحمن بن سعدي×بتعريف جامع ذكر فيه حد هذا التعريف، وتفسيره، وأركانه، فقال: =فأما حدُّه، وتفسيره، وأركانه فهو أن يعلم، ويعترف على وجه العلم، واليقين أن الله هو المألوه وحده المعبود على الحقيقة، وأن صفات الألوهية ومعانيها ليست موجودة بأحد من المخلوقات، ولا يستحقها إلا الله_تعالى_. فإذا عرف ذلك واعترف به حقَّاً أفرده بالعبادة كلها؛ الظاهرة، والباطنة، فيقوم بشرائع الإسلام الظاهرة: كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والقيام بحقوق الله، وحقوق خلقه. ويقوم بأصول الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره، وشره لله. لا يقصد به غرضاً من الأغراض غير رضا ربِّه، وطلب ثوابه، متابعاً في ذلك رسول الله". فعقيدته ما دل عليه الكتاب والسنة، وأعماله وأفعاله ما شرعه الله ورسوله، وأخلاقه، وآدابه الاقتداءُ بنبيه"في هديه، وسمته، وكل أحواله (2) . قال الشيخ حافظ الحكمي×عن هذا النوع في منظومته سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد: هذا وثاني نوعي التوحيد **** إفرادُ ربِّ العرش عن نديد أن تعبد الله إلهاً واحداً **** معترفاً بحقه لا جاحد (3)

_ (1) انظر أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة المنصورة للشيخ حافظ الحكمي، ص51. (2) انظر: الحق الواضح المبين لابن سعدي 112_113 والفتاوى السعدية لابن سعدي ص10_11، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في العقيدة د. عبد الرزاق العباد 151_152. (3) سلم الوصول على علم الأصول، للشيخ حافظ الحكمي ص29.

أسماؤه الأخرى

أسماؤه الأخرى (1) توحيد الألوهية يسمى بعدة أسماء منها: 1_توحيد الألوهية كما مر وسمي بذلك، باعتبار إضافته إلى الله، أو باعتبار الموحِّد، ولأنه مبني على إخلاص التأله، وهو أشد المحبة لله وحده، وذلك يستلزم إخلاص العبادة. 2_توحيد العبادة؛ باعتبار إضافته إلى الموحِّد وهو العبد، ولتضمنه إخلاص العبادة لله وحده. 3_توحيد الإرادة؛ لتضمنه الإخلاص، وتوحيد الإرادة والمراد، فهو مبني على إرادة وجه الله بالأعمال. 4_توحيد القصد؛ لأنه مبنيٌّ على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده. 5_التوحيد الطلبي؛ لتضمنه الطلب، والدعاء من العبد لله. 6_التوحيد الفعلي؛ لتضمنه لأفعال القلوب والجوارح. 7_توحيد العمل؛ لأنه مبني على إخلاص العمل لله وحده. أهميته توحيد الألوهية أهم أنواع التوحيد، فمن أجل تحقيقه أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، وسلت سيوف الجهاد، وفرق بين المؤمنين والكافرين. يقول الشيخ حافظ الحكمي عن أهميته في منظومته: وهو الذي به الإله أرْسلا **** رسله يدعون إليه أولا وأنزل الكتابَ والتبيانا **** من أجله وفرق الفرقانا وكلف الله الرسولَ المجتبي **** قتال من عنه تولى وأبى حتى يكونَ الدينُ خالصاً له **** سرا وجهرا دقه وجهله وهكذا أمته قد كلفوا **** بذا وفي نص الكتاب وصفوا (2) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية×مبيناً أهمية توحيد العبادة: =وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له، التي خلق الخلق لها_كما قال الله_تعالى_: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) . وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه: [اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ] (الأعراف: 59) .

_ (1) انظر تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله ص38. (2) سلم الوصول ص29_30.

إلى أن قال×: =وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه فقال_تعالى_: [وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ] (الأنبياء: 19، 20) . وذم المستكبرين عنها بقوله: [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] (غافر: 60) . ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال_تعالى_: [عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً] (الإنسان:6) وقال: [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً] (الفرقان: 63) + (1) . وقال×في موطن آخر: =واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً ليس له نظير فيقاس عليه، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة. فإن حقيقةَ العبدِ قلبُه وروحُه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن بالدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولابد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه، ولو حصل للعبد لذاتٌ أو سرورٌ بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ غير منعمٍ ولا ملتذٍ له، بل قد يؤذيه اتصالُه به، ووجوده عنده، ويضره ذلك. وأما إلهه فلابد له منه في كل حال، وكل وقت، وأينما كان فهو معه، ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل": [لا أُحِبُّ الآفِلِينَ] (الأنعام: 76) .

_ (1) العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص39_40 طبعة المكتب الإسلامي.

وكان أعظم آية في القرآن الكريم: [اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ] (البقرة: 255) + (1) . وقال×: =فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه ومن عبد غير الله وإن أحبه، وحصل به مودة في الحياة الدنيا، ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل الطعام المسموم+ (2) . وقال×: =واعلم أن كل من أحب شيئاً لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سبباً لعذابه+ (3) . وقال: =فمن أحب شيئاً لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد، فإن فقد عُذِّب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثرُ مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار بالاستقراء. وكل من أحب شيئاً دون الله لغير الله فإن مضرته أكثرُ من نفعه؛ فصارت المخلوقات وبالاً عليه، إلا ما كان لله وفي الله؛ فإنه كمال وجمال للعبد. وهذا معنى ما يروى عن النبي"أنه قال: =الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه+ (4) (5) . وقال الشيخ ابن سعدي×مبيناً أهمية هذا النوع: =وهذا الأصل أعظم الأصول على الإطلاق، وأكملها، وأفضلها، وأوجبها، وألزمها لصلاح الإنسانية، وهو الذي خلق الله الجنَّ والإنسَ لأجله، وخلق المخلوقات، وشرع الشرائعَ لقيامه، وبوجوده يكون الصلاح، وبفقده يكون الشر والفساد، وجميع الآيات القرآنية إما أمر بحق من حقوقه، أو نهي عن ضده، أو إقامة حجة عليه، أو بيان جزاء أهله في الدنيا والآخرة، أو بيان الفرق بينهم وبين المشركين+ (6) .

_ (1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/24_25. (2) مجموع الفتاوى 1/24. (3) مجموع الفتاوى 1/28. (4) مجموع الفتاوى 1/29. (5) أخرجه الترمذي (2322) ، وابن ماجه (4112) ، وقال الترمذي حسن غريب، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (3414) . (6) انظر: القواعد الحسان لتفسير القرآن لابن سعدي، ص192.

أدلة توحيد الألوهية

ومما يدل على أهميته أن قبول الأعمال متوقف عليه، وأنه يتضمن جميع أنواع التوحيد فكلها تدخل فيه؛ فمن اعتقده فهو معتقد لغيره من الربوبية والأسماء والصفات، ومن اكتفى بغيره دونه لم يدخل في دين الإسلام. أدلة توحيد الألوهية لقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة، وتنوعت دلالتها في وجوب إفراد الله بالعبادة؛ فتارة تأتي نصوص الكتاب آمرةً بتوحيد الله أمراً مباشراً، وتارة تأتي مبينةً الغاية من خلق الجن والإنس، وتارة تأتي موضحةً الهدف من إسال الرسل وإنزال الكتب، وتارة تأتي محذرةً من مخالفته، وتارة تأتي لبيان ثواب من عمل به في الدنيا والآخرة، وتارة لبيان عقوبة من تركه، وتخلى عنه، أو ناوأه، وحارب أهله.

فمن تلك الأدلة من الكتاب والسنة على وجود إفراد الله بالعبادة قوله_تعالى_: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة: 21) ، وقوله: [فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ] (هود:123) ، وقوله: [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] (قريش: 3) ، وقوله: [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً] (النساء: 36) ، وقوله: [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً] (الأنعام: 151) ، وقوله: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ] (الإسراء: 23) ، وقوله: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) ، وقوله: [وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً] (الإسراء: 39) ، وقوله: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (الفاتحة: 5) ، وقوله: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء: 25) وقوله: [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] (النحل:36) . ومن السنة ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن معاذ÷قال: كنت رديف النبي"على حمار فقال لي: =يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟. قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً. قلت: أفلا أبشر الناس؟. قال: لا تبشرهم فيتكلوا+ (1) .

_ (1) البخاري 8/164، ومسلم 1/58، والترمذي 5/26.

أركان توحيد الألوهية

أركان توحيد الألوهية (1) توحيد الألوهية يقوم على أركان ثلاثة هي: 1_توحيد الإخلاص: ويسمى توحيد المراد، فلا يكون للعبد مرادٌ غير مراد واحد وهو الله سبحانه وتعالى فلا يزاحمه مرادٌ آخر. 2_توحيد الصدق: ويسمى توحيد إرادة العبد، وذلك بأن يبذل جهده وطاقته في عبادة ربه. 3_توحيد الطريق: وهو المتابعة للرسول". قال ابن القيم×: فلواحدٍ كن واحداً في واحدٍ **** أعني سبيل الحق والإيمان فقوله: (فلواحدٍ) : أي لله، وهذا هو توحيد المراد. وقوله: (كن واحداً) : في عزمك، وصدقك، وإرادتك، وهذا هو توحيد الإرادة. وقوله (في واحد) : هو متابعة الرسول"الذي هو طريق الحق والإيمان، فهذا هو توحيد الطريق (2) . والأدلة على هذه الأركان الثلاثة كثيرة، فمن أدلة الإخلاص قوله_تعالى_: [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] (البينة: 5) ودليل الصدق قوله_تعالى_: [فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً] (محمد: 21) ، وقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] (التوبة: 119) ، ودليل المتابعة قوله_تعالى_: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ] (آل عمران: 31) . فمن اجتمعت له هذه الثلاثة نال كل كمال وسعادة وفلاح، ولا ينقص كمال العبد إلا بنقص واحد من هذه الأشياء. تعريف العبادة لغةً، واصطلاحاً تعريف العبادة لغةً: هي التذلل والخضوع فيقال بعير معبد أي مذلل، وطريق معبد أي مذلل، ذللته الأقدام. ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته المشهورة يصف ناقته: تباري عتاقاً ناجيات وأتبعت **** وظيفا وظيفا فوق مور معبد (3)

_ (1) انظر: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة، ص152، والأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية للشيخ عبد العزيز السلمان ص42_43. (2) انظر: شرح القصيدة النونية لابن القيم، شرح الشيخ محمد خليل هراس، 2/134. (3) شرح المعلقات العشر للزوزني، ص97.

فقوله: فوق مور معبد: أي فوق طريق مذلل من كثرة السير عليه، فالمور هو الطريق. تعريف العبادة في الاصطلاح: عرفت العبادة في الاصطلاح بعدة تعريفات، ومنها ما يلي: 1_عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية×بأنها: =اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة+ (1) . 2_وعرفها ابن القيم بأنها: =كمال المحبة مع كمال الذل+. وقال في النونية: وعبادة الرحمن غاية حبه **** مع ذل عابده هما قطبان (2) 3_وعرفها الشيخ ابن سعدي×بعدة تعريفات منها قوله: =العبادة روحُها وحقيقتُها تحقيقُ الحبِّ والخضوع لله؛ فالحب التام والخضوع الكامل لله هو حقيقة العبادة، فمتى خلت العبادة من هذين الأمرين أو من أحدهما فليست عبادة؛ فإن حقيقتها الذل والانكسار لله، ولا يكون ذلك إلا مع محبته المحبة التامة التي تتبعها المحاب كلها+ (3) . 4_وعرفها بتعريف ثانٍ فقال: =العبادة والعبودية لله اسم جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من العقائد، وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، فكل ما يقرب إلى الله من الأفعال، والتروك فهو عبادة، ولهذا كان تارك المعصية لله متعبداً متقرباً إلى ربه بذلك+ (4) . ومما ينبغي التنبيه عليه أن العبادة تطلق إطلاقين: (5) 1_الفعل الذي هو التَّعَبُّد. 2_المفعول وهو المُتَعَبَّدُ به أو القربة. مثال ذلك الصلاة ففعلها عبادة وهو التعبد، وهي نفسها عبادة وهي المتعبد به. فعلى الإطلاق الثاني تُعَرَّف العبادة بتعريف شيخ الإسلام، وعلى الإطلاق الأول تُعَرَّف بالتعريف الثاني والثالث. أما التعريف الرابع الذي هو تعريف ابن سعدي فإنه يشمل الإطلاقين الفعل والمفعول.

_ (1) العبودية، ص38. (2) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، ص32. (3) الحق الواضح المبين، ص59_60. (4) الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة، ص162. (5) انظر القول المفيد على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عثيمين، 1/10.

متى تقبل العبادة؟

ومن التعريفات لها أيضاً =الأعمال الصالحة الإرادية التي تُؤَدَّى لله_تعالى_ويفرد بها+ (1) . وهذا يشمل الإطلاقين أيضاً. الفرق بين العبادة وتوحيد العبادة الفرق بينهما ظاهر؛ فالعبادة هي ذات القربة أو فعلها. أما توحيدها فصرفها لله وحده لا شريك له. متى تقبل العبادة؟ لا تقبل العبادة إلا إذا توفر فيها شرطان: 1_الإخلاص لله. 2_المتابعة للرسول". قال شيخ الإسلام ابن تيمية×: =وجماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال_تعالى_: [فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] (الكهف: 110) . وذلك تحقيق الشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله؛ ففي الأولى: أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية: أن محمداً هو رسوله المبلغ عنه؛ فعلينا أن نصدق خبره، ونطيع أمره+ (2) . فمن أراد عبادة الله فلابد له من توفر الشرطين ولسان حاله يقول: (إياك أريد بما تريد) . قال الفضيل بن عياض×في قوله_تعالى_: [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (الملك: 2) . قال: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وما أصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة (3) . فإذا فُقِد الشرطان أو أحدُهما بطلت العبادة. وتوضيح ذلك بالمثال الآتي: لو أن شخصاً صلى لغير الله وعلى صفة غير الصفة التي علمنا إياها رسول الله"لردت عبادته، لماذا؟. لأنه فقد الشرطين معاً. كذلك لو صلى كما كان الرسول"يصلي؛ بحيث أتى بصفة الصلاة كاملة، ولكنها صرفها لغير الله لبطلت عبادته، لماذا؟.

_ (1) عبودية الكائنات لرب العالمين: فريد التوني، ص25. (2) العبودية، ص170. (3) انظر العبودية، ص76.

أهمية الإخلاص والمتابعة

لأنه فقد الإخلاص، والله سبحانه يقول: [إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] (النساء: 48) وقال: [وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأنعام: 88) . كذلك لو صلى لله ولكن على صفة غير الصفة التي علمنا إياها الرسول"؛ بحيث ابتدع صفة من عنده بطلت عبادته؛ لأنه فقد المتابعة، والرسول"يقول في الحديث المتفق عليه: =من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد+ (1) . أي مردود، والجار والمجرور في قوله =عليه+ متعلق بمحذوف تقديره (حاكماً أو مهيمناً) . وفي رواية أخرى للحديث =من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد+ (2) . وهذان الشرطان في الحقيقة متلازمان؛ فإن من الإخلاص لله أن تتبع النبي"واتباعُه عليه الصلاة والسلام مستلزم للإخلاص. أهمية الإخلاص والمتابعة مما يدل على أهمية الإخلاص والمتابعة اللذين هما شرطا قبول العبادة مايلي: 1_أن الله أمر بإخلاص العبادة له، قال_تعالى_: [وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] (الأعراف: 29) . 2_أن الله_تعالى_اختص نفسه بالتشريع، فهو حقه وحده، ومن تَعَبَّد الله بغير ما شرع فقد شارك الله عز وجل في تشريعه، قال_تعالى_: [شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ] (الشورى: 13) . وقال: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ] (الأنعام: 153) . 3_أن الله أنكر على من يشرع من عند نفسه، قال_تعالى_: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] (الشورى: 21) . 4_أن الله أكمل لنا الدين، ورضيه لنا، قال_تعالى_: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً] (المائدة:3) .

_ (1) مسلم (1718) ، وأحمد 6/146. (2) البخاري3/167, ومسلم (1718) .

أركان العبادة

فالابتداع في الدين إنما هو في الحقيقة استدراك على الله وعلى رسوله"واتهام للدين بالنقص. 5_أنه لو جاز للناس أن يتعبدوا بما شاءوا، كيفما شاءوا لأصبح لكل إنسان طريقتُه الخاصة بالعبادة، ولأصبحت حياةُ الناس جحيماً لا يطاق؛ إذ يسود التناحر والتنافر؛ لاختلاف الأذواق، مما يؤدي إلى الشقاق والافتراق؛ والاتباعُ وترك الابتداع أعظمُ سببٍ للائتلاف والاجتماع. 6_لو جاز للناس أن يعبدوا الله بما شاءوا كيفما شاءوا لترتَّب على ذلك عدم حاجة الناس إلى الرسل، ولا يقول بهذا عاقل (1) . أركان العبادة للعبادة ثلاثة أركان، هي: 1_الحب 2_الخوف 3_الرجاء وجعلها بعض أهل العلم أربعة: الحب، والتعظيم، والخوف، والرجاء. ولا تعارض بين الأمرين؛ فإن الرجاء ينشأ من الحب، فلا يرجو الإنسان إلا من يحب، وكذلك الخوف ينشأ من التعظيم، فلا يخاف الإنسان إلا من عظيم. وقد أثنى الله على أهل الخوف والرجاء من النبيين والمرسلين فقال: [إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ] (الأنبياء: 90) . ومدح القائمين بذلك من سائر عباده، فقال: [أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ] (الزمر: 9) ، وقال: [وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ] (الإسراء: 57) ، وقال: [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] (السجدة: 16) . كما أمر عز وجل باستحضار ذلك وقصْدِه فقال: [وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً] (الأعراف: 56) . هذه هي عبادة الأنبياء والمرسلين، وعباد الله المؤمنين، فمن ذا الذي هو أحسن منهم؟ وأكمل من هديهم؟ وهل تقبل دعواه؟!!

_ (1) الكلام في هذا بعضه مستفاد من مذكرة في التوحيد للشيخ د. عبد الله الجاسر.

الجواب: لا، فالخوف والرجاء متلازمان؛ فكلاهما بريد الفوز بالجنة، والنجاة من النار، فلو سألت من لا يزني من المؤمنين مثلاً مع قدرته على الزنا: لم لا تزني؟ لبادر بقوله: إني أخاف الله، وأرجو ثوابه. ولو سألت المصلي لِمَ تصلي؟ لقال: خوفاً من الله وطمعاً في ثوابه، وهكذا ... فغير الله قد يُحَبُّ ولكن لا يُخاف منه، وقد يُخاف منه ولكن لا يُحب. أما الله عز وجل فيجتمع الأمران في حقه؛ فيُخاف ويحب، فلابد للمؤمن إذاً من الجمع بين الحب، والخوف، والرجاء، والتعظيم. أما العبادة بالحب وحده فلا تكفي، وليست صحيحة؛ لأنها لا تتضمن تعظيماً لله، ولا خشيةً منه؛ إذ إن صاحبها يجعل الله سبحانه بمنزلة الوالد والصديق، فلا يتورع من اقتراف المحرمات، بل يستهين بها بحجة أن الحبيب لا يعذب حبيبه، كما قالت اليهود والنصارى [نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ] (المائدة: 18) ، وكما يقول غلاة الصوفية: نحن نعبد الله لا خوفاً من عقابه ولا طمعاً في ثوابه، إنما نعبد الله حباً له كما عبر بذلك كثير منهم كرابعة العدوية التي تقول: أحبك حبين حبَّ الهوى وحبا لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حب الهوى **** فشغلي بذكرك عمن سواكا وأما الذي أنت أهل له **** فكشفك لي الحجب حتى أراكا (1) وكما قال ابن عربي: أدين بدين الحب أني توجهت **** ركائبه فالحب ديني وإيماني (2) ولا شك أن هذا مسلك باطل، وطريقه فاسدة، لها آثار وخيمة منها الأمن من مكر الله، وغايته الخروج من الملة؛ فالذي يتمادى في التفريط والخطايا ويرجو رحمة ربه بلا عمل يقع في الغرور، والأماني الباطلة، والرجاء الكاذب.

_ (1) الصوفية في نظر الإسلام: دراسة وتحليل لسميح عاطف الزين، ص257. (2) الشعر الصوفي إلى مطلع القرن التاسع للهجرة، د. محمد بن سعد بن حسين، ص172.

أيهما يغلب، الرجاء أو الخوف؟

كذلك العبادة بالخوف وحده، دون الحب والرجاء ليست صحيحة، بل هي باطلة فاسدة، وهي طريقة الخوارج الذين لا يجعلون تعبدهم لله مقروناً بالمحبة، فلا يجدون للعبادة لذة، ولا إليها رغبة، فتكون منزلة الخالق عندهم كمنزلة سلطان جائر، أو ملك ظالم، وهذا مما يورث اليأس أو القنوط من رحمة الله، وغايته الكفر بالله، وإساءة الظن به، قال": =يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني+ (1) . وعن جابر ÷ قال: سمعت رسول الله"يقول قبل وفاته بثلاث: =لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل + (2) . وحسن الظن هو الباعث على العمل؛ الذي يلزم منه تحري الإجابة عند الدعاء، والقبول عند التوبة، والمغفرةِ عند الاستغفار والإثابةِ عند العمل. أما ظن المغفرة والإجابة والإثابة مع الإصرار على الذنوب والتقصير في العمل فليس من حسن الظن في شيء، بل هو سَفهٌ وجهل وغرور. فلابد للعابد أن يكون الله أحبَّ إليه من كل شيء، وأن يكون الله أعظمَ عنده من كل شيء؛ فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله؛ فإنك إذا خفته فررت إليه، فالخائف من الله هارب إليه قال_تعالى_: [فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ] (الذاريات:50) . وهناك مقولة مشهورة عند السلف، وهي قولهم، من عَبَدَ الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجىء، ومن عبده بالخوف، والرجاء، والحب، فهو مؤمن موحد (3) . أيهما يُغلّب، الرجاء أو الخوف؟ (4) الجواب: أنه اختُلف في ذلك على أقوال منها:

_ (1) رواه البخاري مع الفتح (7405) ، ومسلم (2675) . (2) رواه مسلم (2877) . (3) انظر العبودية، ص128. (4) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح 2/30_32 والقول المفيد 1/51_52 و2/164_165، وانظر الرسالة التاسعة، ففيها تفصيل للحب، والخوف، والرجاء.

أنواع العبادة

1_قيل: ينبغي أن يغلِّب الإنسان جانب الخوف؛ ليحمله ذلك على فعل الطاعة وترك المعصية. 2_وقيل: يغلِّب جانب الرجاء؛ ليكون متفائلاً والرسول"كان يعجبه الفأل. 3_وقيل: في فعل الطاعة يغلب الرجاء؛ لينبعث إلى العمل؛ فالذي منَّ عليه بالطاعة سَيَمُنُّ عليه بالقبول، ولهذا قال بعض السلف: إذا وفقك الله للدعاء فانتظر الإجابة؛ لأنه يقول: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] (غافر:60) . وفي فعل المعصية يغلب جانب الخوف؛ لأجل أن يمنعه ذلك من فعل المعصية قال_تعالى_: [قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ] (الأنعام: 15) . وهذا قريب ولكن ليس بالقرب الكامل، إذ قد يُعْتَرض عليه بقوله_تعالى_: [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ] (المؤمنون: 60) . 4_وقيل: يغلب جانب الخوف في الصحة، وجانب الرجاء في المرض. 5_وقيل: هما كجناحي الطائر، فالمؤمن يسير إلى الله بجناحين هما الرجاء والخوف، فإذا استويا تم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت. 6_وقيل يختلف من شخص إلى شخص، ومن حال إلى حال، والله أعلم. =الخوف الواجب والخوف المستحب+ الخوف الواجب هو ما يحمل على فعل الواجبات وترك المحرمات. والخوف المستحب هو ما يحمل على فعل المستحبات، وترك المكروهات. أنواع العبادة (1) العبادة لها أنواع كثيرة، فبعضها قولي؛ كشهادة أن لا إله إلا الله، وبعضها فعلي؛ كالجهاد في سبيل الله، وإماطة الأذى عن الطريق، وبعضها قلبي؛ كالحياء، والمحبة، والخوف، والرجاء، وغيرها، وبعضُها مشترك كالصلاة مثلاً فإنها تجمع ذلك كله.

_ (1) انظر تيسير العزيز الحميد ص39_42 والإرشاد للشيخ صالح الفوزان، ص19، وانظر عقيدة التوحيد للشيخ محمد خليل هراس ص47_70.

عبودية الخلق لله

ومن أنواع العبادة زيادة على ما سبق الزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للمنافقين والكفار، والإحسان إلى الحيوان، والأيتام، والمساكين، وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والدعاء، والذكر، وكذلك الذبح، والنذر، والاستعاذة، والاستغاثة، والاستعانة، والتوكل، والتوبة، والاستغفار. وهذه العبادات لا يجوز صرفها إلا لله، ومن صرفها لغيره فقد أشرك. عبودية الخلق لله (1) تنقسم عبودية الخلق لله إلى ثلاثة أقسام: 1_عبودية عامة: ويشترك فيها كافة الخلق؛ برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم. قال_تعالى_: [إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً] (مريم: 93) . فهذه عبودية الربوبية فالخق كلهم عبيد لله مربوبون له. 2_خاصة: وهي عبودية الألوهية، وهي عبودية عباد الله الصالحين وهم كل من تعبد لله بشرعه، وأخلص في عبادته. قال_تعالى_: [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً] (الفرقان: 63) . ولهذا أضافهم إلى اسمه إشارة إلى أنهم وصلوا إلى هذه الحال بسبب رحمته، وهذه إضافة التشريف. 3_خاصة الخاصة: وهي أيضاً عبودية الألوهية، وهي للأنبياء والمرسلين الذين لا يباريهم ولا يدانيهم أحد في عبادتهم لله، قال_تعالى_: [وَاذْكُرْ عِبَادَنَا] (ص:45) ، وقال عن نوح: [إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً] (الإسراء: 3) ، وقال عن داود عليه السلام: [وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ] (ص: 17) ، وقال عن محمد": [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ] (الإسراء: 1) ، وقال: [وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً] (الجن: 19) .

_ (1) انظر القول المفيد 1/28_29.

فضائل توحيد الألوهية

فضائل توحيد الألوهية (1) توحيد الله، وإفراده بالعبادة أجَلُّ النِّعم وأفضلها على الإطلاق، وفضائله وثمراته لا تعد ولا تحد، ففضائل التوحيد، كثيرة تنتظم خيري الدنيا والآخرة، ومن تلك الفضائل مايلي: 1_أنه أعظم نعمة أنعمها الله على عباده، حيث هداهم إليه، كما جاء في سورة النحل التي تسمى سورة النعم، فالله عز وجل قدم نعمة التوحيد على كل نعمة، فقال في أول سورة النحل: [يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ] (النحل: 2) . 2_أنه الغاية من خلق الجن والإنس: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) . 3_أنه الغاية من إنزال الكتب ومنها القرآن، قال_تعالى_فيه: [الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ] (هود:1،2) . 4_أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة، ودفع عقوبتهما كما في قصة يونس عليه السلام. 5_أنه يمنع من الخلود في النار، إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل. 6_أنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية كما في حديث عتبان في الصحيحين؛ قال": =فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله+ (2) . 7_حصول الاهتداء الكامل، والأمن التام لأهله في الدنيا والآخرة [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ] (الأنعام: 82) .

_ (1) انظر تيسير العزيز الحميد ص36_39، والقول السديد لابن السعدي، ص16 عند باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، ومعارج القبول في الحديث عن فضائل الشهادة: 1/268 إلى 271، ولا إله إلا الله للكاتب، ص10_35. (2) البخاري 1/110، ومسلم 1/61.

8_أنه السبب الأعظم لنيل رضا الله وثوابه. 9_أن أسعد الناس بشفاعة محمد"من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه. 10_أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت. 11_أنه يسهل على العبد فعل الخيرات، وترك المنكرات، ويسليه عن المصيبات؛ فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات؛ لما يرجوه من ثواب ربه ورضوانه، ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي؛ لما يخشى من سخطه وأليم عقابه. 12_أن التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان، وزيّنه في قلبه، وكره إليه الكفر، والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين. 13_أنه يخفف على العبد المكاره، ويهون عليه الآلام؛ فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح، ونفس مطمئنة، وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة. 14_أنه يحرر العبد من رق المخلوقين، ومن التعلق بهم، وخوفهم، ورجائهم، والعمل لأجلهم. وهذا هو العز الحقيقي، والشرف العالي، فيكون بذلك متألهاً متعبداً لله، فلا يرجو سواه، ولا يخشى غيره، ولا ينيب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه. 15_ومن فضائله التي لا يلحقه فيها شيء أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب، وتحقق تحققاً كاملاً بالإخلاص التام فإنه يُصَيِّر القليل من العمل كثيراً، وتضاعف أجور صاحبه بغير حصر ولا حساب. 16_أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر، والعز والشرف، وحصول الهداية، والتيسير لليسرى، وإصلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال. 17_أن الله يدافع عن الموحدين شرور الدنيا والآخرة، ويمن عليهم بالحياة الطيبة، والطمأنينة إليه وبذكره. وشواهد ذلك من الكتاب والسنة كثيرة، فمن حقق التوحيد حصلت له هذه الفضائل كلها وأكثر منها، والعكس بالعكس.

أسباب نمو التوحيد في القلب

أسباب نمو التوحيد في القلب التوحيد شجرة تنمو في قلب المؤمن، فيبسقُ فرعها، ويزداد نموها، ويزدان جمالها كلما سقيت بالطاعة المقربة إلى الله عز وجل، فتزداد بذلك محبة العبد لربه، ويزداد خوفه منه، ورجاؤه له، ويقوى توكله عليه، وبهذا يكتمل التوحيد ويتحقق؛ فليس تحقيقه بالتمني، ولا بالدعاوى الخالية من الحقائق. وإنما يتحقق بما وقر في القلب من عقائد الإيمان، وحقائق الإحسان، وصدّقته الأخلاق الجميلة، والأعمال الصالحة الجليلة. ومن الأسباب التي تنمي التوحيد في القلب ما يلي (1) : 1_فعل الطاعات؛ رغبة بما عند الله. 2_ترك المعاصي؛ خوفاً من عقاب الله. 3_التفكر في ملكوت السموات والأرض. 4_معرفة أسماء الله وصفاته ومقتضياتها وآثارها، وما تدل عليه من الجلال والكمال. 5_التزود من العلم النافع، والعمل به. 6_قراءة القرآن بالتدبر، والتفهم لمعانيه وما أريد به. 7_التقرب إلى الله_تعالى_بالنوافل بعد الفرائض. 8_دوام ذكر الله على كل حال؛ باللسان والقلب. 9_إيثار ما يحبه الله عند تزاحم المحاب. 10_التأمل في نعم الله الظاهرة والباطنة، ومشاهدة بره وإحسانه، وإنعامه على عباده. 11_إنكسار القلب بين يدي الله، وافتقاره إليه. 12_الخلوة بالله وقت النزول الإلهي حين يبقى ثلث الليل الأخير، وتلاوة القرآن في هذا الوقت، وخَتْمُ ذلك بالاستغفار، والتوبة. 13_مجالسة أهل الخير والصلاح، والإخلاص، والمحبين لله عز وجل والاستفادة من كلامهم وسمتهم. 14_الابتعاد عن كل سبب يحول بين القلب وبين الله من الشواغل. 15_ترك فضول الكلام، والطعام، والخلطة، والنظر. 16_أن يحب العبد لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، وأن يجاهد نفسه على ذلك. 17_سلامة القلب من الغل للمؤمنين، وسلامته من الحقد، والحسد، والكبر، والغرور، والعجب. 18_الرضا بتدبير الله عز وجل. 19_الشكر عند النعم، والصبر عند النقم. 20_الرجوع إلى الله عند ارتكاب الذنوب.

_ (1) انظر مدارج السالكين لا بن القيم 3/18_19.

طرق الدعوة إلى توحيد الألوهية في القرآن الكريم

21_كثرة الأعمال الصالحة من بر، وحسن خلق، وصلة أرحام، إلى غير ذلك. 22_الاقتداء بالنبي"في كل صغيرة وكبيرة. 23_الجهاد في سبيل الله. 24_إطابة المطعم. 25_الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. طرق الدعوة إلى توحيد الألوهية في القرآن الكريم (1) تنوعت طرق الدعوة إلى توحيد الألوهية وأساليبها في القرآن الكريم، فمن ذلك ما يلي: 1_أمره سبحانه بعبادته، قال_تعالى_: [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً] (النساء: 36) . 2_النهي عن عبادة مَنْ سواه كما في قوله_تعالى_: [فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] (البقرة: 22) . 3_إخباره سبحانه وتعالى أنه خلق الخلق لعبادته كما في قوله: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) . 4_إخباره أنه أرسل الرسل بالدعوة إلى عبادته، والنهي عن عبادة من سواه كما في قوله: [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] (النحل: 36) . 5_الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية؛ فإذا كان الله_تعالى_هو الخالق الرازق الذي أنعم عليك بالنعم الظاهرة والباطنة ولم يشاركه في ذلك مشارك فعليك أن لا تتأله لغيره، ولا تتعبد لسواه، ويلزمك أن تخصه بالتوحيد كما قال_تعالى_: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة: 21) . 6_الاستدلال على وجوب عبادته بكونه النافع، الضار، المعطي، المانع؛ فمن اتصف بهذه الصفات فهو المعبود بحق ولا معبود بحق سواه.

_ (1) انظر تيسير العزيز الحميد ص38_39. دعوة التوحيد للهراس، 39_45، والإرشاد في صحيح الاعتقاد للشيخ صالح الفوزان، ص25_28، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة ص154_156.

7_الاستدلال على وجوب عبادته بانفراده بصفات الكمال، وانتفاء ذلك عن آلهة المشركين، كما في قوله_تعالى_: [فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً] (مريم: 65) . وقوله: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] (الأعراف: 180) . وقوله عن خليله عليه السلام أنه قال لأبيه: [إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً] (مريم: 42) . 8_الاستدلال على وجوب عبادته بدقة صنعه سبحانه وتعالى فكلما تدبر العاقل ذلك، وتغلغل فكره فيه، وازداد تأمله في ذلك علم أنه هو المستحق للعبادة. 9_الاستدلال على وجوب عبادته بتعدد نعمه، فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة فمن الله وحده وأن أحداً من المخلوقين لا ينفع أحداً إلا بإذن الله، وأن الله هو النافع الضار علم أن الله هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له. 10_تعجيزه لآلهة المشركين كقوله_تعالى_: [أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ] (الأعراف: 191،192) ، وقوله: [قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً] (الإسراء: 56) ، وقوله: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ] (الحج: 73) .

11_تسفيه المشركين الذين يعبدون غير الله، كما في قوله_تعالى_: [أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ] (الأنبياء: 66،67) ، وقوله: [وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ] (البقرة: 130) . 12_بيان عاقبة المشركين الذين يعبدون غير الله، وبيان مآلهم مع من عبدوهم، حيث تتبرأ منهم تلك المعبوداتُ في أحرج المواقف كما قال_تعالى_: [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ] (البقرة: 165_167) ، وقوله: [وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ] (فاطر: 14) . 13_بيان مصير الموحدين وعاقبتهم في الدنيا والآخرة كما قال عن إمامهم إبراهيم عليه السلام: [وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ] (البقرة: 130) ، وقوله: [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ] (الأنعام: 82) .

علاقة توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية

14_رده على المشركين باتخاذ الوسائط بينهم وبين الله بأن الشفاعة ملك له سبحانه لا تطلب من سواه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، وبعد رضاه عن المشفوع له، قال سبحانه: [أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] (الزمر:43،44) وقال: [مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ] (البقرة:255) . 15_بيان أن هؤلاء المعبودين من دون الله لا يحصل منهم نفع لمن عبدهم من جميع الوجوه كما قال_تعالى_: [قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ] (سبأ: 22،23) . 16_ذكر البراهين والأمثلة الدالة على بطلان الشرك، وسوء عاقبته، مما يجعل النفوس السليمة تنفر منه، قال_تعالى_: [وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ] (الحج:31) . علاقة توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية (1) أنواع التوحيد متلازمة، وبعضها مرتبط ببعض، وفيما يلي يتبين لنا شيء من علاقة توحيد الألوهية؛ بتوحيد الربوبية والعكس: 1_توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية؛ بمعنى أن الإقرار بتوحيد الربوبية يوجب الإقرار بتوحيد الألوهية؛ فمن عرف أن الله ربه وخالقه ومدبر أموره، وقد دعاه هذا الخالق إلى عبادته وجب عليه أن يعبده وحده لا شريك له؛ فإذا كان هو الخالق الرازق النافع الضار وحده لزم إفراده بالعبادة.

_ (1) انظر الإرشاد ص21_23.

2_توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية بمعنى أن توحيد الربوبية يدخل ضمناً في توحيد الألوهية، فمن عَبَدَ الله وحده لا شريك له فلابد أن يكون معتقداً أنه ربه وخالقه ورازقه؛ إذ لا يعبد إلا من بيده النفع والضر، وله الخلق والأمر. 3_الربوبية عمل قلبي لا يتعدى القلب، ولذا سمي توحيد المعرفة والإثبات، أو التوحيد العلمي. أما الألوهية فهو عمل قلبي وبدني، فلا يكفي فيه عمل القلب، بل يتعداه إلى السلوك والعمل قصداً لله وحده لا شريك له. 4_أن توحيد الربوبية لا يكفي وحده؛ ذلك لأن توحيد الربوبية مركوز في الفطر، فلو كان كافياً لما احتاج الناس إلى بعثة الرسل، وإنزال الكتب، فلا يكفي أن يقر الإنسان بما يستحق الرب_تعالى_من الصفات، وأنه الرب الخالق وحده. ولا يكون موحداً إلا إذا شهد أن لا إله إلا الله، فيقر بأن الله هو المألوه المعبود وحده، ويعبده بمقتضى هذه المعرفة. 5_توحيد الألوهية هو الذي جاءت به الرسل، وهو الذي حصل به النزاع بين الرسل عليهم السلام وبين أممهم، كما قال قوم هود لنبيهم هود عليه السلام عندما قال لهم: [اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ] (الأعراف: 59) [قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا] (الأعراف: 70) . وكما قال كفار قريش لما أُمِروا بإفراد الله بالعبادة: [أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] (ص: 5) . أما توحيد الربوبية فإنهم لم ينكروه، بل إن إبليس لم ينكره [قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي] (الحجر: 39) . 6_أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا فترقا اجتمعا، ومعنى ذلك أنهما إذا ذكرا جميعاً فلكل لفظ ما يراد به، كما في قوله_تعالى_: [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ] (الناس: 1_3) .

ما ضد توحيد الألوهية؟

فيكون معنى الرب: هو المالك المتصرف، وهذا توحيد الربوبية، ويكون معنى الإله: المعبود بحق المستحق للعبادة دون سواه وهذا توحيد الألوهية. وتارة يذكر أحدهما مفرداً عن الآخر فيجتمعان في المعنى؛ كما في قول الملكين للميت في القبر: =من ربك؟ ومعناه: من إلهك؟ = وكما في قوله_تعالى_: [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ] (الحج: 40) ، وقوله: [قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً] (الأنعام: 164) ، وقوله عن الخليل عليه السلام: [رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ] (البقرة: 258) وكما في قوله_تعالى_: [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ] (النمل: 62) . 7_لابد لسلامة التوحيد، والفوز بالدارين من تحقيق هذين الأمرين. ما ضد توحيد الألوهية؟ 1_الشرك؛ الذي يذهب به بالكلية. 2_البدع؛ التي تذهب بكماله الواجب. 3_المعاصي؛ التي تقدح فيه، وتنقص ثوابه. الفرق التي أشركت في توحيد الألوهية الفرق التي أشركت في هذا النوع من التوحيد كثيرة منها: 1_اليهود: الذين عبدوا العجل، ولا يزالون يعبدون الدرهم والدينار؛ فالمال هو معبودهم. 2_النصارى: لادعائهم ألوهية المسيح عليه السلام وعبادتهم له. 3_الرافضة: لدعائهم علياً، والعباس رضي الله عنهما وغيرهما من آل البيت. 4_النصيرية: لعبادتهم عليا رضي الله عنه وزعمهم أنه الإله (1) . 5_الدروز: لقولهم بألوهية الحاكم بأمر الله العبيدي (2) .

_ (1) انظر: الباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية (العلوية) لسيلمان أفندي الأذني، دار الصحوة، ص36، وانظر إلى: النصيرية لسهير الفيل، دار المنار، ص47_48. (2) انظر إلى: عقيدة الدروز، عرض ونقض، د. محمد أحمد الخطيب، ص117_135، دار عالم الكتب.

6_غلاةالصوفية، وعباد القبور: لغلوهم في الأولياء، وصرف النذور، والقرابين لأصحاب القبور، وطوافهم حول القبور إلى غير ذلك من القربات التي تصرف لأصحابها.

توحيد الربوبية

توحيد الربوبية تأليف الشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله_صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً_. أما بعد: فإن توحيد الربوبية مبحث مهم من مباحث العقيدة؛ ذلك أنه متعلق بأصل الأصول، وأوجب الواجبات وهو الإيمان بالله_عز وجل_فمما يتضمنه الإيمان بالله الإيمان بربوبيته، وتفرده بالخلق، والرزق، والتدبير. ومما يدل على أهميته ما يثمره من الثمرات العظيمة؛ فالعلم به، والإيمان بمقتضاه يثمر إجلال الرب، وتعظيمه، ورجاءه، ومحبته والخوف منه إلى غير ذلك؛ فلا ينبغي التقليل من شأنه، ولا ترك الحديث عنه، كما لا ينبغي_في الوقت نفسه_أن يجعل الغاية في التوحيد، كما هو شأن أهل الكلام، بل إن الغاية في التوحيد هو توحيد الألوهية_كما سيأتي بيانه_. ولعل فيما يلي من صفحات إيضاحاً لهذا المبحث، وذلك من خلال الوقفات التالية: _تعريف توحيد الربوبية. _معنى كلمة الرب. _أسماء هذا النوع من التوحيد. _أدلته. _إنكار الربوبية. _أنواع ربوبية الله على خلقه. _توحيد الربوبية ليس هو الغايةَ في التوحيد. _آثار توحيد الربوبية وفوائده. _ما ضد توحيد الربوبية؟ _الفِرَق التي أشركت بالربوبية. وأخيراً أسأل الله_تبارك وتعالى_أن ينفعنا بما نقول ونسمع، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه، وأن يغفر لنا زللنا وخطأنا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. محمد بن إبراهيم الحمد الزلفي: ص. ب: 460 www.toislam.net

تعريف توحيد الربوبية

تعريف توحيد الربوبية هو الإقرار الجازم بأن الله وحده ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكه، وأنه الخالق للعالم، المحيي المميت، الرزاق ذو القوة المتين، لم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، لا رادَّ لأمره، ولا معقب لحكمه، ولا مضاد له، ولا مماثل، ولا سمي، ولا منازع له في شيء من معاني ربوبيته ومقتضيات أسمائه وصفاته (1) . وهناك تعريف آخر مختصر وهو: توحيد الله بأفعاله. أسماء هذا النوع من التوحيد لهذا النوع من التوحيد أسماء أخرى منها: 1_توحيد الربوبية كما سبق. 2_التوحيد العلمي. 3_التوحيد الخبري. 4_توحيد المعرفة والإثبات. 5_التوحيد الاعتقادي. معنى كلمة الرب كلمة الرب في اللغة تطلق على عدة معانٍ. قال ابن منظور: =الرب يطلق في اللغة على المالك، والسيد، والمدبِّر، والمربي، والقيِّم، والمنعم+. وقال: =ولا يطلق غير مضاف إلا على الله_عز وجل_وإذا أطلق على غيره أضيف، فقيل: ربُّ كذا+. قال: =وقد جاء في الشعر مطلقاً على غير الله_تعالى_وليس بالكثير، ولم يذكر في غير الشعر+ (2) . وقال: =ورب كل شيء: مالكه ومستحقه، وقيل: صاحبه. ويقال: فلان رب هذا الشيء أي مِلْكُه له. وكل من ملك شيئاً فهو ربه، يقال: هو ربُّ الدابة، ورب الدار، وفلان رب البيت، وهن ربات الحجال+ (3) . أما الرب من حيث إنه اسم من أسماء الله فمعناه: من له الخلق والأمر والملك، قال_تعالى_: [أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ] (الأعراف: 54) . وقال: [ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ] (فاطر:13) .

_ (1) انظر تفسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله، ص33_34، وأعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي، تحقيق مصطفى أبو النصر الشلبي، ص55، وانظر الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ صالح الفوزان، ص16. (2) لسان العرب 1/399_400. (3) لسان العرب 1/339.

أدلة توحيد الربوبية

قال ابن منظور: =الرب: هو الله_عز وجل_هو رب كل شيء، أي مالكه، وله الربوبية على جميع الخلق لا شريك له، وهو رب الأرباب، ومالك الملوك والأملاك+ (1) . أدلة توحيد الربوبية أدلة توحيد الربوبية كثيرة متنوعة، تدل على تفرد الله بالربوبية على خلقه أجمعين، فقد جعل الله لخلقه أموراً لو تأملوها حق التأمل وتفكروا بها_لَدَلَّتْهُمْ إلى أن هناك خالقاً مدبراً لهذا الكون. والقرآن مليء بذكر الأدلة على ربوبية الله، فمن ذلك قوله_تعالى_: [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] (الفاتحة: 2) ، وقوله [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] (الذاريات: 58) ، وقوله: [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] (يس: 82، 83) ، وقوله: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] (البقرة:164) ، وقوله_تعالى_: [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] (الروم: 40) . ومن الدلالات على ربوبية الله على خلقه مايلي: 1_دلالة الفطرة: ذلك أن الله_سبحانه_فطر خلقه على الإقرار بربوبيته، وأنه الخالق، الرازق المدبر، المحيي المميت؛ فالإيمان بالربوبية أمر جبلي مركوز في فطرة كل إنسان، ولا يستطيع أحد دفعه ولا رفعه.

_ (1) لسان العرب 1/399.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية×: =ولما كان الإقرار بالصانع فطريّاً كما قال ": =كل مولود يولد على الفطرة+ (1) الحديث_فإن الفطرة تتضمن الإقرار بالله، والإنابة إليه، وهو معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي يعرف ويعبد+ (2) . ولهذا فإن المشركين في الجاهلية كانوا مقرين بتوحيد الربوبية مع شركهم بالألوهية. ومما يدل على ذلك ما هو مبثوث في ثنايا أشعارهم، ومن ذلك قول عنترة: يا عبل أين من المنية مهربي **** إن كان ربي في السماء قضاها (3) وقول زهير ابن أبي سلمى: فلا تكتُمُنَّ الله ما في نفوسكم **** ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يُؤَخر فَيُوضَعْ في كتاب فَيُدَّخرْ **** ليوم الحساب أو يعجل فينقم (4) ولقد بين الله_سبحانه وتعالى_ذلك في القرآن كما في قوله: [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ] (العنكبوت:61) . 2_دلالة الأنفس: فالنفس آيةٌ كبيرةٌ من آيات الله الدالة على ربوبيته، ولو أمعن الإنسان النظر في نفسه وما فيها من العجائب لعلم أن وراء ذلك رباً حكيماً خالقاً قديراً. قال_تعالى_: [وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ] (التغابن: 3) ، وقال: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) ] (الشمس: 7) . 3_دلالة الآفاق: كما قال سبحانه: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (فصلت: 53) .

_ (1) أخرجه البخاري (1358) ، ومسلم (2658) . (2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 2/6. (3) ديوان عنترة ص 74. (4) ديوان زهير بن أبي سلمى ص25.

إنكار الربوبية

فلو تأمل الإنسان الآفاق وما أودع الله فيها من الغرائب والعجائب_لأدرك أن هناك خالقاً لهذه الأكوان، وأنه عليم حكيم (1) . إنكار الربوبية لم ينكرْ توحيدَ الربوبية أحدٌ من البشر، إلا طائفة من الشذاذ، المكابرين، المعاندين، المنكرين لما هو متقرر في فطرهم؛ فإنكارهم إنما كان بألسنتهم مع اعترافهم بذلك في قرارة أنفسهم. ومن أشهر من عرف بذلك فرعون؛ الذي قال لقومه_كما أخبر الله عنه_: [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى] (النازعات: 24) ، وقال: [مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي] (القصص: 38) . وكلامه هذا مجرد دعوى لم يَقُمْ عليها بينةٌ، ولا دليلٌ، بل كان هو نفسُه غير مؤمن بما يقول. قال_سبحانه وتعالى_على لسان موسى_عليه السلام_: [لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً] (الإسراء:102) . وأخبر_عز وجل_وهو العليم بذات الصدور_أن كلام فرعون ودعواه لم يكن عن عقيدة ويقين، وإنما هو مكابرة وعناد، قال_تعالى_: [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً] (النمل: 14) . وممن أنكر ذلك_أيضاً_الشيوعيون، فلقد أنكروا ربوبية الله، بل أنكروا وجوده_سبحانه وتعالى_بناءً على عقيدتهم الخبيثة الفاجرة التي تقوم على الكفر بالغيب، والإيمان بالمادة وحدها. وهم في الحقيقة لم يزيدوا على أن سموا الله بغير اسمه، بحيث ألَّهوا الطبيعة، ونعتوها بنعوت الكمال التي لا تليق بأحد إلا الله_عز وجل_، فقالوا: الطبيعة حكيمة، الطبيعة تخلق، إلى غير ذلك. وكلامهم هذا باطل متهافت، بل إن أصحاب هذا المبدأ انشقوا على أنفسهم، ولعن بعضُهم بعضاً، وكَفَرَ بعضُهم ببعض.

_ (1) انظر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة: 71_72 للشيخ عبد الرزاق العباد، والإيمان بالله للكاتب ص14_59 ط1.

أنواع ربوبية الله على خلقه

أنواع ربوبية الله على خلقه ربوبية الله على خلقه على نوعين: 1_الربوبية العامة: وهي لجميع الناس؛ بَرِّهم وفاجرِهم مؤمنِهم وكافرِهم؛ وهي خلقه للمخلوقين، ورزقُهم، وهدايتهم، لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا. 2_الربوبية الخاصة: وهي تربيته لأوليائه المؤمنين، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكملهم، ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه. ولعل هذا المعنى هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب؛ فإن مطالبهم كلَّها داخلةٌ تحت ربوبيته الخاصة (1) . توحيد الربوبية ليس هو الغاية في التوحيد توحيد الربوبية حق، وأمره عظيم، ولا يصح إيمان العبد إذا لم يؤمن به، ولكن هذا النوع من أنواع التوحيد ليس هو الغايةَ التي جاءت بها الرسل، وأنزلت من أجلها الكتب، وليس الغايةَ التي من جاء بها فقد جاء بالتوحيد وكماله؛ ذلك أن الله أمر بعبادته التي هي كمال النفوس وصلاحها وغايتها، ولم يقتصد على مجرد الإقرار به كما هو غاية الطريقة الكلامية (2) . أضف إلى ذلك أن المشركين كانوا مقرين به كما مر، ومع ذلك لم يدخلهم في الإسلام؛ لأن الإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي وحده، بل لا بد من توحيد الألوهية. ثم إن توحيد الربوبية مركوز في الفطر كلها، فلو كان هو الغاية لما كان هناك حاجة من إرسال الرسل وإنزال الكتب.

_ (1) انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ ابن سعدي 1/288. (2) انظر مجموع الفتاوى 2/12.

آثار توحيد الربوبية وثمراته

آثار توحيد الربوبية وثمراته للإيمان بالربوبية آثار عظيمة، وثمرات كثيرة، فإذا أيقن المؤمن أن له ربّاً خالقاً هو الله_تبار ك وتعالى_وأن هذا الرب هو رب كلِّ شيءٍ ومليكُه وهو مصرف الأمور، وأنه هو القاهر فوق عباده، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض_أَنِسَت رُوحُه بالله، واطمأنت نفسه بذكره، ولم تزلزله الأعاصير والفتن، وتوجه إلى ربه بالدعاء، والالتجاء، والاستعاذة، وكان دائماً خائفاً من تقصيره، وذنبه؛ لأنه يعلم قدرة ربه عليه، ووقوعه تحت قهره وسلطانه، فتحصل له بذلك التقوى، والتقوى رأس الأمر، بل هي غاية الوجود الإنساني (1) . ولهذا قال": =ذاق طعم الإيمان من رضي الله ربَّاً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً+ (2) . ومن ثمراته أن الإنسان إذا علم أن الله هو الرزاق، وآمن بذلك، وأيقن أن الله بيده خزائن السموات والأرض، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع_قطع الطمع من المخلوقين، واستغنى عما بأيديهم، وانبعث إلى إفراد الله بالدعاء والإرادة والقصد. ثم إذا علم أن الله هو المحيي المميت، النافع الضار، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن أمره كلَّه بيد الله_انبعث إلى الإقدام والشجاعة غير هياب، وتحرر من رق المخلوقين، ولم يعد في قلبه خوف من سوى الله_عز وجل_. وهكذا نجد أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية. والكلام في مقتضيات الربوبية وما تثمره من ثمرات يفوق الحصر والعد، وما مضى إنما هو إشارات عابرة يقاس عليها غيرُها.

_ (1) انظر منهج جديد لدراسة التوحيد للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ص82. (2) رواه مسلم (34) ، وأحمد (1/208) .

ما ضد توحيد الربوبية

ما ضد توحيد الربوبية يضاد توحيد الربوبية الإلحاد، وإنكار وجود الرب_عز وجل_. ويضاده_أيضاً_اعتقاد متصرف مع الله_عز وجل_في أي شيء؛ من تدبير الكون، من إيجاد، أو إعدام، أو إحياء، أو إماتة، أو جلب خير، أو دفع شر، أو غير ذلك من معاني الربوبية، أو اعتقاد منازع له في شيء من مقتضيات أسمائه وصفاته، كعلم الغيب، أو كالعظمة، والكبرياء، ونحو ذلك (1) . وكما يضاده_أيضاً_اعتقاد مشرع مع الله_عز وجل_لأنه هو الرب وحده، وربوبيته شاملة لأمره الكوني والشرعي. الفرق التي أشركت بالربوبية (2) هناك أقوامٌ أشركوا بالربوبية، وفِرَقٌ أشركت به، ومن هؤلاء: 1_المجوس: =الأصلية+ قالوا بالأصلين: النور والظلمة، وقالوا: إن النور أزليٌّ، والظلمة محدثة. 2_الثنوية: =أصحاب الاثنين الأزلييّن+: يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان، بخلاف المجوس الذين قالوا بحدوث الظلام، لكن قالوا باختلافهما في الجوهر، والطبع، والفعل، والخبر، والمكان، والأجناس، والأبدان، والأرواح، ولم يقولوا بتماثلهما في الصفات والأفعال، كما ترى، وإن قالوا بتساويهما في القدم. 3_المانوية: =أصحاب ماني بن فاتك+: قالوا: إن العَالَمَ مصنوع من أصلين قديمين، ولكن قالوا باختلافهما في النفس، والصورة، والفعل، والتدبير. 4_النصارى: =القائلون بالتثليث+: فالنصارى لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضها عن بعض، بل هم متفقون على أنه صانع واحد يقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، ويقولون: واحد بالذات ثلاثة بالأقنوم. أما الأقانيم فإنهم عجزوا عن تفسيرها.

_ (1) انظر أعلام السنة المنشورة ص 56. (2) انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر، ص24_26.

وقولهم هذا متناقض أيما تناقض وتصوره كافٍ في رده، قال شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله تعالى_: =ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورُها إلا مقالة النصارى، وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحدَ عشرَ قولاً. وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولاً، وامرأته قولاً آخر، وابنه قولاً ثالثاً+ (1) . وقال ابن القيم_رحمه الله تعالى_ في معرض رده عليهم: =أما خبر ما عندكم أنتم فلا نعلم أمةً أشدَّ اختلافاً في معبودها منكم؛ فلو سألت الرجل، وامرأته، وابنته، وأمه، وأباه، عن دينهم لأجابك كلٌّ منهم بغير جواب الآخر+ (2) . بل قيل فيهم: =لو توجهت إلى أي نصراني على وجه الأرض، وطلبت منه أن يصور لك حقيقة دينه، وما يعتقده في طبيعة المسيح تصويراً دقيقاً_لما استطاع ذلك (3) . هذا وقد بيَّن الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه (إظهار الحق) ما عندهم من التناقض، وكذلك الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (محاضرات في النصرانية) . 5_القدرية: هم في الحقيقة مشركون في الربوبية، وهذا لازم لمذهبهم؛ لأنهم يرون أن الإنسان خالقٌ لفعله، فهم أثبتوا لكل أحد من الناس خَلْقَ فعله. والخلق إنما هو مما اختص الله به، قال_تعالى_[وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ] (الصافات: 96) . وأفعال العباد لا يخرجها شيء من عموم خلقه_عز وجل_ (4) .

_ (1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 2/155. (2) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم، ص321. (3) مايجب أن يعرفه المسلم عن حقائق النصرانية والتبشير لإبراهيم الجبهان، ص13. (4) انظر مجموع الفتاوى 8/258 والإيمان بالقضاء والقدر للكاتب ص173_174.

6_الفلاسفة الدهرية: في قولهم في حركة الأفلاك بأنها تسعة، وأن التاسع منها وهو الأطلس يحرك الأفلاك كلها، فجعلوه مبدأ الحوادث، وزعموا أن الله يحدث ما يقدره في الأرض. 7_عبدة الأصنام من مشركي العرب وغيرهم: ممن كانوا يعتقدون أن الأصنام تضر وتنفع، فيتقربون إليها، وينذرون لها، ويتبركون بها. 8_غلاة الصوفية: لغلوهم في الأولياء، وزعمِهم أنهم يضرون، وينفعون، ويتصرفون في الأكوان، ويعلمون الغيب، ولقولهم بوحدة الوجود، وربوبيةِ كلِّ شيءٍ (1) . 9_الروافض: لقولهم بأن الدنيا والآخرة للإمام، يتصرف بها كيف يشاء، وأن تراب الحسين شفاءٌ من كل داء، وأمانٌ من كل خوف، ولقولهم: إن أئمتهم يعلمون الغيب، ويعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا بإذنهم. وهذا باطل، وبطلانه لا يحتاج إلى دليل، بل إن فساده يغني عن إفساده (2) . 10_النصيرية: لقولهم بألوهية علي بن أبي طالب÷وبأنه المتصرف بالكون، لوصفهم إياه بأوصاف لا يجوز أن يوصف بها أحد إلا الله_عز وجل_مع اختلاف أقوالهم في هذا؛ فبعضهم يقول: إنه يسكن في الشمس ويُسَمَّون بـ: الشمسية. وبعضهم يقولون: إنه يسكن في القمر، ويُسَمَّون بـ: القمرية. وبعضهم يقولون: إنه يسكن في السحاب، ولذا إذا رأوا السحاب قالوا: السلام عليك يا أمير النحل (3) .

_ (1) انظر هذه هي الصوفية لعبد الرحمن الوكيل، ص35_38 و133. (2) انظر الخطوط العريضة لمحب الدين الخطيب، تحقيق: محمد مال الله، ص69، وانظر مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة، د. ناصر القفازي، ج1/290، والشيعة والسنة لإحسان إلهي ظهير، ص66. (3) انظر الحركات الباطنية في العالم الإسلامي، د. محمد بن أحمد الخطيب، ص341، ودراسات في الفرق لصابر طعمية، ص42، والنصيرية، د. سهير الفيل، ص93_103، والباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية لسيلمان الأذني، دار الصحوة.

11_الدروز: لقولهم بألوهية الحاكم بأمر الله العبيد، وغلوهم فيه، ووصفِه بأوصافٍ لا تليق إلا بالله وحده، كقولهم عنه: =إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور+ (1) . 12_من يعتقدون تأثير النجوم والكواكب والأسماء: وذلك كحال الذين يتتبعون الأبراج ويقولون_رجماً بالغيب_إذا ولد فلان في البرج الفلاني أو الشهر الفلاني أو اليوم الفلاني، أو كان اسمه يبدأ بحرف كذا أو كذا_فسيصيبه كذا وكذا، ويضعون عليها دعاياتٍ تقول: مِنْ شهر ميلادك تعرف حظك، أو من اسمك تعرف حظك. كل ذلك شرك في الربوبية؛ لأنه ادعاءٌ لعلم الغيبِ، والغيبُ لا يعلمه إلا الله وحده لا شريك له. 13_القانونيون: الذين يَصدون ويصدفون عن شرع الله، والذين يحكمون الناس بالقوانين الوضعية، التي هي من نحاتة أفكارهم، وزبالة أذهانهم. فهؤلاء محاربون لله، منازعون له في ربوبيته وحكمه وشرعه (2) .

(1) انظر عقيدة الدروز، عرض ونقض د. محمد بن أحمد الخطيب، ص117، وانظر الحركات الباطنية، ص233_238. (2) انظر ريالة تحكيم القوانين لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم×.

توحيد الأسماء والصفات

توحيد الأسماء والصفات تأليف الشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن العلم بأسماء الله وصفاته أشرف ما اكتسبته القلوب، وأزكى ما أدركته العقول؛ فهو زبدة الرسالة الإلهية، وهو الطريق إلى معرفة الله وعبادته وحده لا شريك له. وفيما يلي من صفحات سيكون الحديث عن هذا النوع من أنواع التوحيد من خلال الوقفات التالية: تعريف توحيد الأسماء والصفات. أهميته. ثمراته. طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته. الأدلة على صحة مذهب السلف. قواعد في أسماء الله عز وجل. قواعد في صفات الله عز وجل. ما ضد توحيد الأسماء والصفات؟ الفرق التي ضلت في باب الأسماء والصفات. حكم من نفى صفة من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة. مسائل أحدثها المتكلمون الكلمات المجملة. دراسة موجزة لبعض الكلمات المجملة. وقفة حول المجاز. وأخيراً أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يلهمنا رشدنا، ويعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا؛ إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم. محمد بن إبراهيم الحمد الزلفي: ص. ب: 460 www.toislam.net

تعريف توحيد الأسماء والصفات

تعريف توحيد الأسماء والصفات 1_هو: الإيمان بما وصف الله به نفسَه في كتابه، أو وَصَفَه به رسوله"من الأسماء الحسنى والصفات العلى وإمرارها كما جاءت على الوجه اللائق به_سبحانه وتعالى_ (1) . 2_أو هو: اعتقاد انفراد الله عز وجل بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة، والجلال، والجمال. وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله"من الأسماء والصفات، ومعانيها وأحكامها الواردة بالكتاب والسنة (2) . 3_وعرفه الشيخ عبد الرحمن بن سعدي×بتعريف جامع حيث قال: =توحيد الأسماء والصفات: وهو اعتقاد انفراد الرب جل جلاله بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة، والجلال، والجمال التي لا يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه. وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله"من جميع الأسماء، والصفات، ومعانيها، وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله، من غير نفي لشيء منها، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا تمثيل. ونفي ما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله"من النقائص والعيوب ومن كل ما ينافي كماله+ (3) . أهمية توحيد الأسماء والصفات للعلم بتوحيد الأسماء والصفات والإيمان به أهمية عظيمة، ومما يدل على أهميته مايلي: 1_أن الإيمان به داخل في الإيمان بالله عز وجل إذ لا يستقيم الإيمان بالله حتى يؤمن العبد بأسماء الله وصفاته. 2_أن معرفة توحيد الأسماء والصفات والإيمان به كما آمن السلف الصالح عبادة لله عز وجل فالله أمرنا بذلك، وطاعته واجبة. 3_الإيمان به كما آمن السلف الصالح طريق سلامة من الانحراف والزلل الذي وقع فيه أهل التعطيل، والتمثيل، وغيرهم ممن انحرف في هذا الباب. 4_الإيمان به على الوجه الحقيقي سلامة من وعيد الله، قال تعالى: [وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأعراف: 180) . 5_أن هذا العلم أشرف العلوم، وأجلها على الإطلاق؛ فالاشتغال بفهمه، والبحث فيه اشتغال بأعلى المطالب، وأشرف المواهب.

_ (1) انظر أعلام السنة المنشورة، للشيخ حافظ الحكمي، تحقيق مصطفى أبو النصر الشلبي، ص56. (2) انظر الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية، للشيخ عبد العزيز السلمان، ص41_42. (3) القول السديد في مقاصد التوحيد 3/10 مجموعة ابن سعدي.

ثمرات الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات

6_أن أعظم آية في القرآن هي آية الكرسي، وإنما كانت أعظم آية لاشتمالها على هذا النوع من أنواع التوحيد. 7_أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن؛ لأنها أخلصت في وصف الله عز وجل. 8_أن الإيمان به يثمر ثمرات عظيمة، وعبودياتٍ متنوعةً، ويتبين لنا شيء من ذلك عند الحديث عن ثمرات الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات (1) العلم بأسماء الله وصفاته، وتدبرها، وفهمها على مراد الله أهم العلوم وأشرفها كما مر؛ لما يثمره من الثمرات العظيمة النافعة المفيدة. ولقد اعتنى علماء الإسلام قديماً وحديثاً في بيان أسماء الله وصفاته، وشرحها، وإيضاحها، وبيان ثمرات الإيمان بها، فمن الثمرات التي تحصل من جراء الإيمان بها ما يلي: 1_العلم بأسماء الله وصفاته هو الطريق إلى معرفة الله: فالله خلق الخلق ليعرفوه، ويعبدوه، وهذا هو الغاية المطلوبة منهم؛ فالاشتغال بذلك اشتغال بما خُلق له العبد، وتركه وتضييعه إهمال لما خُلق له، وقبيح بعبد لم تزل نِعَمُ الله عليه متواترة أن يكون جاهلاً بربه، معرضاً عن معرفته.

_ (1) انظر كتاب التوحيد ومعرفة أسماء الله وصفاته على الاتفاق والتفرد لابن مندة تحقيق الشيخ د. علي الفقيهي، 2/18_19 والتفسير القيم لابن القيم ص24_37، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 2/9091، والصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة لابن القيم، تحقيق د. أحمد الغامدي ود. علي الفقيهي 1/59_62، وطريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم ص82_85، والقول السديد لابن سعدي ص161_163، والأسماء والصفات في معتقد أهل السنة والجماعة، د. عمر الأشقر ص18_39، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة للشيخ عبد الرزاق العباد، ص100_101، والنهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للشيخ محمد الحمود.

وإذا شاء العباد أن يعرفوا ربهم فليس لهم سبيل إلى ذلك إلا التعرف عليه من خلال النصوص الواصفةِ له، المصرِّحةِ بأفعاله وأسمائه، كما في آية الكرسي، وآخر سورة الحشر، وسورة الصمد، وغيرها. 2_أن معرفة الله تدعو إلى محبته وخشيته وخوفه ورجائه وإخلاص العمل له: وهذا هو عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته والتفقه بمعانيها، وأحكامها، ومقتضياتها. 3_تزكية النفوس وإقامتها على منهج العبودية للواحد الأحد: وهذه الثمرة من أجل الثمرات التي تحصل بمعرفة أسماء الله وصفاته، فالشريعة المنزلة من عند الله تهدف إلى إصلاح الإنسان، وطريقُ الصلاح هو إقامة العباد على منهج العبودية لله وحده لا شريك له، والعلمُ بأسماء الله وصفاته، يعصم بإذن الله من الزلل، ويفتح للعباد أبواب الأمل، ويثبت الإيمان، ويعين على الصبر، فإذا عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته، واستحضر معانيها أثّر ذلك فيه أيما تأثير، وامتلأ قلبه بأجل المعارف والألطاف. فمثلاً أسماء العظمة تملأ القلب تعظيماً وإجلالاً لله. وأسماء الجمال والبر والإحسان والرحمة والجود تملأ القلب محبة له، وشوقاً إليه، ورغبة بما عنده، وحمداً وشكراً له. وأسماء العزة، والحكمة، والعلم، والقدرة تملأ القلب خضوعاً وخشوعاً وانكساراً بين يديه عز وجل. وأسماء العلم، والخبرة، والإحاطة، والمراقبة، والمشاهدة تملأ القلب مراقبةً لله في الحركات والسكنات في الجلوات والخلوات، وحراسةً للخواطر عن الأفكار الرديئة، والإرادات الفاسدة. وأسماء الغنى، واللطف، تملأ القلب افتقاراً، واضطراراً، والتفاتاً إليه في كل وقت وحال. 4_الانزجار عن المعاصي: ذلك أن النفوس قد تهفو إلى مقارفة المعاصي، فتذكر أن الله يبصرها، فتستحضر هذا المقام وتذكر وقوفها بين يديه، فتنزجر وترعوي، وتجانب المعصية.

5_أن النفوس طُلعَة، تتطلع وتتشوق إلى ما في أيدي الآخرين، وربما وقع فيها شيء من الاعتراض أو الحسد، فعندما تتذكر أن الله من أسمائه =الحكيم+، والحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه عندئذٍ تكف عن حسدها، وتنقدع عن شهواتها، وتنفطم عن غيّها. 6_أن العبد يقع في المعصية، فتضيق عليه الأرض بما رَحُبت، ويأتيه الشيطان؛ ليجعله يسيء ظنه بربه، فيتذكر أن من أسماء الله =الرحيم، التواب، الغفور+ فلا يتمادى في خطيئته، بل ينزع عنها، ويتوب إلى ربه، ويستغفره فيجده غفوراً تواباً رحيماً. 7_ومنها أن العبد تتناوشه المصائب، والمكاره، فيلجأ إلى الركن الركين، والحصن الحصين، فيذهب عنه الجزع والهلع، وتنفتح له أبواب الأمل. 8_ويقارع الأشرار، وأعداء دين الله من الكفار والفجار، فيجدُّون في عداوته، وأذيته، ومنع الرزق عنه، وقصم عمره، فيعلم أن الأرزاق والأعمار بيد الله وحده، وذلك يُثمر له الشجاعة، وعبودية التوكل على الله ظاهراً وباطناً. 9_وتصيبه الأمراض، وربما استعصت وعزَّ علاجها، وربما استبد به الألم، ودب اليأس إلى قلبه، وذهب به كل مذهب، حينئذٍ يتذكر أن الله هو الشافي، فيرفع يديه إليه ويسأله الشفاء، فتنفتح له أبواب الأمل، وربما شفاه الله من مرضه، أو صرف عنه ما هو أعظم، أو عوضه عن ذلك صبراً وثباتاً ويقيناً هو عند العبد أفضل من الشفاء. 10_أن العلم به تعالى أصل الأشياء كلها: حتى إن العارف به حقيقة المعرفة يستدل بما علم من صفاته وأفعاله على ما يفعله ويشرعه من الأحكام؛ لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته؛ فأفعاله دائرة بين العدل، والفضل، والرحمة، والحكمة. 11_أن من انفتح له هذا الباب باب الأسماء والصفات انفتح له باب التوحيد الخالص، الذي لا يحصل إلا للكُمّل من الموحدين.

طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته

12_زيادة الإيمان: فالعلم بأسماء الله وصفاته من أعظم أسباب زيادة الإيمان، وذلك لما يورثه في قلوب العابدين من المحبة، والإنابة، والإخبات، والتقديس، والتعظيم للباري جل وعلا [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] (محمد:17) . 13_أن من أحصى تسعة وتسعين اسماً من أسماء الله دخل الجنة، قال": =إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة+ (1) . هذا وسيأتي معنى إحصائها عند الحديث عن قواعد في الأسماء. وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وآله وسلم. طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته (2) أهل السنة والجماعة هم الذين اجتمعوا على الأخذ بسنة النبي"والعمل بها ظاهراً وباطناً في القول والعمل والاعتقاد. وطريقتهم في أسماء الله وصفاته كما يأتي: 1_في الإثبات: يثبتون ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله"من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل. 2_في النفي: ينفون ما نفاه الله عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله"مع اعتقادهم ثبوت كمال ضده لله تعالى إذ إن كل ما نفاه الله عن نفسه فهو صفات نقص تنافي كماله الواجب؛ فجميع صفات النقص كالعجز والنوم والموت ممتنعة على الله تعالى لوجوب كماله، وما نفاه عن نفسه فالمراد به انتفاء تلك الصفة المنفية، وإثبات كمال ضدها؛ وذلك أن النفي المحض لا يدل على الكمال حتى يكون متضمناً لصفة ثبوتية يُحمد عليها كما في قوله تعالى: [لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ] (البقرة: 255) ، وقوله: [وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ] (ق: 38) .

_ (1) رواه البخاري، كتاب الدعوات (6410) ، ومسلم كتاب الذكر والدعاء (2677) . (2) انظر التوحيد لابن مندة 2/102 ومنهاج السنة لابن تيمية 2/105 و109_111 و132 و192 و198 و554_556، وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 3/35_40 و5/26 وانظر فتح ربِّ البرية بتخليص الحموية للشيخ محمد بن عثيمين 12_15.

فالله سبحانه وتعالى في آية الكرسي نفي عن نفسه (السنة والنوم) لكمال حياته وقيوميته، وفي الآية الثانية نفى نفسه (اللغوب) وهو التعب؛ لكمال قوته وقدرته، فالنفي هنا متضمن لصفة كمال. أما النفي المحض فليس بكمال، وقد يكون سببه العجز أو الضعف كما قول الشاعر النجاشي يهجو بني العجلان: قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمة ولا **** يظلمون الناس حبة خردل (1) فنفى عنهم الظلم لا لمدحهم، ولكن لذمهم؛ لأنهم عاجزون عنه أصلاً. وكذلك قول الآخر: لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد **** ليسوا من الشر في شيء وإن هانا فهو لا يمدحهم لقلة شرهم، ولكنه يذمهم لعجزهم، ولهذا قال في البيت الذي بعده: فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا **** شنوا الإغارة فرسانا وركبانا وقد يكون سبب النفي عدم القابلية فلا يقتضي مدحاً، كما لو قلت: (الجدار لا يظلم) . ومن هنا يتبين لنا أن النفي المحض لا يدل على الكمال إلا إذا تضمن إثبات كمال الضد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال؛ لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً. ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم، والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال+ (2) . 3_التوقف: وذلك فيما لم يرد إثباته أو نفيه مما تنازع الناس فيه كالجسم مثلاً، والحيز، والجهة ونحو ذلك، فطريقتهم فيه التوقف في لفظه فلا يثبتونه ولا ينفونه، لعدم ورود النص بذلك. أما معناه فيستفصلون عنه، فإن أُريد به معنى باطل يُنَزَّهُ الله عنه رَدَّوه، وإن أُريد به معنىً حقٌّ لا يمتنع على الله قبلوه.

_ (1) البيت للنجاشي أحد بني الحارث بن كعب. انظر الحماسة الشجرية 452 والشعر والشعراء لابن قتيبة ص330_331. (2) مجموع الفتاوى 3/35.

الأدلة على صحة مذهب السلف

فلفظة =الجسم+ مثلاً يتوقفون في اللفظ، أما المعنى فيستفصلون، فإن أُريد به الشيء المحدث المركب المفتقر كل جزء منه إلى الآخر فهذا ممتنع على الرب الحي القيوم. وإن أُريد بالجسم ما يقوم بنفسه، ويتصف به بما يليق به فهذا غير ممتنع على الله؛ فإنه سبحانه قائم بنفسه، متصف بالصفات الكاملة التي تليق به. وكذلك الحال بالنسبة =للجهة+ يتوقفون في اللفظة، أما المعنى فإن أُريد بها جهة سفل فإن الله منزّه عن ذلك، وإن أُريد جهة علو تُحيط به فهذا ممتنع أيضاً، وإن أُريد بها أن الله في جهة أي في جهة علو لا تُحيط به فهذا ثابت لله، وهكذا شأنهم في الألفاظ المجملة كما سيأتي بيان ذلك عند الحديث عن الألفاظ المجملة. وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وآله وسلم. الأدلة على صحة مذهب السلف (1) طريقة السلف الصالح أهل السنة والجماعة هي الطريقة الواجبة في أسماء الله وصفاته، وهي الأسلم والأعلم والأحكم، وليس هناك طريقة أخرى صحيحة في هذا الباب باب الأسماء والصفات إلا طريقتهم في إثباتها وإمرارها كما جاءت، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة منها: 1_أن طريقة السلف دل عليها الكتاب والسنة: فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأعراف:180) ، وقوله: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] (الشورى:11) ، وقوله: [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] (الإسراء:36) . فالآية الأولى: دلت على وجوب الإثبات من غير تحريف، ولا تعطيل؛ لأنهما من الإلحاد في أسمائه عز وجل.

_ (1) انظر منهاج السنة 2/561، وفتح ربِّ البرية، ص19_24، والأسماء والصفات في معتقد أهل السنة والجماعة ص213_221، ودعوة التوحيد للشيخ محمد خليل هراس ص19_24.

والآية الثانية: دلت على وجوب نفي التمثيل، والآية الثالثة دلت على وجوب نفي الكيفية، وعلى وجوب التوقف فيما لم يرد إثباته ولا نفيه. أما من السنة فالأدلة كثيرة منها قوله": =اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء (1) +. 2_العقل: فالعقل يدل على صحة مذهب السلف، ووجه دلالته أن تفصيل القول فيما يجب، ويجوز، ويمتنع على الله لا يُدْرَك إلا بالسمع الكتاب والسنة فوجب اتباع السمع في ذلك، وذلك بإثبات ما أثبته، ونفي ما نفاه، والسكوت عما سكت عنه. 3_الفطرة: أما دلالة الفطرة على صحة مذهب السلف فلأنَّ النفوس السليمة مجبولة ومفطورة على محبة الله وتعظيمه وعبادته، وهل تحب وتعظم وتعبد إلا من عرفت أنه متصف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص؟ 4_مطابقتها للكتاب والسنة: فمن تتبع طريقة السلف بعلم وعدل وجدها مطابقة لما في الكتاب والسنة جملة وتفصيلاً؛ ذلك لأن الله أنزل الكتاب ليدّبر الناس آياته، ويعملوا بها إن كانت أحكاماً، ويصدقوا بها إن كانت أخباراً. 5_أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين هم ورثة الأنبياء والمرسلين: فقد تلقوا علومهم من ينبوع الرسالة الإلهية؛ فالقرآن نزل بلغة الصحابة، وفي عصرهم، وهم أقرب الناس إلى معين النبوة الصافي، وهم أصفاهم قريحةً، وأقلهم تكلفاً، كيف وقد زكاهم الله في محكم تنزيله، وأثنى عليهم، وعلى التابعين لهم بإحسان كما قال تعالى: [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] (التوبة: 100) .

_ (1) رواه مسلم برقم (2713) .

وقد تهدد رب العزة الذين يتبعون غير سبيلهم بالعذاب الأليم فقال عز وجل: [وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] (النساء: 115) . ولا ريب أن سبيل المؤمنين هو سبيل الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان. فإذا كان الأمر كذلك فمن المحال أن يكون خير الناس، وأفضل القرون قد قصروا في هذا الباب بزيادة أو نقصان. 6_أن صفوة أولياء الله تعالى الذين لهم لسان صدق من سلف الأمة وخلفها هم على مذهب أهل السنة والجماعة، أهل الإثبات للأسماء والصفات، وهم أبعد الناس عن مذاهب أهل الإلحاد (1) . 7_تناقض علماء الكلام وحيرتهم واضطرابهم: فهذا مما يدل على صحة مذهب السلف؛ فلو كان مذهب الخلف حقّاً لما تناقضوا، ولما اضطربوا، ولما تحيروا وحيروا. 8_رجوع كثير من أئمة الكلام إلى الحق وإلى مذهب السلف: فهناك من أرباب علم الكلام الذين بلغوا الغاية فيه رجعوا إلى مذهب السلف، وتبرؤا من علم الكلام، وأعلنوا توبتهم منه، فهذا الرازي أحد أئمة أكابر علم الكلام ينوح على نفسه، ويبكي عليها، ويقول: نهايةُ إقدامِ العقولِ عقالُ **** وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا **** وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نَسْتَفِدْ من بحثنا طول عمرنا **** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالُ وكم قد رأينا من رجال ودولة **** فبادروا جميعا مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علا شرفاتِها **** رجال فزالوا والجبال جبال وقال ابن الصلاح: =أخبرني القطب الطوغائي مرتين أنه سمع فخر الدين الرازي يقول: يا ليتني لم اشتغل بعلم الكلام، وبكى+. وقد اعترف أكثر المتكلمين بالوقوع بالحيرة، والأمور، المشكلة المتعارضة فقال ابن أبي الحديد وهو من كبراء المعتزلة بعد عظيم توغله في علم الكلام:

_ (1) انظر درء تعارض العقل لابن تيمية 5/7.

فإذا الذي استكثرت منه هو الـ **** ـجاني على عظائم المحن فظللت في تيه بلا عَلَم **** وغرقت في بحر بلا سفن ومن الذين خاضوا في علم الكلام ورجعوا إلى منهج السلف أبو المعالي الجويني، والخسر وشاهي، وأبو حامد الغزالي (1) . ومن المتأخرين الذين خاضوا في علم الكلام ولم يرجعوا منه بفائدة، بل وقعوا في الحيرة الإمام الشوكاني×فإنه حدَّث عن نفسه فقال: =ها أنا أخبرك عن نفسي، وأوضح لك ما وقعت فيه أمس؛ فإني في أيام الطلب وعنفوان الشباب شغلت بهذا العلم الذي سمّوه تارة علم الكلام، وتارة علم التوحيد، وتارة علم أصول الدين، وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم، ورُمْت الرجوع بفائدة، والعود بعائدة، فلم أظفر بغير الخيبة والحيرة، وكان ذلك من الأسباب التي حبّبت إليَّ مذهب السلف على أني كنت قبل ذلك عليه، ولكن أردت أن أزداد منه بصيرة وبه شغفاً، وقلت عند ذلك في تلك المذاهب: وغاية ما حصّلته من مباحثي **** ومن نظري من بعد طول التأمل هو الوقف ما بين الطريقين **** حيرة فما علم من لم يلق غير التحير على أنني قد خضت منه غماره **** وما قنعت نفسي بغير التبحر (2) وبهذا يتبين لنا صحة مذهب السلف في باب الأسماء والصفات. وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وآله وسلم.

_ (1) انظر مجموع الفتاوى 4/72_75، و5/10_11، ودرء تعارض العقل والنقل 1/159_162، وكتاب الصفدية لابن تيمية 1/292_295، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص208_210 والتحف في مذاهب السلف للشوكاني ص34_44، والكواشف الجلية عن معاني الواسطية للشيخ عبد العزيز السلمان ص511_514، والأسماء والصفات د. عمر الأشقر ص210_222. (2) التحف في مذاهب السلف ص37_38.

قواعد في أسماء الله عز وجل

قواعد في أسماء الله عز وجل (1) _القاعدة الأولى_ أسماء الله_ تعالى_ كلها حسنى: أي بالغة في الحسن غايته، قال الله تعالى: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى] (الأعراف:180) . وذلك لأنها متضمنة لصفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، لا احتمالاً ولا تقديراً، ذلك لأن الألفاظ إما أن تدل على معنى ناقص نقصاً مطلقاً فهذه ينزه الله عنها، وإما أن تدل على غاية الكمال فهذه هي الدالة على أسماء الله وصفاته، وإما أن تدل على كمال لكنه يحتمل النقص فهذا لا يُسمّى الله به لكن يُخبر به عنه، مثل: المتكلم، الشائي. كذلك ما يدل على نقص من وجه وكمال من وجه لا يُسمّى الله به، لكن يُخبر به عن الله مثل: الماكر. ومثال الأسماء الحسنى =الحي+ وهو اسم من أسماء الله متضمن للحياة الكاملة التي لم تُسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها. ومثال آخر =العليم+ من أسماء الله متضمن للعلم الكامل، الذي لم يُسبق بجهل، ولا يلحقه نسيان. قال الله تعالى: [قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى] (طه:52) . العلم الواسع بكل شيء جملة وتفصيلاً، سواء ما يتعلق بأفعاله أو أفعال العباد. وقل مثل ذلك في السميع، والبصير، والرحمن، والعزيز، والحكيم وغيرها من الأسماء الحسنى. _القاعدة الثانية_ أسماء الله _تعالى_ أعلام وأوصاف: أعلام باعتبار دلالتها على الذات، وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني.

_ (1) انظر مجموع الفتاوى 6/71، وكتاب التوحيد لابن مندة 2/27، وبدائع الفوائد لابن القيم 1/159_170، وتوضيح الكافية الشافية لابن سعدي ص132، والحق الواضح المبين لابن سعدي ص108، والقواعد المثلى للشخ محمد بن عثيمين ص9_26، وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ عبد الله الغنيمان 1/75_77 وشرح كتاب التوحيد ص12_221 ودعوة التوحيد ص12_14، ومعارج القبول للحكمي 1/71.

وهي بالاعتبار الأول مترادفة؛ لدلالتها على مسمى واحد وهو الله عز وجل. وبالاعتبار الثاني متباينة؛ لدلالة كل واحد منها على معناه الخاص؛ فمثلاً =الحي، القدير، السميع، البصير، الرحيم، العزيز، الحكيم+ كلها أسماء لمسمى واحد وهو الله سبحانه وتعالى لكن معنى =الحي+ غير معنى =العليم+، ومعنى =العليم+ غير معنى =القدير+ وهكذا. . . _القاعدة الثالثة_ أسماء الله _تعالى_ إن دلت على وصفٍ متعدٍّ تضمنت ثلاثة أمور: أحدها: ثبوت ذلك الاسم. الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها ذلك الاسم لله_ عز وجل_. الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها _أي الأسماء_. مثال ذلك =السميع+ فهو يتضمن إثبات =السميع+ اسماً لله تعالى وإثبات =السمع+ صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه، وهو أنه يسمع السر والنجوى، كما قال تعالى: [وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] (المجادلة: 1) . وقل مثل ذلك في العليم والرحيم، وغيرها من الأسماء المتعدية. وإن دلت على وصفٍ غير متعدٍ لا لازم تضمن أمرين: أحدها: ثبوت ذلك الاسم. الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل. مثل اسم =الحي+ فهو يتضمن إثبات اسم =الحي+ لله عز وجل وإثبات =الحياة+ صفة له، ومثل ذلك اسم =العظيم والجليل+. _القاعدة الرابعة_ دلالة أسماء الله _تعالى_ على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة، وبالتضمن، وبالالتزام. فمعنى دلالة المطابقة: تفسير الاسم بجميع مدلوله، أو دلالته على جميع معناه. ومعنى دلالة التضمن: تفسير الاسم ببعض مدلوله، أو بجزء معناه. ومعنى دلالة الالتزام: الاستدلال بالاسم على غيره من الأسماء التي يتوقف هذا الاسم عليها، أو على لازم خارج عنها. مثال ذلك: =الخالق+ يدل على ذات الله، وعلى صفة =الخلق+ بالمطابقة، ويدل على الذات وحدها بالتضمن، ويدل على صفتي =العلم والقدرة+ بالالتزام.

وذلك لأن الخالق لا يمكن أن يخلق إلا وهو قادر، وكذلك لا يمكن أن يخلق إلا وهو عالم (1) . _القاعدة الخامسة_ أسماء الله توقيفية لا مجال للعقل فيها: ومعنى ذلك أن نتوقف على ما جاء في الكتاب والسنّة، فلا نسمّي الله تعالى إلا بما سمَّى به نفسه، أو سمّاه به رسوله"لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه الله تعالى من الأسماء.

_ (1) هذه الأنواع الثلاثة تسمى أنوع الدلالة اللفظية الوضعية. وإليك بعض التفصيل في هذه الأنواع زيادة على ما مضى؛ لتتضح بصورة أجلى. 1_ الدلالة المطابقية: وهي دلالة اللفظ على تمام ما وضع له من حيث إنه وضع له. وذلك مثل دلالة لفظ (البيت) على الجدار والسقف معاً. ودلالة لفظ (إنسان) على الحيوان الناطق، ودلالة اسم (العليم) على ذات الله وعلمه، أي دلالة الاسم على المسمى، والصفة المشتقة من الاسم نفسه وسميت مطابقية؛ لتطابق اللفظ والمعنى، وتوافقهما في الدلالة. 2_ الدلالة التضمنية: وهي دلالة اللفظ على جزء ما وضع له في ضمن كل المعنى. مثل دلالة البيت على الجدار وحده، وعلى السقف وحده. وسميت تضمنية لأنها عبارة عن فهم جزء من الكل؛ فالجزء داخل ضمن الكل، أي في داخله. ومن هذا النوع مثلاً دلالة اسم الله (السميع) على ذات الله وحدها، وعلى صفة السمع وحدها، بصرف النظر عن استعمال الجزء والكل، بل يقال على الصفة والموصوف. 3_ الدلالة الالتزامية: هي دلالة اللفظ على خارج عن معناه الذي وضع له. مثل دلالة اسم الله (القدير) على صفة الحياة، وعلى العلم وغيرهما من صفات الله _تعالى_. يقول المناطقة: إن بين الدلالة المطابقية والدلالة التضمنية العموم والخصوص المطلق؛ فإذا وجدت التضمنية وجدت المطابقية دون العكس، أي لا يلزم من وجود المطابقية وجود التضمنية. انظر المرشد السليم إلى المنطق الحديث والقديم د. عوض الله جاد حجازي، والصفات الإلهية د. محمد أمان ص178_179.

وتسميتهُ تعالى بما لم يسمِّ به نفسه، أو إنكار ما سمَّى به نفسه جناية في حقه تعالى فوجب سلوك الأدب، والوقوف مع النص. _القاعدة السادسة_ أسماء الله غير محصورة بعدد معين: لقوله"في الحديث المشهور: =أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك+ (1) . وما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن أحداً حَصْرُه، ولا الإحاطة به. قال ابن القيم×في قوله": =استأثرت به+: =أي انفردت بعلمه، وليس المراد انفراده بالتسمي به؛ لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزل بها كتابه+ (2) . وأما قوله"في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: =إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة+ (3) فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة =إن أسماء الله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة+. قال ابن القيم×في بيان مراتب إحصاء أسماء الله التي من أحصاها دخل الجنة: =المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها. المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها. المرتبة الثالثة: دعاؤه بها كما قال تعالى: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] (الأعراف: 180) . وهو مرتبتان، إحداها: دعاء ثناء وعبادة، والثاني: دعاء طلب ومسألة+ (4) . _القاعدة السابعة_ أن من أسماء الله _تعالى_ ما يطلق عليه مفرداً ومقترناً بغيره، ومنها ما لا يطلق إلا مقترناً بمُقابله: فغالب الأسماء يطلق مفرداً ومقترناً بغيره من الأسماء، كالقدير، والسميع، والبصير، والعزيز، والحليم. فهذه الأسماء وما جرى مجراها يسوغ أن يدعى بها مفردة، ومقترنة بغيرها، فنقول: يا عزيز، يا حليم، يا غفور، يا رحيم.

_ (1) رواه أحمد 1/394، وصححه الألباني في الصحيحية (199) . (2) بدائع الفوائد 1/166. (3) سبق تخريجه. (4) بدائع الفوائد 1/164.

قواعد في صفات الله ـ تعالى ـ

أو أن يفرد كل اسم على حِدَةٍ فنقول: يا حليم، أو يا غفور، أو يا عزيز وهكذا ... ومن الأسماء ما لا يطلق عليه بمفرده، بل مقروناً بمقابله، كالمانع، والضار، والمنتقم، والمذل. فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله؛ فإنه مقرون بالمعطي، والنافع والعَفُو والمعز؛ فهو المعطي المانع، الضار النافع، المنتقم العفو، المعز المذل؛ لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله؛ لأنه يراد به أن المنفرد بالربوبية، وتدبير الخلق، والتصرف فيهم عطاءً ومنعاً، ونفعاً وضراً، وعفواً وانتقاماً، وعزَّاً وذلاً. وأما أن يُثنى عليه بمجرد المنع، والانتقام، والإضرار فلا يسوغ. فهذه الأسماء المزدوجة تجرى الأسماء منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض؛ فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد، ولذلك لم تجىء مفردة، ولم تُطلق عليه إلا مقترنة؛ فلو قلت: يا مذل، يا ضار، يا مانع وأخبرت بذلك لم تكن مثنياً عليه ولا حامداً له حتى تذكر مقابلها. وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وآله وسلم. قواعد في صفات الله ـ تعالى ـ (1) القاعدة الأولى: صفات الله كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجه: كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعلو، والعظمة، وغير ذلك، وقد دل على هذا: السمعُ والعقلُ، والفطرة. أما السمع فمنه قوله تعالى: [لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى] (النحل: 60) . والمثل الأعلى: الوصف الأعلى الكامل. وأما العقل فوجهه: أن كل موجود حقيقةً لابد أن تكون له صفة: إما صفة كمال، وإما صفة نقص، والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة، فتعين الأول. ثم إنه قد ثبت بالحسن والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال، ومُعْطي الكمال أولى به.

_ (1) انظر بدائع الفوائد 1/159_170، القواعد المثلى ص27_38، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي في توضيح العقيدة ص112_125، ودعوة التوحيد 14_19.

وأما الفطرة: فلأن النفوس السليمة مجبولة على محبة الله، وتعظيمه، وعبادته. وهل تحب، وتعظم، وتعبد إلا من علمت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته؟. ثم إن الصفات منها ما هو كمال على الإطلاق كالصفات السابقة، فهذه ثابتة لله تعالى. ومنها ما هو نقص على الإطلاق فهذه منفية عن الله، كالجهل، والعمى، والصمم. ومنها ما هو كمال من وجه ونقص من وجه، فهذه يوصف الله بها في حال كمالها، ويمتنع وصفه بها في حال نقصها، بحيث يوصف الله بها وصفاً مقيداً مثل المكر، والكيد والمخادعة. القاعدة الثانية: باب الصفات أوسع من باب الأسماء: وذلك لأن كل اسم متضمن لصفة كما سبق في القاعدة الثالثة من قواعد الأسماء، ولأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله، وأفعاله عز وجل لا منتهى لها. قال تعالى: [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (لقمان: 27) . ومن أمثلة ذلك أن من صفات الله المجيءَ والأخذَ، والإتيان، والإمساك، والبطش، فنصف الله بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولا نسميه بها، فلا نقول: إن من أسمائه الجائي، والآتي، والباطش، والآخذ، والممسك، والنازل، والمريد، ونحو ذلك، وإن كنا نُخبر بذلك عنه، ونصفه به. القاعدة الثالثة: صفات الله تنقسم إلى قسمين: ثبوتية وسلبية: فالثبوتية: هي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله"وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء، واليدين، والوجه، فيجب إثباتها لله على الوجه اللائق به، وقد تقدم ذلك في الحديث عن طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته. وأما السلبية أو المنفية: فهي ما نفاه الله عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله"مثل الصمم، والنوم، وغير ذلك من صفات النقص، فيجب نفيها عن الله كما مر.

القاعدة الرابعة: الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال، فكلما كثرت وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر: ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر من الصفات السلبية؛ فالقاعدة في ذلك الإثبات المفصل، والنفي المجمل؛ فالإثبات مقصود لذاته، أما النفي فلم يذكر غالباً إلا على الأحوال التالية: أ_بيان عموم كماله كما في قوله تعالى: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] (الشورى: 11) ، وقوله [وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ] (الإخلاص: 4) . ب_ نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون كما في قوله: [أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً] (مريم:، 91 92) . ج_ دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر كما في قوله: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ] (الدخان: 38) ، وقوله: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ] (ق: 38) . ثم إن النفي مع أنه مجمل بالنسبة للإثبات إلا أن فيه تفصيلاً وإجمالاً بالنسبة لنفسه. فالإجمال في النفي أن ينفى عن الله عز وجل كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص، كما في قوله تعالى: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] (الشورى: 11) . وقوله: [هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً] (مريم: 65) . وقوله: [سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون] (الصافات: 180) . وأما التفصيل في النفي فهو أن ينزه عن كل واحد من العيوب والنقائض بخصوصه، فينزه عن الولد، والصاحبة، والسِّنة، والنوم، وغير ذلك مما ينزه الله عنه. القاعدة الخامسة: الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية وفعلية: أ_الذاتية: هي التي لم يزل الله ولا يزال متصفاً بها، وهي التي لا تنفك عنه سبحانه وتعالى كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعزة، والحكمة، والوجه، واليدين.

ب_ الفعلية: وتسمى الصفات الاختيارية، وهي التي تتعلق بمشيئة الله، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، وتتجدد حسب المشيئة كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا. وقد تكون الصفة ذاتية وفعلية باعتبارين، كالكلام؛ فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية؛ لأن الكلام يتعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء بما شاء، وكل صفة تعلقت بمشيئته تعالى فإنها تابعة لحكمته، وقد تكون الحكمة معلومة لنا، وقد نعجز عن إدراكها، لكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانه لا يشاء إلا وهو موافق لحكمته، كما يشير إليه قوله تعالى: [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً] (الإنسان: 30) . القاعدة السادسة: الصفات الذاتية والفعلية تنقسم إلى قسمين: عقلية، وخبرية: أ_ عقلية: وهي التي يشترك في إثباتها الدليل الشرعي السمعي، والدليل العقلي، والفطرة السليمة. وهي أغلب صفات الله تعالى مثل صفة السمع، والبصر، والقوة، والقدرة، وغيرها. ب_ خبرية: وتسمى النقلية، والسمعية، وهي التي لا تعرف إلا عن طريق النص، فطريق معرفتها النص فقط، مع أن العقل السليم لا ينافيها، مثل صفة اليدين، والنزول إلى السماء الدنيا. القاعدة السابعة: صفات الله توقيفية: فلا نَصِفُ الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله". ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه: أ_ التصريح بالصفة: كالعزة، والقوة، والرحمة، كما في قوله تعالى: [فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً] (النساء: 139) ، وقوله: [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] (الذاريات:58) ، وقوله: [وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ] (الأنعام:133) .

ب تضمن الاسم لها: كالعزيز والغفور، قال تعالى: [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ] (الملك: 2) ؛ فالعزيز متضمن لصفة العزة، والغفور متضمن لصفة المغفرة. ج_ التصريح بفعل أو وصف دال عليها، كالاستواء على العرش، والمجىء قال تعالى: [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى] (طه: 5) . وقال: [وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً] (الفجر: 22) . القاعدة الثامنة: المضافات إلى الله إن كانت أعياناً فهي من جملة المخلوقات، وإن كانت أوصافاً فهي من صفات الله: وبيان ذلك أن المضافات إلى الله على نوعين: أ_أعيان قائمة بذاتها مثل: عبد الله، ناقة الله، فهذه من جملة المخلوقات، وإضافتها إلى الله من باب إضافة المخلوق لخالقه، وقد تقتضي تشريفاً مثل: بيت الله، وناقة الله، وقد لا تقتضي تشريفاً مثل: أرض الله، سماء الله. ب_ أن يكون المضاف أوصافاً غير قائمة بذاتها مثل: سَمْع الله، قدرة الله، بصر الله، فهذه الإضافة تقتضي أن هذه الصفة قائمة بالله، وأن الله متصف بها، وهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف. القاعدة التاسعة: القول في بعض الصفات كالقول في بعض: وهي قاعدة يُردُّ بها على من فرَّق بين الصفات فأثبت بعضها، ونفى بعضها، فيقال لمن فعل ذلك: أثبت الجميع، أو انفِ الجميع. ومن أثبت بعض الصفات، ونفى بعضها، فهو مضطرب متناقض، وتناقض القول دليل على فساده وبطلانه. القاعدة العاشرة: القول في الصفات كالقول في الذات: وذلك أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقية لا تماثل الذوات فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل الصفات. القاعدة الحادية عشرة: ظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار، ومجهولة لنا باعتبار:

ما ضد توحيد الأسماء والصفات

فباعتبار المعنى معلومة، وباعتبار الكيفية مجهولة؛ كالاستواء مثلاً، فمعناه معلوم لنا فهو بمعنى العلو، والارتفاع، والصعود، والاستقرار. أما كيفيته فمجهولة؛ لأن الله أخبرنا بأنه استوى، ولم يخبرنا عن كيفية استوائه، وهكذا يقال في باقي الصفات. القاعدة الثانية عشرة: في العلاقة بين الصفات والذات: وخلاصة القول في هذه المسألة أن العلاقة بين الصفات والذات علاقة تلازم؛ فالإيمان بالذات يستلزم الإيمان بالصفات، وكذلك العكس؛ فلا يتصور وجود ذات مجردة عن الصفات في الخارج، كما لا يتحقق وجود صفة من الصفات في الخارج إلا وهي قائمة بالذات (1) . القاعدة الثالثة عشرة: في علاقة الصفات بعضها ببعض من حيث الآثار والمعاني: أما بالنسبة لبعضها فقد تكون مترادفة من حيث المعنى أو متقاربة. مثل المحبة، والرحمة، والفرح، والتعجب، والضحك. وهناك صفات متقابلة كالرفع والخفض، والظاهرية والباطنية، والنفع والضر، والقبض والبسط. وهناك صفات متضادة من حيث معانيها، مثل الغضب والسخط مع الرضا، ومثل الكراهية مع الحب، وهكذا. . . فاتصافه عز وجل بهذه الصفات المزدوجة المأخوذة من أسمائه المتقابلة، وبالصفات المتضادة في معناها على ما تقدم، والمترادفة باعتبار الذات، والمتباينة باعتبار ما بينها في الغالب دليل على الكمال الذي لا يشاركه فيه أحد؛ لدلالته على شمول القدرة الباهرة، الحكمة البالغة، والتفرد بشؤون الكون كله (2) . وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وآله وسلم. ما ضد توحيد الأسماء والصفات يضاد توحيد الأسماء، والصفات الإلحادُ فيها، ويدخل في الإلحاد التعطيلُ، والتمثيلُ، والتكييف، والتفويض، والتحريف، والتأويل. 1_الإلحاد: الإلحاد في اللغة هو: الميل، ومنه اللحد في القبر، ومنه قول عمرو بن معدي كرب الزبيدي: كم من أخ كان لي ماجدٍ **** ألحدته في يديَّ الثرى

_ (1) انظر الصفات الإلهية د. محمد أمان ص341. (2) انظر الصفات الإلهية ص347_349.

وقول جرير: دعوت الملحدين أبا خبيب **** جماحاً هل شفيت من الجماح (1) ويُقصد بالملحدين: المائلين عن الحق. أما في الاصطلاح: فهو العدول عما يجب اعتقاده أو عمله (2) . والإلحاد في أسماء الله هو: العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها. أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته (3) : 1_أن ينكر شيئاً مما دلت عليه من الصفات كفعل المعطلة. 2_أن يجعلها دالة على تشبيه الله بخلقه، كفعل أهل التمثيل. 3_أن يُسمي الله بما لم يُسمِّ به نفسه؛ لأن أسماء الله توقيفية، كتسمية النصارى له =أباً+ وتسمية الفلاسفة إياه =علة فاعلة+ أو تسميته ب =مهندس الكون+ أو =العقل المدبر+ أو غير ذلك. 4_أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام، كاشتقاق =اللات+ من =الإله+ والعُزَّى من =العزيز+. 5_وصفه تعالى بما لا يليق به، وبما ينزه عنه، كقول اليهود: بأن الله تَعِبَ من خلق السماوات والأرض، واستراح يوم السبت، أو قولهم: إن الله فقير. 2_التعطيل: التعطيل في اللغة: مأخوذ من العطل، الذي هو الخلو والفراغ والترك، ومنه قوله تعالى: [وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ] (الحج: 45) ، أي: أهملها أهلها، وتركوا وردها (4) . وفي الاصطلاح: هو إنكار ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات، أو إنكار بعضه، وهو نوعان: أ_تعطيل كلي: كتعطيل الجهمية الذين أنكروا الصفات، وغلاتهم ينكرون الأسماء أيضاً. ب_ تعطيل جزئي: كتعطيل الأشعرية الذين ينكرون بعض الصفات دون بعض، وأول من عرف ذلك من هذه الأمة الجعد بن درهم (5) . 3_التمثيل: هو: إثبات مثيل للشيء، وفي الاصطلاح: اعتقاد أن صفات الله مثل صفات المخلوقين، كأن يقول الشخص: لله يد كيدي.

_ (1) ديوان جرير ص74. (2) انظر فتح ربِّ البرية بتخليص الحموية، ص18. (3) انظر المرجع السابق، ص19. (4) شرح العقيدة الواسطية، للهراس ص67. (5) انظر فتح البرية، ص15_16.

4_التكييف: حكاية كيفية الصفة كقول القائل: يد الله أو نزوله إلى الدنيا كذا وكذا، أو يده طويلة، أو غير ذلك، أو أن يسأل عن صفات الله بكيف. 5_التفويض: هو الحكم بأن معاني نصوص الصفات مجهولة غير معقولة لا يعلمها إلا الله (1) . أو هو إثبات الصفات وتفويض معناها وكيفيتها إلى الله عز وجل. والحق أن الصفات معلومة معانيها، أما كيفيتها فيفوض علمها إلى الله عز وجل. 6_التحريف: التحريف لغة: التغيير، وفي الاصطلاح: تغيير النص لفظاً أو معنى. والتغيير اللفظي قد يتغير معه المعنى، وقد لا يتغير، فهذه ثلاثة أقسام: أ_تحريف لفظي يتغير معه المعنى، كتحريف بعضهم قوله تعالى: [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً] (النساء: 164) إلى نصب لفظ الجلالة؛ ليكون التكليم من موسى عليه السلام. ب_ تحريف لفظي لا يتغير معه المعنى، كفتح الدال من قوله تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] (الفاتحة: 2) ، وذلك بأن يقول: =الحمدَ لله. . . + وهذا في الغالب لا يقع إلا من جاهل؛ إذ ليس فيه غرض مقصود لفاعله غالباً. جـ_ تحريف معنوي: وهو صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل كتحريف معنى =اليدين+ المضافتين إلى الله إلى القوة والنعمة ونحو ذلك. 7_التأويل: التأويل في اللغة يدور حول عدة معانٍ، منها الرجوع، والعاقبة، والمصير، والتفسير. أما في الاصطلاح فيطلق على ثلاثة معانٍ، اثنان منهما صحيحان مقبولان معلومان عند السلف، والثالث مبتدع باطل. وإليك بيان هذه المعاني: المعنى الأول: التفسير، وهو إيضاح المعنى، وبيانه. وهذا اصطلاح جمهور المفسرين كابن جرير وغيره، فتراهم يقولون: تأويل هذه الآية كذا وكذا، أي تفسيرها.

_ (1) انظر مذهب التفويض في نصوص عرض ونقد للشيخ أحمد القاضي ص567.

الفرق التي ضلت في باب الأسماء والصفات

الثاني: الحقيقة التي يؤول إليها الشيء، وهذا هو المعروف من معنى التأويل في الكتاب والسنة، كما قال تعالى: [هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ] (الأعراف: 53) ، وقوله: [ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] (الإسراء: 35) ، وقوله عن يوسف عليه السلام: =هذا تأويل رؤياي من قبل+. الثالث: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر. وهذا ما اصطلح عليه المتأخرون من أهل الكلام وغيرهم. كتأويلهم الاستواء بالاستيلاء، واليد بالنعمة. وهذا هو الذي ذمه السلف. الفرق التي ضلت في باب الأسماء والصفات (1) هناك فرق عديدة ضلت في هذا الباب منها: 1_الجهمية: وهم أتباع الجهم بن صفوان، وهم ينكرون الأسماء والصفات. 2_المعتزلة: وهم أتباع واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وهم يثبتون الأسماء، وينكرون الصفات، معتقدين أن إثباتها يؤدي إلى تعدد القدماء (2) . 3_الأشاعرة: وهم أتباع أبي الحسن الأشعري، وهم يثبتون الأسماء، وبعض الصفات، فقالوا: إن لله سبع صفات عقلية يسمونها =معاني+ هي =الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر والكلام+ وهي مجموعة في قول القائل: حي عليم قدير والكلام له **** إرادة وكذلك السمع والبصر … وإثباتهم لهذه الصفات مخالف لطريقة السلف (3) . 4_الماتريدية: وهم أتباع أبي منصور الماتريدي، وهم يثبتون الأسماء وبعض الصفات، وإن كان هذا الإثبات مخالفاً لطريقة السلف (4) . 5_الممثلة: وهم الذين أثبتوا الصفات، وجعلوها مماثلة لصفات المخلوقين، وقيل إن أول من قال بذلك هو هشام بن الحكم الرافضي.

_ (1) انظر فتح رب البرية، ص15. (2) نظر النعتزلة، وأصولهم الخمسة، وموقف أهل السنة منها د. عواد المعتق، ص84. (3) منهج الأشاعرة في العقيدة، د. سفر الحوالي، ص60. (4) انظر الماتردية دراسة وتقويماً، للشيخ أحمد بن عوض الله الحربي، ص234.

حكم من نفى صفة من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة

حكم من نفى صفة من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة هذا الأمر يحتاج إلى تأنٍّ وتريث، ثم تفصيل. فيقال: إن الذي ينفي صفة من الصفات الثابتة بالنصوص القطعية لا يخلو من أحد ثلاثة أحوال. أحدها: أن يكون النافي عالماً بالنص الذي ثبتت به الصفة المنفية كتاباً كان أو سنة، ولا توجد لديه شبهات قد تغير مفهومه للنص وإنما نفى لعناده، وفساد قصده، ومرض قلبه، ومشاقته للرسول من بعد ما تبين له الحق. فهذا كافر؛ لتكذيبه كلام الله أو كلام رسوله". الثاني: أن يكون النافي مجتهداً في طلب الحق، معروفاً بالنصيحة والصدق ولكنه أخطأ وتأول: لجهله بالنص، أو لعدم علمه بالمفهوم الصحيح. فحكمه أنه معذور، وخطؤه مغفور؛ لأن نفيه ناتج عن تأويل، لا عن عناد وفساد قصد. الثالث: أن يكون النافي متعباً لهواه، مقصراً في طلب الحق، متكلماً بلا علم، ولكنه لا يقصد مشاقة الرسول، ولم يتبين له الحق تماماً فحكمه أنه عاصٍ مذنب، وقد يكون فاسقاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وأما التكفير فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد"وقصد الحق فأخطأ لم يكفر، بل يغفر له خطؤه ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاقَّ الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر. ومن اتبع هواه، وقصَّر في طلب الحق، وتكلم بلا علم فهو عاصٍ مذنب، وقد يكون فاسقاً، وقد تكون حسناته ترجح على سيئاته؛ فالتكفير يختلف باختلاف حال الشخص؛ فليس كل مخطىء، ولا مبتدع ولا جاهل، ولا ضال يكون كافراً، بل ولا فاسقاً، بل ولا عاصياً+ (1) . وقال ×: =هذا مع أنني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق ومعصية إلا إذا عُلِم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى. وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية.

_ (1) مجموع الفتاوى 2/180.

مسائل أحدثها المتكلمون / الكلمات المجملة

وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر، ولا بفسق، ولا بمعصية. إلى أن قال: =وكنت أبيِّن أن ما نقل عن السلف، والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول: كذا وكذا فهو أيضاً حق. لكن يجب التفريق بين الإطلاق، والتعيين+ (1) . مسائل أحدثها المتكلمون / الكلمات المُجْمَلة يَرِدُ في كتب العقائد مصطلح (الكلمات المجملة) . فما المقصود بها؟ وما معنى كونها مجملة؟ وما المراد من إطلاقها؟ وما الذي دعى إلى إطلاقها؟ وهل وردت في الكتاب والسنة؟ وما طريقة أهل السنة في التعامل مع هذه الألفاظ؟ والإجابة عن هذه الأسئلة تكون على النحو التالي: أ_المقصود بالكلمات المجملة: أنها ألفاظ يطلقها أهل التعطيل. أو: هي مصطلحات أحدها أهل الكلام. ب_ ومعنى كونها مجملة: لأنها تحتمل حقاً وباطلاً. أو يقال: لأنها ألفاظ مُشتركة بين معانٍ صحيحة، ومعانٍ باطلة. أو يقال لخفاء المراد منها؛ بحيث لا يدرك بنفس اللفظ إلا بعد الاستفصال والاستفسار. ج_ ومراد أهل التعطيل من إطلاقها: التوصل إلى نفي الصفات عن الله تعالى بحجة تنزيهه عن النقائص. د_ والذي دعاهم إلى ذلك: عجزهم عن مقارعة أهل السنة بالحجة؛ فلجؤوا إلى هذه الطريقة؛ ليخفوا عوارهم، وزيفهم. هـ_ وهذه الألفاظ لم ترد لا في الكتاب، ولا في السنة؛ بل هي من إطلاقات أهل الكلام. و_ وطريقة أهل السنة في التعامل مع هذه الكلمات: أنهم يتوقفون في هذه الألفاظ؛ لأنه لم يرد نفيها ولا إثباتها في الكتاب والسنة؛ فلا يثبتونها، ولا ينفونها. أما المعنى الذي تحت هذه الألفاظ فإنهم يستفصلون عنه، فإن كان معنى بالطلاً يُنَزَّه الله عنه رَدُّوه، وإن كان معنى حقاً لا يمتنع على الله قبلوه، واستعملوا اللفظ الشرعي المناسب للمقام. وإليك فيما يلي نماذج وأمثلة لبعض الألفاظ المجملة: 1_الجهة. 2_الحدَّ. 3_الأعراض. 4_الأبعاض أو الأعضاء والأركان والجوارح. 5_حلول الحوادث بالله_تعالى_.

_ (1) مجموع الفتاوى 3/229.

دراسة موجزة لبعض الكلمات المجملة

6_حلول الحوادث بالله_تعالى_. 7_التسلسل. وإليك فيما يلي تفصيلاً لهذه الألفاظ، وما يراد بها، وجواب أهل السنة المفصل على ذلك. يَرِدُ في كتب العقائد مصطلح (الكلمات المجملة) . دراسة موجزة لبعض الكلمات المُجْملة أولاً_الجهة: هذه اللفظة من الكلمات المجملة التي يطلقها أهل التعطيل، فما معناها في اللغة؟ وما مرادهم من إطلاقها؟ وما التحقيق في تلك اللفظة؟ وهي هي ثابتة لله، أو منفية عنه؟ أ_معنى الجهلة في اللغة: تطلق على الوضع الذي تتوجه إليه، وتقصده، وتطلق على الطريق، وعلى كل شيء استقبلته، وأخذت فيه (1) . ب_ ومراد أهل التعطيل من إطلاق لفظ الجهة: نفي صفة العلو عن الله عز وجل. ج_ والتحقيق في هذه اللفظة: أن يقال: إن إطلاق لفظ الجهة في حق الله سبحانه وتعالى أمر مبتدع لم يرد في الكتاب ولا السنة، ولا عن أحد من سلف هذه الأمة. وبناء على هذا لا يصح إطلاق الجهة على الله عز وجل لا نفياً ولا إثباتاً، بل لابد من التفصيل؛ لأن هذا المعنى يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً. فإن أريد بها جهة سفل فإنها منتفية عن الله، وممتنعة عليه أيضا؛ فإن الله أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، كيف وقد وسع كرسيه السموات والأرض؟ وإن أريد بالجهة أنه في جميع الجها، وأنه حالٌّ في خلقه، وأنه بذاته في كل مكان فإن ذلك بالحل ممتنع على الله، منتفٍ في حقه. وإن أريد نفي الجهة عن الله كما يقول أهل التعطيل حيث يقولون: إن الله ليس في جهة، أي ليس في مكان، فهو لا داخل العالم، ولا خارجة، ولا متصل، ولا منفصل، ولا فوق، ولا تحت فإن ذلك أيضاً ممتنع على الله منتفٍ في حقه؛ إذ إن ذلك وصف له بالعدم المحض. وإن أريد بالجهة أنه في جهة علوٍّ تليق بجلاله، وعظمته من غير إحاطة به، ومن غير أن يكون محتاجاً لأحد من خلقه فإن ذلك حق ثابت له، ومعنى صحيح دلت عليه النصوص، والعقول، والفطر السليمة.

_ (1) انظر لسان العرب 13/555_560.

ومعنى كونه في السماء، أي في جهة العلو، أو أن =في+ بمعنى على، أي على السماء، كما قال تعالى: [وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ] (طه: 71) أي على جذوع النخل. وبهذا التفصيل يتبين الحق من الباطل في هذا الإطلاق. أما بالنسبة للفظ فكما سبق لا يثبت ولا ينفي، بل يجب أن يستعمل بدلاً عنه اللفظ الشرعي، وهو العلو، والفوقية (1) . ثانياً_الحد: وهذا_أيضاً_ من الألفاظ المجملة التي يطلقها أهل التعطيل. فما معنى الحد في اللغة؟ وماذا يريد أهل التعطيل من إطلاقه؟ وما شبهتهم في ذلك؟ وما جواب أهل السنة؟ أ_ معنى الحد في اللغة: يطلق على الفَصْل، والمنع، والحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر. يقال: حددت كذا، جعلت له حداً يميزه. وجد الدار ما تتميز به عن غيرها، وحد الشيء: الوصف المحيط بمعناه، المميز له عن غيره (2) . ب_ وأهل التعطيل يريدون من إطلاق لفظ (الحد) نفي استواء الله على عرشه. ج_ وشبهتهم في ذلك: أنهم يقولون: لو أثبتنا استواء الله على عرشه للزم أن يكون محدوداً؛ لأن المستوى على الشيء يكون محدوداً؛ فالإنسان مثلاً إذا استوى على البعير صار محدوداً بمنطقة معينة، محصوراً بها، وعلى محدود أيضاً. وبناء على ذلك فهم ينفون استواء الله على عرشه ويرون أنهم ينزهون الله عز وجل عن الحد، أو الحدود. د جواب أهل السنة: أهل السنة يقولون: إن لفظ (الحد) لم يرد في الكتاب، ولا في السنة، ولا في كلام سلف الأمة؛ فهو إذاً لفظ مبتدع حادث. وليس لنا أن نصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله"لا نفياً، ولا إثباتاً، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون. هذا بالنسبة للفظ.

_ (1) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص221، والتحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية ص166_171. وتخليص الحموية للشيخ محمد بن عثيمين _ رحمه الله _ ص33_35. (2) انظر معجم مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص108، والمصباح المنير للفيومي ص68.

أما بالنسبة للمعنى فإننا نستفصل كعادتنا ونقول ماذا تريدون بالحد؟ إن أردتم بالحد أن الله عز وجل محدود، أي متميز عن خلقه، منفصل عنهم، مباين لهم فهذا حق ليس فيه شيء من النقص، وهو ثابت لله بهذا المعنى. وإن أردتم بكونه محدوداً أن العرش محيط به وأنتم تريدون نفي ذلك عنه بنفي استوائه عليه فهذا باطل وليس بلازم صحيح؛ فإن الله تعالى مستوٍ على عرشه، وإن كان عز وجل أكبر من العرش ومن غير العرش. ولا يلزم من كونه مستوياً على العرش أن يكون العرش محيطاً به؛ لأن الله عز وجل أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه (1) . ثالثاً_الأعراض: هذا اللفظ من الألفاظ المجملة التي يطلقها أهل الكلام ومن أقوالهم في ذلك: =نحن نُنَزِّه الله تعالى من الأعراض والأغراض، والأبعاض، والحدود، والجهات+. ويقولون: =سبحان من تنزه عن الأعراض والأغراض والأبعاض+. والحديث في الأسطر التالية سيكون حول لفظ (الأعراض) . أما بقية الألفاظ فسيأتي ذكرها فيما بعد. أ_ تعريف الأعراض في اللغة: الأعراض جمع عَرَض، والعَرض هو ما لا ثبات. أو هو: ما ليس بلازم للشيء. أو هو: ما لا يمتنع انفكاكه عن الشيء (2) . ومن الأمثلة على ذلك: الفرح بالنسبة للإنسان فهو عَرَض؛ لأنه لا ثبات بل هو عارض يعرض ويزول. وكذلك الغضب، والرضا. ب_ العَرَض في اصطلاح المتكلمين: قال الفيومي: =العَرَض عند المتكلمين ما لا يقوم بنفسه، ولا يوجد إلا في محل يقوم به+ (3) .

_ (1) انظر شرح عقيدة الطحاوية ص219، وشرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد ابن عثيمين _ رحمه الله _ 1/376 و 379_380. (2) انظر التعريفات للجرجاني ص153_154. (3) المصباح المنير للفيومي ص209.

وقال الراغب الأصفهاني: =والعرض ما لا يكون له ثبات، ومنه استعار المتكلمون العَرَض لما لا ثبات له إلا بالجوهر كاللون والمطعم (1) . ج_ ما مراد المتكلمين من قولهم: =إن الله منزه عن الأعراض؟ +: مرادهم من ذلك نفي الصفات عن الله تعالى لأن الأعراض عندهم هي الصفات. د_ ما شبهتهم؟: يقولون: لأن الأعراض لا تقوم إلا بالأجسام، والأجسام متماثلة؛ فإثبات الصفات يعني أن الله جسم، والله منزه عن ذلك وبناء عليه نقول: بنفي الصفات؛ لأنه يترتب على إثباتها التجسيم، وهو وصف الله بأنه جسم، والتجسيم تمثيل، وهذا كفر وضلال، هذه هي شبهة المتكلمين. هـ_ الرد على أهل الكلام في هذه المسألة: الرد عليهم من وجوه: 1_أن لفظة =الأعراض+ لم ترد في الكتاب ولا في السنة لا نفياً ولا إثباتاً، ولم ترد كذلك عن سلف الأمة. وطريقة أهل السنة المعهودة في مثل هذه الألفاظ التوقف في اللفظ، فلا نثبت الأعراض، ولا ننفيها. أما معناها فيُستَفْصَل عن مرادهم في ذلك ويقال لهم: إن أردتم بالأعراض ما يقتضي نقصاً في حق الله تعالى كالحزن، والندم، والمرض، والخوف، فإن المعنى صحيح، والله منزه عن ذلك؛ لأنه نقص، لا لأنها أعراض. وإن أردتم نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله"من الصفات كالغضب، والفرح، والرضا، ونحوها بحجة أنها أعراض فإن ذلك باطل مردود، ولا يلزم من إثباتها أي لازم. 2_أن الصفات الربانية ليست كلها أعراض، بل إن بعضها أعراض كالفرح، والغضب. وبعضها ليست أعراضاً، كبعض الصفات الذاتية كاليد، والوجه، والقدم، والساق؛ فهذه ليست أعراضاً، بل لازمة للذات لا تنفك عنها. 3_أن قولكم: =إن الأعراض لا تقوم إلا بجسم+ قول باطل؛ فالأعراض قد تقوم بغير الجسم كما يقال: ليل طويل، فقولنا: طويل، وصف ل: ليل، والليل ليس بجسم، ومثل ذلك: حر شديد، ومرض مؤلم، وبرد قارس.

_ (1) انظر معجم مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص342.

4_أن القول بتماثل الأجسام قول باطل؛ فالأجسام غير متماثلة لا بالذوات ولا بالصفات، ولا بالحدوث؛ ففي الحجم تختلف الذرَّة عن الجمل، وفي الوزن يختلف جسم القيراط عن جسم القنطار، وفي الملمس يختلف الخشن عن الناعم، واللين عن القاسي، وهكذا. 5_أن لفظ الجسم من إحداث المتكلمين، وهذا اللفظ كقاعدة الألفاظ المجملة؛ فإن كان إثبات الصفات بلزم منه أن يكون جسماً في مفهومك فليس ذلك يضيرنا. لكن إن أردت بالجسم الشيء القائم بنفسه المتصف بما يليق به فهذا حق لأننا نؤمن بأن لله ذاتاً موصوفة بالصفات اللائقة بها. فإن أردت بالجسم هذا المعنى فيصح. وإن أردت بالجسم الشيء المكوَّن من أعضاء، ولحم ودم المفتقر بعضه إلى بعض وما أشبه ذلك فباطل غير صحيح؛ لأنه يلزم أن يكون الله حادثاً أو مُحْدَثاً. وهذا أمر مستحيل، على أننا لا نوافق على إثبات الجسم، ولا نفيه؛ لأنه يحتمل حقاً وباطلاً. رابعاً_الأبعاض: أو الأعضاء، أو الأركان، أو الجوارح: وهذه أيضاً من الكلمات المجملة التي تطلق وتحتمل حقاً وباطلاً؛ فإليك نبذة في معانيها، ومقصود أهل التعطيل من إطلاقها وجواب أهل السنة على تلك الدعوى. أ_ معاني هذه الكلمات: معاني هذه الكلمات متقاربة من بعض. فالأبعاض: جمع لكلمة بعض، يقال: بعض الشيء أي جزؤه، وبعّضْتُ كذا أي جعلته أبعاضاً (1) . والأركان: جمع ركن، وركن الشيء قوامه، وجانبه القوي الذي يتم به، ويسكن إليه. والأجزاء: جمع جزء، والجزء ما يتركب الشيء عنه وعن غيره، وجزء الشيء ما يتقوم به جملتُه كأجزاء السفينة، وأجزاء البيت. والجوارح: مفردها الجارحة، وتسمى الصائدة من الكلاب والفهود والطيور جارحة؛ إما لأنها تجرح، وإما لأنها تكسب. وسميت الأعضاء الكاسبة جوارح تشبيهاً بها لأحد هذين (2) . ويشبه هذه الألفاظ لفظ: الأعضاء، والأدوات، ونحوها.

_ (1) انظر معجم مفردات ألفاظ القرآن ص50 و 88 و 90 و 208 والتعريفات ص78 و 117. (2) المرجع السابق نفسه.

ب_ مقصود أهل التعطيل من إطلاقها: مقصودهم نفي بعض الصفات الذاتية الثابتة بالأدلة القطعية، كاليد، والوجه، والساق، والقدم والعين (1) . ج_ ما الذي دعاهم إلى نفيها؟: الذي دعاهم إلى نفي تلك الصفات هو اعتقادهم أنها بالنسبة للمخلوق أبعاض، وأعضاء، وأركان، وأجزاء، وجوارح وأدوات ونحو ذلك، فيرون بزعمهم أن إثبات تلك الصفات لله يقتضي التمثيل، والتجسيم؛ فوجب عندهم نفيها قراراً من ذلك. وقد لجؤوا إلى تلك الألفاظ المجملة لأجل أن يروج كلامهم ويلقى القبول. د_ جواب أهل السنة: أهل السنة يقولون: إن هذه الصفات وإن كانت تعد في حق المخلوق أبعاضاً، أو أعضاءً، وجوارح ونحو ذلك لكنها تعدُّ في حق الله صفات أثبتها لنفسه، أو أثبتها له رسوله"فلا نخوض فيها بآرائنا وأهوائنا، بل نؤمن بها ونُمرُّها كما جاءت ونفوض كنهها وحقيقتها إلى الله عز وجل لعدم معرفتنا لحقيقة الذات؛ لأن حقيقة معرفة الصفة متوقفة على معرفة حقيقة الذات كما لا يخفى وهذه الصفات أعني اليد، والساق ونحوها وكثير من صفات الله قد تشترك مع صفات خلقه في اللفظ، وفي المعنى العام المطلق قبل أن تضاف. وبمجرد إضافتها تختص صفات الخالق، وصفات المخلوق بالمخلوق؛ فصفات الخالق تليق بجلاله وعظمته وربوبيته، وقيومته. وصفات المخلوق تليق بحدوثه، وضعفه، ومخلوقيته (2) . وبناء على ذلك يقال لمن يطلق تلك الألفاظ المجملة السالفة: إن أردت أن تنفي عن الله عز وجل أن يكون جسماً، وجثة وأعضاء، ونحو ذلك فكلامك صحيح، ونفيك في محله. وإن أردت بذلك نفي الصفات الثابتة له والتي ظننت أن إثباتها يقتضي التجسيم، ونحو ذلك من اللوازم الباطلة فإن قولك باطل، ونفيك في غير محله. هذا بالنسبة للمعنى. أما بالنسبة للفظ فيجب ألا تعْدِل عن الألفاظ الشرعية في النفي أو الإثبات؛ لسلامتها من الاحتمالات الفاسدة.

_ (1) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص219. (2) انظر الصفات الإلهية ص208_209.

يقول شارح الطحاوية ×: =ولكن لا يقال لهذه الصفات إنها أعضاء، أو جوارح، أو أدوات، أو أركان؛ لأن الركن جزء الماهية، والله تعالى هو الأحد، الصمد، لا يتجزأ سبحانه وتعالى والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية (1) . تعالى الله عن ذلك، ومن هذا المعنى قوله تعالى: [الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ] (الحجر:91) . والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع؛ وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة. وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى؛ ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تعالى فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني، سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فكذلك يجب أن لا يُعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً لئلا يثبت معنى فاسد، وأن ينفى معنى صحيح. وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل+ (2) . خامساً_الأغراض: وهذا أيضاً من إطلاقات المتكلمين، وإليك بعض التفصيل في هذا اللفظ. أ_ الأغراض في اللغة: جمع غرض، والغرض هو الهدف الذي يرمي فيه، أو هو الهدف الذي ينصب فيرى فيه. والغرض يطلق في اللغة أيضاً على الحاجة، والبغية، والقصد (3) . ب_ الغرض في اصطلاح علماء الكلام: قيل هو ما لأجله يصدر الفعل من الفاعل (4) . وقال الجلا الدوائي: =الغرض هو الأمر الباعث للفاعل على الفعل، وهو المحرك الأول، وبه يصير الفاعل فاعلاً+ (5) . وبذلك نرى توافق المعنى اللغوي والاصطلاحي للغرض، وأنه غاية الفاعل من فعله، وهو الباعث له على فعله (6) . ج_ ماذا يريد أهل الكلام بهذه اللفظة؟: يريدون إبطال الحكمة في أفعال الله عز وجل وشرعه.

_ (1) التعضية: التقطيع، وجعل الشيء أعضاء. (2) شرح العقيدة الطحاوية ص220 و 221. (3) انظر لسان العرب 7/196. (4) انظر شرح مطالع الأنظار على طوالع الأنوار لشمس الدين بن محمود الأصفهاني ص917. (5) شرح العقائد العفوية للجلال الدوائي 2/204. (6) انظر الحكمة والتعليل في أفعال الله ص26_47.

د_ حجتهم في ذلك: يقول المتكلمون وعلى وجه الخصوص الأشاعرة إننا ننزه الله عن الأغراض فلا يكون له غرض فيما شرعه أو خلقه؛ فأبطلوا الحكمة من ذلك، وقرروا أن الله لم يشرع إلا لمجرد مشيئته فحسب؛ فإذا شاء تحريم شيء حرَّمه، أو شاء إيجابه أوجبه. وقالوا: لو قررنا أن له حكمة فيما شرعه لوقعنا في محذورين: الأول: أنه إذا كان لله غرض فإنه محتاج إلى ذلك الغرض؛ ليعود عليه من ذلك منفعة، والله منزه عن ذلك. والثاني: أننا إذا عللنا الأحكام أي أثبتنا الحكمة والعلة لزم أن نوجب على الله ما تقتضيه الحكمة؛ لأن الحكم يدور مع علته، فنفع فيما وقع فيه المعتزلة من إيجاب الصلاح والأصلح على الله؛ لأن الغرض عند المعتزلة بمعنى الغاية التي فعل لها وهم يوجبون أن يكون فعله معللاً بالأغراض. هـ_ الرد عليهم: 1_أن هذا اللفظ الأغراض أو الغرض لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، ولا أطلقه أحد من علماء الإسلام؛ لأن هذه الكلمة قد توهم النقض، ونفيها قد يفهم منه نفي الحكمة؛ فلابد إذاً من التفصيل والأولى أن يعبر بلفظ: الحكمة، والرحمة، والإرادة، ونحو ذلك مما ورد به النص. 2_أن الغرض الذي ينزه الله عنه ما كان لدفع ضرر، أو جلب مصلحة له، فالله سبحانه لم يخلق، ولم يشرع لأن مصلحة الخلق والأمر تعود إليه، وإنما ذلك لمصلحة الخلق. ولا ريب أن ذلك كمال محض، قال تعالى: [إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً] (آل عمران:176) [إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ] (الزمر:7) ، وفي الحديث القدسي: =يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني+. وهذا أمر مستقر في الفطر.

3_أن إيجاب حصول الأشياء على الله متى وجدت الحكمة حق صحيح. لكنه مخالف لما يراه المعتزلة من جهة أن الله عز وجل هو الذي أوجب هذا على نفسه ولم يوجبه عليه أحد، كما قال عز وجل: [كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] (الأنعام:54) وكما قال: [وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] (الروم:47) . وكما في حديث معاذ بن جبل÷لما كان رديف النبي"على حمار فقال: =أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ + قال معاذ: الله ورسوله أعلم. قال: =حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به+ الحديث (1) . فهذا حق أوجبه الله على نفسه، ولله أن يوجب على نفسه ما يشاء. ثم إن مقياس الصلاح والأصلح ليس راجعاً إلى عقول البشر، ومقاييسهم بل إن ذلك راجع إلى ما تقتضيه حكمة الله تعالى فقد تكون على خلاف ما يراه الخلق باديء الرأي في عقولهم القاصرة؛ فانقطاع المطر قد يبدو لكثير من الناس أنه ليس الأصلح بينما قد يكون هو الأصلح لكنه مراد لغيره لقوله تعالى: [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] (الروم:41) . وكذلك استدراج الكفار بالنعم، وابتلاء المسلمين بالمصائب كل ذلك يحمل في طياته ضروباً من الحكم التي لا تحيط عقول البشر إلا بأقل القليل منها. بل إن خلق إبليس، وتقدير المعاصي، وتقدير الآلام يتضمن حكماً تبهر العقول وتُبين عن عظيم حكمة أحكم الحاكمين. سادساً_حلول الحوادث بالله تعالى: هذا اللفظ من إطلاقات أهل الكلام، وإليك بعض التفصيل في معناه، ومقصود أهل الكلام منه، والرد على ذلك.

_ (1) رواه البخاري 8/164، ومسلم 1/58، والترمذي 5/26.

أ_ معنى كلمة (حلول) : الحلول هو عبارة عن كون أحد الجسمين ظرفاً للآخر، كحلول الماء في الكوز (1) . ب_معنى كلمة (الحوادث: الحوادث جمع حادث، وهو الشيء المخلوق المسبوق بالعدم، ويسمى حدوثاً زمانياً (2) . وقد يعبر عن الحدوث بالحاجة إلى الغير، ويسمى حدوثاً ذاتياً. والحدوث الذاتي: هو كون الشيء مفتقراً في وجوده إلى الغير. والحدوث الزماني: هو كون الشيء مسبوقاً بالعدم مسبقاً زمانياً. ج_ معنى (حلول الحوادث بالله_ تعالى_) : أي قيامها بالله، ووجودها فيه تعالى. د_ ما مقصود أهل التعطيل من هذا الإطلاق؟: مقصودهم نفي اتصاف الله بالصفات الاختيارية الفعلية، وهي التي يفعلها متى شاء، كيف شاء، مثل الإتيان لفصل القضاء، والضحك، والعجب، والفرح؛ فينفون جميع الصفات الاختيارية. هـ_ ما حجتهم في ذلك: وحجتهم في ذلك أن قيام تلك الصفات بالله يعني قيام الحوادث أي الأشياء المخلوقة الموجودة بالله. وإذا قامت به أصبح هو حادثاً بعد أن لم يكن، كما أن تكون المخلوقات حالَّة فيه، وهذا ممتنع. و_ جواب أهل السنة: أهل السنة يقولون: إن هذا الإطلاق لم يَردْ في كتاب ولا سنة، لا نفياً ولا إثباتاً، كما أنه ليس معروفاً عند سلف الأمة. أما المعنى فيستفصل عنه؛ فإن أريد بنفي حلول الحوادث بالله أن لا يَحُلَّ بذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن له من قبل فهذا النفي صحيح؛ فالله عز وجل ليس مَحَلاً لمخلوقاته وليست موجودة فيه، ولا يحدث له وصف متجدد لم يكن له من قبل. وإن أريد بالحوادث: أفعاله الاختيارية التي يفعلها متى شاء كيف شاء كالنزول، والاستواء، والرضا، والغضب، والمجيء لفصل القضاء ونحو ذلك فهذا النفي باطل مردود. بل يقال له: إنه مثبتٌ ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله".

_ (1) انظر التعريفات للجرجاني ص97. (2) انظر التعريفات ص85_86.

سابعاً_التسلسل: وهو أحد الألفاظ المجملة التي يطلقها المتكلمون. ولأجل أن يتضح مفهوم هذه اللفظة، ومدلولها، ووجه الصواب والخطأ في إطلاقها إليك هذا العرض الموجز. أ_ تعريف التسلسل: قال الجرجاني: =التسلسل هو ترتيب أمور غير متناهية+. ب_ سبب تسميته بذلك: سمي بذلك أخذاً من السلسلة؛ فهي قابلة لزيادة الحِلَق إلى ما لا نهاية؛ فالمناسبة بينهما عدم التناهي بين طرفيهما؛ ففي السلسلة مبدؤها ومنتهاها، وأما التسلسل فطرفاه الزمن الماضي والمستقبل. ج_ مراد أهل الكلام من إطلاق هذه اللفظة: مرادهم يختلف باختلاف سياق الكلام، وباختلاف المتكلمين؛ فقد يكون مرادهم نفي قدم اتصاف الله ببعض صفاته، وقد يكون مرادهم نفي دوام أفعال الله ومفعولاته وقد يكون مرادهم نفي أبدية الجنة والنار، وقد يكون غير ذلك. د_ هل وردت هذه اللفظة في الكتاب أو السنة، أو أطلقها أحد من أئمة السلف؟ الجواب: لا. هـ_ ما طريقة أهل السنة في التعامل مع هذا اللفظ؟: طريقتهم كطريقتهم في سائر الألفاظ المجملة، حيث إنهم يتوقفون في لفظ =التسلسل+ فلا يثبتونه، ولا ينفونه، لأنه لفظ مبتدع، مجمل يحتمل حقاً وباطلاً، وصواباً وخطأ. هذا بالنسبة للفظ. أما بالنسبة للمعنى فإنهم يستفصلون، فإن أريد به حق قبلوه، وإن أريد به باطل ردوه. و_ وبناء على ذلك فإنه ينظر في هذا اللفظ، وتطبق عليه هذه القاعدة: فيقال لمن أطلقوا هذه اللفظ: 1_إذا أردتم بالتسلسل: دوام أفعال الرب_أزلاً (1) وأبداً (2) فذلك معنى صحيح دل عليه العقل والشرع؛ فإثباته واجب، ونفيه ممتنع، قال الله تعالى: [فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ] (هود: 107) .

_ (1) الأزل: هو القدم الذي لا بداية له، أو هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي. (2) والأبد هو المستقبل الذي لا نهاية له، أو هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب المستقبل. انظر التعريفات للجرجاني ص16.

والفعال هو من يفعل على الدوام، ولو خلا من الفعل في أحد الزمانين لم يكن فعالاً، فوجب دوام الفعل أزلاً وأبداً. ثم إن المتصف بالفعل أكل ممن لا يتصف به، ولو خلا الرب منه لخلا من كمال يجب له وهذا ممتنع. ولأن الفعل لازم من لوازم الحياة، وكل حي فهو فعال، والله تعالى حي، فهو فعال وحياته لا تنفك عنه أبداً وأزلاً. ولأن الفرق بين الحي والميت الفعل، والله حي فلابد أن يكون فاعلاً وخوله من الفعل في أحد الزمانين: الماضي والمستقبل ممتنع، فوجب دوام فعله أزلاً وأبداً. فخلاصة هذه المسألة أنه إذا أريد بالتسلسل دوام أفعال الرب فذلك معنى صحيح واجب في حق الله، ونفيه ممتنع. 3_وإذا أريد بالتسلسل: أنه تعالى كان معطلاً عن الفعل ثم فعل، أو أنه اتصف بصفة من الصفات بعد أن لم يكن متصفاً بها، أو أنه حصل له الكمال بعد أن لم يكن فذلك معنى باطل لا يجوز. فالله عز وجل لم يزل متصفاً بصفات الكمال صفات الذات، وصفات الفعل ولا يجوز أن يُعتقد أن الله اتصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها؛ لأن صفاته سبحانه صفات كمال، وفقدها صفة نقص؛ فلا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده. قال الإمام الطحاوي ×: =ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته. وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً. مثال ذلك صفة الكلام؛ فالله عز وجل لم يزل متكلماً إذا شاء. ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، ولم يكن معطلاً عنها في وقت، بل هو متصف بها أزلاً وأبداً. وكذلك صفة الخلق، فلم تحدث له هذه الصفة بعد أن كان معطلاً عنها. 4_وإذا كان المقصود بالتسلسل: التسلسل في مفعولات الله عز وجل وأنه ما زال ولا يزال يخلق خلْقاً بعد خلق إلى ما لا نهاية فذلك معنى صحيح، وتسلسل ممكن، وهو جائز في الشرع والعقل. قال الله تعالى: [أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ] (ق:15) .

ثم إنه عز وجل ما زال يخلق خلقاً ويرتب الثاني على الأول وهكذا؛ فما زال الإنسان والحيوان منذ خلَقَهُ الله يترتب خلقه على خلق أبيه وأمه. 5_وإن أريد بالتسلسل: التسلسل بالمؤثِّرين، أي بأن يؤثِّر الشيء بالشيء إلى ما لا نهاية، وأن يكون مؤثرون كلُّ واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا إلى غاية فذلك تسلسل ممتنع شرعاً وعقلاً؛ لاستحاله وقوعه؛ فالله عز وجل خالق كل شيء، وإليه المنتهى؛ فهو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، والقول بالتسلسل في المؤثرين يؤدي رلى خلو المُحدَث والمخلوق من مُحْدِث، وخالق وينتهي بإنكار الخالق جل وعلا. =خلاصة القول في مسألة التسلسل عموماً+: * أن التسلسل هو ترتيب أمور غير متناهية، وأنه سمي بذلك أخذاً من السلسلة. * وأن التسلسل من الألفاظ المجملة التي لابد فيها من الاستفصال كما مر. * وأنه إن أريد بالتسلسل: دوام أفعال الرب ومفعولاته، وأنه متصف بصفات الكمال أزلاً وأبداً فذلك حق صحيح، يدل عليه الشرع والعقل. * وأنه إن أريد بالتسلسل: أنه عز وجل كان معطلاً عن أفعاله وصفاته، ثم فعل، واتصف فحصل له الكمال بعد أن لم يكن متصفاً به، أو أريد بالتسلسل: =التسلسل في المؤثرين فذلك معنى باطل مردود بالشرع والعقل+ (1) .

_ (1) انظر تفصيل الحديث عن التسلسل في شرح العقيدة الطحاوية، ص130_135، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد شرح النونية للشيخ أحمد بن عيسى 1/370، والقواعد الكلية للأسماء والصفات عند السلف د. إبراهيم البريكان ص208_214.

وقفة حول المجاز

وقفة حول المجاز المجاز مصطلح معروف عند أهل اللغة، والبلاغة، والتفسير، والأصول وغيرهم. كما أنه يَرِدُ كثيراً في كتب العقائد، خصوصاً في باب الأسماء والصفات؛ ذلك أن كثيراً من أهل التعطيل اتخذوه مطية لنفي الصفات الإلهية. ولأجل أن تتضح صورة المجاز إليك هذا العرض المجمل الميسر الذي يبين معالمه، وحقيقة الخلاف فيه وما جرى مجرى ذلك. وقبل الدخول في ثنايا الحديث عن المجاز يحسن الوقوف عند مصطلح (الحقيقة) ؛ وذلك لأن المجاز عند من يقول به قسيم الحقيقة. فالكلام ينقسم إلى حقيقة ومجاز؛ فإلى تفصيل الحديث حتى يتبين الأمر. أولاً: تعريف الحقيقة: هي الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع. أو هي: استعمال اللفظ فيما وضع له في الأصل. مثل كلمة (أسد) : تدل على الحيوان المعروف، وكلمة (الشمس) : تدل على الكوكب العظيم المعروف، وكلمة (البحر) : تدل على الماء العظيم الملح. . وهكذا جميع ألفاظ اللغة. ثانياً: تعريف المجاز: المجاز في اللغة: اسم مكان كالمطاف والمزاز. والألف فيه منقلبة عن واو، وقيل: هو مصدر ميمي. وفي الاصطلاح: هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له في الأصل؛ لعلاقة بين المعنيين الحقيقي والمجازي مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. ثالثاً: شرح مفردات تعريف المجاز: قوله: (في غير ما وضع له) : أي المعنى الوضعي للَّفظ، ويسمى الحقيقي أو الأصلي الذي ذكرته معاجم اللغة، كوضع كلمة الأسد للحيوان المعروف الكاسر، وكذلك القمر. قوله: (لِعِلاقة) : العلاقة هي الشيء الذي يربط بين المعنى الأصلي للفظ، والمعنى المجازي، كالشجاعة في قولك: رأيت أسداً يكرُّ بسيفه! فالأسد هنا لا يقصد به الحيوان؛ وإنما يقصد به الرجل الشجاع، إذاً فقد انتقل من معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي، والعلاقة هي الشجاعة. قوله: (القرينة) ؛ القرينة: هي التي تمنع الذهن من أن ينصرف إلى المعنى الوضعي الأصلي للفظ، مثل قولك (يكر بسيفه) في قولك: (رأيت أسداً يكر بسيفه) لأن الأسد لا يكر بالسيف، فعلم أن المقصود باللفظ مجازه لا حقيقته؛ لأن الأسد لا يحمل السيف.

وكذلك قولك في الرجل الكريم: جاء البحر، ونحو ذلك من الأمثلة مما سيأتي ذكره (1) . رابعاً: =تطبيق+: إليك هذا التطبيق الذي يبين لك ما ذكر بصورة أجلى: قال أهل المدينة في استقبالهم للنبي"لما قدم من تبوك هو وأصحابه: طلع البدر علينا **** من ثنيات الوداع فالمجازات في هذا البيت واقع في لفظ (البدر) حيث يريدون به النبي"، وهذا استعمال مجازي؛ ذلك لأن الاستعمال الحقيقي للبدر إنما هو الكوكب العظيم الذي يكون في السماء ليلاً. والعلاقة بين المعنيين الحقيقي والمجازي هي الحسن والإشراق؛ فالبدر حسن مشرق، وكذلك النبي". والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي الحقيقي هي: (من ثنيات الوداع) فهي التي أثبتت مجازية البدر، والسبب أن البدر الحقيقي لا يظهر بين ثنيات الوداع وهي الجبال الصغيرة وإنما يظهر في السماء كما هو معلوم فعلم بذلك أن اللفظ أريد به مجازه لا حقيقته. خامساً: =أمثلة لألفاظ يتبين فيها الحقيقة من المجاز+: 1_الشمس لها دلالتان: إحداهما حقيقية وهي دلالة الكوكب العظيم المعروف. والأخرى مجازية وهي: الوجه المليح.

_ (1) انظر في تفصيل الحديث عن المجاز إلى: _ أسرار البلاغة لعبد القادر الجرجاني، تحقيق الشيخ أحمد شاكر ص350_424. _ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج7 في الإيمان. _ بغية الإيضاح لتخليص المفتاح لعبد المتعال الصعيدي ص84_171. _ منع المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز للشيخ محمد الامين الشنقيطي. _ معجم البلاغة د. بدوي طبانة ص145_149. _ علوم البلاغة للشيخ المراغي ص246_298. _ البلاغة العربية في فنونها وأفنانها علم البيان والبديع د. فضل حسن عباس 127_270. _ موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة عرضاً ونقداً د. سليمان ابن صالح الغصن 1/445_477. _ مقدمة في المجاز _ وهي مذكرة مخطوطة _ كتبها الأخ الدكتور الشيخ عبد المحسن العسكر _ حفظه الله _ وهي نافعة لطيفة في بابها.

2_البحر له دلالتان: إحداهما حقيقته، وهي دلالته على الماء العظيم الملح. والأخرى مجازية وهي: دلالته على الرجل الجواد الكثير العطاء أو العالم العزير العلم. 3_اليد لها دلالتان: إحداهما حقيقته، وهي الجارحة المعروفة، كما تقول: كتبت بيدي. والأخرى مجازية بمعنى النعمة، كما تقول لفلانٍ عليَّ يدٌ، أي: نعمة. سادساً: كيف يُفرَّق بين الحقيقة والمجاز؟ يفرق بسياق الكلام، وقرائن الأحوال. ولا يمكن أن يقال: إن كلا الدلالتين الحقيقية والمجازية سواء؛ بحيث إذا أطلق اللفظ دل عليهما معاً، كأن يقال: إن الشمس حقيقية في دلالتها على الكوكب والوجه المليح، وأن البحر حقيقة في الماء العظيم الملح والرجل الجواد؛ بل لابد من قرينة تخصص المعنى المراد (1) . سابعاً: لم سمي المجز بهذا الاسم؟ لأنه مأخوذ من قولهم: جاز هذا الموضع إلى هذا الموضع، إذا تخطاه إليه. فالمجاز إذاً اسم للمكان الذي يجاز فيه كالمزار، والمعاج وأشباههما. وحقيقته: الانتقال من مكان إلى مكان؛ فجعل ذلك لنقل الألفاظ من محل إلى محل، كقولنا: زيد أسد؛ فإن زيداً إنسان والأسد هو ذاك الحيوان المعروف. وقد جُزْنا الإنسانية أي: تخطيناها وانتقلنا منها وعبرناها إلى الأسدية؛ لِوُصلة بينهما أي علاقة، وتلك الوصلة هي صفة الشجاعة؛ فهذا هو سبب تسمية المجاز بهذا الاسم. أما الحقيقة فهي: مأخوذة من كلمة حقَّ وهو الشيء الثابت، ولعلك تشمُّ رائحة التضاد بين هاتين الكلميتين؛ فالحقيقة ثبوت الشيء، والمجاز تَعَدِّية (2) . ثامناً: هل كل مجاز له حقيقة، وكل حقيقة لها مجاز؟ والجواب: أن كل مجاز له حقيقة؛ لأنه لم يطلق عليه لفظ مجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة. وليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز (3) .

_ (1) انظر معجم البلاغة العربية ص147. (2) انظر معجم البلاغة العربية ص147، والبلاغة فنونها وأفنانها ص128. (3) انظر مهجم البلاغة العربية ص147.

تاسعاً: هل الأصل في الكلام الحقيقة أو المجاز؟ والجواب: أن الأصل فيه الحقيقة، ولا ينصرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه إلا بقرينة، كما مر في الأمثلة الماضية. عاشراً: اختلاف العلماء في أصل وقوع المجاز: اختلف العلماء في أصل وقوع المجاز وثبوته في اللغة والقرآن، على ثلاثة أقوال: 1_أن المجاز واقع في اللغة والقرآن: وهذا مذهب جماهير العلماء، والمفسرين، والأصوليين، واللغويين، والبلاغيين، وغيرهم؛ بل حكى الإجماع على ذلك يحيى بن حمزة العلوي في كتابه (الطراز) غير أن في تلك الدعوى توسعاً؛ لوجود المخالف المعتبر. 2_إنكار المجاز مطلقاً في اللغة والقرآن: وقد ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الاسفراييني، وتبعه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. 3_أن المجاز واقع في اللغة دون القرآن: وقد ذهب إلى ذلك وارد الظاهري، وابنه محمد، وابن القاصّ الشافعي وابن خويز منداد المالكي، ومنذر بن سعيد البلوطي، ومن المعاصرين الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي. حادي عشر: حجة القائلين بمنعه: القائلون بمنع المجاز في اللغة والقرآن، أو في القرآن وحده يحتجون على ذلك بحجج منها: 1_أن كل مجاز كذب يجوز نفيه: فيلزم على القول بأن في القرآن مجازاً أن في القرآن ما يجوز نفيه، قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي_ ×_: =وأوضح دليل على منعه في القرآن إجماع القائلين بالمجاز على أن كل مجاز يجوز نفيه، ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر؛ فتقول لمن يقول: رأيت أسداً يرمي: ليس هو بأسد وإنما هو رجل شجاع؛ فيلزم على القول بأن في القرآن مجازاً أن في القرآن ما يجوز نفيه، ولا شك أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن+ (1) .

_ (1) منع المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز ص8.

2_أن القول بالمجاز ذريعة إلي نفي الصفحات الإلهية وتأويلها، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ×: =وهذا اللزوم اليقيني الواقع بين القول بالمجاز في القرآن وبين جواز نفي بعض الصفات قد شوهدت في الخارج صحته، وأنه كان ذريعة إلى نفي كثير من صفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن العظيم. وعن طريق القول بالمجاز توصل المعطلون لنفي ذلك، فقالوا: لا يد، ولا استواء، ولا نزول، ونحو ذلك في كثير من آيات الصفات لأن هذه الصفات لم تُرَدْ حقائقها؛ بل هي عندهم مجازات؛ فاليد مستعملة عندهم في النعمة، أو القدرة، والاستواء في الاستيلاء، والنزول نزول أمره ونحو ذلك؛ فنفوا هذه الصفات الثابتة بالوحي عن طريق القول المجاز. مع أن الحق الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة إثبات هذه الصفات التي أثبتها تعالى لنفسه، والإيمان بها من غير تكييف ولا تشبيه، ولا تعطيل ولا تمثيل+ (1) . فهذا السبب أعني نفي الصفات عن طريق القول بالمجاز هو من أعظم الأسباب التي دعت القائلين بإنكار المجاز إلى ذلك. 3_ادعاء أن الألفاظ كلها حقيقة: والجزم بأن تقسيمها إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث لم تعرفه العرب: قال شيخ الإسلام ابن تيمية×عن المجاز: =إنه غير معروف عن العرف، ولم تقل الأمة في أول عصورها: هذا اللفظ حقيقة وذاك مجاز. وإنما هو اصطلاح طارىء على الأمة بعد انقضاء القرون الثلاثة+. وقد كرر×ذلك في مواضع من كتبه، خصوصاً في كتابه الإيمان، وفي الأسماء والصفات من مجموع الفتاوى. 4_أن إطلاق المجاز في القرآن يفضي ويؤدي إلى وصف الله بالمُتَجَوِّز: وذلك مما لم يرد الإذن به؛ ذلك أن أسماء الله وصفاته توقيفية كما هو معلوم. ثاني عشر: مناقشة مثبتي المجاز لمنكريه

_ (1) منع المجاز ص8_9.

1_أن القول بأن كل مجاز كذب يجوز نفيه ليس صحيحاً: وإنما يكون المجاز كذباً لو أثبت المعنى على التحقيق لا على المجاز، أي أنه إذا أطلق القمر مثلاً على إنسان بهي الطلعة يكون كذباً لو ادُّعي أنه القمر الذي في السماء حقاً. ولا ريب أن هذا ليس بمرادٍ في المجاز، وإنما المراد تشبيهه به في البهاء والحسن، فأين الكذب؟ ! وكذلك قولنا للبليد (حمار) ليس المقصود بأنه حمار في الشكل والخلقة وإلا لصح أن ينفى ويقال: ليس هو بحمار بل هو إنسان؛ فالنفي هنا مُنصب على إرادة الحقيقة لا على المعنى المجازي، وهذا لا يسمى كذباً؛ لأن المتكلم جاء بقرينة تبين مراده، وترفع اللبس، ثم أن البلاغيين حرصوا في مصنفاتهم على أن يبينوا الفرق بين المجاز والكذب؛ فهم متفقون على أن المجاز ليس كذباً؛ لأن التجوُّز يضع بين يدي المجاز قرينة تصرف عن إرادة المعنى الأصلي للفظ. أما الكذب فإن الكاذب يحرص فيه على إخفاء حاله؛ ترويجاً للكذب الذي يريده. ولقد عني البلاغيون بالقرائن عناية بالغة، واستنبطوها من كلام العرب، وفصلوا فيها القول تفصيلاً؛ فإذا خلا المجاز من القرائن كان الكلام فاسداً لعدم دلالته. 2_أن القول: بأن المجاز ذريعة إلى نفي الصفات الإلهية، وتأويلها ليس مسوغاً لنفي المجاز؛ ذلك أنه لا حجة لهؤلاء النفاة المعطلة فيما ذهبوا إليه. وإنما هم أصحاب هوى وضلال، ومن كانت هذه حاله ركبه كل صعب وذلول في سبيل هواه، فاستدلالهم بالمجاز على نفي الصفات استدلال فاسد، فنحن نجعله حجة عليهم لا لهم؛ فيقال لهؤلاء النفاة المعطلة: إن الأصل في الكلام أن يحمل على حقيقته وظاهره المتبادر ما لم تقم قرينة توجب صرفه عن هذه الحقيقة، وذلك الظاهر لنا. ثم إن الناس متعبدون باعتقاد الظاهر من أدلة الكتاب والسنة ما لم يمنع مانع.

وبناء على ذلك يقال لهؤلاء النفاة: إن النصوص الصحيحة القطعية أثبتت صفات الكمال لله تعالى كصفة الكلام، واليد، والاستواء، والنزول، والعلو، والساق، والقَدم، والضحك، والأصابع. والنصوص الواردة في ذلك لا تظفر فيها بأي قرينة تنقلها عن معانيها الحقيقية التي دلت عليها؛ فهي صفات حقيقية ثابتة للرب سبحانه على ما يلين به. وادعاء هؤلاء المعطلة أن إثبات الصفات يلزم منه التمثيل، وأن القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي هي تنزيه الله سبحانه عن مماثلة المخلوقين ادعاء باطل متهافت، ظاهر السقوط؛ إذ لا يلزم من إثبات الصفات لله تمثيله وتشبيهه بخلقه؛ فللخالق سبحانه صفات تليق به، وللمخلوق صفات تليق به. ثم إن مجيء نصوص الصفات متكاثرة يقطع بأن المراد منها معانيها الحقيقية ويدرأ عن تلك النصوص أن تكون مجازية أنها لا تقبل دعوى المجاز من جهة اللغة نفسها، وتراكيب الكلم فيها؛ فهي تأبى أن تبارح المعنى الحقيقي. ونمثل بهذا المثال وهو قوله سبحانه: [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً] (النساء:164) . فلا يجوز أبداً أن يقال: إن الكلام في هذه الآية مجازي، لأن الفعل (كلَّم) أُكِّد بالمصدر (التكليم) الدال على النوع. وقد نقل أبو جعفر النحاس (ت 338) إجماع النحاة على أن الفعل إذا أكد بالمصدر لم يكن مجازاً، بل هو حقيقة قطعاً. وكيف وقل قال تعالى: [وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ] (الأعراف:143) ؟ ! ومما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية×في قوله سبحانه وتعالى: [لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيََّ] (ص: 75) أنه قال: =لا يجوز أن تفسر بالقدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يُعَبَّر بالاثنين عن الواحد، ولا يجوز أن يراد به النعمة؛ لأن نعم الله تعالى لا تحصى. وإذا أضيف الفعل إلى الفاعل، وعُدِّي الفعل إلي اليد بحرف الباء كقوله تعالى: [لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ] (ص: 75) فإنه نصٌّ على أنه فعل الفعل بيديه.

فإذا قال القائل: بنيت الحجرة بيدي فلابد أن يكون باشر البناء بنفسه. إذا قال: هذا البيت بَنَتْه يداي يفهم منه أنه بناه بماله، وفرق بين التركيبين+ ا. هـ. وبالجملة، فالأمثلة على هذا النحو كثيرة جداً أو من خلالها يظهر أن نصوص الصفات لا تقبل المجاز من جهة نظمها، وتركيبها، وإضافتها إلى الله عز وجل. كيف وأهل السنة مجمعون على الإقرار بأسماء الله تعالى وصفاته وحملها على الحقيقة لا المجاز؟ ! 3_أما القول بأن الألفاظ كلها حقيقة أو أن تقسيمها إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث لم تعرفه العرب فذلك يحتاج إلي نظر. فإن أريد بذلك أن العرب لم يضعوا هذا المصطلح فنعم. وإن أريد نه لا يوجد في كلامهم مجاز فهذا غير صحيح، بل الشواهد من كلامهم على استعمال المجاز أكثر من أن تحصر، وذلك مما استفاض به النقل عن علماء اللغة. ثم إن القول إن هذا الاصطلاح لم يعرف إلا بعد القرون الثلاثة المفضلة غير مُسَلَّم به؟ فقد تلكم بالمجاز غير واحد من علماء اللغة في أوقات القرون المفضلة؟ ومن هؤلاء أبو زيد القرشي المتوفي سنة 170هـ. ومن أهل اللغة من يعبر عن المجاز ب: (التوسع والسعة في الكلام) . 4_وأما القول بأن إطلاق المجاز يفضي إلى وصف الله بالمتجوز وذلك لا يصح فيجاب عنه: بأنه لا يلزم ذلك لأن هذا الإطلاق لا يكون إلا بدليل. ثم إن إطلاق المجاز على اللفظ في بعض استعمالاته اصطلاح، ولا يلزم إضافة المعاني الاصطلاحية إلى الله تعالى وإلا ففي القرآن سجع، وأمثال، فهل يقال في حق الله تعالى: الساجع، والممثل؟ هذه بعض حجج القائلين بمنعه ورد القائلين به على سبيل الإيجاز. ثالث عشر: خاتمة الحديث عن المجاز: وبعد أن وقفت عن شيء من أمر المجاز وما جاء في الخلاف حول إثباته أو نفيه يتبين لك أن أعظم الأسباب التي دعت إلى نفيه وإنكاره أن أهل التعطيل اتخذوه مطية لتحريف بعض نصوص الشرع لاسيما في باب الصفات.

فهذا هو الذي دعا بعض العلماء أن يشدد في النكير على القائلين بالمجاز. وإلا لو كان الأمر مجرد اصطلاح لغوي لا يترتب عليه خوض في مسائل الشريعة لهان الخطب، ولا حصل فيه كبير خلاف ولكن لما أدرك بعض العلماء خطورة ذلك وكثرة المبتدعين به سارعوا إلى إنكاره؛ سداً للذريعة، وعلي رأس هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية×في مواطن كثيرة من كتبه، وإن كان قد قال بالمجاز في إحدى مراحل عمره. يقول الشيخ عبد المحسن العسكر حفظه الله في مقدمة مخطوطة له عن المجاز: =وأحسب أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد قال بالمجاز في إحدى مراحل عمره، فقد رأيت في (محاسن التأويل) لجمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) ما هذا نصه: =قال ابن تيمية في بعض فتاواه: نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله، وبالتأويل الجاري على نهج السبيه، ولم يوجد في شيء من كلامنا وكلام أحد منا أنا لا نقول بالمجاز والتأويل، والله عند لسان كل قائل، ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب، وما فتح به الباب إلى هدم السنة والكتاب، واللحاق بمُحرِّفة أهل الكتاب. والمنصوص عن الإمام أحمد وجمهور أصحابه أن القرآن مشتمل على المجاز، ولم يعرف عن غيره من الأئمة نص في هذه المسألة. وقد ذهب طائفة من العلماء من أصحابه وغيرهم، كأبي بكر بن أبي داود، وأبي الحسن الخرزي، وأبي الفضل التميمي، وابن حامد وغيرهم إلى إنكار أن يكون في القرآن مجاز. وإنما دعاهم إلى ذلك ما رأوه من تحريف المحرفين للقرآن بدعوى المجاز، قابلوا الضلال بحسم المواد، وخيار الأمور التوسط، والاقتصاد. وبعد أن نقل الشيخ العسكر هذه الفتوى قال: =ومع أنني لم أهتد إلى هذه الفتوى في حظانها من المطبوع من مؤلفات شيخ الإسلام وفتاواه فإن عدم اهتدائي هذا لا ينفي وجودها في كتابات الشيخ مطلقاً. بَيْدَ أني مطمئن غير مرتاب في نسبة هذا الكلام إلى شيخ الإسلام×وذلك لما يلي: 1_أن المطبوع من أعمال شيخ الإسلام لا يمثل إلا القليل مما كتب في حياته كلها.

وأنت خبير أنه صاحب قلم سيال، ومكثر من الكتابة جداً، حتى قال الذهبي: =جاوزت فتاوى ابن تيمية ثلاثمائة مجلد+. 2_أن من له أدنى صلة بتراث شيخ الإسلام لا ينازع في أن هذا النَّفَسَ نَفَسُه، والأسلوب أسلوبه، وقد وقفت على هذه الفتوى بعض العلماء فأجابوا بذلك منهم فضيلة الشيخ محمد العثيمين×وشيخنا عبد الرحمن البراك أحسن الله إليه. 3_أن الذي نقل هذه الفتوى من أعظم الناس اطلاعاً في هذا العصر على كتابات الشيخ وتلميذه ابن القيم، وكان يعيش في بلاد الشام بلاد الشيخين، ومؤلفات القاسمي وخاصة تفسيره طافحة بالنقولات الكثيرة عنهما. ثم إنه أحد القلة في عصره الذين نهضوا بالمنهج السلفي، ومناصرته، وأوذي في ذلك أذىً كثيراً. وما كان الشيخ ليلصق بشيخ الإسلام قولاً يتطرق الشك في نسبته إليه+. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الإيمان بالكتب

الإيمان بالكتب تأليف الشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله_صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً_. أما بعد: فهذه نبذة يسيرة عن الإيمان بالكتب، يلقى من خلالها نظرة عامة حول هذا الموضوع، وذلك من خلال الآتي: تعريف الكتب لغة وشرعاً. ما يتضمن الإيمان بالكتب. أهمية الإيمان بالكتب. أدلة الإيمان بالكتب. الغاية من إنزال الكتب. مواضع الاتفاق بين الكتب السماوية. مواضع الاختلاف بين الكتب السماوية. منزلة القرآن من الكتب المتقدمة. التوراة. التوراة الموجودة اليوم. الإنجيل. الإنجيل بعد عيسى_عليه السلام_. هل يسوغ لأحد اتباع التوراة أو الإنجيل بعد نزول القرآن؟. ثمرات الإيمان بالكتب. ما يضاد الإيمان بالكتب. الطوائف التي ضلت في باب الإيمان بالكتب. فلعل هذه الصفحات تعطي صورة عامة لهذا الباب. وأخيراً أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. محمد بن إبراهيم الحمد الزلفي ص. ب: 460 www.toislam.net تعريف الكتب لغة وشرعاً الكتب في اللغة: جمع كتاب بمعنى مكتوب، مثل فراش بمعنى مفروش، وإله بمعنى مألوه، وغراس بمعنى مغروس. ومادة (كتب) تدور حول الجمع والضم، وسمي الكاتب كاتباً؛ لأنه يجمع الحروف ويضم بعضها إلى بعض. ومنه الكتيبة من الجيش سميت كتيبةً؛ لاجتماعها، وانضمام بعضها إلى بعض، ومنه تسمية الخياط كاتباً؛ لأنه يجمع أطراف الثوب إلى بعض، كما في مقامات الحريري (1) ، حيث قال ملغزاً: وكاتبين وما خطت أناملهم **** حرفاً ولا قرأوا ما خط في الكتب ويَقْصدُ بهم الخياطين.

_ (1) مقامات الحريري، ص286، دار صادر وانظر مادة كتب في لسان العرب.

ما يتضمن الإيمان بالكتب

أما في الشرع: =فالمراد بها الكتب التي أنزلها الله_تعالى_على رسله؛ رحمة للخلق، وهداية لهم؛ ليصلوا بها إلى سعادة الدنيا والآخرة+ (1) . ما يتضمن الإيمان بالكتب (2) 1_الإيمان بأنها أنزلت من عند الله حقَّاً. 2_الإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه كالقرآن الذي نُزِّل على محمد"والتوراة التي أُنزلت على موسى"والإنجيل الذي نزل على عيسى_عليه الصلاة والسلام_والزبور الذي أوتيه داود_عليه السلام_. وأما ما لم نعلمه من الكتب المنزلة فنؤمن به إجمالاً. 3_تصديق ما صح من أخبارها، كأخبار القرآن، وأخبار ما لم يبدل، أو يحرف من الكتب السابقة. 4_العمل بما لم ينسخ منها، والرضا، والتسليم به، سواء فهمنا حكمته أم لم نفهمها. وجميع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن العظيم، قال_تعالى_: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ] (المائدة: 48) . أي حاكماً عليه، وعلى هذا فلا يجوز العمل بأي حكم من أحكام الكتب السابقة إلا ما صح وأقره القرآن. أهمية الإيمان بالكتب الإيمان بالكتب أصل من أصول العقيدة، وركن من أركان الإيمان، ولا يصح إيمان أحد إلا إذا آمن بالكتب التي أنزلها الله على رسله_عليهم السلام_. وقد أثنى الله_عز وجل_على الرسل الذين يبلغون عن الله رسالاته فقال_عز وجل_: [الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ] (الأحزاب: 39) . كما أخبر_سبحانه_أن الرسول"والمؤمنون آمنوا بما أنزل من عند الله من كتب، قال_تعالى_[آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ] (البقرة: 285) .

_ (1) رسائل في العقيدة للشيخ محمد بن عثيمين، ص23. (2) انظر المصدر السابق، 23.

أدلة الإيمان بالله

ومما يدل على أهميته أن الله أمر المؤمنين بأن يؤمنوا بما أنزله كما في قوله_تعالى_: [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] (البقرة: 136) . ومما يدل على أهميته أن الله أهلك الأمم بسبب تكذيبهم برسالاته، كما أخبر الله عن صالح بقوله: [فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ] (الأعراف: 79) . كذلك من أنكر شيئاً مما أنزل الله فهو كافر كما قال_تعالى_: [وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً] (النساء:136) . أدلة الإيمان بالله لقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على الإيمان بالكتب فمن ذلك قوله_تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ] (النساء: 136) وقوله_تعالى_: [وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ] (الشورى: 15) . وقال_عليه الصلاة والسلام_كما في حديث جبريل المشهور عندما سأله عن الإيمان قال:=أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله+الحديث (1) . الغاية من إنزال الكتب (2) أنزلت الكتب السماوية كلُّها لغايةٍ واحدةٍ، وهدف واحد وهو أن يُعْبَدَ الله وحده لا شريك له، ولتكون منهج حياة للبشر الذين يعيشون في هذه الأرض، تقودهم بما فيها من هداية إلى كل خير، ولتكون روحاً ونوراً تحيي نفوسهم، وتكشف ظلماتها، وتنير لهم دروب الحياة كلها.

_ (1) رواه البخاري (50) ومسلم (8) . (2) انظر الرسل والرسالات، ص235، د. عمر الأشقر.

مواضع الاتفاق بين الكتب السماوية

مواضع الاتفاق بين الكتب السماوية (1) تتفق الكتب السماوية في أمور عديدة منها: 1_وحدة المصدر: فمصدرها واحد؛ فهي منزلة من عند الله، قال_تعالى_: [الم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ] (آل عمران:1_4) . 2_وحدة الغاية: فالكتب السماوية غايتها واحدة، فهي كلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى دين الإسلام؛ فالإسلام هو دين جميع الرسل، قال_تعالى_[وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] (النحل: 36) . وقال_تعالى_: [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ] (آل عمران: 19) . والإسلام هو الدين الذي أُمِر به إبراهيم_عليه السلام_[إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ] (البقرة: 131) . وقال موسى_عليه السلام_لقومه: [يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ] (يونس: 84) . والحواريون قالوا لعيسى_عليه السلام_: [آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 52) . فالغاية_إذاً_هي الدعوة إلى دين الإسلام، وإلى عبادة الله وحده لا شريك له. 3_مسائل العقيدة: فالكتب اشتملت على الإيمان بالغيب، ومسائل العقيدة، كالإيمان بالرسل، والبعث والنشور، والإيمان باليوم الآخر إلى غير ذلك.

_ (1) انظر المرجع السابق، ص235، 243، 249.

فمسائل العقيدة من باب الأخبار التي لا تنسخ. 4_القواعد العامة: فالكتب السماوية تقرر القواعد العامة، التي لابد أن تعيها البشرية؛ كقاعدة الثواب والعقاب، وهي أن الإنسان يحاسب بعمله، فيعاقب بذنوبه وأوزاره، ولا يؤاخذ بجريرة غيره، ويثاب بسعيه، وليس له سعي غيره كما قال_تعالى_[أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى] (النجم: 36_41) . ومن ذلك الحث على تزكية النفس، وبيان أن الفلاح الحقيقي لا يتحقق إلا بتزكية النفس بالطاعة لله، والعبودية له، وإيثار الآجل على العاجل. قال_تعالى_: [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى] (الأعلى: 14_19) . ومن تلك القواعد أن الذي يستحق وراثة الأرض هم عباد الله الصالحون؛ [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ] (الأنبياء: 105) . ومن ذلك أن العاقبة للتقوى وللمتقين، كما قال_تعالى_: [وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] (طه: 132) ، وقال: [وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] (الأعراف: 128) . 5_العدل والقسط: وهذا من مواطن الاتفاق؛ فجميع الأنبياء_عليهم السلام_حملوا ميزان العدل والقسط، قال_تعالى_: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] (الحديد: 25) .

مواضع الاختلاف

6_محاربة الفساد والانحراف: وهذا ما اتفقت عليه الرسالات؛ سواء كان الفساد عقدياً أو خلقياً، أو انحرافاً عن الفطرة، أو عدواناً على البشر، أو تطفيفاً في الكيل والميزان، أو غير ذلك. 7_الدعوة إلى مكارم الأخلاق: فالكتب كلها دعت إلى مكارم الأخلاق، كالعفو عن المسيء، وكالصبر على الأذى، وكالقول الحسن، وبر الوالدين، والوفاء بالعهد، وصلة الأرحام، وإكرام الضيف، والتواضع، والعطف على المساكين، إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق. 8_كثير من العبادات: فكثير من العبادات التي نقوم بها كانت معروفة عند الرسل وأتباعهم، كالصلاة، والزكاة، قال_تعالى_: [وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ] (الأنبياء: 73) . وإسماعيل_عليه السلام_[وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ] (مريم: 55) ، وقال الله لموسى_عليه السلام_[فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي] (طه: 14) ، وقال عيسى_عليه السلام_: [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً] (مريم: 31) . والصوم_كذلك_مفروض علينا كما هو مفروض على من قبلنا، قال_تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] (البقرة: 183) . والحج كذلك، كما في قول الله_تعالى_لإبراهيم_عليه السلام_[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً] (الحج: 27) . وقد جعل الله لكل أمة مناسكها وعبادتها، قال_عز وجل_: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ] (الحج: 34) . مواضع الاختلاف (1) تختلف الكتب السماوية في الشرائع، فشريعة عيسى تخالف شريعة موسى_عليهما السلام_في بعض الأمور، وشريعة محمد"تخالف شريعة موسى وعيسى_عليهما السلام_في أمور.

_ (1) انظر الرسل والرسالات، ص250.

قال_تعالى_: [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً] (المائدة: 48) . وليس معنى ذلك أن الشرائع تختلف اختلافاً كلياً؛ فالناظر في الشرائع يجد أنها متفقة في المسائل الأساسية، وقد مر بنا شيء من ذلك، فالاختلاف بينها إنما يكون في التفاصيل. فعدد الصلوات، وأركانها، وشروطها، ومقادير الزكاة، ومواضع النسك، ونحو ذلك_قد تختلف من شريعة إلى شريعة، وقد يُحِل الله أمراً في شريعة لحكمة، ويحرمه في شريعة أخرى لحكمة يعلمها_عز وجل_ولا يلزم أن نعلمها، ومن الأمثلة على ذلك مايلي: 1_الصوم: فقد كان الصائم يفطر في غروب الشمس، ويباح له الطعام، والشراب، والنكاح إلى طلوع الفجر ما لم ينم، فإن نام قبل الفجر حرم عليه ذلك كله إلى غروب الشمس من اليوم الثاني، فخفف الله عن هذه الأمة، وأحله من الغروب إلى الفجر، سواءً نام أم لم ينم، قال_تعالى_: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ] (البقرة: 187) . 2_ستر العورة حال الاغتسال: لم يكن واجباً عند بني إسرائيل، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: =كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده+ (1) . 3_الأمور المحرمة: فمما أحله الله لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم الله هذا بعد ذلك. وكان التسري على الزوجة مباحاً في شريعة إبراهيم، وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة. وقد حرَّم الله مثل هذا على بني إسرائيل في التوراة.

_ (1) البخاري_الفتح (278) ، مسلم (339) .

منزلة القرآن من الكتب المتقدمة

وكذلك الجمع بين الأختين كان سائغاً، وقد فعله يعقوب فتزوج بابنتي خاله: ليَّا، وراحيل؛ وهما أختان ثم حُرِّمَ عليهم في التوراة. ومما حرَّمه الله على اليهود ما قصه علينا في سورة الأنعام، قال_تعالى_: [وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ] (الأنعام: 146) . ثم جاء عيسى_عليه السلام_فأحل لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم. وجاءت الشريعة الخاتمة لتكون القاعدة: إحلال الطيبات وتحريم، الخبائث. ومما تميزت به الشريعة الخاتمة أنها عامة لجميع الناس إلى قيام الساعة، بخلاف الشرائع الأخرى، فهي خاصة بقوم دون قوم، أو فترة دون فترة. منزلة القرآن من الكتب المتقدمة (1) القرآن آخر الكتب السماوية وهو خاتمها، وهو أطولها، وأشملها، وهو الحاكم عليها. قال الله_تعالى_: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ] (المائدة: 48) . وقال_تعالى_: [وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ] (يونس: 37) . وقال: [مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] (يوسف: 111) .

_ (1) انظر: أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة للشيخ حافظ الحكمي، ص81-82؛ السؤال رقم 80.

التوراة

قال أهل التفسير في قوله_تعالى_[وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ] : مهيمناً وشاهداً على ما قبله من الكتب، ومصدقاً لها؛ يعني يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف، وتبديل، وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير. ولهذا يخضع له كل متمسك بالكتب المتقدمة ممن لم ينقلب على عقبيه كما قال_تبارك وتعالى_: [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ] (القصص:52، 53) . فالقرآن هو رسالة الله لجميع الخلق، وقد تكفل_سبحانه_[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) . ولا يقبل الله من أحد ديناً إلا ما جاء في هذا القرآن العظيم. قال الشيخ ابن سعدي_رحمه الله_في قوله_تعالى_: [وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ] :=أي مشتملاً على ما اشتملت عليه الكتب السابقة وزيادة في المطالب الإلهية، والأخلاق النفسية؛ فهو الكتاب الذي يتبع كل حق جاءت به الكتب، فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه. وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود قد دخله التحريف والتبديل، وإلا لو كان من عند الله لم يخالفه+ (1) . التوراة التوراة هي الكتاب الذي أنزله الله على موسى_عليه السلام_والتوراة كتاب عظيم اشتمل على النور والهداية كما قال_تعالى_: [إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ] (المائدة: 44) .

_ (1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي 1/490.

وقال_تعالى_: [ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ] (الأنعام: 154) . وكثيراً ما يقرن الله_عز وجل_في القرآن بين التوراة والقرآن؛ وذلك لأنهما أفضل كتابين أنزلهما الله على خلقه. هذه باختصار هي حقيقة التوراة التي أنزلت على موسى_عليه السلام_. التوراة الموجودة اليوم (1) : أما التوراة الموجودة اليوم فهي ما يطلق على الشريعة المكتوبة، كما يطلق لفظ (التلمود) على الشريعة الشفهية. والتوراة الموجودة اليوم تشتمل على خمسة أسفار وهي: 1_سفر التكوين: ويتحدث هذا السفر عن خلق العالم، وظهور الإنسان، وطوفان نوح، وولادة إبراهيم إلى موت يوسف_عليه الصلاة والسلام_. 2_سفر الخروج: ويتحدث عن حياة بني إسرائيل في مصر، منذ أيام يعقوب إلى خروجهم إلى أرض كنعان مع موسى ويوشع بن نون. 3_سفر اللاويين: نسبة إلى لاوي بن يعقوب، وفي هذا السفر حديث عن الطهارة، والنجاسة، وتقديم الذبائح، والنذر، وتعظيم هارون وبنيه. 4_سفر العدد: يحصي قبائل بني إسرائيل منذ يعقوب، وأفرادَهم ومواشيهم. 5_سفر التثنية: وفيه أحكام، وعبادات، وسياسة، واجتماع، واقتصاد، وثلاثة خطابات لموسى_عليه السلام_. هذه هي التوراة الموجودة اليوم، وكل عاقل منصف_فضلاً عن المسلم المؤمن_يعلم براءة التوراة التي أنزلها الله على موسى_عليه السلام_مما هو موجود في التوراة اليوم، وذلك لأمور عديدة منها: 1_ما حصل للتوراة من الضياع والنسخ والتحريف والتدمير، فلقد حُرِّف فيها، وبُدِّل، وضاعت، وتعرضت لسبع تدميرات، منذ عهد سليمان_عليه السلام_ (945) قبل الميلاد إلى أن حصل التدمير السابع عام 613م مما يدل على ضياعها وانقطاع سندها. 2_ما تشتمل عليه من عقائد باطلة لا تمت إلى ما جاء به المرسلون بأدنى صلة.

_ (1) انظر: مقارنة بين القرآن والتوراة لمحمد الصوياني.

الإنجيل

3_اشتمالها على تنقص الرب_جل وعلا_وتشبيهه بالمخلوقين، ومن ذلك قولهم:=إن الله تصارع مع يعقوب ليلة كاملة فصرعه يعقوب+. ومن ذلك قولهم:=إن الله ندم على خلق البشر لما رأى من معاصيهم، وأنه بكى حتى رمد فعادته الملائكة+. تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً. 4_اشتمالها على سب الأنبياء والطعن فيهم، ومن ذلك قولهم:=إن نبي الله هارون صنع عجلاً، وعبده مع بني إسرائيل+. وقولهم:=إن لوطاً شرب خمراً حتى سكر، ثم قام على ابنتيه فزنى بهما الواحدة تلو الأخرى+. وقولهم:=إن سليمان_عليه السلام_ارتد في آخر عمره، وعَبَدَ الأصنام، وبنى لها المعابد، إلى غير ذلك من مخازي إخوان القردة+ (1) . 5_اشتمالها على المغالطات والمستحيلات والمتناقضات. 6_أن المعركة التي قامت بين التوراة وحقائق العلم الحديث أثبتت ما في التوراة من الأخطاء العلمية. ومن تلك الكتب التي تكلمت على هذا الموضوع كتابان هما: (أصل الإنسان) و (التوراة والإنجيل والقرآن) لعالم فرنسي اسمه (موريس بوكاي) حيث أثبت وجود أخطاء علمية في التوراة والإنجيل، وأثبت في الوقت نفسه عدم تعارض القرآن مع العلم الحديث وحقائقه، بل سجل شهادات تفوق سبق القرآنُ فيها العلمَ بألف وأربعمائة عام (2) . الإنجيل هو الكتاب العظيم الذي أنزله الله على عيسى_عليه السلام_متمماً للتوراة، ومؤيداً لها، وموافقاً لها في أكثر الأمور الشرعية، يهدي إلى الصراط المستقيم، ويبين الحق من الباطل، ويدعو إلى عبادة الله وحده دون من سواه. هذا هو الإنجيل الذي أنزل على عيسى_عليه السلام_. وبعد موت عيسى_عليه السلام_دخل التحريف الإنجيل فَغُيِّر فيه، وبدِّل، وزيد فيه، ونقص. الإنجيل بعد عيسى_عليه السلام_: الكتاب المقدس لدى النصارى يشمل التوراة والأناجيل، ورسائل الرسل.

_ (1) انظر: الرسل والرسالات، 104-105. (2) انظر: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (لموريس بوكاي) ترجمة الشيخ حسن خالد.

وتسمى التوراة العهد القديم، وتسمى الأناجيل، ورسائل الرسل العهد الجديد. فالعهد الجديد_إذاً_هو الذي يشتمل على أناجيلهم، والأناجيل المعتبرة عند النصارى أربعة هي: 1_إنجيل يوحنَّا. ………2_إنجيل مرقُس. 3_إنجيل مَتَّى. ………4_إنجيل لُوقا. وهناك أناجيل أخرى مثل إنجيل برنابا، وأناجيل أخرى أهملت. هذا وقد بيَّن كثير من العلماء المسلمين قديماً وحديثاً ومن علماء النصارى الذين دخلوا في الإسلام، أو المتحررين منهم من ربقة التقليد_عدم صحة هذه الأناجيل الموجودة في أيدي النصارى، ووجهوا إليها انتقادات كثيرة، ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله تعالى_في كتابه: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وابن القيم_رحمه الله تعالى_في كتابه: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى. ومن العلماء المحدثين الشيخ رحمة الله الهندي_رحمه الله تعالى_في كتابه: إظهار الحق، والشيخ محمد أبو زهرة_رحمه الله تعالى_في كتابه: محاضرات في النصرانية، ومن علماء النصارى الذين أسلموا إبراهيم خليل أحمد كما في كتابه: محاضرات في مقارنة الأديان. وفيما يلي إجمال لبعض الأمور التي تبين بطلان الأناجيل الموجودة بأيدي النصارى اليوم وعدم صحتها: 1_أن هذه الأناجيل التي بأيدي النصارى لم يُمْلِها عيسى_عليه السلام_ولم تنزل عليه وحياً، ولكنها كتبت بعده. 2_ما وقع في الأناجيل من تلاعب النساخ، وتبديلهم وتحريفهم. 3_اشتمالها على المتناقضات، والاختلافات، وقد أحصى الشيخ رحمة الله الهندي_في آخر كتابه إظهار الحق_أكثر من مائة اختلاف بين هذه الأناجيل. 4_انقطاع السند في نسبتها لكتابها. 5_اشتمالها على تنقص الرب_جل وعلا_وعلى نسبة القبائح للأنبياء_عليهم السلام_. 6_اشتمالها على العقائد الباطلة المخالفة للنقل والعقل. 7_تعارضها مع الحقائق العلمية، كما أثبت ذلك عدد من العلماء؛ منهم موريس بوكاي وقد مر معنا ذلك قريباً.

هل يسوغ لأحد اتباع التوراة أو الإنجيل بعد نزول القرآن؟

8_زد على ذلك أن تلك الأناجيل_وبغض النظر عن كونها محرفة_تخلو من أي تصور محدد لنظام سياسي، أو اجتماعي، أو اقتصادي، أو علمي. هل يسوغ لأحد اتباع التوراة أو الإنجيل بعد نزول القرآن؟ لا يسوغ لأحد ذلك؛ للاعتبارات السابقة، ولأنها_وعلى فرض صحتها_كانت خاصة لأمة معينة، ولفترة محددة، ولأنها نسخت بالقرآن الكريم. ومن هنا يتبين بطلان هذه الكتب، وعدم جواز العمل بها إلا ما أقره القرآن، ويتبين لنا ضلال اليهود والنصارى وبطلان مزاعمهم، كيف وقد قال":=لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار+ (1) . ثمرات الإيمان بالكتب (2) الإيمان بالكتب يثمر ثمراتٍ جليلةً منها: 1_العلم بعناية الله؛ حيث أنزل لكل قوم كتاباً يهديهم به. 2_العلم بحكمة الله؛ حيث شرع لكل قوم ما يناسبهم، ويلائم أحوالهم. 3_التحرر من زبالات أفكار البشر بهدي السماء. 4_السير على طريقٍ مستقيمةٍ واضحةٍ لا اضطراب فيها ولا اعوجاج. 5_الفرح بذلك الخير العظيم [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] (يونس: 58) . 6_شكر الله على هذه النعمة العظيمة. 7_التحرر من التخبط الفكري والعقدي. ما يضاد الإيمان بالكتب يضاد الإيمان بالكتب تكذيبها، والكفر بها، وتحريفها. كما يضادها: الإعراضُ عن القرآن، وادعاء نسخه، والتحاكم إلى غيره، وادعاء نقصه، ومضاهاته، ومعارضته. الطوائف التي ضلّت في باب الإيمان بالكتب هناك طوائف كثيرة ضلت في هذا الباب منها: 1_اليهود: وذلك بتكذيبهم للقرآن، وتكذيبُهم للقرآن هو في الحقيقة تكذيب لجميع الكتب السماوية. 2_النصارى: يقال عنهم ما قيل عن اليهود، وقد مر الحديث عنهما.

_ (1) رواه مسلم (153.) (2) انظر: رسائل في العقيدة الإسلامية، ص23.

3_الرافضة: وذلك بادعائها أن القرآن ناقص ومحرّف، وأن القرآن الكامل مع الغائب الذي سيخرج في آخر الزمان من سرداب سامراء. .! ثم إنهم ضلوا في هذا الباب بسبب جعلهما في الجفر والجامعة مصدراً للتلقي عندهم. وضلوا أيضاً في تأويل القرآن حيث أغرقوا في الباطنية في تأويله (1) . 4_البابية والبهائية: وذلك بادعائها نسخ القرآن الكريم، والشريعة الإسلامية بشريعة الباب والبهاء (2) . 5_التيجانية: وذلك بتفضيلها أورادَها وأذكارَها_كصلاة الفاتح_على القرآن الكريم حيث قالوا: إن قراءة صلاة الفاتح مرة واحدة أفضل من قراءة القرآن ستة آلاف مرة (3) . 6_غلاة الصوفية عموماً: وذلك بادعائهم العلم اللَّدُنِّي الذي يوحى إليهم، ويغنيهم عن القرآن كما يزعمون. ثم إن مصدر التلقي عندهم ليس القرآن والسنة بل يقوم على الرؤى والأحلام، والكشف، وغير ذلك (4) مما يخالف ما جاء في القرآن. 7_النصيرية والدروز وسائر الفرق الباطنية: وذلك بانحرافهم في تأويل القرآن، وإغراقهم في التأويل الباطني، وإخراج القرآن عن معانيه وحقائقه الصحيحة، وكذلك ادعاء بعضهم نسخ الإسلام كما يقول علي ابن الفضل الباطني_قبحه الله_: تولي نبي بني هاشم **** وهذا نبي بني يعرب لكل نبي مضى شرعةٌ **** وهذي شريعة هذا النبي فقد حط عنا فروض الصلاة **** وفرض الصيام فلم نتعب

_ (1) انظر الشيعة والسنة، لإحسان إلهي ظهير، ص78، وانظر: بطلان عقائد الشيعة، لمحمد عبد الستار التونسي، ص35، ومسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة، د. ناصر القفاري 1/212-215. (2) انظر البابية عرض ونقد، لإحسان إلهي ظهير، ص104 والبابية للكاتب، والبائية نقد وتحليل، لإحسان إلهي ظهير، ص222 والبهائية للكاتب. (3) انظر: التيجانية، لعلي الدخيل الله، ص116-123. (4) انظر: التصوف المنشأ والمصادر، لإحسان إلهي ظهير، 260-275، وهذه هي الصوفية، للشيخ عبد الرحمن الوكيل، ص70.

إلى آخر ذلك الكفر الصراح البواح (1) . 8_المشرعون والقانونيون: الذين أعرضوا عن تحكيم القرآن، وعارضوه بزبالات أفكارهم، زاعمين أنه لا يناسب العصر الحديث، ولا يفي بحاجاته.

_ (1) انظر: كشف أسرار الباطنية، لابن أبي الفضائل الحمادي اليمني، ص50، والحركات الباطنية، د. محمد بن أحمد الخطيب، ص66 و349، والنصيرية، د. سهل الفيل، ص87، والباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية لسليمان الأذني، ص48-50.

لا إله إلا الله–معناها-أركانها-فضائلها-شروطها

لا إله إلا الله تأليف الشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله_صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً_. أما بعد: فإن كلمة التوحيد_لا إله إلا الله_هي أساس الدين، وحصنه الحصين، وطريقه القويم، وصراطه المستقيم. ولهذه الكلمة المكانةُ العظمى في دين الإسلام؛ فهي أول ركن من أركان الإسلام، وأعلى شعبة من شعب الإيمان، وهي أول واجب على المكلف، وآخر واجب عليه، وقبول الأعمال متوقف على النطق بها، والعمل بمقتضاها. وفيما يلي من صفحات سيكون الحديث عن هذه الكلمة وذلك من خلال الوقفات التالية: - معنى لا إله إلا الله. … - أركانها. - فضائلها. - هل يكفي مجرد النطق بها؟ … - شروطها. فما كان في ذلك من حق فهو محض فضل الله_عز وجل_وما كان فيه من باطل فمن الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم. محمد بن إبراهيم الحمد الزلفي: ص. ب: 460 www.toislam.net

معنى: لا إله إلا الله

معنى: لا إله إلا الله أما معناها الحق الذي لا ينبغي العدول عنه فهو: لا معبود حق إلا الله. ولا يجوز لنا أن نقول: إن معناها لا خالق إلا الله، أو لا قادر على الاختراع إلا الله، أو لا موجود إلا الله، وذلك لأمور منها: 1_أن كلمة =إله+ عند العرب فِعالٌ بمعنى مفعول، كغِراس بمعنى مغروس، وفِراش بمعنى مفروش، وكتاب بمعنى مكتوب؛ فإله: فِعال بمعنى مفعول: أي مألوه، والتأله في لغة العرب معناه التنسك والتعبد، فمعنى مألوه: معبود ومنه قول رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المده **** سبحن واسترجعن من تألهي (1) وقد سمَّت العرب الشمس لما عبدوها إلهةً، وقالت مية بنت أم عتبة ابن الحرث: تروَّحنا من اللعباء عصراً **** فأعجلنا الإلهة أن تؤوبا (2) 2_أن كفار قريش والمشركين في الجاهلية لا ينكرون أنه لا خالق إلا الله، أو لا قادر على الاختراع إلا الله، قال_تعالى_في شأنهم: [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ] (لقمان:25) . وأشعارهم مليئة بالإقرار بهذا الأمر، أعني توحيد الربوبية، ومن ذلك قول زهير ابن أبي سلمى: فلا تكتُمُن الله ما في نفوسكم **** ليخفي ومهما يكتم الله يعلم يُؤخر فيُوضَعْ في كتاب فيُدَّخَر **** ليوم الحساب أو يعجل فينتقم (3) ومنه قول حاتم الطائي: أما والذي لا يعلم السر غيره **** ويحيي العظام البيض وهي رميم (4) 3_أن كفار قريش لما قال لهم الرسول" =قولوا: لا إله إلا الله+ قالوا كما أخبر الله_تعالى_عنهم [أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] (ص:5) . فما الذي فهمه كفار قريش عندما أمرهم النبي"أن يقولوا لا إله إلا الله؟ هل فهموا من لا إله إلا الله أن معناها لا خالق أو لا قادر على الاختراع إلا الله؟. الجواب لا؛ لأنهم لا ينكرون ذلك، إنما أنكروا أن تكون العبادة كلها لله وحده لا شريك له، إذاً فمعنى لا إله إلا الله: لا معبود حق إلا الله، وتُقَدَّر كلمة =حق+ لأن المعبودات كثيرة، ولكن المعبود الحق هو الله وحده لا شريك له. قال_تعالى_: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ] (الحج:62) .

_ (1) انظر لسان العرب 13/496. (2) لسان العرب 13/469. (3) شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، ص25. (4) شرح ديوان حاتم الطائي، ص47.

أركان: لا إله إلا الله

أركان: لا إله إلا الله للشهادة ركنان: 1_نفي في قوله (لا إله) . 2_إثبات في قوله (إلا الله) . فـ: (لا إله) نفت الألوهية عن كل ما سوى الله، و: (إلا الله) أثبتت الألوهية لله وحده لا شريك له. وهذا الأسلوب يعرف بأسلوب القصر، وهو أسلوب عربي معروف، وجملة القصر في قوة جملتين، إحداهما مثبتة، والأخرى منفية. وهذا الأسلوب من أقوى الأساليب التي يؤتى بها لتمكين الكلام وتقريره في الذهن؛ لدفع ما فيه من إنكار أو شك. وطريقُ القصر في كلمة التوحيد: النفي والاستثناء. ولا إله إلا الله في قوة قوله_تعالى_[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (الفاتحة:5) ، وقوله: [قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا] (الملك:29) . فطريق القصر في الآيتين تقديم ما حقه التأخير؛ ففي آية الفاتحة قدم المفعول به (إياك) على الفعل (نعبد) . وفي آية الملك قدم الجار والمجرور (وعليه) على الفعل (توكلنا) . هل يكفي مجرد النطق بـ: لا إله إلا الله (1) كما مر بنا أن معنى الشهادة هو لا معبود حق إلا الله، فلا يعبد إلا الله، ولا يجوز أن يُصرف أيُّ نوع من أنواع العبادة لغير الله؛ فمن قال هذه الكلمة عالماً بمعناها، عاملاً بمقتضاها؛ من نفي الشرك، وإثبات الوحدانية، مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته والعمل به؟ فهو المسلم حقاً، ومن عمل بها من غير اعتقاد فهو المنافق، ومن عمل بخلافها من الشرك فهو المشرك الكافر وإن قالها بلسانه. فضائل: لا إله إلا الله (2) لقد اجتمع لكلمة الإخلاص (لا إله إلا الله) فضائل جمة، وثمرات عديدة، ولكثرة فضائلها كثرت أسماؤها، وما ذلك إلا لعظم ما تحمله تلك الكلمة في طياتها من عمق في المعنى والمدلول، فشأنها عظيم، ونفعها عميم، وفضائلها يقصر دونها الحصر والعد. غير أن هذه الفضائل لا تنفع قائلها بمجرد النطق بها فقط، ولا تتحقق إلا لمن قالها مؤمناً بها، عاملاً بمقتضاها. وفيما يلي ذكر لبعض ما هو مثبوت في كتب أهل العلم في فضل تلك الكلمة، وبيان أهميتها.

_ (1) انظر تيسير العزيز الحميد ص 74_80. (2) انظر: كلمة الإخلاص لابن رجب الحنبلي حققه بشير محمد عيون، وانظر إلى كتاب التوحيد للإمام المُجدد محمد بن عبد الوهاب خصوصاً باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، وباب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، وانظر إلى شرح هذين البابين في تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن والقول السديد لابن سعدي وغيرها من الشروح، وانظر إلى كتاب معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي في الحديث عن فضائل كلمة الشهادة الجزء الأول.

1_أنها أعظم نعمة أنعم الله بها_عز وجل_على عباده؛ حيث هداهم إليها؛ ولهذا ذكرها في سورة النحل، التي هي سورة النِّعم، فقدمها على كل نعمة فقال: [يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ] (النحل:2) . 2_وهي العروة الوثقى: [....فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (البقرة:256) . قاله سعيد بن جبير والضحاك. 3_وهي العهد الذي ذكره الله_عز وجل_إذ يقول: [لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً] (مريم:87) . قال ابن عباس_رضي الله عنهما_: =العهد شهادة أن لا إله إلا الله، ويبرأ إلى الله من الحول والقوة إلا بالله، ولا يرجو إلا الله_عز وجل_+ (1) . 4_وهي الحسنى التي ذكرها الله في قوله: [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى] (الليل:5_7) . قاله أبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك عن ابن عباس_رضي الله عنهما_ (2) . 5_وهي كلمة الحق كما في قوله_تعالى_: [إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (الزخرف:86) .

_ (1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/53. (2) انظر تفسير القرآن العظيم 4/519.

6_وهي كلمة التقوى التي ذكرها الله في قوله: [وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا] (الفتح:26) . 7_وهي القول الثابت، قال_تعالى_: [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] (إبراهيم:27) . 8_وهي الكلمة الطيبة المضروبة مثلاً في قوله_تعالى_: [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ] (إبراهيم:24) . فأصلها ثابت في قلب المؤمن، وفرعها_في العمل الصالح_صاعدٌ إلى الله_عز وجل_. فالكلمة الطيبة هي كلمة الإخلاص والشجرة الطيبة هي النخلة. وقد شبه الله_سبحانه وتعالى_كلمة الإخلاص بالنخلة لأمور منها: أ_ أن النخلة لابد لها من ثلاثة أشياء: عرقٍ راسخ، وأصلٍ قائم، وفرعٍ عالٍ. كذلك الإيمان لابد له من ثلاثة أشياء: تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح. ب_ أن النخلة لا تنبت في كل أرض، كذلك كلمة التوحيد لا تستقر في كل قلب، بل في قلب المؤمن فقط. ج_ أن النخلة عرقها ثابت بالأرض، وفرعها مرتفع، كذلك كلمة التوحيد أصلُها ثابت في قلب المؤمن، فإذا تكلم بها وعمل بمقتضاها عرجت فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله_عز وجل_. قال_تعالى_: [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ] (فاطر:10) . د_ أن النخلة يؤكل ثمرها ليلاً ونهارهاً، صيفاً وشتاءً، إما تمراً، أو بسراً، أو رطباً. كذلك عمل المؤمن يصعد أول النهار، وآخره، وبركة إيمانه لا تنقطع أبداً، بل تصل إليه في كل وقت (1) . 9_وهي سبيل الفوز بالجنة، والنجاة من النار [ ... فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ] (آل عمران:185) .

_ (1) انظر تفسير البغوي معالم التنزيل 4/247، تحقيق: عثمان جمعة ضميرية وحمد النمر وسليمان الحرش.

وكما في الحديث المتفق عليه =من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق_أدخله الله الجنة على ما كان من العمل+ (1) . 10_أنها سبب مانع للخلود في النار لمن استحق دخولها؛ كما في حديث الشفاعة =أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه مثقال ذرة من إيمان+ (2) . فأهل لا إله إلا الله وإن دخلوها بتقصيرهم في حقوقها فإنهم لابد أن يخرجوا منها كما في الصحيحين: =يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن بُرَّةٍ من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذَرَّة من خير+ (3) . 11_أن من قالها يبتغي بذلك وجه الله_فإن الله يحرمه على النار، كما في حديث عتبان المتفق عليه =فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله+ (4) . 12_ولأجلها خلقت الجن والإنس: قال الله_عز وجل_: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات:56) . 13_وهي سبيل السعادة في الدارين: قال الله_عز وجل_: [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ] (الأنعام:82) . 14_وهي أول واجب على المكلف: قال": =أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله+ (5) .

_ (1) البخاري 4/139، ومسلم 1/57 (2) أخرجه البخاري (6560) ومسلم (183) ، والنسائي 8/113، والترمذي (2598) ، وابن ماجه (60) . (3) البخاري (44) ومسلم (193) . (4) البخاري 1/110 ومسلم 1/61. (5) رواه البخاري رقم (25) ومسلم (20) .

15_وهي آخر واجب على المكلف: فمن كانت آخر كلامه من الدنيا_دخل الجنة كما جاء في حديث معاذ÷ =من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة+ (1) . 16_وهي التي لأجلها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء:25) . 17_وهي مفتاح دعوة الرسل: فالرسل_عليهم السلام_دعوا إليها جميعاً، فكلهم يقول لقومه [اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ] (الأعراف:73) . 18_وهي أفضل الحسنات: قال أبو ذر÷قلت يا رسول الله: علمني عملاً يقربني من الجنة ويباعدني من النار قال: =إذا عملت سيئة فاعمل حسنة فإنها عشر أمثالها+. قال: قلت يا رسول الله: أمِنَ الحسنات لا إله إلا الله؟. قال: =هي أفضل الحسنات+ (2) . 19_وهي الحسنة: قال الله_تعالى_[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] (الأنعام:160) ؛ إذ هي أفضل الحسنات كما مر. 20_وهي أفضل ما ذكر الله به_عز وجل_:كما قال النبي": =أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له+ (3) .

_ (1) رواه أبو داود (3116) والحاكم في المستدرك 1/351 وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6479) . (2) رواه الإمام أحمد في المسند 5/169، وصححه الألباني في الصحيحة (1373) وصحيح الجامع (690) . (3) رواه مالك في الموطأ 1/422 وقال الألباني: وهذا إسناد مرسل صحيح، وقد وصله ابن عدي والبيهقي في الشعب عنابي هريرة مرفوعاً. أنظر الصحيحة (1503) .

21_وهي أثقل شيء في الميزان: كما في المسند عن عبد الله بن عمر_رضي الله عنهما_عن النبي"أن نوحاً_عليه السلام_قال لابنه عند موته: =آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع، والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله+ (1) . 22_وهي تطيش بسجلات الذنوب، وترجح بصحائفها، وتثقل الميزان، كما في حديث صاحب البطاقة: قال رسول الله": =إن الله سيخلِّصُ رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فَيحْشُرُ عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجلٍّ مثل مدِّ البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا ربِّ، فيقول: أَفَلَكَ عذر؟ فيقول: لا يا ربِّ. فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنةً؛ فإنه لا ظلم اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: أحضر وزنك. فيقول: يا ربِّ ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تُظْلم. قال: فتوضع السجلات في كفةٍ، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء+ (2) . 23_وهي أعلى شعب الإيمان: وذلك لما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة÷قال: قال رسول الله ": =الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله+ (3) .

_ (1) رواه أحمد 2/170 وسنده صحيح، قاله الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 134. (2) الحديث رواه الترمذي (2639) ، وحسنه ابن ماجه (4300) وابن حبان (2523) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1776) . (3) البخاري 1/8 ومسلم (35) .

24_وهي أفضل الأعمال والأذكار، وأكثرها تضعيفاً، وتعدل عتق الرقاب، وتكون حرزاً من الشيطان: كما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة÷عن النبي"أنه قال: =من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة_كانت له عَدْل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه+ (1) . وفي الصحيحين أيضاً عن أبي أيوب الأنصاري÷عن النبي": =من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرار كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل+ (2) . 25_أنها تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية: كما جاء في صحيح مسلم: =ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ_أو فيسبغ_الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء+ (3) . 26_وهي التي يكون السؤال عنها يوم القيامة: قال_تعالى_: [فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الحجر:92، 93) ، وقال_تعالى_[فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ] (الأعراف:6) . 27_وهي المثل الأعلى: الذي ذكره الله_عز وجل_في قوله: [ ... وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] (الروم:27) . فالمثل الأعلى هو الوصف الكامل، وأعظم وصف لله هو أنه لا إله إلا هو؛ كما جاء ذلك في آية الكرسي: [اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ] (البقرة:255) . 28_وفي شأنها تكون السعادة والشقاوة. 29_وبها تؤخذ الكتب باليمين أو الشمال.

_ (1) البخاري 7/167 ومسلم (2691) . (2) البخاري 7/167 ومسلم (2693) . (3) مسلم (234) .

30_ولأجلها يفرّق بين القريب والقريب [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ] (المجادلة:22) . 31_ولأجلها خلقت الدنيا والآخرة والجنة والنار. 32_وهي أصل الدين، وأساسه، ورأس أمره، وساق شجرته، وعمود فسطاطه، وبقية الأركان والفرائض متفرعة عنها، متشعبة منها، مكملات لها، مقيدة بالتزام معناها، والعمل بمقتضاها. 33_وهي الأمان من وحشة القبور، وهول المحشر. 34_أن قبول الأعمال متوقف عليها وعلى تحقيقها. 35_وهي أعظم سبب للتحرر من رق المخلوقين: فلا يتعلق العبد بهم، ولا يخافهم ولا يرجوهم، ولا يعمل لأجله. وهذا هو العز الحقيقي، والشرف العالي، الذي به يتم فلاحه، ويتحقق نجاحه. 36_وهي أصل كل خير ديني أو دنيوي: [تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين] (إبراهيم:25) . 37_وهي سبب لصفاء النفس، والبعد عن الأثرة: قال_تعالى_في وصف أهلها: [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة] (الحشر:9) . 38_وهي أعظم سبب لتحرير العقل من الخرافات والأوهام والأباطيل. 39_وهي كلمة السواء: قال_تعالى_: [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً] (آل عمران:64) . 40_وهي سبب للشجاعة والإقدام: فكلما ازداد الإنسان علماً بها، وعملاً بمقتضاها_ازداد بذلك شجاعة وإقداماً في الحق. ولا أدل على ذلك من حال الأنبياء_صلوات الله عليهم وسلامه_وكذلك حال أتباعهم من الصديقين، والشهداء، والصالحين، والمجاهدين في كل زمان ومكان. 41_أنها أعظم سبب لعلو الهمة: فأعلى الهمم الوصولُ إلى رضا الله ودخول الجنة. وصاحبها القائم بها أعظَمُ همِّه هو ذلك الأمر.

42_وهي أعظم مصدر للعزة والكرامة: قال_تعالى_: [ ... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ] (المنافقون:8) . 43_وهي الصدق: كما في قوله_تعالى_: [وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ] (الزمر:33) . 44_وهي التي لأجلها جردت سيوف الجهاد: قال_تعالى_: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ] (الأنفال:39) . 45_وهي مشتملة على نوعي الدعاء: دعاء العبادة ودعاء المسألة. 46_تفريج الكربات: فمن فضائلها أنها السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة، ودفع عقوبتهما، ولذا لما كان يونس_عليه السلام_في بطن الحوت، [ ... فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ] (الأنبياء:87) _استجاب الله له وفرج كربته. 47_أنها أعظم سبب لحسن الخلق: ولين الجانب، وكرم النفس، والارتفاع عن الدنايا، ومحقرات الأمور. 48_أنها هي كلمة التوحيد: والتوحيد هو السبب الأعظم لنيل رض_االله وثوابه قال_تعالى_: [وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ] (البقرة:163) . 49_أن أسعد الناس بشفاعة محمد"من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه: فعن أبي هريرة÷عن النبي"قوله: =أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه+ (1) . 50_أن من كَمُلَ التوحيد في قلبه، وعرف معنى الشهادة، وعمل بمقتضاها_سهل عليه فعل الخيرات، وترك المنكرات، وهانت عليه المصيبات؛ فالمخلص لله تخف عليه الطاعات؛ لما يرجو من ثواب ربه ورضوانه، ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي؛ لما يخشى من سخطه وأليم عقابه، ويتسلى عند المصائب؛ لعلمه أنها من عند الله، وكل ما يصيبه من الله فهو خير له في دينه ودنياه، علم حكمة ذلك أم لم يعلم.

_ (1) رواه البخاري (99) .

51_أنها إذا اكتملت المعرفة بها، والعمل بمقتضاها حبب الله لصاحبها الإيمان، وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين. 52_أن التوحيد إذا كمل وتم في القلب، وتحقق تحققاً كاملاً بالإخلاص التام_صار القليل من عمله كثيراً، وتضاعفت أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب. 53_أن الله تكفل لأهلها بالفتح والنصر في الدنيا، والعز والشرف وحصول الهداية والتيسير لليسرى، وإصلاح الأحوال والتسديد في الأقوال والأفعال. 54_أن الله يدفع عن أهلها شرور الدنيا والآخرة: قال_تعالى_: [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا] (الحج:38) . 55_وهي حبل الله المتين: قال_تعالى_: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً] (آل عمران:103) . 56_الحياة الطيبة: فالحياة الطيبة إنما هي لأهل الإيمان والتوحيد الخالص. قال_عز وجل_: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة] (النحل:97) . وقال_تعالى_: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً] (النور:55) . 57_حصول البشرى عند الممات: فمن فضائلها أن من استقام عليها تحصل له البشرى عند الممات. قال_تعالى_: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] (فصلت:30) . 58_وهي شعار المؤمنين الموحدين: فهم أهل لا إله إلا الله.

59_وهي الرابطة بين المؤمنين: فبمجرد الإيمان بها ينتسب الإنسان إلى أشرف نسب؛ فيصبح إبراهيم_عليه السلام_أباك، وأزواجُ النبي أمهاتِك، وباقي المؤمنين إخوةً لك. قال_تعالى_: [ ... مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ] (الحج:78) . وقال: [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] (الأحزاب:6) ، وقال: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (الحجرات:10) . 60_وهي سبب استغفار الملائكة: فالملائكة تستغفر للمؤمنين_أهل لا إله إلا الله_قال_تعالى_: [وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا] (غافر:7) . 61_وهي سبب استغفار المؤمنين: قال_تعالى_: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ] (محمد:19) . فكل مؤمن يستغفر للمؤمنين ينالك أيها الموحد نصيب من بركة ذلك الاستغفار. 62_وهي كلمة الإخلاص: لأن عمل القلب هو الأصل. 63_وهي كلمة الإحسان: قال_تعالى_: [هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ] (الرحمن:60) قال_تعالى_[لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ] (يونس:26) . يعني قالوا لا إله إلا الله (1) . 64_وهي دعوة الحق: قال_تعالى_: [لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ] (الرعد:14) . قال ابن عباس: =هي لا إله إلا الله+ ا. هـ (2) . وتقديم الخبر يفيد الحصر أي لا يقال لا إله إلا الله إلا في حقه_تعالى_. 65_وهي كلمة العدل: التي قال_تعالى_: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] (النحل:90) . قال ابن عباس: =العدل شهادة أن لا إله إلا الله+ (3) . 66_وهي الطيب من القول: قال_تعالى_: [وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ] (الحج:24) . أي هدوا إلى كل طيب، فلا أطيب ولا أطهر من هذه الكلمة.

_ (1) انظر تفسير القرآن العظيم 4/280. (2) انظر تفسير القرآن العظيم 2/488. (3) تفسير القرآن العظيم 2/565.

67_وهي الكلمة الباقية: فالتوحيد لا يزول بكل معصية، ولكن كل معصية تزول بسبب التوحيد وتفنى، قال تعالى عن إبراهيم_عليه السلام_: [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ] (الزخرف:26_28) . فذكرها_عز وجل_بعد ذكر معنى الشهادة فقوله: [بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ] بمعنى لا إله، [إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي] بمعنى إلا الله. 68_وهي كلمة الله العليا: قال_تعالى_: [ ... وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا] (التوبة:40) . فكلمة الله عليا على الدوام؛ ولهذا لم يعطفها على ما قبلها. 69_وهي النجاة: كما في قول مؤمن آل فرعون [وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ] (غافر:41) . والنجاة هي لا إله إلا الله، ولا تكون النجاة إلا بها. 70_وهي كلمة الاستقامة: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] (فصلت:30) . 71_وهي سبب الاجتماع والألفة: فكلمة التوحيد هي أساس توحيد الكلمة، ولا يكون الاجتماع إلا عليها، فلقد امتن الله على المؤمنين بها، فجمع بها شملهم بعد الشتات، ولَمَّ شعثهم بعد التفرق. قال_تعالى_: [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً] (آل عمران:103) . 72_وهي القول السديد: كما في قوله_تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً] (الأحزاب:70) . 73_وهي البرُّ: قال_تعالى_: [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] (البقرة:177) .

74_وهي الدين: كما قال_تعالى_[أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ] (الزمر:3) فَحُصِرَ الخضوع لله، ودل على أنه لا إله سواه، ولا معبود إلا إياه. 75_وهي الصراط المستقيم: قال_تعالى_: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] (الفاتحة:6) . وقال: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ] (الأنعام:53) وقال: [وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] (الشورى:52) . 76_وهي سبب النصر على الأعداء: قال_تعالى_[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الأنفال:45) ، ولا إله إلا الله أعظم ذكر. 77_وهي سبب التمكين في الأرض: قال _تعالى_: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ] (النور:55) . 78_وهي سبب للرفعة والعلو: فلقد عز بها بلال الحبشي وسلمان الفارسي_رضي الله عنهما_، وذل بسبب تركها أشراف قريش. لقد رفع الإسلام سلمان فارس **** كما وضع الكفر الشريف أبا لهب 79_وهي سبب لعصمة الدماء والأموال: قال": =أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام+ (1) . 80_وهي كلمة الشهادة: قال_تعالى_: [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] (آل عمران:18) . 81_وهي المعروف الأكبر: قال_تعالى_: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] (آل عمران:104) .

_ (1) رواه البخاري (25) ومسلم (20) .

شروط لا إله إلا الله

فالتوحيد هو المعروف الأكبر، كما أن الشرك هو المنكر الأكبر. 82_وهي أول شيء يدعى إليه: كما في حديث معاذ÷عندما بعثه الرسول"إلى اليمن فقال: =فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله+ (1) . 83_ وهي ملة أبينا إبراهيم _ عليه السلام _: قال_تعالى_: [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ] (الحج:78) . 84_وهي الزكاة: قال_تعالى_: [وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ] (فصلت:6، 7) . قال ابن القيم×في إغاثة اللهفان: =قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم هي التوحيد؛ شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان الذي به يزكو القلب؛ فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب، وذلك طهارته وإثبات إلهيته_سبحانه_وهو أصل كل زكاء ونماء+ (2) . 85_وبسببها تبيض وجوه وتسود وجوه: فتبيض وجوه أهلها أهل الطاعة والإيمان، وتسود وجوه أعدائها من أهل الكفر والعصيان، قال_تعالى_: [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوه] (آل عمران:106) . هذا فيض من غيض من فضائلها وثمراتها العظيمة. شروط لا إله إلا الله (3) ذكر العلماء لكلمة الإخلاص شروطاً سبعة، لا تصح إلا إذا اجتمعت، واستكملها العبد، والتزمها بدون مناقضة لشيء منها. وليس المرادُ من ذلك عدَّ ألفاظِها وحِفْظَهَا؛ فكم من عامي اجتمعت فيه، والتزمها ولو قيل له عَدِّدْها لم يحسن ذلك. وكم من حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم، وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها.

_ (1) البخاري (1395) ومسلم (19) . (2) إغاثة اللهفان ص56 تحقيق مجدي فتحي السيد. (3) انظر: شروح كتاب التوحيد تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد وحاشية ابن قاسم في شرح باب تفسير شهادة أن لا إله إلا الله وانظر معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي ص273_284، والشهادتان للشيخ عبد الله بن جبرين ص77_85، والأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة للشيخ عبد الرحمن الدوسري ص24_26، ولا إله إلا الله محمد رسول الله تفسير وتوضيح للدكتور الشريف حمدان بن راجح الهجادي ص36_40 ومختصر معارج القبول لهشام آل عقدة ص99_102، وغيرها من الكتب التي تكلمت على ذلك خصوصاً كتب أئمة الدعوة.

وهذه الشروط مأخوذة بالتتبع والاستقراء، وقد نظمها الشيخ حافظ الحكمي×بقوله: العلمُ واليقينُ والقبولُ **** والانقياد فادر ما أقول والصدق والإخلاص والمحبة **** وفقك الله لما أحبه (1) ونظمها بعضهم بقوله: علم يقين وإخلاص وصدقك مع **** محبة وانقياد والقبول لها وأضاف بعضهم شرطاً ثامناً ونظمه بقوله: وزيد ثامنُها الكفران منك بما **** سوى الإله من الأوثان قد ألها وهذا الشرط مأخوذ من قوله": =من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه+ (2) . هذه هي الشروط السبعة مع زيادة الشرط الثامن على وجه الإجمال، وإليك تفصيلها: 1_العلم: والمراد به العلم بمعناها نفياً وإثباتاً، وما تستلزمه من عمل، فإذا علم العبد أن الله_عز وجل_هو المعبود وحده، وأن عبادة غيره باطلة، وعمل بمقتضى ذلك العلم_فهو عالم بمعناها. وضد العلم الجهل؛ بحيث لا يعلم وجوب إفراد الله بالعبادة، كأن يرى جواز عبادة غير الله مع الله. قال_تعالى_: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ] (محمد:19) . وقال: [ ... إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (الزخرف:86) . أي من شهد بلا إله إلا الله وهم يعلمون بقلوبهم ما نطقوا به بألسنتهم. وقال_تعالى_: [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] (آل عمران:18) .

_ (1) منظومة سلم الوصول إلى علم الأصول ص23. (2) رواه مسلم (23) .

وقال_تعالى_: [ ... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] (الزمر:9) . وقال: [ ... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] (فاطر:28) . وقال: [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ] (العنكبوت:43) . وفي الصحيح عن عثمان÷قال: قال رسول الله" =من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة+ (1) . 2_اليقين: وهو أن ينطق بالشهادة عن يقين يطمئن إليه قلبه، دون تسرب شيء من الشكوك التي يبذرها شياطين الجن والإنس، بل يقولها موقناً بمدلولها يقيناً جازماً. فلابد لمن أتى بها أن يوقن بقلبه، ويعتقد صحة ما يقوله من أحقية إلهية الله_تعالى_وبطلان إلهية من عداه، وأنه لا يجوز أن يُصرف لغيره شيءٌ من أنواع التأله والتعبد. فإن شك في شهادته، أو توقف في بطلان عبادة غير الله؛ كأن يقول: أجزم بألوهية الله، ولكنني متردد ببطلان إلهية غيره_بطلت شهادتُه ولم تنفعه. قال_تعالى_مثنياً على المؤمنين: [وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ] (البقرة:4) . وقد مدح الله المؤمنين_أيضاً_بقوله: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا] (الحجرات:15) . وذم المنافقين بقوله: [ ... وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ] (التوبة:45) . وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة÷قال: قال رسول الله": =أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة+ (2) .

_ (1) صحيح مسلم بشرح النووي 1/218. (2) صحيح مسلم بشرح النووي 1/224.

وعنه÷أن النبي"قال: =من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه_فبشِّرْهُ بالجنة+ (1) . 3_القبول: والقبول يعني أن يقبل كل ما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه، فيصدق بالأخبار، ويطيع الأوامر، ويؤمن بكل ما جاء عن الله وعن رسوله"، ويقبل ذلك كله، ولا يرد منه شيئاً، ولا يجني على النصوص بالتأويل الفاسد، والتحريف الذي نهى الله عنه، بل يصدق الخبر، ويمتثل الأمر، ويقبل كل ما جاءت به هذه الكلمة واقتضته بكل رضا، وطمأنينة، وانشراح صدر. قال_تعالى_واصفاً المؤمنين بامتثالهم، وقبولهم، وعدم ردهم: [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ] (البقرة:285) . وقال_تعالى_: [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا] (البقرة:136) . وضد القبول: الرد، فإن هناك من يعلم معنى الشهادة ويوقن بمدلولها، ولكنه يردها كبراً وحسداً. وهذه حال علماء اليهود والنصارى كما قال_تعالى_عنهم: [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (البقرة:146) . وقال_تعالى_[ ... حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ] (البقرة:109) . وكذلك كان المشركون يعرفون معنى لا إله إلا الله، وصدق رسالة محمد"ولكنهم يستكبرون عن قبول الحق كما قال_تعالى_عنهم: [إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ] (الصافات:35) . وقال_تعالى_عنهم: [ ... فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ] (الأنعام:33) .

_ (1) مسلم 1/237.

وكذلك كان شأن فرعون مع موسى_عليه السلام_. ويدخل في الرد وعدم القبول من يعترض على بعض الأحكام الشرعية، أو الحدود التي حدها الله_عز وجل_كالذين يعترضون على حد السرقة، أو الزنا، أو على تعدد الزوجات، أو المواريث، وما إلى ذلك، فهذا كله داخل في الرد وعدم القبول؛ لأن الله يقول [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] (البقرة:208) . ويقول: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] (الأحزاب:36) . ويدخل في الرد_أيضاً_من يعطل أسماء الله وصفاته، أو يمثلها بصفات المخلوقين. 4_الانقياد: وذلك بأن ينقاد لما دلت عليه كلمة الإخلاص. ولعل الفرق بين الانقياد والقبول أن القبول إظهار صحة معنى ذلك بالقول. أما الانقياد فهو الاتباع بالأفعال، ويلزم منهما جميعاً الاتباع. فالانقياد هو الاستسلام، والإذعان، وعدم التعقب لشيء من أحكام الله. قال_تعالى_: [وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ] (الزمر:54) . وقال [وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ] (النساء:125) . وقال: [وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى] (لقمان:22) . وقال_تعالى_مثنياً على إبراهيم_عليه السلام_[إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ] (البقرة:131) . ومن الانقياد_أيضاً_أن ينقاد العبد لما جاء به النبي"رضاً، وعملاً دون تعقب أو زيادة أو نقصان. قال_تعالى_: [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (النساء:65) .

وإذا علم أحد معنى لا إله إلا الله، وأيقن بها، وقبلها، ولكنه لم ينقد لها، ولم يعمل بمقتضاها_فإن ذلك لا ينفعه، كما هي حال أبي طالب، فهو يعلم أن دين محمد حق، بل إنه ينطق بذلك ويعترف، حيث يقول مدافعاً عن الرسول": والله لن يصلوا إليك بجمعهم **** حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك لا عليك غضاضة **** وافرح وقر بذلك منك عيونا ولقد علمت بأن دينَ محمدٍ **** من خير أديان البرية دينا لولا الملامةُ أو حِذارُ مسبةٍ **** لوجدتني سمحا بذلك مبينا فما الذي نقص أبا طالب؟ الذي نقصه هو الإذعان والاستسلام. وكذلك الحال بالنسبة لبعض المستشرقين؛ فهم يعجبون بالإسلام، ويوقنون بصحته ويعترفون بذلك، وتجد بعض المسلمين يهشون لذلك الإطراء، ويطربون لهؤلاء القوم، ويصفونهم بالموضوعية والتجرد. ولكن إعجابَهم ويقينَهم واعترافَهم لا يكفي، بل لابد من الانقياد. ومن عدم الانقياد ترك التحاكم لشريعة الله_عز وجل_واستبدالها بالقوانين الوضعية، الفرنسية، والإنجليزية، والسويسرية وغيرها. 5_الصدق: وهو الصدق مع الله، وذلك بأن يكون العبد صادقاً في إيمانه، صادقاً في عقيدته. ومتى كان ذلك فإنه سيكون مصدقاً لما جاء في كتاب ربه، وسنة نبيه". فالصدق أساس الأقوال، ومن الصدق أن يصدق في دعوته، وأن يبذل الجهد في طاعة ربه، وحفظ حدوده، قال_تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] (التوبة:119) . وقال في وصف الصحابة: [ ... رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ] (الأحزاب:23) . وقال: [وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ] (الزمر:33) . وقد ورد اشتراط الصدق في الحديث الصحيح حيث قال": =من قال لا إله إلا الله صادقاً من قلبه دخل الجنة+ (1) .

_ (1) رواه أحمد في المسند 4/16.

وضد الصدق الكذب، فإن كان العبد كاذباً في إيمانه فإنه لا يعد مؤمناً، بل هو منافق؛ وإن نطق بالشهادة بلسانه، وحاله هذه أشد من حال الكافر الذي يظهر كفره. فإن قال الشهادة بلسانه وأنكر مدلولها بقلبه فإن هذه الشهادة لا تنجيه، بل يدخل في عداد المنافقين، الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا [. . . نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ] (المنافقون:1) . فرد الله عليهم تلك الدعوى بقوله: [وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ] (المنافقون:1) . وقال_تعالى_أيضاً في شأن هؤلاء: [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ] (البقرة:8) . وقال: [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ] (البقرة:204) . والأدلة في ذلك كثيرة جداً وهي مبسوطة في أوائل سورة البقرة، وفي سورة التوبة أيضاً وغيرها. فإذا قامت أعمال الإنسان واعتقاداته على عقيدة سليمة كان الإيمان قوياً سليماً، وبالتالي يكون العمل مقبولاً بإذن الله، والعكس بالعكس. ثم إن الناس يتفاوتون في الصدق تفاوتاً عظيماً. ومما ينافي الصدق في الشهادة تكذيب ما جاء به الرسول"أو تكذيب بعض ما جاء به؛ لأن الله_سبحانه_أمرنا بطاعة الرسول وتصديقه، وقرن ذلك بطاعته قال_تعالى_: [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] (النساء:80) . وقد يلتبس على بعض الناس الأمر في موضوع اليقين والصدق، لذا يقال: إن اليقين أعم من التصديق، وعلى ذلك يكون كلُّ موقن مصدقاً، وليس كل مصدق موقناً؛ أي بينهما عموم وخصوص كما يقول أهل الأصول؛ أي أن الموقن قد مر بمرحلة التصديق. 6_الإخلاص: وهو تصفية الإنسان عمله بصالح النية من جميع شوائب الشرك.

وذلك بأن تصدر منه جميع الأقوال والأفعال خالصة لوجه الله، وابتغاء مرضاته، ليس فيها شائبة رياء، أو سمعة، أو قصد نفع، أو غرض شخصي، أو شهوة ظاهرة أو خفية، أو أن يندفع للعمل لمحبة شخص، أو مذهب، أو مبدأ، أو حزب يستسلم له بغير هدى من الله. والإخلاص كذلك مهم في الدعوة إلى الله_تعالى_فلا يجعل دعوته حرفة لكسب الأموال، أو وسيلة للتقرب إلى غير الله، أو الوصول للجاه والسلطان. بل لابد أن يكون مبتغياً بدعوته وجه الله والدار الآخرة، ولا يلتفت بقلبه إلى أحد من الخلق يريد منه جزاءً أو شكوراً. والقرآن والسنة حافلان بذكر الإخلاص، والحث عليه، والتحذير من ضده، ومن ذلك قوله_تعالى_: [أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ] (الزمر:3) ، وقوله: [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] (البينة:5) ، وقوله: [قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي] (الزمر:14) . وعن أبي هريرة÷عن النبي"قوله: =أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه+ (1) . وفي الصحيحين من حديث عتبان =فإن الله حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله+ (2) . ويدخل في ذلك الإخلاصُ في اتباع محمد"وذلك بالاقتصار على سنته وتحكيمه، وترك البدع، والمخالفات، ونبذ ما يخالف شرعه من التحاكم إلى ما وضعه البشر من عادات، وقوانين؛ فإن رضيها أو حكم بها لم يكن من المخلصين. وضد الإخلاص الشرك، والرياء، وابتغاء غير وجه الله. فإن فقد العبد أصل الإخلاص فإن الشهادة لا تنفعه أبداً، قال_تعالى_: [وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً] (الفرقان:23) .

_ (1) رواه البخاري (99) . (2) رواه البخاري 1/110 ومسلم 1/61.

فلا ينفعه حينئذ أي عمل يعمله؛ لأنه فقد الأصل، قال_تعالى_: [إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً] (النساء:48) . وعن أبي هريرة÷قال: قال رسول الله":قال الله_تبارك وتعالى: =أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه+ (1) . وإن فقد الإخلاص في عمل من الأعمال ذهب أجر ذلك العمل. وبالجملة فالإخلاص هو تصفية العمل من كل شوب؛ بحيث لا يمازجه ما يشوبه من شوائب الشرك أو إرادة النفس: إما طلب التزين في قلوب الخلق، وإما طلب مدحهم والهرب من ذمهم، أو طلب تعظيمهم، أو طلب أموالهم أو محبتهم، أو خدمتهم، إلى غير ذلك من الشوائب التي عَقْدُ متفرقها إرادةُ ما سوى الله بالعمل. فمدار الإخلاص على أن يكون الباعث على العمل أولاً امتثال أمر الله. ولا حرج بعد هذا على من يطمح إلى شيء آخر، كالفوز بنعيم الآخرة، أو النجاة من أليم عذابها. بل لا يذهب بالإخلاص بعد ابتغاء وجه الله أن يخطر في بال العبد أن للعمل الصالح آثاراً في هذه الحياة، كطمأنينة النفس، وأمنها من المخاوف، وصيانتها من مواقف الهوان، إلى غير هذا من الخيرات التي تعقب العمل الصالح، ويزداد به إقبال النفوس على الطاعات قوة على قوة.

_ (1) رواه مسلم برقم (2985) .

7_المحبة: أي المحبة لهذه الكلمة العظيمة، ولما دلت عليه واقتضته، فيحب الله ورسوله"ويقدم محبتهما على كل محبة، ويقوم بشروط المحبة ولوازمها، فيحب الله محبة مقرونة بالإجلال والتعظيم والخوف والرجاء، فيحب ما يحبه الله من الأمكنة؛ كمكة المكرمة، والمدينة المنورة، والمساجد_عموماً_، والأزمنة؛ كرمضان، وعشر ذي الحجة، وغيرها، وما يحبه من الأشخاص كالأنبياء، والرسل، والملائكة، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وما يحبه من الأفعال كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والأقوال كالذكر وقراءة القرآن. ومن المحبة_أيضاً_تقديم محبوبات الله على محبوبات النفس وشهواتها ورغباتها، وذلك لأن النار حفت بالشهوات، والجنة حفت بالمكاره. ومن لوازم تلك المحبة أن يكره ما يكرهه الله ورسوله؛ فيكره الكفار، ويبغضهم، ويعاديهم، ويكره الكفر، والفسوق، والعصيان. قال_تعالى_[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ] (المائدة:54) . وقال: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ] (المجادلة:22) . وقال_تعالى_: [قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ] (التوبة:24) .

وقال": =ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله رسوله أحب إليه مما سواهما+ الحديث (1) . وعلامة هذه المحبة الانقياد لشرع الله واتباع محمد"قال_تعالى_: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ] (آل عمران:31) . وضد المحبة الكراهية لهذه الكلمة، ولما دلت عليه وما اقتضه، أو محبة غير الله مع الله. قال_تعالى_: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ] (محمد:9) . وقال الله_تعالى_: [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ] (البقرة:165) . فهؤلاء الذين بَيَّن الله_جل وعلا_شأنهم في هذه الآية يحبون الله، ولكنهم يحبون معه غيره مثل محبته على أحد التفسيرين، ومع ذلك سماهم الله ظالمين، والظلم هنا بمعنى الشرك بدليل قوله_تعالى_في الآية التي تليها: [وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ] (البقرة:167) . فإذا كان هذا هو شأن من أحب الله، وأحب معه غيره مثل حبه_فكيف بمن أحب غير الله أكثر من حبه لله؟ وكيف بمن أحب غير الله ولم يحب الله_سبحانه وتعالى_؟. بل كيف بمن أحب غير الله، وكره الله، وحارب الله_سبحانه وتعالى_؟ !. ومما ينافي المحبة_أيضاً_بغض الرسول"أو بغض ما جاء به الرسول، أو بغض بعض ما جاء به_عليه الصلاة والسلام_. ومما ينافيها موالاة أعداء الله من اليهود، والنصارى، وسائر الكفار والمشركين. ومما ينافيها_أيضاً_معاداة أولياء الله المؤمنين. ومما ينافي كمالها المعاصي والذنوب.

_ (1) البخاري (16) .

نسأل الله_سبحانه وتعالى_أن يرزقنا حبه وحب من يحبه والعمل الذي يقربنا إلى حبه إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

مختصر عقيدة أهل السنة والجماعة

مختصر عقيدة أهل السنة والجماعة تأليف الشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد المقدمة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فلقد يسر الله أن كتبت كتاباً بعنوان: =عقيدة أهل السنة والجماعة مفهومها _ خصائصها _ خصائص أهلها+ وقد حظي ذلك الكتاب بتقريظ سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز ×. وقد جاء ذلك الكتاب في مجلد، وطبع عدة مرات، ولقي قبولاً ولله الحمد. ولهذا رأت بعض الجهات الخيرية اختصار ذلك الكتاب؛ ليتسنى طبعه، وتوزيعه على نطاق أكبر؛ فكان أن اختصر في هذه الرسالة التي جاءت حاملة العنوان التالي: =مختصر عقيدة أهل السنة والجماعة: المفهوم والخصائص+ وقد حذف من هذه الرسالة أكثر الحواشي والهوامش، والتفصيلات؛ فمن أراد الاستزادة فليراجع الأصل، والله المستعان وعليه التكلان. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. محمد بن إبراهيم الحمد الزلفي: ص. ب: 460 www.toislam.net مقدمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز لأصل الكتاب الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وآله وصحبه أما بعد: فقد اطلعت على ما كتبه أخونا الكريم صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، وما خصهم الله به من العلم النافع والعمل الصالح والخصال الحميدة، والأخلاق الكريمة، وقد سماه: =عقيدة أهل السنة والجماعة مفهومها_خصائصها_ خصائص أهلها+ فألفيته كتاباً قيماً ومفيداً وموضحاً لعقيدة أهل السنة والجماعة وأخلاقهم؛ فجزاه الله خيراً وضاعف مثوبته وزادنا وإياه من العلم النافع والعمل الصالح. وإني أنصح كل من اطلع عليه بقراءته والاستفادة منه لعظم فائدته وشرحه لأحوال أهل السنة. والله المسؤول أن يوفقنا وجميع المسلمين للعمل النافع والعمل الصالح وأن يصلح ولاة أمر المسلمين، ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن؛ إنه سمع قريب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. حرر في 9/ 11/ 1415هـ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء

مفهوم العقيدة الإسلامية

مفهوم العقيدة الإسلامية 1_ تعريف العقيدة في الاصطلاح العام: هي الإيمان الجازم، والحكم القاطع الذي لا يتطرق إليه شك، وهي ما يؤمن به الإنسان، ويعقد عليه ضميره، ويتخذه مذهباً وديناً، بغضِّ النظر عن صحته من عدمها. 2_ العقيدة الإسلامية: هي الإيمان الجازم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبكل ما جاء في القرآن الكريم، والسنة الصحيحة من أصول الدين، وأموره، وأخباره، وما أجمع عليه السلف الصالح، والتسليم لله_تعالى_في الحكم، والأمر، والقدر، والشرع، ولرسوله"بالطاعة والتحكيم والاتباع. 3_ موضوعات علم العقيدة: العقيدة_بمفهوم أهل السنة والجماعة_اسم عَلَم على العِلْم الذي يُدرس ويَتَناول جوانب التوحيد، والإيمان، والإسلام، وأمور الغيب، والنبوات، والقدر، والأخبار، وأصول الأحكام القطعية، وما أجمع عليه السلف الصالح من أمور العقيدة، كالولاء والبراء، والواجب تجاه الصحابة، وأمهات المؤمنين_رضوان الله عليهم أجمعين_. ويدخل في ذلك الرد على الكفار، والمبتدعة، وأهل الأهواء، وسائر الملل والنحل، والمذاهب الهدامة، والفرق الضالة، والموقف منهم، إلى غير ذلك من مباحث العقيدة. 4_ أسماء علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة: 1_ العقيدة والاعتقاد، والعقائد. 2_ التوحيد.……3_ السنة. …4_ الشريعة. 5_ الإيمان.… 6_ أصول الدين، أو أصول الديانة. 5_ أهل السنة والجماعة: هم من كان على مثل ما كان عليه النبي"وأصحابه، وهم المتمسكون بسنة النبي" وهم الصحابة، والتابعون، وأئمة الهدى المتبعون لهم، وهم الذين استقاموا على الاتباع، وجانبوا الابتداع في أي مكان وزمان، وهم باقون منصورون إلى يوم القيامة. وسموا بذلك لانتسابهم لسنة النبي"واجتماعهم على الأخذ بها ظاهراً وباطناً، في القول، والعمل، والاعتقاد.

خصائص العقيدة الإسلامية عقيدة أهل السنة والجماعة

6_ أسماء أخرى لأهل السنة والجماعة: لأهل السنة والجماعة أسماء أخرى يعرفون بها، منها: 1_ أهل السنة والجماعة. 2_ أهل السنة. 3_ أهل الجماعة. 4_ الجماعة. 5_ السلف الصالح. 6_ أهل الأثر. 7_ أهل الحديث. 8_ الفرقة الناجية. 9_ الطائفة المنصورة. 10_ أهل الاتباع. خصائص العقيدة الإسلامية عقيدة أهل السنة والجماعة للعقيدة الإسلامية_عقيدة أهل السنة والجماعة_ خصائص عديدة، لا توجد في أي عقيدة أخرى، ولا غرو في ذلك؛ إذ إن تلك العقيدة تُستَمد من الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ومن تلك الخصائص مايلي: 1_ سلامة مصدر التلقي: وذلك باعتمادها على الكتاب والسنة، وإجماع السلف الصالح، فهي مستقاة من ذلك النبع الصافي، بعيداً عن كدر الأهواء والشبهات. وهذه الخصيصة لا توجد في شتى المذاهب والملل والنحل غير العقيدة الإسلامية_عقيدة أهل السنة والجماعة_. 2_ أنها تقوم على التسليم لله_تعالى_ولرسوله": وذلك لأنها غيب، والغيب يقوم على التسليم. فالتسليم بالغيب من أعظم صفات المؤمنين التي مدحهم الله بها، كما في قوله_تعالى_: [ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ] (البقرة: 2، 3) . ذلك أن العقول لا تدرك الغيب، ولا تستقل بمعرفة الشرائع؛ لعجزها وقصورها؛ فكما أن سمع الإنسان قاصر، وبصره كليل، وقوتَه محدودة_فكذلك عقله، فَتَعَيَّن الإيمان بالغيب والتسليم لله_عز وجل_. 3_ موافقتها للفطرة القويمة، والعقل السليم: فعقيدة أهل السنة والجماعة ملائمة للفطرة السليمة، موافقة للعقل الصريح، الخالي من الشهوات والشبهات. 4_ اتصال سندها بالرسول"والتابعين وأئمة الدين قولاً، وعملاً، واعتقاداً: وهذه الخصيصة قد اعترف بها كثير من خصومها؛ فلا يوجد_بحمد الله_أصل من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة_ليس له أصل أو مستند من الكتاب والسنة، أو عن السلف الصالح، بخلاف العقائد الأخرى المبتدعة.

5_ الوضوح والسهولة والبيان: فهي عقيدة سهلة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فلا لبس فيها، ولا غموض، ولا تعقيد؛ فألفاظها واضحة، ومعانيها بينة، يفهمها العالم والعامي، والصغير والكبير، فهي تستمد من الكتاب والسنة، وأدلة الكتاب والسنة كالغذاء ينتفع به كل إنسان، بل كالماء الذي ينتفع به الرضيع، والصبي، والقوي، والضعيف. 6_ السلامة من الاضطراب والتناقض واللبس: فلا مكان فيها لشيء من ذلك مطلقاً، كيف لا وهي وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ فالحق لا يضطرب، ولا يتناقض، ولا يلتبس. بل يشبه بعضه بعضاً، ويصدق بعضه بعضاً [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً] (النساء: 82) . 7_ أنها قد تأتي بالمحار، ولكن لا تأتي بالمحال: ففي العقيدة الإسلامية ما يبهر العقول، وما قد تحار فيه الأفهام، كسائر أمور الغيب؛ من عذاب القبر ونعيمه، والصراط، والحوض، والجنة والنار، وكيفية صفات الله_عز وجل_. فالعقول تحار في فهم حقيقة هذه الأمور، وكيفياتها، ولكنها لا تحيلها بل تسلِّم لذلك، وتنقاد، وتذعن؛ لأن ذلك صدر عن الوحي المنزل، الذي لا ينطق عن الهوى. 8_ العموم والشمول والصلاح: فهي عامة، شاملة، صالحة لكل زمان ومكان، وحال، وأمة. بل إن الحياة لا تستقيم إلا بها. 9_ الثبات والاستقرار والخلود: فهي عقيدة ثابتة، مستقرة خالدة، فلقد ثبتت أمام الضربات المتوالية التي يقوم بها أعداء الإسلام؛ من اليهود، والنصارى، والمجوس، وغيرهم. فما إن يعتقد هؤلاء أن عظمها قد وهن، وأن جذوتها قد خبت، ونارها قد انطفأت، حتى تعود جذعة ناصعة نقية؛ فهي ثابتة إلى قيام الساعة، محفوظة بحفظ الله_تعالى_تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل؛ ورعيلاً بعد رعيل، لم يتطرق إليها التحريف، أو الزيادة، أو النقصان، أو التبديل. كيف لا والله_عز وجل_هو الذي تكفل بحفظها، وبقائها ولم يكل ذلك إلى أحد من خلقه؟.

قال_تعالى_: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) . 10_ أنها سبب للنصر والظهور والتمكين: فذلك لا يكون إلا لأهل العقيدة الصحيحة، فهم الظاهرون، وهم الناجون، وهم المنصورون كما قال": =لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك+ (1) . فمن أخذ بتلك العقيدة أعزه الله، ومن تركها خذله الله. وقد عَلِم ذلك كلُّ من قرأ التاريخ، فمتى حاد المسلمون عن دينهم_حاق بهم ما حاق، كما حدث لهم في الأندلس وغيرها. 11_ أنها ترفع قدر أهلها: فمن اعتقدها، وزاد علماً بها، وعملاً بمقتضاها، ودعوة للناس إليها_أعلا الله قدره، ورفع له ذكره، ونشر بين الناس فضله، فرداً كان أو جماعة؛ ذلك أن العقيدة الصحيحة هي أفضل ما اكتسبته القلوب، وخير ما أدركته العقول؛ فهي تثمر المعارف النافعة، والأخلاق العالية. 12_ السلامة والنجاة: فالسنة سفينة النجاة، فمن تمسك بها سلم ونجا، ومن تركها غرق وهلك. 13_ العقيدة الإسلامية عقيدة الألفة والاجتماع: فما اتحد المسلمون، وما اجتمعت كلمتهم في مختلف الأعصار والأمصار_إلا بتمسكهم بعقيدتهم، وأخذهم بها، وما تفرقوا واختلفوا إلا لبعدهم عنها. 14_ التميز: فهي عقيدة متميزة، وأهلها متميزون، فطريقتهم مستقيمة، وأهدافهم محددة. 15_ أنها تحمي معتنقيها من التخبط والفوضى والضياع: فالمنهج واحد، والمبدأ واضح ثابت لا يتغير، فيسلم معتنقها من اتباع الهوى، ويسلم من التخبط في توزيع الولاء والبراء، والمحبة والبغضاء، بل تعطيه معياراً دقيقاً لا يخطىء أبداً، فيسلم من التشتت والتشرد والضياع، فيعرف من يوالي، ويعرف من يعادي، ويعرف ما له وما عليه.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة 3/1524.

16_ أنها تمنح معتنقيها الراحة النفسية والفكرية: فلا قلق في النفس، ولا اضطراب في الفكر؛ لأن هذه العقيدة تصل المؤمن بخالقه_عز وجل_فيرضى به رباً مدبراً، وحاكماً مشرعاً، فيطمئن قلبه بقدره، وينشرح صدره لحكمه، ويستنير فكره بمعرفته. 17_ سلامة القصد والعمل: بحيث يَسْلَمُ معتنقها من الانحراف في عبادة الله_عز وجل_فلا يعبد غير الله، ولا يرجو سواه. 18_ تؤثر في السلوك والأخلاق والمعاملة: فهي تأمر أهلها بكل خير، وتنهاهم عن كل شر، فتأمرهم بالعدل والاعتدال، وتنهاهم عن الظلم والانحراف. 19_ تدفع معتنقيها إلى الحزم والجد في الأمور. 20_ تبعث في نفس المؤمن تعظيم الكتاب والسنة: لأنه يعلم أن الكتاب والسنة حق وصواب، وهدى ورحمة؛ فينبعث بذلك إلى تعظيمهما، والأخذ بهما. 21_ تَكْفُل لمعتنقيها الحياة الكريمة: ففي ظل العقيدة الإسلامية يتحقق الأمن والحياة الكريمة؛ ذلك أنها تقوم على الإيمان بالله، ووجوب إفراده بالعبادة دون من سواه، وذلك_بلا شك_سبب الأمن والخير والسعادة في الدارين؛ فالأمن قرين الإيمان، وإذا فقد الإيمان فقد الأمن، قال_تعالى_: [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (28) ] (الأنعام: 82) . فأهل التقوى والإيمان لهم الأمن التام، والاهتداء التام في العاجل والآجل، وأهل الشرك والمعصية هم أهل الخوف وأولى الناس به، فهم مهددون بالعقوبات والنقمات في سائر الأوقات. 22_ تجمع بين مطالب الروح، والقلب، والجسد. 23_ تعترف بالعقل وتحدد مجاله: فالعقيدة الإسلامية تحترم العقل السوي، وترفع من شأنه، ولا تحجر عليه، ولا تنكر نشاطه، والإسلام لا يرضى من المسلم أن يطفىء نور عقله، ويركن إلى التقليد الأعمى في مسائل الاعتقاد وغيرها.

خصائص أهل السنة والجماعة

24_ تعترف بالعواطف الإنسانية، وتوجهها الوجهة الصحيحة: فالعواطف أمر غريزي، ولا يتجرد منه أي إنسان سوي، والعقيدة الإسلامية ليست عقيدة هامدة جامدة، بل هي عقيدة حيَّة، تعترف بالعواطف الإنسانية، وتقدرها حق قدرها، وفي الوقت نفسه لا تطلق العنان لها، بل تُقوِّمها، وتسمو بها، وتوجهها الوجهة الصحيحة، التي تجعل منها أداة خير وتعمير، بدلاً من أن تكون معولَ هدمٍ وتدمير. 25_ العقيدة الإسلامية كفيلة بحل جميع المشكلات: سواء مشكلات الفرقة والشتات، أو مشكلات السياسة والاقتصاد، أو مشكلات الجهل والمرض والفقر، أو غير ذلك. فلقد جمع الله بها القلوب المشتتة، والأهواء المتفرقة، وأغنى بها المسلمين بعد العَيْلَة، وعلّمهم بها بعد الجهل، وبصّرهم بعد العمى، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف. خصائص أهل السنة والجماعة كما أن لعقيدة أهل السنة والجماعة ميزات تمتاز بها عن غيرها من العقائد_فكذلك لأهل السنة خصائص وميزات يمتازون بها عن غيرهم من أهل الملل والنحل، ويجدر بكل من انتسب إليهم أن يأخذ بها، ويأطر نفسه عليها، حتى ينال ما نالوه من خير وفضل. فمن تلك الخصائص التي تميز بها أهل السنة والجماعة ما يلي: 1_ الاقتصار في التلقي على الكتاب والسنة: فهم ينهلون من هذا المنهل العذب عقائدَهم، وعباداتهم، ومعاملاتهم، وسلوكَهم، وأخلاقهم، فكل ما وافق الكتاب والسنة قبلوه وأثبتوه، وكل ما خالفهما ردوه على قائله كائناً من كان. 2_ التسليم لنصوص الشرع، وفهمها على مقتضى منهج السلف: فهم يسلِّمون لنصوص الشرع، سواء فهموا الحكمة منها أم لا، ولا يعرضون النصوص على عقولهم، بل يعرضون عقولهم على النصوص، ويفهمونها كما فهمها السلف الصالح. 3_ الاتباع وترك الابتداع: فهم لا يقدمون بين يدي الله ورسوله، ولا يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي"ولا يرضون لأحد كائناً من كان أن يرفع صوته فوق صوت النبي".

بخلاف المبتدعة الضالين، الذين ابتدعوا في الدين، مستدركين على وحي رب العالمين، ألا ساء ما يعملون. 4_ الاهتمام بالكتاب والسنة: فهم يهتمون بالقرآن حفظاً وتلاوة، وتفسيراً، وبالحديث دراية ورواية. بخلاف غيرهم من المبتدعة الذي يهتمون بكلام شيوخهم أكثر من اهتمامهم بالكتاب والسنة. 5_ احتجاجهم بالسنة الصحيحة وترك التفريق بين المتواتر والآحاد: سواء في الأحكام أو العقائد، فهم يرون حجية الحديث إذا صح عن رسول الله"ولو كان آحاداً. 6_ ليس لهم إمام معظم يأخذون كلامه كله، ويدعون ما خالفه إلا الرسول": أما غير الرسول"فإنهم يعرضون كلامه على الكتاب والسنة، فما وافقهما قُبِل، وما لا فلا، فهم يعتقدون أن كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول". أما غيرهم من الفرق الأخرى، ومن متعصبة المذاهب_ فإنهم يأخذون كلام أئمتهم كله حتى ولو خالف الدليل. 7_ هم أعلم الناس بالرسول": فهم يعلمون هديه، وأعماله، وأقواله، وتقريراته؛ لذلك فهم أشد الناس حباً له، واتباعاً لسنته. بخلاف غيرهم من أهل البدع الذي يعرفون عن أئمتهم ما لا يعرفونه عن رسول الله". 8_ الدخول في الدين كله: فهم يدخلون في الدين كله، ويؤمنون بالكتاب كله؛ امتثالاً لقوله_تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] (البقرة: 208) . بخلاف الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون. وبخلاف الذين نسوا حظاً مما ذكروا به، والذين جعلوا القرآن عضين؛ فآمنوا ببعض الكتاب، وكفروا ببعض. 9_ تعظيم السلف الصالح: فأهل السنة يعظمون السلف الصالح، ويقتدون بهم، ويهتدون بهديهم، ويرون أن طريقتهم هي الأسلم، والأعلم، والأحكم. 10_ الجمع بين النصوص في المسألة الواحدة، ورد المتشابه إلى المحكم: فهم يجمعون بين النصوص الشرعية في المسألة الواحدة، ويردون المتشابه إلى المحكم؛ حتى يصلوا إلى الحق في المسألة.

11_ الجمع بين العلم والعبادة: بخلاف غيرهم، فإما أن يشتغل بالعبادة عن العلم، أو بالعلم عن العبادة، أما أهل السنة والجماعة فيجمعون بين الأمرين. 12_ الجمع بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب: فهم لا ينكرون الأسباب، ولا تأثيرها إذا ثبتت شرعاً أو قدراً، ولا يَدَعُون الأخذ بالأسباب، وفي الوقت نفسه لا يلتفتون إليها. ولا يرون أن هناك تنافياً بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب؛ لأن نصوص الشرع حافلة بالأمر بالتوكل على الله، والأخذ بالأسباب المشروعة أو المباحة في مختلف شؤون الحياة، فقد أمرت بالعمل، والسعي في طلب الرزق، والتزود للأسفار، واتخاذ العدد في مواجهة العدو. قال_تعالى_: [إِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ] (الجمعة: 10) . وقال: [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا] (الملك: 15) . وقال: تعالى_: [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] (البقرة: 197) . وقال_تعالى_: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ] (الأنفال: 60) . وقال النبي": =احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان+. (1) 13_ الجمع بين التوسع في الدنيا والزهد بها: فأهل السنة والجماعة لا ينكرون على من يتوسع في الدنيا، ويسعى في كسب الرزق، بل يرون أنه ينبغي للإنسان أن يكفي نفسه ومن يعول، ويستغني عن الناس، ويقطع الطمع مما في أيديهم، على ألا تكون الدنيا أكبر همه، ولا مبلغ علمه، وعلى ألا يكتسب المال من غير حله، كما لا يعيبون على من آثر الكفاف، ورضي بالقليل من متاع الدنيا، لأنهم يرون أن الزهد إنما هو زهد القلب، وهو أن يترك الإنسان ما لا ينفع في الآخرة.

_ (1) رواه مسلم (2664) .

أما إذا توسع العبد في الدنيا، وجعلها في يده لا في قلبه، يرفد بها الإخوان، ويتصدق على الفقراء والمساكين، ويعين بها على نوائب الحق_فذلك من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء. كما هو حال الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من أثرياء الصحابة من المهاجرين والأنصار_رضي الله عنهم_. وكحال ابن المبارك ×فلقد كان من أغنى أهل زمانه، وهو في الوقت نفسه من أزهدهم إن لم يكن أزهدهم. 14_ الجمع بين الخوف والرجاء والحب: فأهل السنة والجماعة يجمعون بين هذه الأمور، ويرون أنه لا تنافي ولا تعارض بينها. قال_سبحانه وتعالى_في وصف عباده الأنبياء والمرسلين: [إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ] (الأنبياء: 90) . وقال في معرض الثناء على سائر عباده المؤمنين: [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] (السجدة: 16) . وهناك مقولة مشهورة عند السلف، وهي قولهم: =من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف فهو حروري (1) ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجيء، ومن عبده بالخوف، والحب، والرجاء فهو مؤمن موحِّد+. 15_ الجمع بين الرحمة واللين والشدة والغلظة: بخلاف غيرهم ممن يأخذ جانباً من هدي السلف ويدع الجانب الآخر، فيأخذون بالشدة في جميع أحوالهم أو باللين في جميع أحوالهم. أما أهل السنة فيجمعون بين هذا وهذا، وكل في موضعه، حسب ما تقتضيه المصلحة، ومقتضيات الأحوال.

_ (1) نسبة إلى حروراء مدينة في العراق وهي موطن الخوارج الأوائل.

16_ الجمع بين العقل والعاطفة: فعقولهم راجحة، وعواطفهم صادقة، ومعاييرهم منضبطة، فلم يغلِّبوا جانب العقل على العاطفة، ولا جانب العاطفة على العقل، وإنما جمعوا بينهما على أكمل وجه وأتمه، فمع أن عواطفهم قوية مشبوبة إلا أن تلك العواطف تضبط بالعقل، وذلك العقل يضبط بالشرع. [نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ] (النور: 35) . 17_ العدل: فالعدل من أعظم المميزات لأهل السنة والجماعة، فهم أعدل الناس، وأولاهم بامتثال قول الله_عز وجل_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ] (النساء: 135) . وقوله: [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] (الأنعام: 152) . حتى إن الطوائف الأخرى إذا تنازعت احتكمت إلى أهل السنة. 18_ الأمانة العلمية: فالأمانة زينة العلم، وروحه الذي يجعله زاكي الثمر، لذيذ المطعم، وأهل السنة لهم القِدحُ المعلى في ذلك الشأن. ومن مظاهر الأمانة العلمية عندهم_الأمانة في النقل، والبعد عن التزوير، وقلب الحقائق، وبتر النصوص، وتحريفها، فإذا نقلوا عن مخالف لهم نقلوا كلامه تامّاً، فلا يأخذون منه ما يوافق ما يذهبون إليه، ويدعون ما سواه؛ كي يدينوا المنقول عنه، وإنما ينقلون كلامه تامّاً، فإن كان حقاً أقرّوه، وإن كان باطلاً ردّوه، وإن كان فيه وفيه، قبلوا الحق وردّوا الباطل، كل ذلك بالدليل القاطع، والبرهان الساطع. ومن مظاهر الأمانة العلمية عندهم أنهم لا يحمّلون الكلام ما لا يحتمل، وأنهم يذكرون ما لهم وما عليهم، وأنهم يرجعون للحق إذا تبيّن، ولا يفتون ولا يقضون إلا بما يعلمون. كما أنهم أحرص الناس على نسبة الكلام إلى قائله، وأبعدهم من نسبته إلى غير قائله. 19_ الوسطية: قال_تعالى_: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) . فالوسطية من أعظم ما يتميز به أهل السنة والجماعة.

فكما أن أمة الإسلام وسط بين الأمم التي تجنح إلى الغلو الضار، والأمم التي تميل إلى التفريط المهلك_فكذلك أهل السنة والجماعة؛ فهم متوسطون بين فرق الأمة المبتدعة التي انحرفت عن الصراط المستقيم. وتتجلى وسطية أهل السنة والجماعة في شتى الأمور؛ سواء في باب العقيدة، أو الأحكام، أو السلوك، أو الأخلاق، أو غير ذلك. 20_ عدم الاختلاف في أصول الاعتقاد: فالسلف الصالح لا يختلفون_بحمد الله_في أصل من أصول الدين، وقواعد الاعتقاد؛ فقولهم في أسماء الله وصفاته وأفعاله واحد، وقولهم في الإيمان وتعريفه ومسائله واحد، وقولهم في القدر واحد، وهكذا في باقي الأصول. 21_ ترك الخصومات في الدين، ومجانبة أهل الخصومات: لأن الخصومات مدعاةٌ للفرقة والفتنة، ومجلبةٌ للتعصب واتباع الهوى، ومطيةٌ للانتصار للنفس، والتشفي من الآخرين، وذريعة للقول على الله بغير علم. أخرج الآجري بسنده عن مسلم بن يسار أنه قال: =إياكم والمراءَ؛ فإنه ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته+. وأخرج أن عمر بن عبد العزيز ×: =من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل+. وقال جعفر بن محمد ×: =إياكم والخصومات؛ فإنه تشغل القلب وتورث النفاق+. 22_ الحرص على جمع كلمة المسلمين على الحق: فهم حريصون كل الحرص على وحدة المسلمين، ولمِّ شعثهم، وجمع كلمتهم على الحق، وإزالة أسباب النزاع والفرقة بينهم؛ لعلمهم أن الاجتماع رحمة، وأن الفرقة عذاب؛ ولأن الله_عز وجل_أمر بالائتلاف، ونهى عن الاختلاف كما في قوله_تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا] (آل عمران:102، 103) . بخلاف الذين يسعون للفرقة بين المسلمين، ويبذرون بذور الشقاق في صفوفهم، فيفرقونهم عند أدنى نازلة، ويحزبونهم ويؤلبون بعضهم على بعض، ويُغرون بعضهم ببعض.

23_ سعة الأفق: فهم أوسع الناس أفقاً، وأبعدهم نظراً، وأرحبهم بالخلاف صدراً، وأكثرهم للمعاذير التماساً. وهم لا يأنفون من سماع الحق، ولا تحرج صدورهم من قبوله، ولا يستنكفون من الرجوع إليه، والأخذ به. ثم إنهم لا يُلزمون الناس باجتهاداتهم، ولا يضللون كل من خالفهم، ولا تضيق أعطانهم في الأمور الاجتهادية، التي تختلف فيها أفهام الناس. ومن مظاهر سعة الأفق عندهم بعدهم عن التعصب المقيت، والتقليد الأعمى، والحزبية الضيقة. 24_ حسن الخلق: فأهل السنة أحسن الناس خلقاً، وأكثرهم حلماً وسماحة وتواضعاً، وأحرصهم دعوة إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال. 25_ هم أهل الدعوة إلى الله: فهم يدعون إلى دين الإسلام، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ويسلكون في ذلك شتى الطرق المشروعة والمباحة؛ حتى يعرف الناس ربهم، ويعبدوه حق عبادته. فلا أحد أحرص منهم على هداية الخلق، ولا أحد أرحم منهم بالناس. 26_ هم الغرباء: الذين يُصْلحُونَ ما أفسد الناس، ويَصلُحون إذا فسد الناس. 27_ هم الفرقة الناجية: التي تنجو من البدع والضلالات في هذه الدنيا، وتنجو من عذاب الله يوم القيامة. 28_ وهم الطائفة المنصورة: لأن الله معهم، وهو مؤيدهم وناصرهم. 29_ لا يوالون ولا يعادون إلا على أساس الدين: فلا ينتصرون لأنفسهم، ولا يغضبون لها، ولا يوالون لِعُبِّيَّة جاهلية، أو عصبية مذهبية، أو راية حزبية، وإنما يوالون على الدين، فولاؤُهم لله، وبراؤهم لله، ومواقفهم ثابتة، لا تتبدل ولا تتغير. 30_ سلامتهم من تكفير بعضهم لبعض: فأهل السنة سالمون من ذلك، فهم يردون على المخالف منهم، ويوضحون الحق للناس، فهم يُخطِّئون، ولا يكفرون، ولا يبدعون، ولا يفسقون إلا من استحق ذلك. بخلاف غيرهم من الطوائف الأخرى كالخوارج الذي يكثر فيهم الاختلاف والتضليل والتكفير؛ ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضاً عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها.

31_ سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب الرسول": فقلوبهم عامرة بحبهم، وألسنتهم تلهج بالثناء عليهم، فأهل السنة يرون أن الصحابة خير القرون؛ لأن الله_عز وجل_زكاهم وكذلك رسوله". 32_ سلامتهم من الحيرة والاضطراب، والتخبط والتناقض: فأهل السنة والجماعة أكثر الناس رضاً ويقيناً، وطمأنينة، وإيماناً، وأبعدهم عن الحيرة والاضطراب، والتخبط والتناقض. حتى إنه ليوجد عند عوام أهل السنة من بَرْدِ اليقين، وحسن المعتقد، والبعد عن الحيرة_ما لا يوجد عند علماء الطوائف الأخرى، وحُذَّاقهم من أهل الكلام وغيرهم، ممن اضطربوا في تقرير عقائدهم فحاروا وحيروا، وتعبوا وأتعبوا. ومما يدل على حيرتهم ما جاء على ألسنة حُذَّاق أهل الكلام الذي بلغوا الغاية فيه فلم يرجعوا بفائدة، ولم يعودوا بعائدة، فهذا الرازي أحد أكابر علم الكلام ينوح على نفسه ويبكي عليها قائلاً: نهايةُ إقدام العقول عِقالُ **** وغاية سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا **** وغايةُ دنيانا أذىً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا **** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وكم قد رأينا من رجال ودولة **** فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها **** رجال فزالوا والجبال جبال ومنهم الشهرستاني الذي قال: لعمري لقد طفت المعاهد كلها **** وقلَّبت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كفَّ حائرٍ **** على ذَقَنٍ أو قارعاً سنَّ نادم ومن الذين خاضوا في علم الكلام وندموا على ذلك: الجويني، والغزالي، والخسر وشاهي، وغيرهم. هذا هو شأن من ضل من أهل الفرق الإسلامية. أما الكفار الذين تنكبوا الصراط المستقيم من الملاحدة وغيرهم_فلا تسل عن بؤسهم وشقائهم فهم يعيشون أدنى دركات الشقاء والنكد، فلقد سلبوا الأمن، وشاعت فيهم الأمراض النفسية والعصبية، وكثر فيهم الرعب، وانتشر فيهم الانتحار والرغبة في التخلص من الحياة.

فها هو الفيلسوف الألماني المشهور =فريدريك نيتشه+ بعد أن ألغى من فكره عقيدة الإيمان بالله، ها هو يعرب عن دخيلة نفسه، وما يعانيه من عذاب وشقاء فيقول: =إنني أعلم جيد العلم لماذا كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك؛ لأنه هو الذي يعاني أشد العناء، فاضطره ذلك أن يخترع الضحك+. وهذا الفيلسوف الفرنسي الملحد الوجودي اليهودي =جان بول سارتر+ عندما كفر بالله، واليوم الآخر أصبح ينظر إلى الحياة من منظوره الوجودي، فلا يرى الوجود كله إلا من دوائر القلق، والمتاعب، والغثيان، والآلام. وكتب في ذلك جملة قصص ومسرحيات ضمنها آراءه الفلسفية الوجودية. وحين حضره الموت سأله من كان عنده: تُرى إلى أين قادك مذهبك؟ فأجاب في أسىً عميقٍ ملؤه الندم: =إلى هزيمة كاملة+. أين هؤلاء من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز_رحمه الله تعالى_إذ يقول: =أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر+. وأين هم من شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله تعالى_عندما اقتيد إلى السجن فقال كلمته المشهورة =ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني؛ أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة+. 33_ التثبت في الأخبار، وعدم التسرع في إطلاق الأحكام: بخلاف الذين يسارعون في إطلاق الأحكام، ويتهافتون على إلصاق التهم بالأبرياء، فَيُفَسِّقُون، ويبدعون، ويكفرون بالتهمة والظنة، من غير ما برهان أو بينة. 34_ حصول البشرى عند الممات: وذلك لإيمانهم بالله، واستقامتهم على أمره، قال_تعالى_: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] (فصلت: 30) . 35_ مضاعفة الحسنات، ورفعة الدرجات: فمن أسباب مضاعفة الحسنات، ورفعة الدرجات_بل هو أساسها وأصلها_صحةُ العقيدة، وقوة الإيمان.

وأهل السنة والجماعة أصح الناس عقيدةً، وأقواهم إيماناً؛ ولذلك فأعمالهم تضاعف مضاعفة كبيرة، ودرجاتهم ترفع وتعلو عُلواً لا يدانيه أحد، ولا يشاركهم فيه إلا من كان على مثل ما هم عليه من العقيدة والإيمان. ولهذا كان السلف يقولون: =أهل السنة والجماعة إن قعدت بهم أعمالهم_قامت بهم عقائدهم، وأهل البدع إن كثرت أعمالهم قعدت بهم عقائدهم+. هذه مآثر أهل السنة والجماعة، وهذه بعض خصائصهم التي تميزوا بها على غيرهم، وتلك هي الخصال التي طبقها سلفنا الصالح_رحمهم الله ورضي عنهم_فنالوا الخيرات، وحصلوا على البركات. وليس معنى ذلك أن أهل السنة معصومون؟ لا، بل إن منهجهم هو المعصوم، وجماعتهم هي المعصومة. أما آحادهم فقد يقع منه الظلم والبغي، والعدوان، وارتكاب المخالفات. ولكن ذلك قليل بالنسبة إلى غيرهم، ولا يُقَرُّ من فعل ذلك منهم، بل يبتعد عن السنة بقدر مخالفته. ثم إن ما عند أهل السنة من مخالفات وأخطاء فعند غيرهم أكثر مما عندهم، وما عند غيرهم من فضل وعلم وكمال فعند أهل السنة أكمله وأتمه. فما أجدرنا_معاشر المسلمين_أن نأخذ بمنهج أهل السنة، وأن نوطن أنفسنا على ذلك، وما أحرانا_نحن أهل السنة_أن نقوم بالسنة حق القيام، وأن نقتدي بسلفنا الصالح في كل أمورنا؛ لنرضي ربنا_جل وعلا_ولنعطي صورة مشرقة عن الإسلام الصحيح النقي؛ ليقبل الناس عليه، ويحرصوا على الدخول فيه، ولئلا نصبح فتنة لغيرنا من الكفار والمبتدعة، فإذا رأوا ما عليه بعض أهل السنة من بعد عن المنهج_قالوا: إذا كان خاصة المؤمنين بهذه المثابة فلا لوم علينا ولا تثريب، وبذلك تندرس معالم الحق، وتنطمس أنوار الهدى. وأخيراً: نحمد الله أن جعلنا من أهل السنة، ونسأله أن يتم علينا النعمة والمنة، وأن يرزقنا لزوم السنة، والعمل بالسنة، وأن يتوفانا على السنة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

كلمات في المحبة والخوف والرجاء

كلمات في المحبة والخوف والرجاء تأليف الشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد كلمات في المحبة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فإن المحبة ركن العبادة الأعظم، فالعبادة تقوم على أركان ثلاثة، هي المحبة، والخوف، والرجاء. وإليك هذه الكلمات المختصرة في هذا الركن الأعظم، وهو المحبة. تعريف المحبة وحدُّها: قال ابن القيم×: =لا تُحَدُّ المحبةُ بحدٍّ أوضحَ منها؛ فالحدود لا تزيدها إلا خفاءً، وجفاءً، فحدُّها وُجُودُها، ولا توصف المحبة بوصفٍ أظهرَ من المحبة. وإنما يتكلم الناس في أسبابها، وموجباتها، وعلاماتها، وشواهدها، وثمراتها، وأحكامها؛ فحدودهم، ورسومهم دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات، وكثرت الإشارات بحسب إدراك الشخص، ومقامه، وحاله، ومِلْكِهِ للعبارة+ (1) . ومما قيل في حد المحبة وتعريفها ما يلي (2) : 1_ الميل الدائم بالقلب الهائم. 2_ إيثار المحبوب على جميع المصخوب. 3_ موافقة الحبيب في المشهد والمغِيب. 4_ مواطأة القلب لمرادات المحبوب. 5_ استكثار القليل من جنايتك، واستقلال الكثير من طاعتك. 6_ سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب. 7_ ميلك للشيء بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك، وروحك، ومالك، ثم موافقتك له سراً، وجهراً، ثم علمك بتقصيرك في حبه. 8_ الدخول تحت رق المحبوب وعبوديته، والحرية من استرقاق ما سواه. 9_ سفرُ القلب في طلب المحبوب، ولهجُ اللسان بذكره على الدوام. 10_ المحبة أن يكون كُلُّكَ بالمحبوب مشغولاً، وذلُّك له مبذولاً. أقسام المحبة: 1_ محبة عبادة: وهي محبة التذلل، والتعظيم، وأن يقوم بقلب المُحبِّ من إجلال المحبوب، وتعظيمه ما يقتضي امتثال أمره، واجتناب نهيه. وهذه المحبة أصل الإيمان والتوحيد، وهي التي يترتب عليها من الفضائل ما لا يمكن حصرُهُ وعدُّهُ.

_ (1) انظر مدارج السالكين 3/11. (2) انظر مدارج السالكين 3/13_18 حيث ذكر حداً للمحبة.

ومَنْ صرف تلك المحبة لله فهو المؤمن الموحد، ومن صرفها لغير الله فقد وقع في المحبة الشركية؛ حيث أشرك بالله عز وجل. وذلك كمحبة المشركين الذين يحبون آلهتهم، وأندادهم كمحبة الله، من شجر، أو حجر، أو بشر، أو ملك أو غيرها كمحبة الله أو أكثر؛ فهذه المحبة أصل الشرك، وأساسه. 2_ محبة لله عز وجل: كمحبة ما يحبه الله من الأمكنة، والأزمنة، والأشخاص، والأعمال، والأقوال، ونحو ذلك؛ فهذه المحبة تابعة لمحبة الله. 3_ المحبة الطبيعية: ويدخل تحت هذه المحبة ما يلي: أ_محبة إشفاق ورحمة: كمحبة الوالد لولده، وكمحبة المرضى، والضعفاء. ب_ محبة إجلال وتعظيم دون عبادة: كمحبة الولد لوالده، وكمحبة التلميذ لمعلمه وشيخه، ونحو ذلك. ج_ محبة الإنسان ما يلائمه: كمحبة الطعام، والشراب، والنكاح، واللباس، والأصدقاء، والخلطاء، ونحو ذلك. فهذه المحاب داخلة في المحبة الطبيعية المباحة، فإن أعانت على محبة الله وطاعته دخلت في باب الطاعة، وإن صدت عن محبة الله، وتُوَسِّل بها إلى ما لا يحبه الله دخلت في المنهيات، وإن لم تُعِن على طاعة، ولا معصية فهي في دائرة المباحات. فضائل محبة الله: محبة الله عز وجل أشرف المكاسب، وأعظم المواهب، وفضائلها لا تُعد ولا تحصى، ومن تلك الفضائل ما يلي: 1_ أنها أصل التوحيد وروحه: قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي×: =أصل التوحيد، وروحه إخلاص المحبة لله وحده، وهي أصل التألُّهِ، والتعبد، بل هي حقيقة العبادة، ولا يتم التوحيد حتى تكمل محبةُ العبد لربه، وتسبق جميعَ المحابِّ، وتَغْلِبها، ويكون لها الحكم عليها؛ بحيث تكون سائر محاب العبد تبعاً لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه+ (1) .

_ (1) القول السديد ص110.

2_ أن الحاجة إليها أعظم من الحاجة إلى الطعام، والشراب، والنكاح: قال شيخ الإسلام ابن تيمية×: =ففي قلوب بني آدم محبة لما يتألهونه ويعبدونه، وذلك قوام قلوبهم، وصلاح نفوسهم، كما أن فيهم محبةً لما يطعمونه، وينكحونه، وبذلك تصلح حياتهم، ويدوم شملهم. وحاجتهم إلى التأله أعظم من حاجتهم إلى الغذاء؛ فإن الغذاء إذا فُقِد يَفْسُد الجسم، وبِفَقْدِ التأله تفسد النفس+ (1) . وقال ابن القيم×: =فكيف بالمحبة التي هي حياة القلوب، وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذة، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا حياة إلا بها. وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظمَ من ألم العينِ إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، والأنفِ إذا فقد شمّه، واللسان إذا فقد نُطْقَه؟ ! بل فساد القلب إذا خلا من محبة فاطره، وبارئه، وإلهه الحق أعظم من فساد البدن إذا خلا من الروح. وهذا الأمر لا يصدِّق به إلا مَنْ فيه حياةٌ، وما لِجُرْحٍ بميت إيلام+ (2) . 3_ تسلي المحب عند المصائب: قال ابن القيم×: =فإن المحب يجد من لذة المحبة ما ينسيه المصائب، ولا يجد مِنْ مسِّها ما يجد غيرُه، حتى كأنه قد اكتسى طبيعةً ثانيةً ليست طبيعةَ الخلق. بل يَقْوَى سلطانُ المحبةِ حتى يلتذَّ المحبُّ بكثير من المصائب التي يصيبه بها حبيبه أعظم من التذاذ الخليِّ (العاري من المحبة) بحظوظه وشهواته. والذوقُ، والوَجْدُ شاهد بذلك، والله أعلم+ (3) . 4_ أنها من أعظم ما يحمل على ترك المعاصي: قال ابن القيم×في معرض حديث له عن محبة الله: =وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته، ومعاصيه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطانُ المحبةِ في القلب كان اقتضاؤه للطاعة، وترك المخالفة أقوى. وإنما تصدر المعصية والمخالفة مِنْ ضَعْفِ المحبة، وسلطانِها.

_ (1) جامع الرسائل لابن تيمية 2/230. (2) الجواب الكافي ص541_542. (3) مدارج السالكين 3/38.

وفرْقٌ بين من يحمله على ترك معصية سيده خَوْفُه من سوطه وعقوبتِهِ، وبين من يحمله على ذلك حبُّه لسيده =. إلى أن قال×: =فالمحب الصادق عليه رقيبٌ من محبوبه يرعى قَلْبَه، وجوارحَه. وعلامةُ صدقِ المحبة شهودُ هذا الرقيبِ ودوامُه. وها هنا لطيفة يجب التنبه لها، وهي أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه؛ فإذا قارنها الإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياءَ والطاعةَ، وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوعَ أنسٍ، وانبساط، وتذكر، واشتياق. ولهذا يتخلف أثرها ومُوجَبُها، ويفتش العبد قلبه فيرى نوع محبة لله، ولكن لا تحمله على ترك معاصيه، وسبب ذلك تجرّدها عن الإجلال والتعظيم؛ فما عَمَرَ القلبَ شيءٌ كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعْظيمه. وتلك من أفضل مواهب الله للعبد، أو أفضلُها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء+ (1) . 5_ أنها تقطع الوساوس: قال ابن القيم×: =فبين المحبة، والوساوس تناقض شديد كما بين الذكر والغفلة؛ فعزيمة المحب تنفي تردد القلب بين المحبوب وغيره، وذلك سبب الوساوس. وهيهات أن يجد المحب الصادق فراغاً لوسواس الغير؛ لاستغراق قلبه في حضوره بين يدي محبوبه. وهل الوسواس إلا لأهل الغفلة والإعراض عن الله تعالى؟ ومن أين يجتمع الحبُّ والوسواس؟ لا كان مَنْ لسواك فيه بقيةٌ **** فيها يُقَسِّم فِكْرَهُ ويوسوسُ (2) 6_ تمام النعيم، وغاية السرور: فذلك لا يحصلُ إلا بمحبة الله عز وجل فلا يغني القلبَ، ولا يَسُدُّ خلَّتَه ولا يشبعُ جوعته إلا محبتُه، والإقبال عليه عز وجل ولو حصل له كل ما يلتذ به لم يأنس ولم يطمئن إلا بمحبة الله_عز وجل_.

_ (1) طريق الهجرتين ص449_450. (2) مدارج السالكين 3/38.

قال ابن القيم×: =وأما محبةُ الرب سبحانه فشأنها غير الشأن؛ فإنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها، وفاطرها، فهو إلهها، ومعبودها، ووليها، ومولاها، وربُّها، ومدبرها، ورازقها، ومميتها، ومحييها؛ فمحبته نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفوس، وقوتُ القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن؛ فليس عند القلوب السليمة، والأرواح الطيبة، والعقول الزاكية أحلى، ولا ألذُّ، ولا أطيبُ، ولا أسرُّ، ولا أنعمُ من محبته، والأنس به، والشوق إلى لقائه. والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتمُّ من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كل لذة+. إلى أن قال: =ووجَدَانُ هذه الأمور، وذوقُها هو بحسب قوة المحبة، وضعفها، وبحسب إدراك جمال المحبوب، والقرب منه. وكلما كانت المحبةُ أكملَ، وإدراك المحبوب أتم، والقرب منه أوفر كانت الحلاوةُ، واللذةُ، والنعيمُ أقوى. فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ولا يُعْرَف إلا بالذوق والوَجْد. ومتى ذاق القلب ذلك لم يُمْكِنْهُ أن يقدِّم عليه حُبَّاً لغيره، ولا أنساً به. وكلما ازداد له حباً ازداد له عبودية، وذلاً، وخضوعاً، ورِقَّاً له، وحرية من رق غيره+ (1) . صفات المحبوبين لله: الله عز وجل يُحِبُّ ويُحَبّ، قال الله تعالى: [فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ] (المائدة: 54) . وإليك فيما يلي إجمالاً لبعض صفات الذين خصهم الله بالمحبة: 1_ التوابون. 2_ المتطهرون. 3_ المتقون. 4_ المحسنون. 5_ الصابرون. 6_ المتوكلون. 7_ المقسطون. 8_ الذين يقاتلون في سبيله صفَّاً كأنهم بينان مرصوص. 9_ الأذلة على المؤمنين. 10_ الأعزة على الكافرين. 11_ المجاهدون في سبيل الله. 12_ الذين لا يخافون لومة لائم.

_ (1) إغاثة اللهفان ص567.

كلمات في الخوف

13_ المتقربون بالنوافل بعد الفرائض. الأسباب الجالبة لمحبة الله: 1_ قراءة القرآن بالتدبر، والتفهم لمعانيه، وما أريد به. 2_ التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض. 3_ دوامُ ذكرِ الله على كل حال باللسان، والقلب، والعمل، والحال. 4_ إيثارُ محابِّ الله على محابِّ النفس عند غلبات الهوى. 5_ مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته، ومشاهدتها، ومعرفتها. 6_ مشاهدة برِّه، وإحسانه، وآلائه، ونعمه الظاهرة، والباطنة. 7_ إنكسار القلب بكلِّيته بين يدي الله تعالى. 8_ الخلوة بالله وقتَ النزولِ الإلهي؛ لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدب بآداب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة. 9_ مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايبُ الثمر، وألا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعَلِمْتَ أن فيه مزيداً لحالك، ومنفعة لغيرك. 10_ مباعدةُ كلِّ سببٍ يحول بين القلب، وبين الله عز وجل (1) . اللهم إنا نسألك حبك، وحبَّ من يحبك، وحبَّ العمل الذي يقربنا إلى حبِّك. وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كلمات في الخوف (2) الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد: فإن منزلة الخوف من أجلِّ منازل العبودية، وأنفعها، وهي فرض على كل أحد. قال الله تعالى: [فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] (آل عمران: 175) ، وقال: [وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ] (الرحمن: 46) . تعريف الخوف: 1_ قيل: الخوف توقع العقوبة على مجاري الأنفاس. 2_ وقيل: الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام. 3_ وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره. 4_ وقيل: الخوف غمّ يلحق النفس؛ لتوقع مكروه. أقوال في الخوف:

_ (1) انظر: مدارج السالكين 3/18_19. (2) انظر تفصيل الحديث عن الخوف في مدارج السالكين 1/507_513، وشرح كتاب التوحيد باب"إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه".

1_ قال أبو حفص عمر بن مسلمة الحداد النيسابوري: الخوف سراج في القلب، به يبصر ما فيه من الخير والشر، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله عز وجل فإنك إذا خفته هربت إليه. فالخائف من ربه هارب إليه. 2_ وقال أبو سليمان: ما فارق الخوف قلباً إلا خرب. 3_ وقال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها. 4_ وقال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يَزُلْ عنهم الخوف؛ فإذا زال الخوف ضلّوا الطريق. الخوف المحمود: الخوف المحمود الصادق: هو ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل فإذا تجاوز ذلك خِيْفَ منه اليأس والقنوط. قال أبو عثمان الحِيْري: صدق الخوف هو الورع عن الآثام ظاهراً، وباطناً. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله. الخوف الواجب والخوف المستحب: الخوف الواجب: هو ما حمل على فعل الواجبات، وترك المحرمات. والخوف المستحب: هو ما حمل على فعل المستحبات، وترك المكروهات. الجمع بين الخوف والرجاء والحب: لا بدّ للعبد من الجمع بين هذه الأركان الثلاثة؛ لأن عبادة الله بالخوف وحده طريقة الخوارج؛ فهم لا يجمعون إليه الحبَّ والرجاء؛ ولهذا لا يجدون للعبادة لذة، ولا إليها رغبة، فيجعلون الخالق بمنزلة سلطان جائر. وهذا يورث اليأس والقنوط من رحمة الله، وغايته إساءةُ الظن بالله، والكفر به سبحانه. وعبادة الله بالرجاء وحده طريقة المرجئة الذين وقعوا في الغرور والأماني الباطلة، وترك العملِ الصالحِ، وغايتُه الخروجُ من الملة. وعبادة الله بالحب وحده طريقة غلاة الصوفية الذين يقولون: نعبد الله لا خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، وإنما حبَّاً لذاته. وهذه طريقة فاسدة، ولها آثار وخيمة، منها الأمن من مكر الله، وغايتُه الزندقةُ، والخروج من الدين.

ولهذا قال السلف رحمهم الله كلمة مشهورة وهي: =مَنْ عبدَ الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروريٌ أي خارجي ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف والحب والرجاء فهو مؤمن موحِّد+. قال ابن القيم×: =القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف، والرجاء جناحاه؛ فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيِّدُ الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائدٍ وكاسر+. أيهما يُغلَّب: الخوف أم الرجاء؟ قال ابن القيم×: =السلف استحبوا أن يُقَوِّي في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوي جناح الرجاء على جناح الخوف، هذه طريقة أبي سليمان وغيره. وقال: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء فَسَدَ. وقال غيره: أكمل الأحوال اعتدال الرجاء والخوف، وغلبةُ الحب؛ فالمحبة هي المرْكَبُ، والرجاء حادٍ، والخوف سائق، والله الموصل بمنِّه وكرمه+. أقسام الخوف: 1_ خوف السر: وهو خوف التَّأَلُّه، والتعبد، والتقرب، وهو الذي يزجر صاحبه عن معصية مَنْ يخافه؛ خشيةً من أن يصيبه بما شاء من فقر، أو قتل، أو غضب، أو سلب نعمة، ونحو ذلك بقدرته ومشيئته. فهذا القسم لا يجوز أن يصرف إلا لله عز وجل وصَرْفُه له يعد من أجل العبادات، ومن أعظم واجبات القلب، بل هو ركن من أركان العبادة، ومن خشي الله على هذا الوجه فهو مخلص موحِّد. ومن صرفه لغير الله فقد أشرك شركاً أكبر؛ إذ جعل لله نِداً في الخوف، وذلك كحال المشركين الذين يعتقدون في آلهتهم ذلك الاعتقاد، ولهذا يُخَوِّفون بها أولياء الرحمن، كما قال قوم هود عليه السلام الذين ذكر الله عنهم أنهم خوفوا هوداً بآلهتهم فقالوا: [إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ] (هود: 54) .

وكحال عباد القبور؛ فإنهم يخافون أصحاب القبور من الصالحين، بل من الطواغيت كما يخافون الله، بل أشد؛ ولهذا إذا توجَّهَتْ على أحدهم اليمينُ بالله أعطاك ما شئت من الأيمان صادقاً أو كاذباً، فإن كانت اليمين بصاحب التربة لم يُقْدِم على اليمين إن كان كاذباً. وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله. وكذا إذا أصاب أحداً منهم ظلمٌ لم يطلب كشفه إلا من المدفونين في التراب، وإذا أراد أحدهم أن يظلم أحداً فاستعاذ المظلوم بالله لم يُعذه، ولو استعاذ بصاحب التربة أو بتربته لم يُقْدِمْ عليه بشيء، ولم يتعرض له بالأذى. 2_ الخوف من وعيد الله: الذي توعد به العصاة، وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان، وهو درجات، ومقامات، وأقسام كما مضى ذكره قبل قليل. 3_ الخوف المحرم: وهو أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بغير عذر إلا لخوف الناس. وكحال من يفر من الزحف؛ خوفاً من لقاء العدو؛ فهذا خوف محرم، ولكنه لا يصل إلى الشرك. 4_ الخوف الطبيعي: كالخوف من سَبُع، أو عدوٍّ، أو هدم، أو غرق، ونحو ذلك مما يخشى ضرره الظاهري؛ فهذا لا يُذَمُّ، وهو الذي ذكره الله عن موسى عليه السلام في قوله عز وجل: [فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ] (القصص: 21) ، وقوله: [فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى] (طه: 67) . ويدخل في هذا القسم الخوف الذي يسبق لقاء العدو، أو يسبق إلقاء الخطب في بداية الأمر؛ فهذا خوف طبيعي، ويحمد إذا حمل صاحبه على أخذ الأهبة والاستعداد، ويذم إذا رجع به إلى الانهزام وترْكِ الإقدام. 5_ الخوف الوهمي: كالخوف الذي ليس له سبب أصلاً، أو له سبب ضعيف جداً؛ فهذا خوف مذموم، ويدخل صاحبه في وصف الجبناء، وقد تعوذ النبي"من الجبن؛ فهو من الأخلاق الرذيلة.

كلمات في الرجاء

ولهذا كان الإيمان التام، والتوكل الصحيح أعظمَ ما يدفع هذا النوع من الخوف، ويملأ القلب شجاعة؛ فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه الخوف من غير الله، وكلما ضعف إيمانه زاد وقوي خوفه من غير الله. ولهذا فإن خواص المؤمنين وأقوياءهم تنقلب المخاوف في حقهم أمناً وطمأنينة؛ لقوة إيمانهم، ولسلامة يقينهم، وكمال توكلهم [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ] (آل عمران:، 173 174) . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. كلمات في الرجاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإن الرجاء ركن من أركان العبادة؛ فالعبادة تقوم على الحب، والخوف، والرجاء. والرجاء عمل عظيم من أعمال القلوب، والنصوص الشرعية متضافرة على ذكره، والثناء في أهله. قال الله تعالى: [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ] (الإسراء: 57) . فابتغاء الوسيلة إليه طلب القرب منه بالعبودية والمحبة؛ فَذَكَرَ مقاماتِ الإيمان الثلاثة الحب، والخوف، والرجاء. وقال تعالى: [مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ] (العنكبوت: 5) . وقال: [أُلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَت اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيْمٌ] وفي صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: =لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه+. وفي الصحيح قال": =يقول الله عز وجل: =أنا عند ظن عبدي، فليظن بي ما شاء+. * حد الرجاء: 1_ قيل: الرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويُطَيِّب لها السير.

2_ وقيل: هو الاستبشار بجود فضل الرب تبارك وتعالى والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه. 3 _ وقيل: هو الثقة بجود الرب تعالى. 4_ وقيل: هو النظر إلى سعة رحمة الله. * الجمع بين الخوف والرجاء والحب: لابدّ للعبد من سيره إلى الله من الجمع بين الأركان الثلاثة؛ فالحب بمنزلة الرأس للطائر، والخوف والرجاء جناحاه؛ فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قُطع الرأس مات الطائر، ومتى فُقِد الجناحان فهو عرضة لكل صائدٍ وكاسر كما قال ابن القيم×. * أنواع الرجاء: أنواع الرجاء ثلاثة، نوعان محمودان، ونوعٌ غرور مذموم؛ فالأولان: رجاءُ رجلٍ عمل بطاعة الله على نور من الله؛ فهو راجٍ لثوابه، ورجل أذنب ذنوباً ثم تاب منها، فهو راجٍ لمغفرة الله تعالى وعفوه، وإحسانه، وجوده، وحلمه، وكرمه، فهذان النوعان محمودان. والثالث: رجاء رجل متمادٍ في التفريط، والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل؛ فهذا هو الغرور، والتمني، والرجاء الكاذب. * الفرق بين الرجاء والتمني: الفرق بينهما أن التمني يكون مع الكسل، ولا يسلك صاحبه طريق الجد، والاجتهاد. والرجاء يكون مع بذل الجهد، وحسن التوكل. فالأول: كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها، ويأخذ زرعها. والثاني: كحال من يشق أرضه، ويفلَحها، ويبذرها، ويرجو طلوع الزرع. =تساؤل+ أيهما أكمل: رجاءُ المحسنِ ثوابَ إحسانه، أو رجاء المسيء التائب مغفرةَ ربِّه، وعفوه؟. والجواب: أن هذه المسألة وقع فيها خلاف؛ فطائفة رجَّحت رجاء المحسن؛ لقوة أسباب الرجاء معه، وطائفة رجّحت رجاء المذنب التائب؛ لأن رجاءه مُجَرَّدٌ عن علة رؤية العمل، مقرون بالانكسار، وذلة رؤية الذنب. * الرجاء لا يصح إلا مع عمل: فقد أجمع العلماء على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل. أما ترك العمل، والتمادي في الذنوب؛ اعتماداً على رحمة الله، وحسن الظن به عز وجل فليس من الرجاء في شيء.

بل هو جهل، وسفه، وغرور؛ فرحمة الله قريب من المحسنين لا من المفرطين، المعاندين، المُصِرِّين. قال ابن القيم×في شأن المتمادين في الذنوب؛ اتكالاً على رحمة الله: =وهذا الضرب في الناس قد تعلق بنصوص الرجاء، واتَّكل عليها، وتعلق بكلتا يديه، وإذا عوتب على الخطايا، والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله، ومغفرته، ونصوص الرجاء. وللجهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائب وعجائب+ (1) . ثم ساق×أمثلة عديدة لما جاء عن أولئك. * ضابط حسن الظن: قال ابن القيم×: =فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما على انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتَّى إحسان الظن. فإن قيل: بل يتأتى ذلك، ويكون مستندُ حسنِ الظنِّ سعةَ مغفرةِ الله، ورحمته، وعفوه، وجوده، وأنَّ رحمَتَه سبقت غضبَه، وأنه لا تنفعه العقوبة، ولا يضره العفو. قيل: الأمر هكذا، والله فوق ذلك أجلُّ، وأكرم، وأجود، وأرحم، وإنما يضع ذلك في محله اللائق به؛ فإنه سبحانه موصوف بالحكمة، والعزة، والانتقام، وشدة البطش، وعقوبة من يستحق؛ فلو كان مُعَوَّلُ حسنِ الظن على صفاته، وأسمائه لاشترك في ذلك البرُّ والفاجر، والمؤمن والكافر، ووليه وعدوُّه؛ فما ينفع المجرمَ أسماؤه، وصفاته، وقد باء بسخطه، وغضبه، وتعرض للعْنته، ووقع في محارمه، وانتهك حرماته؟ ! بل حسن الظن ينفع مَنْ تاب، وندم، وأقلع، وبدَّل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة، ثم حسَّن الظن بعدها؛ فهذا هو حسن الظن، والأول غرور، والله المستعان+ (2) . فوائد الرجاء: وبعد أن تبين لنا حدُّ الرجاء، وضوابُطه فهذه نبذه عن فوائده، وفضائله؛ فالرجاء إذا كان في محله، وعلى وجهه الصحيح يثمر ثمراتٍ عظيمةً؛ فمن فضائل الرجاء، وثمراته ما يلي:

_ (1) الجواب الكافي لابن القيم ص67_68. (2) الجواب الكافي ص76_77.

1_ إظهار العبودية، والفاقة، والحاجة إلى ما يرجوه العبد من ربه، ويستشرفه من إحسانه، وأنه لا يستغني عن فضله، وإحسانه طرفة عين. 2_ أن الرجاء محبوبٌ لله؛ فالله عز وجل يحب من عباده أن يرجوه، ويأملوه، ويسألوه من فضله؛ لأنه الملك الحق الجواد؛ فهو أجود من سئل، وأوسع من أعطى. وأحب ما إلى الجواد أن يُرجى، ويُؤمل، ويُسأل. 3_ التخلص من غضب الله؛ فمن لم يسأل الله يغضب الله عليه، والسائل راجٍ، وطالبٌ. 4_ أن الرجاء حادٍ يحدو بالعبد في سيره إلى الله، ويطيِّبُ له المسير، ويحثه عليه، ويبعثه على ملازمته؛ فلولا الرجاء لما سار أحد؛ فإن الخوف وحده لا يحرك العبد، وإنما يحركه الحب، ويزعجه الخوف، ويحدوه الرجاء. 5_ أن الرجاء يطرحه على عتبة المحبة؛ فإنه كلما اشتدّ رجاؤه، وحصل له ما يرجوه ازداد حباً لله تعالى وشكراً له، ورضاً به، وعنه. 6_ أنه يبعثه على أعلى المقامات، وهو مقام الشكر الذي هو خلاصة العبودية؛ فإنه إذا حصل له مرجوّه كان أدعى لشكره. 7_ أنه يوجب له المزيد من معرفة الله، وأسمائه، ومعانيها، والتعلق بها؛ فإن الراجي متعلق بأسمائه الحسنى، متعبدٌ، وداعٍ بها. 8_ أن المحبة لا تنفك عن الرجاء؛ فكل واحد منهما يمد الآخر، ويقويه. 9_ أن الخوف مستلزم للرجاء، والرجاء مستلزم للخوف؛ فكل راجٍ خائفٌ، وكل خائف راجٍ. 10_ أن العبد إذا تعلق قلبه برجاء ربِّه، فأعطاه ما رجاه كان ذلك ألطفَ موقعاً، وأحلى عند العبد، وأبلغ من حصول ما لم يَرْجُه. 11_ أن في الرجاء من الانتظار، والترقب، والتوقع لفضل الله ما يوجب تعلق القلب بذكره، ودوام الالتفات إليه بملاحظة أسمائه، وصفاته، وتنقُّلُ القلب في رياضها الأنيقة، وأخذه بنصيبه من كل اسم، وصفة. اللهم إنا نسألك حبك، وخوفك، ورجاءك، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.

§1/1