رسائل السنة والشيعة لرشيد رضا
محمد رشيد رضا
مقدمة رسائل السنة والشيعة للمؤلف
مقدمة رسائل السنة والشيعة بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 30-32) .
تاريخ التشيع ومذاهب الشيعة
بَرَّأَ اللهُ ورسولَه محمدًا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ونهى عباده المؤمنين من هذه الأمة المحمدية وحذَّرهم أن يكونوا من المشركين الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، ولكن التفرق في الدين إلى الشيع والأحزاب كالتفرق في السياسة سنة من سنن الاجتماع تابعة لدأبهم في الاتباع والابتداع. *** تاريخ التشيع ومذاهب الشيعة كان التشيع للخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه مبدأ تفرق هذه الأمة المحمدية في دينها وفي سياستها، وكان مبتدع أصوله يهودي اسمه عبد الله بن سبأ (¬1) أظهر الإسلام خداعًا للمسلمين ودعا إلى الغلو في علي كرَّم الله وجه لأجل تفريق هذه الأمة وإفساد دينها ودنياها عليها كما فعل أمثاله في النصرانية قديمًا وحديثًا، وسبب ذلك ما كان من العداوة والقتال بين قومه اليهود وبين النبي صلوات الله وسلامه عليه وكانوا هم المعتدين فيه، وقد انتهى ذلك بنصر الله تعالى لرسوله ¬
عليهم وإخراجهم من جواره في مدينته ودار هجرته، ثم أجلى عمر بن الخطاب الخليفة الثاني بعده من بقي منهم في أرض الحجاز. ابتدع هذا اليهودي بدعته، وأعانه عليها آخرون من أهل ملته، أظهروا الإسلام نفاقًا ليقبل المسلمون أقوالهم الخادعة، ومنها وضع الأحاديث وغش رواة التفسير بالخرافات الإسرائيلية وغير ذلك. بيد أن العداوة بين المسلمين واليهود لم تطل عليها الأمد؛ لأن اليهود كانوا مظلومين مُضطهدين في وطنهم القديم في البلاد المقدسة وما جاورها، وفي البلاد التي تفرقوا فيها، فلما فتح المسلمون الأمصار في الشرق والغرب رفعوا عنهم الظلم الذي أرهقهم من نصارى الروم والقوط وعاملوهم بالعدل والرحمة كالمسلمين وغيرهم فكفوا عن الكيد لهم وفضلوا سلطانهم على كل سلطان. (¬1) ولكن بدعة التشيع كانت قد سرت وانتشرت في المسلمين ¬
بالدعاية السرية، وكانت أقوى الأسباب في العداوة السياسية بين كبراء الصحابة رضي الله عنهم بما كان مما يسمى في عرف هذا العصر بسوء التفاهم وحسن النية، ومن راجع أخبار واقعة الجمل في تاريخ ابن الأثير مثلاً يرى مبلغ تأثير إفساد السبئيين لذات البَيْن، وحَيْلُولَتهم بالمكر والفساد دون ما كاد يقع من الصلح (¬1) . لولا أن خلف زنادقة الفرس هؤلاء السبئيين، في إدارة دعاية التفريق بين المسلمين، بالتشيع والغلو في علي وأولاده وأحفاده الطاهرين رضي الله عنهم لزال خطرها بعد ترك اليهود لزعامتها السرية، ولكن الخليفتين الجليلين أبا بكر وعمر رضي الله عنه حاربا الفرس وتم للثاني فتح جُلّ بلادهم وثَلُّ عرش كسرى والقضاء على ديانتهم المجوسية، فأحفظ ذلك قلوب أمرائهم وزعمائهم من رجال الدين والدنيا، وليس لذي ¬
العجز عن الثأر بالقوة الحربية إلا المكايد السرية، فتولى مهرة رجال الفرس أمرها وكانوا أجدر بها وأهلها، فمنهم من تولى السعي لإفساد دين العرب الذي انتصروا بتعاليمه وجمعه لكلمتهم على الفرس وغيرهم، ومنهم من تولى السعي للإفساد السياسي بتحويل الخلافة إلى العلويين، ولما لم يجدوا منهم لزهدهم في الدنيا من يواتيهم على كل عمل ولو غير مشروع في الدين حولوها إلى العباسيين، ثم صاروا يكيدون للعباسيين بما كان أغرب طرقهم فيه ما قام به البرامكة من جعل جميع إدارة ملك الرشيد الواسع وسياستهم في أيديهم، حتى تنبَّه لذلك فبطش بطشته الكبرى بهم، وكانوا قد ملكوا عليه سويداء قلبه، مع قبضهم على أزمة ملكه. (¬1) وكان أذكى من فطن لدسائس البرامكة وإلحاد الشيعة الباطنية ووقف على كثير من دقائقه العلامة المحقق القاضي أبو بكر بن العربي الأندلسي كما نوَّه به في رحلته وفي كتاب العواصم والقواصم، ويليه حكيم الإسلام ابن خلدون فقد أشار إليه في مقدمة تاريخه. ¬
مراتب من أطلق عليهم لقب الشيعة
كان من تعليم غلاة الشيعة بدعة عصمة الأئمة الذين استخدموا أسماءهم وشهرتهم لترويج سياستهم، وبدعة تحريف القرآن والنقص منه بفريتهم ثم البدع المتعلقة بالقائم المنتظر محمد المهدي وكونه هو الذي يظهر القرآن التام الصحيح الذي يزعمون أن عليًّا كتبه بيده بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬1) وفتحهم أبواب التأويلات لنصوصه بما لا يتفق مع شيء من قواعد اللغة، فكان قدوة سيئة لجميع المبتدعة، دع قول بعضهم بألوهية بعض أئمة أهل البيت الموروثة عند الإسماعيلية وغير الموروثة عند غيرهم من الباطنية، ثم دع كون غايتهم بعد الوصول إلى آخر درجات الدعوة الكفر الصريح كما تراه مبسوطًا في خطط المقريزي [3 / 421 - 424 ط: مدبولي] وغيره. وأهم ما يجب بيانه في هذه المقدمة: أنه كان بين من أطلق عليهم لَقَبُ الشيعة أو وَصْفُ التشيع على اختلاف تعاليمهم وعقائدهم الظاهرة والباطنة أناس من أهل السنة والجماعة وكانوا يرون أن عليًّا رضي الله عنه أحق بالخلافة من غيره، ومنهم ¬
من يرى أنه أفضل من سائر الصحابة أو يفضله على من دون الشيخين، ويرون أنه أحق بالخلافة من عثمان لا من أبي بكر وعمر، ولكن لم يقل أحد من هؤلاء ببطلان خلافة الثلاثة، وكان عدد هؤلاء قليلاً من السلف والخلف، ولكن السواد الأعظم من أهل السنة سلفهم وخلفهم يعتقدون أن معاوية كان باغيًا على الإمام الحق أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، وإن قدر بدهائه وسياسته على تأليف قوة عظيمة له، ولكن الجمهور تأولوا له بأنه كان مجتهدًا أخطأ في اجتهاده. والغرض من ذكر هذا أن اسم الشيعة كان يطلق على: - بعض أهل السنة والجماعة. - وعلى كثير من المبتدعة الذين حافظوا على أركان الإسلام الخمسة. - وعلى فرق زنادقة الباطنية حتى إن بعض كبراء علماء الإمامية حاول جعل فرقة الشيعة 73 فرقة وفسر بذلك الحديث الذي ورد بافتراق هذه الأمة إليها ليخرج أهل السنة والجماعة التي هي السواد الأعظم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (¬1) ¬
الإمامية الاثني عشرية ينقسم جمهورهم إلى أصوليين وإخباريين
وقد انقسم الشيعة الذين يحافظون على أركان الإسلام إلى: غلاة أطلق عليهم اسم الرافضة. وإلى معتدلين وهو الذي خص أكثرهم باسم الزيدية لاتباعهم للإمام زيد بن علي رضي الله عنه الذي أبى على الغلاة البراءة من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فرفضوه ويوجد معتدلون في غيرهم أيضًا. ومن الغريب أن يشتبه أمر زنادقة الباطنية على كثير من مسلمي الشيعة حتى أهل العلم والذكاء منهم كالشريف الراضي المشهور باعتداله في شيعيته الذي قال: ألبس الذل في ديار الأعادي ... وبمصر الخليفة العلوي من أبوه أبي ومولاه مولاي ... إذا ضامني البعيد القصيّ لف عرقي بعرقه سيد الناس ... جميعًا محمد وعلي إن ذلي بذلك الجو عز ... وأوامي بذلك النقع ريّ (¬1) فالمراد بالأعادي عنده الخلفاء العباسيون أبناء عمومته وكان الخليفة العباسي يعامله معاملة الأقران حتى إنه كان يفتخر عليه ¬
مخاطبًا له بمثل الأبيات التي أنشدها الخليفة القادر بالله في آخر قصيدة يمدحه بها: مهلاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبداً كلانا في المفاخر معرق إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوّق فلهذا الاختلاط ترى في تراجم المحدثين والعلماء والأدباء والشعراء أسماء رجال كثيرين وصفوا بالتشيع؛ إذ كان هذا الوصف يطلق كثيرًا على من عرفوا بالمبالغة في حب آل البيت النبوي عليهم السلام ومدحهم وذم الظالمين لهم، وإن لم يكن أحد منهم على مذهب أحد من الشيعة المعتدلين كالزيدية ولا روافض الإمامية، فضلاً عن كونهم من زنادقة الباطنية، بل منهم المجتهد المستقل والمنسوب لأحد مذاهب أهل السنة. والشيعة الإمامية منهم معتدلون قريبون من الزيدية،
نقل كلام للمؤلف عن فرقة الكشفية
ومنهم غلاة قريبون من الباطنية، وهم الذين لقحوا ببعض تعاليمهم الإلحادية، كالقول بتحريف القرآن وكتمان بعض آياته، وأغربها في زعمهم سورة خاصة بأهل البيت يتناقلونها بينهم حتى كتب إلينا سائح سني مرة أنه سمع بعض خطبائهم في بلد من بلاد إيران يقرؤها يوم الجمعة على المنبر وقد نقلها عنهم بعض دعاة النصرانية (المبشرين) . (¬1) فهؤلاء الإمامية الاثني عشرية ويلقبون بالجعفرية درجات، وينقسم جمهورهم إلى أصوليين وإخباريين: فالأصوليون: هم الذين يعرضون ما يروى من أخبار الأئمة على أصول وضعها المتقدمون فينقلون منها ما وافقها ويردون ما خالفها. والإخباريون: هم الذين يتلقون جميع تلك الأخبار بالقبول، وإن خالفت المعقول، وما عند أهل السنة والجماعة من المنقول، وهدمت الفروع مع الأصول. وحدث في المتأخرين ¬
المؤلف وسعيه للتأليف بين أهل السنة والشيعة
منهم مذاهب أخرى كالكشفية (¬1) ، ولهم في الدين فلسفة غريبة، ويرد عليهم الشهاب الآلوسي في تفسيره (روح المعاني) . ولهذا الاستعداد في الإمامية للغلو وقرب الكثيرين منهم من زندقة الباطنية ظهرت منهم وراجت فيهم بدعة البابية ثم البهائية الذين يقولون بألوهية البهاء ونسخه لدين الإسلام وإبطاله لجميع مذاهبه. وقد نقل الإمام (المقبلي) في العلم الشامخ (¬2) عن بعض العلماء أنه قال: ائتني بزيدي صغير أُخْرِج لك منه رافضيًّا كبيرًا، وائتني برافضي صغير أخرج لك منه زنديقًا كبيرًا، قال: يريد أن مذهب الزيدية يجر إلى الرفض، والرفض يجر إلى الزندقة. اهـ (¬3) والمقبلي سلم هذا في أفرادٍ من الزيدية رَدَّ عليهم، لا في جملتهم. *** ¬
سعينا للتأليف بين أهل السنة والشيعة كان من قواعد الإصلاح التي وضعها حكيم الإسلام في هذا العصر وموقظ الشرق السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى وجوب السعي لجميع المسلمين والتأليف بين فِرَقهم التي يجمعها الإيمان بالقرآن المجيد المعصوم ورسالة محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، والاستعانة على ذلك بالسياسة التي كانت السبب الأول لهذا التفرق الذي ألبس بعد ذلك لباس الدين، ولكن كما يلبس الفرو مقلوبًا (¬1) ، فكانت سبب ضعف جميع الفرق، ومن أهم أسباب ضعفهم وسلب الأجانب لملكهم. ولا أعرف أحدًا عُني بعد السيد المصلح رحمه الله بهذا السعي كما عُنِيَ به هذا العاجز (منشئ المنار) في أسفاره ومقامه في هذه البلاد الحرة أدام الله عمرانها، وأتم لها استقلالها، ¬
أقوال العلماء الشيعة وساستهم في المنار
وفي المنار كثير من الدلائل والشواهد على هذا، منها تقريظ له من أحد علماء الشيعة الفضلاء في سورية نشر في الجزء الثاني من مجلده السابع الذي صدر في 16المحرم سنة 1322 ص 66 - 68 كتم اسمه في ذلك الوقت لتشديد الدولة في منع المنار من بلادها وعقاب من يوجد عنده، ومما قال في المنار: *** أقوال العلماء الشيعة وساستهم في المنار وصاحبه حسنة هذه الأيام، ونتيجة سعد هذا الدور (منار الإسلام) بل الساطع في كافة الأنام، والماحي بلألائه حنادس الظلام، ولا بدع إذا انبثق من فرع زيتونة يكاد زيتها يضيء ولو لم يمسسه نار، وغصن شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن طابت أرومته، وزكت جرثومته فهو الجدير بأن يحلو جناه، وتعرب عن طيب أصله أقواله وسجاياه. ومما استعذبته منه - وكله عذب سائغ - تأليفكم بين فرق
ترجمة ذكاء الملك مقالة للمؤلف باللغة الفارسية
الإسلام ورفع الوحشة التي نشأت عليها أحداث الأمة في الأعصر الأواخر وفشت بين العامة والخاصة حتى فتت في عضد الاجتماع وحلت عرى الارتباط..)) إلخ. ثم قال في آخره: ((وحقيق بحملة العلم في كل قطر أن ترفع أيدي الابتهال إلى ذي العزة والجلال بالدعاء لكم بدوام التأييد والمجد، والتوفيق لنصر الدين وإيضاح الحق ودَحْض الباطل وإرشاد الضال، وجمع الكلمة وإحكام الألفة بين المسلمين إنه على ذلك قدير بالإجابة جدير، آمين آمين)) . ولما أعلن الشاه مظفر الدين حكومة الشورى النيابية في إيران نوَّهْنَا بعمله في (م7، 8 من المنار) وفضلناه بها على سائر ملوك المسلمين، وإن عارض ذلك بعض علمائهم المتعصبين الجامدين (¬1) ، إذ بيَّنا أن حكومة الشورى هي حكومة القرآن، فإذا نفذتها حكومة إيران تكون هي الحكومة الإسلامية الوحيدة. ثم نشرنا في ج12م9 رسالة جاءتنا من طهران فيما كان من تأثير ما كتبه المنار في تلك العاصمة ذكر فيها مرسلها ¬
أن الجرائد الفارسية ترجمت مقالتنا (الشورى في بلاد إيران) فاعترض عليها سفير الدولة العثمانية الأمير شمس الدين بك وكتب بذلك إلى وزير الخارجية (علاء السلطنة) كتابًا أغلظ فيه، وزعم أن ما نقلته الجرائد عن المنار أسباب يلقيها أعداء الدولة لإيقاع النفاق بين الدولتين، وإحداث الشقاق بين الفريقين إلخ، وذكر أن وزير خارجية إيران أجاب السفير التركي بأن كاتب المقالة ليس من رعيتهم حتى يؤاخذوه ... إلخ. ومما قاله صاحب هذه الرسالة في أولها: إن أول من ترجم مقالة المنار هو ذكاء الملك في جريدته (تربيت) فنبه علماء الفرس وسواسهم وذكر لهم بعد الترجمة (أن منزلة ومقام حضرة حكيم الإسلام وفيلسوفه السيد محمد رشيد رضا عند جميع أهل الأقطار من المسلمين وخصوصًا العرب الكرام بمنزلة مائة عالم مجتهد من أهل التشيع، فاغتنموا الفرص وفكروا أيها السواس في مقالة هذا الحبر واقرءوها على المنابر وفي المعابر) .
وذكر صاحب الرسالة أن صاحب جريدة (مجلس) نقل الترجمة وما قالته جريدة (تربيت) في جريدته، وإنها جريدة يقرؤها في طهران وسائر إيران الكبير والصغير والذكر والأنثى، وإن مديرها السيد محمد صادق نجل السيد محمد الطباطبائي المجتهد الشهير. وذكر أيضًا أنه حضر في إثر ذلك مجلسًا غاصًّا بطلاب العلوم الدينية في طهران فتذاكروا في المسألة وما جرى بين السفير التركي ووزير خارجيتهم فقام أحدهم خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه وكان مما قاله: (انفتحت علينا أوربة وأتانا أهلها من كل حَدَب ينسلون: هذا تاجر وهذا سائح وهذا حكيم والآخر داعٍ إلى دينه والقصد من الكل ابتلاعنا معاشر أهل الإسلام، فإن تيقظتم وإلا فأنتم صبوحهم ونحن غبوقهم لا سمح الله بذلك. أيها الترك! تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا، ولا نتخذ المستبدين أربابًا من دون الله طاعتهم كطاعته ومعصيتهم كمعصيته، بل نجادلهم بالسيف
والسنان، والقلب واللسان، فإن توليتم فنشهدكم بأنا مسلمون ونبرأ إلى الله من المستبدين الخائنين، ومستمسكون بقوله عز من قائل في وصف المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وهم الذين قال فيهم: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] )) . اهـ هذا مثال مما كنا ندعو إليه ونسعى له سعيه من جمع كلمة المسلمين، وتأييد المحسنين منهم وتفنيد المسيئين، ولا نزال كذلك إن شاء الله تعالى حتى يأتينا اليقين، ولكن هذا الذي أرضى عنا جماعة المسلمين المنصفين، قد أغضب علينا المتعصبين المفرقين، وإنما اشتد علينا غضبهم في هذه السنين، بعد أن أظهر الله تعالى دولة السنة باستيلاء إمامها عبد العزيز آل سعود على مهد الإسلام، وقيامه بإحياء السنن، وهدم مباني البدع، فأيدناه ودافعنا عنه كما يجب علينا شرعًا، وكما شرعنا من قبل في تأييد دولة الشاه مظفر الدين الشيعية فيما كنا ندعو إليه الدولة العثمانية،
هل أباح الشيعة الزواج بتسع نسوة
من إقامة حكومة الشورى الإسلامية، على ما بين الحكومتين من البَوْن البَيِّن، وما بين الشعبين من الفرقان المبين وليس بهين، فكان خصومنا في تأييد دولة السنة فريقين: دعاة الإلحاد وغلاة الروافض. *** تعصب صاحب مجلة العرفان للشيعة مجلة عربية اسمها (العرفان) كنا نَعُدُّ صاحبها من المعتدلين ونحسبه من أصدقائنا وأعواننا على جمع كلمة المسلمين، على ما نرى من احتذائه في تأييد مذهبه وأهل فرقته الإمامية، حذو مجلة المشرق اليسوعية في تأييد الكاثوليكية، وقد كان كتب إلينا في 30 رمضان سنة 1927 رسالة ينكر فيها ما عزوناه إلى الشيعة من إباحة الجمع بين تسع نسوة (¬1) ، واستطرد فيها إلى الطعن في رسالة عالم من ثقات العلماء أرسلها إلينا من بغداد ذكر فيها بثَّ الشيعة لمذهبهم في بدو العراق، وهي الرسالة التي ذكرت في الفصل الأول من مقصد رسالتنا هذه، ولكنه ¬
تعريف موجز بما يسمى بالدعوة الوهابية في الحاشية
على شدة لهجته في الإنكار، لم يكن قد بلغ من شدة التعصب ما بلغه في هذه الأعوام، بل كان متحليًا بشيء يعتد به من الأدب والإنصاف، فقد افتتح رسالته بقوله: (كتابي إلى مولاي الأستاذ الحكيم، بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كتاب معجب بما له من الأيادي البيضاء في إصلاح الأمة ورفع (منار) الإسلام وإرشاد المسلمين إلى الطريق الأقوم والصراط السوي، بيد أني أعتقد أنه لا بد لجواد أن يكبو، وللصارم أن ينبو) . ثم ذكر المسألة التي أنكرها، وأحسن ما قاله في هذه الرسالة إنكاره نقل المخالف في المذهب، ووجوب أخذ أقوال كل طائفة من كتبها دون كتب المخالفين لها، وقوله في ذلك: (فإني رأيت كثيرًا ما ينسب السنة إلى الشيعة ما يتبرءون منه وما لم يوجد في كتبهم المعتبرة، وكذلك يفعل علماء الشيعة، وخذ لذلك مثالاً ما ينسبه أكثر المسلمين إلى الوهابية من المقالات الشنيعة والاعتقادات الفاسدة، ولو راجعنا كتبهم لألفيناهم
يتبرءون منها ولم يكن علاقتهم بها إلا كقول الشاعر: إنما أنت من سليمى كواو ... ألحقت في الهجاء ظلمًا بعمرو) . ثم استطرد بمناسبة الخطأ في النقل إلى الإنكار على رسالة ذلك العالم السائح التي أرسلها إلينا من بغداد، وذكر ما نشره من الرد عليها في مجلته العرفان. وقد نشرت رسالته هذه في (ج11م12 من المنار) مع تعليق بدأته بالشكر له على بيانه وذكرت فيه شدة كراهتي لعصبية المذاهب وختمتها بأن نشري لرسالة ذلك العالم السائح من باب النقل، وإن الناقل عدل ثقة عندي، ولكنه قد يخطئ ويصدق بعض الروايات الباطلة. فهكذا كنا وكان زميلنا وصديقنا من قبل صاحب مجلة العرفان المفيدة على عصبيتها في بث العلم والأدب، وهذا ما كان يصرح به من افتراء الناس على الوهابية وكذبهم في الطعن عليهم. ثم اشتدت حماسة الرجل وغلا في الرفض فصار يطعن فينا كلما سنحت له فرصة ولا سيما بعد ظهور دولة السنة التي يلقبها هو
زعيم الرافضة وعدو السنة
وأمثاله بالوهابية ويجعلون الوهابية (¬1) (أي السنة) مما لا يتفق مع الإسلام في عقائده ولا في أحكامه ويقر ما كان أنكره من الطعن فيهم وبرأهم منه. *** زعيم الرافضة وعدو السنة ثم انتهى أمره بالتنويه بالكتاب الجديد الذي لفَّقَه أشد علماء الروافض في هذا العصر تعصبًا وطعنًا في عقائد أهل السنة، وخداع عوامهم بما يبث من الدعوة إلى الرفض وما فيه من الخرافات والبدع، وهو الشيخ الملا السيد محسن أمين العاملي. أظهر ملاحدة الترك معاداة الإسلام والبراءة منه والطعن فيه وإجبار قومهم على الارتداد عنه فلم يظهر من هذا الشيخ العاملي أدنى غيرة عليه ولا أقل دفاع عنه. وظهر من ملاحدة إيران الشيعية وملاحدة الأفغان السنية بوادر الاقتداء بملاحدة الترك في شر ما عادوا به الإسلام وسعوا في هدمه، فلم نسمع عنه ولم نقرأ له كلمة إنكار ولا نصيحة ¬
الطريقة النقشبندية
لهؤلاء المغرورين الأغرار بأن يدعو لهذه الشعوب حريتها في دينها، وكذلك صاحب المجلة التي تنشر له دعوته وتنوه بكتابه (الشيخ عارف الزين) . بل فشا الكفر البواح، والفسق الصراح، وتهتك النساء وذهاب الأعراض أدراج الرياح، وكثر دعاتهما في سائر الأقطار الإسلامية، إلا نجد والحجاز واليمن، ولم نر منهم غيرة على الدين، ولا على أعراض المسلمين، وإنما ظهرت غيرتهما على الدين - بل الرفض المبين - لَمَّا أيد الله إمام السنة في هذا العصر (عبد العزيز آل سعود) ورأيا أن السنة تنفذ بالفعل وهياكل البدعة تُهْدَم في مهد الإسلام؛ فإن أكثر البدع والخرافات إنما جاءت من غلاة الشيعة وهم حُمَاتها ودُعَاتها وهي مرتزق زعمائها، وعليها مدار جاههم العريض، ومنهم سرت عدواها إلى طرق الصوفية الذين ينتسبون كلهم إلى آل البيت بالباطل إلا طريقتين من الطرق المشهورة وهي المَوْلَوِيَّة التي أيدها الترك مباراة للروافض، والطريقة النقشبندية الخفية التي ليس لها تقاليد ولا مظاهر بدعية، وإنما ينكر عليها
المجلسي: كتب أخبارنا مشحونة بالأخبار الدالة على كفر الزيدية! (حاشية)
المعتصمون بهَدْي السلف مسألة الرابطة والتزام الذكر غير المأثور. (¬1) *** سعينا للتأليف بين الوهابية والشيعة أَمَا - والله - إنني لم أكن أرى في طريق الدعوة إلى التأليف بين المسلمين عقبة يعسر اقتحامها إلا التقريب بين الشيعة ولا سيما غلاة الإمامية وأهل السنة السلفيين الملقبين بالوهابية ... وقد جرى بيني وبين جلالة الملك فيصل حديث طويل في هذه المسألة لما كنا في دمشق، وكان أهم غرض لي في مقابلته المعروفة بمصر سؤاله عن مبلغ خبرته في ذلك، وأما البحث في هذا بيني وبين أصحابي من عقلاء الشيعة والسنة في مصر وسورية وغيرهما فكثير، ومن ذلك ما كان من سعيي للتأليف بين الفريقين عندما سافر سفير دولة إيران السابق إلى مكة المكرمة للقاء ابن السعود وقد زودته بكتاب إليه في ذلك وحمل هو إليَّ من ابن السعود كتابًا بل كتبًا أخرى تتعلق بالمؤتمر الإسلامي العام، ولكن هذا السعي لم يثمر الثمرة المَرْجُوَّة، كما أثمر من قبله السعي إلى التأليف بين الإمامين الجليلين يحيى وعبد العزيز أحياهما الله وأعز بهما ¬
ليس بين مذهب الزيدية ومذهب السنة من البعد كما بين الروافض وأهل السنة
الإسلام والعرب. ذلك بأنه ليس بين مذهب الزيدية ومذهب السنة من البُعْد كما بين الروافض وأهل السنة (¬1) ، وقد كتبت إلى كل من الإمامين أدعوه إلى الاتفاق مع الآخر قبل فتح الحجاز بسنين، فأجاب كل منهما إلى ذلك بالارتياح والقبول، ودارت بينهما المكاتبات الودية في ذلك على ما طرأ من أسباب الخلاف، وما كان من سعي أهل الفساد لإلقاء العداوة والبغضاء بينهما وإغراء كل منهما بقتال الآخر، ونسأل الله تعالى أن يتم النعمة بنجاح ما نسعى له ويسعى له غيرنا من عقلاء المسلمين وأهل الغيرة منهم بعقد المحالفة التي تكون أقوى الوسائل لحفظ جزيرة العرب من التعدي على استقلالها، ولبلوغها أقصى ما هي مستعدة له من العمران وإحياء حضارة الإسلام. ولما رأيت ما رأيت من سوء أمر مؤتمر النجف لشيعة العراق، ومن أمارات نشر الإلحاد في إيران والأفغان، ومن تجديد الشيخ العاملي في تواليفه والشيخ عارف الزين في مجلته ¬
الطعن في السنة وتنفير المسلمين من دولتها الوحيدة في إقامتها ونصرها (¬1) ، ومن بث الرفض والخرافات بين المسلمين، رأيت من الواجب عليَّ أن أظهر للمسلمين ما يخفى على جمهورهم من الحقائق التي لم يكن العاملي ولا الزين يعلمان بوقوفي عليها لعلهما يفيئان إلى أمر الله، فكتبت الفصول التالية بهذه النية و (إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى) . وكنت عند البدء بالكتابة عقب اطلاعي على كتاب العاملي الجديد وما فيه الطعن الباطل في السنة باسم الوهابية، وفي شيخ الإسلام المصلح الكبير ابن تيمية، ومن تشريفي بطعنه فيَّ وبهتانه عليَّ، كنت عند البدء بذلك عازمًا على الاختصار، والاكتفاء بما ينشر في المنار، ثم جاءتني مجلة العرفان، فإذا هي بعد اطلاعها على الفصل الأول في المنار قد أسرفت في البهتان، والبغي والعدوان، والشتم والسب والكذب والإفك فرأيت من الواجب في نصر السنة ودفع البدعة، أن أتوسع في الكتابة، ونشر ما أكتبه في رسالة أو رسائل مستقلة. ¬
نبأ عقد المؤتمر الإسلامي في الرياض عاصمة نجد
ثم جاءتني بعد ذلك جريدة أم القرى حاملة تفصيل ذلك النبأ العظيم، نبأ عقد المؤتمر الإسلامي في الرياض عاصمة نجد، الذي هو الحجة الكبرى على انفراد حكومة ابن السعود بإحياء حكومة الخلفاء الراشدين في الأرض، فشحذ ذلك غرار عزمي على نصرها وشد أزرها، ومجاهدة أعداء الله ورسوله من الطاعنين فيها، وفي هذا العصر الذي نرى الحكومات الأعجمية تفضل شرائع أعدائهما على شريعتهما، وفسادهم على إصلاحها والإلحاد على دين الله وهو الإسلام، والعصبية العمية على الوحدة وجماعة ملة محمد عليه الصلاة والسلام. وإنني أعتقد اعتقادًا جازمًا بما تيسر لي من الاختبار الطويل بأن هذه الخرافات والبدع التي كان التشيع مثارها الأعظم ستقضي على الإسلام إن لم يقض المصلحون عليها، وإن سيرة ملاحدة الترك في الصد عنه برهان على ذلك فإنهم يصورون لعامة أهل بلادهم تلك الخرافات الفاشية في الأولياء والصالحين بأقبح الصور المنفرة. ومن ذلك: أنهم نبشوا بعض قبورهم وأروا الناس بأعينهم رميم عظامهم، وعجزهم على
ما يدعيه فقهاء الشيعة الجامدين، من تلقي الدين والفتوى من سرداب سامرا
الدفاع عن أنفسهم وعن مراقدهم ... وطالما صرَّح المنار بإثبات فنائهم وأكل الأرض لأجسادهم وشرك الذين يدعونهم كما يدعون الله تعالى لجلب النفع لهم ورفع الضر عنهم. وإنني أدعو عقلاء المسلمين كافةً، والمخلصين في إسلامهم من عقلاء الشيعة المعتدلين خاصةً: أن ينهضوا معنا نهضة جريئة لإحياء عقيدة التوحيد الخالص، والقضاء على عبادة الميتين، من أئمة أهل البيت الطاهرين، من سائر الأولياء الصالحين. (¬1) وعن التمسك بما يدعيه فقهاء الشيعة الجامدين، من تلقي الدين والفتوى من سرداب سامرا حيث اختبأ المهدي المنتظر (¬2) ؛ فإن هذا التشريع لا يقبله أحد من عقلاء البشر، ومن بيَّن لي أنني على خطأ فيما دعوت إليه بالدليل فإنني أرجع إلى قوله من قريب {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) . ¬
المنار مج 32 ص 683: ((الاتفاق والتعاون يتعذر مع سوء ظن كل منا بالآخر))
دعاية الرفض والخرافات والتفريق بين المسلمين ومُوقِدُ نارها الشيخ محسن الأمين العاملي خطة المنار في التأليف بين المسلمين يعلم جميع قراء المنار والمطلعين، وكذا الواقفون على النهضة الإصلاحية التي قام بها منشئه على أساس الوحدة الإسلامية منذ ثلاثين سنة أو أكثر أنه كان من سيرته في مجاهدة البدع والخرافات التمثيل لها بما فشا منها بين أهل المذاهب المنسوبة إلى السنة دون ذكر أهل مذاهب الشيعة وغيرهم؛ لئلا يتهمه المتعصبون من هؤلاء بالتعصب، وإن كان يصرح دائمًا ببناء دعايته على أساس نصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف
نشر رسالة (سنة 1326) للشيخ محمد كامل الرافعي حول قيام الشيعة بدعوة الأعراب للتشيع بإحلال المتعة النكاح لمشايخ قبائلهم
الصالح وعدم التقيد فيها بمذهب من المذاهب، بل مع تصريحه بما يعتقده من أن التعصب لأي مذهب منها مناف للوحدة الإسلامية ومخالف لنصوص القرآن. وقد اشتهرت قاعدته الذهبية التي دعا إليها علماء المذاهب كلها، وهي نتعاون فيما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما تختلف فيه، وندعو علماء كل طائفة وأهل كل مذهب لمقاومة البدع الفاشية فيهم؛ لتكون دعوتهم أقرب إلى القبول. (¬1) وقد وافقنا على دعوتنا هذه كثيرون من أهل السنة المستقلين والمقلدين للمذاهب ولكننا لم نر أحدًا من علماء الشيعة نصرنا عليها بالكتابة، وإنما استحسنها بعض المنصفين فيما شافهونا به (كالسيد الشهرستاني النجفي والسيد عبد الحسين العاملي والمرحوم الشيخ محي الدين عسيران) على أننا لم نسلم من شر متعصبيهم، فقد نشرنا مرة رسالة في أول المجلد 16 من المنار (سنة 1326) لصديقنا العلامة المرحوم الشيخ محمد كامل الرافعي من بغداد كتبها في أثناء سياحته ¬
يذكر فيها قيام علماء الشيعة بدعوة الأعراب إلى التشيع، واستعانتهم على ذلك بإحلال متعة النكاح لمشايخ قبائلهم الذين يرغبون في الاستمتاع بكثير من النساء في كل وقت. ولما نشرنا تلك الرسالة في المنار علقنا عليها تعليقًا رجونا أن يحول دون تعصب الشيعة واحتمائهم علينا ورمينا بضد ما نقوم به من التأليف والتوحيد، فقلنا: ((إن تعليم الإعراب الجاهلين مذهب الشيعة في العبادات والحلال والحرام خير من بقائهم على جهلهم المعهود، وحصرنا توجيه انتقاد الكاتب في وجهته السياسية، وهي ما كان يشوب تلك الدعاية من التنفير من الدولة العثمانية والتحبيب في الدولة الإيرانية إلخ ولم ننشر اسم الكاتب يومئذ لئلا توذيه الحكومة الحميدية لما هو معلوم من حالها)) . نشرنا هذا في المنار فلم نجد أحدًا منهم هاجه واحتمى عليه إلا هذا المتعصب الجامد على الرفض (¬1) الشيخ محسن ¬
تفاوت موقف الشيعة الاثنى عشرية من قضية الاجتهاد
الأمين العاملي على خلاف ما نَقَلَ لنا بعض الناس عنه من إظهار الإنصاف في مجالسه مع علماء السنة من باب التقية، فألف رسالة سماها (الحصون المنيعة، في الرد على ما أورده صاحب المنار في حق الشيعة) لم يكن في تأليفها محسنًا في الرد، ولا أمينًا في النقل، ولكنها فرصة اغتنمها لبث أمرين: (أحدهما) فيما ارتأيت في ذلك التاريخ صَدّ نابتة الشيعة في جبل عامل وغيره عن المنار؛ إذ كانت قد أثرت فيهم خطته الإصلاحية ودعوته إلى الاستقلال في فهم الدين من الكتاب والسنة وترك التقليد وعصبية المذاهب فيه، والشيعة أشد الفرق في ذلك حتى الذين يسمونهم المجتهدين منهم، ويفتخرون على أهل السنة بأنهم هم الذين يأخذون بالاجتهاد الذي أقفل بابه أهل السنة، ومن المعلوم ببداهة العقل أن الاجتهاد الحقيقي الذي هو الاستقلال بأخذ الدين من ينابيعه ينافي التمذهب بمذهب معين. (¬1) ¬
بعض شبه الشيعة لنكاح المتعة
) الأمر الثاني) بث مذهب الشيعة بين أهل السنة وترجيحه على مذهب السنة، وجعل مسألة متعة النكاح حجة على هذا الترجيح، فأطال فيها بغير طائل. أرسلت إليَّ هذه الرسالة عقب صدورها فلم أشأ أن أرد على أباطيلها لسببين: (أحدهما) مخالفة ذلك لخطتي في التأليف بين فرق المسلمين؛ لأن المجادلات في الانتصار للمذاهب تذكي نار التعصب والشقاق بين أهلها. (وثانيهما) أن صاحبها لا يستحق أن يرد على مثله؛ لأنه لا يطلب الحق في المناظرة كما هو شأن المقلدين، ولا سيما المتعصبين الغلاة مثله، فمناظرتهم تضر ضررًا لا يقابله منفعة استبانة الحق لهم فيرجى رجوعهم إليه. وكيف يرد مثلنا من المستقلين ودعاة التأليف على من يستدل على صحة المتعة بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (النساء: 24) (¬1) فيزعم أن لفظ الأجور لا يصح أن ¬
إرسال القاسمي كتاب العاملي إلى الألوسي
يكون بمعنى المهور؛ لأنه لم يرد في لغة القرآن بهذا المعنى وإنما سماها القرآن الصدقات (بضم الدال) وزعمه هذا يدل على أحد أمرين: إما الجهل بالقرآن ولغته، وإما تعمد تحريفه وقد يجتمعان، فقد قال الله تعالى في سورة الممتحنة في المؤمنات اللواتي يتركن أزواجهن المشركين ويهاجرن إلى المدينة {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الممتحنة: 10) . وقال تعالى بعد ذكر حل طعام أهل الكتاب من سورة المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (المائدة: 5) . (¬1) وإنني لما حررت الدلائل في مسائل متعة النكاح في تفسير سورة النساء من جزء التفسير الخامس وتعرضت لخلاف الشيعة فيها قلت في آخر البحث ما نصه (وهو قد كتب بعد تأليف تلك الرسالة) : ((ولا سعة في هذا التفسير لهذه المباحث بل أخشى أن ¬
أكون خرجت بهذا البحث عن منهاجي فيه وهو الإعراض عن مسائل الخلاف التي لا علاقة لها بفهم القرآن والاهتداء به، وعن الترجيح بين المذاهب الذي هو مثار تفرق المسلمين وتعاديهم، على أنني أبرأ إلى الله من التعصب والتحيز إلى غير ما يظهر لي أنه الحق، والله عليم بذات الصدور)) إلى أن قلت: ((فإن اطلعنا بعد ذلك على روايات أخرى للشيعة بأسانيدها فربما نكتب في ذلك مقالاً تمحص فيه ما ورد من الطريقين ونحكم فيه بما نعتقد من قواعد التعارض والترجيح وننشر ذلك في المنار)) . اهـ وقد أرسل علامة الشام المستقل الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى رسالة العاملي في أثناء نشرها إلى علامة العراق المستقل السيد محمود شكري الألوسي رحمه الله تعالى وسأله عن رأيه فيها فأجابه برسالة تتضمن الرد الشديد عليها وتجهيل مؤلفها، وقد اطلعنا على هذا الرد، ولم نشأ أن ننشره لما تقدم بيانه. (¬1) ولكن العاملي الرافضي المتعصب عاد في هذه الأيام إلى ¬
تفسير الكاظم {وأن المساجد لله} أي الإمام لله
ما هو شر مما كتبه في تلك الرسالة؛ لأن حرية الطعن والتفريق في ظل الحكومة الفرنسية أوسع مما كان في عهد دستور الدولة العثمانية، فألف كتابًا كبيرًا استغرق خمسمائة صفحة في هذا الموضوع جعل عنوانه الرد على الوهابية، ودس فيه ما يبغي من الدعاية الرافضية، وإثبات الخرافات القبورية، والطعن في صاحب المنار لا فيما نشره مما يخالف مذهبه وتقاليده فقط، بل طعن في شخصه ونقل ما كتبه شاب إيراني فرمسوبي (¬1) متعصب للدولة الإيرانية ولمذهبها لأنه مذهبها!! في بعض الجرائد من الطعن الشخصي فيه والافتراء عليه بضد الواقع، ولا سيما في مسألة الشريف حسين وأولاده والاتحاديين فقد زعم أننا كنا نمدح الشريف في وقت عزه وملكه، وزهدناه بعد فقده (¬2) ، وهذا كذب وبهتان، كما يعلم جميع المطلعين على المنار، كزعمه أن فيصلا هو الذي عين صاحب المنار رئيسًا للمؤتمر السوري العام في دمشق وكل الناس يعلمون كالشيخ العاملي أن المؤتمر انتخب صاحب المنار لرياسته انتخابًا، وأنه ما كان لفيصل أن يعينه تعيينًا. ¬
تفسير المؤلف لقوله تعالى {أولئك الذين يدعون}
طالبني بعض أهل السنة بالرد على هذا الكتاب وقد تصفحت أهم مسائل أبوابه في زهاء ثلاث ساعات فرأيت فيها من الكذب في النقل أو الاقتصار منه على ما يوافق هواه ومن الدعاوي الباطلة والكلم المحرف عن مواضعه وتأويل النصوص القطعية ما يبخل الحريص على وقته أن يقرأه كله فكيف يضيعه في الرد على كل ما فيه من الباطل؟ ولكن في نشر هذا الكتاب ضررًا عظيمًا وإفسادًا كبيرًا لعقائد المسلمين كافة وعقائد أهل السنة خاصة؛ لما فيه من الشبهات الكثيرة الصادرة في صور الأدلة على عبادة موتى الصالحين بالدعاء وغيره وتحريف نصوص القرآن الصريحة في منع ذلك كقوله تعالى: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (¬1) (الجن: 18) وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) وقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (الإسراء: 57) أي أولئك الذين يدعونهم من دون الله توسلاً بهم إليه هم يبتغون الوسيلة والقربى إلى الله {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء: 57) أي ¬
مناظرة بين العالمين الشيعي والسلفي المستقل في "المنار"
يبتغي ذلك أقربهم إلى الله كالمسيح عليه السلام والملائكة فكيف من دونهم؟ (¬1) كما أنه يرد بعض الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك؛ لأنها من رواية أهل السنة، أو يحرفها بالتأويل. وما أضعف المسلمين في دينهم ودنياهم شيء كما أضعفهم وأفسدهم الاتكال على الميتين في قضاء حاجاتهم ومصالحهم ودفع الأذى عنهم، فهذا مما يضر أهل السنة والشيعة، ولا سيما في هذا العصر، وهو يوهم الفريقين أنه من الإسلام وأنه لم يخالف فيه أحد منهم إلا الوهابية، مع أنه لم يقل به أحد من أئمتهم لا أئمة أهل البيت كالصادق والباقر ولا أئمة الأمصار الآخرين كالأربعة رضوان الله عليهم أجمعين، بل النصوص عن أئمة أهل البيت عليهم السلام موافقة للأحاديث الصحيحة من منع هذه البدع الخرافية كما يعلم من المناظرة بين العالمين الشيعي والسلفي المستقل التي نشرناها في المجلد الثامن والعشرين من المنار. (¬2) ومثال ما يضر أهل السنة وحدهم ما صوَّره الرافضي المتعصب في رسالته وكتابه لهم من أن أصول الدين والفقه عند الشيعة ¬
الفرق بين السني والشيعي
وأهل السنة واحدة، وإنما الفرق الوحيد بينهما مسألة حب آل بيت الرسول عليه وعليهم السلام وموالاتهم والاحتجاج بما رواه أئمتهم عنه وما اجتهدوا فيه وهو ما نبينه فيما يلي مع الإشارة إلى دسيسته فيه. *** الفرق بين السني والشيعي يزعم الشيخ العاملي في الفرق بين السني والشيعي أن أصول أهل السنة والشيعة في العقائد والأحكام واحدة، وأن الخلاف بينهما هو كالخلاف بين فقهاء السنة، وإنما يمتاز الشيعة بأنهم هم الذين (يوالون ويتتبعون أهل البيت الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرًا، الذين دخلوا مدينة العلم النبوي من بابها وتمسكوا بالثقلين كما أمرهم نبيهم) . وهو يكرر هذا القول الذي نقلناه من آخر كتابه الجديد وقد قال بعده: (وهم مسلمون يقرون الله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة ويلتزمون
بجميع ما جاء به من عند ربه مما اتفق عليه جميع المسلمين (¬1) ويرجعون فيما اختلفوا فيه إلى أقوال الأئمة الذين إن لم يكونوا فوق الأئمة الأربعة وفوق ابن عبد الوهاب في العلم فليسوا دونهم) . وقد ذكر في مقدماته فصولاً في أصول الدين التي هي دلائل الأحكام يوهم قارئها من غير علماء السنة أنها اتفاقية، وفيها ما سنشير إليه من الدسائس. وقد سبق له تفصيل للتفرقة بين الطائفتين في رسالته (الحصون المنيعة) ذكر فيها أن المسلمين كانوا في أول الإسلام (فرقة واحدة حتى قتل الخليفة الثالث وبويع الخليفة الرابع فلم يجد أعداؤه وسيلة إلى هدم خلافته والقدح فيه أقوى من نسبة قتل الخليفة الثالث إليه، فسعوا في ذلك جهدهم حتى تمكنوا من إقناع جم غفير من المسلمين بذلك وتهيأ لهم بما دبروه من الحيلة أن يقسموا المسلمين فرقتين فسميت إحداهما علوية والأخرى عثمانية، ونالوا ¬
مجلة المنار: ((وجهت العداوة الشيعية إلى أهل السنة خاصة)) "حاشية"
بذلك ما أملوه من الملك وقهر علي بن أبي طالب وأولاده الذين هم أعدى أعدائهم ويخافون منازعتهم في الملك ولهم عندهم ثارات بدر وغيرها، ولم يكتفوا بهذا حتى أمروا بِسَبِّ علي بن أبي طالب على جميع منابر الإسلام) (ص9 و10) . وبعد إطالته في وصف هذه العداوة مدة ملك بني أمية وجملة من ملك بني العباس الذين قال فيهم: (إنهم لم يكونوا أقل تشددًا في قهر العلويين وإيذاء من ينسب إليهم من الأمويين حتى قل المنتسبون إلى أهل البيت بالنسبة إلى غيرهم وتستروا واختفوا خوفًا على دمائهم وكثر المائلون إلى الأمويين والعباسيين والمتقربون منهم رغبًا أو رهبًا) . وذكر أن أهل البيت كانوا يخفون علومهم ثم أظهروها في آخر مدة ملك بني أمية وأول ملك بني العباس لقلة الضغط، فظهر مذهب أهل البيت في عهد الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق الذي نسب إليه مذهب الشيعة في الفروع. (¬1) قال: (ثم صار المنتسبون إلى أهل البيت عليهم ¬
خلو كتاب الله النص على الوصية لعلي بالإمامة هو الأمر الذي أقلق الشيعة
السلام يعرفون بالشيعة وغيرهم بالسنة ونسخ اسم العلوية والعثمانية) (ص12) . أقول: إن هذا التفصيل هو غير الحق، وغير ما يعتقده الشيعة من أصل نحلتهم أيضًا، وهو صريح في أن أعداء أهل البيت النبوي الذين كانوا يسمون العثمانية هم الذين صاروا يسمون أهل السنة، فالشيخ محسن العاملي هذا وأمثاله يطعنون في أهل السنة بمثل هذا القول الباطل؛ فإن جميع أهل السنة يقولون بأن عليًّا رضي الله عنه هو الإمام الحق بعد عثمان وأن معاوية كان باغيًا عليه، ويخدعون به مسلمي هذا العصر بجذبهم إلى التشيع لعلمهم بأنهم يحبون أهل البيت جميعهم الحب الصحيح المعتدل وبعضهم يغلو فيهم كلهم كما يغلو الشيعة في بعضهم، فهم يجذبونهم إلى المذهب بهذه الدعوى الباطلة (¬1) ، كما دافع هو والشاب الإيراني عمن انتقد عليهم بث نزغة التشيع من الحضارمة وجعلهم من الروافض مثله على تصريحنا في المنار بأنهم لا يدعون إلى مذهب الإمامية ولا الزيدية بل يقولون: إنهم شافعية سنية! وإنما يدعون إلى الغلو في تعظيم العلويين والخرافات بما أدى إلى النفور منهم ¬
ومقاومة الجماهير لهم، ولا سيما جمعية الإرشاد، ونحن إنما انتقدناهم غيرة عليهم وعلى الدين الصحيح. ثم ذكر هذا الداعية عقب ما تقدم أصول فقه أهل السنة والشيعة إجمالاً، ومنه انفراد الشيعة بأقوال أهل البيت وما استقل العقل بحسنه أو قبحه، وذكر بعد ذلك كثيرًا من علمائهم ومصنفاتهم بما لا يخلو من بحث ونظر، وهو قد وضح أصول الأحكام الدينية ومآخذ الأدلة في كتابه الجديد فنشير إلى بعض الدسائس في كلامه لا للرد عليه، فإن مثله لا يُنَاظَر، ولكن ليعرف أهل السنة دسائسه ولا يَغْتَرُّ غير الواقف على أصول الدين منهم بكلامه الموهم. 1 - قال في ص 82 (الكتاب كلام الله المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم وهو قطعي السند؛ لاتفاق المسلمين كافة على أن ما بين الدفتين مُنَزَّل منه تعالى) . ونقول: لكن رافضة الشيعة يزعمون أن ما بين الدفتين ليس كل كلام الله تعالى، بل حذف منه الصحابة بعض الآيات وسورة الولاية أي ولاية علي عليه السلام (¬1) ، ويزعمون أن عليًّا كتبه من نسخة كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم خصَّه بها وأمره أن يكتبه ¬
المهدي يأتي بأمر جديد وقرآن جديد
منها، وهو المعصوم دون سائر الصحابة من الخطأ فلم يقبلوها منه، وينقلون عن أئمة أهل البيت أكاذيب في القرآن وتحريف الصحابة رضي الله عنهم له لعلها مما قال العاملي: إنهم كانوا يكتمونه عن الناس ويخصون به الثقات من محبيهم، ولبعض علماء القرن الماضي منهم كتاب سماه (فصل الخطاب، في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) (¬1) ينقل عن كتبهم وأئمتهم الأباطيل في ذلك ويقولون: إن القائم المنتظر وهو عندهم محمد المهدي بن الحسن العسكري المختبئ منذ ألف سنة ونيف في السرداب من بلدة سامرا (سُرَّ مَن رأى) سيظهر القرآن الصحيح التام. وقد ذكر في الكلام على السنة والأخبار النبوية أن البابية يحتجون على ضلالتهم بخبر المهدي يأتي بأمر جديد وقرآن جديد (¬2) ونقول: إن هذا الخبر لا وجود له في كتب الأحاديث المروية عند أهل السنة والجماعة فلا بد أن يكون من أخبارهم هم، وهو إنما يخطئ البابية في الاستدلال به على أن المهدي هو زعيمهم الباب، لا في رواية الخبر نفسه؛ لأنه ذكر ذلك في سياق استدلال ¬
توجيه معنى عبارة: (إن القرآن ذو وجوه)
كل طائفة من الأخبار كالآيات على نِحْلَتِهَا لاحتمال الألفاظ لذلك بالتأويل الذي هم فرسان ميدانه. 2 - إنه عرَّف السنة بقوله: (السنة قول المعصوم أو فعله أو تقريره) ويتوهم من لا يعرف عقائدهم أن هذا التعريف موافق لما عليه علماء أصول الفقه من أهل السنة أنها أقوال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، بناء على اعتقادهم أنه هو المعصوم في هذه الأمة؛ إذ لا عصمة عند أهل السنة لأحد من البشر إلا الأنبياء عليهم السلام، ولكن الشيعة يقولون بعصمة أئمة أهل البيت، ويقولون بأن العصر لا يخلو من معصوم كما صرَّح العاملي به في تعريف الإجماع من كتابه هذا. (¬1) وليعلم القراء أن السنة المُرَادة بقول العلماء (أهل السنة والجماعة) في مقابلة أهل البدع كالروافض والجهمية هي السيرة العملية التي كان عليها المسلمون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وصدر الإسلام قبل ظهور البدع، ومن ذلك قول علي كرم الله وجهه لابن عباس رضي الله عنهم حين أرسله لمُحَاجَّة الخوارج: (احملهم على السنة، فإن ¬
تعليق مهم غاية: حول أصول الدين
القرآن ذو وجوه) (¬1) يعني أنهم يتأولونه بغير المراد منه، وأما السنة بمعنى السيرة العملية فلا يمكن تأويلها (¬2) ، ولكن الشيعة لا يحتجون بها. 3 - من أصول الدين المهمة (¬3) عندهم مسألة الإمامة العظمى ويزعمون أن ثبوتها بالنص كما صرَّح به هو وغيره وأن النبي صلى الله عليه وسلم نص في يوم (غدير خم) على إمامة علي عليه السلام ووصى له بها، وأن جمهور الصحابة عصوا نبيهم وخالفوا عن أمره حبًّا في الرياسة فجعلوها باختيار أهل الحل والعقد، ولما كان الزعيمان الأكبران الأعظمان في الصحابة أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما) هما اللذين استأثرا بهذا الأمر كانا أعدى أعدائهم، وكان من شعارهم لعنهما ويلقبون الأول بالعجل والثاني بالسامري (¬4) . بل صرَّح بعض علمائهم بأنهما قد ارتدا عن الإسلام هما وجمهور الصحابة الذين وافقوهم، وزعموا أن عليًّا كرَّم الله وجه لم يبايعهما إلا تقية وحاشا بطل الإسلام أشجع الشجعان وأزهد الزهاد من هذا النفاق المسمى بالتقية، وأنت ترى هذا الرافضي وأمثاله من غلاة الشيعة لا يطلقون الترضي عن الصحابة بل يقيدونه بمثل قوله في أول ¬
الشيعة يزعمون الرد على الوهابية ومرادهم بذلك التوسل للطعن في عقائد سلف الأمة
كتابه (وصلى الله على سيدنا محمد وآله وخيار أصحابه وسلم) ويعني بخيار أصحابه شيعة علي كسلمان الفارسي وعمار والمقداد رضي الله عنهم أجمعين. وليعلم القارئ أنه كان من الصحابة والتابعين من يرون أن عليا كرم الله وجهه أحق بالإمامة العظمى من غيره ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أن ولاية غير الأولى والأحق غير جائزة ولا أن الشيخين العظيمين وركني الإسلام الركينين قد ارتدا عن الإسلام أو ضلا عن صراطه المستقيم، وكذلك أكثر من كانوا يفضلون عليًّا على غيره من علماء القرون الأولى ويطلق هو وغيره عليهم لقب الشيعة. ومن المعلوم لجمهور (¬1) المتعلمين في هذا الزمان أن للبشر من جميع الأمم نظريتين في الولاية العامة والملك: (أحدهما) أن ¬
الحق فيها لاختيار الأمة الذي يعبر عنه في عرف هذا العصر بالديمقراطية، وهي المرجحة عند جميع أمم المدنية، وقد سبقهم إليها المسلمون بإرشاد القرآن في قوله عز وجل: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وإنما خالف فيها الشيعة ذاهبين إلى النظرية الثانية، وهي أن الحق فيها لشرفاء الأمة ذوي الأنساب والأحساب ولكنهم يزعمون أنهم يتمسكون فيها بنص نبوي بل يزعم المجازفون منهم أنها كانت منصوصة في القرآن فأسقط جمهور الصحابة ذلك النص كما تقدم. وبناءً على هذه النظرية يقاوم الروافض الإمام عبد العزيز بن سعود ملك الحجاز ونجد (¬1) تعصبًا لمذهبهم على مذهب أهل السنة الذي يقيمه ابن سعود إقامة لم يسبق لها نظير بعد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ولكن العاملي يطعن فيه وفي قومه ملقبًا إياهم بالوهابية ومدعيًّا أنهم مخالفون لجميع المسلمين الذي لا فرق بين سنيهم وشيعيهم بزعمه إلا حب آل بيت الرسول وولايتهم ¬
الشيخ يوسف بن عيسى القناعي مقارنا بين فترة حكم الأشراف وفترة حكم الملك عبد العزيز آل سعود "حاشية"
والاهتداء بعلمهم، ومراده بذلك التوسل للطعن في عقائد سلف الأمة وهديهم، وفي مذهب إمام أئمتها وأستاذ أعظم حفاظها أحمد بن حنبل رضي الله عنه فهو يقول (مثلاً) : ((إن الوهابية يكفرون تارك الصلاة)) ويرد عليهم، وهذا مذهب الإمام أحمد كما هو مشهور ومنصوص في كتب الفقه من قبل وجود الوهابية، وقد ظهر لجميع العالم بطلان استدلاله على جواز منع إيران للحج بأن فيه خطرًا على حياتهم وحريتهم من ملك الحجاز. ألا تراه على افترائه الكذب في طعنه بالوهابيين راضيًا بأعمال الشريف حسين وأولاده ومدافعًا عنهم، فالشريف عبد الله بن حسين الذي اقتطع بخداع أخيه الشريف علي أهم منطقة حربية غنية من أرض الحجاز وجعلها تحت سلطة الإنكليز، وهو يجبر أهل البلاد التي تولى إمارتها على إقرار المعاهدة المخزية التي عقدها معهم (¬1) ، وكذلك السيد تاج الدين الحسني رئيس حكومة سورية الحاضر هما أفضل وأحق بنسبهما بالحكم من جميع الوطنيين الذين اشتهروا بخدمة أمتهم ووطنهم وجاهدوا ¬
في سبيلها بأموالهم وأنفسهم. نكتفي الآن بهذا التنبيه العام للمسلمين في مقابلة الدعاية الخرافية التي نشط لبثها فيهم الملا محسن العاملي، ونقفي عليها بالرسالة الوجيزة التي كتبها علامة العراق المرحوم السيد محمود شكري الآلوسي إلى علامة الشام المرحوم الشيخ جمال الدين القاسمي مع حذف بعض العبارات القاسية التي فيها، ننشرها الآن للضرورة التي أشرنا إليها، وليعلم بعض ما عندنا أولئك الذين يتوخون الاعتدال في الدعاية الشيعية والرد على مخالفيها كزميلنا الفاضل (صاحب مجلة العرفان المفيدة في بث العلم والأدب الذي عرض بالانتقاد علينا مرارًا ويطلب من علماء الشيعة المنصفين أن يبينوا لنا ما يرونه فيها وفيما كتبناه من خطأ بالدليل والبرهان لنعترف لهم به {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) . ***
رد السيد الآلوسي على حصون العاملي الرافضي
رد السيد الآلوسي على حصون العاملي الرافضي صورة الكتاب الذي أرسله علامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي إلى علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي في الرد على صاحب رسالة (الحصون المنيعة فيما أورده صاحب المنار في الشيعة) وشنعهم القبيحة (والعناوين للمنار) . بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة العالم الأوحد، والعلم المفرد، فخر هذا الزمان، والمشار إليه بالبنان، الأخ الأكمل، والخل المفضل، جمال الدنيا والدين، وبهجة الإسلام والمسلمين، جناب السيد جمال الدين أفندي القاسمي كان الله تعالى له، وأناله من الدين ما أمله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فلم أزل أتشرف بألطافكم العلية، وتتوارد على المخلص نعمكم السنية، فأتضرع إلى الله تعالى وأسأله أن يجزيكم عني خير الجزاء. قبل هذا وصل إلي كتاب (النصائح الكافية) فرأيت مصنفه ممن اتبع هواه، ولم يراقب مولاه، وفي هذه الأيام وردني كتاب (الحصون المنيعة) فلما طالعته وجدته أيضًا كتابًا دل دلالة صريحة على أن مصنفه من المتعصبين في الرفض، المغالين في البغضاء للسنة النبوية، ورأيت الإعراض عن كلا الكتابين هو الحزم، فإنا لو رمينا … وأظن أن المقالة التي في (المنار) حررها الشيخ كامل أفندي الرافعي فقد مر عند ذلك التاريخ على العراق واجتمعنا به وسررنا بملاقاته حيث كان سلفي العقيدة منور الفكر، فكتب ما كتب عما رأى من أحوال رافضة العراق، ومن العجب أن الرافضي ادعى أن فرقته أطوع الناس للحكومة مع أن سيفها لم يزل على رقابهم، ولم يمض يوم من الأيام
مواجهة الدولة العثمانية عدة تمردات من قبل الشيعة"حاشية"
إلا والحرب معهم قائمة على سيفها، فكم ألجئوا الحكومة إلى خسائر أموال ونفوس. وجميع القبائل الذين ترفضوا هم أعدى الناس لدولة الإسلام (¬1) ، وفي هذا الأسبوع ورد تلغراف يخبر عن هجوم جمع منهم على شطرة المنتفق وقتلهم جمعًا من الضباط وعددًا كثيرًا من الأفراد، وحروبهم في العمارة شهيرة، وكذلك قبائل الديوانية والنجف والسماوة وكربلاء لم يزالوا قائمين على ساق الحرب مع الحكومة، واختلال العراق دائمًا إنما هو من الإرفاض (¬2) ، فقد تهرى أديمهم من سم ضلالهم، ولم يزالوا يفرحون بنكبات المسلمين حتى إنهم اتخذوا يوم انتصار الروس على المسلمين عيدًا سعيدًا، وأهل إيران زيَّنوا بلادهم يومئذ فرحًا وسرورًا (¬3) ولو بسطنا القول في هذا الباب وذكرنا حروبهم ومخازيهم ¬
إنكار نسب بعض العترة وتعليق في الحاشية
لاستوجب إفراد مجلد كبير، والمنكر لذلك كالمنكر للشمس رأد الضحى. *** بغض الروافض لبعض أهل البيت وأعجب من ذلك دعوى الرافضي حب أهل البيت والعمل بعلومهم والأخذ بالكتاب والسنة. إن الروافض كاليهود يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض؛ وذلك لأن العترة بإجماع أهل اللغة تقال لأقارب الرجل. (¬1) وهم ينكرون نسب بعض العترة كرقية وأم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬2) ولا يعدون بعضهم داخلاً فيها كالعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أولاده (¬3) ، وكالزبير ابن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬4) ويبغضون كثيرًا من أولاد فاطمة رضي الله عنهما بل يسبونهم كزيد بن علي بن الحسين وقد كان في العلم والزهد على جانب عظيم (¬5) ، وكذا يحيى ابنه فإنهم أيضًا يبغضونه، وكذا إبراهيم (¬6) وجعفر ابنا موسى الكاظم رضي الله عنهم (¬7) ، وقد لقبوا الثاني بالكذاب مع أنه كان ¬
الطعن في سائر بني الحسن بن علي
من أكابر الأولياء، وعنه أخذ أبو يزيد البسطامي، ولقبوا بالكذاب أيضًا جعفر بن علي أخا الإمام الحسن العسكري (¬1) ويعتقدون أن الحسن بن الحسن المثنى وابنه عبد الله المحض وابنه محمد الملقب بالنفس الزكية ارتدوا - حاشاهم - عن دين الإسلام. (¬2) وهكذا اعتقدوا في إبراهيم بن عبد الله وزكريا بن محمد الباقر ومحمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن ومحمد بن القاسم بن الحسن ويحيى بن عمر الذي كان من أحفاد زيد بن علي بن الحسين، وكذلك في جماعة حسنيين وحسينيين كانوا قائلين بإمامة زيد بن علي بن الحسين، إلى غير ذلك مما لا يسعه المقام. وهم حصروا حبهم بعدد منهم قليل، كل فرقة منهم تخص عددًا وتلعن الباقين، هذا حبهم لأهل البيت والمودة في القربى المسئول عنها، على أن الحب ليس عبارة عن لطم الخدود وشق الجيوب وهتك سادة الأمة في كل عام. وما أحسن ما قال الأخرس في ذلك: هتكوا الحسين بكل عام مرة ... وتمثلوا بعداوة وتصوروا ¬
زعم الرافضة تحريف القرآن
ويلاه من تلك الفضيحة إنها ... تطوى وفي أيدي الروافض تنشر {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) وأين أهل الابتداع من الاتباع. *** زعم الرافضة تحريف القرآن ادعوا أنهم أخذوا دينهم من الكتاب والسنة وأقوال العترة، كذبوا والله في ذلك فإن الكتاب الكريم مُحَرَّفٌ بزعمهم قد أسقطوا منه نحو ثلثه كما صرَّحت بذلك كتبهم فلا يعبئون به ولا يعرجون عليه ولا يقيمون له وزنًا، وإنه مخلوق لا ينزهونه، هذا شأن الكتاب لديهم، وأما السنة فعندهم أن الصحابة ارتدوا جميعًا عن دين الإسلام إلا سلمان وعددًا يسيرًا معه لا يبلغون العشرة بسبب عدم قيامهم بنص الغدير على زعمهم. (¬1) *** ¬
الكتب المعتمدة عند الشيعة الإمامية
الكتب المعتمدة عند الشيعة الإمامية: وأما العترة فاعلم أن الروافض زعموا أن أصح كتبهم أربعة: الكافي، وفقه من لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار، وقالوا: إن العمل بما في الكتب الأربعة من الأخبار واجب، وكذا بما رواه الإمامي ودَوَّنَه أصحاب الأخبار منهم، نص عليه المرتضى وأبو جعفر الطوسي وفخر الدين الملقب عندهم بالمحقق المحلي، وهو باطل؛ لأنها أخبار آحاد وأصحها الكافي، ومنهم من قال: أصحها فقه من لا يحضره الفقيه، وقال بعض المتأخرين منهم الناقد لكلام المتقدمين: أحسن ما جمع من الأصول كتاب الكافي للكليني والتهذيب والاستبصار. (¬1) وكتاب من لا يحضره الفقيه حسن، وقد طالعت في بعضها. وما زعموه من الصحة باطل من وجوه؛ لأن من أسانيدها من هو من المُجَسِّمة كالهشامين (¬2) ، وشيطان الطاق المُعَبَّر عنه لديهم بمؤمنه (¬3) ، وأمثال هؤلاء ممن اعترف الرافضة أنفسهم باتصافهم بما ذكرنا. ¬
زرارة بن أعين
ومنهم من أثبت الجهل لله في الأزل كزرارة بن أعين (¬1) والأحولين (¬2) وسليمان الجعفري (¬3) ومحمد بن مسلم (¬4) وغيرهم. (ومنهم) فاسد المذهب كابن مهران (¬5) وابن بكير (¬6) وجماعة أخرى (ومنهم) الوُضَّاع كجعفر القزاز (¬7) وابن عياش (¬8) . (ومنهم) الكذاب كمحمد بن عيسى. (¬9) (ومنهم) الضعفاء وهم كثيرون (ومنهم) المجاهيل وهم أكثر كابن عمار وابن سكره (ومنهم) المستور حاله كالبلقسي وقاسم الخراز وابن فرقد وغيرهم، وهؤلاء رواة أصح كتبهم. وقد اعترف الطوسي بنفي وجوب العمل بكثير من أحاديثهم التي صرحوا بصحتها (¬10) ، والكليني يروي عن ابن عياش وهو كذاب. والطوسي يروي عمن يدعي الرواية عن إمام مع أن غيره يكذبه كابن مسكان فإنه يدعي الرواية عن الصادق وقد كذَّبه غيره، ويروي عن ابن المعلم وهو يروي عن ابن مابويه الكذوب (¬11) صاحب الرقعة المزورة ويروي عن المرتضى أيضًا، وقد طلبا العلم معًا وقرآ على شيخهما محمد بن النعمان وهو أكذب من ¬
لقبوا صاحب الرقاع بالصدوق وإشارة في الحاشية إلى اختلافهم في توثيقه
مسيلمة، وقد جوَّز الكذب لنصرة المذهب، والكلام على أكاذيبهم وفاسد رواياتهم يطول والمقصود تكذيب قول رافضي: إنهم تلقوا علوم العترة. *** - تعبد الإمامية بالرقاع (¬1) - الصادرة عن المهدي المنتظر نعم، إنهم أخذوا غالب مذهبهم كما اعترفوا من الرقاع المزورة التي لا يشك عاقل أنها افتراء على الله. والعجب من الروافض أنهم سموا صاحب الرقاع بالصدوق (¬2) وهو الكذوب لأنه عن الدين المبين بمعزل. كان يزعم أنه يكتب مسألة في رقعة فيضعها في ثقب شجرة ليلاً فيكتب الجواب عنها المهدي صاحب الزمان بزعمهم، فهذه الرقاع عند الرافضة من أقوى دلائلهم، وأوثق حججهم، فتبًّا. . . . واعلم أن الرقاع كثيرة: منها: رقعة علي بن الحسين بن موسى بن مابويه القمي (¬3) فإنه كان يظهر رقعة بخط الصاحب ¬
رقاع أبي العباس جعفر بن عبد الله بن جعفر الحميري القمي ورقاع أخيه الحسين ورقاع أخيه أحمد
في جواب سؤاله، ويزعم أنه كاتب أبا القاسم ابن أبي الحسين بن روح أحد السفرة على يد علي بن جعفر بن الأسود أن يوصل له رقعته إلى الصاحب فأوصلها إليه فزعم أبو القاسم أنه أوصل رقعته إلى الصاحب (أي المهدي) وأرسل إليه رقعة زعم أنها جواب صاحب الأمر له. ومنها: رقاع محمد بن عبد الله بن جعفر بن حسين بن جامع بن مالك الحريري أبو جعفر القمي كاتب صاحب الأمر سأله مسائل في أبواب الشريعة قال: قال لنا أحمد بن الحسين وقفت على هذه المسائل من أصلها والتوقيعات بين السطور، ذكر تلك الأجوبة محمد بن الحسن الطوسي في كتاب الغيبة وكتاب الاحتجاج. والتوقيعات خطوط الأئمة بزعمهم في جواب مسائل الشيعة، وقد رجَّحوا التوقيع على المروي بالإسناد الصحيح لدى التعارض، قال ابن بابويه في الفقه بعد ذكر التوقيعات الواردة من الناحية المقدسة في (باب الرجل يوصي إلى الرجلين) هذا التوقيع عندي
رقاع علي بن سليمان الزراري
بخط محمد بن الحسن بن علي (¬1) ، وفي الكافي للكليني رواية بخلاف ذلك التوقيع عن الصادق، ثم قال: ((لا أفتي بهذا الحديث بل أفتي بما عندي من خط الحسن بن علي)) . (ومنها) رقاع أبي العباس جعفر بن عبد الله بن جعفر الحميري القمي (¬2) (ومنها) رقاع أخيه الحسين ورقاع أخيه أحمد. (¬3) فهؤلاء كلهم كانوا يزعمون أنهم يكاتبون صاحب الأمر (المهدي المنتظر) ويسألونه مسائل في أحكام الشرع، وأنه يكتب جواب أسئلتهم كما ذكره النجاشي وغيره من علمائهم وأبو العباس هذا قد جمع كتاباً في الأخبار المروية عنه وسماه (قرب الإسناد إلى صاحب الأمر) . (¬4) و (منها) رقاع علي بن سليمان بن [الحسن] بن الجهم بن بكير بن أعين أبو الحسن [الزراري] (¬5) فإنه كان يدعي المكاتبة أيضًا ويظهر الرقاع قال النجاشي: كان له اتصال بصاحب الأمر وخرجت له التوقيعات. (¬6) هذه نبذة مما بنوا عليه أحكامهم ودانوا به وهو نغبة من ¬
زيارة قبور الأئمة أفضل من سبعين حجة وتوثيق ذلك في الحاشية
دأماء (¬1) . وقد تبين بها حال دعوى الرافضي في تلقي دينهم عن العترة. (¬2) والعبد كتب عليهم عدة ردود قبل نحو عشرين سنة، وشكوا عَلَيَّ إلى شاه العجم ناصر الدين (وهو خاذله) وكتب علي إلى السلطان المخلوع فصادرت الحكومة ما وجدوه من كتبي المطبوعة في الهند وهذا الرافضي له علم بما جرى فلا لوم عليه إن نبذني بما نبذني. (¬3) *** طعن الشيخ محسن في الوهابية: كل أحد يعلم أنه لا حقيقة له عندهم بل دل على جهله، على أن زخرفة القبور حرام لدى كافة المسلمين (¬4) ، وهم أول من ابتدع ذلك وسرى إلى غيرهم، والرافضة يصرحون في كتبهم - وقد رأيته بعيني - أن زيارة قبور الأئمة أفضل من سبعين حجة (¬5) ، ولذلك تراهم يطوفون عليها (¬6) ، ويطلبون جميع حوائجهم منها، وبنوا عليها القباب من الذهب وعلقوا عليها كل ¬
ندب الحسين وسب الصحابة
ما يُسْتَطْرَفُ ويفدون عليها كل ليلة ما يكفي لتنوير مدينة عظيمة {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: 104) . *** ندب الحسين وسب الصحابة واجتماع رجالهم في النجف وغيره للطم الخدود، وقراءة القصص المكذوبة وأكل النذور وإضلالهم لجهلة الأعراب أيضًا لهذه العلة ودينهم الذي يدينون به سب الصحابة وتكفيرهم، وإضلالهم الأعراب بذلك، وإلا فَهُمْ أجهل الناس بكل علم، وكم بحثت مع من ادعى منهم الاجتهاد فألقمتهم (ولله الحمد) بحجر السكوت، واعترفوا بجهلهم لدى خاصتهم، وهؤلاء الدجالون أضر على المسلمين من جميع المخالفين، فإن اليهود والنصارى وعباد الأوثان لا يتمكنون من إغواء أحد من الأعراب، ولا يمكنهم التقرب إليهم، ولا تسمع منهم كلمة لديهم، فالأعراب آمنون من شر هؤلاء. أما هؤلاء الدجالون، والضالون المضلون، فقد تزَّيْوا بزي المسلمين وشاركونا في كثير من الشعائر، فربما نفقت خزعبلاتهم
رد الآلوسي على قول العاملي أن العراق لم يزل دار الروافض، وتعليق في الحاشية حول تاريخ التغلغل الشيعي في العشائر العراقية
على عوام الأعراب لنيل شهواتهم، والتوصل إلى مقاصدهم من: جمع النذور، وأخذ الخمس، وأجرة قصص التعازي ونحو ذلك، مع حثهم ووعظهم على عدم طاعة الحكومة ولا إعانتها في شيء، حتى حصل مقصودهم وأصبح العراق نيرانًا تتسعر (¬1) ، فكم أسالوا دماء المسلمين وأضروا الحكومة ضررًا عظيمًا والحكومة لم تنتبه لذلك إلا بعد أن اتسع الخرق على الراقع. والرافضي يقول: إن العراق كان ولم يزل دار الروافض، مع أني أعلم أن أقوامًا من القبائل كانوا على مذهب أهل السنة وفي هذا العصر ترفضوا منهم قبائل زبيد وهم عمدة قبائل الطرق قوة وشجاعة وكثرة عدد، وهكذا قسم عظيم من شمر وقسم من بني تميم فضلا عن العصور التي لم أدركها. (¬2) ومن العجب من هذا الرافضي أنه عَدَّ فرقته من المتبعين، وجعل أهل السنة كالوهابية وأضرابهم من المبتدعين، مع أن الروافض يبيحون شتم جمهور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يحكمون بارتدادهم إلا عددًا يسيرًا (¬3) ، ويفضلون الأئمة الاثني عشر على أولي ¬
من تجارب المعلق: أن الشيعة عاجزون تماما عن الإتيان بفرق جوهري بين النبوة وبين الإمامة "حاشية"
العزم من المرسلين (¬1) ، ويقولون: إن الأئمة يوحى إليهم (¬2) ، ويقولون: إن موتهم باختيارهم (¬3) ، ويقولون بالرجعة أي بأن الأئمة سيرجعون إلى الدنيا وينتصفون من أعدائهم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومَن والاهما ويصلبونهم ويقتلونهم (¬4) ، وإن إمام الوقت هو محمد المهدي الذي غاب في سرداب (سُرَّ مَن رَأَى) وإنه حي يُرْزَق ويزعمون أنه إذا ذكر في مجلس حضر فيقومون له، واعتقدوا بتحريف القرآن ونقصانه وأن الله لا يُرَى في الآخرة، وأنكروا كثيرًا من ضروريات الدين. ومع ذلك يقولون: إنهم على حق، وغيرهم المتبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحافظون على ما جاء به المهدي ودين الحق هم المبتدعون، وما أحسن ما قال فيه القائل (¬5) : ليس التقى هذي التقية إنما ... هذا النفاق وما سواه المنكر وما تكلم به في المتعة يكفي لإثبات ضلالهم، وعندهم متعة ¬
أخرى يسمونها المتعة (الدورية) (¬1) ويروون في فضلها ما يروون، وهي أن يتمتع جماعة بامرأة واحدة، فنقول لهم من الصبح إلى الضحى في متعة هذا، ومن الضحى إلى الظهر في متعة هذا، ومن الظهر إلى العصر في متعة هذا، ومن العصر إلى المغرب في متعة هذا، ومن المغرب إلى العشاء في متعة هذا، ومن العشاء إلى نصف الليل في متعة هذا، ومن نصف الليل إلى الصبح في متعة هذا. فلا بدع ممن جوَّز مثل هذا النكاح أن يتكلم بما تكلم به ويسميه (الحصون المنيعة) وينبز أهل الإيمان والتوحيد بما ينبزهم به {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران: 186) . وقد ردوا على الرافضة قولهم بالمتعة في كتب مفردة وقد ردها عليهم الجد في تفسيره، والردود العامة عليهم لا تُحْصَى فالعلامة محمد أمين السويدي رد عليهم بأربع مجلدات (سماه الصارم الحديد) (¬2) ¬
عودة إلى كلام المؤلف رشيد رضا
والصواقع بتقديم القاف لأحد علماء الهند مجلد ضخم رد عليهم أيضًا، والتحفة، وللجد ثلاثة ردود مختصرة، والفقير رد عليهم بنحو ألف ورقة فاغتصبته الحكومة وذلك بثلاثة مصنفات أحدها المسمى بـ (ـصب العذاب على من سب الأصحاب) (¬1) . يوم المولد سنة 1328. ... ... ... ... ... عبد الله محمود شكري *** (المنار) : كنا نريد أن نكتفي في إبطال دعاية الرافضي الشيخ - أو السيد أو الملا - محسن الأمين العاملي في كتابه الجديد، وصد المسلمين عنها بما نشرناه في الجزء الماضي، ولكننا رأينا أن نجيب دعوة من دعونا إلى التوسع في ذلك بتأييد ما حكمنا به على صاحب هذا الكتاب من الكذب في النقل والطعن في السنة النبوية وغش المسلمين بعَزْوِها إلى الوهابية وابن تيمية وتلاميذه دون سائر المسلمين وبالاكتفاء من النقل من الكتب بما يؤيد مزاعمه وكتمان غيره من كلام من ينقل عنهم وكلام غيرهم في الموضوع، وبغير ذلك مما تدعو إليه الحاجة، ويوجبه درء الفتنة، وإبطال البدعة، فنقول: ¬
رواية شيعية أن الله وضع يده على رأس الحسين "حاشية"
طعن العاملي في الوهابية وابن تيمية قال الرافضي العاملي في أول صفحة 129من كتابه تحت عنوان (اعتقاد الوهابية ومؤسس دعوتهم وقدوتهم ابن تيمية في الله تعالى وصفاته) ما نصه: (اعلم أن الوهابية ومؤسس دعوتهم محمد بن عبد الوهاب وباذر بذورها أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم وأتباعهم ادعوا أنهم موحدون، وأنهم باعتقاداتهم التي خالفوا بها جميع المسلمين حموا جناب التوحيد أن يتطرق إليه شيء من الشرك، وادعى الوهابيون أنهم هم الموحدون وغيرهم من جميع المسلمين مشركون كما سيأتي (¬1) ، ولكن الحقيقة أن ابن تيمية وابن عبد الوهاب وأتباعهما قد أباحوا حمى التوحيد وهتكوا ستوره وخرقوا حجابه ونسبوا إلى الله تعالى ما لا يليق بقدس جلاله تقدس وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، ¬
وأثبتوا لله تعالى الوجه واليدين واليد اليمنى واليد الشمال والأصابع والكف والعينين كلها بمعانيها الحقيقية من دون تأويل، وهو تجسيم صريح) . (¬1) (وحملوا ألفاظ الصفات على معانيها الحقيقية فأثبتوا لله تعالى المحبة والرحمة والرضا والغضب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية من غير تأويل، وأنه تعالى يتكلم بحرف وصوت فجعلوا الله تعالى محلاًّ للحوادث وهو يستلزم الحدوث كما بين في محله من علم الكلام) . (أما ابن تيمية فقال بالجهة والتجسيم والاستواء على العرش حقيقة، والتكلم بحرف وصوت وهو أول من زقا بهذا القول وصنَّف فيه رسائل مستقلة كالعقيدة الحموية والواسطية وغيرها، واقتفاه في ذلك تلميذه ابن القيم وابن عبد الهادي وأتباعهم، ولذلك حكم علماء عصره بضلاله وكفره، وألزموا السلطان بقتله أو حبسه، فأخذ إلى مصر ونُوظِر وحكموا بحبسه فحبس وذهبت نفسه محبوسًا بعدما أظهر التوبة ثم نكث ونحن ننقل ما حكوه ¬
نقل الشيعي ألزام شيخ الإسلام بأنه يقول بالتحيز في ذات الله
عنه في ذلك وما قالوه في حقه لتعلم ما هي قيمة ابن تيمية عند العلماء: (قال أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي صاحب الصواعق في كتابه (الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم) في جملة كلامه الآتي في فصل الزيارة: ((إن ابن تيمية تجاوز إلى الجناب المقدس وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم ... )) إلخ. (وقال ابن حجر أيضًا في (الدرر الكامنة) على ما حكي: إن الناس افترقت في ابن تيمية (فمنهم) من نسبه إلى التجسيم لما ذكره في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك بقوله: إن اليد والقدم والساق والوجه حقيقية لله، وأنه مستو على العرش بذاته، فقيل له: يلزم في ذلك التحيز والانقسام؟ فقال: أنا لا أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام فألزم بأنه يقول بالتحيز في ذات الله (¬1) إلخ) . أقول: حسبي هذه الجملة من تقول الرافضي نموذجًا على كذبه ¬
هل كان محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يكفر بالعموم؟
في نقوله ومزاعمه واقتصاره في النقل على ما يوافق هواه، ويؤيد دعايته ودعواه. كما يفعل دعاة النصرانية (المبشرون) فيما ينقلونه من القرآن العظيم وكتب الحديث وغيرها من كتب المسلمين؛ لتشكيكهم في الدين ثم تحويلهم عنه إن لم يكن إلى النصرانية فإلى الإلحاد والزندقة؛ لأنهم يفضلونها على الإسلام الذي جاء بتوحيد الله تعالى وتنزيهه، وبكون المسيح عليه السلام نبيه جعله وأمه آية للناس بحملها به من نفخ روح الله جبريل عليه السلام إلخ. كما فعل أمثالهم أعداء الإسلام من يهود الحجاز عند ما سألهم مشركو مكة عن دينهم ودين محمد أيهما الحق؟ فشهدوا لهم بأن دين الوثنية وعبادة الأصنام هو الحق، وبأن دين محمد وهو التوحيد والبعث والشهادة بالرسالة لموسى عليه السلام وغيره من رسل الله هو الباطل! كذا يفضل هذا الرافضي البدعة على السنة وعلى ظاهر القرآن أيضًا. *** بيان تَقَوُّلِ العاملي على ابن تيمية والوهابية زعم الرافضي العاملي المتعصب أن أول من زقا بهذه العقائد
الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (وأما القول بأنا نكفر بالعموم
أي صاح بها ودعا إليها هو ابن تيمية وتبعه بها تلميذاه ابن القيم وابن عبد الهادي؛ ولذلك حكم علماء عصره بضلاله وكفره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه إلخ. أقول (أولاً) : إن الوهابية يدعون بحق أنهم موحدون وحامون لحِمَى التوحيد من تَطَرُّقِ الشرك، وكان يدعي هذه الدعوى بحق من قبلهم شيخ الإسلام، وعلم أهل السنة الأعلام، وهادم أركان بدعة الروافض وغيرهم من المبتدعة أرباب الخرافات والأوهام، وماحق شبهات الفلاسفة وضلالات الكفرة. (ثانيًا) : إن الوهابية لم يدعوا أنهم هم الموحدون وحدهم وأن غيرهم من جميع المسلمين مشركون كما افترى عليهم هذا الرافضي المتعصب وغيره (¬1) ، بل لم يدعوا أنهم فرقة أو أهل مذهب مستقل حتى يصفوا أنفسهم بوصف من دون سائر المسلمين، وإنما يقولون كما يقول غيرهم من العلماء بتوحيد الله الذي دعت إليه جميع رسله: إن المسلمين قد صدق في بعضهم حديث نبيهم الثابت في الصحاح من اتباعهم سَنَن من قبلهم من أهل الكتاب ¬
ابن تيمية والوهابية أثبتوا بها -كسائر أهل السنة - ما أثبته الله تعالى في كتابه المعصوم، وفي سنة خاتم أنبيائه
في البدع ومخالفة هداية دينهم كما يصدق في بعض آخر منهم قوله صلى الله عليه وسلم بأنه: (لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) (¬1) . ويقولون: إن الذين اتبعوا سنن من قبلهم هم أهل البدع من الجهمية والروافض وغيرهم، وإن القائمين بأمر الله هم المحافظون على الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على الهدْي الذي كان عليه السلف الصالح من قبل ظهور البدع، ومن قاوم البدع منذ ظهورها من علماء الأمصار، وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين. (ثالثًا) : إن ما ذكره من العقائد التي زعم أن ابن تيمية وابن عبد الوهاب وأمثالهم أباحوا لها حِمَى التوحيد وهتكوا ستوره ... بإثباتهم لله تعالى صفة العلو والاستواء على العرش إلخ، إنما أثبتوا بها -كسائر أهل السنة - ما أثبته الله تعالى في كتابه المعصوم، وفي سنة خاتم أنبيائه المعصوم المبينة له، ذلك الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه خلافًا لغلاة الروافض المارقين عن الإسلام بزعمهم أن كتاب الله المنزل على ¬
محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكتبه كما نزل إلا عليٌّ كرَّم الله وجهه وأنه كتمه عن المسلمين إلا أئمة أهل بيته، وأنه انتهى أخيرًا إلى مهدي السرداب، وأنه سيظهر في آخر الزمان (¬1) وزعم الكثيرين منهم أن القرآن الذي تواتر بين المسلمين من عهد النبي وخلفائه الراشدين إلى اليوم قد حرَّفه الصحابة رضوان الله عليهم وكتموا بعضه، وأن عليًّا وسائر أئمة البيت المعصومين عندهم قد وافقوهم على ذلك ظاهرًا من باب التقية التي لا تنافي العصمة عندهم، بل يباح بها الكذب وكذا الكفر كاستباحة كتمان القرآن، ولكن منهم مَن بيَّن الحقيقة سرًّا لبعض أتباعهم فظلوا يتناقلونها إلى أن أذاعها بعضهم وجمع نصوصها عنهم صاحب كتاب (فصل الخطاب) المطبوع في إيران، بَرَّأَ اللهُ كتابَه وأهل بيت نبيه من هذا الكفر والضلال. وأما كونهم يثبتون تلك النصوص بمعانيها الحقيقية بدون تأويل ولكن مع إثبات التنزيه فهم متبعون في ذلك لسلف الأمة الصالح غير مبتدعين له، وإنما ابتدع التأويل الجهمية والمعتزلة ¬
إشارة لما جرى للإمام الجويني
وأتباعهم من الروافض بشبهة تنزيه الله تعالى عن التجسيم والتشبيه. وكان أبو الحسن الأشعري من المعتزلة المتأولين ثم رجع عن أشهر قواعد الاعتزال واتبع فيها أهل السنة، وظل على ما اعتاد من بعض تأويلات الاعتزال حتى صفا له مذهب أهل السنة من الشوائب ورجع إلى مذهب السلف كما صرَّح به في آخر كتابه المسمى بالإبانة (¬1) ، ولكن عدوى التأويل المبتدع سرت إلى كبار النظار من أتباعه فجرى لبعض أساطينهم ما جرى له من رجوعهم إلى مذهب السلف في أواخر أعمارهم، أو قبل ذلك كما جرى للإمام الجويني (¬2) والإمام الغزالي (¬3) وغيرهما من المتقدمين ولشيخنا الأستاذ الإمام من المتأخرين. وأما شبهة المبتدعة المتأولين فهي تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه التي يعبرون عنها في تأويل بعض الصفات بالتجسيم والتحيز وغيرهما من لوازم الأجسام فبهذه الشبهة عطَّلوا أكثر صفات الله تعالى حتى صارت عندهم في حكم العدم. والسلف الصالح أعلم منهم بمعاني النصوص، وبما يجب الإيمان به وأشد ¬
منهم تنزيهًا للرب تبارك وتعالى، وقد كاد ذلك يخفى على أهل القرون الوسطى لقصر هِمَم علماء السنة السلفيين على علوم القرآن والسنة وإعراضهم عن علم الكلام وعلم الفلسفة المبتدع ونظرياته الجدلية الخلابة، حتى ظهر شيخ الإسلام ابن تيمية فنظر بعد الإحاطة بعلوم السنة والنقل المروية والمدونة في الكلام والفلسفة والمنطق وأظهر كثيرًا من فساد نظرياتها وأثبت صحة مذهب السلف من طريق النقل وطريق العقل جميعًا. والقاعدة في ذلك أن تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه قد ثبت بدليل العقل والنصوص القطعية من النقل كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وإن السلف يجمعون بين الأمرين: تنزيه الرب سبحانه ووصفه بما وصف به نفسه من الرحمة والمحبة والرضا والغضب وغير ذلك وعدم التحكم في التفرقة بين هذه الصفات وصفات العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام، فيقولون: إن رحمته تعالى رحمة حقيقية ليست كرحمة البشر كما أن علمه ليس كعلم البشر وسمعه ليس كسمع البشر وبصره ليس كبصر البشر إلخ، وكذلك
مبتدعة التأويل يقيسون الخالق على المخلوق
يقول السلف في استوائه تعالى على عرشه: إنه استواء يليق بجلاله وَتَنَزُّهِهِ عن مشابهة خلقه، ليس كاستواء الملوك على عروشها، ولا نتحكم بعقولنا بتأويل ذلك كزعم من قالوا: الاستواء بمعنى الاستيلاء مثلا، وستأتي أقوالهم في ذلك. ذلك بأن مبتدعة التأويل يقيسون الخالق على المخلوق فيزعمون أن المعاني الحقيقية لتلك الصفات الإلهية تستلزم التشبيه الممنوع عقلاً ونقلاً، فوجب إخراج الألفاظ الدالة عليها من مدلولها، وحملها على معانٍ مجازية؛ ليتفق العقل مع النقل، وفاتهم أن تلك المعاني المجازية هي مستعملة في المخلوقات كالمعاني الحقيقية فالذين أَوَّلُوا رحمة الله تعالى بإحسانه إلى خلقه فاتهم أن الإحسان المستعمل في اللغة تعبيرًا عن صفات المخلوقين وأعمالهم مُحَال على الله تعالى أيضًا؛ إذ هو عبارة عن بسط يد بعطاء أو إنقاذ غريق من البحر مثلاً، وهذا لا يكون إلا بحركات الأعضاء فهو يستلزم التشبيه أيضًا. كما يلزم ذلك متكلمي الأشعرية الذين وافقوا المعتزلة والجهمية
والرافضة في تأويل ما عدا الصفات الثمانية التي يسمونها صفات المعاني، فإن العلم الذي هو أبعد هذه الصفات عن الحاجة إلى التأويل عندهم هو عبارة في اللغة المستعملة في البشر عن انطباع صور المعلومات في ذهن العالم بها، والله تعالى منزه عن ذلك، وعلمه أزلي ليس صورة ذهنية للمعلومات التي تثبت الحدوث لما عدا ذاته وصفاته الذاتية سبحانه وتعالى منها، وفي صفات الأفعال خلاف معروف. فوصفه تعالى بالعلم بمعناه الحقيقي المعروف في لغة البشر يستلزم تشبيهه بالبشر أيضًا، ولذلك أنكر أئمة النار من المبتدعة جميع صفات الله تعالى وعطلوها عن معانيها، ومنهم هذا الرافضي وأمثاله. ومذهب سلف الأمة يهدم هذه البدعة وشبهتها من أساسها بما بيَّنه به شيخ الإسلام ابن تيمية أوضح بيان كما نقلناه عنه وعن غيره مرارًا، وخلاصته: أننا نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفاته وأفعاله بمعانيها الصحيحة المتبادرة من اللغة مع القول بالتنزيه ككون محبة الله لأنبيائه وأوليائه ورحمته بعباده ليستا كمحبة المخلوقين
تنبيه مهم حول إطلاق أهل السنة عندما يطلقون لفظ التعطيل
ورحمتهم فيما بينهم كما أن علمه تعالى ليس كعلمهم - فهذا هو اعتقاد المسلمين المؤمنين الذين يتلقون دينهم من كتاب ربهم ومما صح عن رسوله إليهم صلى الله عليه وسلم إثباتًا ونفيًا، من غير تحكيم للأهواء والبدع بشبهة قياس الخالق على المخلوق والرب على العبد. ومثل ذلك إثبات صفة العلو والفوقية له تعالى فقد سمى الله تعالى نفسه: {العَلِيُّ الكَبِيرُ} (الحج: 62) فيقول سلف الأمة الصالح: إن علوه تعالى على جميع خلقه ليس كعلو رأس الإنسان على جثته ولا علو من في الغرفة على من في أسفل الدار، كما يقولون مثل ذلك في اسمه الكبير والعظيم أي أنه ليس بمعنى كبر الأجسام وعظمتها ككون الجبل أكبر من الصخرة مثلاً، وقد شرحنا هذه المسألة عن طريق العقل والنقل والعلم الكوني مرارًا، وأثبتنا أن العلو الحسي بين الأجسام أمر نسبي ليس له حقيقة ثابتة، فكيف نستنبط من لوازمه ما نعطل به صفة الله التي وصف بها نفسه في الآيات والأحاديث الصحيحة التي أخذها السلف الصالح فالتسليم من غير جدل ولا تعطيل (¬1) ولا تأويل، وقد سبق إلى ذلك شيخ ¬
تعليق في الحاشية على قول المؤلف: سلف يفوضون حقيقة تلك الصفات
الإسلام في كتابه العرش وغيره فبيَّن أن العلو الحقيقي المطلق لا يثبت إلا لله العلي الكبير القاهر فوق عباده، وما عداه فعلو نسبي، ولا سيما على القول بكروية العالم. وقد اشتهر في كتب العقائد وعلم الكلام القديمة والحديثة للأشاعرة أن أهل السنة انقسموا فيما عدا صفات المعاني الذاتية إلى: سلف يفوضون حقيقة تلك الصفات (¬1) إلى الله تعالى ويرونها كما جاءت في الكتاب والسنة مع تنزيه الرب تعالى عن الشبيه والمثل. (¬2) وخلف يؤولونها تأويلاً يوافق قواعد اللغة التي وردت بها، وقال بعضهم: (إن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم) . (¬3) ولكن المحققين المنصفين منهم قالوا: إن مذهب السلف هو الأسلم والأعلم والأحكم، بل قال أبو حامد الغزالي: إن علم الكلام ليس من علوم الدين الأصلية، وإنما هو ضرورة ألجأ العلماءَ إليها الردُّ على المبتدعة والفلاسفة فيما خالفوا فيه ما جاء في نصوص الدين القطعية (¬4) فهو كحرس الحجيج الذي يحرسهم من قطاع الطريق إنما يجب ما وجد المعتدون على الحجيج، فإذا لم يوجد من يعتدي ¬
من أصول الرفض جعل صفات الله كالعدم وتعليق في الحاشية حول مبدأ التعطيل لدى الرافضة من مصادرهم
عليهم يُسْتَغْنَى عن الحرس؛ لأنه ليس من أركان الحج ولا من واجباته ولا من سننه. نتيجة ما تقدم في إبطال زعم الرافضي زعم الرافضي العاملي أن ابن تيمية أول من أثبت ما ذكر من صفات الله تعالى بدون تأويل، وتبعه بعض تلاميذه ثم الوهابية، وأنهم خالفوا في ذلك جميع المسلمين، وهذا كذب وافتراء وتضليل لعوام أهل السنة، وتمهيد إلى جذبهم إلى الرفض الذي من أصوله تعطيل صفات الله تعالى بالتأويل وجعله عز وجل كالعدم (¬1) ، تعالى الله عما يقول المبتدعون علوًّا كبيرًا، فما من صفة من تلك الصفات إلا وهي منصوصة في القرآن أو في الأحاديث النبوية الصحيحة، ولعل كل قارئ للقرآن أو سامع له من المسلمين قد قرأ أو سمع قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: 75) (¬2) وزعم الرافضي أن ابن تيمية يثبت لله تعالى يمينًا وشمالاً، ونصوصه تدل على أنه يتبع نصوص الكتاب والسنة، وإنما ثبت فيهما لفظ اليدين، ولفظ اليمين في قوله تعالى: {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) ¬
صفة الاستواء والمجئ والقرب والنزول
وثبت في حديث مسلم [رقم: 4748] ، والنسائي [رقم: 5379] : ( ... وكلتا يديه يمين) والحديث في إثبات الشمال لا يصح كما بيَّنَه الحافظ ابن حجر في الفتح والحافظ البيهقي قبله في كتابه (الأسماء والصفات) . (¬1) وكأن الرافضي لم يره وسمع قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ، وما في معناها (¬2) وقوله تعالى في الملائكة {يخافون ربهم من فوقهم} (¬3) ، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: 22) (¬4) وقوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: 186) (¬5) إلخ. وليعلم القارئ أن ما عزاه هذا الرافضي إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه الأعلام ثم إلى الوهابية مما ليس في القرآن فهو في الأحاديث الصحيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري [1145] ومسلم [758] وغيرهما: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا)) إلخ. (¬6) وأما الصوت (¬7) فقد ذكر فيه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا تكلم الله بوحي سمع أهل السموات شيئًا فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم وسكن الصوت وعرفوا أنه الحق من ربهم ونادوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: (الحق) . قال البخاري: ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أُنَيْس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬
استدلال علماء الشيعة برواية مفادها أن الله خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بصوت علي رضي الله عنه (حاشية)
يقول: (يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك أنا الديان) . أما حديث ابن مسعود فقد رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقًَا موقوفًا عليه، ووصله البيهقي في الأسماء والصفات وغيره كما فصَّله الحافظ ابن حجر في فتح الباري (¬1) ، وأما حديث عبد الله بن أُنَيْس (بالتصغير) فذكر الحافظ في شرحه من فتح الباري مَن أخرجه مسندًا (¬2) . وروى البخاري بعده بسنده المتصل إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله يا آدم فيقول: لبيك وسعديك: فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار) (¬3) وذكر الحافظ في شرحه له أن (ينادي) وقع مضبوطًا للأكثر بكسر الدال وفي رواية أبي ذر بفتحها، أي والثانية تحتمل من التأويل ما لا تحتمل الأولى. وذكر الحافظ في شرح الحديث الأول تأويل من أوَّله من الأشعرية ثم قال ما نصه (ص383ج13) : (وهذا حاصل ¬
الخلاف بين الأشاعرة وبين المعتزلة في صفة الكلام خلاف لفظي "حاشية"
كلام من ينفي الصوت من الأئمة، ويلزم منه أن الله تعالى لم يُسْمِع أحدًا من ملائكته ورسله كلامه بل ألهمهم إياه (¬1) ، وحاصل الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين؛ لأنها التي عُهِدَ أنها ذات مخارج ولا يخفى ما فيه؛ إذ الصوت قد يكون من غير مخارج كما أن الرؤية قد تكون من غير اتصال أشعة كما سبق، سلمنا لكن نمنع القياس المذكور وصفات الخالق لا تُقَاس على صفات المخلوق، وإذا ثبت الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة (وكان الحافظ قد بيَّن غير ما في البخاري منها) وجب الإيمان بها؛ ثم إما التفويض وإما التأويل وبالله التوفيق) اهـ، وظاهر كلامه أنه يختار التفويض اتباعًا للسلف. (¬2) ثم قال الحافظ في شرح حديث أبي سعيد ما نصه (ص 386 ج 13) : (واختلف أهل الكلام في أن كلام الله تعالى هل هو بحرف وصوت أو لا؟ فقالت المعتزلة: لا يكون الكلام إلا بحرف وصوت والكلام المنسوب إلى الله تعالى قائم بالشجرة، وقالت الأشاعرة: كلام الله ليس بحرف ولا صوت وأثبتت الكلام ¬
النقول من أحفظ الحفاظ صريحة في أن إثبات الصوت
النفسي، وحقيقته معنًى قائم بنفسه، وإن اختلفت عنه العبارة كالعربية والعجمية، واختلافها لا يدل على اختلاف المُعَبَّر عنه، والكلام النفسي هو ذلك المُعَبَّر عنه. (¬1) وأثبتت الحنابلة أن الله تعالى متكلم بحرف وصوت: أما الحروف فللتصريح بها في ظاهر القرآن، وأما الصوت فمن منع قال: إن الصوت هو الهواء المنقطع المسموع من الحنجرة، وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف بذلك هو المعهود من الآدميين كالسمع والبصر، وصفات الرب بخلاف ذلك، فلا يلزم المحذور مع اعتقاد التنزيه وعدم التشبيه، وأن يجوز أن يكون من غير الحنجرة فلا يلزم التشبيه. وقد قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة سألت أبي عن قوم يقولون: لمَّا كلم الله موسى ولم يتكلم بصوت؟ فقال لي أبي: بل تكلم بصوت، هذه الأحاديث تروى كما جاءت (¬2) ، وذكر حديث ابن مسعود وغيره) اهـ. فهذه النُّقُول من أحفظ الحفاظ صريحة في أن إثبات هذا الصوت لكلام الله المُنَزَّه عن مشابهة أصوات الخلق هو مذهب ¬
الإمام أحمد بن حنبل وأتباعه، وأن دعوى الرافضي العاملي أن أول من زقا به هو ابن تيمية وخالفه فيه جميع المسلمين إلا الوهابية كذب وافتراء ولا يزال جمهور أهل الحديث إلى اليوم يتبعون الإمام أحمد في هذا، ولا أقول يقلدونه بل يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من حديثه فيه كغيره (¬1) ، وأي فرق بين إثبات الكلام وإثبات الصوت، وكل منهما ثابت للبشر؟ وكذلك السمع والبصر وسائر الصفات، وهل على المؤمن الذي لا يحكم هواه ولا شبهاته النظرية ولا يقلد رجال مذهبه في عقيدته إلا أن يُثْبِتَ لله تعالى جميع ما أثبته له كتابه ورسوله من تنزيه وصفات لم يكن من وسيلة لتبليغها للبشر إلا لغاتهم التي وضعوها لصفاتهم مع نفي التشبيه والتمثيل؟ على أننا لسنا هنا بصدد ترجيح مذهب الحنابلة وسائر أئمة السلف بل نحن في صدد تكذيب الرافضي المتعصب في زعمه أن هذا شيء افتجره ابن تيمية (فحكم علماء المسلمين بكفره) وقلده فيه بعض تلاميذه، ثم الوهابية وخالفهم سائر المسلمين. ولا يبعد أن يعني الرافضي بالمسلمين الشيعة وحدهم (¬2) أو مع ¬
الرافضي أراد الطعن في السنة من خلال دعوى الرد على الوهابية صفة الاستواء
من سبقهم في التأويل من مبتدعة الجهمية والمعتزلة الذين صارت الشيعة عيالاً عليهم في مخالفة النصوص بالتأويل كما تقدم عن بعض متعصبيهم في تفسير حديث افتراق هذه الأمة إلى 73 فرقة؛ إذ حاول جعل هذه الفرق كلها من الشيعة؛ ليخرج أهل السنة عن عداد أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وجملة القول: أن ما طعن به الرافضي العاملي على ابن تيمية والوهابية من إثبات ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الله تعالى بدون تأويل هو أصل مذهب أهل السنة من الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار كما ثبت في كتب السنة التي صُنِّفَت قبل ابن تيمية وفي عصره وبعده، ومنها كتب خاصة في إثبات علو الله على خلقه. وهذا الرافضي أراد أن يطعن في أهل السنة ويُبْطل عقائدهم، وأن يَرُوج طعنه عند عوام المسلمين فحصر مذهب السنة في الوهابية (¬1) ، وزعم أنه لا سلف لهم فيه إلا ابن تيمية وتلاميذه، وأن علماء المسلمين كفروه لقوله بها، والصحيح أن هؤلاء كانوا أظهر أنصار السنة كل في عصره، وهذا عصر الوهابية منذ ظهروا إلى اليوم. ¬
وإننا ننقل هنا صفوة ما أورد الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري الذي هو عمدة المحدثين وجميع أهل السنة من عصره إلى اليوم في مذهب أهل السنة في صفات الله، وهو ما كتبه في شرح قول البخاري (باب وكان عرشه على الماء) إلخ، وذلك قوله بعد ذكر كثير من أقوال السلف وغيرهم وأقوال أهل اللغة في معنى الاستواء على العرش وغيره وهذا نصه (ص 342 و 343ج 13) : (وقد نقل أبو إسماعيل الهروي في كتاب الفاروق بسنده إلى داود بن علي بن خلف قال: كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي يعني محمد بن زياد اللغوي فقال له رجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فقال: هو على العرش كما أخبر، قال: يا أبا عبد الله إنما معناه استولى فقال: اسكت لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مُضَادٌّ. ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي سمعت ابن الأعرابي يقول أرادني أحمد بن أبي دؤاد أن أجد له في لغة العرب {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) بمعنى استولى فقلت: والله ما أصبت هذا،
وقال غيره: لو كان بمعنى استولى لم يختص بالعرش؛ لأنه غالب على جميع المخلوقات. (¬1) ونقل محيي السنة البغوي في تفسيره [1 / 78 ط: طيبة] عن ابن عباسٍ وأكثرِ المفسرين أن معناه ارتفع، وقال أبو عبيدة والفراء (¬2) وغيرهما بنحوه، وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة أنها قالت: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر) . (¬3) ومن طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سُئِلَ كيف استوى على العرش؟ فقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى الله الرسالة، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم) (¬4) ، وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي قال: ((كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله على عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته)) (¬5) ، وأخرج الثعلبي [4 / 239] من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} (الأعراف: 54) فقال: هو كما وصف نفسه. وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ¬
د بن
كيف استوى؟ فأطرق مالك فأخذته الرُّحَضَاء ثم رفع رأسه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) كما وصف به نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وما أراك إلا صاحب بدعة أخرجوه، ومن طريق يحيى بن يحيى عن مالك نحو المنقول عن أم سلمة لكن قال فيه: والإقرار به واجب، والسؤال عنه بدعة. (¬1) وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال: كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا [يحددون] (¬2) ولا يشبهون ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون (كيف) قال أبو داود وهو قولنا، قال البيهقي: وعلى هذا مضى أكابرنا. (¬3) وأسند اللالكائي [3 / 432] عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير (¬4) ، فمن فسر شيئًا منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفارق الجماعة؛ لأنه وصف الرب بصفة لا شيء. ومن طريق الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعيّ ومالكا والثوري والليث بن سعد عن ¬
قول السلف: ((أمروها بلا كيف)) أو ((أمروها كما جاءت)) يقتضي إبقاء دلالتها "حاشية"
الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا: (أَمِرُّوهَا كما جاءت بلا كيف) . (¬1) (وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول: لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردُّهَا ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يُدْرَك بالعقل ولا الرَّوِيَّة والفكر، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) . وأسند البيهقي [2 / 307] بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة قال: (كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه) (¬2) . ومن طريق أبي بكر الضبعي قال: مذهب أهل السنة في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قال: بلا كيف. (¬3) والآثار فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل وقال الترمذي في الجامع عقب حديث [برقم: 3298] أبي هريرة في النزول: ((وهو على العرش كما وصف به نفسه في كتابه)) كذا قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات. وقال في باب فضل الصدقة [حديث: 662] : ((قد ثبتت هذه ¬
من أقوال العلماء حول إجماع أهل السنة على حل نصوص الصفات على الحقيقة لا المجاز.
الروايات فنؤمن بها ولا نتوهم ولا يقال (كيف) ، كذا جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم أَمَرُّوهَا بلا كيف (¬1) ، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكروها وقالوا: هذا تشبيه، وقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه لو قيل: يد كيد وسمع كسمع (¬2)) ) . وقال في تفسير المائدة [3045] ((قال الأئمة: نؤمن بهذا الحديث من غير تفسير، منهم الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك)) . وقال ابن عبد البر [التمهيد 7 / 145 ط: المغرب، بتصرف] : ((أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ولم يكيفوا شيئًا منها، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج (¬3) فقالوا: من أقر بها فهو مشبه، فسماهم من أقر بها معطلة)) . (¬4) (وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية [ص 32-34] : اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف ¬
نقل المؤلف عبارات ابن تيمية في الفتوى الحموية لبيان كذب الرافضي
عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله تعالى، والذي نرتضيه رأيًا وندين الله به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فلو كان تأويل هذه الظواهر حتمًا لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع اهـ. (¬1) وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث، وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم من الأئمة فكيف لا يُوثَق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة. فهذا بعض نصوص أئمة أهل السنة من علماء السلف قبل وجود ابن تيمية بعدة قرون. وإننا ننقل بعض ما قاله ابن تيمية نفسه في العقيدة الحموية نفسها التي زعم الرافضي أنه خالف فيها جميع المسلمين بإثبات الصفات الواردة بغير تأويل؛ ليظهر للناس مقدار جرأته على الكذب في سبيل إثبات الرفض والتعطيل، ¬
ولإزاغة المسلمين عن الكتاب والسنة بالإفك والتضليل، قال شيخ الإسلام كما في (ص 427 وما بعدها من مجموعة الرسائل الكبرى المطبوعة بمصر) بعد سرد بعض النصوص وأقوال أهل السنة والمبتدعة فيها ما نصه: (ثم القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله وبما وصفه به السابقون الأولون لا يتجاوز القرآن والحديث) اهـ. (قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث) ، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك هو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي بل معناه يُعْرَف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه وهو سبحانه مع ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله
وكل ما أوجب نقصًا أو حدوثًا فإن الله منزه عنه حقيقة، وأنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه وممتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه واستلزام الحدوث سابقة العدم ولافتقار المُحْدَث إلى مُحْدِث ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى. (ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله فيعطلوا أسماءه الحسنى، وصفاته العليا، ويحرفوا الكلم عن مواضعه ويلحدوا في أسماء الله وآياته، وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل) . (وأما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل، مثَّلوا أولاً وعطَّلوا آخرًا، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاته، وتعطيل ما يستحقه هو سبحانه من الأسماء
والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى، فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويًا وكل ذلك مُحَال، ونحو ذلك من الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم، أما استواء يليق بجلال ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الثلاثة كما يلزم سائر الأجسام، وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع فإما أن يكون جوهرًا أو عرضًا؛ إذ لا يُعْقَل موجود إلا هذان، أو قوله إذا كان مستويًا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فإن كلاهما مثَّل وكلاهما عطَّل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل مسمى للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين) . (والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستوٍ على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف
بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، ولا يجوز أن نثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش ولا نثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها) . (واعلم أن ليس في العقل الصريح ولا في النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلاً، لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الورادة عن الحق فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير) . (ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين هذا الباب في أمر مريج، فإن من ينكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أن لله علمًا وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق
العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل. (ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم مَن يزعم أن العقل جوز أو أوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله) . (يا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة فرضي الله عن مالك بن أنس الإمام حيث قال: (أَوَكُلَّمَا جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هذا؟) وكل من هؤلاء مخصوم بمثل ما خُصِمَ به الآخر وهو من وجوه: (أحدها) : بيان أن العقل لا يحيل ذلك. (والثاني) : أن النصوص الورادة لا تحتمل التأويل. (والثالث) : أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول جاء بها بالاضطرار كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والعمرة والصوم والصلاة وسائر ما جاءت به النبوات، على أن
الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية، وإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه، ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها وألفاظ من نقل مذهبهم بحسب ما يحتمله هذا الموضع ما يعلم به مذهبهم) . ثم شرع بعد هذا في أقوال أئمة السلف في ذلك بنصوصها، وحسبنا الخلاصة التي نقلناها منها عن شرح البخاري للحافظ ابن حجر، فهي تلقم الرافضي الحجر، وتبين لأهل السنة ولذي العقل والإخلاص من الشيعة كذبه وافتراءه، وهذا التحقيق من شيخ الإسلام في مسألة الصفات الجامع بين العقل والنقل يهدم كل شبهات المبتدعة والمتكلمين المخالفة لها، ومزاعم من رماه بالتجسيم والتشبيه.
بيان حال ابن حجر الهيمتي
نموذج من نقول في الطعن على ابن تيمية أول شيء نقله الرافضي العاملي في طعن العلماء على شيخ الإسلام ابن تيمية كلمة للفقيه أحمد بن حجر الهيتمي المكي، وهي دعوى التجسيم. فنقول في الكلام عليها: (أولاً) هل يعد الرافضي العاملي كلام ابن حجر هذا في الدين ورجاله حكمًا صحيحًا مع علمه بما قاله في كتابه "الصواعق"، وفي كتابه "مناقب معاوية" في بدع الشيعة وتضليلهم ... إلخ؟ أم يقبل قوله في ابن تيمية وحده دون معاوية ودون الشيعة كلهم كما هي عادة أمثاله من المتعصبين الذين لا يقبلون إلا ما يوافق أهواءهم؟ نحن لا ننكر أن ابن حجر الهيتمي طعن في ابن تيمية، وما هو من طبقته في علم من العلوم: لا علوم الحديث ولا التفسير ولا الأصول والكلام ولا الفقه أيضًا، فابن حجر هذا فقيه شافعي مقلد لمذهب
الشافعي غاية شأوه بيان ما قاله مَن قَبله في المذهب، وبيان الراجح من المرجوح والصحيح وغيره. وأما ابن تيمية فمن أكبر حفاظ السنة، ومع كون طبقته في فقه الحنابلة أعلى من طبقة ابن حجر في فقه الشافعية فهو حافظ لفقه الأئمة، ومن أهل الترجيح بينها، بل هو مجتهد مطلق كما اعترف له أهل الإنصاف من علماء عصره ومن بعدهم، وإن أنكر عليه بعضهم بعض المسائل المخالفة لمذاهبهم، وما من إمام مجتهد إلا وقد أنكر عليه المخالفون بعض أقواله وهم خير ممن يقلدونه ويعدونه كالمعصومين في عدم مخالفته في شيء مما ثبت عنه. ومع هذا نعتقد أن ابن حجر الهيتمي هذا لم يطلع على كتبه؛ وإنما قال فيه ما قال اعتمادًا على ما أشاع عنه خصومه من المبتدعة ومتأولة الأشاعرة ومغروري المتصوفة. (¬1) فمن أعظم سيئاته عند هؤلاء رده على الشيخ محيي الدين بن عربي وبيانه لضلالة وحدة الوجود المشهورة عنه وعن أمثاله. وأما قوله بإظهاره للعامة على المنابر دعوى الجهة والتجسيم ¬
من أمثلة جهل الرافضي برجال أهل السنة وكتبهم
فهو مقلد فيه لأولئك الخصوم في تسميتهم إثبات العلو لله تعالى جهة مستلزمة للتحيز والتشبيه - للتنفير والتشهير بشناعة الألفاظ كتسميتهم لإثبات الاستواء على العرش والنزول إلى سماء الدنيا ونحوهما تجسيمًا أي بطريقة اللزوم، فإن كان يلزم من إثبات نصوص الكتاب والسنة ما ذكروا كما زعموا فهل يترك المسلمون نصوص الكتاب والسنة لأجل نظرياتهم في هذه اللوازم؟ ثم هل يقولون بضلال سلف الأمة وحصر الهداية بالمبتدعة المتأولين، مع العلم بأن مذهب السلف ونصيرهم ابن تيمية نفى هذه اللوازم كلها؟ وهذا عين ما ناظره فيه العلماء الذين شكوا أمره إلى سلطان مصر، قالوا: إنه يذكر للعوام آيات الصفات وأحاديثها من غير تأويل، وطلبوا منه هو عدم التصريح بذلك للعوام فأبى عليهم ذلك؛ لأنه كتمان لما أنزله الله، والله تعالى يقول في كتابه {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ
نقل المؤلف ترجمة الحافظ ابن حجر والذهبي لابن تيمية
اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) وأي طعن في الدين وجناية عليه أعظم من القول بوجوب كتمان صفات الله المنزلة في كتابه بناء على أن المبتدعة ومغروري المتكلمين قالوا بوجوب تأويلها. وقد قال الرافضي العاملي بعد نقل ما ذكر عن ابن حجر الهيتمي: وقال ابن حجر أيضًا في (الدرر الكامنة) على ما حُكي: إن الناس افترقت في ابن تيمية فمنهم من نسبه إلى التجسيم ... إلخ. ونقول في هذه الكلمة: (أولاً) إن ابن حجر صاحب الدرر الكامنة ليس ابن حجر الهيتمي المكي كما يدل عليه قوله: (أيضًا) بل هو الحافظ ابن حجر العسقلاني وكتابه (الدرر الكامنة) تاريخ له في أعيان المائة الثامنة، وهو مشهور وإن جهله الرافضي العاملي المدعي، فما أجهل هذا الرافضي برجال أهل السنة وكتبهم! (وثانيًا) إن الحافظ ذكر في تاريخه هذا ما تقوَّله الناس على ابن تيمية، وما طعنوا به عليه كما يذكر هو وغيره من
المؤرخين مثل ذلك في غيره من الأئمة حتى المعصومين عند الشيعة؛ ولكنه هو يثني عليه أجلَّ الثناء، وقد رأيت كلامه في الانتصار لمذهب الحنابلة، وهو مذهب السلف في الصفات الإلهية، ومنها صفة العلو، وكذا في مسألة الحرف والصوت في شرحه للبخاري الذي نقلناه آنفًا؛ ولكن الرافضي يعمى عن رؤية ذلك، ويوهم قراء كتابه أن الحافظ ابن حجر شيخ الإسلام وأستاذ أشهر العلماء والحفاظ في عصره يطعن في ابن تيمية ويقول بكفره، لعدم تأويله للآيات والأحاديث الواردة في صفات الرب تعالى، كما أوهم مثل ذلك في الحافظ الذهبي إذ قال بعد ما تقدم نقله عنه في ص 132 من كتابه ما نصه: (ورَدَّ أقاويله وبيَّن أحواله الشيخ ابن حجر في المجلد الأول من الدرر الكامنة، والذهبي في تاريخه وغيرهما من المحققين) . (وثالثًا) ننقل من ترجمة الحافظ ابن حجر لابن تيمية،
ومن ترجمة الحافظ الذهبي فيها ما يُعرف به الحق من الباطل في مزاعم هذا الرافضي الكذاب فنقول: ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله سره للحافظ ابن حجر في تاريخه الدرر الكامنة (¬1) ((هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني ثم الدمشقي الحنبلي، تقي الدين أبو العباس بن شهاب الدين بن مجد الدين. ¬
وُلد سنة إحدى وستين وستمائة وتحول به أبوه من حران سنة سبع وستين وستمائة، فسمع من ابن عبد الدائم والقاسم الأريلي والمسلم بن علان وابن أبي عمر والفخر في آخرين، وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود، وحصل الأجزاء، ونظر في الرجال والعلل، وتفقه، وتمهر، وتميز، وتقدم، وصنَّف، ودرس، وأفتى وَفَاقَ الأقران،
وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوة الجنان، والتوسع في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف. وأول ما أنكروا عليه من مقالاته في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وستمائة: قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية، وبحثوا معه، ومنع من الكلام، ثم حضر القاضي إمام الدين القزويني فانتصر له وقال هو وأخوه جلال الدين: من قال عن الشيخ تقي الدين شيئًا عزّرناه)) . ثم ذكر ما وقع له من الاضطهاد والحبس والإطلاق بتواريخه مفصلاً، فعلم منه أن سببه سعاية بعض الجامدين على التقاليد الأشعرية والفقهية والمتصوفة إلى السلطان في انتصاره لمذهب السلف، وفي إنكاره على الصوفية ولا سيما ابن عربي، وفي مسألة الطلاق الثلاث حتى اتهموه بطلب الخلافة كما سيأتي ذكره وأن جميع الحنابلة كانوا يضطهدون معه، وكان بعض المنصفين ينتصرون له لما امتازوا به من الاستقلال في العلم، حتى إن الحكومة أكرهت الحنابلة كلهم على الإقرار بأنهم على معتقد الإمام الشافعي،
وذكر أن ابن تيمية نفسه كتب بخطه أنه على معتقد الشافعي، وهذا تخلص حسن إن صح فالشافعي كان على مذهب السلف في اعتقاده بلا شك، وذكر أن ممن انتصر لابن تيمية في دمشق قاضي الحنفية شمس الدين الحريري. وأنه توفي معتقلاً في القلعة لعشرين ليلة خلت من رجب سنة 728 ثم قال: قال الصلاح الصفدي: كان كثيرًا ما ينشد: تموت النفوس بأوصابها ... ولم يدر عوادها ما بها وما أنصفت مهجة تشتكي ... أداة إلى غير أحبابها وأنشد له على لسان الفقراء: والله ما فقرنا اختيار ... وإنما فقرنا اضطرار جماعة كلنا كسالى ... وأكلنا ما له عيار يسمع منا إذا اجتمعنا ... حقيقة كلها فشار وسرد أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار وأورد فيه من أمداح أهل عصره كابن الزملكاني قبل أن ينحرف عليه، وكابن
الوكيل وغيرهما، قال: ورثاه محمود بن علي الدقوقي ومجير الدين الخياط وصفي الدين عبد المؤمن البغدادي وجمال الدين بن الأثير وتقي الدين محمد بن سليمان الجعبري وعلاء الدين بن غانم وشهاب الدين بن فضل الله العمري وزين الدين بن الوردي وجمع جم، وأورد لنفسه فيه مرثية على قافية الضاد المعجمة. قال الذهبي ما ملخصه: كان يقضي منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل ورجح، وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه، قال: وما رأيت أسرع منه انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها، ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه ! كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة لا يسبقه بها غيره وعين مفتوحة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه. وأما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه، هذا مع ما كان عليه من الكرم والشجاعة والفراغ عن ملاذّ النفس؛ ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد بل
أكثر، وكان قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم. ثم قال: ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه، وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده. وكان أبيض أسود الرأس واللحية قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت، فصيحًا سريع القراءة، تعتريه حدة لكن يقهرها بالحلم (قال) : ولم أر مثله في ابتهاله واستعانته بالله وكثرة توجهه، وأنا لا اعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية؛ فإنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشرًا من البشر تعتريه حدة في البحث، وغضب وسطة للخصم تزرع له عداوة في النفوس وإلا لو لاطف خصومه لكان لحلمه إجماع، فإن كبارهم خاضعون لعلمه، معترفون بتفوقه، مقرون بندور خطئه وأنه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا
وأفعالاً، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك من قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا، لا يؤتى من سوء فهم؛ فإن له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإنه بحر زاخر، ولا كان متلاعبًا بالدين، ولا ينفرد بمسألة من التشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة من تقدمه من الأئمة فله أجر على خطئه، وأجران على إصابته. إلى أن قال: تمرّضَ أيامًا بالقلعة بمرض حاد إلى أن مات ليلة الإثنين، العشرين من ذي القعدة، وصُلي عليه بجامع دمشق، وصار يُضرب بكثرة من حضر جنازته المثل، وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفًا. (¬1) قال الشهاب بن فضل الله: لما قدم ابن تيمية على البريد إلى القاهرة في سنة سبعمائة نزل عند عمي شرف الدين وحض أهل المملكة على الجهاد، وأغلظ القول للسلطان والأمراء، ورتبوا له ¬
قصة الشيخ الإسلام ابن تيمية وقعت له مع أبي حبان النحوي حول سيبويه والتعليق في الحاشية حول مخالفتها لنصوص من شيخ الإسلام
في مدة إقامته في كل يوم دينارًا ومخفقة طعام، فلم يقبل من ذلك شيئًا، وأرسل له السلطان بقجة قماش فَردَّها. قال: ثم حضر عنده شيخنا أبو حيان فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل، ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة وأنشده إياها: لما أتانا تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فردٌ ما له وزر على محياه من سيما الألى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر حَبرٌ تسربل منه دهره حِبرًا ... بحر تقاذفُ من أمواجه الدرر قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تميم إذ مضت مضر وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الشر إذ طارت له شرر يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ ... هذا الإمام الذي قد كان ينتظر (¬1) قال: ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلظ ابن تيمية القول في سيبويه، فناظره أبو حيان وقطعه بسببه، ثم عاد ذاما له، وصير ذلك ذنبًا لا يغفر. ¬
قال: وحجَّ ابن المحب سنة 24 فسمع من أبي حيان أناشيد، فقرأ عليه هذه الأبيات، فقال: قد كشطتها من ديواني ولا أذكره بخير. فسأله عن السبب في ذلك فقال: ناظرته في شيء من العربية، فذكرت له كلام سيبوبه، فقال: يفشر سيبويه! قال أبو حيان: وهذا لا يستحق الخطاب. ويقال: إن ابن تيمية قال له: ما كان سيبويه نبي النحو ولا معصومًا، بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعًا ما تفهمها أنت، فكان ذلك سبب مقاطعته إياه وذكره في تفسيره (البحر) بكل سوء، وكذلك في مختصره (النهر) (¬1) . ورثاه شهاب الدين بن فضل الله بقصيدة رائية مليحة، وترجم له ترجمة هائلة تنقل من المسالك إن شاء الله تعالى، ورثاه زين الدين بن الوردي بقصيدة لطيفة طائية. وقال جمال الدين السرمري في أماليه: ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل زماننا أن ابن تيمية كان يمر بالكتاب يطالعه مرة، فينتقش في ذهنه وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه. وقال الأقشهري في رحلته في حق ابن تيمية (¬2) : ((بارع في ¬
إشارة إلى قدوم غازان بجيوش التتر وكلام شيخ الإسلام القوي له
الفقه والأصلين والفرائض والحساب وفنون أخر، وما من فن إلا له فيه يد طولى وقلمه ولسانه متقاربان. قال الطوفي: سمعته يقول: من سألني مستفيدًا حققت له، ومن سألني متعنتًا ناقضته فلا يلبث أن ينقطع فأكفى مؤنته. وذكر تصانيفه، وقال في كتابه إبطال الحيل: هو عظيم النفع، وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث، فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد أن يورده في عدة مجالس كأن هذه العلوم بين عينيه، فيأخذ منها ما يشاء، ويذر منها ما يشاء، ومن ثم نسب أصحابُه إلى الغلو فيه، واقتضى له ذلك العجب بنفسه، حتي زها على أبناء جنسه، واستشعر (¬1) أنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم، قديمهم وحديثهم، حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شيء، فبلغ الشيخ إبراهيم الرقي، فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر، وقال في حق علي: أخطأ في سبعة عشر شيئًا (كذا) ثم خالف فيها نص الكتاب منها اعتداد المتوفى عنها زوجها أطول الأجلين. ¬
هل قال شيخ الإسلام: (أن الله ينزل كنزولي هذا) والعياذ بالله (حاشية)
وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى إنه سب الغزالي فقام عليه قوم كادوا يقتلونه. ولما قدم غازان بجيوش التتر إلى الشام خرج إليه وكلمه بكلام قوي، فهمَّ بقتله ثم نجا واشتهر أمره من يومئذ. (¬1) واتفق أن الشيخ نصرًا المنبجي كان قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس الجاشنكير فيه، فبلغه أن ابن تيمية يقع في ابن عربي (¬2) لأنه كان يعتقد فيه أنه مستقيم، وأن الذي ينسب إليه من الاتحاد أو الإلحاد من قصور فهم من ينكر عليه، فأرسل ينكر عليه وكتب إليه كتابًا طويلاً نسبه وأصحابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة الإلحاد (¬3) فعظم ذلك عليهم، وأعانه عليه قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد مغيرة وقعت منه في قواعده وفتاويه، فذكر أنه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين وقال: ¬
تدليس الرافضي وإثبات صفات الله على الحقيقة
كنزولي هذا (¬1) فنسب إلى التجسيم. ورده على من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم واستغاث، فأُشخص من دمشق في رمضان سنة 698 فجرى عليه ما جرى وحبس مرارًا فأقام على ذلك نحو أربع سنين أو أكثر وهو مع ذلك يشتغل ويفتي إلى أن اتفق أن الشيخ نصرًا قام على الشيخ كريم الدين [الآملي] (¬2) شيخ خانقاه سعيد السعداء فأخرجه من الخانقاه، وعلى شمس الدين الجزري فأخرجه من تدريس الشريفية، فيقال إن [الآملي] دخل الخلوة بمصر أربعين يومًا، فلم يخرج حتى زالت دولة بيبرس، وخمل ذكر نصر، وأطلق ابن تيمية إلى الشام. وافترق الناس فيه شيعًا (¬3) فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرها، من ذلك قوله في ¬
تعصب النور البكري
اليد والقدم والساق والوجه: صفات حقيقية لله (¬1) ، وأنه مستوٍ على العرش بذاته (¬2) ، فقيل: يلزم من ذلك التحيز والانقسام، فقال: إنا لا نسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام، فألزم بأنه يقول بتحيز في ذات الله تعالى. ومنهم من نسبه إلى الزندقة لقوله: النبي صلى الله عليه وسلم لا يُستغاث به، وأن في ذلك تنقيصًا ومنعًا من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس عليه في ذلك النور البكري (¬3) ، فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض الحاضرين: يعزر، وقال البكري: لا معنى لهذا القول فإنه إن كان تنقيصًا يقتل، وإن لم يكن تنقيصًا لم يعزر. ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم، ولقوله: إنه كان مخذولاً حيثما توجه، وأنه حاول الخلافة مرارًا ولم ينلها، ¬
وإنما قاتل للرياسة لا للديانة، ولقوله: إنه كان يحب الرياسة، وأن عثمان كان يحب المال، ولقوله في أبي بكر أسلم شيخًا لا يدري ما يقول، وعلي أسلم صبيًّا والصبي لا يصح إسلامه على قول (¬1) ، وبكلامه في قصة خطبته بنت أبي جهل وما بها من الثناء، وقصة أبي العاص بن الربيع وما يؤخذ من مفهومها فإنه شنع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبغضك إلا منافق) . (¬2) ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى؛ فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه (¬3) فكان ذلك مؤكدًا لطول سجنه، وكان له وقائع شهيرة وكان إذا حوقق وألزم يقول: لم أرد هذا؛ وإنما أردت كذا، فيذكر احتمالاً بعيدًا)) . قال: (¬4) وكان من أذكياء العالم، وله في ذلك أمور عظيمة منها أن محمد بن بكر السكاكيني عمل أبياتًا على لسان ذمي في إنكار القدر أولها: أيا علماء الدين ذمي دينكم ... تحير دلوه بأعظم حجة إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يَرضَه مني فما وجه حيلتي ¬
فوقف عليها ابن تيمية، فثنى إحدى رجليه على الأخرى وأجاب في مجلسه قبل أن يقوم بمائة وتسعة عشر بيتًا أولها: سؤالك يا هذا سؤال تعنت ... يخاصم رب العرش باري البرية وكان يقول: أنا ما قرأت في الأقفاص)) . وقال شيخ شيوخنا الحافظ أبو الفتح [اليعمري] (¬1) في ترجمة ابن تيمية: ((حدا بي (يعني (¬2) المزي) على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك، ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه، كان يتكلم في التفسير، فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويروون من بحر علمه العذب المنير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى ¬
أن دب إليه من أهل بلده داء الحسد، وألَّب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلامًا، أوسعوه بسببه ملامًا، وفوقوا لتبديعه سهامًا، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازع طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق ناظر منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها على زعم بوائق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعيه، واستغاثت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فرتبوا محاضر، وألَّبوا الرويبضة (¬1) للسعي بهاتين للأكابر، وسعوا في ¬
نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية فنُقل وأُوْدِع السجن ساعة حضوره واعتُقِل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشروا لذلك قومًا من عمار الزوايا وسكان المدارس، ما بين مجامل في المنازعة، ومخاتل في المخادعة، ومجاهر بالتكفير مبادر بالمقاطعة، ليسوموه ريب المنون، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المخاتل وقد دب إليه عقارب مكره، فردَّ الله كيده في نحره، ونجاه على يد من اصطفاه والله غالب على أمره، ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم يزل ينتقل طول عمره من محنة إلى محنة، إلى أن فوَّض أمره إلى بعض القضاة، فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله، وإلى الله تُرجع الأمور، وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهودًا ضاقت بجنازته الطريق، وأتى لها المسلمون من كل فجٍ عميق، يتقربون بمشهده يوم يقوم الأشهاد، ويتمسكون بسريره حتى كسروا تلك الأعواد.
قال الذهبي مترجمًا في بعض الإجازات: قرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في العلوم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين، وصنَّف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وتصانيفه نحو أربعة آلاف كراسة وأكثر. (¬1) وقال في موضع آخر: وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس له نظير. (¬2) وفي موضع آخر: وله باع طويل في معرفة أقوال السلف، وقل أن يذكر مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأئمة، وقد خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل صنَّف فيها واحتج بالكتاب والسنة. ولما كان معتقلاً بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له بعض مروياته فكتب له جملة من ذلك في عشرة أوراق بأسانيده من حفظه بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر من يكون، وأقام عدة سنين لا يفتي بمذهب معين. (¬3) وقال في موضع آخر: بصير بطريق السلف، واحتج له بأدلة وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها غيره، حتى ¬
قام عليه خلق من العلماء المصريين فبدعوه وناظروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق إذا أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه، وسعة دائرته، فجرى بينهم حملات حربية ووقعات مصرية وشامية، ورموه عن قوس واحدة، ثم نجَّاه الله تعالى، وكان دائم الابتهال، كثير الاستغاثة، قوي التوكل، رابط الجأش، له أوراد وأذكار يديمها يومية وجُمعية. وكتب الذهبي إلى السبكي يعاتبه بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيمية فأجابه، ومن جملة الجواب: وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحقق كبر قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم العقلية والنقلية، وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه في كل فن، ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله له من الزهادة، والورع والديانة، ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض في هذا سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه بذلك المأخذ الأوفى، وغرابة مثله الزمان بل من أزمان.
حادثة لشهاب الدين الأذرعي أثناء جنازة شيخ الإسلام
وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين العلائي في بيت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء الدين عبد الله بن محمد بن خليل ما نصه: وسمع بهاء الدين المذكور على الشيخين شيخنا وسيدنا وإمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى شيخ التحقيق، السالك بمن اتبعه أحسن الطريق، ذي الفضائل المتكاثرة، والحجج القاهرة، التي أقرت الأمم كافة أن هممها عن حصرها قاصرة، متعنا الله تعالى بعلومه الفاخرة، ونفعنا به في الدنيا والآخرة، وهو الشيخ الإمام العالم الرباني، والحبر البحر القطب النوراني، إمام الأئمة، بركة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، شيخ الإسلام، فخر الأعلام، قدوة الأنام، برهان المتكلمين، قامع المبتدعين، سيف المناظرين، بحر العلوم، كنز المستفيدين، ترجمان القرآن، أعجوبة الزمان، فريد العصر والأوان، تقي الدين، إمام المسلمين، حجة الله على العالمين، اللاحق بالصالحين، والمشبه بالماضين، مفتي الفرق، ناصر الحق، علامة الهدى، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون
البديعة، أبو العباس ابن تيمية. وقرأت بخط الشيخ برهان الدين محدِّث حلب، قال: اجتمعت بالشيخ شهاب الدين الأذرعي سنة 79 لما أردت الرحلة إلى دمشق، فكتب لي كتبًا إلى الباسوقي والحسباني وابن الجابي وابن مكتوم وجماعة الشافعية إذ ذاك، فحصل لي بذلك منهم تعظيم، وذكر لي في ذلك المجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية وأثنى عليه وذكر لي شيئًا من كراماته، وذكر أنه حضر جنازته، وأن الناس خرجوا من الجامع من كل باب، وخرجت من باب البريد، فوقعت سرموذتي فلم أستطع أن أستعيدها، وصرت أمشي على صدور الناس، ثم لما فرغنا ورجعت لقيت السرموذة، وذلك من بركة الشيخ رحمة الله تعالى (¬1) . انتهى. (يقول أبو محمد شفيع (¬2) صاحب المنار) : هذا ما قال الحافظان الذهبي وابن حجر وما نقلاه من ثناء الحفاظ والمؤرخين المنصفين في شيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية، وما نقلاه من تقولات حُساده وخصومه من المشايخ المقلدين الجامدين، وما حققه بعضهم ¬
من أسبابها، ومنه يعلم كنه كذب السيد محسن العاملي الرافضي وتعصبه وجهله؛ فإنه أوهم قراء كتابه الملفق أن الحافظين الذهبي وابن حجر كانا يطعنان في عقيدته، وأنه لم يوجد في المسلمين من زكاه إلا تلاميذه، ثم الشيخ محمد عبد الوهاب ثم صاحب المنار، وحسبنا هذا في بيان كذبه وافترائه عليه وعلى العلماء وعلى الوهابية عن عمد وعلى جهل، وما زال غلاة الشيعة أكذب الفرق وأبعدها عن طلب الحق في خلافها لغيرها كما قال أحد علماء الألمان المستشرقين. وأما طعنه علينا فإننا نفوض إلى الله تعالى أمر جزائه عليه {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (الحج: 38) . - تمت الرسالة الأولى -
الفصل الأول: شبهة للشيعة: في مسألة ((إمارة أبي بكر على الحج سنة تسع. وتلاوة على أوائل سورة براءة يوم الحج الأكبر من الموسم. وهو ما جعلنا ذيلا لتفسير الآيات الأربع الأولى من سورة براءة)) وهو: إن بعض الشيعة يكبرون هذه المزيد لعلي عليه السلام كعادتهم ويضيفون إليها ما لا تصح به رواية، ولا تؤيده دراية فيستدلون بها على تفضيله على أبي بكر رضي الله عنهما، وكونه أحق بالخلافة منه، ويزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم عزل أبا بكر من تبليغ سورة براءة لأن جبريل أمره بذلك، وأنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه ولا يخصون هذا النفي بتبليغ نبذ العهود وما يتعلق به بل يجعلونه عاما لأمر الدين كله، مع استفاضه الأخبار الصحيحة بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة، كالجهاد في حمايته والدفاع عنه، وكونه فريضة لا فضيلة فقط، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على مسمع
الحق أن عليا كرم الله وجهه كان مكلفا بتليغ أمر خاص
الألوف من الناس ((ألا فليبلغ الشاهد الغائب)) ، وهو مكرر في الصحيين وغيرهما، وفي بعض الروايات عن ابن عباس ((فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته: فليبلغ الشاهد الغائب)) الخ وحديث ((بلغوا غني ولو آية)) رواه البخاري في صحيحه والترمذي ولولا ذلك لما انتشر الإسلام ذلك الانتشار السر يع في العالم. بل زعم بعضهم - كما قيل - أنه صلى الله عليه وسلم عزل أبا بكر من إمارة الحج وولاها علياً. (¬1) وهذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها الخاص والعام، والحق أن علياً كرم الله وجهه كان مكلفا بتليغ أمر خاص (¬2) وكان في تلك الحجة تابعأً لأبي بكر في إمارته العامة في إقامة ركن الإسلام الاجتماعي العام، حتى كان أبو بكر يعين له الوقت الذي يبلغ فيه. يا على قم فبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم التصريح به في الروايات الصحيحة، كم أمر بعض الصحابة بمساعدته على هذا التبليغ كما تقدم في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما. ¬
ولقد كان تأمير النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على المسلمين في إقامة الحج في أول حجة للمسلمين بعد خلوص السلطان لهم على مكة ومشاعر الحج كلها. كتقديمه للصلاة بالناس قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم كلاهما تقديم له على جميع زعماء الصحابة في إقامة أركان الإسلام التي كان يقوم بها وصلى الله عليه وسلم، وعدها جميع الصحابة ترشيحاً له لتولى الإقامة العامة بعده. فالواقعة دليل على خلافة أبي بكر لا على خلافة على رضي الله عنهما. وقد علم الله كلا منهما سيكون إماماً في وقته. قال الآلوسي بعد ذكر شيء في هذا المعني [روح المعاني 10 / 45] : ((وقد ذكر بعض أهل السنة نكتة في نصب أبي بكر أميراً للناس في حجهم ونصب الأمير كرم الله تعالى وجهه مبلغا نقض العهد في ذلك المحفل، وهي أن الصديق رضي الله عنه كان مظهراً لصفة الرحمة والجمال، كما يرشد إليه ما تقدم في حديث الإسراء وما جاء من قوله صلى الله عليه وسلم ((ارحم أمتي بأمتي أبو بكر)) أحال إليه عليه الصلاة والسلام أمر المسلمين الذين هم مورد الرحمة، ولما كان علي كرم الله وجهه الذي هو أسد الله مظهر جلاله فوض إليه نقض
وقوف المؤلف على مصنف لبعض الشيعة يحتوي ضربا بأمن المبالغة والتكبير والتدليس
عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر. فكانا كعينين فوارتين يفور من إحداهما صفة الجمال، ومن الأخرى صفة الجلال، في ذلك المجمع العظيم الذي كان نموذجاً للحشر ومورداً للمسلم والكافر)) . انتهى. ولا يخفى حسنه لو لم يكن في البين تعليل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان تعليله صلى الله عليه وسلم لتبليغ على نبذ العهود عنه بكونه من أهل بيته ينافى أن تكون النكتة المذكورة علة، فهو لا يأبى أن تكون حكمة. ورأيت في مصنف جديد لبعض الشيعة المعاصرين ضرباً آخر من المبالغة والتكبير (¬1) لهذه المسألة كما فعل بغيرها من مناقبه كرم الله وجهه من حيث يصغر مناقب الشيخين إن لم يجد شبهة أو وسيلة لإنكارها، حتى إنه جعل تنويه كتاب الله عز وجل بصحبة الصديق الأكبر للرسول الأعظم في هجرته وإثبات معيته عز وجل لهما معاً في الغار مما لا قيمة له ولا يعد مزية للصديق (رض) ولولا أنهم قد نشطوا في هذه الأيام لدعاية الرفض والبدع ¬
المؤلف يقلب شبهة الشيعي حجة عليه
والصد عن السنة وأعلامها لما جعلنا شبهة التبليغ تستحق أن تذكر وتبين هنا. ذلك أنه اقتصر من روايات المسألة على ما نقله عن ابن جرير الطبري عن السدى عن من قوله: لما نزلت هذه الآيات إلى رأس الأربعين - يعني من سورة براءة- بعث بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وأمره على الحج. فلما سار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة، أتبعه بعلي فأخذها منه. فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شئ قال ((لا، ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني)) . اهـ ثم استنبط من هذه الرواية أنها تدل على أن نفس علي من الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة نفسه، وأنه خير الصحابة وأفضلهم عند الله وأكرمهم عليه. فإن من كان بهذه الصفة هو الذي يمثل شخص النبي ويقوم مقامه ويكون بمنزله نفسه الشريفة. ثم قال: ((ودل هذا القول منه صلى الله عليه وسلم على أن كون على من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفسه نفسه أمر محقق ثابت لا ريب فيه عند أبي بكر ولهذا لم يحتج صلى الله عليه وسلم لذكره. وذلك ظاهر عنه العارف بطريق
الاستدلال، وترتيب الأشكال، وقد عمد بعض النواصب إلى الحط من هذه الكرامة. فزعم أنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد بأنه نفسه ومنه هو القرب في النسب دون الفضيلة، مدعياً أن من عادة العرب إذا أراد أحدهم أن ينبذ عهداً نبذه بنفسه، أو أرسل به أقرب الناس إليه- الخ ما خالط به، وبني على زعمه هذا أن العباس أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من علي نسباً، فلماذا لم يرسله بهذا التبليغ، مع علمه بأنه لم يقل أحد من أهل السنة بأنه لابد من الأقرب، بل قالوا: إن التبليغ في مثله لعاقد العهد عصبته الأقربين، ولا بأن الرواية بمعنى ما زعمه)) . (وأقول) في قلب شبهته هذه حجة عليه: (أولا) : إن هذا الشيعي المتعصب اختار رواية السدي من روايات في المسألة لأنها تحتمل من تأويله وغلوه ما لا يحتمله غيرها. (ثانياً) إن السدي قال هذا القول من عند نفسه، ولم يذكر له سنداً إلى أحد من الصحابة. (¬1) (ثالثاً) إن ما ذكرناه من الروايات الصحيحة عن على ¬
وأبي هريرة وغيرهما من الصحابة يخالف قول السدى هذا من بعض الوجوه وهي أولى بالتقديم والترجيح. (رابعاً) إن هذا الشيعي الذي يدعى التحقيق لم يذكر قول السدى كله (¬1) ، بل أسقط منه قول النبي صلى الله عليه وسلم المروي عن غير السدى أيضاً ((أما ترضى يا أبا بكر أن كنت معي في الغار وأنك صاحبي على الحوض؟)) قال: بلى يا رسول الله. فسار أبو بكر على الحاج وعلى يؤذن ببراءة. فقام يوم الأضحى فقال: لا يقربن المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فله عهده إلى مدته. وإن هذه أيام أكل وشرب، وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلماً. فقالو: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطن والضرب فرجع المشركون، فلام بعضهم بعضاً وقالوا ما تصنعون وقد أسلمت قريش؟ فأسلموا اهـ نص رواية السدي هذه في تفسير ابن جرير (ص 27ج10 من الطبعة الاميرية) . فإذا كان هذا الشيعي يعتمد هذا الرواية - كما هو الظاهر من اختياره ¬
لها على غيرها فهي حجة عليه فيما تقدم بيانه، ومنه كون الآية الأربعين من سورة براءة هي قوله تعالى (إلا تنصروه فقد نصره الله، إذا أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) . ولا يظهر لأمره صلى الله عليه وسلم بتبليغها للناس فيم يبلغه من نبذ عهود المشركين وهي ليست من موضوعها إلا بيان فضل أبي بكر ومكانه الخاص من الرسول صلى الله عليه وسلم وحكمة جعله نائباً عنه صلى الله عليه وسلم في إقامة ركن الإسلام الاجتماعي العام، وجعل عَلِيّ نفسه - على قربه وعلو مكانته- تحت إمارته حتى في تبليغه هذه الرسالة الخاصة عنه صلى الله عليه وسلم فقد تقدم في الروايات الصحيحة أن أبا بكر كان يأمره بذلك. ولهذا أسقط الرافضي بقية الرواية على كونه ينكر على الصديق الأكبر مزية اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم إياه بأمر الله على موافقته له وحده في أهم حادثة من تاريخ حياته، وهي الهجرة الشريفة، التي كانت مبدأ ظهور الإسلام، وانتشار نوره في جميع العالم. ولو كانت هذه الصحبة أمراً عادياً أو صغيرة لما ذكرت
في القرآن المجيد مقرونة بتسمية الصديق صاحباً لسيد البشر وإثبات معية الله تعالى لها معاً، وفرق بين وصف الله تعالى لشخص معين بهذه الصحبة وبين تعبيره صلى الله عليه وسلم عن أتباعه بالأصحاب، وتواضعاً منه صلى الله عليه وسلم. ثم إن قوله صلى الله عليه وسلم للصديق: ((وصاحبي على الحوض)) يدل على ما سيكون له معه من الخصوصية والامتياز على جميع المؤمنين في يوم القيامة، ولو كان شأنه فيه كشأن غيره ممن يرد الحوض لما كان لهذا التخصيص في هذا المقام مزية، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزه عن العبث. (خامساً) : أن قوله صلى الله عليه وسلم ((أو رجل مني)) في رواية السدي قد فسرتها الروايات الأخرى عند الطبري وغيره بقوله صلى الله عليه وسلم: ((أو رجل من أهل بيتي)) وهذا النص الصريح يبطل تأويل كلمة ((مني)) بأن معناها أن نفس على كنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مثله، وأنه أفضل من كل أصحابه. (سادساً) : إن ما عزاه إلى بعض النواصب هو المعروف عن جميع العلماء من أهل السنة الذين تكلموا في المسألة
ولكن لم يقل أحد منهم بأن علياً كرم الله وجهه لا مزيد له في هذا الأمر، ولا أن سبب نوطه به القرابة دون الفضيلة، وأنه تبليغ لا فخر فيه ولا فضل، بل هذا كله مما اعتاد الروافض افتراءه على أن السنة عند نبزهم بلقب النواصب، فإن كان يوجد في النواصب من ينكر مزية على في هذه المسألة ففي الروافض من ينكر ما هو أظهر منها من مزية أبي بكر في نيابته عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إمارة الحج وإقامة ركنه وتعليم المناسك وتبليغ الدين للمشركين، ومنعهم من الحج بعد ذلك العام تمهيداً لحجة الوداع، إذ كان يكره صلى الله عليه وسلم أن يحج معهم ويراهم في بيت الله عراة نساؤهم ورجالهم يشركون بالله في بيته، وما يتضمن هذه الإمارة مما تقدم بيانه. وأهل السنة وسط يعترفون بمزية كل منهما رضي الله عنهما وعن سائر آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وعن المتبعين لهم في إتباع الحق والاعتراف به لأهله، ومحبة كل منهما بغير غلو ولا تقصير؛ وقاتل الله الروافض والنواصب الذين يطرون بعضاً وينكرون فضل الآخر ويعدون محبته منافسة لمحبته. ***
الفصل الثاني: افتراء الروافض في غزوة حنين والطعن في جميع الصحابة وحفظ للسنة
الفصل الثاني: افتراء الروافض في غزوة حنين (والطعن في جميع الصحابة وحفاظ السنة) هذا فصل جعلناه ذيلا مكملا لتفسير قوله تعالى {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة. . .} الخ. ملخص غزوت حنين: أن جيش المسلمين كان ثلاثة أضعاف جيش المشركين، ولكن كان فيه ألفان من الطلقاء أهل مكة: منهم: المنافق المصر على شركه، الذي يتربص بالمؤمنين الدوائر ليثأر منهم، والذي يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه. (¬1) منهم: ضعفاء الإيمان، والشبان الذين جاءوا للغنيمة لا لإعزاز الحق بالجهاد. وأنه لما وقع عليهم رشق النبال كرجل الجراد (¬2) فر هؤلاء وأدبروا فذعر الجيش وفر غيرهم اضطراباً كما هي العادة في مثل هذه الحال لا جنباً، وكانت حكمة الله في ذلك تربية المؤمنين ¬
جمهور المدبرين في حنين ولوا تبعا للطلقاء والأحداث وأكثرهم لا يعرف مكانه ? وتوثيق ذلك في الحاشية
كما تقدم شرحه (¬1) ، وثَبَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كعادته، وثبت معه من كان قريباً منه من أهل بيته وغيرهم من كبار المهاجرين الذين لم يكونوا يفارقونه، كأبي بكر وعمر وابن مسعود رضي الله عنهم. (¬2) وقد صرح ابن مسعود بأن الذين ثبتوا معه صلى الله عليه وسلم كانوا ثمانين رجلاً كما تقدم، ومن عدهم أقل من ذلك فإنما عد من رآه بالقرب منه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. وليس معنى هذا: أن سائر الجيش قد انهزم جبناً وترك الرسول وهو يعرف مكانه عمداً، بل وَلَّى الجمهور مدبرين بالتبع للطلقاء (¬3) والأحداث (¬4) الذين فروا من رشق السهام، وأكثر هذه الألوف لا يعرف مكانه عليه الصلاة والسلام، كما عرف هؤلاء الذين كانوا حوله صلى الله عليه وسلم ولما علم سائر المسلمين ولا سيما الأنصار بمكانه صلى الله عليه وسلم من نداء العباس رضي الله عنه أسرعوا في العطف والرجوع. هذا ما رواه المحدثون والمؤرخون. ¬
وأما الروافض فأنهم يطعنون كعادتهم في جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعمون أنهم فروا كلهم جبناً وعصياناً لله وإسلاما لرسوله إلى الهلكة، واستحقوا غضبه تعالى ووعيده الذي تقدم في سورة الأنفال، إلا نفرا قليلا لا يتجاوزون العشرة يزعمون أنهم ثبتوا بالتبع لثبات علي كرم الله وجهه، وأنه هو الذي ثبت وحده بنفسه، وأنه لولاه لقتل النبي صلى الله عليه وسلم وزال الإسلام من الأرض!! ذكرنا في آخر تفسير الآيات الأربع الأولى من هذه السورة كتاباً لبعض علماء الشيعة المعاصرين كبر فيه مسألة تلاوة علي أوائل هذه السورة على المشركين سنة تسع، وصغر إمارة أبي بكر على الحج وفندنا شبهه في ذلك. وقد كَبَّرَ صاحب هذا الكتاب ثباتَ علي رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في حنين أضعاف ذلك التكبير، وحقر سائر الصحابة أقبح التحقير، وزعم أن عمر بن الخطاب قد فر في ذلك اليوم مع الفارين وهم بزعمه جميع المسلمين، وإلا علياً وثلاثة رجال - وقيل: تسعة - ثبتوا بثباته.
من صور التناقض عند متهمي عمر بالجبن (حاشية)
أما زعمه أن عمر قد فَرَّ - وهو ما لم يقله أحد من المحدثين ولا أصحاب السير - فقد تأول به رواية لأبي قتادة عند البخاري ذكر فيها هزيمة المسلمين وأنه انهزم معهم، وأنه قال: فإذا عمر بن الخطاب في الناس، فقلت: ما شأن الناس؟ قال أمر الله. ثم تراجع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ فوجب أن نبين ما في كلامه من الجهل والافتراء لأنه جعله تفسيراً لهذه الآية لئلا يضل بعض المطلعين على كتابه في فهمها. قال: ((روى البخاري في صحيحه بإسناده عن أبي قتادة. . .)) الخ. والمتبادر من قوله: ((روي بإسناده)) أنه رواه مسنداً موصولاً، والصواب أن هذه الرواية فيه معلقة بدأها البخاري بقوله: ((وقال الليث حدثني يحيى بن سعيد. . .)) إلخ. قال الحافظ ابن حجر في شرحه من الفتح [8 / 41] : ((وروايته هذه - يعني يحيى بن سعيد - وصلها المصنف في الأحكام عن قتيبة عنه لكن باختصار)) . اهـ ويريد بهذا الاختصار ذكر الحديث المرفوع منها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أقام بينة على قتيل قلته فله سلبه)) وليس فيها ذكر عمر رضي الله عنه؛ ولذلك لم يذكرها
الرافضي؛ لأن غرضه محصور في قول أبي قتادة: ((فإذا عمر بن الخطاب في الناس)) ؛ ليفسره بأنه في الناس الفارين؛ فإن العبارة محتملة لو لم يثبت أن عمر كان فيمن ثبتوا، ولذلك فسره القسطلاني بأنه كان في الناس الذين لم ينهزموا (¬1) ، ومتى كان عمر جباناً يفر من القتال؟! (¬2) وهو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله بأن يعز به الإسلام (¬3) ، وفي بعض الروايات: ((يشد به الدين)) (¬4) فاستجاب الله دعاءه حتى قال عبد الله بن مسعود: ((ما عُبد الله جهرة حتى أسلم عمر)) . (¬5) وقد طعن الرافضي في جميع الصحابة، ولا سيما أصحاب بيعة الرضوان، الذين أثنى الله تعالى عليهم في القرآن وأقسم أنه رضي عنهم وجعل ذلك مما يتعبد به المسلمون إلى آخر الزمان، إذ قال عز وجل {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم فأنزل الله السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً} ثم قال فيهم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ¬
كتب الروافض تدل على أنهم أشد غيظا بالصحابة من جميع الكفار
الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) } . وهذا الكتاب كسائر كتب الروافض يدل على أنهم أشد غيظاً بهم من جميع الكفار (¬1) ، فإن هذا الرافضي زعم أن جميع المسلمين فروا في أثر المؤلفة قلوبهم من أهل مكة. قال: ((ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة: علي (ع) يضرب بالسيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعباس آخذ بلجام بغلته صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابه. قيل: وابن مسعود إلى جانبه الأيسر، وقيل: ثبت معه تسعة من بني هاشم، وهو الذي اعتمده الشيخ المفيد في الإرشاد)) . اهـ. وهو لم يعتمد على إرشاد مفيده وهو من شيوخهم وكبار مصنفيهم في تأييد نحلتهم، فذكر ما اعتمد بصيغة التمريض بعد جزمه هو بثبات الثلاثة -فقط. ثم زعم أن قوله تعالى {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى ¬
المؤمنين} خاص بهؤلاء الذين ثبتوا معه صلى الله عليه وسلم! فيقال له: ولماذا عطف على ما قبله بـ (ثم) الدالة على التراخي؟ أليس دليلا على أن الرسول والذين ثبتوا معه كانوا قد اضطربوا عند اضطراب الجمهور في تلك الهزيمة؟ أوليس نزول السكينة لازماً أو ملزوماً لعودة المهاجرين والأنصار من أهل بيعة الرضوان تحت الشجرة إلى القتال؟ وهل عادوا إلا بعد أن زال بذلك الاضطراب واختلاط الأمر الذي عرض لهم بفرار المؤلفة قلوبهم؟ وهل زال ذلك إلا بما أنزل الله عليهم من السكينة لما سمعوا نداء الرسول صلى الله عليه وسلم ونداء العباس رضي الله عنه وعلموا مكانه صلى الله عليه وسلم؟ وهل يكون أصحاب هذه الكَرَّة الناهضة بعد تلك الفَرَّة العارضة - وهم أصحاب المواقف السابقة والفتوحات اللاحقة - من الجبناء المستحقين لغضب الجبار، ويكون فرارهم خذلاناً للرسول وتعمداً لإسلامه للكفار، كما افترى الرافضي الكَفَّار (¬1) ؟ ¬
لو علم الله أن الصحابة ينقضون العهد ويستقيلون البيع لما أمرهم بالاسبشار به {فاستبشروا ببيعكم}
وخلاصة المعنى الذي يدل عليه عطف إنزال السكينة بـ (ثم) الدال على تأخيره عن تولى الأدبار: أن الاضطراب المنافي للسكينة - بانهزام الطلقاء - كان عاماً؛ إذ تبعه انهزام السواد الأعظم على غير هدى، وهو أمر طبيعي في مثل هذه الحال، فإن اختلف سببه فقد اتفق المآل. فالجيش اضطرب لهزيمة عدد كثير منه، والرسول صلى الله عليه وسلم اضطرب باله حزنا على المسلمين، ثم بعد أن تمت حكمة الله في ابتلائهم بذلك أنزل سكينته على رسوله، فأمر عمه العباس بنداء المهاجرين والأنصار، فناداهم فاستجابوا لله وللرسول صلى الله عليه وسلم إذ أنزل الله السكينة عليهم بدعوته والعلم بمكانه. إن الرافضي عمد بعد أن ذكر مجمل القصة بما وافق هواه من نقل، وما مزجه به من تأويل باطل، إلى تحريف الآيتين في هذه الغزوة، فزعم أنها توبيخ لجميع الصحابة رضي الله عنهم ما عدا الذين ثبتوا وهم في زعمه ثلاثة بل واحد في الحقيقة، وخص أصحاب بيعة الرضوان بالذكر، بل بالذم المقتضى للكفر. قال، بعد أن
زعم أنهم أسلموا صاحبَ الدين لجفاة الأعراب وطغام هوازن وثقيف ما نصه: ((فأين ما بايعتم به الله سبحانه وما أعطيتموه من العهد والميثاق يوم بيعة الرضوان على أن لا تفروا عنه، ومن فر فهو في النار، ومن قتل فهو شهيد؟ فما وفيتم ببيعكم الذي بايعتم به سبحانه (كذا) إذ يقول {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً} أنقضتم العهد؟ أم استقلتم البيع؟ {ثم وليتم مدبرين} غير متحرفين لقتال ولا متحيزين إلى فئة، ومن يفعل ذلك {فقد باء بغضب من الله} )) . اهـ بحروفه وتحريفه لكلام الله تعالى. إذ جعل ذلك كله تفسيراً لآية يوم حنين - التي لم تكن إلا تذكيراً للمؤمنين بعناية الله تعالى بهم ونصره إياهم على ما وقع فيهم من الاضطراب والتولى في أول المعركة -، وقد أراد بهذا التحريف أن يهدم كل ما للصحابة الكرام من الثناء في كتاب الله، ويجعلهم من شرار الخلق عند الله، ويحول رضوان الله عنهم إلى غضبه، ووعدهم إياهم بالجنة إلى وعيدهم بالنار.
جهل الرافضي بأن تفسيره لآية السكينة طعن في النبي صلى الله عليه وسلم وفي الـ3 أو الـ10 الذين زعم ثباتهم وحدهم
أرأيت هذا الرافضي كيف لم يتم آية الشراء؛ لأنها حجة عليه ومبطلة لتأويله؟ وهو قوله تعالى {ومن أوفى بعهده من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} فلو علم الله تعالى أنهم ينقضون العهد أو يستقيلون هذا البيع لما أمرهم بالاستبشار به، ولما عبر عنه بأنه هو الفوز العظيم، أي دون غيره. وقد أشار بقوله: ((أم استقلتم البيع)) ، إلى قول الأنصار رضي الله عنهم عند بيعة العقبة للنبي صلى الله عليه وسلم على منعه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم، ووعده لهم بالجنة إذ قالوا: ((لا نقيل ولا نستقيل)) . (¬1) وقد شهد الله ورسوله لهم بالوفاء، وشهد عليهم الرافضي بالخيانة والغدر، واستقالة البيع! وقد أعاد بعد هذا القول ذكر ما زعمه من فرار عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام، وأنزل بموافقته القرآن، وكان أعظم ناشر له في الأرض بعد رسوله عليه الصلاة والسلام. ¬
كأن الرافضي يشعر شعورا خفيا لا يدركه عقله بأنه لا يتم إثبات غلوه في على إلا بافتراء مناقب مقرونة بتحقير الصحابة
ثم فسر السكينة ((بتثبيت القلب وتسكينه وإيداعه الجرأة والبسالة)) وقال: ((وإنما أنزلها الله على رسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وهم الثلاثة أو العشرة الذين مر ذكرهم)) . وقد جهل أن هذا التفسير طعن فيهم لأنه نص على أن هذه المعاني من السكينة لم تكن للرسول صلى الله عليه وسلم ولا لهم في أول القتال، لعطف نزولها على تولية الأدبار بـ ((ثم)) المفيدة للتراخي. والصواب اللائق به صلى الله عليه وسلم وبأصحابه المؤمنين رضي الله عنهم ما ذكرنا. ثم إنه بعد هذا الطعن في جميع الصحابة رضي الله عنهم- والاستثناء معيار للعموم على أنه حصره بعد في علي وحده - قال: ((فإذا تدبرت حالة المسلمين وما قرعهم فيه وعاتبهم به سبحانه، وكيف باهى الله سبحانه بأمير المؤمنين ذلك العسكر المجر والجحفل الحاشد بأعلام الصحابة وأكابر المهاجرين والأنصار وصناديدهم ومن إليهم الإيماء والإشارة، ظهرت لك عظمته ومكانته من الله ورسوله، ومبلغه من الدفاع عن الدين والدولة. . .)) إلى آخر ما أطال به وأسهب من المعاني الشعرية في تحقير جميع المؤمنين حتى خص بالذكر
الزبير وطلحة وسعد بن وأبي وقاص الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وخالد بن وليد سيف الله ورسوله وفاتح العراق والشام ورافع لواء الإسلام، وأبا دجانة وسهل بن حنيف وسعد بن عبادة والحارث ابن الصمة وأبا أيوب وأمثالهم من صناديد الإسلام الأعلام، فزعم كاذباً مفتريا أن تلك الصدمة ((أطارت أفئدتهم وشردت بهم في كل واد)) ليقول في علي: ((وكيف قام في وجهها وانتدب لصدها وأقدم على ردها بصدر أوسع من الفضاء وقلب أمضى من القضاء)) زعم بل أقسم أنه ((لقد فاز من بين أصحاب رسول الله بأجرها، واستولى على فضلها وطار بفخرها)) كأنه يشعر شعوراً خفياً لا يدركه عقله بأنه لا يتم له إثبات غلوه فيه إلا بافتراء مناقب له مقرونة بتحقير سائر إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالكذب على الله في الأمرين: كزعمه أنه تعالى قرعهم وباهى به، تعالى الله عن ذلك. (¬1) ثم ذكر أنه يقول هذا غير مزدرٍ لتلك العصبة الهاشمية وهم التسعة الذين ثبتوا معه صلى الله عليه وسلم أيضاً - أي كما أزدرى سائر الصحابة -، وإنما استثناهم من الازدراء لنسبهم لا لشجاعتهم وفضلهم، وذلك ¬
تحقير لهم. فقد قال بعده: ((فو الله الذي لا إله غيره ما ثبت أولئك إلا بثباته، ولا ركنوا إلا لدفاعه ومحاماته، علماً منهم بكفايته لحمايتهم والذَّب عنهم؛ فإن كل من ألم بالتاريخ وقرأ اليسير علم أن أولئك الهاشميين لم يكن لهم قبل ذلك موقف مشهور ولا مقام مذكور، ولا دَوَّن لهم التاريخ قتل أحد)) . إلى أن قال غلواً في الاطراد والمدح وإسرافا في الازراء والقدح وتهويلا للأمر: ((بربك دع التكلف وخبرني منصفاً لو فر أمير المؤمنين (ع) من بين أولئك التسعة مع ما يعلمونه من بأسه وشجاعته، أكان يثبت منهم أحد؟ كلا والله. وحينئذ تكون الطامة الكبرى والقارعة العظمى بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذهب الدين والدولة، وفي ذلك هلاك الأمم بعد نجاتها، وانقراضها بعد حياتها، فثابت إليه تلك الفئة التي لم تتجاوز مائة (؟) مقاتل هو السبب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبقاء الدين والدولة، ونجاة الخلق من الهلكة)) . ثم فرع على هذه التخيلات الشعرية، والتهويلات الخطابية
الله أسند النصر لنفسه وأنزل جنودا لم يروها
والمفتريات الرافضية، بتخطئة الأمة الإسلامية في تولية أمرها (يعني الإمامة العظمى) غير صاحب هذه المنة عليها وعلى الدين والدولة، وعلى..... من أستغفر الله من الإشارة إليه، وإن كان حاكى الكفر ليس بكفر. ثم قفى على تخطئة الأمة على تخطئة الأمة بتخطئة الشيخين البخاري ومسلم وأمثالهما من رواة صحاح السنة لأنهما لم يفتريا في القصة ما افتراه هو وأمثاله على الله في كتبه، وعلى رسوله في سنته، وعلى خيرة أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقد بدأ طعنه في الشيخين بقصد هدم السنة وصرف المسلمين عنها بقوله: ((وأعجب للشيخين في صحيحيهما كيف لم يذكر الأمير المؤمنين (ع) من ذلك الموقف العظيم والنصر الباهر شيئاً، وقد نطق بذلك الذكر الحكيم؟)) . وسنرد طعنه على الشيخين في نحره في المنار، وإنما غرضنا في التفسير الدفاع عن كتاب الله والكذب عليه. إن الله تعالى لم يذكر في القرآن أن عليا رضي الله عنه هو الذي نصر المؤمنين في حنين لا بمنطوق ولا مفهوم، وإنما أسند
ذلك إلى نفسه عز وجل {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين} وقال {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} ، ولم يقل (وعلى علي) وحده، ولا على الثلاثة أو التسعة الذين زعم الشيعة أنه لم يثبت معه صلى الله عليه وسلم غيرهم. وقد مر أنه ثبت معه ثمانون رجلاً (¬1) عرفوا بأسمائهم، وهو لا ينفى ثبات غيرهم أيضاً؛ لأن العدد لا مفهوم له. وقال {وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا} ولم يقل إن علياً هو الذي عذبهم وهو الذي هزمهم، ولم يقل ذلك أحد من المحدثين ورواة السيرة النبوية. فإن زعم أنهم كتموها لأنهم كانوا يكتمون فضائل على وحده! (قلنا) : إنهم لم يرووا من مناقب أحد من الصحابة بقدر ما رووا من مناقبه رضي الله عنه وعنهم (¬2) ، ومما رواه ثباته مع النبي صلى الله عليه وسلم وتخصيص الشيخين عباساً وأبا سفيان بن الحارث بالذكر لأنه ثبت عندهما بشروطهما المعروفة، كما أنهما لم يذكر أبا بكر وعمر أيضاً، وهو قد نقل عن البخاري رواية معلقة زعم أنها تدل على أن عمر رضي الله عنه كان من المدبرين. ولم يرو البخاري في ¬
صحيحه حديثاً ما في مناقب معاوية، وروى الأحاديث الكثيرة في مناقب على كرم الله وجهه. وإذا كان البخاري ومسلم قد تركا الرواية عمن لا يثقان بعدالته من الروافض فهل يلامان ونحن نرى مثل هذا المؤلف منهم يفتري الكذب على الله ورسوله، ويحرف كلام الله تعالى غلوا في علي - كرم الله وجهه وأغناه بمناقبه الكثيرة الصحيحة عن ذلك - وإزراءً وقدحاً في خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعناً فيهم بالباطل؟ ليس في التزام الشيخين للصدق مثار للعجب، وإنما العجب من هذا الرافضي كيف لم يستح من الله حيث أسند إلى كتابه ما ليس فيه، بل ما فيه خلافه أيضا من رضاه عن المهاجرين والأنصار وحيث أقسم به أنه ما ثبت أحد في حنين إلا على و 3 أو 9 ثبتوا بثباته، والاعتماد على محاماته، لا بشجاعتهم ولا بأيمانهم ولا بحرصهم على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم كيف لم يستح منه تعالى ومن رسوله وسيد خلقه، الذي
نقل رواية شيعية تبين أثر عودة الصحابة رضي الله عنهم في النصر في المعركة
لم يكن لعلي فضلٌ إلا من فضله، حيث زعم أنه لولاه لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب الدين والدولة، وهلكت الأمم وانقرضت؟ فجعل له المنة وحده على رسول الله وعلى دينه وعلى جميع خلقه بما افتراه من ثباته وحده معه! ولو ثَبَتَ ثباتُه وَحْدَه لما اقتضى كل هذه المنن؛ فإن النصر لم يكن بمن كان معه صلى الله عليه وسلم أولاً، بل بفضل الله ثم تأييده، وبعود المهاجرين والأنصار إلى القتال (¬1) ، وإنزال ملائكته لتثبيتهم في مواقف النزال. ألم يؤمن بقول الله تعالى له صلى الله عليه وسلم {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك (¬2) وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} فكيف يسلط عليه من يقتله؟ أو لم يعلم بأن أفراداً وجماعات قصدوا قتله صلى الله عليه وسلم مراراً فعصمه الله منهم ولم يكن علي معه؟ ألم يؤمن بما ثبت في الكتاب والسنة من وعد الله لرسوله بالنصر وإظهار دينه على الدين كله، ومن إيعاد أعدائه بالخدلان؟ ومن ذلك جزمه صلى الله عليه وسلم بأن ما جمعته هوازن لقتاله صلى الله عليه وسلم في حنين ¬
الكيل بميكالين والازدواجية في نظرة ذلك الكاتب الشيعي
غنيمة للمسلمين كيف يقول: ((إنه لولا علي لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وزالت دولة الإسلام وهلكت الأمم)) ؟! وهل كانت هوازن قادرة على ما عجز عنه سائر العرب مع أن المسلمين كانوا أقوى منهم في كل شيء ونصر الله فوق ذلك؟ ألم يكتف بجعل ما جاء به من الغلو والافتراء ذريعة للطعن في جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الثلاثة أو التسعة الذين اعترف بفضلهم لنسبهم وإنزال السكينة عليهم، وفي أَجَلِّ رواة السنة الصحيحة وممحصيها من الكذب، حتى جعل المنة لعلي على رسول الله وخاتم النبيين في حياته، وبلوغ دعوته، وتأييد الله ونصره له، وبقاء دينه وأمته؟! أبمثل هذا تكون دعاية المسلمين إلى الرفض وتحقير الصحابة ورجال السنة؟! والذي يعلمه بالبداهة كل صحيح العقل مستقل الفكر مطلع على تاريخ الإسلام أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم لم يكونوا جبناء بل كانوا أشجع خلق الله (¬1) ، وأن ¬
الله تعالى أيد رسوله صلى الله عليه وسلم بنصره وبهم في جملتهم لا بعلي وحده، كرم الله وجوههم ووجهه، كما قال عز وجل {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم} الآية. وإن الذين ثبتوا معه صلى الله عليه وسلم في بدر، وهم أذلة جائعون، حفاة راجلون، قليل مستضعفون فنصرهم الله على صناديد قريش وفرسانها الذين هم ثلاثة أضعافهم ما كانوا ليجبنوا عن قتال هوازن وهم على النسبة العكسية من مشركي بدر معهم، ولكن الله تعالى ابتلاهم بما تقدم ذكره مع بيان سببه تمحيصاً ليزدادوا إيمانا به وبعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم وتأييده بنصره، ولا يغتروا بالكثرة وحدها. ولو أقسم مقسم بالله تعالى على خلاف ما أقسم عليه هذا الشيعي الذي ملك عليه الغلو أمره، وسلب التعصب عقله، فقال: والله الذي لا إله غيره إن الله تعالى ما بعث محمداً خاتماً للنبيين، ومكملاً للدين، ورحمة للعالمين، إلا وهو قد كَفَلَ نَصْرَه على أعدائه الكافرين، وعِصْمَتَه من اغتيال المغتالين، بفضله وحده لا بفضل علي ولا غيره. وأنه لو لم يخلق على بن أبي طالب، أو لم
يكن في جيش رسوله في حنين لما قتل رسول الله (¬1) صلى الله عليه وسلم ولا زال دين الله من الأرض، ولا هلكت الأمم والشعوب، ولوَفَّى الله تعالى بوعده لرسوله بنصره على أعدائه كلهم. لو أقسم السني المحب لجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القسم الموافق لكتاب الله وسنة رسوله وللتاريخ الصحيح وللمعقول من سنن الاجتماع، لكان قسمه أبر وأصدق وأرضى لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولعلي عليه السلام والرضوان من قسم ذلك الشيعي على جهله وتعصبه المخالف لكل ما ذكر {ومن يضلل الله فما له من هاد} . *** ¬
فضائل أبي بكر الصديق في آية الغار وأحاديث الهجرة
فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه في آية الغار من القرآن (وأحاديث الهجرة) قد رأيت رأيت أيها القارئ ما اجترحه أحد علماء الشيعة المعاصرين في جبل عامل من تحريف القرآن غلواً في إطراء علي - كرم الله وجهه - والطعن في جميع الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وخاصة عمر بن الخطاب فاتح الممالك والأمصار، ومقيم دعائم ملك الإسلام على أمتن أساس. وإنني أذكر لك هنا ما اجترحه سلف هذا الرافضي المتقدمون من تحريف آية الغار - التي فضل الله بها الصديق الأكبر على جميع المؤمنين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وجَعْلِهِمْ إياها مع أحاديث الهجرة الدالة على تفضيل رسول الله إياه على جميع المؤمنين: دالين على القدح والذم. بعد أن أنقل لك جل ما كتبته في تفسير الآية من
معنى ثاني اثنين أي واحد من اثنين
تفسير المنار لتعلم ما نشأ عليه هؤلاء الغلاة من الجهل والإلحاد في آيات الله، والعبث بكتاب الله وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم وتاريخ الإسلام. وهو: قال عز وجل {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا} أي إلا تنصروا الرسول الذي استنفركم في سبيل الله على من أرادوا قتاله من أولياء الشيطان فسينصره الله بقدرته وتأييده كما نصره إذ أجمع المشركون على الفتك به، وأخرجوه من داره وبلده، أي: اضطروه إلى الخروج والهجرة ولولا ذلك لم يخرج. وقد تكرر في التنزيل ذكر إخراج المشركون للرسول وللمؤمنين المهاجرين من ديارهم بغير حق، وليس المراد منه أنهم تولوا طردهم وإخراجهم مجتمعين ولا متفرقين، فإن أكثرهم خرج مستخفياً كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه رضي الله عنه. أو تقدير الكلام: {إلا تنصروه} فقد أوجب الله له النصر في كل حال وكل وقت، حتى نصره في ذلك الوقت الذي لم يكن معه جيش ولا أنصار منكم، بل حال كونه {ثاني اثنين} أي: أحدهما؛ فإن مثل هذا التعبير لا يعتبر فيه
الأولية الأولوية؛ لأن كل واحد منهما ثان للآخر ومثله ثالث ثلاثة ورابع أربعة، لا معنى له إلا أنه واحد من ثلاثة أو أربعة به تم هذا العدد، على أن الترتيب فيه إنما يكون بالزمان أو المكان وهو لا يدل على تفضيل الأول على الثاني ولا الثالث أو الرابع على من قبله. (¬1) وسيأتي في حديث الشيخين (ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟) {إذ هما في الغار} أي: في ذلك الوقت الذي كان فيه الاثنان في الغار المعروف عندكم، وهو غار جبل ثور {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} أي: إذ كان يقول لصاحبه الذي هو ثانيه وهو أبو بكر الصديق (رض) حين رأى منه أمارة الحزن والجزع؛ أو كلما سمع منه كلمة تدل على الخوف والفزع {لا تحزن} الحزن انفعال نفسي اضطراري يراد بالنهي عنه مجاهدته وعدم توطين النفس عليه، والنهي عن الحزن - وهو تألم النفس مما وقع - يستلزم النهي عن الخوف مما يتوقع. وقد عبر عن الماضي بصيغة الاستقبال {يقول} للدلالة على التكرار المستفاد من بعض الروايات، ولاستحضار صورة ما كان في ذلك والمكان ليتمثل المخاطبون ¬
ما كان لها من عظمة الشأن، وعلل هذا النهي بقوله {إن الله معنا} أي: لا تحزن؛ لأن الله معنا بالنصر والمعونة، والحفظ والعظمة، والتأييد والرحمة، ومن كان الله معه بعزته التي لا تغلب، وقدرته التي لا تقهر، ورحمته التي قام ويقوم بها كل شيء، فهو حَقِيقٌ بأن لا يستسلم لحزن ولا خوف. وهذا النوع من المعية الربانية أعلى من معيته سبحانه للمتقين والمحسنين في قوله {واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (128) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} والفرق بينهما: أن المعية في آية سورة النحل لجماعة المتقين المجتنبين لما يجب تركه والمحسنين لما يجب فعله، فهي معية بوصف مشتق هو مقتضى سنة الله في عالم الأسباب لكل من كان كذلك، وإن كان الخطاب في النهي عن الحزن قبلها للرسول (صلى الله عليه وسلم) . وأما المعية هنا فهي لذات الرسول وذات صاحبه غير مقيدة بوصف هو عمل لهما، بل هي خاصة برسوله وصاحبه من حيث هو صاحبه، مكفولة بالتأييد بالآيات وخوارق العادات وكبير العنايات، إذ ليس المقام
بمقام سنن الله في الأسباب والمسببات، التي يُوَفِّقُ لها المتقين والمحسنين المتقنين للأعمال. يعلم هذا التفاوت بين النوعين من الحق الواقع - إن لم يعلم من اللفظ وحده -، وهي من قبيل قوله تعالى لموسى وهارون إذ أرسلهما إلى فرعون فأظهرا الخوف من بطشه بهما {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى * قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} . وقد كان خاتم النبيين أكمل منهما، إذ لم يخف من قومه الخارجين في طلبه للفتك به كما سنذكره، وكان للصديق الأكبر أسوة حسنة بهما إذ خاف على خليله وصفيه الذي شرفه الله في ذلك اليوم الفذ بصحبته، وإنما نهاه صلى الله عليه وسلم عن الحزن لا عن الخوف، ونهى الله موسى وهارون عن الخوف لا عن الحزن؛ لأن الحزن تألم النفس من أمر واقع وقد كان نهيه (صلى الله عليه وسلم) إياه عنه في الوقت الذي أدرك المشركون فيه الغار بالفعل. روى البخاري [3653] ومسلم [2381] وغيرهما من حديث أنس قال: حدثني أبو بكر قال: ((كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه، فقال عليه الصلاة
حزن الصديق وخوفه
والسلام: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)) . وأما الخوف فهو انفعال النفس من أمر متوقع، وقد نهى الله رسوليه عنه قبل وقوع سببه، وهو لقاء فرعون ودعوته إلى ما أمرهما به، والنهى عن الحزن يستلزم النهي عن الخوف كما تقدم. وقد كان الصديق خائفاً وحزناً كما تدل عليه الروايات، وهو مقتضى طبع الإنسان. (¬1) وحاصل المعنى: {إلا تنصروه} بالنفر لما استنفركم له فإن الله تعالى قد ضمن له النصر، فهو ينصره كما نصره في ذلك الوقت الذي اضطره المشركون فيه بتألبهم عليه واجتماع كلمتهم على الفتك به، في ذلك الوقت الذي كان فيه ثاني اثنين في الغار، أَعْزَلَيْن غَيْرَ مستعدَّيْن للدفاع؛ وكان صاحبه فيه قد ساوره الحزن والجزع (¬2) ، في ذلك الوقت الذي كان يقول له فيه وهو آمن مطمئن بوعد الله وتأييده ومعيته الخاصة {لا تحزن إن الله معنا} فنحن غير مكلفين بشيء من الأسباب أكثر مما فعلنا من استخفائنا هنا. وقد بينا في الكلام على غزوة بدر من تفسير سورة الأنفال المقارنة بين حالي الرسول ¬
الأعظم والصديق الأكبر هنالك، إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستغيث ربه، ويستنجزه وعده، وكان الصديق رضي الله عنه يسليه ويهون الأمر عليه، على خلاف حالهما في الغار، وأثبتنا أن حاله صلى الله عليه وسلم في الموضعين كان الأكمل الأفضل؛ إذ أعطى حال الأخذ بسنن الله في الأسباب والمسببات في بدر حقه، وأعطى حال المتوكل المحض في الغار حقه (¬1) . فتكرار الظرف (إذ) في المواضع الثلاثة مبدلاً بعضها من بعض في غاية البلاغة، به يتجلى تأييده تعالى لرسوله أكمل التجلي (¬2) ، فهو يذكرهم بوقت خروجه صلى الله عليه وسلم مهاجراً مع صاحبه بما كان من قريش من شدة الضغط والاضطهاد، وقد تقدم تفصيله في تفسير {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} من سورة الأنفال، وسيعاد مختصراً في هذا السياق. ويتلوه تذكيرهم بإيوائه مع صاحبه إلى الغار ¬
الضمير في قوله تعالى {سكينته} يعود على من؟
لا يملكان من أسباب الدفاع عن أنفسهما شيئاً. ثم يخص بالذكر وقت قوله لصاحبه {لا تحزن إن الله معنا} أي: أنه كان هو الذي يسلي صاحبه ويثبته، لا أنه كان يتثبت به، وهكذا كان شأنه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في كل وقت يشتد فيه القتال أيضاً. وكون سبب ذلك وعلته إيمانه الأكمل بمعية الله عز وجل الخاصة، فالعبرة لهم في هذه الذكريات الثلاث أن الله تعالى غني عن نفرهم مع رسوله بقدرته وعزته، وإن رسوله صلى الله عليه وسلم غني عن نصرهم له بنصره عز وجل وتأييده، وبقدرته على تسخير غيرهم له من جنوده وعباده؛ وقد بين تعالى أثر ذلك وعاقبته بقوله {فأنزل الله سكينته عليه} أخرج ابن أبي حاتم [سورة التوبة، رقم: 1096] ، وأبو الشيخ وابن مردويه (¬1) ، والبيهقي في الدلائل [في الدلائل 2/482] ، وابن عساكر في تاريخه [30 / 88] عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {فأنزل الله سكينته عليه} قال: ((على أبي بكر (¬2) ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل السكينة معه)) . (¬3) وأخرج الخطيب في تاريخه [4 / 345] عن حبيب بن أبي ثابت {فأنزل الله سكينته} قال: ((على أبي بكر (¬4) ، فأما النبي فقد كانت عليه السكينة)) . ¬
وقد أخذ بهذه الرواية بعض مفسري اللغة والمعقول (¬1) ووضحوا ما فيها من التعليل بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحدث له وقتئذ اضطراب ولا خوف ولا حزن، وقواها بعضهم بأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور وهو الصاحب، وليس هذا بشيء. وذهب آخرون إلى أن الضمير يعود إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وإن إنزال السكينة عليه لا يقتضي أن يكون خائفاً أو مضطرباً أو منزعجاً، وهذا ضعيف لعطف إنزال السكينة على ما قبلها بالفاء الدال على وقوعه بعده وترتيبه عليه، وإن نزولها وقع بعد قوله لصاحبه {لا تحزن} ولكنهم قووه بأن ما عطف عليه من قوله {وأيده بجنود لم تروها} لا يصح إلا للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد بهؤلاء الجنود الملائكة، لأن الأصل في المعطوفات التعانق وعدم التفكك. (¬2) وأجاب عنه الآخذون بقول ابن عباس ومجاهد: أولاً: بأن التأييد بالجنود معطوف على قوله {فقد نصره الله} لا على {فأنزل الله سكينته} . وثانياً: بأن تفكك الضمائر لا يضر إذا كان المراد من كل منها ظاهراً لا اشتباه فيه. ¬
وثالثاً: بأنه لا مانع من جعل التأييد لأبي بكر، نقله الألوسي [روح المعاني 10 / 98 ط: التراث] وقال: ((كما يدل عليه ما أخرجه ابن مردويه من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: ((إن الله تعالى أنزل سكينته عليك وأيدك..)) إلخ. (¬1) وقال بعض المفسرين: إن المراد بهذه الجنود ما أيده الله تعالى به يوم بدر والأحزاب وحنين. وقال بعضهم: بل المراد أنه أيده بملائكة في حال الهجرة يسترونه هو وصاحبه عن أعين الكفار ويصرفونها عنهما فقد خرج من داره والشبان المتواطئون على قتله وقوفٌ ولم ينظروه، وإننا نرجع إلى سائر ما في التنزيل من ذكر إنزال السكينة والتأييد بالملائكة لنستمد منها فهم ما في هذه الآية. أما إنزال السكينة فذكر في ثلاث آيات فقط: (أولاها) الآية الرابعة من سورة الفتح. (والثانية) الآية السادسة والعشرون منها. وكان نزول السورة بعد صلح الحديبية الذي فتن فيه المؤمنون واضطربت قلوبهم بما ساءهم من شروطه التي عَدُّوها إهانة لهم وفوزاً للمشركين وأمرها مشهور، فكان ¬
ألزم الله تعالى الصحابة رضي الله عنهم كلمة التقوى
من عناية الله تعالى بهم أن ثبت قلوبهم ومكنهم من فتح خيبر وأنزل سورة الفتح مبيناً فيها حكم ذلك الصلح وفوائده وامتن بذلك على رسوله وعليهم بقوله {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} إلى قوله {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليماً حكيما} فهذه سكينة خاصة بالمؤمنين، بَيَّنَ حكمتها العليم الحكيم وفيها إشارة إلى جنود الملائكة لا تصريح. ثم قال بعد ما تقدمت الإشارة إليه من حِكَم ذلك الصلح، وما أعقبه من الفتح {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما} . (¬1) الأشهر في تفسير هذه الحمية أنها ما أباه المشركون في كتاب الصلح من بدئه بكلمة بسم الله الرحمن الرحيم ومن وصف محمد صلى الله عليه وسلم فيه برسول الله (¬2) وتعصبهم لما كان من عادة الجاهلية، وهو باسمك اللهم، وهذا مما ساء رسول الله ¬
صلى الله عليه وسلم بلا شك، كما ساءه كراهة جمهور المسلمين الأعظم لهذا الصلح، ولكنه لم يكن ليضيع بذلك صلحاً عظيماً كان أول فتح لباب حرية دعوة الإسلام في المشركين، بوضع الحرب عشر سنين، فأنزل الله سكينته عليه وألهمه قبول شروطهم، وأنزلها على المؤمنين بعد أن هموا بمعارضته صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالتحلل من عمرتهم فتلبثوا حتى خشي عليهم الهلاك واستشار في ذلك زوجه أم سلمة فأشارت عليه بأن يخرج إليهم ويأمر حلاقه بحلق شعره ففعل، فاقتدوا به بما أنزل الله عليهم من سكينته. والآية الثالثة: هي ما تقدم في هذه السورة في سياق غزوة حنين، إذ راع المسلمين رشق المشركين إياهم بالنبل فانهزم المنافقون والمؤلفة قلوبهم واضطرب جمهور المسلمين بهزيمتهم فولوا مدبرين، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه الكفار مع عدد قليل صار يكثر بعلمهم بموقفه، وقد حزن قلبه لتوليهم {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها} وما العهد بتفسيرها ببعيد. فهذه سكينة مشتركة
بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، سكن بها ما عرض له صلى الله عليه وسلم من تأثير هزيمتهم، وسكن ما عرض لهم من الاضطراب لهزيمة المنافقين والمؤلفة قلوبهم كما تقدم. وأما ذكر الجنود التي وصفها تعالى بقوله (لم تروها) فقد جاء في هاتين الآيتين من سورة براءة، أي آية غزوة حنين وآية الغار من سياق الهجرة، وجاء في الكلام على غزوة الأحزاب من السورة التي سميت باسمها وهو {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً} وقد كانت هذه الجنود والجنود التي أرسلت في يوم حنين لتخذيل المشركين وتأييد المؤمنين، وفي معناها قوله تعالى في الكلام على غزوة بدر {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} فهذه الملائكة نزلت لإلقاء الرعب في قلوب المشركين وتأييد المؤمنين وتثبيت قلوبهم، كما بينه تعالى بقوله {وما جعله
الله إلى بشرى لكم ولتطمئن به قلوبكم} إلى قوله {إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} وراجع تفسير السياق (في ص 607 - 614 ج 9 تفسير) وفيه ذكر آيات سورة آل عمران التي نزلت في الكلام على غزوة أحد. فإذا كانت الملائكة في هذه المواقع كلها نزلت لتأييد المؤمنين على المشركين وتخذيل هؤلاء، وكان النائبُ عن جميع المؤمنين والحالّ محلهم في خدمة رسوله يوم الهجرة هو صاحبه الأول الذي اختاره عليهم كلهم في ذلك اليوم العظيم، فأي بُعْدٍ في أن يكون التأييدُ المرافقُ لإنزال السكينة له لحلوله محلهم كلهم. ومن المعلوم أنه لم يكن له هذا إلا بالتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن جميع ما أيد به تعالى سائر أصحاب رسوله في جميع المواطن كان تأييداً له وتحقيقاً لما وعده الله تعالى من النصر على جميع أعدائه، وإظهار دينه على الدين كله، ولذلك قال
المراد بـ {كلمة الذين كفروا} وإشارة إلى قول الغلاة
{وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا} . في الآية احتمالان: أحدهما: أن يكون المراد بكلمة الذين كفروا كلمة الشرك والكفر. وبكلمة الله كلمة التوحيد، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬1) وعليه أهل التفسير المأثور. ووجهه: أن عداوة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت لأجل دعوته إلى التوحيد الخالص من جميع شوائب الشرك وخرافات الوثنية ولذلك قام أبو سفيان عند ظهور المشركين في أحد فقال رافعاً صوته ليسمع المسلمون: (أُعْلُ هُبَل! أُعْلُ هُبَل!) وهبل صنمهم الأكبر، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يجاب: ((الله أعلى وأجل)) . (¬2) وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((سئل عن الرجل يقاتل غضباً وحمية ويقاتل رياء - وفي رواية: للمغنم وللذكر - أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) . (¬3) والاحتمال الثاني: أن يكون المراد بكلمة الذين كفروا ما أجمعوه بعد التشاور في دار الندوة من الفتك به صلى الله عليه وسلم والقضاء على دعوته، وهو ما تقدم في سورة الأنفال من قوله تعالى {وإذ يمكر بك الذين كفروا} إلخ، ويكون المراد بكلمة الله: ما قضت ¬
به إرادته ومضت به سنته من نصر رسله وبينه في مثل قوله {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون} وقوله {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} فهذه كلمة الله الإرادية القدرية التي كان من مقتضاها وعده لرسوله الأعظم بالنصر. وفسر بعضهم كلمته هنا: بما وعده من إحباط كيدهم، ورد مكرهم في نحورهم، وهو قوله في تتمة الآية {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} . وما قلناه هو الأصل والقول الفصل وهذا مبني عليه. (¬1) وقد قرأ الجمهور {وكلمةُ الله} بالرفع (¬2) لإفادة أنها العليا المرفوعة بذاتها لا بجعل وتصيير، ولا كسب وتدبير، وقرأها يعقوب بالنصب (¬3) . والمراد من القراءتين معاً: أنها هي العليا بالذات ثم بما يكون من تأييد الله لأهلها القائمين بحقوقها بجعلهم بها أعلى من غيرهم، كما قال {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} وبجعلها بهم ظاهرة بالعلم والعمل، تعلو كل ما يخالفها عند غيرهم. فإن كان المراد بها ما تعلقت به إرادته تعالى ومضت به سنته من نصر رسله وإظهار دينه (وهي كلمة التكوين) فالأمر ظاهر؛ لأن ¬
ما تتعلق مشيئته تعالى به كائن لا محالة، لا يوجد ما يعارضه فيعلو عليه أو يساويه. وكذلك إن أريد بها الخبر الإلهي بهذا النصر والوعد به - الذي هو بيان لهذه السنة التي هي من متعلقات صفة الإرادة - بناء على أنه مما أوحاه إليهم، ومنه قوله تعالى {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا..} إلخ {قوله الحق..} ، {ولن يخلف الله وعده} . والخبر والوعد من متعلقات صفة الكلام، فكلمة التكوين الإرادية وكلمة التكليف الخبرية متحدتان في هذا الموضوع. وأما على القول بأن المراد بها كلمة التوحيد أو دينه تعالى المبني على أساس توحيده فالنظر فيها من وجهين: (أحدهما) : مضمون الكلمة في الواقع وهو وحدانيته تعالى، وهذه حقيقة قطعية قامت عليها البراهين، وكذا إن أريد بها هذا الدين عقائده وأحكامه وآدابه - إذ يقال: إنه كلمة التكليف أو كلماته - فهذه من حيث كونها من متعلقات صفة الكلام الإلهية لها صفة (العليا) بياناً وبرهاناً وحكمة ورحمة وفضلاً، ولابد من تمامها صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، كما قال تعالى في سورة الأنعام {وتمت كلمة
ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} . و (الوجه الثاني) : إقامة المكلفين لها بمعنييها، وهي تختلف باختلاف أحوالهم في العلم والإيمان والأخلاق وما يترتب عليها من الأعمال، فمن هذا الوجه قد تخفى علويتها على الناس في بعض الأحيان؛ إذ ينظرون إليها في صفات المدعين لها وأعمالهم، لا في ذاتها، وقد يكون هؤلاء غير قائمين بها ولا مقيمين لها. ومن عجائب ما روي لنا من إدراك بعض الإفرنج لعلوية كتاب الله تعالى بسعة علمه وعقله أن عاهل الألمان الأخير قال لشيخ الإسلام في الحكومة العثمانية لما زار الاستانة في أثناء الحرب الكبرى: يجب عليكم - وأنتم دولة الخلافة الإسلامية - أن تفسروا هذا القرآن تفسيراً تظهر به علويته!! كما أدرك هذه العلوية الوليد بن المغيرة من كبراء مشركي قريش بذكائه ودقة فهمه وبلاغته إذ كان مما قاله فيه: ((وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته)) . (¬1) وراجع ما قلناه في تفسير {ليظهره على الدين كله} من هذه السورة وما هو ببعيد. وأما كلمة الذين كفروا فقد كانت لا مقابل ولا معارض لها قبل الإسلام من حيث القيام بها لتوصف بالوصف اللائق بها ¬
وهو السفلية. سواء أريد بها كلمة الشرك أو كلمة الحكم، فقد كان لأهلها السيادة في بلاد العرب حتى مكة المكرمة، ودنسوا بيت الله بأوثانهم فأذل الله أهلها وأزال سيادتهم بظهور الإسلام بعد كفاح معروف. وإن أريد بها تقريرهم لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فالأمر ظاهر أيضاً، وكل من الأمرين حصل بجعل الله وتدبيره ثم بكسب المؤمنين وجهادهم. وأما كلمة الكفر في نفسها، وبصرف النظر عن تلبس بعض الشعوب أو القبائل بها، فلا حقيقة لها، أعني أن الشرك لا حقيقة لمضمونه في الوجود وإنما هو دعاوى لفظية صادرة عن وساوس شيطانية خيالية، كما قال تعالى {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} . وقد ضرب الله المثل للكلمتين وأثرهما في الوجود قوله في سورة إبراهيم عليه السلام {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (28) ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها
من قرار (29) يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} . وقد ختم الله هذه الآية بقوله {والله عزيز حكيم} العزيز الممتنع الغالب والله هو الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، والحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها، وقد نصر رسوله بعزته، وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته، وأذل كل من ناوأه وناوأ المتقين من أمته. وإننا نقفي على تفسير هذه الآيات بكلمات تزيدها بياناً، وتزيد الذين آمنوا بالله ورسوله إيماناً، وتزيد المبتدعين المحرفين لكلام الله تعالى خزياً وخذلاناً، ثلاث كلمات: 1 - كلمة في خلاصة ما صح من خبر الهجرة وصفة الغار. 2 - وكلمة فيما تضمنته الآية وأخبار الهجرة من مناقب الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه وأرضاه. 3 - وكلمة في دحض شبهات الروافض، بل مفترياتهم في تشويه هذه المناقب، وتحريف كلمات الله وأخبار الرسول عن مواضعها {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} . ***
الكلمة الأولى في الهجرة المحمدية
الكلمة الأولى في الهجرة المحمدية كان من حكمة الله تعالى في رسالة محمد - خاتم النبيين المرسل رحمة للعالمين ومصلحاً للناس أجمعين - أن أعدَّ لها في المرتبة الأولى الأمة العربية الأمية [الموصوفة] (¬1) باستقلال الفكر وقوة الإرادة وذكاء القريحة، وارتقاء اللغة، والسلامة مما منيت به أمم الحضارة من الاستذلال والاستعباد للملوك والأمراء ورؤساء الدين. ثم كان من حكمته تعالى أن عادى هذه الدعوة والقائم بها كبراء قومه قريش، كبراً وبغياً وعلواً واستكباراً عن الإعتراف بضلالهم وضلال آبائهم وأجدادهم في شركهم، لئلا يكون في ظهورها بالحق، شبهة يظن بها أنها إنما قامت بعصبية قريش. وكان له صلى الله عليه وسلم بضعة أعمام لم يؤمن به منهم في السابقين إلا حمزة رضي الله عنه أخوه في الرضاع وقريبه من جهة الأم، فإن أمه ابنة عم آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم وقد آمن في السنة الثانية من بعثته. وكان أبو لهب عمه الكبير الغني أول من صارحه العداوة فقال لقريش: (خذوا على يديه، قبل أن تجتمع العرب عليه) ، وحسبك ¬
ما أنزل الله فيه وفي امرأته حمالة الحطب. وكان عمه أبو طالب هو الذي كفله بعد وفاة جده شيبة الحمد عبد المطلب، وإنما كان يحميه ويدافع عنه لعصبية القرابة والتربية. وكان لزوجه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها مقام كبير في قريش كان له تأثير سلبي كبير في تقليل إيذائه صلى الله عليه وسلم، وقد توفيت هي وأبو طالب في أسبوع واحد، فاشتد إيذاء قريش بعدهما، حتى أجمعوا على قتله قتلة تشترك فيها جميع قبائل قريش بأن يأخذوا من كل قبيلة شاباً نهدا قوياً يعطونه سيفاً فيحمل عليه هؤلاء الشبان ويتعذر على بني هاشم الأخذ بثأره - على حسب عادة العرب - فيرضون بالدية، عند هذا أمره الله تعالى بالهجرة إلى يثرب التي صار اسمها المدينة المنورة بهجرته إليها، وكان قد آمن به وبايعه من أهلها الأنصار في الموسم مَنْ جعلهم الله تعالى مقدمةً لإيمان غيرهم من الأنصار الكرام. لم يكاشف النبي صلى الله عليه وسلم بهجرته أحداً غير صاحبه الأول
سياق حديث الهجرة في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها
أبي بكر الصديق الذي كان أول من آمن به ممن دعاهم إلى الإسلام بعد أهل بيته وهم: زوجه خديجة، وعتيقه زيد بن حارثة، وربيبه علي وكان دون البلوغ. وهؤلاء قد علموا بنبوته (صلى الله عليه وسلم) وصدقوه قبل أن يأمره الله بالدعوة. فكان أبو بكر صاحبه الملازم ومستشاره الدائم، ووزيره الأكبر وموضع سره، وإنما كان رضي الله تعالى عنه أول من أسلم؛ لأنه كان أشد هذه الأمة استعداداً لنور الإسلام بسلامة فطرته وطهارة نفسه، وقوة عقله، وعرفانه بفضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة. وقد كان صديقه من سن الشباب، وروى ابن إسحاق أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يعرض الإسلام على أحد إلا وكان له فيه كبوة إلا أبا بكر رضي الله عنه. (¬1) وإننا نذكر أصح ما أورده نقاد المحدثين من خبر الهجرة، وأوضحه وأبسطه: ما رواه ابن أبي شيبة والإمام أحمد والبخاري وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها فنبدأ به، ونقفي عليه بأحاديث أخرى من الجامع الصحيح غير ناظرين إلى روايتها في غيره، ثم نشير إلى غيرها. قال البخاري في كتاب الهجرة من صحيحه [برقم: 3905] : (حدثنا ¬
يحيي بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل قال ابن شهاب: فأخبرني عروة ابن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي (صلى الله عليه وسلم) قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة، حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة (¬1) فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على ¬
نوائب الحق (¬1) فأنا لك جارٌ، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فأنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. (¬2) فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن ¬
فيتقذف عليه (¬1) نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابنُ الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل. ¬
والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: ((إني أُرِيتُ دارَ هجرتكم ذات نخل بين لابتين)) وهما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة (¬1) ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قِبَلَ المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ((على رسلك (¬2) ؛ فإني أرجو أن يؤذن لي)) فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: ((نعم)) . فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعَلَفَ راحلتينِ كانتا عنده ورقَ السمر - وهو الخبط (¬3) - أربعة أشهر. قال ابن شهاب (¬4) : قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوماً ¬
جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة (¬1) قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ((أخرج من عندك)) . فقال أبو بكر: إنما هم أهلك (¬2) بأبي أنت يا رسول الله. قال: ((فإني قد أُذن لي في الخروج)) . فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله: ((نعم)) . قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بالثمن)) . (¬3) قالت عائشة: ¬
فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بينت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاق. قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندها بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرًا يُكْتادان به (¬1) إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر ابن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما (¬2) ¬
حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس (¬1) ، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر رجلاً من بنى الديل وهو من بني عبد بن عدى هاديا خريتًا - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحليتهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحليتهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهير والدليل فأخذ بهم طريق السواحل. (قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي - وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم -: أن أباه أخبره أنه سمع سراقة ابن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما من قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفًا أسودة بالساحل أراها محمدًا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء ¬
أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي (¬1) حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتى فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضرهم أم لا فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام (¬2) تُقَرِّبُ بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت، ¬
فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها عثان (¬1) ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية. وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني (¬2) ولم يسألاني إلا أن قال: ((أخفِ عنا)) فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزُّبيرَ في ركب من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشام فكسا الزبيرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة. فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة. فانقلبوا ¬
يوما بعد ما أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون. فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف
بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: ((هذا إن شاء الله المنزل)) . ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله. فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدا وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن: ((هذا الحمال لا حمال خيبر. . هذا أبر ربنا وأطهر)) ويقول: ((اللهم إن الأجر أجر الآخرة. . فارحم الأنصار والمهاجرة)) فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي. قال ابن شهاب:
ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا البيت) . حدثنا عبد الله بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حدثنا هشام عن أبيه وفاطمة عن أسماء رضي الله عنها: صنعتُ سفرة للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حين أرادا المدينة، فقلت لأبي ما أجد شيئا أربطه إلا نطاقي، قال: فشقيه، ففعلت فسميت ذات النطاقين. قال ابن عباس: (أسماء ذات النطاق) . حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله عنه قال: (لما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تبعه سراقة بن مالك بن جعشم، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فساخت به فرسه (¬1) ، قال: ادع الله لي ولا أضرك. فدعا له. قال: فعطش رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر براعٍ. قال أبو بكر: فأخذت قدحا فحلبت فيه كثبة (¬2) من لبن، فأتيته فشرب حتى رضيت) . اهـ ¬
نقل من شرح الحافظ لحديث عائشة رضي الله من فتح الباري
(أقول) هذا ما اخترت نقله من صحيح البخاري من خبر الهجرة، وفيه أحاديث أخرى تُراجع في صحيح البخاري وغيره من الصحاح والسنن والسير، وفيها عبر كثيرة، وإنني أُقفي عليه بوصف الغار الذي شرفه الله بإيوائه إليه إتماما للفائدة. وقد ورد في كتب الحديث والسير أخبار وآثار كثيرة في قصة الهجرة ودخول الغار، فيها كرامات وخوارق يتساهلون بقبول مثلها في المناقب، وإن لم تصح بطرق متصلة يحتج بمثلها في الأحكام العملية، ولا في المسائل الاعتقادية بالأولى. قال الحافظ في شرح حديث عائشة من الفتح [7 / 168] : ((إن الإمام أحمد [1 / 348 ط: الميمنية] روى بإسناد حسن (¬1) من حديث ابن عباس في قوله تعالى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا..} الآية. قال تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي صلى الله عليه وسلم -، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات علي على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون ¬
عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم - يعني ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه. فلما أصبحوا ورأو عليا رد الله مكرهم فقالوا أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال)) . اهـ وذكر الحافظ روايات بهذا المعنى من مراسيل الزهري والحسن في بعض السير وغيرها، ونقل عن دلائل النبوة للبيهقي [2 / 477] من مرسل محمد بن سيرين: ((أن أبا بكر ليلة انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار كان يمشي بين يديه ساعة ومن خلفه ساعة فسأله (أي عن سبب ذلك) فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك واذكر الرصد فأمشي أمامك، فقال: ((لو كان شيء أحببت أن تقتل دوني؟)) قال: أي والذي بعثك بالحق. (¬1) فلما انتهى إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار، فاستبرأه. وذكر أبو القاسم البغوي من مرسل ابن أبي مليكه ¬
نحوه (¬1) ، وذكر ابن هشام [ص486 - 487] من زياداته عن الحسن البصري بلاغا نحوه)) . اهـ أقول: فهذه مراسيل عن كبار علماء التابعين يؤيد بعضها بعضا. وفي الموضوع روايات أخرى. منها أن حمامتين عششتا على بابه، وفي بعض الروايات أن أبا بكر سد جحر كان في الغار بقطع من ثوبه، وهذا مراده من استبرائه. وقال الحافظ قبل ذلك في شرح قول عائشة: ((ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور)) : ((ذكر الواقدي أنهما خرجا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر، وقال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم الاثنين ودخوله المدنية كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال: إنه خرج من مكة يوم الخميس. قلت: يجمع بينهما بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين؛ لأنه أقام فيه ثلاث ليال ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد وخرج في أثناء ليلة الاثنين)) . اهـ ¬
الكلمة الثانية مناقب الصديق في قصة الهجرة
*** الكلمة الثانية مناقب الصديق في قصة الهجرة: قد دلت هذه الآية الكريمة وما يفسرها ويشرحها من الأحاديث الصحيحة وما في معناها من الأخبار والآثار مما دونها في الرواية على مناقب وفضائل لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه امتاز بها على جميع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم نذكر منها ما يتبادر إلى الفهم بغير تكلف لبداهته ومن غير مراعاة ترتيب: (الأولى) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمن على سره وعلى نفسه في هذه الحادثة التي كانت أهم حوادث رسالته وأشدها خطرا وخيرها عاقبة غير صاحبه الأول أبي بكر الصديق، وإن شئت قلت إنه لم يختر لصحبته وإيناسه فيها غيره. ويؤيده ما رواه ابن عدي [2 / 160 - 161 ط: الفكر] ، وابن عساكر [3 / 90 - 92 ط: الفكر] من طريق الزهري عن أنس (رض) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: ((هل قلت في أبي بكر شيئا؟)) قال: نعم، قال: ((قل وأنا أسمع)) فقال: وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... . . . طاف العدو به إذ صعد الجبلا وكان حب رسول الله قد علموا. . . من البرية لم يعدل به رجلا
الثانية والثالثة
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: ((صدقت يا حسان، هو كما قلتَ)) . (¬1) (الثانية) : أنه صلى الله عليه وسلم رضي أن تكون نفقة هذه الرحلة من مال أبي بكر الذي أنفق جميع ماله في خدمته صلى الله عليه وسلم، إلا أنه أحب أن تكون الراحلة التي ركبها بالثمن يدفعه بعد ذلك. وتقدم ما قاله بعض العلماء في تعليل ذلك، وفي صحيح البخاري [3661] أن عمر بن الخطاب غضب من أبي بكر رضي الله عنه في محاورة بينهما، فطلب منه أبو بكر أن يغفر له فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يغفر الله لك يا أبا بكر)) ثلاثا. قال الراوي - وهو أبو الدرداء رضي الله عنه -: ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فقال: أَثَمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا. فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فجعل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمعر (¬2) حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبته فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم - ¬
الرابعة
مرتين - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟)) مرتين، فما أوذي أبو بكر بعدها. وقد صرح أيضا بأن أمن الناس عليه في ماله ونفسه أبو بكر، رواه الشيخان وغيرهما. (¬1) (الثالثة) : أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يختر في ذلك وأمثاله إلا ما اختاره الله تعالى له، فهذا تفضيل من الله عز وجل للصديق على غيره من أصحاب نبيه. (الرابعة) : ذكره عز وجل وحل في كتابه العزيز بهذا الثناء العظيم الذي لم يشاركه فيه أحد من المؤمنين في مقام إطلاق الإنكار عليهم والتوبيخ لهم على تثاقلهم عن إجابة استنفار رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بأمره. أخرج خيثمة بن سليمان الاطرابلسي في فضائل الصحابة وابن عساكر [30/291] من طريق الزهري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ((إن الله ذم الناس كلهم ومدح أبا بكر رضي الله عنه فقال {إلا تنصروه فقد نصره الله إذا أخرجه الذين كفروا ¬
الخامسة والسادسة
ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} )) . (¬1) وأخرج ابن عساكر [3 / 92] عن سفيان بن عيينة قال: ((عاتب الله المسلمين جميعا في نبيه صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر - رضي الله عنه - وحده؛ فإنه خرج من المعاتبة)) ، ثم قرأ {إلا تنصروه فقد نصره الله} الآية. ذكرهما السيوطي في الدرر المنثور [4/199 ط: الفكر] . فهذا ما دل عليه أسلوب الآية والسياق من تفضيله على جميع الصحابة رضي الله عنهم بغير استثناء. وأخرج ابن المنذر (¬2) عن الشعبي قال: والذي لا رب غيره لقد عوتب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في نصرته إلا أبا بكر؛ فقد قال تعالى {إلا تنصروه} الآية خرج أبو بكر رضي الله عنه من المعتبة. (¬3) (الخامسة) : أمره صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه أن يبلغ الناس في موسم الحج هذه الآية في جملة ما بلغه من أول سورة براءة كما تقدم في أول تفسير السورة. وفي ذلك حكم بالغة، تقطع كل وتين من قلوب الرافضة، وإن لم تقطع ألسنتهم الكاذبة الخاطئة. (السادسة) : قوله تعالى في رسوله صلى الله عليه وسلم وفيه {ثاني اثنين} فهذا القول من رب العالمين في خطاب جميع المؤمنين في هذا ¬
حول قوله {ثاني اثنين} وشمولها لكثير من المواقف
المقام والسياق فيه دلالة واضحة على فضل هذين الاثنين وكون الصديق هو الثاني في المرتبة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يقتضيه المقام للهجرة الشريفة من الفضائل والمزايا. قال الفخر الرازي عند ذكر هذه المنقبة - وهي كون أبي بكر ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار - ما نصه: ((والعلماء أثبتوا أنه رضي الله عنه كان ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر المناصب الدينية؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما أُرسل إلى الخلق وعرض الإسلام على أبي بكر آمن أبو بكر، ثم ذهب وعرض الإسلام على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة آخرين من أجلة الصحابة رضي الله عنهم والكل آمنوا على يديه، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام قلائل فكان هو رضي الله عنه ثاني اثنين في الدعوة إلى الله. وأيضًا كلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كان أبو بكر يقف في خدمته ولا يفارقه، فكان ثاني اثنين في مجلسه. ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قام مقامه في إمامة الناس في الصلاة، فكان ثاني اثنين. ولما توفي دفن بجنبه فكان ثاني اثنين هناك
السابعة
أيضاً)) . (¬1) وأخص من هذا كله: أنه كان ثانيه في الشروع في إقامة الشرع في دار الهجرة، فلم يَرَ الأنصارُ معه صلى الله عليه وسلم أحداً قبله. (السابعة) : وهي تؤيد ما تضمنه معنى الاثنينية من رفعة المقام: قوله صلى الله عليه وسلم له: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)) وإنها لمنقبة تتضاءل دونها المناقب، ومرتبة تنحدر عن عليا سمائها المراتب. أَكْبَرَ أَعْلَمُ رسلِ الله بالله أَمْرَها، وهو أعلم بقدرها؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما ظنك يا أبا بكر)) بكذا. يراد به: أنه لا يمكن أن تحوم الظنون أو تنتهي الآراء والأفكار إلى شأن أعلى من شأنها، ومنعة أعز من منعتها الخ. (الثامنة) : حكاية رب العزة والجلال لقول رسوله الذي ختم به النبيين، وأرسله رحمة للعالمين، لهذا الصاحب الصديق المسكين {لا تحزن إن الله معنا} فهي دليل على أنه قال له ذلك بإذنه تعالى ووحيه، لا من حسن ظنه صلى الله عليه وسلم بربه واجتهاد رأيه، على أنه لو كان اجتهادا أقره ربه عليه وحكاه عنه، وجعله مما يتعبد به المؤمنين ما دامت السموات والأرض، ¬
المعية الإلهية معنى إضافي يختلف باختلاف موضوعه ومتعلقه
لكانت قيمته في غايته، بمعنى ما كان عن الوحي منذ بدايته، وهذا يؤيد كون ما ذكرناه في تفسير المعية من كونها معية خاصة من نوع المعية التي أيد الله تعالى بها موسى وهارون عليهما السلام، إلا أنها أعلى في ذاتها وشخصها من كل أفراد هذا النوع. فالمعية الإلهية معنى إضافي يختلف باختلاف موضوعه ومتعلقه، فمعية العلم عامة، كقوله تعالى {ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكبر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} وهى لا تشريف فيها لأهلها بل هي تهديد لهم؛ وإنذار بأن الله مطلع على كل ما يصدر عنهم، وأنه سيحاسبهم عليه ويجزيهم به. وأعلى منها معيته تعالى للمتقين والمحسنين، وهي تتضمن معنى التوفيق واللطف كما تقدم، ففيها شرف عظيم. وأعلى منها معيته عز وجل للأنبياء والمرسلين، في مقام التأييد على الأعداء المناوئين وهي أعلى الأنواع كما علمت، ولم يثبت لأحد من غيرهم حظ منها
التاسعة والعاشرة والحادية عشرة
إلا ما ثبت للصديق هنا. (¬1) (التاسعة) : إنزال الله تعالى سكينته عليه - على ما تقدم من التفسير المنقول المعقول - وهي منقبة لم يرد في التنزيل إثباتها لشخص معين قبله ولا بعده إلا الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، وإنما ورد إثباتها لجماعة المؤمنين كما تقدم. وقد كان رضي الله تعالى عنه قائما مقام جميع المؤمنين في الغار وسائر رحلة الهجرة الشريفة في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما أنزل التنويه بذلك في أواخر مدة الهجرة. أي سنة تسع منها. وقد روينا لك ما قاله علي المرتضي كرم الله وجهه وغيره من تفضيله على جميع المؤمنين بهذه الآية مِنْ قِبل الله عز وجل، وأنه كان المبلغ لها عن الرسول صلى الله عليه وسلم في موسم الحج. (العاشرة) : تأييده بجنود لم يرها المخاطبون من المؤمنين وهي الملائكة بناء على القول بعطف جملة التأييد على جملة إنزال السكينة كما تقدم شرحه، ويأتي في هذا ما ذكرناه فيما قبله من الخصوصية وجعل أبي بكر في مقدم المؤمنين كافة مع تفضيله عليهم. ¬
إجماع المسلمين على تفضيل المهاجرين وامتياز أبي بكر بهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم
(الحادية عشرة) : إثبات الله تعالى صحبته لرسول صلى الله عليه وسلم في أعظم مواطن بعثته، وأطوار نبوته، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد سمي أتباعه في عهده أصحاباً، تواضعا منه وتربية لهم على احترام جميع أفراد الأمة ومعاملتهم بالعدل والمساواة، وإزالة لما كان في الجاهلية من احتقار بعض القبائل لبعض، واحتقار الأغنياء والرؤساء لمن دونهم. وإبطالا لما كان في شعوب أخرى كالهنود من جعل الناس طبقات بعضها فوق بعض بالتحكم والتوارث، وهو صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجميع ولإصلاح الجميع، فإن هذا لا ينافي ما جرت به سنة الله تعالى في خلقه وأقرته شريعة الحق والعدل بخاتم رسله من تفاضل أفراد الناس بعضهم على بعض بالإيمان والعلم والعمل ومعالي الأخلاق {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة} ، {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل
الله أعظم درجة عند الله} الخ.. وقد أجمع المسلمون (¬1) على أن المهاجرين السابقين الأولين أفضل من سائر المؤمنين، وورد في فضائل الهجرة آيات وأحاديث كثيرة معروفة، وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن أبا بكر رضي الله عنه أول المهاجرين، وأنه امتاز بهجرته مع الرسول نفسه بإذن ربه، ورَغْبَتتُهُ صلى الله عليه وسلم من قبل الإذن الإلهي له؛ إذ مَنَعَ أبا بكر من الهجرة، وحَدَّدَ انتظارًا منه لإذن الله تعالى له بهجرته معه، كما تقدم في الحديث الصحيح - فلا غرو أن يكون له كل ما علمنا من المزايا في الهجرة. وأن يكون بها أفضل المهاجرين بعد سيد المهاجرين صلى الله عليه وسلم، وأن تكون صحبته أفضل وأكمل من صحبة غيره. وفي قوله صلى الله عليه وسلم في حديث مغاضبة عمر له على مسمع من الصحابة: ((فهل أنتم تاركوا لي صاحبي)) إشعار بأنه الصاحب الأكمل له صلى الله عليه وسلم، فهو قد أضافه إلى نفسه كما أضافه الله تعالى إليه في كتابه (¬2) ، إذ الإضافة هنا كالإضافة في قوله تعالى {سبحان الذي أسرى بعبده} إضافة تشريف واختصاص؛ ¬
الثانية عشرة
فإن جميع الخلق عبيد الله {إن كل ما في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً} . وقد قال بعض الفقهاء: إن من أنكر صحبه أبي بكر رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم يحكم بردته عن الإسلام لتكذيبه بنص القرآن (¬1) ، هاتان منقبتان في الصحبة والهجرة جعلناهما واحدة. وقد يثلثهما أنه لم يكن معه صلى الله عليه وسلم حين وصل إلى دار الهجرة والنصرة من أصحابه السابقين الأولين غير أبي بكر رضي الله عنه، فهو أول من رآه معه جماعة الأنصار رضي الله عنه، وأول من صلى معه من المهاجرين أول جماعة وأول جمعة ظهرت بها شعائر الإسلام. (الثانية عشرة) : حكاية الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال له {لا تحزن} فكونه صلى الله عليه وسلم يعني بتسليته وطمأنينته أمر عظيم. وإخبار الله بذلك فيما يتعبد به المؤمنين إلى يوم القيامة أمر أعظم. وناهيك بتعليله بما علله به من معية الله عز وجل لهما. وهذا النهي عن الحزن لم يرد في غير هذا الموضع من القرآن خطابا من قبله تعالى إلا للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وورد خطابا من الملائكة ¬
الثالثة عشرة
للوط عليه السلام. وقد علل في آخر سورة النحل بمعية الله تعالى للمتقين والمحسنين، وعلل هنا بالمعية التي هي أخص منها وأعلى كما تقدم شرحه. (الثالثة عشرة) : أن القرآن كلام الله تعالى، وهو أكمل كتاب أنزله الله تعالى على خاتم رسله لهداية البشر كافة، فهو يمدح الإيمان والأعمال الصالحة والصفات الحميدة وأهلها، ويذم الكفر والشرك والأعمال السيئة والصفات القبيحة وأهلها، ولا ترى فيه مدحاً لشخص معين من هذه الأمة غير رسولها صلى الله عليه وسلم إلا لصاحبه الأكبر أبي بكر رضي الله عنه، ولا ذما لشخص معين من الكفار غير أبي لهب وامرأته. فاختصاص أبي بكر بالمدح من رب العالمين في هذه الآية منقبة لا يشاركه فيها أحد من هذه الأمة تدل على فضله على كل فرد من أفرادها. وهذا المعنى - أي الاختصاص - غير موضوع المدح المتقدم تفصيله؛ فهو يجعل قيمته مضاعفة؛ إذ لو كان في التنزيل مدح لغيره كالأحاديث الشريفة الواردة في فضائله وفضائل آخرين من أهل بيته صلى الله عليه وسلم
وأصحابه لما كانت هذه منقبة خاصة بالصديق، وإن كان المدح المفروض لغيره دون مدحه في موضوعه، كما هو شأن أحاديث المناقب. فكيف وقد جاء هذا المدح في سياق توبيخ المؤمنين على التثاقل في إجابة الرسول إلى ما استنفرهم له كما تقدم شرحه والآثار فيه؟ ولا يرِد على هذه الخصوصية أن قصة الأعمى تتضمن ثناء عليه بالخشية وهو شخص معين معروف أنه عبد الله بن أم مكتوم المؤذن رضي الله؛ فإن السياق فيها ليس سياق مدح. وقوله تعالى {وهو يخشى} لا يدل على أن هذه الخشية خاصة به، ولا أنه ممتاز فيها على غيره، على أن فيها من إثبات الفضل له ما لا يخفى. ولا يرد أيضا على ذم أبي لهب ما ورد في سورة المدثر في الوليد بن المغيرة، وفي سورة العلق في أبي جهل؛ فإن الذم فيهما متعلق بالوصف لا بالشخص، مع كون الموصوف قد عرف من سبب النزول لا من النص. وهو غير متواتر كتواتر وصف الصاحب للصديق، ودونه وصف الأعمى لابن أم مكتوم، على أنه لا يضرنا عدم الحصر هنا، وغير مقصود في بحثنا.
ضعف قصة مبيت علي رضي الله عنه على ضوء أصول الإمامية العقلية
الكلمة الثالثة (تفنيد مراء الروافض، وتحريفهم وتبديلهم لهذه المناقب) : قال الفخر الرازي بعد تفسير الآية واستنباط ما فيها من المناقب بدون ما ألهمنا الله تعالى إياه ما نصه: ((واعلم أن الروافض احتجوا بهذه الآية وبهذه الواقعة على الطعن في أبي بكر من وجوه ضعيفة حقيرة جارية مجرى إخفاء الشمس بكف من الطين: (فالأول) : قالوا: أنه قال لأبي بكر {لا تحزن} فذلك الحزن إن كان حقًا فكيف نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه، وإن كان خطأ لزم أن يكون أبو بكر مذنبًا وعاصيًا في ذلك الحزن؟! (والثاني) : قالوا: يحتمل أن يقال: إنه استخلصه لنفسه لأنه كان يخاف منه أنه لو تركه في مكة أن يدل الكفار عليه وأن يوقفهم على أسراره ومعانيه، فأخذه معه دفعًا لهذا الشر. (والثالث) : أنه وإن دلت هذه الحالة على فضل أبي بكر إلا أنه أمر عليًا بأن يضطجع على فراشه، ومعلوم أن الاضطجاع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في
مثل تلك الليلة الظلماء مع كون الكفار قاصدين قتل رسول الله تعريض النفس للفداء، فهذا العمل من علي أعلى وأعظم من كون أبي بكر صاحبًا للرسول. (¬1) فهذه جملة ما ذكروه في هذا الباب)) . (¬2) هذا ما نقله الرازي بحروفه وقال: إنه ((أخس من شبهات السوفسطائية)) ، ورد عليه. وذكر في رده ردًا آخر لأبي علي الجبائي إمام المعتزلة في عصره في القرن الثالث (توفي سنة 303) فدل هذا على قدم هذا الجهلِ والسخفِ في القوم. وقد بسط ذلك الشهاب الألوسي في تفسيره [10 / 100 ط: التراث] نقلا عنهم وكان كثير الاحتكاك بعلمائهم في بغداد، فقال ما نصه: ((وأنكر الرافضة دلالة الآية على شيء من الفضل في حق الصديق رضي الله عنه. قالوا: إن الدال على الفضل إن كان {ثاني اثنين} فليس فيه أكثر من كون أبي بكر متمما للعدد. وإن كان {إذ هما في الغار} فلا يدل على أكثر من اجتماع شخصين في مكان، وكثيرًا ما يجتمع فيه الصالح والطالح. وإن كان {لصاحبه} فالصحبة تكون بين المؤمن والكافر كما في قوله تعالى {قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت ¬
بالذي خلقك} وقوله سبحانه {وما صاحبكم بمجنون} و {يا صاحبي السجن} ، بل قد تكون بين من يعقل وغيره، كقوله: إن الحمار مع الحمار مطية ... ... وإذا خلوت به فبئس الصاحب (¬1) وإن كان {لا تحزن} فيقال: لا يخلو إما أن يكون الحزن طاعة أو معصية، لا جائز أن يكون طاعة، وإلا لما نهى عنه صلى الله عليه وسلم فتعين أن يكون معصية لمكان النهي، وذلك مُثْبِتٌ خلاف مقصودكم، على أن فيه من الدلالة على الجبن ما فيه. وإن كان {إن الله معنا} فيحتمل أن يكون المراد إثبات معية الله الخاصة له صلى الله عليه وسلم وحده، لكن أتى بـ (ـنا) سدًا لباب الايحاش، ونظير ذلك الإتيان بـ (ـأو) في قوله {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} . وإن كان {فأنزل الله سكينته عليه} فالضمير فيه للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يلزم تفكيك الضمائر، وحينئذ يكون في تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالسكينة هنا مع عدم التخصيص في قوله سبحانه {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} إشارة إلى ضد ما ادعيتموه. وإن كان ¬
ما دلت عليه الآية من خروجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت فهو عليه الصلاة والسلام لم يخرجه معه إلا حذرًا من كيده لو بقى مع المشركين بمكة، وفي كون المجهز لهم بشراء الإبل علياً كرم الله تعالى وجهه إشارة لذلك. (¬1) وإن كان شيئًا وراء ذلك، فبينوه لنتكلم عليه. انتهى كلامهم)) . قال الشهاب الآلوسي إثر نقله: ((ولعمري إنه أشبه شيء بهذيان المحموم، أو عربدة السكران، ولولا أن الله سبحانه حكي في كتابه الجليل عن إخوانهم اليهود والنصارى ما هو مثل ذلك ورده رحمة بضعفاء المؤمنين ما كنا نفتح في رده فما، أو نجرى في ميدان تزييفه قلما)) ، ثم رد كل كلمة قالوها ردا علميا أدبيا مفحما. وما شرحناه في تفسير الآية وما استنبطناه منها بمعونة أحاديث الهجرة من المناقب التي هي نصوص ظاهرة في تفضيل الصديق على جميع الصحابة رضي الله عنهم ولعن مبغضيه ومبغضيهم، وما سنزيده على ذلك هنا في إفحامهم يغنينا عن نقل عبارته؛ فإنه أقوى منها في تفنيد هذا التحريف ¬
لكلام الله وكلام رسوله والافتراء المفضوح المعلوم بطلانه بالبداهة. وإنما أختار من كلام السيد الألوسي قوله في آخره: ((وأيضا إذا انفتح باب هذا الهذيان أمكن للناصبي أن يقول - والعياذ بالله تعالى - في على كرم الله وجهه: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالبيتوتة على فراشه ليلة هاجر إلا ليقتله المشركون ظنا منهم أنه النبي صلى الله عليه وسلم فيستريح منه. وليس هذا القول بأعجب ولا أبطل من قول الشيعي: إن إخراج الصديق إنما كان حذرًا من شره. فليتق الله من فتح هذا الباب، المستهجن عند أولى الألباب)) . اهـ أقول: ومن هذا الباب في سورة التأويل، الذي يقوله من لا يعتقد صحته لمحض التضليل، تأويل معاوية لحديث: ((ويح عمار تقتله الفئة الباغية)) ؛ فإنه لما علم أن فئته قتلته قال: ((إنما قتله من أخرجه)) يعني: عليا كرم الله وجهه. (¬1) بل هذا التأويل الباطل أقرب إلى اللغة من تأويل الروافض لخروج الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم المذكور آنفاً إن صح أن يسمى تأويلا، وإنما هو تضليل لا تأويل؛ فإن هذه القرية التي افتجرها هؤلاء الفجرة ليس لها شبهة لغوية ¬
تفنيد المؤلف شبههم على صحبة الصديق
لا من ألفاظ الآية ولا من ألفاظ أحاديث الهجرة، بل هي مصادمة للنصوص كلها، ومناقضة لما تواتر وصار معلوما بالضرورة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ونشأة الإسلام من ملازمة الصديق له من أول الإسلام إلى أخر حياته صلى الله عليه وسلم بما لا حاجة إلى شرحه، ولا سيما بعد ما بسطناه هنا من أمره. وأما تأويل معاوية فله شبهة لغوية، وهو إسناد الشيء إلى سببه مجازًا، ومنه إخراج المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة إنما أطلق على سببه، وهو الاضطهاد والإيذاء الذي نالوهم به ولكن لا يحمل اللفظ على المجاز إلا عند وجود المانع من حملة على الحقيقة. ولما بلغ أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه قوله رد عليه بأنه: يقتضي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قتل عمه حمزة وابن عمه جعفر وغيرهما من شهداء بدر أحد وسائر الغزوات؛ لأنه هو الذي أخرجهم إلى القتال. ثم إن من المعلوم بالبداهة أن من يخاف من وشاية آخر عليه لا يخبره بسره، فكيف أمن النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على سِرِّه، ورضي
هل العبرة عند الشيعة بمجرد التسمية دون متعلقها؟
أن يعلم بذلك جميع أهل بيته، وأن يتعاهدهما ولده وعتيقه (¬1) في الغار بالغذاء وبالأنباء كل ليلة، وأن يكون هو الذي يتولى استئجار الدليل الذي يرحل بهما؟ ثم أقول زيادة في فضيحة هؤلاء المحرفين المخرفين: تفنيد شبهتهم على صحبة الصديق: (أولا) : إنكم تزعمون أنه لا فضيلة في صحبة الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار، ويلزم منه أنه لا فضيلة في صحبته ولا في صحبة سائر المؤمنين له في غير الغار من أزمنة رسالته صلى الله عليه وسلم بالأولى؛ إذ تستدلون على ذلك بأن الصحبة تكون بين المؤمن والكافر والبر والفاجر، وبين الإنسان والحيوان أيضا. فإذا كنتم تلتزمون هذا الاستدلال، فإنه يلزمكم خزيان، لا مفر لكم منهما: (أحدهما) : أن صحبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أعلى الله قدره ورفع ذكره، وصحبة الكافر أو الحمار سواء (وأستغفر الله تعالى من حكاية هذا الجهل، وإن كان حاكي الكفر ليس بكافر) لأن كُلاً منهما تسمى صحبة في اللغة! والعبرة عندكم بالتسمية دون متعلقها، أي أن ¬
ما أسند إليه الفعل وما وقع عليه وما لابسه لا شأن له عندكم في كونه حقاً أو باطلا، أو فضيلة أو رذيلة. وما قلتموه في الصحبة يجري مثله في الهجرة، فإنه ثبت في الحديث الصحيح - كما هو ثابت في الواقع - أن الهجرة قد تكون إلى الله ورسوله، وقد تكون لأجل منفعة دنيوية أو امرأة يريد المهاجر أن يتزوجها. وإذا كان كل منهما يسمى هجرة فالمهاجرون عندكم سواء في أنه لا فضيلة لهم ولا أجر عند الله تعالى، خلافاً لنصوص القرآن. (ثانيهما) : أن الإيمان بالله تعالى والعبادة الخالصة له لا يعدان عندكم من الفضائل، لأنهما مشتركان في الاسم مع الإيمان بالجبت والطاغوت، وعبادة الشيطان والأوثان، فقد قال الله تعالى {ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} الآية. وقال {بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} وقال {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} وقال {ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم} . وإذا نحن انتقلنا إلى طبيعة الصحبة، وما فيها من العلم
هل ملازمة الرجس للنبي عليه السلام حتى بعد وفاته؟ "حاشية"
والحكمة، نقول: إن ما هذى به الروافض من صحبة المؤمن للكافر ونحوها إنما يصح في الصحبة الاتفاقية العارضة، كصحبة يوسف لمن كان معه في السجن، والرجلين الذين ضرب المثل بهما في سورة الكهف، دون صحبة المودة ولا سيما الدائمة. وذلك أن صحبة المودة الاختيارية لا تكون إلا بين المتشاكلين في الصفات والأفكار كما يدل عليه حديث: ((الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)) رواه أحمد [2 / 295] ، والبخاري [3336] ، ومسلم [2638] وغيرهم. وقد تعارفت رُوحا النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر من قبل الإسلام فائتلفتا، وزادهما الإسلام تعارفا وائتلافا، حتى إنهما لم يفترقا في وقت من الأوقات، ولا في طور من الأطوار، وقد مهد صلى الله عليه وسلم السبيل لاجتماع قبريهما إذ أرشد الأمة إلى دفنه في بيت عائشة الصديقة رضي الله عنها، وهو يعلم أنها لابد أن تدفن والدها بجانبه. (¬1) وعلماء التربية والأخلاق يعدون الصحبة والمعاشرة ركنا من أركان اقتباس كل من الصاحبين من الآخر، فيحثون على صحبة الأخيار ويحذرون من صحبة الأشرار، قال الشاعر الحكيم: ¬
الرافضة ينتقصون من أفعال الصحابة وإن كانت عظيمة ويرفعون من شأن أفعال معظميهم وإن كانت دون أفعال غيرهم
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه ... ... فكل قرين بالمقارن يقتدي وقال آخر: وقائل: كيف تفارقتما؟ ... ... فقلت قولاً فيه إنصاف ولم يك من شكلي ففارقته ... ... والناس أشكال وآلاف *** تفنيد شبهتهم على منقبة {ثاني اثنين} : (ثانيا) : أنكم تزعمون أنه لا فضيلة للصديق الأكبر رضي الله عنه في كونه مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين بشهادة رب العزة، ولا في كون الله عز وجل ثالثهما؛ لأن العدد لا فضيلة فيه بزعمكم مهما تكن قيمة المعدود بذلك العدد. وأنتم تعلمون أن المؤمنين بكتاب الله تعالى وبرسوله لا يقولون إن لفظ (اثنين) ، أو لفظ: (ثاني) ، أو: (ثالثهما) له فضيلة في حروفه أو تركيبها أو النطق به. وإنما يقولون: إن الفضيلة للصديق الأكبر رضي الله عنه في المعدود والمراد بلفظ: {ثاني اثنين} في الآية، وبلفظ: ((ما قولك يا أبا بكر في اثنين الله ثالثهما)) في الحديث. فثلاثة رب العالمين أحدهم، وسيد ولد آدم وخاتم النبيين والمرسلين ثانيهم، يكون
لأبي بكر الصديق أعظم الشرف في أن يكون ثالثهم، أو كما قلتم متمما للعدد. ويزيد هذا الشرف الذاتي قيمة: أنه ليس مما يحصل مثله بالمصادفة ولا بالكسب والسعي، وإنما الذي اختاره له هو رسول الله بإذن الله، والمخبر بذلك هو الله ورسوله. ولو وردت هذه الآية وهذا الحديث في علي رضي الله عنه وكرم وجهه لقلتم في الثلاثة حينئذ نحوًا مما قالت النصارى في ثالوثهم (الأب والابن وروح القدس) كما قلتم في كونه كرم الله وجهه أحد الذين ثبتوا معه صلى الله عليه وسلم في حنين، فجعلتم هذا الثبات الذي يتفرد به ولم يثبت بنص القرآن، ولا بحديث متواتر مرفوع ولا مرسل، حجةً على كونه وحده دون من اعترفتم بثباتهم معه سببا للنصر، وإنقاذ الرسول من القتل، وبقاء الإسلام والمسلمين في الوجود! (¬1) وكما فعلتم في حديث مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم له؛ إذ فضلتموه به على الصديق وغيره، على حين قد ثبتت تسمية النبي صلى الله عليه وسلم الصِّدِّيقَ أخا له بأحاديث أصح من ذلك الحديث كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت متخذًا من أمتي خليلا دون ربي لاتخذت ¬
من أكبر جنايات الروافض على الإسلام والمسلمين أنهم جعلوا أبا بكر وعليا رضي الله عنهما خصمين
أبا بكر خليلاً، ولكن أخي وصاحبي)) رواه البخاري [3656، 3658] من حديث ابن الزبير، وابن عباس وغيرهما. وهو يدل على أن أبا بكر عند الرسول أعلى منزلة من جميع أمته. وقد قرأنا وسمعنا عنكم أنكم تفخرون بعدد آخر لم تثبت روايته بمثل ما ثبتت به رواية هذا العدد، ولا تبلغ درجته في عظمة المعدود. قال الفخر الرازي: ((وأعلم أن الروافض في الدين كانوا إذا حلفوا قالوا: وحق خمسة سادسهم جبريل، وأرادوا به أن الرسول صلى الله عليه وسلم وعليا وفاطمة والحسن والحسين كانوا قد احتجبوا تحت عباءة يوم المباهلة، فجاء جبريل وجعل نفسه سادسًا لهم. فذكروا للشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى أن القوم هكذا يقولون فقال رحمه الله: لكم ما هو خير منه بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)) ومن المعلوم بالضرورة أن هذا أفضل وأكمل)) . اهـ وأقول: إن من أكبر جنايات الروافض على الإسلام والمسلمين أنهم جعلوا أبا بكر وعليا رضي الله عنهما خصمين،
تفنيد شبهتهم على نهيه عن الحزن
وما ورد في مناقبهما معارضا بعضه ببعض، وكل هذا باطل. فما كانا إلا أخوين في الله وفي نصر رسوله وإقامة الإسلام، ولكل منهما مقام معلوم، وما ورد في مناقب علي أعلى الله مقامه أكثر مما ورد في مناقب غيره، كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وقد غلط الرازي في نقله أن مسألة العباء أو الكساء وردت في قصة المباهلة؛ فإن المعروف أنها وردت في إثبات جعل علي وزوجه وولديهما من أهل البيت النبوي عليهم السلام داخلين في معنى قوله تعالى {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجل أهل البيت ويطهركم تطهيرا} والآية واردة في الأزواج الطاهرات رضي الله عنهن؛ إذ روي أنه صلى الله عليه وسلم جمعهم معه في الكساء ودعا الله بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرًا، والمقام لا يسمح بالبحث في هذه المسألة هنا. (¬1) *** تفنيد شبهتهم على نهيه عن الحزن (ثالثا) : أنكم زعمتم أن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصديق عن الحزن يدل على أنه رضي الله عنه كان عاصيا بذلك الحزن ومتصفا ¬
تفنيد تحريفهم لقوله {إن الله معنا} .
بالجبن. وهذا الزعم دليل على جهلكم بالقرآن وبمقام الرسول صلى الله عليه وسلم وباللغة وبطباع البشر. وإنما أوقعكم في هذه الجهالات التعصب الذميم وسوء النية فيه. وحسبي في إثبات جهلكم ما بينته في تفسر الجملة من معنى الحزن والنهي عنه، وأن جملة {لا تحزن} لم ترد في غير هذه الآية من القرآن إلا في خطاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وفي خطاب الملائكة للوط عليه السلام. فإن كنتم تقولون: أنها تدل على العصيان والجبن! يلزمكم من الطعن في الرسول الأعظم وفي نبي الله لوط ما هو صريح الكفر، بل أثبت الله تعالى عروض الحزن للنبي صلى الله عليه وسلم بالفعل في قوله {قد نعلم إنه ليحزنك الذين يقولون} . ومن المتواتر: أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الناس، وحسب الصديق شرفًا أن ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عما نهاه ربه عنه، وأي شرف أعلى من هذا؟ تفنيد تحريفهم لقوله {إن الله معنا} . (رابعا) أن ما زعمتموه من احتمال أن يكون المراد من جملة {إن الله معنا} إثبات المعية للنبي صلى الله عليه وسلم وحده لا يصدر مثله
إلا عنكم بالتبع لملاحدة سلفكم الباطنية الذين قالوا مثل هذا في الصلاة والصيام، وغيرهما من العقائد وشرائع الإسلام؛ فإنه مما يأباه اللفظ والأسلوب والسياق والمقام، وإنما يُقصد بالكلام الإفهام، وما زعمتموه صريح في أنه صلى الله عليه وسلم أفهم صاحبه غير الحق، وأنه أراد أن يغشه ويوهمه بالباطل أن الله معهما؟ حاش لله وحاش لرسوله، ما هذا إلا من نوع تحريف اليهود والباطنية لكلام الله، بما لا يليق بالله ولا برسوله. وهذه الجملة بعيدة أشد البعد عن جملة {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} المراد بها استمالة الكفار المعاندين لاستماع حجج القرآن، وكانوا {ينهون عنه وينأون عنه} والترديد فيها حق؛ فإن أحد الفريقين على هدى أو في ضلال مبين، لا مفر من ذلك في نظر العقل، وهو لا يمنع أن يكون الواقع بالفعل: أن المخاطب لهم وهم الرسول صلى الله عليه وسلم على الهدى وأن يكونوا هم في ضلال مبين. ولما كان أبو جعفر محمد بن علي الطبرسي من علماء العربية ومعتدلي الشيعة أبت عليه كرامة العلم أن يسفه نفسه بنقل
ت ف
جهالتهم التي نقلها الرازي والألوسي للرد عليها، فكان كل ما ضعف به مناقب الصديق رضي الله عنه في الآية: ترجيح القول بأن الضمير في قوله تعالى {فأنزل الله سكينته عليه} راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم واحتج عليه بما احتج غيره ممن رجحوا هذا القول من اتساق مرجع الضمائر- وقد علمت ما فيه - وأشار بعده إلى ما للشيعة من الكلام في ذلك. وقال: إنه أبى أن ينقله لئلا يتهم بما لا يحب أن يتهم به. (¬1) (خامسا) زعمكم أن عليا كرم الله وجهه هو المجهز لهم بشراء الإبل: لم يثبت برواية صحيحة، بل الثابت في الصحيح ما تقدم في حديث الهجرة الذي سردناه آنفا من شراء الصديق للراحلتين وأخذه صلى الله عليه وسلم لأحداهما بالثمن. ولو ثبت قولكم لم يكن دالا على ما زعمتموه كما هو ظاهر. هذا وإنني اعتقد أن قائلي ما ذكره المفسرون من تحريف الرافضة للآية الكريمة وللأحاديث الشريفة في مناقب الصديق ليسوا من الجهلة باللغة العربية بحيث يعتقدون صحة ما قالوا وما ¬
عبارة بشعة لميرزا الحائري الأحقاقي "حاشية"
كتبوا، وإنما هم قوم بهت، يجحدون ما يعتقدون، ويفترون الكذب وهم يعلمون، ويحرفون الكلم عن مواضعه، كاليهود الأولين الذين حرفوا البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكدعاة النصرانية في هذا العصر. والذين وضعوا لهم قواعد الرفض وخطط التأويل والتحريف هم ملاحدة الشيعة الباطنية أعداء الإسلام الذين كانوا يتوسلون بها إلى هدم هذا الدين وإزالة ملك العرب تمهيدًا لإعادة الديانة المجوسية والسلطة الكسروية. وقد وضعوا لهم من الأحاديث والآثار عن أئمة آل البيت في تحريف القرآن والغلو فيهم، ومن قواعد البدع ما كانوا به شر فرق المبتدعة في هذه الأمة. وقد برعوا في تربية عوامهم على بدعهم بما فيها من الغلو في تعظيم على وآله بما هو وراء محيط الدين والعقل واللغة، والغلو في بغض الصديق والفاروق وذى النورين وأكابر المهاجرين وجمهور الصحابة والطعن فيهم بما هو وراء محيط الدين والعقل واللغة أيضا. وإنما خصوا الخليفتين الأولين منهم بمزيد البغض والذم لأنهما هما اللذان جهزا الجيوش وسيراها إلى بلاد الفرس ففتحوها (¬1) وأزالوا ¬
دينها وملكها من الوجود. وقد صارت هذه التقاليد راسخة بالتربية والوراثة حتى صار من يسمونهم العلماء المجتهدين يكتبون مثل ما نقلناه عن بعض المعاصرين منهم في الكلام على غزوة حنين، وهو أعرق في الغلو وأرسخ في الجهل مما نقله الرازي والألوسي هنا عن بعض متقدميهم. فإذا كان هذا حال من يسمونهم العلماء المجتهدين فكيف يكون حال من وطنوا أنفسهم على التقليد في طلب العلم؟ ثم كيف حال عوامهم الذين يلقنونهم هذه الأضاليل ويربونهم على بغض من أقام الله بهم هذا الدين، وصرح في كتابه العزيز بأنه رضي الله عنهم ورضوا عنه، وعلى لعن من فضله الله ورسوله عليهم كلهم؟ وناهيك بهذه الآية تفضيلا، ومن أصدق من الله قليلا؟ ألا إن هؤلاء الروافض شر مبتدعة هذه الملة وأشدهم بلاء عليها وتفريقا لكلمتها، وقد سكنت رياح التفريق التي أثارها غيرهم من الفرق في الإسلام وبقيت ريحهم عاصفة وحدها. فهؤلاء الإباضية لا يزال فيهم كثرة وإمارة، ولا نراهم يثيرون بها
الشيعة ينتظرون إسلاما جديدا إقامته بظهور المهدي
مثل هذه العداوة. ولو كانوا يقفون عند حد تفضيل علي على أبي بكر والقول بأنه كان أحق بالخلافة منه لهان الأمر، وأمكن أن يتحدوا مع أهل السنة الذين يعذرونهم باعتقادهم هذا إذا لم يترتب عليه ضرر، ويعتصموا بحبل الله ولا يتفرقوا هذا التفرق ولا يتعادوا هذا التعادي اللذين أضعفا الإسلام وأهله ومزقا ملكه كل ممزق، حتى استذل الأجانب أكثر أهله، وهم لا يزالوان يشغلون المسلمين بالتعادي على ما مضي من التنازع في مسألة الخلافة، ويؤلفون الكتب والرسائل في القدح في الصحابة. وياليتهم يطلبون إعادة الخلافة لأهل البيت وتجديدها لإقامة دين الله وإعادة مجد الإسلام وسيادته، فإن أهل السنة لا يختلفون في أن آلَ البيتِ على أصحِّ بطونِ قريشٍ أنسابا، وأكرمها أحسابا وأن الخلافة في قريش، فإن وجد فيهم من تجتمع فيه سائر شروطها ويرضاه أهل الحل والعقد من الأمة فهو أولى من غيره. كلا إنهم ينتظرون تجديد الإسلام وإقامته بظهور المهدي (¬1) ، وعامة المسلمين ينتظرونه معهم، فليكتفوا بهذا ويكفوا عن تأليف الكتب في ¬
الطعن في الصحابة الكرام، وبحمله السنة وحفاظها الإعلام، وإثارة الأحقاد والأضغان، التي لا فائدة لهم منها في هذا الزمان إلا التقرب إلى غلاتهم من العوام، طمعا في الجاه الباطل والحطام وإنما فائدتها الحقيقية للأجانب من أعداء الإسلام، ومن العجائب أن شيعة الأعاجم في إيران قد شعروا بضرر الغلو وبالحاجة إلى الوحدة دون شيعة العرب في العراق وسورية. فقد بلغنا عنهم ما نرجو أن يكونوا به خير قدوة لهم والله الموفق.
وإشارة إلى بعض تجارب المؤلف في هذا الميدان
السنة والشيعة وضرورة اتفاقهما بلغنا عن بعض إخواننا من مسلمي بيروت أنهم غير راضين عن رد المنار على الشيعة في هذا العهد الذي اشتدت فيه حاجة المسلمين إلى الاتفاق والاتحاد ولا سيما مسلمي سورية ولبنان والعراق الذين اشتد عليهم ضغط المستعمرين في دينهم ودنياهم. وإنني أقسم بالله وآياته لَشديد الحرص على هذا الاتفاق وقد جاهدت في سبيله أكثر من ثلث قرن، ولا أعرف أحدًا في المسلمين أعتقد أو أظن أنه أشد مني رغبةً وحرصًا على ذلك، وقد ظهر لي باختباري الطويل وبما اطَّلعت عليه من اختيار العقلاء وأهل الرأي أن أكثر علماء الشيعة يأبون هذا الاتفاق أشد الإباء؛ إذ يعتقدون أنه ينافي منافعهم الشخصية من مال وجاه. وأول مَن كلَّمتهم في هذا الموضوع شيخنا الأستاذ الإمام في سنة 1315 هـ وآخرهم الأستاذ الثعالبي السياسي الرحالة الشهير في هذا الشهر مع أستاذ ذكي من شبان الشيعة العراقيين، وفيما بين هذين
الزمنين تكلمت مع كثيرين من الفريقين في مصر وسورية والهند والعراق، وأعلاهم مقامًا جلالة الملك فيصل تكلمنا في هذه المسألة في دمشق سنة 1320 ثم في مصر عند إلمامه بها في عودته من أوربة في خريف سنة 1345هـ 1926م. ومما علمته بالخبر والخبر أن الشيعة أشد تعصبًا وشقاقًا لأهل السنة فيما عدا الهند من البلاد الجامعة بين الطائفتين؛ فالفريقان فيها قرنان متكافئان، وقد اجتهدت أنا وإخواني من محبي الإصلاح في الهند بالتأليف وجمع الكلمة وخطبت في مدينة بُمبي خطبة فيَّاضة في ذلك. وبدأت بزيارة رئيس الشيعة الديني في لكنهؤ دون غيره من أمراء الهند وزعمائها؛ فإنهم كانوا هم الذين يبدؤونني بالزيارة، وكنت سبب دخول الكاتب الحماسي الشعبي (الديمقراطي) المؤثر ظفر علي خان صاحب جريدة زميندار الوطنية المؤثرة دار (النواب فتح علي خان) لأول مرة ولم يدخلها قبل ذلك قط ولا دخل دور غيره من سلائل الأمراء من الشيعة ولا غيرهم، وقد رأيت لسعيي تأثيرًا حسنًا في الهند
وفي إيران، ولما ألممت ببغداد منصرفي من الهند جاءني وفد من النجف للزيارة والدعوة إلى النجف وأخبرني رئيسه صديقي العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني أنه يوجد هنالك كثيرون من طلبة العلم على رأيي في الإصلاح الإسلامي يتمنون لقائي، وما منعني من زيارة النجف إلا المرض وإنما كان داعية الإصلاح فيهم المُلا كاظم الخُراساني وقد توفي قبل زيارتي للعراق رحمه الله تعالى، ولكن جمهور شيعة العراق شديدو التعصب باعتراف السيد هبة الدين وبعض المنصفين منهم. وكان يوجد في شيعة سورية من يُظهر الميل إلى الاتفاق في عهد الدولة العثمانية أكثر مما يوجد في العراق، وكان للمنار رواج عند بعض العصريين المستنيرين منهم. ولذلك قام أشهر علمائهم يطعن عليَّ ويتهمني بالتعصب والتفريق؛ لأنهم يكرهون الاتفاق لما ذكرته آنفًا. وقد صبرت عدة سنين على طعنه عليَّ قولاً وكتابةً حتى صار السكوت عنه إقرارًا لهم على ما قصدوا له في هذا العهد عهد الاستعمار الفرنسي المسمى بالانتداب من مناهضة النهضة العربية الحاضرة من مدنية ودينية
بما هو أكبر خدمة للأجانب السالبين لاستقلال هذه البلاد، سورية والعراق. ذلك أنهم نشطوا في هذا العهد لتأليف الكتب والرسائل في الطعن في السنة السنية والخلفاء الراشدين الذين فتحوا الأمصار، ونشروا الإسلام في الأقطار، وأسسوا ملكه بالعدل والقوة، وتم بهم وعد الله عز وجل: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) والطعن في حياة السنة وأئمتها، وفي الأمة العربية بجملتها، وخصوا بالطعن أول ملك عربي اعترفت له الدول القاهرة للعرب والمسلمين وغيرها بالاستقلال المطلق والمساواة لها في الحقوق الدولية، طعنوا فيه وفي قومه بكتاب ضخم لتنفير المسلمين ولا سيما مسلمي العرب وصدهم عنه وإغرائهم بعداوته والبراءة منه، لا لعلة ولا ذنب إلا اتباع السنة وإقامة أركان دولته على أساسها، مع عدم تعرضه للشيعة بعداوة ولا مقاومة، بدليل اتفاقه مع دولة الشيعة الوحيدة في العالم وهي دولة إيران بما حمدناه لكل منهما، ورجونا أن يكون تمهيدًا للاتفاق التام بين الفريقين بالتبع
نقد فضيلة الشيخ العلامة الكويتي عبد العزيز أحمد الرشيد رحمه الله لكتاب القزويني "حاشية"
للاتفاق بين الدولتين. والذي بدأ هذا الشقاق وتولى كِبْره منهم هو صاحب ذلك الكتاب البذيء الجاهلي (السيد محسن الأمين العاملي) الذي لم يكتفِ فيه بإخراج ملك العرب الجديد وقومه النجديين من حظيرة الإسلام، وهو يعلم أنه لا قوة له ولا للعرب بغيرهم في هذا الزمان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) (رواه أبو يعلى بسند صحيح) (¬1) ولكن الإسلام عنده هو الرفض الذي هو الغلو في التشيع وعداوة السنة. ولم يكتفِ بذلك حتى زعم أن منشأ ضلال هؤلاء الوهابية وخروجهم عن الإسلام وعليه هو كتب شيخ الإسلام، وعلم الأئمة الأعلام، مؤيد الكتاب والسنة بأقوى البراهين النقلية والعقلية، وناقض أركان الشرك والكفر والبدع بتشييد صرح السنة المحمدية، الشيخ تقي الدين ابن تيمية، الذي نشرنا في هذا الجزء بعض رسائله في جمع كلمة الأمة الإسلامية، والأدلة على أن أهل السنة لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة، ولا يأبون صلاة الجماعة مع المبتدعة منهم. ¬
صاحب المنار لم يهاجم الشيعة مهاجمة وإنما رد بعض عدواتهم وبهتانهم
وزعم أيضًا أن صاحب المنار قد انفرد دون المسلمين بموافقة ابن تيمية والوهابية، وزاد على ذلك الطعن في شخصه وسيرته العملية، بما هو محض الزور والبهتان، ليخدع الجاهلين من أهل السنة بما بيناه في الرد عليه. وقام في أثره من علماء شيعة العراق مَنْ ألف كتابًا خاصًا في الرد على كتاب (منهاج السنة) لشيخ الإسلام (¬1) ، وآخرون ألفوا كتبًا ورسائل أخرى في الطعن على السنة وأهلها، دعْ ما قالوه في مؤتمرهم المشهور من تكفير الوهابية والتحريض على قتالهم، على ضعفهم وعجزهم. كذلك قام بعده زعيمهم الثاني في سورية السيد عبد الحسين فألف كتابًا آخر في الطعن على الصحابة من كبار المهاجرين والأنصار وفي الأمة العربية سلفها وخلفها وفي أصحاب دواوين السنة ولا سيما الحافظ البخاري رضي الله عنهم فوجب علينا الرد عليه، ولم نفرغ إلا للقليل منه. فصاحب المنار لم يهاجم الشيعة مهاجمة وإنما رد بعض عداوتهم ¬
وبهتانهم لبطلانه ولكون هذا الطعن في الصحابة وأئمة السنة وحفاظها وفي الأمة العربية وملكها في هذا الوقت لا فائدة منه إلا لأعداء المسلمين والعرب السالبين لاستقلالهم، وأكبر قوة للأجانب عليهم تعاديهم وتفرقهم. فلا أدري ماذا يريد الذي استنكر هذا الرد عليهم من استنكاره (¬1) ، وكيف تصور إمكان الاتفاق مع قوم يتبعون أمثال هؤلاء الزعماء، وتنشر دعايتهم هذه مجلة العرفان بالتنويه بكتبهم هذه والعناية بنشرها، عدا ما تبعثه هي من دعاية التشيع التي كنا نعذرها فيها بتنزُّهها عن الطعن الصريح في السنة وأهلها؛ ولذلك كنا نرجو أن تنكر هذه الدعاية وتأبى نشر هذه الكتب الضارة بصرف النظر عن مسألة موضوعها، فقد يقول أو قال صاحب مجلة العرفان: إنه يعتقد حقيقة ما كتبه هذان المؤلفان، وإن كنا نشرنا عنه من قبل ما يدل على عدم اعتقاد ما افتراه الأول على الوهَّابية، ولا نعقل أن يكون معتقدًا ما افتراه الثاني على المهاجرين والأنصار من وصفهم بالجبن، ونكثهم لما بايعهم الله عليه. ومن زعمه الذي ¬
الزواج من رجل شيعي أو امرأة شيعية
أقسم عليه يمينًا مغلظة أنه لولا علي بن أبي طالب لقتل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقم للإسلام قائمة في الأرض، بالرغم من وعد الله تعالى بنصره، وإظهار دينه على الدين كله.. إلخ، فهل يريد المستنكر من إخواننا أن نسكت لهؤلاء على كل هذا الطعن فيكون سكوتنا حجة على أهل السنة كافة، ومعصية يأثمون بها كلهم، ولا يزيد الشيعة إلا يقينًا بضلالهم، وبُعدًا عن الاتفاق معهم؟! وقد أخبرني مَن بلَّغني ما تقدم من الاستنكار أن بعض مسلمي بيروت استفتاني في تزوج كل من أهل السنة والشيعة في الآخرين ولم أفتِهِ بشيء. وأقول: إن هذا الاستفتاء لم يصل إليَّ، وإنني كنت استُفتيت في مثله من قبل؛ إذ خطب أحد كبار الإيرانيين بمصر فتاة من بيت بعض كبراء المصريين فأرسل الحريم يستفتوني في ذلك سرًّا فأفتيت بالجواز، واستدللت بأن هذا الخاطب من الشيعة الإمامية وهم مسلمون، لا من البابية ولا البهائية المارقين من الإسلام، وإنما يمتنع تزويج هؤلاء، والتزوج فيهم. (¬1) ¬
قاعدة المعذرة والتعاون وتعليق في الحاشية حولها
وأما رأيي في الاتفاق فهو قاعدة المنار الذهبية التي بيناها مرارًا وهي: (أن نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) (¬1) ، فأهل السنة متفقون مع الشيعة على أركان الإسلام الخمسة، وعلى تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وعلى محبة آل البيت عليهم السلام وتعظيمهم، وعلى جميع المصالح الوطنية من سياسية واقتصادية، وفي البلاد العربية على إعلاء شأن الأمة العربية ولغتها.. إلخ واستقلال بلادها وعمرانها، فيجب أن يتعاونوا على ذلك كله. وهم يختلفون في مسألة الإمامة (وقد مضى وانقضى الزمن الذي كان فيه هذا الخلاف عمليًّا) وفي المفاضلة بين الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وفي عصمة الأئمة الاثني عشر، مع مسائل أخرى تتعلق بصفات الله تعالى وفيما دون ذلك من الفروع العملية، فلكلٍّ من الفريقين أن يعتقد ما يطمئن إليه قلبه، ويعمل بما يقوم عنده الدليل على ترجيحه أو يقلد فيه من يثق بهم من العلماء، وأن يبين ذلك قولاً وكتابةً من غير طعن في عقيدة الآخر ولا في الصحابة وأئمة العلماء المجتهدين والمحدثين. كما فعل بعض ¬
ما هي الدوافع في عد الشيعة أئمة السنة نواصب؟
أدبائهم في قصائد نظمها في مدح الأئمة وشرحها وجعل مقدمتها في بيان العقيدة الإسلامية عندهم، وفيها ما لا يوافقهم عليه أهل السنة، ولا يكفرونهم به. ولم ينكر ذلك عليه أحد منهم. فيجب على محبي الاتفاق أن يقنعوهم بقاعدتنا ويؤلفوا جمعية أو حزبًا من الطائفتين للعمل بمقتضاها، بالرغم من زعم مجلة المشرق اليسوعية أن الاتفاق متعذر، واستدلالها عليه بالمناظرة التي دارت بين المنار والعرفان، وما كان صاحباها إلا أخوان، ولا يتعذر عليهما العودة إلى ما كانا عليه بمقتضى هذه القاعدة. هذا، وإننا لا نعرف أحدًا من علماء أهل السنة المتقدمين ولا المعاصرين يطعن في أحد من أئمة آل البيت عليهم السلام، كما يطعن هؤلاء الروافض في الصحابة الكرام، ولا سيما أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وفي أئمة حفاظ السنة كالبخاري ومسلم، وكذا الإمام أحمد إمام السنة وشيخ كبار حفاظها وشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ الذهبي وابن حجر وغيرهم، فإنهم يعدونهم من النواصب لعدم موافقتهم لجهلة الروافض على ما يفترونه من
الإشارة إلى مقالة يحيي الدرديري في مجلة الشباب وردة فعل مجلة العرفان الشيعية تجاهها
الغلو في مناقب آل البيت (¬1) ، وقد أغناهم الله عن اختلاق المناقب لهم بكثرة مناقبهم الصحيحة الثابتة بالنقل الصحيح. وحفاظ السنة ومدونوها هم المرجع في هذا، وكل مَن خالفهم من المبتدعة فهم جاهلون بنقد الروايات، والروافض منهم أجهلهم بهذا العلم، وأكذبهم في النقل، كما هو مشهور عنهم في التاريخ، وقد ذكره أحد علماء ألمانية المستشرقين في كتاب له، وإنما النواصب أولئك الخوارج الذين يتبرؤون من علي كرم الله وجهه، وكذلك مَن يتولون مَن بغوا عليه ومَن قتلوا سبط الرسول صلى الله عليه وسلم أو يصوبون أعمالهم، لا أئمة السنة الذين محّصوا رواياتها، وبينوا درجاتها. ونذكر على سبيل النموذج لجهلهم بالحديث ما انتقدته مجلة العرفان على مجلة الشبان المسلمين المصرية من الثناء على معز الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما أوردته فيه من هذه النقول وكنت قد كتبته للجزء الماضي فلم يتسع له وهو: ¬
((علم عمر وعلي رضي الله عنهما بالدين والقضاء بين مجلة الشبان المسلمين ومجلة العرفان)) . لا يطيق أحد من الشيعة المتعصبين أن يرى في كتاب أو مجلة ثناءًا عظيمًا على أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما ولا سيما إذا كان فيه صيغة اسم التفضيل، مع العلم بأن اسم التفضيل كثيرًا ما يستعمل في التفضيل الإضافي أو بتقدير من التبعيضية. (¬1) وقد كتب الأستاذ الدكتور يحيى أحمد الدرديري مقالة في مجلة جمعية الشبان المسلمين في الثناء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فيها: كان عمر رضي الله عنه أعلم الصحابة بالدين وأفقههم فيه. فنقل عنه الأستاذ صاحب مجلة العرفان نبذة منها وعلق على هذه الجملة ردًّا عليها لعله لم ينقلها إلا لذلك قال: هذا منافٍ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقضاكم علي) (¬2) وقوله: (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها) وقول عمر نفسه: (لولا عليٌّ لهلك عمر) (¬3) ، (ولا كنت لقضية ليس لها أبو الحسن) (¬4) اهـ. ونقول في الرد على الأستاذ صاحب مجلة العرفان: إن الحديثين ¬
حديث ((أنا مدينة العلم..)) وبيان ضعفه سندا ومتنا
اللذين ذكرهما وهما مما يحفظه كل شيعي -وكثير من غير الشيعة- ليس لهما رواية صحيحة ولا حسنة، ولو فرضنا صحتهما لما كانا معارضين لقول مَن قال: كان عمر أعلم الصحابة. أما العلم والقضاء فإنه يجوز عقلاً أن يكون عمر أعلم بأصول الدين ومقاصده وحكمه وسياسته، ولا يكون مع ذلك أقضى الصحابة، وأن يكون علي أقضاهم أي أعلم بالفصل بين الخصوم وتطبيق قضاياهم على أحكام الشرع، ولا يكون مع ذلك أعلم من عمر به (¬1) ، وقد كان أبو يوسف أقضى من أستاذه أبي حنيفة وزميله محمد بن الحسن ولم يكن أعلم منهما، ومثل هذا كثير مشاهَد في كل زمان. كان الشيخ محمود نشابة في طرابُلس الشام أعلم من أحمد أفندي سلطان بكل علوم الشرع وكان أحمد أفندي أقضى منه، بل لم يكن الشيخ محمود نشابة علامة سورية في زمنه الذي أدركناه في آخره مستعدًّا لأن يكون قاضيًا. وأما حديث: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) (¬2) فليس بينه - على تقدير صحته - وبين ما قاله الكاتب في تفضيل عمر أدنى تعارض ولا منافاة؛ إذ المتبادر من معناه أن عليًّا رضي الله عنه موصل إلى علم ¬
النبي صلى الله عليه وسلم بالرواية للسنة والتفسير للقرآن والعمل بهما، وهذا المعنى صحيح في نفسه، معلوم من جملة سيرته كرم الله وجهه، وإن كان الحديث المذكور غير صحيح، ليس في لفظه ما يدل على أنه أعلم بما كان في هذه المدينة من كل مَن كان فيها، ولا برواية ذلك العلم وتفسيره أيضًا. وإلا لحكمنا بأن كل ما رُوي عن غيره كرم الله وجهه من الحديث والتفسير والأحكام فليس من علم النبوة. ولم يقل بهذا رافضي ولا غيره. (¬1) والحديث رواه الحاكم في مستدركه من طريق أبي الصلت بن عبد السلام بن صالح عن ابن عباس وتتمته (.. فمَن أراد المدينة فليأتِ الباب) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو الصلت ثقة مأمون. ونقل توثيقه عن يحيى بن معين، وتعقبه الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك فقال ردًّا على قوله (صحيح) : بل موضوع. قال: (أبو الصلت ثقة مأمون) قلت (¬2) : لا والله لا ثقة ولا مأمون اهـ. وتصحيح الحاكم للأحاديث لا يعتمد عليه أحد من المحدثين؛ فقد صحح كثيرًا من الضعاف والمنكرات وكذا ¬
الموضوعات وتعقبه الذهبي وغيره فيها. وأخرج الترمذي [3723] من طريق: ((شريك عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن الصنابحي عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا دار الحكمة وعلي بابها) هذا حديث غريب منكر (¬1) ، روى بعضهم هذا الحديث عن شريك ولم يذكروا فيه عن الصنابحي، ولا نعرف هذا الحديث عن أحد من الثقات غير شريك، وفي الباب عن ابن عباس)) . اهـ. كلام الترمذي. وأقول: أبو الصلت راوي الحديث الأول وثقه ابن معين كما قال الحاكم ولكن طعن فيه الأكثرون والجرح مقدم على التعديل. قال مسلمة عن العقيلي: كذاب، وكذا محمد بن طاهر قال: إنه كذاب، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. وكلهم أنكروا حديثه هذا، وكأنهم يتهمونه بوضْعه على أبي معاوية. ولكن ابن معين يقول: إنه ليس ممن يكذب، وذكر أن محمد بن جعفر الفيدي حدث به عن أبي معاوية (¬2) وقال: أخبرني ابن نمير قال: حدث به أبو معاوية قديمًا ثم كف عنه. (¬3) اهـ ومراد ابن معين أن أبا الصلت ¬
لم يكن هو الذي افتراه بل كان حدث به أبو معاوية (¬1) ثم كف عنه فلعل أبا الصلت رواه عنه ولم يبلغه كفه عن التحديث به لعدم الثقة بصحته. وقال صاحب (تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على الألسنة من الحديث) : حديث: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) رواه الحاكم في المناقب من مستدركه عن ابن عباس مرفوعًا والترمذي من جامعه عن علي بمعناه وقال: إنه منكر، وكذا قال البخاري وقال: إنه ليس له وجه صحيح. وقال ابن معين: إنه كذب لا أصل له، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات ووافقه الذهبي وغيره على ذلك، وقال ابن دقيق العيد: هذا الحديث لم يثبتوه وقيل: إنه باطل. اهـ. وقد أورده الأستاذ الشيخ محمد الحوت الكبير علامة بيروت في (أسنى المطالب) وذكر بعض ما نقله الديبع عن أستاذه الحافظ السخاوي من قول الحفاظ بوضعه حتى ابن معين، ثم قال: ((قد ولع به العلماء، وذكره من دون بيان رتبته خطأ، ومثله: (أنا دار الحكمة وعلي بابها) وزاد بعضهم: ( ... وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها) ، ¬
حديث ((أقضاكم علي)) ومناقشة المؤلف لدلالته
وذلك لا ينبغي ذكره في كتب أهل العلم لا سيما مثل ابن حجر الهيتمي ذكر ذلك في الصواعق والزواجر وهو غير جيد من مثله)) . اهـ وأقول: إن ابن حجر الهيتمي هذا قد أتقن فقه الشافعية التقليدي على طريقة أهل زمنه، وهو ليس بحافظ للحديث ولا من نقاده، وإنما ينقله من الكتب، فإن لم تكن له عناية خاصة بالاحتجاج به فلا يبالي أكان صحيحًا أم ضعيفًا أم موضوعًا. فكيف إذا كان له هوى يوافق معناه كالغلو في المدح؟! وأخطأ مَن حَسَّنَه بكثرة طرقه. وأما حديث: (أقضاكم عليّ) (¬1) فقد قال الحافظ السخاوي: ما علمته بهذا اللفظ مرفوعًا، بل في مستدرك الحاكم [3/145] عن ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي، وقال: إنه صحيح ولم يخرجاه. اهـ وأقول: إن الحافظ الذهبي أقر الحاكم على روايته له عن ابن مسعود من قوله، ولو ورد مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولو من طريق منكر - لأورده الحاكم، ولعمري إنه لَحقٌّ في نفسه سواء كان اسم ¬
التفضيل على بابه أم لا، ولكن لا ندري متى قال ابن مسعود هذا؟ هل قاله في زمن عمر أو بعده. وأما ما ذكره صاحب مجلة العرفان من قول عمر فهو لم يروَ بسند صحيح، وإنما ذكره بعضهم فيما يتساهلون فيه من رواية المناقب. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه لم يذكر عنه إلا في قضية إن صح، وكان عمر يقول مثل هذا لمن دون علي كما قال للمرأة التي عارضته في الصداق: امرأة أصابت وأخطأ عمر. (¬1) وبيَّن في (منهاج السنة) بالشواهد أنه كرم الله وجهه لم يكن أقضى الصحابة رضي الله عنهم، وفيه نظر. وأما الأحاديث الدالة على علم عمر في الصحاح والسنن فهي كثيرة: منها: موافقات رأيه للقرآن وكونه من المحدَّثين (بفتح الدالة المهملة) أي الملهَمين، وغير ذلك، ولسنا بصدد تفصيل هذه المسألة، وكذلك ما رُوي في قضائه باجتهاده وفي اتباع الصحابة له في مسائل متعددة، وكذلك المسائل التي كان يستشير فيها الصحابة. ¬
هذا، وإن العلم الذي يتعلق به القضاء هو الأحكام العملية من شخصية ومدنية وعقوبة، وهو أدنى علوم الدين الإسلامي، وأما أعلاها فهو العلم بالله تعالى وصفاته وبسننه في خلقه من نظام العالم، ويليه العلم بتهذيب النفس وتزكيتها بالعبادات الصحيحة، والعلم بسياسة الأمم وإقامة الحق والعدل فيها، والذين يفضلون عمر على غيره في علوم الإسلام - ولا سيما بعد أبي بكر - يفضلونه بهذه العلوم التي هي في الذروة العليا، وهي ما تثبتها له أعماله وأقواله وأحواله وسياسته وإدارته، ولم يغمطْه أحد حقه في علم الأحكام العملية القضائية أيضًا، وما روي من تفضيل علي لعمر أصح مما روي من قول عمر في علي، وما هما إلا أخوان، ومن مصائب التعصب جعْلهما خصمين يتضادان. فإن كان قد روي عن عبد الله بن مسعود أنهم كانوا يتحدثون بأن عليًّا كرم الله وجهه كان أقضى أهل المدينة، فقد روي عنه أنه قال لما مات عمر: ((إني لأحسب أنه ذهب بتسعة أعشار العلم)) . رواه أبو خيثمة في كتاب العلم [رقم: 61] عن جرير عن الأعمش عن إبراهيم
تنويه من المؤلف بشيعة العراق في أول العهد باستيلاء الإنجليز عليها
[بن] (¬1) عبد الله. وقد أورده أبو طالب المكي في قوت القلوب والغزالي في الإحياء. قالا: فقيل له: أتقول ذلك وفينا جلة الصحابة -وفي القوت- وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون؟! فقال: إني لست أعني العلم الذي تذهبون إليه إنما أعني العلم بالله عز وجل. اهـ وجرير الراوي لهذا الأثر هو ابن حازم وهو ثقة فيما يرويه إلا عن قتادة. وأما إبراهيم بن عبد الله (¬2) فلا نعرفه في شيوخ الأعمش وإنما يروي الأعمش، عن إبراهيم النخعي فلعله هو وناهيك به في رواة حديث ابن مسعود وآثاره. (¬3) هذا وإن علماء السنة الذين طعنوا في رواية الحديثين المذكورين قد أثبتوا من الروايات في مناقب علي رضي الله عنه أكثر مما أثبتوه من مناقب غيره من الصحابة رضي الله عنهم وصرح بذلك إمامهم الأعظم أحمد بن حنبل وأقروه عليه، فهل يعدون من النواصب؟! وأختم هذا البحث بالتذكير بأنني كنت نوهت بشيعة العراق في أول العهد باستيلاء الإنكليز عليها؛ لأنهم كانوا أشد من أهل ¬
السنة في الثورة عليهم، ولما بلغنا عنهم من احتقار الدسيسة التي عرضها عليهم الإنكليز للتفرقة بينهم وبين أهل السنة؛ إذ عرضوا عليهم أن يكون القضاء في الجهات التي يكثرون فيها بمذهبهم الجعفري، فأجابوهم بأن الشريعة واحدة لا فرق فيها بين مذهب جعفر ومذاهب أهل السنة، وإنما الخلاف في كل مذهب يشبه ما في غيره وهو في مسائل اجتهادية، يعذَر فيها كل مجتهد. ثم نُكسوا على رؤوسهم وعادوا إلى خدمة الأجانب بالتفريق والتعادي من حيث لا يشعرون (¬1) ، ولم يعتبروا باعتدال شيعة إيران وميلهم إلى الوحدة والاتفاق، وإنما كان أسلافهم من أمراء الفرس وموابذتهم هم الذين أسسوا قواعد الغلو في الرفض ونظموا جمعياته ونشروه في العالم لإزالة ملك العرب وإعادة دين المجوس وملكهم كما شرحناه مرارًا، فقد أخبرني الأستاذ الثعالبي الذي زار بلادهم في العام الماضي بمثل ما أخبرني به الأستاذ الكردي الذي ذكرت خبره من قبل وهو ناشئ في بلادهم، قالا: إن الميل فيهم إلى الوحدة الإسلامية والاتفاق مع أهل السنة قوي جدًّا، وهذا ¬
ما نشاهده في جاليتهم بمصر، فهم كأهل السنة هنا في كراهتهم للخلاف، وحبهم للائتلاف، إلا بما شذ به صديق لنا منهم طعن علينا وافترى، فكان قدوة للعاملي فيما امترى، ثم تصافحنا وتصالحنا، ونسأله تعالى أن يصلح الجميع، فالشقاق شر للجميع. أفليس من أعجب العجائب أن نرى أخلاف أولئك الفرس يرجعون عن ذلك الغلو ويجنحون إلى الاتفاق مع أهل السنة من العرب وتقوية الرابطة الإسلامية ثم نرى مع هذا أخلاف العرب - حتى المنتسبين إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم - يزدادون غلوًّا في الشقاق المذهبي والسياسي الذي كان أكبر عيوب سلفها وخلفها، وهو الذي أضعف دولها، وأزال ملكها، واللهِ إن هذا لشيء عُجاب، وعسى أن يزول قريبًا بسعي أُولي الألباب.
اقتراح عبد الحسين نور الدين لمناظرة في الخلاف بين أهل السنة والشيعة
*** اقتراح مناظرة في الخلاف بين أهل السنة والشيعة: (جاءنا الكتاب الآتي من حضرة صاحب الإمضاء، أحد علماء الشيعة الإمامية الأعلام ننشره بنصه وحروفه وننشر بعده جوابنا له وقد سبق هو إلى نشرها في بعض الصحف) : بسم الله تعالى، بأزكى التحية وأفضل السلام أحيي مقام ذلك الإمام السيد الرشيد آل رضا، ألهمه الله قول السداد، وسلك به سبيل الهدى والرشاد، أما بعد: فإني أحمد إليك الله سبحانه الذي عرَّفنا أولياءه وأهل محبته، وهدانا إلى ما سنَّه من شريعته {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأعراف: 43) وأسأله أن يوفقنا جميعًا لنصرة الحق وإرشاد الضال، وإحياء السنة وإماتة البدعة، فإنه ولي ذلك والقادر عليه. ثم إني رأيتك قد أرهفت يراعتك ونثلت كنانتك منتصبًا في وجه الشيعة زاعمًا أنهم قد نشطوا في هذه الأيام لدعاية الرفض والبدع، والصد عن السنة وأعلامها، فإن يكن ذلك منك حمية للحق
وغيرة على الإسلام (والسرائر لا يعلمها غيره سبحانه) فحَقِّقْ دَعْواك - إن رأيت - بأن تفتح لنا بابًا في مجلتك الغراء نذكر فيه المسائل الهامة التي وقع الخلاف فيها بين الطائفتين، ونحقق الحق في ذلك متبعين البرهان، غير متحيزين إلى فئة، ملتزمين آداب المناظرة، وايم الحق، لئن فعلت ذلك إنها لأعظم حماية للدين، وأعْوَد نفعًا على المسلمين، وأكون لك بلسان أهل الحق من الشاكرين، فأرجوك؛ وظني بك ستحقق رجائي، ولك عهد الله سبحانه أن لا أذكر في مناظرتي كلمة أقصد بها جرح عاطفتك، والغض من كرامتك، وأحتمل لك كل قول، وبذلك يظهر فساد ما ليس من الدين مما يعتقد صحته الكثير من الطائفتين، وتنال لقب المصلح، ويكون لمجلتك شأن، وإنني بانتظار الجواب وإلا فسندرج صورته في مجلة العرفان الغراء وغيرها. ... ... ... ... ... ... ... ... صاحب الكلمات ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحسين نور الدين ***
جواب صاحب المنار
جواب صاحب المنار بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رشيد رضا إلى الأستاذ الكبير، والعلامة الشهير، السيد عبد الحسين نور الدين، هدانا الله وإياه الصراط المستقيم، آمين. . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد أُلقي إليَّ كتاب منك أنكرت فيه عليَّ ما كتبته أخيرًا في دعاية الشيعة، وما هو إلا ردي على كتاب السيد عبد المحسن العاملي فيما طعن به عليَّ أقبح الطعن الديني والشخصي بالتبع لطعنه على الوهابية، وعلى شيخ الإسلام ابن تيمية، بما تضمن الطعن على سلف الأمة الصالح في عقيدتهم، ثم انتقادي ما كتبتَه أنت في الجزء الأول من كلماتك في موضوع غزوة حُنين، وقد عبرت عن ذلك تعبيرًا منتقدًا أغضي عنه، وأخص بجوابي ما دعوتني إليه من فتح باب في المنار للمناظرة (في المسائل الهامة التي وقع فيها الخلاف بين الطائفتين) لتحقيق الحق فيها بالبرهان (غير متحيزين إلى فئة، ملتزمين آداب المناظرة..) إلخ.
فأقول: لبيك لبيك، لقد دعوتني إلى ما كنت أتمنى مثله، فإنني ما كتبت ولن أكتب في هذه المسألة ولا في غيرها إلا ما أعتقد حقيته، وأقصد به النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين، وهو ما أرشدنا إليه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقدر ما يصل إليه علمي ورأيي، فإنني لا أنتحل مذهبًا من مذاهب الفرق الإسلامية أتعصب له، ولا أقلد عالمًا من أئمتها أتقيد برأيه واجتهاده، فأخشى أن يظهر بالمناظرة بطلان قوله، بل طالما ذكرت في المنار ما هو منتقد عندي من المذاهب الشهيرة، وليس للمنار أدنى مساعدة مالية ولا معنوية من طائفة من الطوائف، ولا أهل مذهب من المذاهب، ولا من فرد من الأفراد، فأخشى على نفسي أن تتبع الهوى في الانتصار لمذهبهم أو شخوصهم من حيث أدري ولا أدري. فإن كنت تعاهد الله كما أعاهده على ما نقلته عنك آنفًا فهلم. ولا أحفل بما قلت قبله ولا بعده من الأمور التي أملاها عليك سوء الظن بي من ترغيب وترهيب، وشك مريب. ولما كانت مسائل الخلاف كثيرة، وكان الباب الذي نفتحه
لها مع بقاء سائر أبواب المنار مفتَّحة - ولا سيما التفسير والفتاوى والشؤون الإسلامية العصرية - لا يتسع لدخول هذه المسائل كلها فيه إلا في سنين كثيرة، وجب أن نقتصر على المسائل المهمة، وأن نلتزم فيها الاختصار غير المخل بالغرض، وأن تكون وجهتنا جمع الكلمة، والتأليف بقدر الطاقة، على المنهج الذي شرحته في الجزء الرابع من (منار) هذه السنة. فعسى أن تكتب إليَّ برأيك في هذا، تمهيدًا للشروع في هذا العمل. وأسأله تعالى أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه من جمع كلمة المسلمين على كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونبذ البدع، ثم على مصالحهم الدنيوية العامة، والسلام. 14 رمضان سنة 1349 هـ
المناظرة بين أهل السنة والشيعة
*** المناظرة بين أهل السنة والشيعة قد اطلع قراء المنار في الجزء الثامن (م 31) على الكتاب الذي نشرناه للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين من أشهر علماء الشيعة الإمامية في هذا العصر الذي يطلب المناظرة، وعلى إجابتنا إياه إلى طلبه وما اشترطناه فيها، وقد جاءنا بعد ذلك الرسالة الآتية منه، فإذا هو لم يلتزم فيها الشروط، فكان لنا أن نطلب منه حذف ما ليس من الموضوع الذي حددناه، وإن كان يمت إليه بنوع من أنواع القرابة أو المناسبة، وإذا به يظن فِيَّ الظنون، ويفتح له بابًا من النقد يقبله الكثيرون، وإنني أنشر له هذه الرسالة على كون أكثرها خارجًا من دائرة الموضوع، ومنتقدة من عدة وجوه، وإعلانًا عن كتابه بالإحالة عليه وبيان موضع بيعه ورخص ثمنه؛ ولكنني أعلق عليها تعليقًا وجيزًا أعود فيه إلى تحديد موضوع المناظرة، ولا أقبل بعده كلمة تخرج عن حدودها، وهذا نص رسالته:
الرسالة الأولى: للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين
الرسالة الأولى: للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين بسم الله الرحمن الرحيم لقد جرت مناظرة بيننا وبين الأستاذ العلامة الإمام حضرة صاحب مجلة المنار الغراء، ونال كل منا صاحبه بما جرحه، فرأينا أن ذلك يحول دون الغرض الذي يؤمه أهل الدين والعقل من إحقاق الحق وجعله الضالة المنشودة لهم، فكتبت إليه راجيًا منه فتح باب في المجلة تذكر فيه المسائل الهامة بين الطائفتين ورأي كل منهما ودليله. فحقق رجائي وكان عند حسن ظني وأتحفني بكتاب ملأه حنانًا وغيرة على الدين وأهله، ولا عجب إذا جاء الشيء على أصله وخرج الجوهر من معدنه. وأرجو ببركة هذه المجلة ونية صاحبها أن نقف على فوائد جمة ونهتدي إلى كثير مما خفي علينا علمه ومعرفته، فنحن بلسان أهل الحق والفضل نشكره شكرًا جزيلاً.
ودع عنك قول بعضهم: دعوا البحث فيما يتعلق بالدين والمذهب وهلم إلى التعاون على توحيد الكلمة وجمع الأمر قبالة المستعمرين. فإن ذلك لغو من القول، وخطل من الرأي، وكأنها مقالة من لا يرى الإسلام دينًا، ولا يرى أن هناك حياة أخرى خالدة غير هذه الحياة؛ وإنما يرى الإسلام رابطة قومية وجامعة سياسية، فهو يدعو إليها ويحض عليها. وهذه الدعوى لا تجدي نفعًا عند من يرى الإسلام دينًا ويتقرب إلى الله سبحانه بنصرته ومعاداة من يمسه بسوء. فالدواء الناجع إذًا لتوحيد كلمة المسلمين وضمهم تحت راية لواء واحد هو سعي عقلاء العلماء - أي علماء الدين - من كلتا الطائفتين إلى محل الخلاف وفحصه وإزالته بالبرهان، وإصغاء كل منهما لحجة الآخر، وتحكيم أهل الفضل والإنصاف، ولا ينبغي وضع هذا العبء على كاهل العلماء فحسب. بل على العقلاء ممن يهمهم أمر المسلمين القيام مع العلماء مراقبين سيرهم في المناظرة؛ فإن الحق لا يخفى على طالبه، وإنني
مقارنة بين مرويات أهل البيت في كتب أهل السنة وفي كتب الشيعة (حاشية)
لا أنكر أن يكون في علماء الطائفتين من تهمه نفسه، ولا يميل إلى الاتفاق لما اعتاده من التعصب الأعمى، فعلى العقلاء من كلتا الطائفتين رفض أولئك والتنبه لهم. وليت شعري كيف يمكن الاتفاق بين هاتين الطائفتين قبل دفع سبب الخلاف. إن الشيعة من المسلمين يرون أن من أرسى قواعد الإسلام وأقوى دعائمه موالاة أهل البيت والاهتداء بهديهم والعمل برأيهم وحديثهم، وأن المنحرف عنهم، النابذ لحديثهم، المهتدي بخلاف هديهم غير متبع سبيل المؤمنين، ويرون أن أبناء السنة من المسلمين منحرفون عنهم بنبذهم علمهم وحديثهم وإعراضهم عن مذهبهم فهم على غير سبيل المؤمنين. (¬1) وإن المسلمين من أهل السنة يرون أن أرسى قواعد الإسلام وأوثق عراه موالاة أصحاب رسول الله جميعهم والعمل بكل ما حدَّثوا به؛ لأنهم حملة الدين وحفظة الوحي ومبلغوه إلى الأمم، فالمنحرف عنهم التارك لحديثهم غير متبع سبيل المؤمنين، ويرون أن الشيعة ¬
منحرفون عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتركهم حديثهم وانقطاعهم إلى أهل البيت، فهُم على غير سبيل المؤمنين. فعلى هذا كيف يشترك المتمسكون بالدين منهما بالعمل بإخلاص ونصح ما لم يقع التفاهم بينهم؟ فلو أن شخصين متعاديين سارا في طريق واحدة لم يُجْدِهما نفعًا إظهارهما المجاملة، وقول كل واحد منهما لصاحبه: دع العداء بيننا جانبًا، وهلم فنلكن يدًا واحدة على من سوانا! فإن ذلك غير مستطاع لهما، واعتمادهما في التعاون على ما أظهراه من المجاملة والاتفاق غرورٌ وأمانٍ باطلة، فلو ظفر بهما عدو لهما على هذا الحال، ثم استعان بكل واحد منهما على صاحبه لأعانه. فعلى هذين الرفيقين أن يقتلعا سبب العداء من عروقه، ويعترف كل واحد منهما لصاحبه بما جناه ويعطيه بيده ليأخذ بحقه حتى يرضى، وعندها تذهب الشحناء، ويحل محلها الود والإخاء. أما أنا فهذه يدي رهن بما أقوله معطاة لمن يريدها وما توفيقي إلا بالله.
إشارة عبد الحسين إلى ما كتب عن علم علي وعمر رضي الله عنهما بالدين والقضاء
عِلْمُ علي وعمر رضي الله عنهما بالدين والقضاء ذكرت مجلة الشبان مقالاً، وهو أن عمر كان أعلم الصحابة بالدين وأفقههم فيه (¬1) ، وردته مجلة العرفان بقولها: إن هذا منافٍ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقضاكم علي) وقوله: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) ولقول عمر: (لولا علي لهلك عمر، ولا بقيت القضية ليس لها أبو الحسن) . وحاصل الرد أن ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من الحديثين غير صالح للاستدلال به لعدم صحة ما روي، وعلى فرض صحته لا دلالة فيه على المطلوب؛ إذ كون علي أقضى لا يمنع أن يكون عمر أعلم؛ لأن القضاء - أعني فصل الخصومة - لا يحتاج إلى كثير علم (¬2) ؛ وإنما يحتاج إلى ذكاء وفطنة، فبين الأعلم والأقضى عموم وخصوص من وجه. ¬
عبد الحسين يبين رأي الشيعة في الخلافة:
وكذلك جعل علي عليه السلام باب مدينة العلم لا يوجب الحصر؛ لجواز أن يكون للمدينة أبواب كثيرة منها علي عليه السلام، ومنها عمر رضي الله عنه ومنها غيرهما، وكذلك قول عمر إنما جاء على نحو التواضع. ثم أطال البحث في أحوال الرواة لهذين الحديثين وتضعيفهما. أقول: ما أحسن المناظرة إذا كانت بآدابها، وصحت نية أربابها، وكان الحق ضالتهم، والبرهان قائدهم. ولنغضي عما في هذا الجزء من الشتم والتجهيل كما تضمنته رسالة ابن تيمية، ومقالة الأستاذ التي عنوانها (السنة والشيعة وضرورة اتفاقهما) فإنها كتبت قبل الصلح والمسالمة. وقبل الخوض في البحث نقدم بيانًا يعلم منه مناظرنا كيف يسير معنا في المناظرة: رأي الشيعة في الخلافة: إن المسلمين من الشيعة يرون أن الخلافة أصل من أصول الدين كالنبوة، وأن نصب الخليفة واجب على الله عقلاً من باب اللطف كوجوب إرسال الرسول (¬1) ، ويرون أن الخليفة لا بد أن يكون أكمل أهل زمانه في جميع فنون الفضل كالنبي، وإن امتاز النبي صلى الله عليه وسلم ¬
عبد الحسين يذكر رأي السنة في الخلافة
عندهم بأمور كثيرة (¬1) ، ويرون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي أمير المؤمنين عليه السلام فهو أفضل أهل زمانه. رأي السنة في الخلافة: إن المسلمين من السنة لا يرون الخليفة بهذه العظمة، فهي عندهم فرع من فروع الدين (¬2) ، فيجب على المسلمين أن يختاروا من بينهم خليفة ولا يشترطون امتيازه عن غيره في الفضل والصلاح، ولعل أكثرهم لا يشترط فيه الصلاح والعدالة. فإذا عرفت ذلك ظهر لك أن الشيعة حين ينكرون أن يكون أحد من الصحابة أفضل من علي عليه السلام أو مساويًا له إنما هو لمنافاته لأصل الدين (¬3) وقاعدة المذهب عندهم، وقد فرغوا من إثباته بالحجج القاطعة والبراهين العقلية والنقلية، وألَّفوا في ذلك الكتب المطولة، فمن يجهل رأيهم في الخلافة ولم يطالع ما كتبوه في ذلك مع وفوره وقرب مناله، يظن أن ذلك منهم غلو في علي وانحراف عن غيره، وليس كذلك. إن العالِم الشيعي ينظر إلى التفاضل بين علي عليه السلام وعمر ¬
مشاربه
رضي الله عنه كأهم مسألة دينية، والعالم السني ينظر إلى التفاضل بينهما كمسألة تاريخية، وحيث كان البحث في التفاضل من الوجهة الدينية يحتاج إلى البحث في أصل الإمامة (¬1) ، وهي مسألة ضافية الذيل، فسيحة الأرجاء لا تسعها هذه العجالة - فلنبحث الآن عنها من الوجهة التاريخية، ونعرض ما عندنا في ذلك على أهل الفضل والإنصاف. إنني وأيم الحق لم يكن يختلج في صدري أن أحدًا من أهل الفضل يقدم أحدًا من الصحابة على علي عليه السلام في العلم أو يساويه فيه، وكنت أرى أن هاتين الصفتين - أعني الشجاعة والعلم - قد كملتا فيه وامتاز بهما عند أوليائه وأعدائه، وأن صفة العلم فيه أظهر من صفة الشجاعة لسبقه فيها سبقًا بعيدًا. هذا كتابه قرآن العارفين (¬2) وفرقان السالكين تتجلى آياته وتتلألأ أسراره، وما أخال حضرة الأستاذ يرتاب فيه كغيره بعدما أورده أستاذه - ذلك الحبر الكبير النمير - العذب من مشاربه، وأوقفه على تلك الإلهيات عن عجائبه. إننا لعمر الحق أبعد المسلمين عن العصبية وأقربهم ¬
للاتفاق، وأحبهم للإنصاف، وما الحيلة في ترك ولاء هذا الرجل - أعني أمير المؤمنين عليًّا - وقد تجلى لنا تقدمه في الفضل على كافة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبقه لهم فيه سبقًا بعيدًا، وإننا لنعجب لبعض العلماء من إخواننا السنيين كيف لا ينصفوننا في علي عليه السلام ولا يرون رأينا فيه، وما لنا لا نعجب، وإنما هذا الفضل له أخذناه منهم، ورويناه عنهم. (¬1) فمن عدم إنصافهم ما ذكره هذا البعض من أن عمر أعلم الصحابة ومنهم علي عليه السلام، وهنا موقف الحيرة، فإن سكتنا كان ذلك إقرارًا منا بالخطأ وفساد المذهب، وإن أوضحنا الحق في المسألة ونصرنا رأينا قامت القيامة علينا ورُمينا بالرفض والغلو والتعصب على أكابر الصحابة. لكننا نؤثر إحقاق الحق ونحتمل في سبيله كل مكروه، ولعلنا لا نعدم من أهل الفضل والإنصاف أنصارًا ومحكِّمين. اعلم أيها الأخ المنصف أن لنا على تفضيل علي على عمر رضي الله عنه وعلى كافة الصحابة رضي الله عنهم براهين قاطعة من طريق العقل ومن ¬
تطرق عبد الحسين إلى زمن إسلام عمر رضي الله عنه
طريق الرواية. أما من طريق العقل فيحتاج ذلك إلى معرفة الزمان الذي تلقيا فيه ذانك التلميذان العظيمان - أعني عليًّا عليه السلام وعمر رضي الله عنه - العلم عن معلمهما أعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقداره، ومنزلة كل واحد منهما من الفطنة والذكاء، وعندها تصدر الحكم غير مرتاب: زمن إسلام عمر رضي الله عنه: أسلم عمر رضي الله عنه في السنة السادسة من بعثته صلى الله عليه وسلم وعمره ست وعشرون سنة، فعليه يكون قد قطع مرحلة من عمره في غير طلب العلم لا يُستهان بها، فإذا أضفت إليها ثلاث سنوات لم يلق عمر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نادرًا، وذلك عند حصار قريش لبني هاشم وبني عبد المطلب في شعب أبي طالب رضي الله عنه، تراه قد خسر أكثر رأس ماله الذي يتجر به الإنسان في كسب العلوم والمعارف وذلك ظاهر. لأن الزمان الذي يستفيد منه المرء ويتعلم به هو زمان الصبا
والشبيبة، وبها تكون القوة الذاكرة والحافظة في منتهى النمو والنشاط والاستعداد لتلقي العلوم والمعارف. وما سمعنا بمن طلب العلم عند بلوغ هذا السن - أعني تسعًا وعشرين سنة - وبرع فيه، وإن كان ثمة أحد فهو من شواذ الطبيعة، ومنكر ذلك مكابر وحائد عن طريق الإنصاف. خصوصًا في الصدر الأول أعني زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فقد كان الاعتماد على الحفظ والذاكرة، ولم تكن يومئذ المعلومات تُدوَّن ليؤمَن تفلتها وضياعها، فكان أعلمهم أكثرهم حفظًا وأقواهم ذاكرة، ولولا حرص التابعين على حفظ الحديث وتدوينه لما وصل إلينا من علمهم شيء. ولقد كنت زمن شبيبتي أتعجب من كل من يقول: نسيت، فإني لم أكن لأنسى شيئًا سمعته أو قرأته، وبعد بلوغي الثلاثين انقلب الأمر وأصبحت أعجب ممن يحفظ ولا ينسى، ولم يبق في ذاكرتي غير ما استُودع بها زمن الصبا والشبيبة، وما شكوت هذا الداء لأحد من أبناء جيلي إلا وشكا لي نفس ذلك الداء الذي أشتكيه.
تطرق عبد الحسين إلى زمن تعلم علي رضي الله عنه
ويؤيد ذلك ما روي في سيرة عمر رضي الله عنه أنه لبث في حفظ سورة البقرة وتعلمها اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورًا (¬1) . ولم يكن عمر رضي الله عنه يُعرف بالصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاتصال به قبل إسلامه ليستفيد من علومه. زمن تعلم علي عليه السلام: لا يرتاب أحد ممن راجع أحوال الصحابة وقرأ تاريخ حياتهم في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضم عليًّا إليه وأخذه من أبيه وهو ابن ¬
أربع سنوات. (¬1) وهذا هو أول الزمن الذي يتأهل الغلام فيه لتعلم مبادئ العلوم وتلقي بذور الأخلاق الطيبة والطباع الفاضلة، ويا ما أسعد ذلك الغلام الذي يظفر بمثل ذلك المعلم في مثل ذلك الزمان، وينقطع ¬
إليه عن أبيه وأمه وإخوته وكل أبناء جيله، ثم لا يفارقه مدة حياته بخ بخ لهذا الغلام. ومن يستطيع تحديد ما استفاده ووعاه قلبه وطبعت عليه نفسه من العلوم والأخلاق؟ وقف القلم ههنا بعد نخوته معترفًا بالعجز عن هذه المهمة من التحديد، فأين ربانيو هذه الأمة والراسخون في العلم منهم عن تحديدها وبيان مقدارها؟ مِل بنا نحو تلك الخلوات التي كان يكون بها مع معلمه صلى الله عليه وسلم قبل بعثته. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته قد تيمه الوجد وأورثه ذلك وحشة من الناس وأنسًا بالخلوات والانقطاع عن هذا الخلق المتعوس المتردد في دياميم الجهل والشقاء، النائي عن الخير والسعادة، فكان يجاور في كل سنة بحراء ومعه هذا الغلام الشهرين والثلاثة، يريض تلك النفس الزكية ويؤهلها لوصل ذلك الحبيب الذي هام به. وكان علي عليه السلام يهيم بذلك الحبيب كهيام معلمه،
ويشاركه في خلواته به وأنسه بقربه وتلقي فيوضاته وألطافه لا ثالث لهما. (¬1) فأين الأصحاب رضي الله عنهم عن تلك المراتب السامية من هذه المكاشفات والمشاهدات لخالقهما التي كانت تتجلى في قلبيهما وتتلألأ على (طور سينا نفسيهما) ولا نعجب بعدها من أمر هذا الغلام كيف فارق أهله وإخوته وأترابه وانقطع إلى معلمه ولم تمل به الحداثة إلى الأخذ بنصيبه من اللعب واللهو وهو منتهى لذة الأحداث وقصارى رغبتهم. فلقد ملئ قلبه بحب خالقه ولم يبق فيه فراغ لسواه، فسبحان واهب العطاء يختص بكرامته من يشاء، أتظن رعاك الله أن ساعة من الزمن كانت تمر على هذا التلميذ بغير فائدة من ذلك المعلم الحريص (¬2) على التعليم. فلو ادَّعى مدعٍ كهذا التلميذ بعد وفاة معلمه أنه وارث علمه، ¬
أتكون دعوى غلو ومجازفة أم دعوى حق وإنصاف؟ وقد تبين مما ذكرنا أن عليًّا عليه السلام تعلم العلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الصبا والشبيبة بخلاف عمر رضي الله عنه، وأن عمر ابتدأ بالتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علي بعد أن سبقه وتعلم قبله بخمس عشرة سنة على أقل ما روي من عمره يوم بعثته وهو عشر سنين، وأما على ما روي من أن عمره يوم البعثة كان خمس عشرة (¬1) سنة فيكون قد سبقه بعشرين سنة، فما يقال لهذا التلميذ الذي دخل المدرسة وابتدأ بالتعلم وهو ابن تسع وعشرين سنة، ولم يكن (¬2) معروفًا بحدة الذهن وتوقد ¬
القريحة، ثم صحب تلميذًا شابًّا قد تعلم قبله بخمس عشرة سنة وداما يتعلمان مدة حياة معلمهما، فهل يجوز في أحكام العقول عند أهل الفضل والإنصاف أن يلحق الكهل بذلك الشاب ويفوقه بالعلم والمعرفة، خصوصًا إذا كان الشاب أقوى فطنة وأكثر ملازمة وانقطاعًا إلى المعلم؟ كلا ثم كلا،
وهذا لعمري من البديهيات الأولية. واعلم - رعاك الله أيها الأخ المنصف - أننا هنا لا نعتمد في تفضيل علي عليه السلام على كافة الصحابة رضي الله عنهم إلا على أمثال هذه البراهين القاطعة والأمور المحسوسة، التي سجلها التاريخ وأوضحها البحث والتنقيب والتدبر، أما الأحاديث التي وردت في فضله عليه السلام فإنما تذكر تأييدًا واستظهارًا قبالة الخصم، وهذه طريقتنا في الأصحاب رضوان الله عليهم، لا نعتمد في فضلهم وصلاحهم على ما روي فيهم حتى نرى ما دُوِّن لهم في التاريخ من الأعمال، فإن كان ثمة عمل يؤيد ما روي فيهم آمنا وصدقنا، وإلا اتَّهَمْنا الراوي ولم نؤمن بحديثه. ولسنا بحمد الله ممن يبخس الناس أشياءهم، بل نعطي كل ذي حق حقه، وننعت المرء بما هو فيه، إن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وجهة كان يؤمها، وغاية كان يسعى إليها هي من أشرف الغايات وأعلى المقاصد. (¬1) ألا وهي إعزاز الإسلام وإظهار أبهته وعظمته وتفخيم سلطانه، ¬
فمن ذلك يوم أسلم قال: (لا يُعبد الله بعد اليوم سرًّا) فكان المسلمون بعدها يصلون ظاهرين. ومنها: أنه أشار بأن يتخذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكانًا يمتاز به عن أصحابه ليعرفه الغريب والوافد، ولا يحتاج إلى أن يسأل عنه؛ فإن في السؤال عن العظيم ما لا يخفى. ومنها: أنه أشار بأن تحجب نساؤه صلى الله عليه وسلم ليكون لها الميزة عن سائر النساء، ولقد قال لبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأى شخصها في ملأ من الناس: (لو أُطَعْتُ فيكن ما رأتكن عين) . ومنها: أنه أشار بقتل الأسرى يوم بدر حتى لا تقوم لقريش بعدها قائمة؛ فإن الأسرى كانوا هم الرؤساء والقادة، وكان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بقتل كل من يداهن في دين الله، وكان شديد الحرص على قتل أبي سفيان لما رآه من شدة كيده للإسلام، وكان يوم الحديبية شديد الإنكار للصلح قال: يا رسول الله، ألسنا بالمؤمنين؟ فقال: نعم، فقال: أليسوا بالمشركين؟ فقال: نعم، فقال: كيف نعطي الدنية في ديننا؟ حتى سكَّن أبو بكر من
المؤلف يوجه تساؤلات لكبار الشيعة
هيجانه فقال له: (والله إنه لرسول الله) فقال عمر: وأنا أعلم والله أنه لرسول الله، فقال له: إذن فالزم غرزه. وهذه الأعمال ما نشأت إلا عن نية صالحة، وحرص شديد على إعزاز الإسلام وتشييد سلطانه، ولو أردنا ذكر الأعمال التي قام بها أيام خلافة أبي بكر رضي الله عنه وأيام خلافته التي أعزت الإسلام وأرست قواعده ونشرت على البسيطة أعلامه، وطبقتها بسلطانه - لضاقت عنها بطون الصحف واستغرقت زمنًا طويلاً، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيرًا. النبطية (سوريا) ... ... صاحب الكلمات ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحسين نور الدين الحسيني (المنار) يؤخذ من هذه الرسالة الفصيحة الصريحة المجردة من لباس الرياء والتقية أن كاتبها يعتقد ما يأتي: 1- أن توحيد كلمة المسلمين واتفاقهم على الدفاع عن دينهم المشترك وعن أنفسهم، وعلى حقوقهم السياسية والوطنية وغيرها - يتوقف على زوال الخلاف المذهبي بين أهل السنة والشيعة،
برجوع أحدهما إلى مذهب الآخر الذي هو سبيل المؤمنين عنده، ومن لم يتبعه يكون غير متبع لسبيل المؤمنين، وأنه يجب على الآخر حينئذ عداوته في الدين، وعدم الاتفاق معه على شيء ولو كان دفع عدو لهما كليهما، بل إن شأنهما أن يعين كل منهما عدو الآخر عليه، وكذا عدوهما كليهما، أي أن مظاهرة عدو الدين والوطن والاتفاق معه، أولى من مظاهرة عدو المذهب والاتفاق معه. 2- أن الوسيلة الموصلة إلى هذه هي سعي علماء الدين من الفريقين إلى إزالة أسباب هذا الخلاف بالبرهان، وإصغاء كل منهما إلى حجة الآخر في المناظرة، وتحكيم أهل الفضل والإنصاف بينهما فيما لا يتناصفان فيه. فأنا قبل الدخول في هذه المناظرة، أقول: إن أهل السنة ينكرون توقف الاتفاق على ما ذكر، وإن العقلاء من جميع الأمم ينكرون إفضاء المناظرات الدينية والمذهبية إلى رجوع أهل المذهب الذي يغلب عالمه في المناظرة إلى مذهب الغالب كما يعلم
بالاختبار في جميع العالم، ويؤيده فينا أن المناظرات بين الفريقين قد كثرت وتعددت في الأجيال الماضية وفي جيلنا مرارًا لا يحصيها إلا الله تعالى، وقد أُلِّف فيها كتب كثيرة من بسيط ووسيط ووجيز، فلم تزد السواد الأعظم من الفريقين إلا تعصبًا لمذهبه وصدودًا عن مذهب الآخر، فكانت مفرقة لا جامعة ومبعدة لا مقربة؛ وإنما تفيد المناظرات أفرادًا من مستقلي الفكر في طلب الحق، غير المقيدي الفكر والوجدان بالإذعان لمذهب معين لا ينظر إلى غيره إلا بعين العداوة والبحث عما يفنده به ولو بالتأويل والتحريف وترجيح مذهبه عليه بمثل ذلك، وبالأقيسة المؤلفة من الخطابيات والشعريات المبنية على الظني وما دون الظني من الروايات، ووصفها بالبراهين العقلية، كما يراه قارئ هذه الرسالة في تصوير مناظرنا لتلقي علي عليه السلام للعلم من النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها بأنه كان كتلقي تلاميذ المدارس الفنية الدنيوية للفنون فيها بحفظ المتون والقواعد الرياضية من حساب وهندسة ومساحة وفلك، واللغوية والعقلية
والتشريعية، ثم حكمه بأن السابق إلى هذا التلقي يجب بحكم العقل أن لا يدرك شأوه اللاحق، وفي هذا البحث من الأغلاط الدينية والتاريخية والعقلية والمنطقية والطبيعية ما لا يمكن بسطه وإيضاحه إلا في صفحات كثيرة أو رسالة مستقلة، وسأشير إلى المهم منه بعد. وإنما غرضي الآن أن أحتج على صحة ما اشترطته عليَّ السيد المقترح للمناظرة من وجوب الاقتصار في المناظرة على مسائل الخلاف الأساسية، وهي ثلاث: 1 - موالاة أهل البيت النبوي، وأهل السنة يوجبون هذه الموالاة بما يفهمونه ويرونه موافقًا لهدي الشريعة. 2 - موالاة أصحاب الرسول، وأهل السنة يوجبونه على غير الوجه الذي ذكره كما سنبينه. 3 - الخلافة، فيجب تحرير موضع الخلاف فيها أولاً، وتحديد طريقة الاستدلال عليها ثانيًا، والاتفاق على طريقة التحكيم في الخلاف والمحكمين ثالثًا. بيد أنني أحب أن أعلم قبل هذا هل يوافق كبار علماء
الشيعة في سورية والعراق والهند وإيران مناظري الفاضل على قوله: إنه لا يمكن الاتفاق بين أهل السنة والشيعة على شيء من المصالح الإسلامية السياسية والوطنية والأدبية المشتركة المنفعة إلا إذا اتفقا قبل ذلك على رجوع أحدهما إلى مذهب الآخر فيما اختلفا فيه من المسائل الأساسية، وإلا كان دين كل منهما يقضي عليه بعداوة الآخر على الوجه الذي قاله هذا العلامة الشجاع منهم والتعليل الذي علله به؟! إن هذا رأي لم نسمعه من غيره؛ ولكن سيرة الشيعة وتاريخها قد يؤيده ويدل عليه، وإنه لأصرح رجل عرفته فيهم؛ ولذلك كبرت منزلته في نفسي على ما أعتقد من خطئه وأغلاطه، وإن ما قرأته من كتابه (الكلمة الأولى) يدل على أنه رجل شعور ووجدان، لا رجل تجربة وبرهان، ولولا ذلك لم يعقد أوكد الأيمان، أنه لولا علي بن أبي طالب عليه السلام، لقُتل رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، ولما بقي في الأرض إسلام، ثم إنه يسمي في رسالته هذه كتاب " نهج البلاغة " بالقرآن والفرقان، ويقول
ما يراه القراء في شرط الاتفاق وزوال الشنآن. فأقترح على مناظري العلامة، وعلى زميلي الأستاذ صاحب مجلة العرفان أن يأخذا لي تصريحًا من علماء الشيعة المشهورين في جبل عامل وغيره من سورية والعراق في رسالة السيد عبد الحسين ولا سيما شرطه هذا، بل أكتفي برأي علماء جبل عامل وحدهم في ذلك، ونشر ذلك عنهم في مجلتي المنار والعرفان، وسأرد في الجزء الآتي على هذه الرسالة على كل حال.
المناظرة بين أهل السنة والشيعة وتمهيد وتصحيح المؤلف لغلط وقع فيه حول اسم المناظر الشيعي
المناظرة بين أهل السنة والشيعة تمهيد وتصحيح غلط: نشرنا في الجزء الأول الماضي الرسالة الأولى لمقترح المناظرة الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين العاملي بنصها على ما فيه وإمضائه؛ ولكن سبق القلم في عنوانها فذكرنا أن لقبه شرف الدين، وهذا لقب لعالم آخر من العامليين يوافقه في اسمه، وهو أشهر عندنا وعند غيرنا بالذكر والعلم والرأي، فهو لا يكتب ما كتبه نور الدين. ومثل هذا الغلط في الأسماء من سبق القلم لذكر الرجل الأشهر ما ذكرناه في ذلك من الجزء من تعازي كبراء المصريين وزعمائهم لنا عند وفاة والدتنا رحمها الله تعالى فقد ذكرنا منهم حسن باشا عبد الرازق وإخوته وإنما عنينا نجله محمود باشا وكيل حزب الأحرار الدستوريين، وكان له أخ آخر اسمه حسن باشا كاسم والده قُتل اغتيالاً سياسيًّا رحمهما الله تعالى، وسبب هذا الغلط أن اسم حسن باشا عبد الرازق الكبير منقوش في ذهننا من عهد والدهم الجليل وطول عشرتنا له مع شيخنا الأستاذ الإمام، وذكر اسمه في تاريخه والمنار مرارًا. (¬1) مطالبة علماء الشيعة برأيهم في دعوى المناظرة: نشرت رسالة مقترح المناظرة بنصها، وقلت فيما علقته عليها: إنه لم يلتزم فيها الشرط الذي اشترطته عليه فيها، وإنني أحب أن أعلم قبل الشروع في المناظرة هل يوافقه كبار علماء الشيعة في سورية والعراق والهند وإيران على قوله: إنه لا يمكن الاتفاق بين أهل السنة والشيعة على شيء من المصالح الإسلامية، ¬
إلا بالشرط الذي اشترطه وهو رجوع أحدهما إلى مذهب الآخر للسبب الذي ذكره؟ ثم اقترحت عليه وعلى زميلي الأستاذ الفاضل صاحب مجلة العرفان أن يأخذا لي تصريحًا من علماء الشيعة المشهورين في المسألة (راجع ص 72 ج 1) . مرت على هذا الاقتراح ثلاثة أشهر لم يصدر فيها المنار للأسباب المبينة في أول هذا الجزء، ولم يَرِدْ لنا من حضرة مناظرنا ولا من غيره من علماء الشيعة شيء، إلا أن زميلنا الأستاذ صاحب مجلة العرفان ذكر في كتاب تعزيته لنا عن والدتنا إنكارًا على السيد عبد الحسين نور الدين في ذلك، وأنه سينشر هذا الإنكار في مجلته المحجوبة الآن عند عودتها إلى الظهور. ورسالة من سائح فاضل باسم (نظرة ... ) ننشرها في هذا الفصل. ثم إنني لما دعيت إلى المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد في القدس وعلمت أن ممن أجابوا الدعوة إلى حضوره الأستاذ العلامة الكبير الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء الشهير أكبر مجتهدي النجف (¬1) الذي هو أزهر إخواننا الشيعة - سررت جد ¬
السرور، ونطت أملي في مسألة الشقاق الجديد، أن يكون تلافيها بتلاقينا في هذا المكان الشريف، وتعاوننا هذا على هذا العمل الشريف، بأن يكون من أهم مقاصدنا فيه السعي للتأليف، وقد سبق لي لقاء هذا الأستاذ بمصر، إذ زارها بعد الحرب الكبرى وتذاكرنا في وجوب الاتفاق، وكان معه في القدس الأستاذ الشيخ عبد الرسول من آله الكرام ونجله الشيخ عبد الحكيم حفظهم الله تعالى، وحفظ بيتهم العلمي موفقًا لخدمة الإسلام. تلاقينا على ما أحب، وأطلعت الشيخ على رسالة السيد عبد الحسين نور الدين وسألته عن رأيه فيها فأنكر عليه أشد الإنكار، فقلت: إن الإنكار بالقول لا يكفي فهل تكتب رأيك في الرد عليه ليُنشر في المنار؟ قال: نعم. وكان من حسن الحظ أن وجد في أعضاء المؤتمر عالمان شهيران من علماء الشيعة السوريين، وهما من أصدقائنا قدماء قراء
إشارة إلى تجربة د. مصطفى السباعي مع من سمي نفسه بـ (الحقير عبد الحسين شرف الدين الموسوي) "الحاشية"
المنار، أحدهما الشيخ سليمان الضاهر من علماء جبل عامل، والثاني الشيخ أحمد رضا من علماء صيدا، وقد رأيت كلاًّ منهما منكرًا على السيد عبد الحسين نور الدين قوله: إن الشيعة بمقتضى مذهبهم لا يمكن أن يتفقوا مع أهل السنة لاعتقادهم أنهم غير متبعين لسبيل المؤمنين. فأما الأستاذ الأكبر الشيخ محمد حسين فقد كتبت إليه عندما تفضل بتوديعي في القدس ساعة سفري منها كتابًا سألته فيه رأيه في المسألة، فأرسل إلي جوابه بعد عودته إلى النجف، وسأنشره في مقال خاص في موضوع الاتفاق، وأما الأستاذان السوريان فلم يطلبا مني كتابًا ولم يرسلا إلي شيئًا، فأرجو منهما أن يكتبا إلي في الموضوع ما أقنع به قراء المنار بما سأجدد الدعوة إليه من الاتفاق والإيلاف، وأرجو مثل هذا من الأستاذ الشيخ عارف الزين وإذا أمكنه أخذ كتاب أو إمضاء من العلامة المجتهد الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين وغيره فإن الفائدة تكون أتم؛ فإن هذا الأستاذ قد لاقيته مرارًا في بيروت
وحدثته في وجوب السعي للاتفاق، فوجدت رأيه موافقًا لرأيي (¬1) ، وقد اتفقنا يومئذ على كلمته في الطائفتين: (فرقتهما السياسة وستجمعهما السياسة) وسبق لي ذكر هذه الكلمة في المنار. وقد علم هؤلاء وسائر قراء المنار أن الذي دعاني - بل دعَّنِي - إلى الرد على الشيعة بل غلاتهم الملقبين بالرافضة، ذلك الكتاب الخبيث الذي لفقه ملفقه في تكفير الوهابية كافة وشيخ الإسلام ابن تيمية وصاحب المنار خاصة، وما كان من تقريظ مجلة العرفان ونشرها له وعدم سماع كلمة من علماء الشيعة في الإنكار على ملفقه، دع فتنة العراق المشهورة، وذيولها بين الشيعة والنجديين، وكانت بدسائس المستعمرين. ولكن جاءتني رسالة طويلة جدًّا في مناظرة طويلة لعالم سني مع بعض الشيعة في المحمرة لم أنشرها؛ لأنها تزيد الشقاق احتدامًا. ¬
كتاب ورسالة من سائح شيعي أديب
* * * كتاب ورسالة من سائح شيعي أديب في الإنكار على السيد عبد الحسين نور الدين سيدي الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا المبجل: بعد التحية: لا شك أن حضرتكم تعرفون ما يوجبه الدين، ويُحتِّمه الوجدان، والحق على كل منا في مثل هذا اليوم العصيب، وقد أثر المقال الذي نشرتموه في مجلتكم الغراء بإمضاء السيد عبد الحسين نور الدين العاملي فيَّ تأثيرًا اضطرني إلى تحرير كلمة حول الموضوع رغم العناء ومشقات السفر، وإني لأنتظر أن يسارع إخواني وأساتذتي إلى نشر حقيقة هذا الرجل وصده فيما بعد عن الخوض في مثل موضوعه ذاك المتطرف، وأملي الوحيد أن تسارعوا في نشر ما تجدونه طيبًا، وأشكركم من صميم قلبي، وأقدر أعمالكم ودعاياتكم الإصلاحية بكل عواطفي، وتقبلوا مزيد تقدير مخلصكم واحترامه. ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص السائح العربي ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الهادي آل الجواهري * * *
نظرة السائح حول مناظرة
نظرة حول مناظرة: لقد كان من الصعب عليَّ وأنا بين عوامل لا تسمح لي أن أخوض في بحث كهذا لكثرة انشغالي وتشويش بالي من كثرة الأسفار وفراق الأوطان وتعدد المصائب والأحزان. تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد نعم والله، تكاثرت وتعدد المؤثرات المحزنة المشجية، وقد كان الأجدر والأليق بإخواني الذين أعهد فيهم الغيرة والحمية من أبناء العروبة والإسلام، والأساتذة الذين وقفوا أقلامهم لمكافحة الحشرات التي نخرت عظامنا وأنهكت قوانا، ومقاومة تلك الدعايات التي يقوم بها بعض أولئك المأجورين باسم الدين والمذهب، وأن يتصدوا للطم أولئك الأوغاد الذين ينتهزون الفرص لوصمنا بوحدتنا في الصميم وليتصيدوا بالماء العكر، أولئك الذين لم يجدوا لهم موردًا شريفًا في هذا المجتمع يسدون به طمعهم ويملؤون به جيوبهم وعيابهم إلا إثارة العواطف المذهبية والنزعات الطائفية
يغرون بها البسطاء الجهلة ممن لم يعرفوا للدين معنى وللشريعة قيمة. من الأسف - وليس يجدي نفعًا - أن نجد بعض أولئك المتزعمين باسم الدين يستغلون - ومن دون غيرهم - التهويش باسم الدين، ويحتكرون سمعته لأغراضهم وأطماعهم، فإذا ما وجدوا مجالاً ليمثلوا دورهم على مرسح المذهبية أخذوا يعرضون (فلم) روايتهم المشؤومة المحزنة على رؤوس بعض السذاج البسطاء والسوقة. باسم الدين تزعم بعضهم ويا حبذا لو قام ببعض ما تقتضيه هذه المهمة (ولو كانت مدعاة) من عظيم الأعمال، فينتهز الفرصة ويبرهن على أهليته وكفاءته لهذا المنصب الجليل المهم فيؤلفوا بين النزعات ويوحدوا القلوب والغايات، ويظهروا مزايا الدين وينشروا محاسنه ليجلبوا إليه الأنظار ويحببوه في عين الأجنبي، لا أن يجعلوه واسطة للتنافر والتعادي ويظهروه بأسوأ مظهر وأخزى منظر، كي ينفر منه البعيد الأجنبي الذي يمسي، وهو لا يعرف منه إلا أنه دين أحزاب وخراب، وتنافر
وبغضاء وشقاء، على لسان من يدعون الزعامة الدينية في الجرائد والمجلات؟ أليس كذلك أيها القارئ؟ أليس أن مجلاتنا وصحفنا نراها طافحة بالسباب وشتم بعضنا بعضًا؟ وما كفانا ذلك حتى أخذنا نتحرش ونتجاسر حتى على أولئك المقبورين المدفونين منذ ألف وثلاثمائة سنة (¬1) ، ألسنا وقد خصصنا أوقاتنا وأوقفنا أقلامنا، وبذلنا دراهمنا، وأشغلنا مطابعنا، وأنهكنا أفكارنا وأدمغتنا، وسهرنا الليالي والأيام، لنخلق لنا هذه المشاكل المذهبية ولنجعل لنا عقبة لن تذلل؟ ألسنا ونحن أصبحنا بفضل هذه كلها في مؤخرة العالم والمجتمع وعبيدًا للأجانب يفترس بعضنا الآخر، وكل ذلك في مصلحة الأجنبي الغربي. أليس نظرة واحدة إلى ماضينا المجيد حين كنا تحت راية واحدة، وقد ملكنا زمام أكثر العالم، وركزنا تلك الراية في قلب الغرب - تكفينا وتدلنا على الفرق بين ذلك الزمن والزمن الذي ابتدأت فيه نار الفتن الطائفية والنزعات المذهبية، وما وصلنا إليه ¬
اليوم من حالة لا يرجى لها خير؟ أليس السبب في ذاك كله هو التخاذل والتباغض باسم السلف الصالح والإسلام، وحاشا للإسلام أن تكون هذه مبادئه، بل حاشا للسلف الصالح أن يرضى هذه الأساليب والمبتكرات، حاشا ثم حاشا، أوليس دين الإسلام هو دين التآخي والتآلف؟ دين الوحدة والوئام. أباسم عمر وعلي نطعن هذا الدين في الصميم؟ أباسمهما نمزق أوصال هذا الدين ونشتت شمله؟ ونثلم وحدته ونضيمه؟ حاشاهما أن يعذراكم يا قوم، وأن يرضيا هذه الأفعال والأعمال، وباسمهما تتفرقون وتتشتتون؟ فاتقوا الله يا قوم فيهما. هلموا يا قوم وأمعنوا نظركم، وتتبعوا التواريخ؛ فإنكم تجدون السبب كله في هذا التطاحن المذهبي هو تداخل الأجانب في أمورنا الدينية، وتشبثهم باسم الدين في تفريقنا وتباغضنا، والعار كل العار أن نكون وفق مشيئتهم وتحت إرادتهم، وأن نستسلم مذعنين لما يفرضونه علينا من التنابذ والتعادي. والأسف كل الأسف أن تلعب بنا الأهواء والنزعات،
وتقودنا فئة ذات أطماع وأغراض باسم الدين والإسلام إلى المهاوي والهلكات، وهم بعيدون كل البعد - لو تحققنا - عن الإسلام ومبادئه، مأجورون بدعايتهم هذه ومستخدَمون بمبادئهم تلك. في هذا اليوم وقد أخذ الكل يشعر بالحاجة إلى التآلف وتوحيد الصفوف أمام الاستعمار وسيله الجارف - في هذا اليوم الذي نئن فيه من انشقاقنا وانخذالنا - في هذا اليوم الذي سهل على العدو أن يمص آخر قطرة من دمائنا وينخر عظامنا، يظهر لنا حضرة السيد عبد الحسين نور الدين العاملي في النبطية بمقاله المشهور في المنار الجزء الأول من المجلد الثاني والثلاثين سنة 1350 مناظرًا فيه حضرة الأستاذ صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا يمثل الشيعة ويعبر عنهم في ذلك المقال المزيف المملوء خطأ وركة، والذي ينكره عليه الشيعة أنفسهم، والذي اعتبره حضرته أساسًا للصلح، وفاتحة لعقد التفاهم والمودة ما بين أهل السنة والشيعة. وقد كنت أنتظر من إخواني الشيعة في العراق وسورية أن يسارعوا في احتجاجهم واستنكارهم على هذا الرجل المدعي، وأن
يعجلوا في كم فمه والضرب على يده، كي لا يعود لمثله أبدًا، ولا زلت أنتظر من الشيعة في القطرين الشقيقين أن يعلنوا استنكارهم من هذه الفئة المتعجرفة وبراءتهم من هذا الحزب المتعصب المأجور، الذي جرهم إلى الهلاك والتدهور، وأن لا يتماهل المصلحون الذين أعهد فيهم الحرص على سمعة الإسلام في تدارك ما جاء على لسان هذا الرجل، وينشروا حقيقة روح المسالمة والمودة الأكيدتين بين إخوانهم السنيين والشيعيين، ويدعوا بعضهم البعض إلى حسم هذا الخلاف وإتمام فصول هذه الرواية المحزنة، وليجعلونا نسير والكل منا ينشد: ما مذهب السني إلا مذهب الز ... يدي والشيعي والوهابي الدين يبرأ من تطاحن أهله ... والأخذ بالتهويل والإرهاب إن الشقاء وإن تطاول عهده ... آبت به الأيام شر مآب ألمذهبٍ يتقاتلون وحولهم ... إلب العداة تهم بالأسلاب وأعود فأقول: بالرغم من شذوذ حضرة السيد عبد الحسين نور الدين عن الموضوع المتفق عليه في المناظرة، وخروجه عن الخطة
المرسومة فقد جاء في المقال ما لفظه: ((روي في كنز العمال على هامش مسند أحمد ص43 أن عليًّا سئل عن كثرة ما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكتُّ ابتدأني)) وقد راجعنا هامش الستة مجلدات من مسند أحمد فلم نجد لذلك أثرًا. (¬1) وجاء أيضًا في المقال نفسه: ((روى المحدث الجليل الموثق عند إخواننا وهو محمد بن سعد في الطبقات جزء 3 صفحة 273 بإسناده عن أبي هريرة قال: قدمت على عمر رضي الله عنه من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم فقال لي: ألم أقل لك إنك يمانيٌّ أحمق، إنك قدمت بثمانين ألفًا، فقلت: يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة ألف درهم، فجعل يعجب ويكررها، فقال: ويحك وكم ثمانمائة ألف درهم؟ فعددت مائة ألف ومائة ألف حتى عددت ثمانمائة)) . وقد راجعنا أيضًا في طبقات ابن سعد فلم نجد لذلك أثرًا. (¬2) وهكذا قد لفَّق حضرته مقاله وادَّعى فيه أنه جاء يريد بذلك الاتفاق والتآخي، وهو أبعد ما يكون من روح الوفاق والوئام، لما ضمنه ¬
من جمل وكلمات لا يوافقه عليها الشيعة أنفسهم (طبعًا) وكان الأحرى بصاحب (كذا) أن ينتخب لو أراد التفاهم وإزالة الخلاف أن يختار من أولئك المصلحين القادرين الذين لا أخال حضرته يجهلهم من إخوانه الشيعة في العراق وسورية. أما أن يتصدى السيد عبد الحسين نور الدين ويتزعم باسم الفرقة الشيعية، والذي أعرفه منه أنه لا يملك حريته الشخصية فضلاً عن الملايين، وأنه مأجور لبعض العلماء الإيرانيين في النجف، ثم يجيء حضرة الأستاذ صاحب المنار ويفتح له مجلته للنشر، فذاك أمر يزيد الطين بلة، ويوسع شُقة الخلاف، وحينئذ يتعذر على المصلحين الحقيقيين تلافي الخطر (¬1) . وإني أعلم بصفتي أحد الشيعة، ومن بيت له مكانته الدينية عند الشيعة مطمئن من أن كلمتي هذه سوف ينكرها علي حضرة ¬
تعقيب المنار على كتاب السائح
السيد عبد الحسين وأتباعه المأجورون؛ ولكني أعتقد أيضًا أنها سوف تلاقي استحسانًا من حضرات العلماء، والأساتذة المصلحين، ومن إخواني الشيعيين جميعًا الذين أخذوا يشعرون بحاجتهم إلى التعاون والتفاهم مع إخوانهم، وأنهم ينفرون من أعمال هذه الفئة المتعصبة المعدودة، التي لا زالت تشوه سمعتنا وتسيء إلينا في الخارج، وهم غير مؤيدين من عشر الشيعة، ولم يوافقهم أحد على ما يقولون ويدعون، وأملي الأكيد أن سوف يعرف رجال الإصلاح وزعماؤه غايات أمثال السيد عبد الحسين فلا يدعوا لهم مجالاً بعد هذا لبث سمومهم القتالة، وأن يعرفوا العالم هويات هؤلاء ومرامهم، وأن بعد هذا لنا عليهم حساب {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 132) . الحجاز 14 رجب سنة 1350 ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائح العربي ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الهادي آل الجواهري (المنار) إننا نشكر لهذا السائح الكريم من هذا البيت العريق غيرته الإسلامية التي لا شك في أن فوائد السياحة وعبرها تزيد في إذكاء نارها، وتألق أنوارها، وإني لأوافقه على أن دعاة
الرد على عبد الحسين نور الدين في المفاضلة بين الخليفتين
التفريق بين المسلمين بعصبية المذاهب أصحاب أهواء وطلاب مال وجاه، وأن دسائس الأجانب والمتعصبين تعبث بهم من حيث يدرون ومن حيث لا يدرون، وهذا مما لا يشك فيه أحد من المختبرين الواقفين على الحقائق. وإنني على هذا العلم لأجرأ على تبرئة السيد عبد الحسين نور الدين من سوء النية، أو خدمة دسائس بعض الإيرانيين أو المستعمرين الذين يستفيدون من غلوه، ولا زال على رأيي السابق فيه وهو أنه ذو وجدان خيالي ديني مستحوذ عليه فهو يعتقد ما يقول. * * * الرد على السيد عبد الحسين نور الدين لا على الشيعة في المفاضلة بين الخليفتين لا مندوحة لي وقد نشرت هذه الرسالة على منكراتها من الرد عليها، ليرى صاحبها قيمة حججه في مسألة التفاضل بين عمر وعلي رضوان الله عليهما، وأن بعض ما سماه براهين قطعية، لا يعدو أن يكون شبهات خطابية، وتخيلات شعرية، لا يصح
في الشرع ولا العقل أن تُجعل من عقائد الدين، ويجعل الخلاف فيها سببًا للشقاق بين المسلمين، وأن من أكبر الخذلان، واتباع خطوات الشيطان، أن يجعل الخلف الطالح مسألة المفاضلة بين الخليفتين من أصول الدين (¬1) ، التي يُقذَف فيها المخالف بأنه (غير متبع سبيل المؤمنين) مع العلم القطعي بأن عليًّا كان وليًّا ونصيرًا وظهيرًا وقاضيًا ووزيرًا لعمر، وأنه فضله هو وأبو بكر على نفسه وسائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد [1/ 106، 110، 114، 127] والبخاري [3468] وغيره بالأسانيد الصحيحة. يقابله ما علم واشتهر من تقديم عمر له في التعظيم والشورى والقضاء، ومن تفضيله على نفسه ما قاله عمر لابنه عبد الله حين عاتبه على تفضيل الحسن والحسين عليهما السلام عليه في العطاء فقال له: (ألك أب كأبيهما أو جد كجدهما؟) كما نقله الرضي في نهج البلاغة. (¬2) أليس أمير المؤمنين علي عليه السلام هو القدوة الأكبر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم عند إخواننا الشيعة، فلماذا لا يتبعونه في إجلال أبي بكر وعمر وكذا عثمان لأجل جمع كلمة المسلمين، وإعلاء ¬
تفنيد ما سماه البراهين القاطعة على تفضيل علي رضي الله عنه
كلمة الدين؟ وإن كان أحق بالخلافة منه عندهم، أو ليس هو وعمر عند أهل السنة في درجة واحدة من الخلافة الراشدة؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) (¬1) فما لنا في هذا العصر لا نقتدي بهما في الولاية والتعاون على مصلحة المسلمين، ونتسلق إلى ما لا نبلغه من التفاضل بين علميهما؟ ألا إننا سنفعل ذلك رغم أنوف المتعصبين الخياليين والمأجورين. تفنيد ما سمَّاه البراهين القاطعة على تفضيل علي: خلاصة براهينه أن عمر أسلم في السنة السادسة من البعثة وعمره ست وعشرون سنة، ومكث مدة ثلاث سنين لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا نادرًا، وهي مدة حصاره في بني هاشم وبني عبد المطلب في الشِّعب. ونتيجة هذا أنه طلب العلم في سن لم يسمع المعترض أن أحدًا طلب العلم فيها وبرع فيه، فهذا برهان عقلي على أن عمر لم يبرع في علم الإسلام اهـ (ص 66) . وأما علي فقد ضمَّه إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربع سنوات، ولم ¬
يفارقه في طول حياته إلا في أوقات قليلة، فقد تلقى العلوم من سن الطفولة التي هي سن التحصيل، وفي الزمن الطويل، فهذا برهان عقلي على أنه فاق عمر وسائر الصحابة في علوم الإسلام كلها مع ذكائه النادر اهـ (ص 67 - 69) . أقول: 1 - إن العلم الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فيه شيء من الفنون الخاصة بالأطفال التي تؤخذ بحفظ العبارات أولاً، ثم تفهم بالتدريج البطيء الذي يراعى فيه سن الطفل ونمو مداركه؛ وإنما دعا إلى علم لا يوجه إلا إلى العقلاء المكلفين، وأوله توحيد الله تعالى والإيمان بملائكته وكتبه ورسله وبالبعث والجزاء، ثم بأصول الفضائل وعبادة الله تعالى بالصلاة والذكر والفكر، وينبوع هذا العلم كله القرآن وقد بلغ كله للجميع (¬1) ؛ وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم مبينًا له بسنته العملية والقولية، وكانوا يتفاضلون في العلم بفهم القرآن. وقد سأل أبو جحيفة عليًّا عليه السلام: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن وما في هذه ¬
س ال
الصحيفة. يعني كرم الله وجهه صحيفة كان ربطها بسيفه فيها أحكام عقل الدية وفكاك الأسير وتحريم المدينة كمكة وعدم قتل المؤمن بالكافر. والحديث صحيح رواه أحمد والبخاري في مواضع متعددة من المسند (¬1) [1 / 79، 118، 152] ، والجامع الصحيح [ (111) ، (1870) ، (3047) , (3172) , (3179) , (6755) , (6903) , (6915) , (7300) ] ورواه غيرهما أيضًا، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم بلَّغ عشيرته في الشِّعب شيئًا من التشريع ولا أن عليًّا أو غيره قال ذلك، بل من المعلوم الذي لا خلاف فيه أن أكثر الأحكام التشريعية كانت بعد الهجرة. 2 - الإنسان كما يقول الأطباء لا يكتمل نموه الجسدي والعقلي الطبيعي إلا باكتمال 25 سنة التي هي ربع العمر الطبيعي المعتدل، ومن المعلوم بالتجارب في المدارس وغيرها أن ابن 26 سنة أقوى فهمًا للمسائل العقلية من اعتقادية وتشريعية من الطفل المميز واليافع الذي لم يكتمل نموه، وأن أكثر الذين يطيلون المكث في مدارس التعليم أقلهم نبوغًا، فأشهر الحكماء والنابغين لم يمكثوا في المدارس إلا قليلاً، وقد سمعت أستاذنا الشيخ حسينًا الجسر يقول للسيد علي الثمين نقيب الأشراف بطرابلس في تلميذ له: ¬
توجيه عبارة ابن جرير عن الإمام أحمد إنه كان محدثا لا فقيها "حاشية"
إنه ساوى في السنة الأولى الأذكياء الذين سبقوه في طلب العلم بسبع سنين. 3 - من المعلوم عند علماء النفس، وعلماء التاريخ أن من كان قوي الاستعداد للحفظ يزداد في الشباب قوة باستعمال استعداده، كما يُعلم من تراجم حفاظ الحديث، ولما حفظ ابن عباس قصيدة عمر بن أبي ربيعة من سماعها مرة واحدة كان كهلاً لا شابًّا ولا طفلاً (¬1) ، وعَجِب ممن عَجِبَ مِن ذلك فقال: (وهل يسمع الإنسان شيئًا ولا يحفظه؟) وأملى الحافظ ابن حجر ألف درس من حفظه وكان كهلاً (¬2) ، ومن المعلوم أيضًا أن ملكة الحفظ في العرب كانت قوية جدًّا لاعتمادهم عليها، وكذلك كانت عند غيرهم من الأمم قبل تعلم الكتابة والاعتماد عليها في حفظ العلم، ففي تاريخ اليونان القديم أن عقلاءهم اعترضوا على اقتباسهم فن الكتابة من المصريين بأن الاعتماد عليها يضعف ملكة الحفظ. 4 - ما جعل الله لرجل من قلبين، وزيادة بعض القوى يقابلها نقض غيرها فمن كان أكثر حفظًا للنصوص الشرعية كالقرآن ¬
والحديث أو اللغة قلما يساوي في فهمها والتفقه فيها من يعنى بفهمها دون حفظها، وقد علم بالتجربة أن قوة الاستعداد للحفظ قلما تتفق مع قوة الاستعداد للفهم والحكم في المعاني، فأكثر حفاظ الحديث غير فقهاء فيه، وأكثر الفقهاء غير حفاظ له، وكذا علماء المعقول فقلما تجد في كبارهم حافظًا للحديث والآثار أو من يسمى محدثًا، وقد كان أبو حنيفة يعد أفقه أئمة المذاهب المشهورة وهو أقلهم حفظًا، وكان أحمد بن حنبل أحفظهم، وقد قال فيه الإمام ابن جرير: إنه محدِّث لا فقيه. (¬1) بل يُروى أن الشافعي قال لأحمد على ما اشتهر من إجلاله له: ((إذا صح عندكم الحديث فأخبرونا به، فأنتم أعلم بروايته ونحن أعلم بفقهه)) ، أو ما هذا معناه. (¬2) 5 - إن فائدة حفظ النصوص تبليغها للناس، وإننا نرى المروي عن عمر من الحديث في البخاري (¬3) ، وفي مسند أحمد أكثر من المروي عن علي (¬4) ، وهو لم يرو إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وأبي بن كعب، وعلي قد روى عنه وعن أبي بكر والمقداد بن ¬
الأسود رضي الله عنهم، وكذا عن فاطمة عليها السلام، والمروي عن أبي هريرة الذي أسلم في السنة السادسة من الهجرة أكثر مما روي عن الخلفاء الأربعة، وعن العبادلة الذين هم أكثر رواية من الخلفاء؛ ولكنهم يلونهم في فقه الدين وحكمه، وكان أبو هريرة دون كل واحد منهم في علوم الإسلام الإلهية والشرعية. فقول هذا السيد في براهينه القطعية عنده: (فكان أعلمهم أكثرهم حفظًا وأقواهم حافظة (¬1)) غير صحيح وإلا لكان أبو هريرة أعلم الصحابة على الإطلاق، ثم إنه معارض ببرهانه القطعي الآخر أن المتأخر في الزمن في التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغ شأو المتقدم، ثم إن كون علي أكثرهم حفظًا وأقواهم ذاكرة لا دليل عليه من عقل ولا من نقل؛ لأن مثله لا يثبت إلا بامتحان استقرائي تام، وهو لم يقع تامًّا ولا ناقصًا، وإن كان في نفسه غير كثير عليه. ومن غرائب براهينه القطعية الخاصة بمنطقه: استدلاله بذاكرته ¬
المؤلف يحكي عن حاله في قوة تذكره لما قرأه
وذاكرة بعض معارفه؛ إذ قال: إنه لم يكن ينسى في شبيبته شيئًا مما سمعه أو قرأه، وكان يتعجب ممن ينسى، وبعد بلوغه الثلاثين انقلب الأمر وانعكس، وأصبح يتعجب ممن يحفظ ولا ينسى، وأنه ما شكا هذا الداء لأحد إلا وشكا له مثله!! فكأنه هو وأصحابه الذين شكا لهم حاله حجة الله القطعية على البشرية والمعيار لنابغي العلماء والحفاظ، ومثل عمر بن الخطاب. وأنا أقول له: إنني بعد بلوغي الستين لم أنس شيئًا مما سمعته وقرأته، إلا الأمور التافهة التي لا ألقي لها بالاً، ولا أحب أن أحفظها، ولا أن أعيدها إذا ذكرتها؛ ولكنني منذ الصغر قليل الحفظ لأسماء الأعلام والأرقام واستحضار ما لم يتكرر على ذهني منها، وقوي الحفظ سريع الاستحضار للمسائل العلمية ولا سيما المعقولة منها، ومن عادتي أنني إذا ألقيت خطبة أو محاضرة أو سمعتها من غيري ونويت أن أعيدها أو أكتبها فإنني أعيدها بما يقرب من ألفاظها وبتحديد معانيها، وإذا لم أنو ذلك فإنني أتذكرها بعد ذلك بالإجمال لا بالتفصيل. مثال ذلك بعض الخطب التي ألقيتها في سورية سنة
الدستور، وبعض الخطب التي ألقيتها في الهند؛ فإنني كتبتها للمنار بعد إلقائها في مدد قصيرة أو طويلة، ورأيت الذين سمعوها يقولون إنني لم أترك مما قلته شيئًا، ومنها الخطبة التي ارتجلتها في مدرسة عليكرة الإسلامية الجامعة في الهند وموضوعها التربية وأنواعها وفلسفتها، اقتُرحتْ عليَّ عند عقد الحفلة التي أقامها طلاب المدرسة لي، ثم اقتُرح علي بعد الاحتفال أن أكتبها فلم أجد فرصة لذلك مدة مكثي في الهند؛ ولكنني كتبتها في مسقط وأرسلتها إلى عمدة المدرسة، وكانوا قد كتبوا كل ما وعوه منها بطريقة الاختزال فلما وصل إليهم ما كتبته وجدوه أوفى وأضبط مما كتبوا، ولقد رويت عن شيخنا الأستاذ الإمام في تاريخي له أمورًا كثيرة سمعتها أو حضرتها بعد الثلاثين ودونتها بعد الستين، ونشرت له خطبًا ارتجالية في عهده لم يستدرك علي منها كلمة. 6 - لو كان التفاضل في العلم عند الصحابة بالرواية لتنافسوا فيها ولكتب الكاتبون منهم ما سمعوه ووعوه، ولم ينقل عنهم هذا بل المنقول خلافه.
أرقى البشر علما وعقلا أقدرهم على سياسة الشعوب ونقل أقوال المستشرقين حول سياسة عمر رضي الله عنه
7 - من المقرر عند العلماء أن العلوم والأعمال التي يتعدى نفعها أفضل وأكثر ثوابًا من القاصرة على صاحبها، ومن المعلوم الذي لا خلاف فيه بين المحدثين والمؤرخين للإسلام ودوله أن علوم عمر وأعماله كانت أنفع من علوم سائر الخلفاء في نشر الإسلام واهتداء الشعوب به وفتوحه وما اشتهر به من العدل والفضائل. 8 - من المعلوم الذي لا مرية فيه بين الواقفين على تواريخ الأمم وسنن الاجتماع البشري أن أرقى البشر عقلاً وعلمًا نفسيًّا هم أقدرهم على سياسة الشعوب وإقامة الدول، وأن هؤلاء مفضلون على الحفَّاظ والعلماء الفنيين الذين يقومون ببعض الأعمال الجزئية في الدولة، وهذا هو العلم الذي يرجح صاحبه على من دونه فيه لتولي الحكم العام كالخلافة والملك، ومن دعائم هذا العلم معرفة استعداد الأفراد الذين يصلحون للسياسة والإدارة والقضاء وقيادة الجيوش، ومن المعلوم من التاريخ بالتواتر والعمل أن عمر رضي الله عنه كان في الذروة العليا من نابغي البشر وأفذاذ
الأمم في هذا الأمر علمًا وعملاً، يشهد له بهذا علماء هذا الشأن من جميع الشعوب، ولبعض علماء أوربة وفلاسفتهم أقوال في ذلك مشهورة ومدونة. (¬1) فلو كان العلم الذي يفضل صاحبه على غيره في الخلافة وإدارة سياسة الأمة هو كثرة الحفظ للأحاديث وضبط الروايات لكان أبو هريرة وأنس بن مالك أول من ولاهم الخلفاء الراشدون ولا سيما عمر على الأمصار، ولو كان الذي يصلح لذلك أصحاب المبالغة في الزهد والعبادة لكان أبو ذر وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري مقدمين على غيرهم للولاية والسياسة وإدارة أمور الشعوب. وجملة القول في براهين السيد عبد الحسين نور الدين العقلية: إنها ليس فيها قياس منطقي مؤلف من مقدمات يقينية تصلح لتأليف برهان عقلي؛ وإنما جاء بروايات نقلية لا يمكنه إثباتها كلها؛ وإنما بعضها صحيح كتقدم إسلام علي على إسلام عمر، وهو لا يدل على ما استدل به عليه، وبعضها لا يصح، وهو على فرض صحته لا ينتج مع غيره ما فهمه منه بطريقة القياس البرهاني لما بيناه من ¬
الدلائل النقلية للمناظر الشيعي
الحقائق الفلسفية والتاريخية. على أننا نقول: إن كلاًّ من عمر وعلي رضي الله عنهما من أفراد البشر الممتازين بالعبقرية العليا، فعمر جدير بأن يفهم في الزمن القصير من القرآن والسنة ما لم يفهمه غيره في الزمن الطويل، وهو الذي شهد له الرسول بأنه من المحدَّثين (بفتح الدال المشددة) أي الملهمين المفهَّمين من الله تعالى (¬1) ، وبأن الله جعل الحق على لسانه وقلبه، وهو هو الذي نزل القرآن مرارًا موافقًا لرأيه وقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو كان بعدي نبي لكان عمر) رواه أحمد [4 / 154] ، والترمذي [3686] وحسنه، والحاكم وصححه [3 / 85] وأقره الذهبي (¬2) ، وكان في شبابه صاحب سفارة قريش وعمدتهم في المفاخرة والمنافرة (¬3) ، فلولا أنه من أحفظهم وأفصحهم وأقواهم حجة لما ولّوه ذلك، فإذا كان قد سبقه أربعون رجلاً إلى الإسلام فلا يمكن لمن يفضل عليًّا وأبا بكر عليه في علمهما أن يفضل عليه باقي الأربعين، والتفاضل بين الثلاثة أنفسهم لا يسهل أن يثبت بقياس برهاني؛ وإنما الدلائل القطعية في فضائل عمر وعلي هي ما ثبت بالتواتر من سيرتهما العملية التي لا تحتمل التأويل. ¬
دلائل مُناظرنا النقلية: إن ما ذكره السيد عبد الحسين نور الدين من الروايات النقلية التي بنى عليها استدلاله تدل على أنه لا يوثق بنقله وإن عين مواضعه بالأرقام، ولا بتمييزه بين ما يصح من الروايات وما لا يصح، ولا بفهمه لما ينقله، وهاك البيان مختصرًا: 1 - ما نقله عن مختصر كنز العمال من هامش ص 43 من مسند الإمام أحمد وقد أنكره عليه السائح العربي؛ وإنما هو في ص 46 منه ج 5 وهو روايتان: إحداهما عن علي ولم ينقلها ولفظها: (كنت إذا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني وإذا سكتُّ ابتدأني) وهذه أخرجها ابن أبي شيبة والترمذي من طريق عبد الله بن هند وهو المرادي الجملي الكوفي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وأقول: إن عبد الله بن هند لم يثبت سماعه عن علي وهو صدوق. والثانية التي نقلها وهي: عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب أنه قيل لعلي: ما لك أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا؟ فقال: (إني كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكتُّ
أخطاء لعبد الحسين بسبب عدم وقوفه على علوم الحديث
ابتدأني) رواه ابن سعد اهـ. ومحمد بن عمر هذا لم يسمع من جده علي ولم يذكر من حدَّثه عنه، وفي روايته من جهة المتن أنه لم يثبت أن عليًّا كرم الله وجهه كان أكثر الصحابة حديثًا أيضًا. 2 - ما نقله عن ص273 ج 3 من طبقات ابن سعد وهو رواية قدوم أبي هريرة من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم، وقد أنكره عليه السائح العربي أيضًا، وهو في ص 616 ج 3 (طبعة أوربة) (¬1) وهذا لفظه: أخبرنا يزيد بن هارون نا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه قدم على عمر من البحرين (قال أبو هريرة: فلقيته في صلاة العشاء الآخرة فسلمت عليه فسألني عن الناس ثم قال لي: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم، قال: هل تدري ما تقول؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم، قال: ماذا تقول؟ قلت: مائة ألف، مائة ألف، مائة ألف حتى عددت خمسًا، قال: إنك ناعس فارجع إلى أهلك فنم فإذا أصبحت فائتني، فقال أبو هريرة: فغدوت إليه فقال: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم، قال عمر: أطيب؟ قلت: نعم، لا أعلم إلا ذلك، فقال للناس: إنه قدم ¬
عليكم مال كثير، فإن شئتم أن نعد لكم عددًا وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً؟ ثم ذكر مسألة إنشائه الديوان) . أقول: أولاً: إن السيد نور الدين لعدم وقوفه على علوم الحديث ومصطلحات أهلها، يقول إذا نقل شيئًا عن كتاب: إن صاحبه موثق عند إخواننا، كما قال في ابن سعد، وإذا كان ابن سعد ثقة فلا يقتضي أن يكون كل ما يرويه صحيحًا، فهو يروي غير الصحيح كغيره من المحدثين، وعذره أنه يذكر السند الذي هو العمدة في تمييز الصحيح من غيره، وقد قال هو نفسه في محمد بن عمرو (¬1) راوي هذا الحديث: كان كثير الحديث يستضعف، وقال فيه يحيى بن معين: ما زال الناس يتقون حديثه، قيل له: وما علة ذلك؟ قال: كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من روايته، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة. (¬2) اهـ. أي مثل هذه الرواية. ثانياً: إن هذه الرواية ليس فيها أدنى مطعن على علم عمر رضي الله عنه، ولا على فهمه، بل كل ما فيها أنه استكثر هذا المال أن يجيء من البحرين، فظن أن أبا هريرة مخطئ في بيانه لنعاس أو ¬
تعب طرأ عليه، وهو معذور في استكثاره لما كانوا عليه من الضيق والعسر. 3 - قوله: وروى أحمد في مسنده أن عمر لم يعرف حكم الشك في الصلاة، وهذا من غرائب عدم فهمه إذا كان قد رواه بالمعنى، وإلا كان افتراء على المسند؛ فإنه ليس فيه أن عمر لم يعرف حكم الشك؛ وإنما فيه [مسند أحمد: 1 / 190 ط: الميمنية] عن محمد بن إسحاق عن مكحول عن كريب عن ابن عباس أنه قال له عمر: يا غلام، هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أحد من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع؟ فبينما هو كذلك إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف فقال: فيم أنتما؟ فقال عمر: سألت هذا الغلام.. . إلخ، فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أواحدة صلى أم ثنتين، وإذا لم يدر صلى ثلاثًا أم أربعًا فليجعلها ثلاثًا ثم يسجدْ إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل أن يسلم) . وأقول أولاً: إن السؤال لا يكون دائمًا عن جهل بالمسئول
عنه، بل قد يكون امتحانًا، وقد يكون للتثبت في رواية مختلف فيها أو متهم راويها، وفي سجود السهو عدة روايات مختلفة. وثانيًا: إن هذا الحديث غير صحيح؛ فإنه رواية ابن إسحاق عن كريب وهو مدلس، وقد عنعن فلا تُقبل روايته، ومكحول رواه له مرسلاً، قال ابن إسحاق: فلقيت حسين بن عبد الله فقال لي: هل أسنده لك؟ قلت: لا؛ لكنه حدثني أن كريبًا حدَّثه به. وحسين ضعيف جدًّا (¬1) ، وقال ابن أبي خيثمة: سمعت هارون بن معروف يقول: إن مكحولاً لم يسمع من كريب اهـ. ولكن ذكر في التهذيب (¬2) أنه سمع منه، والله أعلم. فهذه أمثلة للروايات التي يعتمد عليها هذا المناظر في الطعن في علم عمر بن الخطاب مما ينقله عن المحدثين، فما قولك بما ينقله عن كتاب الأغاني وابن أبي الحديد؟ وإني لأراه وأمثاله ممن يبحثون في الكتب عن شيء فيه طعن ما على من لهم هوى في نقل الطعن فيه من غير تمييز بين صحيحه وسقيمه كدعاة النصرانية (المبشرين) إذ ينظرون في ¬
القرآن الكريم وكتب الحديث والتفسير يتلمسون كلمة يمكن الطعن فيها أو اتخاذها حجة على الإسلام والمسلمين ولو بالتحريف، فينقلونها ويعتمدون عليها في تشكيك عوام المسلمين في دينهم، وإلا فما باله يختار من مسند أحمد ما نقله كما فهمه لا كما وجده، ولم يعتبر بما رواه أحمد فيه من طرق كثيرة عن علي أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر) ومنها أنه قال ذلك وهو على المنبر، ومنها أنه قاله لمن سأله ومنهم أبو جحيفة من جماعته ومفضليه على غيره. هذا ومناظرنا يوجه هذا إلى صاحب المنار المشهور بالاشتغال بعلوم الحديث ونقد الروايات؛ وإنما يوجهه إليه لأجل المناظرة فيه، فلولا أنه مصدق لهذه الروايات وواثق بفهمه لها مع إقراره بضعف ذاكرته، لما جعلها من موضوع مناظرته معه. أكتفي بهذه المباحث في تفنيد براهين الأستاذ عبد الحسين العقلية والنقلية ليعتبر به هو ومن يغره كلامه، ويعلم أن مثل هذا الذي جاء به لا يوصِّل إلى الغاية التي طلب المناظرة لأجلها،
لعله يحاسب نفسه، ولا يجعل شعوره الخيالي وغلوه الوجداني حججًا علمية وبراهين عقلية يحاول بها تحويل أهل السنة كلهم عن مذهبهم إلى مذهبه، فيجمع به كلمة المسلمين بوهمه، أما المناظرة العلمية في مسائل الخلاف فطريقها الوحيد أن تحرر مسائل الخلاف الأساسية تحريرًا يمضيه أشهر علماء الشيعة في سورية والنجف، وأما الاتفاق بدون مناظرة فهو ما سنبينه في جزء آخر، لعله الذي يلي هذا.
السنة والشيعة الاتفاق بينهما والوسيلة إليه ورأينا ورأي علامة الشيعة فيه
*** السنة والشيعة الاتفاق بينهما والوسيلة إليه ورأينا ورأي علامة الشيعة فيه قد علم قراء المنار ما سبق لي من السعي الحثيث منذ ثلث قرن ونيف للاتفاق والوحدة بين المسلمين بالقول والعمل والكتابة والتصنيف، وإنني أُلجئت في هذه الآونة الأخيرة إلى الرد على عالمين من علماء الشيعة لكتابين لهما كانا من أكبر أسباب التفريق والتعادي. وإن أحدهما: طعن في كتابه على ديني وعقيدتي وأخلاقي ... إلخ. والثاني: طلب مناظرتي مدعيًا استحالة الاتفاق والتعاون بين أهل السنة والشيعة إلا أن ترجع إحدى الفرقتين إلى مذهب الأخرى في مسائل الخلاف الأساسية. ويعلمون أنني لم أقبل الدخول في المناظرة على هذه القاعدة التي وضعها الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين إلا أن يقره عليها جمهور علماء الشيعة، وطالبتهم ببيان رأيهم في زعمه هذا، فلم يرد عليه أحد منهم، وإنني افترصت لقاء مجتهد علمائهم
الأشهر في هذا العصر الأستاذ الكبير الشيخ محمد آل كاشف الغطاء في القدس أثناء عقد المؤتمر الإسلامي العام، فأطلعته على ما كتبه الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين وسألته رأيه فيه فأنكره أشد الإنكار، ووعد بإجابتي إلى استنكاره والرد عليه كتابة كما اقترحت، ليعلم ذلك من قرءوا تلك الدعوى في المنار ويقنعوا بأن أكبر علماء الشيعة يخالفونه فيه، واشترط هو أن أسأله ذلك كتابة ففعلت. وذكرت في الجزء الماضي أن الجواب قد جاء من حضرته، وأنني سأنشره في هذا الجزء؛ إذ كان ردي على الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين في الجزء الماضي في موضوع طعنه في علم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد طال حتى انتهى بي إلى آخر الجزء، وكان له بقية استغنيت عنها، وقد قلت: إن هذا الرد ليس ردًّا على الشيعة؛ وإنما هو رد على منكر علم عمر، ولم يكن لي بد منه بعد نشر تلك النظريات الباطلة، والروايات التي لا يعرف ناقلها درجتها من الضعف، وقد حمَّلها ما تتبرأ من حمله
جواب العلامة آل كاشف الغطاء
من سوء الفهم، وإنني أنشر الآن جواب الأستاذ كاشف الغطاء، وأقفي عليه بما يزيد الحقيقة كشفًا. جواب العلامة آل كاشف الغطاء (عقيدة الشيعة في الاتفاق) بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد في السموات والأرض لما جمعني المؤتمر الإسلامي العام المنعقد ليلة الإسراء في القدس الشريف بالعلامة الشهير، إمام السنة والحديث، الأستاذ الهمام، صاحب منار الإسلام، السيد محمد رشيد رضا نفع الله المسلمين بمنار علومه - دفع إليَّ كتابًا بخطه يتضمن السؤال عن عقيدة الشيعة في إخوانهم من أهل السنة، وأنه هل صحيح ما ربما يقال من أنه لا يمكن اتفاق الشيعة الإمامية معهم على شيء ولو كان لصالح الفريقين، إلا إذا رجعوا إلى رأي الشيعة فيما يخالفونه فيه؟ إلى أن قال دام تأييده: ((فأنت أيها الأستاذ أكبر مجتهدي الإمامية فيما قد اشتهر في بلادنا، وعلى
دعاء الثغور وتعليق حول الصحيفة السجادية في الحاشية
قولك نعتمد ... )) إلخ ما كتب. ونحن نرغب إليه أن ينشر عنا في الجواب على صفحات مناره الأغر ما يلي: إن إجماع الشيعة الإمامية من سلف إلى خلف - ولعله من ضروريات مذهبهم لا يخالف فيه أحد من فضلائهم فضلاً عن علمائهم - أن من دان بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولم ينصب العداوة والبغضاء لأهل بيت النبوة سلام الله عليهم - فهو مسلم وسبيله سبيل المؤمنين، يحرم دمه وماله وعرضه، وتحل مسادرته (¬1) ، ومصاهرته، ولا تحل غيبته ولا أذيته، وتلزم أخوته ومودته، أخوة جعلها الله في محكم كتابه، وعقدها في أعناق المسلمة من عباده، فأصبحتم بنعمته إخوانًا والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، وقد استفاض في السنة النبوية من طرق الفريقين أن المسلم أخو المسلم شاء أو أبى، والمسلم من المسلم كالعضو من الجسد إلى كثير من أمثال هذا. وما سُعد الإسلام وصعد إلى أعلى ذروات العز والمجد إلا ¬
يوم كان محافظًا على تلك الأخوة، وما انحط إلى أسفل دركات السقوط والذلة إلا بعد أن أضاع تلك القوة، ويشهد الله سبحانه أن ما ذكرته من عقيدة الشيعة الإمامية في إخوانهم المسلمين هو الحقيقة الراهنة التي لا محاباة فيها ولا تقية، وإن ظهر من كلام بعض العلماء خلافها فلعله من قصور التعبير وعدم وفاء البيان، ومن شاء الزيادة في اليقين فدونه الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين سلام الله عليه وهي زبور آل محمد صلى الله عليه وسلم، فلينظر في دعائه لأهل الثغور الذي يقول في أوله: ((اللهم صل على محمد وآل محمد، وحَصّن ثغور المسلمين بعزتك، وأيد حماتها بقوتك، وأسبغ عطاياهم من جدتك ... )) إلخ الدعاء على طوله. (¬1) وهل يشك أحد أن حماة الثغور في عصر الإمام زين العابدين عليه السلام - أعني عصر بني أمية - كانوا من جمهور المسلمين وأكثرهم بل كلهم من السنة، والصحيفة السجادية تالية القرآن عند الإمامية في الاعتبار وصحة السند. (¬2) والقصارى أني أعلن عني وعن جميع مجتهدي الشيعة ¬
الإمامية في النجف الأشرف وغيرها، أن اتفاق المسلمين واشتراكهم في السعي لصالح الإسلام والمحافظة عليه من كيد الأغيار، لم يزل ولا يزال من أهم أركان الإسلام وأعظم فرائضه وأهم وظائفه، أما النزاعات المذهبية، والنزعات الجدلية فهي عقيمة الفائدة في الدين، عظيمة الضرر على الإسلام والمسلمين، وهي أكبر آلات المستعمرين. فرجائي إلى الأستاذ صاحب المنار أن لا يعود إلى ما فرط منه كثيرًا من التحريش بالشيعة، ونشر الأبحاث والمجادلات مع بعض علماء الإمامية، والطعن المر على مذهبهم الذي لا يثمر سوى تأجيج نار الشحناء والبغضاء بين الأخوين، ولا يعود إلا ببلاء الضعف والتفرقة بين الفريقين، ونحن في أمس الحاجة اليوم إلى جمع الكلمة، وتوحيد إرادة الأمة، وإصلاح ذات البين. والأستاذ الرشيد - أرشد الله أمره - ممن يعد في طليعة المصلحين، وكبار رجال الدين، فبالحري أن يقصر (مناره
تعقيب المنار على جواب كاشف العظاء
الإسلامي) على الدعوة إلى الوفاق والوئام، وجمع كلمة الإسلام، ويتجافى في كل مؤلفاته - سيما في تفسيره الخطير- عن كل ما يمس كرامة، أو يثير عصبية أو حمية، أو يهيج عاطفة، وأن يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فإن ذلك أنجع وأنفع، وأعلى درجة عند الله وأرفع، وعلى هذه خطاي وخطتي، وهي ديني وديدني، عليه أحيا وعليه أموت إن شاء الله. وإليه تعالى أرغب وأبتهل في أن يجمع كلمتنا على الحق والهدى حتى نكون يدًا واحدة في نصرة هذا الدين الحنيف، إنه أرحم الراحمين. حرره في زاوية النجف الأشرف المقدسة ... ... ... ... ... ... يوم النصف من شهر رمضان المبارك سنة 1350 محمد الحسين آل كاشف الغطاء (المنار) هذا نص الجواب الموعود من سماحة العلامة الواسع الصدر، الجليل القدر، وهو على حسنه ولطفه دون ما سمعت منه بالمشافهة، ودون ما كنت أتوقع من الصراحة، جاء مجملاً ليس حزًّا في المفاصل، لم يذكر فيه كلمة الخصم الشنعاء؛ وإنما أشار إليها
(بربما يقال) وحصر كلامه في رأي الشيعة الإمامية في (إخوانهم المسلمين) . وقال إنها مجمع عليها بالشرط الذي ذكره، وإنه إن ظهر من كلام بعض العلماء خلافها فلعله من قصور التعبير وعدم وفاء البيان. فتضمن قوله هذا الاعتذار عن الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين بأنه ليس فيه إلا قصور التعبير عن مذهبهم وعدم وفاء البيان به، وهذا السيد ليس ضعيف البيان بل هو فصيح العبارة قلما يوجد في معاصريه مثله في حسن بيانه وصراحته، وهو يرى أن أكثر الصحابة والسواد الأعظم من المسلمين من بعدهم قد نصبوا العداوة والبغضاء لأهل بيت النبوة سلام الله عليهم، من عهد أبيهم علي كرم الله وجهه إلى الآن، وكذلك الأمة العربية في جملتها كما يُعلم من كلمته الأولى من كلماته الثلاث، وحجته الكبرى على ذلك تقديم غيره عليه بالخلافة ويليها من الحجج مخالفة أهل السنة لما يفهمه هو بوجدانه من الروايات الصحيحة في مناقبه ولما يذكره من الروايات الباطلة فيها، ويطعن في حفاظ السنة حتى البخاري ومسلم لعدم روايتها، فهو يعدهم كلهم
اعتذار كاشف الغطاء بكتاب شخصي عن تأثير جوابه السلبي
من النواصب المتبعين لغير سبيل المؤمنين - فهو يسلم ما قاله العلامة كاشف الغطاء من أن عدم نصب العداء لأهل البيت شرط لصحة الإسلام وولاية أهله - ولا يراه ردًّا عليه أو تخطئة له، وكذلك السيد محسن العاملي لا يعده ردًّا على كتابه الذي يعدني فيه مع الوهابية غير متبعين لسبيل المؤمنين؛ لأننا ننكر الحج إلى المشاهد وعبادة قبور أهل البيت أو عبادتهم بالدعاء والطواف بقبورهم؛ ولكننا نعبد الله تعالى بالصلاة على نبيه وعلى آل بيته في الصلاة وغيرها، ونتقرب إليهم بحبهم وولايتهم، وبالحكم على من ينصب لهم العداوة والبغضاء بأنه عدو الله ورسوله، وبهذا القول يقول جميع أهل السنة من الوهابية وغيرهم، ولا يرون القول بصحة خلافة الراشدين كما وقعت ووجوب حبهم وحب سائر الصحابة منافيًا لذلك، فما قاله الأستاذ في ناحية الشيعة مجمل غير كافٍ ولا شافٍ. بيد أنه عندما توجه إلى ناحية السنة وأهلها تفضل على صاحب المنار بالنصيحة إلى (ما فرط منه كثيرًا من
التحريش بالشيعة) ... إلخ إلخ، وهو يعلم أن صاحب المنار كان مبدوءًا لا بادئًا، ومدافعًا لا مهاجمًا، ولم يكن محرشًا ولا متحرشًا. ولم يكن يخفى على ذكاء الأستاذ ما يكون لهذا الجواب عندنا من كلتي ناحيتيه، وما ضمه بين قطريه، وهو ما رأينا من حسن الذوق الاكتفاء بالإشارة إليه، فشفعه بكتاب شخصي، يتضمن الاعتذار عما توقعه من تأثير الجواب السلبي، قال فيه بعد الاعتذار عن تأخيره بما هو مقبول: ما قاله العلامة في كتابه الشخصي: ((نأمل من ألطافه تعالى أنكم لا تزالون متمتعين بالصحة والعافية، والعز والكرامة، مستمرين على منهاجكم الدائب في خدمة العلم والدين، وكونوا على ثقة من أننا لا نزال ندعو لكم بالتأييد والتسديد، وأن يجعل الحق مناركم عاليًا، ونور معارفكم لظلمات الجهل ماحيًا، ولا تزال ذكرى أخلاقكم الطيبة وعوارفكم الذكية ماثلة في نفوسنا، شاخصة أمامنا.
تعقيب المنار على الكتاب الشخصي
وتجدون مع هذا الكتاب جواب الرقيم الذي تفضلتم به وأرجو أن تجدوه كافيًا شافيًا، وتنشروه على صفحات مناركم الزاهر ليعم النفع به، ويكون إحدى همزات الوصل بين المسلمين وتمزيق ما نسجته عناكب الأوهام على ذلك الصرح المشيد، وهي الغاية التي نتوخاها في جميع جهودنا ومساعينا، ولعلكم أحرص عليها منا، وما التوفيق إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وقد تجافيت عن ذكر القائل بتلك المقالة الغريبة والتي لا يوافقه عليها أحد نظرًا لبعد الملاحظات التي لا تخفى عليكم: إن تجد عيبًا فسد الخللا)) . اهـ المراد منه. (المنار) إن عبارة هذا الكتاب، تكشف لنا الغطاء عما خفي في ذلك الجواب، مما تنطوي عليه جوانح كاتبهما من أريحية إسلامية، تأتلف بها معارفه العقلية وعوارفه القلبية، وعما رأى أنه مضطر إليه في مقامه من الرياسة في علماء المذهب من مداراة المدارك المتفاوتة، والوجدانات الموروثة، واكتفائه من صدق لقبه (كاشف الغطاء) أن يبلغ غاياته في الدروس الفقهية،
والفنون العقلية واللغوية، ويقف دونها من مهاب الأهواء الطائفية والمذهبية، التي تختلف فيها الأفهام وتتزاحم الأوهام، موقف مراعاة الجامدين ومداراة المتعصبين، اهتداء بما روي في الصحيح [صحيح البخاري (127) ] عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: (حدِّثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله) . وروي عنه أنه كان يقول: (إن هنا لعلمًا جمًّا لا أجد له حملة) وأشار إلى صدره، نقله صاحب نهج البلاغة [18 / 346 شرح ابن أبي الحديد] . (¬1) فهذا ما أشرحه من عذر صديقي في إجماله في الجواب على ما فيه من موضع النظر، ووصفه إياي بالتحريش والطعن المر بالشيعة، ومطالبتي بالكف عن العودة إلى ذلك معبرًا عنه بلفظ الرجاء واجتنابه الإنكار على هؤلاء المهاجمين، وما هو بالعذر الذي يرضاه منه جميع القارئين. سيجدني صديقي العلامة المصلح عند رجائه إن شاء الله تعالى، بيد أنني أرى أن ما نسعى إليه من جمع الكلمة، ووحدة الأمة، لا يرجى نجاحه من طريق الدين إلا بسعي علماء الطائفتين له على القاعدتين اللتين رفعنا بنيانهما في المنار: (الأولى) : (نتعاون ¬
حسن الظن عند المؤلف في البداية لم يلق موضعا مناسبا (حاشية)
على ما نتفق عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) . (والثانية) : من اقترف سيئة من التفريق والعداء أو غير ذلك من إحدى الطائفتين بقول أو كتابة فالواجب أن يتولى الرد عليه العلماء والكتاب من طائفته، وإذا لم يكن صديقنا الأستاذ الكبير آل كاشف الغطاء هو الإمام القدوة لمن ينهضون بهذا الإصلاح وهو هو في رياسته العلمية وثقة الطائفة بإخلاصه ونصحه، فمن ذا الذي يتصدى له من دونه؟ إن المبالغة في مداراة القاصرين (¬1) ، تقف بصاحبها دون ما هو أهل له من زعامة المصلحين، كان أستاذنا العلامة الشيخ حسين الجسر نسيج وحده في علماء سورية الجامعين بين علوم الشرع والوقوف على حالة هذا العصر، ولولا مبالغته في مداراة الجامدين من المعممين وكذا العوام أيضًا لكان ثالث السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في زعامة الإصلاح، وإنني قد صارحته باستنكار هذه المبالغة في المداراة مشافهة له وهو ما انتقدته على كتاب الرسالة الحميدية له من إيراد المسائل العلمية التي لا شك فيها بعبارات تدل على الشك فيها ¬
واحتمال صحتها بالفرض والتسليم الجدلي، ثم قلت له وقد اعتذر بمداراة الجامدين: إذا لم يكن مثل مولاي الأستاذ في مكانته من سعة العلم والصلاح يجرئ المسلمين على الجزم بالمسائل العلمية التي يستنكرها أو يجهلها الجمهور، فمن ذا الذي يجرئهم على هذا ولا يخشى اعتراض الجاهلين؟ فأرجو من الأستاذ الكبير كاشف الغطاء أن يتأمل ما ذكرته من توقف التوفيق والتأليف على بنائه على القاعدتين المناريتين عسى أن يجد عنده قبولاً. ولا يخفى عليه أن علماء الدين إذا لم يجمعوا كلمة المسلمين بهدايته على القيام بمصالحهم المشتركة فقد يغلبهم الملاحدة المتفرنجون على أكثرهم، ويقنعونهم بأن الدين أكبر المصائب عليهم!
كلمة المؤلف عن كتاب: أصل الشيعة وأصولها
أصل الشيعة وأصولها من تأليف علامتهم الكبير ومجتهدهم الشهير الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي، وهي مطبوعة في مطبعة مجلة العرفان بصيدا وقد جعلها الأستاذ صاحب هذه المجلة هدية للذين وَفَّوْهُ اشتراك المجلة وهي تباع لغيرهم بقيمة عشر فرنكات على صغرها، فإن صفحاتها مع مقدمتها 138 صفحة من القطع الصغير، ولكنها وصلت إلينا رسالة من بغداد فيها كتاب اسمه (الشيعة) تأليف (السيد محمد صادق السيد محمد حسين الصدر) . فأما (كتاب الشيعة) فلا نتكلم فيه؛ لأنه صدع جديد لبناء وحدة الإسلام، بالطعن على أهل السنة والجماعة من الصحابة الكرام، وحُفَّاظها ومدونيها من الأئمة الأعلام، كاد يضرم نار الثورة في العراق، فأنا أغضي عن هذا الكتاب المُبَارز للسنة وأهلها بالعداء وإعلان الحرب، وهو فيه كالصعو الذي يهاجم الصقر. وأما الرسالة فهي دعاية فرقة في دعوى وحدة، لهذا أخصها
بكلمات من النقد والعتب، أو التذكير والوعظ، يظهر بها لمؤلفها الأجل أنه جدير فيها بضرب المثل: أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل هي مُصَدَّرَة بمقدمة وجيزة بإمضاء (عبد الرزاق الحسيني) كتبها ببغداد في غرة ذي الحجة سنة 1350 خلاصتها أنه تجول في معظم القصبات والقرى الريفية في العراق، وأنه صادف أن زار في العام الماضي مصر وفلسطين وسورية، واتصل بالطبقة المثقفة في هذه الأقطار العربية كلها، فسمع منها ما كان يسمعه من أهل الدليم في العراق من الطعن الغريب في طائفة الشيعة (قال) : (وخلاصة ما كنت أسمعه أن للشيعي ذَنَبًا لا يختلف عن أذناب البهائم، وأن لهم أرواحًا تتقمص أجساد بعض الحيوانات بعد أن تفارق أجسادهم، وأنهم لا يعرفون الأكل مثلما تعرفه بقية الطوائف) وأنهم وأنهم وأنهم (إلى آخر ما هنالك من عجائب وغرائب) اهـ بنصه، مع حذف أكثره. ثم ذكر أنه كان ولا يزال يقرأ في كتب من يدعون البحث
والتحقيق العلمي من أهل السنة، ما هو أغرب مما سمعه عن الشيعة، وأنه كان يكاتب الإمام العلامة المؤلف بذلك كله فيدله على أكثر مما قرأ ومما سمع، وأنه في أثناء هذه المكاتبة (كان سماحته يبث الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، ويدعو المسلمين إلى سحق التقاطع من أجل الفوارق المذهبية، فكان بحق أول من شق هذا الطريق المؤدي إلى فلاح الإسلام) ! ! ! ثم استدل على هذه الدعوى بما تجشمه سماحته من عناء السفر ووعثائه لحضور المؤتمر الإسلامي العام في القدس وعبر عنها الكاتب الحَسَنِي (بأرض الميعاد) لأجل أن يخطب لدعوة المسلمين إلى هذه الوحدة التي لم يعن بها غيره. هذه المقدمة أول شاهد في هذا الكتاب على دعاوي القوم وغلوهم فيما لهم وما عليهم، وقد أقرها المؤلف عليها، وبنى تأليفه هذا على صحتها وصحة ما هو شر منها، فكانت داعية شقاق، وإن قُنِّعَتْ بقناع صلب الوفاق؛ لأنها تقنع كل من قرأها من الشيعة أن جميع أهل السنة عاميهم وخاصيهم أعداء لهم قد أخرجهم الشنآن
من حظيرة العقل والفهم، فلا علاج لهم بما يبذله المؤلف من علاجهم بالعلم، ومحاولة إقناعهم بأن مذهب الشيعة هو الحق بل هو الإسلام دون ما خالفه. إننا لم نسمع في عمرنا الطويل كلمة واحدة مما نقله عن المثقفين في مصر وسورية وفلسطين، لا من المثقفين الذين يجلون عن هذه الجهالات أن تصدقها عقولهم، أو ترويها ألسنتهم، ولا عن العوام الخرافيين منهم، ونحن أعلم بهذه البلاد وأهلها منه، ولم نر في كتب أحد ما هو أغرب منها كما ادعى، وأي شيء أغرب من جعل خلقة الشيعي مخالفة لخلقة سائر البشر، فإن فرض أنه سمع كلمة سخيفة كهذه جديرة بالسخرية من بعض أعراب الدليم الأميين في العراق، أفلم يكن له من عقله ما يزع تعصبه أن يلصقها بالطبقات المثقفة في مصر وفلسطين والشام؟ وإننا قد سمعنا من أخبار الشيعة في العراق وإيران وجبل عامل من الأقوال والأعمال في عشر المحرم وغيره حتى في البيوت ما لم يخطر في بالنا أن نكتبه تمهيدًا للاتفاق؛ إذ من الضروري أنه مثار للشقاق.
يلي هذا الشاهد على غلوه في هجو أهل السنة في أرقى البلاد العربية والإسلامية غلوه في إمامه المؤلف بجعله هو العالم المسلم الفذ الذي عني بدعوة أهل السنة إلى الاتحاد ونبذ عصبية المذاهب المفرقة بالسعي العظيم الذي انفرد به، وقاسى الأهوال والشدائد في سبيله، وهو قبوله دعوة المؤتمر الإسلامي العام ومجيئه من أرض العراق إلى أرض جارته فلسطين ليلقي خطبة فيه!! بخ بخ، أليس لأحد من علماء أهل السنة وفضلائهم شيء من مشاركة علامة الشيعة في هذا الفضل، وقد جاء بعضهم من أقطار أوربة وبعضهم من أقطار الشرق، وكانوا كلهم متفقين على جمع كلمة المسلمين، ونبذ التفريق الذي دعا إليه بعض علماء الشيعة كالسيد عبد الحسين نور الدين، ولم يسمع بمثله في العالمين؟ ولا يزالون يسعون إليه كما فعله صاحب كتاب الشيعة في هذا العام؟ إن أول صوت سمعه العالم الإسلامي كله في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية العامة، والاتفاق بين أهل السنة والشيعة خاصة، هو صوت الحكيمين الإمامين السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ
محمد عبده المصري، ومقالات العروة الوثقى في ذلك محفوظة أعيد طبعها، وتاريخ (الأستاذ الإمام) مفصل لها وقد نشرنا دعوتهما وأيدناها بمقالاتنا وسعينا العملي منذ 36 سنة، ولكننا نغضي النظر عن ذلك، وننظر إلى عمل المؤتمر الإسلامي وحده. (¬1) ألم يكن لرئيس المؤتمر الإسلامي الداعي إليه وأعضاء اللجنة التحضيرية التي وضعت نظامه من الفضل ما يفوق فضل علامة الشيعة بإجابة الدعوة؟ ألم يكن للرئيس من فضل السبق إلى التأليف والاتحاد تقديمه إياه على جميع من حضر المؤتمر من علماء السنة وسادتهم بإمامة الصلاة في الاجتماع العام للمؤتمر في ليلة ذكرى الإسراء والمعراج؟ وقد علمت باليقين أن السيد أمينًا الحسيني شاور في هذا التقديم له غير أعضاء اللجنة من كبار علماء السنة، فوافقوه على ذلك؛ لأن الغرض منه التأليف والوحدة لا لسبب آخر، ولم يكن أحد منهم سمع في هذا الغرض من سماحة كاشف الغطاء كلمة، فلأهل السنة السبق إلى هذه الدعوة، ثم في تكريمه وتقديمه لأجل الوحدة. ¬
إشارة المؤلف إلى كتب أحمد أمين
ومما انتقده جمهور أعضاء المؤتمر على الأستاذ الشيخ محمد آل كاشف الغطاء أنه اتخذ هذا التقديم في تلك الليلة الحافلة حقًّا له شرعيًّا، ومنصبًا رسميًّا، فكان يتقدم من تلقاء نفسه الجميع في كل صلاة جماعة يحضرها، ولم يزاحمه أحد من أهل السنة فيها، ولم يتواضع هو مرة فيدعو غيره من العلماء أو السادة الشرفاء إلى مشاركته أو النيابة عنه على فرض أنه هو صاحب الحق، ولكنه يقدم غيره من باب التواضع وحسن الذوق. أو لم تكن هذه المنة للمثقفين من أهل السنة كافية لإبطال تلك التهمة، فتمنع السيد عبد الرزاق الحسني وأستاذه علامة الشيعة ومجتهدهم من تشهير مثقفي أهل السنة كلهم بها وجعلها سبب تأليف هذه الرسالة وإنما هي دعوة لأهل السنة إلى مذهب الشيعة. نعم إنه قد ذكر كل من مؤلفها ومؤلف كتاب (الشيعة) أن الداعي أو الدافع الداعّ لهما إلى ما كتبا هو ما جاء في كتاب (فجر الإسلام) في الطعن على الشيعة لمؤلفه الأستاذ أحمد أمين ومساعده الدكتور طه حسين المصريين، ولم أكن رأيت هذا
الطعن ولا طالعت هذا الكتاب، ولكني أعلم كما يعلم العالمان الشيعيان وغيرهما أن مؤلفي كتاب فجر الإسلام وضحى الإسلام ليسا من دعاة مذهب السنة والرد على مخالفيه في ورد ولا صدر، وقد ذكر مؤلفها فيها أن الأستاذ أحمد أمين صاحبه اعتذر عما كتبه في الشيعة بأنه نقله عن بعض كتب التاريخ المشهورة التي اطلع عليها ولم يطلع على ما يخالفها (¬1) ، ثم أشار إلى ما يبرئهما من كل تعصب مذهبي أو غرض ديني، بل إلى ما هو شر من ذلك، وهو ما اشتهر عن أحدهما من الطعن في أصل الدين؛ إذ قال: ((ونحن لولا محافظتنا على مياه الصفاء أن لا تتعكر، ونيران البغضاء أن تتسعر، وأن تنطبق علينا حكمة القائل: لا تنه عن خلق وتأتي مثله، لعرفناه من الذي يريد هدم قواعد الإسلام بمعاول الإلحاد والزندقة، ومن الذي يسعى لتمزيق وحدة المسلمين بعوامل التقطيع والتفرقة)) . اهـ وجملة القول: أنه ما كان ينبغي للعلامة كاشف الغطاء أن يوافق تلميذه السيد الحسني على ما رمى به أهل السنة مثقفيهم وعامتهم ¬
من هذا الطعن غير المعقول، وأن يزيد عليه بما يوهم أنه قليل مما يعلمه هو، وأن يجعله هو وما كتب في " فجر الإسلام " داعيًا أو دافعًا إلى كتابة هذه الرسالة وما فيها مما يسوء أهل السنة من الدعوى العريضة لنفسه وهضم حق غيره من أهل السنة على الإطلاق، ثم أن يجعل ما كتبه في أصل الشيعة وأصولها ردًّا عليه وإقناعًا للفريقين بالاتفاق مع إقرار كل منهما للآخر على مذهبه، فإن الرسالة صريحة في ضد ذلك. وأما ما كتبه في أصل الشيعة وأصولها فإننا نخصه بمقال ننشره بعد.
كلمة أخرى عن كتاب أصل الشيعة وأصولها
*** أصل الشيعة وأصولها قَرَّظْنا في الجزء السابق هذه الرسالة التي ألفها علامة الشيعة ومجتهدها الشيخ محمد آل كاشف الغطاء الشهير؛ لدعوة أهل السنة إلى مذهبه ونشرها الأستاذ اللبيب الأريب زميلنا صاحب مجلة العرفان، ورأينا من الواجب علينا أن نكتب مقالاً آخر نبين به بعض ما انتقدناه عليها من جهة الغلو الذي اعتاده علماء الشيعة حتى صارت العادة عندهم عبادة، ومن ناحية ضعفهم في علم الحديث ولا سيما روايته وما يصح منه وما لا يصح بحسب أصول العلم وقد نشير إلى ناحية ثانية هي ناحية التاريخ، ولا نعرض للخوض في مسألة الإمامة ولا مسألة عصمة الاثني عشر التي هي أساس المذهب؛ لأنها مفروغ منها في المؤلفات القديمة وليست عملية في هذا الزمان، وما كان الجدال في أصول المذاهب إلا ضررًا لأهله في دينهم ودنياهم في كل زمان، وشر ضرره تفريق الكلمة وتمزيق نسيج الوحدة؛ لأنه مبني على عصبية المذاهب،
ولن تكون إلا تقليدية وما أضيع البرهان عند المقلد، وأبدأ بكلمة في الغلو فأقول: من هذا الغلو إطراء أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه المتضمن لاحتقار الإسلام وما يستلزمه مما لا يحسن التصريح به، بما أنكرناه على السيد عبد الحسين نور الدين العاملي من قبل فلم يمنع ذلك الأستاذ كاشف الغطاء أن يعيده مُقِرًّا له من بعد؛ إذ قال في أول ص 21 بعد ذكر من سمى من الصحابة في الشيعة ما نصه: (ولكن ما أدري أهؤلاء الذين أرادوا هدم الإسلام أم إمام الشيعة علي بن أبي طالب الذي يشهد الثقلان أنه لولا سيفه ومواقفه في بدر وأحد وحنين والأحزاب ونظائرها لما اخضر للإسلام عود وما قام له عمود حتى كان أقل ما قيل في ذلك عنه المعتزلي أحد علماء السنة (! !) : ألا إنما الإسلام لولا سهامه ... كعفطة عنز أو قلامة ظفر هذا ما كتبه مجتهد النجف الأكبر وعلامته الأشهر ثم فسره بمختصر مما فسره به عبد الحسين نور الدين العاملي
علماء الشيعة يشبهون الإسلام بـ (عفطة عنز) لولا إسلام علي رضي الله عنه
وضرب له هذا المثل الشعري الإلحادي. الله أكبر ودينه الإسلام أعلى وأظهر وأذكى وأطهر وأعز وأقهر من تشبيه هذا المعتزلي الرافضي - لا السني (¬1) - له بضرطة أنثى المعز وقلامة الظفر. نعم إن دينًا سماه الله دينه وأتمه وأكمله ووصفه بما وصفه ووعد بإظهاره على الدين كله وإتمام نوره بقدرته وفضله، وبعث به خير خلقه محمدًا رسول الله وخاتم النبيين ورحمته للعالمين، وجعل ملته هي الباقية إلى يوم الدين وأيده بملائكته فوق تأييده بالمؤمنين، وإن دينًا هذا شأنه يجب على كل مؤمن به أن يوقن أنه أجل وأكبر وأعظم وأعلى وأسمى وأرفع وأمنع من أن يتوقف ظهوره ونوره ونصره وبقاؤه على جهاد أي فرد من أفراد المؤمنين، وأن يكون من امتهنه بأنه لولا فلان من أتباعه لكان كضرطة أنثى المعز أو قلامة الظفر التي تلقى وتداس بالنعال جديرًا بأن يكون من أجهل الناس به وأبعدهم عن الإيمان به واتباعه (¬2) ، وإن وَصَفَهُ مجتهدُ الشيعة بأنه من المعتزلة علماء السنة، ومتى ¬
شهادة من آل كاشف العظاء بأن بذرة التشيع غير بذرة الإسلام
كان المعتزلة من علماء السنة , فأين علم هذا المجتهد الكبير بالمذهب والتاريخ؟ لو كنا نريد أن نتكلم في أصول المذاهب لبينا للقارئ أي الفريقين تبعت المعتزلة فيما خالفوا فيه السنة من تحكيم عقولهم في تأويل كلام الله وكلام رسوله وغير ذلك. وشر من قول هذا المعتزلي بل الزنديق المحتقر للإسلام قول من جعل ذمه وإهانته له أقل ما يقال فيه , فأي شيء أقل من ضرطة العنز وقلامة الظفر؟ ! أهذا هو مذهب الشيعة الذي يدعي العلامة كاشف الغطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الواضع له فهذا مثل من غلو القوم اللاشعوري. نعم إنه ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع أصل مذهب الشيعة وأن خيار أصحابه تلقوه عنه، ثم كان أئمة الإسلام من مدوني كتب السنة حفاظ الحديث والمفسرين وسائر علماء الملة منهم إلخ. من الغريب أن يحتج على هذا الأصل بروايات يعزوها إلى
أحاديث مرفوعة ساقطة فيها ذكر شيعة علي رضي الله عنه
الكتب المعتمدة عند أهل السنة، وما أدري أعلمه بالروايات المعتمدة عند أهل السنة كعلمه بكون المعتزلة منهم؟ أم هو يتعمد التدليس والإيهام؟ كل ذلك جائز، وهو ما تراه في أول ص 41 وما بعدها جوابًا عن سؤال أورده: قال: (إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة الإسلامية - يعني أن بذرة التشيع وضعت مع بذرة الإسلام جنبًا إلى جنب وسواء بسواء (¬1) ، ولم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والعناية حتى نمت وأزهرت في حياته، ثم أثمرت بعد وفاته. (¬2) وشاهدي على ذلك نفس أحاديثه الشريفة لا من طريق الشيعة ورواة الإمامية حتى يقال: إنهم ساقطون؛ لأنهم يقولون بالرجعة أو أن راويهم (يجر إلى قرصه) بل من نفس أحاديث علماء السنة وأعلامهم، ومن طرقهم الوثيقة التي لا يظن ذو مسكة فيها الكذب والوضع. (¬3) وأنا أذكر جملة ما علق بذهني من المراجعات الغابرة، والتي عثرت عليها عفوًا من غير قصد ولا عناية: ¬
(فمنها ما رواه السيوطي في كتاب (الدر المنثور، في تفسير كتاب الله بالمأثور) في تفسير قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: 7) قال: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل علي عليه السلام فقال: (والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة) ونزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: 7) . (¬1) أخرج ابن عدي (¬2) عن ابن عباس قال: لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (البينة: 7) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: (أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين) (؟) وأخرج ابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألم تسمع قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: 7) هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرًّا محجلين) . (¬3) انتهى حديث السيوطي. وروى بعض هذه الأحاديث ابن حجر في ¬
صواعقه عن الدارقطني وحدَّث أيضًا عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا علي أنت وأصحابك في الجنة، أنت وشيعتك في الجنة) . (¬1) (وفي نهاية ابن الأثير ما نصه في قمح: وفي حديث علي عليه السلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين ويقدم عليه عدوك غضابًا مقمحين، ثم جمع يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح) انتهى. (¬2) وببالي أن هذا الحديث أيضًا رواه ابن حجر في صواعقه وجماعة آخرون من طرق أخرى تدل على شهرته عند أرباب الحديث. (والزمخشري في (ربيع الأبرار) يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا علي إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة الله تعالى وأخذت أنت بحجزتي، وأخذ ولدك بحجزتك، وأخذ شيعة ولدك بحجزهم فترى أين يؤمر بنا) . (¬3) ولو أراد المتتبع كتب الحديث مثل مسند الإمام أحمد بن حنبل وخصائص النسائي وأمثالهما أن يجمع أضعاف هذا القدر ¬
تعليقنا الوجيز على هذه الدعوى وأدلته
لكان سهلاً عليه. وإذا كان نفس صاحب الشريعة الإسلامية يكرر ذكر شيعة علي ويُنَوِّهُ عنهم بأنهم هم الآمنون يوم القيامة وهم الفائزون، والراضون والمرضيون، ولا شك أن كل معتقد بنبوته يصدقه فيما يقول، وأنه لا ينقل عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فإذا لم يصر كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شيعة لعلي رضي الله عنه فبالطبع والضرورة تلفت تلك الكلمات نظر جماعة منهم أن يكونوا ممن ينطبق عليه ذلك الوصف بحقيقة معناه لا بضرب من التوسع والتأويل. *** تعليقنا الوجيز على هذه الدعوى وأدلتها: أقول: (أولا) إن هذه الأحاديث التي اعتمد عليها في بيان أصل الشيعة لا تصح رواية لشيء منها ألبتة، ولذلك لم يخرج شيئًا منها مصنفو الصحاح كالإمام مالك والبخاري ومسلم ولا من بعدهما - ولا أحد من أصحاب كتب السنن كالأربعة المشهورة، ولا مما قبلها من المسانيد كمسند الإمام أحمد ومسند إسحاق بن راهويه ومسند ابن أبي شيبة ومسند الطيالسي، على ما في
هذه السنن والمسانيد من الأحاديث الضعيفة، بل لم يخرجها الحاكم في مستدركه ولا عبد الرزاق في مسنده ولا مصنفه على ما فيها من الأحاديث الموضوعة وشدة عنايتهما بجمع مناقب علي وآل بيته عليهم السلام. وإنما خَرَّجها بعض الذين عنوا بجمع كل ما روي من الشواذ والمناكير والموضوعات أيضًا، ولا سيما رواة التفسير المأثور التي عني السيوطي بجمعها في كتابه الدر المنثور ويُكْثِرُ إيرادَ مِثْلِها المُصَنِّفُونَ في المناقب والفضائل بغير تمييز، ولا سيما الجاهلين بعلم الرواية، ومنهم: الواحدي والزمخشري الذين أوردوا في تفاسيرهم الأحاديث الموضوعة في فضائل السور سورة سورة ونقلها عنه البيضاوي. وكلها موضوعة، اعترف واضعوها بوضعها عند سؤالهم عنها كما نقله السيوطي في الإتقان (ص 155 ج 2) . وقد اشتهر عن الإمام أحمد أنه قال: ثلاثة ليس لها أصل التفسير والملاحم والمغازي - يعني من الأحاديث المرفوعة - وذلك أن أكثر ما روي فيها مراسيل لا يعلم الساقط من سندها، وتكثر فيها الإسرائيليات وأقوال أهل الأهواء. (¬1) ¬
الفرق بين الراوي والناقل معروف عند جميع أهل العلم
ثانيًا: إن ما نقله السيوطي منها في تفسيره (الدر المنثور) من الروايات عن ابن عساكر وابن عدي (¬1) وابن مردويه هو حديث واحد في موضوعه، وهو سبب نزول آية البينة، وهو لم يذكره في كتابه (لباب المنقول في أسباب النزول) لأنه من القشور الواهية لا من اللباب، ولهذا لم يروها الإمام الطبري ولم ينقلها الحافظان البغوي وابن كثير وأمثالهما في تفاسيرهم ولا مفسرو المعقول. (ثالثًا) إن ما ينقله السيوطي في هذه الكتب لا يقال: إنه هو الذي رواه كما يقول الاستاذ كاشف الغطاء فيه وفي الزمخشري وابن حجر الهيتمي ويقول مثله غيره من علمائهم في كل ما ينقلونه عن أي كتاب ألفه أحد المنسوبين إلى مذهب السنة ليحتجوا به على أهل السنة كما بيناه في الرد على الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين العاملي. فالفرق بين الراوي والناقل معروف عند جميع أهل الحديث وجميع أهل العلم، وأكثر الذين رووا الأحاديث بأسانيدهم لم يلتزموا الصحيح منها بل منهم من تعمد رواية كل ما سمعه حتى الموضوع المفترى اعتمادًا على ¬
التفرقة بينهما بمعرفة رجال أسانيدها، ومنهم من اجتنب الموضوع دون الضعيف. وأكثر الغافلين عنهم من غير المحدثين كالرمخشري والرازي لا يميزون بين الصحيح وغيره. وما كل المميزين يلتزمون نقل ما يصح أو يبينون درجته إلا قليلاً، ولا سيما أحاديث المناقب والفضائل حتى مناقب النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته ومناقب آله وأصحابه ومن دونهم فأكثر روايات دلائل النبوة للحافظ أبي نعيم وحلية الأولياء ضعيفة وفيها موضوعات كثيرة. (رابعًا) أن الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي وهو من مثل الفقهاء غير المحدثين نقل في كتابه الصواعق (¬1) ما رآه من هذه الروايات التي فيها ذكر الشيعة وصرَّح بضعف بعضها وكذب بعض. و (قال) في ص 94: إن المراد بشيعته أهل السنة والجماعة لا مبتدعة الروافض والشيعة فإنهم من أعدائه لا من شيعته. وأورد عنه كرم الله وجهه ما استدل به على ذلك، وأعاد هذا في ص 95 ثم قال في 98 بعد الإحالة على ما تقدم فيهم، ¬
وفي رواية أحمد في المناقب التي ذكر فيها اللفظ إنما هم شيعة إبليس، ثم قال: ((فاحذر من غرور الضالين، وتمويه الجاحدين، الرافضة والشيعة)) . ثم ذكر حديث الدارقطني عن علي وأم سلمة، وهو حجة له على الشيعة ولذلك [لم] يذكر كاشف الغطاء نصه، بل كشف عن بعضه وغطى بعضًا، فنص الأول: ((يا أبا الحسن أما أنت وشيعتك ففي الجنة، وإن قومًا يزعمون أنهم يحبونك يصغرون الإسلام ثم يلفظونه، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة يقال لهم الرافضة، فإن أدركتهم فقاتلهم إنهم مشركون)) ، وفي رواية أم سلمة زيادة في علامتهم من ترك الجمعة والجماعة والطعن على السلف. (قال) : ((وشيعته هم أهل السنة؛ لأنهم هم الذين أحبوه كما أمر الله ورسوله، وأما غيرهم فأعداؤه في الحقيقة ... )) إلخ. (خامسًا) علم من هذا أن قوله: إنه ينقل الأحاديث الشريفة في أصل مذهب الشيعة من نفس أحاديث علماء السنة وأعلامهم ومن طرقهم الوثيقة إلخ غير صحيح؛ فإنه لم يذكر شيئًا من طرق الأحاديث التي نقلها، وإنما نقلها من غير كتب رواتها، بل لا يعرف
تلك الطرق ولا رآها، ولو رآها لما عرف صحيحها من سقيمها، فإن ادعى أنه يعرف هذا وذاك، وأنه قال ما قال عن معرفة، فإننا نسأله: لِمَ لَمْ يذكرها؟ ثم نتحداه بأن يبين لنا هذه الطرق، وينقل لنا أقوال علماء الجرح والتعديل في رجال أسانيدها، ومن المعلوم بالبداهة أن نقل هذا بعد تحدينا إياه به لا يدل على أنه كان يعلمه قبله، وهو على كل حال لن يكون إلا حجة عليه. (سادسًا) قوله: إنه لا ينقل من طريق الشيعة؛ لئلا يقال ما ذكره - فيه: إن أئمة أهل الحديث لا يقولون مثل هذا القول فيهم كلهم، وقد عدلوا كثيرًا من رجال الشيعة في الرواية فليأتنا بما شاء من رواياتهم بطرقهم المتصلة إن وجدت. (سابعًا) إن ما نقله عن ربيع الأبرار للزمخشرى المعتزلي هو باطل المتن على حسب أصول المعتزلة والشيعة الذين يُحَكِّمُون عقولهم في الروايات الصحيحة فيردونها أو يؤولونها بل يؤولون آيات القرآن التي توهم التشبيه بزعمهم، فكيف يقبلون حديثا لا يصح له سند، ولا يظهر له تأويل تقبله اللغة، وهو جعل الشيعة كقطار
آخذ كل واحد منهم بحجزة الآخر، وهي معقد إزاره يكون أوله رب العالمين له حجزة يأخذ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) . وجملة القول: أن هذه الروايات التي أوردها الأستاذ كاشف الغطاء لا يصح منها شيء ألبتة، ولا يعتد بإيهامه لقارئ كلامه أنها أقرب ما علق بذهنه عرضًا من روايات المحدثين الكثيرة المعتمدة أو المتواترة عند أهل الحديث، وأنه لو شاء لأورد أضعافها وجعلها في معنى الوحي الواجب اتباعه، فلو كان في كتب الصحاح أو السنن شيء منها، ولو واحدًا لكان أولى منها كلها. ولو رجعنا إلى أسانيدها وبيَّنا علة كل منها لطال الكلام في غير طائل، وإنما البينة على المدعي وإنا نتحداه ونتحدى غيره أن يأتونا بسند حديث واحد (منها) رجاله رجال الصحيح. ثم نقول (ثامنًا) إن فرضنا أنه صح حديث مرفوع في ذكر شيعة علي فإننا ننقل الكلام إلى المراد منه في اللغة، وقوله تعالى في موسى عليه السلام: {هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} (القصص: 15) فنقول: إنهم
لا يصح أن يفسر لفظ الشيعة في الحديث على فرض صحته بمذهب ديني
هم الذين اعتقدوا أنه هو الذي كان على الحق فنصروه على من عادوه وتبرءوا منه وحاربوه من الخوارج، وكذا معاوية وأتباعه خلافًا لابن حجر الهيتمي وأمثاله الذي يخرجون هؤلاء منهم بحجة أنهم كانوا مجتهدين متأولين فلهم أجر واحد، ولعلي وأتباعه أجران؛ فإن متبع الحق مستقل الفكر فيه بلا هوى ولا تعصب لمذهب يجزم بأن معاوية نفسه كان باغيًا خارجًا على الإمام الحق كالخوارج، وأنه طالب ملك (¬1) . ويؤيد ذلك إكراه الناس على جعل هذا الملك لولده يزيد المشتهر بالفسق (¬2) ، وأن بعض الخوارج كانوا متأولين كبعض أصحاب معاوية الذين اعتقدوا أنه كان على حق في مطالبته بدم عثمان. فمجموع كل من الفريقين بغاة خارجون على إمامهم الحق، وأفرادهم يتفاوتون في النية والقصد، كتفاوتهم في العلم والجهل. وحكمه كرم الله تعالى وجهه عليهم في جملتهم هو الحق، وهو أن بغيهم لا يُخْرِجهم من الإسلام، وإن كلمته عليه السلام: (إخواننا بغوا علينا) (¬3) لكلمة لو وزنت بالقناطير المقنطرة من اللؤلؤ والمرجان، لكانت ذات الرجحان في هذا الميزان. ¬
هذا ما يصح به تفسير شيعته في عهده، فإن صح إطلاق هذا اللقب على أحد من بعده فيجب إطلاقه على كل من يقولون: إنه كان هو الإمام الحق في زمن خلافته كما كان على الحق في مبايعة الأئمة الثلاثة من قبله، وجميع أهل السنة يقولون بهذا حتى الذي يعذرون بعض المخالفين له بالتأويل على قاعدتهم فيمن يخالف بعض ظواهر القرآن والسنة الصحيحة عندهم متأولاً. ولا يصح بوجه من الوجوه أن يفسر لفظ الشيعة في الحديث على فرض صحته بمذهب ديني؛ فإن أساس الدين الإلهي: الوحدة والاتفاق في جميع العقائد والمقاصد والأصول القطعية، والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) الآية، فالشِّيَع في الدين باطلة، والرسول صلى الله عليه وسلم بريء منها بنص القرآن فكيف يكون هو الواضع لأصولها. كذلك لا يصح أن يكون الغلاة في علي وأولاده وأحفاده عليهم السلام من شيعته، ولو بالمعنى الأعم؛ لأن الغلو في دين الله مذموم في كتاب الله وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وقد روي عنه في
نهج البلاغة وغيره أنه قال: (هلك فيَّ رجلان: مُحِبٌّ غالٍ، ومبغض قَالٍ) (¬1) ، ولا شك في أن من أقبح الغلو فيه أن يقول: إن دين الله الإسلام لم يكن لولا سيفه إلا......! ولا نحب أن نتوسع في بيان غلو من يُبَرِّؤُون أنفسهم من الغلو ويخصون به من اتخذوه إلهًا، على أن الشيعة الإمامية يعدون منهم خلفاء مصر العبيديين كما شهد لهم عميدها الشريف الرضي، وهم الذين يقول شاعر المعز منهم فيه: ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار دع دعايتهم الإلحادية التي فصَّلها المقريزي في خططه. وقال فيهم حجة الإسلام الغزالي: ((ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض)) ، فهل هذا كله مما وضعه النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الشيعة؟ وخلاصة الخلاصة: أن ما نقله مجتهدهم من الروايات لإثبات أصل مذهب الشيعة لا يصح أن يثبت بها أي مسألة من الفروع العملية كالطهارة والنجاسة والبيع والإجارة، وأنها لا تدل على شيء من أصول هذا المذهب، في عصمة الأئمة وفي الإمامة وفي تحكيم الآراء العقلية في العقائد الدينية ولا من فروعه، كذلك لا يصح ¬
شيء مما قاله في عدِّ بعض الصحابة وغيرهم من أتباع هذا المذهب، وليس من غرضنا أن نتكلم في المذهب نفسه، ولا في فرق الشيعة من غلاة، وهم درجات من باطنية وظاهرية ومن معتدلين كالزيدية. فإن الخوض في هذا كان أكبر المصائب الممزقة للأمة الإسلامية. ولا يزال الذين يثيرونها لأجل المحافظة على جاههم ومنافعهم أشد الناس جناية عليها، وإن سخر بعضهم منها بزعمه الدعوة إلى التأليف بين فرقها، وجمع كلمتها. وما هو إلا داع إلى مذهبه، مضلل لمتبعي غيره، وهذا هو التفريق بعينه: أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل ***