رسائل ابن حزم

ابن حزم

رسائل ابن حزم الأندلسي

رسائل ابن حزم الأندلسي هذه هي المجموعة الأولى من رسائل الفقيه الظاهري الكبير الإمام أبي محمد بن أحمد بن سعيد بن حزم، وهي تضم أربع رسائل: هي طوق الحمامة في الألفة والألأف، ورسالة في مداواة النفوس، ورسالة في الغناء الملهي أمباح هو أم محظور، ورسالة في معرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها. وتمثل الرسالة الأولى رأي ابن حزم في الحب وأحواله وبواعثه، وقد نالت من الشهرة العالمية ما جعلها تترجم إلى عدة لغات، وتصبح موضوع دراسات متعددة، وهي بحق أثر بالغ القيمة وستظل دائماً موضع درس وتفسير. وتكملها الرسالة الثانية فهي عصارة تجارب ابن حزم في الحياة، وفي شؤون الناس ومحاولة لإيجاد فلسفة ذاتية من خلال تلك التجارب. وتمثل الرسالة الثالثة قبول ابن حزم الكلي بالغناء الملهي، وتضعيفه الأحاديث التي رويت في النهي عنه، ولهذا الموضوع مؤيدون ومعارضون على مر الزمن. وأما الرسالة الأخيرة فهي خفقة فكرية جميلة تقوم على الحوار الذاتي، فالرسائل الأربع في مجموعها ترتبط بموقف واحد، وسيتلوها مجموعات أخرى من رسائله في المستقبل القريب، إن شاء الله تعالى.

تصدير عام

تصدير عام - 1 - رسائل ابن حزم هذا أوان الشروع بنشر كل ما وقعت عليه اليد من رسائل أبي محمد بن أحمد بن سعيد بن حزم في أجزاء متتابعة، مع مراعاة التقارب في الموضوعات، حيثما أمكن ذلك، وهي تضم مجموعة الرسائل التي وردت في النسخة المحفوظة بمكتبة شهيد علي باستانبول، وإليك وصفاً للمخطوطة ومحتوياتها: في مكتبة " شهيد علي " مخطوط رقمه 2704، يرجع تاريخ نسخه إلى القرن العاشر الهجري، مكتوب بخط نسخي جميل، ولكن ما يكاد القارئ يمضي في قراءة سطوره متأملا متمعناً حتى يحكم بان جمال خطه يحجب وراءه كثيراً من الخطأ والتحريف. ويحتوي هذا المخطوط على 265 ورقة، في كل ورقة 23 سطراً، وفي كل سطر عدد من الكلمات يتراوح بين 10 - 14 كلمة. ويشمل في مجموعه كتاباً لابن حزم الأندلسي اسمه " كتاب الأصول والفروع " أو " كتاب يشتمل على أصول وفروع شتى ". وأبواب هذا الكتاب في جملتها صورة أخرى لكثير من الفصول التي وردت في كتاب " الفصل في الملل والنحل " لابن حزم، مع اختلاف يسير في التعبير، لعله يوحي بشيء من الإيجاز والتلخيص، أو لعل هذه الفصول كتبت قبل أن يكتب " الفصل " ثم أدخلها ابن

حزم فيه كما هي عادته في تواليفه، على ان أحد الذين تملكوا هذا الكتاب، كتب على هامش الورقة (90) يقول إنه قرأ هذا الكتاب وهو كتاب المجلى لابن حزم من أوله إلى آخره قراءة بحث وتحقيق على الإمام شهاب الدين أحمد الميلي المالكي. والمجلى هو الكتاب الذي شرحه ابن حزم في المحلى، ولكن المشابهة بين كتاب الفروع وبعض فصول كتاب الفصل تكاد تكون تامة حرفية، فلعل متملك الكتاب وهم فيما قال. ويلي كتاب الفروع خمس عشرة رسالة وردت على الترتيب التالي: 1 - رسالة البيان عن حقيقة الإيمان. (90 ب - آخر 98) . 2 - رسالة في معرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها. (99 - 100أ) . 3 - رسالة الدرة في تحقيق الكلام فيما يلزم الإنسان اعتقاده (100 - 141ب) . 4 - رسالة التوقيف على شارع النجاة. (142أ - 145/ب) . 5 - رسالة في الرد على الهاتف من بعد. (163/ب - آخر 167) . 6 - رسالة في الرد على الهاتف من بعد. (163/ب - آخر 167) . 7 - رسالة في مسألة الكلب. (168/أ - آخر 171) . 8 - رسالة في الجواب عما سئل عنه سؤال تعنيف. (172/أ - آخر 195) . 9 - رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق. (196/أ - 221/أ) . 10 - رسالة في الإمامة. (221/ب - آخر 225) . 11 - رسالة في ألم الموت. (226/ أب) . 12 - رسالة في أرواح الأشقياء. (227/أ - 232/أ) . 13 - رسالة في الغناء الملهي. (232/ب - 235/أ) .

14 - رسالة التلخيص لوجوه التخليص. (235/ ب - 253) . 15 - رسالة في مراتب العلوم. (254/أ - آخر 265/أ) . وتنقطع الرسائل عند هذا الحد، وتنتهي مشتملات المخطوطة دون أن تتم، إذ كان يجب أن ترد بعد الرسالة الخامسة عشرة رسالة " في الوعد والوعيد وبيان الحق في ذلك من السنن والقرآن " [كتبها] إلى الأمير أبي الأحوص معن بن محمد التجيبي صاحب المرية. وقد تم نشر هذه الرسائل في مجموعتين: الأولى بعنوان رسائل ابن حزم (القاهرة، 1956) ؛ والثانية بعنوان: الرد على ابن النغريلة ورسائل أخرى (القاهرة، 1960) ما عدا أربع رسائل هي رقم 3، 7، 10، 12 سيتم نشرها في هذه السللسة. 16 - رسالة الرد على الكندي الفيلسوف (وقد نشرت مع الرد على ابن النغريلة، وهي لاحقة بكتاب التقريب لحد المنطق) . 18 - 22 - خمس رسائل ألحقت بكتاب جوامع السيرة. 23 - رسالة في فضل أهل الأندلس (ومصدرها نفح الطيب) . 24 - رسالة نقط العروس. 25 - رسالة في أمهات الخلفاء (نشرها الدكتور صلاح الدين المنجد في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، المجلد 34 (1959) ص 291 - 299) . إلى رسائل أخرى قد يتم العثور عليها. وقد كان ابن حزم مكثراً من التأليف ولكن كثيراً مما كتبه مفقود أو محتجب.

- 2

- 2 - ما لم يصلنا بعد من مؤلفات ابن حزم ذكرت في مقدمة المجموعة الثانية من رسائل ابن حزم (التي نشرتها بعنوان: الرد على ابن النغريلة ورسائل اخرى، القاهرة، 1380 1960) مجموعة من مؤلفاته التي لم تصلنا، تمثل العشرين الأولى، ثم أضاف إليها الابن العزيز أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري عدداً آخر (في مجلة الفيصل، السنة الثالثة، العدد 26) معتمداً في الأكثر على ترجمة ابن حزم في سير أعلام النبلاء للذهبي (ورمزنا إليه باسم: السير) : 1 - رسالة في الوعد والوعيد وبيان الحق في ذلك من السنن والقرآن، كتبها للأمير أبي الأحوص معن بن محمد التجيبي (انظر رسائل ابن حزم، مخطوطة شهيد علي، الورقة: 265. والسير: الرسالة الصمادحية في الوعد والوعيد) . 2 - كتاب كشف الالتباس لما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس (تذكرة الذهبي 3: 1152، والنفح 1: 365، والسير: ما وقع بين الظاهرية وأصحاب القياس) . 3 - كتاب الصادع والرادع في الرد على من كفر أهل التأويل من فرق المسلمين والرد على من قال بالتقليد (تذكرة الذهبي 3: 1152 والذخيرة 1/ 1: 143، والنفح 1: 365، والسير: الرد على من كفر المتأولين من المسلمين في مجلد) . 4 - كتاب الجامع في صحيح الأحاديث باختصار الأسانيد والاقتصار على أصحها واجتلاب أكمل ألفاظها وأصح معانيها (تذكرة الذهبي 3: 1252، والذخيرة 1/ 1: 143، والنفح 1: 365، والمحلى 11: 379، والسير) . 5 - كتاب شرح أحاديث الموطأ والكلام على مسائله (تذكرة الذهبي

3 - 1152، والنفح 1: 365، والسير: الإملاء في شرح الموطأ في ألف ورقة، وانظر مخطوطة شهيد علي من رسائله، الورقة 31/ أ. 6 - كتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى للكتابين التوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما " لا " يحتمل التأويل (تذكرة الذهبي 3: 1147، والذخيرة 1/ 1: 143، والجذوة: 291، والسير) . 7 - كتاب المجلى في الفقه على مذهبه واجتهاده، مجلد واحد (تذكرة الذهبي: 3: 1147 وهو الذي شرحه في المحلى؛ وهو غير مفقود وإنما لم يجمع على حدة) . 8 - الإيصال إلى فهم كتاب الخصال الجامعة لجمل شرائع الإسلام والحلال والحرام وسائر الأحكام على ما أوجبه القرآن والسنة والإجماع. أورد فيه أقوال الصحابة فمن بعدهم والحجة لكل قول، وهو كتاب كبير جداً (تذكرة الذهبي 3: 1147، والذخيرة 1/ 1: 143، وقد أشار إليه ابن حزم في الفصل 1: 114، 172 وفي الإحكام 1: 72، 4: 161، 4: 202) . 9 - كتاب الإمامة والسياسة في قسم سير الخفلاء ومراتبها والندب إلى الواجب منها (الذخيرة 1/ 1: 143، والنفح 1: 365 باسم كتاب الإمامة والخلافة الخ، وقد ذكر ابن حزم كتاب السياسة في التقريب: 181، وهو يدل على أن السياسة بمعنى التدبير، وذكره ابن عباد الرندي في الرسائل الصغرى: 51 ونقل منه شيئاً في بعض أحوال النفس الإنسانية. وهذا يدل على أن كتاب " السياسة " مختلف في موضوعه عن كتاب " الخلافة والغمامة ". 10 - كتاب في أسماء الله تعالى (تذكرة الذهبي 3: 1147، والنفح 1: 365. قال الغزالي: وجدت في أسماء الله تعالى كتاباً لأبي

محمد بن حزم يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه؛ والسير: أسماء الله) . 11 - فهرست شيوخ ابن حزم، (ذكره ابن خير في فهرسته وقال إنه قرأه على شريح بن محمد، وذكره عقيل بن عطية باسم البرنامج؛ وانظر السير: فهرسة ابن حزم) . 12 - الرد على ابن الإفليلي في شعر المتنبي (الصلة 1: 274 في ترجمة عبد الله بن أحمد النباهي قال: " وله رد على أبي محمد بن حزم فيما انتقده على ابن الإفليلي في شرحه لشعر المتنبي ") . (وانظر المرقبة العليا: 20، والسير بعنوان: التعقب على الإفليلي في شرحه لديوان المتنبي) . 13 - نقض العلم الالهي للرازي (ذكره ابن حزم في الفصل مرات، انظر رسائل فلسفية للرازي نشر ب. كراوس 170 - 175، والسير: كتاب الرد على ابن زكريا الرازي في مائة ورقة) . 14 - رد على إسماعيل بن إسحاق (ترجمته في تاريخ بغداد 6: 284) في كتابه الخمس (الإحكام 3: 103، قال: ولنا عليه فيه رد هتكنا عواره فيه وفضحناه بحول الله وقوته، وفي السير: قسمة الخمس في الرد على إسماعيل القاضي) . 15 - كتاب فيما خالف فيه المالكية الطائفة من الصحابة (رسائل ابن حزم الورقة 180، قال: فقد ألفنا كتاباً ضخماً فيما خالفوا فيه الطائفة من الصحابة رضي الله عنهم بآرائهم دون تعلق بأحد من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وانظر أيضاً الورقة: 192) . 16 - كتاب أن تارك الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها لا قضاء عليه فيما قد خرج من وقته (رسائل ابن حزم، الورقة 192، قال: ولنا في هذه المسألة كتاب مفرد مشهور؛ السير: من ترك الصلاة عمداً) .

17 - ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس (الجذوة: 168) . 18 - الفضائح (ياقوت: معجم البلدان (بربر) قال: " ولهم - أي البربر - من هذا فضائح ذكر بعضها إمام أهل المغرب أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي في كتاب له سماه الفضائح ") . 19 - نكت الإسلام (تذكرة الذهبي 3: 1149 قال الفقيه ابن العربي. وقد جاءني رجل بجزء لابن حزم سماه نكت الإسلام الخ؛ ولابن العربي رد عليه فيه، وقد ذكره ابن حزم نفسه في المحلى 1: 57) . 20 - كتاب فيما خالف أبو حنيفة ومالك والشافعي جمهور العلماء وما انفرد به كل واحد منهم (ذكره ابن حزم في قسم الفرائض من المحلى، وانظر تذكرة الذهبي 3: 1152) . 21 - مراتب العلماء وتواليفهم (السير) . 22 - العتاب على أبي مروان الخولاني (السير) . 23 - الرسالة البلقاء في الرد على (عبد الحق بن محمد بن هارون) الصقلي (السير: في مجيلد) . 24 - بيان غلط عثمان بن سعيد الأعور في المسند والمرسل (السير) . 25 - ترتيب سؤالات عثمان الدارمي لابن معين (السير) . 26 - الرد على أناجيل النصارى (السير: وهو غير إظهار تبديل اليهود والنصارى) . 27 - زجر الغاوي: (السير: جزءان) . 28 - رسالة المعارضة (السير) . 29 - اليقين في النقض على الملحدين المحتجين عن إبليس اللعين وسائر

الكافرين (الفصل 3: 150، 5: 48 في الرد على عطاف بن دوناس؛ والسير: اليقين في نقض تمويه المعتذرين عن ابليس وسائر المشركين، في مجلد) . 30 - الرد على من اعترض على الفصل (السير: في مجلد) . 31 - ذو القواعد (الاحكام 1: 31، 3: 57؛ 5: 31؛ السير: در القواعد في فقه الظاهرية، ألف ورقة) . 32 - الإملاء في قواعد الفقه (السير: ألف ورقة) . 33 - الرسالة اللازمة لأولي الأمر (السير) . 34 - قصر الصلاة (السير: رسالة صغيرة) . 35 - التصفح في الفقه (السير: في مجلد) . 36 - الفرائض (السير: في مجلد) . 37 - مختصر الموضح من تأليف أبي الحسن المغلس (السير: في مجلد) . 38 - مختصر في علل الحديث (السير: في مجلد) . 39 - رسالة في معنى الفقه والزهد (السير) . 40 - الاظهار لما شنع به على الظاهرية (السير) . (1) 41 - مراتب الديانة. 42 - مهم السنن. 43 - جزء في فضل العلم وأهله (السير) . 44 - أجوبة على صحيح البخاري (فتح الباري 1: 17 وكشف الظنون) .

_ (1) هذه العلامة تفيد أن الأستاذ أبا عبد الرحمن ابن عقيل لم يشر إلى المصدر الذي اعتمده.

45 - الخصال (وهو متن الإيصال) (السير، الإيصال الحافظ لجميع شرائع الإسلام؛ النبذ: الخصال) . 46 - الانصاف (في الرجال) (لسان الميزان 6: 217) . 47 - مختصر كتاب الساجي في الرجال (مرتب على الحروف / ميزان الاعتدال (ترجمة خالد بن عكرمة) ؛ والاعلان بالتوبيخ: 348. 48 - الحدود (التهذيب لابن حجر 7: 185) . 49 - نسب البربر (السير: في مجلد) 50 - ترتيب مسند بقي بن مخلد. 51 - جزء في أوهام الصحيحين. 52 - كتاب اختلاف الفقهاء الخمسة: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وداود (السير) . 53 - القراءات (المحلي 3: 253، 366) . (1) 54 - كتاب تفسير: حتى إذا استيأس الرسل. 55 - رسالة في آية: فغن كنت في شك مما أنزلنا إليك. 56 - رسالة في أن القرآن ليس من نوع بلاغة الناس (الفصل 1: 107) . 57 - مقالة السعادة (السير) . 58 - تسمية شيوخ مالك (السير) . 59 - شيء في العروض (السير) . 60 - تسمية الشعراء الوافدين على أبي عامر (المنصور) (السير) . 61 - غزوات المنصور بن أبي عامر (السير) .

_ (1) هذه العلامة تفيد أن الأستاذ أبا عبد الرحمن ابن عقيل لم يشر إلى المصدر الذي اعتمده.

62 - تواريخ أعمامه وأبيه وأخواته وبنيه وبناته، مواليدهم وتاريخ من مات منهم في حياته. 63 - الترشيد في الرد على كتاب الفريد لابن الراوندي (السير: مجلد) . 64 - الاستجلاب (السير، مجلد) . 65 - رسالة التأكيد (السير) . 66 - الضاد والظاء (السير) . 67 - بيان البلاغة والفصاحة، رسالة في ذلك إلى ابن حفصون (السير) . 68 - رسالة في الطب النبوي (السير) . 69 - اختصار كلام جالينوس في الأمراض الحادة (السير: نقلا عن الطب النبوي) . 70 - كتاب في الأدوية المفردة (السير: نقلاً عن الطب النبوي) . 71 - بلغة الحكيم (السير: نقلا عن الطب النبوي) . 72 - حد الطب (السير: نقلا عن الطب النبوي) . 73 - مقالة في شفاء الضد بالضد (السير: عن الطب النبوي) . 74 - شرح فصول بقراط (السير: نقلا عن الطب النبوي) . 75 - مقالة في النحل (السير: نقلا عن الطب النبوي) 76 - مقالة في المحاكمة بين التمر والزبيب (السير: نقلا عن الطب النبوي) . 77 - مسألة هل السواد لون أم لا (لعلها من الفصل، وقد نشرها النادي الأدبي في الرياض 1979) . 78 - كتاب التبيين في هل علم المصطفى أعيان المنافقين (السير: في ثلاث مجلدات) .

79 - إجازة لتلميذه شريح (تكملة ابن الأبار) . 80 - إجازة للحسين بن عبد الرحيم (تكملة ابن الأبار) . 81 - (1) - المرطار في اللهو والدعابة. 82 - كتاب العظايم (حاشية الورقة 90/ أمن نسخة شهيد علي) . 83 - كتاب العانس في صدمات () (المصدر السابق نفسه) . - 3 - وتحتوي هذه المجموعة الأولى على أربع رسائل هي: طوق الحمامة، ومداواة النفوس، والغناء الملهي، ومعرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها. وان ما يجمع بينها في نطاق أنها " ذاتية " في طابعها العام، وتتصل بشخص ابن حزم، وتلقي أضواء على نفسيته وتأملاته، وتصور تسامحه إزاء الحب والغناء على وجه الخصوص، وستكون كل مجموعة من الرسائل بعدها خاضعة لرابطة تنتظمها، متقاربة في إطارها العام وموضوعاتها. ولست أرى من الضروري أن أخص حياة ابن حزم بدراسة شاملة في مقدمة هذه الرسائل، فقد كتبت عنه كتب ودراسات كثيرة في لغات مختلفة، تجد أسماءها في ثبت المصادر والمراجع. وأنا مدين في إعداد هذه الرسائل إلى عون أحد أبنائي الأعزاء العاملين في حقل الدراسات الأدبية وهو السيد ماهر زهير جرار، وفقه الله فيما ارتضاه لنفسه من انتهاج طريق العاملين في ميدان العلم. بيروت في تموز (يوليه) 1980 إحسان عباس

_ (1) هذه العلامة تفيد أن الأستاذ أبا عبد الرحمن ابن عقيل لم يشر إلى المصدر الذي اعتمده.

طوق الحمامة في الألفة والألاف

طوق الحمامة في الألفة والألاف

فراغ

تصدير

تصدير - 1 - منذ أن أصدر المستشرق بتروف طبعة من كتاب طوق الحمامة (1914) اعتماداً على النسخة الوحيدة منها المحفوظة في ليدن بهولندة، توالت الأيدي على طبع هذه الرسالة في الشرق وعلى ترجمتها في الغرب؛ ولابد أن تكون لهذه الرسالة أهمية خاصة حتى تنال كل ما نالته من عناية حتى اليوم. وقد كانت معظم الطبعات التي صدرت في المشرق العربي عالة على طبعة بتروف، وهي طبعة أمينة للأصل المخطوط؛ ولكن هناك مواطن كثيرة فيها يعسر فهمها، واكبر الظن ان ذلك يعود إلى تصحيف أو تحريف في القراءة. وكنت أعجب دائماً كيف صدرت تلك الترجمات لطوق الحمامة من قبل أن يستقيم فيها النص ويصبح مفهوماً دون حاجة إلى تأول متعسف. وقد كان أجراً من حاول الخروج عن قراءة بتروف هو ليون برشيه، الذي طوق الحمامة مع ترجمة فرنسية (الجزائر 1949) ، ولكن برشه، رغم التوفيق الذي واكبه في بعض القراءات، أسرف أحياناً في البعد عن الأصل المخطوط، طلباً لصحة المعنى واستقامته. ولست أدعي أنني أقدم اليوم نصاً بارئاً من كل خطأ، ولكني في

الطبعات العربية من طوق الحمامة

هذه المحاولة استطعت أن أصحح كثيراً من الأخطاء في النص نفسه، وفي أسماء الأعلام، وأن أزود هذه الطبعة بتعليقات أراها ضرورية. - 2 - الطبعات العربية من طوق الحمامة 1 - طوق الحمامة تحقيق د. ك. بتروف (مع مقدمة بالفرنسية) ليدن 1914. 2 - طوق الحمامة، ط. دمشق، 1349 1930. 3 - طوق الحمامة (نص وترجمة فرنسية) لليون برشيه، الجزائر 1949. 4 - طوق الحمامة، ط. القاهرة (طبعة شعبية) 1950. 5 - طوق الحمامة، تحقيق حسن كامل الصيرفي ومقدمة لإبراهيم الابياري، القاهرة 1950. 6 - طوق الحمامة، تحقيق فاروق سعد، دار الحياة، بيروت 1968. 7 - طوق الحمامة، تحقيق الدكتور الطاهر مكي، القاهرة 1977. 8 - طوق الحمامة، ط. مؤسسة ناصر الثقافية ببيروت، 1978 (طبعة شعبية) . 9 - طوق الحمامة، تحقيق الدكتور إحسان عباس (في المجموعة الأولى من رسائل ابن حزم، ط. المؤسسة العربية، بيروت 1980) . - 3 - ترجمات طوق الحمامة " الإنجليزية والروسية والألمانية والإيطالية والفرنسية والأسبانية " 1 - Abook Containing the Risala Known as the Dow " s Neck - Ring، about Love and Lovers، composed by Abu Muhammad Ali ibn Hazm al - Andalusi، trans. By A. R. Nykl، Paris، Geuthner، 1931. 2 - A. Salie. (ترجمة روسية) ، Leningrad، 1933. 3 - Halsband Der Taube Uber die Liebenden، von Max Weisweiler، Leiden، 1944. 4 - II Collare della Colomba، versione dall " arabo di Francesco Gabrieli، Bari، 1949. 5 - Le Collier du Pigeon، Par Leon Bercher، Alger، 1949. 6 - El Collar de Ia Paloma، Traducido del Arabe por Emilio Garcia Gomez. Madrid 1952 (2، a edicion 1967) .

دراسات عن طوق الحمامة

دراسات عن طوق الحمامة (1) 1 - باللغة العربية 1 - طوق الحمامة لابن حزم، دراسة ليوسف الشاروني (في كتاب دراسات في الحب، - كتاب الهلال 1966) ص 43 - 71 وانظر مجلة المجلة العدد 102 (ص 76 - 85) القاهرة. 2 - ابن حزم وكتابه طوق الحمامة للدكتور الطاهر مكي (فيه فصول متعددة عن طوق الحمامة) الطبعة الثانية، القاهرة 1977. 3 - تأثير طوق الحمامة في الأدب العالمي للدكتور الطاهر مكي (مجلة آفاق عربية، العدد الأول 1976، بغداد) . 4 - طوق الحمامة لأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري (بحث نشر في مجلة العرب، السنة الثالثة ص 227، 713) . 5 - في الحب والحب العذري للدكتور صادق جلال العظم، بيروت 1968 (ليس خاصاً بكتاب الطوق، ولكنه يعتمد عليه) . 6 - ابن حزم الفقيه الذي عالج الحب في رسالته الشهيرة " طوق الحمامة " لمحمد أبو زهرة، مجلة العربي، أغسطس (1963) العدد: 57. 7 - مقارنة بين طوق الحمامة وكتاب المصون في سر الهوى المكنون لأبي إسحاق الحصري للدكتور محمد بن سعد الشويعر (مجلة الفيصل، السنة الأولى، عدد 10) ص: 16 - 21. 2 - باللغات الأجنبية: Leon Bercher؛ A propos du texte du " Tawq al - Hamama " d " Ibn Hazm، Melange W. Marcais، 1950، pp. 29 - 36.

_ (1) تراجع الكتب المؤلفة عن ابن حزم، ففي أكثرها يتعرض الدارسون لهذا الكتاب.

- Ibn Hazm et Son " Tawg al - Hamama "، Bulletin des etudes arabes، 7، (1947) pp. 3 - 6. Cauq al - Hamama، Islamica 5، (1932) pp. 474 - 474. E Garcia Gomez: " El Collar de Ia Paloma " y Ia medicina occidental، Homenaje a Millas - Vallicrosa I، 1954، pp. 701 - 706. - Una nota al Capitulo XXX del " Collar de Ia Paloma "، Andalus، 18، (1953) pp. 215 - 217. - Un Precedente y une consecuencia del " Collar de Ia Paloma " Anda lus 16 (1951) pp. 309 - 330. - El " Tawq " de Ibn Hazm y el " Diwan al - Sababa "، Andalus، (1941) pp. 65 - 72 (1) . E. Levi - Provencal: En relisant le " Collier de la Colombe "، Andalus، 15 (1950) pp. 335 - 375. W. Marcais: Observations Sur le texte du " Tawq al - Hamama " d " Ibn Hazm، Mem. H. Basset II، 1928، pp. 59 - 88. J. Lomba Fuentes: La beaute objestive chez Ibn Hazm cahiers de civilisation medievale، 7 (1964) pp 1 - 18، 161 - 178.

_ (1) راجع المصدر السابق: 331 - 339.

نظرة في رسالة طوق الحمامة

نظرة في رسالة طوق الحمامة 1 - آراء في الحب قبل أبن حزم: يبدو إن حوار " المأدبة " لأفلاطون كان معروفاً على نحو ما في القرن الثالث الهجري لدى المثقفين المسلمين، وإن لم نجد له ذكراً صريحاً بين كتب أفلاطون في المصادر العربية (1) . ويدور حوار المأدبة حول موضوع " الحب " أو " العشق " على نحو غير حواري في البداية، إذ يتوالى على الحديث في الموضوع على صورة " المقام " خمسة من المتحدثين، اجتمعوا في بيت أحدهم، وأحبوا أن يتجنبوا الاستسلام إلى نوبة من الشرب بعد انتهائهم من الطعام، فتناوبوا الحديث واحداً بعد آخر، وعرض كل واحد منهم وجهة نظره في الحب، فلما جاء دور السادس، وهو سقراط، رأى جاداً أو هازلاً، إنه يقصر في البلاغة عن مدى كل منهم، وهو في حقيقة الأمر ينتقد الطريقة " الخطابية " التي عالجوا فيها الموضوع، ولذلك تحول إلى طريقته المفضلة وهي " الحوار " المتنامي، الذي يستحث فيه محاوره إلى الالتزام بحدود واضحة بعد إذ يتحول به إلى ظل له وفي أثناء ذلك أنتقل سقراط يقص حواراً جرى بينه وبين امرأة سماها ديوتيما عرفة بفنون

_ (1) من بين كتبه المترجمة كتاب " في اللذة المنسوب إلى سقراط " وقد ذهب فرانز روزنتال ورتشارد فالتسر في تعليقاتهما على كتاب الفارابي " فلسفة إفلاطون وأجزاؤها ومراتب أجزائها.. " إلى أن " في اللذة " لابد أن يكون هو " المأدبة "، وتعقبهما الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه " إفلاطون في الإسلام " (ص: 31) ورفض التوحيد بين الكتابين، وحججه غير مقنعة؛ وكل قطع في هذا الأمر قبل أن يعثر على نصوص من كتاب " في اللذة " لا يؤخذ على علاته.

الحب، حول الموضوع نفسه، وعندما ينتهي سقراط من آراء تلك المرأة، يدخل القبيادس مع شلة من السكارى، ويتجه الحديث وجهة عملية، إذ يكون دور المتحدث السابع - وه القبيادس - أن بين مميزات سقراط، وخاصة في الحب، وعلى نحو أخص في محبته لالقبيادس نفسه. وفيما كانت الجلسة تنحو نحواً جديداً، بعد أن انتهى كلام السابع، جاء جمع من السكارى آخر، ووجدوا الباب مفتوحاً فدخلوا، وكثر الضجيج وأنتقض النظام، وانفضت الجلسة على نحو ما. ذلك هو الإطار العام الذي جرى فيه " حوار المأدبة " - دون المحتوى - ولعله أو إطاراً شبيهاً به (1) هو الذي أوحى بعقد ذلك " المقام " حول " العشق " في مجلس يحيى بن خالد البرمكي (190/805) (2) ، فقد كان يحضر ذلك المجلس عدد غفير من أهل البحث والنظر مثل أبي الهذيل العلاف وهشام بن الحكم والنظام وبشر بن المعتمد وثمامة بن أشرس والموبذ قاضي المجوس وغيرهم؛ وقد كان عدد المتحدثين في مجلس يحيى ثلاثة عشر، وهم وإن لم يحاولوا ترسم حوار فيما بينهم فقد اكتفوا بحكاية الشق الأول من " حوار المأدبة "، إذ تناول كل منهم " العشق " حسب تصوره له، بوصف موجز، وربما لم يكن فيهم من أعتمد الآراء التي وردت في " حوار المأدبة " حول العشق، ولكن الإطار نفسه يربط بين مجلسهم والمأدبة؛ وشيء آخر أهم من الحوار وهو تلك التوطئة في كل من المجلسين، فقد بدأ " حوار المأدبة " بالشكوى من أن جميع الأرباب تصاغ فيهم الأناشيد والمدائح إلا رب الحب، بل إن المعلمين المحترفين من السوفسطائيين يؤلفون الكتب والخطب في أصغر

_ (1) إن توالي عدد من الحكماء اليونانيين في الحديث حول موضوع معين أصبح صورة محببة لدى المفكرين المسلمين، مثل تواليهم في تأبين الإسكندر، وفي مواقف أخرى أورد بعضها حنين أبن إسحاق في كتابه " نوادر الفلاسفة " (أنظر ملامح يونانية ص 111 وما بعدها، والملحق رقم: 2) . (2) أنظر المسعودي: مروج الذهب (ط. شارل بلا، بيروت 1973) 4: 236 - 241.

الموضوعات كفائدة الملح للإنسان، وليس ثمة واحد يقف ليثني على " الحب "؛ وفي مجلس يحيى فاتحة مشابهة، فقد وجه رب المجلس حديثه إلى المثقفين والموجودين في حضرته، بالتذمر من أنهم أسرفوا في الحديث عن كل نقطة، مهما تدق، في علم الكلام، فتحدثوا عن الكمون والظهور والقدم والحدوث والنفي والإثبات والحركة والسكون والجزء والطفرة والأجسام والإعراض، وإنهم قد أشبعوا القول في هذه القضايا وسواها، ومن حق العشق عليهم أن يقولوا فيه شيئاً - دون منازعة (1) - ودون استعداد سابق، بل بما سنح لهم في الوقت، على نحو ما جرى في " حوار المأدبة ". وليس يهمني هنا: أحدث ذلك المجلس حقاً أم لم يحدث، وهل ضم تلك الشخوص أو لم يضم، وإنما الذي يهمني هو هذا " الأنموذج " الذي يقرب إلى الظن أن " حوار المأدبة " على نحو ما، أو شيئاً شبيهاً به، كان معروفاً لدى المثقفين المسلمين في أواخر القرن الثاني أو أوائل الثالث، وإلا فلماذا " العشق " من دون سائر الموضوعات ينتدب إلى الكلام فيه على نحو واقعي أو متخيل - عدد من مفكري ذلك العصر لقد ملأ الحديث عن الحب الشعر العربي والحكايات والأسعار حتى حينئذ، وكان لابد - في ظل الثقافة اليونانية - أن يتصدى له " المتفلسفون " ليحددوا طبيعته وماهيته، على نحو يذكر المأدبة. بل إننا لا نستطيع أن ننفي الصلات الموضوعية بين مجلس يحيى والمأدبة، معتمدين الحافز والإطار موضوعين للتشابه بينهما وحسب، فإن المدقق في أحاديث المتكلمين في مجلس يحيى يلمح بعض المشابه في التعبير عن " الحب " أو " العشق ". هذا هو " فايدرس " المتحدث الأول في " المأدبة " يتناول الحب من حيث هو قوة محولة، تجعل الحب يتوجه نحو الفضيلة وينفر من الرذيلة ومن كل ما يجر العار على نفسه في سبيل رضى

_ (1) " دون منازعة "، وهي التي حددت عدم ظهور الحوار، على نحو متعمد.

المحبوب، مثلما إن الحب يقترن بالتضحية، مورداً هنا مثل " لقست " (Alcestis) الزوجة الوفية التي ضحت بنفسها من أجل زوجها بعد أن أنكره كل الناس حتى أبوه وأمه (1) . ويقول أبو الهذيل العلاف " غير أن العشق من أريحية تكون في الطبع وطلاقة توجد في الشمائل، وصاحبه جواد لا يصغي إلى داعية المنع ولا يصيخ لنازع العذل " (2) . ويقول آخر: " وأيسر ما يبذله لمعشوقه أن يقدم دونه " (3) - وتلك هي التضحية - ويصف أغاثون - وهو المتحدث الخامس - كيف إن الحب نموذج للرقة، رشيق، جميل القسمات يعيش بين الأزهار، وإنه شجاع حكيم وكل من يمسه يصبح حكيماً، وإنه يقرب بين النفوس ويزيل الشعور بالاغتراب، وهو أبو اللياقة واللطف وكل ضرب الفضل (4) ، وإذا نحن تغاضينا عن التشخيص أحياناً في العبارات اليونانية - لأن الحديث عن الحب في العربية كثيراً ما ينصرف إلى المحب نفسه - وجدنا أحد المتحدثين في مجلس يحيى يقول: " هو (ي الحب) من بحر اللطافة ورقة الصنيعة وصفاء الجوهر (5) " وآخر يقول أنه " موسوم بالبراءة ولطف الصورة " (6) ويقول: " وإلى غاية الرقة يضاف صاحبه " (7) .. وثالثاً يقول: " العشق أرق من السراب وأدب من الشراب " فهذه كلها مواطن للتشابه قد ترجح القول بمعرفة " المأدبة " وقد تكون أيضاً نتيجة نظرة مستقلة في جانب من تلك التجربة الإنسانية المشتركة بين الناس.

_ (1) (The Symposium by Plato، translated by W.Hamilton (Penguin Books، 1956) pp. 42 - 45. وخلاصة القصة أن أبولو انبأ أدميتس ملك فيراي إحدى مدن تشطاليا بأن الموت مدركه لا محالة إن لم يجد من يموت نيابة عنه، فرفض أبوه وأمه ذلك، وتقدمت روجه لقست لتفديه بنفسها. (2) المسعودي 4: 237. (3) المسعودي 4: 239. (4) (He Symposium، pp. 68 seq) . (5) أنظر المسعودي 4: 237، 240، 238. (6) أنظر المسعودي 4: 237، 240، 238. (7) أنظر المسعودي 4: 237، 240، 238.

على أنا قبل أن نغادر مجلس يحيى بن خالد علينا أن نتذكر أموراً سنحتاج إليها كلما تقدمت بنا الخطى في طريق هذا البحث، ومنها: 1 - أن أولئك المفكرين يكادون يجمعون على أن الحب اتصال بين الأرواح أو النفوس (أو بين روحين ونفسين) على سبيل المشاكلة، والتكافؤ في الطريقة، والمطابقة والمجانسة في التركيب، أو إنه تمازج بين جواهر النفوس بوصل المشاكلة والمناسبة والمساكنة، أو انه اتفاق الأهواء وتمازج الأرواح وتراوح الأشباح. 2 - أن بعض أولئك المفكرين ذهب إلى القول بنورانية الحب: " انبعث لمح نور ساطع تستضيء به نواظر العقل وتهتز لإشراقه طبائع الحياة " (1) . 3 - عبر أكثرهم عن قوة الحب وسلطانه ونفوذه بصور مختلفة لكن المرمى فيها واحد، مثل: " له نفوذ في القلب كنفوذ صيب المزن في خلل الرمل " و " له مقتل في صميم الكبد ومهجة القلب " و " أدب من الشراب له سحابة غزيرة تهمي على القلوب فتعشب شغفاً وتثمر كلفاً " و " له دبيب كدبيب النمل " و " يسور في البنية سوران الشراب " الخ. 4 - أتفق أكثرهم على وصف حال المحب بالتذلل وما إليه من مظاهر فقالوا: إنه يخضع لعبد عبده، دائم اللوعة، طويل الفكر، صومه البلوى، وإفطاره الشكوى، أذل من النقد، يهش لكل عبد، ويؤسر بكل طمع، يتفوه بالأماني ويتعلل بالأطماع. 5 - وأنفرد الموبذ قاضي المجوس بالربط بين الحب وحركات النجوم والفلك " الأسطقسات تولده والنجوم تنتجه وعلل الأسرار العلوية تصوره تنبعث خواطره بحركات فلكية الخ ".

_ (1) المسعودي 4: 240 وقارن بما أورده أبن القيم في روضة المحبين: 139.

إن مثل هذه النظرات، يدلنا على لون " الفكر " الذي كان رائجاً حول الحب في المشرق قبل أبن حزم، ويبين إلى أي مدى التقت مفهوماته عن طريق التجربة، بما وقر في نفسه عن طريق الثقافة. ولكن المشرق قبل أبن حزم عرف آراء ونظرات أخرى في الحب، أطلع عليها أبن حزم من بعد، وكان أهمها ما قرأه في كتاب الزهرة (1) لأبي بكر محمد بن داود الأصبهاني (- 297/ 910) وهو ظاهري أيضاً، فقد جاء في ذلك الكتاب: " وزعم بعض المتفلسفين أن الله - جل ثناؤه - خلق كل روح مدورة الشكل على هيئة الكرة، ثم قطعها أيضاً، فجعل في كل جسد نصفاً، وكل جسد لقي الجسد الذي فيه النصف الذي قطع من النصف الذي معه، كان بينهما عشق للمناسبة القديمة، وتتفاوت أحوال الناس في ذلك على حسب رقة طبائعهم " (2) . وقد أطلع أبن حزم على هذا القول ونسبه إلى أبن داود ولكنه أورده على النحو الآتي: " الأرواح أكر مقسومة، لكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي، ومجاورتها في هيئة تركيبها ". وبين النصين اختلاف جوهري، ولكن هذا يجب ألا يستوقفنا أيضاً، إنما الذي يستوقفنا هو فكرة " الأكر " التي انقسمت: من أين تسربت هذه الفكرة إلى أبن داود إن هذه الفكرة تقوي الحجة بأن كتاب " حوار المأدبة " كان معروفاً على نحو ما في القرن الثالث، لأنه -

_ (1) دخل كتاب الزهرة إلى الأندلس - في أوائل القرن الرابع على أكثر تقدير - وقد عارضه أحمد بن فرج الجياني فألف علة نسقه كتاب " الحدائق " للحكم المستنصر واقتصر فيه على أشعار الأندلسيين، وكانت وفاة أبن فرج في سجن المستنصر (لعله إذن توفي قبل سنة 366) . وكان أبن حزم معجبا بالكتابين، وهو يقول في كتاب ابن فرج " أحسن الاختيار فيه ما شاء، وأجاد فيه فبلغ الغاية فأتى الكتاب فردا في معناه " (الجذوة: 97 وأنظر ترجمة ابن فرج في المغرب 2: 56 والمطمح: 79 ومعجم الأدباء 4: 236 والمطرب: 4 وفي الجذوة والحلة السيراء نقول كثيرة عن الحدائق) . (2) النصف الأول من كتاب الزهرة: (تحقيق لويس نيكل ومساعدة إبراهيم طوقان، بيروت 1932) ص: 15.

فيما اعتقد - مصدر تلك الفكرة. فالمتحدث الرابع في المأدبة، وهو الكاتب الكوميدي أرسطوفان، يرى أن الخلق كانوا ثلاثة أصناف، ذكوراً، وإناثاً وخليطاً من هذين، وكان كل مخلوق بشري كلاً كاملاً، ظهره وجانباه مدوران على شكل كرة، وكان له أربع أيد وأربع أرجل ووجهان متماثلان قائمان على رقبة مستديرة، وكان هذا المخلوق يمشي في شكل دائري، وكان قوياً مخوفاً، فرأى الإله أن يضعف من قوته، فشقه نصفين، ومنذ ذلك الحين أخذ كل نصف يتوق إلى النصف الآخر الذي أنفصل عنه، فإذا التقيا تعانقا كأنما يطلبان الاتحاد. فإذا كان النصفان المتلقيان ذكراً وأنثى نتج عن تلاقيهما التناسل، فوجدا الاكتفاء في الاتصال، وانصرف الذكر بعده إلى ممارسة شؤون الحياة الأخرى، وإذا حدث التجاذب بين ذكر ومثله، نشأت بينهما عاطفة قوية غلابة تخلق متعة في الصحبة، ولكن لا أحد يستطيع أن يقول إنها قاصرة على الجسد بل إن روح كل منهما تتوق إلى الأخرى توقاً لا تستطيع أن تصفح عنه. وعلى هذا فليس الحب سوى محاولة للعودة إلى الحال التي كان الآدميون عليها. فهو رغبة في استعادة الوحدة القديمة (1) . إن هزل أرسطوفان في معرض الجد قد تحول وتحور حين انتقل إلى بيئة بغداد في القرن الثالث؛ فموضوع الحب في المأدبة، وهو حب بين الذكران، ويكاد لا يتوقف عند حب الذكر للأنثى، قد اختفى، ولم يستطع إلا أن يومئ إليه إيماء من وراء ستار النظرية شخص مثل أبن داود شهر بحب حدث أصبهاني يقال له محمد بن جامع أو وهب بن جامع (2) ، وانقسام الأجساد في ذلك التصوير شبه الهزلي لدى أرسطوفان أصبح عند أبن داود انقساماً في روح كرية جعلت في جسدين، فأخذ كل نصف يفتش عن نظيره، وكان ذلك التحول والتحور ضرورياً لفقيه

_ (1) بإيجاز عن (Symposium) ص: 59 وما بعدها. (2) الصفدي: الوافي بالوفيات 3: 59.

ولمجتمع " استعلائي " النظرة، تحول عفته الدينية - أو تعففه - دون التسليم ببحث الجسد عن جسد مناظر له. وفي المأدبة استطاع سقراط وحده أن يتحول بالحب - حسب تعليمات " ديوتيما " - إلى مجال آخر: فقد تدرج من أن الحب " روح " (أو شيء يشبه الملاك) وسيط بين الله والخلق، وإن هذه الروح تحفز إلى اختيار المحبوب، وذلك هو الجمال أو الخير، والرغبة في ذلك تؤدي إلى السعادة، وهذه الرغبة تعبر عن ذاتها بصور مختلفة، فالناس يقولون إن النصف يبحث عن نصفه ولكن سقراط يرى أن الحب ليس رغبة في الاتحاد بالنصف، وإنما هو رغبة في الاحتياز السرمدي للمحبوب - وهو الخير - ومهمة الحب هي " التناسل " فكل الناس " حاملون " روحياً وجسدياً، وعندما يحين الحين يحسون بالحاجة إلى " الوضع "، ولا يستطيعون ذلك إلا في الجمال لا في القبح، وهذه " الولادة " هي أقرب شيء إلى الخلود مع الخير، فالحب إذن هو حب الخلود، مثلما هو حب الخير وهما سيان؛ فمن كانت غريزته في " التولد " جسدية بحث عن المرأة، ومن كانت رغبته في " التولد " روحية بحث عن الحكمة؛ وهكذا يتدرج الحب: من تأمل الجمال الجسدي في واحد " يفرخ " في تأمله مشاعر جميلة، ثم إلى تأمل الجمال المطلق خارج هذا العالم، وهكذا يتم الانتقال في الحب من المادي إلى المعنوي ومن المعنوي إلى جمال المعرفة، ومنها إلى جمال المعرفة الكلية العليا (1) . وهذا التدرج هو الذي لفت أنظار إخوان الصفا، فبعد أن قرروا أن النفوس تتفاوت في المحبة بين نفس شهوانية وأخرى حيوانية وثالثة ملكية (ناطقة) وأن في جبلة النفوس محبة البقاء السرمدي (2) تحدثوا

_ (1) بإيجاز عن (Symposium) ص: 81: 94. (2) رسائل أخوان الصفا (ط. بيروت) 3: 279 - 280.

عن تدرج النفس من المادي إلى الروحاني فقالوا: " ثم أعلم أن الغرض الأقصى من وجود العشق في جبلة النفوس ومحبتها الأجساد واستحسانها لها ولزينة الأبدان، واشتياقها إلى المعشوقات المفتنة، كل ذلك إنما هو تنبه لها ومن نوم الغفلة ورقدة الجهالة ورياضة لها وتعريج لها وترقية من الأمور الجرمانية إلى المحاسن الروحانية ودلالة على معرفة جوهرها " (1) ذلك لأن كل المشتهيات في الأجساد رسوم طبعتها فيها النفس الكلية، فإذا تأملتها النفس الجزئية حنت إليها، وأحبتها، فإذا غابت تلك الرسوم بقيت المحبة، لأنها تمثل تشوق النفس الجزئية إلى النفس الكلية، والنفس الكلية تشبه بالباري تعبداً له واشتياقاً ليه، ولذلك كان الله هو المعشوق الأول الذي تشتاق إليه جميع الموجودات ونحوه تقصد لأنه هو الموجود المحض، وله البقاء السرمدي والكمال المؤبد (2) . وعلى الرغم من تحول إخوان الصفا إلى نظرة أفلوطونية واضحة، فليس ببعيد إذن أن تكون " المأدبة " مصدراً لكثير من تلك التصورات عن الحب، ولكنها وأشباهها تمثل المصدر الفلسفي، وهو مصدر يقف في موازاته المصدر الطبي؛ فقد كان ابن داود نفسه يعرف أن بعض المتطببين يقول، " العشق طمع يتولد في القلب، وتجتمع إليه مواد من الحرص، فكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج وشدة القلق وكثرة الشهوة، وعند ذلك يكون احتراق الدم واستحالته إلى السوداء والتهاب الصفراء وانقلابها إلى السوداء، ومن طغيان السوداء فساد الفكر، ومع فساد الفكر تكون الفدامة ونقصان العقل، ورجاء ما لا يكون وتمني ما لا يتم، حتى يؤدي ذلك إلى الجنون، فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه، وربما مات غماً، وربما نظر إلى معشوقه فيموت فرحاً أو أسفاً، وربما شهق شهقة فتختفي فيها روحه أربعاً وعشرين ساعة فيظنون أنه قد مات فيقبرونه وهو حي، وربما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه

_ (1) رسائل 3: 282. (2) أنظر المصدر نفسه: 282 - 286.

وينضم عليها القلب فلا ينفرج حتى يموت، وربما ارتاح وتشوق للنظر أو رأى من يحب فجأة فتخرج نفسه فجأة دفعة واحدة " (1) . ولا يرى ابن داود بأسا في أن يقرن بين هذا التفسير الطبي في الحب، وهو قائم على نظرية الطبائع والأخلاط، متصل بالجسد اتصالاً وثيقاً، غير معترف بأي دور للروح أو للنفس في مجال الحب وبين حديث آخرين عن النفوس - أو الأرواح - الكرية التي انقسمت " في مقر عالمها العلوي " (حسب مفهوم ابن حزم) دون أن يعلق على المفارقة القائمة بين النظريتين. وأسوا من ذلك صنيع إخوان الصفا، فإنهم حشدوا جميع الآراء في نطاق، فأوردوا قول من قال إن العشق جنون إلا وهي (2) - وهو رأي ذكره ابن داود نفسه (3) - وتحدثوا عن آراء الأطباء فيه، حسبما جاء عند ابن داود (4) ، وهو رأي لم يلبث أن نسب إلى أفلاطون نفسه أيضاً (5) ، بل زاد إخوان الصفا زيادة في فهم الحب الجسدي اربت على كل شيء ساب، وإن كان توجههم النهائي أفلوطينياً، فزعموا أن العاشق والمعشوق إذا تباوسا وامتص كل واحد منهما ريق صاحبه وبلعه وصلت تلك الرطوبة إلى معدة كل واحد منهما وامتزجت مع سائر الرطوبات، ثم وصلت إلى الكبد واختلطت بأجزاء الدم وانتشرت في العروق، وأصبحت جزءاً من تكوين الجسد، وإذا تنفس كل واحد منهما في وجه صاحبه اختلط ذلك مع الهواء المستنشق، ووصل بعضه إلى مقدم الدماغ، فاستلذ كل واحد ذلك التنسم، أو وصل إلى الرئة ومن الرئة إلى القلب، وأنتقل مع حركة النبض إلى سائر الجسد، وأختلط بالدم واللحم (6) .

_ (1) الزهرة 1: 17. (2) رسائل 3: 270. (3) الزهرة: 15 ونسب إلى أفلاطون. (4) رسائل 3: 271. (5) أفلاطون في الإسلام، نصوص جمعها وعلق عليها الدكتور عبد الرحمن بدوي (تهران 1973) ص 252 ونقله أبن القيم في روضة المحبين: 137 ونسبه لبعض الفلاسفة. (6) رسائل 3: 274 - 275.

واجتمع إلى هذين المصدرين الفلسفي والطبي - في تصور مفهوم الحب مصدر ثالث هو المصدر التنجيمي الذي رأينا بوادره عند الموبذ قاضي المجوس، وقد خضع ابن داود أيضاً لهذا المصدر (1) وقرنه بالمصدرين الآخرين، كما فعل شيئاً شبيهاً بذلك إخوان الصفا (2) وإن لم يكن تحديد المؤثرات النجومية متفقاً عليه بينهما. فإذا انتهينا إلى أواخر القرن الرابع وجدنا " تصعيداً " متعمداً لكل هذه النظرات لدى أبن سينا الذي يرى أن من شأن العاقل " الولوع بالمنظر الحسن من الناس " ولكن إن كان هذا الولوع لذة حيوانية فهو مستحق للوم (مثل الفرقة الزانية والمتلوطة) (3) ، ولهذا تستبعد لذة المباضعة، فأما المعانقة والتقبيل فإن كان الغرض منهما الاتحاد فليس بمنكر (وهذا هو الظرف) ، ولكن العشق الحقيقي هو عشق الخير المطلق عشقاً غريزياً، أي قبول تجليه على الحقيقة، وتجليه هو حقيقة ذاته، والنفوس الملكية عاقلة له وعاشقة ومتشبهة بما تعقله منه أبداً (4) . وهكذا ينتهي أبن سينا إلى ما انتهى إليه إخوان الصفا، دون أن ندري يقيناً أيهما كان قبل الآخر، ويكون المتفلسفة قد وصلوا إلى فكرة " الاتحاد " في الحب، وكان وصولهم إلى ذلك قبل المتصوفة، على الأرجح. غير أن القرن الثالث شهد مفهوماً رابعاً للحب (إلى جانب المفهوم الفلسفي والطبي والنجومي) ؛ وهذا المفهوم صوفي أيضاً، لكنه لم يبلغ بعد درجة " الاتحاد " ولا ندري حقيقة من هو الذي قال به لأنه فريد في منزعه وهو يتلخص في أن الحب - على المستوى الإنساني - امتحان لكي يتلقن المحب درساً في طاعة محبوبه ويدرك معنى المشقة في مخالفته؛ وهذا

_ (1) الزهرة 1: 16. (2) رسائل 3: 273. (3) أبن سينا: رسالة في ماهية العشق (تحقيق وترجمة أحمد آتش، أستانبول 1953) ص: 18. (4) رسالة العشق: 25 - 29.

يهيئه ليدرك قيمة رضى الله تعالى، لأن الله تعالى أحرى بأن يتبع رضاه وتتجنب مخالفته (1) ؛ فكأن الحب الإنساني رياضة في مرحلة أولى ينتقل بعدها " العبد " إلى مرحلة ثانية. هذه المفهومات الأربعة للحب قد جمعت معاً - بشكل موجز - في كتاب " الزهرة "، وهو كتاب عرفه أبن حزم معرفة تمكن واستلهام، فلو لم يطلع على المصادر الشرقية الأخرى، لكان كتاب " الزهرة " وحده كافياً في هذا المجال. ولكنه كان يعرف من دون ريب مروج الذهب للمسعودي، وما ورد فيه من مقامات المتكلمين حول الحب، كما كان يعرف بعض الكتب الطبية، ولا أستبعد أن يكون قد عرف " فردوس الحكمة " لعلي بن ربن الطبري (247/ 861) أو مصدراً مشبهاً له، فالحديث عن ضروب المحبة عندهما متشابه، يقول أبن ربن: " فإن من شأن النفس الولوع والعجب بكل شيء حسن من جوهر أو نبت أو دابة (2) " ويقول أبن حزم: " فالظاهر أن النفس الحسنة تولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المتقنة (3) " ثم يتفقان على أن الإثارة الأولى بعد تحريك الإعجاب هي " الشهوة " ويتمايزان بعد ذلك في الاستنتاج. وليس ببعيد أيضاً أنه عرف مصادر شرقية أخرى ذات علاقة بالموضوع من قريب أو بعيد (4) ، هذا بالإضافة إلى ما كان يمده به الشعر المشرقي،

_ (1) الزهرة 1: 18. (2) فردوس الحكمة: 91. (3) طوق الحمامة: 4. (4) نشر الأستاذ غوسيه غومس (مجلة الأندلس 191 ص 309330) بحثاً درس في معظمه مواطن اللقاء بين طوق الحمامة وكتاب الموشى، وكثير مما أورده ليس سوى تشابه عارض، س أو هو يمثل خلاصة تجارب انسانية ومواقف شعرية حول الحب، وقد أشرت الى بعض تلك المقارنات في الحواشي، وأهملت ما رأيته تزيداً، فمثلا الحديث عن كيد النساء ومكرهن ليس من الضروري أن يجده ابن حزم لدى الوشاه، وكذلك الحديث عن علامات الحب من نحول واصفرار وقلة نوم.. الخ فمثل هذه الأمور تعد قدراً مشتركاً عند اثارة قضية " الحب ".

وحكايات العشاق المشارقة من ذخيرة كبيرة تصورات الشعراء والرواة والقصاص لموضوع الحب. ولعله لم يكن يجد في البيئة الأندلسية تنظيراً حول " الحب "، ولكن البيئة الأندلسية كانت تمده بشيئين هامين: أولهما ذلك الشعر العفيف المتشبه بالشعر العذري، نزولاً على أحكام الظرف والفتوة السليمة (وإن كان يوازيه في خط آخر شعر المجون) ؛ وقد مهد أبن فرج في كتاب " الحدائق " لذلك السياق الأندلسي الخالص في شعر الحب، وكان أبن حزم معجباً بكتابه، كما كان يزيد على ما عرفه أبن فرج أشعاراً كثيرة جدت من بعده وجرت في ذلك السياق، وأبو محمد ذو حافظة عجيبة وذوق رفيع في الحفظ والتخير، وذو رغبة حافزة للإطلاع على كل ما يتصل بالأندلس من تراث أدبي وغير أدبي؛ وثانيهما: قصص الحب في الأندلس، ومنها المتصل بالماضي ومنها التجارب المعاصرة التي جرت لأفراد يعرفهم أبن حزم أو يسمع عنهم، فذلك الشعر وتلك القصص كانا مظهرين هامين في " الحب الأندلسي ". فأما التنظير فقد بدأت بوادره تتسرب في مجالس الجدل كما يشير إلى ذلك كتاب الطوق نفسه، وفي المحاورة التي جرت بين أبن كليب القيرواني وأبن حزم أيام كونهما بقرطبة في التفلسف حول أمور تتعلق بالحب (1) ما يدل على ذلك: وإليك هذه المحاورة (ك أبن كليب، ح أبن حزم) . ك: إذا كره من أحب لقائي وتجنب قربي ما أصنع ح: أرى أن تسعى في إدخال الروح على نفسك بلقائه وإن كره. ك: (أنا) لا أرى ذلك بل أوثر هواه على هواي ومراده على مرادي، وأصبر ولو كان في ذلك الحتف. ح: إني إنما أحببته لنفسي ولالتذاذها بصورته فأنا أتبع قياسي وأقود أصلي وأقفو طريقتي في الرغبة في سرورها.

_ (1) أنظر الباب الرابع عشر، وهو باب الطاعة ص: 158 - 159.

ك: هذا ظلم من القياس. أشد من الموت ما تمني له الموت، وأعز من النفس ما بذلت له النفس. ح: عن بذلك نفسك لم يكن اختياراً بل كان اضطراراً ولو أمكنك ألا تبذلها لما بذلتها، وتركك لقاءه اختياراً منك أنت فيه ملوم لإضرارك بنفسك وإدخالك الحتف عليها. ك: أنت رجل جدلي ولا جدل في الحب يلتفت إليه. ح: إذا كان صاحبه مؤوفاً. ك: وأي آفة أعظم من الحب ومع أن هذا القيرواني هو الذي فتح باب الجدل، فانه عاد يلوذ بما أرقته الطبيعة الأندلسية نفسها حين اقتصرت على الشعر والقصص، ويقول " ولا جدل في الحب يلتفت إليه "، وكأنه يردد بهذا قول الشاعر المشرقي: ليس يستحسن في شرع الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج وعلى هذا الأساس - وخضوعاً لمنطق البيئة الأندلسية - لم يكن ابن حزم بحاجة إلى التنظير، وكان يكفيه منه القليل الذي وجده في كتاب الزهرة، كما سنرى من بعد. 2 - تسمية الرسالة: سمى ابن حزم رسالته " طوق الحمامة " فلماذا اختار هذا الاسم يقول الثعالبي: " طوق الحمامة يضرب مثلاً لما يلزم ولا يبرح ويقيم ويستديم (1) "، ترى هل هذا هو المعنى الذي أراده ابن حزم حين اختار هذه التسمية دعني أقرر أنها فريدة، بادئ ذي بدء، ولكن من درس أحوال الحب في الكتاب يجد ان معنى " الدوام " ليس من الأمور التي تلازم الحب، لا من حيث النظرية ولا من حيث التجربة، غير أن

_ (1) ثمار القلوب: 465.

هذا لا ينفي أن الطوق للحماسة زينة منحتها بدعاء نوح، حين أرسلها لتستكشف المدى الذي سترسو عنده سفينته، فطوق الحمامة هنا كناية عن استلهام الجمال الذي هو مثار الحب اعني جمال الطوق لأنه حلية متميزة عن سائر لون الحمامة. ولست أستطيع هنا أن أتحدث عن " الحمائم " التي تقود مركبة فينوس - ربة الحب - في الأساطير الرومانية، فربما كان التوجه إلى هذا المعنى إيغالاً في التصور، ونقلاً من حضارة إلى حضارة أخرى، ولست كذلك أتوجه إلى أفانين الحب التي يمارسها الحمام، والتي يرى الجاحظ - أو من نقل عنه - أنها هي عين الممارسات التي توجد لدى الإنسان (1) ، كأنما هي صورة طبق الأصل من شتى المواقف من إخلاص وغيرة وشذوذ وتضحية وما إلى ذلك من فنون، ولكني حين أجدني اصل إلى الحيرة في سر هذه التسمية، أتوقف عند " الجمال " " والتميز "، وكأني بابن حزم يقول: هذا كتاب يتحدث عن العلاقة السرية بين الجمال والحب أو هذا الكتاب بين الكتب كطوق الحمامة بالنسبة للحمامة؛ وعند هذا الحد أجد الثعالبي يقول ان الحمامة إنما أعطيت طوقها " من حسن الدلالة والطاعة "، فأضيف إلى الجمال والتميز عنصر " الطاعة " وهو عنصر هام في مفهوم الحب. ومع ان ابن حزم يقول في رسالته: " وكلفتني أعزك الله ان أصنف لك رسالة في صفة الحب وأسبابه وأعراضه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة " فغن العنوان الذي اختاره لرسالته هو " في الألفة والألاف "، يعني أنه تجاوز في رسالته ما كلفه به صديقه لأن " الألفة " كلمة اعم من " الحب " وهي ناظرة إلى الحديث الشريف في الأرواح: " فما توافق منها ائتلف ". وبسبب هذه العمومية نجده أحياناً يخرج في أمثلته. التي يوردها من دائرة العشق، وذلك شيء سأتحدث عنه عند الحديث عن العلاقة بين نظريته في الحب، وتطبيقه لتلك النظرية.

_ (1) الحيوان 3: 63.

3 - تاريخ التأليف: تقلبت الأحوال بابن حزم تقلباً جائراً في الفتنة، كان عمره حين انتقل أبوه من دورهم الجديدة بالجانب الشرقي (في ربض الزاهرة) إلى دورهم الجديدة في الجهة الغربية (أب بلاط مغيث) حوالي خمسة عشر عاماً وتسعة أشهر، وفي ذي القعدة من سنة 402 توفي والده (وقبلها بنحو عام توفي أخوه أبو بكر في الطاعون) ، وتوالت عليهم النكبات والاعتقال والمصادرة، ثم احتل جند البرابر منازل أهله، فاضطر للخروج عن قرطبة (أول المحرم سنة 404 / 1013) فذهب إلى المرية يطلب الاستقرار فيها، ولم تطل فيها إقامته، فقد نكبه صاحبها خيران العامري إذ اتهمه مع صاحبة محمد بن إسحاق بأنهما يسعيان في استعادة الدولة الأموية، فاعتقلهما اشهراً، ثم غربهما فذهبا إلى حصن القصر ونزلا على صاحبه عبد الله بن هذيل التجيبي فرحب بهما، ولما سمعا بقيام المرتضى عبد الرحمن بن محمد (407/ 1016) لإحياء الدولة الأموية ركبا البحر من حصن القصر إلى لقائه في بلنسية، وسكنا معه فيها. ويبدو أن ابن حزم سار إلى قرطبة بعد إخفاق المرتضى ومقتله عند غرناطة، ويبدو أن ابن الخليفة بقرطبة يومئذ القاسم بن حمود، فدخلها (409/ 1019) وبقي فيها حتى لاحت الفرصة بمبايعة عبد الرحمن بن هشام الناصري الذي لقب بالمستظهر (414/ 1027) فقرب إليه ابن حزم وابن عمه أبا المغيرة وابن شهيد، لكن هذه الخلافة لم تدم أكثر من سبعة وأربعين يوماً، وبويع المستكفي فاعتقل ابن حزم وغيره من رجال المستظهر وسجنهم، ثم نراه سنة (417/ 1026) في شاطبة، ولعله استوطنها قبل ذلك بقليل. وفي ذلك العام جاء إليه صديق من المرية (1) ونزل ضيفاً عنده بشاطبة، فلم يمض إلا وقت قصير حتى نشبت الفتنة بين أبي الجيش مجاهد العامري وخيران العامري (وكان ذلك سنة 417) فانقطعت الطرق بسبب هذه الحرب " وتحوميت السبل واحترس البحر بالأساطيل " فاشتد الكرب

_ (1) أقدر أن هذا الصديق هو الذي كتبت له رسالة طوق الحمامة.

بصديقه لأنه حيل بينه وبين العودة إلى هوى له بالمرية (1) . ويقول ياقوت نقلاً عن صاعد الأندلسي إن ابن حزم وزر للمعتد بالله هشام بن محمد (2) ، ونحن نعلم ان أهل قرطبة أرسلوا بيعتهم إلى هشام وهو في البونت (البنت) في ربيع الآخر سنة 418 ثم انتقل إلى قرطبة سنة 420، فإذا كان ابن حزم قد وزر له أولاً فقد انتقل إلى البنت وإذا كان قد وزر له بعد ذلك فقد انتقل إلى قرطبة، ولكن الرسالة كتبت في شاطبة، ولابد ان يكون ذلك قد تم في وقت ما بين سنتي 417 - 418، ومما يزيد الأمر تحديداً قول ابن حزم، في حكم بن المنذر بن سعيد البلوطي: " وحكم المذكور في الحياة حين كتابتي إليك بهذه الرسالة، قد كف بصره وأسن جداً " وقد ذكر ابن بشكوال نقلاً عن ابن مدير ان وفاة حكم كانت في نحو سنة عشرين وأربعمائة (3) ، وهذا يعني أن وفاته تمت في 418 أو 419 أو أوائل سنة عشرين وأربعمائة (4) . ولا أعلم أن ابن حزم أشار إلى هذه الرسالة في سائر كتبه ولكن النقول القليلة التي وردتنا منها (وخاصة في روضة المحبين لابن قيم الجوزية، على تباعد في الزمن) تؤكد اسم الرسالة ونسبتها إلى ابن حزم فإذا كان التاريخ الذي قدرناه لتأليف الرسالة صواباً أو قريباً من الصواب، كان ابن حزم عندما كتبها في حدود الرابعة والثلاثين من عمره، وكان قد حصل ضروباً من الثقافات فيها الفقه والحديث - على أساس ما يظهر جلياً في هذه الرسالة - والمنطق والفلسفة والنجوم، ونظر في التوراة، وشهر بقوة عارضته في الجدل، وبالتفنن في ضروب مختلفة من الشعر، ولكن الطابع العقلاني يزاحم في شعره قوة العاطفة ويتغلب على المجال التصويري.

_ (1) طوق الحمامة: (باب البين رقم 24 ص 216 - 217) . (2) معجم الأدباء 12: 237 وسقط هذا من ترجمة ابن حزم في طبقات الأمم: 76 ثم أضيف اعتمادا على احدى النسخ الخطية (ص: 116 وتصحف المعتد إلى المقتدر) . (3) الصلة 1: 146. (4) انظر طه الحاجري: ابن حزم، صورة أندلسية: 153 - 154.

4 - دواعي التأليف: أحب أن أقول - بداع من إحساس يشبه اليقين - أن رسالة " طوق الحمامة " بدأت تسلية لصديق ذي ود صحيح لابن حزم، كان يستوطن المرية - ولعله حلها بعد تفرق القرطبيين في الفتنة -. وفي موطنه الجديد، نشب القرطبي المهاجر في براثن حب آسر، على غير ما تسمح به السن (فهو على الأرجح لدة لابن حزم) ، أي لم يكن مثل ذي الرمة الذي راهق الثلاثين، بل تجاوزها، وحلمته العشائر (1) ، فكتب إلى صديقه وموضع سره ابن حزم، يسأله في كتاب زادت معانيه على ما في سائر كتبه من قبل، رأيه في هذا الذي نشب فيه، ويتحدث إليه بحديث الحب، ويسأله أن يطب له، فدعا الله بينه وبين نفسه ان لا يكلنا " إلى ضعف عزائمنا وخور قوانا ووهاء بنيتنا، وتلدد آرائنا (أو آرابنا) وسوء اختيارنا، وقلة تميزنا، وفساد اهوائنا "، ولكنه حرك ساكناً وذكر أمراً متصلاً بالصبا والشباب، والجراح لم تكد تندمل، وفيما ابن حزم يقلب وجوه الرأي، إذا بصديقه وقد استبطأ رده يسافر من المرية إلى شاطبة ليلقى صاحبه ويبث إليه ما في نفسه، وما تكاد شاطبة تستقبل ذلك الصديق حتى تقوم القيامة، وتسد في وجهه أبواب العودة إلى المرية، لاشتعال نار الحرب بين مجاهد وخيران، فلا يجد ابن حزم خيراً من قصص من ابتلي بمثل ما ابتلي صديقه، يسليه عما ألم به، ويضرب له المثل بالأئمة الراشدين والخلفاء المهديين، ويذكره بما عرفاه من أحاديث العشاق والمحبين في قرطبة وغيرها، بل يقدم له نفسه نموذجاً عجيباً لتصاريف الحب وشؤونه. وأنا أصدق ابن حزم فيما يقول، لأنه منزه عن تعمد الكذب، حتى وأن كان غيره يتخذ مثل هذه التعلة مدخلاً للتأليف،

_ (1) من قول ذي الرمة: على حين راهقت الثلاثين وارعوت ... لداتي وكاد الحلم بالجهل يرجع ويقول (على لسان أخيه مسعود يلومه) : أفي الدار تبكي أن تفرق أهلها ... وأنت امرؤ قد حلمتك العشائر

فهناك صديق كلفه ان يؤلف " رسالة في صفة الحب ومعانيه وأعراضه وأسبابه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة " ن ولكن من السذاجة أن نظن بان الحافز لذلك كان حافزاً واحداً بسيطاً، وأن امرءاً (فقيهاً) يكتب رسالة في الحب وهو يستشعر " نبو الديار، والجلاء عن الأوطان، وتغير الزمان، ونكبات السلطات، وتغير الاخوان، وفساد الأحوال، وتبدل الايام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع كاسب الآباء والأجداد، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد، واليأس عن الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعة الدهر وانتظار الأقدار " - أن امرءاً على هذه الحال إنما اندفع إلى ذلك بتوجيه حافز بسيط بل أقدر انه قد وجد ولابد حوافز أخرى لكتابة هذه الرسالة، وما كانت تسلية الصديق إلا انقداح الشرارة الأولى، التي بعثت الماضي كله حياً في نفسه. وفجأة انتقل الأمر من تسلية الصديق إلى تعزية النفس: فابن حزم الذي كان في حاضره حينئذ يفكر " في صيانة الأهل والولد " وفي الحصول على الرزق له ولهم، كان يريحه أن يعود إلى الماضي، لأنه لا يمثل الحب وحسب، بل يمثل المجد والجاه والغنى والراحة والحياة الرغيدة ولهو أيام الطلب، ولذة المحادثة مع الأخوان " قبل أن يغيرهم الزمان "؛ لقد تركته تجاربه الكثيرة بين علو وانحدار يحس بوطأة العمر رغم أنه لم يقطع من حبل العمر إلا نصفه، أصبح " شيخا " في إحساسه، فهو يريد أن يصرف عنه هذا الإحساس؛ وكان شاعراً وجدانياً، وهوذا يتحول متكلماً عقلانيا، فهو يريد أن يخلد شعر فترة الشباب والصبا في كتاب، وهو قد عرف الناس وخبر نفسياتهم، وأدرك مدى سيطرة الحب على نفوسهم، فليس هو وصديقه اثنين من أولئك الناس وحسب، يرضيهما أن يكونا في انسجام مع نماذج عديدة تعرضت لما تعرضا له، بل إن ابن حزم ينفرد عن صديقه ثم عن سائر الناس بأنه يستطيع أن يستوعب تلك التجارب، وأن يخضعها للدراسة والتحليل، ليتجاوز بها

تسلية صديقه وتعزية ذاته، فتصبح " رصداً " لحركات النفوس وطبيعة العلاقات العاطفية والاجتماعية، أي أن ابن حزم - من خلال تلك النماذج والتجارب - أحس أنه قادر على أن يقوم بدور السيكولوجي الاجتماعي، وذلك كله يتطلب إلى جانب التعمق في الدراسة جرأة على " الاعتراف " وتلك ميزة لم تكن تنقصه أبداً. فمن حال صديقه وحال نفسه وحال قرطبة (التي تمثل صورة مكبرة لكليهما) وجد الحوافز قوية لكتابة هذه الرسالة، ولعل ابن حزم أحس وهو يكتب رسالته، انه يريد أن يقدم تجربة أو صورة " أندلسية " خالصة، ولعل هذا هو الذي دعاه أن يقول وهو يحدد برنامجه في التأليف: " ودعني من أخبار الأعراب والمتقدمين فسبيلهم غير سبيلنا " فمما لا ريب فيه أن ابن حزم كان خير ثمرة لتلك الحركة الثقافية التي حاول بها الحكم المستنصر بلورة الشخصية الأندلسية في جميع المجالات الثقافية والحضارية، ولذلك كان للأندلس في نفسه - رغم ضياع الدولة الأموية وما حل بالبلاد من تعاسة على يد ملوك الطوائف - وجودها المحدد، وطبيعتها المشخصة، وقد أمدته ثقافته بكثير من تجارب الحب في المشرق، ولكن أين التجربة الأندلسية في ذلك أكاد أقرر أن ابن حزم ما كاد يرسم المنهاج الذي يعمل على أساسه في هذه الرسالة حتى سطعت في نفسه هذه الحقيقة، كما سطعت بعد سنوات عندما كتب رسالته في فضل الأندلس؛ ولذلك فغن هذا البيت: ويا جوهر الصين سحقاً فقد ... غنيت بياقوتة الأندلس الذي اتخذه بعضهم شعاراً يدل على " أندلسية " ابن حزم (1) ، ليس إلا نقطة صغيرة في بحر ممتلئ بتلك الحقيقة، حتى إن المؤلف ليتابع تجارب أندلسيين اغتربوا، ونادراً ما يتوقف عند تجارب غير الأندلسيين، ولو تأملنا قوله فسبيلهم غير سبيلنا " لوجدنا أن صيغة الجمع هذه هي " سبيلنا "

_ (1) انظر مقدمة غرسيه غومس على ترجمة الطوق (ص: 52) وسانشت البرنس عند الدكتور الطاهر مكي: دراسات عن ابن حزم ص: 180.

لا تشير إلى طريقة فردية، وإنما تشير إلى طريقة جماعية أندلسية؛ وأرجو ألا يساء فهم هذه الروح لدى ابن حزم وان لا تلتبس بتلك الدعوى التي تشتط في القومية العرقية فترى في ابن حزم نموذجاً إسبانياً في الغضب والوفاء ومواجهة الحسد بل وحتى في الثرثرة، إلى آخر ما هنالك من صفات، تميز الأسباني عن غيره من سائر البشر (1) ، فإن هذه النعرة لاحقة بهذيان الممرورين، وبانتحال المميزات المتوهمة للتغلب على مركبات نقص، كان ابن حزم بريئاً منها، ولله الحمد، وهذا وحده يثبت أنه لم يكن أسبانياً بهذا المعنى الذي يريده له بعض المتهوسين من العرقيين. إنما الذي أطمح إلى توضيحه هنا أن ابن حزم الناشئ في ظل الإسلام والثقافة العربية، المحب للدولة الأموية في الأندلس، المتعلق بوطنه، وحب الوطن من الإسلام ومن الايمان - كان يعتز بذلك الوطن، ويدافع عن فضائله. ولا يجد حرجاً في رسم صورته على حقيقتها، لأنه يحب تلك الصورة، حتى وإن كانت لا تعجب الآخرين، إننا حقاً نجد لدى ابن حزم صورة أندلسية، ولكن من الضروري أن نحذر - قبل المضي قدماً في هذا البحث - من الإسراع إلى الظن بأن الأندلس تتفرد بهذه الصورة، ذلك أن ابن حزم لم يكن يحاول أن يقيم مقارنة بين الأندلس وغيرها، وإنما يرسم ما يراه في صدق ودقة، ولكن الدارس يستطيع من موقف المؤرخ أن ينشئ تلك المقارنة: فلقد نجد ابن حزم يقول: " وما رأيت قط متعاشقين إلا وهما يتهاديان خصل الشعر مبخرة بالعنبر مرشوشة بماء الورد، وقد جمعت في أصلها بالمصطكي وبالشمع الأبيض المصفى، ولفت في تطاريف الوشي والخز، وما أشبه ذلك، لتكون تذكرة عند البين. وأما تهادي المساويك بعد مضغها، والمصطكي اثر استعمالها فكثير بين كل متحابين قد حظر عليهما اللقاء (2) فنظن ان هذه عادات أندلسية، وسمات

_ (1) البرنس في المصدر السابق: 156 وما بعدها. (2) الفصل الخامس والعشرون (باب القنوع ص: 232) .

حضارية خاصة بالأندلس، ولكن نقرأ في الموشى (والاستاذ غرسيه غومس يعرف النص تمام المعرفة) عند الحديث عن حب القيان " وتبعث (أي القينة) إليه بخاتمها وفضلة من شعرها وقلامة من ظفرها، وشظية من مضرابها، وقطعة من مسواكها، ولبان قد جعلته عوضاً عن قبلتها، ومضغة لتخبره عن نكهتها، وكتاب قد نمقته بظرفها، وطيبته بكفها، وسحته بوتر من عودها، ونقطت عليه قطرات من دمعها وختمته بغالية قد عدل بالعنبر متنها " (1) فندرك أننا نتحدث عن حضارة واحدة، ليس من فرق كبير فيها بين أندلس ومشرق، وإن كان ابن حزم غير مطالب بإجراء هذه المقارنة التي يستطيعها المؤرخ دونه. هذا في وسائل الحضارة وطبيعة العادات المتصلة بها، ولكن الأمر يتعدى ذلك إلى خلجات النفوس الإنسانية، ومدى تقبلها أو رفضها للمؤثرات المختلفة، فابن حزم حين يتحدث عن الحب لا يكاد يختلف عن الوشاء أيضاً حين يقول: " واعلم أن الحب مع ما فيه من المرارة والنكد وطول الحسرات والكمد مستعذب عند أربابه، مستحسن عند أصحابه، حلو لا تعدله حلاوة ولا تعدله مرارة " (2) أو حين يقول: " وأعلم أن الهوى عندهم هو الهوان الصراح والبلاء المتاح لأنه يهين الكريم وبذل العزيز ويدله العاقل " (3) ؛ من غير أن يكون ابن حزم قد اطلع على ما قاله الوشاء أو غيره، دع عنك القول بان ابن حزم إنما قال ما قال لأنه " إسباني " الإدراك والأحاسيس، وكذلك هو الشان في مظاهر أخرى، لا داعي إلى الإطالة بالوقوف عندها. وليس من الصواب ان ننفي كتاب " الزهرة " من بين تلك الحوافز التي دفعت ابن حزم إلى كتابة الطوق، بل ان نقلل من قيمته في هذه الناحية، كما زعم الأستاذ غرسيه غومس حين يقول: " إنه على الرغم من إشارة نصية بسيطة ومن التوافق في الاتجاهات العاطفية، فإن الطوق

_ (1) الموشى: 93؛ وانظر بحث الأستاذ غومس في المقارنة بين الموشى وطوق الحمامة. (2) الموشى: 7667. (3) الموشى: 69.

لا يكاد يدين للزهرة بشيء، أو إن شئت يدين لها بشيء محدود للغاية. لقد تغربت النظرية " وتأسبنت " وفقدت تكلفها الواضح، وتحذلقها الخنث، وما كان يقال في بغداد نثراً رقيقاً أو شعراً ملتقطاً أخذ ابن حزم يقوله في شاطبة دافئاً وإنسانياً عن نفسه وعن أصدقائه في قرطبة، وأتت العاطفة واللهفة، وهما خاصيتان اسبانيتان، على أسوار التقليد التي تحول دون تدفق النبع " (1) . أما أن ما جاء به ابن حزم كان " دافئاً انسانياً " فذلك لا غبار عليه بل هو عين الحقيقة، وأما أن الطوق، " لا يكاد يدين للزهرة بشيء " فذلك هو الدعوى التي لا تثبت للمناقشة، كما سأبين بعد قليل. وقبل أن أتقدم لإثبات وجهة نظري، علي أن أقرر أن التأثير لا يعني المحاكاة، فابن حزم لا يحاكي في الطوق كتاب الزهرة، فقد قام بتلك المحاكاة ابن فرج في كتاب الحدائق، حتى كاد يتفوق - أو هو تفوق حقاً - على سلفه المشرقي، وكان ابن حزم يدرك هذه المحاكاة، وينفر منها، في آن معاً، لأنه امرؤ لا يؤمن بالتقليد حسبما يمليه عليه اتجاهه الظاهري ولكنه فيما يبدعه لا يستطيع ان ينجو من التأثر، وبين التأثر والتقليد بون شاسع. 5 - أثر الزهرة في ابن حزم: ولكن - على كل ما هنالك - كان ابن حزم يرى في ابن داود إماماً ظاهرياً يستحق التقدير، إماماً يكتب في الحب، دون أن يعبأ بنقد المتزمتين، ويستطيع في الوقت نفسه ان يتحول بالحب، رغم العذرية والأفلاطونية والصوفية، إلى مستوى إنساني واقعي، وهذا يعجب ابن حزم كثيراً، ويوافق مشاعره ذات المنزع الظاهري، ومن ثم فإنه لا يستطيع أن يتخلص من تأثير ابن داود، حتى لو حاول ذلك، وهذا التأثير قد يكون إيجابياً وقد يكون سلبياً.

_ (1) طوق الحمامة ترجمة غومس: 66 - 67 والطاهر مكي: 279 - 280، ونقله البرنس انظر ايضاً مكي: 160.

لنقل بادئ ذي بدء ان الزهرة يحتوي فصولاً لا تربطها وحدة في المنهج، وان كل فصل لا يتجاوز رواية شعر متصل بموضوعه، وتعليقات على بعض ذلك الشعر، وان في بعض تلك التعليقات نظرات ذاتية نافذة؛ هذه المواقف كفيلة باظهار تأثر ابن حزم بكتاب الزهرة، فانعدام المنهج أو اضطرابه أوحى لابن حزم بتتبع منهج دقيق، ورواية الشعر دفعته إلى ان لا يستأنس بالموروث الشعري في موضوع الحب، وتلك النظرات النافذة هي ما استغله ابن حزم على نحو يتفق وطريقته ومنهجه، وتلك النماذج الشعرية هي التي قررت لديه " انسانية " تجربة الحب سواء أكانت تلك التجربة أندلسية أم غير ذلك. ولابد لدارس كتاب الزهرة من أن يتجاوز تلك العنوانات الشعرية المسجوعة إلى الحقائق القائمة تحتها، ليستطيع المقارنة بينه وبين كتاب الطرق، وأن تجاوز أيضاً تبدد الموضوع الواحد في عدة فصول، لكي يرد ما تبدد إلى حيز واحد، يقتضيه المنهج الحزمي الدقيق. وسوف يكتشف أن الكتابين يعالجان موضوعات واحدة من مثل الرقيب، القنوع، الرسول، الواشي، الهجر، السلو الخ وأن كثيراً من الحقائق في هذه الفصول، وضعه ابن داود، وتابعه فيه ابن حزم، مستعملاً كثيراً من لباقته التأليفية، وعقليته المنطقية. وخير ما يصور هذا الذي نقوله أن نعرض للمقارنات، بين الكتابين في بعض المواضع: 1 - يقول ابن داود (51) : والهجر الذي يتولد عن الثقة بالوداد خير من الوصال الذي يقع من غير اعتماد؛ ويقول ابن حزم: ثم هجر يوجبه التدلل وهو ألذ من كثير من الوصال، ولذلك لا يكون إلا عن ثقة كل واحد من المتحابين بصاحبه. 2 - ويقول ابن داود (136) " الهجر على أربعة أضرب: هجر ملال وهجر دلال وهجر مكافأة على الذنوب وهجر يوجبه البغض

المتمكن في القوب، فاما هجر الدلال فهو ألذ من كثير الوصال وأما هجر الملال فيبطله مر الأيام والليال، إما بنأي الدار وإما بطول الاهتجار " ويؤسس ابن حزم على هذه القسمة فيجعل الهجر سبعة أقسام منها الأربعة التي عدها ابن داود كما يتحدث عن الهجر الذي يعد مكافأة على ذنب وعن هجر الملال ويحلل هذا الثاني تحليلاً دقيقاً ويورد عليه أمثلة، ويشفق فيما سماه ابن داود " هجر يوجبه البغض " فيتخلص من كلمة بغض، ويستعمل بدلاً من ذلك " الجفاء " و " القلى " واللفظة الأخيرة مبهمة لأنها تعني الهجر، فإذا قلت " هجر الهجر " لم تفد معنى واضحاً. 3 - ويتوقف ابن داود (155) عند السلو الناتج عن الغدر، فيراه غير معيب، لان السالي إنما ينفر عمن خالف شكله، ولكن عليه ألا يشنع بهذا الغدر على المحبوب أو يذيعه عنه، ويعود إلى الموضوع (170) فيرى أن الصبر أحياناً على الغدر يقع لدى بعض المحبين، لأن حالة المحب قد تجاوزت حد العشق إلى الرضى بكل ما يفعله المحبوب ولو كان غدراً؛ أي أن ابن داود لا يقطع برأي وإنما يجيز حدوث السلو أو بقاء الحب مع الصبر؛ ويتعرض ابن حزم أيضاً لظاهرة السلو الناتج عن الغدر فيرى ان السالي غير ملوم، ويحدد موفقه على نحو أدق إذ يلوم من يسبر عليه لأنه يرى ان الغدر لا يحتمله أحد ولا يغضي عليه كريم " ولا أدعى إلى السلو عند الحر النفس وذي الحفيظة والسري السجايا من الغدر، فما يصبر إلا دنئ المروءة خسيس الهمة ساقط الأنفة "؛ ومع مخالفته لابن داود فان الذي مهد له الانطلاق في هذه المخالفة هو ابن داود نفسه. 4 - ويرد ابن داود (163) أسباب السلو إلى: نيل المحب لما أمله، أو لملل بسبب جفاء المحبوب ومخالفته، أو من الغدر المطلوب، أو التأذي من رقيب وحاجب، أو بسبب سعاية واش وعذول ويفرع ابن حزم على هذه الأسس، فيجعل بعض الأسباب ناجماً من قبل المحب: ومنها الملل والرغبة في الاستبدال (وهي تقابل نيل المحب لما أمله وسعيه

لتجديد حب آخر) ؛ وبعضها ناجماً من قبل المحبوب: مثل الهجر ونفار المحبوب وجفاء فيه ونزوع إلى الغدر وأخيراً سبب لا يتعلق بالمحب او المحبوب، وهو اليأس بسبب موت أو غيبة منقطعة أو عارض قتل السبب الذي من أجله نشأ الحب؛ وقد عقد ابن داود فصلاً خاصاً للحديث عن الياس، وتحليليه نفسياً وطبياً (1) (وذلك ما لم يتوقف ابن حزم عنده) ولكنه ربطه بالسلو، وأضاف إضافة هامة - لم يستطع ابن حزم معالجتها - حين ربط بين اليأس وبين الانتحار عن طريق ايراده لبعض الحكايات. 5 - ويعقد ابن داود (98) فصلاً للقنوع، يورد فيه نماذج من الشعر، ويعلق عليها بقوله " وكل هذه الأحوال ناقصة عن حد التمام "؛ ويعد ابن حزم مراتب للقنوع ستاً، يستخلص أحدها من الشعر، فيقول " وللشعراء فن من القنوع أرادوا فيه إظهار غرضهم وإبانة اقتدارهم على المعاني الغامضة والمرامي البعيدة. فمنهم من قنع بان السماء تظله هو ومحبوبه.. الخ " ثم يلمح انهم لم يبلغوا غاية التمام - كما فعل ابن داود، فيقول: " ولي في هذا المعنى قول لا يمكن لمتعقب ان يجد بعده متناولاً ولا وراءه مكاناً.. " (وذلك هو قنوعه بلقاء محبوبه في علم الله) ولا يخفى تدقيقه هنا في ملاحظة ابن داود، وتأثره بها. 6 - وفي الزهرة فصلان أحدهما في الحجاب (104) والثاني في الوداع (184) وقد جمعهما ابن حزم في حديثه عن البين، فيعد حجب المحبوب ومنعه من لقاء محبه بيناً. وابن داود هنا أدق لأنه قسم الحجاب في قسمين اضطراري واختياري، وجعل الحجب بالقوة سبباً اضطرارياً. وأما الحجاب الاختياري فمنه امتحان المحب للمحبوب والخوف عليه من الرقيب (ابن حزم: ثم بين يتعمده المحب بعداً عن قول الوشاة) والإشفاق على النفس من العذال، واستيلاء الملال على نفس المحب. ولا

_ (1) الزهرة 1: 335.

يقف ابن حزم عند بعض هذه الظواهر لأن وضعه الوداع تحت اسم البين جعله يفكر في البين المتأتي عن الرحلة او عن الموت. وقد تنبه ابن داود إلى أن مواقف الشعراء من الوداع متفاوتة، فمنهم من يسارع إلى الفراق تغنماً لساعة الوداع لان فيه " عناقاً وانتظار اعتناق يوم التلاق " ومنهم من يصبر عليه ويتعمد ألا يشهد منظر الوداع إشفاقاً من ألمه؛ وقد فتح الباب بذلك لابن حزم كي يقول: ولهذا تمنى بعض الشعراء البين ومدحوا يوم النوى، وما ذاك بحسن ولا صواب ولا بالأصيل من الرأي فما يفي سرور ساعة بحزن ساعات.. الخ ". 7 - ويلتقي المؤلفان في كثير من الحقائق العامة التي عرضاها عند الحديث عن حفظ السر والاذاعة (البابان 12، 13 عند ابن حزم؛ والبابان 43، 44 في الزهرة) حتى ليلتقيان في بعض العبارات، فيقول ابن داود في من يطوي سره رغم مضاضة الكتمان " شديد الإبقاء على إلفه " (311) ويقول ابن حزم " وربما كان سبب الكتمان إبقاء المحب على محبوبه ". ويتفقان على أن المحب لا يملك أحياناً إلا البوح بسره لأنه يمتلكه من الوجد ما يغلبه أو بتعبير ابن حزم: " وربما كان من أسباب الكشف غلبة الحب ". 8 - ولا خلاف في ان ابن حزم حين يتحدث عن الحب من أول نظرة وعن الحب بعد المطاولة (الفصلان 5، 6) يعتمد تجارب عرفها عند غيره وفي نفسه، ولكن أصول هذا كله متوفرة في الزهرة (330) حيث يقرر ابن داود أن ما وقع من الهوى بأول نظر كان بقاؤه يسيراً وأما ما كان استحساناً ينمو على مر الأيام فإنه لا يزول - إذا قدر له ذلك - إلا ببطء؛ ويتبنى ابن حزم نفسه هذا الموقف حين يقول " وإني لأطيل العجب من كل من يدعي أنه يحب من نظرة واحدة، ولا أكاد أصدقه، ولا اجعل حبه إلا ضرباً من الشهوة " ويقول في تصوير المطاولة: " فما دخل عسيراً لم يخرج يسيراً " ويقابل هذا عند ابن داود قوله: كل شيء في العالم إن اعتبرته وجدت ما ارتقى إلى هذه الغاية القصوى بغير

ترتيب انحط انحطاطاً طويلاً " (330) أو بقوله في من صعد إلى ذروة المحبة بأول نظرة: " فكلما كان ارتقاؤهم فيها سريعاً كان انحطاطهم قريباً " (335) . 9 - وفي باب الوفاء يجيء تأثر ابن حزم بابن داود ناحياً منحى المخالفة، فإذا قال مؤلف الزهرة: " فالمحبوب يكون موفياً لمحبه ويكون غادراً بعهده، والمحب لا يكون موفياً ولا غادراً وإنما يصلح أن يكون المحبوب موفياً وغادراً لأنه يأتيه مختارا " (362) (أما المحب فهو غير مختار إلا إذا زالت المحبة فعندئذ يمكن ان يوصف بالوفاء أو بالغدر) ، وجدنا ابن حزم ينطلق إلى النقيض بقوله: " واعلم أن الوفاء على المحب أوجب منه على المحبوب وشرطه له ألزم، لان المحب هو البادي باللصوق والتعرض لعقد الأزمة.. فمن أجبره على استجلاب المقة إن لم ينو ختمها بالوفاء لمن أراده عليها ". ثم يلتقيان بالاشادة بالوفاء مع اليأس وخاصة بعد حلول المنايا، فيجعل ابن داود عنوان الفصل " قليل الوفاء بعد الوفاة اجل من كثيره وقت الحياة " (361) ويردد ابن حزم هذا المعنى فيقول: " وغن الوفاء في هذه الحالة (يعني بعد الوفاة) لأجل وأحسن منه في الحياة ومع رجاء اللقاء " (الفصل: 22) . 10 - ويتقارب المؤلفان من حيث المنحى العام في المقدمة والخاتمة، فكلاهما في المقدمة يتوجه إلى إلف عزيز، اقترح فكرة الكتاب ويتطرف ابن داود في المقدمة إلى ذكر الأنبياء ومن جرى عله حب منهم، ويخلص إلى القول: " والنبيون عليهم السلام والصالحون من أئمة أهل السلام يجل مقدارهم عن أن تذكر للعوام أخبارهم " (ص: 5) ؛ وكان رد الفعل لدى ابن حزم مخالفته في هذا إذ ذكر عددا من الخفاء المهديين والأئمة الراشدين والصالحين والفقهاء ". وهذا باب من تأثير كتاب الزهرة في ابن حزم، أعني مخالفته، إذا لم يقتنع بوجهة نظر صاحبه. وتحرز في بعض المواقف تحرز ابن داود حين قال: " وغنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين، وإنما هو شيء كانوا ينفردون به

في قصورهم مع عيالهم فلا ينبغي الإخبار به عنهم " وبذلك قطع حبل الإطناب في هذا الموضوع. ثم ردد النظرية الفلسفية التي جاء بها ابن داود في الفصل الأول عن الأكر التي انقسمت. وأما الخاتمة فإنها اتجهت عند ابن حزم وجهة دينية أخلاقية، فيها تحذير من المعصية وإشادة بفضل العفة، في فصلين متعاقبين، مؤيدين بالأحاديث النبوية، والشعر الزهدي التخويفي التعليمي. وأما الخاتمة عند ابن داود فلها شأن آخر؛ إذ ليس في كتابه على التحقيق خاتمة؛ ولكن مؤلفاً يبدأ كتابه في ذكر العشق وأحواله ويجعل نصيب هذا الموضوع من كتابه النصف كاملاً، ثم يعد بخمسين باباً آخر يذكر فيها الموضوعات الشعرية الباقية من رثاء ومدح وفخر وهجاء ووصف الخ؛ ثم يجعل الفصول التالية للفصول في الحب مباشرة في تعظيم الله جل شأنه - في ما مدح به الرسول - فيما قاله شعراء الاسلام في أهل بيت النبي، أقول إن مؤلفاً يفعل ذلك إنما كان يحس بتوجيه ديني بعد إذ أحس أنه أسرف في جعل " الحب " يحتل نصف كتابه، ولهذا فمن باب الاعتذار غير المقنع قوله: إنه إنما بدأ بالغزل لان الشعراء تجعل التشبيب في صدر كلامها، وانه لا يريد في تأليفه أن يخرج عن مذهب الشعراء، وانه لا يصلح إذا انقضى ذكر التشبيب بالغزل ان يقدم على أمر الله عز وجل أمراً لوا يرسم بين يدي الأشعار الدالة على عظمته شعراً (1) . أقول: اعتذار غير مقنع لأنه كان في مقدوره ان يضم الأبواب الثلاثة إلى الفصول التي خصصها للثناء والمدح، ولكن قلقه من الإسراف في موضوع العشق حفزه إلى ما يشبه التمحيص أو التكفير، فبادر إلى إيراد فصل فيه ذكر عظمة الله تعالى؛ تماماً كما أحس ابن حزم ان من واجبه التنفير من المعصية والمدح للعفة، لكي لا يظن أن الفصول السابقة ربما أوحت بالبعد عن ذلك. من أجل ذلك كله يصح القول إن حضور كتاب الزهرة في نفس

_ (1) انظر الزهرة 1: 273.

ابن حزم وذهنه، كان حضورا دقيقا، وأنا أقدر أنه حفظه في سن صغيرة حتى ظلت ذاكرته تستوعب منه عبارات مطابقة أو مقاربة؛ تأمل قوله: " وسمع بعض الحكماء قائلاً يقول الفراق أخو الموت فقال بل الموت أخو الفراق " (1) ؛ تجده علق بذاكرته من كتاب الزهرة ثم أنسيه نصاً، فأداه بحسب المعنى، وأصله في الزهرة: " وقد قال الجاحظ: لكل شيء رفيق، ورفيق الموت الهجر، وليس الأمر كما قال بل لكل شيء رفيق، ورفيق الهجر الموت " (2) . ومثل هذا حدث له في إيراد الرأي الفلسفي حول انقسام الأصلي الأرواح الكريه، وقد ذكرت لك من قبل. فهذا التباين بين النص الأصلي والاقتباس لا يفسره إلا ان ابن حزم حين كان في شاطبة يكتب " طوق الحمامة " لم تكن لديه نسخة من كتاب " الزهرة، وإنما كان يستعيد بعض ما علق منه بذاكرته، وسنرى أثر كتاب " الزهرة " حتى في المنهج الذي بنى عليه كتابه. 6 - خطة الرسالة: وحين استجاب ابن حزم لما اقترحه عليه صديقه ونوى أن يكتب " رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة " دون تزيد او تفنن، أخذ يتصور خطة لتلك الرسالة، ولما كان يريد قول الحقيقة من غير تزيد أو تفنن، التزم بأن لا يورد إلا تجارب واقعية، مما وقع له هو نفسه أو مما وقع لغيره وحدثه به الثقات، وهذه الواقعية قد أبعدت عن رسالته حكايات الأسمار التي أدارها قصاص ذوو خيال - واسع أو ضيق - حول مشهوري العشاق، وأحداث العشق السالفة؛ وأنقذت رسالته من الجنوح إلى الخيالات مثلما أنقذنها رسالته من الجنوح إلى الخيالات مثلما أنقذتها من التردي في المبالغات، لان غايتها هي أن تصور لقارئها كيف يعيش الحب في الواقع، وفي الواقع الأندلسي على شكل خاص، كيف

_ (1) باب البين (رقم: 24 ص: 215) . (2) الزهرة: 137.

تتجسد المشاعر والأحاسيس والشهوات والنزوات في الحياة العملية، وتكون جانباً من نشاط المجتمع. وهذه النزعة القائمة على التجريب تعني ان الرسالة ليست ذات غايات أخلاقية أبداً، وكل ما يحميها من التهاوي في بعض فجاجات الواقعية - وإن لم تسلم من ذلك سلامة مطلقة - إنما هي أخلاقية كاتبها، تلك الأخلاقية التي ستسفر عن وجهها عمداً في الخاتمة. ولما كان الأعراب - من حيث أشعارهم الوجدانية وأخبارهم في العشق، يحتلون مقاماً هاماً في كتب الأدب المشرقية، ومنها كتاب " الزهرة " نفسه، رأى ابن حزم أن ينأى بكتابه عن هذه الناحية، وهذا لم يكفل لكتابه الواقعية التي التزم بها وحسب، وإنما أثر في منهجه تأثيراً واضحاً حين أعفاه من تكرار المواقف البدوية في الحب، فلم يعد بحاجة إلى أن يفرد فصولاً في البكاء على الطلول - وإن ألمح إليه إلماحاً - والأنس بالبروق اللوامع، وتلهب النيران والعافية والزجر وحنين الابل، إلى غير ذلك من مظاهر تحدث عنها ابن داود في الزهرة. وبذلك تم لرسالة " طوق الحمامة " وجه حضري قرطبي أندلسي. ويبدو أن تعلق ابن حزم " بحضارية " ذلك الوجه كان محتوماً، بسبب فقدانه " المدينة " التي أحبها كثيراً، أعني قرطبة؛ وهذا كلام يوهم بالتناقض، وتفسيره أن ابن حزم - ابن المدينة - فقد تلك المدينة وهو أشد تعلقاً بها، ولم يغص في سلبياتها فيثور عليها ويحن إلى حياة " رعوية " نقية، ولهذا تراه يستمد أمثلة التعفف من مجتمعها: " حدثتني امرأة أثق بها " و " حدثني ثقة من إخواني " (1) بينما هو يشكل في عفاف نساء الأعراب اللواتي طار لهن ذكر بالعفاف في الشعر القديم. فيقول: " وقرأت في بعض أخبار الأعراب أن نساءهم لا يقنعن ولا يصدقن عشق عاشق لهن حتى يشتهر ويكشف حبه ويجاهر ويعلن وينوه بذكرهن، ولا أدري ما معنى هذا، على أنه يذكر

_ (1) انظر الباب الأخير رقم: 30 ص 297.

عنهن العفاف، وأي عفاف مع امرأة أقصى مناها وسرورها الشهرة في هذا المعنى " (1) . ولما كان الحديث المتصل بالواقع قد يتناول أشخاصاً أحياء او أشخاصاً ذوي مقام اجتماعي مرموق، فإن ذكر أسمائهم متصلا بتلك الأحداث قد يسيء إلى سمعتهم أو يعد تشهيراً بهم، ولهذا اقتصر ذكر الأسماء على من لا ضرر في تسميتهم، إما لأن الحادثة مشهورة قد تناقلها الناس وعرفوا صاحبها فلم يعد ذكر اسمه زائداً في جلب الأذى لسمعته، وخاصة إذا كان هؤلاء الناس قد أصبحوا في ذمة التاريخ مثل: الرمادي وحكايته في حب " خلوة "، أو ابن زمان وحبه لأسلم، وغما لان المخبر عنه راض بنقل ذلك الخبر غير منكر شيئاً على ناقله. والأمر أسهل إذا كان المتحدث عنه إنساناً سيء السمعة، معروفاً بذلك بين الناس، قد بلغ من سقوطه حداً لا يؤثر فيه الذيوع، كما كان حال عبيد الله بن يحيى الأزدي المعروف بابن الجزيري. وقد كان إخفاء الأسماء في بعض الأحيان - معيناً لابن حزم على التمثيل بالحادثة الواحدة في غير موضع، لحاجته إلى تأييد مقرراته أحياناً باللجوء إلى الواقع. وهذا محض استنتاج لا أجد عليه دليلاً قاطعاً، وإنما استأنس ببعض ما أراه دليلاً معقولاً، فمن ذلك مثلاً أنه يخفي الاسم مرة فيقول في حال صفاء محبين عدما الرقباء وأمنا الوشاة أنه يخفي الاسم مرة فيقول في حال صفاء محبين عدما الرقباء وأمنا الوشاة وسلما من البين ورغبا عن الهجر: " ولقد رأيت من اجتمع له هذا كله إلا أنه كان دهي في من كان يحبه بشراسة أخلاق ودالة على المحبة فكانا لا يتهنيان العيش ولا تطلع الشمس إلا وكان بينهما خلاف فيه، وكلاهما كان مطبوعاً بهذا الخلق، لثقة كل واحد منهما بمحبة صاحبه، إلى أن دبت النوى بينهما فتفرقا بالموت المرتب

_ (1) آخر فقرة في الباب: 13 (باب الاذاعة: 152) . ونلحظ أن ابن حزم تخلص من الصبغة البدوية التي تطغى على كتاب الزهرة، كما تخلص من " التعليلات " الطبية شبه العلمية التي شغف بها ابن داود، ولم يستخدم معلوماته شبه العلمية إلا نادرا كالحديث عن المرايا والمغناطيس.

لهذا العالم " (1) . ثم يذكر عن أخيه أبي بكر وزوجه عاتكة " أنهما كانا في حد الصبا وتمكن سلطانه تغضب كل واحد منهما الكلمة التي لا أقدر لها، فكانا لم يزالا في تغاضب وتعاقب مدة ثمانية أعوام، وكانت قد شفها حبه وأضناها الوجد فيه " (2) ثم فرق بينهما الموت، وليس بمستبعد ان يكون الخبر في الحالين واحداً. ومثل ذلك أيضاً قد يستشف من أخبار رواها ابن حزم عن نفسه فقال مرة: دعني أخبرك أنني أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر " (3) ثم قال: " وذلك أني كنت أشد الناس كلفاً وأعظمهم حباً بجارية لي - كانت فيما خلا - أسمها نعم " (4) فهل " نعم " هي تلك الشقراء او هي غيرها اعتقد أن إخفاء الاسم في المرة الأولى ساعد ابن حزم على الاستشهاد بالواقع الواحد في موضعين متباعدين. بل لعلي أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فأزعم ان ابن حزم كان يخفي اسمه أحياناً، لتتم له رواية الحكاية على وجه مقبول، لحساسية خاصة في طبيعة القصة. ولعل أقوى ما يمثل ذلك قصة المرأة التي أحبت في غير ذات الله عز وجل (5) فقد تفنن ابن حزم في وصفها أيام المودة، وفي وصفها بعد التغير بما ينبئ عن لذة داخلية عميقة باسترجاع ذينك الموقفين، ولا يحاول أحد أن يسترسل في وصف هاتين الحالتين على النحو الذي فعله ابن حزم إلا إن كان يصور علاقة ذاتية في الحكاية، أو كان قاصاً محترفاً، ولما لم يكن ابن حزم هو الثاني، فذلك يجعلنا نأخذ بالفرض الأول.

_ (1) باب الوصل (رقم: 20 ص: 185) . (2) باب الموت (رقم: 28 ص: 259) . (3) باب من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها (رقم: 7 ص: 130) . (4) باب البين (رقم: 24 ص: 223 - 224) . (5) باب قبح المعصية (رقم: 29 ص: 281 - 283) .

ثم ان ابن حزم رأى أن يلتزم في خطته بأمر آخر: وهو أن يستشهد في الرسالة بأشعار قالها هو لا بأشعار لغيره، ونبهنا إلى أن مضمون تلك الأشعار لا ينصرف دائماً اليه، لأن أصدقاءه كثيراً ما كانوا يكلفونه نظم الشعر في ما يقع لهم من أحداث. وهذا الالتزام متصل بطبيعة المؤلف لا بطبيعة الرسالة، ويبدو من أول الأمر تحكماً لا يسنده تعليل قوي: عل كان ابن حزم يعتقد أن إيراد أشعار الآخرين يبعده عن الواقع ويسلمه إلى الخيال هل كان يحس أن محفوظه من الشعر غزير وأنه إن تمثل بالشعر لم يكد يكتفي منه بالقطعة والقطعتين في الموقف الواحد، وبهذا تعود رسالته صورة أخرى من كتاب الزهرة أكبر الظن أنه شاء ان يبعد عن " الزهرة " قدر المستطاع ليلتقي بها في جانب آخر، ففي الزهرة أيضاً عمد ابن داود - فيما يرجح الدارسون - إلى إيراد شعره نفسه مع أشعار الشعراء الآخرين تحت عنوان مبهم هو " وقال بعض أهل العصر "، فرأى ابن حزم ان هذا عمل يتيح له الفرصة ليعرض شعر الصبا والشباب، بعد أن كان آخذاً بالتحول عن هذا اللون الوجداني من الشعر، كما اشرت من قبل. بعد التقيد بهذه الالتزامات أصبح وضع منهج للرسالة أقرب إلىالتحقيق؛ ولا بد لذلك المنهج من ان يكون دقيقاً قائماً على تصور واضح مكتمل، لا كمنهج ابن داود الذي لم يؤسس على خطة سليمة، فتعددت عنده الفصول وتباعدت فيها النظائر: ووجد ابن حزم أن رسالته يمكن أن تقسم في ثلاثة فصول وخاتمة: فصل في أصول الحب (وهي عشرة) وفصل في أعراض الحب (وهي اثنا عشر) وفصل في الآفات الداخلة على الحب (وهي تجيء في ستة أبواب ثلاثة منها للأشخاص: العاذل والرقيب والواشي، وثلاثة للأحوال، الهجر والبين والسلو) وخاتمة من فصلين في قبح المعصية وفضل التعفف. ويبدو بوضوح ان المنهج منطقي، ولكن كتابته على هذا النحو المتدرج تباعد بين الأمور المتوازية؛ فالوصل من أعراض الحب مثلاً، وضده

الهجر وهو آفات الحب، وهما يقفان متباعدين إذا التزمنا بالمقولات الثلاث. لهذا بعد ان قرر ابن حزم هذا الهيكل المنطقي عاد فغير ترتيب الفصول بحيث يتوازى كل موضوع مع ضده إن وجد له ضد. وقد حتم عليه هذا المنهج ان يستبعد موضوعات تتصل بالحب أو يجعلها هامشية بينما يعالجها غيره في فصول مستقلة مثل الشوق والحنين، والبكاء والعتاب والغيرة، ودرجات المحبة، ولا ريب في أن ابن حزم تحدث عن هذه الموضوعات، إلا أنه رآها تفريعاً على موضوعات أكبر منها، فجعل البكاء من علامات الحب، والمح إلى العتاب في مواطن، وتحدث عن غيرته هو وعن القنوع بالشركة في المحبوب لذهاب الغيرة وعن سقوط ابن الجزيري وغيره لسقوط الغيرة من نفوسهم، ولعله أدرك من بعد أن منهجه في الطوق لم يمكنه من تحديد بعض الأمور المتعلقة بموضوع الحب فعاد إلى " الغيرة " في رسالته " في مداواة النفوس " فحددها بأنها " خلق فاضل متركب من النجدة والعدل لان من عدل كره أن يتعدى إلى حرمة غيره وأن يتعدى غيره على حرمته، ومن كانت النجدة له طبعاً حدثت فيه عزة، ومن العزة الأنفة من الاهتضام " (1) وقرر هنالك ان الغيرة إذا ارتفعت ارتفعت المحبة (2) . فابن حزم إذن لا يمكن أن يفرد للغيرة باباً في رسالة عن الحب لأنها " خلق " ولكنه قد يتحدث عنها في معرض الحديث عن ظواهر معينة من الحب. وفي رسالة مداواة النفوس توقف عند درج المحبة، وهو موضوع لم يتح له منهجه في الطوق أن يعالجه فقال: " درج المحبة خمسة أولها الاستحسان وهو أن يتمثل الناظر صورة المنظور إليه حسنة أو يستحسن أخلاقه، وهذا يدخل في باب التصادق، ثم الإعجاب وهو رغبة الناظر في المنظور اليه في قربه، ثم الألفة وهي الوحشة إليه متى غاب، ثم

_ (1) رسائل ابن حزم: 141. (2) المصدر نفسه.

الكلف وهو غلبة شغل البال به، وهذا النوع يسمى في باب الغزل بالعشق، ثم الشغف وهو امتناع النوم والأكل والشرب إلا اليسير من ذلك وربما أدى ذلك إلى المرض أو التوسوس أو إلى الموت، وليس وراء هذا منزلة في تناهي المحبة أصلاً (1) ؛ والحق أن هذا التدرج أمر ضمني في تلك الفصول التي تحدث فيها ابن حزم عن التعريض ثم الإشارة بالعين ثم المراسلة ثم إرسال سفير، ثم في الموت، فلو أفرد الحديث عن درج المحبة هنالك لتعرض بعض أجزاء رسالته للتكرار والتداخل. وكأن ابن حزم كان ما يزال تحت تأثير كتاب الزهرة عندما كتب رسالته " في مداواة النفوس " فقد ذكر ابن داود موضوع التدرج في المحبة حين قال: " فأول ما يتولد عن النظر والسماع الاستحسان ثم يقوى فيصير مودة.. ثم تقوى المودة فتصير محبة ثم تقوى المحبة فتصير خلة ثم تقوى الخلة فتوجب الهوى ثم تقوى الحال فيصير عشقاً الخ " (2) وهما لا يتفقان في المصطلح، وإنما يتفقان في القول بأن التدرج أمر واقعي. ولكن منهج ابن حزم على منطقيته، بل سبب منها، لم يستطع أن يتلاقى التداخل، وكيف يمكن ذلك في موضوع عاطفي مثل الحب، تولته المصطلحات اللغوية المتداخلة المتقاربة بالتحديد، قبل أن يحاول العقل رسم حدود له ولهذا أمكن الحديث عن الملل والهجر والغدر وما أشبه في غير موطن واحد من طوق الحمامة، ولكن الذي يخفف من التكرار والتداخل أن ابن حزم لم يكن غافلاً عنه، بل كان وعيه الدقيق للمبنى الكلي مسيطراً في كل مرحلة. 7 - بين النظرية والتطبيق: لم يقبل ابن حزم بالرأي الذي أورده ابن داود وهو أن الأرواح أكر مقسومة في العالم العلوي، وأن كل قسم يحن إلى نظيره؛ بل عدل فيها

_ (1) المصدر نفسه. (2) الزهرة: 19 - 20.

ليقول إن النفوس تنقسم في هذه الخليقة (لا في عالم علوي) وأنها ليست أكراً (ولكنه لم يحدد لها شكلاً) وأن عنصرها رفيع، فالحب اتصال بين تلك الأجزاء، على أساس من المجانسة والمشاكلة (وهو ما لا ينفك ابن داود من تكريره في كتابه وذلك ما قال به المتكلمون في مجلس يحيى ابن خالد) وذلك سهل على نفس تنزع إلى نفس لان عالمها صاف خفيف وجوهرها صعاد معتدل، فالحب إذن تقارب بين النفوس وليس منشؤه استحسان الصورة الجسدية إذ لو كان الأمر كذلك لما استحسن محب صورة جسدية ناقصة، ولو كان الأمر لتوافق في الأخلاق لما أحب المرء من يخالفه. وقد كانت هذه البداية مصدر اضطراب لدى ابن حزم لا ندري سببه، ولعله اضطراب في النسخة التي وصلتنا (1) ، فبعد أن أكد أن انقسام النفوس يتم في هذه الخليقة عاد يقول إن قوله المسطر في صدر الرسالة هو " إن الحب اتصال بين النفوس في أصل عالمها العلوي ". وبعد أن قرر أن الاتصال يتم بين أجزاء النفوس المتشاكلة، وأنه ليس استحساناً جسدياً ولو كان كذلك لما أحب امرؤ صورة ناقصة، عاد يخبرنا ان الحب يقع في الأكثر على الصورة الحسنة، لأن النفس الحسنة تولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المتقنة، فإذا وجدت وراء الصورة (الجسدية) الحسنة مشاكلة اتصلت وصحت المحبة، فان لم تميز شيئاً توقفت عند حب الصورة؛ وهذا يعني أن الحب يبدأ باستحسان الصورة الجسدية الحسنة، وأن محبة الصور الناقصة أمر نادر. هذا هو شأن الحب الذي يسمى العشق، فهو امتزاج نفساني، فان قيل لماذا يحب المرء محبوباً ثم لا يبادله المحبوب ذلك فالجواب عند ابن حزم ان النفس المحبوب في هذه الحالة تكون قد أصبحت أسيرة الأغراض الكثيفة والطبائع الأرضية، مغمورة بالحجب، فهي " ساكنة " في ظلمة

_ (1) قوله: " لا على ما حكاه ابن داود " فلو حذفنا " لا " لزال بعض ذلك الاضطراب.

(متقبلة لا مهاجمة) ولهذا لا تستثار إلا بعد محاولات من ايصال المعرفة إليها وتنبيهها من غفلتها لتستطيع التجاوب مع روح المحب التي تكون متخلصة غير مأسورة، طالبة لنظيرها " متحركة " (مهاجمة لا متقبلة) جاذبة مشتهية لتمام التلاقي. ومثل هذا الفهم يؤكد لابن حزم أن الحب " عملية " تتطلب زمناً متطاولاً، وتكراراً في ايقاظ نفس الصنو، فأما ما يتم بسرعة من جراء الاستحسان الجسدي، أو ما يسمى الحب من النظرة الأولى فذلك هو " الشهوة "، ولهذا التجاذب بين الصنوين لا يصح ان يحب المرء اثنين في آن معاً. ولكن " الشهوة " نفسها قد تتحول إلى حب، إذا زادت عن حد الرضى الجسدي، واجتمعت تلك الزيادة مع اتصال نفساني تشترك فيه الطبائع مع النفس. إذن فنحن ازاء نظريتين في الحب، لا نظرية واحدة، وقد لفهما ابن حزم لفاً سريعاً، وكأنهما ظاهرة واحدة وكأن احداهما تكمل الأخرى. والواقع أن هنالك حباً بين نفسين، وهو حب علوي، لا مدخل فيه للاستحسان الجسدي، وهنالك حب يبدأ بالاستحسان الجسدي، وهو شهوة، ثم تصعد الشهوة بالرضى الجنسي أو ما أشبهه لدى المحب والمحبوب (كقصة الرجل الذي كان يبتاع الجارية وهي سالمة الصدر من حبه، بل ربما كرهته، وسرعان ما يتحول الكره إلى كلف شديد لأنه كان بطيء الإراقة، تقضي المرأة شهوتها معه مرة أو مرتين) فتوافق الشهوة أخلاق النفس، فتنشأ المحبة. وعلى الرغم من غموض في عبارة " توافق أخلاق النفس " فان البون شاسع جداً بين النظرية الأولى والثانية، لأن النفسين في الحالة الثانية لم تتعارفا إلا بعد تعارف الجسدين، وليس من الضروري ان تكونا منقسمين في عالمها العلوي، فإذا أقررنا بهذا الاحتراس، انتقضت النظرية الأولى، وهي منقوضة منذ البداية، لأنها لا تستطيع ان تفسر حالات الحب في الواقع كما عرضها ابن حزم. ومثال واحد على ذلك يعد كافياً في هذا المقام: ابن حزم نفسه الذي لم يكن يؤمن إلا بالحب بعد تطاول الزمن، أحب أولاً وثانياً وثالثاً ورابعاً، فهل

كانت نفسه تبحث عن صنوها فتجده في كل أنثى من الأربع تباعاً أو أنه عن طريق الاستحسان الجسدي كان يسلك الطريق إلى قلب المحبوب من الواضح أن الأمر الثاني هو الأصح، وهكذا يقال في الحكايات الكثيرة التي أوردها في كتابه؛ ولهذا يسقط القول بان الحب عند ابن حزم أفلاطوني. ويعطي ابن حزم للحب الأول قوة الانطباع المحفور في الذوق إلى الأبد، فبعض الناس إذا أحب فتاة وقصاء او فوهاء أو شقراء جرى ذوقه طول حياته - على استحسان ما ألفه من صفة مميزة في محبوبه الأول إذا فقده، ويعلل ذلك بالحنين إلى الحب الأول. ويتميز الحب الذي يسمى عشقاً عن سائر ضروب المحبة - في رأي ابن حزم - بأنه لا يفنى إلا بالموت، وانه يتقبل الخبل والوسواس وتبدل الطبائع والنحول والزفير، أي أنه لا ينقضي لأن علته دائمة (وهي في زعمه اتصال بين النفوس) بينما تقتضي ضروب المحبة الأخرى بانقضاء عللها. ومن تلك الضروب: 1 - محبة المتحابين في ذات الله. 2 - محبة القرابة. 3 - محبة الألفة والاشتراك في المطالب. 4 - محبة التصاحب والمعرفة. 5 - محبة البر يضعه المرء عند أخيه. 6 - محبة الطمع في جاه المحبوب. 7 - محبة المتحابين لسر يلزمهما ستره. 8 - محبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر. وقد ترقى ابن حزم من هذه النظرة إلى القول (في رسالته: مداواة النفوس) بان المحبة ليست ضروباً وإنما هي جنس واحد، وغنما قدر الناس أنها تختلف لاختلاف الأغراض، واختلاف الأغراض فيها ناشئ

عن اختلاف الأطماع، وعد هنالك ضروباً منها ثم قال: " فهذا كله جنس واحد على قدر الطمع فيما ينال " (1) . ويضيف قائلاً: " فقد رأينا من مات على ولده كما يموت العاشق أسفاً على معشوقه، وبلغنا عن من شهق من خوف الله تعالى ومحبته فمات، ويتدرج الطمع من الحظوة والزلفة لدى المحبوب (كما في حب الإنسان لله) إلى المجالسة فالمحادثة فالمؤازرة (محبة السلطان والصديق وذوي الرحم) وأقصى الطمع المخالطة بالأعضاء: " ولذلك نجد المحب المفرط في ذات فراشه يرغب في مجامعتها على هيئات شتى وفي أماكن مختلفة ليستكثر من الاتصال " فإذا انحسم الطمع لم تكن محبة، فالمجوسي يستحل ابنته واليهودي ابنة أخيه، للطمع الموجود، ولكن المسلم لا يفعل ذلك ولو أنهما أجمل من الشمس وكان هو أعهر الناس وأغزلهم، لذهاب مادة الطمع، (2) ؛ وهكذا غابت تماماً نظرية الاتصال بين النفوس وحل محلها التلاحم الجسدي، على أشكال شتى. وكأننا بابن حزم بعد عهد " طوق الحمامة " أصبح أكثر إدراكاً لواقع العلاقات الإنسانية. بل أزيد فأقول إن مفهوم الحب الأفلاطوني، حتى في عهد الطوق لم يكن يلائم ابن حزم، وإنما كان مادة دخيلة على واقعيته الشاهرة، ولعله أخذ بالفكرة من زاوية فلسفية، فلما راح يسرد نماذج من تجارب الحياة، لم يجد بين الفكرة والواقع لقاء. وحسبك من امرئ يعترف بان " الاغتصاب " يكون أحياناً طريقاً لتحقيق الحب، ماذا تراه يعني حين يقول: " وربما اتبع المحب شهوته وركب راسه، فبلغ شفاءه من محبوبه، وتعمد مسرته منه على كل الوجوه، سخط أو رضي " (3) ، اترى هذا يعني غير التحكم القاسر، وتنفيذ الإرادة التي لا رد لها!

_ (1) رسائل ابن حزم: 138. (2) المصدر السابق: 138 - 139. (3) باب المخالفة (رقم: 15 ص: 160) .

وإذا كان انقسام النفوس في عالمها العلوي (أو في هذه الخليقة) انقساماً يوازي الآية القرآنية: " هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها " فأين يمكن ان يقع في سياق تلاقي الأجزاء حب الذكر للذكر (1) وإذا كان ذلك في أصل تجزئة النفوس فلماذا لم تكن سبيلاً إلى السكون ولقد أقر ابن حزم - على مستوى الواقع - بوجود هذا النوع من الحب، اعني انه ذكر " أحداثاً " بعضها معروف مشهور تتصل بذلك النوع، ولم يحاول ان يعللها - او يقرر إلى أين تنتهي - على أساس من فكرة انقسام النفوس، او حتى على أساس الاستحسان الجسدي الذي يؤدي إلى اتصال النفوس. إن الاعتماد على فكرة انقسام النفوس (في عالمها العلوي أو في الخليقة) - وهي على الأساس الافلاطوني أو الأفلوطيني أجزاء من النفس الكلية المتصلة بالأول - لا يلبث لدى ابن حزم ان يتهاوى، لأننا نكتشف لديه ان النفس تعني عنده " الأمارة بالسوء "، وهذه تنقاد للشهوات، وضدها العقل (وقائده العدل) ؛ وهاتان الطبيعتان - العقل والنفس - قوتان من قوى الجسد الفعال بهما، وهما في تنازع مستمر، فغلبة العقل تعني اتباع العدل والاستضاءة بنور الله، وغلبة النفس تعني عمى البصيرة وضياع الفرق بين الحسن والقبيح " والروح واصل بين هاتين الطبيعتين وموصل ما بينهما " (2) ؛ وإذا فإن النفس التي يعرفها ابن حزم ليست قوة نورانية تحيط بها ستور الجسد وتحجب عنها التعرف إلى صنوها، كما قال في أول الرسالة، بل هي التي تؤدي إلى هلكة الإنسان، ورغم ذلك فإن ابن حزم يسميها هي والعقل " جوهرين عجيبين رفيعين علويين " وهكذا يضطرب ابن حزم اضطراباً واضحاً ويزيد من اضطرابه هنا تفرقته بين

_ (1) ليس في طوق الحمامة أي شاهد على حب الأنثى للأنثى، مع ان الشواهد الأدبية التي يعرفها ابن حزم ولا بد مليئة بنماذج من هذا النوع، وانظر ص: 67. (2) الباب: 29 (قبح المعصية ص: 268) .

النفس والروح، مع أنه يقول من بعد: " والنفس والروح اسمان مترادفان لمسمى واحد ومعناهما واحد " (1) . إن هذا الصراع بين المفهوم الأفلاطوني للنفس والمفهوم القرآني، يقابله صراع آخر بين ابن حزم الاجتماعي الواقعي وبين ابن حزم الأخلاقي المتدين، فالأول منهما لا يؤمن بان النظرة الأولى لك والثانية عليك (2) ، ويقترب من المرأة بحيث يتجاوز نص الحديث " باعدوا بين انفاس الرجال والنساء " (3) ، والثاني يؤمن بعكس ذلك تماماً، إيماناً نظرياً فهو يقول: " والصالح من الرجال من لا يتعرض إلى المناظر الجالبة للأهواء ولا يرفع طرفه إلى الصور البديعة التركيب " وفي سلوكه العملي يكرر النظر حتى ترسخ العلاقة ويلاحق المرأة من مكان إلى آخر، ويقول في السفير: ويجب تخيره واستجادته واستفراهه " (4) وكلمة " يجب " تدل على ان الأمر عملياً لابد من ان يقع، رغم أن المتدين القابع في نفس ابن حزم يقول: " وكم داهية دهت الحجب المصونة والأستار الكثيفة والمقاصير المحروسة والسدد المضبوطة " يعني من مثل ذلك السفير. هنالك إيمان قار لدى ابن حزم وهو أن التعفف أمر عسير، ولا يملك - وهو يحض عليه - أن يجزم بأن من نجا في امتحان تحقيق الرغبة عند إمكانها لا يتعدى أحد سببين: طبع ليس من السهل استدراجه في لحظة أو كلمة وكلمتين، ولكن لو طال الامتحان لسقط فيه الممتحن، وبصيرة حادثة - على المكان - قهرت الشهوة وردتها إلى جحرها وأطفأت بنفخة قوية شعلتها، وهذا الإيمان مبني على ان بني الإنسان ذوو " بنية مدخولة ضعيفة " وأن استحسان الحسن وتمكن الحب طبع في أصل

_ (1) الفصل 5: 74. (2) الباب: 29 ص: 271. (3) الباب السابق ص: 275. (4) الباب: 11 ص: 141.

الخلقة (1) ، ولما كان كذلك لم يكن واقعاً تحت الأوامر الدينية، إنما الأمور الدينية تنص على المحرمات، وهذه ليست من بنية الخلقة وإنما يأتيها الإنسان باختياره " وبحسب المرء المسلم ان يعف عن محارم الله " (2) . والسؤال الذي لا نظن ابن حزم يستطيع أن يجيب عنه هو: كيف يعف مع تلك البنية المدخولة الضعيفة، أو كان طبعه من السهل أن يستدرج في كلمة أو كلمتين، أو لم تحدث له بصيرة عاجلة تقاوم ثورة الشهوة لديه في حينها، أي لم يكن نبياً مثل يوسف الصديق! إن ابن حزم يحل هذه المشكلة ويأتي بالجواب على المستوى الذاتي حين يقول: يعلم الله - وكفى به عليماً - أني برئ الساحة سليم الأديم صحيح البشرة نقي الحجزة، وإني أقسم بالله أجل الأقسام أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا مذ عقلت إلى يومي هذا " (3) ، ولكنه حين يقص كيف تورط الآخرون، يستعيذ بالله مما فعلوه، أو يورد الحكاية دون تعليق. فليس بمستغرب إذ أن تجد فقيهاً مثل ابن قيم الجوزية يتعقب هذا التناقض لدى ابن حزم إذ يقول: وذهب أبو محمد ابن حزم إلى جواز العشق للأجنبية من غير ريبة، وأخطأ في ذلك ظاهراً، فإن ذريعة العشق أعظم من ذريعة النظر وإذا كان الشرع قد حرم النظر لما يؤدي إليه من المفاسد فكيف يجوز تعاطي عشق الرجل لمن لا يحل له " (4) ثم وصف ابن حزم بأنه " انماع في باب العشق والنظر وسماع الملاهي المحرمة " (5) وبين موقفي الرجلين بون واضح، سببه اختلاف المنطلق وزاوية النظر، ولا ريب في أن اقربهما إلى حقيقة الاجتماع

_ (1) الباب: 12 (طي السر ص: 145) . (2) الباب السابق نفسه ص: 144. (3) الباب: 29 (قبح المعصية: 272) . (4) روضة المحبين، 88، 89 وانظر أيضا: 118. (5) روضة المحبين: 130.

الإنساني هو ابن حزم، لأنه يأخذ بنظرة المؤرخ الاجتماعي دون أن يتخلى عن حد هام في الموقف الديني وهو " البعد عن الكبيرة " وما عداها فقد يكون من اللمم الذي يشمله الغفران، ولولا الفصل الذي عقده ابن حزم عن " قبح المعصية " لما اضطر إلى أن يظهر بمظهر المتناقض أحياناً في رسالته، فهي رسالة ترصد العلاقات العاطفية والمواقف النفسية. ولو أنا رصدنا فيها ظاهرة الحب كما تتمثل في المجتمع الأندلسي، لخرجنا من ذلك بالجدول الآتي: 1 - حب بين ذكر وأنثى: 40 حالة (منها 6 حالات تعد المرأة فيها طالبة، ومنها 11 حالة تتحدث عن زوج وزوجة) . 2 - حب بين ذكر وذكر: 7 حالات (3 منها ذكر فيها المحب والمحبوب، وحالتان ذكر فيهما المحب فقط، وحالتان أبهم فيهما اسم المحب والمحبوب) . 3 - حالت مبهمة (1) : 23 حالة. وهبنا تغاضينا في هذا الإحصاء عن أن المثل الواحد يصح شاهداً في عدة مواضع، وقبلنا بالأرقام كما جاءت، فإن الحالات المبهمة لا تمكننا من البت بنسبة ما يسمى الحب الشاذ إلى الحب الطبيعي، ولكننا إذا قدرنا أن هذه الإبهام متعمد فان ذلك قد يرفع من نسبة الحب (رقم: 2) في الجدول الي ما يزيد عن 50./.، مع علمنا بأن المجتمع الأندلسي مجتمع تغلب عليه الجواري (2) ، أو إن شئت قلت إنه مجتمع " غير مغلق ". وكل هذه الحالات في " طوق الحمامة " نماذج لما يسمى العشق،

_ (1) يعني ليس فيها ما يدل على أن المحبوب أنثى أو ذكر لغموض التعبير، كأن يقول: فتى وحل في الحب، محبوبه يعده الزيارة. الخ. (2) لا علاقة لهذا الحكم بلفظة " جارية " كما وردت في رسالة طوق الحمامة، في هذا الموطن، وانظر الحديث عن ذلك فيما يلي.

أو ما وضعه تحت مفهوم " اتصال النفوس " (مباشرة أو عبر الأجساد) ، وقد كان في كل ذلك أميناً للموضوع الرئيسي في الرسالة، عير أنه كثيراً ما يلجأ إلى انتزاع أمثلة لا علاقة لها بالعشق، وإنما هي تنتمي إلى ضروب الحب الأخرى، كالمودة بين الاصدقاء، وحب الماضي الذي يمثل الغي والجاه " وغن حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء " (1) ، وما يألفه المرء من ملبوس ومطعوم ومركوب وهذا أدخل في عنوان الرسالة " في الألفة والألاف " ولكنه يبدو هامشياً إزاء الموضوع الرئيس فيها؛ ولعل ابن حزم اختاره ليقوي معنى سيطرة العلاقات العاطفية جملة على مواقف الفرد. ولكن من اللافت للنظر ان الكتاب خال تماماً من أية إشارة إلى حب الانثى للأنثى (2) ، مع أن ابن حزم يتبجح في غير موطن بأنه وقف من أسرار النساء على ما لم يقف عليه أحد؛ فشهادة ابن حزم هنا على المجتمع الأندلسي تعد ناقصة. وهي أيضاً شهادة محدودة، لأنها لا تصور المجتمع الأندلسي، ويجب أن لا تؤخذ كذلك؛ فإن اكثر الأحداث التي تستشهد بها إنما تتم - في الغالب - بين أناس من طبقة اجتماعية غنية، ومن هذه الطبقة أسر من موالي الأمويين - أي من سراة الناس وأصحاب المناصب العالية مثل بني حدير وبني عبدة وبني مغيث، ومنها رجال من البيت الحاكم أو من المقربين منه مثل ابن أبي عامر وعمار بن زياد مولى المؤيد هشام وعبيد الله بن يحيى الجزيري وبنت ابن برطال زوجة يحيى بن محمد بن الوزير يحيى، وعاتكة بنت قند صاحب الثغر الأعلى وزوجها أبو بكر ابن حزم (وأبوه وزير) ، وابن الطبني من أسرة مقربة إلى العامريين، ومنها أفراد من أسر الكتاب - وهي اسر ذات مقام اجتماعي بارز، وأحياناً كثيرة تتمتع بكثرة الأموال العريضة والخدم والحشم؛ ولا يفتأ ابن حزم

_ (1) الباب: 6 (من لا يحب إلا مع المطاولة: 125) . (2) أشار الدكتور الطاهر مكي الى هذه المسألة في كتابه " دراسات.. " ص: 338.

يميز المحب أو المحبوب بصفة تدل على منزلته الاجتماعية: " فتى من أهل الجدة والحسب " " فتى من أبناء الرؤساء "، " فتى من أبناء الملوك " " جارية لبعض الرؤساء " " امرأة موسرة ذات جوار وخدم " " فتى بسبب من الرئيس والجارية تحضر مجلس بعض أكابر الملوك " وهكذا، ومرة يذكر حب شاعر لا ينتمي إلى الطبقة الثرية (وهو الرمادي) وإن كان من طبقة برجوازية بحكم ثقافته، واخرى حب ن علق بهوى وهو في حال شظف (ولعل ذلك الشظف كان مرهوناً بظروف معينة) . وذلك هو القطاع الاجتماعي الذي عرفه ابن حزم بحكم منتماه ونشأته. وفي هذا القطاع تكثر الجواري، والجارية لفظة تدل في قصص الحب على " الفتاة "، فإذا رشحت بنوع من الوصف يميزها قطعنا أنها ليست حرة، كأن يذكر أنها بيعت أو أعتقت، أو يتحدث عنها بصفة التملك " جارية لي " " جارية لي " فرغب بعض عجائزنا إلى سيدتها " وما أشبه، وإذا رشحت بوصف من نوع آخر كانت حرة مثل " جارية من ذوات المناصب والشرف من بنات القواد " أو " امرأة من معارفي ومعها جارية من قراباتها " فمثل هذا التحديد يعين أنها حرة. ومن بين إحدى وثلاثين حالة ذكرت فيها الجواري نجد تسع عشرة منها من الرقيق، واثنتين من الحرائر، واحدى عشرة حالة مبهمة ليس من السهل أن نقطع إلى أي الفريقين تنتمي؛ وهذا كله يعتمد على ورود اللفظة نفسها في النص، فإذا أضفنا إلى ذلك أن اللواتي تزوج بهن بعض الأمراء والخلفاء مثل طروب وغزلان وصبح كن في الأصل جواري من الرقيق، ارتفع العدد كثيراً، ولهذا قلت فيما تقدم إن المجتمع الأندلسي كانت تغلب عليه الجواري، بمعنى أن الرقيق كان كثيراً، وتلك حقيقة تؤيدها المصادر الأخرى. ولست هنا بصدد المقارنة مع ما كانت عليه الحال في المجتمع المشرقي، إذ ليس لدي تصور إحصائي أو شبه إحصائي يمكن من ذلك، ولكن إذا صح ان الجواري كن يغلبن على المجتمع الأندلسي فإن

" قضية الحب " تقع تحت منظور جديد، وكذلك تكون المعاناة والعذاب والوجد بسببه أموراً تتطلب تفسيراً مقنعاً. وأول ظاهرة في هذا الحب أن أكثر الذين يعانون منه هم " الأبناء " في العائلات التي تملك الجواري، إذ يبدو بالإضافة إلى الجواري اللواتي كن في ملك الفتى ابن حزم - وهو لم ينفصل عن أهله بعد - أن القصر كان مليئاً بجوار أخر تتطلع أنظاره اليهن، وذلك يمكن أن يقال في فتيان آخرين من أبناء تلك الأسر، وكان ذهاب الجارية بالبيع، أو استئثار أخ دون أخيه الآخر بها، أو فراق أحدثته الحروب والأزمات، أو شؤون السفر، هي الأسباب التي رفعت درجة المعاناة إلى حد الخبل أحياناً، كما كان تعالي الفتى أو غفلته عما تحس به الجارية نحوه مسبباً في خروجها عن حد الحياء المنتظر في تصرفاتها. ولكن أشد الحالات التي تعز على التفسير هي معاناة الفتى بسبب تمنع جارية هي في ملك يده، وقد عبر ابن حزم عن هذه الظارهة حين قال: " فقد ترى الإنسان يكلف بامته التي يملك رقها ولا يحول حائل بينه وبين التعدي عليها. فكيف الانتصاف منها ". أي انه يكلف بها، ولا يستطيع أن يحولها عن تمنعها ويتعذب بذلك (كما حدث لسعيد بن منذر ابن سعيد) وترفض الجارية ان تتزوجه، وهذا موقف يدل على إرهاف في العلاقة بين الأسياد والجواري، مثلما يدل على ان شخصية الجارية لم تكن دائماً محط إذلال، وخاصة حين يكون الأمر متصلاً بالعواطف، نعم قد يبيعها سيدها، وتصبح ملكاً لغيره، ولكنها هي لا تمنح محبتها بل ولا جسدها بحكم الملكية. ويجب هنا أن نتذكر أن الجواري كن أيضاً متفاوتات في المنزلة الاجتماعية، فمنهن اللواتي يتخذن للخدمة ومنهن اللواتي يتخذن للذة والنسل، والفريق الثاني بطبيعة الحال أرفع منزلة من الأول، ولكن إن شاءت الجارية ان تتحول من الحالة الأولى إلى الثانية فهذا ربما كان يعتمد على جمالها وعلى ما قد تحاول إتقانه من فنون، فأما تحولها من الثانية إلى الأولى فأمر مستهجن في عرف المجتمع حينئذ، وقد ينالها

الضرب رجاء استبقائها على حالها، ولدينا مثال واحد يشير إلى وفاء جارية بيعت بعدما مات سيدها الأول فأبت أن تنصاع لرغبة مالكها التالي، وانكرت علمها بالغناء ورضيت بالخدمة رغم ما نالها من ضرب وتعذيب (1) . 8 - حال المرأة من خلال طوق الحمامة: هل يمكننا بعد ذلك أن نتحدث عن وضع المرأة عامة من خلال الطوق قد كان من الممكن أن تسعفنا هذه الرسالة على تكوين صورة دقيقة لنفسية المرأة ووضعها الاجتماعي بحيث تتجاوز الصورة ما ألف عن الانطباعات العامة، لأن مؤلفها قد علم من أسرار النساء ما لا يعلمه غيره، فهو قد ربي في حجورهن، ولم يجالس سواهن حتى أصبح في حد الشباب، وهن اللواتي علمنه القرآن وروينه كثيراً من الأشعار ودربنه في الخط، وكان همه منذ الطفولة ان يتعرف إلى أسبابهن ويبحث عن أخبارهن، مع ذاكرة لا تنسى (2) ؛ ولكنه يعترف أنه طبع على غيرة شديدة، وسوء ظن في المرأة (3) ، بحيث لا يصلح أن يكون شاهداً موضوعياً مجرداً من التحيز، وثمة شيء آخر وهو أن الطوق يتحدث عن العلاقات العاطفية ولا يتجاوزها إلا قليلاً، ولهذا السبب ستكون صورة المرأة فيه محدودة، في إطار ذلك الموضوع، ومع ذلك فإنها رغم ذلك هامة. وأول ما يلفت النظر ان المرأة الحرة كانت في الأندلس مقصورة تعيش خلف حجاب غليظ، وخاصة في الأسر الغنية، ولعلها تشبه في ذلك أختها في المشرق، وأما ما نلمحه من حرية في الحركة فيكاد يكون مقصوراً على الجواري، ولكن المرأة الحرة في تلك الأسر كانت ذات

_ (1) باب الوفاء (رقم: 22 ص: 208) . (2) الباب: 17 (المساعد من الاخوان: 166) . (3) انظر ما تقدم، وكذلك الباب: 29 (باب قبح المعصية: ص 272) .

سيطرة وقدرة على التصرف، وهي محفوفة بالخدم والحشم. وقد أحدث ذلك الحجاب الغليظ لدى النساء يقظة عاطفية على الأصوات المسموعة والصور المتخيلة، حتى ميزهن ابن حزم بالضعف في هذه الناحية، لسرعة إجابة طبائعهن إلى الهيام عن طريق التخيل (1) . ولكن الحجاب نفسه، ولأسباب أخرى في البنية الاجتماعية أصبح السفير بين العاشقين ذا دور هام، ولكن المرأة تتفوق على الرجل في هذه الناحية، خاصة إذا كانت عجوزاً، ولذلك كان أرباب الأسر بقرطبة يحذرون الفتيات الناشئات من النساء ذوات العكاكيز والتسابيح والثوبين الأحمرين (2) . وأكبر عامل يصنع الفرق بين الرجال والنساء ويمتد اثره إلى المناحي المختلفة في طبيعة كل منهما هو الفرق في العمل وأنواع النشاط، فالرجال مشغولو النفوس والعقول بجمع المال وصحبة السلطان وطلب العلم وحياطة العيال ومكابدة الأسفار والصيد وضروب الصناعات ومباشرة الحروب وملاقاة الفتن وتحمل المخاوف وعمارة الأرض (3) ، ومثل هذه الأمور لا تترك للرجل مجالاً كبيراً أو وقتاً كثيراً للانسياق وراء العواطف؛ أما المرأة فهي متفرغة لا تعنيها هذه الشؤون العنيفة وربما لم تطقها، ولهذا يظل خيالها مشدوداً إلى شؤون الغزل وما يتعلق به، ومن ثم كانت النساء أكثر تعاطفاً مع المحبين وأكثر إسعافاً لهما، فهن يكتمن الاسرار، ويمقتن من تفشيها منهن، وأشدهن في الكتمان العجائز منهن، لان الفتيات ربما أدركتهن الغيرة فبحن بالسر، وهن يتلذذن بالتضحية في سبيل إسعاد محبين، بل أحب الأعمال إلى امرأة صالحة مسنة منقطعة الرجاء من الرجال ان تسعى في تزويج يتيمة أو تعير حليها أو ثيابها لعروس فقيرة (4) ، ويبدو ان هذا النوع من النساء إنما ينتمي إلى طبقات ميسورة، إذ ليس كل النساء

_ (1) باب من احب بالوصف (رقم: 4: 117) . (2) باب السفير (رقم: 11: 141 - 142) . (3) باب المساعد من الاخوان (رقم: 17 ص: 165) . (4) الباب السابق نفسه.

متفرغات بشهادة ابن حزم نفسه، وإنما كان فيهن الطبيبة والحجامة والدلالة والماشطة والنائحة والمغنية والكاهنة والمعلمة والعاملة في الغزل والنسيج (1) ؛ ولكن من الواضح أيضاً أن هذه الفئة من المهن تختلف اختلافاً أصيلاً في أكثرها عن مهن الرجال، وهي في مجموعها مهن لخدمة النساء أنفسهن، محافظة على الحجاب الغليظ، كما أنها مداخل إلى ترسيخ الوساطة بين العشاق. ومن السهل أن يقال بعد ذلك إن جمال المرأة - على مستوى التكوين الطبيعي والقدرة على التحمل - جمال هش لا يعمر طويلاً، وأنها إذا ابتذلت في الخدمة سارع جمالها إلى الزوال؛ أما حسن الرجل فإنه أثبت، وبرهان ذلك أنه يتعرض للهجير ولفح الرياح، فلا يذوي بسرعة (2) . فإذا تجاوزنا التكوين الطبيعي إلى رصد التصرفات المتصلة بالعواطف والشهوات وجدنا الجنسين سواء - في رأي ابن حزم - من حيث قدرتهما على قمع الشهوة أو الانقياد لها، فكل رجل تعرض له امرأة بالحب وتثابر على ذلك واقع ولابد في حبائل الشيطان، وكل امرأة دعاها رجل بمثل ذلك مستجيبة ما من ذلك بد (3) . وكذلك هما في الصلاح سواء، والصالحة من النساء هي التي إذا ضبطت انضبطت، والصالح هو الذي يتجنب المغريات (لاحظ الفرق هنا بين من يحتاج إلى من يضبطه ومن يستطيع أن يستعمل إرادته في ضبط نفسه) فإذا أهملت المرأة وطمح الرجل ببصره لم يعد للصلاح وجود (4) . وكل من المرأة والرجل يحب " الإعلان الذاتي " والتزين والتعريض ليكسب ود الآخر، فإذا شعرت المرأة بأن رجلاً يسمع حسها أو يراها " أحدثت حركة فاضلة كانت عنها

_ (1) الباب 11 (باب السفير: 142) . (2) باب السلو (رقم: 27: 142) . (3) باب قبح المعصية (رقم: 29: ص 269) . (4) الباب نفسه: 270.

بمعزل " وحورت في حركاتها وكلامها لتقع موقعاً من نفسه، وكذلك الرجل أيضاً، فأما إذا تراءيا فهما سواء في حب إظهار الزينة وترتيب المشي وإيقاع المزاح، إلا أن المرأة أقدر من الرجل على التحيل لاستجلاب الهوى وإيصال محبتها إلى قلبه (1) . كما أنها أنفذ بصراً في استشعار أدنى ميل نحوها (2) . وإذا كان الرجل يقدم على الاغتصاب دون تفكير في العواقب، أو يقبل التديث حين تضمحل الغيرة، فإن المرأة عنيفة تقدم على القتل إذا أحست أن محبوبها مشترك الهوى، وليس في الطوق أية إشارة إلى رجل قتل امرأة لأنها خانته، وغاية ما حدث لأحدهم عندما خانته محبوبته انه وجد لذلك وجداً شديداً (3) . فأما الموت وفاء للمحبوب، فيبدو أن الرجل والمرأة فيه سواء، وكذلك الخروج فيه إلى حد الاختلاط والجنون. 9 - صورة ابن حزم في الطوق (ورسالة مداواة النفوس) ولقد كان لصلة ابن حزم بالنساء منذ الطفولة حتى الصبا، عن طريق المعاشرة والثقافة، أثر كبير في ذوقه وشخصيته، ويبدو أنه لم ينعم بمعرفة الأم وتربيتها وحنانها، فاستعاض عن ذلك بالدلال الذي لقيه من الجواري، وأصبح يلاحقهن وينصت لأحاديثهن ويشره إلى معرفة أخبارهن وأسرارهن وحيلهن، وكن - فيما أقدر - لا يتحرجن لصغره من البوح بأشياء كثيرة جعلته يسيء الظن بتصرفات النساء، كما أكسبته تلك العشرة محبة الانفراد بالعطف، فنشأ شديد الغيرة، واكتسب من البيئة التي ساعد عليها ذوق والده (في محبة الشقراوات) ميلاً إلى الشقرة، ورسخ تلك الحقيقة أن حبه الأول اتجه إلى فتاة شقراء؛ وقد أرهفت تلك البيئة البيتية إحساسه بجمال الأنثى، وعلمته التجارب الأولى في تنقل

_ (1) الباب السابق: 271 - 272. (2) باب السلو (رقم: 27: 250) . (3) باب الوفاء (رقم: 22: 207) .

الميل مع كل حسن لائح، ان المحبة لابد من أن تكون " خلقة " مجبولة في فطرة الانسان. لقد مارس كل ذلك على نحو عملي قبل أن يتعلم أحكام النظر ومخالطة المرأة الأجنبية في مجالس الفقه، ولذلك لم يستطع - بعد أن تعلم ذلك - التخلص مما نشأ عليه، إذ ما دامت العفة عن الحرام قد حالت بينه وبين الوقوع في الكبيرة، فما ثمة ضير كبير في محقرات الذنوب عند رب غفور؛ ولهذا قال فيه ابن القيم انه " انماع في باب العشق والنظر " أي لم يستطع أن يواجههما بتشدده الذي أظهره من بعد في الشؤون الأخرى. ولعله صوناً لذلك التعفف - تزوج " نعما " في سن مبكرة، " وكانت أمنية المتمني وغاية الحسن خلقا وخلقا " وكان هو أبا عذرها (وتلك أيضاً حقيقة هامة) فكان فقدها فاجعاً لأنه ابرز إلى العيان ما انطوت عليه نفسه من " حدة رومنطيقية كامنة " كان يداريها من قبل بالاستحسان والألفة والتودد، فلم تعد هذه كافية لصد تيار الحزن الجارف المتدفق من نفسه، فقد أقام بعدها سبعة أشهر دون أن يغتسل، وهو آخذ في بكاء متواصل، رغم أنه معروف بجمود الدمع بسبب إدمانه أكل الكندر - على ما يقول - لمداواة خفقان القلب، ولم يطب له عيش بعدها ولا أنس بسواها ولا نسي ذكرها؛ شيء واحد لم يستطع ذلك الفقد أن يزلزله وهو إيمانه بالتعفف، ومما زاده رسوخاً في ذلك اتخاذه استاذه أبا علي الحسين بن علي الفاسي نموذجه الأعلى، وكان رجلاً صالحاً ناسكاً، ولعله كان حصوراً لم يتزوج، قال ابن حزم " فنفعني الله به كثيراً وعلمت موقع الإساءة وقبح المعاصي " نعم ظل قلبه يخفق كلما شاه جمالاً، وكان يقترب حتى يكاد يصبو " ويثوب إليه مرفوض الهوى ويعاوده منسي الغزل " ولكنه كان يغلب الإرادة فيفر مبتعداً. كانت نعم جزءاً من الماضي، ولكن ذلك الماضي كله انهار دفعة واحدة حين ذهبت الدور والمقصور وانطفأ العز والجاه والغنى وتفرقت الكواعب في أنحاء الأرض، وتشتت الشمل، وتهاوى البلد الحبيب تحت

مطارق الدمار؛ وكانت " الحدة الرومنطيقية " تتعلق بالحب فأصبحت وجوداً في الماضي، وإنكاراً للحاضر (إلا من علاقات عملية عابرة) وأصبحت ألفة كل شيء تقدم هي التي تسيطر على الفكر والمشاعر: " وان حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء وما انتفعت بعيش ولا فارقني الإطراق والانغلاق مذ ذقت طعم فراق الأحبة، وانه لشجى يعتادني وولوع هم ما ينفك يطرقني، ولقد نغص تذكري ما مضى كل شيء استأنفه، وإني لقتيل الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا " (1) . ولقد أورثته هذه النكبات إحساناً مرهفاً بمعنى الفقد والفراق حتى أصبح يرى الموت أسهل من الفراق، وجعلته يستعيذ بالله من التنكر لما درس، أي لما أصبح جزاءاً من الماضي؛ وكم جلب تغير الحال من تنكر الاخوان والأصدقاء، مما زاد حساسيته تجاه الحفاظ على العهود الماضية، فأخذ في علاقاته يتكئ على التأني والتربص والمسالمة وخفض الجناح - رغم توقد حدته - كلما أحس أنه قد يفقده التعجل والغضب صديقاً من أصدقائه؛ ولهذا استشعر انه بالمقايسة إلى المتقلبين في صداقاتهم يتحلى بالوفاء، لا لمن يمثلون العهود الماضية وحسب، بل انبسط وفاؤه حتى شمل كل من مت إليه بلقية واحدة أو حادثه ساعة، وتورع عن إلحاق الأذى بمن كان بينه وبينه أقل ذمام ولو عظمت ذنوبه وإساءاته إليه. وقد كان هذا النوع من الوفاء مرمضاً لأنه يكلفه الحمل على نفسه، ومما يزيد في الألم الناشئ عنه اقترانه بعزة النفس، فالوفاء يتطلب تحمل الضيم من الصديق، وعزة النفس لا تقر على الضيم، ومن صراعهما يتولد قهر الذات وحملها على التصبر وتحمل الألم الممض، وكل هذا يحمل على اكتنان مقت شديد للغدر والكذب والتلون، وذلك أيضاً مبعث ألم آخر، وقد يسامح ابن حزم في كل عيب يجده في من حوله من معارفه وأصدقائه إلا في الكذب، فحينئذ يكون هو

_ (1) باب من لا يحب إلا مع المطاولة (رقم: 6: 125) .

البادئ إلى القطيعة والمتاركة، وكأنه يقول: أن وفائي يضيق عن الكذب مهما انبسط نطاقه واتسع. وقد بقيت تلك " الحدة الرومنطيقية " في معايشة الماضي محور شخصية ابن حزم حتى بعد سنوات من كتابة الطوق، وأحسبها لم تتغير شخصية ابن حزم حتى بعد سنوات من كتابة الطوق، وأحسبها لم تتغير إلى النهاية، وإنما كانت تتلبس أشكالاً مختلفة؛ وقد غرست في نفسه شعوراً بالظمأ الدائم، لان ريه إنما يتم بالعودة إلى الماضي وذلك أمر مستحيل؛ ولهذا كان واقع الحياة يزيد في حرارة ذلك الظمأ، وفي مجال الحب عبر عن ذلك الشعور بقوله: " وعني أخبرك أني ما رويت قط من ماء الوصل ولا زادني الا ظمأ " (1) ، وإذا كان الصوفية يرون غايتهم في الفناء، فان ظمأ ابن حزم لم يكن يشفيه إلا أحد شيئين إما الاتحاد النهائي بالمحبوب أو العودة إلى رحم الماضي، وقد خلصته السن من الظمأ الأول وأبقت له الثاني. قلت إن " الحدة " لدى ابن حزم أخذت تتلبس من بعد أشكالاً مختلفة، فقد أخذت تتمثل بعد عهد الطوق بالإفراط في الغضب والتعبير عن ذلك بالكلام والفعل والتخبط، وكان يقابل ذلك أيضاً الإفراط في طلب الرضى، ولكنه ظل يعالج هذين الأمرين فاستطاع التغلب على الغضب جملة، وأعجزه ذلك في شأن الرضى، وتشكلت الحدة أحياناً لديه بصورة " حقد مفرط " فقاومه بالطي والقهر، حتى لم يبد للناس، ولكنه ظل عاجزاً عن مصادقة من عاداه عداوة صحصحة - وهذا مطلب يعجز عنه أيضاً من لم يكن لديه حقد مفرط، وكذلك تشكلت في صورة حب الشهرة والغلبة، وقد ظلت هذه الصفة تلازمه إلا فيما لا يحل في الديانة، فأما العجب الذاتي اللاحق بها فقد استطاع خنقه إلى الأبد. وأما الغيرة وسوء الظن المأتيان من تجاره مع الجواري، فقد ظلا

_ (1) باب الوصل (رقم: 20: 184) .

يلازمانه. أما الغيرة أو الأنفة الشديدة فقد حملته على بضعه لانكاح الحرم جملة، وأما سوء الظن فإنه امتد حتى شمل الرجال، وقد ظل يراه حزماً ما لم يخرج عن حدود الدين. كذلك استمر لديه التحمل للأذى والصبر على الألم من الخصوم والإخوان على السواء، حتى اتهمه بعضهم بتبلد الإحساس في هذه الناحية، وهو يرد على ذلك بان الإحساس بالألم في مثل ذلك أمر طبيعي ولكن كل ما هنالك أنه راض نفسه على عدم الثورة والهياج والتخبط، ولكنه يستطيع ان يرد بكلام مؤلم دون إفحاش متحرياً الصدق فيما يقول. كذلك اتهم بأنه مذل بأسرار إخوانه، ولعل في هذا إشارة إلى كتاب الطوق نفسه إذ كشف فيه أسرار كثيرين ممن عرفهم، وكان الناس في أيامه يعرفونهم حتى وان لم يذكر أسماءهم؛ كما اتهموه بأنه يسمع الذم في اخوانه ولا يمتعض لهم، ويرد على هذه التهمة بأنه يمتعض امتعاضاً رقيقاً، يحمل الذام على الندم والاعتذار والخجل، دون مهارشة له أو استثارة لغضبه، لان ذلك قد يحمله على التمادي في ذم أحد إخوانه، ويتعدى الذم إلى سب الأبوين وإلى السفه والبذاءة. وأخذ عليه أنه متلف لماله، ولابد أن تكون هذه التهمة بعد إذ أصبح يستطيع الحصول على مال يمكن التوفير فيه، وهذه الحال غير مستنكرة في من عانى شظف العيش بعد استقرار ورفاهية، واني لأظنها مأخذاً صحيحاً، ولكن ابن حزم يعتذر عنها بأنه لا يتلف من ماله إلا ما فيه حفظ دينه من النقص وعرضه من الأخلاق ونفسه من التعب، وكأني به يقر بتلك الخصلة على نحو غير مباشر. ويطالعنا ابن حزم بخصلة كانت فيه ليس من السهل أن يستشف من مؤلفاته، وهي دعابة غالية، وتلك صفة حاول فيها الاعتدال بتجنب ما يغضب الممازح، وظل يحتفظ منها بالقسط الذي لا يؤذي الآخرين. وقد نحمل عليها ثلاثة مواقف في الطوق أولها: أن ابن حزم توقف في

موطن جاد ليقول لنا إن أحد المنتسبين إلى العلم فسر القبقب بأنه البطيخ، وليس من شك في أنها نادرة كانت تضحك ابن حزم. والثاني: تلك الروح " الفضولية " التي دفعته وهو في مجلس رأى فيه غمزاً وخلوات أن ينبه صاحب المنزل بإنشاد هذين البيتين وتكرارهما كثيراً وهما: إن إخوانه المقيمين بالامس ... أتوا للزناء لا للغناء قطعوا أمرهم وأنت حمار ... موقر من بلادة وغباء حتى قال له صاحب المجلس " وقد أمللتنا من سماعهما فتفضل بتركهما أو إنشاد غيرهما "، فالأمر كان يبدو لابن حزم نوعاً من التندر، حتى وجد أن تندره لا يؤثر في ذلك البلد. والموقف الثالث: حين دعا أحدهم محباً كان متأنساً فرحاً بجلوسه مع محبوبه ليحضر إلى منزله، فلم يفعل فلما قابله الداعي بعد مدة لامه بشدة، فقال له ابن حزم: أنا أكشف عذره صحيحاً من كتاب الله عز وجل إذ يقول " ما اخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم " وهي دعابة عميقة. 10 - شعره: جمع طوق الحمامة قدراً صالحاً من شعر ابن حزم مما قاله حتى سن الخامسة والثلاثين، ولعل قسماً كبيراً منه سقط بفعل ناسخ النسخة التي وصلتنا، ونقدر أن شعره كان كثيراً لأنه كان يقول على البديهة والروية، ويعالج مختلف الموضوعات، وبعض شعره قاله قبل بلوغ الحلم، واكثر ما نظمه وهو دون الشرين إنما كان تغزلاً في " نعم " ثم رثاء لها؛ وكان إخوانه يسومونه القول فيما يعرض لهم على طرائقهم ومذاهبهم فيقول ما يناسب حالهم ومقصودهم، أي أنه لم يكن يرفض أن يقول الشعر بتكليف، وأن يتحدث فيه عن أحوال غيره، وقد كلفته إحدى كرائم المظفر أن يصنع لها أغنية لتلحنها ففعل. ولم يكن يختار وقتاً معيناً لقول الشعر، فأحياناً يقول الشعر وهو نائم - وذلك شيء نادر - ويختار أحياناً

أخرى أن ينظم بعد صلاة الصبح؛ وشعره حتى في الطوق زاخر بالمعاني، تكثر فيه المؤثرات الثقافية والإشارات إلى العلوم والعقائد والتعليلات ويكشف عن أثر الفقه الظاهري والمنحى الجدلي، ولا يفتأ يشقق المعاني ويولدها دون اهتمام كثير برونق الصياغة، وفي شعره في الطوق جانب دقيق قد نسميه " الجانب الباطني " كان يهرب إليه أحياناً من قسوة الظاهر وحدته، وينقل فيه معاني التنزيه والتوحيد، ويتأول الأشياء على غير ظاهرها حتى كان بعض أصدقائه يسمي قصيدة له " الإدراك المتوهم " وفيها يقول: ترى كل ضد به قائماً ... فكيف تحد اختلاف المعاني فيا أيها الجسم لا ذا الجهات ... ويا عرضاً ثابتاً غير فان نقضت علينا وجوه الكلام ... فما هو مذ لحت بالمستبان وتجده وهو المتمسك بأشد ألوان التنزيه يقول: أمن عالم الأملاك أنت أم انسي ... ابن لي فقد أزري بتمييزي العي أرى هيئة إنسية غير أنه ... إذا أعمل التفكير فالجرم علوي ولا شك عندي أنك الروح ساقه ... إلينا مثال في النفوس اتصالي ولولا وقوع العين في الكون لم نقل ... سوى أنك العقل الرفيع الحقيقي ومن تأمل هذا اللون من الشعر في موضوع الحب خاصة وجد أن ابن حزم الظاهري المتشدد قد بلغ فيه مشارف التصوف " الباطني " - لكن عن طريق التأمل الفكري - وهو في هذا الجانب المستمد من الوهم متأثر بطريقة أبي إسحاق النظام، معجب بها. وتكاد أكثر المواقف العاطفية أن تكون لديه " قضايا " تحاكم بمنطق العقل، وتتطلب استدلالاً: تصور نفسه انتظر زيارة المحبوب، فلما حل الظلام أدرك أنه لن يأتي، فما الدليل. وعندي دليل ليس يكذب خبره ... بأمثاله في مشكل الأمر يستدل لأنك لو رمت الزيارة لم يكن ... ظلام ودام النور فينا ولم يزل

أو يقول: دليل الأسى نار على القلب تلفح ... ودمع على الخدين يهمي ويسفح ويريد أن يصور أن المحبة سرت على مهل ولم تكن بنت ساعة، فيرى في ذلك قضية تستحق الاستدلال فيقول: يؤكد ذا أنا نرى كل نشأة ... تتم سريعاً عن قريب نفادها أو يأخذ قضية " عدم جواز حب اثنين في آن " فيقول: فكما العقل واحد ليس يدري ... خالقاً غير واحد رحمان فكذا القلب واحد ليس يهوى ... غير فرد مباعد أو مدان ويفيء إلى مذهبه الظاهري في اعتماد النص حين ينكر ورود نص في تحريم الحب: متى جاء تحريم الهوى عن محمد ... وهل منعه في محكم الذكر ثابت إذا لم أوقع محرماً أتقي به ... مجيئي يوم البعث والوجه باهت فلست أبالي في الهوى قول لائم ... سواء لعمري جاهر أو مخافت وكثيراً ما يلجأ في شعره إلى الحوار لأنه مأخوذ بالجدل، وذلك مبثوث في طوق الحمامة، وعلى الجملة قد يطول بنا القول لو أردنا التمثيل على كل المظاهر التي ذكرناها في شعره. وقد كان إخوانه يظهرون له إعجابهم بذلك الشعر حتى قال له أحدهم في أبيات نظمها " يجب أن توضع هذه في جملة عجائب الدنيا " والأبيات تعد نسبياً من أحسن شعره ولكنها لا تبلغ من المستوى ما يستحق قولة ذلك الصديق. ولا تقتصر الصعوبة في شعره على تشقيق المعاني المتوهمة، وركوب التعبير الخشن، والإشارات الثقافية والتاريخية وإنما تجاوز ذلك إلى صعوبات تتصل بالتلميحات والتعريضات، وخاصة حين يهجو، وتدل

بعض قصائده في الطوق على انه جرب المنحى الزهدي في شعره في عهد مبكر، وأنه كان يطيل في قصائده وخاصة الوعظية والفخرية. وسيزداد نظم ابن حزم للشعر بعد الطوق، وربما قلل فيه من الحديث عن الحب، غير أنه أكثر من الوعظيات والفقيهات والدفاع عن مذهبه ومدح الحديث وكتبه، وزادت البديهة لديه، حتى ابتعد نظمه عن الشعر الصحيح، وقد قام تلميذه الحميدي بجمع شعره وترتيبه على حروف المعجم، ولكن هذا الديوان لم يصلنا. 11 - نثره: من الواضح لمن يقرأ الطوق ان نثر ابن حزم فيه يقف موقف المفارقة من شعره، فهو أكثر شاعرية، وأحفل بالحيوية، وأقل حظاً من المحاكمات الذهنية، ولا يتعدى هذا النثر ثلاثة طرائق، تجيء أحياناً مجتمعة في الفصول الطويلة، فينتقل القارئ فيما بينها نقلات مريحة، وتلك الطرائق هي التقرير والخبر أو الحكاية والوصف الفني. ويجمع بينها التكثيف المتعمد استجلاباً للقوة في طيعة الأسلوب وطلباً للتأثير، وإن كانت الحكاية غالباً حظاً من ذلك، ويليها في الإكثار منه التقرير ثم ينفرد الوصف الفني بالمبالغة في التكثيف. ويتراوح التقرير في حظه من التكثيف بين إقلال وإكثار. وقد نقارن هنا بين قوله في الطاعة: " ومن عجيب ما يقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه، وصرفه طباعه قسراً إلى طباع من يحبه، وربما يكون المرء شرس الخلق، صعب الشكيمة، جموح القياد، ماضي العزيمة، حمي الأنف، أبي الخسف، فما هو إلا أن يبتسم بنسيم الحب، ويتورط غمره، ويعوم في بحره، فتعود الشراسة لياناً والصعوبة سهالة، والمضاء كلالة، والحمية استسلاماً " فهنا يتدرج الأسلوب من الحديث عن الطاعة في جملتين إلى تصوير المحب في ست جمل إلى وصف الحالة عند الوقوع في الحب في ثلاث جمل إلى النتيجة في أربع (2 - 6 - 3 - 4) وعند السؤال لماذا

اختص تصوير المحب بهذا القدر (وهو 2/ 5 القطعة في مجموعها) نجد أن الجواب على ذلك هو ميل ابن حزم إلى رسم " الشخصية " وهذا يتبين لنا إذا انتقلنا إلى تقرير آخر تحتل فيه " الشخصية " جميع الدورات التي مثلتها القطعة السابقة، وذلك هو التقرير عن حال المساعد من الإخوان الذي يشترط فيه أن يكون " صديقاً مخلصاً "، لطيف القول بسيط الطول، حسن المأخذ، دقيق المنفذ، متمكن البيان، مرهف اللسان، جليل الحلم، واسع العلم.. الخ " ففي عملية التكثيف يحشد الكاتب ما يزيد على خمسين جملة في الشروط التي يجب أن تتوفر فيه. أما الحكاية فأنها لا تتطلب تكثيفاً لأنها قائمة على الحركة، بينا التقرير يقوم على بطء فكري، من ذلك: " كنت بين يدي أبي الفتح والدي رحمه الله، وقد أمرني بكتاب أكتبه، إذ لمحت عيني جارية كنت أكلف بها، فلم أملك نفسي ورميت الكتاب عن يدي وبادرت نحوها، وبهت أبي، وظن انه عرض لي عارض، ثم راجعني عقلي، فسمحت وجهي، ثم عدت، واعتذرت بأنه غلبني رعاف ". فأنت ترى أن الاسترسال هنا - على الطبيعة - هو الأغلب وكل جملة في القطعة تنقلنا نقلة جديدة إلى النهاية. غير أن الحكاية نفسها قد تستدعي التكثيف لنفس السبب الذي ذكرناه في التقرير وهو تصوير الشخصية المحورية فيها: " وإني لأعرف من أهل قرطبة من أبناء الكتاب وجلة الخدمة من اسمه أحمد بن فتح: كنت أعهده كثير التصاون، من بغاة العلم وطلاب الأدب، يبذ أصحابه في الانقباض، ويفوقهم في السرعة، لا ينظر إلا في حلقة فضل الخ " ويمضي في هذا " التشخيص " المكثف وغايته من ذلك إبراز المفارقة القائمة بين حال التصاون التي كان عليها وحال التبذل التي صار إليها (وهذه الثانية أيضاً تقوم على ممائلة في التكثيف) ومن الخير أن نتنبه إلى أن هذه الحكاية ليست كالأولى لأنه ليس فيها إلا خبر عن فتى تغيرت حاله.

وأما الوصف الفني فنكتفي بان نميز منه: 1 - وصف دور بني حزم ببلاط مغيث بعد أن خرجت. 2 - وصف نزهة. 3 - وصف جارية ألفها في الصبا. 4 - وصف حال امرأة كانت مودتها في غير ذات الله (1) (تشخيص محض في حالي المودة والبغضاء) وتشترك هذه المواقف جميعاً في العنصر الذاتي، كما يمثل التكثيف فيها استغراقاً نفسياً يكفل من خلال التعبير عن الحال غياباً في جنباتها، وتعتمد دون إسراف على صور شعرية، كما أن الأخيرة من هذه القطع تعتمد على غاية النهاية فيما يشبه الأمثال، وهذا النوع من النثر في الطوق، أبرعه وأكثره مائية وجمالاً.

_ (1) انظر ص: 227، 223، 236، 282.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين - 1 - [صدر الرسالة وأبوابها والكلام في ماهية الحب] (1) [صدر الرسالة] قال أبو محمد عفا الله عنه: أفضل ما ابتدئ به حمد الله عز وجل بما هو أهله، ثم الصلاة على محمد عبده ورسوله خاصة وعلى جميع أنبيائه عامة، وبعد - عصمنا الله وإياك من الحيرة، ولا حملنا ما لا طاقة لنا به، وقيض لنا من جميل عونه دليلاً هادياً إلى طاعته، ووهبنا من توفيقه أدباً صارفاً عن معاصيه، ولا وكلنا إلى ضعف عزائمنا، وخور قوانا، ووهاء بنيتنا، وتلدد آرائنا (1) ، وسوء اختيارنا، وقلة تمييزنا، وفساد أهوائنا - فإن كتابك وردني من مدينة المرية (2) إلى مسكني بحضرة شاطبة (3) ، تذكر من حسن حالك ما يسرني، وحمدت الله عز وجل

_ (1) قد تقرأ أيضاً " آرابنا "، والتلدد: التحير. (2) المرية (ِalmeria) : بنيت عام 344 وأصبحت أهم قاعدة للأسطول الاندلسي على البحر المتوسط. (انظر الروض: 537/183 والترجمة: 221 والزهري: 101 والعذري: 86) . (3) شاطبة (Jativa) : تقع إلى الجنوب الغربي من بلنسية، وكانت في الأيام الاسلامية مدينة حصينة يعمل بها كاغد لا نظير له (الروض: 337؛ والادريسي (دوزي) : 192 والعذري: 18 وآثار البلاد: 539) .

عليه واستدمته لك، واستزدته فيك؛ ثم لم ألبث أن اطلع (1) علي شخصك وقصدتني بنفسك، على بعد الشقة وتنائي الديار وشحط المزار وطول المسافة وغول الطريق؛ وفي دون هذا ما سلى المشتاق، ونسى الذاكر، إلا من تمسك بحبل الوفاء مثلك، ورعى سالف الأذمة ووكيد المودات وحق النشأة ومحبة الصبا، وكانت مودته الله تعالى. ولقد أثبت بيننا من ذلك ما نحن عليه حامدون وشاكرون. وكانت معانيك (2) في كتابك زائدة على ما عهدته من سائر كتبك، ثم كشفت إلي بإقبالك غرضك، وأطلعتني على مذهبك، سجية لم تزل عليها من مشاركتك لي في حلوك ومرك، وسرك وجهرك، يحدوك الود الصحيح الذي أنا لك على أضعافه، لا أبتغي جزاء غير مقابلته بمثله؛ وفي ذلك أقول مخاطباً لعبيد الله بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أمير المؤمنين الناصر (3) رحمه الله في كلمة لي طويلة وكان لي صديقاً: [من الطويل] أودك وداً ليس فيه غضاضة ... وبعض مودات الرجال سراب وأمحضك النصح الصريح وفي الحشا ... لودك نقش ظاهر وكتاب فلو كان في روحي سواك اقتلعته ... ومزق بالكفين عنه إهاب وما لي غير الود منك إرادة ... ولا في سواه لي إليك خطاب

_ (1) اطلع بمعنى طلع. (2) قرأها برشيه: مغازيك. (3) المغيرة بن أمير المؤمنين الناصر قتل خنقاً صبيحة الليلة التي مات فيها أخوه الحكم المستنصر في مؤامرة شرحها ابن حيان؛ (انظر الذخيرة لابن بسام 4/1: 58 ط. بيروت) كي تكون البيعة مضمونة لأخيه الأصغر هشام المؤيد؛ وهذا هو صديقه الذي يذكره هنا في الطوق، وقوله " رحمه الله " يدل على أنه كان قد توفي قبل تأليف طوق الحمامة، ولكنه خلف عقباً كان ابن حزم يعرفهم أيضاً.

إذا حزته فالأرض جمعاء والورى ... (1) هباء وسكان البلاد ذباب وكلفتني - أعزك الله - أن أصنف لك رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله (2) على سبيل الحقيقة، لا متزايداً ولا مفنناً، لكن مورداً لما يحضرني على وجهه وبحسب وقوعه، حيث انتهى حفظي وسعة باعي فيما أذكره، فبدرت (3) إلى مرغوبك، ولولا الإيجاب لك لما تكلفته، فهذا من العفو، والأولى بنا مع قصر أعمارنا ألا نصرفها إلا فيما نرجو به رحب المنقلب وحسن المآب غداً، وغن كان القاضي حمام بن احمد (4) حدثني عن يحيى ابن مالك بن عائذ (5) بإسناد يرفعه إلى أبي الدرداء أنه قال: أجموا النفوس بشيء من الباطل ليكون عوناً لها على الحق (6) ؛ ومن أقوال الصالحين من السلف المرضي: من لم يحسن يتفتى لم يحسن

_ (1) يعارض ابن حزم هنا - في هذه الأبيات - المتنبي وأبا فراس، وبيته هذا الأخير يذكر بقول أحدهما: إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب (2) يقع فيه وله: ي يحدث أثناءه ومن أجله وبسببه؛ ومن قرأ " يحدث فيه [من] وله " فإنما يوجه العبارة وجهة خاصة، إذ ليس كل ما يحدث في الحب ولهاً. (3) تقرأ أيضاً: فبادرت، وهما بمعنى. (4) حمام بن أحمد بن عبد الله: كان - في رأي ابن حزم - واحد عصره في البلاغة وسعة الرواية، ضابطاً لما قيده، ولي قضاء يابرة وشنترين والاشبونة وسائر الغرب أيام عبد الملك المظفر ابن المنصور وأخيه عبد الرحمن، وتوفي بقرطبة (421) ؛ (انظر ترجمته في الصلة: 153 والجذوة: 187؛ والبغية رقم: 677) . (5) في مختلف الطبعات: يحيى بن مالك عن عائذ؛ وهو يحيى بن مالك بن عائذ بن كيسان، أبو زكرياء مولى هاشم بن عبد الملك، من أهل طرطوشة، سمع ببلده ورحل إلى المشرق (347) وتردد هنالك نحواً من اثنتين وعشرين سنة وكتب عن طبقات من المحدثين بمصر وبغداد والبصرة والأهواز، وعاد إلى بلده (369) فسمع من ضروب من الناس وطبقات من أهل العلم، وكانت وفاته بقرطبة سنة 375 (انظر ابن الفرضي 2: 191 والجذوة: 356 والبغية رقم: 1492) . (6) ورد قول أبي الدرداء في بهجة المجالس (1: 115) " إني لأستجم قلبي بشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق ".

يتقرأ (1) . وفي بعض الأثر: أريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد (2) . والذي كلفتني فلا بد فيه من ذكر ما شاهدته حضرتي، وأدركته عنايتي، وحدثني به الثقات من أهل زماني، فاغتفر لي الكناية عن الأسماء فهي إما عورة لا نستجيز كشفها، وإما نحافظ في ذلك صديقاً ودوداً ورجلاً جليلاً وبحسبي أن اسمي من لا ضرر في تسميته ولا يلحقنا والمسمى عيب في ذكره، إما لاشتهار لا يغني عنه الطي وترك التبيين، وإما لرضى من المخبر عنه بظهور خبره وقلة إنكار منه لنقله. سأورد في رسالتي هذه أشعاراً قلتها فيما شاهدته، فلا تنكر أنت ومن رآها - علي أني سالك فيها مسلك حاكي الحديث عن نفسه، فهذا مذهب المتحلين بقول الشعر، وأكثر من ذلك فإن إخواني يجشمونني القول فيما يعرض لهم على طرائقهم ومذاهبهم. وكفاني أني ذاكر لك ما عرض لي مما يشاكل ما نحوت نحوه وناسبه إلي. والتزمت في كتابي هذا الوقوف عند حدك، والاقتصار على ما رأيت أو صح عندي بنقل الثقات، ودعني من أخبار الأعراب المتقدمين، فسبيلهم غير سبيلنا، وقد كثرت الأخبار عنهم، وما مذهبي أن أنضي مطية سواي، ولا أتحلى بحلي مستعار، والله المستغفر والمستعان لا رب غيره.

_ (1) في معظم الطبعات: يتقوى؛ ولا معنى لها، وقرأها برشيه: يتقرى؛ وهي بالألف الطويلة يتقرأ لأنها مخففة عن " يتقرأ " أي يتنسك؛ والمتقرئ: الناسك، وفي أخبار أبي عمرو ابن العلاء أنه لما تقرأ طمر كتبه؛ والمعنى: إذا لم يحسن المرء أن يتفنى في فترة الفتوة، لم يستطع أن يتنسك حين يقع في دور النسك. (2) من أقوالهم: " حادثوا هذه القلوب فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد " (بهجة المجالس 1: 116) ومعنى حادثوا: اصقلوا.

(2) [أبواب الرسالة] وقسمت رسالتي هذه على ثلاثين باباً: منها في أصول الحب عشرة: فأولها هذا الباب (1) ؛ ثم باب في علامات الحب، ثم باب فيه ذكر من احب في النوم، ثم باب فيه ذكر من احب بالوصف، ثم باب فيه ذكر من احب من نظرة واحدة، ثم باب فيه ذكر من لا يصح محبته إلا مع المطاولة، ثم باب التعريض بالقول، ثم باب الاشارة بالعين، ثم باب المراسلة، ثم باب السفير. ومنها في أغراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة اثنا عشر باباً - وإن كان الحب عرضاً، والعرض لا يحتمل الأعراض (2) ، وصفة، والصفة لا توصف، فهذا على مجاز اللغة في إقامة الصفة مقام الموصوف، وعلى معنى قولنا: وجودنا عرضاً أقل في الحقيقة من عرض غيره وأكثر وأحسن وأقبح، في إدراكنا لها [و] علمنا انها متباينة في الزيادة والنقصان (3) من ذاتها المرئية والمعلومة، إذ لا تقع فيها الكمية ولا تجزي، لأنها لا تشغل مكاناً - وهي: باب الصديق المساعد، ثم باب الوصل، ثم باب طي السير، ثم باب الكشف والاذاعة، ثم باب الطاعة، ثم باب المخالفة، ثم باب

_ (1) يعني: " أولها هذا الباب الذي نحن فيه وفيه صدر الرسالة وتقسيم الأبواب والكلام في ماهية الحب "، فالكلام ماهية الحب جزء من الباب الأول يسبقه جزءان آخران هما فاتحة الكتاب وذكر الأبواب. (2) يقول ابن حزم (الفصل 5: 108) ولسنا نقول إن عرضاً إلى ما لا نهاية له قلت: وفي هذا إيماء إلى أن العرض قد يحمل عرضاً، وقد صرح في موضع آخر (الفصل 5: 47) ان بعض الأعراض قد يحمل الأعراض كقولنا: حمرة مشرقة وحمرة كدرة وعمل سيء وعمل صالح وقوة شديدة وقوة دونها في الشدة، ومثل هذا كثير. (3) قولنا والنقصان: عبارة تبدو مضطربة.

من احب صفة لم يحب بعدها غيرها مما يخالفها، ثم باب القنوع، ثم باب الوفاء، ثم باب الغدر، ثم باب الضنى، ثم باب الموت. ومنها في الآفات الداخلة على الحب ستة أبواب وهي: باب العادل، ثم باب الرقيب، ثم باب الواشي، ثم باب الهجر، ثم باب البين، ثم باب السلو. ومن هذه الأبواب الستة بابان لكل واحد منهما ضد من الأبواب المتقدمة الذكر، وهما: باب العاذل، وضده باب الصديق المساعد؛ وباب الهجر، وضده باب الوصل. ومنها أربعة أبواب لا ضد لها من معاني الحب وهي: باب الرقيب، وباب الواشي، ولا ضد لهما إلا ارتفاعهما. وحقيقة الضد ما إذا وقع ارتفع الأول، وإن كان المتكلمون قد اختلفوا في ذلك، ولولا خوفنا إطالة الكلام فيما ليس من جنس الكتاب لتقصيناه - (1) ، وباب البين وضده تصاقب الديار - وليس التصاقب من معاني الحب نتكلم فيها - وباب السلو، وضده الحب بعينه، إذ معنى السلو ارتفاع الحب وعدمه. ومنها بابان ختمنا بهما الرسالة، وهما: باب الكلام في قبح المعصية، باب في فضل التعفف، ليكون

_ (1) تحدث ابن حزم عن التضاد في كتاب التقريب (ص: 71) فقال: " والأضداد هي كل نقطتين اقتسم معنياهما طرفي البعد وكانا واقعين تحت مقولة واحدة وكان بينهما وسائط " فالسواد والبياض ضدان تحت جنس واحد هو اللون، والجود والشح تحت جنسين هما الفضيلة والرذيلة. وكل ضدين يدركان بحاسة واحدة، وكل ضدين ان كان أحدهما في النفس فالآخر فيها أيضاً وقال: فالمتضادة هي ما إذا وقع أحدهما ارتفع وقع الآخر ولا وسائط بينهما، كالحياة والموت والاجتماع والافتراق.

خاتمة إيرادنا وآخر كلامنا الحض على طاعة الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك مفترض على كل مؤمن. لكن خالفنا في نسق بعض هذه الأبواب هذه الرتبة المقسمة في درج هذا الباب الذي هو أول أبواب الرسالة، فجعلناها على مباديها إلى منتهاها واستحقاقها في التقدم والدرجات والوجود، ومن أول مراتبها إلى آخرها، وجعلنا الضد إلى جنب ضده فاختلف المساق في أبواب يسيرة والله المستعان. وهيئتها في الإيراد: أولها هذا الباب الذي نحن فيه وفيه صدر الرسالة وتقسيم الأبواب والكلام في باب ماهية الحب، ثم باب علامات الحب، ثم باب من أحب في النوم، ثم باب من أحب بالوصف، ثم باب من أحب من نظرة واحدة، ثم باب من لا يحب إلا مع المطاولة، ثم باب من أحب صفة لم يحب بعدها غيرها مما يخالفها، ثم باب التعريض بالقول، ثم باب الاشارة بالعين، ثم باب المراسلة، ثم باب السفير، ثم باب طي السر، ثم باب إذاعته، ثم باب الطاعة، ثم باب المخالفة، ثم باب العاذل، ثم باب الوصل، ثم باب الهجر، ثم باب الوفاء، ثم باب الغدر، ثم باب البين، ثم باب القنوع، ثم باب الضنى، ثم باب السلو، ثم باب الموت، ثم باب قبح المعصية، ثم بابا فضل التعفف. (3) [الكلام في ماهية الحب] : الحب - أعزك الله - أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل. وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، منهم

بأندلسنا (1) عبد الرحمن بن معاوية (2) لدعجاء، والحكم بن هشام (3) ، وعبد الرحمن بن الحكم وشغفه بطروب (4) أم عبد الله ابنه أشهر من الشمس، ومحمد بن عبد الرحمن (5) وأمره مع غزلان أن بنيه عثمان والقاسم والمطرف معلوم (6) ، والحكم المستنصر وافتتانه بصبح أم هشام المؤيد بالله (7) رضي الله عنه وعن جميعهم وامتناعه عن التعرض للولد

_ (1) عبارة: وقد أحب من الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدية (هكذا) : وردت عند ابن قيم الجوزية في كتاب الجواب الكافي: 164؛ وعند الشيخ يوسف ين مرعي الحنبلي في منية المحبين (نسخة مكتبة بلدية الاسكندرية) الورقة: 9 (انظر مقالة غرسيه غومس " مجلة الأندلس (1951) : 326؛ إلا أن كليهما لم يذكر أئمة الآندلس، ولعلهما لم يكونا يعتقدان أنهم أئمة راشدون واكتفيا بذكر عشق عمر بن عبد العزيز لجارية زوجته (وقد فصل ابن القيم القصة ص: 171 كما وردت في تزيين الأسواق 2: 65) وذكرا خبر عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (انظر الجواب الكافي: 158) . (2) هو عبد الرحمن الداخل صقر قريش أبو المطرف (138 - 172/755 - 788) . (3) الحكم بن هشام حفيد عبد الرحمن الداخل (180 - 206/796 - 821) ولم يذكر من كان يحب؛ وقد ذكر ابن عذاري (البيان المغرب 2: 79) أنه كان له خمس جوار قد استخلصهن لنفسه وملكهن أمره؛ ولعل هذه الكثرة في العدد هي التي حالت بين ابن حزم وذكر هذه الحقيقة، لأن هذا التكثر يعارض معنى الحب كما يفهمه، مما سيجيء تبيانه. (4) عبد الرحمن بن الحكم أبو المطرف (206 - 238/821 - 852) ؛ وانظر جانباً من أخباره مع طروب عند ابن عذاري (2: 92) وابن الأبار (الحلة السيراء 1: 114، 116) ومن غزله فيها: وإما بدت لي شمس النهار ... طالعة ذكرتني طروبا (5) محمد بن عبد الرحمن بن الحكم أبو عبد الله (238 - 273/852 - 866) ، ولد نيفاً وثلاثين ذكراً، وكان جلهم قد انقرض في أيام ابن حزم (الجمهرة: 99) . (6) نوه ابن حزم بالمطرف ابن الأمير محمد وبأنه كان شاعراً مفلقاً عالماً بالغناء، قال: وكان عثمان وابراهيم ابنا محمد عارفين بالغناء جداً، ولم يذكر شيئاً عن القاسم إلا أنه كان يعرف أن رجلاً واحداً من عقبه ربما بقي حتى أيامه (الجمهرة: 99) ؛ وترجم الحميدي (الجذوة: 377) لمن اسمه أبو القاسم من أبناء الأمير محمد، وقال انه كان يعرف بابن غزلان؛ وكان القاسم قد اختص الشاعر العتبي وله معه حكايات (المغرب 1: 134) . (7) الحكم المستنصر أبو المطرف بن عبد الرحمن الناصر (350 - 366/961 - 976) الخليقة العالم؛ تزوج جارية بشكنسية اسمها صبح (Aurora) ورزق منها بابنه هشام الذي تولى الخلافة من بعده، ولم يكن له فيها إلا الاسم إذ قام بالأمر الحاجب المنصور بن أبي عامر؛ أما هشام فكان حكمنه الاسمي (366 - 399/876/1008) ومرة ثانية (400 - 403/1009 - 1013) ؛ وقد ذهب بعضهم إلى تصور علاقة عاطفية بين صبح والمنصور، دفعت بهذا إلى تحقيق طموحه؛ ولكن المصادر تشير إلى انه استمالها بالهدايا والالطاف، وانتهى تضارب المصالح إلى كراهية عميقة.

من غيرها. ومثل هذا كثير، ولولا ان حقوقهم على المسلمين واجبة - وإنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين، وغنما هو شيء كانوا ينفردون به في قصورهم مع عيالهم فلا ينبغي الإخبار به عنهم - لأوردت من أخبارهم في هذا الشأن غير قليل. وأما كبار رجالهم ودعائهم دولتهم فأكثر من أن يحصوا، واحدث ذلك ما شاهدناه بالأمس من كلف المظفر عبد الملك بن أبي عامر (1) بواجد، بنت رجل من الجنانين (2) حتى حمله حبها أن يتزوجها، وهي التي خلف عليها بعد فناء العامريين الوزير عبد الله بن مسلمة (3) ، ثم تزوجها بعد قتله رجل من رؤساء البربر. ومما يشبه هذا أن أبا العيش بن ميمون القرشي الحسني (4) أخبرني أن نزار بن معد صاحب مصر لم ير ابنه منصور بن نزار (5) الذي ولي الملك بعد وادعى الإلهية إلا بعد مدة من مولده، مساعدة

_ (1) الحاجب عبد الملك المظفر بن المنصور (392 - 398/1002 - 1008) خلف أباه المنصور في الحجابة، وكانت السلطة الفعلية بيده، وفي أيامه أخلد الأندلسيون إلى الراحة وتنافسوا في زخرف الدنيا (انظر الذخيرة 4/1: 78 وما بعدها) . (2) بواجد الجناين؛ هذا هي قراءة بروفنسال، (انظر مجلة الأندلس 15 (1950) : 350 وسأشير إليها من بعد باسم: الاندلس) ، وقد قرئت قبله " بواحد الجبائين "، وإذا صحت القراءة فيبدو أن اسم " واجد " كان شائعاً، إذ كانت لابن الشرح زوجة بهذا الاسم (البيان المغرب 3: 80) . (3) عبد الله بن مسلمة: لعله الذي كان صاحب مدينة الزاهرة عندما ثار محمد بن هشام ابن عبد الجبار لينتزع الخلافة من هشام المؤيد (ابن عذاري 3: 58) وقد اتصل به صاعد البغدادي أول دخوله الأندلس، ثم نكب عبد الله فكان صاعد يستعطف له أبا جعفر بن الدب ليشفع به لدى سليمان المستعين (الذخيرة 4/1: 10 - 11) . (4) أغلب ظني أنه حسني لا حسيني، وان كنت لم أجده بين أسماء الطارئين على الآندلس. (5) نزار بن معد هو أبو منصور العزيز بالله بن المعز لدين الله، ولد سنة 345 وبويع بالخلافة سنة 365 وبقي حتى 386، أما منصور فهو المعروف بالحاكم بأمر الله (368 - 411) .

لجارية كان يحبها حباً شديداً، هذا ولم يكن له ذكر ولا يرث ملكه ويحيي ذكره سواه. ومن الصالحين والفقهاء في الدهور الماضية والأزمان القديمة من قد استغني بأشعارهم عن ذكرهم؛ وقد ورد من خبر عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (1) وشعره ما فيه الكفاية، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة (2) ، وقد جاء من فتيا ابن عباس رضي الله عنه ما لا يحتاج إلى غيره حين يقول (3) : هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود. وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا والذي أذهب إليه (4) أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع (5) ، لا على ما حكاه محمد بن داود (6) رحمه

_ (1) من أعلام التابعين، وكان عالماً ناسكاً، توفي بالمدينة (بين 98، 102 هـ) وله شعر غزلي رقيق (انظر ابن خلكان 3: 115 والأغاني 9: 135 وفي حاشية ابن خلكان توسع في ذكر مصادر أخرى) . (2) الفقهاء السبعة: عروة بن الزبير، سعيد بن المسيب، سليمان بن ياسر، عبيد الله بن عتبة، أبو بكر بن عبد الرحمن، قاسم بن محمد، خارجة بن زيد، وقد جمعهم بعضهم بقوله: ألا كل من لا يقتدي بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد سليمان أبو بكر خارجه (ابن خلكان 1: 283) . (3) انظر محاظرات الراغب 2: 45 (ط. بيروت) وفيه قال ابن عباس " قتيل الهوى هدر الخ، وانظر القول مقترناً بقصته في الموشى (72 - 73) ؛ ونقل ابن القيم (الجواب الكافي: 175) هذا القول عن ابن حزم مصرحاً باسمه. (4) قوله: والذي اذهب إليه إلى قوله: فعلمنا أنه شيء في ذات النفس، نقله ابن القيم في روضة المحبين: 74 - 76. (5) في أصل عنصرها الرفيع: كأنه تعبير آخر عن القول " في عالم المثل ". (6) محمد بن داود الظاهري أبو بكر (- 297) : كان فقيهاً أديباً شاعراً ظريفاً، وهو صاحب كتاب الزهرة، وهو في جزءين أحدهما في الحب وقد طبع بتحقيق نيكل وطوقان (1932) والثاني في التقوى وقد طبع في بغداد (1975) بتحقيق الدكتورين ابراهيم السامرائي ونوري حمودي القيسي. (انظر ابن خلكان 4: 259، والفهرست: 217 وتاريخ بغداد 5: 256، والوافي 3: 58) .

الله عن بعض أهل الفلسفة: الأرواح أكر مقسومة، لكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي، ومجاورتها في هيئة تركيبها (1) . وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال، والشكل دأب (2) يستدعي شكله، والمثل إلى مثله ساكن، وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد، والتنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد والنزاع فيما تشابه موجود فيما بيننا، فكيف بالنفس وعالمها العالم الصافي الخفيف، وجوهرها الجوهر الصعاد المعتدل، وسنخها المهيأ لقبول الاتفاق والميل والتوق والانحراف والشهوة والنفار - كل ذلك معلوم بالفطرة في أحوال تصرف الإنسان فيسكن إليها (3) ، والله عز وجل يقول {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها} (الأعراف:189) فجعل علة السكون أنها منه. ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الأنقص في الصورة (4) ،

_ (1) هذا القول مأخوذ من كتاب " الزهرة " ونصه هنالك " وزعم بعض المتفلسفين ان الله جل ثناؤه خلق كل روح مدورة الشكل على هيئة الكرة ثم قطعها أيضاً فجعل في كل جسد نصفاً وكل جسد لقي الجسد الذي فيه النصف الذي قطع من النصف الذي معه كان بينهما عشق للمناسبة القديمة (الزهرة 1: 15 وانظر محاضرات الراغب 2: 40) ؛ والفرق بين رأي ابن حزم ورأي ابن داود هو في القسمة نفسها، فبينا يذهب ابن حزم إلى أن النفوس تجزأت عدة أجزاء، يرى ابن داود أن الكرة انقسمت نصفين وحسب، كل منهما يطلب صاحبه، وفي نهاية المطاف نجد ابن حزم الذي لا يؤمن بالتكثر، يأخذ برأي ابن داود من وجهة عملية؛ لماذا رفض ابن حزم الشكل الكري للأرواح؛ هذا ما لا يقدم تفسيراً له؛ هل كان ابن حزم يرى تعدد التوق إلى ائتلاف الأقسام في مراحل مختلفة من العمر. (2) روضة المحبين: فالشكل إنما؛ وقضية انجذاب المثل إلى مثله (أو كما قال المتنبي وشبه الشيء منجذب إليه) موجودة في مأدبة أفلاطون ص: 68، وتردد في مواضع مختلفة، انظر روضة المحبين: 67. (3) الضمير في " إليها " مبهم، ولعل هنا سقطاً في النص؛ وربما كانت عبارة " فيسكن إليها " زائدة لا ضرورة لها لأن ما بعدها يغني عنها. أو لعلنا أن نقرأ " ليجد النفس التي هي شطر منه فيسكن إليها "؛ وقد سقطت العبارة " كل ذلك إليها " من روضة المحبين. (4) روضة المحبين: من الصور.

ونحن نجد كثيراً ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره ولا يجد محيداً لقلبه عنه (1) . ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه، فعلمنا انه شيء في ذات النفس. وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب، وتلك تفنى بفناء سببها، فمن ودك لأمر ولي مع انقضائه، وفي ذلك أقول: [من الطويل] ودادي لك الباقي على حسب كونه ... تناهى فلم ينقص بشيء ولم يزد وليست له غير الإرادة (2) علة ... ولا سبب حاشاه يعلمه أحد إذا ما وجدنا الشيء علة نفسه ... فذاك وجود ليس يفنى على الأبد وإما وجدناه لشيء خلافه ... شطر ثانيفإعدامه في عدمنا ما له وجد ومما يؤكد هذا القول أننا علمنا أن المحبة ضروب (3) ، فأفضلها: محبة المتحابين في الله عز وجل، إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النحلة والمذهب (4) ، وإما لفضل علم بمنحه الإنسان؛ ومحبة القرابة، ومحبة الألفة في الاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر (5) يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع (6) في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسر يجتمعان

_ (1) قارن بقول ابن الجوزي: وإذا كان سبب العشق اتفاقاً في الطباع بطل قول من قال ان العشق لا يكون إلا للأشياء المستحسنة وإنما يكون العشق لنوع مناسبة وملاءمة ثم قد يكون الشيء حسناً عند شخص، غير حسن عند آخر (ذم الهوى: 300) . (2) تعبير " الارادة " هنا لا أضنه يعني " الارادة الإنسانية " وإنما التقدير الإلهي، أي ان ذلك شيء مرتب في طبيعة النفس، حسب التوفيق الإلهي، ولهذا عبر عن هذا الموقف بقوله: " الشيء علة نفسه ". (3) هنا يوسع ابن حزم في مفهوم " الحب "، حتى يصبح معنى الاتصال بين أجزاء النفوس ليس اتصالاً بين ذكر وانثى، وإنما هو اتصال بين الأجزاء المتشابهة في كل صعيد، وعلى هذا الفهم، سيمضي في كل رسالته؛ فجهة العشق التي علتها اتصال النفوس ليست إلا وجهاً واحداً من وجوه المحبة، وقارن بما ورد في رسالة في مداواة النفوس (رسائل: 138) . (4) روضة المحبين: في أصل المذهب. (5) روضة المحبين: ومحبة البر. (6) روضة المحبين: ومحبة لطمع.

عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ (1) اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس. فكل هذه الأجناس منقضية (2) مع انقضاء عللها، وزائدة بزيادتها، وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها فاترة ببعدها، حاشا محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس فهي التي لا فناء لها إلا بالموت. وإنك لتجد الإنسان السالي بزعمه، وذا السن المتناهية، إذا ذكرته تذكر وارتاح وصبا واعتاده الطرب واهتاج له الحنين. ولا يعرض في شيء من هذه الأجناس المذكورة، من شغل البال والخبل والوسواس وتبدل الغرائزالمركبة، واستحالة السجايا المطبوعة، والنحول والزفير وسائر دلائل الشجا، ما يعرض في العشق، فصح بذلك أنه استحسان روحاني وامتزاج نفساني. فإن قال قائل: لو كان هذا كذلك لكانت المحبة بينهما مستوية، إذ الجزءان مشتركان في الاتصال وحظهما واحد، فالجواب عن ذلك أن نقول: هذه لعمري معارضة صحيحة، ولكن نفس (3) الذي لا يحب من يحبه مكتنفة الجهات ببعض الأعراض الساترة والحجب المحيطة بها من الطبائع الأرضية فلم تحس بالجزء الذي كان متصلاً بها قبل حلولها حيث هي، ولو تخلصت لاستويا في الاتصال والمحبة. ونفس المحب متخلصة عالمة بمكان ما كان يشركها في المجاورة، طالبة له، قاصدة إليه، باحثة عنه، مشتهية لملاقاته، جاذبة له لو أمكنها كالمغنيطس والحديد. فقوة جوهر المغنيطس المتصلة بقوة جوهر الحديد لم تبلغ من

_ (1) روضة المحبين: ومحبة لبلوغ. (2) روضة المحبين: وكل فمنقضية. (3) ولكن نفس والحديد.. وردت في رغبة المحبين: 76 وزاد إليها قول ابن حزم بعد ذلك " وكالنار في الحجر " مع حذف ما بينهما.

تحكمها ولا من تصفيتها أن تقصد إلى الحديد على انه من شكلها وعنصرها، كما أن قوة الحديد لشدتها قصدت إلى شكلها وانجذبت نحوه، إذ الحركة أبداً إنما تكون من الأقوى، وقوة الحديد متروكة الذات غير ممنوعة بحابس، تطلب ما يشبهها وتنقطع إليه وتنهض نحوه بالطبع والضرورة وليس بالاختيار والتعمد. وأنت متى أمسكت الحديد بيدك لم ينجذب، إذ لم يبلغ من قوته أيضاً مغالبة الممسك له مما هو أقوى منه. ومتى كثرت أجزاء الحديد اشتغل بعضها ببعض واكتفت بأشكالها عن طلب اليسير من قواها النازحة عنها، فمتى عظم جرم المغنيطس ووازت قواه جميع قوى جرم الحديد عادت إلى طبعها المعهود. وكالنار في الحجر (1) لا تبرز على قوة النار في الاتصال والاستدعاء لأجزائها حيث كانت إلا بعد القدح ومجاورة الجرمين بضغطهما واصطكاكهما، وإلا فهي كامنة في حجرها لا تبدو ولا تظهر. ومن الدليل على هذا أيضاً أنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق [في] الصفات الطبيعية، لابد في هذا وإن قل، وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة وتأكدت المودة، فانظر هذا تره عياناً، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكده: " الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " (2) ، وقول مروي عن أحد الصالحين:

_ (1) هذا التمثيل إنما يصح اعتماداً على نظرية " الكمون " التي كانت سائدة حينئذ؛ أي أن النار كامنة في الحجر، ومهمة القدح أن يستخرجها " انظر الحيوان للجاحظ 5: 10 وما بعدها "؛وتشبيه الحب بالنار الكامنة، ورد على لسان جارية في قصة في الموشي: 71 " له كمون ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى، وإن تركته توارى "؛ وفي ديوان الصبابة: 10. (2) ورد هذا الحديث في البخاري (باب الأنبياء:2) ومسلم " باب البر: 159، 160) ومسند أحمد 2: 295، 527،537 وانظر بهجة المجالس 1: 641 والصداقة والصديق: 136 والموشى: 25 ومحاضرات الراغب 2: 9، 53، ونسب إلى سقراط قوله: " النفوس أشكال فما تشاكل منها اتفق وما تضاد اختلف " (مختار الحكم: 93) وانظر روضة المحبين: 73 وأورد فيه قصة؛

" أرواح المؤمنين تتعارف ". ولذلك ما اغتم بقراط حين وصف له رجل من أهل النقصان يحبه، فقيل له في ذلك فقال: ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه (1) . وذكر أفلاطون أن بعض الملوك سجنه ظلماً، فلم يزل يحتج عن نفسه حتى أظهر براءته، وعلم الملك أنه له ظالم، فقال له وزيره الذي كان يتولى إيصال كلامه إليه: أيها الملك، قد استبان لك أنه بريء فما لك وله فقال الملك: لعمري ما لي إليه سبيل غير أني أجد لنفسي استثقالاً لا أدري ما هو. فأدي ذلك إلى افلاطون. قال: فاحتجت أن أفتش في نفسي وأخلاقي شيئاً أقابل به نفسه وأخلاقه مما يشبهها، فنظرت في أخلاقه فإذا هو محب للعدل كاره للظلم، فميزت هذا الطبع في، فما هو إلا أن حركت هذه الموافقة وقابلت نفسه بهذا الطبع الذي بنفسي فأمر بإطلاقي وقال لوزيره: قد انحل كل ما أجد في نفسي له. وأما العلة التي توقع الحب أبداً في أكثر الأمر على الصورة الحسنة، فالظاهر أن النفس تولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المتقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه (2) ، فإن ميزت وراءها شيئاً من

_ (1) أقرب الأقوال إلى هذا قول منسوب إلى أنطيانس، إذ مدحه رجل شرير فقال له: ما أحوجني أن أكون قد فعلت شراً إذ كنت قد استحسنت مني شيئاً (صوان الحكمة: 247) وقول أبقراط هذا قد نقله ابن حجة في كتابه ديوان الصبابة: 49 وابن القيم في روضة المحبين: 73؛ وانظر: دراسات عن ابن حزم للدكتور الطاهر مكي (القاهرة 1977) ص 324 - 339. (2) قارن هذا بقول علي بن ربن الطبري " فإن من شان النفس الولوع والعجب بكل شيء حسن من جوهر أو نبت أو دابة، فإذا اتفق مثل الحسن في شيء هو من جنس الإنسان ومما في غريزته الحب له اهتاجت الشهوة حينئذ وحرصت النفس على مواصلته وقربه " (فالنصفان متشابهان إلى حد بعيد، وابن ربن توفي سنة 247 هـ) . ويقول ابن الجوزي: العشق شدة ميل النفس إلى صورة تلائم طبعها فإذا قوي فكرها فيها تصورت حصولها وتمنت ذلك (ذم الهوى: 293 وانظر أيضاً: 296) .

أشكالها اتصلت وصحت المحبة الحقيقية، وإن لم تميز وراءها شيئاً من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة؛ وإن للصور لتوصيلاً عجيباً بين أجزاء النفوس النائية. وقرأت في السفر الأول من التوراة (1) أن النبي يعقوب عليه السلام أيام رعيه غنماً للابان خاله مهراً لابنته شارطه على المشاركة في إنسالها، فكل بهيم ليعقوب وكل أغر للابان، فكان يعقوب عليه السلام يعمد إلى قضبان الشجر يسلخ نصفاً ويترك نصفاً بحاله، ثم يلقي الجميع في الماء الذي ترده الغنم، ويتعمد إرسال الطروقة في ذلك الوقت فلا تلد إلا نصفين، نصفا بهما ونصفاً غراً. وذكر عن بعض القافة أنه أتي بابن أسود لأبيضين، فنظر إلى أعلامه فرآه لهما عير شك، فرغب ان يوقف على الموضع الذي اجتمعا عليه، فأدخل البيت الذي كان فيه مضجعهما، فرأى فيما يوازي نظر المرأة صورة أسود في الحائط، فقال لأبيه: من قبل هذه الصورة أتيت في ابنك. وكثيراً ما يصرف شعراء أهل الكلام هذا المعنى في اشعارهم، فيخاطبون المرئي في الظاهر خطاب المعقول الباطن، وهو المستفيض في شعر النظام إبراهيم بن سيار (2) وغيره من المتكلمين، وفي ذلك أقول شعراً منه: [من البسيط] :

_ (1) انظر سفر التكوين؛ الاصحاح: 30/ 25 - 43. (2) ابراهيم بن سيار النظام أبو اسحاق 231/ 845 أستاذ الجاحظ من أبرز المتكلمين البصريين، له عدة مؤلفات (انظر الفهرست: 205 وطبقات المعتزلة: 49) وأخباره وآراؤه مبثوثة في كتب الجاحظ، وللدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة دراسة عنه (القاهرة 1946) ؛ قال ابن النديم: وذهب في شعره مذهب الكلام الفلسفي، وقد أورد ابن نباتة في سرح العيون: 230 - 231 نماذج من شعره، ينطبق عليها ما يومئ إليه ابن حزم.

ما علة النصر في الأعداء نعرفها ... وعلة الفر منهم إذ يفرونا إلا نزاع نفوس الناس قاطبة ... إليك يا لؤلؤاً في الناس مكنونا ومن كنت قدامه لا ينثني أبداً ... فهم إلى نورك الصعاد يعشونا ومن تكن خلفه فالنفس تصرفه ... إليك طوعاً فهم دأباً يكرونا ومن ذلك أقول: [من الطويل] أمن عالم الأملاك (1) أنت أم آنسي ... أبن لي فقد أزرى بتمييزي العي أرى هيئة إنسية غير أنه ... إذا أعمل التفكير فالجرم علوي تبارك من سوى مذاهب خلقه ... على انك النور الأنيق الطبيعي ولا شك عندي أنك الروح ساقه ... إلينا مثال في النفوس اتصالي عدمنا دليلاً في حدوثك شاهداً ... نقيس عليه أنك مرئي ولولا وقوع العين في الكون لم نقل ... سوى أنك العقل الرفيع الحقيقي وكان بعض أصحابنا يسمي قصيدة لي " الإدراك المتوهم " منها: [من المتقارب] . ترى كل ضد به قائماً ... فكيف تحد اختلاف المعاني فيا أيها الجسم لا ذا جهات ... ويا عرضاً ثابتاً غير فان نقضت علينا وجوه الكلام ... فما هو مذ لحت بالمستبان وهذا بعينه موجود في البغضة، ترى الشخصين يتباغضان لا لمعنى ولا علة، ويستثقل بعضهما بعضاً بلا سبب. والحب - أعزك الله - داء عياء وفيه الدواء منه على قدر

_ (1) المعروف أن " أملاك " جمع ملك - بكسر اللام - ولكنه استعملها هنا جميعاً لملك - بفتح اللام -، مفرد ملائكة؛ ولا بأس من قراءتها " الافلاك " لتحدثه من بعد " الجرم العلوي ".

المعاناة (1) ، وسقام مستلذ وعلة مشتهاة لا يود سليهما البرء ولا يتمنى عليلها الإفاقة؛ يزين للمرء ما كان يأنف منه، ويسهل عليه ما كان يصعب عنده حتى يحيل الطبائع المركبة والجبلة المخلوقة، وسيأتي كل ذلك مخلصاً في بابه إن شاء الله. خبر: ولقد علمت فتى من بعض معارفي قد وحل في الحب وتورط في حبائله، وأضر به الوجد، وأنصبه (2) الدنف، وما كانت نفسه تطيب دعاؤه إلا بالوصل والتمكن ممن يحب، على عظيم بلائه وطويل همه، فما الظن بسقيم لا يريد فقد سقمه! ولقد جالسته يوماً فرأيت من إكبابه وسوء حاله وإطراقه ما ساءني، فقلت له في بعض قولي: " فرج الله عنك " فلقد رأيت أثر الكراهية في وجهه؛ وفي مثله أقول من كلمة طويلة: [من البسيط] وأستلذ بلائي فيك يا أملي ... ولست عنك مدى الأيام انصرف إن قيل لي تتسلى عن مودته ... فما جوابي إلا اللام والألف خبر: وهذه الصفات مخالفة لما أخبرني به عن نفسه أبو بكر محمد بن قاسم بن محمد القرشي المعروف بالشبانسي (3) ، من ولد الإمام هشام

_ (1) في طبعة بتروف وغيرها: المعاملة؛ وما أثبته هو قراءة برشيه. (2) هذه هي قراءة برشيه؛ وفي مختلف الطبعات: " وأنضحه الدنف " وليس في معاني لفظ " أنضح " ما يمكن توجيهه نحو هذا المعنى. (3) محمد بن قاسم بن محمد بن اسماعيل بن هشام بن محمد بن هشام بن الوليد بن هشام الرضى بن عبد الرحمن بن معاوية القرشي المرواني المعروف بالشبانسي، كان عالماً بالآداب متقدماً في البلاغة والكتابة، استقر بعد الفتنة بطليطلة كاتباً للرسائل بها، وتوفي سنة 447 (التكملة 1: 389) ولأبيه القاسم بن محمد الشبانسي ترجمة في الجذوة: 310) والبغية رقم: 1296 وكان الأب أيضاً أديباً شاعراً، سجن في أيام المنصور فكتب إليه بقصيدة يستعطفه فيها فرق له وأطلقه؛ ولأخيه عبد الرحمن ترجمة في التكملة رقم: 1549؛ وقد تصحفت كلمة " الشبانسي " في طبعات الطوق وتنبه لها غرسيه غومس (انظر ترجمته للطوق: 103 الحاشية رقم: 2) .

ابن عبد الرحمن بن معاوية أنه لم يحب أحداً قط، ولا أسف على إلف بان منه، ولا تجاوز حد الصحبة والألفة إلى حد الحب والعشق منذ خلق.

باب علامات الحب

- 2 - باب علامات الحب وللحب علامات يقفوها الفطن (1) ، ويهتدي إليها الذكي. فأولها إدمان النظر؛ والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها، والمعربة عن بواطنها. فترى الناظر لا يطرف، ينتقل بتنقل المحبوب وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال، كالحرباء مع الشمس، وفي ذلك أقول شعراً منه: [من الطويل] فليس لعيني عند غيرك موقف ... كأنك ما يحكون من حجر البهت (2)

_ (1) بعض هذه العلامات قد نقله الحنبلي عن ابن حزم؛ انظر مجلة الأندلس (1951) ص: 327؛ وورد مثله في ديوان الصبابة: (10، 12، 13) وما بعدها، وقارن بما ذكره الوشاء من علامات (الموشى: 48، 51، 52) أما ابن القيم في روضة المحبين (262 وما بعدها) فقد تصرف بعبارات ابن حزم، ومثال ذلك قوله: فمنها ادمان النظر إلى الشيء وإقبال العين عليه، فإن العين باب القلب وهي المعبرة عن ضمائره والكاشفة لأسراره فترى ناظر المحب يدور مع محبوبه كيف دار، ويجول معه في النواحي والأفكار ومنها الاقبال على حديثه والقاء سمعه كله إليه يفرغ لحديثه سمعه وقلبه، وان ظهر منه إقبال على غيره فهو اقبال مستعار يستبين فيه التكلف لمن يرمقه ومنها البهت والروعة التي تحصل عند مواجهة الحبيب أو عند سماع ذكره، ولا سيما إذا رآه فجأة أو طلع عليه بغتة ومنها بذل المحب في رضا محبوبه ما يقدر عليه ومنها حب الوحدة والأنس بالخلوة والتفرد عن الناس الخ: قلت: رغم اعتماد ابن القيم على ما جاء في طوق الحمامة، فإنه يستنكر هذا النوع من الحب الذي يحمل هذه العلامات ويعده حباً حيوانياً. (2) حجر يوجد في ساحل المحيط الأطلسي (بحر الظلمات) وهو مشهور عند أهل المغرب الأقصى، ويباع الحجر منه بقيمة جيدة لا سيما في بلاد لمتونة، وهم يحكون عن هذا الحجر أن من أمسكه وسار في حاجة قضيت له بأوفى عناية، وهو جيد عندهم في عقد الألسنة على زعمهم (الادريسي: صفة المغرب وأرض السودان، تحقيق دوزي ودي خويه، ليدن 1969 ص: 28 - 29 وانظر ملحق المعجمات العربية لدوزي مادة " بهت ") .

أصرفها حيث انصرفت وكيفما ... تقلبت كالمنعوت في النحو والنعت ومنها الإقبال بالحديث، فما يكاد (1) يقبل على سوى محبوبه ولو تعمد ذلك، وإن التكلف ليستبين لمن يرمقه فيه؛ والإنصات لحديثه إذا حدث، واستغراب كل ما يأتي به ولو انه عين المحال وخرق العادات؛ وتصديقه وإن كذب؛ وموافقته وإن ظلم؛ والشهادة له وإن جار، واتباعه كيف سلك وأي وجه من وجوه القول تناول؛ ومنها الإسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه؛ والتعمد للقعود بقربه والدنو منه؛ واطراح الأشغال الموجبة للزوال عنه، والاستهانة بكل خطب جليل داع إلى مفارقته؛ والتباطؤ في المشي (2) عند القيام عنه؛ وفي ذلك أقول شعراً: [من الخفيف] وإذا قمت عنك لم أمش إلا ... مشي عان يقاد نحو الفناء في مجيئي إليك أحتث كالبد ... ر إذا كان قاطعاً للسماء وقيامي إن قمت كالأنجم العا ... لية الثابتات في الإبطاء ومنها بهت يقع وروعة تبدو على المحب عند رؤية من يحب فجأة وطلوعه بغتة؛ ومنها اضطراب يبدو على المحب عند رؤية من يشبه محبوبه أو عند سماع اسمه فجأة. وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الطويل]

_ (1) يقرؤها برشيه: بما لا يكاد، ولا أرى داعياً لتغييرها. (2) في طبعة بتروف: والتباطؤ في الشيء، وتابعته طبعات أخرى؛ والمشي يؤكده قوله في الشعر: وإذا قمت عنك لم امش إلا/ مشي عان البيت؛ وكذلك وردت " المشي " في ديوان الصبابة والحنبلي.

إذا ما رأت عيناي لابس حمرة ... تقطع قلبي حسرة وتفطرا غدا لدماء الناس باللحظ سافكاً ... وضرج منها ثوبه فتعصفرا ومنها أن يجود المرء يبذل كل ما كان يقدر عليه مما كان يمتنع (1) به قبل ذلك، كأنه هو الموهوب له والمسعي في حظه، كل ذلك ليبدي محاسنه ويرغب في نفسه؛ فكم بخيل جاد، وقطوب تطلق، وجبان تشجع، وغليظ الطبع تظرف، وجاهل تأدب، وتفل (2) تزين، وفقير تجمل، وذي سن تفتى، وناسك تفتك، ومصون تهتك. وهذه العلامات تكون قبل استعار نار الحب وتأجج حريقه، وتوقد شعله واستطارة لهبه. فأما إذا تمكن وأخذ مأخذ فحينئذ ترى الحديث سراراً، والإعراض عن كل من حضر إلا عن المحبوب جهاراً. ولي أبيات جمعت فيها كثيراً من هذه العلامات، منها: [من البسيط] أهوى الحديث إذا ما كان يذكر لي ... فيه ويعبق لي عن عنبر أرج عن قال لم أستمع ممن يجالسني ... إلى سوى لفظه المستظرف الغنج ولو يكون أمير المؤمنين معي ... ما كنت من أجله عنه بمنعرج فإن أقم عنه مضطراً فإني لا ... (3) أزال ملتفتاً والمشي مشي وجي عيناي فيه وجسمي عنه مرتحل ... مثل ارتقاب الغريق البر في اللجج أغض بالماء إن أذكر تباعده ... (4) كمن تثاءب وسط النقع والرهج وأن تقل ممكن قصد السماء أقل ... نعم وإني لأدري موضع الدرج

_ (1) في طبعة بتروف: ممتنع؛ وهو خطأ من حيث الاعراب، والاقرب أن يقرأ " يمتنع " بدلاً من قراءته " ممتنعاً ". (2) يقترح الأستاذ غرسيه غومس أن تقرأ " وتفر " (الترجمة الاسبانية: 107، الحاشية: 2) ، وهو تخريج بعيد، والتفل هو الذي ترك استعمال الطيب، وهذا هو الذي يستدعي " التزين ". (3) الوجي: الذي يجد وجعاً في قدمه. (4) الرهج: الغبار؛ وهو كالنقع، وأما " الوهج " عند برشيه وغيره فلا معنى له في هذا المقام.

ومن علاماته وشواهده الظاهرة لكل بصر: الانبساط الكثير الزائد [في المكان الضيق] (1) والتضايق في المكان الواسع، والمجاذبة على الشيء يأخذه أحدهما، وكثرة الغمز الخفي، والميل بالأتكاء، والتعمد لمس اليد عند المحادثة، ولمس ما أمكن من الأعضاء الظاهرة، وشرب فضلة ما أبقى المحبوب في الإناء، وتحري المكان الذي يقابله فيه. ومنها علامات متضادة، وهي على قدر الدواعي والعوارض الباعثة والأسباب المحركة والخواطر المهيجة. والأضداد أنداد، والأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها، ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، قدرة من الله عز وجل تضل فيها الأوهام. فهذا الثلج إذا أدمن حبسه في اليد فعل فعل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والغم إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين. وهذا في العالم كثير، فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما تأكداً شديداً كثر تهاجرهما (2) بغير معنى، وتضادهما في القول تعمدا، وخروج بعضهما على بعض في كل يسير من الأمور، وتتبع كل منهما لفظة تقع من صاحبه وتأولها على غير معناها، كل هذه تجربة ليبدو ما يعتقده كل واحد منهما في صاحبه. والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة والمضادة المتولدة عن الشحناء ومحاربة (3) التشاجر سرعة الرضى، فإنك بينما ترى المحبين

_ (1) ما بين معقفين زيادة لاحداث شيء من التطابق في العبارتين " الانبساط في المكان الضيق، والتضايق في المكان الواسع " والزيادة من وضع برشيه، ولم ترد عند الحنبلي فيما نقله عن ابن حزم؛ مما حدا بغرسيه غومس أن يعدها نزوة من المحقق. (2) تهاجرهما: تعرضت اللفظة لتصحيف طريف في مختلف الطبعات فجاءت " بهما جدهما "، والتهاجر ليس هجرة، ويقول ابن حزم بعد قليل " والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة والمضادة المتولدة عن الشحناء الخ ". (3) المحاربة: تبادل الاحراج وهو إثارة التضايق بالمماحكة؛ وفي بعض الطبعات " المخارجة " - بالخاء المعجمة - ولا أراه يصح هنا.

قد بلغا الغاية من الاختلاف الذي لا تقدره يصلح عند الساكن النفس السالم من الأحقاد في الزمن الطويل، ولا ينجبر عند الحقود أبداً، فلا تلبث أن تراهما قد عادا إلى أجمل الصحبة، وأهدرت المعاتبة، وسقط الخلاف، وانصرفا في ذلك الحين بعينه إلى المضاحكة والمداعبة، هكذا في الوقت الواحد مراراً. وإذا رأيت هذا من اثنين فلا يخالجك شك ولا يدخلنك ريب ألبتة ولا تتمار في أن بينهما سراً من الحب دفيناً، واقطع فيه قطع من لا يصرفه عنه صارف. ودونكها تجربة صحيحة وخبرة صادقة. هذا لا يكون إلا عن تكاف (1) في المودة وائتلاف صحيح، وقد رأيته كثيراً. ومن أعلامه أنك تجد المحب يستدعي (2) سماع اسم من يحب، ويستلذ الكلام في أخباره ويجعلها هجيراه، ولا يرتاح لشيء ارتياحه لها، ولا ينهنهه عن ذلك تخوف ان يفطن السامع ويفهم الحاضر، وحبك الشيء يعمي ويصم (3) . فلو أمكن المحب ألا يكون حديث في مكان فيه إلا ذكر من يحبه لما تعداه. ويعرض للصادق المودة ان يبتدئ في الطعام وهو له مشته فما هو إلا وقت ما يهتاج له ذكر من يحب صار الطعام غصة في الحلق وشجى في المرئ، وهكذا في الماء، وفي الحديث، فإنه يفاتحكه مبتهجا، فتعرض له خطرة من خطرات الفكر فيمن يحب، فتستبين

_ (1) التكافي في المودة أمر يكرره ابن حزم مراراً في هذه الرسالة؛ ومن العجيب أن تظل الكلمة في مختلف الطبعات " تكلف ". (2) يريد برشيه أن يقراها " يستحلي " وهي قراءة جيدة، ولكن لا ضرر من بقاء " يستدعي ". (3) هو حديث شريف، عند أبي داود (أد ب: 116) وفي مسند ابن حنبل 5: 194، 6: 450 وانظر محاضرات الراغب 2: 49 والموشى: 61 وجمهرة العسكري 1: 356 والميداني 1: 132 والمستقصي: 201 والحيوان 4: 386 وفصل المقال: 320 وبهجة المجالس 1: 808 وديوان الصبابة: 10 وروضة المحبين: 20.

الحوالة (1) في منطقه، والتقصير في حديثه، وآية ذلك الوجوم والإطراق وشدة الانغلاق، فبينما هو طلق الوجه خفيف الحركات صار منطبقاً متثاقلاً حائر النفس جامد الحركة يبرم من الكلمة ويضجر من السؤال. ومن علاماته حب الوحدة، والأنس بالانفراد، ونحول الجسم دون حر (2) يكون فيه، ولا وجع مانع من التقلب والحركة والمشي؛ دليل لا يكذب، ومخبر لا يخون عن علة (3) في النفس كامنة. والسهر من أعراض المحبين، وقد أكثر الشعراء في وصفه وحكوا انهم رعاة الكواكب وواصفو طول الليل؛ وفي ذلك أقول وأذكر كتمان السر وأنه يتوسم بالعلامات: [من الوافر] تعلمت السحائب من شؤوني ... فعمت بالحيا السكب الهتون وهذا الليل فيك غدا رفيقي ... بذلك على سهري معيني فإن لم ينقض الإظلام إلا ... [إذا] ما أطبقت نوماً جفوني فليس إلى النهار لنا سبيل ... وسهد زائد في كل حين كأن نجومه والغيم يخفي ... سناها عن ملاحظة العيون ضمير في ودادك يا منايا ... فليس يبين إلا بالظنون

_ (1) الحوالة: يريد بها الانتقال من حال إلى أخرى، والتغير، وقد استعملها ابن قزمان في أحد أزجاله (رقم: 78) فقال: ولابد للخبز من فرن إذا ما اختمر ... إن لم يعتريه حواله ويفرن فطير ويفرن: بمعنى يخبز في الفرن؛ (وإلى هذا أشار الدكتور عبد العزيز الأهواني، انظر مجلة المعهد المصري، المجلد: 18 (1974 - 1975) ص: 72. (2) وردت في الطبعات المختلفة (ما عدا برشيه) : حد، ولا معنى لها؛ والحر كان يقترن بالتحول عند علماء الطب، كما ان كثرة الشحم تقترن بالبرد، قال علي بن ربن الطبري (وفي فردوس الحكمة: 84) نقلاً عن جالينوس: " ومما يدل على حرارة المزاج ويبسه نحافة البدن ويدل على برد المزاج ورطوبته كثرة الشحم ".. (3) في معظم الطبعات: كلمة، وعند برشيه: كله؛ وكلاهما خطأ واضح.

وفي مثل ذلك قطعة منها: [من الكامل] أرعى النجوم كأنني كلفت أن ... أرعى جميع ثبوتها والخنس فكأنها والليل نيران الجوى ... قد أضرمت في فكري من حندس وكأنني أمسيت حارس روضة ... خضراء وشح نبتها بالنرجس لو عاش بطليموس أيقن أنني ... أقوى الورى في رصد جري الكنس والشيء قد يذكر لما يوجبه: وقع لي في هذه الأبيات تشبيه شيئين بشيئين في بيت واحد، وهو البيت الذي أوله " فكأنها والليل " في بيت واحد، وتشبيه أربعة أشياء في بيت واحد، وكلاهما في هذه القطعة أوردها وهي: [من الطويل] مشوق معنى ما ينام مسهد ... بخمر التجني ما يزال يعربد ففي ساعة يبدي إليك عجائباً ... يمر ويستحلي ويدني ويبعد كأنه النوى والعتب والهجر والرضى ... (1) قران وأنداد ونحس وأسعد رثى لغرامي بعد طول تمنع ... وأصبحت محسوداً وقد كنت أحسد نعمنا على نور من الروض زاهر ... سقته الغوادي فهو يثني ويحمد كأن الحيا والمزن والروض عاطراً ... دموع وأجفان وخد مورد ولا ينكر علي منكر قولي " قران " فأهل المعرفة بالكواكب يسمون التقاء كوكبين في درجة واحدة قراناً. ولي أيضاً ما هو أتم من هذا، وهو تشبيه خمسة أشياء في بيت واحد في هذه القطعة وهي: [من الطويل] خلوت بها والراح ثالثة لنا ... وجنح ظلام الليل مذ مد ما انبلج (2)

_ (1) قرأ برشيه: كأن الهوى قران وأنواء؛ والبيت كما هو مقبول دون تغيير. (2) مذ مد ما انبلج: هذه هي القراءة التي أختارها؛ وفي بعض الطبعات: قد مد وانبلج وهو كلام متناقض؛ لأن " انبلج " تعني أسفر وأشرق؛ وقرأ برشيه: قد مد واتلج؛ والاتلاج: الولوج والدخول، وهي قراءة فيها شطط.

فتاة عدمت العيش إلا بقربها ... فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج كأني وهي والكاس والخمر والدجى ... ثرى وحيا والدر والتبر والسبح فهذا أمر لا مزيد فيه ولا يقدر أحد على اكثر منه، إذ لا يحتمل العروض ولا بنية الأسماء أكثر من ذلك. ويعرض للمحب القلق عند أحد أمرين: أحدهما عند رجائه لقاء من يحب فيعرض عند ذلك حائل. خبر: وإني لأعلم بعض من كان محبوبه يعده الزيارة، فما كنت أراه إلا جائياً وذاهباً لا يقر به القرار ولا يثبت في مكان واحد، مقبلا مدبراً قد استخفه السرور بعد ركانة، وأشاطه بعد رزانة؛ ولي في معنى انتظار الزيارة: [من الطويل] أقمت إلى أن جاءني الليل راجياً ... لقاءك يا سؤلي ويا غاية الأمل فأيأسني الإظلام عنك ولم أكن ... لأيأس يوماً إن بدا الليل يتصل وعندي دليل ليس يكذب خبره ... بأمثاله في مشكل الأمر يستدل لأنك لو رمت الزيارة لم يكن ... (1) ظلام ودام النور فينا ولم يزل والثاني عند حادث يحدث بينهما من عتاب لا تدرى حقيقته إلا بالوصف. فعند ذلك يشتد القلق حتى يوقف على الجلية (2) ، فإما أن

_ (1) لا تعدو هذه الأبيات أن تكون " محاكمة استدلالية " - على طريقة أهل الجدل - مأخوذ من قول المتنبي: أمن ازديارك في الدجى الرقباء ... إذ حيث أنت من الظلام ضياء (2) في أكثر الطبعات (ما عدا برشيه) : الجليلة.

يذهب تحامله إن رجا العفو، وإما أن يصير القلق حزناً وأسفاً إن تخوف الهجر. ويعرض للمحب الاستكانة لجفاء المحبوب عليه، وسيأتي مفسراً في بابه إن شاء الله تعالى. ومن أعراضه الجزع الشديد والحيرة (1) المفظعة تغلب عندما يرى من إعراض محبوبه عنه ونفاره منه، وآية ذلك الزفير وقلة الحركة والتأوه وتنفس الصعداء. وفي ذلك أقول شعراً منه: جميل الصبر مسجون و: ... (2) دموع العين سارحة ومن علاماته أنك ترى المحب يحب أهل محبوبه وقرابته وخاصته حتى يكونوا أحظى لديه من أهله ونفسه ومن جميع خاصته. والبكاء من علامات المحب ولكن يتفاضلون فيه، فمنهم غزير الدمع هامل الشؤون تجيبه عينه وتحضره عبرته إذا شاء، ومنهم جمود العين عديم الدمع، وأنا منهم. وكان الأصل في ذلك إدماني أكل الكندر (3) لخفقان القلب، وكان عرض لي في الصبا، فإني لأصاب بالمصيبة الفادحة فأجد قلبي يتفطر ويتقطع، وأحس في قلبي غصة أمر من العلقم تحول بيني وبين توفية الكلام حق مخارجه، وتكاد تشرقني

_ (1) قرئت: والحمرة المقطعة؛ وعند برشيه: والحيرة المقطعة. (2) أقدر انهما بيتان حذف عجزاهما وما يلي من أبيات او انه بيت واحد اضطرب الناسخ في إيراده اضطراباً لا يجدي معه تغييره كما فعل الأستاذ حسن كامل الصيرفي إذ جعله: جميل الصبر مسجون ... ودمع العين مسفوح فهو تصحيح للوزن لا غير، لكنا لا ندري كيف كان البيت على وجه الحقيقة؛ وأرجح انه هو البيت الذي سيرد في الباب الثاني عشر: دموع الصب تنسفك ... وستر الصب ينهتك (على ان نقرأ: وستر الصبر منهتك) (3) الكندر بالفارسية هو اللبان بالعربية، وقد قال ابن سينا أنه مقو للروح الذي في القلب والذي في ادماغ، وقال الرازي أنه ينفع اخفقان (انظر مادة كندر في مفردات ابن البيطار 4: 83 - 86) .

بالنفس (1) أحياناً ولا تجيب عيني البتة إلا في الندرة بالشيء اليسير من الدمع. خبر: ولقد أذكرني هذا الفصل يوماً ودعت أنا وأبو بكر محمد بن إسحاق (2) صاحبي أبا عامر محمد بن [أبي] عامر (3) صديقنا - رحمه الله - في سفرته إلى المشرق (4) التي لم نره بعدها، فجعل أبو بكر يبكي عند وداعه وينشد متمثلاً بهذا البيت: [من الطويل] ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط ... (5) عليك بباقي دمعها لجمود وهو في رثاء يزيد بن عمر بن هبيرة رحمه الله، ونحن وقوف على ساحل البحر بمالقة (6) ، وجعلت أنا أكثر التفجع والأسف

_ (1) هذه قراءة برشيه وهي أصوب بكثير من " وتشوقني النفس ". (2) محمد بن اسحاق المهلبي أبو بكر الاسحاقي الوزير، كان من أهل الأدب والفضل، وهو الذي خاطبه ابن حزم برسالته في فضل الاندلس (الجذوة: 42 والبغية رقم: 59) . (3) أكد ابن حزم انه لا عقب لعبد الملك المظفر (الجمهرة: 419) فمحمد هذا ليس ابناً للمظفر، وإنما هو - ان كان من أسرة العامريين - محمد بن عبد الله بن المنصور العامري (وقد مات في حياة ابن حزم) وتخلف ابناً اسمه عبد الملك نهذ إلى الحج ومات هنالك؛ ووالد محمد هذا أي عبد الله كان قد قتله المنصور والده سنة 380 هـ (انظر نقط العروس: 79 تحقيق د. شوقي ضيف) وقد أشارت إلى ذلك إحدى الرسائل التي وجهت إلى المعتضد حين قتل ابنه اسماعيل (الذخيرة 3/ 1: 160؛ وتفصيل الحادثة عند ابن عذاري 2: 284) وسيذكر ابن حزم من بعد من بعد انه كانت بين والده ووالد أبي عامر هذا منافسة في صحبة السلطان ووجاهة الدنيا (ص 119 فيما يلي) ، وهذا يبعد أن يكون أبو عامر هذا من الأسرة العامرية المشهورة، فالتنافس لا يكون بين وزير وبين ابن الحاجب الأعلى نفسه. (4) قرأها بروفنسال (الأندلس: 352) إلى الشرق (يعني شرق الأندلس) ؛ وبها أخذ غومس في ترجمته (انظر ص: 112) ؛ وليس من دليل على ذلك، وهذا ابنه عبد الملك يتوجه حاجاً إلى المشرق أيضاً ولا يعود، انظر الحاشية السابقة. (5) البيت لأبي عطاء السندي (انظر الشعر والشعراء: 653 والسمط: 602 وأمالي القالي 1: 268 والحماسة بشرح التبريزي 2: 151) وورد في أمالي المرتضى 1: 223 منسوباً لمعن بن زائدة. وفي مقتل يزيد انظر تاريخ الطبري 3: 68 - 70 وفيه الشعر أيضاً. (6) مالقة (Malaga) مدينة على شاطئ المتوسط: كانت مركزاً تجارياً هاماً في العصور الاسلامية، (انظر في التعريف بها: الروض: 517 والترجمة: 213 والزهري: 93 وياقوت (مالقة) والموسوعة الإسلامية) .

ولا تساعدني عيني، فقلت مجيباً لأبي بكر: [من الطويل] وإن امرءاً لم يفن حسن اصطباره ... عليك وقد فارقته لجليد وفي المذهب الذي عليه الناس أٌول من قصيدة قلتها قبل بلوغ الحلم، أولها: [من الطويل] دليل الأسى نار على القلب تلفح ... ودمع على الخدين يهمي ويسفح إذا كتم المشغوف سر ضلوعه ... فإن دموع العين تبدي وتفضح إذا ما جفون العين سالت شؤونها ... ففي القلب داء للغرام مبرح ويعرض في الحب سوء الظن واتهام كل كلمة من أحدهما وتوجيهها إلى غير وجهها، وهذا أصل العتاب بين المحبين. وإني لأعلم من كان أحسن الناس ظناً، وأوسعهم نفساً، وأكثرهم صبراً، وأشدهم احتمالاً، وأرحبهم صدراً، ثم لا يحتمل ممن يحب شيئاً، ولا يقع له معه أيسر مخالفة حتى يبدي من التعديد فنوناً، ومن سوء الظن وجوهاً. وفي ذلك أقول شعراً منه: [من المنسرح] أسيء ظني بكل محتقر ... (1) تأتي به، والحقير من حقره كي لا يرى أصل هجرة وقلى ... فالنار في بدء أمرها شرره وأصل عظم الأمور أهونها ... ومن صغير النوى ترى شجره وترى المحب إذا لم يثق بنقاء طوية محبوبه له، كثير التحفظ مما لم يكن يتحفظ منه قبل ذلك، مثقفاً لكلامه، مزيناً لحركاته، ومرامي طرفه، ولا سيما إن دهي بمتجن وبلي بمعربد. ومن آياته مراعاة المحب لمحبوبه، وحفظه لكل ما يقع منه، وبحثه عن أخباره حتى لا يسقط عنه دقيقه ولا جليله، وتبعه لحركاته. ولعمري لقد ترى البليد يصير في هذه الحالة ذكياً، والغافل فطناً.

_ (1) قافية هذه الأبيات تنتهي بهاء ساكنة - ولابد - على خلاف ما جاء في سائر الطبعات.

خبر: ولقد كنت يوماً بالمرية قاعداً في دكان إسماعيل بن يونس الطبيب الإسرائيلي (1) ، وكان بصيراً بالفراسة محسناً لها، وكنا في لمة، فقال له مجاهد بن الحصين القيسي: ما تقول في هذا وأشار إلى رجل منتبذ عنا ناحية اسمه حاتم ويكنى أبا البقاء، فنظر إليه ساعة يسيرة ثن قال: هو رجل عاشق، فقال له: صدقت: فمن أين قلت هذا قال: لبهت مفرط ظاهر على وجهه فقط دون سائر حركاته، فعلمت أنه عاشق وليس بمريب (2) .

_ (1) كان ابن حزم يلابس يهود الاندلس، إما للسؤال أو للجدل أو لغير ذلك، ولهذا عندما نشب الخلاف بينه وبين ابن عمه أبي المغيرة عيره هذا بأنه أصبح بين شيعته وأنصاره " رئيس مدارسهم ". وقال ابن حيان: ولهذا الشيخ أبي محمد مع يهود مجالس محفوظة وأخبار مكتوبة " (انظر الذخيرة 1/1: 163، 170 ومقدمتي على رسالة الرد على ابن النغريلة) . واسماعيل بن يونس الطبيب اليهودي ذكره ابن حزم في الفصل 5: 120 ووصفه ب " الأعور " واستدل على انه كان في أقواله ومناظرته ينصر مذهب تكافؤ الأدلة، لاجتهاده في نصر هذه المقالة دون أن يصرح بذلك. وأضاف أبو محمد قوله: " وكان اسماعيل ابن القراد (لعلها: القراء) الطبيب اليهودي يذهب إلى هذا القول يقيناً وقد ناظرنا عليه مصرحاً به، وكان يقول إذا دعوناه إلى الإسلام وحسمنا شكوكه ونقضنا علله: الانتقال في الأديان تلاعب ". (2) بمريض: قراءة برشيه، وهي وجه مقبول.

باب من أحب في النوم

- 3 - باب من أحب في النوم ولابد لكل حب من سبب يكون له أصلاً، وأنا مبتدئ بأبعد ما يمكن أن يكون من أسبابه ليجري الكلام على نسق، أو أن (1) يبتدأ أبداً بالسهل والأهون. فمن أسبابه شيء لولا أني شاهدته لم أذكره لغرابته. خبر: وذلك أني دخلت يوماً على أبي السري عمار بن زياد صاحبنا مولى المؤيد (2) فوجدته مفكراً مهتماً فسألته عما به، فتمتع ساعة ثم قال لي: أعجوبة ما سمعت قط. قلت: وما ذاك قال: رأيت في نومي الليلة جارية فاستيقظت وقد ذهب قلبي فيها وهمت بها، وإني لفي أصعب حال من حبها. ولقد بقي أياماً كثيرة تزيد على الشهر مغموماً لا يهنئه شيء وجداً، إلى أن عذلته وقلت له: من الخطأ العظيم أن تشغل نفسك بغير حقيقة، وتعلق وهمك بمعدوم لا يوجد، هل تعلم من هي قال: لا والله، قلت: إنك لفيل (3) الرأي مصاب البصيرة إذ تحب

_ (1) أو أن: كذا وردت، ولعلها " لا أن ". (2) يعني - في الأرجح - هشام بن الحكم المستنصر. (3) رجل فيل الرأي أي ضعيف الرأي (اللسان: فيل) يقال بكسر الفاء وسكون الياء، وقد يقال: فيل وفيل وقال؛ وقد قرئت في معظم الطبعات: لقليل؛ وهو خطأ، وقرأ برشيه " لقائل " وهي مقبولة وان أبعدت عن رسم الكلمة، ولو قرئت لفليل - بالفاء - لكان ذلك وجهاً حسناً؛ وعند الصيرفي: لقيل، ولعلها خطأ مطبعي.

من لم تره قط، ولا خلق ولا هو في الدنيا، ولو عشقت صورة من صور الحمام (1) لكنت عندي أعذر؛ فما زلت به حتى سلا وما كاد. وهذا عندي من حديث النفس وأضغائها، وداخل في باب التمني وتخيل الفكر، وفي ذلك أقول شعراً منه (2) [من البسيط] يا ليت شعري من كانت وكيف سرت ... أطلعة الشمس كانت أم هي القمر أظنه العقل أبداه تدبره ... أو صورة الروح أبدتها لي الفكر أو صورة مثلت في النفس من أملي ... فقد تخيل (3) في إدراكها البصر أو لم تكن كل هذا فهي حادثة ... أتى بها سبباً في حتفي القدر

_ (1) هذا يدل على أن جدران الحمامات في الأندلس كانت تزين بالصور (كما أن الحال في بعض حمامات المشرق) انظر نفح الطيب 3: 348 وهنالك حكايات عن فتنة بعض الاندلسيين بالتماثيل؛ وفي ذلك دليل على شدة الاعجاب بالجمال الفني وجاء في الموشى (ص: 56) وبلغنا أن منهم من عشق صورة في حمام وخيالاً في منام وكفاً في حائط ومثالاً في ثوب. (2) وردت الأبيات في ديوان الصبابة: 52 (دون نسبة) . (3) ديوان الصبابة: تحير.

باب من أحب بالوصف

- 4 - باب من أحب بالوصف من غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون المعاينة، وهذا أمر يترقى منه إلى جميع الحب، فتكون المراسلة والمكاتبة والهم والوجد والسهر على غير الإبصار، فغن للحكايات ونعت المحاسن ورصف الأخبار تأثيراً في النفس ظاهراً؛ وأن تسمع نغمتها من وراء جدار، فيكون سبباً للحب واشتغال البال. وهذا كله قد وقع لغير ما واحد، ولكنه عندي بنيان هار على غير أس، وذلك أن الذي أفرغ ذهنه في هوى من لم ير لابد له إذ يخلو بفكره أن يمثل لنفسه صورة يتوهمها وعيناً يقيمها نصب ضميره، لا يتمثل في هاجسه غيرها، قد مال بوهمه نحوها، فإن وقعت المعاينة يوماً ما فحينئذ يتأكد الأمر أو يبطل بالكلية، وكلا الوجهين قد عرض وعرف، وأكثر ما يقع هذا في ربات الخدور (1) المحجوبات من أهل البيوتات مع أقاربهن من الرجال، وحب النساء في هذا أثبت من حب الرجال لضعفهن وسرعة إجابة طبائعهن إلى هذا الشأن، وتمكنه منهن؛ وفي ذلك أقول شعراً (2) منه: [من الهزج] .

_ (1) في بعض الطبعات: القصور. (2) انظر ديوان الصبابة: 51 حيث أورد هذه الأبيات ونسبها للمدني () .

ويا من لامني في حب من لم يره طرفي ... لقد أفرطت في وصفك لي في الحب بالضعف ... فقل هل تعرف الجنة يوماً بسوى الوصف ... وأقول شعراً في استحسان النغمة دون وقوع العين على العيان منه: [من مخلع البسيط] قد حل جيش الغرام (1) سمعي ... وهو على مقلتي يبدو وأقول أيضاً في مخالفة الحقيقة لظن المحبوب عند وقوع الرؤية: [من الكامل] وصفوك لي حتى إذا أبصرت ما ... وصفوا علمت بأنه هذيان فالطبل جلد فارغ وطنينه ... يرتاع منه ويفرق الإنسان وفي ضد هذا أقول: لقد وصفوك لي حتى التقينا ... فصار الظن حقاً في العيان فأوصاف الجنان مقصرات ... على التحقيق عن قدر الجنان وإن هذه الأحوال لتحدث بين الأصدقاء والإخوان، وعني أحدث، خبر: أنه كان بيني وبين رجل من الأشراف ود وكيد وخطاب كثير، وما تراءينا قط، ثم منح الله لي لقاءه، فما مرت إلا أيام قلائل حتى وقعت لنا منافرة عظيمة ووحشة شديدة متصلة إلى الآن، فقلت في ذلك قطعة منها: [من البسيط]

_ (1) حلول جيش الغرام في السمع استعارة قبيحة، هذا إذا لم نقدر أن في اللفظة تصحيفاً. وقد تصرف ابن القيم بهذه الصورة (روضة المحبين: 241) فقال: وجيش المحبة قد يدخل المدينة من باب السمع كما يدخلها من باب البصرة.

أبدلت أشخاصنا (1) كرهاً وفرط قلى ... كما الصحائف قد يبدلن بالنسخ ووقع لي ضد هذا مع أبي عامر بن أبي عامر رحمة الله عليه، فإني كنت له على كراهة صحيحة وهو لي كذلك، ولم يرني ولا رأيته، وكان أصل ذلك تنقيلاً يحمل إليه عني وإلي عنه، ويؤكده انحراف بين أبوينا لتنافسهما فيما كانا فيه أود الناس وصرت له كذلك، إلى ان حال الموت بيننا؛ وفي ذلك أقول قطعة منها: [من المتقارب] أخ لي كسبنيه اللقاء ... وأوجدني فيه علقاً شريفا وقد كنت أكره منه الجوار ... وما كنت أرغبه لي أليفا وكان البغيض فصار الحبيب ... وكان الثقيل فصار الخفيفا وقد كنت أدمن عنه الوجيف ... فصرت أديم إليه الوجيفا وأما أبو شاكر عبد الواحد بن محمد القبري (2) فكان لي صديقاً مدة على غير رؤية، ثم التقينا فتأكدت المودة واتصلت وتمادت إلى الآن.

_ (1) اشخاصنا: قرأها برشيه " اخلاصنا ". (2) في الأصل: عبد الرحمن؛ وهو عبد الواحد بن محمد بن موهب بن محمد الدجيبي أبو شاكر، يعرف بابن القبري، كان فقيهاً محدثاً خطيباً شاعراً، نشأ بقرطبة، ويبدو أنه تحول بعد الفتنة إلى شاطبة، وولي الأحكام والمظالم بها، وهنالك رآه الحميدي، وهنالك توكدت الصلة بينه وبين ابن حزم (الجذوة: 271 والبغية رقم: 1107) وقد سكن أبو شاكر بلنسية وتقلد الصلاة والخطبة والأحكام بها، وكانت وفاته سنة 456 بمدينة شاطبة ونقل إلى بلنسية فدفن فيها، وكان ربعة من الرجال ليس بالطويل ولا بالقصير وسيماً جميلاً حسن الهيأة والخلق، حسن السمت والهدي (الصلة: 365 - 366) وله شعر في رثاء قرطبة منه قوله (ترتيب المدارك 4: 818) . يا ليت شعري والأيام تجمعنا ... ونأخذ البينة مغلوباً فنصفعه في جنة الأرض اعني أرض قرطبة ... فكل شيء بديع فهي تجمعه استودع الله أهليها فإنهم ... كالمسك قد ملأ الدنيا تضوعه

باب من أحب من نظرة واحدة

- 5 - باب من أحب من نظرة واحدة وكثيراً ما يكون لصوق الحب بالقلب من نظرة واحدة، وهو ينقسم قسمين، فانقسم الواحد مخالف للذي قبل هذا، وهو أن يعشق المرء صورة لا يعلم من هي ولا يدري لها اسماً ولا مستقراً، وقد عرض هذا لغير واحد؛ خبر: حدثني صاحبنا أبو بكر محمد بن أحمد بن إسحاق عن ثقة أخبره سقط عني اسمه، وأظنه القاضي ابن الحذاء (1) ، أن يوسف بن هارون الشاعر (2) المعروف بالرمادي كان مجتازاً عند باب العطارين

_ (1) ابن الحذاء: هو محمد بن يحيى بن أحمد أحد رجال الأندلس فقهاً وعلماً وتفنناً في العلوم، استقضي ببجانة ثن باشبيلية، وكان أحد القضاة المشاورين بقرطبة، وتولى خطة الوثائق السلطانية، وخرج عن قرطبة في الفتنة واستقضي بمدينة تطيلة في الثغر الأعلى ثم نقل منها إلى قضاء مدينة سالم ثم إلى سرقسطة وفيها توفي (416) (الصلة: 478 - 480 وترتيب المدارك 4: 733) والنص هنا قد ينطبق عليه ولعى ابنه أحمد ويكنى بأبي عمر، فقد بدأ سماعه سنة 393 وجلا عن وطنه في الفتنة وسكن سرقسطة وتقلد القضاء بطليطلة، وانصرف في آخر عمره إلى قرطبة، وتوفي سنة 467 (الصلة: 65 - 66) . (2) يوسف بن هارون الرمادي (أبو جنيش) ؛ ربما كان أبرز شعراء الأندلس في عصره، وقد توفي في الفتنة (حوالي 403) ؛ انظر ترجمته في الجذوة: 346 والبغية رقم: 1451 والصلة: 637 والمطرب: 4 والمغرب 1: 392 والمطمح: 69 واليتيمة 1: 435 وابن خلكان 7: 225 ومسالك الأبصار 11: 175، والمقتبس (ط. بيروت) 74، 75 ومعجم الأدباء 20: 62، وله أشعار في البديع للحميري وكتاب التشبيهات للكتاني ونفح الطيب وشرح الشريرشي على المقامات، وعنه دراسة في كتابي تاريخ الأدب الاندلسي، عصر سيادة قرطبة: 205 (ط. ثانية) ، وقد جمع شعره السيد ماهر زهير جرار ونشرته مؤسسة الدراسات العربية، بيروت 1980.

بقرطبة (1) ، وهذا الموضع كان مجتمع النساء، فرأى جارية أخذت بمجامع قلبه وتخلل حبها جميع اعضائه، فانصرف عن طريق الجامع وجعل يتبعها وهي ناهضة نحو القنطرة (2) ، فجازتها إلى الموضع المعروف بالربض. فلما صارت بين رياض بني مروان - رحمهم الله - المبنية على قبورهم في مقبرة الربض خلف النهر نظرت منه منفرداً عن الناس لا همة له غيرها، فانصرفت إليه فقالت له: مالك تمشي ورائي فأخبرها بعظيم بليته بها. فقالت له: دع عنك هذا ولا تطلب فضيحتي فلا مطمع لك في البتة ولا إلى ما ترغبه سبيل، فقال: إني أقنع بالنظر، فقالت: ذلك مباح لك، فقال لها: يا سيدتي، أحرة أم مملوكة قالت: مملوكة، فقال لها: ما اسمك. قالت: خلوة، قال: ولمن أنت فقالت له: علمك والله بما في السماء السابعة أقرب إليك مما سألت عنه، فدع المحال، فقال لها: يا سيدتي، وأين أراك بعد هذا قالت: حيث رأيتني اليوم في مثل تلك الساعة من كل جمعة.. فقالت له: إما تنهض أنت أو انهض أنا (3) ، فقال لها: انهضي في

_ (1) ذكر ابن بشكوال أن أبواب قرطبة سبعة باب القنطرة إلى جهة القبلة، وباب الحديد ويعرف بباب سرقسطة، وباب ابن عبد الجبار وهو باب طليطلة، وباب رومية، وباب طلبيرة، ثم باب عامر القرشي ثم باب الجوز ويعرف بباب طليوس ثم باب العطارين وهو باب إشبيلية، ومن دونه تجارة العطور والدكاكين والعطارين (انظر النفح 1: 465) . (2) قنطرة قرطبة تقع شمالي باب قرطبة الجنوبي (المسمى بها أي باب القنطرة) ، وهو الباب الذي يصل بين المدينة وربض شقندة، وقد بناها أغسطس قيصر، وكانت تتثلم بسبب مد النهر فيتم اصلاحها وترميمها، فقد رممها الحكم المستنصر سنة 360 (أنظر عبد العزيز سالم قرطبة حضرة الخلافة الإسلامية 1: 197 - 201 ومصادره هنالك) . (3) فقالت له إما أن تنهض أنت أو أنهض أنا؛ يبدو أن هنا سقطاً؛ والرواية نفسها عن ابن حزم عند الحميدي: " فلما قرب وقت صلاة العصر، انصرفت فجعلت أقفو أثرها، فلما بلغت قنطرة قالت إما أن تتأخر واما أن تتقدم فلست والله أخطو خطوة وأنت معي، فقلت لها: أهذا آخر العهد، قالت: لا، قلت لها: فمتى اللقاء قالت: كل يوم جمعة في هذا الوقت في هذا المكان، قلت لها: فما ثمنك أن باعك من أنت له قال: ثلاثمائة دينار، قال: فخرجت جمعة أخرى فوجدتها على العادة الأولى فزاد كلفي بها " ثم يقص كيف ارتحل إلى سرقسطة ومدح عبد الرحمن بن محمد الدجيبي صاحبها، وذكر له قصته مع خلوة وأخذ منه ثلاثمائة دينار سوى نفقة الطريق، قال: " وعدت إلى قرطبة فلزمت الرياض جمعاً لا أرى لها أثراً وقد انطبقت سما ئي على أرضي، وضاق صدري إلى أن دعاني يوماً رجل من اخواني فدخلت إلى داره وأجلسني في صدر مجلسه ثم قام لبعض شئنه، فلم أشعر إلا بالستارة المقابلة لي قد رفعت وإذا بها، فقلت: خلوة، فقال: نعم، قلت: ألأبي فلان أنت مملوكة قالت: لا والله ولكني أخته، قال: فكان الله تعالى محا محبتها من قلبي، وقمت من فوري، واعتذرت إلى صاحب المنزل بعارض طرقني وانصرف (الجذوة: 347 - 348) .

حفظ الله. فنهضت نحو القنطرة ولم يمكنه اتباعها لأنها كانت تلتفت نحوه لترى أيسايرها أم لا. فلما تجاوزت باب القنطرة أتى يقفوها فلم يقع لها على مسألة. قال أبو عمر - وهو يوسف بن هارون -: فو الله لقد لازمت باب العطارين والربض من ذلك الوقت إلى الآن فما وقعت لها على خبر ولا أدري أسماء لحستها أرض بلعتها، وإن في قلبي منها لأحر من الجمر، وهي خلوة التي يتغزل بها في أشعاره. ثم وقع بعد ذلك على خبرها بعد رحيله في سببها إلى سرقسطة (1) في قصة. ومثل ذلك كثير، وفي لك أقول قطعة منها: [من البسيط] عيني جنت في فؤادي لوعة الفكر ... فأرسل الدمع مقتصاً من البصر فكيف تبصر الدمع منتصفاً ... (2) منها بإغراقها في دمعها الدرر لم ألقها قبل إبصاري فأعرفها ... وآخر العهد منها ساعة النظر

_ (1) سرقسطة (Zaragoza) مدينة الثغر الأعلى، وكانت آلهة حسنة الديار والمساكن، حكمها بنو هود في أيام ملوك الطوائف، وسقطت في يد النصارى سنة 512 (الروض: 317 والترجمة: 118 والعذري: 22 والزهري: 226 والادريسي (دوزي) 190.) . (2) قرأها درشيه: دفعها؛ والدرر هنا كما تقول: سماء درر أي ذات درر، وفي حديث الاستسقاء: " ديماً درراً " وقيل الدرر: الدار، وعندئذ يكون القول على النعت المباشر أي بإغراقها في دمعها الدار.

والقسم الثاني مخالف للباب الذي بعد هذا الباب إن شاء الله، وهو أن يعلق المرء من نظرة واحدة جارية معروفة الاسم والمكان والمنشأ، ولكن التفاضل يقع في هذا في سرعة الفناء وإبطائه، فمن أحب من نظرة واحدة وأسرع العلاقة من لمحة خاطرة فهو دليل على قلة الصبر، ومخبر بسرعة السلو، وشاهد الطرافة (1) والملل. وهكذا في جميع الأشياء: أسرعها نمواً أسرعها فناء، وأبطؤها حدوثاً أبطؤها نفاداً. خبر: إني لأعلم فتى من أبناء الكتاب ورأته امرأة سرية النشأة، عالية المنصف، غليظة الحجاب، وهو مجتاز، ورأته في موضع تطلع منه كان في منزلها، فعلقته وعلقها، وتهاديا المراسلة زماناً على أدق من حد السيف، ولولا أني لم أقصد في رسالتي هذه كشف الحيل وذكر المكايد لأوردت مما صح عندي أشياء تحير اللبيب وتدهش العاقل، أسبل الله علينا ستره وعلى جميع المسلمين بمنه، وكفانا.

_ (1) الطرافة: من قولك فلان طرف أي سريع الملل لا يثبت على عهد.

باب من لا يحب إلا مع المطاولة

- 6 - باب من لا يحب إلا مع المطاولة ومن الناس من لا تصح محبته إلا بعد طول المخافتة (1) وكثير المشاهدة وتمادى الأنس، وهذا الذي يوشك أن يدوم ويثبت ولا يحيك فيه مر الليالي، فما دخل عسيراً لم يخرج يسيراً، وهذا مذهبي. وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل قال للروح حين أمره أن يدخل جسد آدم، وهو فخار، فهاب وجزع: ادخل كرهاً واخرج كرهاً. حدثناه عن شيوخنا. ولقد رأيت من أهل هذه الصفة من إن أحس من نفسه بابتداء هوى أو توجس من استحسانه ميلاً إلى بعض الصور استعمل الهجر وترك الإلمام، لئلا يزيد ما يجد فيخرج الأمر عن يديه، ويحال بين العير والنزوان (2) . وهذا يدل على لصوق الحب بأكباد أهل هذه الصفة، وأنه إذا تمكن منهم لم يحل أبداً. وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الوافر]

_ (1) قرأها برشيه: المحادثة. (2) وقد حيل بين العير والنزوان: مثل؛ من قول صخر أخي الخنساء: أهم بأمر الحزم لو أستيطعه ... وقد حيل بين العير والنزوان فصل المقال: 72.

سأبعد عن دواعي الحب إني ... رأيت الحزم من صفة الرشيد رأيت الحب أوله التصدي ... بعينك في أزاهير الخدود فبينا أنت مغتبط مخلى ... إذا قد صرت في حلق القيود كمغتر بضحضاح قريب ... فزل فغاب في غمر المدود وإني لأطيل العجب من كل من يدعي أنه يحب من نظرة واحدة، ولا أكاد أصدقه، ولا أجعل حبه إلا ضرباً من الشهوة، وأما أن يكون في ظني متمكناً من صميم الفؤاد نافذاً في حجاب القلب فما أقدر ذلك، وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل وبعد ملازمة الشخص لي دهراً وأخذي معه في كل جد وهزل، وكذلك أنا في السلو والتوقي، فما نسيت وداً لي قط، وإن حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء، وقد استراح من لم تكن هذه صفته. وما مللت شيئاً قط بعد معرفتي به، ولا أسرعت إلى الأنس مذ كنت، لا أقول الألاف والإخوان وحدهم، لكن في كل ما يستعمل الإنسان من ملبوس ومركوب ومطعوم وغير ذلك، وما انتفعت بعيش ولا فارقني الإطراق والانغلاق (1) مذ ذقت طعم فراق الأحبة، وإنه لشجى يعتادني وولوع هم ما ينفعك يطرقني، ولقد نغص تذكري ما مضى كل عيش استأنفه، وإني لقتيل الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا. والله المحمود على كل حال لا إله إلا هو؛ وفي ذلك أقول شعراً منه: [من الطويل] محبة صدق لم تكن بنت ساعة ... ولا وريت حين ارتفاد (2) زنادها ولكن على مهل سرت وتولدت ... بطول امتزاج فاستقر عمادها

_ (1) في أكثر الطبعات: والانفلاق - بالفاء - ولا أدري له معنى. (2) في الطبعات: ارتياد، والارتفاد هو الاستعانة في القدح بحجر القدح عند استعمال الزناد.

فلم يدن منها عزمها وانتفاضها (1) ... ولم ينأ عنها مكثها وازديادها يؤكد ذا أنا نرى كل نشأة ... (2) تتم سريعاً عن قريب نفادها ولكني أرض عزاز صليبة ... منيع إلى كل الغروس انقيادها فما نفذت منها لديها عروقها ... فليست تبالي أن تجود عهادها ولا يظن ظان ولا يتوهم متوهم أن كل هذا مخالف لقولي المسطر صدر الرسالة: إن الحب اتصال بين النفوس في أصل عالمها العلوي (3) ، بل هو مؤكد له. فقد علمنا أن النفس في هذا العالم الأدنى قد غمرتها الحجب، ولحقتها الأعراض، وأحاطت بها الطبائع الأرضية الكونية (4) ، فسترت كثيراً من صفاتها وإن كانت لم تحله، لكن حالت دونه، فلا يرجى الاتصال على الحقيقة إلا بعد التهيؤ من النفس والاستعداد له، وبعد إيصال المعرفة إليها بما يشاكلها ويوافقها، ومقابلة الطبائع التي خفيت بما يشابهها من طبائع المحبوب، فحينئذ يتصل اتصلاً صحيحاً بلا مانع. وأما ما يقع من أول وهلة ببعض أعراض الاستحسان الجسدي، واستطراف البصر الذي لا يجاوز الألوان، فهذا سر الشهوة (5) ومعناها على الحقيقة، فإذا فضلت (6) الشهوة وتجاوزت هذا الحد ووافق الفضل اتصال نفساني تشترك فيه الطبائع مع النفس تسمى

_ (1) عزمها وانتقاضها: قرأها يرشيه غربها وانتقاصها؛ وكلمة " انتقاصها " تقابل " ازديادها " ولكن " غربها " لا تقابل " مكثها ". (2) جاءت في بعض الطبعات: معادها. (3) انظر ما تقدم ص: 93. (4) برشيه: الكورية. (5) من الجائز أن تكون هذه العبارة: " وأما ما يقع من أول وهلة، فبعض أعراض الاستحسان الجسدي واستطراف البصر الذي لا يجاوز الألوان، وهذا سر الشهوة " ويكون جواب " أما " هو " فبعض ". (6) قراءة بتروف: فصلت؛ وتصحيحها إلى " فضلت " أمر يلتئم مع قوله: " ووافق الفضل اتصال نفساني؛ وفي معظم الطبعات: " غلبت ".

عشقاً. ومن هذا (1) دخل الغلط على من يزعم انه يحب اثنين ويعشق شخصين متغايرين، فإنما هذا من جهة الشهوة التي ذكرناها آنفاً، وهي على المجاز تسمى محبة لا على التحقيق، وأما نفس المحب فما في الميل به فضل يصرفه في أسباب دينه ودنياه فكيف بالاشتغال بحب ثان! وفي ذلك أقول (2) : [من الخفيف] كذب المدعي هوى اثنين حتماً ... مثل ما في الأصول أكذب ماني (3) ليس في القلب موضع لحبيبي ... (4) ن ولا أحدث الأمور بثاني فكما العقل واحد ليس يدري ... خالقاً غير واحد رحمان فكذا القلب واحد ليس يهوى ... غير فرد مباعد أو مدان هو في شرعة المودة ذو شر ... ك (5) بعيد من صحة الإيمان وكذا الدين واحد مستقيم ... وكفور من عقدة (6) دينان وإني لأعرف فتى من أهل الجدة (7) والحسب والأدب كان يبتاع الجارية وهي سالمة الصدر من حبه، وأكثر من ذلك كارهة له لقلة حلاوة شمائل كانت فيه، وقطوب دائم كان لا يفارقه ولا سيما مع النساء، فكان لا يلبث إلا يسيراً ريثما يصل إليها بالجماع ويعود ذلك الكره حباً مفرطاً وكلفاً زائداً واستهتاراً مكشوفاً، ويتحول الضجر

_ (1) من قوله: ومن هذا حتى آخر الأبيات النونية ورد في روضة المحبين: 289 - 290. (2) أورد ابن أبي حجلة هذه الأبيات (ما عدا الأول) في ديوان الصبابة: 41، وجعل الرابع منها آخراً وأوردها ابن القيم في روضة المحبين: 290. (3) ماني مؤسس مذهب المانوية، وهو قائم على الأثنينية إذ يقول ان مبدأ العالم كونان أحدهما نور والآخر ظلمة، كل واحد منهما منفصل عن الآخر (انظر تفصيلاً لمذهبه عند ابن النديم في الفهرست: 392 - 402) . (4) روضة المحبين وديوان الصبابة: اثنان. (5) في ص: شك، والتصويب عن ديوان الصبابة. (6) في معظم الطبعات وفي ديوان الصبابة وروضة المحبين: عنده؛ وما أثبته أدق. (7) في أكثر الطبعات (ما عدا برشيه) : الجد.

لصحبته ضجراً لفراقه. صحبه هذا الأمر في عدة منهن، فقال بعض إخواني، فسألته عن ذلك فتبسم نحوي وقال: إذاً والله أخبرك، أنا أبطأ الناس إنزالاً، تقضي المرأة شهوتها وربما ثنت وإنزالي وشهوتي لم ينقضيا بعد، وما فترات بعدها (1) قط، وإني لأبقى بمنتي (2) بعد انقضائها الحين الصالح، وما لاقى صدري صدر امرأة قط عند الخلوة إلا عند تعمدي المعانقة، وبحسب ارتفاع صدري نزول مؤخري. فمثل هذا وشبهه إذا وقع (3) وافق أخلاق النفس وولد المحبة، إذ الأعضاء الحساسة مسالك إلى النفوس ومؤديات نحوها.

_ (1) برشيه: قبلها. (2) بمنتي: قراءة الصيرفي وتابعه على ذلك مكي؛ بتروف: بحسبي، برشيه: بحبسي. (3) وقع: لن ترد إلا عند برشيه، والقراءات الأخرى: فمثل هذا إذا وافق ولد المحبة الخ.

باب من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها

- 7 - باب من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها واعلم أعزك الله إن للحب حكماً على النفوس (1) ، ماضياً، وسلطاناً قاضياً (2) ، وأمراً لا يخالف، وحداً لا يعصى، وملكاً لا يتعدى، وطاعة لا تصرف، ونفاذاً لا يرد، وأنه ينقض المرر، ويحل المبرم، ويحلل الجامد، ويخل (3) الثابت، ويحل الشغاف، ويحل الممنوع. ولقد شاهدت كثيراً من الناس لا يهتمون في تمييزهم، ولا يخاف عليهم سقوط في معرفتهم، ولا اختلال بحسن اختيارهم، ولا تقصير في حدسهم، قد وصفوا أحباباً لهم في بعض صفاتهم بما ليس بمستحسن عند الناس ولا يرضى في الجمال، فصارت هجيراهم، وعرضة لأهوائهم، ومنتهى استحسانهم، ثم مضى أولئك إما بسلو أو بين أو هجر أو بعض عوارض الحب، وما فارقهم استحسان تلك الصفات ولا بان عنهم تفضيلها على ما هو أفضل منها في الخليقة (4) ، ولا مالوا إلى سواها؛ بل صارت تلك الصفات المستجادة عند الناس مهجورة عندهم وساقطة لديهم إلى أن فارقوا الدنيا وانقضت

_ (1) برشيه: في الناس. (2) قارن هذا بقول الوشاء في الحب (الموشى: 49) ويذل له العزيز ويخضع له المتجبر (3) برشيه: ويحلل. (4) هذه قراءة بتروف؛ وغيرها برشيه إلى " الحقيقة ".

اعمارهم، حنيناً منهم إلى من فقدوه، وألفه لمن صحبوه. وما أقول إن ذلك كان تصنعاً لكن طبعاً حقيقياً واختياراً لا يدخل (1) فيه، ولا يرون سواه، ولا يقولون في طي عقدهم بغيره. وإني لأعرف من كان في جيد حبيبه بعض الوقص (2) فما استحسن أغيد ولا غيداء بعد ذلك؛ وأعرف من كان أول علاقته بجارية مائلة إلى القصر فما أحب طويلة بعد هذا؛ وأعرف أيضاً من هوي جارية في فمها فوه (3) لطيف فلقد كان يتقذر كل فم صغير ويذمه ويكرهه الكراهية الصحيحة. وما أصف عن منقوصي الحظوظ في العلم والأدب لكن عن أوفر الناس قسطاً في الادراك، وأحقهم باسم الفهم والدراية. وعني أخبرك أني أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر فما استحسن من ذلك الوقت سوداء الشعر، ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه، وإني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت، لا تواتيني نفسي على سواه ولا تحب غيره البتة، وهذا العارض بعينه عرض لأبي رضي الله عنه وعلى ذلك جرى إلى أن وافاه أجله. وأما جماعة خلفاء بني مروان - رحمهم الله - ولا سيما ولد الناصر (4) منهم، فكلهم مجبولون على تفضيل الشقرة، لا يختلف في ذلك منهم مختلف، وقد رأيناهم ورأينا من رآهم من لدن (5) دولة

_ (1) برشيه: داخله. (2) الوقص: قصر العنق. (3) الفوه: سعة في الفم. (4) يعني عبد الرحمن الناصر، وقد رزق أحد عشر ذكر (انظر الجمهرة: 100 ففيه تفصيل لمن أعقب من هؤلاء الأولاد، وصورة لاتصال النسب حتى أيام ابن حزم) . (5) برشيه: من أول.

الناصر إلى الآن فما منهم إلا أشقر، نزاعاً إلى أمهاتهم، حتى قد صار ذلك فيهم خلقة، حاشا سليمان الظافر (1) رحمه الله، فإني رأيته أسود اللمة واللحية. وأما الناصر والحكم المستنصر رضي الله عنهما فحدثني الوزير أبي رحمه الله (2) وغيره انهما كانا أشقرين أشهلين، وكذلك هشام المؤيد ومحمد المهدي (3) وعبد الرحمن المرتضى (4) رحمهم الله، فإني قد رأيتهم مراراً ودخلت عليهم فرأيتهم شقراً شهلاً، وهكذا أولادهم وإخوتهم وجميع أقاربهم، فلا أدري أذلك استحسان مركب في جميعهم أم لرواية كانت عند أسلافهم في ذلك فجروا عليها. وهذا ظاهر في شعر عبد الملك بن مروان بن عبد الرحمن بن مروان بن أمير المؤمنين الناصر وهو المعروف بالطليق (5) ، وكان أشعر أهل الأندلس في زمانهم وأكثر تغزله بالشقر، وقد رأيته وجالسته.

_ (1) هو نفسه سليمان الملقب بالمستعين وهو سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر، الذي استعان بالبربر في الفتنة، وحين فتح قرطبة وبويع بالخلافة (400) تلقب أيضاً ب " الظافر بحول الله " (الحلة السيراء 2: 7) ومن المفارقة أن يتحرم عليه ابن حزم هنا وان يقول فيه في موطن آخر: " وهو الذي كان شؤم الأندلس وشؤم قومه، وهو الذي سلط جنده من البرابرة فأخلوا مدينة الزهراء وجمهور قرطبة حاشا المدينة وطرفأ من الجانب الشرقي وأخلوا ما حوالي قرطبة من القرى والمنازل والمدن وأفنوا أهلها بالقتل والسبي، وهو لا ينكر ولا يغير عليهم شيئاً " (الجمهرة: 102) وأخبار سليمان في ابن عذاري (ج 3) والذخيرة (ج: 1) . (2) كان والد ابن حزم وزيراً في الدولة العامرية، وتوفي سنة أربعة 402 (الجذوة: 117 - 119 والبغية رقم: 411 والصلة: 31) وسيذكر ذلك ابن حزم ص: 207. (3) محمد المهدي: وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار، آخر من ولي الأمر من بني مروان بالأندلس ولاية تامة (399 - 400) يعزل فيها ويولى من آخر شرقها إلى آخر غربها وكذلك في كثير من بلاد البربر، وفي أيامه أبتدأ فساد الأندلس ولم يعقب إلا ابنة وابناً قتل بقرطبة (الجمهرة: 101) . (4) عبد الرحمن المرتضى: هو ابن محمد بن عبد الملك بن الناصر، وكان عبد الرحمن رجلاً صالحاً مائلاً إلى الفقه (انظر محاولته لانتزاع الأمر من بني حمود في الذخيرة 1/ 1: 453 والاحاطة 3: 466) . (5) في أخبار الطليق انظر الجذوة: 322 والحلة 1: 220 (وصفحات متفرقة من نفح الطيب) والمعجب: 285، وهنالك دراسة عنه للأستاذ غريسه غومس (مع شعراء الاندلس والمتنبي: 85 ترجمة الدكتور الطاهر مكي، القاهرة 1974) ودراسة أخرى في كتابي: تاريخ الأدب الاندلسي - عصر سيادة قرطبة: 223 ط. ثانياً.

وليس من العجب فيمن أحب قبيحاً ثم لم يصحبه ذلك في سواه فقد وقع من ذلك، ولا في من طبع مذ كان على تفضيل الأدنى، ولكن في من كان ينظر بعين الحقيقة ثم غلب عليه هوى عارض بعد طول بقائه في الجمام فأحاله عما عهدته نفسه حوالة صارت له طبعاً، وذهب طبعه الأول وهو يعرف فضل ما كان عليه أولاً، فإذا رجع إلى نفسه وجدها تأبى إلا الأدنى، فأعجب لهذا التغلب الشديد والتسلط العظيم. وهو أصدق في المحبة حقاً ممن (1) يتحلى بشيم قوم ليس منهم، ويدعي غريزة لا تقبله (2) ، فيزعم أنه يتخير من يحب. أما لو شغل المحب بصيرته، وأطاح (3) فكرته، وأجحف بتمييزه، لحال بينه وبين التخير (4) والارتياد. وفي ذلك أقول شعراً منه: [من البسيط] منهم فتى كان في محبوبه وقص ... كأنما الغيد في عينيه جنان وكان منبسطاً في فضل خبرته ... بحجة حقها (5) في القول تبيان إن المها وبها الأمثال سائرة ... لا ينكر الحسن فيها الدهر إنسان وقص فليس بها عنقاء واحدة ... وهل تزان بطول الجيد بعران وآخر كان في محبوبه فوه ... يقول حسبي في الأفواه غزلان وثالث كان في محبوبه قصر ... يقول إن ذوات الطول غيلان وأقول أيضاً: [من الطويل] يعيبونها عندي بشقرة شعرها ... فقلت لهم هذا الذي زانها عندي يعيبون لون النور والتبر ضلة ... لرأي جهول في الغواية ممتد وهل عاب لون النرجس الغض عائب ... ولون النجوم الزاهرات على البعد وأبعد خلق الله من كل حكمة ... مفضل جرم فاحم اللون مسود

_ (1) هذه قراءة برشيه. (2) برشيه: لا تقابله. (3) برشيه: وأحاج. (4) في قراءة: التخيل. (5) برشيه: وكان مستدلاً [كذا] في فضل خيرته/ بحجة حفها.

به وصفت ألوان أهل جهنم ... ولبسة باك مثكل الأهل محتد ومذ لاحت الرابات سوداً تيقنت ... نفوس الورى أن لا سبيل إلى الرشد (1)

_ (1) يحسن التوقف هنا عند كراهية ابن حزم للرايات السود، وهي شعار العباسيين، ليعرف مدى تعلقه بالأموية، حتى لقد اتهم بالتعصب للأمويين من رجل مثل ابن حيان (راجع مقدمة جوامع السيرة.

باب التعريض بالقول

- 8 - باب التعريض بالقول ولابد لكل مطلوب من مدخل إليه، وسبب يتوصل به نحوه، فلم ينفرد بالاختراع دون واسطة إلا العليم الأول جل ثناؤه (1) . فأول ما يستعمل طلاب الوصل وأهل المحبة في كشف ما يجدونه إلى أحبتهم التعريض بالقول، إما بإنشاد شعر، أو بإرسال مثل، أو تعمية بيت، أو طرح لغز، أو تسليط كلام. والناس يختلفون في ذلك على قدر إدراكهم، وعلى حسب ما يرونه من أحبتهم من نفار أو أنس أو فطنة أو بلادة. وإني لأعرف من ابتدأ كشف محبته إلى من كان يحب بأبيات قلتها. فهذا وشبهه يبتدئ به الطالب للمودة، فإن رأى أنساً وتسهيلاً زاد، وإن يعاين شيئاً من هذه الأمور في حين إنشاده لشيء مما ذكرنا، أو إيراده لبعض المعاني التي حددنا، فانتظاره الجواب، إما بلفظ أو بهيئة الوجه والحركات، لموقف بين الرجاء واليأس هائل، وإن كان حيناً قصيراً، لكنه إشراف على بلوغ الأمل أو انقطاعه. ومن التعريض بالقول جنس ثان، ولا يكون إلا بعد الاتفاق ومعرفة المحبة من المحبوب، فحينئذ يقع التشكي وعقد المواعيد

_ (1) مدخل هذا الفصل في غاية الغرابة: وهو قائم على المقارنة بين الخلق من لا شيء (الاختراع) وبين الفعل الإنساني الذي يعتمد على مقدمات.

بالتغرير (1) ، وإحكام المودات بالتعريض، وبكلام يظهر لسامعه منه معنى غير ما يذهبان إليه، فيجيب السامع عنه بجواب غير ما يتأدى إلى المقصود بالكلام، على حسب ما يتأدى إلى سمعه ويسبق إلى وهمه، وقد فهم كل منهما عن صاحبه وأجابه بما لا يفهمه غيرهما، إلا من أيد بحس نافذ، وأعين بذكاء، وأمد بتجربة، ولا سيما إن أحس من معانيهما بشيء قلما يغيب عن المتوسم المجيد، فهنالك لا خفاء عليه فيما يريدان. وأنا اعرف فتى وجارية كانا يتحابان، فأرادها في بعض وصلها على بعض ما لا يجمل، فقالت: والله لأشكونك في الملأ علانية ولأفضحنك فضيحة مستورة. فلما كان بعد أيام حضرت الجارية مجلس بعض أكابر الملوك وأركان الدولة وأجل رجال الخلافة، وفيه ممن يتوقى أمره من النساء والخدم عدد كثير، وفي جملة الحاضرين ذلك الفتى، لأنه كان بسبب من الرئيس، وفي المجلس مغنيات غيرها، فلما انتهى الغناء إليها سوت عودها واندفعت تغني بأبيات قديمة وهي (2) : [من الوافر] غزال قد حكى بدر التمام ... كشمس قد تجلت من غمام سبى قلبي بألحاظ مراض ... وقد الغصن في حسن القوام خضعت خضوع صب مستكين ... له وذللت ذلة مستهام فصلني يا فديتك في خللا ... فما أهوى وصالاً في حرام وعلمت أنا هذا الأمر فقلت: [من الوافر] عتاب واقع وشكاة ظلم ... أتت من ظالم حكم وخصم تشكت ما بها لم يدر خلق ... سوى المشكو ما كانت تسمي

_ (1) والتقرير قراءة مكي؛ ويقابلها: والتغرير عند الصيرفي والطبعة البيروتية؛ والتهديد عند برشيه. والتغرير: المخاطرة. (2) لم أجد هذه الأبيات بين الأصوات التي كانت ذائعة في المشرق والمغرب.

باب الاشارة بالعين

- 9 - باب الاشارة بالعين ثم يتلو التعريض بالقول إذا وقع القبول والموافقة: الإشارة بلحظ العين، وإنه ليقوم في هذا المعنى المقام المحمود، ويبلغ المبلغ العجيب، ويقطع به ويتواصل، ويوعد ويهدد، ويقبض ويبسط، ويؤمر وينهى، وتضرب به الوعود (1) ، وينبه على الرقيب، ويضحك ويحزن، ويسأل ويجاب، ويمنع ويعطى. ولكل واحد من هذه المعاني ضرب من هيئة اللحظ لا يوقف على تحديده إلا بالرؤية، ولا يمكن تصويره ولا وصفه إلا بالأقل منه. وأنا واصف ما تيسر من هذه المعاني: فالإشارة بمؤخر العين الواحدة نهي عن الأمر، وتفتيرها إعلام بالقبول، وإدامة نظرها دليل على التوجع والأسف، وكسر نظرها آية الفرح، والإشارة إلى إطباقها دليل على التهديد، وقلب الحدقة إلى جهة ما ثم صرفها بسرعة تنبيه على مشار إليه، والإشارة الخفية بمؤخر العينين كلتهما (2) سؤال، وقلب الحدقة من وسط العين إلى الموق

_ (1) الوعود: الأوعاد عند برشيه ومكي. (2) كلتاهما: في جميع الطبعات.

بسرعة شاهد المنع، وترعيد الحدقتين من وسط العينين نهي عام، وسائر ذلك لا يدرك إلا بالمشاهدة. واعلم أن العين تنوب عن الرسل، ويدرك بها المراد، والحواس الأربع أبواب إلى القلب ومنافذ نحو النفس، والعين أبلغها وأصحها دلالة وأوعارها (1) عملاً. وهي رائد النفس الصادق، ودليلها الهادي، ومرآتها المجلوة التي بها تقف على الحقائق وتميز الصفات وتفهم المحسوسات. وقد قيل: ليس المخبر كالمعاين، وقد ذكر ذلك افليمون (2) صاحب الفراسة وجعلها معتمدة في الحكم. وبحسبك من قوة إدراك العين أنها إذا لاقى شعاعها شيئاً ما (3) مجلواً صافياً، إما حديداً مصقولاً (4) أو زجاجاً أو ماء أو بعض الحجارة الصافية أو سائر الأشياء المجلوة البراقة ذوات الرفيف والبصيص واللمعان يتصل أقصى حدوده بجسم كثيف ساتر مناع كدر، انعكس شعاعها فأدرك الناظر نفسه ومازها عياناً. وهو الذي ترى في المرآة، فأنت حينئذ كالناظر إليك بعين غيرك. ودليل عيان على هذا انك تأخذ مرآتين كبيرتين فتمسك إحداهما بيمينك خلف رأسك والثانية بيسارك قبالة وجهك ثم تزويها قليلاً حتى يلتقيا بالمقابلة، فإنك ترى قفاك وكل ما وراءك، وذلك لانعكاس ضوء العين إلى ضوء المرآة التي خلفك، إذ لم تجد منفذاً في التي بين يديك، ولما لم يجد وراء

_ (1) برشيه: وأوفاها. (2) افليمون (Philemon) صاحب الفراسة، انظر في امتحان قدرته على الفراسة ابن أبي أصيبعة 1: 27، وذكره صاحب صوان الحكمة وأورد له قوله في العشق: هو مرض يحدث في الروح جالبه النظر ومسكنه القلب ومهيجه الفكر (صوان: 245) وقال القفطي: فاضل كبير عالم في فن من فنون الطبيعة وكان معاصراً لبقراط وأظنه شامي الدار، كان خبيراً بالفراسة عالماً بها وله في ذلك تصنيف مشهور خرج من اليونانية إلى العربية (تاريخ الحكماء: 60) . (3) هذه هي قراءة برشيه، وفي سائر القراءات: شعاعاً. (4) في بعض الطبعات: مفصولاً.

هذه الثانية منفذاً انصرف إلى ما قابله من الجسم، وإن كان صالح غلام أبي إسحاق النظام (1) خالف في الإدراك فهو قول ساقط لم يوافقه عليه أحد. ولو لم يكن من فضل العين إلا أن جوهرها ارفع الجواهر وأعلاها مكاناً، لأنها نورية لا تدرك الألوان بسواها، ولا شيء أبعد مرمى ولا أنأى غاية منها، لأنها تدرك بها أجرام الكواكب التي في الأفلاك البعيدة، وترى بها السماء على شدة ارتفاعها وبعدها، وليس ذلك إلا لاتصالها في طبع خلقتها بهذه المرآة، فهي تدركها وتصل إليها بالطفر (2) ، لا على قطع الأماكن والحلول في المواضع وتنقل الحركات، وليس هذا لشيء من الحواس مثل الذوق واللمس، لا يدركان إلا بالمجاورة، والسمع والشم، لا يدركان إلا من قريب. ودليل على ما ذكرناه من الطفر أنك ترى المصوت قبل سماع الصوت، وإن تعمدت إدراكهما معاً، ولو كان إدراكهما واحداً لما تقدمت العين السمع.

_ (1) لم أجد تعريفاً بصالح غلام النظام إلا أن الأشعري أورد قولاً في الرؤية: " الذي يرى الرائي في المرآة إنما هو إنسان مثله اخترعه الله " وأضاف: وهذا قول صالح. قلت: وهو يناسب ما يذكره ابن حزم من مخالفة صالح لمن عداه في مسألة الادراك. (2) بالطفر: هذه هي القراءة الصحيحة (التي اقترحها برشيه) وفي سائر القراءات: بالنظر، وإنما حكمت بصحتها اعتماداً على رأي ابن حزم في الطفرة وعلاقة حاسة البصر بها. فالطفرة في رأي النظام هي أن المار على سطح جسم من مكان إلى مكان بينهما أماكن لم يقطعها هذا المار ولا مر عليها؛ وخطأ ابن حزم هذا الرأي ثم قال: " هذا ليس موجوداً البتة إلا في حاسة البصر فقط وكذلك إذا أطبقت بصرك ثم فتحته لاقى نظرك خضرة السماء والكواكب الادراكين في المدة أصلاً ". ثم قارن بين حاسة السمع وحاسة البصر (كما فعل هنا) وقال: ان الصوت يقطع الأماكن وينتقل فيها وان البصر لا يقطعها ولا ينتقل فيها (أي ان ادراكه المرئيات طفرة) انظر الفصل 5: 64 - 65.

باب المراسلة

- 10 - باب المراسلة ثم يتلو ذلك إذا امتزجا: المراسلة بالكتب. وللكتب آفات (1) ، ولقد رأيت أهل هذا الشان يبادرون لقطع الكتب ولحلها في الماء وبمحو (2) أثرها، فرب فضيحة كانت بسبب كتاب، وفي ذلك أقول: [من الطويل] عزيز علي اليوم قطع كتابكم ... ولكنه لم يلف للود قاطع فآثرت أن يبقى وداد ويمتحي ... مداد فإن الفرع للأصل تابع فكم من كتاب فيه ميتة ربه ... ولم يدره إذ نمقته الأصابع وينبغي أن يكون شكل الكتاب ألطف الأشكال، وجنسه أملح الأجناس؛ ولعمري إن الكتاب للسان في بعض الأحايين، إما لحصر في الإنسان وإما لحياء وإما لهيبة. نعم، حتى إن لوصول الكتاب إلى المحبوب وعلم المحب أنه قد وقع بيده ورآه للذة يجدها المحب عجيبة تقوم مقام الرؤية، وإن لرد الجواب والنظر إليه سروراً يعدل اللقاء، ولهذا ما ترى العاشق يضع الكتاب على يمينه وقلبه ويعانقه. ولعهدي ببعض أهل المحبة، ممن كان يتحرى (3) ما يقول

_ (1) في معظم القراءات: آيات. (2) عند بتروف وغيره: وبحلها.. وبمحو. (3) في بعض الطبعات: يدري، وأثبت قراءة برشيه.

ويحسن الوصف ويعبر عما في ضميره بلسانه عبارة جيدة ويجيد النظر ويدقق في الحقائق، لا يدع المراسلة وهو ممكن الوصل قريب الدار داني المزار، ويحكي أنها من وجوه اللذة. ولقد أخبرت عن بعض السقاط الوضعاء أنه كان يضع كتاب محبوبه على إحليله، وإن هذا النوع من الاغتلام قبيح وضرب من الشق فاحش. وأما سقي الحبر بالدمع فأعرف من كان يفعل ذلك ويقارضه محبوبه يسقي الحبر بالريق، وفي ذلك أقول: [من الطويل] . جواب أتاني عن كتاب بعثته ... فسكن مهتاجاً وهيج ساكنا سقيت بدمع العين لما كتبته ... فعال محب ليس في الود خائنا فما زال ماء العين يمحو سطوره ... فيا ماء عيني قد محوت المحاسنا غدا بدموعي أول الخط بينا ... وأضحى بدمعي آخر الخط بائنا خبر: ولقد رأيت كتاب المحب إلى محبوبه، وقد قطع في يده بسكين له فسال الدم واستمد منه وكتب به الكتاب أجمع. ولقد رأيت الكتاب بعد جفوفه فما شككت انه بصبغ اللك (1) .

_ (1) اللك: صبغ أحمر تصبغ به جلود المعزى.

باب السفير

- 11 - باب السفير ويقع في الحب بعد هذا - بعد حلول الثقة وتمام الاستئناس: إرسال السفير. ويجب تخيره وارتياده واستجادته واستفراهه، فهو دليل عقل المرء، وبيده حياته وموته، وستره وفضيحته، بعد الله تعالى، فينبغي ان يكون الرسول ذا هيئة، حاذقاً يكتفي بالإشارة، ويقرطس (1) عن الغئب، ويحسن من ذات نفسه، ويضع من عقله ما أغفله باعثه، ويؤدي إلى الذي أرسله كل ما يشاهد على وجهه، كاتماً للأسرار، حافظاً للعهد، قنوعاً ناصحاً. ومن تعدى (2) هذه الصفات كان ضرره على باعثه بمقدار ما نقصه منها. وفي ذلك أقول شعراً منه: [من الطويل] رسولك سيف في يمينك فاستجد ... حساماً ولا تضرب به قبل صقله فمن يك ذا سيف كهام فضره ... يعود على المعني منه بجهله وأكثر ما يستعمل المحبون في إرسالهم إلى من يحبونه، إما خاملاً لا يؤبه له ولا يهتدى للتحفظ منه، لصباه أو لهيئة رثة أو بذاذة في طلعته؛ وإما جليلاً لا تلحقه الظنن لنسك يظهره أو لسن عالية قد بلغها. وما اكثر هذا في النساء ولا سيما ذوات العكاكيز والتسابيح

_ (1) يقرطس: يصيب المرمى. (2) قراها برشيه: تعوزه.

والثوبين الأحمرين (1) . وإني لأذكر بقرطبة التحذير للنساء المحدثات (2) من هذه الصفات حيثما رأينها؛ أو ذوات صناعة يقرب بها من الأشخاص، فمن النساء: كالطبيبة والحجامة والسراقة (3) والدلالة والماشطة والنائحة والمغنية والكاهنة والمعلمة والمستخدمة (4) والصناع في المغزل والنسيج، وما أشبه ذلك؛ أو ذا قرابة من المرسل إليه لا يشح (5) بها عليه. فكم منيع سهل بهذه الأوصاف، وعسير يسر، وبعيد قرب، وجموح أنس، وكم داهية دهت الحجب المصونة، والأستار الكثيفة، والمقاصير المحروسة، والسدد المضبوطة، لأرباب هذه النعوت، ولولا أن أنبه عليها لذكرتها (6) ، ولكن لقطع النظر (7) فيها وقلة الثقة بكل أحد. والسعيد من وعظ بغيره (8) ، وبالضد تتميز الأشياء (9) . أسبل الله علينا وعلى جميع المسلمين ستره، ولا زال على الجميع ظل العافية.

_ (1) حين تكون المرأة العجوز ذات عكازة وتسابيح، فذلك أمر مفهوم؛ أما ان تكون ذات ثوبين أحمرين فذلك زي أندلسي، فيما يبدو. (2) عند برشيه: المخبآت. (3) السراقة: لا أدري أية حرفة هي هذه، وجعلها " برشيه ": السواقة، كأنه عدها مأخوذة من العمل في السوق. (4) في سائر الطبعات (ما عدا برشيه) : والمستخفة. (5) برشيه: يشق. (6) برشيه: لما ذكرتها. (7) برشيه: لقطع المضار. (8) السعيد من وعظ بغيره: هو حديث عند مسلم (القدر: 3) وابن ماجه (المقدمة: 7) وورد في تذكرة ابن حمدون (79/ أ) ضمن كلام لعلي بن أبي طالب، ونسب في محاضرات الراغب 1: 132 لبعض الحكماء، وفي مختار الحكم: 198 لأرسطاطاليس. (9) هو من قول المتنبي (ديوانه: 117) ونذيمهم وبهم عرفنا فضله ... وبضدها تتميز الأشياء وقوله: " تتميز الأشياء " لم يرد عند برشيه، ويكون المعنى: وبالضد: أي والشقي من وعظ به غيره.

خبر: وإني لأعرف من كانت الرسول بينهما حمامة مؤدبة، ويعقد الكتاب في جناحها، وفي ذلك أقول منها: [من الطويل] تخيرها نوح فما خاب ظنه ... لديها وجاءت نحوه بالبشائر سأودعها كتبي إليك فهاكها ... رسائل تهدى في قوادم طائر

باب طي السر

- 12 - باب طي السر ومن بعض صفات الحب الكتمان باللسان، وجحود المحب إن سئل، والتصنع بإظهار الصبر، وأن يري أنه عزهاة (1) خلي. ويأبى السر الدفين (2) ، ونار الكلف المتأججة في الضلوع، إلا ظهوراً في الحركات والعين (3) ، ودبيباً كدبيب النار في الفحم والماء في يبيس المدر. وقد يمكن التمويه في أول الأمر على غير ذي الحس اللطيف، وأما بعد استحكامه فمحال. وربما يكون السبب في الكتمان تصاون المحب عن ان يسم نفسه بهذه السمة عند الناس، لأنها بزعمه من صافت أهل البطالة، فيفر منها ويتفادى، وما هذا الوجه بصحيح (4) ، فبحسب المرء المسلم أن يعف عن محارم الله عز وجل التي يأتيها باختياره ويحاسب عليها يوم القيامة؛ وأما استحسان الحسن وتمكن الحب فطبع لا يؤثر به ولا ينهى عنه، إذ القلوب بيد مقلبها. ولا يلزمه غير المعرفة والنظر في

_ (1) العزهاة: العازف عن النساء واللهو. (2) بتروف وغيره (ما عدا برشيه) : الدقيق. (3) قارن هذا بما في الموشى (ص: 48) ولن يخفى المحب وإن تستر، ولا ينكتم هواء وإن تصبر. (4) في معظم القراءات: وما هذا وجه التصحيح.

فرق ما بين الخطأ والصواب وأن يعتقد الصحيح باليقين؛ وأما المحبة فخلقة، وإنما يملك الإنسان حركات جوارحه المكتسبة؛ وفي ذلك أقول: [من الطويل] . يلوم رجال فيك لم يعرفوا الهوى ... وسيان عندي فيك لاح وساكت يقولون جانبت التصاون جملة ... وأنت عليم (1) بالشريعة قانت فقلت لهم هذا الرياء بعينه ... صراحاً وزيي للمرائين ماقت متى جاء تحريم الهوى عن محمد ... وهل منعه في محكم الذكر ثابت إذا لم أواقع محركاً اتقي به ... مجيئي يوم البعث والوجه باهت فلست أبالي في الهوى قول لائم ... سواء لعمري جاهر أو مخافت وهل يلزم الإنسان إلا اختياره ... وهل بخبايا اللفظ يؤخذ صامت خبر: وإني لأعرف بعض من امتحن بشيء من هذا فسكن الوجد بين جوانحه، فرام جحده إلى أن غلظ الأمر، وعرف ذلك في شمائله من تعرض للمعرفة ومن لم يتعرض. وكان من عرض له بشيء نجهه (2) وقبحه، إلى ان كان من أراد الحظوة لديه من إخوانه يوهمه تصديقه في إنكاره وتكذيب من ظن به غير ذلك، فسر بهذا. ولعهدي به يوماً قاعداً ومعه بعض من كان يعرض له بما في ضميره، وهو ينتفي غاية الانتفاء، إذ اجتاز بهما الشخص الذي كان يتهم بعلاقته، فما هو إلا أن وقعت عينه على محبوبه حتى اضطرب وفارق هيئته الأولى، واصفر لونه، وتفاوتت معاني كلامه بعد حسن تثقيف، فقطع كلامه المتكلم معه قلقاً واسترعى (3) ما كان فيه من ذكره. فقيل له: ما عدا عما بدا فقال: هو ما تظنون، عذر من عذر، وعذل من عذل؛ ففي ذلك أقول شعراً منه: [من البسيط] .

_ (1) معظم القراءات: عليهم. (2) نجهه: رده رداً قبيحاً. (3) معظم القراءات: فلقد استدعى.

ما عاش إلا لأن الموت يرحمه ... (1) مما يرى تباريح الضنى فيه وأنا أقول: [من الهزج] . دموع الصب تنسفك ... وستر الصب ينهتك كان القلب إذ يبدو ... (2) قطاة ضمها شرك فيا أصحابنا قولوا ... فغن الرأي مشترك إلى كم ذا أكاتمه ... ومالي عنه مترك وهذا إنما يعرض عند مقاومة طبع الكتمان والتصاون، لطبع المحب وغلبته (3) ، فيكون صاحبه متحيزاً بين نارين محرقتين، وربما كان سبب الكتمان إبقاء المحب على محبوبه، وإن هذا لمن دلائل الوفاء وكرم الطبع؛ وفي ذلك أقول: [من المتقارب] . درى الناس أني فتى عاشق ... كئيب معنى ولكن بمن إذا عاينوا حالتي أيقنوا ... وإن فتشوا رجموا (4) في الظنن كخط يرى رسمه ظاهراً ... وإن طلبوا شرحه لم يبن كصوت حمام على أيكة ... يرجع بالصوت في كل فن تلذ (5) بنجواه أسماعنا ... ومعناه مستعجم لم يبن يقولون بالله سم الذي ... نفى حبه عنك طيب الوسن

_ (1) واضح أن البيت وحده لا يمثل لب المعنى الذي تدور عليه الفقرة السابقة، فلعل أبياتاً أسقطها الناسخ كانت تفي بذلك. (2) تشبيه القلب بالقطاة، من الصور التي نتردد في أشعار العذريين، من ذلك قول قيس ليلى: كان القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح قطاة عزها شرك فأضحت ... تقلبه وقد علق الجناح (3) برشيه: طبع الكتمان لطبع الحب وغلبته (وسقطت لفظة التصاون) . (4) بتروف وغيره (ما عدا برشيه) : رجعوا. (5) بتروف والصيرفي ومكي: بفحواه، برشيه: بنوحه.

وهيهات دون الذي حاولوا ... ذهاب العقول وخوض الفتن فهم أبداً في اختلاج الشكوك ... بظن كقطع وقطع كظن وفي كتمان السر أقول قطعة منها: [من البسيط] . للسر عندي مكان لو يحل به ... حي إذاً لا اهتدى ريب المنون له أميته وحياة السر ميتته ... كما سرور المعنى في الهوى الوله وربما كان سبب الكتمان توقي المحب على نفسه من إظهار سره، لجلالة قدر المحبوب. خبر: ولقد قال بعض الشعراء بقرطبة تغزل فيه بصبح (1) أم المؤيد رحمه الله، فغنت به جارية أدخلت على المنصور بن أبي عامر ليبتاعها، فأمر بقتلها. خبر: وعلى مثال هذا قتل أحمد بن مغيث، واستئصال آل مغيث (2) والتسجيل عليهم ألا يستخدم بواحد منهم أبداً حتى كان سبباً لهلاكهم وانقراض بيتهم فلم يبق منهم إلا الشريد الضال. وكان سبب ذلك تغزله بإحدى بنات الخلفاء، ومثل هذا كثير (3) .

_ (1) مر التعريف بها فيما تقدم ص: 91. (2) ينتسبون إلى مغيث الرومي فاتح قرطبة، وكان مع طارق، وقد نجبوا في قرطبة وسادوا وعظم بيتهم وتفرعت دوحتهم وكان منهم عبد الرحمن بن مغيث حاجب عبد الرحمن الداخل (النفح 3: 12) وانظر صفحات أخرى متفرقة) ومنهم عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث الذي كان حاجباً للحكم الربضي، كما كان أخوه عبد الملك من قواد الأمير هشام الرضى (الحلة 1: 135) . (3) يقص صفي الدين الحلي قصة مماثلة ذات لون أسطوري عن وشاح مغربي عشق رميلة أخت عبد المؤمن الأموي [كذا] ملك الاندلس، ونظم فيها موشحة تسمى " العروس " وكان أن قتله الخليفة لذلك (العاطل الحالي: 14 - 15) .

ويحكى عن الحسن بن هانئ (1) أنه كان مغرماً بحب محمد بن هارون المعروف بابن زبيدة، وأحس منه ببعض ذلك فانتهزه على إدامة النظر إليه، فذكر عنه أنه كان لا يقدر ان يديم النظر إليه إلا مع غلبة السكر على محمد. وربما كان سبب الكتمان ألا ينفر (2) المحبوب أو ينفر به. فإني أدري من كان محبوبه له سكناً وجليساً، لو باح بأقل سبب من أنه يهواه لكان منه " مناط الثريا قد تعلت نجومها "؛ وهذا ضرب من السياسة. ولقد كان يبلغ من انبساط هذا المذكور مع محبوبه إلى فوق الغاية وأبعد النهاية، فما هو إلا ان أباح إليه بما يجد فصار لا يصل إلى التافه اليسير مع التيه ودالة الحب وتمنع الثقة بملك الفؤاد، وذهب ذلك الانبساط ووقع التصنع والتجني، فكان أخاً فصار عبداً، ونظيراً فعاد أسيراً، ولو زاد في بوحه شيئاً إلى أن يعلم خاصة المحبوب ذلك لما رآه إلا في الطيف، ولا نقطع القليل والكثير، ولعاد ذلك عليه بالضرر. وربما كان من أسباب الكتمان الحياء الغالب على الإنسان. وربما كان من أسباب الكتمان ان يرى المحب من محبوبه انحرافاً وصداً، ويكون ذا نفس أبية، فيستتر بما يجد لئلا يشمت به عدو، أو ليريهم ومن يجب هوان ذلك عليه.

_ (1) الحسن بن هانئ أبو نواس (- 198) ؛ وقد ألمح ابن خلكان (2: 99) إلى شيء مما يذكره ابن حزم هنا. (2) برشيه: يشهر.

باب الإذاعة

- 13 - باب الإذاعة وقد تعرض في الحب الإذاعة، وهو من منكر ما يحدث من أعراضه، ولها أسباب: منها أن يريد صاحب هذا الفعل ان يتزيا بزي المحبين ويدخل في عدادهم، وهذه خلابة لا ترضى، وتجليح بغيض (1) ، ودعوى في الحب زائفة. وربما كان من أسباب الكشف غلبة الحب وتسور الجهر على الحياء، فلا يملك الإنسان حينئذ لنفسه صرفاً ولا عدلاً. وهذا من أبعد غايات العشق وأقوى تحكمه على العقل، حتى يمثل الحسن في تمثال القبيح، والقبيح في هيئة الحسن. وهنالك يرى الخير شراً، والشر خيراً. وكم مصون الستر مسبل القناع مسدول الغطاء قد كشف الحب ستره مثلاً، وأحب شيء إليه الفضيحة فيما لو مثل له قبل اليوم لاعتراه النافض (2) عند ذكره، ولطالت استعاذته منه، فسهل ما كان وعراً، وهان ما كان عزيزاً، ولان ما كان شديداً. ولعهدي بفتى من سروات الرجال وعلية إخواني قد دهي بمحبة

_ (1) الخلابة: المخادعة؛ والتجليح: المكالحة، والمجلح: هو الذي يركب رأسه في الأمر، ويجاهر به مكاشفاً دون تستر. (2) النافض: الحمى.

جارية مقصورة فلم (1) بها وقطعه حبها عن كثير من مصالحه، وظهرت آيات هواه لكل ذي بصر، إلى أن كانت هي تعذله على ما ظهر منه مما يقوده إليه هواه (2) . خبر: وحدثني موسى بن عاصم بن عمرو قال: كنت بين يدي أبي الفتح والدي رحمه الله وقد أمرني بكتاب أكتبه، إذ لمحت عيني جارية كنت أكلف بها، فلم أملك نفسي ورميت الكتاب عن يدي وبادرت نحوها. وبهت أبي وظن انه عرض لي عارض؛ ثم راجعني عقلي فمسحت وجهي ثم عدت واعتذرت بأنه غلبني الرعاف. واعلم أن هذا داعية نفار المحبوب وفساد في التدبير، وضعف في السياسة؛ وما شيء من الأشياء إلا وللمأخذ فيه سنة وطريقة متى تعداها الطالب أو خرق في سلوكها انعكس عمله عليه، وكان كده عناء، وتعبه هباء، وبحثه وباء (3) . وكلما زاد عن وجه السيرة انحرافاً وفي تجنبها إغراقاً وفي غير الطريق إيغالاً ازداد عن بلوغ مراده بعداً؛ وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الطويل] . ولا تسع في الأمر الجسيم تهازؤاً ... ولا تسع جهراً في اليسير تريده وقابل أفانين الزمان متى يرد ... عليك فإن الدهر جم وروده بأشكالها (4) من حسن سعيك يكفك ال ... (5) يسير يسير والشديد شديده ألم تبصر المصباح أول وقده ... وإشعاله، بالنفخ يطفا وقوده

_ (1) لم بها: أصابه مس أو لمم؛ وهي قراءة بتروف وبرشيه؛ وغيرت إلى " وهام بها " عند الصيرفي ومكي. (2) برشيه: مما يقوده إلى مهوى. (3) برشيه: وبحثه زيادة. (4) بأشكالها: متعلقة بالفعل " وقابل " أي: وقابل أفانين الزمان بأشكالها. (5) هذا الشطر شديد التصحيف في معظم الطبعات: والمعنى انك إذا قابلت أفانين الزمان بأشكالها، فغن اليسير من حسن سعيك يواجه اليسير من أفانين الزمان، والشديد يقف في وجه الشديد من أفانينه.

وإن يتضرم لفحه ولهيبه ... فنفحك يذكيه وتبدو مدوده خبر: وإني لأعرف من أهل قرطبة من أبناء الكتاب وجلة الخدمة من اسمه أحمد بن فتح، كنت أعهده كثير التصاون، من بغاة العلم وطلاب الأدب، يبذ أصحابه في الانقباض، ويفوقهم في الرعة (1) ، لا ينظر (2) إلا في حلقة فضل، ولا يرى إلا في محفل مرضي، محمود المذاهب، جميل الطريقة، بائناً بنفسه، ذاهباً بها، ثم أبعدت الأقدار داري من داره، فأول خبر طرأ علي بعد نزولي (3) شاطبة أنه خلع عذاره في حب فتى من أبناء الفتانين (4) يسمى ابراهيم بن أحمد، اعرفه، لا تستأهل صفاته محبة من (5) بيته خير وخدم (6) وأموال عريضة ووفر تالد. وصح عندي أنه كسف رأسه وأبدى وجهه ورمى رسنه وحسر محياه وشمر عن ذراعيه وصمد الشهوة. فصار حديثاً للسمار، متراجعاً (7) بين نقلة الأخبار، وتهودي ذكره في الأقطار، وجرت نقلته في الأرض راحلة بالتعجب، ولم يحصل من ذلك إلا على كشف الغطاء، وإذاعة السر، وشنعة الحديث، وقبح الأحدوثة، وشرود محبوبه عنه جملة، والتحظير عليه من رؤيته البتة، وكان غنياً عن ذلك وبمندوحة واسعة ومعزل رحب عنه، ولو طوى مكنون سره، وأخفى بنيات (8)

_ (1) قرئت " الدعة " في كل الطبعات ولا معنى لها هنا؛ والرعة تقارن الانقباض. (2) برشيه: يظهر. (3) برشيه: إطاءتي. (4) قرأها بروفنسال: " الغنائين " وأخذ بها غومس في ترجمته (ص: 151) ؛ ولفظة الفتانين تعني الصاغة. (5) برشيه: المحبة ممن. (6) في القراءات (ما عدا برشيه) : وتقدم. (7) برشيه: مضاغة؛ وفي سائر القراءات: ومدافعاً. (8) برشيه: بلبلة.

ضميره، لاستدام لباس العافية، ولم ينهج برد الصيانة، ولكان له في لقاء من بلي به ومحادثته ومجالسته أمل من الآمال وتعلل كاف؛ وإن حبل العذر ليقطع به، والحجة عليه قائمة؛ إلا أن يكون مختلطاً في تمييزه، أو مصاباً في عقله بجليل ما فدحه، فربما آل ذلك لعذر صحيح، وأما إن كانت له بقية [من عقل] أو ثبتت مسكة فهو ظالم في تعرضه ما يعلم أن محبوبه يكرهه ويتأذى به. هذا غير صفة أهل الحب، وسيأتي هذا مفسراً في باب الطاعة، إن شاء الله تعالى. ومن أسباب الشف وجه ثالث، وهو عند أهل العقول وجه مرذول وفعل ساقط؛ وذلك أن يرى المحب من محبوبه غدراً أو مللاً أو كراهة؛ فلا يجد طريق الانتصاف منه إلا بما ضرره عليه أعود منه على المقصود من الكشف والاشتهار، وهذا أشد العار وأقبح الشنار وأقوى شواهد عدم العقل ووجود السخف. وربما كان الكشف من حديث ينتشر وأقاويل تفشو، توافق قلة مبالاة من المحب بذلك، ورضى بظهور سره، إما لإعجاب أو لاستظهار على بعض ما يؤمله؛ وقد رأيت هذا الفعل لبعض إخواني من أبناء القواد. وقرأت في بعض أخبار الأعراب أن نساءهم لا يقنعن ولا يصدقن عشق عاشق لهن حتى يشتهر ويكشف حبه ويجاهر ويعلن وينوه بذكرهن، ولا أدري ما معنى هذا، على انه يذكر عنهن العفاف، وأي عفاف مع امرأة أقصى مناها وسرورها الشهرة في هذا المعنى!

باب الطاعة

- 14 - باب الطاعة ومن عجيب ما يقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه، وصرفه طباعه قسراً إلى طباع من يحبه، وربما يكون المرء شرس الخلق، صعب الشكيمة، جموح القيادة، ماضي العزيمة، حمي الأنف، أبي الخسف، فما هو إلا ان يتنسم نسيم الحب، ويتورط غمره، ويعوم في بحره، فتعود الشراسة لياناً، والصعوبة سهالة والمضاء كلالة، والحمية استسلاماً؛ وفي ذلك أقول قطعة منها: [من المتقارب] فهل للوصال إلينا معاد ... وهل لتصاريف ذا الدهر حد فقد أصبح السيف عبد القضيب ... وأضحى الغزال الأسير أسد وأقول شعراً منه: [من الطويل] وإني وإن تعتب لأهون هالك ... كزائف نقد ذل في يدي جهبذ (1) على أن قتلي في هواك لذاذة ... فيا عجباً من هالك متلذذ ومنها: ولو أبصرت أنوار وجهك فارس ... (2) لأغناهم عن هرمزان وموبذ

_ (1) قرئ هذا الشطر: كذائب نقر زل في يد جهبذ؛ أي كالفضة السائلة تدافعت في يد الجهبذ؛ ويضعف من الأخذ بهذا المعنى أن الجهبذ صيرفي للدنانير والدراهم، فهو يميز خالصها من زائفها ولذلك ارجح القراءة التي أثبتها. (2) الهرمزان: اسم علم؛ ولا يحمل دلالة على معنى خاص؛ ولعله أراد به معنى الشجاعة، كما أراد معنى التدين في الموبذ، وهو قاضي المجوس.

وربما كان المحبوب كارهاً لإظهار الشكوى متبرماً بسماع الوجد، فترى المحب حينئذ يكتم حزنه ويكظم أسفه وينطوي على علته، وإن الحبيب متجن، فعندها يقع الاعتذار عن كل ذنب والإقرار بالجريمة، والمرء منها بريء، تسليماً لقوله وتركاً لمخالفته. وإني لأعرف من دهي بمثل هذا فما كان ينفك من توجيه الذنوب نحوه ولا ذنب له، وإيقاع العتاب عليه والسخط وهو نقي الجلد. وأقول شعراً إلى بعض إخواني، ويقرب مما نحن فيه، وإن لم يكن منه: [من الطويل] وقد كنت تلقاني بوجه لقربه ... تراض وللهجران عن قربه سخط وما تكره العتب اليسير سجيتي ... على أنه قد عيب في الشعر الوخط فقد يتعب الإنسان في الفكر نفسه ... وقد يحسن الخيلان في الوجه والنقط تزين إذا قلت ويفحش أمرها ... إذا أفرطت يوماً وهل يحمد الفرط ومنه: أعنه فقد أضحى لفرط همومه ... يبكي له القرطاس والحبر والخط ولا يقولن قائل إن صبر المحب على ذلة المحبوب دناءة في النفس فهذا خطأ، وقد علمنا أن المحبوب ليس كفؤاً ولا نظيراً فيقارض بأذاه، وليس سبه وجفاه مما يعير به الإنسان ويبقى ذكره على الأحقاب، ولا يقع ذلك في مجالس الخلفاء ولا في مقاعد الرؤساء، فيكون الصبر مستجراً (1) للمذلة، والضراعة قائدة للاستهانة؛ فقد ترى الإنسان يكلف (2) بأمته التي يملك رقها، ولا يحول حائل بينه وبين التعدي عليها، فكيف الانتصاف منها. وسبل الامتعاض من السب غير هذه، إنما ذلك بين علية الرجال الذين تحصى أنفاسهم وتتبع معاني

_ (1) قراءة بتروف: مستجرة؛ وفي بعض الطبعات: جاراً؛ وهو تحكم في تحوير الأصل. (2) في معظم الطبعات: لا يكلف.

كلامهم فتوجه لها الوجوه البعيدة، لأنهم لا يوقعونها سدى ولا يلقونها هملاً، وأما المحبوب فصعدة ثابتة وقضيب مناد (1) ، يجفو ويرضى متى شاء لا لمعنى؛ وفي ذلك أقول: [من الكامل] ليس التذلل في الهوى يستنكر ... فالحب فيه يخضع المستكبر لا تعجبوا من ذلتي في حالة ... (2) قد ذل فيها قبلي المستنصر ليس الحبيب مماثلا ومكافياً ... فيكون صبرك ذلة إذ تصبر تفاحة وقعت فآلم وقعها ... هل قطعها منك انتصاراً يذكر خبر: وحدثني أبو دلف الوراق عن مسلمة بن أحمد الفيلسوف المعروف بالمجريطي (3) أنه قال في المسجد الذي بشرقي مقبرة قريش بقرطبة الموازي لدار الوزير أبي عمر أحمد بن محمد بن حدير (4) رحمه الله:

_ (1) برشيه: مياد. (2) هذه هي قراءة برشيه، وبها أخذ غومس في ترجمته (ص: 155) ؛ ولابد أن تكون موجهة إلى شخص بعينه حينئذ، وهو هنا المستنصر الأموي ابن الناصر، وهذا على سبيل المبالغة في القياس، وإلا فليس لدينا من الأخبار ما يؤكد أن المستنصر ذل في الحب. (3) مسلمة بن أحمد المجريطي (وتكتب أحياناً المرجيطي) أبو القاسم (- 399) إمام الرياضيين في عصره بالأندلس، كان فلكياً له عناية برصد الكواكب وشغف بتفهم المجسطي لبطليموس وله كتاب تمام علم العدد، وكتاب اختصر فيه تعديل الكواكب من زيج البتاني، ومؤلفات أخرى (انظر طبقات الأمم: 69 والصلة: 589 و Brock. S I 431 وSezgin، II) (4) أحمد بن محمد بن سعيد بن موسى بن حدير أبو عمر (255 - 327) قرطبي، ولي خطة الوزارة وأحكام المظالم وكان صلباً في أحكامه مهيباً، حج سنة 275. وهو أخو موسى الحاجب (الذي ولد 256) أيام الأمير عبد الله وولاه المدينة 287؛ ولأحمد ولد اسمه سعيد وكنيته أبو عثمان (ابن الفرضي 1: 49) ؛ وذكر ابن حزم أن أحمد بن موسى بن حدير صاحب السكة كان من شيوخ المعتزلة وبينه وبين منذر بن سعيد البلوطي (سيجيء التعريف به) مراسلات (الفصل 4: 202 - 203) وهناك منهم عبد الرحمن بن موسى بن محمد بن حدير، توفي سنة 369 (ابن الفرضي 1: 307) وأحمد بن محمد بن حدير وكان خازن العسكر زمن المستنصر (المقتبس / بيروت 210) ومن بني حدير موسى بن محمد بن حدير المعروف بالزاهد وكان اخبارياً ممتعاً حافظاً لاخبار بني أمية، ويذاكر الأمير عبد الله بذلك، (المقتبس نشر انطونية: 44 - 45) .

في هذا المسجد كان مربض (1) مقدم الأصفر أيام حداثته لعشق بعجيب فتلا الوزير أبي عمر المذكور، وكان يترك الصلاة في مسجد مسرور وبها كان (2) سكناه، ويقصد في الليل والنهار إلى هذا المسجد بسبب عجيب، حتى أخذه الحرس غير ما مرة في الليل في حين انصرافه عن صلاة العشاء الآخرة، وكان يقعد وينظر منه إلى أن كان الفتى يغضب ويضجر ويقوم إليه فيوجعه ضرباً ويلطم خديه وعينيه، فيسر بذلك ويقول: هذا والله أقصى أمنيتي قرت عيني، وكان على هذا زماناً يماشيه. قال أبو دلف: ولقد حدثنا مسلمة بهذا الحديث غير مرة بحضرة عجيب عندما كان يرى (3) من وجاهة مقدم بن الأصفر وعرض جاهه وعافيته، فكانت حال مقدم بن الأصفر هذا قد جلت جداً واختص بالمظفر بن أبي عامر اختصاصاً شديداً واتصل والدته وأهله، وجرى على يديه من بنيان المساجد والسقايات وتسبيل (4) وجوه الخير غير قليل، مع تصرفه في كل ما يتصرف فيه أصحاب السلطان من العناية بالناس وغير ذلك. خبر: وأشنع من هذا أنه كانت لسعيد بن منذر بن سعيد (5) صاحب

_ (1) مربض: قراءة برشيه، وهي الصواب، إذ القرينة تدل على انه كان يلزم المسجد لرؤية عجيب. (2) لعل الصواب: وبه كانت، كما قرأ برشيه. (3) قرأها برشيه: يبرم. (4) في أكثر الطبعات: وتسهيل. (5) كان منذر بن سعيد البلوطي من أبرز فقهاء عصره، ويميل إلى مذهب الظاهر، وتولى قضاء الجماعة بقرطبة، وله كتب كثيرة في الفقه والقرآن والرد، وتوفي سنة 355 (ابن الفرضي 2: 142 والجذوة: 326 والبغية رقم: 1357) ومن أبنائه: سعيد أبو عثمان وكان خطيباً بليغاً ذكياً نبيهاً، قتل - كما يقول ابن حزم - يوم تغلب البرابرة على قرطبة، 6 شوال 403 (الصلة: 208) ومنهم حكم أبو العاصي وكان من أهل الأدب والذكاء قديراً في الأدب توفي بمدينة سالم في نحو 420 هـ (الصلة: 146) ؛ وثالث الأبناء هو عبد الملك أبو مروان، ولي خطوة الرد ثم لحقته التهمة التي يشير إليها ابن حزم فصلب على باب سدة السلطان (وهو الباب الرئيسي لقصر الخلافة بقرطبة) سنة 368 وهو في حدود الأربعين من عمره (ابن الفرضي 1: 317 والحلة السيراء 1: 279 - 280) .

الصلاة في جامع قرطبة أيام حكم المستنصر بالله رحمه الله جارية يحبها حباً شديداً، فعرض عليها أن يعتقها ويتزوجها، فقالت له ساخرة به؛ وكان عظيم اللحية: إن لحيتك أستبشع عظمها، فإن حذفت منها كان ما ترغبه. فأعمل الجلمين (1) فيها حتى لطفت، ثم دعا بجماعة شهود وأشهدهم على عتقها، ثم خطبها إلى نفسه فلم ترض به، وكان في جملة من حضر أخوه حكم بن منذر فقال لمن حضر: اعرض عليها أني أخطبها أنا، ففعل فأجابت إليه، فتزوجها في ذلك المجلس بعينه ورضي بهذا العار الفادح على ورعه ونسكه واجتهاده. فأنا أدركت سعيداً هذا وقد قتله البربر يوم دخولهم قرطبة عنوة وانتهابهم إياها، وحكم المذكور أخوه هو رأس المعتزلة بالأندلس وكبيرهم وأستاذهم ومتكلمهم وناسكهم، وهو مع ذلك شاعر طيب وفقيه. وكان أخوه عبد الملك بن منذر متهماً بهذا المذهب أيضاً، ولي خطة الرد أيام الحكم رضي الله عنه، وهو الذي صلبه المنصور ابن أبي عامر إذ اتهمه هو وجماعة من الفقهاء والقضاة بقرطبة أنهم يبايعون سراً لعبد الرحمن بن عبيد الله ابن أمير المؤمنين الناصر رضي الله عنهم، فقتل عبد الرحمن وصلب عبد الملك بن منذر وبدد شمل من اتهم. وكان أبوهم قاضي القضاة منذر بن سعيد متهماً بمذهب الاعتزال أيضاً، وكان أخطب الناس وعلمهم بكل فن وأورعهم وأكثرهم هزلاً ودعابة. وحكم المذكور في الحياة في حين كتابتي إليك بهذه الرسالة قد كف بصره وأسن جداً.

_ (1) الجلمان: المقص.

خبر: ومن عجيب طاعة المحب لمحبوبه أني أعرف من كان سهر الليالي الكثيرة ولقي الجهد الجاهد فقطعت قلبه ضروب الوجد ظفر بمن يحب وليس به امتناع ولا عنده دفع، فحين رأى منه بعض الكراهة لما نواه تركه وانصرف عنه، لا تعففاً ولا تخوفاً لكن توقفاً عند موافقته رضاه، ولم يجد من نفسه معيناً على إتيان ما لم ير له إليه نشاطاً وهو يجد ما يجد. وإني لأعرف من فعل هذا الفعل ثم تندم لعذر (1) ظهر من المحبوب؛ فقلت في ذلك: [من الرمل] غافص الفرصة واعلم أنها ... كمضي البرق تمضي الفرص كم أمور أمكنت (2) أهملها ... هي عندي إذ تولت غصص بادر الكنز الذي ألفيته ... وانتهز صيداً (3) كباز يقنص ولقد عرض مثل هذا بعينه لأبي المطرف (4) عبد الرحمن بن أحمد بن محمود (5) صديقنا وأنشدته أبياتاً لي فطار بها كل مطار، وأخذها مني فكانت هجيراه. خبر: ولقد سألني يوماً أبو عبد الله محمد بن كليب من أهل القيروان أيام كوني بالمدينة، وكان طويل اللسان جداً مثقفاً للسؤال في كل فن فقال لي، وقد جرى بعض ذكر الحب ومعانيه (6) : إذا كره من أحب لقائي وتجنب قربي فما أصنع قلت: أرى أن تسعى في إدخال الروح

_ (1) برشيه: لغدر. (2) معظم الطبعات: أمهلها. (3) معظم الطبعات: صبراً. (4) في جميع الطبعات: المظفر. (5) من أقرب الناس إلى ابن حزم أبو المطرف عبد الرحمن بن أحمد بن بشر قاضي الجماعة بقرطبة؛ ولكن لفظة " محمود " لا ترد في نسبه (انظر الجذوة) . (6) هذه صورة ممتعة تشير إلى تحول القضايا العاطفية إلى مستوى الجدل العقلي.

على نفسك بلقائه وإن كره. فقال: لكني لا أرى ذلك بل أوثر هواه على هواي ومراده على مرادي، وأصبر ولو كان في ذلك الحتف. فقلت له: إني إنما أحببته لنفسي ولالتذاذها بصورته فأنا أتبع قياسي وأقود أصلي وأقفو طريقتي في الرغبة في سرورها، فقال لي: هذا ظلم من القياس، أشد من الموت ما تمني له الموت، وأعز من النفس ما بذلت له النفس. فقلت له: إن بذلك نفسك وإدخالك الحتف عليها. فقال لي: أنت رجل جدلي ولا جدل في الحب يلتفت إليه، فقلت له: إذا كان صاحبه مؤوفاً، فقال: وأي آفة أعظم من الحب!.

باب المخالفة

- 15 - باب المخالفة وربما اتبع المحب شهوته وركب رأسه فبلغ شفاءه من محبوبه، وتعمد مسرته منه على كل الوجوه، سخط أو رضي. ومن ساعده الوقت على هذا وثبت جنانه وأتيحت له الأقدار استوفى لذته جميعها، وذهب غمه، وانقطع همه، ورأى أمله، وبلغ مرغوبه. وقد رأيت من هذه صفته؛ وفي ذلك أقول أبياتاً منها: [من السريع] إذا أنا (1) بلغت نفسي المنى من رشأ ما زال لي ممرضا فما أبالي الكره من طاعة ... ولا أبالي سخطاً من رضى إذا وجدت الماء لابد أن ... أطفي به مشعل جمر الغضا

_ (1) تمد ألف " أنا " - على غير العادة - لينضبط الوزن [على بحر السريع] .

باب العاذل

- 16 - باب العاذل وللحب آفات، فأولها العاذل، والعذل أقسام: 1 - فأولهم صديق قد أسقطت مؤنة التحفظ بينك وبينه، فعذله أفضل من كثير المساعدات، وهو من الحض والنهي، وفي ذلك زاجر للنفس عجيب، وتقوية لطبيعة بها حرض وغمل، ودواء تستد عليه الشهوة (1) ، ولا سيما إن كان رفيقاً في قوله، حسن التوصل إلى ما يورد (2) من المعاني بلفظه، عالماً بالأوقات التي يؤكد فيها النهي، وبالأحيان التي يزيد فيها الأمر، والساعات التي يكون فيها واقفاً (3) بين هذين، على قدر ما يرى من تسهل العاشق وتوعره، وقبوله وعصيانه. 2 - ثم عاذل زاجر لا يفيق أبداً من الملامة، وذلك خطب شديد وعبء ثقيل. ووقع لي مثل هذا، وإن لم يكن من جنس الكتاب ولكنه يشبهه، وذلك أن أبا السري عمار بن زياد صديقنا أكثر

_ (1) هذه العبارة في الأصل: وتقوية لطيفة لها عرض وعمل ودواء تشتد عليه الشهوة؛ وفي قراءة برشيه: وتقوية لطيفة لما مرض وعل ودواء لمن تشتد عليه الشهوة، وحسب القراءة التي اقترحها يكون معنى العبارة: إن عذل الصديق تقوية لطبيعة قد انهكها الدنف وغلب عليها الفساد (الغمل) وهذا العذل نفسه تستد (من السداد أي تصلح) عليه الشهوة ويعتدل حالها. (2) برشيه: يراد. (3) في معظم الطبعات: وقفاً.

من عذلي على نحو نحوته، وأعان علي بعض من لامني في ذلك الوجه أيضاً، وكنت أظن أنه سيكون معي، مخطئاً كنت أو مصيباً، لوكيد صداقتي وصحيح اخوتي به. ولقد رأيت من اشتد وجده وعظم كلفه حتى كل العذل أحب شيء إليه، ليري العاذل عصيانه ويستلذ مخالفته، ويحصل مقاومته للأئمه (1) وغلبته إياه، كالملك الهازم لعدوه، والمجادل الماهر الغالب لخصمه، ويسر بما يقع منه في ذلك وربما كان هو المستجلب لعذل العاذل بأشياء يوردها توجب ابتداء العذل، وفي ذلك أقول أبياتاً منها: [من البسيط] أحب شيء إلي اللوم والعذل ... كي أسمع اسم الذي ذكراه لي أمل كأنني شارب بالعذل صافية ... (2) وباسم مولاي بعد الشرب انتقل

_ (1) بتروف وغيره (ما عدا برشيه) : اللائمة. (2) انتقل: تناول نقلاً مع الشراب أو بعده.

باب المساعد من الاخوان

- 17 - باب المساعد من الاخوان ومن الأسباب المتمناة في الحب ان يهب الله عز وجل للإنسان صديقاً مخلصاً، لطيف القول، بسيط الطول، حسن المأخذ، دقيق المنفذ، متمكن البيان، مرهف اللسان، جليل الحلم، واسع العلم، قليل المخالفة، عظيم المساعفة، شديد الاحتمال، صابراً على الإدلال، جم الموافقة، جميل المخالفة، مستوي المطابقة، محمود الخلائق، مكفوف البوائق، محتوم المساعدة، كارهاً للمباعدة، نبيل المداخل (1) ، مصروف الغوائل، غامض المعاني، عارفاً بالأماني، طيب الأخلاق، سري الأعراق، مكتوم السر، كثير البر، صحيح الأمانة، مأمون الخيانة، كريم النفس، صحيح الحدس، مضمون العون، كامل الصون، مشهور الوفاء، ظاهر الغناء، ثابت القريحة، مبذول النصيحة، مستيقن الوداد، سهل الانقياد، حسن الاعتقاد، صادق اللهجة، خفيف المهجة، عفيف الطباع، رحب الذراع، واسع الصدر، متخلقاً بالصبر، يألف الإمحاض، ولا يعرف الإعراض، يستريح إليه ببلابله، ويشاركه في خلوة فكره (2) ، ويفاوضه في مكتوماته، وإن فيه للمحب لأعظم الراحات، وأين هذا! فغن ظفرت به يداك فشدهما عليه شد الضنين، وأمسك بهما إمساك

_ (1) برشيه: الشمائل. (2) هذه هي قراءة برشيه، وعند غيره: فقره.

البخيل، وصنه بطارفك وتالدك، فمعه يكمل الانس، وتنجلي الأحزان ويقصر الزمان، وتطيب الأحوال. ولن يفقد الانسان من صاحب هذه الصفة عوناً جميلاً، ورأياً حسناً، ولذلك اتخذ الملوك الوزراء والدخلاء كي يخففوا عنهم بعض ما حملوه من شديد الأمور وطوقوه من باهظ الأحمال، ولكي يستغنوا بآرائهم، ويستمدوا بكفايتهم، وإلا فليس في قوة الطبيعة أن تقاوم كل ما يرد عليها دون استعانة بما يشاكلها وهو من جنسها. ولقد كان بعض المحبين - لعدمه هذه الصفة من الإخوان، وقلة ثقته منهم لما جربه من الناس وانه لم يعدم ممن باح إليه بشيء من سره أحد وجهين: إما إزراء على رأيه وإما إذاعة لسره - أقام الوحدة مقام الأنس، وكان ينفرد في المكان النازح عن الأنيس، ويناجي الهواء، ويكلم الأرض، ويجد في ذلك راحة كما يجد المريض في التأوه، والمحزون في الزفير؛ فغن الهموم إذا ترادفت في القلب ضاق بها، فإن لم ينص منها شيء (1) باللسان، ولم يسترح إلى الشكوى لم يلبث ان يهلك غماً ويموت أسفاً. وما رأيت الإسعاد (2) أكثر منه في النساء، فعندهن من المحافظة على هذا الشان والتواصي بكتمانه والتواطؤ على طيه إذا اطلعن عليه ما ليس عند الرجال، وما رأيت امرأة كشفت سر متحابين إلا وهي عند النساء ممقوتة مستثقلة مرمية عن قوس واحدة. وإنه ليوجد عند العجائز في هذا الشان ما لا يوجد عند الفتيات، لان الفتيات منهن ربما كشفن ما علمن على سبيل التغير، وهذا لا يكون إلا في الندرة، وأما العجائز فقد يئسن من أنفسهن فانصرف الإشفاق محضاً إلى غيرهن.

_ (1) في الأصل: لم ينض شيء، وعند برشيه: لم يقش شيئاً. (2) الاسعاد: المساعفة والعون.

خبر: وإني لأعلم امرأة موسرة ذات جوار وخدم، فشاع على إحدى جواريها أنها تعشق فتى من أهلها ويعشقها، وأن بينهما معاني مكروهة، وقيل لها: إن جاريتك فلانة تعرف ذلك وعندها جلية أمرها، فأخذتها وكانت غليظة العقوبة فأذاقتها من أنواع الضرب والإيذاء ما لا يصبر على مثله جلداء الرجال، رجاء ان تبوح لها بشيء مما ذكر لها، فلم تفعل البتة (1) . خبر: وإني لأعلم امرأة جليلة حافظة لكتاب الله عز وجل ناسكة مقبلة على الخير، وقد ظفرت بكتاب لفتى إلى جارية كان يكلف بها، وكانت في غير ملكها، فعرفته الأمر فرام الإنكار فلم يتهيأ له ذلك، فقال له: مالك ومن ذا عصم فلا تبال بهذا، فوالله لا أطلعت على سركما أحداً أبداً، ولو أمكنني ان أبتاعها لك من مالي ولو أحاط به كله لجعلتها لك في مكان تصل إليها فيه ولا يشعر بذلك أحد. وإنك لترى المرأة الصالحة المسنة المنقطعة الرجاء من الرجال، وأحب أعمالها إليها وأرجاها للقبول عندها سعيها في تزويج يتيمة، وإعارة ثيابها وحليها لعروس مقلة. وما أعلم علة تمكن هذا الطبع من النساء إلا أنهت متفرغات البال من كل شيء إلا من الجماع ودواعيه، والغزل وأسبابه، والتآلف ووجوهه، لا شغل لهن غيره، ولا خلقن لسواه؛ والرجال مقتسمون في كسب المال وصحبة السلطان وطلب العلم وحياطة العيال ومكابدة الأسفار والصيد وضروب الصناعات ومباشرة الحروب وملاقاة الفتن وتحمل المخاوف وعمارة الأرض، وهذا كله متحيف للفراغ، صارف عن طريق البطل.

_ (1) الجارية التي ضربت فلم تبح نموذج للنساء في التكتم على المحبين، ولمن ما بال سيدتها التي ضربتها ضرباً مبرحاً، أليست هي امرأ'.

وقرأت في سير ملوك السودان أن الملك منهم يوكل ثقة له بنسائه يلقي عليهن ضريبة من غزل الصوف يشغلن بها أبد الدهر، لأنهم يقولون: إن المرأة إذا بقيت بغير شغل إنما تتشوف (1) إلى الرجال، وتحن إلى النكاح. ولقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني ربيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب وحين تبقل (2) وجهي؛ وهن علمتني القرآن وروينني كثيراً من الأشعار ودربنني في الخط، ولم يكن وكدي وإعمال ذهني مذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جداً إلا تعرف أسبابهن، والبحث عن أخبارهن، وتحصيل ذلك. وأنا لا أنسى شيئاً مما أراه منهن، وأصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها، وسوء ظن في جهتهن فطرت به، فأشرفت من أسبابهن على غير قليل، وسيأتي ذلك مفسراً في أبوابه، إن شاء الله تعالى.

_ (1) في الطبعات: تشوق. (2) عند الصيرفي: تفيل، وتابعه مكي على ذلك.

باب الرقيب

- 18 - باب الرقيب ومن آفات الحب الرقيب، وإنه لحمى باطنة، وبرسام ملح، وفكر مكب. والرقباء أقسام: 1 - فأولهم مثقل بالجلوس، غير متعمد، في مكان اجتمع فيه المرء مع محبوبه، وعزما على إظهار شيء من سرهما والبوح بوجدهما والانفراد بالحديث. ولقد يعرض للمحب من القلق بهذه الصفة ما لا يعرض له مما هو أشد منها، وهذا وإن كان يزول سريعاً فهو عائق حال دون المراد وقطع متون (1) الرجاء. ولقد شاهدت يوماً محبين في مكان قد ظناً انهما انفردا فيه وتأهبا للشكوى، فاستحليا ما هما فيه من الخلوة، ولم يكن الموضع حمى، فلم يلبثا أن طلع عليهما من كانا يستثقلانه، فرآني فعدل إلي وأطال الجلوس معي، فلو رأيت الفتى المحب وقد تمازح الأسف البادي على وجهه مع الغضب لرأيت عجباً، وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الطويل] . يطيل جلوساً وهو أثقل جالس ... ويبدي حديثاً لست أرضي فنونه شمام ورضوى واللكام ويذبل ... ولبنان والصمان والحزن دونه 2 - ثم رقيب قد أحس من أمرهما بطرف، وتوجس من مذهبهما شيئاً، فهو يريد أن يستقري (2) حقيقة ذلك، فيدمن الجلوس، ويطيل القعود، ويتقفى (3) الحركات، ويرمق الوجوه، ويحصي (4) الأنفاس، وهذا أعدى من الجرب. وإني لأعرف من هم أن يباطش

_ (1) بتروف وتابعه الصيرفي مكي: متوفر. (2) بتروف: يستبري؛ وغيرها الصيرفي إلى: يستبين، وتابعه مكي. (3) بتروف: ويتجفى بالحركات؛ الصيرفي ومكي: ويتخفى بالحركات. (4) جميع الطبعات: ويحصل.

رقيباً هذه صفته؛ وفي ذلك أقول قطعة منها: [من مخلع البسيط] مواصل لا يغب قصداً ... اعظم بهذا الوصال غما صار وصرنا لفرط ما لا ... يزول كالإسم والمسمى 3 - ثم رقيب على المحبوب، فذلك لا حيلة فيه إلا بترضيه. وإذا أرضي فذلك غاية اللذة، وهذا الرقيب هو الذي ذكرته الشعراء في أشعارها. ولقد شاهدت من تلطف في استرضاء رقيب حتى صار الرقيب عليه رقيباً له، ومتغافلاً في وقت التغافل، ودافعاً عنه وساعياً له؛ ففي ذلك أقول: [من الطويل] ورب رقيب أرقبوه فلم يزل ... على سيدي عمداً ليبعدني عنه فما زالت الألطاف تحكم أمره ... إلى ان غدا خوفي له أمناً منه وكان حساماً سل حتى (1) يهذني ... فعاد محباً ما لنعمته كنه وأقول قطعة، منها: [من المنسرح] صار حياة وكان سهم ردى ... وكان سماً فصار درياقا وإني لأعرف من رقب على بعض من كان يشفق عليه رقيباً وثق به عند نفسه، فكان اعظم الآفة عليه وأصل البلاء فيه. واما إذا لم يكن في الرقيب حيلة ولا وجد إلى ترضيه سبيل، فلا طمع إلا بالإشارة بالعين همساً وبالحاجب أحياناً، والتعريض اللطيف بالقول، وفي ذلك متعة وبلاغ إلى حين، يقنع به المشتاق؛ وفي ذلك أقول شعراً أوله: [من الطويل] على سيدي مني رقيب محافظ ... وفي لمن والاه ليس بناكث ومنه: ويقطع أسباب اللبانة في الهوى ... ويفعل فيها فعل بعض الحوادث

_ (1) جميع الطبعات: يهدني.

كان له في قلبه ريبة (1) ترى ... وفي كل عين مخبر بالأحادث ومنه: (2) على كل من حولي رقيبان رقبا ... وقد خصني ذو العرش منهم بثالث وأشنع ما يكون الرقيب إذا كان ممن امتحن بالعشق قديماً ودهي به وطالت مدته فيه، ثم عري عنه بعد إحكامه لمعانيه، فكان راغباً في صيانة من رقب عليه، فتبارك الله أي رقبة تأتي منه، وأي بلاء مصبوب يحل على أهل الهوى من جهته؛ وفي ذلك أقول: [من الوافر] . رقيب طالما عرف الغراما ... وقاسى الوجد وامتنع المناما ولاقى في الهوى ألماً أليماً ... وكاد الحب يورده الحماما وأتقن حيلة الصب المعنى ... ولم يضع الإشارة والكلاما وأعقبه التسلي بعد هذا ... وصار يرى الهوى عاراً وذاما وصير دون من أهوى رقيباً ... ليبعد عنه صباً مستهاما فأي بلية صبت علينا ... وأي مصيبة حلت لماما ومن طريف معاني الرقباء أني أعرف محبين مذهبهما واحد في حب محبوب واحد بعينه، فلعهدي بهما كل واحد منهما رقيب على صاحبه. وفي ذلك أقول: [من السريع] . صبان هيمانان في واحد ... كلاهما عن خدنه منحرف كالكلب في الآري لا يعتلف ... (3) ولا يخلي الغير أن يعتلف

_ (1) يريد برشيه أن يقرأها: رئيا يرى، وهذا لا يستقيم به الوزن؛ وقد نقرأ " ربة ترى " والربة: الجماعة الكثيرة. (2) رقبا أو رتبا؛ لا فرق في المعنى. (3) الآري: محبس الدابة من كلب وغيره، وقوله كالكلب لا يعتلف ولا يخلي غيره يعتلف، مثل جاء في صور مختلفة عند الاندلسيين والمغاربة، من ذلك: كلب الورد لا يشم ولا يخلي أحد يشم؛ (انظر الزجالي ص: 261 المثل رقم: 1125) وقد ذكر الاستاذ بنشرفيه أن المثل ما يزال مستعملاً في تونس، وله صنو في اسبانيا، وقارنه بقول ابن حزم هنا؛ والصورة الاسبانية من المثل أوردها غومس (هامش ص: 170) واقتبسها مكي (هامش ص: 82) .

باب الواشي

- 19 - باب الواشي ومن آفات الحب الواشي، وهو على ضربين: أحدهما واش يريد القطع بين المتحابين فقط، وإن هذا لأفترهما سوءة، على انه السم الذعاف والصاب الممقر (1) والحتف القاصد والبلاء الوارد. وربما لم ينجع ترقيشه. وأكثر ما يكون الواشي فإلى المحبوب، وأما المحب فهيهات، حال الجريض دون القريض (2) ، ومنع الحرب من الطرب، شغله بما هو مانع له من استماع الواشي. وقد علم الوشاة ذلك، وإنما يقصدون إلى الخلي البال، الصائل بحوزة الملك، المتغيب عند أقل سبب. وإن للوشاة ضرورياً من التنقيل، فمنها أن يذكر للمحبوب عمن يحب أنه غير كاتم للسر، وهذا مكان صعب المعاناة، بطئ البرء إلا أن يوافق معارضاً (3) للمحب في محبته، وهذا أمر يوجب النفار، فلا فرج للمحبوب إلا بأن تساعده الأقدار بالاطلاع على بعض أسرار من

_ (1) الممقر: الشديد المرارة. (2) حال الجريض دون القريض: هذا مثل يضرب للمعضلة تعرض فتشغل عن غيرها، وهو لعبيد بن الابرص حين سئل وهو مترقب الموت أن يقول شعراً (انظر جمهرة العسكري 1: 359 والفاخر: 250 والميداني 1: 129 والمستقصى: 201 واللسان: جرض، وفصل المقال: 444) . (3) برشيه: مغارض.

يحب، بعد أن يكون المحبوب ذا عقل، وله حظ من تمييز، ثم يدعه والمطاولة (1) . فإذا تكذب عنده نقل الواشي مع ما اظهر من التحفظ والجفاء، ولم يسمع لسره إذاعة علم أنه إنما زور له الباطل، واضمحل ما قام في نفسه. ولقد شاهدت هذا بعينه لبعض المحبين مع بعض من كان يحب، وكان المحبوب شديد المراقبة عظيم الكتمان، وكثر الوشاة بينهما وحدث في حب لم يكن، حتى ظهرت اعلام ذلك في وجهه، وركبته وجمة (2) ، وأظلته فكرة، ودهمته حيرة، إلى أن ضاق صدره وباح بما نقل إليه؛ فلو شاهدت مقام المحب في اعتذاره لعلمت أن الهوى سلطان مطاع، ناء مشدود الأواخي، وسنان نافذ، وكان اعتذاره بين الاستسلام والاعتراف والإنكار والتوبة والرمي بالمقاليد، فبعد لأي ما صلح الأمر بينهما. وربما ذكر الواشي أن ما يظهر المحب من المحبة ليس بصحيح (3) ، وان مذهبه في ذلك شفاء نفسه وبلوغ وطره؛ وهذا فصل من النقل وإن كان شديداً فهو أيسر معاناة مما قبله. فحالة المحب غير حالة المتلذذ. وشواهد الوجد متفاوتة بينهما. وقد وقع من هذا نبذ كافية في باب الطاعة. وربما نقل الواشي أن هوى العاشق مشترك، وهذه النار المحرقة والوجع الفاشي في الأعضاء. وإذا وافق الناقل لهذه المقالة ان يكون المحب فتى حسن الوجه حلو الحركات، مرغوباً فيه مائلاً إلى اللذات، دنياوي الطبع، والمحبوب امرأة جليلة القدر سرية المنصب، فأقرب الأشياء سعيها في إهلاكه وتصديها لحتفه، وهذه كانت ميتة مروان بن احمد بن حدير، والد أحمد المتنسك، وموسى وعبد

_ (1) برشيه: يديمه المطاولة. (2) مكي والصيرفي: رحمة. (3) بتروف والصيرفي ومكي: ليست بصحيحة.

الرحمن المعروفين بابني لبنى (1) ، من قبل قطر الندى جارته، وفي ذلك أقول محذراً لبعض إخواني قطعة منها: [من الطويل] وهل يأمن النسوان غير مغفل ... جهول لأسباب الردى متعرض (2) وكم وارد حوضاً من الموت أسوداً ترشفه من طيب الطعم أبيض والثاني واش يسعى للقطع بين المحبين لينفرد بالمحبوب ويستأثر به، وهذا أشد شيء وأفظعه (3) وأجزم (4) لاجتهاد الواشي واستفادته بجهده (5) . ومن الوشاة جنس ثالث، وهو واش يسعى بهما جميعاً ويكشف سرهما، وهذا لا يلتفت إليه إذا كان المحب مساعداً؛ وفي ذلك أقول: [من الطويل] عجبت لواش ظل يكشف أمرنا ... وما بسوى أخبارنا يتنفس وماذا عليه من عنائي ولوعتي ... أنا آكل الرمان والولد تضرس (6) ولابد أن أورد ما يشبه ما نحن فيه، وإن كان خارجاً منه، وهو شيء في بيان التنقيل والنمائم. فالكلام يدعو بعضه بعضاً كما شرطنا في أول الرسالة:

_ (1) قد عرفت ببعض بني حدير فيما تقدم ص: 155 هامش 4 وقد ذكر لسان الدين ابن الخطيب (اعمال الاعلام: 211) موسى بن مروان بن حدير ووصفه بالصرامة والجرأة؛ وجهه صاحب قرطبة إلى خيران حين انتزى في شرق الاندلس، فدارت بين الاثنين وقعة أسر فيها موسى وقتل أصحابه. (2) الطبعات (ما عدا برشيه) : متأرض. (3) أكثر القراءات: وأقطعه. (4) برشيه: وأجزعه. (5) الصيرفي ومكي: واستفادة جهده؛ ولعلني أرجح: واستنفاده جهده. (6) عبارة متناقلة مشهورة، لها أصل في العهد القديم (انظر سفر حزقيال، الإصحاح: 18) .

وما في جميع الناس شر من الوشاة، وهم النمامون، وإن النميمة (1) لطبع يدل على نتن الأصل، ورداءة الفرع، وفساد الطبع، وخبث النشأة، ولابد لصاحبه من الكذب؛ والنميمة فرع من فروع الكذب ونوع من أنواعه، وكل نمام كذاب، وما أحببت كذاباً قط، وإني لأسامح في إخاء كل ذي عيب وإن كان عظيماً، واكل أمره إلى خالقه عز وجل، وآخذ ما ظهر من أخلاقه حاشا من أعلمه يكذب، فهو عندي ماح لكل محاسنه، وذلك لان كل ذنب فهو يتوب عنه صاحبه وكل ذام فقد يمكن الاستتار به والتوبة منه، حاشا الكذب فلا سبيل إلى الرجعة عنه ولا إلى كتمانه حيث كان. وما رأيت قط ولا أخبرني من رأى كذاباً ترك الكذب ولم يعد إليه، ولا بدأت قط بقطيعة ذي معرفة إلا أن أطلع له على الكذب، فحينئذ أكون أنا القاصد إلى مجانبته والمتعرض لمتاركته، وهي سمة ما رأيتها قط في أحد إلا وهو مزنون إليه بشر في نفسه، مغموز عليه لعاهة سوء في ذاته، نعود بالله من الخذلان. وقد قال بعض الحكماء: آخ من شئت واجتنب ثلاثة: الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، والملوك فإنه أوثق ما تكون به لطول الصحبة وتأكدها بخذلك، والكذاب فإنه يجني عليك آمن ما كنت فيه من حيث لا تشعر. وحديث عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسن العهد من الإيمان " (2) ؛ وعنه عليه السلام: " لا يؤمن الرجل بالإيمان كله حتى يدع الكذب في المزاح " (3) . حدثنا

_ (1) قارن بين هذه الحملة الشديدة على النميمة هنا، وبين قول ابن حزم في رسالته في الأخلاق والسير: " واما النميمة فهي التبليغ لما سمع مما لا ضرر فيه على المبلغ إليه " (رسائل ابن حزم: 133) . (2) ورد في ارشاد الساري 9: 21 واتقان الغزي: 52 وعيون الاخبار 3: 15 والبصائر 7: 651. (3) انظر مسند أحمد 2: 352، 364.

بهذا أبو عمر أحمد بن محمد (1) عن محمد بن عيسى بن رفاعة (2) عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد القاسم بن سلام عن شيوخه، والآخر منهما مسند إلى عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما. والله عز وجل يقول: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون} (الصف 3 - 4) . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل هل يكون المؤمن بخيلاً فقال: نعم. قيل: فهل يكون المؤمن جباناً فقال: نعم. قيل: فهل يكون المؤمن كذاباً فقال: لا. حدثناه أحمد بن محمد ابن احمد عن أحمد بن سعيد (3) عن عبيد الله بن يحيى عن أبيه عن مالك بن أنس عن صفوان بن سليم. وبهذا الإسناد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا خير في الكذب " في حديث سئل فيه. وبهذا الإسناد عن مالك أنه بلغه عن ابن مسعود أنه كان يقول: " لا يزال العبد يكذب وينكت في قلبه نكته سوداء حتى يسود القلب فيكتب عند الله من الكذابين " وبهذا الإسناد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر والبر

_ (1) أحمد بن محمد بن احمد المعروف بابن الجسور الأموي هو أول شيخ سمع منه ابن حزم قبل الأربعمائة، وتوفي سنة 401 وكان من أهل العلم متقدماً في الفهم حافظاً للحديث والرأي (الجذوة: 99 - 100 والصلة: 29) وفي رواية ابن حزم عنه يروي ابن الجسور عن كل من: (1) محمد بن عبد الله بن أبي دليم. (2) أحمد بن مطرف. (3) أحمد بن سعيد بن حزم. (4) محمد بن عيسى بن رفاعة القلاس. (5) وهب بن مسرة. وسيعرف بكل واحد من هؤلاء في موضعه. (2) محمد بن عيسى بن رفاعة: هو القلاس (- 337) انظر ابن الفرضي 2: 57. (3) أبو عمر أحمد بن سعيد بن حزم الصدفي (- 350) قرطبي سمع بالأندلس من عبيد الله بن يحيى وغيره ورحل إلى المشرق، وجمع كتاباً كبيراً في الرجال (ابن الفرضي 1: 55 والجذوة: 117) .

يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار " (1) . وروي أنه أتاه صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، إني أستهتر بثلاث: الخمر والزنا والكذب. فمرني أيها أترك، قال: اترك الكذب، فذهب عنه. ثم أراد الزنا ففكر فقال: آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألني: أزينت فإن قلت: نعم، حدني، وإن قلت: لا، نقضت العهد، فتركه. ثم كذلك في الخمر. فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني تركت الجميع. فالكذب أصل كل فاحشة، وجامع كل سوء، وجالب لمقت الله عز وجل. وعن ابي بكر الصديق رضي الله عنه قال: كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ثلاث من كن فيه كان منافقاً: من إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان " (2) . وهل الكفر إلا كذب على الله عز وجل (3) ، والله الحق وهو يحب الحق، وبالحق قامت السموات والأرض. وما رأيت أخزى من كذاب، وما هلكت الدول، ولا هلكت الممالك، ولا سفكت الدماء ظلماً، ولا

_ (1) حديث " عليكم بالصدق الخ " ورد في الصحاح الستة؛ انظر مثلاً مسلم، باب البر: 105 (2: 289) وفي الموطأ (الكلام: 16) وفي مسند أحمد: 1، 3، 5، 7، 8، ومواضع أخرى منه، وبهجة المجالس 1: 576 وانظره في مصنف عبد الرزاق 11: 159 من كلام ابن مسعود. (2) ورد بصيغ مختلفة منها: آية المنافق ثلاث في البخاري (شهادات: 28) ومسلم (ايمان 107، 109) ومسند أحمد 2: 357 وبصيغة: ثلاث من كن فيه فهو منافق، في مسند أحمد 2: 198، 536؛ وثلاث في المنافق: في مسند أحمد 2: 297. (3) كرر ابن حزم هذا في رسالته في مداواة النفوس (رسائل: 146) فقال: لا شيء أقبح من الكذب، وما ظنك بعيب يكون الكفر نوعاً من أنواعه، فكل كفر كذب، فالكذب جنس والكفر نوع تحته.

ظلماً الأستار بغير النمائم والكذب، ولا أكدت البغضاء والإحن المردية إلا بنمائم لا يحظى صاحبها إلا بالمقت والخزي والذل، وأن ينظر منه الذي ينقل إليه فضلاً عن غيره بالعين التي ينظر بها من الكلب. والله عز وجل يقول: {ويل لكل همزة لمزة} (الهمزة: 1) ويقول جل من قائل: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (الحجرات: 6) فسمى النقل باسم الفسوق، ويقول: {ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم} (القلم: 10 - 13) . والرسول عليه السلام يقول: " لا يدخل الجنة قتات " (1) ويقول: " واياكم وقاتل الثلاثة " يعني المنقل والمنقول إليه والمنقول عنه (2) . والأحنف يقول: " الثقة لا يبلغ (3) وحق لذي الوجهين ألا يكون عند الله وجيها؛ وهو ما يجعله من أخس الطبائع وأرذلها. ولي إلى أبي اسحاق إبراهيم بن عيسى الثقفي الشاعر رحمه الله، وقد نقل إليه رجل من إخواني عني كذباً على جهة الهزل، وكان هذا الشاعر كثير الوهم فأغضبه (4) وصدقه، وكلاهما كان لي صديقاً،

_ (1) ورد حديث " لا يدخل الجنة قتات " في البخاري (أدب: 50) ومسلم (ايمان: 169، 170) وأبي داود (أدب: 33، وبر: 79) ومسند أحمد 5: 382، 389، 392، 402، 404؛ وانظر بهجة المجالس 1: 402 والقتات هو النمام. (2) جاء في بهجة المجالس 1: 402 قال عليه السلام: اياك ومهلك الثلاثة، قيل وما مهلك الثلاثة قال: رجل سعى بأخيه المسلم فقتله فأهلك نفسه وأخاه وسلطانه. (3) الأحنف: اسمه الضحاك بن قيس، وقيل اسمه صخر، مضرب المثل في الحلم، مختلف في عام وفاته بين 67 - 77، والأول أشهر، انظر ترجمته في ابن خلكان 2: 499 وطبقات ابن سعد 7: 93 وتهذيب ابن عساكر 7: 10 وتهذيب التهذيب 1: 191، وأخبار حلمه مبثوثة في كتب الأدب. وقوله " الثقة لا يبلغ " كلمة تنسب له ولغيره؛ فقد جاء في الأذكياء لابن الجوزي (ط/ 1304) غضب رجل على رجل فقال له: ما أغضبك قال: شيء نقله إلي الثقة عنك، فقال: لو كان ثقة ما نم. (4) برشيه: فأخذ به.

وما كان الناقل إليه من أهل هذه الصفة ولكنه كان كثير المزاح جم الدعابة، فكتبت إلى أبي إسحاق، وكان يقول بالخبر (1) ، شعراً منه: [من الطويل] ولا (2) تتبدل قالة قد سمعتها ... تقال ولا تدري الصحيح بما تدري كمن قد أرق الماء للآل أن بدا ... فلاقى الردى في الأفيح المهمه القفر وكتبت إلى الذي نقل عني شعراً منه: [من الطويل] ولا تدغمن (3) في الجد مزحاً كمولج ... فساد علاج النفس طي صلاحها ومن كان نقل الزور أمضى سلاحه ... (4) كمثل الحبارى تتقي بسلاحها وكان لي صديق مرة وكثر التدخيل (5) بيني وبينه حتى كدح ذلك

_ (1) وكان يقول بالخبر: هذه العبارة - فيما أعتقد - صنو لقوله: وكان ظاهرياً؛ وتفسير ذلك أن ابن حزم ومن رأى مثل رأيه يقولون إن الخبر الصحيح عن الرسول حكمه حكم القرآن في وجوب الطاعة لهما فمن بلغه خبر عن الرسول يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر، وهذا معنى قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) ، فمن مال عن قول رسول الله إلى قول فلان وفلان أو قياسه أو استحسانه فإنه ليس بمؤمن، ويستوي في ذلك أن يكون الخبر منقولاً نقل التواتر أو نقله الواحد الثقة، وهم يردون بشدة على من يقول إن الخبر إذا كان مما يعظم به البلوى لم يقبل فيه خبر الواحد (انظر الاحكام 1: 96 - 138) . (2) برشيه: تتقبل؛ والبيت الثاني يقوي رواية " تتبدل ". (3) برشيه: تمزجن؛ وفي سائر القراءات: تزعما. (4) يشير إلى قولهم في المثل: اسلح (أو أذرق) من حبارى؛ انظر الدرة الفاخرة: 233 وجمهرة العسكري 1: 534، والميداني 1: 354 والمستقصى 1: 170. (5) برشيه: التدجيل؛ ولا أراه صواباً؛ والتدخيل مصدر دخل، وهو وان لم يكن جارياً على القياس فإنه بمثابة " الدخال "؛ والمقصود به هنا الدخول بين اثنين للوقيعة والدس.

فيه واستبان في وجهه وفي لحظه، وطبعت على التأني والتربص والمسالمة ما امكنت، ووجدت بالانخفاض سبيلاً إلى معاودة المودة، فكتبت إليه شعراً، منه: [من الطويل] ولي في الذي أبدي مرام لو أنها ... بدت ما ادعى حسن الرماية وهرز (1) وأقول مخاطباً لعبيد الله بن يحيى الجزيري الذي يحفظ لعمه الرسائل البليغة (2) ، وكان طبع الكذب قد استولى عليه، واستحوذ على عقله، وألفه ألفة النفس الأمل، ويؤكد نقله وكذبه بالأيمان المؤكدة المغلظة مجاهراً بها، أكذب من السراب، مستهتراً بالكذب مشغوفاً به، لا يزال يحدث من قد صح عنده أنه لا يصدقه، فلا يزجره ذلك عن أن يحدث بالكذب: [من الطويل] بدا كل ما كتمته بين مخبر ... وحال أرتني قبح عقدك بينا وكم حالة صارت بياناً بحالة ... كما تثبت الأحكام بالحبل الزنا وفيه أقول قطعة منها: [من الطويل] أنم من المرآة في كل ما درى ... وأقطع بين الناس من قضب الهند أظن المنايا والزمان تعلما ... تحيله بالقطع بين ذوي الود وفيه أيضاً أقول من قصيدة طويلة: [من الطويل] وأكذب من حسن الظنون حديثه ... وأقبح من دين وفقر ملازم

_ (1) كان وهزر قائد الجيش الفارسي الذي أرسله كسرى لمعاونة سيف بن ذي يزن على طرد الأحباش وكان حاذقاً في الرماية (انظر مروج الذهب: 3: 163 وما بعدها) . (2) قوله: يحفظ لعمه الرسائل البليغة الأرجح انه يقصد بهذا العم عبد الملك بن ادريس الجزيري (انظر الذخيرة 4/ 1: 46 ومراجع ترجمته مذكورة في الحاشية) أما ابن أخيه عبيد الله فمن العبث مساءلة المصادر عن أخبار من كان مثله سقوطاً وخسة؛ ولكن الأمر الذي يستحق التنبيه هو: لماذا لم يحاول ابن حزم ان يخفي اسمه كما أخفى أسماء كثيرين غيره وجعله مرمى لسهام هجائه، حتى كأنه كان مباءة لشتى ضروب الرذائل (أنظر ص: 279) .

أوامر رب العرش أضيع عنده ... وأهون من شكوى إلى غير راحم تجمع فيه كل خزي وفضحة ... فلم يبق شتماً في المقال لشاتم وأثقل من عذل على غير قابل ... (1) وأبرد برداً من مدينة سالم وأبغض من بين وهجر ورقبة ... جمعن على حران حيران هائم وليس من نبه غافلاً، أو نصح صديقاً، أو حفظ مسلماً، أو حكى عن فاسق أو حدث عن عدو - ما لم يكن يكذب ولا يكذب، ولا تعمد الضغائن - منقلاً (2) . وهل هلك الضعفاء وسقط من لا عقل له إلا في قلة المعرفة بالناصح من النمام، وهما صفتان متقاربتان في الظاهر متفاوتتان في الباطن، إحداهما داء والأخرى دواء. والثاقب القريحة لا يخفى عليه أمرهما، لكن الناقل من كان تنقيله غير مرضي في الديانة، ونوى به التشتيت بين الأولياء، والتضريب بين الإخوان، والتحريش والتوبيش (3) والرقيش. فمن خاف إن سلك طريق النصيحة ان يقع في طريق النميمة، ولم يثق لنفاذ تمييزه ومضاء تقديره فيما يرده من أمور دنياه ومعاملة أهل زمانه، فليجعل دينه دليلاً وسراجاً يستضيء به، فحيثما سلك به سلك وحيثما أوقفه وقف، وكفيلاً له بالنظر وزعيماً بالإصابة وضماناً للفلج والخلاص (4) . فشارع الشريعة وباعث الرسول عليه السلام ومرتب الأوامر والنواهي أعلم بطريق الحق وأدرى بعواقب السلامة ومغبات النجاة من كل ناظر لنفسه بزعمه، وباحث بقياسه في ظنه.

_ (1) مدينة سالم: (Medinacelli) : تقع على بعد 135 كيلو متراً على الطريق من مدريد إلى سرقسطة، وقد توفي المنصور بها ودفن هنالك؛ وهي في منطقة شديدة البرودة شتاء، فلذلك ضرب بها المثل هنا (انظر الادريسي (دوزي) : 189) . (2) برشيه: ناقلاً؛ وتعد " منقلاً " خبر " ليس " في أول الفقرة. (3) التوبييش: لعلها من وبش الكلام وهو الردئ منه؛ وقرأ برشيه " والتوحيش ". (4) وكفيلاً له والخلاص: سقطت هذه العبارة من طبعة الصيرفي ومكي والطبعة البيروتية.

باب الوصل

- 20 - باب الوصل ومن وجوه العشق الوصل، وهو حظ رفيع، ومرتبة سرية، ودرجة عالية، وسعد طالع، بل هو الحياة المجددة، والعيش السني، والسرور الدائم، ورحمة من الله عظيمة. ولولا أن الدنيا ممر ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره، لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيهن والفرح الذي لا شائبة ولا حزن معه، وكمال الأماني، ومنتهى الأراجي. ولقد جربت اللذات على تصرفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنو من السلطان، ولا للمال المستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغيبة، ولا الأمن من بعد الخوف، ولا التروح على المال، (1) من الموقع في النفس ما للوصل، ولا سيما بعد طول الامتناع، وحلول الهجر (2) ، حتى يتأجج عليه الجوى، ويتوقد لهيب الشوق، وتتضرم نار الرجاء. وما إصناف (3) النبات بعد غب القطر، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع

_ (1) الترويح: أراد هذه الصيغة بمعنى الراحة، ولو كانت " التريح " لكانت بمعنى الشعور بالأريحية وقرأ برشيه: ولا الأمن من بعد الخوف والنزوح عن الآل؛ وعلى تعسفه في القراءة فإنه يلمح إلى الحال النفسية لدى ابن حزم في فقدانه الأمن ونزوحه عن وطنه وآله بعيد الفتنة. (2) وحلول الهجر: لم ترد عند برشيه في النص، وثبت معناها في الترجمة (فسقوطها سهو) . (3) إصناف البنات: بدء ظهور إيراقه؛ وغيرها برشيه فجعلها: " لإيراق "، وذلك تحكم منه.

السحاب الساريات في الزمان السجسج، ولا خرير المياه المتخللة لأفانين النوار، ولا تأنق القصور البيض قد أحدقت بها الرياض (1) الخضر، بأحسن من وصل حبيب قد رضيت أخلاقه، وحمدت غرائزه، وتقابلت في الحسن أوصافه، وأنه لمعجز ألسنة البلغاء، ومقصر فيه بيان الفصحاء، وعنده تطيش الألباب، وتعزب الأفهام؛ وفي ذلك أقول: [من البسيط] . وسائل لي عما لي من العمر ... وقد رأى الشيب في الفو دين والعذر أجبته ساعة لا شيء أحسبه ... عمراً سواها بحكم العقل والنظر فقال لي: كيف ذا بينة لي فلقد ... أخبرتني أشنع الأنباء والخبر فقلت إن التي قلبي بها علق ... قبلتها قبلة يوماً على خطر فما أعد ولو طالت سني سوى ... تلك السويعة بالتحقيق من عمري ومن لذيذ معاني الوصل المواعيد، وإن للوعد المنتظر مكاناً لطيفاً من شغاف القلب؛ وهو ينقسم قسمين: أحدهما الوعد بزيارة المحب لمحبوبه، وفيه أقول قطعة منها: [من البسيط] . أسامير البدر لما أبطأت وأرى ... في نوره من سنا إشراقها عرضا (2) فبت مشترطاً والود مختلطاً ... والوصل منبسطاً والجهر منقبضا والثاني: انتظار الوعد من المحب أن يزور محبوبه. وإن لمبادئ الوصل وأوائل الإسعاف لتولجاً (3) على الفؤاد ليس لشيء من الأشياء. وإني لأعرف من كان ممتحناً بهوى في بعض المنازل المصاقبة فكان

_ (1) برشيه: قد أحدقن بالرياض. (2) كذا هذا الشطر عند بتروف وغيره، إلا أن برشيه قرأه: فبت مغتبطاً والود معتبطا؛ والأصل والتصحيح عليه كلاهما قلقل، ولم أتبين له وجهاً صحيحاً؛ ولعله لو كان " فبت مختلطاُ والود مشترطاً " لكان ذا معنى. (3) برشيه: لثلوجاً.

يصل متى شاء بلا مانع، ولا سبيل إلى غير النظر والمحادثة زماناً طويلاً، ليلاً متى أحب ونهاراً، إلى أن ساعدته الأقدار بإجابة، ومكنته بإسعاد، بعد يأسه، لطول المدة، ولعهدي به قد كاد أن يختلط عقله فرحاً، وما كاد يتلاحق كلامه سروراً، فقلت في ذلك: [من البسيط] . برغبة (1) لو إلى ربي دعوت بها ... لكان ذنبي عند الله مغفورا ولو دعوت بها أسد الفلا لغدا ... إضرارها عن جميع الناس مقصورا فجاد باللثم لي من بعد منعته ... فاهتاج من لوعتي ما كان مغمورا كشارب الماء كي يطفي الغليل به ... فغص فانصاع في الأجداث مقبورا وقلت: [من المتقارب] . جرى الحب مني مجرى النفس ... وأعطيت عيني عنان الفرس ولي سيد لم يزل نافراً ... وربتما جاد لي في الخلس فقبلته طالباً راحة ... فزاد أليلاً بقلبي اليبس وكان فؤادي كنبت هشيم ... يبيس رمى فيه رام قبس ومنها: ويا جوهر الصين سحقاً فقد ... (2) غنيت بياقوتة الأندلس خبر: وإني لأعرف جارية اشتد وجدها بفتى من أبناء الرؤساء، وهو

_ (1) برشيه: بي رغبة. (2) الجواهر الفاخرة ثلاثة الياقوت والزمرد واللؤلؤ، وليس واحد منها موطنه الصين، وأقربها إلى تلك البلاد الياقوت فإن موطنه سرنديب (انظر الجماهير للبيروني: 81، 32 وصفحات أخرى) وقال التيفاشي: من جزيرة خلف سرنديب بأربعين فرسخاً، وهذا يقرب أن تكون الصين أو بعض الجزائر القريبة منها موطناً له (أزهار الأفكار: 63) ومهما يكن من شيء فإن الشاعر إنما يومئ إلى النفاسة التي تجعل التجار يحملون الجواهر من مكان سحيق.

لا اعلم عنده، وكثر غمها به (1) وطال أسفها إلى أن ضنيت بحيه، وهو بغرارة الصبا لا يشعر؛ ويمنعها من إبداء أمرها إليه الحياء منه لأنها كانت بكراً بخاتمها، مع الإجلال له عن الهجوم عليه بما لا تدري لعله لا يوافقه، فلما تمادى الأمر - وكانا إلفين (2) في النشأة - شكت ذلك إلى امراة جزلة الرأي كانت تثق بها لتوليها تربيتها، فقالت لها: عرضي له بالشعر، ففعلت المرة بعد المرة وهو لا يأبه في كل هذا. ولقد كان لقناً ذكياً ولكنه لم يظن ذلك فيميل إلى تفتيش الكلام بوهمه، إلى ان عيل صبرها وضاق صدرها ولم تمسك نفسها في قعدة كانت لها معه في بعض الليالي منفردين، ولقد كان - يعلم الله - عفيفاً متصاوناً بعيداً عن المعاصي، فلما حان قيامها عنه بدرت إليه فقبلته في فمه ثم ولت في ذلك الحين ولم تكلمه بكلمة، وهي تتهادى في مشيها، كما أقول في أبيات لي: [من البسيط] . كأنها حين تخطو في تأودها ... قضيب نرجسة في الروض مياس كأنما (3) خطوها في قلب عاشقها ... ففيه من وقعها خطر ووسواس كأنما مشيها مشي الحمامة لا ... كد يعاب ولا بطء به باس فبهت وسقط في يده وفت في عضده ووجد في كبده وعلته وجمة، فما هو إلا أن غابت عن عينه ووقع في شرك الردى، واشتعلت في قلبه النار، وتصعدت أنفاسه، وتردفت أوجاله، وكثر قلقه، وطال أرقه، فما غمض تلك الليلة عيناً، وكان هذا بدء الحب بينهما دهراً، إلى أن جذت جملتها (4) يد النوى؛ وإن هذا لمن مصايد إبليس ودواعي الهوى التي لا يقف لها أحد إلا من عصمه الله عز وجل.

_ (1) به: عند برشيه وحده. (2) برشيه: اليقين (والترجمة شاهد على أن لا تصحيف) . (3) جميع الطبعات: خلدها. (4) برشيه: جملتهما.

ومن الناس من يقول: إن دوام الوصل يودي بالحب، وهذا هجين من القول، إنما ذلك لأهل الملل، بل كلما زاد وصلاً زاد اتصالاً. وعني أخبرك أني ما رويت قط من ماء الوصل ولا زادني إلا ظلماً، وهذا حكم من تداوى بدائه وإن رفه عنه شيئاً ما (1) . ولقد بلغت من التمكن بمن أحب أبعد الغايات التي لا يجد الإنسان وراءها مرمى فما وجدتني إلا مستزيداً، ولقد طال بي ذلك فما أحسست بسآمة ولا رهقتني فترة. وقد ضمني مجلس مع بعض من كنت أحب فلم أجل خاطري في فن من فنون الوصل إلا وجدته مقصراً عن مرادي، وغير شاف وجدي ولا قاض أقل لبانة من لباناتي، ووجدتني كلما ازددت دنواً ازددت ولوعاً، وقدحت زناد الشوق نار الوجد بين ضلوعي، فقلت في ذلك المجلس: [من الطويل] . وددت بان القلب شق بمدية ... وأدخلت فيه ثم أطبق في صدري فأصبحت فيه لا تحلين غيره ... إلى مقتضى يوم القيامة والحشر تعيسين فيه ما حييت فإن أمت ... سكنت شغاف القلب في ظلم القبر وما في الدنيا حالة تعدل محبين إذا عدما الرقباء وأمنا الوشاة، وسلما من البين ورغبا عن الهجر، وبعدا عن الملل وفقدا العذال، وتوافقا في الأخلاق، وتكافيا في المحبة، وأتاح الله لهما رزقاً داراً، وعيشاً قاراً، وزماناً هادياً، وكان اجتماعهما على ما يرضي الرب من الحلال (2) ، وطالت صحبتهما واتصلت إلى وقت حلول الحمام الذي

_ (1) أثبت قراءة برشيه، وعند غيره: تداوى برأيه عنه سريعا. (2) في معظم الطبعات: من الحال.

لا مرد له ولا بد منه، هذا عطاء لم يحصل عليه أحدا، وحاجة لم تقض لكل طالب. ولولا أن مع هذه الحال الإشفاق من بغتات المقادير المحكمة في غيب الله عز وجل، من حلول فراق لم يكتسب، واخترام منية في حال الشباب، أو ما أشبه ذلك، لقلت إنها حال بعيدة من كل آفة، وسليمة من كل داخلة. ولقد رأيت من اجتمع له هذا كله، إلا أنه كان دهي في من كان بحبه بشراسة أخلاق، ودالة على المحبة، فكانا لا يتهنيان العيش ولا تطلع الشمس في يوم إلا وكان بينهما خلاف فيه، وكلاهما كان مطبوعا بهذا الخلق، لثقة كل واحد منهما بمحبة صاحبه، إلى أن دبت النوى بينهما فتفرقا بالموت المرتب لهذا العالم، وفي ذلك أقول: [من المنسرح] . كيف أذم النوى واظلمها ... وكل أخلاق من احب نوى قد كان يكفي هوى أضيق به ... فكيف إذ حل بي نوى وهوى وروي عن زياد بن أبي سفيان رحمه الله انه قال لجلسائه: من انعم الناس عيشة قالوا: أمير المؤمنين. فقال: وأين ما يلقى من قريش قيل: فأنت. قال أين ما ألقى من الخوارج والثغور قيل: فمن أيها الأمير قال: رجل مسلم له زوجة مسلمة لهما كفاف من العيش، قد رضيت به ورضي بها، لا يعرفنا ولا نعرفه (1) . وهل فيما وافق إعجاب المخلوقين، وجلا القلوب، واستمال الحواس، واستهوى النفوس، واستولى على الأهواء، واقتطع الألباب،

_ (1) ورد هذا الخبر في بهجة المجالس 1: 117 على النحو الآتي: قال زياد لجلساته: من أغبط عيشاً؛ قالوا: الأمير وجلساؤه، فقال: ما صنعتم شيئاً إن لأعواد المنابر هيبة، وان لقرع لجام البريد لفزعة، لكن اغبط الناس عندي رجل له دار لا يجري عليه كرؤها، وله زوجة صالحة قد رضيته ورضيها فهما راضيان بعيشهما، لا يعرفنا ولا نعرفه، فإنه إن عرفنا وعرفناه اتعبنا لليه ونهاره، وأفسدنا دينه ودنياه.

وأختلس العقول، مستحسن يعدل إشفاق محب على محبوب. ولقد شاهدت من هذا المعنى كثيراً، وإنه لمن المناظر العجيبة الباعثة على الرقة الرائقة المعنى، لا سيما إن كان هوى يكتتم به. فلو رأيت المحبوب حين يعرض بالسؤال عن سبب تغضب بمحبة، وخجلته في الخروج مما وقع فيه بالاعتذار، وتوجيهه إلى غير وجهه، وتحيله في استنباط معنى يقيمه عند جلسائه، لرأيت عجباً ولذة مخفية لا تقاومها لذة. وما رأيت أجلب للقلوب ولا أغوص على حباتها (1) ولا أنفذ للمقاتل من هذا الفعل. وإن للمحبين في الوصل من الاعتذار ما اعجز أهل الأذهان الذكية والأفكار القية؛ ولقد رأيت في بعض المرات هذا فقلت: [من السريع] . إذا مزجت الحق بالباطل ... جوزت ما شئت على الغافل وفيهما فرق صحيح له ... علامة تبدو إلى العقل كالتبر إن تمزح به فضة ... جازت على كل فتى جاهل وإن تصادف صائغاً ماهراً ... (2) ميز بين المحض والخائل وإني لأعلم فتى وجارية: كان يكلف كل واحد منهما بصاحبه، فكانا يضطجعان إذا حضرهما أحد وبينهما المسند العظيم من المساند الموضوعة عند ظهور الرؤساء على الفرش، ويلتقي رأساهما وراء المسند ويقبل كل واحد منهما صاحبه ولا يريان، وكأنهما إنما يتمددان من الكلل؛ ولقد كانا بلغا (3) من تكافيهما في المودة أمراً عظيماً، إلى أن كان الفتى المحب ربما استطال عليها؛ وفي ذلك أقول: [من السريع] .

_ (1) في جميع الطبعات: حياتها؛ وهو وهم. (2) في جميع الطبعات: والحائل - بالحاء المهملة -؛ والخائل: المشتبه الأمر. (3) في الطبعات (ماعدا برشيه) : " ولقد كان بلغ " ويسأل من يقرأ هذه القراءة بأي شيء نصبت " أمراً ".

ومن أعاجيب الزمان التي ... طمت على السامع والقائل رغبة مركوب إلى راكب ... وذلة المسؤول للسائل وطول مأسور إلى آسر ... وصولة المقتول للقاتل ما إن سمعنا في الورى قبلها ... خضوع مأمول إلى آمل هل ها هنا وجه تراه سوى ... تواضع المفعول للفاعل ولقد حدثني امرأة أثق بها أنها شاهدت فتى وجارية كان يجد كل واحد منهما بصاحبه فضل وجد، قد اجتمعا في مكان على طرب، وفي يد الفتى سكين يقطع بها بعض الفواكه، فجرها جراً زائداً فقطع إبهامه قطعاً لطيفاً ظهر فيه دم، وكان على الجارية غلالة قصب خزائنية لها قيمة، فصرفت (1) يدها وخرقتها وأخرجت منها فضلة شد بها إبهامه. وأما هذا الفعل للمحب فقليل في ما يجب عليه، وفرض لازم وشريعة مؤداة، وكيف لا وقد بذل نفسه ووهب روحه، فما يمنع بعدهما. خبر: وأنا أدركت بنت زكريا بن يحيى التميمي المعروف بابن برطال (2) ، وعمها كان قاضي الجماعة بقرطبة محمد بن يحيى (3)

_ (1) برشيه: فشرقت. (2) زكريا بن يحيى بن زكريا التميمي المعروف بابن برطال، كان فقيهاً نبيلاً في الفتيا وعقد الفرضي 1: 178 وترتيب المدارك 4: 561) واخته بريهة هي أم المنصور بن أبي عامر (الحلة السيراء 1: 275) . (3) محمد بن يحيى بن زكريا التميمي المعروف بابن برطال (أخو زكريا المتقدم ذكره والخال الثاني للمنصور) له رحلة إلى المشرق وسماع كثير، ولما عاد إلى الاندلس ولا الناصر قضاء كورة رية، وتولى في صدر دولة المؤيد هشام قضاء كورة جيان وأحكام الشرطة فلما توفي ابن زرب (381) تولى قضاء الجماعة بقرطبة، وبقي حتى سنة 392 وقد علت سنه وتفلت ذهنه، فعزل عن القضاء ونقل إلى الوزارة وتوفي 394 (وعمره ست وتسعون سنة) (ابن الفرضي 2: 107 - 109 والنباهي: 84 وترتيب المدارك 4: 562) .

وأخوها (1) الوزير القائد الذي كان قتله غالب وقائدين له في الوقعة المشهورة بالثغور، وهما مروان بن أحمد بن شهيد ويوسف بن سعيد العكي (2) ، وكانت متزوجة بيحيى بن محمد بن الوزير يحيى بن إسحاق (3) ، فعاجلته المنية وهما في أغض عيشهما وأنضر سرورهما، فبلغ من أسفها عليه أن باتت معه في دثار واحد ليلة مات، وجعلته آخر العهد به وبوصله، ثم لم يفارقها الأسف بعده إلى حين موتها. وإن للوصل المختلس الذي يخاتل به الرقباء ويتحفظ به من الحضر، مثل الضحك المستور والنحنحة وجولان الأيدي والضغط بالأجناب والقرص باليد والرجل، لموقعاً من النفس شهياً؛ وفي ذلك الوقت أقول: [من المديد] . إن للوصل الخفي محلاً ... ليس للوصل المكين الجلي لذة تمزجها بارتقاب ... كمسير في خلال النقي خبر: ولقد حدثني ثقة من إخواني جليل من أهل البيوتات أنه كان علق في صباه جارية كانت في بعض دور آله، وكان ممنوعاً منها، فهام عقله

_ (1) في جميع الطبعات: وأخوه، والتصويب من عمل بروفنسال استناداً إلى الوقائع التاريخية (الأندلس: 353) . (2) كانت هذه الوقعة سنة 370هـ بين المنصور وغالب بن عبد الرحمن (انظر البيان المغرب 2: 279) ؛ وقد كان مروان بن احمد بن شهيد من رجالات الدولة أيام الحكم، أرسله سنة 363 إلى العسكر المقيم بالعدوة خازناً على أوقار الأموال التي وجبت للجند وغيرهم، وعاد في ذي الحجة من العام نفسه (المقتبس، ط. بيروت، ص: 168، 183) ولم أجد ذكراً ليوسف بن سعيد العكي؛ ولكن ابن الفرضي ترجم لمن اسمه سعيد بن مرشد العكي وجعل وفاته سنة 373 (ابن الفرضي 1: 204) . (3) يحيى بن اسحاق الوزير - فيما ذكر ابن حزم نفسه - أديب فاضل غلب عليه الطب فبرع فيه وذكر به، وله في ذلك كتب نافعة يعتمد عليها (الجذوة: 351 والبغية رقم: 146) ولم أجد ذكراً لابنه محمد ولا لحفيده يحيى الذي يدور الخبر حوله وحول زوجه بنت ابن برطال.

بها؛ قال لي: فتنزهنا يوماً إلى بعض ضياعنا بالسهلة غربي قرطبة مع بعض أعمامي، فتمشينا في البساتين وأبعدنا عن المنازل وانبسطنا على الأنهار، إلى أن غيمت السماء وأقبل الغيث، فلم يكن بالحضرة من الغطاء ما يكفي الجميع؛ قال: فأمر عمي ببعض الأغطية فألقي علي وأمرها بالاكتنان معي، فظن بما شئت من التمكن على أعين الملأ وهم لا يشعرون، ويا لك من جمع كخلاء، واحتفال كانفراد، قال لي: فوالله لا نسيت ذلك اليوم أبداً. ولعهدي به وهو يحدثني بهذا الحديث وأعضاؤه كلها تضحك وهو يهتز فرحاً على بعد العهد وامتداد الزمان؛ ففي ذلك أقول شعراً منه: [من الخفيف] . يضحك الروض والسحائب تبكي ... كحبيب رآه صب معنى خبر: ومن بديع الوصل ما حدثني به بعض إخواني أنه كان في بعض المنازل المصاقبة له هوى، وكان في المنزلين موضع مطلع من أحدهما على الآخر، فكانت تقف له في ذلك الموضع، وكان فيه بعض البعد (1) ، فتسلم عليه ويدها ملفوفة في قميصها. فخاطبها مستخبراً لها عن ذلك فأجابته: إنه ربما أحس من أمرنا شيء فوقف لك غيري فسلم عليك فرددت عليه فصح الظن، فهذه علامة بيني وبينك، فإذا رأيت يداً مكشوفة تشير نحوك بالسلام فليست يدي، فلا تجاوب. وربما استحلي الوصال واتفقت القلوب حتى يقع التجليح (2) في الوصال، فلا يلفت إلى لائم ولا يستتر من حافظ ولا يبالي بناقل، بل العذل حينئذ يغري؛ وفي صفة الوصل أقول شعراً منه: [من السريع] .

_ (1) برشيه: البهو. (2) التجليح: ركوب الرأس والمكالحة، (وقد مر: 149) .

كم درت حول الحب حتى لقد ... حصلت فيه كحصول الفراش ومنه: تعشو إلى الوصل دواعي الهوى ... كما سرى سنا النار عاش ومنه: عللني بالوصل من سيدي ... كمثل تعليل الظماء العطاش ومنه: لا توقف العين على غاية ... فالحسن فيه مستزيد وفاش (1) وأقول من قصيدة لي: [من السريع] . هل لقتيل الحب من (2) وادي ... أم هل لعاني الحب من فادي أم هل لدهري عودة نحوها ... كمثل يوم مر في الوادي ظللت فيه سابحاً صادياً ... يا عجباً للسابح الصادي ضنيت يا مولاي وجداً فما ... تبصرني ألحاظ عوادي كيف اهتدى الوجد إلى غائب ... عن أعين الحاضر والبادي مل مداواتي طبيبي فقد ... يرحمني للسقم حسادي

_ (1) هذه هي قراءة برشيه؛ وفي سائر المطبوعات " وباش " ولا أدري ما معناه. (2) وادي: اسم فاعل من " ودى " بمعنى دافع الدية.

باب الهجر

- 21 - باب الهجر ومن آفات الحب أيضاً الهجر، وهو على ضروب: 1 - فأولها؛ هجر يوجبه تحفظ من رقيب حاضر؛ وإنه لأحلى من كل وصل. ولولا أن ظاهر اللفظ وحكم التسمية يوجب إدخاله في هذا الباب لرجعت (1) به عنه ولأجللته عن تسطيره فيه. فحينئذ ترى الحبيب منحرفاً عن محبه، مقبلاً بالحديث على غيره، معرضاً بمعرض لئلا تلحق ظنته أو تسبق استرابته؛ وترى المحب أيضاً كذلك، ولكن طبعه له جاذب، ونفسه له صارفة بالرغم، فتراه حينئذ منحرفاً كمقبل، وساكتاً كناطق، وناظراً إلى جهة نفسه في غيرها؛ والحاذق الفطن إذا كشف بوهمه عن باطن حديثهما علم أن الخافي غير البادي، وما جهر به غير نفس الخبر، وإنه لمن المشاهد الجالبة للفتن، والمناظر المحركة للسواكن، الباعثة للخواطر، المهيجة للضمائر، الجاذبة للفتوة. ولي أبيات في شيء من هذا أوردتها، وإن كان فيها غير هذا المعنى على ما شرطنا، منها: [من الطويل] يلوم أبو العباس جهلاً بطبعه ... كما عير الحوت النعامة بالصدى (2)

_ (1) برشيه: لأرجأت. (2) الصدى: الظمأ؛ والعرب في أمثالها تقول أروى من حوت لأنه لا يفارق الماء وتقول أظمأ من حوت وأعطش من حوت يزعمون بلا بينة انه يعطش وهو في البحر، وفي الوقت نفسه يقولون: أروى من نعامة (لأنها مستغنية عن الماء) ؛ انظر هذه الأمثال في الدرة الفاخرة.

ومنها: وكم صاحب أكرمته غير طائع ... ولا مكره إلا لأمر تعمدا وما كان ذاك البر إلا لغيره ... كما نصبوا للطير بالحب مصيدا وأقول من قصيدة محتوية على ضروب من الحكم وفنون من الآداب الطبيعية: [من الطويل] وسراء أحشائي لمن أنا مؤثر ... وسراء أنبائي لمن أتحبب فقد يشرب الصاب الكريه لعلة ... ويترك صفو الشهد وهو محبب وأعذل في إجهاد نفسي في الذي ... أريد وأني فيه أشقى وأتعب هل اللؤلؤ المكنون والدر كله ... رأيت بغير الغوص في البحر يطلب وأصرف نفسي عن وجوه طباعها ... إذا في سواها صح ما أنا أرغب كما نسخ الله الشرائع قبلنا ... بما هو أدنى للصلاح وأقرب كما صار لون الماء لون إنائه ... وفي الأصل لون الماء أبيض معجب ومنها: أقمت ذوي ودي مقام طبائعي ... حياتي بها والموت منهن يرهب ومنها: وما أنا ممن تطبيه بشاشة ... ولا يقتضي ما في ضميري التجنب أزيد نفاراً عند ذلك باطناً ... وفي ظاهري أهل وسهل ومرحب فإني رأيت الحرب يعلو اشتعالها ... ومبدؤها في أول الأمر ملعب وللحية الرقشاء وشي ولونها ... عجيب وتحت الوشي سم مركب وإن فرند السيف اعجب منظراً ... وفيه إذا هز الحمام المذرب وأجعل ذل النفس عزة أهلها ... (1) إذا هي نالت ما لها فيه مرغب فقد يضع الإنسان في الترب وجهه ... ليأتي غداً وهو المصون المقرب فذل يسوق العز أجود للفتى ... من العز يتلوه من الذل مركب

_ (1) هذه هي قراءة برشيه؛ وفي سائر الطبعات: مذهب.

وكم مأكل أربت عواقب (1) غبه ... ورب طوى بالخصب آت ومعقب وما ذاق عز النفس من لا يذلها ... ولا التذ طعم الروح من ليس ينصب ورودك (2) نغب الماء من بعد ظمأة ... ألذ من العل المكين وأعذب ومنها: وفي كل مخلوق تراه تفاضل ... فرد طيباً إن لم يتح لك أطيب ولا ترض ورد الرنق إلا ضرورة ... إذا لم يكن في الأرض حاشاه مشرب ولا تقربن ملح المياه فإنها ... شجى والصدا بالحر أولى وأوجب ومنها: فخذ من جداها (3) ما تيسر واقتنع ... (4) ولا تك مشغولاً بمن هو يغلب فما لك شرط عندها لا ولا يد ... ولا هي إن حصلت أم ولا أب ومنها: ولا تيأسن مما ينال بحيلة ... وإن بعدت فالأمر ينأى ويصعب ولا تأمن الإظلام فالفجر طالع ... ولا تلتبس بالضوء فالشمس تغرب ومنها: ألح فإن الماء يكدح في الصفا ... إذا طال ما يأتي عليه ويذهب وكثر ولا تفشل وقلل كثير ما ... فعلت فماء المزن (5) جم وينضب فلو يتغذى المرء بالسم قاته ... وقام له منه غذاء مجرب 2 - ثم هجر يوجبه التدلل وهو ألذ من كثير الوصال، ولذلك لا يكون إلا عن ثقة كل واحد من المتحابين بصاحبه، واستحكام

_ (1) يريد برشيه أن يقرأها: غبة؛ وفي الطبعات الأخرى: غيه. (2) بتروف: يغلب؛ برشيه؛ بعض؛ وفي سائر الطبعات: نهل. (3) الصيرفي ومكي: جراها؛ ولا معنى له. (4) برشيه: يصلب. (5) يريد برشيه أن يقرأها: فما المرذ (وهي قراءة غريبة جداً) .

البصيرة في صحة عقده، فحينئذ يظهر المحبوب هجراناً ليرى صبر محبه، وذلك لئلا يصفو الدهر البتة، وليأسف المحب إن كان مفرط العشق عند ذلك لا لما حل، لكن مخافة أن يترقى إلى ما هو أجل فيكون ذلك الهجر سبباً إلى غيره، أو خوفاً من آفة حادث ملل. ولقد عرض لي في الصبا هجر مع بعض من كنت آلف، على هذه الصفة، وهو لا يلبث أن يضمحل ثم يعود؛ فلما كثر ذلك قلت على سبيل المزاح شعراً بديهياً ختمت كل بيت منه بقسيم (1) من أول قصيدة طرفة بن العبد المعلقة، وهي التي قرأناها مشروحة على أبي سعيد الفتى الجعفري عن أبي بكر المقرئ عن أبي جعفر النحاس (2) ، رحمهم الله، في المسجد الجامع بقرطبة، وهي: [من الطويل] تذكرت وداً للحبيب كأنه ... " لخولة أطلال ببرقة ثهمد " وعهدي بعهد كان لي منه ثابت ... " يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد " وقفت به لا موقناً برجوعه ... " ولا آيساً أبكي وأبكي إلى الغد " إلى أن أطال الناس عذلي وأكثروا ... " يقولون لا تهلك أسى وتجلد "

_ (1) في جميع الطبعات: يقسم. (2) هذا هو السند الذي نقلت به " المعلقات التسع " إلى الأندلسيين عن شارحها ابن النحاس؛ أخذها عنه أبو بكر محمد بن علي الأذفوي وعن الأذفوي أخذها أبو سعيد خلف مولى الحاجب جعفر، الفتى المقرئ المعروف بالجعفري؛ وهذا الفتى الجعفري سكن قرطبة، ثم رحل إلى المشرق فسمع بمكة، ولقي الأذفوي بمصر وأخذ عن علماء القيروان، وكان من أهل القرآن والعلم نبيلاً من أهل الفهم، مائلاً إلى الزهد والانقباض، خرج عن قرطبة في الفتنة وقصد طرطوشة وتوفي بها سنة 425 وقيل 429 (فهرسة ابن خير 366 - 369، وانظر ترجمته أيضاً في الصلة: 164) وأما أبو بكر الاذفوي (نسبة إلى أذفو - بالذال المعجمة، أو بالدال المهملة - بصعيد مصر) فقد كان نحوياً مفسراً مقرئاً ثقة، وكان يتجر بالخشب، وله كتاب التفسير في القرآن في مائة وعشرين مجلداً، وكانت وفاته بمصر سنة 388 (غاية النهاية 2: 198 وعبر الذهبي 3: 41) قلت: وفي تسمية ابن خير لها " المعلقات التسع " تجوز لان ابن النحاس أنكر التعليق جملة وسماها القصائد التسع.

كان فنون السخط ممن أحبه ... " خلايا سفين بالنواصف من دد " كأن انقلاب الهجر والوصل مركب ... " يجور به الملاح طوراً ويهتدي " فوقت رضى يتلوه وقت تسخط ... " كما قسم الترب المفايل باليد " ويبسم نحوي وهو غضبان معرض ... " مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد " 3 - ثم هجر يوجبه العتاب لذنب يقع من المحب، وهذا فيه بعض الشدة، لكن فرحة الرجعة وسرور الرضى يعدل ما مضى، فإن لرضى المحبوب بعد سخطه لذة في القلب لا تعدلها لذة، وموقعا (1) من الروح لا يفوقه شيء من أسباب الدنيا. وهل شاهد مشاهد أو رأت عين أو قام في فكر ألذ وأشهى من مقام قد قام عنه كل رقيب، وبعد عنه كل بغيض، وغاب عنه كل واش، واجتمع فيه محبان قد تصارما لذنب وقع من المحب منهما، وطال ذلك قليلاً، وبدأ بعض الهجر، ولم يكن ثم مانع من الإطالة للحديث، فابتدأ المحب في الاعتذار والخضوع والتذلل والادلاء (2) بحجته الواضحة (3) من الإدلال والإذلال والتذمم بما سلف، فطوراً يدل ببراءته، وطوراً يرد بالعفو (4) ويستدعي المغفرة ويقر بالذنب ولا ذنب له، والمحبوب في كل ذلك ناظر إلى الأرض يسارقه اللحظ الخفي، وربما أدامه فيه، ثم يبسم مخفياً لتبسمه، وذلك علامة الرضى، ثم ينجلي مجلسهما عن قبول العذر، وتقبل القول، وامتحت ذنوب النقل، وذهبت آثار السخط، ووقع الجواب بنعم وذنبك مغفور، لو كان، فكيف ولا ذنب؛ وختما أمرهما بالوصل الممكن وسقوط العتاب والإسعاد، وتفرقا على هذا - هذا مكان تتقاصر دونه الصفات وتتلكن بتحديده الألسنة.

_ (1) الصيرفي ومكي والبيروتية: وموقفاً؛ وهو غير دقيق. (2) هذه هي قراءة برشيه، وفي سائر الطبعات: والأدلة. (3) الواضحة: لم ترد إلا عند برشيه. (4) برشيه؛ يريد العفو.

ولقد وطئت بساط الخلفاء وشاهدت محاضر الملوك، فما رأيت هيبة تعدل هيبة محب لمحبوبه؛ ورأيت تمكن المتغلبين على الرؤساء وتحكم الوزراء، وانبساط مدبري الدول، فما رأيت أشد تبجحا ولا اعظم سروراً بما هو فيه من محب أيقن أن قلب محبوبه عنده ووثق بميله إليه وصحة مودته له؛ وحضرت مقام المعتذرين بين أيدي السلاطين، ومواقف المهتمين بعظيم الذنوب مع المتمردين الطاغين، فما رأيت أذل من موقف محب هيمان بين يدي محبوب غضبان قد غمره السخط وغلب عليه الجفاء. ولقد امتحنت الأمرين وكنت في الحالة الأولى أشد من الحديد وانفذ من السيف، لا أجيب إلى المدينة ولا أساعد على الخضوع، وفي الثانية أذل من الرداء، وألين من القطن، أبادر إلى أقصى غايات التذلل، وأغتنم فرصة الخضوع لو نجع، وأتحلل بلساني، وأغوص على دقائق المعاني ببياني، وأفتن القول فنوناً، وأتصدى لكل ما يوجب الترضي. والتجني بعض عوارض الهجران، وهو يقع في أول الحب وآخره، فهو في أوله علامة لصحة المحبة، وفي آخره علامة لفتورها وباب للسلو. خبر: وأذكر في مثل هذا أني كنت مجتازاً في بعض الأيام بقرطبة من مقبرة باب عامر في لمة من الطلاب وأصحاب الحديث، ونحن نريد مجلس الشيخ أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد المصري (1) بالرصافة (2) أستاذي رضي الله عنه، ومعنا أبو بكر عبد الرحمن

_ (1) أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أبي يزيد المصري: دخل الأندلس سنة 394 وكان أديباً حافظاً للحديث وأسماء الرجال والأخبار، وسكن قرطبة حتى وقعت الفتنة فعاد إلى مصر وتوفي سنة 410 (الصلة: 337) . (2) الرصافة: قرأها برشيه " الصواف " اعتماداً على أن هذه كانت صفة أبي القاسم المصري.

ابن سليمان البلوي (1) من أهل سبتة، وكان شاعراً مفلقاً. وهو ينشد لنفسه في صفة متجن معهود أبياتاً له، منها: [من الطويل] سريع إلى ظهر الطريق وإنه ... إلى نقض أسباب المودة أسرع يطول علينا أن نرقع وده ... إذا كان في ترقيعه يتقطع فوافق إنشاد البيت الأول من هذين البيتين خطور أبي [علي] الحسين بن علي الفاسي (2) رحمه الله تعالى وهو يؤم أيضاً مجلس ابن أبي يزيد، فسمعه فتبسم رحمه الله نحونا وطوانا ماشياً وهو يقول: بل إلى عقد المودة إن شاء الله، هذا على جد أبي [علي] الحسين رحمه الله وفضله وتقربه وبراءته ونسكه وزهده وعلمه، فقلت في ذلك: [من الكامل] دع عنك نقض مودتي متعمداً ... واعقد حبال وصالنا يا ظالم ولترجعن أردته أو لم ترد ... كرهاً لما قال الفقيه العالم ويقع فيه الهجر والعتاب؛ ولعمري إن فيه إذا كان قليلاً للذة، وأما إذا تفاقم فهو فأل غير محمود، وأمارة وبيئة المصدر، وعلامة سوء، وهي بجملة الأمر مطية الهجران، ورائد الصريمة، ونتيجة التجني، وعنوان الثقل، ورسول الانفصال، وداعية القلى، ومقدمة الصد، وإنما يستحسن إذا لطف وكان أصله الإشفاق؛ وفي ذلك أقول: [من الوافر] لعلك بعد عتبك أن تجودا ... بما منه عتبت وأن تزيدا

_ (1) عبد الرحمن بن سليمان البلوي أبو بكر كان أديباً شاعراً من أهل العلم (الجذوة: 254 والبغية رقم: 1014) . (2) الحسين بن علي الفاسي أبو علي، كان من أهل العلم والفضل مع العقيدة الخالصة والنية الجميلة، قضى عمره في طلب العلم، ومازحه ابن حزم يوماً قائلاً: متى تنقضي قراءتك على الشيخ (يعني عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي) فأجابه: إذا انقضى أجلي (انظر ترجمته في الجذوة: 181، والبغية رقم: 648 والصلة: 138 وسماه " الحسن ") .

فكم يوم رأينا فيه صحواً ... وأسمعنا بآخره الرعودا وعاد الصحو بعد كما علمنا ... وأنت كذاك نرجو أن تعودا وكان سبب قولي هذه الأبيات عتاب وقع في يوم هذه صفته من أيام الربيع فقلتها في ذلك الوقت. وكان لي في بعض الزمن صديقان وكانا أخوين فغابا في سفر ثم قدما، وقد أصابني رمداً فتأخرا عن عيادتي، فكتبت إليهما، والمخاطبة للأكبر منهما، شعراً منه: [من المتقارب] وكنت اعدد أيضاً على ... أخيك بمؤلمة السامع ولكن إذا الدجن غطى ذكاء ... فما الظن بالقمر الطالع 4 - ثم هجر يوجبه الوشاة، وقد تقدم القول فيهم وفيما يتولد من دبيب عقاربهم، وربما كان سبباً للمقاطعة البتة. 5 - ثم هجر الملل، والملل من الأخلاق المطبوعة في الإنسان، وأحرى لمن دهي به ألا يصفو له صديق، ولا يصح له إخاء، ولا يثبت على عهد، ولا يصبر على إلف ولا تطول مساعدته لمحب، ولا يعتقد منه ود ولا بغضة. وأولى الأمور بالناس ألا يقربوه منهم وإن يفروا عن صحبته ولقائه، فلن يحلو (1) منه بطائل، ولذلك أبعدنا هذه الصفة عن المحبين وجعلناها في المحبوبين، فهم بالجملة أهل التجني والتظني والتعرض للمقاطعة؛ وأما من تزيا باسم الحب وهو ملول فليس منهم، وحقه ألا يتجرع مذاقه (2) ، وينفى عن أهل هذه الصفة ولا يدخل في جملتهم. وما رأيت قط هذه الصفة أشد تغلباً منها على أبي عامر

_ (1) برشيه: يحظوا، والطبعات الأخرى: يظفروا، والصواب ما أثبته. (2) برشيه: أن يهجر مذاقه.

محمد بن [أبي] عامر رحمه الله، فلو وصف لي واصف بعض ما علمته منه لما صدقته. وأهل هذا الطبع أسرع الخلق محبة، وأقلهم صبراً على المحبوب وعلى المكروه، وبالضد؛ وانقلابهم عن الود علي قدر تسرعهم إليه؛ فلا تثق بملول ولا تشغل به نفسك، ولا تعنها (1) بالرجاء في وفائه. فغن دفعت إلى محبته ضرورة بعده ابن ساعته، واستأنفه كل حين من أحيانه بحسب ما تراه من تلونه، وقابله بما يشاكله. ولقد كان أبو عامر المحدث عنه يرى الجارية فلا يصبر عنها، ويحيق به من الاغتمام والهم ما يكاد أن يأتي عليه حتى يملكها، ولو حال دون ذلك شوك القتاد، فإذا أيقن بتصيرها إليه عادت المحبة نفاراً، وذلك الأنس شروداً والقلق إليها قلقاً منها، ونزاعه نحوها نزاعاً عنها، فيبيعها بأوكس الأثمان. هذا كان دأبه حتى أتلف فيما ذكرنا عشرات ألوف الدنانير عدداً عظيماً. وكان رحمه الله مع هذا من أهل الأدب والحذق والذكاء والنبل والحلاوة والتوقد، مع الشرف العظيم والمنصب الفخم والجاه العريض؛ وأما حسن وجهه وكمال صورته فشيء تقف الحدود عنه وتكل الأوهام عن وصف أقله ولا يتعاطى أحد وصفه. ولقد كانت الشوارع تخلو من السيارة ويتعمدون الخطور على باب داره في الشاعر الآخذ من النهر الصغير على باب دارنا في الجانب الشرقي بقرطبة إلى الدرب المتصل بقصر الزاهرة، وفي هذا الدرب كانت داره رحمه الله ملاصقة لنا، لا لشيء إلا للنظر منه. ولقد مات من محبته جواركن علقن أوهامهن به، ووفي (2) له فخانهن مما أملنه منه، فصرن رهائن البلى وقتلهن الوحدة. وأنا اعرف جارية منهن كانت تسمى عفراء، عهدي بها لا تتستر بمحبته حيثما جلست،

_ (1) برشيه: تعللها. (2) برشيه: وربين، وفي سائر الطبعات: ورئين.

ولا تجف دموعها، وكانت قد تصيرت من داره إلى البركات الخيال صاحب الفتيان (1) . ولقد كان رحمه الله يخبرني عن نفسه انه يمل اسمه فضلاً عن غير ذلك. وأما إخوانه فإنه تبدل بهم في عمره على قصره مراراً، وكان لا يثبت على زي واحد كأبي براقش (2) ، حيناً يكون في ملابس الملوك وحيناً في ملابس الفتاك. فيجب على من امتحن بمخالطة من هذه صفته على أي وجه كان ألا يستفرغ عامة جهده في محبته، وأن يقيم اليأس من دوامه حصناً (3) لنفسه، فإذا لاحت له مخايل الملل قاطعه أياماً حتى ينشط باله، ويبعد به عنه، ثم يعاوده، فربما دامت المودة مع هذا؛ وفي ذلك أقول: [من المجتث] لا ترجون ملولاً ... ليس الملول بعده ود الملول فدعه ... عارية مسترده 6 - ومن الهجر ضرب يكون متوليه المحب، وذلك عندما يرى من جفاء محبوبه والميل عنه إلى غيره، أو لثقيل يلازمه؛ فيرى الموت وتجرع غصص الأسى، والعض على نقيف الحنظل أهون من رؤية ما يكره، فينقطع وكبده تتقطع؛ وفي ذلك أقول: [من السريع]

_ (1) يريد بروفنسال أن يقرأ: إلى أبي البركات الخيالي صاحب البنيان، ذلك لأنه يرى انه لم تكن هناك خطة تسمى " صاحب الفتيان " ويكون الخيالي نسبة إلى " خيال " زوج الحاجب عبد الملك المظفر (انظر الأندلس: 352 وترجمة غومس: 200 الحاشية؛ ومكي: 105) . (2) أبو براقش - فيما قيل - طائر منقش بألوان النقوش يتلون في اليوم ألواناً ويضرب به المثل للمتلون (ثمار القلوب: 247) ويبدو أن هذا هو مفهوم المشارقة فقد جاء في (Vocabulista) أنه يقابل (Stellio، drago) وأنه يرادف " حرباء " (انظره ص: 591 ونبه إليه بروفنسال في الأندلس: 353) . (3) بتروف والصيرفي ومكي: خصماً.

هجرت من أهواه لا عن قلى ... يا عجباً للعاشق الهاجر لكن عيني لم تطق نظرة ... إلى محيا الرشأ الغادر فالموت أحلى مطعماً (1) من هوى ... يباح للوارد والصادر وفي الفؤاد النار مذكية ... فاعجب لصب جزع صابر وقد أباح الله في دينه ... تقية المأسور للآسر وقد احل الكفر خوف الردى ... حتى ترى المؤمن كالكافر خبر: ومن عجيب ما يكون فيها وشنيعه أني أعرف من هام قلبه بمنتاء عنه نافر منه، فقاسى الوج زمناً طويلاً، ثم سنحت له الأيام بسانحة عجيبة من الوصل أشرف منها على بلوغ أمله، فحين لم يكن بينه وبين غاية رجائه إلا ك " لا " و " لا " (2) عاد الهجر والبعد إلى أكثر مما كان قبل، فقلت في ذلك: [من السريع] . كانت إلى دهري لي حاجة ... مقرونة في البعد بالمشتري فساقها باللطف حتى إذا ... كانت من القرب على محجري (3) أبعدها عني فعادت كان ... لم تبد للعين ولم تظهر وقلت: [من الطويل] دنا أملي حتى مددت لأخذه ... يداً فانثنى نحو المجرة راحلا فأصبحت لا أرجو وقد كنت موقناً ... وأضحى مع الشعرى وقد كان حاصلا وقد كنت محسوداً فأصبحت حاسداً ... وقد كنت مأمولاً فأصبحت آملاً كذا الدهر في كراته وانتقاله ... فلا يأمنن الدهر من كان عاقلا

_ (1) قرئت مطمعاً في بعض الطبعات، ومن حسن الظن أن يقال إنها خطأ مطبعي. (2) إلا ك " لا " و " لا " دلالة على قصر الزمن، وهو تعبير مشهور، ورغم ذلك فقد أثبتت اللفظة في بعض الطبعات " كهؤلاء ". (3) المحجر: العظم المحيط بالعين، أي قريبة جداً.

7 - ثم هجر القلى، وهنا ضلت الأساطين (1) ونفدت الحيل وعظم البلاء، وهو الذي خلى العقول ذواهل، فمن دهي بهذه الداهية فليتصد لمحبوب محبوبه، وليتعمد ما يعرف أنه يستحسنه. ويجب أن يجتنب ما يدري أنه يكرهه، فربما عطفه ذلك عليه إن كان المحبوب ممن يدري قدر الموافقة والرغبة فيه، وأما من لم يعلم قدر هذا فلا طمع في استصرافه، بل حسناتك عنده ذنوب. فغن لم يقدر المرء على استصرافه فليتعمد السلوان وليحاسب نفسه بما هو فيه من البلاء والحرمان، وليسع في نيل رغبته على أي وجه أمكنه. ولقد رأيت من هذه صفته، وفي ذلك أقول قطعة أولها: [من الطويل] دهيت بمن لو أدفع الموت دونه ... لقال إذاً يا ليتني في المقابر ومنها: ولا ذنب لي إذ صرت أحدو ركائبي ... إلى الورد والدنيا تسيء مصادري وماذا على الشمس المنيرة بالضحى ... إذا قصرت عنها ضعاف البصائر وأقول: [من مخلع البسيط] ما أقبح الهجر بعد وصل ... وأحسن الوصل بعد هجر كالوفر تحويه بعد فقر ... والفقر يأتيك بعد وفر وأقول: [من السريع] معهود أخلاقك قسمان ... والدهر فيك اليوم صنفان

_ (1) بتروف ومكي والصيرفي: الأساطير؛ ولعل معناها: ضلت الأقاويل؛ أما الأشاطر عند برشيه فلا أدري لها توجيهاً، وكأنه فهمها بمعنى " الحذاق " أو " الشطار، فكذلك تنبئ ترجمته.

فإنك النعمان فيما مضى ... وكان للنعمان يومان يوم نعيم فيه سعد الورى ... ويوم بأساء وعدوان فيوم نعماك لغيري ويو ... مي منك ذو بؤس وهجران أليس حبي لك مستأهلا ... لأن تجازيه بإحسان وأقول قطعة منها: [من الكامل] يا من جميع الحسن منتظم ... فيه كنظم الدر في العقد ما بال حتفي منك يطرقني ... قصداً ووجهك (1) طالع السعد وأقول قصيدة أولها: [من الطويل] أساعة (2) توديعك أم ساعة الحشر ... وليلة بيني منك أم ليلة النشر وهجرك تعذيب الموحد ينقضي ... ويرجو (3) التلاقي أم عذاب ذوي الكفر ومنها: سقى الله أياماً مضت وليالياً ... تحاكي لنا النيلوفر الغض في النشر فأوراقه الأيام حسناً وبهجة ... وأوسطه الليل المقصر للعمر لهونا بها في غمرة وتآلف ... تمر فلا ندري وتأتي فلا ندري فأعقبنا منه زمان كأنه ... ولا شك حسن العقد أعقب بالغدر ومنها: فلا تيأسي يا نفس عل زماننا ... (4) يعود بوجه مقبل غير مزور كما صرف الرحمن ملك أمية ... إليهم، ولوذي بالتجمل والصبر

_ (1) برشيه: ووجهي. (2) بعض الطبعات: توديعك، ولا يستقيم بها الوزن. (3) برشيه: ويرجى، وهي قراءة جيدة. (4) جميع الطبعات؛ مدبر؛ وهذا لا يجوز في حكم التقفية، وابن حزم لا يمكن أن يجهل ذلك.

وفي هذه القصيدة أمدح أبا بكر هشام بن محمد (1) أخا أمير المؤمنين عبد الرحمن المرتضى (2) رحمه الله، فأقول: أليس يحيط الروح فينا بكل ما ... دنا وتناءى وهو في حجب الصدر كذا الدهر جسم وهو في الدهر روحه ... محيط بما فيه وإن شئت فاستقر ومنها: إتاوتهم (3) تهدى إليه، ومنة ... تقبلها منهم تقاوم بالشكر كذا كل نهر في البلاد وإن طمت ... غزارته ينصب في لجج البحر

_ (1) هشام بن محمد: لما قطع اهل قرطبة دعوة بني حمود سنة 417هـ أجمع رأيهم على رد الخلافة إلى الأمويين، فاتفقوا على تقديم هشام بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر فبايعوه سنة 418 وتلقب المعتد بالله، فدخل قرطبة 420 ولم يبق إلا يسيرا حتى قامت عليه فرقة من الجند، فخلع، وانقطعت الدولة الأموية واستولى على أمر قرطبة أبو الحزم ابن جهور (الجذوة: 26 - 27) والبيان المغرب 3: 145 - 148) . (2) المرتضى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن الناصر قام سنة 407 بشرق الأندلس والتف حوله الموالي العامريون وغيرهم وزحفوا إلى قرطبة وأميرها القاسم بن حمود، وفي الطريق حاولوا الاستيلاء على غرناطة، وفيها زاوي بن زيري، فانهزم اتباع المرتضى وقتل هو (البيان المغرب: 3، 121، 125، 126) . (3) في معظم الطبعات: إتاوتها.

باب الوفاء

- 22 - باب الوفاء ومن حميد الغرائز وكريم الشيم وفاضل الأخلاق في الحب وغيره الوفاء؛ وإنه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات. وفي ذلك أقول قطعة منها: وهو [من البسيط] . أفعال كل امرئ تنبي بعنصره ... والعين تغنيك عن أن تطلب الأثرا ومنها: وهل ترى قط دفلى أنبتت عنباً ... أو تذخر النحل في أوكارها الصبرا 1 - وأول مراتب الوفاء أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب على المحب والمحبوب، لا يحول عنه إلا خبيث المحتد لا خلاق له ولا خير عنده. ولولا أن رسالتنا هذه لم نقصد بها الكلام في أخلاق الإنسان (1) وصفاته المطبوعة والمتطبع بها، وما يزيد من المطبوع بالتطبع وما يضمحل من التطبع بعدم الطبع، لزدت في هذا المكان ما يجب أن يوضع في مثله، ولكنا إنما قصدنا التكلم فيما رغبته من أمر الحب فقط، وهذا أمر كان يطول جداً إذ الكلام فيه يتفنن كثيراً.

_ (1) بتروف: النساء.

خبر: ومن أرفع (1) ما شاهدته من الوفاء في هذا المعنى وأهوله شأناً قصة رأيتها عياناً، وهو أني أعرف من رضي بقطيعة محبوبه وأعز الناس عليه، ومن كان الموت عنده أحلى من هجر ساعة في جنب طيه لسر أودعه، والتزم محبوبه يميناً غليظة ألا يكلمه أبداً ولا يكون بينهما خبر أو يفضح إليه ذلك السر؛ على ان صاحب ذلك السر كان غائباً فأبى من ذلك وتمادى هو على كتمانه والثاني على هجرانه إلى أن فرقت بينهما الأيام. 2 - ثم مرتبة ثانية وهو الوفاء لمن غدر، وهي للمحب دون المحبوب، وليس للمحبوب ها هنا طريق ولا يلزمه ذلك، وهي خطة لا يطيقها إلا جلد قوي واسع الصدر حر النفس عظيم الحلم جليل الصبر حصيف العقدة (2) ماجد الخلق سالم النية. ومن قابل الغدر بمثله فليس بمستأهل للملامة، ولكن الحال التي قدمنا تفوقها جداً وتفوتها بعداً. وغاية الوفاء في هذه الحال ترك مكافأة الأذى بمثله، والكف عن سيء المعارضة بالفعل والقول، والتأني في جذ (3) حبل الصحبة ما أمكن ورجيت الألفة وطمع في الرجعة ولاحت للعودة أدنى مخيلة وشيمت منها أقل بارقة، أو توجس منها أيسر علامة. فإذا وقع اليأس واستحكم الغيظ فحينئذ [لذ] بالسلامة ممن غرك، والأمن ممن ضرك، والنجاة ممن آذاك (4) ، وأن يكون ذكر ما سلف مانعاً من شفاء الغيظ فيما وقع، فرعي الأذمة (5) حق وكيد على أهل العقول، والحنين

_ (1) برشيه: أشنع. (2) برشيه والصريفي ومكي: العقل. (3) بعض الطبعات: جر. (4) بتروف: حينئذ والسلامة من غرك والأمن من ضرك والنجاة من اذاك؛ وتابعه على ذلك الصيرفي ومكي؛ والنص مضطرب، والتصويب عن برشيه. (5) برشيه: الذمة.

إلى ما مضى وألا ينسى ما قد فرغ منه وفنيت مدته أثبت الدلائل على صحة الوفاء. وهذه الصفة حسنة جداً وواجب استعمالها في كل وجه من وجوه معاملات الناس فيما بينهم على أي حال كانت. خبر: ولعهدي برجل من صفوة إخواني قد علق بجارية فتأكد الود بينهما، ثم غدرت بعهده ونقضت وده وشاع خبرهما، فوجد لذلك وجداً شديداً. خبر: وكان لي مرة صديق ففسدت نيته بعد وكيد مودة لا يكفر (1) بمثلها، وكان علم كل واحد منا سر صاحبه وسقطت المؤنة، فلما تغير علي أفشى كل ما اطلع لي عليه مما كنت اطلعت منه على أضعافه، ثم اتصل به أن قوله في قد بلغني، فجزع لذلك وخشي أن أقارضه على قبيح فعلته؛ وبلغني ذلك فكتبت إليه شعراً أونسه فيه وأعلمه أني لا أقارضه. خبر: ومما يدخل في هذا الدرج، وإن كان ليس منه، ولا هذا الفصل المتقدم من جنس الرسالة والباب، ولكنه شبيه له على ما قد ذكرنا وشرطنا، وذلك أن محمد بن وليد بن مكسير الكاتب كان متصلا بي ومنقطعاً إلي أيام وزارة أبي رحمة الله عليه، فلما وقع بقرطبة ما وقع وتغيرت الأحوال خرج إلى بعض النواحي فاتصل بصاحبها فعرض جاهه وحدثت له وجاهة وحال حسنة. فحللت أنا تلك الناحية في بعض رحلتي فلم يوفني حقي بل ثقل عليه مكاني وأساء معاملتي وصحبتي، وكلفته في خلال ذلك حاجة لم يقم فيها ولا قعد، واشتغل

_ (1) برشيه: يفكر.

عنها بما ليس في مثله شغل، فكتبت إليه شعراً أعاتبه فيه، فجاوبني مستعتباً على ذلك، فما كلفته حاجة بعدها. ومما لي في هذا المعنى وليس من جنس الباب ولكنه يشبهه أبيات قلتها، منها: [من البسيط] . وليس يحمد كتمان لمكتتم ... لكن كتمك ما أفشاه مفشيه كالجود بالوفر أسنى ما يكون إذا ... قل الوجود له أو ضن معطيه 3 - ثم مرتبة ثالثة وهي الوفاء مع اليأس البات وبعد حلول المنايا وفجاءات المنون، وإن الوفاء في هذه الحالة لأجل وأحسن منه في الحياة ومع رجاء اللقاء. خبر: ولقد حدثتني امرأة أثق بها أنها رأت في دار محمد بن وهب المعروف بابن الركيزة (1) من ولد بدر (2) ، الداخل مع الإمام عبد الرحمن بن معاوية رضي الله عنه، جارية رائعة جميلة كان لها مولى فجاءته المنية فبيعت في تركته، فأبت أن ترضى بالرجال بعده، وما جعلها رجل إلى أن لقيت الله عز وجل؛ وكانت تحسن الغناء فأنكرت علمها به، ورضيت بالخدمة والخروج عن جملة المتخذات للنسل واللذة والحال الحسنة وفاء منها لمن دثر ووارته الأرض والتأمت عليه الصفائح، ولقد رامها سيدها المذكور أن يضمها إلى فراشه مع سائر جواريه ويخرجها مما هي فيه فأبت، فضربها غير مرة وأوقع بها الادب، فصبرت على ذلك كله، فأقامت على امتناعها؛ وإن هذا من الوفاء غريب جداً. واعلم أن الوفاء على المحب أوجب منه على المحبوب وشرطه له

_ (1) برشيه: بأبي ركيزة؛ ولا أدرس على أي شيء اعتمد في هذا التغيير. (2) أخبار بدر مولى عبد الرحمن الداخل وجهوده في خدمته لاقامة الدولة في الاندلس، تراجع في نفح الطيب 3: 27 - 31.

ألزم، لان المحب هو البادي باللصوق والتعرض لعقد الأذمة، والقاصد لتأكيد المودة والمستدعي صحة العشرة، والأول في عداد طالبي الأصفياء (1) ، والسابق في ابتغاء اللذة باكتساب الخلة، والمقيد نفسه بزمام المحبة - قد عقلها بأوثق عقال وخطمها بأشد خطام، فمن قمبره على هذا كله إن لم يرد إتمامه ومن أجبره على استجلاب المقة إن لم ينو ختمها بالوفاء لمن أراده عليها والمحبوب إنما هو مجلوب إليه ومقصود نحوه ومخير في القبول أو الترك، فإن قبل فغاية الرجاء، وإن أبى فغير مستحق للذم. وليس التعرض للوصل والإلحاح فيه والتأتي لكل ما يسجلب به من الموافقة وتصفية الحضرة والمغيب، من الوفاء في شيء، فحظ نفسه أراد الطالب، وفي سروره سعى وله احتطب، والحب يدعوه ويحدوه على ذلك شاء أو أبى، وإنما يحمد الوفاء ممن يقدر على تركه. وللوفاء شروط على المحبين لازمة: فأولها أن يحفظ عهد محبوبه ويرعى غيبته، وتستوي (2) علانيته وسريرته، ويطوي شره وينشر خيره، ويغطي على عيوبه ويحسن أفعاله، ويتغافل عما يقع منه على سبيل الهفوة ويرضى بما حمله ولا يكثر عليه بما ينفر منه، وألا يكون طلعة دبوباً ولا ملة طرفا (3) . وعلى المحبوب إن ساواه في المحبة مثل ذلك، وإن كان دونه فيها فليس للمحب أن يكلفه الصعود إلى مرتبته ولا له الاستشاطة عليه بان يسومه الاستواء معه في درجته. وبحسبه منه حينئذ كتمان خبره وألا يقابله بما يكره ولا يخيفه

_ (1) بتروف: طالب الأصفياء. (2) برشيه: ويستر. (3) بتروف: طلعة ثؤوباً ولا ملة طروقاً؛ وتابعه على ذلك الصيرفي ومكي والطبعة البيروتية؛ وليس " ثؤوباً " أو " طروقاً " مما يفيد معنى؛ وعلى حسب توجيهي للقراءة، فالطلعة هو الشديد التبحث عن حال الآخرين، والدبوب النمام، والملة السريع الملال ومثله الطرف كذلك؛ وقرأ برشيه: وألا يكون طله شؤبوباً وظله غروباً، وفي هذا تعسف واضح.

به، وإن كانت الثالثة - وهي السلامة مما يلقى بالجملة - فليقنع بما وجد، وليأخذ من الأمر ما استدف (1) ولا يطلب شرطاً ولا يقترح عقداً (2) ، وإنما له ما سنح بجده أو ما حان بكده. واعلم أنه لا يستبين قبح الفعل لأهله، ولذلك يتضاعف قبحه عند من ليس من ذويه، ولا أقول قولى هذا ممتدحاً ولكن آخذاً بأدب الله عز وجل {وأما بنعمة ربك فحدث} (الضحى: 11) : لقد منحني الله عز وجل من الوفاء لكل من يمت إلى بلقية واحدة، ووهبني من المحافظة لمن يتذمم مني ولو بمحادثته ساعة حظاً أنا له شاكر وحامد، ومنه مستمد ومستزيد، وما شيء أثقل علي من الغدر؛ ولعمري ما سمحت نفسي قط في الفكرة في إضرار من بيني وبينه أقل ذمام، وإن عظمت جريريته وكثرت إلي ذنوبه، ولقد دهمني من هذا غير قليل فما جزيت على السوءى إلا بالحسنى، والحمد لله على ذلك كثيراً. وبالوفاء أفتخر في كلمة طويلة ذكرت فيها ما مضنا من النكبات، ودهمنا من الحل والترحال والتجول في الآفاق، أولها (3) : [من البسيط] . ولي فولى جميل الصبر يتبعه ... وصرح الدمع ما تخفيه أضلعه جسم ملول وقلب آلف فإذا ... حل الفراق عليه فهو موجعه لم يستقر به دار ولا وطن ... ولا تدفأ منه قط مضجعه

_ (1) دف الأمر واستدف: تهيأ وامكن، ومثله: استطف، يقال خذ ما استدف لك أو خذ ما طف لك وأطف واستطف أي ما دنا وأمكن. (2) بتروف: حقداً؛ وصوبت في بعض الطبعات: حقاً؛ وما هنا أقرب إلى رسم الكلمة في الأصل. يبدو أن ابن حزم كان معجباً (3) يبدو أن ابن حزم كان معجباً بقصيدة ابن زريق البغدادي، فهو يعارضها هنا، كما عارضها بقصيدة أخرى أثبتها في كتابي: تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة (ط. ثانية) : 385 - 387.

كأنما صيغ من رهو السحاب فما ... تزال ريح إلى الآفاق تدفعه كأنما هو توحيد تضيق به ... نفس الكفور فتأبى حين تودعه أو كوكب قاطع في الأفق منتقل ... فالسير يغربه حيناً ويطلعه أظنه لو جزته أو تساعده ... (1) ألقت عليه انهمال الدمع يتبعه وبالوفاء أيضاً أفتخر في قصيدة لي طويلة أوردتها، وإن كان أكثرها ليس من جنس الكتاب، فكان سبب قولي لي أن قوماً من مخالفي شرقوا بي فأساءوا العتب في وجهي وقذفوني بأني أعضد الباطل بحجتي، عجزاً منهم عن مقاومة ما أوردته من نصر الحق وأهله، وحسداً لي، فقلت وخاطبت بقصيدتي بعض إخواني وكان ذا فهم، منها: [من الطويل] . وخذني عصا موسى وهات جميعهم ... ولو أنهم حيات ضال نضانض ومنها: يذيعون في عيبي عجائب جمة ... وقد يتمنى (2) الليث والليث رابض ومنها: ويرجون ما لا يبلغون كمثل ما ... يرجى محالاً في الإمام الروافض ومنها: ولو جلدي في كل قلب ومهجة ... لما أثرت فيها العيون المرائض أبت عن دني الوصف ضربة لازب ... كما أبت الفعل الحروف الخوافض

_ (1) هذا البيت غريب الصلة بما قبله؛ وأظنه مضطرباً في تركيبه (أعني ان الشطر الأول قد جمع إلى شطر من بيت آخر) . (2) قرأها برشيه: وقد يستهان.

ومنها: ورأيي له في كل ما غاب مسلك ... كما تسلك الجسم العروق النوابض يبين مدب النمل في غير مشكل ... (1) ويستر عنهم للفيول المرابض

_ (1) يريد أن نفاذ رأيه وبصيرته يمكنه من رؤية مدب النمل في سهولة ويسر، أما خصومه الأغبياء فإنهم يعجزون عن رؤية الفيول في مرابضها على ضخامة حجمها.

باب الغدر

- 23 - باب الغدر وكما أن الوفاء من سري النعوت ونبيل الصفات، فكذلك الغدر من ذميمها ومكروهها، وإنما يسمى غدراً من البادئ به، وأما المقارض بالغدر على مثله - وإن استوى معه في حقيقة الفعل - فلييس بغدر ولا هو معيباً بذلك، والله عز وجل يقول: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40) وقد علمنا أن الثانية ليست بسيئة، ولكن لما جانست الأولى في الشبه أوقع عليها مثل اسمها، وسيأتي هذا مفسراً في باب السلو إن شاء الله. ولكثرة وجود الغدر في المحبوب استغرب الوفاء منه، فصار قليله الواقع منهم يقاوم الكثير الموجود في سواهم. وفي ذلك أقول: [من الوافر] . قليل وفاء من يهوى يجل ... وعظم وفاء من يهوى يقل فنادرة الجبان أجل مما ... يجيء به الشجاع المستقل ومن قبيح الغدر أن يكون للمحب سفير إلى محبوبه يستريح إليه بأسراره فيسعى حتى يقلبه إلى نفسه ويستأثر به دونه؛ وفيه أقول: [من الطويل] . أقمت سفيراً قاصداً في مطالبي ... وثقت به جهلاً فضرب بيننا وحل عرى ودي وأثبت وده ... وأبعد عني كل ما كان ممكنا

فصرت شهيداً بعدما كنت مشهدا ... وأصبح (1) ضيفاً بعدما كان ضيفنا خبر: ولقد حدثني القاضي يونس بن عبد الله (2) قال: أذكر في الصبا جارية في بعض السدد يهواها فتى من أهل الأدب من أبناء الملوك وتهواه ويتراسلان، وكان السفير بينهما والرسول بكتبهما فتى من أترابه كان يصل إليها، فلما عرضت الجارية للبيع أراد الذي كان يحبها ابتياعها، فبدر الذي كان رسولاً فاشتراها. فدخل عليها يوماً فوجدها قد فتحت درجاً لها تطلب فيه بعض حوائجها، فأتى إليها وجعل يفتش الدرج، فخرج إليه كتاب من ذلك الفتى الذي كان يهواها مضمخاً بالغالية مصوناً مكرماً، فغضب وقال: من أين هذا يا فاسقه قالت: أنت سقته إلي، فقال: لعله محدث بعد ذلك الحين، فقالت: ما هو إلا من قديم تلك التي تعرف؛ قال: فكأنما ألقمته حجراً، فسقط في يده وسكت.

_ (1) في جميع الطبعات: وأصبحت؛ والمعنى يأباها؛ هو يقول بعد ما تغير السفير فأحب من كنت احب، أصبحت أنا شهيداً على ما يصنع بعدما كنت مشهداً له؛ أما هو فانتقلت حاله فبعدما كان ضيفناً (أي ضيف ضيف) اعتلت به الحال فأصبح ضيفاً. (قلت: والضيفن مذموم لأنه قريب الشبه من الطفيلي) . (2) يونس بن عبد الله بن مغيث أبو الوليد المعروف بابن الصفار: كان قاضي الجماعة بقرطبة، ومن أعيان أهل العلم يميل إلى الزهد وله فيه مصنفات وأشعار وعنه يروي ابن حزم وابن عبد البر وأبو الوليد الباجي، توفي سنة 429 (انظر ترجمة له مطولة نسبياً في الصلة: 646 وراجع الجذوة: 362 والبغية رقم: 1498 وترتيب المدارك 4: 739) .

باب البين

- 24 - باب البين وقد علمنا أنه لابد لكل مجتمع من افتراق، ولكل دان من تناء، وتلك عادة الله في العباد والبلاد حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وما شيء من دواهي الدنيا يعدل الافتراق، ولو سالت الأرواح به فضلاً عن الدموع كان قليلا. وسمع بعض الحكماء قائلاً يقول: الفراق أخو الموت، فقال: بل الموت أخو الفراق (1) . والبين ينقسم أقساماً: 1 - فأولها مدة يوقن بانصرامها وبالعودة عن قريب، وإنه لشجى في القلب، وغصة في الحلق لا تبرأ إلا بالرجعة. وأنا أعلم من كان يغيب من يحب عن بصره يوماً واحداً فيعتريه من الهلع والجزع وشغل البال وترادف الكرب ما يكاد يأتي عليه. 2 - ثم بين منع من اللقاء وتحظير على المحبوب من أن يراه محبه، فهذا - ولو كان من تحبه معك في دار واحدة - فهو بين، لأنه

_ (1) ذكر ابن داود عن الجاحظ قوله: " لكل شيء رفيق ورفيق الموت الهجر " وعلق عليه بقوله: " وليس الأمر كما قال، بل لكل شيء رفيق، ورفيق الهجر الموت " (الزهرة 1: 137) وانظر المقدمة.

بائن عنك، وإن هذا ليولد من الحزن والأسف غير قليل، ولقد جربناه فكان مراً، وفي ذلك أقول: [من الطويل] . أرى دارها في كل حين وساعة ... ولكن من في الدار عني مغيب وهل نافعي قرب الديار وأهلها ... على وصلهم مني رقيب مرقب فيا لك جار الجنب أسمع حسه ... وأعلم أن الصين أدنى وأقرب كصاد يرى ماء الطوي بعينه ... وليس إليه من سبيل يسبب كذلك من في اللحد عنك مغيب ... وما دونه إلا الصفيح المنصب وأقول من قصيدة مطولة: [من الطويل] . متى تشتفي نفس أضر بها الوجد ... وتصقب دار قد طوى أهلها البعد وعهدي بهند وهي جارة بيتنا ... وأقرب من هند لطالبها الهند بلى إن في قرب الديار لراحة ... كما يمسك (1) الظمآن أن يدنو الورد 3 - ثم بين يتعمده المحب بعداً عن قول الوشاة، وخوفاً أن يكون بقاؤه سبباً إلى منع اللقاء، وذريعة إلى أن يفشو الكلام فيقع الحجاب الغليظ. 4 - ثم بين يولده المحب لبعض ما يدعوه إلى ذلك من آفات الزمان، وعذره مقبول او مطرخ على قدر الحافز له إلى الرحيل. خبر: ولعهدي بصديق لي داره المرية، فعنت له حوائج إلى شاطبة فقصدها، وكان نازلاً بها في منزلي مدة إقامته بها، وكان له بالمرية علاقة هي أكبر همه وأدهى غمه، وكان يؤمل تبتيته وفراغ أسبابه وأن يوشك الرجعة ويسرع الأوبة، فلم يكن إلا حين لطيف بعد احتلاله

_ (1) برشيه: مسك.

عندي حتى جيش الموفق أبو الجيش مجاهد صاحب الجزائر (1) الجيوش وقرب العساكر ونابذ خيران صاحب المرية (2) وعزم على استئصاله، فانقطعت الطرق بسبب هذه الحرب، وتحوميت السبل واحترس البحر بالأساطيل، فتضاعف كربه إذ لم يجد إلى الانصراف سبيلاً البتة، وكاد يطفأ أسفاً، وصار لا يأنس بغير الوحدة، ولا يلجأ إلا إلى الزفير والوجوم، ولعمري لقد كان ممن لم أقدر قط فيه أن قلبه يذعن للود، ولا شراسة طبعه تحبب إلى الهوى. وأذكر أني دخلت قرطبة بعد رحيلي عنها ثم خرجت منصرفاً عنها فضمني الطريق مع رجل من الكتاب قد رحل لأمر مهم وتخلف سكن له (3) ، فكان يرتمض لذلك. وإني لأعلم من علق بهوى له وكان في حال شظف، وكانت له في الأرض مذاهب واسعة ومناديح رحبة ووجوه متصرف كثيرة، فهان عليه ذلك وآثر الإقامة مع من يحب؛ وفي ذلك أقول شعراً منه: [من الكامل] . لك في البلاد منادح معلومة ... والسيف غفل أو يبين قرابه

_ (1) استولى أبو الجيش مجاهد العامري على دانية والجزائر من سنة 400 - 436؛ انظر أخباره في البيان المغرب 3: 155 وتاريخ ابن خلدون 4: 164 وأعمال الاعلام: 250 والمغرب 2: 401 وللمستشرقة الايطالية كليليا سارنللي دراسة عنه (القاهرة: 1961) ، (والجزائر هي ميورقة ومنرقة ويابسة) . (2) كان خيران أيضاً من موالي العامريين الذين استقلوا لدى انهيار الدولة الاموية، وكان مركزه المرية، إلا أنه قام بدعوة المرتضى الاموي، ثم تخلص منه، وتوفي سنة 418 (أو 419) . انظر أعمال الاعلام: 242 والبيان المغرب والذخيرة (القسم الأول) والمغرب 2: 193؛ هذا وقد تمت المنابذة بين خيران ومجاهد العامريين سنة 417. (3) برشيه: وخلف سكناً.

5 - ثم بين رحيل وتباعد ديار، ولا يكون من الأوبة فيه على يقين خبر، ولا يحدث تلاق، وهو الخطب الموجع، والعم المفظع، والحادث الأشنع، والدواء الدوي. وأكثر ما يكون الهلع فيه إذا كان النائي هو المحبوب؛ وهو الذي قالت فيه الشعراء كثيراً؛ وفي ذلك أقول قصيدة منها (1) : [من الطويل] . وبي (2) علة أعيا الطبيب علاجها ... ستوردني لا شك منهل مصرعي رضيت بان أضحى قتيل وداده ... كجارع سم في رحيق مشعشع فما لليالي ما أقل حياءها ... وأولعها بالنفس من كل مولع كأن زماني عبشمي يخالني ... أعنت على عثمان أهل التشيع وأقول من قصيدة: [من الطويل] . أظنك تمثال الجنان أباحه ... لمجتهد النساك من أوليائه وأقول من قصيدة: [من الطويل] . لأبرد باللقيا غليلا من الهوى ... توقد (3) نيران الغضا هيمانه وأقول شعراً منه: [من الطويل] . خفيت عن الأبصار والوجد ظاهر ... فاعجب بأعراض تبين ولا شخص غدا الفلك الدوار حلقة خاتم ... محيط بما فيه وأنت له فص وأقول من قصيدة: [من الطويل] . غنيت عن التشبيه حسناً وبهجة ... كما غنيت شمس السماء عن الحلي

_ (1) بتروف: ومواطن الموافقة؛ واضطرب النص كثيراً بحسب هذه القراءة، فقد جعله مكي: والاشارة بالعين والتبسم ومواطن الموافقة (2) أغلب الأشعار التالية لا تنطبق على مفهوم الفقرة السابقة، وهو بين الرحيل وتباعد الديار ولا نظن ابن حزم يستغل هنا قلة تدقيق القارئ فيورد شعراً كيفما اتفق، وإنما هذا في الأرجح عمل الناسخ اذ يحذف الابيات اختصاراً. (3) بعض الطبعات: وذذي، وهو خطأ.

عجبت لنفسي بعده كيف لم تمت ... وهجرانه دفني وفقدانه نعيي وللجسد الغض المنعم كيف لم ... تذبه يد خشناء [تقوى على] البري وغن للأوبة من البين الذي تشفق منه النفس لطول مسافته وتكاد تيأس من العودة فيه، لروعة تبلغ ما لا حد وراءه، وربما قتلت؛ وفي ذلك أقول: [من الخفيف] . للتلاقي بعد الفراق سرور كسرور المفيق حانت وفاته فرحة تبهج النفوس وتحيي ... من دنا منه بالفراق مماته ربما قد تكون داهية المو ... ت وتودي بأهله هجماته كم رأينا من عب في الماء عطشا ... ن فزار الحمام وهو حياته وإني لأعلم من نأت دار محبوبه زمناً ثم تيسرت له اوبة، فلم يكن إلا بقدر التسليم واستيفائه حتى دعته نوى ثانية، فكاد ان يهلك؛ وفي ذلك أقول: [من الطويل] . أطلت زمان البعد حتى إذا انقضى ... زمان النوى بالقرب عدت إلى البعد فلم يك إلا كرة الطرف قربكم ... وعاودكم بعدي وعاودني وجدي كذا حائر في الليل ضاقت وجوهه ... رأى البرق في داج من الليل مسود فأخلفه منه رجاء دوامه ... وبعض الأراجي لا تفيد ولا تجدي وفي الأوبة بعد الفراق أقول قطعة منها: [من الطويل] . لقد قرت العينان بالقرب منكم ... كما سخنت أيام يطويكم البعد فلله فيما مضى الصبر والرضى ... ولله فيما قد قضى الشكر والحمد خبر: ولقد نعي إلي بعض من كنت احب من بلدة نازحة، فقمت فاراً بنفسي نحو المقابر، وجعلت امشي بينها وأقول: [من الوافر] .

وددت بان ظهر الأرض بطن ... وأن البطن منها صار ظهراً وأني مت قبل ورد خطب ... أتى فأثار في الأكباد جمرا وأن دمي لمن قد بان غسل ... وان ضلوع صدري كن قبرا ثم اتصل بعد حين تكذيب ذلك الخبر فقلت: [من السريع] . بشرى أتت واليأس مستحكم ... والقلب في سبع طباق شداد كنت فؤادي خضرة بعدما ... كان فؤادي لابسا للحداد جلى سواد الغم عني كما ... يجلى بلون الشمس لون السواد هذا وما آمل وصلاً سوى ... صدق وفاء بقديم الوداد فالمزن قد يطلب لا للحيا ... لكن لظل بارد ذي امتداد ويقع في هذين الصنفين من البين الوداع، أعني رحيل المحب أو رحيل المحبوب. وإنه لمن المناطر الهائلة والمواقف الصعبة التي تفتضح فيها عزيمة كل ماضي العزائم، وتذهب قوة كل ذي بصيرة، وتسكب كل عين جمود، ويظهر مكنون الجوى. وهو فصل من فصول البين يجب التكلم فيه، كالعتاب في باب الهجر. ولعمري لو أن ظريفاً يموت في ساعة الوداع لكان معذوراً إذا تفكر فيما يحل به بعد ساعة من انقطاع الآمال، وحلول الأوجال، وتبدل السرور بالحزن. وإنها ساعة ترق القلوب القاسية، وتلين الأفئدة الغلاظ. وإن حركة الرأس وإدمان النظر والزفرة بعد الوداع لهاتكة حجاب القلب، وموصلة إليه من الجزع بمقدار ما تفعل حركة الوجه في ضد هذا والإشارة بالعين والتبسم في مواطن (1) الموافقة.

_ (1) بتروف: توقع؛ وتابعه على ذلك آخرون.

والوداع ينقسم قسمين، أحدهما لا يتمكن فيه إلا بالنظر والإشارة والثاني يتمكن فيه بالعناق والملازمة، وربما لعله كان لا يمكن قبل ذلك البتة مع تجاوز المحال وإمكان التلاقي، ولهذا تمنى بعض الشعراء البين ومدحوا يوم النوى، وما ذاك بحسن ولا بصواب ولا بالأصيل من الرأي، فما يفي سرور ساعة بحزن ساعات، فكيف إذا كان البين أياماً وشهوراً وربما أعواماً وهذا سوء من النظر ومعوج من القياس، وإنما أثنيت على النوى في شعري تمنياً لرجوع يومعا، فيكون في كل يوم لقاء ووداع، على أن تحتمل مضض هذا الاسم الكريه، وذلك عندما يمضي من الأيام التي لا التقاء فيها فحينئذ يرغب المحب من يوم الفراق لو أمكنه في كل يوم؛ وفي الصنف الأول من الوداع أقول شعراً منه: [من البسيط] . تنوب عن بهجة الأنوار بهجته ... كما تنوب عن النيران أنفاسي وفي الصنف الثاني من الوداع أقول شعراً منه: [من البسيط] . وجه تخر له الأنوار ساجدة ... والوجه تم فلم ينقص ولم يزد دفء وشمس الضحى بالجدي نازلة ... وبارد ناعم والشمس في الأسد ومنه: يوم الفراق لعمري لست أكرهه ... أصلا وإن شت شمل الروح عن جسدي ففيه عانقت من أهوى بلا جزع ... وكان من قبله إن سيل لم يجد أليس من عجب دمعي (1) وعبرتها ... يوم الوصال ليوم البين ذو حسد

_ (1) برشيه: أليس من عجب واعجب بعبرته.

وهل هجس في الأفكار أو قام في الظنون أشنع وأوجع من هجر عتاب وقع بين محبين، ثم فجأتهما النوى قبل حلول الصلح وانحلال عقدة الهجران، فقاما إلى الوداع وقد نسي العتاب، وجاء ما طم عن (1) القوى وأطار الكرى؛ وفيه أقول شعراً منه: [من الطويل] . وقد سقط العتب المقدم وامحى ... وجاءت جيوش البين تجري وتسرع وقد ذعر البين الصدود فراعه ... فولى فما يدرى له اليوم موضع كذئب خلا بالصيد حتى أظله ... هزبر له من جانب الغيل مطلع لئن سرني في طرده الهجر إنني ... لإبعاده عني الحبيب لموجع ولابد عند الموت من بعض راحة ... وفي غبها (2) الموت الوحي المصرع وأعرف من أتى ليودع محبوبه يوم الفراق فوجده قد فات، فوقف على آثاره ساعة وتردد في الموضع الذي كان فيه ثم انصرف كئيباً متغير اللون كاسف البال، فما كان بعد أيام قلائل حتى اعتل ومات، رحمه الله. وإن للبين في إظهار السرائر المطوية عملاً عجباً: ولقد رأيت من كان حبه مكتوماً وبما يجد فيه مستتراً حتى وقع حادث الفراق فباح المكنون وظهر الخفي. وفي ذلك أقول قطعة منها: [من المتقارب] . بذلت من الود ما كنت قبل ... منعت وأعطيتنيه جزافا وما لي به حاجة عند ذاك ... ولو جدت قبل بلغت الشغافا وما ينفع الطب عند الحمام ... وينفع قبل الردى من تلافى وأقول: [من الكامل] . الآن إذ حل الفراق وجدت لي ... بخفي حب كنت تبدي بخله

_ (1) برشيه: على. (2) برشيه: غيبها.

قد زدتني في حسرتي أضعافها ... ويحي فهلاً كان هذا قبله ولقد أذكرني هذا أني خطبت (1) في بعض الأزمان مودة رجل من وزراء السلطان أيام جاهه فأظهر بعض الامتساك، فتركته حتى ذهبت أيامه وانقضت دولته، فأبدى لي من المودة والاخوة غير قليل، فقلت: [من الطويل] . بذلت لي الأعراض والدهر مقبل ... وتبذل لي الإقبال والدهر معرض وتبسطني إذ ليس ينفع بسطكم ... فهلا أبحث البسط إذ كنت تقبض 6 - ثم بين الموت وهو الفوت، وهو الذي لا يرجى له إياب، وهو المصيبة الحالة، وهو قاصمة الظهر وداهية الدهر، وهو الويل (2) ، وهو المغطي على ظلمة الليل، وهو قاطع كل رجاء وماحي كل طمع والمؤيس من اللقاء. وهنا حارت الألسن، وانجذم حبل العلاج، فلا حيلة إلا الصبر طوعاً أو كرهاً. وهو أجل ما يبتلى به المحبون، فما لمن دهي به إلا النوح والبكاء إلى أن يتلف أو يمل؛ فهو القرحة التي لا تنكا، والوجع الذي لا يفنى، وهو الغم الذي يتجدد على قدر بلاء من اغتمدته في الثرى وفيه أقول: [من مشطور المديد] كل بين واقع ... فمرجى لم يفت لا تعجل قنطاً ... لم يفت من لم يمت والذي قد مات فال ... يأس عنه قد ثبت وقد رأينا من عرض له هذا كثيراً. وعني أخبرك أني أحد من دهي بهذه الفادحة وتعجلت له هذه المصيبة، وذلك أني كنت أشد الناس كلفاً وأعظمهم حباً بجارية لي،

_ (1) في معظم الطبعات: حظيت. (2) برشيه: الليل.

كانت فيما خلا اسمها نعم. وكانت أمنية المتمني وغاية الحسن خلقاً وخلقاً وموافقة لي، وكنت أبا عذرها، وكنا قد تكافأنا المودة، ففجعتني بها الأقدار، واخترمتها الليالي ومر النهار، وصارت ثالثة التراب والاحجار، وسني حين وفاتها دون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن، فلقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي ولا تفتر لي دمعة على جمود عيني وقلة إسعادها؛ وعلى ذلك فو الله ما سلوت حتى الآن، ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطارف، وببعض أعضاء جسمي العزيزة علي مسارعا طائعاً، وما طاب لي عيش بعدها، ولا نسيت ذكرها، ولا أنست بسواها، ولقد عفى حبي لها على كل ما قبله، وحرم ما كان بعده؛ ومما قلت فيها: [من الطويل] . مهذبة بيضاء كالشمس إن بدت ... وسائر ربات الحجال نجوم أطار هواها القلب عن مستقره ... فبعد وقوع ظل وهو يحوم ومن مراثي فيها قصيدة منها: [من الطويل] . كأني لم آنس بألفاظك التي ... على عقد الألباب هن نوافث ولم أتحكم في الأماني كأنني ... لإفراط ما حكمت فيهن عابث ومنها: ويبدي إعراضاً وهن أوالف ... ويقسمن في هجري وهن حوانث وأقول أيضاً في قصيدة أخاطب فيها ابن عمي أبا المغيرة عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن حزم بن غالب (1) ، وأقرضه فأقول: [من الطويل] .

_ (1) عبد الوهاب أبو المغيرة: كان في عصره من المقدمين في الآداب والشعر والبلاغة، وكان شعره كثيراً مجموعاً، توفي في طليطلة (438) وجرى بينه وبين ابن عمه أبي محمد الفقيه تنابذ سجلاه في رسائل عنيفة (انظر الجذوة: 273 والبغية رقم: 1110 والصلة: 361 والمغرب 1: 357 والذخيرة 1/ 1: 132 - 166) .

قفا فاسألا الأطلال أين قطينها ... أمرت عليها بالبلى الملون على دارسات مقفرات عواطل ... كأن المغاني في الخفاء معاني واختلف الناس في أي الأمرين أشد: البين أم الهجر وكلاهما مرتقى صعب وموت أحمر وبلية سوداء وسنة شهباء، وكل يستبشع من هذين ما ضاد طبعه: فأما ذو النفس الأبية الأنوف، الحنانة الألوف (1) الثابتة على العهد، فلا شيء يعدل عنده مصيبة البين، لأنه أتى قصداً، وتعمدته النوائب عمداً، فلا يجد شيئاً يسلي نفسه؛ ولا يصرف فكرته في معنى من المعاني إلا وجد باعثاً على صبابته ومحركاً لأشجانه، وعلة لألمه (2) ، وحجة لوجده وحاضاً على البكاء على إلفه. وأما الهجر فهو داعية السلو ورائد الإقلاع. وأما ذو النفس التواقة الكثيرة النزوع والتطلع القلوق العزوف فالهجر داؤه وجالب حتفه، والبين له مسلاة ومنساة. وأما أنا فالموت عندي أسهل من الفراق، وما الهجر إلا جالب للكمد فقط، ويوشك إن دام أن يحدث إيغاراً (3) ، وفي ذلك أقول: [من المتقارب] . وقالوا ارتحل فلعل السلو ... يكون وترغب أن ترغبه فقلت الردى لي قبل السلو ... ومن يشرب السم عن تجربه! وأقول [المتقارب] سبى مهجتي هواه ... وأودت بها نواه كأن الغرام ضيف ... وروحي غدا قراه

_ (1) في معظم القراءات: فأما ذو النفس الأبية الألوف الحنانة. (2) بعض القراءات: وعليه لا له. (3) معظم الطبعات: اضراراً.

ولقد رأيت من يستعجل (1) هجر محبوبه ويتعمده خوفاً من مرارة يوم البين وما يحدث به من لوعة الأسف عند التفرق، وهذا وإن لم يكن عندي من المذاهب المرضية، فهو حجة قاطعة على ان البين أصعب من الهجر، وكيف لا وفي الناس من يلوذ بالهجر خوفاً من البين. ولم أجد أحداً في الدنيا يلوذ بالبين خوفاً من الهجر، إنما يأخذ الناس أبداً الأسهل ويتكلفون الأهون. وإنما قلنا إنه ليس من المذاهب المحمودة لان أصحابه قد استعجلوا البلاء قبل نزوله، وتجرعوا غصة الصبر قبل وقتها، ولعل ما تخوفوه لا يكون، وليس من يتعجل المكروه - وهو على غير يقين مما يتعجل - بحكيم، وفيه أقول شعراً منه: [من الخفيف] . لبس الصب للصبابة بينا ... ليس من جانب الأحبة منا كغني يعيش عيش فقير ... خوف فقر وفقره قد أبنا وأذكر لابن عمي أبي المغيرة في هذا المعنى - من ان البين أصعب من الصد - أبياتاً من قصيدة خاطبني بها وهو ابن سبعة عشر عاماً أو نحوها، وهي: [من الكامل المجزوء] . أجزعت أن أزف الرحيل ... وولهت ان نص الذميل كلا: مصابك فادح ... وأجل: فراقهم جليل كذب الألى زعموا بان ... الصد مرتعه وبيل لم يعرفوا كنه الغلي ... ل وقد تحملت الحمول أما الفراق فإنه ... للموت إن أهوى دليل ولي في هذا المعنى قصيدة مطولة أولها: [من الكامل] .

_ (1) بتروف: يستعمل، وتابعته طبعات أخرى؛ والسياق التالي يقوي قراءة " يستعجل " فقد قال المؤلف بعد سطور " لان أصحابه قد استعجلوا البلاء وليس من يتعجل المكروه الخ ".

لا مثل يومك ضحوة التنعيم ... (1) في منظر حسن وفي تنعيم قد كان ذاك اليوم ندرة عاقر ... وصواب خاطئة وولد عقيم أيام برق الوصل ليس بخلب ... عندي ولا روض الهوى بهشيم من كل غانية تقول ثديها ... سيرى أمامك والإزار أقيمي ما بي تلك العيون وليس في ... برئي سواها في الورى بزعيم مثل الأفاعي ليس في شيء سوى ... أجسادها إبراء لدغ سليم والبين أبكى الشعراء على المعاهد فأدروا على الرسوم الدموع، وسقوا الديار ماء الشوق، وتذكروا ما قد سلف لهم فيها فأعولوا وانتحبوا، وأحيت الآثار دفين شوقهم فناحوا وبكوا. ولقد أخبرني (2) بعض الوراد من قرطبة - وقد استخبرته عنها - انه رأى دورنا ببلاط مغيث في الجانب الغربي منها وقد امحت رسومها، وطمست أعلامها، وخفيت معاهدها، وغيرها البلى وصارت صحارى مجدبة بعد العمران، وفيافي موحشة بعد الأنس، وخرائب منقطعة (3) بعد الحسن، وشعاباً مفزعة بعد الأمن، ومأوى للذاب، ومعازف للغيلان، وملاعب للجان، ومكامن للوحوش، بعد رجال كاليوث (4) ، وخرائد كالدمى، تفيض لديهم النعم الفاشي - تبدد شملهم فصاروا في البلاد أيادي سبا، فكأن تلك المحاريب المنمقة، والمقاصير المزينة، التي كانت تشرق إشراق الشمس، ويجلو الهموم

_ (1) التنعيم الأولى اسم مكان والثانية بمعنى النعمة. (2) أورد لسان الدين ابن الخطيب بكاء ابن حزم لقرطبة نثراً وشعراً في أعمال الاعلام: 106 - 108 ولما كانت المقارنة بين النصفين تدل على اختلافات وفوارق كثيرة؛ فإني سأثبت النص الوارد عند لسان الدين ملحقاً في آخر الرسالة (انظر الملحق: 1 ومجلة الأندلس: 361 - 363) . (3) قراها برشيه: مفظعة؛ وفي أعمال الاعلام: منقطعة. (4) أعمال الاعلام: بعد طول غنيانها برجال كالسيوف وفرسان كالليوث.

حسن منظرها، حين شملها الخراب، وعمها الهدم، كأفواه السباع فاغرة، تؤذن بفناء الدنيا، وتريك عواقب اهلها، وتخبرك عما يصير إليه كل من تراه قائماً فيها، وتزهد في طلبها بعد أن طالما زهدت في تركها، وتذكرت أيامي بها ولذاتي (1) وشهور صباي لديها، مع كواعب إلى مثلهن صبا الحليم، ومثلت لنفسي كونهن تحت الثرى وفي الآفاق (2) النائية والنواحي البعيدة، وقد فرقتهن يد الجلاء، ومزقتهن أكف النوى، وخيل إلى بصري فناء (3) تلك النصبة بعدما علمته من حسنها وغضارتها والمراتب المحكمة التي نشأت فيها (4) لديها، وخلاء تلك الأفنية بعد تضايقها باهلها، وأوهمت (5) سمعي صوت الصدى والهام عليها، بعد حركة تلك الجماعات التي ربيت بينهم فيها، وكان ليلها تبعا لنهارها في انتشار ساكنها والتقاء عمارها، فعاد نهارها تبعاً لليلها في الهدوء والاستيحاش، فأبكى عيني (6) وأوجع قلبي وقرع صفاة كبدي وزاد في بلاء لبي، فقلت شعراً منه (7) : [من الطويل] . لئن كان أظمانا فقد طالما سقى ... وإن ساءنا فيها فقد طالما سرا والبين يولد الحنين والاهتياج والتذكر، وفي ذلك أقول: [من البسيط] .

_ (1) أعمال الاعلام: وصبابة لداتي بها. (2) قرأها برشيه: الديار؛ وفي سائر الطبعات: الآثار، وما أثبته فهو من أعمال الاعلام، وهو الصواب. (3) في الطبعات (ما عدا برشيه) : بقاء، وتتفق قراءة برشيه مع أعمال الاعلام. (4) هذه هي قراءة برشيه، وفي سائر الطبعات: فيما، والعبارة في العلام مختلفة عما هي هنا، إذ جاءت: والمرتبة الرفيعة التي رفلت في حللها ناشئاً فيها. (5) الأعمال: وأرعيت. (6) أعمال الاعلام: فأبكى ذلك عيني على جمودها، وهذا الاحتراس ضروري لما تقدم من وصف ابن حزم لنفسه بأنه جامد العين. (7) لم يرد هنا إلا بيت من عشرين بيتاً وردت في الاعلام، انظر الملحق.

ليت الغراب يعيد اليوم لي فعسى ... يبين بينهم عني فقد وقفا أقول والليل قد أرخى أجلته ... وقد تألى بألا ينقضي فوفى والنجم قد حار في أفق السماء فما ... يمضي ولا هو للتغوير منصرفا تخاله مخطئاً أو خائفاً وجلا ... أو راقباً موعداً أو عاشقاً دنفا

باب القنوع

- 25 - باب القنوع ولابد للمحب، إذا حرم الوصل، من القنوع بما يجد، وغن في ذلك لمتعللاً للنفس، وشغلاً للرجاء، وتجديداً للمنى، وبعض الراحة. وهو مراتب على قدر الإصابة والتمكن 1 - فأولها الزيارة، وإنها لأمل من الآمال ومن سري ما يسنح في الدهر، مع ما تبدي من الخفر والحياء، لما يعلمه كل واحد منهما مما في نفس صاحبه؛ وهي على وجهين: أحدهما أن يزور المحب محبوبه. وهذا الوجه واسع؛ والوجه الثاني ان يزور المحبوب محبه، ولكن لا سبيل إلى غير النظر والحديث الظاهر؛ وفي ذلك أقول: [من الطويل] فإن تنا بالوصال فإنني ... سأرضى بلحظ العين إن لم يكن وصل فحسبي أن ألقاك في اليوم مرة ... وما كنت أرضى ضعف ذا منك لي قبل كذا همة الوالي تكون رفيعة ... ويرضى خلاص النفس إن وقع العزل وأما رجع السلام والمخاطبة فأمل من الآمال: وإن كنت أنا أقول

في قصيدة لي: [من الطويل] . فها أنا ذا أخفي وأقنع راضياً ... برجع سلام إن تيسر في الحين فإنما هذا لمن ينتقل من مرتبة إلى ما هو أدنى منها. وإنما تتفاضل المخلوقات في جميع الأوصاف على قدر إضافتها إلى ما هو فوقها أو دونها. وأني لأعلم من كان يقول لمحبوبه: عدني واكذب، قنوعاً بان يسلي نفسه في وعده وغن كان غير صادق؛ فقلت في ذلك: [من الكامل] . إن كان وصلك ليس فيه مطمع ... والقرب ممنوع فعدني واكذب فعسى التعلل بالتقائك ممسك ... لحياة قلب بالصدود معذب فلقد يسلي المجدبين إذا رأوا ... في الأفق يلمع صوء برق خلب ومما يدخل في هذا الباب شيء رأيته ورآه غيري معي: أن رجلاً من إخواني جرحه من كان يحبه بمدية، فلقد رأيته وهو يقبل مكان الجرح ويندبه مرة بعد مرة، فقلت في ذلك: [من المتقارب] . يقولون شجك من همت فيه ... فقلت لعمري ما شجني ولكن أحس دمي قربه ... فطار إليه ولم ينثن فيا قاتلي ظالما محسناً ... فديتك من ظالم محسن 2 - ومن القنوع ان يسر الإنسان ويرضى ببعض آلات محبوبه، وإن له من النفس لموقعاً حسناً وإن لم يكن فيه إلا ما نص الله تعالى علينا، من ارتداد يعقوب بصيراً حين شم قميص يوسف عليهما السلام. وفي ذلك أقول: [من السريع] . لما منعت القرب من سيدي ... ولج في هجري ولم ينصف صرت بإبصاري أثوابه ... أو بعض ما قد مسه أكتفي

كذاك يعقوب نبي الهدى ... إذ شفه الحزن على يوسف شم قميصاً جاء من عنده ... وكان مكفوفاً فمنه شفي وما رأيت قط متعاشقين إلا وهما يتهاديان خصل الشعر مبخرة بالعنبر مرشوشة بماء الورد وقد جمعت في أصلها بالمصطكي وبالشمع الأبيض المصفى، ولفت في تطاريف الوشي والخز وما أشبه ذلك، لتكون تذكرة عند البين. وأما تهادي المساويك بعد مضغها، والمصطكي إثر استعمالها، فكثير بين كل متحابين قد حظر عليهما اللقاء (1) ؛ وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الطويل] . أرى ريقها ماء الحياة تيقناً ... على أنها لم تبق لي في الهوى حشا خبر: وأخبرني بعض إخواني عن سليمان بن أحمد الشاعر أنه رأى ابن سهل الحاجب بجزيرة صقلية، وذكر أنه كان غاية في الجمال، فشاهده يوماً في بعض المتنزهات ماشياً وامرأة خلفه تنظر إليه، فلما بعد أتت إلى المكان الذي قد أثر فيه مشيه فجعلت تقبله وتلثم الأرض التي فيها أثر رجله؛ وفي ذلك أقول قطعة أولها: [من الطويل] . يلومنني في موطئ خفه (2) خطا ... ولو علموا عاد الذي لام يحسد فيا أهل أرض لا يجود سحابها ... خذوا بوصاتي تستقلوا (3) وتحمدوا خذوا من تراب فيه موضع وطئه ... وأضمن ان المحل عنكم يبعد فكل تراب واقع فيه رجله ... فذاك صعيد ليس يجحد

_ (1) يقول الوشاء في وصف عشق القيان (الموشى: 93) : وتبعث إليه بخاتمها وفضلة من شعرها وقطعة من مسواكها، ولبان قد جعلته عوضاً من قبلتها وكتاب ختمته بغالية قد عدل بالعنبر متنها ". (2) قرأها برشيه: جفا. (3) عند برشيه: تستغلوا.

كذلك فعل السامري وقد بدا ... لعينيه من جبريل إثر ممجد فصير جوف العجل من ذلك الثرى ... فقام له منه خوار ممدد وأقول: [من الطويل] . لقد بوركت ارض بها أنت قاطن ... وبورك من فيها وحل بها السعد فأحجارها در وسعدانها ورد ... وأمواهها شهد وتربتها ند 3 - ومن القنوع الرضى بمزار اللطيف وتسليم الخيال، وهذا إنما يحدث عن ذكر لا يفارق، وعهد لا يحول، وفكر لا ينقضي، فإذا نامت العيون وهدأت الحركات سرى الطيف؛ وفي ذلك أقول: [من البسيط] . زار الخيال فتى طالت صبابته ... على احتفاظ من الحراس والحفظه فبت في ليلتي جذلان مبتهجاً ... ولذة الطيف تنسي لذة اليقظه وأقول: [من الطويل] . أتى طيف نعم مضجعي بعد هدأة ... ولليل سلطان وظل ممدد وعهدي بها تحت التراب مقيمة ... وجاءت كما قد كنت من قبل اعهد فعدنا كما كنا وعاد زماننا ... كما قد عهدنا قبل والعود أحمد وللشعراء في علة مزار الطيف أقاويل بديعة بعيدة المرمى مخترعة، كل سبق إلى معنى من المعاني، فأبو إسحاق ابن سيار النظام راس المعتزلة جعل علة مزار الطيف خوف الأرواح من الرقيب المرقب على لقاء (1) الأبدان، وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي جعل علته أن

_ (1) بتروف والصيرفي ومكي: بهاء.

نكاح الطيف لا يفسد الحب ونكاح الحقيقة يفسده (1) والبحتري جعل علة إقباله استضاءته بنار وجده، وعلة زواله خوف الغرق في دموعه (2) . وأنا أقول من غير أن أمثل شعري بأشعارهم - فلهم فضل التقدم والسابقة، إنما نحن لاقطون وهم الحاصدون، ولكن اقتداء بهم، وجرياً في ميدانهم، وتتبعاً لطريقتهم التي نهجوا وأوضحوا - أبياتاً بينت فيها مزار الطيف مقطعة: [من الوافر] . أغار عليك من إدراك طرفي ... وأشفق أن يذيبك لمس كفي فأمتنع اللقاء حذار هذا ... واعتمد التلاقي حين أغفي فروحي إن لنم، بك ذو انفراد ... من الأعضاء مستتر ومخفي ووصل الروح ألطف فيك وقعاً ... من الجسم المواصل ألف ضعف وحال المزور في المنام ينقسم أقساماً أربعة: 1 - أحدها محب مهجور قد تطاول غمه، ثم رأى في هجعته ان حبيبه وصله فسر بذلك وابتهج، ثم استيقظ فأسف وتلهف، حيث علم أن ما كان فيه أماني النفس وحديثها؛ وفي ذلك أقول: [من الخفيف] . أنت في مشرق النهار بخيل ... وإذا الليل جن كنت كريما تجعل الشمس منك لي عوضاً ... هيهات ماذا الفعال منك قويما زارني طيفك البعيد فيأتي ... واصلاً لي وعائداً ونديما

_ (1) أظنه يشير إلى قول أبي تمام: (ديوانه 2: 69) . غدت مغتدى الغضبي وأوصت خيالها بحران نضو العيس نضو الخرائد وقالت نكاح الحب يفسد شكله وكم نكحوا حباً وليس بفاسد والمعنى الاجمالي أنها أوصت خيالها بزيارتي وتعهدي، وقالت: ان نكاح الحب يفسد شكله، ولكن نكاح (الطيف) لا يفسده (أو هذا ما فهمه ابن حزم من البيتين) .. (2) لقد حاولت أن أجد هذا المعنى في ديوان البحتري فلم أوفق، على كثرة ترداد النظر في الديوان.

غير أني منعتني من تمام ال ... عيش لكن أبحث لي التشميما فكأني من أهل الأعراف لا الفر ... دوس داري ولا أخاف الجحيما 2 - والثاني محب مواصل مشفق من تغير يقع، قد رأى في وسنه أن حبيبه يهجره فاهتم لذلك هماً شديداً، ثم هب من نومه فعلم أن ذلك باطل وبعض وساوس الإشفاق. 3 - والثالث محب داني الديار يرى أن التنائي قد فدحه، فيكترث ويوجل ثم ينتبه فيذهب ما به ويعود فرحاً؛ وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الطويل] . رأيتك في نومي كأنك راحل ... وقمنا إلى التوديع والدمع هامل وزال الكرى عني وأنت معانقي ... وغمي إذا عاينت ذلك زائل فجددت تعنيقاً وضماً كأنني ... عليك من البين المفرق واجل 4 - والرابع محب نائي المزار، يرى أن المزار قد دنا، والمنازل قد تصاقبت، فيرتاح ويأنس إلى فقد الأسى، ثم يقوم من سنته فيرى أن ذلك غير صحيح، فيعود إلى أشد ما كان فيه من الغم. وقد جعلت في بعض قولي علة النوم الطمع في طيف الخيال، فقلت: [من البسيط] . طاف الخيال على مستهتر كلف ... لولا ارتقاب مزار الطيف لم ينم لا تعجبوا إذ سرى والليل معتكر ... فنوره مذهب (1) في الأرض للظلم 4 - ومن القنوع ان يقنع المحب بالنظر إلى الجدران ورؤية الحيطان التي تحتوي على من يحب، وقد رأينا من هذه صفته. ولقد

_ (1) برشيه: مرهب.

حدثني أبو الوليد أحمد بن محمد بن اسحاق الخازن (1) رحمه الله من رجل جليل، أنه حدث عن نفسه بمثل هذا: 5 - ومن القنوع أن يرتاع المحب، إلى أن يرى من رأى محبوبه ويأنس به ومن أتى من بلاده، وهذا كثير؛ وفي ذلك أقول: [من الطويل] . توحش من سكانه فكأنهم ... مساكن عاد أعقبته ثمود ومما يدخل في هذا الباب أبيات لي، موجبها أني تنزهت أنا وجماعة من إخواني من أهل الأدب والشرف إلى بستان لرجل من أصحابنا، فجلنا ساعة ثم أفضى بنا القعود إلى مكان دونه يتمى، فتمددنا في رياض أريضة، وأرض عريضة، للبصر فيها منفسح، وللنفس لديها منسرح، بين جداول تطرد كأباريق اللجين، وأطيار تغرد بألحان تزري بما أبدعه معبد والغريض (2) ، وثمار مهدلة قد ذللت للأيدي ودنت (3) للمتناول، وظلال مظلة تلاحظنا الشمس من بينها فتتصور بين أيدينا كرقاع الشطرنج والثياب المدبجة، وماء عذب يوجدك حقيقة طعم الحياة، وانهار متدفقة تنساب كبطون الحيات لها خرير يقوم ويهدأ، ونواوير مؤنقة مختلفة الألوان تصفقها الرياح الطيبة النسيم، وهواء سجسج، وأخلاق جلاس تفوق كل هذا، في يوم ربيعي ذي شمس ظليلة، تارة يغطيها الغيم الرقيق والمزن اللطيف، وتارة تتجلى فهي كالعذراء الخفرة الخجلة تتراءى لعاشقها من بين الأستار ثم تغيب فيها حذر عين مراقبة. وكان بعضنا مطرقا كأنه يحادث الثرى (4) ، وذلك لسر

_ (1) ذهب بعض المعلقين إلى أن أبا الوليد أحمد بن محمد بن اسحاق الخازن هو والد محمد بن اسحاق الوزير الاسحاقي الذي مر التعريف به (ص: 112) وهذا أمر لا يمكن القطع به دون أن تسنده المصادر. (2) معبد والغريض من مشاهير المغنين في العصر الأموي (انظر الأغاني 1: 47؛2:318) . (3) برشيه: وتدلت. (4) بتروف: أخرى.

كان له، فعرض لي بذلك، وتداعبنا حينا فكلفت أن أقول على لسانه شيئاً في ذلك، فقلت بديهة، وما كتبوها إلا من تذكرها بعد انصرافنا، وعي: [من الطويل] . ولما تروحنا بأكناف روضة ... مهدلة الأفنان في تربها الندي وقد ضحكت أنوارها وتضوعت ... أساورها (1) في ظل فيء ممدد وأبدت لنا الأطيار حسن صريفها ... فمن بين شاك شجوه ومغرد وللماء فيما بيننا متصرف ... وللعين مرتاد هناك ولليد وما شئت من اخلقا أروع ماجد ... كريم السجايا للفخار مشيد تنغص عندي كل ما قد وصفته ... ولم يهنني إذ غاب عني سيدي فيا ليتني في السجن وهو معانقي ... (2) وانتم معاً في قصر دار المجدد فمن رام منا أن يبدل حاله ... بحال أخيه أو بملك مخلد فلا عاش إلا في شقاء ونكبة ... ولا زال في بؤسى وخزي مردد فقال هو ومن حضر: آمين آمين. وهذه الوجوه التي عددت وأوردت في حقائق القناعة هي الموجودة في أهل المودة، بلا تزيد ولا إعياء. 6 - وللشعراء فن من القنوع أرادوا فيه إظهار غرضهم وإبانة اقتدارهم على المعاني الغامضة والمرامي البعيدة، وكل قال على قدر قوة طبعه، إلا أنه تحكم باللسان وتشدق في الكلام واستطالة بالبيان، وهو غير صحيح في الأصل: فمنهم من قنع بأن السماء تظله هو

_ (1) أساورها، كذا وردت عند الجميع، ولا أجد لها معنى، وأرجح: " أصاروها " من صوار وهو وعاء المسك أو الرائحة الطيبة وجمعها أصورة، فتكون أصاورها جمع جمع، إن صح التقدير. (2) المجدد: هو أحد المباني الفخمة بقصر قرطبة الأكبر قال ابن بشكوال: ومن قصوره المشهورة وقصر السرور والتاج والبديع (نفخ الطيب 1: 464) .

ومحبوبه والأرض تقلهما، ومنهم من قنع باستوائهما في إحاطة الليل والنهار بهما، وأشباه هذا (1) ، وكل مبادر إلى احتواء الغاية في الاستقصاء، وإحراز قصب السبق في التدقيق، ولي في هذا المعنى قول لا يمكن لمتعقب أن يجد بعده متناولا، ولا وراءه مكاناً، مع تبيني علة قرب المسافة البعيدة، وهو: [من الطويل] . قالوا بعيد قلت حسبي بأنه ... معي في زمان لا يطيق محيدا تمر علي الشمس مثل مرورها ... به كل يوم يستنير جديدا فمن ليس بيني في المسير وبينه ... سوى قطع يوم هل يكون بعيدا وعلم إله الخلق يجمعنا معاً ... كفى ذا التداني ما أريد مزيدا فبينت كما ترى أني قانع بالاجتماع مع من احب في علم الله الذي السموات والأفلاك والعوالم كلها وجميع الموجودات (2) بسبب منه ولا تجزؤ فيه ولا يشذ عنه شيء، ثم اقتصرت من علم الله تعالى على انه في زمان؛ وهذا اعلم مما قاله غيري في إحاطة الليل والنهار، وإن كان الظاهر واحداً في البادئ إلى السامع، لان كل المخلوقات واقعة

_ (1) من أمثال هذه القناعة قول أحدهم: ويقر عيني وهي نازحة ما لا يقر بعين ذي الحلم أني أرى وأظن أن سترى وضح النهار وعالي النجم وقول الآخر: أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك بنا تداني ترى وضح النهار كما أراه ويعلوها المساء كما علاني وقول الثالث: ألست أرى النجم الذي هو طالع عليها فهذا للمحبين نافع عسى يلتقي في الأفق لحظي ولحظها فيجمعنا إذ ليس في الأرض جامع ويعلق ابن داود على مثل هذا بقوله انه ناقص عن حد التمام (الزهرة 102، 103) وكأني بابن حزم قد قرأ هذه الجملة وتأملها، فما يحاول أن يأتي به في أبيانه التالية إنما هو نوع من بلوغ الغاية أو حد التمام. (2) العبارة عند الصيرفي: وجميع الموجودات لا تنفصل منه ولا تتجرأ فيه ولا يشذ عنه منها شيء، وهي بعيدة كثيراً عن الأصل؛ وتابعه في ذلك مكي؛ وعند بتروف: لا تنتسب منه.

تحت الزمان، وإنما الزمان اسم موضوع لمرور الساعات وقطع الفلك وحركاته وأجرامه، والليل والنهار متوالدان عن طلوع الشمس وغروبها، وهما متناهيان في بعض العالم الأعلى، وليس هكذا الزمان، فإنهما بعض الزمان. وإن كان لبعض الفلاسفة قول: إن الظل متماد، فهذا يخطئه العيان، وعلل الرد عليه بينة ليس هذا موضعها، ثم بينت انه وإن كان في أقصى المعمور من الشرق وأنا في أقصى المعمور من الغرب، وهذا طوال السكنى، فليس بيني إلا مسافة يوم؛ إذ الشمس تبدو في أول النهار في أول المشارق وتغرب في آخر النهار في آخر المغارب. 7 - ومن القنوع فصل أورده وأستعيذ بالله منه ومن أهله، وأحمده على ما عرف نفوسنا من منافرته، وهو ان يضل العقل جملة، وتفسد القريحة، ويتلف التمييز ويهون الصعب، وتذهب الغيرة، وتعدم الانفة، فيرضى الإنسان بالمشاركة فيمن يحب، وقد عرض هذا لقوم، أعاذنا الله من البلاء. وهذا لا يصح إلا مع كلبية في الطبع، وسقوط من العقل - الذي هو عيار على ما تحته - وضعف حس. ويؤيد هذا كله حب شديد معم. فإذا اجتمعت هذه الأشياء وتلاحقت بمزاج الطبائع ودخول بعضها في بعض نتج بينهما هذا الطبع الخسيس، وتولدت هذه الصفة الرذلة، وقام منها هذا الفعل المقذور القبيح. وأما رجل معه أقل همة وأيسر مروءة فهذا منه أبعد من الثريا، ولو مات وجداً وتقطع حباً، وفي ذلك أقول زارياً على بعض المسامحين في هذا الفصل: [من الطويل] . رأيتك رحب الصدر ترضى بما أتى ... وأفضل شيء ان تلين وتسمحا فحظك من بعض السواني مفضل ... على أن يحوز الملك من أصلها الرحى وعضو بعير في الوزن ضعف ما ... تقدره في الجدي فاعص الذي لحا ولعب الذي تهوى بسيفين معجب ... فكن ناحياً في نحوه كيفما نحا

باب الضنى

- 26 - باب الضنى ولابد لكل محب صادق المودة ممنوع الوصل - إما ببين وإما بهجر وإما بكتمان واقع لمعنى - من أن يؤول إلى حد السقام والضنى والنحول، وربما أضجعه ذلك؛ وهذا الأمر كثير جداً موجود أبداً. والأعراض الواقعة من المحبة غير الأعراض (1) الواقعة من هجمات العلل، ويميزها الطبيب الحاذق والمتفرس الناقد؛ وفي ذلك أقول: [من الوافر] يقول لي الطبيب بغير علم ... تداو فأنت يا هذا عليل ودائي ليس يدريه سوائي ... ورب قادر ملك جليل أأكتمه ويكشفه شهيق ... يلازمني وإطراق طويل ووجه شاهدات الحزن فيه ... وجسم كالخيال ضن نحيل وأثبت ما يكون الأمر يوماً ... بلا شك إذا صح الدليل فقلت له: أبن عني قليلاً ... فلا والله تعرف ما تقول فقال: أرى نحولاً زاد جداً ... وعلتك التي تشكو ذبول فقلت له: الذبول تعل منه ال ... جوارح وهي حمى تستحيل وما أشكو لعمر والله حمى ... وإن الحر في جسمي قليل فقال: أرى التفاتأ وارتقاباً ... وأفكاراً وصمتاً لا يزول

_ (1) جميع الطبعات: غير العلل.

وأحسب أنها السوداء فانظر ... لنفسك إنها عرض ثقيل فقلت له: كلامك ذا محال ... فما للدمع من عيني يسيل فأطرق باهتاً مما رآه ... ألا في مثل ذا بهت النبيل فقلت له: دوائي منه دائي ... ألا في مثل ذا ضلت عقول وشاهد ما أقول يرى عياناً ... فروع النبت إن عكست أصول وترياق الأفاعي ليس شيء ... سواه ببرء ما لدغت كفيل وحدثني أبو بكر محمد بن بقي الحجري، وكان حكيم الطبع عاقلاً فهيماً، عن رجل من شيوخنا لا يمكن ذكره، انه كان ببغداد في خان من خاناتها فرأى ابنة لوكيله الخان فأحبها وتزوجها، فلما خلا بها نظرت إليه وكانت بكراً، وهو قد تكشف لبعض حاجته، فراعها كبر إحليله، ففرت إلى أمها وتفادت منه، فرام بها كل من حواليها أن ترد إليه، فأبت وكادت ان تموت، ففارقها ثم ندم، ورام ان يراجعها فلم يمكنه، واستعان بالأبهري (1) وغيره، فلم يقدر أحد منهم على حيلة في أمره، فاختلط عقله وأقام في المارستان يعاني مدة طويلة حتى نقة وسلا وما كاد، ولقد كان إذا ذكرها يتنفس الصعداء. وقد تقدم في أشعاري المذكورة في هذه الرسالة: من صفة النحول مفرقاً ما استغنيت به عن أن أذكر هنا من سواها شيئاً خوف الإطالة، والله المعين والمستعان.

_ (1) هذه النسبة " الابهري " تنصرف إلى واحد من فقهاء المالكية، فإن كان المقصود الابهري الكبير فهو أبو بكر محمد بن عبد الله بن صالح، الذي سكن بغداد وانتشر عنه مذهب مالك بالعراق وجمع بين القرآن وعلو الأسناد والفقه الجيد، وقصده الطلبة من كل فج فممن أخذ العلم عليه من الاندلسيين: أبو عبيد الحيوني والأصيلي (الذي بقي في بغداد ثلاث عشرة سنة) وأبو محمد القلعي وأبو القاسم الزهري، وكانت وفاة الابهري سنة 375 (ترتيب المدارك 4: 466) وذكر ابن بشكوال أن محمد بن يوسف بن أحمد التاجر كانت له رحلة إلى المشرق وأخذ عن الابهري شريحة لمختصر ابن عبد الحكم وعن هذا التاجر يحدث أبو بكر جماهر بن عبد الرحمن الحجري (الصلة: 492) ولجماهر هذا ابن اسمه محمد توفي سنة 424 (الصلة: 488) ، ومع ذلك تبقى كلمة " بقي " عقبة في سبيل القطع بشيء في هذا الصدد.

وربما ترقت إلى أن يغلب المرء على عقله ويحال بينه وبين ذهنه فيوسوس؛ خبر: وإني لأعرف جارية من ذوات المناصب والجمال والشرف من بنات القواد، وقد بلغ بها حب فتى من إخواني من أبناء الكتاب مبلغ هيجان المرار الأسود، وكادت تختلط، واشتهر الأمر وشاع جداً (1) حتى علمه الأباعد، إلى ان تدوركت بالعلاج. وهذا إنما يتولد عن إدمان الفكر، فإذا غلبت الفكرة وتمكن الخلط وترك التداوي خرج الأمر عن حد الحب إلى حد الوله والجنون، وإذا أغفل التداوي في أوائل المعاناة قوي جداً ولم يوجد له دواء سوى الوصال، ومن بعض ما كتبت إليه قطعة منها: [من الخفيف] قد سلبت الفؤاد منها اختلاساً ... أي خلق يعيش دون فؤاد فأغثها بالوصل تحي شريفاً ... وتفز بالثواب يوم المعاد وأراها تعتاض إن دام هذا ... (2) من خلاخيلها حلى الأقياد أنت حقاً متيم الشمس حتى ... عشقها بين ذا الورى لك بادي خبر: وحدثني مولى أحمد بن محمد بن حدير، المعروف بالبليني (3) : أن سبب اختلاط مروان بن يحيى بن أحمد بن حدير

_ (1) برشيه: وشاع حبها. (2) ايماء إلى أنها قد تجن، وتوضع السلاسل في رجليها بدلاً من الخلاخيل، كما كانوا يفعلون بالمجانين. (3) ان صحت هذه اللفظة فهي نسبة إلى " البلنيه " (BaIIena) وتعني الحوت الكبير أو دابة البحر (انظر المغرب 1: 193 والجذوة: 214) ، ومن أمثال بحارة الاندلس إذا ريت البلين أبشر بالرمشكل (انظر أمثال العوام 2: 6؛ والرمشكل هو ذكر البلينة) .

وذهاب عقله اعتلاقه بجارية لأخيه، فمنعها وباعها لغيره، وما كان في إخوته مثله ولا أتم أدباً منه. وأخبرني أبو العافية مولى محمد بن عباس بن أبي عبدة (1) ، أن سبب جنون يحيى بن محمد بن عباس بن أبي عبدة بيع جارية له كان يجد بها وجداً شديداً، كانت أمه أباعتها وذهبت إلى إنكاحه من بعض العامريات. فهذان رجلان جليلان مشهوران فقدا عقولهما واختلطا وصارا في القيود والأغلال، فأما مروان فأصابته ضربة مخطئة يوم دخول البربر قرطبة وانتهابهم لها (2) ، فتوفي رحمه الله. وأما يحيى بن محمد فهو حي على حالته المذكورة في حين كتابتي لرسالتي هذه، وقد رأيته أنا مراراً وجالسته في القصر قبل أن يمتحن بهذه المحنة، وكان أستاذي وأستاذه الفقيه أبو الخيار اللغوي (3) ، وكان يحيى لعمري حلواً من الفتيان نبيلاً. وأما من دون هذه الطبقة فقد رأينا منهم كثيراً، ولكن لم نسمهم لخفائهم، وهذه درجة إذا بلغ المشغوف إليها فقد انبت الرجاء وانصرم الطمع، فلا دواء له بالوصل ولا بغيره، إذ قد استحكم الفساد في الدماغ، وتلفت المعرفة وتغلبت الآفة، أعاذنا الله من البلاء بطوله، وكفانا النقم بمنه.

_ (1) لم أجد لمحمد بن عباس ترجمة، ولكنه من أسرة بني عبدة إحدى الأسر الكبيرة في الاندلس، وقد كان عيسى بن أحمد بن أبي عبدة وزيراً أيام الأمير عبد الله الأموي، واحتل رجال من هذه الأسرة مناصب هامة في الدولة (انظر الحلة السيراء 1: 120 - 121 والحاشية) وكان احمد بن محمد بن أبي عبدة أيام عبد الرحمن الناصر على القيادة (البيان المغرب: 2: 158) ومحمد بن عبد الله بن أبي عبدة، على الخزانة (المصدر نفسه) وعيسى بن أحمد بن أبي عبدة على الشرطة العليا (2: 159) ؛ ويطول بنا القول لو أردنا تتبع أفراد هذه العائلة وتقلبهم في المناصب. (2) بتروف: وانتهائهم اليها. (3) هو مسعود بن سليمان بن مفلت الشنتريني القرطبي، كان ظاهرياً لا يرى التقليد، متواضعاً توفي سنة 426 (الصلة: والجذوة: 328 والبغية رقم: 1361) .

باب السلو

- 27 - باب السلو وقد علمنا أن كل ما له أول فلا بد له من آخر، حاشا نعيم الله عز وجل بالجنة لأوليائه وعذابه بالنار لأعدائه؛ وأما أراض الدنيا فنافذة فانية وزائلة مضمحلة، وعاقبة كل حب إلى أحد أمرين: إما اخترام منية، وإما سلو حادث. وقد نجد النفس تغلب عليها بعض القوى المصرفة معها في الجسد، فكما نجد نفساً ترفض الراحات والملاذ للعمل في طاعة الله تعالى وللرياء في الدنيا، حتى تشتهر بالزهد، فكذلك نجد نفساً تنصرف عن الرغبة في لقاء شكلها للأنفة المستحكمة المنافرة للغدر، أو استمرار سوء المكافأة في الضمير، وهذا أصح السلو. وما كان من غير هذين الشيئين فليس إلا مذموماً. والسلو المتولد من الهجر وطوله إنما هو كاليأس يدخل على النفس من بلوغها إلى أملها، فيفتر نزاعها ولا تقوى رغبتها؛ ولي في ذم السلو قصيدة منها: من الطويل] . إذا ما رنت فالحي ميت بلحظها ... وإن نطقت قلت السلام (1) رطاب كأن الهوى ضيف ألم بمهجتي ... فلحمي طعام والنجيع شراب. ومنها: صبور على الأزم (2) الذي العز خلفه ... ولو أمطرته بالحريق سحاب

_ (1) السلام: الحجارة. (2) الأزم: الشدة والقحط.

جزوع من الراحات إن أنتجت له ... خمولاً وفي بعض النعيم عذاب والسلو في التجزئة الجملية ينقسم قسمين: 1 - سلو طبيعي وهو المسمى بالنسيان، يخلو به القلب ويفرغ به البال، ويكون الإنسان كأنه لم يحب قط؛ وهذا القسم ربما لحق صاحبه الذم لأنه نسيان حادث عن أخلاق مذمومة، وعن أسباب غير موجبة استحقاق النسيان، وستأتي مبينة إن شاء الله تعالى، وربما لم تلحقه اللائمة لعذر صحيح. 2 - والثاني سلو تطبعي، قهر النفس، وهو المسمى بالتصبر، فترى المرء يظهر التجلد وفي قلبه أشد لدغاً من وخز الإشفى (1) ، ولكنه يرى بعض الشر أهون من بعض (2) ، أو يحاسب نفسه بحجة لا تصرف ولا تكسر؛ وهذا قسم لا يذم آتيه، ولا يلام فاعله لأنه لا يحدث إلا عن عظيمة، ولا يقع إلا عن فادحة، إما لسبب لا يصبر على مثله الأحرار، وإما لخطب لا مرد له تجري به الأقدار، وكفاك من الموصوف به أنه ليس بناس لكنه ذاكر، وذو حنين واقف على العهد، ومتجرع مرارات الصبر. والفرق العامي بين المتصبر والناسي، أنك ترى المتصبر وإن أبدى غاية الجلد وأظهر سب محبوبه والتحمل عليه، لا يحتمل ذلك من غيره؛ وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الطويل] دعوني وسبي للحبيب فإنني ... وإن كنت أبدي الهجر لست معاديا ولكن سبي للحبيب كقولهم ... (3) أجاد فلقاه الإله الدواهيا

_ (1) الاشفى: المخرز. (2) هز من قول أبي الخراش الهذلي: حمدت الهي بعد عروة إذ نجا خراش، وبعض الشر أهون من بعض (3) هذا سب للاستحسان والتعظيم كقولهم: قاتله الله ما أسخاء أو قولهم: " هوت أمه " وما اشبه.

والناسي ضد هذا. وكل هذا فعلى قدر طبيعة الإنسان وإجابتها وامتناعها وقوة تمكن الحب من القلب أو ضعفه، وفي ذلك أقول وسميت السالي فيه المتصبر - قطعة منها: [من الكامل] ناسي الأحبة غير من يسلوهم ... حكم المقصر غير حكم المقصر ما قاهر للنفس (1) عدل مجيبها ... ما الصابر المطبوع كالمتصبر والأسباب الموجبة للسلو المنقسم هذين القسمين كثيرة، وعلى حسبها وبمقدار الواقع منها يعذر السالي ويذم: 1 - فمنها الملل - وقد قدمنا الكلام عليه - وإن من كان سلوه عن ملل فليس حبه حقيقة، والمتوسم به صاحب دعوى زائفة، وإنما هو طلب لذة ومبادر شهوة، والسالي من هذا الوجه ناس مذموم. 2 - ومنها الاستبدال، وهو وإن كان يشبه الملل ففيه معنى زائد، وهو بذلك المعنى أقبح من الأول، وصاحبه أحق بالذم. 3 - ومنها حياء مركب يكون في المحب يحول بينه وبين التعريض بما يجد، فيتطاول الأمر وتتراخى المدة، ويبلى جديد المودة ويحدث السلو؛ وهذا وجه إن كان السالي عنه ناسياً فليس بمنصف، إذ منه جاء سبب الحرمان، وإن كان متصبراً فليس بملوم، إذ آثر الحياء على لذة نفسه. وقد ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الحياء من الإيمان والبذاء من النفاق (2) .. وحدثنا أحمد بن محمد (3) عن أحمد

_ (1) في معظم الطبعات: غير، وهو خطأ واضح؛ وعند برشيه: عد. (2) ورد الحديث في أكثر الصحاح (انظر مثلاً البخاري ايمان: 57 - 59) ومسند أحمد 2: 56، 147، 392. (3) هو ابن الجسور، وقد تقدم التعريف به، ص: 174.

بن مطرف (1) عن عبيد الله بن يحيى (2) عن أبيه عن مالك عن سلمة ابن صفوان الزرقي عن زيد بن طلحة بن ركانة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء (3) . فهذه الأسباب الثلاثة أصلها من المحب وابتداؤنا من قبلة، والذم لاصق به في نسيانه لمن يحب. 4 - فمنها: الهجر، وقد مر تفسير وجوهه؛ ولابد لنا أن نورد منه شيئاً في هذا الباب يوافقه. والهجر إذا تطاول وكثر العتاب واتصلت المفارقة يكون باباً إلى السلو. وليس من وصلك ثم قطعك لغيرك من باب الهجر في شيء لأنه الغدر الصحيح، ولا من مال إلى غيرك - دون أن تتقدم لك معه صلة - من الهجر أيضاً في شيء، إنما ذاك هو النفار - وسيقع الكلام في هذين الفصلين بعد هذا إن شاء الله تعالى - لكن الهجر ممن وصلك ثم قطعك لتنقيل واش أو لذنب واقع أو لشيء قام في النفس، ولم يمل إلى سواك ولا أقام أحداً غيرك مقامك؛ والناسي في هذا الفصل من المحبين ملوم دون سائر الأسباب الواقعة من المحبوب: لأنه لا تقع حالة تقيم العذر في نسيانه، وإنما هو راغب

_ (1) هو أبو عمر أحمد بن مطرف بن عبد الرحمن المعروف بابن المشاط (توفي سنة 352) (الجذوة: 138 وابن الفرضي 1: 57 وهو الذي سمع من عبيد الله بن يحيى (انظر التعليق التالي) ووهم الدكتور الطاهر مكي فظنه أحمد بن مطرف الجهني (انظر ص 188 حاشية 19) ، ولا شأن لهذا برواية الحديث. (2) هو عبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي وهو آخر من حدث عن أبيه يحيى بن يحيى عن مالك، وله رحلة إلى العراق، توفي سنة 297 (الجذوة: 250) . (3) ورد الحديث في ابن ماجه (زهد: 17) والموطأ (حسن الخلق: 9) .

عن وصلك، وهو شيء لا يلزمه. وقد تقدم من أذمة الوصال وحق أيامه، ما يلزم التذكر ويوجب عهد الألفة، ولكن السالي على وجهة التصبر والتجلد هاهنا معذور إذا رأى الهجر متمادياً ولم ير للوصال علامة ولا للمراجعة دلالة؛ وقد استجاز كثير من الناس أن يسموا هذا المعنى غدراً إذ ظاهرهما واحد، ولكن علتيهما مختلفتان، فلذلك فرقنا بينهما في الحقيقة؛ وأقول في ذلك شعراً منه: [من الطويل] فكونوا كمن لم أدر قط فإنني ... كآخر لم تدروا ولم تصلوه أنا كالصدى ما قال كل أجيبه ... فما شئتموه اليوم فاعتمدوه وأقول أيضاً قطعة، ثلاثة أبيات قلتها وأنا نائم واستيقظت فأضفت إليها البيت الربع: [من الوافر] ألا لله دهر كنت فيه ... أعز علي من روحي وأهلي فما برحت يد الهجران حتى ... طواك بنانها طي السجل سقاني الصبر هجركم كما قد ... سقاني الحب وصلكم بسجل وجدت الوصل أصل الوجد حقاً ... وطول الهجر أصلاً للتسلي وأقول أيضاً قطعة: [من الكامل المجزوء] لو قيل لي من قبل ذا ... أن سوف تسلو من تود لحلفت ألف (1) قسامة ... لا كان ذا أبد الأبد وإذا طويل الهجر ما ... معه من السلوان بد لله هجرك إنه ... ساع لبرئي مجتهد فالآن أعجب للسل ... ووكنت أعجب للجلد وأرى هواك كجمرة ... تحت الرماد لها مدد

_ (1) القسامة: إذا وقعت تدمية في موضع ما دون أن يعرف القاتل على التحقيق ووجه أولياء القتيل التهمة إلى جماعة أو قرية، فإن المفروض أن يحلف خمسون رجلاً من المتهمين ببراءتهم، فتسقط بذلك التهمة.

وأقول: [من الكامل] كانت جهنم في الحشا من حبكم ... فلقد أراها نار إبراهيما ثم الأسباب الثلاث الباقية التي هي من قبل المحبوب، فالمنتصر من الناس فيها غير مذموم، لما سنورده إن شاء الله في كل فصل عنها: 5 - فمنها نفار يكون في المحبوب وانزواء قاطع للأطماع؛ خبر: وإني لأخبر عني أني ألفت في أيام صباي ألفة المحبة جارية نشأت في دارنا وكانت في ذلك الوقت بنت ستة عشر عاماً؛ وكانت غاية في حسن وجهها وعقلها وعفافها وطهارتها وخفرها ودماثتها، عديمة الهزل، منيعة البذل، بديعة البشر، مسبلة الستر، فقيدة الذام، قليلة الكلام، مغضوضة البصر، شديدة الحذر، نقية من العيوب، دائمة القطوب، كثيرة الوقار، مستلذة النفار، لا توجه الأراجي نحوها، ولا تقف المطامع عليها، ولا معرس للأمل لديها، فوجهها جالب كل القلوب، وحالها طارد من أمها. تزدان في المنع والبخل، ما لا يزدان غيرها بالسماحة والبذل، موقوفة على الجد في أمرها غير راغبة في اللهو، على أنها كانت تحسن العود إحساناً جيداً، فجنحت إليها وأحببتها حباً مفرطاً شديداً، فسعيت عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة وأسمع من فيها لفظة، غير ما يقع في الحديث الظاهر إلى كل سامع، بأبلغ السعي فما وصلت من ذلك إلى شيء البتة. فلعهدي بمصطنع (1) كان في دارنا لبعض ما يصطنع له في دور الرؤساء تجمعت فيه دخلتنا ودخلة أخي، رحمه الله، من النساء ونساء فتياننا ومن لاث بنا من خدمنا، ممن يخف موضعه ويلطف محله،

_ (1) المصطنع: الوليمة أو الحفل.

فلبثن صدراً من النهار ثم تنقلن إلى قصبة كانت في دارنا مشرفة على بستان الدار ويطلع منها على جميع قرطبة وفحوصها، مفتحة الأبواب؛ فصرن ينظرن من خلال الشراجيب (1) وأنا بينهن، فإني لأذكر أني كنت أقصد نحو الباب الذي هي فيه أنساً بقربها متعرضاً للدنو منها، فما هو إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب وتقصد غيره في لطف الحركة، فأتعمد أنا القصد إلى الباب الذي صارت إليه فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الزوال إلى غيره؛ وكانت قد علمت كلفي بها ولم يشعر سائر النسوان بما نحن فيه، لأنهن كن عدداً كثيراً، وإذا كلهن ينتقلن من باب إلى باب لسبب الاطلاع من بعض الأبواب على جهات لا يطلع من غيرها عليها، واعلم أن قيافة النساء فيمن يميل إليهن أنفذ من قيافة مدلج (2) في الآثار، ثم نزلن إلى البستان فرغب عجائزنا وكرائمنا إلى سيدتها في سماع غنائها، فأمرتها فأخذت العود وسوته بخفر وخجل لا عهد لي بمثله، وإن الشيء يتضاعف حسنه في عين مستحسنه، ثم اندفعت تغني بأبيات العباس بن الأحنف، حيث يقول (3) : [من البسيط] إني طربت إلى شمس إذا غربت ... كانت مغاربها (4) جوف المقاصير شمس ممثلة في خلق جارية ... كأن أعطافها (5) طي الطوامير ليست من الإنس إلا في مناسبة ... ولا من الجن إلا في التصاوير

_ (1) الشراجيب: الشبابيك أو الطاقات؛ ويكون الشباك مشرجباً إذا كان من خشب بهيئة مربعات، ومن أمثالهم العامية زاد ف المشرجب بيت، ويشير المعتمد في شعره (الحلة 2: 133) إلى قصر الشراجيب. (انظر الأمثال العامية 2: 230 وتعليقات المحقق على المثل رقم 1010) . (2) مدلج: رجل من كنانة كان مشهوراً بالقيافة، أي قص الأثر. (3) انظر ديوان العباس بن الأحنف: 113. (4) الديوان: مشارقها. (5) في الديوان: كأنما كشحها.

فالوجه جوهرة، والجسم عبهرة ... (1) والريح عنبرة، والكل من نور كأنها حين تخطو في مجاسدها ... تخطو على البيض أو حد (2) القوارير فلعمري لكأن المضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلى يوم مفارقتي الدنيا، وهذا أكثر ما وصلت إليه من التمكن من رؤيتها وسماع كلامها؛ وفي ذلك أقول: [من الحفيف] لا تلمها على النفار ومنع ال ... وصل ما ذاكم لها بنكير هل يكون الهلال غير بعيد ... أو يكون الغزال غير نفور وأقول: [من الوافر] منعت جمال وجهك مقلتيا ... ولفظك قد ضننت به عليا أراك نذرت للرحمن صوماً ... فلست تكلمين اليوم حيا وقد غنيت للعباس شعراً ... هنيئاً ذا لعباس هنيا فلو يلقاك عباس لأضحى ... لفوز قاليا وبكم شجيا ثم انتقل أبي رحمه الله من دورنا المحدثة بالجانب الشرقي من قرطبة في ربض الزاهرة إلى دورنا القديمة في الجانب الغربي من قرطبة ببلاط مغيث في اليوم الثالث من قيام أمير المؤمنين محمد المهدي بالخلافة. وانتقلت أنا بانتقاله، وذلك في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلثمائة، ولم تنتقل هي بانتقالنا لأمور أوجبت ذلك. ثم شغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام المؤيد بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتحنا بالاعتقال والترقيب والإغرام الفادح والاستتار، وأرزمت الفتنة وألقت باعها وعمت الناس وخصتنا، إلى أن توفي أبي الوزير

_ (1) رواية هذا البيت في الديوان: فالجسم من لؤلؤ والشعر من ظلم والنشر من مسكة والوجه من نور (2) الديوان: أو خضر.

رحمه الله ونحن في هذه الأحوال بعد العصر يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة عام اثنتين وأربعمائة، واتصلت بنا تلك الحال بعده إلى أن كانت عندنا جنازة لبعض أهلنا فرأيتها - وقد ارتفعت الواعية (1) - قائمة في المأتم وسط النساء في جملة البواكي والنوادب، فلقد أثارت وجداً دفيناً وحركت ساكناً، وذكرتني عهداً قديماً، وحباً تليداً، ودهراً ماضياً، وزمناً عافياً، وشهوراً خوالي، وأخباراً توالي، ودهوراً فواني، وأياماً قد ذهبت، وآثاراً قد دثرت، وجددت أحزاني، وهيجت بلابلي، على أني كنت في ذلك النهار مرزءاً مصاباً من وجوه، وما كنت نسيت، ولكن زاد الشجى وتوقدت اللوعة وتأكد الحزن وتضاعف الأسف، واستجلب الوجد ما كان منه كامناً فلباه مجيباً، فقلت قطعة منها: [من الطويل] يبكي لميت مات وهو مكرم ... وللحي أولى بالدموع الذوارف فيا عجباً من آسف لامرئ ثوى ... وما هو للمقتول ظلماً بآسف ثم ضرب الدهر ضربانه وأجلينا عن منازلنا، وتغلب علينا جند البربر، فخرجت عن قرطبة أول المحرم سنة أربع وأربعمائة، وغابت عن بصري بعد تلك الرؤية الواحدة ستة أعوام وأكثر، ثم دخلت قرطبة في شوال سنة تسع وأربعمائة، فنزلت على بعض نسائنا فرأيتها هنالك، وما كدت أن أميزها حتى قيل لي هذه فلانة - وقد تغير أكثر محاسنها وذهبت نضارتها، وفنيت تلك البهجة وغاض ذلك الماء الذي كان يرى كالسيف الصقيل والمرآة الهندية، وذبل ذلك النوار الذي كان البصر يقصد نحوه منبهراً ويرتاد فيه متخيراً وينصرف عنه متحيراً، فلم يبق إلا البعض المنبئ عن الكل، والخبر المخبر عن الجميع، وذلك لقلة اهتبالها بنفسها وعدمها الصيانة التي كانت غذيت بها أيام دولتنا وامتداد ظلنا ولتبذلها في الخروج فيما لابد لها منه مما كانت تصان

_ (1) الواعية: الصراخ على الميت.

وترفع عنه قبل ذلك؛ وإنما النساء رياحين متى لم تتعاهد نقصت، وبنية متى لم يهتبل بها استهدمت؛ ولذلك قال من قال: إن حسن الرجال أصدق صدقاً وأثبت أصلاً وأعتق جودة لصبره على ما لو لقي بعضه وجوه النساء لتغيرت أشد التغيير، مثل الهجير والسموم والرياح واختلاف الهواء وعدم الكن - وإني لو نلت منها أقل وصل وأنست لي بعض الأنس لخولطت طرباً أو لمت فرحاً، ولكن هذا النفار الذي صبرني وأسلاني. وهذا الوجه من أسباب السلو صاحبه في كلا الوجهين معذور وغير ملوم؛ إذ لم يقع تثبت يوجب الوفاء، ولا عهد يقتضي المحافظة، ولا سلف ذمام، ولا فرط تصادق يلام على تضييعه ونسيانه. 6 - ومنها جفاء يكون من المحبوب، فإذا أفرط فيه وأسرف وصادف من المحب نفساً لها بعض الألفة والعزة تسلى، وإذا كان الجفاء يسيراً منقطعاً أو دائماً أو كبيراً منقطعاً احتمل وأغضي عليه، حتى إذا كثر ودام فلا وفاء عليه (1) ، ولا يلام الناسي لمن يحب في مثل هذا. 7 - ومنها الغدر، وهو الذي لا يحتمله أحد ولا يغضي عليه كريم (2) ، وهو المسلاة حقاً ولا يلام السالي عنه على أي وجه كان، ناسياً أو متصبراً، بل اللائمة لاحقة لمن صبر عليه. ولولا ان القلوب بيد مقلبها لا إله إلا هو ولا يكلف المرء صرف قلبه ولا إحالة استحسناه - لولا ذاك - لقلت ان المتصبر في سلوه مع الغدر يكاد ان يستحق الملامة والتعنيف؛ ولا أدعى إلى السلو عند الحر النفس وذي

_ (1) بعض الطبعات: فلا بقاء. (2) قارن بما جاء في الموشى (ص: 118) : ثم ان أجهل الجهالة وأضل الضلالة صبر الفتى الأديب على غدر الحبيب، فإن الصبر على الخيانة والغدر يضع من المروءة والقدر.

الحفيظة والسري السجايا، من الغدر، فما يصبر عليه إلا دنئ المروءة خسيس الهمة ساقط الأنفة، وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الوافر] . هواك فلست أقربه غرور ... وأنت لكل من يأتي سرير وما إن تصبرين على حبيب ... فحولك منهم عدد كثير فلو كنت الأمير لما تعاطى ... لقاءك خوف جمعهم الأمير رأيتك كالأماني ما على من ... يلم بها ولو كثروا غرور ولا عنها لمن يأتي دفاع ... ولو حشد الأنام لهم (1) نفير 8 - ثم سبب ثامن: وهو لا من المحب ولا من المحبوب ولكنه من الله تعالى وهو اليأس، وفروعه ثلاثة، إما موت وإما بين لا يرجى معه أوبة، وإما عارض يدخل على المتحابين بعلة الحب التي من أجلها وثق المحبوب فيغيرها؛ وكل هذه الوجوه من أسباب السلو والتصبر. وعلى المحب الناسي في هذا الوجه المنقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة من الغضاضة والذم واستحقاق اسم اللوم والغدر غير قليل، وإن لليأس لعملاً في النفوس عجيباً، وثلجاً لحر الأكباد كبيراً؛ وكل هذه الوجوه المذكورة أولاً وآخراً فالتأني فيها واجب، والتربص على أهلها حسن، فيما يمكن فيه التأني ويصح لديه التربص، فإذا انقطعت الأطماع وانحسمت الآمال فحينئذ يقوم العذر. وللشعراء فن من الشعر يذمون فيه الباكي على الدمن، ويثنون على المثابر على اللذات، وهذا يدخل في باب السلو؛ ولقد أكثر الحسن بن هانئ في هذا الباب وافتخر به، وهو كثيراً ما يصف نفسه بالغدر الصريح في أشعاره، تحكماً بلسانه واقتداراً على القول، وفي مثل هذا أقول شعراً منه: [من الخفيف]

_ (1) برشيه: له.

خل هذا وبادر الدهر وارحل ... في رياض الربى مطي العقار واحدها بالبديع من نغمات ال ... عود كيما تحث بالمزمار إن خيراً من الوقوف على الدا ... ر وقوف البنان بالأوتار وبدا النرجس البديع كصب ... حائر الطرف مائلا كالمدار لونه لون عاشق مستهام ... وهو لا شك هائم بالبهار ومعاذ الله أن يكون نسيان ما درس لنا طبعاً، ومعصية الله بشرب الراح لنا خلقاً، وكساد الهمة لنا صفة، ولكن حسبنا قول الله تعالى، ومن أصدق من الله قيلاً في الشعراء: {ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وانهم يقولون ما لا يفعلون} . (الشعراء: 224) . فهذه شهادة الله العزيز الجبار لهم، ولكن شذوذ القائل للشعر عن مرتبة الشعر خطأ. وكان سبب هذه الأبيات أن " ضنى " العامريه، إحدى كرائم المظفر عبد الملك ابن أبي عامر، كلفتني صنعتها فأجبتها، وكنت أجلها؛ ولها فيها صنعة في طريقة النشيد والبسيط (1) رائقة جداً، ولقد أنشدتها بعض إخواني من أهل الأدب فقال سروراً بها: يجب أن توضع هذه في جملة عجائب الدنيا. فجميع فصول هذا الباب كما ترى ثمانية: منها ثلاثة هي من المحب، اثنان منها يذم إلسالي فيهما على كل وجه، وهما الملل والاستبدال، وواحد منها يذم السالي فيه ولا يذم المتصبر، وهو الحياء كما قدمنا. وأربعة من المحبوب، منها واحد يذم الناسي فيه ولا يذم المتصبر، وهو الهجر الدائم، وثلاثة لا يذم السالي فيها على أي وجه كان ناسياً أو متصبراً، وهي النفار والجفاء والغدر، ووجه ثامن وهو من

_ (1) هذان يمثلان ثلثي " النوبة " عند زرياب وغيره، والعنصر الثالث الأخير فيها هو " الهزج ".

قبل الله عز وجل، وهو اليأس إما بموت أو بين أو آفة تزمن، والمتصبر في هذه معذور. وعني أخبرك أني جبلت على طبيعتين لا يهنأني معهما عيش أبداً، وغني لأبرم بحياتي باجتماعهما وأود التغيب (1) من نفسي أحياناً لأفقد ما أنا بسببه من النكد من أجلهما وهما: وفاء لا يشوبه تلون قد استوت فيه الحضرة والمغيب، والباطن والظاهر، تولده الألفة التي لم تعزف (2) بها نفسي عما دربته، ولا تتطلع إلى عدم من صحبته، وعزة نفس لا تقر على الضيم، مهتمة لأقل ما يرد عليها من تغير المعارف، مؤثرة للموت عليه؛ فكل واحدة من هاتين السجيتين تدعو إلى نفسها وإني لأجفى فأحتمل، واستعمل الأناة الطويلة، والتلوم الذي لا يكاد يطيقه أحد، فإذا أفرط الأمر وحميت نفسي تصبرت، وفي القلب ما فيه، وفي ذلك أقول قطعة منها: [من البسيط] لي خلتان أذاقاني الأسى جرعاً ... ونغصا عيشتي واستهلكا جلدي كلتاهما تطبيني نحو جبلتها ... كالصيد ينشب بين الذئب والأسد وفاء صدق فما فارقت ذا مقة ... فزال حزني عليه آخر الأبد وعزة لا يحل الضيم ساحتها ... صرافة (3) فيه بالأموال والولد ومما يشبه ما نحن فيه، وإن كان ليس منه، ان رجلا من إخواني كنت أحللته من نفسي محلها، وأسقطت المؤونة بيني وبينه، وأعددته ذخراً وكنزاً، وكان كثير السمع من كل قائل، فدب ذوو النميمة بيني وبينه، فحاكوا له وأنجح سعيهم عنده، فانقبض عما كنت أعهده. فتربصت عليه مدة في مثلها أوب الغائب ورضى العاتب، فلم يزدد إلا انقباضاً فتركته وحاله.

_ (1) معظم الطبعات: التثبت. (2) برشيه: تصرف. (3) بتروف: صرامة.

باب الموت

- 28 - باب الموت ربما تزايد الأمر ورق الطبع وعظم الإشفاق فكان سبباً للموت ومفارقة الدنيا، وقد جاء في الآثار: " من عشق فعف فمات فهو شهيد " (1) . وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الوافر] فإن أهلك هوى اهلك شهيداً ... (2) وإن تمنن بقيت قرير عين روى هذا لنا قوم ثقات ... نأوا بالصدق عن جرح ومين ولقد حدثن أبو السري عمار بن زياد صاحبنا عمن يثق به: أن الكاتب ابن قزمان (3) امتحن بمحبة أسلم [بن أحمد بن سعيد بن قاضي

_ (1) يروى. " من عشق فعف فكتم فمات، مات شهيداً " ويروى " من عشق فعف ثم مات مات شهيداً " ويروى " فهو شهيد ". وقد روي من طريق سويد بن سعيد مرفوعاً وأنكره ابن معين، ورواه غيره، وأخرجه الحاكم في تاريخ نيسابور، والخطيب في تاريخ بغداد وابن عساكر في تاريخ دمشق، ووهنه ابن القيم في زاد المعاد (3: 324 والجواب الكافي: 174) وقول ابن حزم " في الآثار " دليل على أنه لا يصححه (انظر كشف الخفاء 2: 345 والاخبار الموضوعة: 352) ومع ذلك نجد ابن الجوزي (ذم الهوى: 326) يعتبره مصححاً؛ ورد في الموشى: 75 " من تعشق فعف فهو شهيد " (ولا ذكر فيه للموت) وانظر تزيين الأسواق 1: 6. (2) اقتبس هذين البيتين العجلوني في كشف الخفاء 2: 345. وملا علي القاري في الأخبار الموضوعة: 353. (3) ابن قزمان الكاتب: لعله أحمد بن كليب النحوي (انظر الجذوة: 134 والبغية رقم: 462 وانباه الرواة 1: 96 ومعجم الأدباء 4: 108 والمنتظم: 8: 83 (وجعل وفاته سنة 426 وبغية الوعاة 1: 354 وتزيين الأسواق 2: 6، ومصارع العشاق 1: 97 والنجوم الزاهرة 4: 281 وتاريخ ابن كثير 12: 38 وذم الهوى: 557) وقصة أحمد بن كليب وأسلم كما رواها الحميدي عن ابن حزم عن محمد بن الحسن المذحجي وردت في الجذوة والبغية والمنتظم ومصارع العشاق وذم الهوى ومعجم الأدباء وتزيين الأسواق؛ وديوان الصبابة: 244؛ وسأوردها ملحقة بالكتاب (انظر الملحق: 2) .

الجماعة أسلم] بن عبد العزيز (1) أخي الحاجب هاشم بن عبد العزيز (2) . وكان أسلم غاية في الجمال، حتى أضجره لما به وأوقعه في أسباب المنية. وكان أسلم كثير الإلمام به والزيارة له ولا علم له بأنه أصل دائه إلى أن توفي أسفاً ودنفاً (3) . قال المخبر: فأخبرت أسلم بعد وفاته بسبب علته وموته فتأسف وقال: هلا أعلمتني فقلت: ولم قال: كنت والله أزيد في صلته وما أكاد أفارقه، فما علي في ذلك ضرر. وكان أسلم هذا من أهل الأدب البارع والتفنن، مع حظ من الفقه وافر، وذا بصارة في الشعر، وله شعر جيد، وله معرفة بالأغاني وتصرفها، وهو صاحب تأليف في طرائق غناء زرياب وأخباره،

_ (1) هو أسلم بن أحمد بن سعيد بن أسلم بن عبد العزيز: (وجده أسلم بن عبد العزيز كان قاضي الجماعة بالأندلس أيام عبد الرحمن الناصر وتوفي سنة 319 وهذا الجد هو أخو هاشم الحاجب) كان له أدب وشعر، وشهر بتأليفه في أغاني زرياب الذي سيذكره ابن حزم في ما يلي (انظر الجذوة: 162 والبغية رقم: 570) ؛ والزيادة بين معقفين في ذلك، وإنما هو عشق أسلم الحفيد، الذي كان معاصراً لمحمد بن حسن المذحجي، ويدرس على محمد ابن خطاب النحوي المتوفى سنة 398 وقد فرق الحميدي بين الأسلمين بوضوح وجعل قصة الحب متعلقة بالحفيد منهما نصاً، وهو ادرى برواية ابن حزم. (2) هاشم بن عبد العزيز: كان خاصاً بالأمير محمد بن عبد الرحمن يؤثره بالوزارة، ويرشحه مع بنيه ومفرداً للقيادة والامارة، وكان ذا خلال نبيلة من بأس وجود وفروسية وكتابة وشعر ونكبه المنذر بعد ذلك (الحلة السيراء 1: 137 والمغرب 2: 94) . (3) هذه الرواية هنا غريبة، مع أن ابن حزم نفسه في روايته عن محمد بن الحسن المذحجي يذكر أن أشعار ابن كليب في أسلم تنوشدت في الأعراس، وانقطع اسلم عن جميع مجالس الطلب، ثم يروي حكايات عن تحيل ابن كليب للقائه الخ (انظر الملحق: 2) .

وهو ديوان عجيب جداً، وكان أحسن الناس خلقاً وخلقاً، وهو والد أبي الجعد الذي كان ساكناً بالجانب الغربي من قرطبة. وأنا اعلم جارية كانت لبعض الرؤساء فعزف عنها لشيء بلغه في جهتها لم يكن يوجب السخط، فباعها، فجزعت لذلك جزعاً شديداً وما فارقها النحول والأسف، ولا بان عن عينها الدمع إلى ان سلت، وكان ذلك سبب موتها؛ ولم تعش بعد خروجها عنه إلا أشهراً ليست بالكثيرة. ولقد أخبرتني عنها امرأة أثق بها أنها لقيتها وهي قد صارت كالخيال نحولاً ورقة فقالت لها: أحسب هذا الذي بك من محبتك لفلان، فتنفست الصعداء وقالت: والله لا نسيته أبداً، وإن كان جفاني بلا سبب. وما عاشت بعد هذا القول إلا يسيراً. وأنا أخبرك عن أبي بكر أخي رحمه الله، وكان متزوجاً بعاتكة بنت قند (1) ، صاحب الثغر الأعلى أيام المنصور أبي عامر محمد ابن عامر، وكانت التي لا مرمى وراءها في جمالها وكريم خلالها، ولا تأتي الدنيا بمثلها في فضائلها، وكانا في حد الصبا وتمكن سلطانه تغضب كل واحد منهما الكلمة التي لا قدر لها، فكانا لم يزالا في تغاضب وتعاتب مدة ثمانية أعوام، وكانت قد شفها حبه وأضناها الوجد فيه وأنحلها شدة كلفها به، حتى صارت كالخيال المتوهم (2) دنفاً، لا يلهيها من الدنيا شيء، ولا تسر من أموالها - على عرضها وتكاثرها - بقليل ولا كثير إذ فاتها اتفاقه معها وسلامته لها، إلى ان توفي أخي رحمه الله في الطاعون الواقع بقرطبة في شهر ذي القعدة سنة إحدى وأربعمائة، وهو ابن اثنين وعشرين سنة، فما انفكت منذ

_ (1) انظر ليفي بروفنسال: (Histoire de l'Espagne Musulmane، Vol.ll، p.64،n3.) . وقند هذا (ويكتبه بروفنسال Kand وأحسبه خطأ) هو الذي استرد مدينة سالم في أيام الناصر (سنة 336/ 947) ويقول بروفنسال في تعليقه: " علينا ألا نخلط بين قند هذا وبين شخص آخر اسمه " قند الأكبر " وكان أيضاً مولى لعبد الرحمن الناصر ". (2) بتروف: المتوسم؛ وتابعه على ذلك آخرون.

بان عنها من السقم الدخيل والمرض والذبول إلى أن ماتت بعده بعام في اليوم الذي أكمل هو فيه تحت الأرض عاماً؛ ولقد أخبرتني عنها أمها وجميع جواريها أنها كانت تقول بعده: ما يقوي صبري ويمسك رمقي في الدنيا ساعة واحدة بعد وفاته إلا سروري وتيقني أنه لا يضمه وامرأة مضجع أبداً، فقد أمنت هذا الذي ما كنت أتخوف غيره، وأعظم آمالي اليوم اللحاق به. ولم يكن قبلها ولا معها امرأة غيرها، وهي كذلك لم يكن لها غيره، فكان كما قدرت، غفر الله لها ورضي عنها. وأما خبر صاحبنا أبي عبد الله محمد بن يحيى [بن محمد] ابن الحسين التميمي، المعروف بابن الطبني (1) : فإنه كان رحمه الله كأنه قد خلق الحسن على مثاله او خلق من نفس كل من رآه، لم أشهد له مثلاً حسناً وجمالاً وخلقاً وعفة وتصاوناً وأدباً وفهماً وحلماً ووفاء وسؤدداً وطهارة وكرما ودماثة وحلاوة ولباقة وصبراً وإغضاء وعقلا ومروءة وديناً ودراية وحفظاً للقرآن والحديث والنحو واللغة، و [كان] شاعراً مفلقاً حسن الخط وبليغاً مفنناً، مع حظ صالح من الكلام والجدل، وكان من غلمان أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي (2) أستاذي في هذا الشأن، وكان بينه وبين أبيه اثنا عشر عاما في السن، وكنت أنا وهو متقاربين في الأسنان، وكنا أليفين لا نفترق، وخدنين لا يجري الماء بيننا إلا صفاء، إلى أن ألقت الفتنة جرانها وأرخت عزاليها، ووقع انتهاب جند البربر منازلنا في الجانب الغربي

_ (1) بنو الطبني أًصلهم من منطقة الزاب في المغرب (الجزائر حالياً) ، أول من بنى بيت شرفهم بالاندلس أبو مضر زيادة الله بن علي الطبني إذ كان نديم محمد بن أبي عامر، وقد ترجم ابن بسام لعدد منهم (انظر 1/1: 535 - 547) وهناك فرع آخر من الطبنيين وهم: محمد ابن حسين الطبني وعقبه (الصلة: 562 والجذوة: 47) وقد كان لمحمد ابن هو يحيى، فأعقب يحيى ثلاثة من الأولاد وهم: أبو بكر ابراهيم (الجذوة: 149) وأبو عبد الله محمد، وهو هذا الذي كان صديقاً لابن حزم (الجذوة: 92) وأبو عمر القاسم وكان أيضاً أديباً شاعراً (الجذوة: 313 وسيذكره ابن حزم في ما يلي: 263) . (2) قد مر التعريف به ص: 196.

بقرطبة ونزولهم فيها، وكان مسكن أبي عبد الله في الجانب الشرقي ببلاط مغيث، وتقلبت بي الأمور إلى الخروج عن قرطبة وسكنى مدينة المرية، فكنا نتهادى النظم والنثر كثيراً، وآخر ما خاطبني به رسالة في درجها هذه الأبيات (1) : [من الخفيف] ليت شعري عن حبل ودك هل يم ... سي جديداً لدي غير رثيث وأراني أرى محياك يوماً ... وأناجيك في بلاط مغيث فلو آن الديار ينهضها الشو ... (2) ق أتاك البلاط كالمستغيث ولو آن القلوب تستطيع سيراً ... سار قلبي إليك سير الحثيث كن كما شئت لي فإني محب ... ليس لي غير ذكركم من حديث لك عندي وإن تناسيت عهد ... في صميم الفؤاد غير نكيث فكنا على ذلك إلى ان انقطعت دولة بني مروان وقتل سليمان الظافر أمير المؤمنين، وطهرت دولة الطالبية (3) وبويع علي بن حمود الحسني المسمى بالناصر (4) بالخلافة، وتغلب على قرطبة وتملكها واستمد في قتاله إياها بجيوش المتغلبين والثوار في أقطار الأندلس. وفي إثر ذلك نكبي خيران صاحب المرية، إذ نقل إليه من لم يتق الله عز وجل من الباغين، وقد انتقم الله منهم، عني وعن محمد ابن إسحاق صاحبي أنا نسعى في القيام بدعوة الدولة الأموية، فاعتقلنا عند نفسه أشهراً ثم أخرجنا على جهة التغريب فصرنا إلى حصن القصر (5) ، ولقينا صاحبه أبو القاسم عبد الله بن هذيل التجيبي،

_ (1) أورد الحميدي هذه الأبيات في الجذوة: 92 (وانظر البغية رقم: 316) . (2) وقع هذا البيت بعد الذي يليه في الجذوة. (3) دولة الطالبية يعني دولة بني حمود لأنهم ينتسبون إلى علي بن أبي طالب. (4) انظر أخبار علي بن حمود (قتل سنة 408) في الجذوة: 21 وأعمال الأعلام: 128 والبيان المغرب 3: 119. (5) حصن القصر (Aznalcazar) يقع إلى الجنوب الغربي من إشبيلية (ترجمة الروض: 73 التعليق: 1) .

المعروف بان المقفل، فأقمنا عنده شهوراً في خير دار إقامة، وبين خير أهل وجيران، وعند أجل الناس همة وأكملهم معروفاً وأتمهم سيادة. ثم ركبنا البحر قاصدين بلنسية عند ظهور أمير المؤمنين المرتضى عبد الرحمن بن محمد، وساكناه بها، فوجدت ببلنسية أبا شاكر عبد الواحد بن محمد بن موهب القبري (1) صديقنا، فنعى إلى أبا عبد الله بن الطبني وأخبرني بموته رحمه الله، ثم أخبرني بعد ذلك بمديدة القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله المرادي (2) وأبو عمرو أحمد لن محرز أن أبا بكر المصعب بن عبد الله الأزدي المعروف بابن الفرضي (3) حدثهما - وكان والد المصعب هذا قاضي بلنسية أيام أمير المؤمنين المهدي (4) وكان المصعب لنا صديقاً وأخاً وأليفاً أيام طلبنا الحديث على والده وسائر شيوخ المحدثين بقرطبة - قالا، قال لنا المصعب: سألت أبا عبد الله بن الطبني عن سبب علته، وهو قد نحل وخفيت محاسن وجهه بالضنى فلم يبق إلا عين جوهرها المخبر عن صفاتها السالفة، وصار يكاد أن يطيره النفس، وقرب من الانحناء، والشجا باد على وجهه، ونحن منفردان. فقال لي: نعم، أخبرك أني كنت في باب داري بغدير ابن الشماس (5) في حين دخول علي بن

_ (1) القبري نسبة إلى مدينة قبرة (Cabra) بالأندلس، وقد مر التعريف به ص: 119. (2) هو ابن الصفار، وقد مر التعريف به ص: 214. (3) أبو بكر المصعب بن عبد الله بن محمد الأزدي (ولد القاضي أبي الوليد المعروف بأبن الفرضي مؤلف تاريخ العلماء والرواة بالأندلس) وصفه الحميدي بأنه محدث اخباري شاعر ولي الحكم بالجزيرة (الجذوة: 330 والبغية رقم: 1376 والصلة: 593) . (4) قام محمد بن هشام الملقب بالمهدي على هاشم المؤيد في جمادى الآخرة سنة 399، فإذا كانت ولاية ابن الفرضي القضاء له على بلنسية صحيحة فلا بد انها كانت فترة قصيرة، لأن المهدي لبث منذ قيامه إلى أن قتل ستة عشر شهراً، وقد ذكر ابن بشكوال أيضاً ان المهدي استقضى ابن الفرضي بكورة بلنسية (الصلة: 248) . (5) بغدير ابن الشماس: القراءة مضطربة في مختلف الطبعات، وما اثبته هو قراءة بروفنسال، انظر الأندلس: 356 (التعليق رقم: 3) ويقول: ان غدير ابن الشماس حي من أحياء قرطبة، ويحيل القارئ على التكملة لابن الأبار تحقيق ابن أبي شنب (الجزائر 1920) رقم: 513، ص: 233 (ص: 193 من طبعة القاهرة) .

حمود قرطبة (1) ، والجيوش واردة عليها في الجهات تتسارب، فرأيت في جملتهم فتى لم أقدر أن للحسن صورة قائمة حتى رأيته، فغلب علي عقلي وهام به لبي، فسألت عنه فقيل لي: هذا فلان ابن فلان، من سكان جهة كذا، ناحية قاصية عن قرطبة بعيدة المأخذ، فيئست من رؤيته بعد ذلك. ولعمري يا أبا بكر لا فارقني حبه أو يوردني رمسي، فكان ذلك. وأنا اعرف ذلك الفتى وأدريه، وقد رأيته لكني أضربت عن اسمه لأنه قد مات، والتقى كلاهما عند الله عز وجل، عفا الله عن الجميع. هذا على أن عبد الله، أكرم الله نزله، ممن لم يكن له وله قط، ولا فارق الطريقة المثلى، ولا وطئ حراماً قط، ولا قارف منكراً، ولا أتى منهياً عنه يخل بدينه ومروءته؛ ولا قارض من جفا عليه، وما كان في طبقتنا مثله. ثم دخلت أنا قرطبة في خلافة القاسم بن محمود المأمون (2) فلم أقدم شيئاً على قصد أبي عمر القاسم بن يحيى التميمي أخي [أبي] عبد الله رحمه الله، فسألته عن حاله وعزيته عن أخيه، وما كان أولى بالتعزية عنه مني، ثم سألته عن أشعاره ورسائله إذ كان الذي عندي منه قد ذهب بالنهب في السبب الذي ذكرته في صدر هذه الحكاية، فأخبرني عنه أنه لما قربت وفاته وأيقن بحضور المنية ولم يشك في الموت دعا بجميع شعره وبكتبي التي كنت خاطبته أنا بها، فقطعها كلها ثم أمر بدفنها. قال أبو عمر، فقلت له: يا أخي دعها تبقى.

_ (1) دخلها في الثاني والعشرين من المحرم سنة 407. (2) حكم القاسم بن حمود قرطبة بعد مقتل أخيه (408) وبقي حتى شهر ربيع الأول سنة 412 حين ثار عليه ابن أخيه (يحيى بن علي) فهرب القاسم عن قرطبة بلا قتال.

فقال: إني أقطعها وأنا أدري أني أقطع فيها أدباً كثيراً، ولكن لو كان أبو محمد - يعنيني - حاضراً لدفعتها إليه تكون عنده تذكرة لمودتي، ولكني لا أعلم أي البلاد اضمرته ولا أحي هو أم ميت؛ وكانت نكبتي اتصلت به ولم يعلم مستقري ولا إلى ما آل إليه أمري؛ فمن مراثي له قصيدة منها: [من المتقارب] . لئن سترتك بطون اللحود ... فوجدي بعدك لا يستتر قصدت ديارك قصد المشوق ... وللدهر فينا كرور ومر فألفيتها منك قفراً خلاء ... فأسكبت عيني عليك العبر وحدثني أبو القاسم الهمذاني (1) رحمه الله قال: كان معنا ببغداد أخ لعبد الله بن يحيى بن أحمد بن دحون الفقيه (2) ، الذي عليه مدار الفتيا بقرطبة، وكان أعلم من أخيه وأجل مقداراً، ما كان في أصحابنا ببغداد مثله، وأنه اجتاز يوماً بدرب قطنة (3) ، في زقاق لا ينفذ، فدخل فيه فرأى في أقصاه جارية واقفة مكشوفة الوجه، فقالت له: يا هذا إن الدرب لا ينفذ، قال: فنظر إليها فهام بها. قال: وانصرف إلينا فتزايد

_ (1) هو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمذاني (أو الهمداني) الوهراني المعروف بابن الخراز، رحل إلى المشرق ولقي الأبهري أبا بكر وغيره، وكان رجلاًُ صالحاً منقبضاً، داره ببجانة، وكان معاشه يبتاعه ببجانة ويقصرها ويحملها إلى قرطبة فتباع له ويبتاع بثمنها ما يصلح لبجانة، ويجلب معه كتبه فتقرأ عليه من خلال ذلك، وكان يرد قرطبة كل عام إلى ان وقعت الفتنة، وتوفي سنة 411، وروى عنه ابن حزم وابن عبد البر وغيرهما (الصلة: 305 والجذوة 256 والبغية رقم: 1022) قلت: وقد ورد " الهمذاني " بالذال المعجمة بضبط ابن بشكوال، وفي الجذوة بالمهملة، والأولى أرجح، رغم أنه وهراني. (2) هو أبو محمد عبد الله بن يحيى بن أحمد المعروف بابن دحون (- 431هـ) . كان من جلة الفقهاء وكبارهم عارفاً بالفتوى حافظاً للرأي على مذهب مالك وأصحابه عارفاً بالشروط وعللها، عمر وأسن وانتفع الناس به (الصلة: 260) . (3) لم يذكر لسترانج في كتابه: (Baghdad During the Abbasid Caliphate) درباً بهذا الاسم؛ وأقرب ما وجدته هنالك " دار القطنية " (أي قصر سوق القطن) فلعل هنالك درباً مجاورة له كانت تسمى " درب القطنية " ويلي هذا من حيث شكل الكلمة " درب قحطبة " (140، 141) .

عليه أمرها، وخشي الفتنة فخرج إلى البصرة فمات عشقاً رحمه الله، وكان فيما ذكر من الصالحين. حكاية لم أزل أسمعها عن بعض ملوك البرابر: أن رجلاً أندلسياً باع جارية كان يجد بها وجداً شديداً، لفاقة أصابته، من رجل من أهل ذلك البلد، ولم يظن بائعها أن نفسه تتبعها ذلك التتبع؛ فلما حصلت عند المشتري كادت نفس الأندلسي تخرج، فأتى إلى الذي ابتاعها منه وحكمه في ماله أجم وفي نفسه، فأبى عليه، فتحمل عليه بأهل البلد فلم يسعف منهم أحد، فكاد عقله ان يذهب، ورأى أن يتصدى إلى الملك، فتعرض له وصاح، فسمعه فأمر بإدخاله، والملك قاعد في علية له مشرفة عالية، فوصل إليه، فلما مثل بين يديه أخبره بقصته واسترحمه وتضرع إليه، فرق له الملك، فأمر بإحضار الرجل المبتاع فحضر، فقال له: هذا رجل غريب وهو كما تراه، وأنا شغفه إليك، فأبى المبتاع وقال: أنا أشد حباً لها منه، وأخشى إن صرفتها إليه أن أستغيث بك غداً وأنا في أسوأ من حالته، فأذم (1) له الملك ومن حواليه من أموالهم، فأبى ولج واعتذر بمحبته لها، فلما طال المجلس ولم يروا منه البتة جنوحاً إلى الاسعاف قال للأندلسي: يا هذا، مالك بيدي أكثر مما ترى، وقد جهدت لك بأبلغ سعي، وهو [ذا] تراه يعتذر بأنه فيها أحب منك وأنه يخشى على نفسه شراً أنت فيه، فاصبر لما قضى الله عليك. فقال الأندلسي: فما لي بيدك حيلة قال له: وهل هاهنا غير الرغبة والبذل ما أستطيع لك أكثر. فلما يئس الأندلسي منها جمع يديه ورجليه وانصب من أعلى العلية إلى الأرض، فارتاع الملك وصرخ، فابتدر الغلمان من أسفل، فقضي انه لم يتأذ في ذلك الوقوع كبير أذى، فصعد به إلى الملك، فقال: ماذا أردت بهذا فقال: أيها الملك، لا سبيل إلى الحياة بعدها، ثم هم أن يرمي نفسه ثانية،

_ (1) أذموا له: أي تكفلوا له بشيء من أموالهم؛ وعند بتروف: فرام؛ وقرأها برشيه حسب المعنى: فرغبه.

فمنع، فقال الملك: الله أكبر، قد ظهر وجه الحكم في هذه المسألة، ثم التفت إلى المشتري فقال: يا هذا، إنك ذكرت أنك أود لها منه وتخاف أن تصير في مثل حاله، فقال: نعم، قال: فإن صاحبك هذا أبدى عنوان محبته وقذف بنفسه يريد الموت لولا ان الله عز وجل وقاه، فأنت قم فصحح حبك، وترام من أعلى هذه القصبة كما فعل صاحبك، فإن مت فبأجلك وإن عشت كنت أولى بالجارية، إذ هي في يدك ويمضي صاحبك عنك وإن أبيت نزعت الجارية منك رغماً ودفعتها إليه، فتمنع ثم قال: أتراني، فلما قرب من الباب ونظر إلى الهوى تحته رجع القهقري، فقال له الملك: هو والله ما قلت، فهم ثم نكل، فلما لم يقدم قال له الملك: لا تتلاعب بنا، يا غلمان، خذوا بيديه وارموا به إلى الأرض، فلما رأى العزيمة قال: أيها الملك، قد طابت نفسي بالجارية، فقال له: جزاك الله خيراً؛ فاشتراها منه ودفعها إلى بائعها، وانصرفا.

باب قبح المعصية

- 29 - باب قبح المعصية قال المصنف رحمه الله تعالى: وكثير من الناس يطيعون أنفسهم ويعصون عقولهم، ويتبعون أهواءهم، ويرفضون اديانهم، ويتجنبون ما حض الله تعالى عليه ورتبه في الألباب السليمة من العفة وترك المعاصي ومقارعة (1) الهوى، ويخالفون الله ربهم ويوافقون إبليس فيما يحبه من الشهوة المعطبة، فيواقعون المعصية في حبهم. وقد علمنا ان الله عز وجل ركب في الإنسان طبيعتين متضادتين: إحداهما لا تشير إلا بخير ولا تحض إلا على حسن، ولا يتصور فيها إلا كل أمر مرضي، وهي العقل، وقائده العدل؛ والثانية ضد لها، لا تشير إلا إلى الشهوات، ولا تقود إلا إلى الردى، وهي النفس، وقائدها الشهوة، والله تعالى يقول: {إن النفس لأمارة بالسوء} (يوسف: 53) وكنى بالقلب عن العقل فقال: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (ق: 37) . وقال تعالى: {وحبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم} (الحجرات: 7) . وخاطب أولي الألباب. فهاتان الطبيعتان قطبان في الإنسان، وهما قوتان من قوى الجسد الفعال بهما، ومطرحان من مطارح شعاعات هذين الجوهرين العجيبين

_ (1) قراءة مقبولة، ولكن برشيه يقرؤها: ومفارقة.

الرفيعين العلويين (1) ، ففي كل جسد منهما حظه على قدر مقابلته لهما في تقدير الواحد الصمد، تقدست أسماؤه، حين خلقه وهيأه؛ فهما يتقابلان أبداً ويتنازعان دأباً، فإذا غلب العقل النفس ارتدع الانسان وقمع عوارضه المدخولة واستضاء بنور الله وابتع العدل، وإذا غلبت النفس العقل عميت البصيرة، ولم يضح الفرق بين الحسن والقبيح، وعظم الالتباس وتردى في هوة الردى ومهواة الهلكة، وبهذا حسن الأمر والنهي، ووجب الامتثال (2) ، وصح الثواب والعقاب، واستحق الجزاء. والروح واصل بين هاتين الطبيعتين، وموصل ما بينهما، ومحل (3) الالتقاء بهما، وإن الوقوف عند حد الطاعة لمعدوم إلا بطول الرياضة وصحة المعرفة ونفاذ التمييز، ومع ذلك اجتناب التعرض للفتن ومداخلة الناس جملة والجلوس في البيوت، وبالحرى أن تقع السلامة المضمونة أو يكون الرجل حصوراً لا أرب له في النساء ولا جارحة له تعينه عليهن. وقديماً ورد: " من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي شر الدنيا بحذافيرها " (4) ؛ واللقلق: السان، والقبقب: البطن، والذبذب: الفرج. ولقد أخبرني أبو حفص الكاتب (5) ، وهو من ولد روح بن زنباع الجذامي (6) ، انه سمع بعض المتسمين باسم الفقه من أهل الرواية المشاهير، وقد سئل عن هذا الحديث فقال: القبقب: البطيخ.

_ (1) إذا كانت النفس لا تشير إلا إلى الشهوات ولا تقود إلا إلى الردى - كما يقول ابن حزم فكيف تكون جوهراً عجيباً رفيعاً علوياً! هنا يبدو الخلط الشديد بين النفس " الامارة بالسوء " والنفس التي " هبطت إليك من المحل الأرفع ". (2) في بعض الطبعات: الاكتمال. (3) بتروف والصيرفي ومكي: وحامل. (4) انظر اللسان (لقق) وعده حديثاً، وانظر الجامع الصغير 2: 183) . (5) أرجح أنه أبو حفص أحمد بن محمد بن أحمد بن برد الكاتب، وقد كان يتردد على ابن حزم بالمرية (الجذوة: 107) . (6) روح بن زنباع الجذامي: أحد رجالات العصر الأموي شجاعة وخطابة وقدرة قيادية (توفي 84/ 703) انظر: تهذيب ابن عساكر 5: 337 وتاريخ ابن كثير 9: 54؛ وقد كانت دار جذام بالأندلس: شذونة والجزيرة وتدمير واشبيلية (جمهرة ابن حزم: 421) .

وحدثنا أحمد بن محمد بن أحمد (1) ثنا وهب بن مسرة (2) ومحمد ابن أبي دليم (3) عن محمد بن وضاح (4) عن يحيى بن يحيى (5) عن مالك ابن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل: " من وقاه الله شر اثنتين دخل الجنة " فسئل عن ذلك فقال: " ما بين لحييه وما بين رجليه " (6) . وإني لأسمع كثيراً ممن يقول: الوفاء في قمع الشهوات في الرجال دون النساء، فأطيل العجب من ذلك، وإن لي قولاً لا احول عنه: الرجال والنساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواء، وما رجل عرضت له امرأة جميلة بالحب وطال ذلك، ولم يكن ثم من مانع، إلا وقع في شرك الشيطان، واستهوته المعاصي، واستفزه الحرص وتغوله الطمع، وما امرأة دعاها رجل بمثل هذه الحالة إلا وأمكنته، حتماً مقضياً وحكماً نافذاً لا محيد عنه البتة (7) .

_ (1) هو ابن الجسور كما تقدم (ص: 174) ووهم الدكتور الطاهر مكي فظنه ابن برد الذي مر آنفاً، وابن برد لم يكن محدثاً (انظر طوق الحمامة تحقيق د. مكي: 162 الحاشية رقم: 4) . (2) وهب بن مسرة الحجاري التميمي أبو الحزم (- 346) حضر إلى قرطبة وأخرجت إليه أصول محمد بن وضاح التي سمع فيها (ابن الفرضي 2: 161) . (3) هو محمد بن محمد بن عبد الله بن أبي دليم (- 372) قرطبي يكنى أبا عبد الله، وكان ضابطاً لكتبه ثقة مأموناً مجتهداً عابداً عاش صرورة (ابن الفرضي 2: 85 وترتيب المدارك 4: 441) ووهم الدكتور الظاهر مكي فترجم لأخيه عبد الله بن محمد في موضعه. (4) محمد بن وضاح (200 - 287) قرطبي، رحل إلى المشرق مرتين وسمع كثيراً وكان عالماً بالحديث بصيراً بطرقه ورعاً متعففاً (ابن الفرضي 2: 17 والجذوة: 87) . (5) يحيى بن يحيى الليثي (- 234) تلميذ مالك، وناشر مذهبه في الأندلس، سمع منه مشايخ الاندلس في وقته ونال حظوة وجلالة ذكر (ابن الفرضي 2: 176 والجذوة359) . (6) ورد هذا الحديث في الموطأ (كلام: 11) والترمذي (زهد: 61) ومسند أحمد 5: 362 وانظر البخاري (رقاق: 23، حدود: 19) ومسند أحمد 5: 333. (7) يتجاوز ابن حزم هنا موقف الجاحظ الذي جعل سهولة الانقياد من نصيب المرأة وحدها، وكأنه يرد عليه (الحيوان 1: 169 - 170) .

ولقد أخبرني ثقة صدق من إخواني من أهل التمام في الفقه والكلام والمعرفة وذو صلابة في دينه، أنه احب جارية نبيلة أديبة ذات جمال بارع، قال: فعرضت لها فنفرت، ثم عرضت فأبت، فلم يزل الأمر يطول وحبها يزيد، وهي لا تطيع البتة، إلى ان حملني فرط حبي لها مع عمى الصبا على أن نذرت أني متى نلت منها مرادي أتوب إلى الله توبة صادقة؛ قال: فما مرت الأيام والليالي حتى أذعنت بعد شماس ونفار؛ فقلت له: أبا فلان، وفيت بعهدك فقال: أي والله، فضحكت. وذكرت بهذه الفعلة ما لم يزل يتداول في أسماعنا من ان في بلاد البربر التي تجاوز أندلسنا يتعهد (1) الفاسق على انه إذا قضى وطره ممن أراد أن يتوب إلى الله، فلا يمنع من ذلك، وينكرون على من تعرض له بكلمة ويقولون له: أتحرم رجلاً مسلماً التوبة. قال: ولعهدي بها تبكي وتقول: والله لقد بلغتني مبلغاً ما خطر قط لي ببال، ولا قدرت ان أجيب إليه أحداً. ولست أبعد أن يكون الصلاح في الرجال والنساء موجوداً، وأعوذ بالله أن أظن غير هذا، وإني رأيت الناس يغلطون في معنى هذه الكلمة، أعني " الصلاح " غلطاً بعيداً. والصحيح في حقيقة تفسيرها أن الصالحة من النساء هي التي إذا ضبطت انضبطت، وإذا قطعت عنها الذرائع أمسكت، والفاسدة هي التي إذا ضبطت لم تنضبط، وإذا حيل بينها وبين الأسباب التي تسهل الفواحش تحيلت في أن تتوصل إليها بضروب من الحيل؛ والصالح من الرجال من لا يداخل أهل الفسوق ولا يتعرض إلى المناظر الجالبة للأهواء، ولا يرفع طرفه إلى الصور البديعة التركيب؛ والفاسق من يعاشر أهل النقص وينشر بصره إلى

_ (1) برشيه: يتوب.

الوجوه البديعة الصنعة، ويتصدى للمشاهد المؤذية، ويحب الخلوات المهلكات (1) ؛ والصالحان من الرجال والنساء كالنار الكامنة في الرماد لا تحرق من جاورها إلا بأن تحرك، والفاسقان كالنار المشتعلة تحرق كل شيء. وأما امرأة مهملة ورجل متعرض فقد هلكا وتلفا؛ ولهذا حرم على المسلم الالتذاذ بسماع نغمة امرأة أجنبية، وقد جعلت النظرة الأولى لك والأخرى عليك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تأمل امرأة وهو صائم حتى يرى حجم عظامها فقد أفطر " (2) . وإن فيما ورد من النهي عن الهوى بنص التنزيل لشيئاً مقنعا؛ وفي إيقاع هذه الكلمة، أعني " الهوى " اسماً على معان، وفي اشتقاقها عند العرب دليل على ميل النفوس وهويها إلى هذه المقامات. وإن المتمسك عنها مقارع لنفسه محارب لها. وشيء أصفه لك تراه عياناً: وهو أني ما رأيت قط امرأة في مكان تحس أن رجلاً يراها أو يسمع حسها إلا وأحدثت حركة فاضلة كانت بمعزل، واتت بكلام زائد كانت عنه في غنية، مخالفين لكلامها وحركتها قبل ذلك؛ ورأيت التهمم لمخارج لفظها وهيئة تقلبها لائحاً فيها ظاهراً عليها لا خفاء به؛ والرجال كذلك إذا أحسوا بالنساء. وأما إظهار الزينة وترتيب المشي وإيقاع المزح عند خطور المرأة بالرجل واجتياز الرجل بالمرأة فهذا أشهر من الشمس في كل مكان. والله عز وجل يقول: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} وقال تقدست أسماؤه: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} (النور: 30 - 31) . فلولا علم الله عز وجل بدقة (3) إغماضهن في

_ (1) برشيه: المهلكة. (2) لم أجده نصاً، ومما هو بسبيله ما جاء في مصنف عبد الرزاق: (4: 193) : من تأمل خلق امرأة وهو صائم بطل صومه. (3) جميع الطبعات: برقة.

السعي لإيصال حبهن إلى القلوب، ولطف كيدهن في التحيل لاستجلاب الهوى، لما كشف الله عن هذا المعنى البعيد الغامض الذي ليس وراءه مرمى، وهذا حد التعرض فكيف بما دونه. ولقد اطلعت من سر معتقد الرجال والنساء في هذا على أمر عظيم، وأصل ذلك أني لم أحسن قط بأحد ظناً في هذا الشأن، مع غيرة شديدة ركبت في. وحدثنا أبو عمر أحمد بن محمد بن أحمد، ثنا احمد، ثنا محمد ابن عيسى بن رفاعة، حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا أبو عبيد القاسم ابن سلام عن شيوخه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الغيرة من الإيمان " (1) فلم أزل باحثاً عن أخبارهن كاشفاً عن أسرارهن، وكن قد أنسن مني بكتمان، فكن يطلعنني على غوامض أمورهن. ولولا أن أكون منبهاً على عوارت يستعاذ بالله منها لأوردت من تنبههن في الشر ومكرهن فيه عجائب تذهل الألباب. وإني لأعرف هذا وأتيقنه، ومع هذا يعلم الله - وكفى به عليماً - أني بريء الساحة، سليم الأديم، صحيح البشرة، نقي الحجزة، وإني أقسم بالله أجل الأقسام أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا مذ عقلت إلى يومي هذا، والله المحمود على ذلك، والمشكور فيما مضى، والمستعصم فيما بقي. حدثنا القاضي أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد الرحمن ابن جحاف المعافري (2) - وإنه لأفضل قاض رايته - عن محمد

_ (1) ورد الحديث في صحيح مسلم (توبة: 38) ومسند أحمد 2: 235، 438، 301. (2) توفي القاضي أبو عبد الرحمن (سنة 417، أو 418) ؛ وقد اثنى عليه ابن حزم - حسب رواية الحميدي بقوله: هو أفضل قاض رأيته ديناً وعقلاً وتصاوناً مع حظه الوافر من العلم (الجذوة: 225 والصلة: 244) .

ابن إبراهيم الطليطلي (1) ، عن القاضي بمصر بكر بن العلاء (2) ، في قول الله عز وجل: {وأما بنعمة ربك فحدث} (الضحى: 11) أن لبعض المتقدمين فيه قولاً، وهو أن المسلم يكون مخبراً عن نفسه بما أنعم الله تعالى به عليه من طاعة ربه التي هي من أعظم النعم، ولاسيما في المفترض على المسلمين اجتنابه واتباعه. وكان السبب فيما ذكرته أني كنت وقت تأجج نار الصبا وشرة الحداثة وتمكن غرارة الفتوة مقصوراً محظراً علي بين رقباء ورقائب؛ فلما ملكت نفسي وعقلت صحبت أبا علي الحسين بن علي الفاسي في مجلس أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي (3) شيخنا وأستاذي رضي الله عنه، وكان أبو علي المذكور عاقلاً عاملاً، ممن تقدم في الصلاح والنسك الصحيح وفي الزهد في الدنيا والاجتهاد للآخرة، وأحسبه كان حصوراً لأنه لم تكن له امرأة قط، وما رأيت مثله جملة علماً وعملاً وديناً وورعاً، فنفعني الله به كثيراً وعلمت موقع الإساءة وقبح المعاصي. ومات أبو علي رحمه الله في طريق الحج. ولقد ضمني المبيت ليلة في بعض الأزمان عند امرأة من بعض معارفي مشهورة بالصلاح والخير والحزم، ومعها جارية من بعض قراباتها من اللاتي قد ضمتها معي النشأة في الصبا، ثم غبت عنها أعواماً كثيرة، وكنت تركتها حين أعصرت ووجدتها قد جرى على وجهها ماء الشباب ففاض وانساب، وتفجرت عليها ينابيع الملاحة فترددت وتحيرت، وطلعت في سماء وجهها نجوم الحسن فأشرقت

_ (1) هو دون ريب محمد بن ابراهيم بن اسماعيل الطليطلي ويعرف بابن المشكيالي، وقد رحل إلى المشرق، وسمع بمصر بكر بن العلاء القشيري، سمع منه كتابه في أحكام القرآن، وكان ورعاً متقللاً من الدنيا، توفي سنة 400 (الصلة: 461) . (2) انظر التعليق السابق. (3) قد مر التعريف بهما، ص: 196، 197.

وتوقدت، وانبعث في خديها أزاهير الجمال فتمت واعتمت، فأتت كما أقول: [من البسيط] خريدة صاغها الرحمن من نور ... جلت ملاحتها عن كل تقدير لو جاءني عملي في حسن صورتها ... يوم الحساب ويوم النفخ في الصور لكنت أحظى عباد الله كلهم ... بالجنتين وقرب الخرد الحور وكانت من أهل بيت صباحة، وقد ظهرت منها (1) صورة تعجز الوصاف، وقد طبق وصف شبابها قرطبة، فبت عندها ثلاث ليال متوالية، ولم تحجب عني على جاري العادة في التربية؛ فلعمري لقد كاد قلبي أن يصبو ويثوب إليه مرفوض الهوى، ويعاوده منسي الغزل. ولقد امتنعت بعد ذلك من دخول تلك الدار خوفاً على لبي أن يزدهيه الاستحسان؛ ولقد كانت هي وجميع أهلها ممن لا تتعدى الأطماع إليهن، ولكن الشيطان غير مأمون الغوائل، وفي ذلك أقول: [من الكامل المجزوء] لا تتبع النفس الهوى ... ودع التعرض للمحن إبليس حي لم يمت ... والعين باب للفتن وأقول: [من المجتث] وقائل لي: هذا ... ظن يزيدك غيا فقلت: دع عنك لومي ... أليس إبليس حيا وما أورد الله تعالى علينا من قصة يوسف بن يعقوب وداود بن يشي (2) رسل الله عليهم السلام إلا ليعلمنا نقصاننا وفاقتنا إلى

_ (1) بعض الطبعات: على. (2) أثبت هذه الصورة من الاسم لأنها تطابق (Jesse) مع ابدال السين شيناً في التعريب (انظر: (The Legends of the Jews، Vol. 4، p. 81) . وهو " يسي " - بالسين المهملة - في العهد القديم.

عصمته، وان بنيتنا مدخولة ضعيفة، فإذا كانا صلى الله عليهما وهما نبيان رسولان ابنا أنبياء رسل ومن أهل بيت نبوة ورسالة، مكرمين (1) في الحفظ، مغموسين في الولاية، محفوفين بالكلاءة، مؤيدين بالعصمة، لا يجعل للشيطان عليهما سبيل، ولا فتح لوسواسه نحوهما طريق، وبلغا حيث نص الله عز وجل علينا في قرآنه المنزل بالجملة المؤصلة، والطبع البشري والخلقة الأصيلة، لا بتعمد الخطيئة ولا القصد إليها - إذ النبيون مبرؤون من كل ما خالف طاعة الله عز وجل، لكنه استحسان طبيعي في النفس للصور - فمن ذا الذي يصف نفسه بملكها ويتعاطى ضبطها إلا بحول الله وقوته! وأول دم سفك في الأرض فدم أحد ابني آدم على سبب المنافسة في النساء (2) ؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء " (3) وهذه امرأة من العرب تقول، وقد حبلت من ذي قرابة لها، حين سئلت: ما ببطنك يا هند فقالت: قرب الوساد وطول السواد (4) ؛ وفي ذلك أقول شعراً منه: [من الرمل] لا تلم من عرض النفس لما ... ليس يرضي غيره عند المحن لا تقرب عرفجاً من لهب ... ومتى قربته قامت دخن لا تصرف ثقة في أحد ... فسد الناس جميعاً والزمن خلق النسوان للفحل كما ... خلق الفحل بلا شك لهن كل شكل يتشهى شكله ... لا تكن عن أحد تنفي الظنن

_ (1) بتروف: متكررين؛ برشيه: متبحرين. (2) انظر قصة قابيل وهابيل في عرائس المجالس للثعلبي: 43 - 47. (3) باعدوا بين أنفاس الرجال وأنفاس النساء: ذكره ابن الحاج في " المدخل " في صلاة العيدين، وذكره ابن جماعة في " منسكه " في طواف النساء، ولم يورد له سنداً؛ وقال ملا علي القاري: انه غير ثابت (الأخبار الموضوعة: 145) غير ان ابن حزم لا يورده هكذا إلا وهو يصححه من وجه ما. (4) ذكر هذا عن ابنة الخس، وذلك أنه قيل لها: لم زنيت بعبدك ولم تزني بحر، وما أغراك به، قالت: طول السواد وقرب الوساد (الحيوان 1: 169 ولمح الملح للحظيري، الورقة: 49/أ) .

صفة الصالح من إن صنته ... عن قبيح أظهر الطوع الحسن وسواه من ذا ثقفته ... أعمل الحيلة في خلع الرسن وإني لأعلم فتى من أهل الصيانة قد أولع بهوى له، فاجتاز بعض إخوانه فوجده قاعداً مع من كان يحب، فاستجلبه إلى منزله، فأجابه إلى منزله بامتثال المسير بعده، فمضى داعيه إلى منزله وانتظره حتى طال عليه التربص فلم يأته، فلما كان بعد ذلك اجتمع به داعيه فعدد عليه وأطال لومه على إخلافه موعده، فاعتذر وورى، فقلت أنا للذي دعاه: أنا أكشف عذره صحيحاً من كتاب الله عز وجل إذ يقول: {ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم} (طه: 87) فضحك من حضر، وكلفت أن أقول في ذلك شيئاً فقلت: [من الطويل] . وجرحك لي جرح جبار فلا تلم ... ولكن جرح الحب غير جبار وقد صارت الخيلان وسط بياضه ... كنيلوفر حفته روض بهار وكم قال لي من مت وجداً بحبه ... مقالة محلول المقالة زاري وقد كثرت مني إليه مطالب ... ألح عليه تارة وأداري: أما في التداني ما يبرد غلة ... ويذهب شوقاً في ضلوعك ساري فقلت له: لو كان ذلك لم تكن ... عداوة جار في الأنام لجار وقد يتراءى العسكران لدى الوغى ... وبينهما للموت سبل بوار ولي كلمتان قلتهما معرضاً - بل مصرحاً - برجل من أصحابنا كنا نعرفه من أهل الطلب والعناية والورع وقيام الليل واقتفاء آثار النساك وسلوك مذاهب المتصوفين القدماء، باحثاً مجتهداً، وقد كنا نتجنب المزاح بحضرته، فلم يمض الزمن حتى مكن الشيطان من نفسه، وفتك بعد لباس النساك، وملك إبليس من خطامه فسول له الغرور، وزين له الويل والثبور، وأجره رسنه بعد إباء، وأعطاه ناصيته بعد

شماس، فخب في طاعته وأوضع، واشتهر بعد ما ذكرته في بعض المعاصي القبيحة الوضرة. ولقد أطلت ملامة وتشددت في عذله إذ أعلن بالمعصية بعد استتار، إلى ان أفسد ذلك ضميره علي، وخبثت نيته لي، وتربص بي دوائر السوء، وكان بعض أصحابنا يساعده بالكلام استجراراً إليه، فيأنس به ويظهر له عداوتي، إلى أن أظهر لله سريرته، فعلمها البادي والحاضر، وسقط من عيون الناس كلهم بعد أن كان مقصداً للعلماء ومنتاباً للفضلاء، ورذل عند إخوانه جملة، أعاذنا الله من البلاء، وسترنا في كفايته، ولا سبلنا ما بنا من نعمته. فيا سوءتاه لمن بدأ بالاستقامة ولم يعلم أن الخذلان يحل به، وأن العصمة ستفارقه!! لا إله إلا الله، ما أشنع هذا وأفظعه!! لقد دهمته إحدى بنات الحرس، وألقت عصاها به أم طبق (1) من كان الله أولاً ثم صار للشيطان آخراً، ومن إحدى الكلمتين: [من البسيط] . أما الغلام فقد حانت فضيحته ... وانه كان مستوراً وقد هتكا ما زال يضحك من أهل الهوى عجباً ... فالآن كل جهول منه قد ضحكا إليك لا تلح صبا هائماً كلفاً ... يرى التهتك في دين الهوى نسكا قد كان دهراً يعاني النسك مجتهداً ... (3) يعد (2) في نسكه كل امرئ مسكا ذو محبر وكتاب لا يفارقه ... نحو المحدث يسعى حيث ما سلكا فاعتاض من سمر أقلام بنان فتى ... كأنه من لجين صيغ أو سبكا يا لائمي سفهاً في ذاك قل فلم ... تشهد حبيبين يوم الملتقى اشتبكا دعني ووردي في الآبار اطلبه ... (4) إليك عني كذا لا أبتغي البركا

_ (1) الحرس: الدهر، وبناته مصائبه؛ وأم طبق أو بنات طبق: الشدة، أو الداهية، وأصله للحية، إذ يقال لها أم طبق. (2) بتروف: يعدل. (3) المسك: البخيل (أي ان كل امرئ إذا قيس إلى نسكه عد مقصراً) ؛ وعند بتروف: نسكا، وقرأها برشيه: نهكا. (4) يستعمل ابن حزم في هذا البيت وما يليه من أبيات نوعاً من التعريض الجارح.

إذا تعففت عف الحب عنك وغن ... تركت يوماً فإن الحب قد تركا ولا تحل من الهجران منعقداً ... إلا اذا ما حللت الأزر والتككا ولا تصحح للسلطان مملكة ... أو تدخل البرد عن إنفاذه السككا ولا بغير كثير المسح يذهب ما ... يعلو الحديد من الأصداء ان سبكا وكان هذا المذكور من أصحابنا قد احكم القراءات إحكاماً جيداً، واختصر كتاب الأنباري في الوقف والابتداء (1) اختصاراً حسناً أعجب به من رآه من المقرئين، وكان دائباً على طلب الحديث وتقييده، والمتولي لقراءة ما يسمعه على الشيوخ المحدثين، مثابراً على النسخ مجتهداً به، فلما امتحن بهذه البلية مع بعض الغلمان رفض ما كان معتنياً به وباع أكثر كتبه واستحال كلية، نعوذ بالله من الخذلان. وقلت فيه كلمة وهي التالية للكلمة التي ذكرت منها في أول خبره ثم تركتها. وقد ذكر أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي (2) في كتاب " اللفظ والإصلاح " أن إبراهيم بن سيار النظام رأس المعتزلة، مع علو طبقته في الكلام وتمكنه وتحكمه في المعرفة، تسبب إلى ما حرم الله عليه من فتى نصراني عشقه بان وضع له كتاباً في تفضيل

_ (1) المقصود هنا محمد بن القاسم بن محمد أبو بكر الانباري (271 - 328) وهو شارح المفضليات والسبع الطوال (انظر ترجمته في الفهرست: 82 وانباه الرواة 3: 201 وتاريخ بغداد 3: 181 وابن خلكان 4: 341 وغاية النهاية 2: 230 ومعجم الأدباء 18: 306) وقد طبع كتابه المشار إليه بعنوان " ايضاح الوقف والابتداء " في جزءين، تحقيق محيي عبد الرحمن رمضان، بعناية مجمع اللغة العربية بدمشق 1971 وقد دخل الأندلس بعدة روايات منها رواية شريح بن محمد عن أبي جعفر أحمد بن محمد بن عبد العزيز اليحصبي بمصر عن ابن الشعيري عن المؤلف (ابن خير: 44 - 45 والصلة: 215 الترجمة رقم 498) . (2) الراوندي أو الريوندي أو الروندي (- 245) : متكلم من أهل مرو الروذ، خرج على المعتزلة وأعلن إلحاده في كتب مختلفة، انظر الفهرست 216 وابن خلكان 1: 94 والمنتظم 6: 99 وكتاب الانتصار للخياط ورسالة الغفران: 461 وانظر عنه مقالة للدكتور يوسف فان إس في مجلة الأبحاث (السنة: 27) ؛ ولم يذكر ابن النديم " اللفظ والاصلاح " بين كتبه.

التثليث على التوحيد؛ فيا غوثاه!!! عياذك يا رب من تولج الشيطان ووقوع الخذلان. وقد يعظم البلاء وتكلب الشهوة، ويهون القبيح، ويرق الدين حتى يرضى الإنسان في جنب وصوله إلى مراده بالقبائح والفضائح، كمثل ما دهم عبيد الله بن يحيى الأزدي المعروف بابن الجزيري (1) ، فإنه رضي بإهمال داره وإباحة حريمه والتعريض بأهله طمعاً في الحصول على بغيته من فتى كان علقه - نعوذ بالله من الضلال ونسأله الحياطة وتحسين آثارنا وإطابة أخبارنا - حتى لقد صار المسكين حديثاً تعمر به المحافل، وتصاغ فيه الأشعار، وهو الذي تسميه العرب الديوث - وهو مشتق من التدييث، وهو التسهيل، وما بعد تسهيل من تسمح نفسه بهذا الشأن تسهيل، ومنه بعير مديث، أي مذلل. ولعمري إن الغيرة لتوجد في الحيوان بالخلقة (2) ، فكيف وقد أكدتها عندنا الشريعة، وما بعد هذا مصاب. ولقد كنت اعرف هذا المذكور مستوراً إلى أن استهواه الشيطان، ونعوذ بالله من الخذلان، وفيه يقول عيسى بن محمد بن مجمل (3) الخولاني: [من الكامل] يا جاعلاً إخراج حر نسائه ... شركاً لصيد جآذر الغزلان إني أرى شركاً يمزق ثم لا ... تحظى بغير مذلة الحرمان

_ (1) مر ذكره من قبل: 178. (2) يقول ابن حزم في الغيرة (رسائل: 141) : الغيرة خلق فاضل متركب من النجدة والعدل؛ ويقول: إذا ارتفعت الغيرة فأيقن بارتفاع المحبة. (3) ترجم له الحميدي (الجذوة: 281 والبغية رقم: 1155) باسم عيسى بن مجمل، وقال كان أديباً تاجراً شاعراً من أهل قرطبة مشهوراً، وأورد له قطعتين في التذمر من قوم زاروه فقعدوا في دكانه ومنعوه من معيشته.

وأقول أنا أيضاً: [من الطويل] . أباح أبو مروان حر نسائه ... ليبلغ ما يهوى من الرشأ الفرد فعاتبته الديوث في قبح فعله ... (1) فأنشدني إنشاد مستبصر جلد " لقد كنت أدركت المنى غير أنني ... (2) يعيرني قومي بإدراكها وحدي " وأقول أيضاً: [من المتقارب] . رأيت الجزيري فيما يعاني ... قليل الرشاد كثير السفاه يبيع ويبتاع عرضاً بعرض ... أمور وجدك ذات اشتباه ويأخذ ميما بإعطاء (3) هاء ... ألا هكذا فليكن ذو النواهي ويبدل أرضاً تغذي النبات ... بأرض تحف بشوك العضاه لقد خاب في تجره ذو ابتياع ... مهب الرياح بمجرى المياه ولقد سمعته في المسجد يستعيذ بالله من العصمة كما يستعاذ به من الخذلان. ومما يشبه هذا أني أذكر أني كنت في مجلس فيه إخوان لنا عند بعض مياسير أهل بلدنا، فرأيت بين بعض من حضر وبين من كان بالحضرة أيضاً من أهل صاحب المجلس أمراً أنكرته وغمزاً استبشعته، وخلوات الحين بعد الحين، وصاحب المجلس كالغائب أو النائم، فنبهته بالتعويض فلم ينتبه، وحركته بالتصريح فلم يتحرك، فجعلت أكرر عليه بيتين قديمين لعله يفطن، وهما هذان: [من الخفيف] . إن إخوانه المقيمين بالأم ... س أتوا للزناء لا للغناء قطعوا أمرهم وأنت حمار ... موقر من بلادة وغباء

_ (1) قراءة برشيه: مستهتر صلد. (2) هو مضمن، وقد ورد في الذخيرة 1/1: 156 دون نسبة. (3) لعله باعطاء " صاد "، انظر كنايات الجرجاني: 29 والثعالبي: 26.

وأكثرت من إنشادهما حتى قال لي صاحب المجلس: قد أمللتنا من سماعهما فتفضل بتركهما أو إنشاد غيرهما، فأمسكت وأنا لا أدري أغافل هو أم متغافل؛ وما أذكر أني عدت إلى ذلك المجلس بعدها، فقلت فيه قطعة منها: [من الخفيف] . أنت لا شك أحسن الناس ظنا ... (1) ويقيناً ونية وضميراً فانتبه إن بعض من كان بالأم ... س جليساً لنا يعاني كبيرا ليس كل الركوع فاعلم صلاة ... لا ولا كل ذي لحاظ بصيرا وحدثني ثعلب بن موسى الكلاذاني (2) قال، حدثني سليمان بن أحمد الشاعر قال، حدثتني امرأة اسمها هند كنت رأيتها في المشرق، وكانت قد حجت خمس حجات، وهي من المتعبدات المجتهدات، قال سليمان: فقالت لي: يا ابن أخي، لا تحسن الظن بامرأة قط فإني أخبرك عن نفسي بما يعلمه الله عز وجل: ركبت البحر منصرفة من الحج وقد رفضت الدنيا وأنا خامسة خمس نسوة، كلهن قد حججن من الحج وقد رفضت الدنيا وأنا خامسة خمس نسوة، كلهن قد حججن، وصرنا في مركب في بحر القلزم (3) ، وفي بعض ملاحي السفينة رجل مضمر الخلق مديد القامة واسع الأكتاف حسن التركيب، فرأيته أول ليلة قد أتى إلى إحدى صواحبي فوضع إحليله في يدها، وكان ضخماً جداً، فأمكنته في الوقت من نفسها، ثم مر عليهن كلهن في ليال متواليات، فلم يبق له غيرها، تعني نفسها، قال: فقلت في نفسي: لأنتقمن منك؛ فأخذت موسى وأمسكتها بيدي، فأتى في الليل على جاري عادته، فلما فعل كفعله في سائر الليالي سقطت الموسى عليه فارتاع وقام لينهض، قال: فأشفقت عليه وقلت له وقد أمسكته:

_ (1) في أمثال العوام (63 رقم: 256) أول ما يعطى للقران (أي القرنان) حسن الظن (يعني بزوجته) ومثل أندلسي آخر: كثرة الأطمني تولد القرون. وابن حزم يلمح إلى ذلك. (2) لعل صواب هذه النسبة " الكلواذاني " أو " الكلاباذي ". (3) هو ما يعرف اليوم باسم البحر الأحمر.

لا زلت أو آخذ نصيبي منك، قالت العجوز: فقضى وطره وأستغفر الله. وإن للشعراء من لطف التعريض عن الكتابة لعجباً؛ ومن بعض ذلك قولي حيث أقول: [من الطويل] . أتاني وماء المزن في الجو يسفك ... كمحض لجين إذ يمد ويسبك هلال الدياجي انحط من جو أفقه ... فقل في محب نال ما ليس يدرك وكان الذي إن كنت لي عنه سائلا ... فمالي جواب غير أني أضحك لفرط سروري خلتني عنه نائماً ... فيا عجبا من موقن يتشكك وأقول أيضاً قطعة منها: [من البسيط] . أتيتني وهلال الجو مطلع ... قبيل قرع النصارى للنواقيس كحاجب الشيخ عم الشيب أكثره ... واخمص الرجل في لطف وتقويس ولاح في الأفق قوس الله مكتسياً ... (1) من كل لون كأذناب الطواويس وإن فيما يبدو إلينا من تعادي المتواصلين في غير ذات الله تعالى بعد الألفة، وتدابرهم بعد الوصال، وتقاطعهم بعد المودة، وتباغضهم بعد المحبة، واستحكام الضغائن، وتأكد (2) السخائم في صدورهم، لكاشفاً ناهياً لو صادف عقولاً سليمة، وآراء نافذة وعزائم صحيحة. فكيف بما أعد الله لمن عصاه من النكال الشديد يوم الحساب وفي دار الجزاء، ومن الكشف على رؤوس الخلائق {يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} (الحج: 2) جعلنا الله ممن يفوز

_ (1) اعتقد أن التعريض في هذه القطعة قد ضاع مع أبيات سقطت منها. (2) برشيه: وتحكم.

فعهدتها أصفى من الماء (1) ، وألطف من الهواء (2) ، وأثبت من الجبال، وأقوى من الحديد (3) وأشد امتزاجاً من اللون في الملون، وأنفذ استحكاماً من الأعراض في الأجسام، وأضوأ من الشمس، وأصح من العيان، وأثقب من النجم، وأصدق من كدر القطا (4) ، واعجب من الدهر، واحسن من البر، وأجمل من وجه أبي عامر، وألذ من العافية، وأحلى من المنى، وأدنى من النفس، وأقرب من النسب، وأرسخ من النقش في الحجر، ثم لم ألبث أن رأيت تلك المودة قد استحالت عداوة أفظع من الموت، وأنفذ من السهم (5) ، وأمر من السقم، وأوحش من زوال النعم، وأقبح من حلول النقم، وأمضى من عقم الرياح (6) ، وأضر من الحمق، وأدهى من غلبة العدو، وأشد من الأسر، وأقسى من الصخر (7) ، وأبغض من كشف الأستار، وانأى من الجوزاء (8) ، وأصعب من معاناة السماء، وأكبر من رؤية المصاب، وأشنع من خرق العادات، وأقطع من فجأ البلاء، وأبشع من السم الزعاف (9) ، وما لا يتولد مثله عن الذحول والتراث وقتل الآباء وسبي الأمهات. وتلك عادة الله في أهل الفسق القاصدين سواه، الآمين غيره؛ وذلك قوله عز وجل {يا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ

_ (1) يقال في المثل: أصفى من الماء، أرق من الماء (الدرة الفاخرة 263، 209) ، وبعض هذه الأمثال مما صاغه ابن حزم وبعضها مما درج في الاستعمال. (2) يقال في المثل: أرق من الهواء (الدرة الفاخرة: 209) . (3) يقال أصلب من الحديد، أشد من الحديد (الدرة: 263، 236) . (4) يقال: أصدق من قطاة (الدرة: 265) . (5) يقال: انفذ من ابرة انقذ من سنان (الدرة 391) . (6) يقال: أسرع من الريح (الدرة: 217، 441) . (7) يقال: أقسى من حجر، أقسى من صخرة (الدرة: 351) . (8) يقال: أنأى من الكواكب، أبعد من النجم، من السماء، من الثريا الخ (الدرة: 391، 75) . (9) الزعاف والذعاف: كلاهما صحيح.

جاءني} (الفرقان: 28) . فيجب على اللبيب الاستجارة بالله مما يورط فيه الهوى: فهذا خلف مولى يوسف بن قمقام القائد المشهور كان أحد القائمين مع هشام بن سليمان بن الناصر (1) ، فلما أسر هشام وقتل وهرب الذين وازروه، فر خلف في جملتهم ونجا، فلما أتى القسطلات (2) لم يطق الصبر عن جارية كانت له بقرطبة فكر راجعاً، فظفر به أمير المؤمنين المهدي، فأمر بصلبه، فلعهدي به مصلوباً في المرح على النهر الأعظم وكأنه القنفذ من النبل. ولقد اخبرني أبو بكر محمد بن الوزير عبد الرحمن بن الليث رحمه الله أن سبب هروبه إلى محلة البرابر أيام تحولهم مع سليمان الظافر إنما كان لجارية يكلف بها تصيرت عند بعض من كان في تلك الناحية، ولقد كاد أن يتلف في تلك السفرة. وهذان الفصلان وإن لم يكونا من جنس الباب فإنهما شاهدان على ما يقود إليه الهوى من الهلاك الحاضر الظاهر، الذي يستوي في فهمه العالم والجاهل، فكيف من العصمة التي لا يفهمها من ضعفت بصيرته. ولا يقولن امرؤ: خلوت، فهو وغن انفرد فبمرأى ومسمع من علام الغيوب. {الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} ، (غافر: 19) {ويعلم السر وأخفى} (طه: 7) و {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما

_ (1) هشام بن سليمان بن الناصر الملقب بالرشيد ثار على محمد بن هاشم بن عبد الجبار الملقب بالمهدي، فكان مصيره أن قتل (سنة 399) انظر أعمال الاعلام: 113. (2) ورد عند العذري " قسطلة " (دون إضافة) ، فلعل ما هنا صورة من صور النطق بهذا الاسم، ويؤخذ من كلام العذري أنها في جهة شنتمرية الغرب (نصوص: 107) ويستفاد من كلام بروفنسال (الاندلس: 358 الحاشية) انه أعياه العثور عليها.

كانوا} (المجادلة: 7) / و {هو عليم بذات الصدور} وهو {عالم الغيب والشهادة} و {ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم} (النساء: 108) وقال: {لقد خلقنا الآنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. إذ يتلقى الملتقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق: 16 - 18) . وليعلم المستخف بالمعاصي، المتكل على التسويف، المعرض عن طاعة ربه ان إبليس كان في الجنة مع الملائكة المقربين فلمعصية واحدة وقعت منه استحق لعنة الأبد وعذاب الخلد، وصير شيطاناً رجيماً، وأبعد عن رفيع المقام، وهذا آدم صلى الله عليه وسلم بذنب واحد أخرج من الجنة إلى شقاء الدنيا ونكدها؛ ولولا انه تلقى من ربه كلمات وتاب عليه لكان من الهالكين (1) . افترى هذا المغتر بالله ربه وبإملائه ليزداد إثماً يظن أنه أكرم على خالقه من أبيه آدم الذي خلقه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته (2) الذين هم أفضل خلقه عنده أو عقابه اعز عليه من عقوبته إياه كلا، ولكن استعذاب التمني، واستيطاء مركب العجز، وسخف الرأي، قائدة أصحابها إلى الوبال والخزي. ولو لم يكن عند ركوب المعصية زاجر من نهي الله تعالى ولا حام من غليظ عقابه لكان في قبيح الأحدوثة عن صاحبه وعظيم الظلم الواقع في نفس فاعله اعظم مانع وأشد رادع لمن نظر بعين الحقيقة، واتبع سبيل الرشد، فكيف والله عز وجل يقول: {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً} (الفرقان: 68 - 69) .

_ (1) انظر الآية 37 من سورة البقرة. (2) في سجود الملائكة لآدم انظر: البقرة: 34، الاعراف: 11، الإسراء: 61، الكهف: 50.

حدثنا الهمذاني (1) في مسجد العمري (2) بالجانب الغربي من قرطبة سنة إحدى وأربعمائة، حدثنا ابن شبويه وأبو إسحاق البلخي بخراسان سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، قالا ثنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل (3) ثنا قتيبة بن سعيد ثنا جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل قال: قال عبد الله وهو ابن مسعود، قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله قال: ان تدعو لله نداً وهو خلقك، قال: ثم أي قال: أن تقتل ولدك أن يطعم معك. قال: ثم أي قال: أن تزاني حليلة جارك. فانزل الله تصديقها: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} (الفرقان: 68) (4) وقال عز وجل: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله} (النور: 2) . حدثنا الهمذاني عن أبي إسحاق البلخي وابن شبويه عن محمد ابن يوسف عن محمد بن اسماعيل عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وسعيد بن

_ (1) قد مر التعريف به في ما تقدم ص: 264. (2) في أصل: القمري؛ وتساءل غومس: أيمكن أن يكون صوابها العمري (حاشية ص 283) ونص بروفنسال على أن تغييرها ضروري (الاندلس: 358) . (3) محمد بن اسماعيل هو البخاري صاحب الصحيح، ومحمد بن يوسف هو الفربري (- 389) رواية الصحيح عنه. وعنه رواه ابن شبويه (وفي الطبعات ابن سبويه بالسين المهملة) المعروف بالشبوبي وهو محمد بن عمر بن شبويه المروزي (تبصير المنتبه 804 وعبر الذهبي 3: 241) وسماه ابن الأثير أحمد بن عمر (اللباب 2: 183 ط. صادر) وجاء في الصلة مضطرب الاسم والكنية: أبو محمد عمر بن شبوبة (الباء الثانية بنقطة واحدة) المروزي وعنه روى الهمذاني الذي تقدم التعريف به ص 264: وأما أبو اسحاق البلخي فهو ابراهيم بن أحمد المستملي الحافظ، حدث بصحيح البخاري مرات عن الفربري، وتوفي سنة 376 (عبر الذهبي 3: 1) . (4) هذا الحديث في صحيح البخاري (تفسير 2: 30، 25: 2، أدب: 20، حدود: 20، انظر إرشاد الساري: 10: 7) وعند مسلم (توحدي: 40، 46؛ إيمان: 141، 142) وانظر مسند أحمد 1: 380، 431، 434، 462.

المسيب المخزوميين وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " (1) . وبالسند المذكور إلى محمد بن إسماعيل عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: " أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، ثم رد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون قال: لا، قال: فهل أحصنت قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اذهبوا به فارجموه " (2) . قال ابن شهاب: فاخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة هرب فأدركناه بالحرة فرجمناه. حدثنا أبو سعيد مولى الحاجب جعفر في المسجد الجامع عن أبي بكر المقرئ عن أبي جعفر بن النحاس عن سعيد بن بشر عن عمرو بن رافع عن منصور عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد وتغريب سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " (3) . فيا لشنعة ذنب أنزل الله وحيه مبيناً بالتشهير بصاحبه، والعنف بفاعله، والتشديد لمقترفه، وتشدد في عقوبة رجمه الا يرجم إلا بحضرة أوليائه. وقد أجمع المسلمون إجماعاً لا ينقضه إلا ملحد أن الزاني المحصن عليه الرجم حتى يموت. فيا لها قتلة

_ (1) ورد عند البخاري في باب الحدود (انظر ارشاد الساري 10: 6، 7) وابن ماجه (فتن: 3) . (2) الحديث في البخاري (طلاق: 11؛ أحكام: 19) وعند مسلم (حدود: 16) ومسند أحمد 2: 453؛ 5: 86، 87 وانظر المحلى 11: 177 وما بعدها. (3) الحديث في مسلم (حدود: 13) وأبي داود (حدود: 23) والترمذي (حدود: 8) وابن ماجه (حدود: 7) وانظر مصنف عبد الرزاق 7: 415 - 417 والمحلى 11: 118.

ما أهولها، وعقوبة ما أفظعها، وأشد عذابها وأبعدها من الإراحة وسرعة الموت. وطوائف من أهل العلم منهم الحسن بن أبي الحسن وابن راهويه وداود (1) وأصحابه يرون عليه مع الرجم جلد مائة، ويحتجون عليه بنص القرآن وثابت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل علي رضي الله عنه بأنه رجم امرأة محصنة في الزنا بعد أن جلدها مائة. وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله (2) ؛ والقول بذلك لازم لأصحاب الشافعي، لأن زيادة العدل في الحديث مقبولة. وقد صح في إجماع الأمة المنقول بالكافة الذي يصحبه العمل عند كل فرقة وفي أهل كل نحلة من نحل أهل القبلة - حاشا طائفة يسيرة من الخوارج لا يعتد به - أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بكفر بعد إيمان، أو نفس بنفس، أو بمحاربة لله ورسوله يشهر فيها سيفه ويسعى في الأرض فسادا مقبلاً غير مدبر، وبالزنا بعد الإحصان (3) فإن حد ما جعل الله مع الكفر بالله عز وجل ومحاربته وقطع حجته في الأرض ومنابذته دينه لجرم كبير ومعصية شنعاء. والله تعالى يقول: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} (النساء: 31) {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم. إن ربك واسع المغفرة} (النجم: 32) وإن كان أهل العلم اختلفوا في تسميتها فكلهم مجمع - مهما اختلفوا فيه منها - أن الزنا يقدم فيها، لا اختلاف بينهم في ذلك، ولم يوعد الله عز وجل في كتابه بالنار بعد

_ (1) هو الحسن البصري (- 110) وابن راهويه فهو اسحاق بن ابراهيم الفقيه الشافعي (- 238) ؛ انظر ابن خلكان 1: 199 وداود بن علي بن خلف الاصبهاني صاحب المذهب الظاهري (- 270) ؛ انظر ابن خلكان 2: 255. (2) ارشاد الساري 10: 6 - 7، حيث يذكر ما فعله علي. (3) حديث لا يحل دم امرئ مسلم الخ ورد في عدة مواطن من الصحاح، وانظر مسند أحمد 1: 382.

الشرك الا في سبع ذنوب، وهي الكبائر: الزنا أحدها، وقذف المحصنات أيضاً منها، منصوصاً ذلك كله في كتاب الله عز وجل. وقد ذكرنا أنه لا يحب القتل على أحد من ولد آدم إلا في الذنوب الأربعة التي تقدم ذكرها: فأما الكفر منها فإن عاد صاحبه إلى الاسلام أو بالذمة إن لم يكن مرتداً قبل منه ودرى عنه الموت، وأما القتل فان قبل الولي الدية في قول بعض الفقهاء أو عفا في قول جميعهم سقط عن القاتل القتل بالقصاص، وأما الفساد في الأرض فإن ناب صاحبه قبل أن يقدر عليه هدر عنه القتل، ولا سبيل في قول أحد مؤالف أو مخالف في ترك رجم المحصن ولا وجه لرفع الموت عنه البتة. ومما يدل على شنعة الزنا ما حدثنا القاضي أبو عبد الرحمن (1) : ثنا القاضي أبو عيسى (2) عن عبيد الله بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى عن الليث عن الزهري عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عبيد بن عمير: ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصاب في زمانه ناساً من هذيل، فخرجت جارية منهم فاتبعها رجل يريدها عن نفسها فرمته بحجر فقضت كبده. فقال عمر: هذا قتيل الله والله لا يودى أبداً. وما جعل الله عز وجل فيه أربعة شهود، وفي كل حكم شاهدين، إلا حياطة منه ألا تشيع الفاحشة في عباده، لعظمها وشنعتها

_ (1) القاضي أبو عبد الرحمن هو عبد الله بن عبد الرحمن بن جحاف المعافري قاضي بلنسية الملقب بحيدرة وقد مر التعريف به ص: 272، وهو يروي عن أبي عيسى الليثي، انظر التعليق التالي. (2) القاضي أبو عيسى هو يحيى بن عبد الله بن يحيى بن يحيى بن يحيى الليثي (- 367) سمع من عم أبيه عبيد الله بن يحيى الليثي، وكان قاضياً ببجاية والبيرة وولي أحكام الرد بقرطبة ورحل الناس إليه من جميع كور الاندلس (ابن الفرضي 2: 189 والجذوة: 354 وترتيب المدارك 4: 412) .

وقبحها، وكيف لا تكون شنيعة ومن قذف بها أخاه المسلم أو أخته المسلمة دون صحبة علم أو تيقن معرفة فقد أتى كبيرة من الكبائر استحق عليها النار غداً، ووجب عليه بنص التنزيل ان تضرب بشرته ثمانين سوطاً. ومالك رضي الله عنه يرى ألا يؤخذ في شيء من الأشياء حد بالتعريض دون التصريح إلا في قذف (1) . وبالسند المذكور عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه أمر أن يجلد رجل قال لآخر: ما أبي بزان ولا أمي بزانية (2) . في حديث طويل. وبإجماع من الأمة كلها دون خلاف من أحد نعلمه انه إذا قال رجل لآخر: يا كافر، أو يا قاتل النفس التي حرم الله، لما وجب عليه حد احتياطاً من الله عز وجل ألا تثبت هذه العظيمة في مسلم ولا مسلمة. ومن قول مالك رحمه الله أيضاً أنه لا حد في الإسلام إلا والقتل يغني عنه وينسخه إلا حد القذف، فإنه إن وجب على من قد وجب عليه القتل حد ثم قتل (3) . قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا} (النور: 4، 5) . وقال تعالى: {عن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والاخرة ولهم عذاب عظيم} (النور: 23) . وروي عن رسول الله

_ (1) انظر المحلى 11: 277 والمدونة 6: 224. (2) المحلى 11: 276 - 281، وهذا للاستشهاد على عظم حد القذف ولو كان تعريضاً، إلا أن ابن حزم يرفضه ولا يرى فيه حداً. (3) قال مالك: كل حد اجتمع مع القتل لله أو قصاص لأحد من الناس فإنه لا يقام مع القتل والقتل يأتي على جميع ذلك إلا الفرية [يعني القذف] فإن الفرية تقام ثم يقتل (المدونة 6: 212) .

صلى الله عليه وسلم انه قال في الغضب واللعنة المذكورين في اللعان: إنهما موجبتان (1) . حدثنا الهمذاني عن أبي إسحاق عن محمد بن يوسف عن محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عبد الله، قال: ثنا سليمان عن ثور بن يزيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " (2) . وإن في الزنا من إباحة الحريم، وإفساد النسل، والتفريق بين الأزواج الذي عظم الله أمره، ما لا يهون على ذي عقل أو من له أقل خلاق. ولولا مكان هذا العنصر من الإنسان وانه غير مأمون الغلبة لما خفف الله عن البكرين وشدد على المحصنين. وهذا عندنا وفي جميع الشرائع القديمة النازلة من عند الله عز وجل حكماً باقياً لم ينسخ ولا أزيل، فتبارك الناظر لعباده الذي لم يشغله عظيم ما في خلقه ولا يحيف قدرته كبير ما في عوالمه عن النظر لحقير ما فيها، فهو كما قال عز وجل: {الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} (البقرة: 255) وقال: {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها} (سبأ: 2) وقال: {عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} (سبأ: (3)) .

_ (1) يقول من يلاعن زوجته أربع مرات " بالله اني لمن الصادقين " ثم يأمر الحاكم من يضع يده على فيه ويقول " انها موجبة " فإنه يضيف " وعلي لعنة الله ان كنت من الكاذبين " وتوقف المرأة عند القولة الخامسة ويقال لها: " انها موجبة " (المحلى 10: 143 - 144) . (2) الحديث في البخاري (وصايا: 23؛ طب: 48؛ حدود: 44) ومسلم (ايمان: 144) وأبي داود (وصايا: 10) والنسائي (وصايا: 12) .

وإن اعظم ما يأتي به العبد هتك ستر الله عز وجل في عباده؛ وقد جاء في حكم أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ضربه الرجل الذي ضم صبياً حتى أمنى ضرباً كان سبباً للمنية. وفي إعجاب مالك رحمه الله باجتهاد الأمير الذي ضرب صبياً مكن رجلاً من تقبيله حتى أمنى الرجل، ضربه إلى أن مات، ما ينسي شدة دواعي هذا الشأن وأسبابه. والتزيد في الاجتهاد، وإن كنا لا نراه، فهو قول كثير من العلماء يتبعه على ذلك عالم من (1) الناس. وأما الذي نذهب اليه فالذي حدثناه الهمذاني عن البلخي عن الفربري عن البخاري قال ثنا يحيى بن سليمان ثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو أن بكيراً حدثه عن سليمان بن يسار بن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه عن أبي بردة الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله عز وجل " (2) . وبه يقول أبو جعفر محمد بن علي النسائي الشافعي رحمه الله. وأما فعل قوم لوط فشنيع بشيع قال الله تعالى: {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} (الأعراف: 80) . وقد قذف الله فاعليه بحجارة من طين مسمومة. ومالك رحمه الله يرى على الفاعل والمفعول به الرجم، أحصنا أم لم يحصنا، واحتج بعض المالكيين في ذلك بان الله عز وجل يقول في رجمه فاعليه بالحجارة {وما هي من الظالمين ببعيد} (هود: 83) فوجب بهذا انه من ظلم الآن بمثل فعلهم قربت منه. والخلاف في هذه المسالة ليس هذا موضعه. وقد ذكر أبو إسحاق

_ (1) برشيه: غالب الناس. (2) انظر ابن ماجه (حدود: 32) .

إبراهيم بن السري (1) أن أبا بكر رضي الله عنه أحرق فيه بالنار (2) ، وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى اسم المحرق فقال: هو شجاع ابن ورقاء الأسدي (3) ، أحرقه بالنار أبو بكر الصديق لأنه يؤتى في دبره كما تؤتى المرأة. وإن عن المعاصي لمذاهب للعاقل واسعة، فما حرم الله شيئاً إلا وقد عوض عباده من الحلال ما هو أحسن من المحرم وأفضل، لا إله إلا هو؛ وأقول في النهي عن اتباع الهوى على سبيل الوعظ: [من الطويل] . أقول لنفسي ما مبين كحالك ... (4) " وما الناس إلا هالك وابن هالك " صن النفس عما عابها وارفض الهوى ... فإن الهوى مفتاح باب المهالك رأيت الهوى سهل المبادي لذيذها ... وعقباه مر الطعم ضنك المسالك فما لذة الإنسان والموت بعدها ... ولو عاش ضعفي عمر نوح بن لامك فلا تتبع داراً قليلا لباثها ... فقد أنذرتنا بالفناء المواشك وما تركها إلا إذا هي أمكنت ... وكم تارك إضماره غير تارك فما تارك الآمال (5) عجياً جآذراً ... (6) كتاركها ذات الضروع الحواشك

_ (1) هو أبو اسحاق الزجاج النحوي (توفي 311 أو 316) انظر ترجمته في انباه الرواة 1: 159 وفي الحاشية ثبت بمصادر أخرى. (2) انظر المحلى 11: 380 - 381 (وابن حزم لا يرى ذلك وإنما يرى التعزيز فقط) وانظر أيضاً ذم الهوى: 202. (3) وقيل كان اسمه الفجاءة (المحلى 11: 381) . (4) مأخوذ من قول الشاعر: وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق (5) بتروف: عجباً؛ برشيه: عجلاً؛ والعجي بتشديد الياء: ولد الدابة؛ وجمعه عجايا وأحسب الشاعر تصرف به فجمع " فعيل " على " فعلى ". (6) الضروع الحواشك: الممتلئة.

ومن قابل الأمر الذي كان راغباً ... بشهوة مشتاق وعقل متارك لأحرى (1) عباد الله بالفوز عنده ... لدى جنة الفردوس فوق الأرائك ومن عرف الأمر الذي هو طالب ... رأى سفهاً (2) ما في يدي كل مالك ومن عرف الرحمن لم يعص أمره ... ولو انه يعطى جميع الممالك سبيل التقى والنسك خير المسالك ... وسالكها مستبصراً خير سالك فما فقد التنغيص من عاج دونها ... (3) ولا طاب عيش لامرئ غير ناسك وطوبى لأقوام يؤمون (4) نحوها ... بخفة أرواح ولين عرائك لقد فقدوا غل النفوس وفضلوا ... بعز سلاطين وأمن صعالك فعاشوا كما شاءوا وماتوا كما اشتهوا ... وفازوا بدار الخلد رحب المبارك عصوا طاعة الأجساد في كل لذة ... بنور مجل ظلمة الغي هاتك فلولا (5) اغتذاء الجسم أيقنت انهم ... يعيشون عيشاً مثل عيش الملائك فيا رب قدمهم وزد في صلاحهم ... وصل عليهم حيث حلوا وبارك ويا نفس جدي لا تملي وشمري ... لنيل سرور الدهر فيما هنالك وأنت متى دمرت سعيك في الهوى ... علمت بأن الحق ليس كذلك فقد بين الله الشريعة للورى ... بابين من زهر النجوم الشوابك فيا نفس جدي في خلاصك وانفذي ... نفاذ السيوف المرهفات البواتك فلو أعمل الناس التفكر في الذي ... له خلقوا ما كان حي بضاحك

_ (1) لأحرى: جواب " ومن " في البيت السابق. (2) بتروف والصيرفي ومكي: سبباً. (3) معظم الطبعات: ماسك (بالميم) . (4) الضمير في " نحوها " يعود إلى سبيل التقى والنسك. (5) في بعض الطبعات: اعتداد (بمعنى حسبان أو عد) .

باب فصل التعفف

- 30 - باب فصل التعفف ومن أفضل ما يأتيه الإنسان في حبه التعفف، وترك ركوب المعصية والفاحشة، وألا يرغب عن مجازاة خالقه له بالنعيم في دار المقامة، وألا يعصي مولاه المتفضل عليه الذي جعله مكاناً وأهلاً لأمره ونهيه، وأرسل إليه رسله، وجعل كلامه ثابتاً لديه، عناية منه بنا وإحساناً إلينا. وإن من هام قلبه، وشغل باله، واشتد شوقه، وعظم وجده، ثم ظفر فرام هواه ان يغلب عقله، وشهوته ان تقهر دينه، ثم أقام العدل لنفسه حصناً، وعلم أنها النفس الأمارة بالسوء، وذكرها بعقاب الله تعالى وفكر في اجترائه على خالقه وهو يراه، وحذرها من يوم المعاد والوقوف بين يدي الملك العزيز الشديد العقاب الرحمن الرحيم الذي لا يحتاج إلى بينة، ونظر بعين ضميره إلى انفراده عن كل مدافع بحضرة علام الغيوب {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء: 88، 89) {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} (الحجر: 48) {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو ان بينها وبينه أمداً بعيداً} (آل عمران: 30) يوم {وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً} (طه: 111) يوم {ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً}

(الكهف: 49) {يوم الطامة الكبرى} ، {يوم يتذكر الإنسان ما سعى، وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} (النازعات: 35 - 41) واليوم الذي قال الله تعالى فيه: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} (الإسراء: 13، 14) عندها يقول العاصي: {يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} (الكهف: 49) فكيف بمن طوي قلبه على أحر من جمر الغضا، وطوي كشحه على أحد من السيف، وتجرح غصصاً أمر من الحنظل، وشرف نفسه كرها عما طمعت فيه وتيقنت ببلوغه وتهيأت له ولم يحل دونها حائل - لحري (1) أن يسر غداً يوم البعث، ويكون من المقربين في دار الجزاء وعالم الخلود، وأن يأمن روعات القيامة وهول المطلع، وان يعوضه الله من هذه القرحة الأمن يوم الحشر. حدثني أبو موسى هارون بن موسى الطبيب قال: رأيت شاباً حسن الوجه من أهل قرطبة قد تعبد ورفض الدنيا، وكان له أخ في الله قد سقطت بينهما مؤنة التحفظ، فزاره ذات ليلة وعزم على المبيت عنده، فعرضت لصاحب المنزل حاجة إلى بعض معارفه بالبعد عن منزله، فنهض لها على أن ينصرف مسرعاً، ونزل الشاب في داره مع امرأته، وكانت غاية في الحسن وترباً للضيف في الصبا، فأطال رب المنزل المقام إلى أن مشى العسس ولم يمكنه الانصراف إلى منزله، فلما علمت المرأة بفوات الوقت وأن زوجها لا يمكنه المجيء تلك الليلة تاقت نفسها إلى ذلك الفتى فبرزت إليه ودعته إلى نفسها، ولا ثالث لهما إلا الله عز وجل، فهم بها ثم ثاب إليه عقله. وفكر في الله عز وجل فوضع إصبعه على السراج فتفقع ثم قال: يا نفس، ذوقي

_ (1) لحري: جواب " إن " قبل سطور كثيرة، حيث بدأ قوله في " الفقرة: وإن من هام قلبه الخ ".

هذا وأين هذا من نار جهنم. فهال المرأة ما رأت ثم عاودته، فعاودته الشهوة المركبة في الإنسان فعاد إلى الفعلة الأولى، فانبلج الصباح وسبابته قد اصطلمتها النار (1) . أفتظن بلغ هذا من نفسه هذا المبلغ إلا لفرط شهوة قد كلبت عليه أو ترى أن الله تعالى يضيع له هذا المقام كلا إنه لأكرم من ذلك وأعلم. ولقد حدثتني امرأة أثق بها أنها علقها فتى مثلها في الحسن وعلقته وشاع القول عليهما، فاجتمعا يوماً خاليين فقال: هلمي نحقق ما يقال فينا. فقالت: لا والله لا كان هذا أبداً، وأنا أقرأ قول الله: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} (الزخرف: 67) قالت: فما مضى قليل حتى اجتمعا في حلال (2) . ولقد حدثني ثقة من إخواني أنه خلا يوماً بجارية كانت له مفاركة (3) في الصبا، فتعرضت لبعض تلك المعاني، فقال لها: لا، إن من شكر نعمة الله فيما منحني من وصالك الذي أقصى آمالي أن أجتنب هواي لأمره، ولعمري إن هذا لغريب فيما خلا من الأزمان، فكيف في مثل هذا الزمان الذي قد ذهب خيره وأتى شره. وما أقدر في هذه الأخبار - وهي صحيحة - إلا أحد وجهين لا شك فيهما: إما طبع قد مال إلى غير هذا الشأن واستحكمت معرفته بفضل سواه عليه فهو لا يجيب دواعي الغزل في كلمة ولا كلمتين ولا

_ (1) قارن - مع تذكر الفرق - بين هذا وبين ما جاء في " ذم الهوى ": 276 وروضة المحبين: 460 وهي رواية اسرائيلية انظر كذلك ص 465. (2) انظر تزيين الأسواق 1: 9 حيث نقلت الحكاية عن طوق الحمامة، واشار إلى ذلك الدكتور الطاهر مكي، وكذلك وردت في ديوان الصبابة: 208 وصرح هنالك باسم المصدر فقال: قال الحافظ أبو محمد الأموي؛ وانظر روضة المحبين: 346. (3) مفاركة: هاجرة، وعند برشيه: معادلة.

في يوم ولا يومين، ولو طال على هؤلاء الممتحنين ما امتحنوا به لحلت (1) طباعهم وأجابوا هاتف الفتنة، لكن الله عصمهم بانقطاع السبب المحرك نظراً لهم وعلماً بما في ضمائرهم من الاستعاذة به من القبائح، واستدعاء الرشد، لا إله إلا هو؛ وإما بصيرة حضرت في ذلك الوقت، وخاطر تجرد انقمعت به طوالع الشهوة في ذلك الحين، لخير أراد الله عز وجل لصاحبه، جعلنا الله ممن يخافه ويرجوه، آمين. وحدثني أبو عبد الله محمد بن عمر بن مضا (2) عن رجال من بني مروان ثقات يسندون الحديث إلى أبي العباس الوليد بن غانم (3) أنه ذكر أن الإمام عبد الرحمن بن الحكم غاب في بعض غزواته شهوراً وثقف القصر بابنه محمد (4) الذي ولي الخلافة بعده ورتبه في السطح، وجعل مبيته ليلاً وقعوده نهاراً فيه، ولم يأذن له في الخروج البتة، ورتب معه في كل ليلة وزيراً وفتى من أكابر الفتيان يبيتان معه في السطح؛ قال أبو العباس: فأقام على ذلك مدة طويلة وبعد عهده بأهله، وهو في سن العشرين أو نحوها إلى أن وافق مبيتي في ليلتي نوبة فتى من أكابر الفتيان، وكان صغيراً في سنه وغاية في حسن وجهه. قال أبو العباس: فقلت في نفسي: إني أخشى الليلة على محمد بن عبد الرحمن الهلاك بمواقعة المعصية وتزيين إبليس وأتباعه

_ (1) في الطبعات: لجادت. (2) محمد بن عمر (وكتب في بعض الطبعات) بن مضا، كان من أهل الأدب مشهوراً بالفضل (الجذوة: 72 والبغية رقم: 225) . (3) وليد بن عبد الرحمن بن عبد الحميد بن غانم: ذكره ابن الأبار (الحلة 1: 162) في ترجمة ابنه عبد الرحمن فقال " وولي وليد للأمير محمد بن عبد الرحمن خطتي الوزارة والمدينة وقاد جيش الصائفة الذي قدم عليه ابنه عبد الرحمن وكان عدده عظيماً " ثم ترجم له مستقلاً (2: 374) فأضاف: " وكان أديباً مرسلاً بليغاً وتوفي سنة 272 " وأخباره في المقتبس (تحقيق الدكتور محمود مكي ط. بيروت) وللمحقق تعليقات ضافية عنه وعن أسرته ص: 449، 541 إلا أن ابن حيان جعل وفاته سنة 292 (والخطأ بين الرقمين سبعة وتسعة قديم) . (4) الأمير عبد الرحمن بن حكم (206 - 238 821 - 852) وابنه محمد بن عبد الرحمن (238 - 273/ 852 - 886) وانظر ص: 91 فيما تقدم.

له، قال: ثم أخذت مضجعي في السطح الخارج ومحمد في السطح الداخل المطل على حرم أمير المؤمنين، والفتى في الطرف الثاني القريب من المطلع فظللت أرقبه ولا أغفل وهو يظن أني قد نمت ولا يشعر باطلاعي عليه، قال: فلما مضى هزيع من الليل رأيته قد قام واستوى قاعداً ساعة لطيفة، ثم تعوذ من الشيطان ورجع إلى منامه، ثم قام الثالثة ولبس قميصه ودلى رجليه من السرير، وبقي كذلك ساعة ثم نادى الفتى باسمه فأجابه، فقال له: انزل عن السطح وابق في الفصيل (1) الذي تحته، فقام الفتى مؤتمراً له. فلما نزل قام محمد وأغلق الباب من داخله وعاد إلى سريره، قال أبو العباس: فعلمت من ذلك الوقت ان لله فيه مراد خير. حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور عن أحمد بن مطرف عن عبيد الله بن يحيى (2) عن أبيه عن مالك عن حبيب بن عبد الرحمن الأنصاري عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق صدقة فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " (3) . وإني أذكر أني دعيت إلى مجلس فيه بعض من تستحسن الأبصار صورته، وتألف القلوب أخلاقه، للحديث والمجالسة دون منكر

_ (1) الفصيل في فن المعمار عند الاندلسيين يقابل (Vestibulum) في المباني الرومانية ويجمع على فصلان؛ ويتردد ذكره كثيراً في المصادر الأندلسية، وفي المقتبس (نشر أنطونية) : 74 وأصعد غلمانه وغلمان الولد على سقف الفصيل؛ وانظر ملحق دوزي 2: 272. (2) قد مر التعريف بالأندلسيين من رجال هذا السند. (3) الحديث في البخاري (أذان: 36؛ زكاة: 16؛ رقاق: 24؛ حدود: 19) ومسلم (زكاة: 91) والترمذي (زهد: 53) والنسائي (قضاة: 2) ومسند أحمد 2: 436 وذم الهوى: 243.

ولا مكروه، فسارعت إليه وكان هذا سحراً، فبعد أن صليت الصبح وأخذت زيي طرقني فكر فسنحت لي أبيات، ومعي رجل من إخواني فقال لي: ما هذا الإطراق فلم أجبه حتى أكملتها، ثم كتبتها ودفعتها إليه، وأمسكت عن المسير حيث كنت نويت، ومن الأبيات: [من الطويل] . أراقك حسن غيبه لك تأريق ... وتبريد وصل سره فيك تحريق وقرب مزار يقتضي لك فرقة ... وشكاً ولولا القرب لم يك تفريق ولذة طعم معقب لك علقماً ... وصاباً وفسح في تضاعيفه ضيق ولو لم يكن جزاء ولا عقاب ولا ثواب لوجب علينا إفناء الأعمار، وإتعاب الأبدان، وإجهاد الطاقة، واستنفاد الوسع، واستفراغ بالعقل الذي ابتدأنا بالنعم قبل استئهالها، وامتن علينا بالعقل الذي به عرفناه، ووهبنا الحواس والعلم والمعرفة ودقائق الصناعات، وصرف لنا السموات جارية بمنافعها، ودبرنا التدبير الذي لو ملكنا خلقنا لم نهتد إليه، ولا نظرنا لأنفسنا نظره لنا، وفضلنا على أكثر المخلوقات، وجعلنا مستودع كلامه ومستقر دينه، وخلق لنا الجنة دون أن نستحقها، ثم لم يرض لعباده ان يدخلوها إلا بأعمالهم لتكون واجبة لهم، قال الله تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون} (السجدة: 17) ورشدنا إلى سبيلها، وبصرنا وجه ظلها (1) ، وجعل غاية إحسانه إلينا وامتنانه علينا حقاً من حقوقنا قبله، وديناً لازماً له، وشكرنا على ما أعطانا من الطاعة التي رزقنا قواها، وأثابنا بفضله على تفضله - هذا كرم لا تهتدي إليه العقول، ولا يمكن أن تكيفه (2) الألباب. ومن عرف ربه ومقدار رضاه وسخطه هانت عنده اللذات الذاهبة والحطام الفاني، فكيف وقد أتى من وعيده ما تقشعر لسماعه الأجساد، وتذوب له النفوس، وأورد علينا من عذابه ما لم ينته إليه أمل؛ فأين المذهب عن

_ (1) لعل الصواب " نيلها ". (2) لعل الصواب " تكتنفه " أو " تكتنهه ".

طاعة هذا الملك الكريم، وما الرغبة في لذة ذاهبة لا تذهب الندامة عنها، ولا تفنى التباعة منها، ولا يزول الخزي عن راكبها، وإلى كم هذا التمادي وقد أسمعنا المنادي، وكأن قد حدا بنا الحادي إلى دار القرار، فإما إلى جنة وإما إلى النار. ألا إن التثبط في هذا المكان لهو الضلال المبين، وفي ذلك أقوال (1) : [من المنسرح] . أقصر عن لهوه وعن طربه ... وعف في حبه وفي غربه فليس شرب المدام همته ... ولا اقتناص الظباء من أربه قد آن للقلب أن يفيق وأن ... يزيل ما قد علاه من حجبه ألهاه عما عهدت يعجبه ... (2) خيفة يوم تبلى السرائر به يا نفس جدي وشمري ودعي ... عنك اتباع الهوى على لغبه وسارعي في النجاة واجتهدي ... ساعية في الخلاص من كربه علي أحظى بالفوز فيه وأن ... أنجو من ضيقه ومن لهبه يا أيها اللاعب المجد به ال ... دهر أما تتقي شبا نكبه كفاك من كل ما وعظت به ... ما قد أراك الزمان من عجبه دع عنك داراً تفنى غضارتها ... ومكسباً لاعباً بمكتسبه لم يضطرب في محلها أحد ... إلا نبا حدها بمضطربه من عرف الله حق معرفة ... لوى وحل الفؤاد في رهبه ما منقضي الملك مثل خالده ... (3) ولا صحيح التقى كمؤتشبه ولا تقي الورى كفاسقهم ... وليس صدق الكلام من كذبه فلو أمنا من العقاب ولم ... نخش من الله متقى غضبه ولم نخف ناره التي خلقت ... لكل جاني الكلام محتقبه لكان فرضاً لزوم طاعته ... ورد وفد الهوى على عقبه

_ (1) يعارض ابن حزم بهذه القصيدة (على سبيل التمحيص) قصيدة لأبي تمام، انظر ديوانه 1: 269. (2) من الآية الكريمة (يوم تبلى السرائر) الطارق: 9. (3) المؤتشب: المختلط غير الصريح؛ وقارن به قول أبي تمام: ما سجج الشوق مثل جماحه ... ولا صريح الهوى كمؤتشبه

وصحة الزهد في البقاء وأن ... يلحق تفنيدنا بمرتقبه فقد رأينا فعل الزمان بأه ... ليه كفعل الشواظ في حطبه كم متعب في (1) الإله مهجته ... راحته في الكريم (2) من تعبه وطالب باجتهاده زهر ال ... دنيا عداه المنون عن طلبه ومدرك ما ابتغاه ذي جذل ... حل به ما يخاف من سببه وباحث جاهد لبغيته ... فإنما بحثه على عطبه بينا ترى المرء سامياً ملكاً ... صار إلى السفل من ذرى رتبه كالزرع للرجل فوقه عمل ... ان ينم حسن النمو في قصبه كم قاطع نفسه أسى وشجا ... في إثر جد يجد في هربه أليس من ذاك زاجر عجب ... يزيد ذا اللب في حلى أدبه فكيف والنار للمسيء إذا ... عاج عن المستقيم من عقبه ويوم عرض الحساب يفضحه ال ... له ويبدي الخفي من ريبه ثاني من قد حباه الإله رحمته ... موصولة بالمزيد من نشبه فصار من جهله يصرفها ... فيما نهى الله عنه في كتبه أليس هذا أحرى العباد غداً ... بالوقع في ويله وفي حربه شكراً لرب لطيف قدرته ... فينا كحبل الوريد في كثبه رازق أهل الزمان اجمعهم ... من كان من عجمه ومن عربه والحمد لله في تفضله ... وقمعه للزمان في نوبه أخدمنا الأرض والسماء ومن ... في الجو من مائه ومن شهبه فاسمع ودع من عصاه ناحية ... لا يحمل الحمل غير محتطبه وأقول أيضاً: [من الطويل] . أعارتك دنيا مسترد معارها ... غضارة عيش سوف يذوي اخضرارها وهل يتمنى المحكم الرأي عيشة ... وقد حان من دهم المنايا مزارها

_ (1) برشيه: للاله. (2) بعض الطبعات: الكريه.

وكيف تلذ العين هجعة ساعة ... وقد طال فيما عاينته اعتبارها وكيف تقر النفس في دار نقلة ... قد استيقنت أن ليس فيها قرارها وأنى لها في الأرض خاطر فكرة ... ولم تدر بعد الموت أين محارها أليس لها في السعي للفوز شاغل ... أما في توقيها العذاب ازدجارها فخابت نفوس قادها لهو ساعة ... إلى حر نار ليس يطفى أوارها لها سائق حاد حثيث مبادر ... إلى غير ما أضحى إليه مدارها تراد لأمر وهي تطلب غيره ... وتقصد وجهاً في سواه سفارها أمسرعة فيما يسوء قيامها ... وقد أيقنت أن العذاب قصارها تعطل مفروضاً وتغنى بفضلة ... لقد شفها طغيانها واغترارها إلى ما لها منه البلاء سكونها ... وعما لها منه النجاح نفارها وتعرض عن رب دعاها لرشدها ... وتتبع دنيا جد عنها فرارها فيا أيها المغرور بادر برجعة ... فلله دار ليس تخمد نارها ولا تتخير فانياً دون خالد ... دليل على محض العقول اختيارها أتعلم أن الحق فيما تركته ... وتسلك سبلاً ليس يخفى عوارها وتترك بيضاء المناهج ضلة ... لبهماء يؤذي الرجل فيها عثارها تسر بلهو معقب بندامة ... إذا ما انقضى لا ينقضي مستثارها وتفنى الليالي والمسرات كلها ... وتبقى تباعات الذنوب وعارها فهل أنت يا مغبون مستيقظ فقد ... تبين من سر الخطوب استتارها فعجل إلى رضوان ربك واجتنب ... نواهيه إذ قد تجلى منارها يجد مرور الدهر عنك بلاعب ... وتغرى بدنيا ساء فيك سرارها فكم أمة قد غرها الدهر قبلنا ... وهاتيك منها مقفرات ديارها تذكر على ما قد مضى واعتبر به ... فإن المذكي للعقول اعتبارها تحامى ذراها كل باغ وطالب ... وكان ضماناً في الأعادي انتصارها توافت ببطن الأرض وانشت شملها ... وعاد إلى ذي ملكه مستعارها وكم راقد في غفلة عن منية ... مشمرة في القصد وهو شعارها ومظلمة قد نالها متسلط ... مدل بأيد عند ذي العرش ثارها

أراك إذا حاولت دنياك ساعياً ... على أنها باد إليك ازورارها وفي طاعة الرحمن يقعدك الونى ... وتبدي أناة لا يصح اعتذارها تحاذر أحزاناً ستفنى وتنقضي ... وتنسى التي فرض عليك حذارها كأني أرى منك التبرم ظاهراً ... مبيناً إذا الأقدار حل اضطرارها هناك يقول المرء من لي بأعصر ... مضت كان ملكاً في يدي خيارها تنبه ليوم قد أظلك ورده ... عصيب يوافي النفس فيه احتضارها تبرأ فيه منك كل مخالط ... وآن من الآمال فيه انهيارها فأودعت في ظلماء ضنك مقرها ... يلوح عليها للعيون اغبرارها تنادى فلا تدري المنادي مفرداً ... وقد حط عن وجه الحياة خمارها تنادى إلى يوم شديد مفزع ... وساعة حشر ليس يخفى اشتهارها إذا حشرت فيه الوحوش وجمعت ... (1) صحائفنا وانثال فينا انتشارها (2) وزينت الجنات فيه وأزلفت ... واذكي من نار الجحيم استعارها وكورت الشمس المنيرة (3) بالضحى ... (4) وأسرع من زهر النجوم انكدارها لقد جل أمر كان منه انتظامها ... وقد حل أمر كان منه انتثارها وسيرت الأجبال والأرض (5) بدلت ... (6) وقد عطلت من مالكيها عشارها فإما لدار ليس يفنى نعيمها ... وإما لدار لا يفك إسارها بحضرة جبار رفيق معاقب ... فتحصى المعاصي كبرها وصغارها ويندم يوم البعث جاني صغارها ... وتهلك أهليها هناك كبارها ستغبط أجساد وتحيا نفوسها ... إذا ما استوى إسرارها وجهارها إذا حفهم عفو الإله وفضله ... وأسكنهم داراً حلالاً عقارها

_ (1) مشير إلى الآية الكريمة (وإذا الصحف نشرت) التكوير: 10؛ وفي بعض الطبعات: انتثارها؛ وقافية " انتثارها " ستأتي بعد بيتين. (2) وإذا الجنة أزلفت (التكوير: 13) . (3) إذا الشمس كورت (التكوير: 1) . (4) وإذا النجوم انكدرت (التكوير: 2) . (5) وإذا الجبال سيرت (التكوير: 3) . (6) وإذا العشار عطلت (التكوير: 4) .

سيلحقهم أهل الفسوق إذا استوى ... (1) بحلبة سبق طرفها وحمارها يفر بنو الدنيا بدنياهم التي ... يظن على أهل الحظوظ اقتصارها هي الأم خير البر فيها عقوقها ... وليس بغير البذل يحمى ذمارها فما نال الحظ إلا مهينها ... وما الهلك إلا قربها واعتمارها تهافت فيها طامع بعد طامع ... وقد بان للب الذكي اختبارها تطامن لغمر الحادثات ولا تكن ... لها ذا اعتمار يجتنبك (2) غمارها وإياك أن تغتر منها بما ترى ... فقد صح في العقل الجلي عيارها رأيت ملوك الأرض يبغون عدة ... ولذة نفس يستطاب اجترارها وخلوا طريق القصد في مبتغاهم ... لمعقبة الصغار جم صغارها وإن التي يبغون نهج لغية ... مكين لطلاب الخلاص اختصارها هل العز إلا همة صح صونها ... إذا صان همات الرجال انكسارها وهل رابح إلا امرؤ متوكل ... قنوع غني النفس باد وقارها ويلقى ولاة الملك خوفاً وفكرة ... تضيق بها ذرعاً ويفنى اصطبارها عياناً نرى هذا ولكن سكرة ... أحاطت بنا ما إن يفيق خمارها تدبر من الباني على الأرض سقفها ... (3) وفي علمه معمورها وقفارها ومن يمسك الأجرام والأرض أمره ... بلا عمد يبنى عليه قرارها ومن قدر التدبير فيها بحكمة ... فصح لديها ليلها ونهارها ومن فتق الأمواه في صفح وجهها ... فمنها تغذى حبها وثمارها ومن صير الألوان في نور نبتها ... فأشرق فيها وردها وبهارها فمنهن مخضر يروق بصيصه ... ومنهن ما يغشى اللحاظ احمرارها ومن حفر الأنهار دون تكلف ... فثار من الصم الصلاب انفجارها ومن رتب الشمس المنير ابيضاضها ... غدواً ويبدو بالعشي اصفرارها

_ (1) أي أن أهل الفسوق لن يلحقوهم، لأن الحمار لا يدرك الجواد في حلبة السباق. (2) برشيه: يجتبيك، وهو خطأ. (3) في هذا البيت وأبيات تليه ينظر إلى الآيات 4 - 2 من سورة الرعد، كما فعل من قبل في آيات سورة التكوير.

ومن خلق الأفلاك فامتد جريها ... واحكمها حتى استقام مدارها ومن إن ألمت بالعقول رزية ... فليس إلى حي سواه افتقارها تجد كل هذا راجعاً نحو خالق ... له ملكها منقادة وائتمارها أبان لنا الآيات في أنبيائه ... فأمكن بعد العجز فيها اقتدارها فأنطلق أفواهاً بألفاظ حكمة ... (1) وما حلها إثغارها واتغارها وأبرز من صم الحجارة ناقة ... وأسمعهم في الحين منها حوارها ليوقن أقوام وتكفر عصبة ... (2) أتاها بأسباب الهلاك قدارها وشق لموسى البحر دون تكلف ... وبان من الأمواج فيه انحسارها وسلم من نار الأتون خليله ... (3) فلم يؤذه إحراقها واحترارها ونجى من الطوفان نوحاً وقد هدى ... به أمة أبدى الفسوق شرارها ومكن داوداً بأيد وإبنه ... (4) فتعشيرها ملقى له وبذارها وذلل جبار البلاد لأمره ... وعلم من طير السماء حوارها وفضل بالقرآن أمة أحمد ... ومكن في أقصى البلاد مغارها وشق له بدر السماء وخصه ... (5) بآيات حق لا يحل مغارها وأنقذنا من كفر أربابنا به ... (6) وكان على قطب الهلاك مدارها فما بالنا لا نترك الجهل ويحنا ... لنسلم من نار ترامى شرارها

_ (1) أخذ في هذا البيت والذي يليه يعدد المعجزات التي جاء بها الأنبياء ككلام عيسى في المهد وناقة صالح وشق البحر لموسى ونار ابراهيم وطوفان نوح والتمكين لداود وسليمان، والقرآن لمحمد صلى الله عليه وسلم وشق البدر.. الخ. (2) يعني قدار بن سالف عاقر الناقة. (3) احترارها: التهابها؛ وفي بعض الطبعات: واعترارها، ولا معنى له. (4) تعشيرها: أخذ العشر منها؛ والبذار: الحب الذي يبذر، أي له زرع الأرض وجني حصادها؛ وفي قراءة: فتعسيرها - بالسين المهملة -، ولذلك قرأ برشيه " ويسارها " ليتطابق اليسر مع العسر. (5) المغار: الحبل المفتول، أي انها آيات محكمات لا تنقض، وفي بعض الطبعات " معارها " بالعين المهملة وهو خطأ. (6) في بعض الطبعات منارها؛ ولا معنى له.

[خاتمة]

[خاتمة] هنا أعزك الله انتهى ما تذكرته ايجاباً لك، وتقمنا (1) لمسرتك، ووقوفاً عند أمرك، ولم أمتنع أن أورد لك في هذه الرسالة أشياء يذكرها الشعراء ويكثرون القول فيها، موفيات على وجهها، ومفردات في أبوابها، ومنغمات التفسير، مثل الإفراط في صفة النحول وتشبيه الدموع بالأمطار وأنها تروي السفار، وعدم النوم البتة، وانقطاع الغذاء جملة، إلا أنها أشياء لا حقيقة لها (2) ، وكذب لا وجه له، ولكل شيء حد، وقد جعل الله لكل شيء قدراً. والنحول قد يعظم ولو صار حيث يصفونه لكان في قوام الذرة أو دونها، ولخرج عن حد المعقول. والسهر قد يتصل ليالي، ولكن لو عدم الغذاء أسبوعين لهلك، وإنما قلنا الصبر عن النوم أقل من الصبر عن الطعام لان النوم غذاء الروح، والطعام غذاء الجسد، وإن كانا يشتركان في كليهما ولكنا حكينا على الأغلب. وأما الماء فقد رأيت أن ميسوراً البناء جارنا بقرطبة يصبر عن الماء أسبوعين في حمارة القيظ ويكتفي بما في غذائه من رطوبة. وحدثني القاضي أبو عبد الرحمن بن جحاف (3) انه كان يعرف من كان لا يشرب الماء شهراً. وإنما اقتصرت في رسالتي على

_ (1) تقمن المسرة: تحريها وتوخيها. (2) يريد: ولم يمنعني من إيراد هذه الأشياء إلا أنها أشياء لا حقيقة لها. (3) قد مر التعريف به: 272.

الحقائق المعلومة التي لا يمكن وجود سواها أصلاً، وعلى أني قد أوردت من هذه الوجوه المذكورة أشياء كثيرة يكتفي بها لئلا أخرج عن طريقة أهل الشعر ومذهبهم. وسيرى كثير من إخواننا أخباراً لهم في هذه الرسالة مكنياً فيها عن اسمائهم على ما شرطنا في ابتدائها. وأنا أستغفر الله تعالى مما يكتبه الملكان ويحصيه الرقيبان من هذا وشبهه، استغفار من يعلم أن كلامه من عمله؛ ولكنه إن لم يكن من اللغو الذي لا يؤاخذ به المرء فهو إن شاء الله من اللمم المعفو، وإلا فليس من السيئات والفواحش التي يتوقع عليها العذاب، وعلى كل حال فليس من الكبائر التي ورد النص فيها. وأنا أعلم أنه سينكر علي بعض المتعصبين علي تألفي لمثل هذا ويقول: إنه خالف طريقته، وتجافى عن وجهته. وما أحل لأحد أن يظن في غير ما قصدته، قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} (الحجرات: 12) . وحدثني أحمد ابن محمد بن الجسور، ثنا ابن أبي دليم، ثنا ابن وضاح عن يحيى بن يحيى عن مالك بن أنس عن أبي الزبير المكي عن أبي شريح الكعبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إياكم والظن فإنه أكذب الكذب ". (1) وبه إلى مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت (2) . وحدثني صاحبي أبو بكر محمد بن إسحاق ثنا عبد الله بن يوسف الأزدي ثنا يحيى بن عائذ ثنا أبو عدي عبد العزيز بن

_ (1) الحديث في البخاري (وصايا: 8، أدب: 57، 58) وغيره من الصحاح وانظر مسند أحمد في مواضع كثيرة منها 2: 254، 287، 312، 342. (2) الحديث في البخاري (أدب 21، 85؛ رقاق: 23) وفي مسلم (ايمان: 74، لقطة: 14) ومسند أحمد 2: 174، 264، 433 ومواطن أخرى.

علي بن محمد بن إسحاق بن الفرج الإمام بمصر ثنا أبو علي الحسن ابن القاسم بن دحيم المصري ثنا محمد بن زكريا الغلابي ثنا أبو العباس ثنا أبو بكر عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال: وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس ثماني عشرة كلمة من الحكمة منها: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك على ما يغلبك عليه. ولا تظن بكلمة خرجت من في امرئ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملا (1) . فهذا أعزك الله أدب الله وأدب رسوله صلى الله عليه وسلم وأدب أمير المؤمنين. وبالجملة فإني لا أقول بالمراياة ولا أنسك نسكاً أعجمياً (2) . ومن أدى الفرائض المأمور بها، واجتنب المحارم المنهي عنها، ولم ينس الفضل فيما بينه وبين الناس فقد وقع عليه اسم الإحسان، ودعني مما سوى ذلك وحسبي الله. والكلام في مثل هذا إنما هو مع خلاء الذرع وفراغ القلب، وإن حفظ شيء وبقاء رسم وتذكر فائت لمثل خاطري لعجب على ما مضى ودهمني؛ فأنت تعلم أن ذهني متقلب وبالي مهصر بما نحن فيه من نبو الديار، والجلاء عن الأوطان، وتغير الزمان، ونكبات السلطان، وتغير الإخوان، وفساد الأحوال، وتبدل الأيام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع مكاسب الآباء والأجداد، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد، واليأس

_ (1) مثل هذا القول عن عمر رضي الله عنه، إذ يقول: " لا يحل لامرئ مسلم يسمع الكلمة من أخيه المسلم (أو عن أخيه المسلم) أن يظن بها ظن سوء، وهو يجد لها في شيء من الخير مصرفاً (ترتيب المدارك لا4: 134؛ ط. المغرب) . (2) يقال أن رجلاً كان يستنكر رواية الشعر فقال فيه سعيد بن المسيب " ذاك رجل نسك نسكاً أعجمياً ". وقيل انه قال في ناس كرهوا إنشاد الشعر: " لقد نسكوا نسكاً أعجمياً " انظر البيان والتبيين 1: 202 والسماع لابن القيسراني: 93.

عن الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعة الدهر، وانتظار الأقدار، لا جعلنا الله من الشاكين إلا إليه، وأعادنا إلى أفضل ما عودنا. وإن الذي أبقى لأكثر مما أخذ، والذي ترك أعظم من الذي تحيف، ومواهبه المحيطة بنا ونعمه التي غمرتنا لا تحد، ولا يؤدى شكرها، والكل منحه وعطاياه، ولا حكم لنا في أنفسنا ونحن منه، وإليه منقلبنا وكل عارية فراجعة إلى معيرها، وله الحمد أولاً وآخراً وعوداً وبدءاً وأنا أقول: [من الوافر] . جعلنا اليأس لي حصناً ودرعاً ... فلم ألبس ثياب المتضام وأكثر من جميع الناس عندي ... يسير صانني دون الأنام إذا ما صح لي ديني وعرضي ... فلست لما تولى ذا اهتمام تولى الأمس والغد لست ادري ... أأدركه ففي ماذا اغتنامي جعلنا الله وإياك من الصابرين الشاكرين الحامدين الذاكرين، آمين آمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.

الملحق (1)

الملحق (1) (ص 227) وممن رثى قرطبة أيضاً (1) ، من وجوه أهلها وأرباب النعم المؤثلة بها، وأكثر التفجع على دياره منها، لما استولى الخراب عليها عند فرار البرابر عنها، الفقيه الأديب أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم، ابن وزير آل عامر الأكبر. فإني وجدت بخطه في خبر ذكره قال: وقفت على أطلال منازلنا بحومة بلاط مغيث من الأرباض الغريبة، ومنازل البرابر المستباحة عند معاودة قرطبة. فرأيتها قد محت رسومها، وطمست أعلامها، وخفيت معاهدها، وغيرها البلى؛ وآكلاماً مشوهة بعد الحسن، وخرائب مفزعة بعد الأمن، ومآوي للذئاب، وملاعب للجان، ومغاني للغيلان، ومكامن للوحوش، ومخابئ للصوص، بعد غنيانها برجال كالسيوف، وفرسان كالليوث، تفيض لديهم النعم الفاشية، وتغص منهم بكثرة القطين الحاشية، وتكنس في مقاصيرهم ظباء الإنس الفاتنة، تحت زبرج من غضارة الدنيا تذكر نعيم الآخرة، حال الدهر عليهم بعد طول النضرة فبدد شملهم حتى صاروا في البلاد أيادي سبا، تنطق عنهم الموعظة، فكان تلك المحاريب المنمقة، والمقاصير المرشقة، التي كانت في تلك الديار كبروق السماء إشراقاً وبهجة، يقيد حسنها الأبصار، ويجلي منظرها الهموم،

_ (1) انظر أعمال الاعلام (تحقيق ليفي بروفنسال، بيروت (106 - 108) .

كان لم تغن بالأمس، ولا حلتها سادة الإنس، قد عبث بها الخراب، وعمها الهذم، فأصبحت أوحش من أفواه السباع فاغرة، تؤذن بفناء الدنيا، وتريك عواقب أهلها، وتخبرك عما يصير إليه كل ما قد بقي ماثلاً فيها، وتزهدك فيها. وكررت النظر، ورددت البصر، وكدت استطار حزناً عليها، وتذكرت أيام نشأتي فيها، وصبابة لداتي بها؛ مع كواعب غيد، إلى مثلهن يصبو الحليم؛ ومثلت لنفسي انطواءهن بالفناء، وكونهن تحت الثرى إثر تقطع جمعنا بالتفرق والجلاء في الآفاق النائية، والنواحي البعيدة، وصدقت نفسي عن فناء تلك النصبة، وانصداع تلك البيضة، بعد ما عهدته من حسنها ونضارتها وزبرجها وغضارتها، ونضوته بفراقها من الحال الحسنة، والمرتبة الرفيعة، التي رفلت في حللها ناشئاً فيها، وأرعيت سمعي صوت الصدى والبوم زاقياً بها، بعد حركات تلك الجماعة المنصدعة بعرصاتها، التي كان ليلها تبعاً لنهارها، في انتشارها بسكانها، والتقاء عمارها، فعاد نهارها تبعاً لليلها في الهدو والاستيحاش، والخفوت والإخفاش. فأبكى ذلك عيني على جمودها، وقرع كبدي على صلابتها، وهاج بلابلي على تكاثرها، وحركني للقول على نبو طبعي؛ فقلت: [من الطويل] سلام على دار رحلنا وغودرت ... خلاء من الأهلين موحشة قفرا تراها كان لم تغن بالأمس بلقعاً ... ولا عمرت من أهلها قبلنا دهرا فيا دار لم يقفرك منا اختيارنا ... ولو أننا نستطيع كنت لنا قبرا ولكن أقداراً من الله أنفذت ... تدمرنا طوعاً لما حل أو قهرا ويا خير دار قد تركت حميدة ... سقتك الغوادي ما اجل وما أسرى ويا مجتلى تلك البساتين حفها ... رياض قوارير غدت بعدنا غبرا ويا دهر بلغ ساكنها تحيتي ... ولو سكنوا المروين (1) أو جاوزوا النهرا (2)

_ (1) المروين: مثنى مرو، وهما مدينتان بخراسان. (2) النهر: نهر جيحون.

فصبرا لسطو الدهر فيهم وحكمه ... وإن كان طعم الصبر مستثقلا مراً لئن كان أظمانا فقد طال ما سقى ... وإن ساءنا فيها فقد طال ما سرا وأيتها الدار الحبيبة لا يرم ... ربوعك جون المزن يهمي بها القطرا كأنك لم يسكنك غيد أوانس ... وصيد رجال أشبهوا الأنجم الزهرا تفانوا وبادوا واستمرت نواهم ... لمثلهم أسكبت مقلتي العبرى سنصبر بعد اليسر للعسر طاعة ... لعل جميل الصبر يعقبنا يسرا وإني ولو عادت وعدنا لعهدها ... فكيف من أهلها سكن القبرا ويا دهرنا فيها متى أنت عائد ... فنحمد منك العود إن عدت والكرا فيا رب يوم في ذراها وليلة ... وصلنا هناك الشمس باللهو والبدرا فوا جسمي المضنى وواقلبي المغرى ... ووانفسي الثكلى وواكبدي الحرى ويا هم ما أعدى، ويا شجو ما أبرا ... ويا وجد ما أشجى، ويا بين ما أفرا ويا دهر لا تبعد، ويا عهد لا تحل ... ويا دمع لا تجمد، ويا سقم لا تبرا سأندب ذاك العهد ما قامت (1) الخضرا ... على الناس سقفاً واستقلت بنا الغبرا

_ (1) الخضراء: السماء.

فراغ

الملحق (2)

الملحق (2) (ص 257) احمد بن كليب النحوى (1) ، أديب شاعر مشهور الشعر، ولا سيما شعره في أسلم وكان قد أفرط في حبه حتى أداه ذلك إلى موته، وخبره في [62 ب] ذلك طريف. حدثني أبو محمد علي بن أحمد، قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن الحسن المذحجي (2) ، قال: كنت أختلف في النحو إلى أبي عبد الله محمد بن خطاب النحوي (3) في جماعة، وكان معنا عنده أبو الحسن أسلم بن أحمد بن سعيد بن قاضي الجماعة أسلم ابن عبد العزيز (4) ، صاحب المزني والربيع (5) ، قال محمد بن الحسن: وكان من اجمل من رأته العيون، وكان يجيء معنا إلى محمد بن خطاب، أحمد بن كليب، وكان من أهل الأدب البارع، والشعر الرائق، فاشتد كلفه بأسلم، وفارق صبره، وصرف فيه القول متستراً بذلك إلى أن فشت أشعاره فيه وجرت على الألسنة، وتنوشدت في المحافل؛ فلعهدي

_ (1) انظر جذوة المقتبس: 134 (وبغية الملتمس رقم: 462) ومعجم الأدباء 4: 108. (2) هو أستاذ ابن حزم في الفلسفة؛ راجع مقدمة كتاب التشبيهات من تحقيقي. (3) محمد بن خطاب النحوي (938) كان من الأدباء المشهورين والنحاة المذكورين، يختلف اليه في علن العربية أولاد الأكابر (الجذوة: 50 وبغية الوعاة 1: 99) . (4) ترجمة أسلم في الجذوة: 162 وبغية الملتمس رقم: 570. (5) المزني هو اسماعيل بن يحيى (انظر طبقات الشيرازي: 97) والربيع بن سليمان المرادي (المصدر نفسه: 98) .

بعرس في بعض الشوارع بقربطة، والنكوري الزامر قاعد في وسط الحفل، وفي رأسه قلنسوة وشي وعليه ثوب خز عبيدي، وفرسه بالحلية المحلاة يمسكه غلامه، وكان فيما مضى يزمر لعبد الرحمن الناصر، وهو يرمز في البوق بقول أحمد بن كليب في أسلم: [من المتقارب] أسلمني في هوا ... هـ أسلم هذا الرشا غزال له مقلة ... يصيب بها من يشا وشى بيننا حاسد ... سيسأل عما وشى ولو شاء أن يرتشي ... على الوصل روحي ارتشى ومغن محسن يسايره فيها؛ قال: فلما بلغ هذا المبلغ انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب، ولزم بيته والجلوس على بابه، فكان أحمد بن كليب لا شغل له إلا المرور على باب دار أسلم سائراً، ومقبلاً نهاره كله، فانقطع أسلم عن الجلوس على باب داره نهاراً، فإذا صلى المغرب واختلط الظلام خرج مستروحاً وجلس داره نهارا، فإذا صلى صبر أحمد بن كليب، فتحيل في بعض الليالي ولبس جبة من جباب أهل البادية، واعتم بمثل عمائمهم، وأخذ بإحدى يديه دجاجاً، وبالأخرى قفصاً فيه بيض، وتحين جلوس أسلم عند اختلاط الظلام على بابه، فتقدم إليه وقبل يده، وقال يأمر مولاي بأخذ هذا، فقال له أسلم: ومن انت فقال: صاحبك في الضيعة الفلانية، وقد كان تعرف أسماء ضياعه وأصحابه فيها، فأمر أسلم بأخذ ذلك منه، ثم جعل أسلم يسأله عن الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام وتأمله فعرفه، فقال له: يا أخي! وهنا بلغت بنفسك، وإلى هاهنا تبعتني، أما كفاك انقطاعي عن مجالس الطلب، وعن الخروج جملة، وعن القعود على بابي نهاراً، حتى قطعت علي جميع ما لي فيه راحة، فقد صرت من سجنك (1) . والله، لا فارقت بعد هذه الليلة قعر منزلي، ولا قعدت ليلاً

_ (1) ياقوت: في سجنك.

ولا نهاراً على بابي. ثم قام وانصرف أحمد بن كليب كئيباً حزيناً. قال محمد بن الحسن: واتصل ذلك بنا، فقلنا لأحمد بن كليب، وخسرت دجاجك وبيضك فقال: هات كل ليلة قبلة يده وأخسر أضعاف ذلك. قال: فلما يئس من رؤيته ألبتة نهكته العلة، وأضجعه المرض. قال محمد بن الحسن: فاخبرني أبو عبد الله محمد بن خطاب شيخنا، قال: فعدته فوجدته بأسوأ حال، فقلت له: ولم لا تتداوى فقال: دوائي معروف، وأما الأطباء فلا حيلة لهم في ألبتة، فقلت له: وما دواؤك فقال: نظرة من أسلم، فلو سعيت في أن يزورني لأعظم الله أجرك بذلك، وكان هو والله أيضاً يؤجر، قال: فرحمته وتقطعت نفسي له، ونهضت إلى أسلم فاستأذنت عليه، فأذن لي وتلقاني بما يجب، فقلت له: لي حاجة، قال: وما هي قلت: قد علمت ما جمعك مع أحمد بن كليب من ذمام الطلب عندي، فقال: نعم، ولكن قد تعلم انه برح بي، وشهر اسمي وآذاني، فقلت له: كل ذلك يغتفر في مثل الحال التي هو فيها، والرجل يموت، فتفضل بعيادته، فقال والله ما أقدر على ذلك، فلا تكلفني هذا، فقلت له: لابد، فليس عليك في ذلك شيء، وإنما هي عيادة مريض، قال: ولم أزل به حتى أجاب، ولا خلف، قال: نعم. فانصرفت إلى أحمد بن كليب، وأخبرته بموعده بعد تأبيه، فسر بذلك وارتاحت نفسه. قال: فلما كان الغد بكرت إلى أسلم وقلت له: الوعد، قال: فوجم وقال: والله لقد تحملني على خطة صعبة علي، وما أدري كيف أطيق ذلك. قال: فلما أتينا منزل أحمد بن كليب، وكان يسكن في آخر درب طويل، وتوسط الدرب، وقف واحمر وخجل، وقال لي: الساعة والله أموت، وما أستطيع أن أنقل قدمي، ولا أن أعرض هذا على نفسي، فقلت: لا تفعل، بعد أن بلغت المنزل تنصرف قال: لا سبيل والله إلى ذلك ألبتة، قال: ورجع مسرعاً فاتبعته، وأخذت بردائه

فتمادى وتمزق الرداء، وبقيت قطعة منه في يدي لسرعته وإمساكي له، ومضى ولم أدركه، فرجعت ودخلت إلى احمد بن كليب، وقد كان غلامه دخل عليه إذ رآنا من أول الدرب مبشراً، فلما رآني تغير وقال: وأين أبو الحسن فأخبرته بالقصة، فاستحال من وقته واختلط، وجعل يتكلم بكلام لا يعقل منه أكثر من الترجع، فاستشنعت الحال، وجعلت أترجع وقمت، فثاب إليه ذهنه وقال لي: أبا عبد الله! قلت: نعم. قال: اسمع مني واحفظ عني، ثم أنشأ يقول: [مخلع البسيط] أسلم يا راحة العليل ... رفقاً على الهائم النحيل وصلك أشهى إلى فؤادي ... من رحمة الخالق الجلي قال: فقلت له: اتق الله! ما هذا العظيمة فقال لي: قد كان؛ قال: فخرجت عنه، فوالله ما توسطت الدرب حتى سمعت الصراخ عليه، وقد فارق الدنيا. قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: وهذه قصة مشهورة عندنا، ومحمد بن الحسن ثقة ومحمد بن خطاب ثقة. وأسلم هذا من بيت جليل، وهو صاحب الكتاب المشهور في أغاني زرياب، وكان شاعراً أديباً، وقد رأيت ابنه أبا الجعد. قال أبو محمد: لقد ذكرت هذه الحكاية لأبي عبد الله محمد ابن سعيد الخولاني الكاتب فعرفها، وقال لي: لقد أخبرني الثقة أنه رأى أسلم هذا في يوم شديد المطر، لا يكاد أحد يمشي في طريق، وهو قاعد على قبر أحمد بن كليب زائراً له، وقد تحين غفلة الناس في مثل ذلك الوقت. وقال لنا أبو محمد: وحدثني أبو محمد قاسم بن محمد القرشي، قال: كتب ابن كليب إلى محمد بن خطاب شعراً يتغزل فيه بأسلم فعرضه ابن خطاب على أسلم، فقال: هذا ملحون، وكان

ابن كليب قد أسقط التنوين في لفظة في بيت من الشعر، قال: فكتب ابن خطاب بذلك إلى ابن كليب فكتب إليه ابن كليب مسرعاً: [من السريع] ألحق لي التنوين في مطمع ... فإنني أنسيت إلحاقه لا سيما إذ كان في وصل من ... كدر لي في الحب أخلاقه وأنشدني أبو محمد علي بن أحمد، قال: أنشدني محمد بن عبد الرحمن بن أحمد التجيبي، لأحمد بن كليب، وقد أهدى إلى أسلم في أوائل أمره كتاب " الفصيح " لثعلب: [من المجتث] هذا كتاب الفصيح ... بكل لفظ مليح وهبته لك طوعاً ... كما وهبتك روحي

فراغ

رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل

- 2 - رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل

فراغ

تصدير

تصدير نشرت هذه الرسالة عدة مرات قبل اليوم: 1 - بعناية محمد هاشم الكتبي (بمصر أو دمشق، 1324 هـ) . 2 - بعناية الشيخ عمر المحمصاني، وذكر أن فيها زيادات على الطبعة الأولى، 1325 هـ. 3 - طبعة الجمالية 1913 ومعها كلمات في الأخلاق لقاسم أمين، وتشغل رسالة ابن حزم الصفحات من 2 - 53، وذكر ناشرها أنها الطبعة الأولى4 4 - وقمت بنشرها في مجموعة رسائل ابن حزم (القاهرة 1956) اعتماداً على مخطوطة شهيد علي رقم 2704 ومقارنة على طبعة الجمالية (ورمزها م) . 5 - ثم نشرتها السيدة ندى توميش (بيروت 1961) اعتماداً على مخطوطة استانبول والنشرة التي قمت بها وعلى طبعتين في القاهرة (احداهما سنة 1908 والأخرى دون تاريخ) وطبعتين اسكندريتين (إحداهما سنة 1913) . وقد وجدت أن طبعة القاهرة (1325 1908) تزيد فقرات لم ترد في مخطوطة استانبول أو في الطبعات الأخرى على تعددها، مما يدل على وجود أصل أتم لها لا أدري ماذا كان مصيره؛ وقد كنت فتشت عن تلك الطبعة كثيراً فلم أستطع الحصول عليها

الرموز

ولهذا فاني في إعداد هذه الطبعة راجعت نص الرسالة على مطبوعة السيدة توميش لأنها أفادت كثيراً من زيادات طبعة المحمصاني ولكني لم أتقيد بترقيمها للفقرات أو ببعض ما لا أراه صواباً من القراءات. وقد قامت السيدة توميش بترجمة الرسالة إلى الفرنسية وقدمت لها بدراسة عن حياة ابن حزم، كما زودت الترجمة بالحواشي المسهبة التي تعد تزيداً في معظم الأحوال. 6 - ونشرتها دار الآفاق الجديدة (بيروت 1978) بعنوان الأخلاق والسير. 7 - ونشرتها مؤسسة ناصر الثقافية (بيوت 1979) في طبعة شعبية (1) . وكتب عنها الأستاذ رئيف خوري دراسة بعنوان حول " كتاب السير والأخلاق " لابن حزم (مجلة الأديب، عدد 11/ 1943 بيروت) . الرموز ص: نسخة شهيد علي (أي الأصل المعتمد) . م: طبعة الجمالية. د: طبعة السيدة ندى توميش.

_ (1) بعد كتابة هذه السطور حصلت على طبعة المحمصاني، كما حصلت على طبعة أخرى طبعت بمصر على نفقة الشيخ مصطفى القباني (1323) ، وليس فيها الزيادات التي في طبعة المحمصاني.

رسالة في مداواة النفوس

رسالة في مداواة النفوس مقدمة - 1 - تبدو هذه الرسالة نوعاً من المذكرات والخواطر، التي دونت على مر الزمن، وكانت حصيلة التجربة المتدرجة، ولعل أكثرها إنما دون في سن كبيرة، لأنها تشير إلى الهدوء والنضج في محاكمة الناس والأشياء، وتمثل مفارقة وتكملة لطوق الحمامة، وخروجاً على بعض الأحكام التي جاءت في الطوق أو تطويراً لها. ففي هذه الرسالة يقدم ابن حزم نظرته في الحياة على نحو فلسفي أو فكري. فإذا نظر إلى الحياة الاجتماعية وجدها تقوم على محور واحد، أحد طرفيه موجب والثاني سالب، أما الطرف الموجب فاسمه " الطمع " ومعناه بهذا التعميم: المحرك أو الدافع الداخلي الذي يوجه الفرد نحو هذا الشيء أو ذاك. فالطمع أصل في كل المظاهر الاجتماعية التي نراها من حب وطموح وحياة مادية وغير ذلك. وإذا أخذنا الحب مثلا لنفسره على مبدأ الطمع وجدنا أنواعا من الحب تختلف في الظاهر، وترجع كلها إلى أصل واحد هو " الطمع فيما يمكن نيله من المحبوب ". ألست ترى جميع أنواع المحبين يتفرقون في النهاية، فيموت الوالد أسفاً على ولده، والعاشق حزناً على معشوقه كما يتفقون في التعبير عن هذا الحب فيغار الرجل على صديقه كما يغار الآخر على زوجه. ثم تأمل من يقر برؤية الله تعالى ويحن إلى تحققها تجده

لا يقنع بشيء دونها لطمعه فيها، ولكن الذي لا يؤمن بها أي لا يطمع فيها لا يحس بها أصلا، وترى المسلم يحب ابنة عمه حبا مفرطاً على قدر طمعه في أن تصير اليه بينما نجد النصراني الذي لا يحق له الزواج من ابنة عمه لا يحس نحوها بشيء إطلاقاً، وترى هذا النصراني نفسه يعشق أخته من الرضاع بينما لا يحس المسلم بعاطفة نحوها لقلة طمعه فيها. ومعنى ذلك أن هذه الظاهرة الانسانية التي تسمى " الحب " ليس لها وجود إيجابي - في رأي ابن حزم - إلا عندما يدفعها الطمع إلى الوجود فتوجد وتتشكل وتصبح فعالة في حياة صاحبها. ولا يقتصر الطمع على توجيه الحياة الاجتماعية نحو الخير بل هو سبب للشر، وهو يدعو صاحبه إلى الذل، وهو الذي يحرك في الأفراد الأنانية العمياء حتى ليجعل بعض الناس يفضل نفسه على نفوس الآخرين في سبيل الحصول على ما يحدوه الطمع إليه. فإذا كان الطمع بهذه القوة في حياة الأفراد فمن الطبيعي أن ينشأ عنه " الهم " وهو الظرف السالب في محور الحياة الاجتماعية. ويصف ابن حزم جميع أدوار الحياة ومظاهرها بأنها محاولة لطرد الهم، وأن الناس جميعا يتفقون في هذه الغاية سواء في ذلك المتدين ومن لا دين له، والخامل والزاهد والفيلسوف العازف عن اللذات وغيرهم. فطالب المال يكد في سعيه ليطرد " هم الفقر "، والساعي وراء الشهرة يجري إليها ليطرد " هم الخفاء والخمول "، والراغب في اللذة يطلبها ليطرد " هم الحرمان من اللذة ". وقل مثل ذلك فيمن أكل وشرب وتزوج ولعب، فإن من يقوم بهذه الأمور إنما يحاول طرد الهم الناشئ عن أضدادها. ولكن المنافسة في هذه الأمور تخلق هموماً جديدة كطعن حاسد أو ذم ذام. أما الشيء الذي يقتلع الهم من جذوره دون أن يثير بين عناصر المجتمع هماً جديداً فهو التوجه إلى الله تعالى، فتلك هي

الغاية السليمة التي يمكن أن يسعى إليها الفرد مطمئنا، يقول ابن حزم: " فاعلم أنه مطلوب واحد وهو طرد الهم، وليس إليه إلا طريق واحد وهو العمل لله تعالى، فما عدا هذا فضلال وسخف. ويظهر أن ابن حزم يؤمن بقوة الطمع في تكبير جانب الشر في الحياة، ومن ثم آمن بان الهم دائما شر، ولكنه نسي أن الأكل والشرب والزواج واللعب وغيرها من الأمور التي تقوم بها الحياة الانسانية ليست شراً وإن سخرت لطرد الهم، وأن التوجه إلى الله تعالى لا يقضي عليها، بل هي متجددة لأنها ضرورية، ومن ثم يصبح طرد الهم ملازماً لبقاء الحياة الانسانية لا يزول إلا بزوالها. فإذا ارتبطت هذه الأمور كلها بغاية واحدة، وهي التوجه إلى الله تعالى فليس ذلك طرداً للهم، ولكنه تهوين لشأنه، وتقليل لأثره في السعي والعمل الانساني على ظهر هذه الأرض. ومن الملاحظة يتبين لنا أن ابن حزم يقترب في بعض نظراته الاجتماعية من رجال المدرسة النفسية، فنظرية " الطمع " تشبه إلى حد كبير ما يقال عن الغرائز وأثرها، بل إن اتخاذ اسم واحد للدوافع في نفس الفرد يقترب من رأي فرويد في حصره جميع الطاقات الغريزية في الانسان تحت اسم " لبيدو " واتخاذه غريزة الجنس متمثلة لكل الطاقات والقوى. أما طرد الهم فيمكن ان يشمل ما يسمى في علم النفس الجماعي، " الصراع النفسي والاجتماعي " وهذان النوعان من الصراع قد يحتوي أحدهما الآخر، وقد يستقل عنه، ولكن في الربط بين طرد الهم وفكرة التوجه إلى الله يقترب ابن حزم من فكرة " الصراع الاجتماعي " الذي يتمثل في توجيه الرغبات الدنيوية نحو غاية مثالية. ومهما يقل في نقد الآراء الاجتماعية التي أوردها ابن حزم يزال بعض تلك الآراء يقربه إلى أنفسنا. فنحن نحس كأن ابن حزم يتحدث عن مشكلاتنا الحاضرة وهو يقول: أشد الأشياء على الناس الخوف والهم والمرض والفقر. ونحن أيضاً نعجب إعجاباً بالغا بنفاذ

نظرته في المجموعة البشرية وشؤونها حين يقول: " تأملت كل ما دون السماء وطالت فيه فكرتي فوجدت كل شيء فيه وغير حي، من طبعه إن قوي أن يخلع على غيره من الأنواع هيأته ويلبسه صفاته، فترى الفاضل يود لو كان كل الناس فضلاء وترى الناقص يود لو كان كل الناس نقصاء، وكل ذي مذهب يود لو كان الناس موافقين له. " وعلماء الاجتماع المحدثون يرون في هذه الظاهرة ميلا إلى " الانسجام الاجتماعي ". - 2 - وتسلمنا هذه النظرات الاجتماعية إلى ذلك المبدأ العام الذي لون تفكير ابن حزم في كلياته وجزئياته وهو " التوجه إلى الله تعالى "، فقد كان هذا الاعتبار حاضراً في ذهنه عند كل قولة يقولها وكل رأي يبديه حتى استسلمت فلسفته إلى نوع من الزهد يوحي لأول وهلة أنه يتعارض مع مبادئه الاجتماعية، ولكنه في الواقع زهد صحيح وسليم، تستطيع أن تعبيره تحقيقاً دقيقاً للسنة الاسلامية، ولا يضطلع به، بمثل هذا الوضوح، إلا رجل كابن حزم في تحريه ودقته وسعة اطلاعه وتشربه لروح الدين الاسلامي، فابن حزم مؤمن بقيمة الزهد، وتوجهه نظرته التشاؤمية أحياناً إلى تحبيب العزلة، ولكنه في مجموع نظرته يفهم أن الزهد هو التغلب على النفعية جهد الطاقة، وانه التربية النفسية التي تضحي بالعجب وتقضي عليه، ولذلك وقف كثيراً من جهده على توضيح الطرق التي يحارب بها العجب، ومضى يدرس الأفراد حتى يقف على دوافع هذه الرذيلة في أعماق نفوسهم ليستطيع القضاء على تلك الدوافع في منابتها. والزهد أيضاً هو التكيف المحمود الذي يمثله الرسول، وقد لخص ابن حزم سيرة الرسول في هذه الناحية تلخيصاً مبدعاً حين قال " وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو القدوة في كل خير والذي أثنى الله تعالى على خلقه والذي جمع فيه تعالى أشتات

الفضائل بتمامها وأبعده عن كل نقص، يعود المريض مع أصحابه راجلاً في أقصى المدينة بلا خف ولا نعل ولا قلنسوة ولا عمامة، ويلبس الشعر إذا حضره، ويلبس الوشي من الحبرات إذا حضره، لا يتكلف إلى ما لا يحتاج اليه ولا يترك ما يحتاج إليه، ويستغني بما وجد عما لا يجد، ومرة يمشي حافياً راجلاً، ومرة يمشي بالخف، ويركب البغلة الرائعة الشهباء ومرة يركب الفرس عرياً ومرة يركب الناقة ومرة يركب حماراً، ويردف عليه بعض أصحابه، ومرة يأكل التمر دون خبز، والخبز يابساً، ومرة يأكل العناق المشوية، والبطيخ بالرطب والحلوى، يأخذ القوت ويبذل الفضل ويترك ما لا يحتاج اليه، ولا يتكلف فوق مقدار الحاجة اليه، ولا يغضب لنفسه ولا يدع الغضب لربه عز وجل ". ولا شك أن رجال الدين الذي دعوا إلى الزهد الخالص في الدنيا أو الذين يفعلون ذلك، في حاجة إلى أن يقرأوا هذه النبذة القصيرة التي تحدد معنى الزهد الطبيعي. وبمثل هذه البصيرة النافذة وذلك الذكاء المدهش استطاع ابن حزم أن يحل كثيراً من المشكلات التي أثارتها حياة الزهد على مر العصور، فقد كان الزهاد يتجادلون حول الفقر والغنى وأيهما أفضل: الغني أو الفقير، ولما سئل ابن حزم " آلبلاء أفضل أم العافية والفقر أفضل أم الغنى أجاب دون تردد: هذا سؤال فاسد، إنما الفضل للعباد بأعمالهم ونحن نسأل الله تعالى العافية والغنى ونعوذ بالله من البلاء والفقر، وإنما الفضل بالصبر والشكر [الرسائل: الورقة 231] . وفي موطن آخر استطاع ابن حزم أن يوقفنا على رأي صحيح واضح في مشكلة الزهد الذي يدعو إلى المغالاة في التعبد، فقد سئل: ما الحد الأعلى في التعبد فكان جوابه: أنا اكره لكل واحد أن يزيد عن عدد ما كان يتنفل به نبيه محمد لوجهين: أحدهما: قول الله عز

وجل (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) . والثاني أن يخطر الشيطان في قلبه، فيوسوس أنه قد فعل من الخير أكثر مما كان محمد يفعله فيهلك في الأبد، ويحيط عمله، ويجد صلاته وصيامه في ميزان سيئاته [رسالة التلخيص لوجوه التخليس، الورقة: 242] . - 3 - فإذا كان لابن حزم نظرات اجتماعية صادقة أو فلسفة أخلاقية موضحة الحدود فلابد ان تدرس هذه النواحي عنده في ظل فكرته الدينية، فهي التي كانت توجهه وتأخذ بيده في كل سبيل، وإن لم يخل من تأثر عام ببعض مبادئ الفلسفة الأخلاقية عند أفلاطون وأرسطوطاليس كمحاولته أن يفسر قيام الفضائل على أربعة عناصر - تنشأ من تجمعها المركبات - وهي العدل والفهم والنجدة والجود، وهذا يذكرنا برأي فلاطون، كما يذكرنا مبدأ التوسط بين طرفين بتعريف الفضيلة عند أرسطوطاليس. ولا شك أن كثيراً من محاكمات ابن حزم تظهر تأثره بالفلسفة والمنطق، وهو الشيء الذي عابه بن خصومه وشنعوا عليه بسببه. ولكن لا شك أيضاً أن الفكرة الدينية هي العامل الرئيس في توجيه ملكاته وذكائه، فبها استطاع أن يقول إن علم الشريعة أفضل العلوم وأجلها، وبسببها يظهر ابن حزم الناقد الأدبي جائراً في أحكامه على الشعر، فهو يراه من العلوم المتأخرة، ولكنه في حكمه خاضع لمبادئه الخلقية تمام الخضوع. ويرى أن يكون منهج التعليم قاصراً في الشعر على شعر الحكمة كأشعار حسان وكعب بن مالك وصالح بن عبد القدوس، ويرى كذلك أن يحال بين الطلبة وبين رواية أربعة أضرب من الشعر هي الغزل وأشعار التصعلك وأشعار التغرب وشعر الهجاء. وهذه التقدير للشعر صادر عن مبدأ تربوي قائم على تحكيم المبدأ الخلقي في تقويم الفن. ومهما يكن رأينا في ابن حزم الناقد، فلا شك أنه في موقفه من الشعر يمثل حلقة في تلك السلسلة الطويلة من قياس الشعر بمقاييس خلقية، وإذا نحن أنكرنا هذا الرأي على ابن

حزم فما هو إلا إنكار نظري، لأننا نتبع ما يقوله بالفعل في تدريس الشعر للطلبة قبل انتقالهم إلى طور النضج، ونجنبهم قراءة جزء كبير مما نهى عنه ابن حزم، ولعل هذا عينه هو عناه ابن حزم في نقده للشعر لأنه يرسم منهجاً في التعليم ويخضع كل العلوم لمقاييس تربوية. - 4 - وقد نبهتني هذه المذكرات وغيرها إلى أن ابن حزم ربما كان من أولئك الرواد الذين مهدوا لابن خلدون طريقه لوضع علم الاجتماع. فذهبت أقارن بين الرجلين، ودلتني المقارنة على اتفاقهما في بعض المظاهر، مثل اعتقادهما ان التاريخ علم شريف الغاية " لأنه يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سريهم. حتى تتم في ذلك فائدة الاقتداء لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا " (المقدمة: 9 ط. التجارية) . ومنها إبطال علم النجوم لبطلان إمكان التجربة التي تحتاج آماداً طويلة لا يفي بها العمر الانساني، ومنها الإيمان بسلامة البداوة في أجسام أهلها واستغنائهم عن علم الطب بطرقهم الخاصة، إلى غير ذلك من نظرات لو جمعت لكان منها قدر صالح لإثبات مدى التشابه، ولكنه فيما يبدو لي - تشابه ظاهري يصل إليه كل مفكر على انفراد دون تأثر أو اتباع. وربما لم يكن ابن حزم من الأشخاص الذي تأثر بهم ابن خلدون، فابن خلدون لا يذكره بين من عنوا بشيء من التفسيرات الاجتماعية، ولا يحيل عليه حين ينصح الطلبة بقراءة كتب تفهمهم حقيقة السنة الإسلامية وتؤمن لديهم سلامة العقيدة، وربما كان اتباع ابن خلدون للمذهب المالكي يباعد بينه وبين الاستئناس إلى رأي رجل ظاهري كابن حزم كان عنيفاً في خصومه للمالكية. ثم هنالك ذلك البون الشاسع في النظرة الاجتماعية عند كل منهما، فابن حزم أقرب

إلى الفيلسوف الأخلاقي، ومن هذا الوضع نفسه ينظر إلى المجتمع، ويهتم بالفرد اهتماماً بالغاً، أما ابن خلدون فإنه عالم اجتماعي لا يعبر الفرد في فلسفته ومبادئه اهتماماً كبيراً. وابن حزم صاحب مذهب قائم على الاكتفاء بالنقل، وهو يتخذ من هذا النقل شاهداً على صحة النبوات والشرائع والتواريخ، بينما لا يرضى ابن خلدون بالنقل وحده في الخبر، لأنه يتحمل الخطأ والدس والتشويه، ومع كل ذلك فإن ابن حزم يظل مقدمة صالحة لذلك السموق الشامخ في الفكر الاسلامي كما يمثله ابن خلدون: أولا في تلك النظرة الإجلالية للتاريخ واعتباره علماً وثانياً في ذلك التقدير لمعنى التعاون في الحياة الاجتماعية، ذلك المبدأ الذي تلقاه ابن حزم عن أستاذه ابن الكتاني ودان به في نظرته الاجتماعية، فقد كان ابن حزم معجباً بقول ذلك الأستاذ " إن من العجب من يبقى في هذا العالم دون معاونة لنوعه على مصلحة، أما يرى الحراث يحرث له، والطحان يطحن له، والنساج ينسج له وسائر الناس كل متول شغلا له فيه مصلحة وبه إليه ضرورة " وعلى بساطة هذا الكلام فإنه يجمل أن يكون أساساً لتحويل الناس في المغرب عن الاتكالية والخمول اللذين كانا يصحبان التصوف حيثما حل. ومن هذه النظرة الايجابية إلى التعاون الإنساني في المجتمع المغربي، ومن تفشي الحياة الخاملة في طبقات الصوفية هنالك، استمد ابن خلدون، ولابد، شيئاً من تفسيراته. ومن مغالاة أهل الظاهر وإغراقهم في الاعتماد على النقل تولد لديه ما يبصره بالطريقة المثلى لتصحيح الأخبار وتمحيصها، فاهتدى إلى ضرورة المعرفة بالعمران البشري وقاده هذا إلى البحث عن مبادئ كامنة وراء ذلك العمران.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم رب أسألك العون اللهم صل على محمد وآله وسلم. قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفقيه الأندلسي. الحمد لله على عظيم مننه، وصلى الله على سيدنا محمد عبده وخاتم أنبيائه ورسله وسلم تسليماً كثيراً، وأبرأ إليه تعالى من الحول والقوة، وأستعينه على كل ما يعصم في الدنيا من جميع المخاوف والمكاره، ويخلص في الأخرى من كل هول وضيق. أما بعد، فإني جمعت في كتابي هذا معاني كثيرة أفادنيها واهب التمييز تعالى، بمرور الأيام وتعاقب الأحوال، بما منحني عز وجل من التهمم (1) بتصاريف الزمان والإشراف على أحواله، حتى أنفقت في ذلك أكثر عمري. وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له والفكرة فيه على جميع اللذات التي تميل إليها أكثر النفوس وعلى الازدياد من فصول المال. ورقمت (2) كل ما سبرت من ذلك بهذا الكتاب لينفع الله تعالى به من شاء من عباده، ممن يصل إليه، ما أتعبت فيه نفسي، وأجهدتها فيه وأطلت فيه فكري، فيأخذه عفواً، وأهديته إليه هدياً، فيكون ذلك

_ (1) ص: التهم. (2) ص: وزممت؛ د: ودونت.

أفضل له من كنوز المال وعقد الأملاك إذا تدبره ويسره الله تعالى لاستعماله، وأنا راج في ذلك من الله تعالى أعظم الأجر لنيتي في نفع عباده وإصلاح ما فسد من أخلاقهم ومداواة علل نفوسهم، وبالله تعالى أستعين، وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل.

1 - فصل في مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق الذميمة

1 - فصل في مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق الذميمة 1 - لذة العاقل بتمييزه، ولذة العالم بعلمه، ولذة الحكيم بحكمته، ولذة المجتهد لله عز وجل باجتهاده أعظم (1) من لذة الآكل باكله، والشارب بشربه، والواطئ بوطئه، والكاسب بكسبه، واللاعب بلعبه، والآمر بأمره. وبرهان ذلك أن الحكيم والعالم والعاقل والعامل ومن ذكرنا (2) واجدون لسائر اللذات التي سمينا كما يجدها المنهمك فيها ويحسونها كما يحسها المقبل عليها. وإنما يحكم في الشيئين من عرفهما، لا من عرف أحدهما ولا يعرف الآخر. 2 - إذا تعقبت (3) الأمور كلها فسدت عليك، وانتهيت في آخر فكرتك، باضمحلال جميع أحوال الدنيا، إلى أن الحقيقة إنما هي العمل للآخرة فقط، لان كل أمل ظفرت به فعقباه حزن إما بذهابه عنك، وإما بذهابك عنه، ولابد من أحد هذين السبيلين، إلا العمل لله عز وجل، فعقباه على كل حال سرور في عاجل وآجل. أما في العاجل، فقلة الهم بما يهتم به الناس وانك به معظم من الصديق والعدو، وأما في الآجل فالجنة.

_ (1) ص: أعظم لذة ما ذكرنا. (2) ومن ذكرنا: مكررة في ص. (3) ص: انعقبت.

3 - تطلبت غرضاً يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه فلم أجده إلا واحداً، وهو طرد الهم (1) : فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط ولا في طلبه فقط، ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم هممهم وإراداتهم (2) لا يتحركون حركة أصلاً إلا فيما يرجون به طرد الهم، ولا ينطقون بكلمة أصلاً إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم. فمن مخطئ وجه سبيله، ومن مقارب للخطأ، ومن مصيب، وهو الأقل من الناس في الأقل من أموره، والله اعلم. [فطرد الهم] (3) مذهب قد اتفقت الأمم كلها مذ خلق الله تعالى العالم إلى أن يتناهى عالم الابتداء ويعاقبه عالم الحساب على أن لا يعتمدوا بسعيهم شيئاً سواه، وكل غرض غيره ففي الناس من لا يستحسنه، إذ في الناس من لا دين له فعلا يعمل للآخرة، وفي الناس من أهل الشر من لا يريد الخير ولا الأمن ولا الحق، وفي الناس من يؤثر (4) الخمول بهواه وإرادته على بعد الصيت، وفي الناس من لا يريد المال ويؤثر عدمه

_ (1) يبدو لي أن ابن قيم الجوزية لخص ما بقوله ابن حزم في هذه الفقرة دون أن يسميه فقال: (الجواب الكافي: 136) قال بعض العلماء: فكرت في سعي العقلاء فرأيت سعيهم كلهم في مطلوب واحد، وان اختلفت طرقهم في تحصيله، رأيتهم جميعهم إنما يسعون في دفع الهم والغم عن نفوسهم، فهذا في الأكل والشرب، وهذا في التجارة والكسب، وهذا بالنكاح، وهذا بسماع الغناء والأصوات المطربة، وهذا في اللهو واللعب، فقلت: هذا المطلوب مطلوب العقلاء، ولكن الطرق كلها غير موصلة اليه بل لعل أكثرها إنما يؤثر إلى الاقبال على الله وحده، ومعالمته وحده، وايثار مرضاته على كل شيء، فإن سالك هذا الطريق ان فاته حظه في الدنيا فقد ظفر بالحظ العالي الذي لا فوت معه وان حصل للعبد حصل له كل شيء، وإن فاته كل شيء، وان ظفر بحظه من الدنيا ناله على أهنا الوجوه، فليس للعبد أنفع من هذا الطريق ولا أوصل منه إلى ذاته وبهجته وسعادته، وبالله التوفيق ". (2) قد تقرأ في ص: ومراداتهم، لاضطراب الناسخ في كتابتها. (3) زيادة من م، وفي ص بياض. (4) هذه قراءة م، وفي ص صورة " يريد ".

على وجوده ككثير من الأنبياء، عليهم السلام، ومن تلاهم من الزهاد والفلاسفة، وفي الناس من يبغض اللذات بطبعه ويستنقص طالبها كمن ذكرنا من المؤثرين فقد المال على اقتنائه، وفي الناس من يؤثر الجهل على العلم كأكثر من نرى من العامة، وهذه هي أغراض الناس التي لا غرض لهم سواها. وليس في العالم مذ كان إلى أن يتناهى أحد (1) يستحسن الهم، ولا يريد إلا طرحه عن نفسه. فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع، وانكشف لي هذا السر العجيب وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم بحثت عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب النفيس الذي اتفق جميع أنواع الانسان، الجاهل منهم والعالم والصالح والطالح على السعي له. فلم أجدها إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة. وإلا فإنما طلب المال طلابه ليطردوا به عن أنفسهم هم الفقر، وإنما طلب الصوت من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها، وإنما طلب اللذات من طلبها ليطرد به عن نفسه هم الجهل، وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ليطرد بها عن نفسه هم التوحد ومغيب أحوال العالم عنه، وإنما أكل من أكل وشرب من شرب، ونكح من نكح، ولبس من لبس، ولعب من لعب، واكتنز من اكتنز، وركب من ركب، ومشى من مشى، وتودع من تودع، ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم. وفي كل ما ذكرنا لمن تدبره هموم حادثة لابد منه: من عوارض تعرض في خلالها وتعذر ما يتعذر منها، وذهاب ما وجد منها والعجز عنه لبعض الآفات الكائنة، وأيضاً سوء شح (2) بالحصول على ما حصل عليه

_ (1) ص: لأحد، والتصويب عن م. (2) د والمحمصاني: وأيضاً نتائج سوء تنتج.

من كل ذلك من خوف منافس، أو طعن حاسد، أو اختلاس راغب، أو اقتناء عدو، مع الذم والإثم وغير ذلك. ووجدت العمل للآخرة سالماً من كل عيب، خالصاً من كل كدر، موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة. ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم بل يسر، إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال منه، عون له (1) على ما يطلب، لم يهتم، إذ ليس مؤاخذاً بذلك، فهو غير مؤثر فيما يطلب. ووجدته (2) إن قصد بالأذى سر، وإن تعب فيما سلك فيه سر، فهو في سرور متصل أبداً، وغيره بخلاف ذلك أبداً. فاعلم أنه مطلوب واحد، وهو طرد الهم، وليس إليه طريق واحد، وهو العمل لله تعالى. فما عدا هذا فضلال وسخف. 4 - لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل، في دعاء إلى حق، وفي حماية الحريم، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى، وفي نصر مظلوم. وباذل نفسه في عرض دنيا، كبائع الياقوت بالحصى. 5 - لا مروءة لمن لا دين له. 6 - العاقل لا يرى لنفسه ثمناً إلا الجنة. 7 - لإبليس في م الرياء حبالة، وذلك أنه رب ممتنع من فعل خير خوف أن يظن به الرياء، فإذا اطرقك منه هذا، فامض على فعلك، فهو شديد الألم عليه. 8 - باب عظيم من أبواب العقل والراحة: وهو طرح المبالاة بكلام الناس، واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل، بل هو

_ (1) ص: دعوى. (2) د: ورأيته.

باب العقل كله والراحة كلها - من قدر انه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون. من حقق النظر وراض (1) نفسه على السكون إلى (2) الحقائق وإن ألمتها في أول صدمة، كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه، بل مدحهم إياه إن كان بحق، وبلغه مدحهم له، أسرى ذلك فيه العجب فأفسد بذلك فضائله، وإن كان بباطل فبلغه فسر فقد صار مسروراً بالكذب، وهذا نقص شديد. وأما ذم الناس إياه، فإن كان بحق فبلغه فربما كان لك سبباً إلى تجنبه ما يعاب عليه، وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا ناقص، وإن كان بباطل فبلغه، فصبر، اكتسب فضلاً زائداً بالحلم والصبر، وكان مع لك غانماً لأنه يأخذ حسنات من مه بالباطل فيحظى بها في دار الجزاء أحوج ما يكون إلى النجاة بأعمال لم يتعب فيها ولا تكلفها، وهذا حظ رفيه لا يزهد فيه إلا مجنون. وأما أن (3) لم يبلغه مدح الناس إياه، فكلامهم وسكوتهم سواء. وليس كذلك ذمهم إياه لأنه غانم للأجر على كل حال بلغه ذمهم أو لم يبلغه. ولولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثناء الحسن: " ذلك عاجل بشرى المؤمن " (4) ، لوجب أن يرغب العاقل في الذم بالباطل أكثر من رغبته في المدح بالحق. ولكن إذ جاء هذا القول فإنما تكون البشرى بالحق لا بالباطل فإنما تجب البشرى بما في المدح لا بنفس المدح. 9 - ليس بين الفضائل والرذائل ولا بين الطاعات والمعاصي إلا نفار النفس وأنسها فقط. فالسعيد من أنست نفسه بالفضائل والطاغات ونفرت من الرذائل والمعاصي، والشقي من أنست نفسه بالرذائل

_ (1) ص: وأرض. (2) ص: على السكوت على. (3) ص: أن من. (4) الحديث في صحيح مسلم (بر: 166) وابن ماجة (زهد: 25) ومسند أحمد 5: 156، 157، 168.

والمعاصي ونفرت من الفضائل والطاعات. وليس ها هنا إلا صنع الله تعالى وحفظه. 10 - طالب الأجر في الآخرة (1) متشبه بالملائكة، وطالب الشر متشبه بالشياطين، وطالب الصوت والغلبة متشبه بالسباع، وطالب اللذات متشبه بالبهائم، وطالب المال لعين المال لا لينفقه في الواجبات والنوافل المحمودة أسقط وأرذل من أن يكون له في شيء من الحيوان شبه، ولكنه يشبه الغدران (2) التي في الكهوف، في المواضع الوعرة لا ينتفع بها شيء من الحيوان إلا ما قل من الطائر. ثم تجفف الشمس والريح ما بقي منها. كذلك المال الذي لا ينفق في معروف. 11 - العاقل لا يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد. وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله بها عن السباع والبهائم والجمادات، وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة. فمن سر بشجاعته التي يضعها في غير حقها (3) لله تعالى، فليعلم أن النمر أجرأ منه، وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه، ومن سر بقوة جسمه فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسماً. ومن سر بحمله الأثقال، فليعلم أن الحمار أحمل منه. ومن سر بسرعة عدوه فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع منه صوتاً، وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته. فأي فخر وأي سرور فيما تكون فيه هذه البهائم متقدمة له لكن من قوي تمييزه، واتسع علمه وحسن عمله، فليغتبط بذلك فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة وخيار الناس. 12 - قول الله: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن

_ (1) م: طالب الآخرة. (2) د: العذرات. (3) د: موضعها.

الهوى فإن الجنة هي المأوى) (النازعات: 40) جامع لكل فضيلة، لان نهي النفس عن الهوى هو ردعها عن الطبع الغضبي وعن الطبع الشهواني، لان كليهما واقع تحت موجب الهوى، فلم يبق إلا استعمال النفس للنطق الموضوع فيها الذي (1) به بانت عن البهائم والحشرات والسباع. 13 - قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي استوصاه: " لا تغضب " (2) ، وأمره، عليه السلام، أن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه، جامعان لكل فضيلة، لان في نهيه عن الغضب ردع ذات القوة الغضبية عن هواها وفي أمره عليه السلام بان يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه ردع النفوس عن القوة الشهوانية، وجمع لأزمة العدل الذي هو فائدة النطق الموضوع في النفس الناطقة. 14 -[ (3) رأيت أكثر الناس، إلا من عصم الله تعالى وقليل ما هم، يتعجلون الشقاء والهم والتعب لأنفسهم في الدنيا، ويحتقبون عظيم الإثم الموجب للنار في الآخرة بما لا يحظون معه بنفع أصلاً: من نيات خبيثة يضبون عليها من تمني الغلاء المهلك للناس وللصغار ومن لا ذنب له، وتمني أشد البلاء لمن يكرهونه، وقد علموا يقيناً أن تلك النيات الفاسدة لا تعجل لهم شيئاً مما يتمنونه أو يوجب كونه، وأنهم لو صفوا نياتهم وحسنوها لتعجلوا الراحة لأنفسهم وتفرغوا بذلك لمصالح أمورهم، ولاقتنوا بذلك عظيم الأجر في المعاد من غير أن يؤخر ذلك شيئاً مما يريدونه أو يمنع كونه. فأي غبن اعظم من هذه

_ (1) ص: التي. (2) الحديث في صحيح البخاري (ادب: 76) والترمذي (بر: 73) ومسند أحمد 2: 175، 3 484، 5: 34، 370. (3) ما بين معقفين من فقرات أضيفت الى هذه الرسالة من د: وهي عن طبعة القاهرة (1908) تحقيق أحمد عمر المحمصاني (انظر التصدير) .

الحال التي نبهنا عليها، وأي سعد أعظم من الذي دعونا إليه (1) ] . 15 -[إذا حقت مدة الدنيا لم تجدها إلا الآن الذي هو فصل الزمانين فقط. وأما ما مضى وما لم يأت فمعدومان كما لم يكن؛ فمن أضل ممن يبيع باقياً خالداً بمدة هي أقل من كر الطرف] . 16 -[إذا نام المرء خرج عن الدنيا ونسي كل سرور وكل حزن، فلو رتب نفسه في يقظته على ذلك أيضاً لسعد السعادة التامة] . 17 -[من أساء إلى أهله وجيرانه فهو أسقطهم، ومن كافأ من أساء إليه منهم فهو مثلهم، ومن لم يكافئهم بإساءتهم فهو سيدهم وخيرهم وأفضلهم] .

_ (1) قارن ما جاء في هذه الفقرة بما سيجيء في الفقرة 159 (وهي أيضاً مزيدة) إذ يكاد القولان يتفقان.

2 - فصل في العلم

2 - فصل في العلم 18 - لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك ويحبونك (1) وأن العلماء يحبونك ويكرمونك، لكان ذلك سبباً إلى وجوب طلبه. فكيف بسائر فضائله في الدنيا والآخرة ولو لم يكن من نقص الجهل إلا أن صاحبه يحسد العلماء ويعبه نظراؤه من الجهال لكان ذلك سبباً إلى وجوب الفرار عنه، فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة.. 19 - لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به إلا أنه يقطع المشتغل به عن الوساويس المضنية ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس، لكان ذلك أعظم داع إليه. فكيف وله من الفضائل ما يطول ذكره، ومن أقلها ما ذكرنا مما يحصل عليه طالب العلم، وفي مثله أتعب ضعفاء الملوك أنفسهم، فتشاغلوا عما ذكرنا بالشطرنج والنرد والخمر والأغاني وركض الدواب في طلب الصيد وسائر الفضول التي تعود بالمضرة في الدنيا والآخرة. وأما بفائدة (2) فلا. 20 - لو تدبر العالم في مرور ساعاته ماذا كفاه العلم من الذل بتسلط الجهال، ومن الهم بمغيب الحقائق عنه، ومن الغبطة بما قد بان

_ (1) د: ويجلونك. (2) ص: فائدة.

له وجهة من الأمور الخفية عن غيره لزاد حمداً لله عز وجل، وغبطة بما لديه من العلم، ورغبة في المزيد منه. 21 - من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه، كان كزارع الذرة في الأرض التي يجود فيها البر، وكزارع الشعراء (1) حيث يزكو النخل والتين. 22 - نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك العسل والحلوى من به احتراق وحمى، وكتشميمك المسك والعنبر لمن به صداع من احتدام الصفراء. 23 - البال بالعلم ألوم من الباخل بالمال، فالباخل بالمال أشفق من فناء ما بيده، والباخل بالعلم بخل بما لا يفنى على النفقة ولا يفارقه مع البذل. 24 - من مال بطبعه إلى علم ما - وإن كان أدنى من غيره - فلا يشغله (2) بسواه، فيكون كغارس النارجيل بالأندلس وكغارس الزيتون بالهند، وكل ذلك لا ينجب. 25 - أجل العلوم ما قربك من خالقك تعالى، وما أعانك على الوصول إلى رضاه. 26 - انظر في المال والحال والصحة إلى من دونك وانظر في الدين والعلم والفضائل إلى من فوقك. 27 - العلوم الغامضة تزيد العقل القوي جودة، وتصفيه من كل آفة، وتهلك ذا العقل الضعيف. 28 - من الغوص على الجنون ما لو غاصه صاحبه على العقل

_ (1) د. وكغارس، والشعراء: الشجر غير المثمر. (2) ص: يشغلها.

لكان أحكم من الحسن البصري، وأفلاطون الأثيني، وبزرجمهر الفارسي. 29 - وقف العقل عند أنه لا ينفع إن (1) لم يؤيد بتوفيق في الدين أو بسعد في الدنيا. 30 -[لا (2) تضر بنفسك في أن تجرب بها الآراء الفاسدة لتري المشير بها فسادها فتهلك فإن ملامة ذي الرأي الفاسد لك على مخالفته وأنت ناج من مكاره خير لك من أن يقدرك ويندم كلاكما وأنت قد حصلت في مكاره.] . 31 -[إياك أن تسر غيرك بما تسوء به نفسك فيما لم توجبه عليك شريعة أو فضيلة] . 32 - وقف العلم عند الجهل بصفات الباري عز وجل. 33 - لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون. 34 - من أراد خير الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على الاتساء به بمنه، آمين آمين. 35 - غاظني أهل الجهل مرتين من عمري: إحداهما بكلامهم فيما لا يحسنونه أيام جهلي، والثانية بسكوتهم عن الكلام بحضرتي أيام علمي. فهم أبداً ساكتون عما ينفعهم ناطقون فيما يضرهم. وسرني أهل العلم مرتين من عمري: إحداهما بتعليمي أيام جهلي، والثانية بمذكراتي أيام علمي.

_ (1) ص: أنه. (2) الفقرتان، 30، 31 فصلتا بين قولين مترابطين، وجاءتا بموضوع لا علاقة له بالسياق.

36 - من فضل العلم والزهد في الدنيا انهما لا يؤتيهما الله عز وجل إلا أهلها ومستحقهما. ومن نقص علو أحوال الدنيا من المال والصوت أن أكثر ما يقعان ففي غير أهلهما وفيمن لا يستحقهما. 37 - ومن طلب الفضائل لم يساير إلا أهلها، ولم يرافق في تلك الطريق إلا أكرم صديق [من] (1) أهل المواساة والبر والصدق وكرم العشرة والصبر والوفاء والأمانة والحلم وصفاء الضمائر وصحة المودة؛ ومن طلب الجاه والمال واللذات لم يساير إلا أمثال الكلاب الكلبة والثعالب الخلبة ولو يرافق في تلك الطريق إلا كل عدو في المعتقد خبيث الطبيعة. 38 - منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة، وهو انه يعلم حسن الفضائل، فيأتيها ولو في الندرة، ويعلم قبح الرذائل فيتجنبها ولو في الندرة، ويستمع الثناء الحسن فيرغب في مثله، والثناء الرديء فينفر منه، فعلى هذه المقدمات وجب أن يكون للعلم حصة في كل فضيلة، وللجهل حصة في كل ريلة، ولا يأتي الفضائل من لم يتعلم العلم إلا صافي الطبع جداً فاضل التركيب. وهذه منزلة خص بها النبيون عليهم الصلاة والسلام، لأن الله تعالى علمهم الخير كله دون أن يتعلموه من الناس. 39 -[وقد رأيت من غمار العامة من يجري من الاعتدال وحميد الأخلاق إلى ما لا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه، ولكنه قليل جداً. ورأيت ممن طالع العلوم وعرف عهود الأنبياء عليهم السلام ووصايا الحكماء، وهو لا يتقدمه في خبث السيرة وفساد العلانية والسريرة شرار الخلق، وهذا كثير جداً، فعلمت أنهما مواهب وحرمان من الله تعالى] .

_ (1) زيادة من د.

3 - فصل في الأخلاق

3 - فصل في الأخلاق (1) والسير 40 - احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون منك، حتى ربما أضر ذلك بك وربما قتلك. 41 - وطن نفسك على ما تكره يقل همك إذا أتاك ولم تستضر بتوطينك أولاً، ويعظم سرورك ويتضاعف، إذا أتاك ما تحب مما لم تكن قدرته. 42 - إذا تكاثرت الهموم سقطت كلها. 43 - الغادر يفي بالمحدود [والوفي يغدر بالمحدود] (2) والسعيد كل السعيد في دنياه من لم يضطره الزمان إلى اختيار الإخوان. 44 - لا تفكر فيمن يؤذيك فانك ان كنت مقبلاً فهو هالك، وسعدك يكفيك، وإن كنت مدبراً فكل أحد يؤذيك. 45 - طوبى لمن علم من عيوب نفسه أكثر مما يعلم منها. 46 - الصبر على الجفاء ينقسم ثلاثة أقسام: فصبر عن من يقدر عليك ولا تقدر عليه، وصبر عن من تقدر عليه ولا يقدر عليك، وصبر

_ (1) ص: الاختلاف. (2) زيادة من م.

عن من لا تقدر عليه ولا يقدر عليك. فالأول ذل ومهانة وليس من الفضائل، والرأي لمن خشي ما هو أشد مما يصبر عليه، المتاركة والمباعدة، والثاني فضل وبر وهو الحلم على الحقيقة، وهو الذي يوصف به الفضلاء، والثالث ينقسم قسمين: إما أن يكون الجفاء ممن لم يقع منه إلا على سبيل الغلطة والوهلة ويعلم قبح ما أتى به ويندم عليه، فالصبر عليه فضل وفرض، وهو حلم على الحقيقة، وأما من كان لا يدري مقدار نفسه ويظن أن لها حقاً يستطيل به، فلا يندم على ما سلف منه، فالصبر عليه ذل للصابر وإفساد للمصبور عليه، لأنه يزيد استشراء، والمقارضة له سخف، والصواب إعلامه بأنه كان ممكناً أن ينتصر منه، وأنه إنما ترك ذلك استرذالاً له فقط، وصيانة عن مراجعته، ولا يزاد على ذلك. وأما جفاء (1) السفلة فليس جوابه الا النكال وحده. 47 - من جالس الناس لم يعدم هماً يؤلم نفسه، وإثماً (2) يندم عليه في معاده، وغيظاً ينضج كبده، وذلاً ينكس همته. فما الظن بعد بمن خالطهم وداخلهم والعز والراحة والسرور والسلامة في الانفراد عنهم، ولكن اجعلهم كالنار تدفأ (3) بها ولا تخالطها. (4) 48 -[لو لم يكن في مجالسة الناس الا عيبان لكفيا، أحدهما: الاسترسال عند الأنس بالأسرار المهلكة القاتلة التي لولا المجالسة لم يبح بها البائح، والثاني: مواقعة الغلبة المهلكة في الآخرة، فلا سبيل إلى السلامة من هاتين البليتين إلا بالانفراد عن المجالسة جملة] . 49 - لا تحقرن (5) شيئاً من عمل غد أن (6) تحققه بان تعجله

_ (1) ص: جواب. (2) ص: وانما. (3) ص: تدن. (4) زاد في ص: ليلة. (5) ص: لا تؤخر لا تحقرن. (6) ص: لا لأن.

اليوم (1) وان قل فإن من قليل الأعمال يجتمع كثيرها، وربما اعجز أمرها عند ذلك فبطل الكل. ولا تحقر شيئاً مما ترجو به تثقيل ميزانك يوم البعث أن تعجله الآن، وان قل، فانه يحط عنك كثيراً لو اجتمع لقذف بك في النار. 50 - الوجع والفقر والنكبة والخوف لا يحس أذاها الا من كان فيها، ولا يعلمه من كان خارجاً عنها، وفساد الرأي والعار والإثم لا يعلم قبحها إلا من كان خارجاً عنها وليس يراه من كان داخلاً فيها. 51 - الأمن والصحة والغنى لا يعرف حقها الا من كان خارجاً عنها وليس يعرفه (2) من كان فيها. وجودة الرأي والفضائل وعمل الآخرة لا يعرف فضلها الا من كان من أهلها، ولا يعرفه من لم يكن منها. 52 - أول من يزهد في الغادر من غدر له الغادر، وأول من يمقت شاهد الزور من شهد له به، وأول من تهون الزانية في عينه فالذي يزني بها. 53 - ما رأينا شيئاً فسد فعاد إلى صحته الا بعد لأي - أي بعد شدة - فكيف بدماغ يتوالى عليه فساد السكر كل ليلة، وان عقلاً زين لصاحبه تعجيل افساده كل ليلة لعقل (3) ينبغي أن يتهم. 54 -[الطريق تبرم، والزوايا تكرم، وكثرة المال ترغب وقلته تقنع] (4) . 55 - قد ينحس العاقل بتدبيره ولا يجوز أن يسعد الأحمق بتدبيره.

_ (1) ص: بأن العجلة اليوم. (2) م: وليس يعرف حقها. (3) ص: العقل. (4) هذه الفقرة تبدو دخيلة وقوله " الزوايا تكرم " لا أدري معناه، ولعله " الروايا " أي الابل التي تحمل الماء وتعين على قطع الطريق.

56 - لا شيء اضر على السلطان من كثرة المتفرغين حواليه. فالحازم يشغلهم بما لا يظلمهم فيه، فان لم يفعل شغلوه بما يظلمونه فيه. 57 - مقرب أعدائه قاتل نفسه. 58 - كثرة وقوع العين على الشخص تسهل أمره وتهونه. 59 - التهويل بلزوم زي ما، والاكفهرار وقلة الانبساط، ستائر جعلها الجهال الذين مكنتهم (1) الدنيا أمام جهلهم. 60 - لا يغتر العاقل بصداقة حادثة أيام دولته، فكل أحد صديقه يومئذ. 61 - اجهد في أن تستعين في أمورك بمن يريد منها لنفسه مثل ما تريد لنفسك، ولا يستعن فيها بمن حظه من غيرك كحظه منك. 62 - لا تجب عن كلام نقل إليك عن قائل حتى توقن أنه قاله فان من نقل إليك كذباً رجع من عندك بحق (2) . 63 - ثق بالمتدين وان كان على غير دينك، ولا تثق بالمستخف وان أظهر أنه على دينك. من استخف بحرمات الله تعالى فلا تأمنه على شيء مما تشفق عليه. 64 - وجدت المشاركين بأرواحهم أكثر من المشاركين بأموالهم، هذا شيء طال اختباري اياه، ولم أجد قط على طول التجربة سواه، فأعيتني معرفة العلة في ذلك حتى قدرت أنها طبيعة في البشر. 65 -[من قبيح الظلم الإنكار على من أكثر الإساءة إذا أحسن في الندرة] . 66 -[من استراح من عدو واحد حدث له أعداء كثيرة] .

_ (1) ص: مكنهم. (2) قارن بالفقرة: 144.

67 -[أشبه ما رأيت بالدنيا خيال الظل وهي تماثيل مركبة على مطحنة خشب تدار بسرعة فتغيب طائفة وتبدو أخرى] . 68 - طال تعجبي في الموت، وذلك أني صحبت أقواماً صحبة الروح للجسد من صدق المودة، فلما ماتوا رأيت بعضهم في النوم ولم أر بعضهم، وقد كنت عاهدت بعضهم في الحياة على التزاور في المنام بعد الموت ان أمكن ذلك، فلم أره في النوم بعد أن تقدمني إلى دار الآخرة، فلا أدري أنسي أم شغل] . 69 -[غفلة النفس ونسيانها ما كانت فيه في دار الابتداء قبل حلولها في الجسد كغفلة من وقع في طين غمر عن كل ما عهد وعرف قبل ذلك. ثم أطلت الفكر أيضاً في ذلك فلاح لي شعب زائد من البيان. وهو أني رأيت النائم اذ همت نفسه بالتخلي من جسده وقوي حسها حتى تشاهد الغيوب قد نسيت ما كان فيه قبيل نومها نسياناً تاماً البتة على قرب عهدها به، وحدثت لها أحوال أخر، وهي في كل ذلك ذاكرة حساسة متلذذة آلمة، ولذة النوم محسوسة في حاله، لان النائم يلتذ ويحتلم ويخاف ويحزن في حال نومه] . 70 - انما تأنس النفس بالنفس. فأما الجسد فمستثقل مبروم به، ودليل ذلك استعجال المرء بدفن جسد حبيبه إذا فارقته نفسه، وأسفه لذهاب النفس وان كانت الجثة حاضرة بين يديه. 71 - لم أر لإبليس (1) أصيد ولا أقبح ولا أحمق من كلمتين ألقاهما على ألسنة دعاته: إحداهما اعتذار من أساء بأن فلاناً أساء قبله، والثانية استسهال الإنسان ان يسيء اليوم لأنه قد أساء أمس، [أو أن يسيء في وجه ما لأنه قد أساء في غيره. فقد صارت هاتان الكلمتان عذراً مستهلتين للشر ومدخلتين له في حد ما يعرف ويحمل ولا ينكر] .

_ (1) ص: الا ابليس.

72 -[استعمل سوء الظن حيث تقدر على توفيته حقه في التحفظ والتاهب، واستعمل حسن الظن حيث لا طاقة بك على التحفظ فتربح راحة النفس] . 73 -[حد الجود وغايته أن تبذل الفضل كله في وجوه البر وأفضل ذلك في الجار المحتاج وذي الرحم الفقير، وذي النعمة الذاهبة والأخص فاقة. ومنع الفضل من هذه الوجوه داخل في البخل، وعلى قدر التقصير والتوسع في ذلك يكون المدح والذم، وما وضع في غير هذه الوجوه فهو تبذير، وهو مذموم، وما بذلت من قوتك لمن هو أمس حاجة منك، فهو فضل وإيثار، وهو خير من الجود؛ وما منع من هذا فهو لا حمد ولا ذم وهو انتصاف] . 74 - بذل الواجبات فرض، وبذل ما فضل عن القوت جود. والإيثار على النفس من القوت بما لا تهلك على عدمه فضل، ومنع الواجبات حرام، ومنع ما فضل عن القوت بخل وشح. والمنع من الايثار ببعض القوت عذر (1) ، ومنع النفس أو الأهل القوت أو بعضه نتن ورذالة ومعصية، والسخاء بما ظلمت فيه أو أخذته بغير حقه ظلم مكرر (2) ، والذم جزاء ذلك لا الحمد، لأنك إنما تبذل مال غيرك على الحقيقة لا مالك. واعطاء الناس حقوقهم مما عنك ليس جوداً ولكنه حق. 75 - حد الشجاعة بذل النفس للموت عن الدين والحريم، وعن الجار المضطهد، وعن المستجير المظلوم، وعن الهضيمة ظلماً في المال والعرض وسائر سبل الحق، سواء قل من يعارض أو كثر. والتقصير (3) عما ذكرنا جبن وخور، وبذلها في عرض الدنيا تهور وحمق. وأحمق من

_ (1) ص: منع، وهذه قراءة د. (2) م: مكروه. (3) ص: والصبر.

ذلك من بذلها في المنع عن الحقوق والواجبات - قبلك أو قبل غيرك - وأحمق من هؤلاء كلهم قوم شاهدتهم لا يدرون فيما يبذلون أنفسهم، فتراه يقاتلون زيداً عن عمرو، وتارة يقاتلون عمراً عن زيد، ولعل ذلك يكون في يوم واحد، فيتعرضون للمهالك بلا معنى، فينقلبون (1) إلى النار أو يفرون إلى العار. وقد أنذر بهؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل " (2) . 76 - حد العفة ان تغض بصرك وجميع جوارحك عن الأجسام التي لا تحل لك، فما عدا هذا فهو عهر، وما نقص حتى يمسك عما أحل الله تعالى فهو ضعف وعجز. 77 - حد العدل أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه، وحد الجور أن تأخذه ولا تعطيه. 78 - وحد الكرم أن تعطي من نفسك الحق طائعاً، وتتجافى عن حقك لغيرك قادراً، فالفضل أعم والجود أخص، إذ الحلم فضل وليس جوداً، والفضل فرض زدت عليه نافلة. 79 - إهمال ساعة يفسد رياضة سنة. 80 - خطأ الواحد خير في تدبير الأمور من صواب الجماعة التي لا يجمعها واحد، لأن خطأ الواحد في ذلك يستدرك، وصواب الجماعة يضري على استدامة الإهمال، وفي ذلك الهلاك. 81 -[نوار الفتنة لا يعقد] . 82 -[كانت في عيوب، فلم أزل بالرياضة واطلاعي على

_ (1) هذه هي قراءة م؛ وفي ص: يقتلون. (2) الحديث في الترمذي (تجارات: 58) والنسائي (زكاة: 64) والموطأ (سفر: 88) .

ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وفي آداب النفس أعاني مداواتها، حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو الإقرار بها، ليتعظ بذلك متعظ يوماً ان شاء الله. (أ) فمنها كلف في الرضاء وإفراط في الغضب، فلم أزل أداوي ذلك حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملة بالكلام والفعل والتخبط، وامتنعت مما لا يحل من الانتصار وتحملت من ذلك ثقلاً شديداً وصبرت على مضض مؤلم كان ربما امرضني، وأعجزني ذلك في الرضى وكأني سامحت نفسي في ذلك، لأنها تمثلت ان ترك ذلك لؤم. (ب) ومنها دعابة غالبة، فالذي قدرت عليه فيها إمساكي عما يغضب الممازح، وسامحت نفسي فيها إذ رأيت تركها من الانغلاق ومضاهياً للكبر. (ج) ومنها عجب شديد: فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها حتى ذهب كله ولم يبق له والحمد لله أثر، بل كلفت نفسي احتقار قدرها جملة واستعمال التواضع. (د) ومنها حركات كانت تولدها غرارة الصبا وضعف الأعضاء فقسرت نفسي على تركها فذهبت. (هـ) ومنها محبة في بعد الصيت والغلبة، فالذي وقفت عليه من معاناة هذا الداء الإمساك فيه عما لا يحل في الديانة، والله المستعان على الباقي، مع ظهور النفس الغضبية إذا كانت منقادة للناطقة فضل وخلق محمود. (و) ومنها إفراط في الأنفة بغضت الي إنكاح الحرم جملة بكل وجه وصعبت ذلك في طبيعتي، وكأني توقفت عن مغالبة هذا الافراط الذي أعرف قبحه لعوارض اعترضت علي، والله المستعان.

(ز) ومنها عيبان قد سترها الله تعالى وأعان على مقاومتهما، وأعان بلطفه عليهما، فذهب احدهما البتة ولله الحمد. وكأن السعادة كانت موكلة بي، فاذا لاح منه طالع قصدت طمسه. وطاولني الثاني منهما فكان إذا ثارت منه مدوده نبضت عروقه فيكاد يظهر ثم يسر الله تعالى قدعه بضروب من لطفه حتى اخلد. (ح) ومنها حقد مفرط قدرت بعون الله تعالى على طيه وستره، وغلبته على اظهار جميع نتائجه، وأما قطعه البتة فلم أقدر عليه وأعجزني معه أن أصادق من عاداني عداوة صحيحة أبداً. وأما سوء الظن فيعده (1) قوم عيباً على الاطلاق وليس كذلك إلا اذا أدى صاحبه إلى ما لا يحل في الديانة أو ما يقبح في المعاملة والا فهو حزم، والحزم فضيلة. وأما الذي يعيبني به جهال أعدائي من أني لا أبالي - فيما اعتقده حقاً - عن مخالفة من خالفته ولو أنهم جميع من على ظهر الأرض، وأني لا أبالي موافقة أهل بلادي في كثير من زيهم الذي قد تعودوه لغير معنى، فهذه الخصلة عندي من أكبر فضائلي التي لا مثيل لها ولعمري لو لم تكن في - وأعوذ بالله - لكانت من أعظم متمنياتي وطلباتي عند خالقي عز وجل. وأنا أوصي بذلك كل من يبلغه كلامي، فلن ينفعه اتباعه الناس في الباطل والفضول اذا اسخط ربه تعالى وغبن عقله أو آلم نفسه وجسده وتكلف مؤونة لا فائدة فيها. وقد عابني أيضاً بعض من غاب عن معرفة الحقائق أني لا آلم لنيل من نال مني، وأني اتعدى ذلك من نفسي إلى اخواني فلا امتعض لهم إذا نيل منهم بحضرتي. وأنا أقول إن من وصفني بذلك فقد أجمل الكلام ولم يفسره. والكلام إذا أجمل اندرج فيه تحسين القبيح وتقبيح الحسن. ألا

_ (1) ص: سوء الظن بعد.

ترى لو أن قائلاً قال: ان فلاناً يطأ أخته، لفحش ذلك ولاستقبحه كل سامع له حتى إذا فسر فقال: هي اخته في الإسلام، ظهر فحش هذا الاجمال وقبحه! وأما أنا فاني إن قلت لا آلم لنيل من نال مني لم أصدق، فالألم في ذلك مطبوع مجبول في البشر كلهم. لكني قد قصرت نفسي على أن لا أظهر لذلك غضباً ولا تخبطاً ولا تهيجاً، فان تيسر لي الامساك عن المقارضة جملة بأن أتأهب لذلك فهو الذي اعتمد عليه بحول الله تعالى وقوته، وان بادرني الأمر لم أقارض الا بكلام مؤلم غير فاحش أتحرى فيه الصدق ولا أخرجه مخرج الغضب ولا الجهل. وبالجملة فاني كاره لهذا، الا لضرورة داعية اليه مما أرجو به قمع المستشري في النيل مني أو قدع الناقل الي، إذ أكثر الناس محبون لإسماع المكروه من يسمعونه اياه على ألسنة غيرهم، ولا شيء أقدع لهم من هذا الوجه، فانهم يكفون به عن نقلهم المكاره على ألسنة الناس إلى الناس وهذا شيء لا يفيد الا إفساد الضمائر وادخال النمائم فقط. ثم بعد هذا فان النائل مني لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لها: أما أن يكون كاذباً، وإما أن يكون صادقاً. فان كان كاذباً فلقد عجل الله لي الانتصار منه على لسان نفسه بأن حصل في جملة أهل الكذب، وبأن نبه على فضلي بأن نسب إلي ما أنا منه برئ العرض، وقد يعلم أكثر السامعين له كذبه إما في وقته ذلك وإما بعد بحثهم عما قال. وان كان صادقاً فانه لا يخلو من أحد من ثلاثة أوجهك إما أن أكون شاركته في أمر استرحت اليه استراحة المرء إلى من يقدر فيه ثقة وأمانة، فهذا أسوأ الناس حالة، وكفى به سقوطاً وضعة. وإما أن يكون عابني بما يظن أنه عيب وليس عيباً، فقد كفاني جهله شأنه. وهو المعيب لا من عاب. وإما أن يكون عابني بعيب هو في على الحقيقة وعلم مني نقصاً أطلق به لسانه، فإن كان صادقاً فنفسي أحق بأن ألوم منه، وأنا حينئذ أجدر بالغضب على نفسي مني على من عابني بالحق. وأما أمر إخواني فإني لست أمسك عن الامتعاض لهم، لكني

أمتعض امتعاضاً رقيقاً لا أزيد فيه على أن أندم القائل منهم بحضرتي وأجعله يتذمم ويتعذر ويخجل ويتنصل، وذلك بأن أسلك به طريق ذم من نال من الناس، وان نظر المرء في أمر نفسه والتهمم بإصلاحها أولى به من تتبع عثرات الناس، وبأن أذكر فضل صديقي فأبكته على اقتصاره على ذكر العيب دون ذكر الفضيلة وأن أقول له: " انه لا يرضى فيك فهو أولى بالكرم منك، فلا ترض لنفسك بهذا "، أو نحو هذا من القول. وأما أن أهارش القائل فأحميه وأهيج طباعه وأستثير غضبه فينبعث منه في صديقي أضعاف ما أكره، فأنا الجاني حينئذ على صديقي والمعرض له بقبيح السب وتكراره فيه وإسماعه من لم يسمعه والإغراء به، وربما كنت أيضاً في ذلك جانياً على نفسي ما لا ينبغي لصديقي أن يرضاه لي من إسماعي الجفاء والمكروه، وأنا لا أريد من صديقي أن يذب عني بأكثر من الوجه الذي حددت، فان تعدى ذلك إلى أن يساب النائل مني حتى يولد بذلك أن يتضاعف النيل وان يتعدى أيضاً اليه بقبيح المواجهة، وربما إلى أبوي وأبويه على قدر سفه النائل ومنزلته من البذاءة وربما كانت منازعة بالأيدي، فأنا مستنقص لفعله في ذلك زار عليه متظلم منه غير شاكر له، لكني ألومه على ذلك أشد اللوم، وبالله تعالى التوفيق] . [وذمني أيضاً بعض من تعسف الأمور دون تحقيق بأني أضيع مالي، وهذه جملة بيانها] ، أني لا أضيع منه (1) الا ما كان في حفظه نقص ديني أو إخلاق عرضي أو إتعاب نفسي،. فإني أرى الذي أحفظ من هذه الثلاثة، وأن قل، أجل في العوض مما يضيع من مالي، ولو أنه كل ما ذرت عليه الشمس. 83 - أفضل نعم الله على العبد أن يطبعه على العدل وحبه وعلى الحق وإيثاره [فما استعنت على قمع هذه الطوالح الفاسدة وعلى كل خير

_ (1) جاءت هذه الفقرة في ص على النحو التالي: عيب بعضهم بإتلاف ماله فقال إني لا أضيع منه الخ.

في الدين والدنيا الا بما في قوتي من ذلك، ولا حول ولا قوة الا بالله تعالى. وأما من طبع على الجور واستسهاله على الظلم واستخفافه فلييئس من أن يصلح نفسه او يقوم طباعه أبداً، وليعلم أنه لا يفلح في دين ولا في خلق محمود. وأما الزهو والحسد والكذب والخيانة فلم أعرفها بطبعي قط، وكأنني لا حمد لي في تركها لمنافرة جبلتي إياها، والحمد لله رب العالمين] . 84 - من عيب حب الذكر أنه يحبط الأعمال اذا احب عاملها أن يذكر بها وكاد يكون شركاً، لانه يعمل لغير الله عز وجل، وهو يطمس الفضائل لأن صاحبه لا يكاد يفعل الخير حباً للخير لكن ليذكر به. 85 - أبلغ في ذمك من مدحك بما ليس فيك، لأنه نبه على نقصك، وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك لأنه نبه على فضلك، ولقد انتصر لك من نفسه بذلك وباستهدافه إلى الإنكار واللائمة. 86 - لو علم الناقص نقصه لكان كاملاً. 87 - لا يخلو مخلوق من عيب. فالسعيد من قلت عيوبه ودفنت (1) . 87 - أكثر ما يكون ما لم تظن، والحزم هو التأهب لما تظن. فسبحان مرتب (2) ذلك ليري الإنسان عجزه وافتقاره إلى خالقه.

_ (1) د: ودقت. (2) م: من رتب.

4 - فصل في الإخوان والصداقة والنصيحة

4 - فصل في الإخوان والصداقة والنصيحة 89 - استبقاك من عاتبك، وزهد فيك من استهان بشأنك (1) . 90 - العتاب للصديق كالسبك للسبيكة، فإما تصفو وإما تطير. 91 - من طوي من إخوانك سره الذي يعنيك دونك أخون لك ممن أفشى سرك، لأن من أفشى سرك فإنما خانك فقط، ومن طوى سره دونك منهم فقد خانك واستخونك. 92 - لا ترغب فيمن يزهد فيك فتحصل على الخيبة والخزي. 93 - لا تزهد فيمن يرغب فيك، فإنه باب من أبواب الظلم وترك مقارضة الاحسان، وهذا قبيح. 94 - من امتحن بان يخالط الناس فلا يكون (2) توهمه كله إلى من صحب ولا يبيت (3) منه إلا على أنه عدو مناصب، ولا يصبح كل غداة إلا وهو مترقب من غدر إخوانه وسوء معاملتهم مثل ما يترقب من العدو المكاشف. فإن سلم من ذلك، فلله الحمد، وإن كانت الأخرى ألفي متأهباً ولم يمت هماً. [وأنا أعلمك أن بعض من خالصني المودة وأصفاني إياها غاية

_ (1) د: بسيآتك. (2) م: فلا يلق. (3) ص: يبين.

الصفاء في حال الشدة والرخاء والسعة والضيق والغضب والرضى، تغير علي أقبح تغير بعد اثني عر عاماً متصلة في غاية الصفاء، ولسبب لطيف جداً ما قدرت قط أنه يؤثر مثله في أحد من الناس، وما صلح لي بعدها، ولقد أهمني ذلك سنين كثيرة هماً شديداً] . فلا تستعجل مع هذا سوء المعاملة فتلحق بذوي الشرارة من الناس وأهل الخب منهم. ولكن ها هنا طريق وعرة المسلك شاقة المتكلف، يحتاج سالكها إلى أن يكون أهدى من القطا وأحذر من العقعق (1) حتى يفارق الناس راحلاً إلى ربه تعالى، وهذه الطريق هي طريق الفوز في الدين والدنيا [يحرز صاحبها صفاء نيات ذوي النفوس السليمة والعقود الصحيحة، البراء من المكر والخديعة، ويحوي فضائل الأبرار وسجايا الفضلاء، ويحصل مع ذلك على سلامة الدهاة وتخلص الخبثاء ذوي النكراء والدهاء] ، وهي أن تكتم سر كل من وثق بك، وأن لا تفشي إلى من إخوانك ولا من غيرهم من سرك ما يمكنك طيه بوجه ما من الوجوه وإن كان أخص الناس بك، وان تفي لجميع من ائتمنك، ولا تأتمن أحداً على شيء من أمرك تشفق عليه إلا عن ضرورة لا بد منها، فارتد حينئذ واجتهد وعلى الله تعالى الكفاية. وابذل فضل مالك وجاهك لمن سألك أو لم يسألك ولكل من احتاج إليك وأمكنك نفعه لم يعتمدك بالرغبة. ولا تشعر نفسك انتظار مقارضة على ذلك من غير ربك عز وجل. ولا تبت إلا على أن أول من أحسنت إليه أول مضر بك وساع (2) عليك، فإن ذوي التراكيب الخبيثة يبغضون، لشدة الحسد، كل من أحسن إليهم إذا رأوه في أعلى من أحوالهم. وعامل كل أحد في الإنس أجمل معاملة وأضمر

_ (1) أهدى من القطا وأحذر من العقعق، انظر الدرة الفاخرة: 441 وفي اهتداء القطا يقول الشاعر: " تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ". (2) ص: وتسارع.

السلو عنه إن حلت بعض الآفات التي تأتي مع مرور الأيام والليالي تعش سالماً مستريحاً. 95 - لا تنصح على شرط القبول، ولا تشفع على شرط الاجابة، ولا تهب على شرط الإثابة، لكن على سبيل استعمال الفضل وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة وبذل المعروف. 96 - حد الصداقة الذي يدور على طرفي محدوده هو أن يكون المرء يسوءه ما ساء الآخر، ويسره ما سره. فما سفل عن هذا فليس صديقاً ومن حمل هذه الصفة فهو صديق. وقد يكون المرء صديقاً لمن ليس صديقه - وإنما الذي يدخل في باب الاضافة، فهو المصادقة فهذا يقتضي فعلاً من فاعلين - إذ قد يحب الانسان من يبغضه، وأكثر من ذلك في الآباء مع الأبناء، وفي الاخوة مع اخوتهم، وبين الأزواج، وفيمن صارت محبته عشقاً. وليس كل صديق ناصحاً، لكن كل ناصح صديق فيما نصح فيه. و [حد] (1) النصيحة هو أن يسوء المرء ما ضر الآخر ساء ذلك الآخر أم سره. وأن يسره ما نفعه سر الآخر أم ساءه. فهذا شرط في النصيحة زائد على شروط الصداقة. وأقصى غايات الصداقة التي لا مزيد عليها من شاركك بنفسه وماله لغير علة توجب ذلك، وآثرك على من سواك. ولولا أني شاهدت مظفراً ومباركاً (2)

_ (1) زيادة من م. (2) مظفر ومبارك: من موالي العامريين، استقلا ببلنسية بعد ما انفرط الأمر في الفتنة البربرية بالأندلس، وابن حزم يشير إلى صداقة فذة ربطت بينهما رغم ما قد تثيره الشركة في الحكم من تنافس، وتحدث ابن حيان عن ذلك بقوله: " ثم بلغ من سياسة هين العبدين الفدمين، مبارك ومظفر، في مدة امارتهما، إلى أن تقارضا من صحة الألفة فيها طول حياتهما بما فاتا في معناهما أشقاء الأخوة، وعشاق الأحبة، فنزلا يومئذ معاً في سلطانهما قصر الامارة مختلطين يجمعهما في أكثر أوقاتهما مائدة واحدة، ولا يتميز أحدهما عن الآخر في عظيم ما يستعملانه من كسوة وحلية وفراش ومركوب وآلة، ولا ينفردان إلا في الحرم خاصة " (الذخيرة 3/1: 15) .

صاحبي بلنسية، لقدرت أن ها الخلق معدوم في زماننا، ولكني ما رأيت قط رجلين استوفيا جميع أسباب الصداقة مع تأتي الأحوال الموجبة للفرقة غيرهما. 97 - ليس شيء من الفضائل أشبه بالرذائل من الاستكثار من الاخوان والأصدقاء. فإن ذلك فضيلة تامة مركبة، لأنهم لا يكتسبون إلا بالحلم والجود والصبر والوفاء والاستضلاع والمشاركة والعفة وحسن الدفاع وتعليم العلم، وبكل حالة محمودة. ولسنا نعني الشاكرية (1) والاتباع أيام الحرمة، [فأولئك لصوص الاخوان وخبث الأصدقاء، والذين يظن أنهم أولياء وليسوا كذلك، ودليل ذلك] انحرافهم عند انحراف الدنيا (2) ، ولا نعني المصادقين لبعض الاطماع، ولا المتنادمين على الخمر والمجتمعين على المعاصي والقبائح ونيل أعراض الناس والفضول وما لا فائدة فيه. فليس هؤلاء أصدقاء، لنيل بعضهم من بعض وانحرافهم (3) عند فقد تلك الرذائل التي جمعتهم، وإنما نعني إخوان الصفاء لغير معنى إلا لله عز وجل، [إما للتناصر على بعض الفضائل الجدية وإما لنفس المحبة المجردة فقط. ولكن] إذا حصلت عيوب الاستكثار منهم [وصعوبة الحال في إرضائهم والغرر في مشاركتهم] وما يلزمك من الحق لهم عند نكبة تعرض لهم [فإن غدرت بهم أو أسلمتهم لؤمت وذممت، وإن وفيت أضررت بنفسك وربما هلكت، وهذا الذي لا يرضي الفاضل بسواه إذا تنشب في الصداقة، وإذا تفكرت في الهم بما يعرض لهم وفيهم من] موت أو فراق، أو غدر من يغدر منهم كان السرور بهم لا يفي بالحزن الممض من أجلهم. وليس في الرذائل شيء أشبه بالفضائل من محبة المدح، لأنه

_ (1) الشاكري: الأجير؛ قيل أنه معرب " جاكر " ومعناه " السخري ". (2) ص: ولسنا نعني الشاكرية والاتباع أيام الدنيا لانحرافهم عند انحراف الدنيا. (3) د: فليس هؤلاء أصدقاء، ودليل ذلك أن بعضهم ينال من بعض وينحرف عنه.

في الوجه سخف ممن يرضى به [وقد (1) جاء في الاثر في المداحين ما جاء] ، إلا أنه قد ينتفع به في الاقصار عن الشر والتزيد من الخير وفي أن يرغب في مثل ذلك الخلق الممدوح من سمعه. ولقد صح عندي أن بعض السائسين للدنيا لقي رجلاً من أهل الأذى للناس، وقد قلده (2) بعض الأعمال بالجميل والرفق منتشراً، فكان ذلك سبباً إلى إقصار ذلك الفاسق عن كثير من شره. 98 - بعض أنواع النصيحة يشكل تمييزه من النميمة لأن من سمع إنساناً يذم آخر ظالماً له أو يكيده ظالماً له فكتم ذلك على وجهه كان ربما قد ولد على الذام (3) والكائد ما لم يبلغ استحقاقه بعد من الأذى فيكون ظالماً له، وليس من الحق أن يقتص من الظالم بأكثر من قدر ظلمه. والتخلص من هذا الباب صعب إلا على ذوي العقول. والرأي للعاقل في مثل هذا أن يحفظ المقول فيه من القائل فقط دون أن يبلغه ما قال لئلا يقع في الاسترسال إليه فيهلك. وأما في الكيد، فالواجب أن يحفظه من الوجه الذي يكاد منه بألطف ما يقدر في الكتمان على الكائد، وأبلغ ما يقدر في تحفيظ المكيد، ولا يزد على هذا شيئاً. وأما النميمة فهي التبليغ لما سمع مما لا ضرر فيه على المبلغ إليه، وبالله تعالى التوفيق. 99 - النصيحة مرتان، فالأولى فرض وديانة والثانية تنبيه وتذكير، وأما الثالثة فتوبيخ وتقريع وليس وراء ذلك إلا الركل واللطام (4) ، وربما

_ (1) يشير الى مثل قوله (ص) : " اذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب " (كشف الخفاء 1: 94) وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي عن المقداد بن الأسود، والطبراني وابن حبان عن ابن عمر، والحاكم في الكنى عن أنس. (2) د: قلد. (3) ص: على الدوام، واعتمدت قراءة د. (4) ص: واللكام.

أشد من لك من الغي والأذى، اللهم إلا في معاني الديانة. فواجب على المرء ترداد النصح، رضي المنصوح أو سخط، تأذى الناصح بذلك أو لم يتأذ. 100 - إذا نصحت فانصح سراً لا جهراً أو بتعريض لا بتصريح إلا لمن لا يفهم، فلا بد من التصريح له (1) . 101 - ولا تنصح على شرط القبول منك، فإن تعديت هذه الوجوه، فأنت ظالم لا ناصح، وطالب طاعة (2) لا مؤدي حق ديانة وأخوة، وليس هذا حكم العقل ولا حكم الصداقة، ولكن حكم الأمير مع رعيته والسيد مع عبيده. 102 - لا تكلف صديقك إلا مثل ما تبذل له من نفسك فإن طلبت أكثر فأنت ظالم. 103 - لا تكسب إلا على شرط الفقد، ولا تتول إلا على شرط العزلة (3) وإلا فأنت مضر بنفسك خبيث السيرة. 104 - مسامحة أهل الاستئثار والاستغنام والتغافل لهم ليس مروءة ولا فضيلة، بل هو مهانة وضعف وتضرية لهم على التمادي على ذلك الخلق المذموم وتغبيط لهم به وعون لهم على فعل ذلك السوء؛ وإنما تكون المسامحة مروءة لأهل الإنصاف المبادرين إلى المسامحة (4) والايثار، فهؤلاء فرض على أهل الفضل أن يعاملوهم بمثل ذلك، لا سيما إن كانت حاجتهم أمس وضرورتهم أشد. فإن قال قائل: فإذا كان كلامك هذا موجباً لاسقاط المسامحة والتغافل للإخوان، فقد استوى الصديق والعدو والأجنبي في المعاملة، وهذا إفساد ظاهر،

_ (1) م: إلا أن لا يفهم المنصوح تقريضاً. (2) م: وطالب طاعة وملك. (3) د: العزل. (4) ص: المبادرون لأهل المسامحة، والتصويب عن م.

فنقول، وبالله التوفيق: كلا ما نحض (1) إلا على المسامحة والايثار والتغافل - ليس لأهل التغنم - لكن للصديق حقاً، فإن أردت معرفة وجه العمل في هذا والوقوف على نهج الحق فإن القضية (2) التي توجب الأثرة من المرء (3) على نفسه صديقه ينبغي لكل واحد من الصديقين أن يتأمل ذلك النازل (4) ، فأيهما كان أمس حاجة فيه وأظهر ضرورة لديه، فحكم الصداقة والمروءة تقتضي للآخر وتوجب عليه أن يؤثر على نفسه في ذلك، فأن لم يفعل فهو متغنم (5) مستكثر، لا ينبغي أن يسامح البتة، إذ ليس صديقاً ولا أخاً. فأما إذا استوت حاجتهما واتفقت ضرورتهما، فحق الصداقة ههنا أن يسارع كل واحد منهما إلى الأثرة على نفسه، فإن فعلا ذلك فهما صديقان، وإن بدر أحدهما إلى ذلك ولم يبادر الآخر إليه، فإن كانت عادته هذه فليس صديقاً ولا ينبغي أن يعامل معاملة الصداقة، وإن كان قد يبادر هو أيضاً إلى مثل ذلك في قضية أخرى فهما صديقان. 105 - من أردت قضاء حاجته بعد أن سألك إياها أو أردت ابتداءه بقضائها، فلا تعمل له إلا ما يريد هو لا ما تريد أنت، وإلا فأمسك. فإن تعديت هذا كنت مسيئاً لا محسناً، ومستحقاً للوم منه ومن غيره لا للشكر، ومقتضياً للعداوة لا للصداقة. 106 - لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم نفسه ولا ينتفع بمعرفته، بهذا فعل الأراذل (6) ، ولا تكتمه ما يستضر بجهله فها فعل أهل الشر.

_ (1) د: فنقول وبالله تعالى التوفيق كلاما ما نحض (2) ص: القصة. (3) ص: الأمر. (4) د: الأمر. (5) ص: معتم، والتصويب عن م. (6) ص: الادراك.

107 - لا يسرك أن تمدح بما ليس فيك، بل ليعظم (1) غمك بلك لأنه نقصك ينبه الناس عليه ويسمعهم إياه وسخرية منك وهزء بك، ولا يرضى بهذا إلا أحمق ضعيف العقل. ولا تأس إن ذممت بما ليس فيك، بل افرح به، فإنه فضلك ينبه الناس عليه. ولكن افرح إذا كان فيك ما تستحق به المدح، وسواء مدحت به أو لم تمدح. واحزن إذا كان فيك ما تستحق به الذم، وسواء ذممت به أو لم تذم. 108 - من سمع قائلاً يقول في امرأة صديقه قول سوء فلا يخبره بذلك أصلاً، لا سيما إن كان القائل عيابة وقاعاً في الناس، سليط اللسان أو دافع معرة (2) عن نفسه يريد أن يكثر أمثاله في الناس، وهذا كثير موجود؛ وبالجملة فلا يحدث الانسان (3) إلا بالحق، وقول هذا القائل لا يدري أحق هو أم باطل، إلا أنه في الديانة عظيم، فإن سمع القول مستفيضاً من جماعة وعلم أن أصل ذلك القول شائع وليس راجعاً إلى قول إنسان واحد، أو اطلع على حقيقة، إلا انه لا يقدر أن يوقف صديقه على ما وقف هو عليه، فليخبره بذلك بينه وبينه في رفق، وليقل له: النساء كثير، أو حصن منزلك وثقف أهلك واجتنب أمر كذا وتحفظ من وجه كذا، فإن قبل المنصوح وتحرز، فحظ نفسه أصاب، وإن رآه لا يتحفظ ولا يبالي أمسك ولم يعاوده بكلمة، وتمادى على صداقته إياه، فليس في أن لا يصدقه في قوله ما يوجب قطيعته؛ فإن اطلع على [حقيقة] وقدر أن يوقف صديقه على مثل (4) ما وقف هو عليه من الحقيقة، ففرض عليه أن يخبره بذلك وأن يوقفه على الجلية، فإن غير ذلك، وإن رآه لا يغير (5) فليتجنب صحبته، فإنه رذل

_ (1) ص: لتعظيم. (2) م: مغرم. (3) ص: الناس، وأثبت قراءة د. (4) م: جل. (5) ص: يتغير.

لا خير فيه ولا بقية (1) . ودخول رجل مستتر في منزل المرء دليل سوء لا يحتاج إلى غيره، ودخول المرأة في منزل رجل على سبيل التستر مثل ذلك أيضاً، وطلب دليل أكثر من هذين سخف. وواجب أن يجتنب مثل هذه المرأة، وفراقها على كل حال، وممسكها لا يبعد عن الديانة. 109 - الناس في بعض أخلاقهم على سبع مراتب: فطائفة تمدح في الوجه وتذم في المغيب، وهذه صفة أهل النفاق والعيابين، وهذا خلق فاش في الناس غالب عليهم. وطائفة تذم في المشهد والمغيب، وهذه صفة أهل السلاطة والوقاحة من العيابين. وطائفة تمدح في الوجه والمغيب وهذه صفة أهل الملق والطمع. وطائفة تذم في المشهد وتمدح في المغيب، وهذه صفة أهل السخف والنواكة. وأما أهل الفضل فيمسكون عن المدح والذم في المشاهدة، ويثنون بالخير في المغيب أو يمسكون عن الذم. وأما العيابون البرآء من النفاق والقحة، فيمسكون في المشهد ويذمون في المغيب. وأما أهل السلامة فيمسكون عن المدح وعن الذم في المشهد والمغيب، ومن كل من أهل هذه الصفات قد شاهدنا وبلونا. 110 - إذا نصحت ففي الخلاء وبكلام لين، ولا تسند سب من تحدثه إلى غيرك فتكون نماماً. فإن خشنت كلامك في النصيحة فذلك إغراء وتنفير. وقد قال تعالى: (فقولا له قولاً ليناً) (طه: 44) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تنفر " (2) . وإن نصحت بشرط القبول منك فأنت ظالم ولعلك مخطئ في وجه نصحك فتكون مطالباً بقبول خطئك وبترك الصواب. 11 - لكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحك (3) أهل الجهل

_ (1) د: بغية. (2) ورد النهي عن التفسير في عدة مواطن من الحديث، انظر مسند أحمد 3: 209، 4: 399. (3) المحك: المنازعة في الكلام، والتمادي في اللجاجة والاغضاب.

منعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي واحتدام خاطري وحمي فكري وتهيج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف لي عظيمة المنفعة، ولولا استثارتهم ساكني، واقتداحهم كامني ما ابنعثت لتلك التواليف. 112 - لا تصاهر إلى صديق ولا تبايعه، فما رأينا هذين العملين إلا سبباً للقطيعة، وإن ظن أهل الجهل أن فيهما تأكيداً للصلة فليس كذلك، لان هذين العقدين داعيان كل واحد إلى طلب حظ نفسه، والمؤثرون على أنفسهم قليل جداً. فإذا اجتمع طلب كل امرئ حظ نفسه وقعت المنازعة، ومع وقوعها فساد المودة. وأسلم المصاهرة مغبة مصاهرة الأهلين بعضهم بعضاً، لان القرابة تقتضي الصبر وإن كرهوه لأنهم مضطرون إلى ما لا انفكاك لهم منه من الاجتماع في النسب الذي توجب الطبيعة لكل أحد الذب عنه والحماية له.

5 - فصل في أنواع المحبة

5 - فصل في أنواع المحبة وقد سئلت عن تحقيق القول فيها وفي أنواعها 113 - المحبة كلها جنس واحد، ورسمها أنها الرغبة في المحبوب وكراهة منافرته والرغبة في المقارضة منه بالمحبة. وانما قدر الناس أنها تختلف من أجل اختلاف الأغراض فيها، وانما اختلفت الأغراض من أجل اختلاف الأطماع وتزايدها وضعفها وانحسامها، فتكون المحبة لله عز وجل وفيه، وللاتفاق على بعض المطالب، وللأب والابن والقرابة والصديق والسلطان، ولذات الفراش، والمحسن، والمأمول، والمعشوق، فهذا كله جنس واحد اختلفت أنواعه كما وصفت لك على قدر الطمع فيما ينال [من المحبوب] ، فلذلك اختلفت وجوه المحبة. وقد رأينا من مات أسفاً على ولده كما يموت العاشق أسفاً على معشوقه. وبلغنا عمن شهق من خوف الله تعالى ومحبته فمات. ونجد المرء يغار على سلطانه وعلى صديقه كما يغار على ذات فراشه وكما يغار العاشق على معشوقه. فأدنى أطماع المحبة، ممن تحب، الحظوة منه والرفعة لديه والزلفة عنده اذا لم تظمع في أكثر، وهذه غاية أطماع المحبين لله تعالى ثم يزيد الطمع في المجالسة ثم في المحادثة والمؤازرة. وهذه أطماع المرء في سلطانه وصديقه وذوي رحمه. وأقصى أطماع المحب ممن يحب المخالطة بالأعضاء اذا رجا ذلك. ولذلك نجد المحب المفرط المحبة في ذات فراشه

يرغب مجامعتها على هيئات شتى في أماكن مختلفة ليستكثر من الاتصال. ويدخل في هذا الباب الملامسة بالجسد والتقبيل، وقد يقع بعض هذا الطمع في الأب في ولده فيتعدى إلى التقبيل والتعنيق. وكل ما ذكرنا، إنما هو على قدر الطمع. فإذا انحسم الطمع عن شيء ما لبعض الأسباب الموجبة له مالت النفس إلى ما تطمع فيه. ونجد المقر بالرؤية ونجد المقر بالرؤية لله عز وجل شديد الحنين اليها عظيم التروح (1) نحوها، لا يقنع بدرجة دونها لأنه يطمع فيها، ونجد المنكر لها لا تحن نفسه إلى ذلك ولا يتمناه أصلاً لأنه لا يطمع فيه، ونجده يقتصر على الرضى والحلول في دار الكرامة فقط، لأنه لا تطمع نفسه في أكثر. ونجد المستحل لنكاح القرائب لا يقنع منهن بما يقنع المحرم لذلك، ولا تقف محبته حيث تقف محبة من لا يطمع في ذلك. فنجد من يستحل نكاح ابنته وابنة أخيه كالمجوس واليهود لا يقف من محبتهما حيث يقف المسلم، بل نجدهما يتعشقان الابنة وابنة الأخ كتعشق المسلم من يطمع في مخالطته بالجماع. ولا نجد مسلماً يبلغ ذلك. فيهما ولو أنهما أجمل من الشمس، وكان هو أعهر الناس وأغزلهم. فان وجد ذلك في الندرة فلا تجده الا من فاسد الدين، قد زال عنه ذلك الرادع فانفسح له الأمل وانفتح له باب الطمع. ولا يؤمن من المسلم أن تفرط محبته لابنة عمه لحاً (2) حتى تصير عشقاً وحتى تتجاوز محبته لها محبته لابنته وابنة أخيه وان كانت اجمل منها، لأنه يطمع من الوصول إلى ابنة عمه حيث لا يطمع من الوصول إلى ابنته وابنة أخيه. ونجد النصراني قد أمن ذلك من نفسه في ابنة عمه أيضاً لأنه لا يطمع منها في ذلك ولا يأمن ذلك من نفسه في أخته من الرضاعة لأنه طامع بها في شرعته (3) .

_ (1) التروح: الارتياح، وقد تقرأ " النزوع ". (2) لحاً: لاصق النسب. (3) م: شريعته.

فلاح بهذا عياناً ما ذكرنا من أن المحبة كلها جنس واحد لكنها تختلف أنواعها على قدر اختلاف الأغراض فيها. وإلا فطبائع البشر كلهم واحدة، الا ان للعادة والاعتقاد الدياني تأثيراً ظاهراً. ولسنا نقول إن الطمع له تأثير في هذا الفن وحده، لكنا نقول ان الطمع سبب إلى كل هم، حتى في الأموال والأحوال، فاننا نجد الانسان يموت جاره وخاله وصديقه وابن عمته وعمه لأم وابن أخيه لأم وجده أبو أمه وابن بنته، فاذ لا مطمع له في ماله، ارتفع عنه الهم بفوته عن يده، وان جل خطره وعظم مقداره فلا سبيل إلى أن يمر الاهتمام بشيء منه بباله؛ حتى إذا مات له عصبة على بعد أو مولى على بعد حدث له الطمع في ماله وحدث له من الهم والأسف والغيظ والفكرة بفوت اليسير منه عن يده أمر عظيم. وهكذا في الأحوال: فنجد الانسان من أهل الطبقة المتأخرة لا يهتم لإنفاذ غيره أمور بلده دون أمره ولا لتقريب غيره وإبعاده، حتى اذا حدث له طمع في هذه المرتبة حدث له من الهم والفكر والغيظ أمر ربما قاده إلى تلف نفسه وتلف دنياه وأخراه. فالطمع اذاً أصل كل هم (1) ، وهو خلق سوء ذميم. وضده نزاهة النفس، وهذه صفة فاضلة متركبة من النجدة والجود والعدل والفهم لأنه فهم (2) قلة الفائدة في استعمال ضدها فاستعملها، وكانت فيه نجدة انتجت له عزة نفسه فتنزه، وكانت فيه طبيعة سخاوة نفس فلم يهتم لما فاته، وكانت فيه طبيعة عدل حببت اليه القنوع وقلة الطمع. فاذا نزاهة النفس متركبة من هذه الصفات، فالطمع الذي هو ضدها متركب من الصفات المضادة لهذه الأربع الصفات، وهي الجبن والشح والجور والجهل.

_ (1) ص: أصل كل ذل وهم لكل هم. (2) م: رأى.

والرغبة طمع مستوفى متزايد متعمل (1) ، ولولا الطمع ما ذل أحد لأحد. واخبرني أبو بكر بن [أبي] (2) الفياض قال: كتب عثمان بن محامس (3) على باب داره بأستجة (4) " يا عثمان لا تطمع ".

_ (1) د: مستعمل. (2) زيادة من الجذوة: 288. (3) في ص: محاسن، والتصحيح عن الجذوة (رقم: 705) وكان عثمان زاهداً عالماً معروفاً بالعزوف عن الدنيا، وقد أورد الحميدي عبارة " يا عثمان لا تطمع " راوياً عن ابن حزم. (4) أستجة (Ecija) اسم لكورة باعمال رية متسعة الأراضي على نهر سنجل، وكانت أعمالها متصلة بأعمال قرطبة ومدينة أستجة اليوم قسم من مقاطعة اشبيلية (انظر الروض المعطار: 53 والترجمة: 20) .

فصول من هذا الباب

فصول من هذا الباب 114 - من امتحن بقرب من يكره كمن امتحن ببعد من يحب ولا فرق. 115 - إذا دعا المحب في السلو فإجابته مضمونة وهي دعوة مجابة. 116 - اقنع بمن عندك يقنع بك من عندك. 117 - السعيد في المحبة هو من ابتلي بمن يقدر أن يلقي عليه تعلة (1) ولا تلحقه في مواصلته تبعة من الله تعالى ولا ملامة من الناس. صلاح ذلك ان يتوافقا في المحبة، وتحديده (2) أن يكونا خاليين من الملل، فانه خلق سوء منغص (3) ، وتمامه نوم الأيام عنهما مدة انتفاع بعضهما ببعض، وأنى بذلك إلا في الجنة. وأما ضمانه بيقين فليس الا فيها، فهي دار القرار، والا فلو حصل ذلك كله في الدنيا لم تؤمن الفجائع والقطع والهرم (4) دون استيفاء اللذة. 118 - اذا ارتفعت الغيرة فأيقن بارتفاع المحبة. 119 - الغيرة خلق فاضل متركب من النجدة والعدل لأن من

_ (1) د: قفله؛ ولا أرى لها معنى، ولعل الصواب " ثقله " وفي ص: تغلة. (2) م: وتحريره. (3) م: مبغض. (4) د: ولقطع العمر.

عدل كره ان يتعدى إلى حرمة غيره وأن يتعدى غيره على حرمته. ومن كانت النجدة له طبعاً حدثت فيه عزة، ومن العزة تحدث الأنفة من الاهتضام. 120 - اخبرني بعض من صحبناه في الدهر عن نفسه أنه ما عرف الغيرة قط حتى ابتلي بالمحبة فغار. وكان هذا المخبز فاسد الطبع، خبيث التركيب، إلا انه [كان] (1) من أهل الفهم والجود. 121 - درج المحبة خمسة: أولها الاستحسان وهو أن يتمثل الناظر صورة المنظور اليه حسنة أو يستحسن اخلاقه وهذا يدخل في باب التصادق، ثم الاعجاب، وهو رغبة الناظر في المنظور اليه وفي قربه، ثم الألفة وهي الوحشة اليه متى غاب، ثم الكلف، وهو غلبة شغل البال به، وهذا النوع يسمى في باب الغزل بالعشق، ثم الشغف وهو امتناع النوم والأكل والشرب إلا اليسير من ذلك، وربما أدى ذلك إلى المرض أو إلى التوسوس أو إلى الموت. وليس وراء هذا منزلة في تناهي المحبة أصلاً. 122 - فصل: كنا نظن أن العشق في ذوات الحركة والحدة من النساء أكثر فوجدنا الأمر بخلاف ذلك، وهو في الساكنة الحركات أكثر، ما لم يكن ذلك السكون بلهاً.

_ (1) زيادة من م.

6 - فصل في أنواع صباحة

6 - فصل في أنواع صباحة (1) الصور وقد سئلت عن تحقيق الكلام فيها 123 - الحلاوة دقة المحاسن ولطف الحركات وخفة الاشارات وقبول النفس لأعراض الصورة وان لم تكن هنالك صفات ظاهرة. 124 - القوام جمال كل صفة على حدتها، ورب جميل الصفات على انفراد كل صفة منها، بارد الطلعة غير مليح ولا حسن ولا رائع ولا حلو. 125 - الروعة بهاء الأعضاء الظاهرة [مع جمال فيها] (2) . وهي أيضاً الفراهة والعتق. 126 - الحسن هو شيء ليس له في اللغة اسم يعبر به غيره (3) ، ولكنه محسوس في النفوس باتفاق [كل] من رآه، وهو برد مكسو على الوجه واشراق يستميل القلوب نحوه، فتجتمع الآراء على استحسانه وان لم يكن هنالك صفات جميلة، فكل من رآه راقه واستحسنه وقبله،

_ (1) ص: صحابة. س (2) زيادة من م. س (3) م: عنه.

حتى إذا تأملت الصفات افراداً لم تر طائلاً، وكأنه شيء في نفس المرئي تجده نفس الرائي، وهذه أجل مراتب الصباحة. ثم تختلف الأهواء بعدها، فمن مفضل للروعة، ومن مفضل للحلاوة. وما وجدنا أحداً قط يفضل القوام المنفرد. 127 - الملاحة اجتماع شيء بشيء مما ذكرنا.

7 - فصل فيما يتعامل به الناس في الاخلاق

7 - فصل فيما يتعامل به الناس في الاخلاق 128 - التلون المذموم هو التنقل من زي متكلف، لا معنى له، إلى زي آخر مثله في التكلف وفي أنه لا معنى له، ومن حال لا معنى لها [إلى حال لا معنى لها] (1) بلا سبب يوجب ذلك. فأما من استعمل من الزي ما أمكنه مما به إليه حاجة وترك التزيد مما لا يحتاج إليه، فهذا عين من عيون العقل والحكمة كبير. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القدوة في كل خير والذي أثنى الله تعالى على خلقه والذي جمع الله تعالى فيه أشتات الفضائل بتمامها وأبعده عن كل نقص، يعود المريض مع أصحابه راجلاً في أقصى المدينة بلا خف ولا نعل ولا قلنسوة ولا عمامة، ويلبس الشعر إذا حضره، ويلبس الوشي من الحبرات إذا حضره لا يتكلف إلى ما لا يحتاج إليه، ولا يترك ما يحتاج إليه، ويستغني بما وجد عما لا يجد، ومرة يمشي حافياً راجلاً، ومرة يركب الناقة، ومرة [يركب] (2) حماراً ويردف عليه بعض أصحابه، ومرة يأكل التمر دون خبز والخبز يابساً، ومرة يأكل العناق المشوية والبطيخ بالرطب والحلوى، يأخذ القوت، ويبذل الفضل، ويترك ما لا يحتاج إليه، ولا يتكلف فوق مقدار الحاجة إليه، ولا يغضب لنفسه، ولا يدع الغضب لربه عز وجل.

_ (1) زيادة من م. (2) زيادة من م.

129 - الثبات الذي هو صحة العقد، والثبات الذي هو اللجاج مشتبهان اشتباهاً لا يفرق بينهما إلا عارف بكيفية الأخلاق. والفرق بينهما أن اللجاج هو ما كان على الباطل أو ما فعله الفاعل نصراً لما نشب فيه، وقد لاح له فساده او لم يلح له صوابه ولا فساده. وهذا مذموم، وضده الانصاف. وأما الثبات الذي هو صحة العقد فإنما يكون على الحق أو على ما اعتقده المرء حقاً ما لم يلح له باطله. وهذا محمود، وضده الاضطراب، وإنما يلام بعض هذين لأنه ضيع تدبير ما ثبت عليه وترك البحث عما التزم أحق هو أم باطل. 130 - حد العقل استعمال الطاعات والفضائل، وهذا الحد ينطوي فيه اجتناب المعاصي والرذائل. وقد نص الله تعالى في غير موضع من كتابه على أن من عصاه لا يعقل. قال تعالى حاكياً عن قوم: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} (الملك: 10) ثم قال مصدقاً لهم: {فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير} (الملك: 11) . 131 - وحد الحمق استعمال المعاصي والرذائل. وأما التعدي وقذف الحجارة والتخليط في القول، فإنما هو جنون ومرار هائج. وأما الحمق فهو ضد العقل وهو ما بينا آنفاً، ولا واسطة بين العقل والحمق، إلا السخف. 132 - وحد السخف هو العمل والقول بما لا يحتاج إليه في دين ولا دنيا ولا حميد خلق، مما ليس معصية ولا طاعة ولا عوناً عليهما ولا فضيلة ولا رذيلة مؤذية، ولكنه من هذر القول وفضول العمل. فعلى قدر الاستكثار من هذين الأمرين والتقلل منهما يستحق المرء اسم السخف. وقد يسخف المرء في قصة ويعقل في أخرى ويحمق في ثالثة. 133 - وضد الجنون تمييز الأشياء ووجود القوة على التصرف

في المعارف والصناعات، وهذا الذي يسميه الأوائل النطق. ولا واسطة بينهما. وأما إحكام أمر الدنيا والتودد إلى الناس بما وافقهم وصلحت عليه حال المتودد من باطل أو غيره أو عيب أو ما عداه، والتحيل في إنماء المال وبعد الصوت وتمشية (1) الجاه بكل ما أمكن من معصية ورذيلة، فليس عقلاً. ولقد كان الذين صدقهم الله تعالى في أنهم لا يعقلون، فأخبرنا تعالى بأنهم لا يعقلون، سائسين لدنياهم مثمرين لأموالهم مدارين لملوكهم حافظين لرياستهم، لكن هذا الخلق يسمى الدهاء، وضده الغفلة (2) والسلامة. وأما إذا كان السعي فيما ذكرنا فيه تصاون وأنفة فهو يسمى الحزم. وضده المنافي له التضييع. وأما الوقار ووضع الكلام موضعه والتوسط في تدبير المعيشة ومسايرة الناس بالمسالمة فهذه الأخلاق تسمى الرزانة، وهي ضد السخف. 134 - الوفاء مركب من العدل والجود والنجدة، لأن الوفي (3) رأى من الجور ألا يقارض (4) من وثق به أو من أحسن إليه فعدل في ذلك، ورأى أن يسمح بعاجل يقتضيه له عدم الوفاء من الحظ فجاد في ذلك، ورأى أن يتجلد لما يتوقع من عاقبة الوفاء فشجع في ذلك. 135 - أصول الفضائل [كلها] (5) أربعة، عنها تتركب كل فضيلة وهي العدل والفهم والنجدة والجود. وأصول الرذائل كلها أربعة، عنها تتركب كل رذيلة، وهي أضداد التي ذكرنا، وهي الجور والجهل والجبن والشح. 136 - الأمانة والعفة نوعان من أنواع العدل والجود.

_ (1) د: وتسبيب. (2) ص: العقل. (3) ص: الوفا. (4) ص: من الجود ألا يعارض، وأثبت قراءة د. (5) زيادة من م.

137 - قال أبو محمد علي بن أحمد: ومما قلته في الأخلاق (1) : [مجزوء الرمل] إنما العقل أساس ... فوقه الأخلاق سور فتحل العقل بالعل ... م وإلا فهو بور جاهل الأشياء أعمى ... لا يرى حيث (2) يدور وتمام العلم بالعد ... ل وإلا فهو زور وتمام العدل بالجو ... د وإلا فيجور وملاك الجود بالنج ... دة والجبن غرور عف إن كنت غيوراً ... ما زنى قط غيور وكمال الكل بالتق ... وى وقول الحق نور ذي أصول الفضل عنها ... حدثت بعد النزور ومما قلته أيضاً: [متقارب] زمام [أصول] (3) جميع الفضائ ... ل عدل وفهم وجود وباس فعن هذه ركبت غيرها ... فمن حازها فهو في الناس راس كذا الراس فيه الأمور التي ... بإحساسها يكشف الالتباس 138 - النزاهة في النفس فضيلة، تركبت من النجدة والجود، وكذلك الصبر. 139 - الحلم نوع مفرد من أنواع النجدة. 140 - القناعة فضيلة مركبة من الجود والعدل. 141 - الحرص متولد عن الطمع، والطمع متولد عن الحسد. والحسد متولد عن الرغبة. والرغبة متولدة عن الجور والشح والجهل.

_ (1) وقعت هذه الفقرة عند المحمصاني بعد رقم: 207. (2) م: كيف. (3) زيادة من د.

ويتولد من الحرص رذائل عظيمة منها الذل والسرقة والغضب والزنا والقتل والعشق والهم بالفقر. والمسألة لما بأيدي الناس [تتولد فيما بين الحرص والطمع] (1) ، وإنما فرقنا بين الحرص والطمع لأن الحرص هو إظهار ما استكن في النفس من الطمع. 142 - المداراة فضيلة متركبة من الحلم والصبر. 143 - الصدق مركب من العدل والنجدة. 144 -[من جاء إليك بباطل رجع من عنك بحق، وذلك أن من نقل إليك كذباً عن إنسان حرك طبعك، فأجبته فرجع عنك بحق. فتحفظ من هذا ولا تجب إلا عن كلام صح عندك عن قائله] . 145 - لا شيء أقبح من الكذب وما ظنك بعيب يكون الكفر نوعاً من أنواعه. فكل كفر كذب. فالكذب جنس [و] الكفر (2) نوع تحته. 146 - الكذب متولد من الجور والجبن والجهل، لان الجبن يولد مهانة النفس، والكذاب مهين النفس بعيد عن عزتها المحمودة. 147 - رأيت الناس في كلامهم الذي هو فصل بينهم وبين الحمير والكلاب والحشرات ينقسمون أقساماً ثلاثة: أحدها من لا يبالي فيما أنفق كلامه، فيتكلم بكل ما سبق إلى لسانه غير محقق نصر حق ولا إنكار باطل، وهذا هو الأغلب في الناس، والثاني أن يتكلم ناصراً لما وقع بنفسه انه حق ودافعاً لما توهم أنه باطل، غير محقق لطلب الحقيقة، لكن لجاجاً فيما التزم، وهذا كثير وهو دون الأول. والثالث واضع الكلام في موضعه، وهذا أعز من الكبريت الأحمر. 148 - لقد طال هم من غاظه الحق.

_ (1) زيادة من د. (2) ص: فالكذب جنس الكفر الكفر..

149 - اثنان عظمت راحتهما: أحدهما في غاية الحمد (1) والآخر في غاية الذم، وهما مطرح الدنيا ومطرح الحياء. 150 - لو لم يكن من التزهد في الدنيا إلا أن كل إنسان في العالم، فإنه كل ليلة إذا نام نسي كل ما يشفق (2) عليه في يقظته، وكل ما يشفق منه، وكل ما يشره (3) إليه، فتجده في تلك الحال (4) لا يذكر ولداً ولا أهلاً ولا جاهاً ولا خمولاً ولا ولاية ولا عزلة ولا فقراً ولا غنى ولا مصيبة (5) ، وكفى بهذا واعظاً لمن عقل. 151 - من عجيب تدبير الله عز وجل للعالم، أن كل شيء اشتدت الحاجة إليه، كان (6) ذلك أهون له. وتأمل ذلك في الماء فما فوقه. وكل شيء اشتد الغنى عنه كان ذلك أعز له. وتأمل ذلك في الياقوت الأحمر فما دونه. 152 - الناس فيما يعانونه (7) كالماشي في الفلاة، كلما قطع أرضاً بدت له أرضون. وكلما قصد المرء سبباً حدثت له أسباب. 153 - صدق من قال ان العاقل في الدنيا متعوب، وصدق من قال انه فيها مستريح. فأما تعبه فبما يرى من انتشار الباطل وغلبة دولته وبما يحال بينه وبين الحق من إظهار الحق. وأما راحته فمن كل ما يهتم به سائر الناس من فضول الدنيا. 154 - إياك وموافقة الجليس [السيء] (8) ومساعدة أهل زمانك

_ (1) د: المدح. (2) ص: يشعر، وأثبت قراءة د. (3) ص: يسره. (4) ص: الخير. (5) جواب " لو " في أول الفقرة محذوف للاكتفاء. (6) ص: كانت. (7) م: يعاينون. (8) زيادة من م.

فيما يضرك في أخراك وفي دنياك، وإن قل، فإنك لا تستفيد بذلك إلا الندامة حيث لا ينفعك الندم. ولن (1) يحمدك من ساعدته بل يشمت بك، وأقل ذلك، وهو المضمون، أنه لا يبالي بسوء (2) عاقبتك وفساد مغبتك. وإياك ومخالفة الجليس ومعارضة أهل زمانك فيما لا يضرك في دنياك ولا في أخراك، وإن قل، فإنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة والعداوة، وربما أدى ذلك إلى المطالبة والضرر العظيم دون منفعة أصلاً. 155 - إن لم يكن بد من إغضاب الناس أو إغضاب الله عز وجل، ولم يكن لك مندوحة عن منافرة الحق ومنافرة الخلق، فأغضب الناس ونافرهم، ولا تغضب ربك ولا تنافر الحق. 156 - الاتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم في وعظه أهل الجهل والمعاصي والرذائل واجب، فمن وعظ بالجفاء والاكفهرار فقد أخطأ وتعدى طريقته وصار في أكثر الأمور مغرياً للموعوظ بالتمادي على أمره لجاجاً وحرداً ومغايظة للواعظ الجافي، فيكون في وعظه مسيئاً لا محسناً. ومن وعظ ببشر وتبسم ولين وكأنه مشير برأي ومخبر عن غير الموعوظ بما يستقبح من الموعوظ فذلك أبلغ وأنجع في الموعظة. فغن لم يتقبل فلينتقل إلى الوعظ بالتحشيم وفي الخلاء. فإن لم يقبل ففي حضرة من يستحيي منه الموعوظ. فهذا أدب الله تعالى في أمره بالقول اللين. وكان صلى الله عليه وسلم لا يواجه بالموعظة، لكن كان يقول: " ما بال أقوام يفعلون كذا " (3) . وقد أثنى عليه السلام على الرفق، وأمر بالتيسير، ونهى عن التنفير، وكان يتحول بالموعظة خوف الملل. وقال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران: 159) وأما الغلظة والشدة فإنما تجب في حد من حدود الله، فلا لين في ذلك للقادر على إقامة الحد

_ (1) ص: ولم. (2) م: سوء. (3) انظر نموذجاً من ذلك في البخاري (ايمان: 3) .

خاصة. ومما ينجع في الوعظ أيضاً الثناء بحضرة المسيء على من فعل خلاف فعله، س فها داعية إلى عمل الخير. وما أعلم لحب المدح فضلاً إلا ها وحده، وو أن يقتدي به من يسمع الثناء. ولهذا يجب أن تؤرخ الفضائل والرذائل لينفر سامعها عن القبيح المأثور عن غيره، ويرغب في الحسن المنقول عمن تقدمه، ويتعظ بما سلف. 157 - وتأملت كل ما دون السماء وطالت فيه فكرتي فوجدت كل شيء فيه، من حي وغير حي، من طبعه عن قوي أن يخلع [على] (1) غيره من الأنواع هيأته ويلبسه صفاته. فترى الفاضل يود لو كان [كل] الناس فضلاء، وترى الناقص يود لو كان كل الناس نقصاء، وترى كل من ذكر شيئاً يحض عليه يقول: أنا أفعل أمر كذا وكذا، وكل [ذي] مذهب يود لو كان الناس موافقين له. وترى ذلك في العناصر، إذا قوي بعضها على بعض أحاله إلى نوعيته، وترى ذلك في تركيب الشجر وفي تغذي النبات والشجر بالماء ورطوبة الأرض وإحالتهما ذلك إلى نوعيتها. فسبحان مخترع ذلك ومدبره، لا إله إلا هو. 158 - ومن عجيب قدرة الله تعالى كثيرة الخلق، ثم لا نرى أحداً يشبه آخر شبهاً لا يكون بينهما فيه فرق. وقد سالت من طال عمره وبلغ ثمانين عاماً، هل رأى الصور فيما خلا مشبهة لهذه شبهاً واحداً، فقال لي: لا بل لكل صورة فرقها. وهكذا كل ما في العالم، يعرف ذلك من تدبر الآلات وجميع الأجسام المركبات، وطال تكرر بصره عليها، فإنه حينئذ يميز ما بينها ويعرف بعضها من بعض بفروق فيها تعرفها النفس، ولا يقدر أحد يعبر عنها بلسانه. فسبحان العزيز الحكيم الذي لا تتناهى مقدوراته.

_ (1) زيادة من م، وجاء في د: أن يخلع عن غيره من الأنواع كيفياته.

159 -[من عجائب الدنيا قوم غلبت عليهم آمال فاسدة لا يحصلون منها إلا على إتعاب النفس عاجلاً ثم الهم والإثم آجلاً، كمن يتمنى غلاء الأقوات التي في غلائها هلاك الناس، وكمن يتمنى بعض الأمور التي فيها الضرر لغيره، وإن كانت له فيها منفعة، فإن تأميله ما يؤمل من ذلك لا يعجل له ذلك قبل وقته، ولا يأتيه من ذلك بما ليس في علم الله تعالى تكونه، فلو تمنى الخير والرخاء لتعجل الأجر والراحة والفضيلة ولم يتعب نفسه طرفة عين فما فوقها، فاعجبوا لفساد هذه الأخلاق بلا منفعة] (1) .

_ (1) راجع الفقرة: 14 في ما تقدم.

8 - فصل في مداواة ذوي الأخلاق الفاسدة

8 - فصل في مداواة ذوي الأخلاق الفاسدة 160 - من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه. فان اعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنية، فان خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنه لا عيب فيه، فليعلم أنه مصيبة للأبد (1) وأنه اتم الناس نقصاً وأعظمهم عيوباً وأضعفهم تمييزاً. وأول ذلك أنه ضعيف العقل جاهل ولا عيب أشد من هذين، لأن العاقل هو من ميز عيوب نفسه فغالبها وسعى في قمعها. والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه إما لقلة علمه وتمييزه وضعف فكرته، وإما لأنه يقدر ان عيوبه خصال، وهذا أشد عيب في الأرض. وفي الناس كثير يفجرون بالزنا واللياطة والسرقة والظلم فيعجب بتأتي هذه النجوس له وبقوته على هذه المخازي. واعلم يقيناً أنه لا يسلم إنسي من نقص، حاشا الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين. فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط وصار من السخف والضعة والرذالة والخسة (2) وضعف التمييز والعقل وقلة الفهم بحيث لا يتخلف عنه متخلف من الأرذال، وبحيث ليس تحته منزلة من الدناءة، فليتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها وعن عيوب غيره التي لا تضره لا في الدنيا ولا في الآخرة. وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة الا الاتعاظ بما يسمع المرء منها

_ (1) كذا في ص: وجاء في د: فليعلم أن مصيبته الى الأبد. (2) تقرأ في ص: والخبثة.

فيجتنبها ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى وقوته. وأما النطق بعيوب الناس فعيب كبير لا يسوغ أصلاً، والواجب اجتنابه الا في نصيحة من يتوقع عليه الأذى بمداخلة المعيب، أو على سبيل تبكيت المعجب فقط في وجهه لا خلف ظهره. 161 - ثم تقول للمعجب: ارجع إلى نفسك، فإذا ميزت عيوبها فقد داويت عجبك، ولا تميل (1) بين نفسك وبين من هو أكثر منها عيوباً فتستسهل الرذائل وتكون مقلداً لأهل الشر، وقد ذم تقليد أهل الخير فكيف تقليد أهل الشر لكن ميل بين نفسك وبين من هو أفضل منك فحينئذ يتلف عجبك وتفيق من هذا الداء القبيح الذي يولد عليك الاستخفاف بالناس، وفيهم بلا شك من هو خير منك، فإذا استخفت بهم لغير حق، استخفوا بك بحق، لان الله تعالى يقول: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40) فتولد على نفسك ان تكون أهلاً للاستخفاف بك على الحقيقة، مع مقت الله عز وجل وطمس ما فيك من فضيلة. (أ) فان أعجبت بعقلك، ففكر في كل فكرة سوء تمر بخاطرك وفي أضاليل الأماني الطائفة (2) بك، فانك تعلم نقص عقلك حينئذ. (ب) وان أعجبت بآرائك، فتفكر في سقطاتك (3) واحفظها ولا تنسها، وفي كل رأي قدرته صواباً فخرج بخلاف تقديرك، وأصاب غيرك وأخطأت انت، فانك ان فعلت ذلك فأقل أحوالك أن يوازن سقوط رأيك صوابه فتخرج لا لك ولا عليك، والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك. وهكذا كل أحد من الناس بعد النبيين صلوات الله عليهم.

_ (1) ميل بين الأمرين: وازن بينهما ليرى أيهما أفضل وفي ص: تمثل. (2) ص: المطالعة. (3) ص: سقطاتك.

(ج) وان أعجبت بخيرك (1) فتفكر في معاصيك وتقصيرك وفي معايبك ووجوهها (2) ، فوالله لتجدن من ذلك ما يغلب على خيرك ويعفي على حسناتك، فليطل (3) همك حينئذ من ذلك، وأبدل من العجب تنقيصاً لنفسك. (د) وان أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه وأنه موهبة من الله مجردة وهبك اياها ربك تعالى فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت. ولقد أخبرت عن عبد الملك بن طريف (4) وهو من أهل العلم والذكاء واعتدال الأحوال وصحة البحث أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم، لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج إلى استعادته، وأنه ركب البحر فمر به فيه هول شديد أنساه أكثر ما كان يحفظ وأخل بقوة حفظه اخلالاً شديداً ولم يعاوده ذلك الذكاء بعد. وأنا أصابتني علة فأقمت منها، وقد ذهب ما كنت احفظ الا ما لا قدر له، فما عاودته الا بعد أعوام. واعلم أن كثيراً من أهل الحرص على العلم يجدون في القراءة والإكباب على الدرس والطلب ثم لا يرزقون منه حظاً، فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالاكباب وحده لكان غيره فوقه، فصح انه موهبة من الله تعالى، فأي مكان للعجب ها هنا ما هذا الا موضع تواضع وشكر لله تعالى واستزادة من نعمه واستعاذة من سلبها. ثم تفكر أيضاً في أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلم الذي

_ (1) ص: بعلمك بخيرك. (2) ص: معاشك ووجوهه. (3) ص: فيبطل؛ وما هنا قراءة د. (4) الأرجح أنه أبو مروان عبد الملك بن طريف من أهل قرطبة، وكان لغوياً نحوياً أخذ عن ابن القوطية وألف كتاباً حسناً في الأفعال وتوفي في نحو الأربعمائة (الصلة: 340 وبغية الوعاة 2: 111) .

تختص (1) به والذي أعجبت بنفاذك فيه، أكثر مما تعلم من ذلك، فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك واستقصاراً لها، فهو أولى. وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيراً، فلتهن نفسك عندك حينئذ. وتفكر في إخلالك بعلمك، فانك لا تعمل بما علمت منه فعلمك عليك حجة حينئذ، لقد كان أسلم لك لو لم تكن عالماً. واعلم ان الجاهل حينئذ أعقل منك وأحسن حالاً وأعذر، فليسقط عجبك بالكلية. ثم لعل علمك الذي تعجب بنفاذك فيه من العلوم المتأخرة التي لا كبير خصلة فيها كالشعر وما جرى مجراه، فانظر حينئذ إلى من علمه أجل من علمك في مراتب الدنيا والآخرة، فتهون نفسك عليك. (هـ) وان أعجبت بشجاعتك فتفكر فيمن هو أشجع منك ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله تعالى فيما صرفتها، فان كنت صرفتها في معصية فأنت أحمق، لأنك بذلت نفسك فيما ليس بثمن لها. وان كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدتها بعجبك، ثم تفكر في زوالها عنك بالشيخ، وانك إن عشت فستصير في عدد العيال وكالصبي ضعفاً. على أني ما رأيت العجب في طائفة أقل منه في أهل الشجاعة، فاستدللت بذلك على نزاهة أنفسهم ورفعتها وعلوها. (و) وإن اعجبت بجاهك في دنياك فتفكر في مخالفيك واندادك ونظائرك (2) ولعلهم أخساء وضعاء (3) سقاط. فاعلم أنهم أمثالك فيما أنت فيه ولعلهم ممن يستحيي من التشبه بهم لفرط رذالتهم وخساستهم في أنفسهم وفي أخلاقهم ومنابتهم، فاستهن بكل منزلة شارك فيها من ذكرت لك.

_ (1) م: من أنواع العلم ثم من أصناف علمك الذي تختص الخ. (2) د: ونظرائك (وهي أصوب) . (3) ص: وضعفاء، وهذه قراءة م.

وان كنت مالك الأرض كلها ولا خليفة عليك - وهذا بعيد جداً في الإمكان، فما نعلم أحداً ملك معمور الأرض كلها على قلته وضيق مساحته (1) بالإضافة إلى غامرها (2) فكيف إذا أضيف إلى الفلك المحيط - فتفكر فيما قال ابن السماك (3) للرشيد، وقد دعا بحضرته بقدح فيه ماء ليشربه فقال له: يا أمير المؤمنين فلو منعت هذه الشربة بكم كنت ترضى أن تبتاعها فقال له الرشيد بملكي كله. قال: يا أمير المؤمنين، فلو منعت من خروجها منك، بكم كنت ترضى تفتدي من ذلك قال: بملكي كله. فقال: يا أمير المؤمنين أتغتبط بملك لا يساوي بولة ولا شربة ماء وصدق ابن السماك رحمه الله. وان كنت ملك المسلمين كلهم، فاعلم أن ملك السودان وهو رجل أسود (4) مكشوف العورة جاهل، يملك أوسع من ملكك. فان قلت أخذته بحق، فلعمري ما أخذته بحق اذ استعملت فيه رذيلة العجب، وإذا لم تعدل فيه فاستحي من حالك، فهي حالة لا حالة يجب العجب فيها. (ز) وان أعجبت بمالك، فهذه أسوأ مراتب العجب فانظر في كل ساقط خسيس فهو أغنى منك، فلا تغتبط بحالة يفوقك فيها من ذكرت. واعلم ان عجبك بالمال حمق لأنه أحجار لا تنتفع بها الا بان تخرجها عن ملكك بنفقتها في وجهها فقط. والمال ايضاً غاد ورائح (5) ، وربما زال

_ (1) ص: محاسنه. (2) ص: عامرها؛ والغامر من الأرض والدور خلاف العامر. (3) هو محمد بن صبيح مولي بن عجل، كوفي، قدم بغداد زمن هارون الرشيد، وكان يعظه، وبعد اقامته مدة ببغداد عاد الى الكوفة وتوفي بها سنة 183 (صفة الصفوة 3: 105 وتاريخ بغداد رقم 2895) وموعظته التي أوردها ابن حزم مذكورة في العقد 3: 164. (4) م: أسود رذل. (5) هو من قول حاتم الطائي: أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المرء الأحاديث والذكر

عنك ورأيته بعينه في يد غيرك، ولعل ذلك يكون في يد عدوك، فالعجب بمثل هذا سخف والثقة به غرور وضعف. (ج) وان اعجبت بحسنك ففكر فيما عليك مما نستحيي نحن من اثباته وتستحي أنت منه إذا ذهب عنك بدخولك في السن. وفيما ذكرنا كفاية. (ط) وان اعجبت بمدح اخوانك لك، ففكر في ذم أعدائك اياك، فحينئذ ينجلي عنك العجب، فان لم يكن لك عدو فلا خير فيك ولا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له، فليست إلا منزلة من ليس الله تعالى عنده نعمة يحسد عليها، عافانا الله. فان استحقرت عيونك ففكر فيها لو ظهرت إلى الناس وتمثل اطلاعهم عليها، فحينئذ تخجل وتعرف قدر نقصك ان كانت لك مسكة من تمييز. واعلم بأنك لو تعلمت كيفية تركيب الطبائع وتولد الأخلاق من امتزاج ناصرها المحمولة في النفس فستقف من ذلك وقوف يقين على ان فضائلك لا خصلة لك فيها وأنها منح من الله تعالى لو منحها غيرك لكان مثلك، وانك لو وكلت إلى نفسك لعجزت وهلكت، فاجعل بدل عجبك بها حمداً لواهبك إياها وإشفاقاً من زوالها، فقد تتغير الأخلاق الحميدة بالمرض وبالفقر وبالخوف وبالغضب وبالهرم، وارحم من منع ما منحت، ولا تتعرض لزوال ما بك من النعم بالتعاطي (1) على واهبها تعالى، وبأن تجعل لنفسك فيما وهبك خصلة أو حقاً، فتقدر أنك استغنيت عن عصمته فتهلك عاجلاً واجلاً. ولقد أصابتني علة شديدة ولدت علي ربواً في الطحال شديداً، فولد علي لك من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر والنزق أمراً حاسبت نفسي فيه، اذ أنكرت تبدل خلقي، فاشتد عجبي من مفارقتي لطبعي، وصح عندي أن الطحال موضع الفرح، فإذا فسد تولد ضده.

_ (1) التعاطي: الجرأة، وتناول ما لا يحق ولا يجوز تناوله؛ د: التعالي.

(ي) وان أعجبت بنسبك، فهذه اسوأ من كل ما ذكرنا، لأن هذا الذي أعجبت به لا فائدة له أصلاً في دنيا ولا آخرة. وانظر هل يدفع عنك جوعة أو يستر لك عورة أو ينفعك في آخرتك. ثم انظر إلى من يساهمك في نسبك، وربما فيما هو أعلى منه ممن نالته ولادة الأنبياء عليهم السلام ثم ولادة الخلفاء، ثم ولادة الفضلاء من الصحابة والعلماء ثم ولادة ملوك العجم من الأكاسرة والقياصرة، ثم ولادة التبابعة وسائر ملوك الاسلام، فتأمل غبراتهم وبقاياهم ومن يدلي بمثل ما تدلي به من ذلك تجد أكثرهم أمثال الكلاب خساسة، وتلقهم في غاية السقوط والرذالة والتبذل والتحلي بالصفات المذمومة. فلا تغتبط بمنزلة هم نظراؤك أو فوقك. ثم لعل الآباء الذين تفخر بهم كانوا فساقاً، وشربة خمور، ولاطة، ومتعبثين (1) ، ونوكى، أطلقت الأيام أيديهم بالظلم والجور، فأنتجوا آثاراً (2) قبيحة يبقى عارهم بذلك على الأيام، ويعظم إثمهم والندم عليها يوم الحساب. فان كان ذلك فاعلم أن الذي أعجبت به من ذلك داخل في العيب والخزي والعار والشنار، لا في الاعجاب. (ك) فان أعجبت بولادة الفضلاء اياك، فما أخلى يدك من فضلهم ان لم تكن أنت فاضلاً، وما أقل غناءهم عنك في الدنيا والآخرة ان لم تكن محسناً، والناس كلهم ولد آدم الذي خلقه الله تعالى بيده، وأسكنه جنته وأسجد له ملائكته، ولكن ما أقل نفعه لهم، وفيهم كل عيب (3) وكل فاسق وكل كافر. واذا فكر العاقل في أن فضائل آبائه لا تقربه من ربه تعالى ولا تكسبه وجاهة لم يحزها هو بسعده او بفضله في نفسه ولا ماله، فأي معنى

_ (1) م: ومغنين. (2) م: فأنتجوا ظلماً وآثاراً. (3) م: معيب، وقد تقرأ كذلك في ص.

للإعجاب بما لا منفعة فيه وهل المعجب بذلك الا كالمعجب بمال جاره وبجاه غيره وبفرس لغيره سبق كان على رأسه لجامه (1) ، وكما تقول العامة في أمثالها: " كالخصي يزهى بذكر ابيه ". (2) (ل) فان تعدى بك العجب إلى الامتداح فقد تضاعف سقوطك، لأنه قد عجز عقلك عن مفارقة (3) ما فيك من العجب. هذا ان امتدحت بحق، فكيف ان امتدحت بكذب! وقد كان ابن نوح وأبو إبراهيم وأبو لهب، عم النبي صلى الله عليه وعلى نوح وابراهيم وسلم، أقرب الناس من أفضل خلق الله تعالى من ولد آدم وممن الشرف كله في اتباعهم، فما انتفعوا بذلك. وقد كان فيمن ولد لغير رشدة، من كان الغاية في رئاسة الدنيا كزياد وأبي مسلم، ومن كان نهاية في الفضل على الحقيقة كبعض من نجله عن ذكره في مثل هذا الفصل ممن يتقرب إلى الله تعالى بمحبته (4) والاقتداء بحميد آثاره. (م) وان أعجبت بقوة جسمك فتفكر في أن البغل والحمار والثور أقوى منك وأحمل للأثقال، وان أعجبت بخفتك، فاعلم أن الكلب والأرنب يفوقانك في هذا الباب. فمن اعجب العجيب إعجاب ناطق بخصلة يفوقه فيها غير الناطق. 162 - واعلم أن من قدر في نفسه عجباً أو ظن لها على سائر الناس فضلاً، فلينظر إلى صبره عندما يدهمه من هم أو نكبة أو وجع أو دمل أو مصيبة، فان رأى في نفسه قلة الصبر (5) فليعلم أن جميع أهل

_ (1) هذه حكاية عن أبي عبيدة أن الخيل أجريت للرهان فسبق فرس فجعل رجل من النظارة يكبر ويثب فقيل له أكان الفرس لك قال: لا ولكن اللجام لي (الميداني: 2: 57) . (2) يشبه في الأمثال القديمة " كالفاخرة بحدج ربتها " (الحدج: المركب) (انظر فصل المقال: 401 والميداني 2: 57) وأورده الميداني (2: 81) كالخصي يفتخر بزب مولاه. (3) ص: عن مفارقة مقاومة (فكأنه أثبت قراءتين) . (4) د: بحبه. (5) د. م: فان رأى نفسه قليلة الصبر.

البلاء من المجذمين وغيرهم من الصابرين، أفضل منه على تأخر طبقتهم في التمييز. وان رأى نفسه صابرة فليعلم أنه لم يأت بشيء يسبق فيه على ما ذكرنا بل هو إما متأخر عنهم وإما مساو لهم، ولا مزيد. 163 - ثم لينظر إلى سيرته وعدله أو جوره فيما خوله الله تعالى من نعمة أو مال أو خول أو أتباع أو صحة أو جاه، فان وجد نفسه مقصرة فيما يلزمه من الشكر لواهبه تعالى، ووجدها حائفة في العدل، فليعلم أن أهل العدل والشكر والسيرة الحسنة من المخولين أكثر مما هو فيه، أفضل منه. فإن رأى نفسه ملتزمة للعدل، فالعادل بعيد من العجب البتة لعلمه بموازين الأشياء، ومقادير الأخلاق، والتزامه التوسط الذي هو الاعتدال بين الطرفين المذمومين. فإن أعجب لم يعدل، بل قد مال إلى جنبة الافراط المذمومة. 164 - ولتعلم أن التعسف وسوء الملكة لمن خولك الله أمره من رقيق أو رعية يدلان على خساسة النفس ودناءة الهمة وضعف العقل، لان العاقل الرفيع النفس العالي الهمة، انما يغالب أكفاءه في القوة ونظراءه في المنعة. وأما الاستطالة على من لا يمكنه المعارضة، فسقوط في الطبع ورذالة في النفس والخلق وعجز ومهانة، ومن فعل ذلك فهو بمنزلة من يتبجح بقتل جرذ او بعقر برغوث او بفرك قملة وحسبك بهذا ضعة وخساسة. 165 - واعلم أن رياضة النفس (1) أصعب من رياضة الأسد، لان الأسد اذا سجنت في البيوت التي تتخذها (2) لها الملوك، أمن شرها، والنفس ان سجنت لم يؤمن شرها.

_ (1) م: الأنفس. (2) ص: تتخذ.

166 - العجب أصل يتفرع عنه التيه والزهو والكبر والنخوة والتعاطي (1) وهذه أسماء واقعة على معان متقاربة، ولذلك صعب الفرق بينها على أكثر الناس، فقد يكون العجب لفضيلة في المعجب ظاهرة: فمن معجب بعلمه فيكفهر ويتغلق (2) على الناس، ومن معجب بعمله فيترفع ويتعاطى (3) ، ومن معجب برأيه فيزهو على غيره، ومن معجب بنفسه فيتيه، ومن معجب بجاهه وعلو حاله فيتكبر وينتخي (4) . 167 - وأقل مراتب العجب أن تراه يتوقر عن الضحك [في مواضعه] (5) وعن خفة الحركات وعن الكلام إلا فيما لابد له منه من أمور دنياه، وعيب هذا أقل من عيب غيره، ولو فعل هذه الأفاعيل على سبيل الاقتصار على الواجبات وترك الفضول لكان ذلك فضلاً وموجباً لحمدهم، ولكنهم إنما يفعلون ذلك احتقاراً للناس وإعجاباً بأنفسهم، فحصل لهم بذلك استحقاق الذم، و " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ". حتى إذا زاد الأمر، ولم يكن هنالك تمييز يحجب عن توفيته العجب حقه ولا عقل جيد، حدث من ذلك ظهور الاستخفاف بالناس واحتقارهم بالكلام وفي المعاملة، حتى إذا زاد على ذلك وضعف التمييز والعقل ترقى ذلك إلى الاستطالة على الناس بالأذى باللسان واليد والتحكم والظلم والطغيان (6) واقتضاء الطاعة لنفسه والخضوع لها إن أمكنه ذلك. فإن لم يقدر على ذلك امتدح بلسانه واقتصر على ذم الناس والاستهزاء بهم. 168 - وقد يكون العجب لغير معنى ولغير فضيلة في

_ (1) م: التعالي. (2) ينغلق: يغضب ويحتد ويبدي ضيق خلقه. (3) د: ويتعالى. (4) ينتخي: يفتخر ويتعظم. (5) زيادة من د. (6) م: بالأيدي واللسان والتحكم والطغيان.

المعجب، وهذا من عجيب ما يقع في هذا الباب، وهو شيء يسميه عامتنا " التمييز المتمندل " (1) وكثيراً ما نراه في النساء وفيمن عقله قريب من عقولهن من الرجال، وهو عجب من ليس فيه خصلة أصلاً، لا علم ولا شجاعة ولا علو حال ولا نسب رفيع ولا مال يطغيه وهو يعلم مع ذلك انه صفر من ذلك كله، لأن هذه الأمور لا يغلط فيها من يقذف بالحجارة (2) ، وإنما يغلط فيها من له أدنى حظ منها، فربما يتوهم إن كان ضعيف العقل انه قد بلغ الغاية القصوى منها، كمن له حظ من علم، فهو يظن أنه عالم كامل، أو كمن له نسب معرق في ظلمة، وتجدهم لم يكونوا أيضاً رفعاء في ظلمهم، فتجده لو كان ابن فرعون ذي الأوتاد ما زاد على إعجابه الذي فيه، او له شيء من فروسية فهو يقدر انه يهزم علياً ويأسر الزبير ويقتل خالداً، أو له شيء من جاه رذل لا يرى الاسكندر على حال، أو يكون قوياً على أن يكسب، ما يتوفر بيده مويل يفضل عن قوته، فلو أخذ بقرني الشمس لم يزد على ما هو فيه. وليس يكثر العجب من هؤلاء وإن كانوا عجباً، لكن ممن لاحظ له من علم أصلاً، ولا نسب البتة، ولا مال ولا جاه ولا نجدة، بل نراه في كفالة غيره مهتضماً لكل من له أدنى طاقة، وهو يعلم أنه خال من كل ذلك، وأنه لاحظ له في شيء منه، ثم هو مع ذلك في حالة المزهو التياه. ولقد تسببت إلى سؤال بعضهم في رفق ولين عن سبب علو

_ (1) م: التمترك؛ ولم أوفق الى توجيه لفظة " التمندل " حتى رأيت الدكتور عبد العزيز الأهواني رحمه الله قد أشار إلى الزجل (رقم: 125) لابن قزمان، وقد جاء في المقطوعة الثالثة منه (انظر مجلة المعهد المصري، المجلد: 19 (1976 - 1978) ص: 60. حبيب يتمنزل لما أنا عبد ... وفسر " يتمنزل " بمعنى يدل بمنزلته ويتكبر؛ وهذا توضيح جيد ولكنه يلقي شكاً على لفظة " التمييز " وأنا أعتقد أن اللفظتين لفظة واحدة، واضطرب فيهما الناسخ أو أن الأصل الصحيح هو: " وهو شيء يسميه عامتنا التمنزل والتمندل " والتمندل تعني أيضاً اصطناع الدل. (2) من يقذف بالحجارة: كناية عن المجنون؛ وفي ص: يغلط فيها من لا يقذف.

نفسه واحتقاره الناس، فما وجدت عنده مزيداً على ان قال لي: " أنا حر لست عبد أحد ". فقلت له: أكثر من تراه يشاركك في هذه الفضيلة، فهم أحرار مثلك إلا قوماً من العبيد هم أطول يداً منك وأمرهم نافذ عليك وعلى كثير من الأحرار. فلم أجد عنده زيادة. فرجعت إلى تفتيش أحوالهم ومراعاتها، فأفكرت في ذلك سنين لأعلم السبب الباعث لهم على هذا العجب الذي لا سبب له، فلم أزل اختبر ما تنطوي عليه نفوسهم بما يبدو من أحوالهم ومن مراميهم في كلامهم، فاستقر أمرهم على انهم يقدرون أن عندهم فضل عقل وتمييز ورأي أصيل، لو أمكنتهم الأيام من تصرفه أو وجدوا (1) فيه متسعاً لأداروا الممالك الرفيعة ولبنان فضلهم على سائر الناس، ولو ملكوا مالاً لأحسنوا تصريفه، فمن هاهنا تسرب التيه إليهم وسرى العجب فيهم. 169 - وهذا مكان فيه للكلام شغب عجيب ومعارضة معترضة وهو انه ليس شيء من الفضائل كلما كان المرء منه أعرى قوي ظنه انه قد استولى عليه واستمر يقينه في أنه قد كمل فيه إلا العقل والتمييز، حتى انك تجد المجنون المطبق والسكران الطافح يسخران بالصحيح، والجاهل الناقص يهزأ بالحكماء والأفاضل العلماء، والصبيان الصغار يتفكهون (2) بالكهول، والسفهاء العيارين يستخفون بالعقلاء المتصاونين، وضعفة النساء يستنقصن عقول أكابر الرجال وآراءهم، وبالجملة: فكلما نقص العقل توهم صاحبه أنه أوفر الناس عقلا وأكمل ما كان تمييزاً، ولا يعرض هذا في سائر الفضائل، فإن العاري منها جملة يدري أنه عار منها، وإنما يدخل الغلط على من له أدنى حظ منها وإن قل، فإنه يتوهم حينئذ إن كان ضعيف التمييز أنه علي (3) الدرجة فيه. ودواء من ذكرنا الفقر والخمول، ولا دواء لهم أنجع منه

_ (1) د: لوجدوا فيه متسعا، ص: ولأداروا. (2) م: يتهكمون. (3) د: عالي.

وإلا فداؤهم وضررهم على الناس عظيم جداً، فلا تجدهم إلا عيابين للناس وقاعين في الأعراض، مستهزئين بالجميع، مجانبين للحقائق، مكبين على الفضول، وربما كانوا مع ذلك متعرضين للمشاتمة والمهارشة، وربما قصدوا إلى الملاطمة والمضاربة عند أدنى سبب يعرض لهم. 170 - وقد يكون العجب كميناً في المرء حتى إذا حصل على أدنى جاه ومال ظهر ذلك عليه، وعجز عقله عن قمعه وستره. 171 - ومن طريف ما رأيت في بعض أهل الضعف أن منهم من يغلبه ما يضمر من محبة ولده الصغير وامرأته حتى يصفها بالعقل في المحافل، وحتى إنه يقول هي أعقل مني، وأنا أتبرك بوصيتها. وأما مدحه إياها بالجمال والحسن والعافية فكثير في أهل الضعف جداً، حتى انه لو كان خاطباً لها زاد على ما يقول في ترغيب السامع لوصفه فيها، ولا يكون هذا إلا في ضعيف العقل عار من العجب بنفسه. 172 - إياك والامتداح، فغن كل من يسمعك، لا يصدقك وإن كنت صادقاً، بل يجعل ما سمع منك من ذلك من أول معايبك، وإياك ومدح أحد في وجهه، فإنه فعل أهل الملق وضعفة النفوس. وإياك وذم أحد في حضرته ولا في مغيبه، فلك في إصلاح نفسك شغل. 173 - وإياك والتفاقر (1) ، فإنك ما تحصل من ذلك إلا على تكذيبك أو احتقار من يسمعك، ولا منفعة لك في ذلك أصلاً إلا كفر نعمة ربك وشكواه إلى من لا يرحمك. وإياك ووصف نفسك باليسار، فإنك لا تزيد على اطماع السامعين فيما عندك ببطر (2) ولا تزد على شكر الله تعالى وذكر فقرك إليه وغناك عمن دونه فغن هذا يكسبك

_ (1) ص: التفاخر، والتفاقر: التظاهر بالفقر. (2) ببطر: غير معجمة في ص، وسقطت من د.

الجلالة والراحة من الطمع فيما عندك. [و] العاقل هو من لا يفارق ما أوجبه تمييزه، ومن سبب للناس الطمع فيما عنده لم يحصل إلا على أن يبذله لهم، فلا غاية لهذا أو يمنعهم فيلؤم ويعادونه، فإذا أردت أن تعطي أحداً شيئاً فليكن ذلك منك قبل أن يسألك، فهو أكرم وأنزه وأوجب للمجد (1) . 174 - من بديع ما يقع في الحسد قول الحاسد إذا سمع إنساناً يغرب (2) في علم ما: " هذا شيء بارد، إذ لم يتقدم إليه ولا قاله قبله أحد ". فإن سمع من يبين ما قد قاله غيره قال: " هذا بارد وقد قيل قبله ". وهذه طائفة سوء قد نصبت أنفسها للقعود على طريق العلم يصدون الناس عنها ليكثر نظراؤهم من الجهال. 175 - إن الحكيم لا تنفعه حكمته عند الخبيث الطبع، بل يظنه خبيثاً مثله. وقد شاهدت أقواماً ذوي طبائع ردية، وقد تصور في أنفسهم الخبيثة أن الناس كلهم على مثل طبائعهم لا يصدقون أصلاً بأن أحداً هو سالم من رذائلهم بوجه من الوجوه، وهذا أفسد (3) ما يكون من فساد الطبع والبعد عن الفضل والخير. ومن كانت هذه صفته لا ترجى له معافاة (4) أبداً، وبالله تعالى التوفيق. 176 - العدل حصن يلجأ إليه كل خائف، وذلك أنك ترى الظالم إذا رأى من يريد ظلمه دعا إلى العدل وأنكر الظلم حينئذ وذمه، ولا ترى أحداً يذم العدل. فمن كان العدل في طبعه فهو ساكن في ذلك الحصن الحصين. 177 - الاستهانة نوع من (5) أنواع الخيانة: إذ قد يخونك من

_ (1) د: للحمد. (2) ص: يعرف. (3) م: أسوأ. (4) ص: معانا، د: معاناة. (5) ص: من نوع.

لا يستهين بك، ومن استهان بك فقد خانتك الانصاف، فكل مستهين خائن، وليس كل خائن مستهيناً. 178 - الاستهانة بالمتاع دليل على الاستهانة برب المتاع. 179 - حالتان يحسن فيهما ما يقبح في غيرهما وهما المعاتبة والاعتذار، فإنه يحسن فيهما تعديد الأيادي وذكر الاحسان، وذلك غاية القبح فيما عدا هاتين الحالتين. 180 - لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح ولو انه أشد العيوب وأعظم الرذائل ما لم يظهره بقول أو فعل، بل يكاد يكون أحمد ممن أعانه طبعه على الفضائل، ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلا عن قوة عقل فاضل. 181 - الخيانة في الحرم أشد من الخيانة في الدماء. 182 - العرض أعز على الكريم من المال؛ ينبغي للكريم أن يصون جسمه بماله، ويصون نفسه بجسمه، ويصون عرضه بنفسه، ويصون دينه بعرضه ولا يصون بدينه شيئاً أصلاً. 183 - الخيانة في الأعراض أخف من الخيانة في الأموال، وبرهان ذلك أنه لا يكاد يوجد من لا يخون في العرض وإن قل ذلك منه وكان من اهل الفضل. وأما الخيانة في الأموال، وإن قلت أو كثرت، فلا تكون إلا من رذل بعيد عن الفضل. 184 - القياس في أحوال الناس قد يكذب في أكثر الأمور ويبطل في الأغلب، واستعمال ما هذه صفته في الدين لا يجوز. 185 - المقلد راض ان يغبن عقله، ولعله مع ذلك يستعظم أن يغبن ماله فيخطئ في الوجهين معاً. 186 - لا يكره الغبن في ماله ويستعظمه إلا لئيم الطبع دقيق الهمة مهين النفس.

187 - من جهل معرفة الفضائل فليعتمد على ما أمر به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يحتوي على جميع الفضائل. 188 - رب مخوف كان التحفظ (1) منه سبب وقوعه. ورب سر كانت المبالغة في طيه علة انتشاره (2) ، ورب إعراض أبلغ في الاسترابة من إدامة النظر. واصل ذلك كله الإفراط الخارج عن حد الاعتدال. 189 - الفضيلة وسيطة بين الإفراط والتفريط، فكلا الطرفين مذموم، والفضيلة وسيطة بينهما محمودة، حاشا العقل فإنه لا إفراط فيه. 190 - الخطأ في الحزم خير من الخطأ في التضييع. 191 - من العجائب ان الفضائل مستحسنة ومستثقلة، والرذائل مستقبحة ومستخفة. 192 - من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه، فإنه يلوح له وجه تعسفه. 193 - حد الحزم معرفة الصديق من العدو. وغاية الخرق والضعف جهل العدو من الصديق. 194 - لا تسلم عدوك لظلم ولا تظلمه، وساو في ذلك بينه وبين الصديق، وإياك وتقريبه وإعلاء قدره فإن هذا من فعل النوكى. ومن ساوى بين عدوه وصديقه في التقريب والرفعة، فلم يزد على أن زهد الناس في مودته وسهل عليهم عداوته، ولم يزد على استخفاف عدوه وتمكينه من مقاتله وإفساد صديقه على نفسه وإلحاقه بجملة أعدائه؛ غاية الخير أن يسلم عدوك من ظلمك ومن تركك إياه للظلم، وأما تقريبه فمن شيم النوكى الذين قد قرب منهم التلف؛ وغاية الشر إلا

_ (1) م: التحرز. (2) م: سبب انتشاره.

يسلم صديقك من ظلمك، وأما إبعاده فمن فعل من لا عقل له، ومن قد كتب عليه الشقاء؛ ليس الحلم تقريب العدو، ولكنه مسالمتهم مع التحفظ منهم. 195 -[كم رأينا من فاخر بما عنده من المتاع، كان ذلك سبباً لهلاكه، فإياك وهذا الباب الذي هو ضر محض لا منفعة فيه أصلاً] . 196 -[كم شاهدنا ممن أهلكه كلامه ولم نر قط أحداً بلغنا أنه أهلكه سكوته، فلا تتكلم إلا بما يقربك من خالقك، فإن خفت ظالماً فاسكت] . 197 - قلما رأيت امراً أمكن فضيع إلا فات (1) فلم يمكن بعد. 198 - محن الإنسان في دهره كثيرة، وأعظمها محنته بأهل نوعه من الأنس [وداء] (2) الإنسان بالناس اعظم من دائه بالسباع الكلبة والأفاعي الضارية، لأن التحفظ من كل ما ذكرنا ممكن، ولا يمكن التحفظ من الإنس أصلاً. 199 - الغالب على الناس النفاق، ومن العجب انه لا يجوز مع ذلك عندهم إلا من نافقهم. 200 - لو قال قائل ان في الطبائع مزية كرية (3) لأن أطراف الأضداد تلتقي، لم يبعد من الصدق. وقد نجد نتائج الأضداد تتساوى، فنجد المرء يبكي من الفرح ومن الحزن، ونجد فرط المودة يلتقي مع فرط البغضة في تتبع العثرات، وقد يكون ذلك سبباً للقطيعة عند عدم الصبر والإنصاف.

_ (1) ص: الأوقات، ولعلها الا وفات. (2) زيادة من م. (3) ص: كرية مزية.

201 - كل من غلب عليه طبيعة ما، فإنه وإن بلغ الغاية من الحزم والحذر، فإنه مصروع إذا كويد من قبلها. 202 - كثرة الريب تعلم صاحبها الكذب لكثرة ضرورته إلى الاعتذار بالكذب، فيضرى عليه ويستسهله. 203 - اعدل الشهود على المطبوع على الصدق وجهه لظهور الاسترابة عليه إن وقع في كذبة أو هم بها. وأعدل الشهود على الكذاب لسانه لاضطرابه ونقض بعض كلامه بعضاً. 204 - المصيبة في الصديق الناكث اعظم من المصيبة به. 205 - اشد الناس استعظاماً (1) للعيوب بلسانه هو أشدهم استهلالاً لها بفعله. ويتبين ذلك في مسافهات أهل البذاء ومشاتمات الأرذال البالغين غاية الرذالة من الصناعات الخسيسة من الرجال والنساء كاهل التعيش بالزمير وكنس الحشوش والخادمين في المجازر وساكني دور الحمل المباحة لكراء الجماعات الرذلة والساسة للدواب، فإن كل من ذكرنا أشد الخلق رمياً من بعضهم لبعض بالقبائح وأكثرهم عيباً بالفضائح، وهم أوغل الناس فيها وأشهرهم بها. 206 - اللقاء يذهب بالسخائم، فكان نظر العين إلى العين يصلح القلوب، فلا يسؤك التقاء صديقك بعدوك، فغن ذلك يفتر (2) أمره عنك. 207 - أشد الأشياء على الناس الخوف والهم والمرض والفقر. وأشدها كلها إيلاماً للنفس الهم للفقد من المحبوب وتوقع المكروه، ثم المرض، ثم الخوف ثم الفقر. ودليل ذلك ان الفقر يستعجل ليطرد به الخوف، فيبذل المرء ماله كله ليامن، والخوف والفقر يستعجلان ليطرد

_ (1) م: استهالاً؛ ص: استطعاماً. (2) يفتر: يسكن.

بهما ألم المرض فيغرر الإنسان في طلب الصحة ويبذل ماله فيها إذا أشفق من الموت ويود عند تيقنه (1) به لو بذل ماله كله ويسلم (2) ويفيق. والخوف يستهل ليطرد به الهم، فيغرر المرء بنفسه ليطرد عنها الهم. وأشد الأمراض لها ألماً وجع ملازم في عضو ما بعينه. وأما النفوس الكريمة فالذل عندها أشد من كل ما ذكرنا وهو أشعل المخوفات عند ذوي النفوس اللئيمة.

_ (1) ص: نفسه، والتصويب عن م. (2) ص: وسلم.

9 - فصل في غرائب أخلاق النفس

9 - فصل في غرائب أخلاق النفس 208 - ينبغي للعاقل ان لا يحكم بما يبدو له من استرحام الباكي المتظلم وتشكيه وكثرة تلومه (1) وتقلبه وبكائه، فقد وقفت من بعض من يفعل هذا على يقين انه الظالم المعتدي المفرط في الظلم. ورأيت بعض المظلومين ساكن الكلام معدوم التشكي مظهراً لقلة المبالاة. فيسبق إلى نفس بعض من لا يحقق النظر انه ظالم، وهذا مكان ينبغي التثبت فيه ومغالبة (2) ميل النفس جملة، ولا يميل المرء مع الصفة التي ذكرنا ولا عليها، ولكن يقصد الإنصاف بما يوجبه الحق على السواء. 209 - من عجائب الأخلاق ان الغفلة مذمومة، وأن استعمالها محمود. وإنما ذلك لان من هو مطبوع [على] الغفلة يستعملها في غير موضعها، وفي حيث يجب التحفظ، وهي تغيب عن فهم الحقيقة فدخلت تحت الجهل فذمت لذلك. وأما المتيقظ الطبع فإنه لا يضع الغفلة إلا في موضعها الذي يذم [فيه] البحث والتقصي. والتغافل فهم للحقيقة وإضراب عن الطيش واستعمال للحلم وتسكين للمكروه، فلذلك حمدت حالة التغافل وذمت الغفلة. 210 - وكذلك القول في إظهار [الجزع وإبطانه] (3)

_ (1) م: وشدة تلويه (وهي قراءة جيدة) . (2) ص: ومعايلة. (3) زيادة من م، وفي د: وكذلك القول في إظهار الخوف وإبطائه، فإن اظهار الجزع

وإظهار الصبر وإبطانه. فان اظهار الجزع عند حلول المصائب مذموم لانه عجز مظهره عن ملك نفسه فأظهر امراً لا فائدة فيه، بل هو مذموم في الشريعة وقاطع عما يلزم من الأعمال وعن التأهب لما يتوقع حلوله مما لعله أشنع من الأمر الواقع الذي عنه حدث الجزع.. فلما كان إظهار الجزع مذموماً كان ضده محمودا، وهو إظهار الصبر لأنه ملك النفس واطراح لما لا فائدة فيه وإقبال على ما يعود وينتفع به في الحال وفي المستأنف. وأما استبطان [الصبر] (1) فمذموم لأنه ضعف في الحس وقسوة في النفس وقلة رحمة. وهذه أخلاق سوء لا تكون إلا في أهل الشر وخبث الطبيعة وفي النفوس السبعية (2) الرديئة. فلما كان ذلك نتيجة ما ذكرنا (3) ، كان ضده محموداً وهو استبطان الجزع لما في ذلك من الرحمة والرقة والشفقة والفهم لقدر الرزية. فصح بهذا أن الاعتدال هو أن يكون المرء جزوع النفس صبور الجسد بمعنى أن لا يظهر في وجهه ولا في جوارحه شيء من دلائل الجزع وبالله تعالى التوفيق. 211 - لو علم ذو الرأي الفاسد ما استضر به من فساد تدبيره في السالف لأنجح بترك استعماله فيما يستأنف.

_ (1) زيادة لازمة. (2) ص: الستعية. (3) د. م: فلما كان ما ذكرنا يقبح.

10 - فصل في تطلع النفس

10 - فصل في تطلع (1) النفس إلى معرفة ما تستر به عنها من كلام مسموع أو شيء مرئي وإلى المدح (2) وبقاء الذكر 212 - هذان أمران لا يكاد يسلم منهما أحد إلا ساقط الهمة جداً أو من راض نفسه الرياضة التامة وقمع قوة نفسه الغضبية قمعاً كاملاً. ومداواة شره النفس إلى سماع كلام تستر به عنها أو رؤية شيء اكتتم به دونها أن يفكر فيما غاب عنها من هذا النوع في غير موضعه الذي هو فيه، بل في أقطار الأرض المتباينة، فان اهتم بكل ذلك فهو مجنون تام الجنون عديم العقل البتة. وأن لم يهتم لذلك فهل هذا الذي اختفى عنه إلا كسائر ما غاب عنه منه سواء بسواء ولا فرق ثم ليزدد احتجاجاً (3) على هواه فليقل بلسان عقله لنفسه: يا نفس أرأيت لو لم تعلمي ان ها هنا شيئاً أخفي عنك أكنت تطلعين إلى معرفة ذلك فلا بد من لا، فليقل لنفسه: فكوني الآن كما كنت تكونين لو لم تعلمي بان ها هنا شيئاً ستر عنك، فتربحي الراحة وطرد الهم وألم القلق وقبح صفة الشره. وتلك غنائم كثيرة وأرباح جليلة وأغراض فاضلة سنية، يرغب العاقل فيها ولا يزهد فيها إلا تام النقص.

_ (1) ص: مطلع؛ م: مطامع. (2) م: أو شيء يدني الى المدح. (3) م: ليزيد احتجاجه.

213 - واما من علق على وهمه وفكره بان يبعد اسمه في البلاد ويبقى ذكره على الدهور، فليتفكر في نفسه وليقل لها: يا نفس أرأيت لو ذكرت بأفضل الذكر في جميع أقطار المعمور أبد الأبد إلى انقضاء الدهور ثم لم يبلغني ذلك ولا عرفت به أكان لي في ذلك سرور وغبطة أصلاً فلا بد من " لا " ولا سبيل إلى غيرها البتة، فإذا صح ذلك وتيقن فليتعلم يقيناً أنه إذا مات فلا سبيل له إلى علم انه يذكر أو انه لا يذكر، وكذلك وأن كان حياً إذا لم يبلغه. ثم ليتفكر أيضاً في معنيين عظيمين أحدهما كثرة من خلا من الفضلاء من الأنبياء والرسل صلى الله عليهم وسلم أولاً والذين لم يبق لهم على أديم الأرض عند أحد من الناس اسم ولا رسم ولا ذكر ولا خبر ولا أثر بوجه من الوجوه. ثم من الفضلاء الصالحين من أصحاب الأنبياء السالفين والزهاد ومن الفلاسفة والعلماء والأخيار وملوك الأمم الدارة وبناة المدن الخالية واتباع الملوك أيضاً الذين انقطعت أخبارهم فلم يبق لهم عند أحد علم ولا لأحد بهم معرفة أصلاً البتة. فهل ضر من كان فاضلاً منهم ذلك أو نقص من فضائلهم أو طمس من محاسنهم أو حط درجتهم عند بارئهم عز وجل ومن جهل هذا الأمر فليعلم انه ليس في شيء من الدنيا خبر عن ملك من ملوك الدنيا والأجيال السالفة ابعد مما بأيدي الناس من تاريخ ملك بني اسرائيل فقط، ثم ما بأيدينا من تاريخ ملك يونان والفرس وكل ذلك لا يتجاوز ألفي عام، فأين ذكر من عمر الدنيا قبل هؤلاء أليس قد دثر وفني وانقطع ونسي البتة ولذلك قال الله تعالى: {ورسلاً لم نقصصهم عليك} (النساء: 164) وقال تعالى: {وقروناً بين ذلك كثيراً} (الفرقان: 38) وقال الله تعالى: {والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله} (إبراهيم: 9) فهل الإنسان، وأن ذكر برهة من الدهر، إلا كمن خلا قبل من الأمم الغابرة الذين ذكروا ثم نسوا جملة

ثم ليتفكر الإنسان فيمن ذكر بخير أو بشر، هل يزيده ذلك عند الله تعالى درجة أو يكسبه فضيلة لم يكن حازها بفعله أيام حياته. فإذا (1) هذا كما قلنا فالرغبة في الذكر رغبة في غرور (2) ، ولا معنى له ولا فائدة فيه أصلا، لكن إنما ينبغي ان يرغب العاقل في الاستكثار من الفضائل وأعمال البر التي يستحق من هي فيه الذكر الجميل والثناء والحسن والمدح وحميد الصفة، فهي التي تقربه من بارئه تعالى وتجعله مذكوراً عنده عز وجل الذكر الذي ينفعه ويحصل على بقاء فائدته ولا يبيد أبد الأبد، وبالله الوفيق. 214 - شكر المحسن (3) فرض واجب، وإنما ذلك بالمقارنة له يمثل ما احسن فاكثر، ثم بالتهمم بأموره والتأتي بحسن الدفاع عنه ثم بالوفاء له، حياً وميتاً، ولمن يتصل به من شأفة (4) وأهل كذلك، ثم بالتمادي على وده ونصيحته ونشر محاسنه بالصدق وطي مساويه ما دمت حياً وتوريث ذلك عقبك وأهل ودك. وليس من الشكر عونه على الآثام وترك نصيحته في ما يوتغ (5) به دينه ودنياه، بل من عاون من أحسن إليه على باطل فقد غشه وكفر إحسانه وظلمه وجحد إنعامه. وأيضاً فان إحسان الله تعالى وإنعامه عز وجل على كل أحد اعظم واقدم وأهنأ من نعمة كل منعم دونه، فهو تعالى الذي شق لنا الإبصار الناظرة وفتق فينا الآذان السامعة ومنحنا الحواس الفاضلة ورزقنا النطق والتمييز اللذين بهما استأهلنا ان يخاطبنا، وسخر لنا ما في السماوات و [ما في] (6) الأرض من الكواكب والعناصر، ولم يفضل

_ (1) م: فاذا كان هذا. (2) م: رغبة غرور. (3) م: شكر المنعم. (4) شأفة الرجل: أهله وماله، وفي ص: مسافة وكذلك في د. (5) يزتغ: يهلك، وأوتغ دينه بالإثم أفسده. (6) زيادة من د.

علينا من خلقه شيئاً غير ملائكته المقدسين الذين هم عمار السماوات فقط، فأين تقع نعم المنعمين من هذه النعم فمن قدر انه يشكر محسناً إليه بمساعدته (1) على باطل أو بمحاباته فيما لا يجوز فقد كفر نعمة اعظم المنعمين عليه وجحد إحسان اجل المحسنين إليه ولك يشكر ولي الشكر حقاً ولا حمد أهل الحمد أصلاً، وهو الله تعالى. ومن حال بين المحسن إليه وبين الباطل وأقامه على مر الحق، فقد شكره حقاً وأدى واجب حقه عليه مستوفى، ولله الحمد أولاً وآخراً وعلى كل حال.

_ (1) ص: بمشاهدته.

11 -[فصل] في حضور

11 -[فصل] (1) في حضور مجالس العلم (2) 215 - إذا حضرت مجلس علم، فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيد علماً وأجراً لا حضور مستغن بما عندك طالب عثرة تشنعها أو غريبة تشيعها، فهذه أفعال الأرذال الذين لا يفلحون في العالم أبداً. فإذا حضرتها على هذه النية، فقد حصلت خيراً على كل حال، فان لم تحضرها على هذه النية فجلوسك في منزلك أروح لبدنك وأكرم لخلقك واسلم لدينك. 216 - فإذا حضرتها كما ذكرنا فالتزم أحد ثلاثة اوجه لا رابع لها وهي: (أ) إما أن تسكت سكوت الجهال، فتحصل على اجر النية في المشاهدة وعلى الثناء عليك بقلة الفضول وعلى كرم المجالسة ومودة من تجالس. (ب) فإن لم تفعل فأسأل سؤال المتعلم فتحصل على هذه الأربع المحاسن وعلى خامسة، وهي استزادة العلم. وصفة سؤال المتعلم هو أن تسال عن ما لا تدري لا عن

_ (1) زيادة من م. (2) ص: مجالس الذكر، ولعله سهو من الناسخ، إلا أن يتأول " الذكر " على وجه يجعله والعلم سواء.

ما تدري فإن السؤال عما تدريه سخف وقلة عقل وشغل لكلامك وقطع لزمانك بما لا فائدة فيه لا لك ولا لغيرك وربما أدى إلى اكتساب العداوات. وهو يعد عين الفضول. فيجب عليك أن لا تكون فضولياً، فانها صفة سوء. فان أجابك الذي سألت بما فيه كفاية لك فاقطع الكلام، فان لم يجبك بما فيه كفاية، أو أجابك بما لم تفهم فقل له: لم أفهم، واستزده، فان لم يزدك بياناً وسكت أو أعاد عليك الكلام الأول ولا مزيد فأمسك عنه والا حصلت على الشر والعداوة ولم تحصل على ما تريده من الزيادة. (ج) والوجه الثالث ان تراجع مراجعة العالم، وصفة ذلك أن تعارض جوابه بما ينقضه نقضاً بيناً، فان لم يكن ذلك عندك ولم يكن عندك إلا تكرار قولك أو المعارضة بما لا يراه خصمك معارضة، فأمسك لأنك لا تحصل بتكرار ذلك على أجر زائد ولا على تعليم، بل على الغيظ لك ولخصمك والعداوة التي ربما ادت إلى المضرات. وإياك وسؤال المعنت (1) ومراجعة المكابر الذي يطلب الغلبة بغير علم، فهما خلقا سوء دليلان على قلة الدين وكثرة الفضول وضعف العقل وقوة السخف، وحسبما الله ونعم الوكيل. 217 - وإذا ورد عليك خطاب بلسان أو هجمت على كلام في كتاب، فاياك أن تقابله مقابلة المغاضبة الباعثة على المغالبة (2) قبل أن تتيقن بطلانه ببرهان قاطع. وأيضاً فلا تقبل عليه اقبال المصدق (3) به المستحسن إياه قبل علمك بصحبته ببرهان قاطع فتظلم في كلا الوجهين نفسك وتبعد عن ادراك الحقيقة، ولكن أقبل عليه سالم القلب عن النزاع عنه والنزوع اليه، لكن إقبال من يريد حظ نفسه في فهم

_ (1) ص: المعيب. (2) م: المبالغة. (3) ص: الصدق.

ما سمع ورأى ليزيد (1) به علماً وقبوله ان كان حسناً أو رده ان كان خطأ، فمضمون لك، اذا فعلت ذلك، الأجر الجزيل والحمد الكثير والفضل العميم. 218 -[من اكتفى بقليله عن كثير ما عندك، فقد ساواك في الغنى ولو أنك قارون، حتى اذا تصاون في الكسب عما تشره أنت اليه فقد حصل أغنى منك بكثير. ومن ترفع عما تخضع اليه من أمور الدنيا فهو أعز منك بكثير] (2) . 219 - فرض على الناس تعلم الخير والعمل به، فمن جمع الأمرين جميعاً، فقد استوفى الفضلين معاً، ومن علمه ولم يعمل به فقد أحسن في التعلم وأساء في ترك العمل به، فخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وهو خير من آخر لم يعلمه ولم يعمل به، وهذا الذي لا خير فيه أمثل حالة واقل ذماً من آخر ينهى عن تعلم الخير ويصد عنه. ولو لم ينه عن الشر الا من ليس فيه منه شيء ولا أمر بالخير الا من استوعبه لما نهى أحد عن شر ولا أمر بخير بعد [النبي صلى الله عليه وسلم وحسبك بمن ادى رأيه إلى هذا فساداً وسوء طبع وذم] (3) حال، وبالله تعالى التوفيق. 220 -[قال أبو محمد رضي الله عنه: فاعترض ها هنا انسان فقال: كان الحسن رضي الله عنه إذا نهى عن شيء لا يأتيه أصلاً واذا أمر بشيء كان شديد الأخذ به، وهكذا تكون الحكمة، وقد قيل: أقبح شيء في العالم ان يأمر [المرء] بشيء لا يأخذ به في نفسه أو ينهى عن شيء يستعمله.

_ (1) ص: بالتزيد. (2) هذه الفقرة المزيدة (من طبعة 1908) لا علاقة وثيقة لها بالفصل. (3) ما بين معقفين سقط من ص، وهو ثابت في د.

قال أبو محمد: كذب قائل هذا، وأقبح منه من لم يأمر بخير ولا نهى عن شر، وهو مع ذلك يعمل الشر ولا يعمل الخير. قال أبو محمد: وقد قال أبو الأسود الدؤلي (1) : [من الكامل] . لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك اذا فعلت عظيم وابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فاذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى ... بالعلم منك وينفع التعليم قال أبو محمد: ان أبا الأسود انما قصد بالإنكار المجيء بما نهى عنه المرء وانه يتضاعف قبحه فيه مع نهيه عنه، فقد احسن كما قال الله تعالى: {اتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (البقرة: 44) ولا يظن بأبي الأسود الا هذا وأما أن يكون نهى عن النهي عن الخلق المذموم فنحن نعيذه بالله من هذا، فهو فعل من لا خير فيه. وقد صح عن الحسن أنه سمع انساناً يقول: لا يجب أن ينهى عن الشر إلا من لا يفعله، فقال الحسن: ود ابليس لو ظفر منها بهذه حتى لا ينهى أحد عن منكر ولا يأمر بمعروف. قال أبو محمد: صدق الحسن، وهو قولنا آنفاً. جعلنا الله ممن يوفق لفعل الخير والعمل به، وممن يبصر رشد نفسه، فما أحد الا له عيوب، اذا نظرها شغلته عن غيره، وتوفانا على سنة محمد صلى الله عليه وسلم آمين رب العالمين] (2) .

_ (1) أنظر ديوانه (تحقيق محمد حسن آل ياسين، بيروت 1974) : 165 - 166. (2) هذه الفقرة المزيدة ثابته لابن حزم لأنها تحمل أسلوبه وطريقته، ولكن هذا الأخ والرد أشبه بكتاب " الفصل " منه بهذه الرسالة.

تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ورضي الله عن أصحاب رسول الله.

فراغ

رسالة في الغناء الملهي أمباح هو أم محظور

- 3 - رسالة في الغناء الملهي أمباح هو أم محظور

فراغ

رسالة في الغناء الملهي

رسالة في الغناء الملهي مقدمة كثر القول في الغناء، وقد لخص ابن الجوزي المواقف المختلفة منه بقوله: " تكلم الناس في الغناء فأطالوا، فمنهم من حرمه، ومنهم من أباحه من غير كراهة، ومنهم من كرهه مع الإباحة " (1) ثم تطور الأمر إلى النظر في الغناء مقترناً مع مختلف الآلات الموسيقية أو مجرداً عنها، وانقسم الناس في إجازة بعض الآلات دون بعضها الآخر، أو في عدم اباحتها جميعاً (2) . وقد تمثلت هذه الخلافات في فصول مدرجة في الكتب وفي رسائل وكتب خصصت لهذا الموضوع، فمن الفصول ما ذكره الغزالي في الإحياء ولخصه النويري في نهاية الأرب (4: 161 - 188) وما جاء في عوارف المعارف للسهروردي وفي وقت القلوب لأبي طالب المكي. وأما المصنفات من رسائل وكتب في الموضوع فانها كثيرة جداً، فمنها: 1 - كتاب لعبد الملك بن حبيب (328/ 852) في كراهة الغناء (3) . 2 - ذم الملاهي لابن أبي الدنيا (281/ 894) (وهو أشمل

_ (1) ابن الجوزي: تلبيس إبليس: 223. (2) انظر نهاية الأرب للنويري 4: 133. (3) ترتيب المدارك: 4: 131 (ط. المغرب) .

من الغناء) ؛ نشر بلندن 1938 بتحقيق جيمس روبسون (ومعه بوارق الالماع: انظر ما يلي رقم: 5) وقد قام الناشر بترجمة الكتابين إلى الانجليزية. 3 - كتاب مصنف في ذم الغناء والمنع منه لأبي الطيب الطبري الشافعي (450/ 1058) ذكره ابن الجوزي (1) وابن تيمية (2) . 4 - كتاب السماع لابن القيسراني (3) (507/ 1113) تحقيق أبو الوفا المراغي، القاهرة 1970. 5 - بوارق الالماع لأبي الفتوح أحمد بن محمد الغزالي (520/ 1126) ، نشر مع كتاب ابن أبي الدنيا وترجم إلى الانجليزية (انظر رقم: 1) . 6 - كتاب السماع والرقص لابن تيمية (ضمن مجموعة الرسائل الكبرى، القاهرة 1323) 2: 277 - 315. 7 - كتاب كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع (4) لابن حجر الهيثمي (973/ 1575) ط. القاهرة، 1310، 1325) . 8 - إيضاح الدلالات في سماع الآلات (5) لعبد الغني النابلسي (1143/ 1731) ط. دمشق 1302 وبومبي 1303. فرسالة ابن حزم في الغناء الملهي أمباح هو أم محظور تجيء في سلسلة طويلة من المؤلفات التي كتبت قبلها وبعدها، وهي على

_ (1) تلبيس ابليس 230. (2) فتاوى ابن تيمية 11: 577. (3) يبدو أن ما نشر من هذا الكتاب ناقص، لأن ابن الجوزي ينقل عنه أشياء لم ترد في المنشور. ففي الكتاب " باب إكرامهم للقول، وافرادهم الموضع " (تلبيس: 241) وحكايات عن الشافعي وعن أحمد بن حنبل وإجازاتهما للسماع (241، 243) . (4) منه نسخة بالمتحف البريطاني (رقم: 1221) انظر تكملة بروكلمان 2: 528. (5) منه نسخة في برلين (رقم: 5522) وكمبيردج (رقم: 143) ونافذ (برقم: 389) والقاهرة (رقم 1: 271) انظر تاريخ بروكلمان 2: 347 والتكملة 2: 474.

بساطتها تعد ذات قيمة هامة في فتح الباب أمام توهين الأحاديث التي وردت في ذم الغناء والنهي عنه. ومن الطبيعي أن نجد المتصوفة يؤيدون حل السماع، وأن يكون ما كتبوه حول هذا الموضوع غزيراً جداً، وان يتجاوزوا الأحاديث إلى عمل أسلافهم أو يستشهدوا على ذلك بالصلحاء من الصحابة والتابعين. ولكن الشيء الذي يستوقف النظر هو افتراق المتمسكين بالحديث أنفسهم في فريقين: فريق يبرز دور الأحاديث التي تنحو نحو تحريم السماع، وفريق ثان يبرز هذه الأحاديث نفسها ويضعفها ويتشبث بأحاديث أخرى. ولنأخذ أمثلة على ذلك متقيدين بالأحاديث والنصوص التي أوردها ابن حزم: 1 - حديث عائشة: " ان الله حرم المغنية وبيعها وثمنها وتعليمها " رده ابن حزم لان فيه من اسمه سعيد بن أبي رزين عن أخيه، فقال انه لا يعرف، وأيده الذهبي (ميزان: 2: 136) وابن حجر (لسان: 3: 29) ونقل فيه قول ابن حزم نفسه، ومع هذا نجد ابن الجوزي قد قبله (تلبيس: 233) ، ولم يورده ابن القيسراني، وأورده ابن أبي الدنيا (:46) . 2 - الحديث: " اذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة الخ " وهو عن علي يرفعه إلى الرسول، رده ابن حزم لأن عدداً ممن ذكروا في السند لا يدري من هم مثل: أبي المرجى الجيلاني (لم يذكره الذهبي وأورد ابن حجر فيه رأي ابن حزم) وأحمد بن سعيد (لم يذكره الذهبي وذكر ابن حجر (1) رأي ابن حزم فيه) ومحمد بن كثير الحمصي (لم يذكره كل من الذهبي وابن حجر) وفرج بن فضالة (وقال فيه احمد: حدث عن يحيى بن سعيد مناكير، وحدث عن ثقات أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم: حديثه عن يحيى بن سعيد فيه نكارة، وقال الساجي: روى عن يحيى بن سعيد مناكير) (2) . ومع كل ذلك فان

_ (1) لسان الميزان 1: 179. (2) تهذيب التهذيب 8: 260 - 262.

ابن أبي الدنيا (42) قبله وكذلك ابن الجوزي (تلبيس: 234) وأورده ابن القيسراني، وهو من صف ابن حزم فركز تضعيفه على شخص فرج ابن فضالة وأورد ما جاء فيه من أقوال أهل العدل والتجريح، ومن ذلك قول ابن حبان: فرج بن فضالة كان يقلب الأسانيد ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة، لا يحل إلا احتجاج به. ثم أورد ابن حبان هذا الحديث نفسه واستدل به على ما قاله (1) . 3 - الحديث ان الرسول نهى عن تسع (منهن الغناء) لم يقبله ابن حزم لأن فيه من اسمه " كيسان " ولا يدرى من هو، وفيه محمد بن مهاجر وهو ضعيف. (لم يذكر الذهبي وابن حجر من اسمه كيسان مولى معاوية، وأما محمد بن مهاجر فان هذا الاسم ينطلق على ستة أشخاص (2) ، ولا يدري إلى أيهم يشير ابن حزم بالضعف، ولعله لا يعني محمد بن مهاجر الوضاع فان هذا متأخر أي في حدود 260) وهذا الحديث لم يورده ابن القيسراني أو ابن الجوزي. 4 - قول ابن مسعود " والغناء ينبت النفاق في القلب " يروى منقطعاً ومرفوعاً؛ وقد استشهد به ابن أبي الدنيا (ذم الملاهي: 46) وابن الجوزي (تلبيس: 235) وزاد فيه " كما ينبت الماء البقل ". وقد أورده ابن القيسراني مسنداً إلى أبي هريرة، أي من طريق أخرى غير طريق ابن مسعود، وفي سنده عبد الرحمن بن عبد الله العمري، الذي يقول فيه أحمد بن حنبل " لا يسوى حديثه شيئاً، حرقنا حديثه.. أحاديثه مناكير وكان كذاباً (3) " ثم أورده من طريق ابن مسعود وقال: رواه سلام عن شيخ مجهول (4) ، وهذا عين ما قاله ابن حزم.

_ (1) السماع: 85. (2) تهذيب التهذيب 9: 478. (3) السماع: 84. (4) السماع: 87 - 88.

5 - حديث أبي أمامة مرفوعاً: بتحريم تعليم المغنيات وشرائهن وبيعهن؛ وأضاف اليه الآية: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} الخ رده ابن حزم لأن فيه اسماعيل بن عياش وهو ضعيف. وقال في تفسير الآية: إنه قول بعض المفسرين الذين لا يحتج بأقوالهم. وقد قبله ابن الجوزي (تلبيس: 232) وأورد آراء المفسرين في الآية (تلبيس: 231) ومنهم ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وسعيد ابن جبير وقتادة وابراهيم النخعي. وأورده ابن القيسراني (السماع: 79) عن طريق عبيد الله بن زحر " صاحب كل معضلة " وفيه القاسم بن عبد الرحمن " وهو منكر الحديث، وكان يروي عن الصحابة المعضلات ". وتوقف ابن القيسراني طويلاً عند قوله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الأحاديث} وقال: " وأوردوا في ذلك عدة أسانيد إلى عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر فنظرت في جميعها فلم أر فيها طريقاً يثبت إلى واحد من الصحابة إلا طريقاً واحداً " (1) ثم قال: يقال لهؤلاء القوم المحتجين: هذه التفاسير هل علم هؤلاء الصحابة الذين أوردتم أقاويلهم في هذه الآية ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يفعله ومن أمحل المحال أن يكون تفسير " لهو الحديث " بأنه الغناء والرسول يقول لعائشة: أما كان معكن من لهو، فان الأنصار يعجبهم اللهو (2) 5، - 6، 7 - لم يقبل ابن حزم أحاديث عبد الملك بن حبيب، وعدها جميعاً هالكة؛ وعبد الملك بن حبيب (238/ 852) (3) فقيه أندلسي مشهور رحل إلى المشرق وجمع علماً كثيراً، وعاد إلى الأندلس فأصبح مشاوراً مع يحيى بن يحيى الليثي، وفي أخباره ما يدل

_ (1) السماع: 75. (2) السماع: 76 وما بعدها. (3) ترجمته في ابن الفرضي 1: 312 - 315 وترتيب المدارك 4:122 (ط. المغرب) .

على أنه كان يحدث بأشياء لم يسمعها مباشرة من أصحابها، وقال ابن الفرضي: لم يكن لابن حبيب علم الحديث، وحكى الباجي وابن حزم ان أبا عمر ابن عبد البر كان يكذبه. ولكن بعض الأندلسيين دافعوا عنه بقوة لغزارة علمه وفضله وكثرة مؤلفاته. وروايته للأحاديث التي أوردها ابن حزم تدل على أنه كان يرى كراهية الغناء، ومع ذلك فقد حكي عنه أنه كان يأخذ بالرخصة في السماع وأنه كان له جوار يسمعنه، وقد عرض له بذلك الشاعر يحيى ابن حكم الجياني المشهور بالغزال فيما آذاه به من شعره؛ والقول الأول أقوى. 8 - أما حديث البخاري " ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " فضعفه عند ابن حزم ان البخاري لم يأت به مسنداً وإنما قال: قال هشام بن عمار؛ وفي سند الحديث " أبو عامر " أو " أبو مالك " ولا يدري من هو. وقد انتقد ابن قيم الجوزية موقف ابن حزم هذا حين قال: " وخفي عليه أن البخاري لقي من علقه عنه وسمع منه وهو هشام بن عمار، وخفي عليه أن الحديث قد أسنده غير واحد من أئمة الحديث غير هشام بن عمار، فأبطل سنة صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مطعن فيها بوجه " (1) ومأخذ ابن القيم صحيح، فإن البخاري روى عن هشام بن عمار أبي الوليد السلمي الدمشقي (2) ، وعبر بالقول (ولم يقل حدثنا) لأنه وقع له مذاكرة (3) ؛ وأما أبو عامر أو أبو مالك بالشك (وعند أبي داود حدثني أبو مالك دون شك) فقد قيل: الشك في اسم الصحابي لا يضر، وقد اختلف في اسمه فقيل عبد الله بن هانئ وقيل عبد الله بن وهب وقيل عبيد بن وهب، وقد أدرك خلافة عبد الملك بن مروان (4) .

_ (1) روضة المحبين: 130 - 131. (2) تهذيب التهذيب 11: 52. (3) إرشاد الساري 8: 317. (4) المصدر نفسه.

9 - حديث: " من جلس إلى قينة صب في أذنيه الآنك " (أي الرصاص) ، وقد قال ابن حزم: " انه بلية لأنه عن مجهولين " وأبو نعيم اسمه عند ابن القيسراني: " عبيد بن محمد " وقال فيه: ضعيف ولم يبلغ عن ابن المبارك؛ والحديث عن مالك منكر جداً، وانما يروى عن ابن المنكدر مرسلاً. فهذا في نقد الإسناد قريب مما قاله ابن حزم. 10 - وقد مر القول في {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} الآية (انظر رقم: 5) . 11 - والحديث: " يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها.. " لم يقبله ابن حزم لأن فيه معاوية بن صالح وهو ضعيف، وفيه مالك بن أبي مريم ولا يدرى من هو (وأيده في ذلك الذهبي وقال ابن حبان إنه من الثقات) ؛ وأما معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي (1) فدخل الأندلس واستقضاه الامام عبد الرحمن بن معاوية (الداخل) بقرطبة، وتوفي في آخر أيام الداخل (2) ؛ وقد ضعف في الحديث، قال ابن معين: ليس بمرضي، ووثقه آخرون. وهذا الحديث يقدم لنا مشكلة واضحة فالشخصان اللذان لم يرضهما ابن حزم وثقهما غيره، فبأي القولين يؤخذ وقد وردت عدة أحاديث تقرن الخسف والمسخ بظهور المعازف والقينات والإقبال على الشراب (انظر ذم الملاهي: 41 - 42، 44 - 46) . 12 - حديث فيه النهي عن صوتين ملعونين: صوت نائحة وصوت مغنية، والحديث أورده ابن أبي الدنيا (50) وذكره ابن القيسراني بروايتين: " نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة وصوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان " وقال رواه جابر، وأنكر عليه هذا الحديث وضعف لأجله فقال فيه ابن حبان: كان رديء الحفظ كثير الوهم فاحش الخطأ يروي الشيء على التوهم ويحدث على الحسبان

_ (1) ابن الفرضي 2: 137 - 139 وتهذيب التهذيب 10: 209. (2) أرخ ابن حبان وفاته سنة 172 (التهذيب: 212) .

وكثرت المناكير من حديثه فاستحق الترك، وتركه أحمد بن حنبل ويحيى ابن معين (1) ؛ ولعل جابراً هو جابر بن يزيد الجعفي الكوفي (128/ 746) وقد عرف بالكذب والتدليس والغلو في التشيع (2) ؛ وأما الرواية الثانية ففيها محمد بن يزيد الطحان اليشكري، وهو خبيث وضاع (3) . وقد رويت في ذم الغناء والتحذير منه أحاديث أخرى لم يوردها ابن حزم، ومنها: 1 - " والذي نفسي بيده لا تنقضي الدنيا حتى يقع بهم الخسف والقذف، قالوا: يا رسول الله، وما ذاك بأبي وأمي قال: اذا رأيت النساء ركبن السروج وكثرت القينات وشهدت شهادات الزور " رواه سليمان اليمامي في سند ينتهي إلى أبي هريرة يرفعه، واليمامي هذا منكر الحديث في ما قاله البخاري (4) . 2 - " ليبيتن أقوام من أمتي على أكل وشراب ولهو، ثم ليصبحن قردة وخنازير، وليصيبن أقواماً من أمتي خسف وقذف باتخاذهم القينات وشربهم الخمور وضربهم بالدفوف ولبسهم الحرير " وفيه رجل غير مسمى، وهو زياد بن زياد الجصاص، وهو متروك الحديث (5) . 3 - " امرني ربي عز وجل بنفي الطنبور والمزمار " رواه إبراهيم ابن اليسع وهو فيما قاله البخاري منكر الحديث (6) . (وجاء عند ابن الجوزي في تلبيس ابليس: 233 من طريق أخرى بعثت بهدم المزمار والطبل؛ وفي طريق ثالثة: بعثت بكسر المزامير) .

_ (1) السماع: 85؛ وانظر الحديث في تلبيس ابليس: 233. (2) ترجمته في تهذيب التهذيب 2: 46 - 51. (3) السماع: 83. (4) السماع: 81. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه.

4 - وعن علي أنه قال: " نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغنيات والنواحات وعن شرائهن وبيعهن وتجارة فيهن، وقال: كسبهن حرام " وفي سنده الحارث بن نبهان وهو لا يكتب حديثه (1) . 5 - " النظر إلى المغنية حرام وغناؤها حرام وثمنها حرام " رواه يزيد بن عبد الملك النوفلي وهو متروك الحديث ويروي مناكير " (2) . 6 - وحديث روي عن صفوان بن أمية قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه عمرو بن قرة فقال: يا نبي الله إن الله كتب علي الشقوة ولا أراني أرزق إلا من دفي بكفي، فتأذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إذن ولا كرامة ولا نعمة. وفي سنده يحيى بن العلاء وليس بثقة (3) وهذا الحديث في سنن ابن ماجة، وقد اعتمده ابن الجوزي (تلبيس ابليس: 234) . أما الأحاديث التي يستند اليها من يرون إباحة الغناء فهي نفسها التي يناقشها من يرون كراهته أو تحريمه؛ ومنها (حسب ترتيب ابن حزم) : 1 - حديث الجاريتين اللتين كانتا تغنيان عند عائشة، ودخل أبو بكر فنهرهما فقال له الرسول: دعهما يا أبا بكر فانهما أيام عيد، وحديث آخر عن عائشة وجاريتين لها تغنيان بغناء بعاث فانتهرهما أبو بكر وقال: مزمار الشيطان، فقال الرسول دعهما. وفي الحديث " انهما ليستا بمغنيتين ". فقد استشهد بهما ابن القيسراني (4) . ورد ابن الجوزي على ذلك بأن الحديثين لا يشيران إلى غناء، وإنما كان الناس يومئذ ينشدون الشعر ويسمى ذلك غناء للترجيع، وهذا لا يخرج الطباع عن حد

_ (1) السماع: 82. (2) السماع: 84 - 85. (3) السماع: 88. (4) السماع 37 - 38.

الاعتدال وأين الغناء بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث من غناء أمرد مستحسن بآلات مستطابة وصناعة تجذب إليها النفس وغزليات يذكر فيها الغزال والغزالة والخال والقد والاعتدال! وقال أبو الطيب الطبري: هذا الحديث حجتنا لأن أبا بكر سمى ذلك مزمور الشيطان ولم ينكر النبي عليه قوله، وكانت عائشة رضي الله عنها صغيرة في ذلك الوقت، ولم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء (1) ؛ وقال ابن تيمية في هذا الصدد: ففي هذا الحديث بيان أن هذا لم يكن من عادة النبي ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان، والنبي عليه السلام أقر الجواري عليه (ولكن) ليس في حديث الجاريتين أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى ذلك، والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع (2) . 2 - حديث ابن عمر حين سمع مزماراً فسد أذنيه وقال: كنت مع رسول الله فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا: وهو حديث يؤيد وجهة نظر الذين لا يرون حل الغناء ولهذا أورده ابن الجوزي وقال: إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال فكيف بغناء أهل الزمان وزمورهم! (3) وقال ابن تيمية: من الناس من يقول إن الرسول لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه فيجاب بأنه كان صغيراً أو يجاب بأنه لم يكن يستمع بل كان يسمع، وهذا لا إثم فيه (4) . 4 - حديث الحبش الذين كانوا يزفنون في المسجد في يوم عيد، فدعا الرسول عائشة إلى مشاهدتهم. أورده ابن القيسراني (5) ، ولم يورده ابن أبي الدنيا وابن الجوزي.

_ (1) تلبيس إبليس: 237 - 238. (2) فتاوى ابن تيمية 11: 566. (3) تلبيس ابليس: 232. (4) فتاوى ابن تيمية 11: 567. (5) السماع: 39.

5 - 6: وأما الخبر عن أصحاب رسول الله وهم في عريش يستمعون إلى غناء، وعن ابن عمر وأنه سفر في بيع مغنية، وأنه وعبد الله بن جعفر سمعا الغناء بالعود، فمما انفرد به ابن حزم عن المراجع التي اعتمدناها، ولكن هذا ليس من مذهبه، إذ كل ما دون الكتاب وسنة الرسول فليس بحجة عنده، ومن الغريب أنه فعل ذلك هنا في الاحتجاج لإباحة الغناء. ولا يدعنا ابن حزم في حيرة حول أي أنواع الغناء يعني، فهو وان لم يطنب في القول، فقد وصف الغناء بأنه مله، وأنه مصاحب بالعود، وبأنه يسمع من القينة، ومعنى ذلك أنه يرى كل مراحل الغناء حلالاً ابتداء من الحداء والنصب حتى الغناء المتقن الذي يقوم على النشيد والبسيط والهزج، أو ما يسمى " النوبة " ذات الأدوار الثلاثة، ولا يمكن أن نعرف كيف كان يتجه ابن حزم في هذه القضية لو عرف ارتباط السماع بالتصوف، وارتباطهما بالرقص، هل كان موقفه يقترب من موقف ابن القيسراني أو من موقف ابن الجوزي وابن تيمية وابن القيم.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم رسالة في الغناء الملهي أمباح هو أم محظور قال أبو محمد: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين: أما بعد، أيدك الله وإياي بتوفيقه، وأعاننا بلطفه على أداء حقوقه، فإنك رغبت أن أقدم لك في الغناء الملهي، أمباح هو أم من المحظور، فقد وردت أحاديث بالمنع منه وأحاديث بإباحته. وأنا أذكر الأحاديث المانعة وانبه على عللها، وأذكر الأحاديث المبيحة له وأنبه على صحتها إن شاء الله، والله موفق للصواب. فالأحاديث المانعة: 1 - ما روى سعيد بن أبي رزين عن أخيه عن ليث بن أبي سليم (1) عن عبد الرحمن بن سابط (2) عن النبي عليه السلام أنه قال: إن الله حرم المغنية وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع (3) إليها (4) . 2 - وروى لاحق بن حسين بن عمر أن ابن أبي الورد المقدسي (5) قال: ثنا أبو المرجى ضرار بن علي بن عمير القاضي

_ (1) راجع ما جاء عنه في التهذيب 8: 467. (2) عبد الرحمن بن سابط تابعي أرسل عن النبي وكان ثقة وتوفي سنة (118هـ) أنظر ترجمته في التهذيب (6: 180؛ رقم 361) . (3) ص: الاسماع. (4) الحديث في سنن الترمذي (تفسير سورة:31) وتلبيس ابليس: 233. (5) ابن أبي الورد اسمه عمران بن عبد الله، انظر لسان الميزان: 1730.

الجيلاني (1) ثنا أحمد بن سعيد عن محمد بن كثير الحمصي (2) ثنا فرج [بن] فضالة عن يحيى بن سعيد (3) عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله إذا علمت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء: إذا كان المال دولاً والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، ولبست الحرير واتخذت القينات والمعارف، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليتوقعوا عند ذلك ريحاً حمراء ومسخاً وخسفاً (4) . 3 - وروى أبو عبيدة بن فضيل بن عياض (5) ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم هو عبد الرحمن بن عبد الله انبا عبد الرحمن بن العلاء عن محمد بن المهاجر (6) عن كيسان مولى معاوية ثنا معاوية أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] نهى عن تسع وأنا أنهاكم عنهن: ألا إن منهن الغناء والنوح والتصاوير والشعر والذهب وجلود السباع والخز والحرير. 4 - وروى سلام بن مسكين عن شيخ شهد ابن مسعود يقول: الغناء ينبت النفاق في القلب (7) . 5 - وروى عبد الملك بن حبيب (8) ثنا عبد العزيز الأويسي عن

_ (1) أبو المرجى ضرار بن علي (لسان الميزان: 913) وحكى النباتي عن ابن حزم أنه قال لا يدرى من هو، قال النباتي: وهو كما قال. (2) انظر ترجمة محمد بن كثير في لسان الميزان: 572. (3) يحيى بن سعيد في لسان الميزان: 909. (4) الحديث في سنن الترمذي (فتن: 38) وتلبيس إبليس: 234 وذم الملاهي: 42. (5) في الأصل فضل (انظر لسان الميزان 773) . وضعفه ابن الجوزي ووثقه الدارقطني وابن حبان. (6) محمد بن المهاجر في لسان الميزان: 1278 (5: 396) . (7) هذا الحديث في سنن أبي داود: 4756 (2: 579) والسماع: 87 ونهاية الارب 4: 158. (8) انظر لسان الميزان: 174 والتهذيب: 736 قال ابن حجر: وقد أفحش ابن حزم القول فيه ونسبه إلى الكذب وتعقبه جماعة بأنه لم يسبقه أحد إلى رميه بالكذب (توفي سنة 238هـ) .

إسماعيل بن عياش عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: (1) : سمعت رسول الله يقول: لا يحل تعليم المغنيات ولا شراؤههن ولا يبعهن ولا اتخاذهن. وثمنهن حرام، وقد أنزل الله ذلك في كتابه {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم} (2) (لقمان: 6) والذي نفسي بيده ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا ارتدفه شيطانان يضربان بأرجلهما صدره وظهره حتى يسكت. 6 - وبه إلى عبد الملك بن حبيب عن الأويسي (3) عن عبد الله ابن عمير بن حفص بن عاصم أن رسول الله قال: إن المغني أذنه بيد شيطان يرعشه حتى يسكت. 7 - وبه إلى عبد الملك بن حبيب ثنى ابن معين عن موسى بن أعين (4) عن القاسم عن أبي أمامة أن رسول الله قال: إن الله حرم تعليم المغنيات وشراءهن وبيعهن وأكل أثمانهن (5) . 8 - وذكر البخاري قال: قال هشام بن عمار (6) ثنا صدقة بن خالد (7) ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر (8) ثنا عطية بن قيس الكلابي (9) ثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري ثني أبو عامر أو أبو مالك

_ (1) انظر السماع: 87 ونهاية الأرب 4: 147. (2) انظر السماع: 87 ونهاية الأرب 4: 147. (3) الأويسي هو عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى القرشي المدني الفقيه روى عن عبد الله بن عمر العمري (التهذيب: 662) . (4) انظر ترجمة موسى بن أعين في التهذيب: 585 (توفي 177هـ) . (5) في نهي الرسول عن بيع المغنيات انظر ابن ماجة (تجارات: 11) وقد ورد: لا تبيعوا المغنيات ولا تشتروهن في الترمذي (بيوع: 51) . (6) هشام بن عمار في التهذيب 11: 51. (7) ص: مجالد، وترجمته في التهذيب4: 414. (8) انظر ترجمة عبد الرحمن في التهذيب 6: 297. (9) راجع التهذيب 7: 228 (وتوفي عطية سنة 121 هـ) .

الأشعري [أنه] سمع النبي عليه السلام يقول: ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف (1) . 9 - وروى ابن شعبان ثني ابراهيم بن عتمان بن سعيد ثني أحمد بن الغمر بن أبي حماد بحمص ويزيد بن عبد الصمد قالا ثنا عبيد بن هاشم الحلبي هو أبو نعيم، ثنا عبد الله بن المبارك عن مالك عن محمد بن المنكدر عن أنس قال، قال رسول الله: من جلس إلى قينة صب في أذنيه الآنك (2) يوم القيامة. 10 - وبه إلى ابن شعبان ثني عمي ثنا أبو عبد الله الدوري ثنا عبيد الله القواريري ثنا عمران بن عبيد عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله عز وجل {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله} قال: الغناء. 11 - وروى ابن أبي شيبة أبو بكر ثنا زيد بن الحباب (3) ثنا معاوية صالح (4) عن حاتم بن حريث (5) عن ابن أبي مريم (6) قال: دخل علينا عبد الرحمن بن غنم فقال: أنبأنا أبو مالك الأشعري أنه سمع النبي عليه السلام يقول: يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، تضرب على رؤوسهم المعازف والقينات بخسف الله بهم الأرض (7) .

_ (1) ورد الحديث عند البخاري في الآشرية: انظر ارشاد الساري 8: 318. (2) ص: الايك؛ الرصاص، وانظر الترمذي (لباس: 19) والبخاري (رؤيا: 45) والسماع: 84 ونهاية الأرب 4: 155. (3) انظر ترجمة زيد في التهذيب 3: 402 والظن أنه سمع معاوية بمكة لأن معاوية أندلسي. (4) توفي معاوية بن صالح عام (185) وترجمته في التهذيب 10: 209 وفي توثيقه اختلاف. (5) في الأصل جريب، وترجمته في التهذيب 2: 129. (6) مالك بم أبي مريم: نقل في التهذيب (10: 21) قول ابن حزم إنه لا يدرى من هو، وقال الذهبي لا يعرف. (7) انظر ابن ماجة (فتن: 22) وقال القسطلاني (8: 318) ان الحديث " يشرب الناس " ورد عند الامام أحمد وابن أبي شيبة وتاريخ البخاري.

12 - وحديث فيه: أن الله [تعالى] نهى عن صوتين ملعونين، صوت نائحة، وصوت مغنية. وكل هذا لا يصح منه شيء، وهي موضوعة: 1 - أما حديث عائشة رضي الله عنها ففيه سعيد بن أبي رزين عن أخيه (1) وكلاهما لا ديري أحد من هما. 2 - وأما حديث علي رضي الله عنه فجميع من فيه إلى يحيى ابن سعيد لا يدير من هم. ويحيى بن سعيد لم يرو عن محمد ابن الحنفية كلمة ولا أدركه. 3 - وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه ففيه شيخ لم يسم ولا يعرفه أحد. 4 - وأما حديث معاوية فإن فيه كيسان ولا يدرى من هو، ومحمد بن مهاجر وهو ضعيف؛ وفيه النهي عن الشعر وهم يبيحونه. 5، - 6، 7 - وأما أحاديث عبد الملك بن حبيب فكلها هالكة. 8 - فأما حديث أبي أمامة ففيه إسماعيل بن عياش (2) وهو ضعيف، والقاسم وهو مثله. 9 - وأما حديث البخاري فلم يورده البخاري مسنداً وإنما قال فيه: قال هشام بن عمار ثم إلى أبي عامر أو إلى أبي مالك ولا يدرى أبو عامر هذا. 10 - وأما أحاديث ابن شعبان فهالكة.

_ (1) في الاصل: عن أبيه، انظر، في لسان الميزان: 98 حيث نقل كلام ابن حزم فيه. (2) إسماعيل بن عياش (التهذيب: 58) تكلم فيه قوم ووثقه آخرون، وسئل عنه يحيى بن معين فقال ليس به في أهل الشام بأس، والعراقيون يكرهون حديثه. وقال آخر: وأما روايته عن أهل الحجاز فإن كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم.

9 - وأما حديث أنس فبلية لأنه عن مجهولين، ولم يروه أحد قط عن مالك من ثقات أصحابه، والثاني عن مكحول عن عائشة ولم يلقها قط ولا أدركها، وفيه أيضاً من لا يعرف وهو هاشم بن ناصح وعمر بن موسى، وهو أيضاً منقطع، والثالث عن أبي عبد الله الدوري ولا يدرى من هو. 11 - وأما حديث ابن أبي شيبة ففيه معاوية بن صالح وهو ضعيف، ومالك ابن أبي مريم ولا يدرى من هو. 12 - وأما النهي عن صوتين فلا يدري من رواه. فسقط كل ما في هذا الباب جملة. 10 - وأما تفسير قول الله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} بأنه (1) الغناء فليس عن رسول الله، ولا ثبت عن أحد من أصحابه، وإنما هو قول بعض المفسرين ممن لا يقوم بقوله حجة، وما كان هكذا فلا يجوز القول به. ثم لو صح لما كان فيه متعلق، لأن الله تعالى يقول {ليضل عن سبيل الله} وكل شيء يقتنى (2) ليضل به عن سبيل الله فهو إثم وحرام، ولو أنه شراء مصحف أو تعليم قرآن، وبالله التوفيق. فإذ لم يصح في هذا شيء أصلاً، فقد قال تعالى {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} (الأنعام: 119) وقال تعالى {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (البقرة: 29) وقال رسول الله من طريق سعد ابن أبي وقاص، وطريقه ثابتة، " إن من أعظم الناس جرماً في الاسلام [من سأل عن شيء] لم يجرم فحرم من اجل مسألته " (3) فصح أن كل شيء حرمه تعالى قد فصله لنا، وما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال.

_ (1) ص: فإنه. (2) ص: يفتن، نهاية الأرب: اقتني. (3) كرره أحمد في مسنده (1520، 1545) ورواه البخاري 9: 95 ومسلم 7: 92 وتختلف روايته بعض الشيء عما ورد هنا، وأقربها إلى ما رواه ابن حزم " إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ".

1 - وخرج مسلم بن الحجاج (1) قال ثني هارون بن سعيد الأيلي (2) ثنا عبد الله بن وهب عمرو وهو [ابن] الحارث أن ابن شهاب حدثه عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين، أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان في أيام منى وتضربان ورسول الله مسجى بثوبه، فنهرهما أبو بكر فكشف رسول الله عنه فقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد. 2 - وبه (3) إلى عمرو بن الحارث أن محمد بن عبد الرحمن حدثه عن عروة عن عائشة قال: دخل رسول الله وعنده جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله! فاقبل عليه فقال: دعهما. فإن قيل إن أبا أسامة روى هذا الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه فقال فيه: وليستا بمغنيتين، قيل قد قالت عائشة: تغنيان، فأثبتت الغناء لهما فقولها وليستا بمغنيتين: أي ليستا بمحسنتين، وقد سمع رسول الله قول أبي بكر: مزمار الشيطان، فأنكر عليه ولم ينكر على الجاريتين غناءهما. وهذا هو الحجة التي لا يسع أحد خلافها ولا يزال التسليم لها. 3 - وروى أبو داود السجستاني (4) ثنا أحمد بن عبيد العداني ثنا الوليد بن مسلم ثنا سعيد بن عبد العزيز ثنا سليمان بن موسى عن نافع قال: سمع ابن عمر مزماراً فوضع إصبعيه في (5) أذنيه ونأى عن

_ (1) انظر صحيح مسلم 3: 21 باب صلاة العيدين، والبخاري باب سنة العيدين لأهل الإسلام 2: 17، وابن ماجة (نكاح: 21) وبوارق الالماع: 132 والسماع: 37. (2) ص: الأيدي. (3) صحيح مسلم 3: 22 وانظر البخاري (عيدين: 2، 30) والسماع: 38. (4) سنن أبي داود 7: 238 (2: 579) وانظر ذم الملاهي: 52 والسماع: 59. (5) في مسند السجستاني: على.

الطريق، وقال يا نافع هل تسمع شيئاً قال: لا؛ فرفع إصبعيه وقال: كنت مع رسول الله فسمع مثل هذا، فصنع (1) مثل هذا. فلو كان حراماً ما أباح رسول الله لابن عمر سماعه، ولا أباح ابن عمر لنافع سماعه، ولكنه عليه السلام، كره لنفسه كل شيء ليس من التقرب إلى الله، كما كره الأكل متكئاً والتنشف بعد الغسل في ثوب يعد لذلك (2) ، والستر الموشى على سدة (3) عائشة وعلى باب فاطمة رضوان الله عليهما، وكما كره أشد الكراهية عليه السلام أن يبيت عنده دينار أو درهم. وإنما بعث عليه السلام منكراً للمنكر وآمراً بالمعروف، فلو كان ذلك حراماً لما اقتصر عليه السلام أن يسد أذنيه عنه دون أن يأمر بتركه وبنهى عنه. فلم يفعل عليه السلام شيئاً من ذلك، بل أقره وتنزه عنه، فصح انه مباح وأن تركه (4) أفضل، كسائر فضول الدنيا المباحة، ولا فرق. 4 - وروى مسلم بن الحجاج (5) قال ثنا زهير بن حرب ثنا جرير ابن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال: جاء حبش يزفنون في المسجد في يوم عيد، فدعاني رسول الله فوضعت رأسي على منكبه (6) فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التي انصرفت عن النظر به إليهم (7) . 5 - وروى سفيان الثوري وشعبة كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي عن عامر بن سعد البجلي (8) أن أبا مسعود البدري وقرظة بن

_ (1) في الأصل: وصنع، وفي مسند أبي داود تعليقاً على هذا الحديث، قال أبو علي اللؤلؤي سمعت أبا داود يقول: وهو حديث منكر. (2) ص: بثوبه بعد الدلك والتصويب عن نهاية الأرب. (3) السدة هنا باب الدار أو البيت، أو شيء كالظلة على الباب؛ وفي نهاية الأرب: سهوة. (4) نهاية الأرب: وان الترك له. (5) انظر صحيح مسلم 3: 22. (6) في الأصل: منكبيه. (7) في الصحيح: أنصرف عن النظر إليهم. (8) انظره في التهذيب: 107.

كعب وثابت بن زيد كانوا في العريش وعندهم غناء فقلت: هذا وانتم أصحاب رسول الله! فقالوا: إنه رخص لنا في الغناء في العرس، والبكاء على الميت في غير نوح، إلا أن شعبة قال: ثابت بن وديعة مكان ثابت بن زيد ولم يذكر أبا مسعود. 6 - وروى هشام بن زيد ثنا حسان عن محمد بن سيرين قال: عن رجلاً قدم المدينة بجوار، فنزل على ابن عمر وفيهم جارية تضرب، فجاء رجل فساومه فلم يهو منهن شيئاً، قال: انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعاً من هذا. فأتى إلى عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه، فأمر جارية فقال: خذي فأخذت حتى ظن ابن عمر أنه قد نظر إلى ذلك، فقال ابن عمر: حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان، فبايعه ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن إني غنيت بتسعمائة درهم، فأتى ابن عمر مع الرجل إلى المشتري فقال له إنه غبن في تسعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه وإما أن ترد عليه بيعه. فقال: بل نعطيها إياه. فهذا عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما قد سمعا الغناء بالعود، وإن كان ابن عمر كره ما ليس من الجد فلم ينه عنه، وقد سفر في بيع (1) مغنية كما ترى، ولو كان حراماً ما استجاز ذلك أصلاً. فإن (2) قال قائل: قال الله تعالى {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس: 32) ففي أي ذلك (3) يقع الغناء قيل له: حيث يقع التروح في البساتين وصباغ ألوان الثياب وكل ما هو من اللهو (4) ؛ قال رسول الله: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " فإذا نوى المرء

_ (1) ص: بيه. (2) ص: فقد،، والتصويب عن نهاية الأرب. (3) ص: فقرأ في ذلك، والتصويب عن نهاية الأرب. (4) ص: اللغز.

بذلك ترويح نفسه وإجمالها (1) لتقوى على طاعة الله عز وجل فما أتى ضلالاً. وقد قال أبو حنيفة: من سرق مزماراً أو عوداً قطعت يده ومن كسرهما ضمنهما. فلا يحل تحريم شيء ولا إباحته إلا بنص من الله تعالى أو من رسوله عليه السلام لأنه إخبار عن الله تعالى، ولا يجوز أن بخبر عنه تعالى إلا بالنص (2) الذي لا شك فيه، وقد قال رسول الله " ومن كذب علي متعمداً فليبوأ مقعده من النار " (3) . قال أبو بكر عبد الباقي بن بريال الحجاري (4) رضي الله عنه: ولقد أخبرني بعض كبار أهل زمانه (5) أنه قال: أخذت النسخة التي فيها الأحاديث الواردة في ذم الغناء والمنع من بيع المغنيات، وما ذكره فيها أبو محمد رضي الله عنه ونهضت بها إلى الإمام الفقيه أبي عمر بن عبد البر (6) ووقفته عليها أياماً ورغبته في أن يتاملها، فاقامت النسخة عنده أياماً ثم نهضت إليه فقلت ما صنعت في النسخة فقال: وجدتها فلم أجد ما أزيد فيها وما انقص. تمت رسالة الغناء بحمد الله وعونه

_ (1) ص: واجماعها. (2) ص: بنص. (3) انظر هذا الحديث في باب إثم من كذب على النبي من صحيح البخاري 1: 29. (4) ص: أبو بكر بن محمد بن الباقي نوفل الحجاري والاسم محرف تحريفاً شديداً. وصوابه أبو بكر عبد الباقي بن محمد بن سعيد بن بريال الحجاري نسبة إلى وادي الحجارة توفي سنة 502 (الصلة: 366) . (5) ص: مانه. (6) هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الفقيه الحافظ المكثر العالم بالقراءات وعلوم الحديث والرجال كان كثير الشيوخ على أنه لم يخرج عن الأندلس لكنه سمع من أكابر أهل الحديث بقرطبة وغيرها ومن الغرباء القادمين إليها، وله مؤلفات كثيرة قيمة توفي سنة 460 هـ. وترجمته في الجذوة: 344 والصلة: 640 وترتيب المدارك 4: 808 وتذكرة الحفاظ: 1128 والديباج: 357 وابن خلكان 7: 76.

فراغ

فصل في معرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها

- 4 - فصل في معرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها

فراغ

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صلى على سيدنا محمد وآله فصل في معرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها قال أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه: أطلت الفكر في نفسي، بعد تيقني أنها المدبرة للجسد، الحساسة الحية العاقلة المميزة العالمة، وأن الجسد موات لا حياة له، وجماد لا حركة فيه إلا أن تحركه النفس، وبعد إيقاني أنها صاحبة هذه الفكرة، والمحركة للساني بما تريد إخراجه مما استقر عندها فقالت مخاطبة لنفسها، باحثة عن حقيقة أمرها: يا أيتها النفس المدبرة لهذا الجسد: الست التي قد عرفت صفات جسدك الذي واليت تدبيره، وحققتها وضبطتها قال: بلى. قال: يا أيتها النفس المدبرة لهذا الجسد: الست التي تجاوزت جسدك المضاف تدبيره إليك، فخلص فهمك وبحثك (1) إلى سائر ما يليك من الأرض والماء والهواء وسائر الأجرام، ثم إلى ما لم يلك من الأجرام، فميزت أجناس كل ذلك وأنواعه وأشخاصه، وحققت صفات كل ذلك: الذاتية والغيرية، وفرقت بين كل ذلك بالفروق الصحيحة، ثم تخطيت كل ذلك إلى الأفلاك البعيدة وما فيها من الأجرام النيرة فعرفت كيفية أدوارها، ووقفت على حقيقة مدارها،

_ (1) ص: وبختك.

وضبطت كل ذلك، وأشرفت عليه، وسرحت (1) هنالك، وأوغلت في تلك الطرق والمسالك، وخضت إليه الأنوار والظلم، واقتحمت نحوه الأبعاد حتى أتيته من أمم، ولم يخف ما بعد وغمض قالت: بلى. قال: يا أيتها النفس المشرفة على ذلك كله: ألست التي لم تقنعي بهذا المقدار من العلم على عظمه وطوله، ولا ملأ خزانتك هذا الحظ من الإشراف، على كبر شأنه وهوله، حتى تعديت إلى ما كان قبل حلولك في هذا الجسد وارتباطك به، من أخبار القرون البائدة والمماليك الدائرة والأمم الغابرة والوقائع الشنيعة والسير الذميمة والحميدة، ووقفت على أخبارهم وعلومهم فشاهدت كل ذلك بمعرفتك إذ لم تشاهديه بحواسك قال: بلى. قال: يا أيتها النفس الغابطة لهذه العظائم المشرفة على هذه الأمور الشنيعة. ألست التي لم يكفك هذا كله حتى تجاوزت العالم بما فيه، وطفرته من جميع نواحيه، فشاهدت الواحد الأول، ووقفت إلى الحق الأول المبدع للعالم بكل ما فيه، فأشرفت (2) على انه هو، وتوهمت إحداثه لكل ما دونه لتوهمك لكل ما شاهدته بحواسك، فأحطت بكل هذا علماً، واحتويت على جميعه فهما قالت: بلى. قالت: يا أيتها النفس التي بلغت هذه المبالغ النائية، وترقت إلى هذه المراقي العالية، وسربت في تبك السبل الغامضة، واستسهلت الولوج في تلك الشعاب الخافية، وسمت إلى التوقل إلى تلك المنازل

_ (1) ص: وشرحت. (2) ص: فأشرقت.

السامية، وتكلفت الارتقاء إلى دار تلك الفلك الشاهقة: تفكري إذ وصلت إلى هذه الرتب، وخرقت تلك الحجب، ورفعت دونك تلك الستور المسبلة، وفتحت لك تلك الأبواب المغلقة المقفلة، وسهل عليك تولج تلك المضايق الهائلة، وتأتى لك تخلل تلك الثنايا البعيدة، هل عرفت مائيتك، وهل دريت كيفيتك، وهل وقفت على أي شيء أنت، وما جوهرك وهل أشرفت على حملك لصفاتك، كيف حملتها قال: لا، ما عرفت شياً من ذلك. قالت: يا أيتها النفس العارفة بغيرها، الجاهلة بذاتها: فهل تعرفين محلك ومن أين أنت، ومن أين تتكلمين، وكيف تحركين هذه الأعضاء المصونة إذا حركتها، الساكنة إذا تركتها قالت: لا. قالت: يا أيتها النفس المعجب شأنها فيما علمت وفيما جهلت: هل تذكرين أين كنت ومن أين أقبلت، وكيف تعلقت بهذا الجسد المظلم الميت الجاهل، وكيف تصريفك له، وكيف بقاؤك فيه بالأسباب الممسكة لك معه، وكيف انفصالك عنه عند الآفات العارضة له قال: لا. قالت: يا أيتها النفس المعترفة بجهل ذاتها، الواقفة على علم ما عداها: ألست أنت المخاطبة والمسؤولة السائلة قالت: بلى. قالت: فما قطع بك عن معرفة ذاتك وصفاتك، ومكانك وبدء شانك، ومحلك وتنقلك، وكيف تعلقت بهذا الجسد وكيف تصريفك له وكيف تنقلك عنه

فتدبرت هذا فأيقنت أنه لو كان علمها ما علمت بقوتها وطبيعتها، دون مادة من غيرها، لكان المعجز لها مما جهلته أسهل عليها من الممكن لها مما علمت. فاعترفت بان لها مدبراً علمها ما علمت من البعيدات فعلمته، وجهلت ما لم يطلعها طلعه من القريبات فجهلته. فيا لك برهاناً على عجز المخلوق ومهانته وضعفه وقلته، نعم وعلى أن النفس لا تفعل ولا تقعد إلا بقوة وإرادة من قبل غيرها لا تتجاوزها ولا تتعداها، ولله الأمر كله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. انتهى القول في النفس والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وسلم تسليماً كثيراً

1 - الابيات الجيمية (ص: 109 من طوق الحمامة) ، قد أوردها المقري في نفح الطيب 3: 599، ورواية البيت الاول هناك: خلوت بها والراح ثالثة لنا ... وجنح ظلام الليل قد مد واعتلج ويبدو أن الابيات استوقفت أبا عامر ابن مسلمة مؤلف كتاب (حديقة الارتياح) فعلق عليها بقوله: لا أذكر مثلها إلا قول بعض المشارقة فأمطرت لؤلؤاً من نرجس فسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبرد إلا أنه لم يعطف خمسة على خمسة كما صنع ابن حزم. 2 - ونقل المقري أيضاً (نفح الطيب 2: 83) أن ابن حزم مر يوماً هو وأبو عمر بن عبد البر صاحب الاستيعاب بسكة الحطابين من مدينة إشبيلية فلقيهما شاب حسن الوجه، فقال ابو محمد: هذه صورة حسنة، فقال له ابو عمر: لم نر إلا الوجه فلعل ما سترته الثياب ليس كذلك، فارتجل ابن حزم أبياتاً مطلعها: وذي عذل فيمن سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول.. الأبيات (النفح (2: 82) ويقول المقري في صدر القصة، قال ابن حزم في طوق " الحمامة ". غير أن النسخة التي وصلتنا من هذه الرسالة لا تحتوي هذه القصة، فهل في الرسالة نقص او أن المقري قد وهم. 3 - فاتن أن أذكر بين المؤلفات التي تدور حول الغناء والسماع (ص 419 - 420 من هذا الكتاب) رسالة في السماع والوجد لأبي سعيد ابن الأعرابي وقد لخصت في كتاب اللمع. والفضل ف هذا التنبيه يعود إلى ذكتور رضوان السيد. 4 - جاء في بعض المصادر نقلاً عن ابن حزم (انظر مثلاً ديوان الصبابة: 27)

أن رجلاً قال لعمر بن الخطا يا أمير المؤمنين إني رأيت امرأة فعشقتها، فقال عمر: ذلك مما لا يملك. وقد ذكر ابن القيم هذا القول في الجواب الكافي (164) ولكنه لم ينسبه لابن حزم، ويبدو أن سبب نسبته له وروده بعد قول لابن حزم مباشرة. وأياً كان لأمر، فليس لهذا القول وجود في طوق الحمامة. 5 - سهوت عن الإشارة إلى الترجمة الإنجليزية التي قام بها آربري (لندن 1953) لطوق الحمامة، وكذلك ترجمة آسين بلاسيوس لرسالته في مداواة النفوس (مدريد 1916) وترجمة ندى توميش للرسالة نفسها غلى الفرنسية (بيروت 1961) ، ومن الدراسات ذات الصل برسالته في الغناء بحث للأستاذ تيريس (Teres) بعنوان: La epistola sobre el canto con musica insru،ental de Ibn Hazm de Cordoba؛ Andalus 36 (1971) ، pp 203 - 214. 6 - من الكتب المتصلة بموضوع الغناء والسماع: جزء في السماع للسلمي (كوبريلي: 16331) وكشف القناع عن حكم الوجد والسماع لأبي العباس أحمد بن عمر الأندلسي (لاله لي: 1482) .

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم تصدير تضم هذه المجموعة الرسائل التالية: 1 - رسالة نقط العروس في تواريخ الخلفاء. 2 - رسالة في أمهات الخلفاء. 3 - رسالة في جمل فتوح الإسلام. 4 - رسالة في أسماء الخلفاء. 5 - رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها. وقد ألحقت بها ثلاثة ملاحق وهي: 1 - رسالة في ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس. 2 - فصل في ذكر أوقات الحكام من بني إسرائيل. 3 - شذرات من روايات تاريخية. ولا يخفى على القارئ أن الوشيجة التي سلكت كل هذه المادة في هذا الجزء إنما هي اتصالها جميعاً بالتاريخ. ولدارس ابن حزم المؤرخ أن يضيف إلى هذه المجموعة كتبه مثل جوامع السيرة وحجة الوداع والجمهرة وأن يعتمد فصولاً تاريخية كثيرة أوردها في الفصل. ونظرات تاريخية في رسائله مثل طوق الحمامة ورسالة التلخيص لوجوه التخليص. ولو وصلتنا رسالته في غزوات المنصور وكتابه في السياسة لأعطينا - فيما أقدر - تصوراً أدق لدوره في الكتابة التاريخية مادة ومنهجاً. وقد درست ابن حزم المؤرخ في المقدمة معتمداً على ما تيسر لدينا من آثاره في هذا الميدان. ولم أشبع الحديث فيها عن موقف ابن حزم المؤرخ من السيرة النبوية، فذلك أمر قد عرضنا له في مقدمة جوامع السيرة أنا وصديقي الدكتور ناصر الدين الأسد، ولا حاجة إلى إغادة شيء منه في هذا المقام إلا ما كان ضرورياً لاستكمال جوانب الصورة العامة من ابن حزم المؤرخ.

ذلك هو القدر الذي استوعبه هذا الجهد، أقدمه للدارسين والقراء، راجياً أن أوفق إلى نشر بقية الأجزاء من هذه الرسائل، ومن الله أستمد العون. بيروت في 5 آذار (مارس) 1981 إحسان عباس

مقدمة

مقدمة ابن حزم والتاريخ يحتل التاريخ حيزاً صغيراً بين مؤلفات ابن حزم على غزارتها ووفرتها، وخاصة إذا قورن بمعاصره ابن حيان، فهو لم يتوفر على الكتابة في التاريخ بمعناه الشمولي، ولا على تفسير التاريخ بحسب منهج منظم، وإنما اقتصر جهده - في حدود ما نعرفه من أسماء مؤلفاته - على ملخصات مركزة موجزة مثل: جوامع السيرة، جمل فتوح الإسلام، أسماء الخلفاء؛ ولعله سار في كتابين آخرين له على مثل هذا المنهج أو شيء شبيه به، أعني كتاب " ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس " (1) وكتاب " غزوات المنصور بن أبي عامر " (2) ؛ كما شمل جهده أيضاً نوادر الأخبار حسبما تدل عليه رسالته " نقط العروس "؛ فإذا وسعنا من مدلول التاريخ ليشمل علم النسب أضفنا إلى كتبه هذه كتاب " جمهرة أنساب العرب " (وهو على ضخامته النسبية يعد " تلخيصاً " لكتب مشرقية في هذا العلم مع إضافة ما جد من أنساب أندلسية وبربرية) وكتاب " نسب البربر " (3) وربما كان قطعة مستخرجة من الجمهرة؛ حتى إذا زدنا في توسيع مدلول التاريخ ذكرنا مع هذه المؤلفات السابقة كتابه " الإمامة والسياسة في قسم سير الخلفاء ومراتبها والندب إلى الواجب منها ". وهو عنوان غامض، وربما كان مضطرباً، وأكبر الظن أنه يشير إلى اسمي كتابين اختلطا معاً، يمثل أحدهما " الإمامة والسياسة " ويمثل الثاني مجموعة من الكتب المركزة الموجزة، ويعد جوامع السيرة فيه " المرتبة الرابعة " (4) .

_ (1) رسائل ابن حزم، الجزء الأول: 11 (رقم: 17) . (2) المصدر السابق: 13 (رقم: 61) . (3) النصدر نفسه (رقم: 49) . (4) حين نشرنا هذا الكتاب أنا والصديق الدكتور ناصر الدين الأسد وجعلنا عنوانه " جوامع السيرة " لم نخترع هذا العنوان من عند أنفسنا (كما زعم الدكتور صلاح الدين المنجد، انظر مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، المجلد 34/ 2 (1959) ص 292) بل وجدناه عند الكتاني في التراتيب الإدارية (المقدمة ص: 42) والكتاني نقله عن كتاب الخزاعي تخريج الدلالات السمعية (انظر ص: 184 مثلاً من الطبعة التونسية) وقد زضحنا ذلك في المقدمة (ص 15) ولم نترك الأمر ملتبساً، ورجحنا هذه التسمية لكونها أدق على طبيعة الكتاب فتسمية الذهبي للكتاب: السيرة النبوية لا تنقض ما ذكره الخزاعي كما لا ينقضها ما ذكره الخزاعي، وأسماء الكتب تتعرض للإيجاز عند النقل وبعض التحوير لشهرتها، فهذا الخزاعي نفسه ينقل عن كتاب ابن حزم الذي يحمل عنوان " جمهرة أنساب العرب " ويسميه " الجماهر " والأمثلة على ذلك كثيرة تعز على الحصر. وقد ذكر الدكتور المنجد (مجلة معهد المخطوطات، المجلد الثاني (1956) ص: 190) أنه وجد على أول ورقة من النسخة التونسية " المرتبة الرابعة في نسب رسول الله وسيره ومغازيه وجمل من التاريخ " وكذلك وجدت مثل هذا العنوان على نسخة برلين (ولم تكن النسختان متوفرتين لدينا حين تحقيق الكتاب) وهذه التسمية هي التي جعلتني أقول أن عنوان " الإمامة والسياسة في قسم سير الخلفاء ومراتبها ... الخ " عنوان مضطرب. لأن لفظة " مراتبها " تتفق مع عنوان النسختين البرلينية والتونسية.

كذلك لا تنتقض هذه الحقيقة - أعني احتلال الترايخ لحيز صغير في مؤلفات ابن حزم - حتى لو أضفنا إلى الكتب السابقة تلك الشذرات التاريخية المنسوبة إليه في المصادر وتلك النظرات التاريخية في رسائله، فهي تؤكد اهتمامه بالروايات التاريخية أكثر من انشغاله بالتأليف في التاريخ. غير أن للتاريخ مكانة هامة في نظر ابن حزم، فهو يقف مع القائلين بأن التاريخ " علم " ذو خصائص وغايات متميزة، مثل المسعودي (1) وإخوان الصفا (2) والخوارزمي (3) وغيرهم (4) ، وينفرد ابن حزم بتصوره الخاص للعلوم وموقع التاريخ بينها، فهو يرى أن العلوم سبعة عند كل أمة وهي: علم شريعتها، وعلم أخبارها، وعلم لغتها - وفيها تتميز كل أمة - ثم علم النجوم وعلم العدد وعلم الطب وعلم الفلسفة

_ (1) قال المسعودي في التاريخ أنه علم يستمتع به العالم والجاهل، ويستعذب موقعه الأحمق والعاقل، فكل غريبة منه تعرف، وكل أعجوبة منه تستطرف، ومكارم الأخلاق ومعاليها منه تقتبس، وآداب سياسة الملوك وغيرها منه تلتمس، يجمع لك الأول والآخر، والناقص والوافر، والبادي والحاضر، والموجود والغابر، وعليه مدار كثير من الأحكام، وبه يتزين في كل محفل ومقام (الإعلان بالتوبيخ: 17 ط، مصر 1317 وعلم التاريخ عند المسلمين: 406 - 407) . (2) قسم إخوان الصفا العلوم في ثلاثة أقسام كبرى يتفرع عن كل قسم عدة علوم، وتلك الأقسام هي: الرياضة والشرعية الوضعية والفلسفية الحقيقية؛ وتحت الرياضة نقع تسعة علوم يجيء علم السير والأخبار في آخرها (رسائل إخوان الصفا 1: 266 - 267) . (3) عد الخوارزمي " التاريخ " أو " الأخبار " آخر علوم العرب الستة وهي الفقه والكلام والنحو والكتاب والشعر والأخبار. (انظر مفاتيح العلوم: 5، 62) . (4) لا نجد تحديداً لمفهوم " التاريخ " لدى الدينوري (إذ لم يكتب مقدمة للأخبار الطوال) والطبري واليعقوبي (الذي سقطت مقدمة كتابه) من المؤرخين المشارقة الذين ظهروا قبل ابن حزم؛ كما أن الفارابي في إحصاء العلوم لا يفرد التاريخ وإنما يمكن أن يستنتج من بعض ما ورد لديه أن يدرجه ضمن العلم المدني السياسي (انظر إحصاء العلوم: 104 - 106) .

وفيها تتفق الأمم كلها (1) . وينقسم علم الأخبار على مراتب فهو إما أن يدور على الممالك أو على السنين وإما على البلاد وإما على الطبقات أو منثوراً (2) . ثم يتحدث ابن حزم عن التاريخ بحسب الأمم، وبينا يقتصر الخوارزمي في مفاتيح العلوم على ذكر الفرس وعرب الجنوب وعرب الشمال والروم واليونانيين نجد ابن حزم يستقصي ذكر الأمم المختلفة، مميزاً بين التواريخ المتصلة بها دون أن يلحظ الفرق بين اليونان والرومان، فيسمي الفريقين باسم الروم، وهذه هي الأمم التي يشمل تواريخها بالتعليق: 1 - الأمة الإسلامية: وتاريخها الذي يشمل مبدأها وفتوحها وأخبار خلفائها وملوكها والمنتزين عليهم وعلماءها.. الخ، هو أصح التواريخ. 2 - بنو إسرائيل: تاريخهم أكثره صحيح وفي بعضه دخل، وإنما يصح منه أخبارهم منذ أن صاروا بالشام إلى حين خروجهم عن تلك البلاد آخر مرة. 3 - الروم: يصح تاريخهم ابتداء من عهد الإسكندر. 4 - أمم الشمال من ترك وخزر وغيرهم: لا تواريخ لهم. 5 - أمم السودان: لا تواريخ لهم. 6 - الهنود والصينيون: يقر ابن حزم أن أخبارهم لم تصلنا كما نريد، ولكن لهم تاريخاً لأنهم أصحاب ضبط وتواليف وجمع. 7 - الأمم الداثرة كالقبط واليمانيين والسريانيين والاشمانين وعمون ومآب: دثرت أخبارهم ولم يبق منها إلا تكاذيب وخرافات. 8 - الفرس: لا يصح شيء من أخبارهم قبل دارا (انظر رقم 3) وأصح أخبارهم ما كان من عهد أردشير (3) . وهذه الأحكام نتيجة جهد بذله ابن حزم في الاطلاع والبحث عن تواريخ الأمم، ولهذا فهو ينصح دارس التاريخ بأن يعتمد هذه النتيجة، فلا يضيع وقته في البحث عما لم يصح من التواريخ، إلا إذا أحب التعب لنفسه، فإنه عندئذ سينتهي إلى ما انتهى إليه ابن حزم.

_ (1) رسالة في مراتب العلوم (في رسائل ابن حزم، ط. القاهرة (1954) ، ص: 78) . (2) المصدر السابق. (3) رغم هذا الوضوح التفصيلي الذي قد يكون ابن حزم مخطئاً في بعض أجزائه، من الغريب أن نجد الأستاذ فرانتز روزنتال يقول: " وإذا صدقنا ابن حزم فإن معظم المعلومات التاريخية التي نقلت إلينا مشكوك في صحتها وأن الإسلام وحده [كذا] يمكن اعتباره معرفة موثوقة " (علم التاريخ عند المسلمين: 55) .

أما علم النسب فإنه يعده جزءاً من " علم الخبر " (1) وهو يدافع بقوة عن هذا الجزء. ويرد قول من قال: علم النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر، ويبين منافعه المتعددة (2) . ويحدد ابن حزم الغايات التي يمكن أن يحققها الاطلاع على تواريخ الأمم بما يلي: 1 - التزهيد في الدنيا: بمعرفة تقلبها بأهلها، ومصاير الملوك الظالمين الذين لم ينفعهم حشدهم للأموال والجيوش. 2 - القدوة الحسنة: إذ يقف المرء على حمد المتقين الأخيار للفضائل فيرغب فيها ويسمع ذمهم للرذائل فيكرهها؛ ويقرأ أخبار الصالحين فيجب أن يكون منهم وأخبار المفسدين فيمقت طرائقهم. 3 - العبرة بالفناء، ودثور الحصون والمدائن وتعاقب الأجيال، وانتقال الأحوال من عمران إلى خراب. 4 - تمييز الصواب من الخطأ في الأخبار: فحين تتناصر التواريخ على تفاوت الأزمان والديانات في نقل قصة، فهي حق، وحين يحدث الخلاف، يدري دارس التاريخ أن القصة مضطربة. 5 - المتعة والرياضة والتنشيط: وذلك لأن علم الأخبار سهل، وعلى الإنسان أن يتعمد قراءته وقت سآمته من درس العلوم الأخرى أو وقت فراغه من العمل فيها. وكل هذه الأغراض يدل على أن التاريخ عند ابن حزم هام جداً في بناء شخصية الفرد، من الوجهة الأخلاقية والنفسية، خصوصاً وأن دارسه لا يحتاج فيه إلى شيخ يوجه خطاه، بل يستطيع أن يعتمد على نفسه في طلبه (3) . وقد توفرت لابن حزم أكثر الوسائل التي تلزم المؤرخ، وفي مقدمتها سعة الاطلاع على المؤلفات التاريخية ومناهجها المختلفة ومنازعها المتعددة، ولقد حاول الدكتور عبد الحليم غويس في كتابه القيم " ابن حزم الأندلسي وجهوده في البحث التاريخي

_ (1) المصدر السابق: 79. (2) جمهرة أنساب العرب: 3 - 6. (3) تتردد الأغراض التي ذكرها ابن حزم عند المؤرخين الذين جاءوا بعده، انظر الإعلان بالتوبيخ: 21 وما بعدها (علم التاريخ عند المسلمين: 412 وما بعدها) حيث ترد آراء ابن الجوزي والعماد الأصفهاني وابن الأثير وسبط ابن الجوزي وغيرهم.

والحضاري " أن يجمع أسماء الكتب التي اطلع عليها ابن حزم وأفادته في هذا المجال (1) . ولكن كل ما يمكن أن يعد في هذا المقام يبدو قاصراً عن تصوير الحقيقة. إذ الواقع أن ابن حزم اطلع على أكثر ما دخل الأندلس من كتب تاريخية كتبها المشارقة. وعلى ما كتبه الأندلسيون أنفسهم، وذلك كله يصور مدى ما حصله في التاريخ الإسلامي بخاصة، فأما تواريخ الأمم الأخرى فيبدو أنه وقف فيها عند مصادر معينة، مثل التوراة والإنجيل وتاريخ يوسيفوس، والأرجح أنه قرأ تاريخ هوروشيوس الذي نقل عن اللاتينية في أيام عبد الرحمن الناصر كما كان واقفاً على التاريخ المعاصر راصداً له أو مشاركاً في صنعه؛ وإلى جانب الاطلاع على المؤلفات اعتمد أيضاً على الروايات الشفوية، ولقاء الشيوخ ومحاورة الأقران، وكان لوالده أقوى الأثر في توجيهه نحو التاريخ، بحكم شخصه ومكانته: فهو مصدر هام لكثير مما نقله من روايات لم تكن تقف عند ظاهر الخبر، بل تفعل في نفسه فعلها، وإلى مثل ذلك يشير بقوله: " حدثني وهزني الوزير والدي نضر الله وجهه " (2) ، ولعل والده هو الذي نبه ذهنه إلى التقاط الغرائب والنوادر، لكثرة ما كان بقص عليه منها، ولمكانته في الدولة كان عارفاً بما يجري حوله من دقائق الأمور، كما أن تلك المكانة جعلت مجلسه حافلاً بشخصيات العصر، وفي ذلك المجلس استمع الابن إلى إلى الأحاديث الدائرة والروايات المختلفة، مثلما استمع إلى الشعراء وهم ينشدون المدائح في أبيه؛ وحين قضت الفتنة البربرية على ابن حزم بمفارقة قرطبة والتجوال في المدن الأندلسية، وسعت لديه مجال المشاهدة، مثلما كثرت من مصداره الشفوية، وأغنت خبرته بتجارب جديدة، ولو قيض لابن حزم أن يرحل إلى المشرق لتمرس بمزيد من الخبرة والاطلاع، ولأضاف إلى ثقافته عن طريق المؤلفات ثقافة عن طريق دراسة المجتمعات والعادات؛ ولا ريب في أنه حاول أن يستعيض عن خهذه الناحية بالإكثار من القراءة في مختلف العلوم فتكونت لديه حصيلة ثقافية متنوعة كان في مقدورها أن تمد مغرفته التاريخية بروافد متعددة (3) .

_ (1) انظر ص: 148 - 161 من الكتاب المذكور. (2) نقط العروس، الفقرة: 76. (3) يقول ابن حزم في معرض الاطلاع والتجربة: " وقد شاهدنا الناس وبلغتنا أخبار أهل البلاد البعيدة وكثر بحثنا عما غاب عنا منها ووصلت إلينا التواريخ الكثيرة المجموعة في أخبار من سلف من غرب وعجم في كثير من الأمم.... " (الفصل 1: 175) .

وحين وردت هذه الروافد الثقافية على الذكاء الطبيعي والصبر على عناء الطلب. تولد عن اللقاء قوتان هما أهم ما يحتاج إليه المؤرخ من وسائل، وأعني يهما القدرة على التصور الصحيح، والنقد الدقيق. أما في مجال التصور الصحيح فيمكن أن يقال أن ابن حزم لم يدرس الجغرافيا أو الاقتصاد دراسة منظمة، ولكن صحة تصوره هي التي هدته إلى أن يجعل من هذين قاعدة لفهم التاريخ أو مناقشة الروايات التاريخية: فهو حين يناقش ما ذكر عن أعداد بني إسرائيل في زمن داود (نصف مليون مقاتل من سبط يهوذا ومليون من تسعة أسباط أخرى وبقي سبطان لم يحص عددهما. هذا عدا الأطفال والنساء والشيوخ وسائر من لا يقدر على القتال) يقول: " البلد المذكور باق لم ينقص، ولا صغرت أرضه، وحده بإقرارهم في الجنوب: غزة وعسقلان ورفح وطرف من جبال الشراة بلد عيسو ... وحدّ ذلك البلد في الغرب البحر الشامي، وحده في الشمال صور وصيدا وأعمال دمشق التي لا يختلفون في أنهم لم يملكوا منها مضرب وتد ... وحد البلد المذكور في الشرق بلاد موآب وعمون وقطعة من صحراء العرب التي هي الفلوات والرمال.... " (1) هذا التصور للجغرافيا يؤدي إلى القول بأن تلك البلاد المذكورة لا يمكن أن تتسع لتلك الملايين، فإذا أضفت إلى ذلك ما جاء في سفر يوشع من أن المدائن التي سكنها عدد من الأسباط لا كلهم بلغت في الإحصاء الكلي أربعمائة مدينة سوى القرى التي لا يحصيها إلا الله عز وجل وجدت ابن حزم يقول: " فاعجبوا لهذه الشهرة أن تكون البقعة التي قد ذكرنا مساحتها على قلتها وتفاهتها تكون فيها هذه المدن " (2) . وتشترك العوامل الجغرافية والاقتصادية اشتراكاً يكاد يكون متلازماً، فإذا قرأ ابن حزم في التوراة أن بني إسرائيل كانوا ساكنين في أرض قوس فقط وأن معاشهم كان من المواشي فقط وأن عددهم هنالك كان ستمائة ألف وثلاثة آلاف (سوى النساء والأطفال) احتكم إلى العاملين الجغرافي والاقتصادي فقال: مالذي يكفي هذا العدد إذا لم يكن لهم من مصدر للقوت والكسوة سوى المواشي " ثم اعلموا يقيناً أن أرض مصر كلها تضيق عن مسرح هذا المقدار من المواشي فكيف أرض قوس وحدها " (3) . وإذا وقع في بعض الروايات على أن جباية سليمان كانت 636000 قنطار من ذهب رغم

_ (1) الفصل 1: 166. (2) الفصل 1: 168. (3) الفصل 1: 177.

صغر المساحة التي تقع تحت حكمه قال: " فهذه الجباية التي لو جمع كل الذهب الذي بأيدي الناس لم يبلغها. من أين خرجت " (1) وإذا قرأ أن ملك السودان غزا بيت المقدس بمليون مقاتل: لم يكتف بالتكاء على عاملي الجغرافيا والاقتصاد بل أضاف إليهما عامل العلاقات السياسية فرفض الخبر (أ) لبعد المسافة وكون أكثرها مفاوز لا تتحمل جيشاً بذلك العدد (ب) ولا بد أن يمر هذا الجيش على مصر فكيف يستطيع ذلك " هذا ممتنع في رتبة الجيوش وسيرة الممالك ". (ج) ومن المستبعد أن يكون ملك السودان قد سمع بشيء اسمه بيت المقدس (2) . وصحة التصور هي المدخل للنقد الدقيق، وقد أفاد ابن حزم في هذه الناحية من رافدين ثقافيين على وجه الخصوص وهما طريقة أهل الحديث والفكر الفلسفي. وتعتمد طريقة أهل الحديث على نقد السند أي على التعديل والتجريح للرواة. ومن نافلة القول أن أؤكد هنا على أهمية الخبر بالنسبة للمذهب الظاهري، وكونه الدعامة الثاني - بعد القرآن - في ذلك المذهب؛ وهذا موقف يستدعي معرفة شاملة دقيقة لعلم الرجال، مثلما يفترض الحذر الشديد في تقبل الخبر، وفي هذه الناحية وضع ابن حزم بين المتعنتين في التوثيق، وانتقده بعضهم لارتكابه عدة أخطاء في حق رواة مشهورين وصفهم بأنهم مجهولون مثل الترمذي والبغوي وإسماعيل بن محمد الصفار وأبي العباس الأصم (3) ، حتى لقد قال ابن حجر في ترجمة الترمذي: " وأما أبو محمد ابن حزم فإنه نادى على نفسه بعدم الاطلاع فقال في كتاب الفرائض من الإيصال: محمد بن هيسى بن سورة مجهول، ولا يقولن قائل: لعله ما عرف الترمذي ولا اطلع على حفظه ولا على تصانيفه، فإن هذا الرجل قد أطلق هذه العبارة في خلق من المشهورين من الثقات الحفاظ ... " (4) كذلك أخذ عليه أنه يجهل من هو كدام بن عبد الرحمن السلمي (5) ويخلط بين كثير بن زيد الأسلمي وكثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو ويقول في الثاني: ساقط متفق على اطراحه والرواية عنه، فيتعقبه البغدادي في ذلك (6) ؛ كما يتعقب الحافظ قطب الدين الحلبي

_ (1) الفصل 1: 219. (2) الفصل 1: 220. (3) الإعلان بالتوبيخ: 168 (علم التاريخ عند المسلمين: 722) وهو ينقل عن ابن حجر، انظر الحاشية التالية. (4) تهذيب التهذيب 9: 388. (5) تهذيب التهذيب 8: 431. (6) تهذيب التهذيب 8: 414 - 415.

ثم المصري ما ورد من أخطائه في كتاب المحلى خاصة (1) . ولا مراء في أن ابن حزم قد وقع في أخطاء لدى قيامه بالتجريح والتعديل، ولكن لهذه الأخطاء تفسيرات مختلفة، وليس الجهل واحداً منها، بل لقد أقر له من سجلوا عليه المآخذ، بأنه كان واسع الحفظ جداً، إلا أنه لثقة (لسعة) حافظته، كان يهجم على القول في التعديل والتجريح وتبيين أسماء الرواة فيقع له من ذلك أوهام شنيعة (2) . ولكن هذه الثقة في الحفظ أو السعة فيه لا تفسر كل شيء، بل هناك أسباب أخرى مضافة إلى تلك الثقة حتى في حال وصفه لأحد المشهورين بأنه مجهول: فالخلاف في التعديل والتجريح يتسع إلى يقل معه الاتفاق بين العلماء بوجه إجماعي على توثيق أحد الرواة، وابن حزم في كثير من علمه في الرجال يعتمد على من سبقوه، فإذا اختار تجريح أحدهم فمعنى ذلك أنه - في أغلب الأحيان - اتبع في الحكم عليه أحد السابقين، ولذلك فليس حجة على ابن حزم أن يقال: فلان وثقه ابن معين أو عده ابن حبان في الثقات. فهذا محمد بن سليمان المشمولي المخزومي ذكره ابن حبان في الثقات، كما ذكره العقيلي والساجي والدولابي وابن الجارود في الضعفاء، فليس أحد الموقفين بملزم لابن حزم، وإنما هو يحكم رأيه فيما يراه مناسباً، ولهذا يقول فيه: منكر الحديث (3) .

_ (1) أورد ابن حجر (في لسان الميزان 4: 201 - 202) أمثلة مما أخذه عليه القطب، فمن ذلك عند إيراده حديث لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر، قال: الرواية في هذا الباب ساقطة مطروحة مكذوبة، فذكر منها طريق يسار مولى ابن عمر عن كعب بن مرة وقال: يسار مجهول ومدلس، وكعب لا يدري من هو، قال القطب: يسار قال أبو زرعة مدني ثقة. وقال ابن حزم في حديث عائشة، قلت: يا رسول الله قصرت وأتممت وصمت وأفطرت قال: أصبت يا عائشة، انفرد به العلاء بن زهير وهو مجهول، قال القطب: أخرج الحديث النسائي والدارقطني وروى عن العلاء وكيع وأبو نعيم والفريابي وغيرهم وقال ابن معين: ثقة. وقال ابن حزم في حديث أم سلمة: كنت ألبس أوضاحاً من ذهب ... الحديث؛ عتاب: مجهول؛ قال القطب: أخرج الحديث أبو داود محمد بن عيسى بن الطباع عن عتاب وهو ابن بشير، عن ثابت بن عجلان عن عطاء عنها؛ وعتاب هو ابن بشير الجزري روى عنه إسحاق بن راهويه ومحمد بن سلام البيكندي وغيرهما، وأخرج له البخاري، وأخرج الحديث المذكور الحاكم في المستدرك، وقال ابن معين: ثقة. وقال ابن حزم في الحديث الذي أخرجه النسائي من طريق المرقع بن صيفي عن جده رباح بن الربيع: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لرجل: أدرك خالداً فقل له لا تقتل ذرية ولا عسيفاً؛ المرقع مجهول؛ قال القطب روى عنه ولده عمر ويحيى بن سعيد الأنصاري ويونس بن أبي إسحاق وأبو الزناد وموسى بن عقبة، وذكره ابن حبان في الثقات، فليس بمجهول. (2) لسان الميزان 4: 198. (3) لسان الميزان 5: 186.

ومن أهم أسباب الخلاف في التصحيف في أسماء الرواة (1) ، وقلب النسب، أو الاختصار فيه أو سقوط بعض أجزائه (2) أو التشابه في الاسم والنسب معاً (3) ؛ وعن هذه الطرق يدخل الوهم وتتباين الأحكام ويتسع مجال الاختلاف. ومهما يكن سبب ما عد على ابن حزم من أخطاء، فإن ما يهمنا هنا هو المنهج الذي أمده به علم الحديث، وهو منهج يتحرى الدقة ويتشدد في محاكمة السند، وربما لم يحتج ابن حزم إلى كل ذلك في موقفه من الروايات التاريخية، ولكن روح المنهج الحديثي تلبست به ووجهت فكره، وسنى أثرها لديه فيما يلي عند الحديث عن أحكامه التاريخية. ولو انفرد هذا المنهج في أثره لكان ابن حزم - في الأرجح - سلبي الموقف من التاريخ والروايات التاريخية، إذ لا يمكن أن يصل التحري هنا إلى ما يصل إليه في علم الحديث، ولكن ذلك المنهج توازى مع مؤثر آخر، هو تفتح فكره على الدراسات الفلسفية والمنطقية، فهذه الدراسات هي التي مهدت لديه تحكيم العقل في الرواية نفسها لا في رواتها، ورفضها على أساس عقلي، كما وسعت لديه الآفاق التي يستطيع أن يرودها بفكره، بحيث يتجاوز موقفه الظاهري الذي يحرص عليه في باب التشريع؛ وقد لحظ بعض الأقدمين هذه الازدواجية لديه فقال ابن كثير: " والعجب كل العجب منه أنه كان ظاهرياً حائراً في الفروع لا يقول بشيء من القياس لا الجلي ولا غيره،.... وكان مع هذا من أشد الناس تأويلاً في باب الأصول وآيات الصفات وأحاديث الصفات لأنه كان أولاً قد تضلع من علم المنطق ... " (4) ؛ وهذا الذي

_ (1) تصحف جميل بن كريب لدى ابن حزم فأصبح جميل بن جرير (لسان الميزان 2: 135) وحبة بن مسلم فأصبح حبة بن سهل (2: 166: 167) . (2) الأمثلة في ذلك كثيرة؛ فقد ذكر ابن حزم: نصر بن عاصم الأنطاكي وصحح له حديثاً في المحلى؛ والاسم خطأ وصوابه عبد الله بن نصر الأصم؛ فسقط عبد الله من النسب وصحف الأصم بعاصم (لسان الميزان 6: 155) . (3) مثال ذلك عبد الله بن عمرو بن لويم، قال ابن حزم فيه: مجهول، وعده غيره في الصحابة، فقال ابن حجر معلقاً: " ثم ظهر لي أن ابن حزم ما عنى هذا وإنما عنى آخر يوافقه في الاسم والأب والجد " (لسان الميزان 3: 321) . (4) البداية والنهاية 12: 92 ومما لا ريب فيه أن ابن كثير كان معجباً بابن حزم حتى أنه رأى الشيخ محيي الدين النواوي في المنام (ليلة الاثنين 22 محرم 763) فسأله: يا سيدي الشيخ لم لا أدخلت في شرحك المهذب شيئاً من مصنفات ابن حزم فقال ما معناه إنه لا يحبه، فقال ابن كثير: أنت معذور فيه فإنه جمع بين طرفي النقيضين في أصوله وفروعه، أما هو في الفروع فظاهري جامد لابس وفي الأصول تول مائع قرمطة القرامطة وهرمس الهرامسة.... قال ابن كثير: ثم أشرت له إلى أرض خضراء تشبه النجيل بل هي أردأ شكلاً منه لا ينتفع بها في استغلال ولا رعي، فقلت له: هذه أرض ابن حزم التي زرعها؛ قلت: فانظر إلى دلالة هذا المنام ما أعمقها: ابن كثير حزين في دخلة نفسه لأن الشيخ لم يقتبس من مصنفاته ولكنه بقوة العامل الخارجي مدفوع إلى إنكاره وهو يكرر في المنام رأياً جهر به في اليقظة، ثم يرى ما زرعه ابن حزم خضرة تسر النظر لكنه مدفوع إلى إنكارها لأن أرضها لا تستغل (حتى النواوي لم يستغلها) .

يقوله ابن كثير يعد " ملمحاً " جيداً وإن لم يثبت في بعض أجزائه للمناقشة، ولكنه يفتح الباب للقول بأن ابن حزم الذي أنكر العلل - مثلاً - في الشريعة إنما كان في محاكماته للأخبار التاريخية يبحث عن الأسباب والعوامل الكامنة وراء تلك الأحداث والأخبار، وأنه كان يفيء إلى تحكيم العقل في طبيعة الخبر، إلى جانب اعتماد توثيق الرواة، حتى في بعض ما يدرجه غيره ضمن الأحاديث نفسها. ولنأخذ مثلاً واحداً على ذلك وهو حديث " هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر " فقد رواه سليمان بن محمد الخزاعي عن هشام بن خالد عن بقية عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة فرده ابن عبد البر بقوله: " سليمان لا يحتج به " أي أنه لم يقبل الحديث لضعف الراوي (1) . وقال فيه ابن حزم: وقد أقدم قوم فنسبوا هذا القول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا باطل ببرهانين: أحدهما أنه لا يصح من جهة النقل أصلاً ... والثاني أن البرهان قد قام على أن علم النسب علم ينفع، وجهل يضر في الدنيا والآخرة ولا يحل لمسلم أن ينسب الباطل المتيقن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ، فاتكأ على المنهجين معاً في رفضه أن يكون ذلك القول حديثاً. كل تلك العوامل من سعة الاطلاع وخبرة بالإنسان وأحوال العمران الإنساني وصحة في التصور ودقة في النقد، النقلي والعقلي، كانت متوفرة لدى ابن حزم ليكون في طليعة المؤرخين، ولكنه لم يصبح كذلك، واكتفى بموقف هامشي للتاريخ في مؤلفاته، ولا بد أن يكون لهذه الظاهرة أسبابها. وفي مقدمة تلك الأسباب النظر إلى التاريخ على أنه أداة لا غاية في ذاته، وأنه يفيد في شيئين: التربية النفسية الأخلاقية، وخدمة الشريعة (كالحال في سائر العلوم عدا الشريعة) " فإن اشتغل مغفل عن علم الشريعة بعلم غيره فقد أساء النظر وظلم نفسه، إذ آثر الأدنى والأقل منفعة على الأعلى والأعظم منفعة، فإن قال قائل إن في علم العدد والهيئة والمنطق معرفة الأشياء على ما هي عليه، قلنا إن هذا حسن إذا قصد به الاستدلال على الصانع للأشياء بصنعته،

_ (1) لسان الميزان 3: 103 - 104. (2) الجمهرة: 4.

ليتدرج بذلك إلى الفوز والنجاة والخلاص من العذاب والنكد " (1) ، فكل العلوم ومنها التاريخ أدوات توصل في النهاية إلى الفوز والنجاة، وهي المطلب الأسمى، وذلك عن طريق ما تؤديه تلك العلوم من فهم للخالق وإقرار بالنبوة، وإسعاف على فهم علم الشريعة جملة؛ وقد بلغ ابن حزم هذا الموقف على أثر الإخفاق السياسي الذي منيت به الأندلس بعيد الفتنة البربرية، وإخفاقه هو في الاحتفاظ بالمجد الدنيوي أو في العمل السياسي، وفي ما أصبح يعانيه من وضع اقتصادي، وكان البديل عن كل ذلك زهدية معتدلة توجه خطواته، وتحدد غايته على نحو واضح، وهي التوجه الكلي إلى الآخرة، والإكباب على الشريعة وتسخير جميع القوى والروافد في خدمتها؛ وقد فعلت في نفسه تلك الكلمة التي سمع محمد بن إسحاق الزاهد يقولها لأبيه: " احرص على أن لا تعمل شيئاً إلا بنية فإنك تؤجر في جميع أعمالك، فإنك ترى ذلك في ميزان حسناتك " (2) ؛ وقد لقنته الفتنة درساً عميقاً وأملت عليه قبول التقلب في ارتفاع وهبوط، دون تذمر أو شكوى، وكانت تعرض له تلك الحكمة التي سمعها من أبيه ذات يوم: إذا شئت أن تحيا غنياً فلا تكن ... (3) على حالة إلا رضيت بدونها وأخذ يبحث في التاريخ عن النموذج الأعلى الذي تمثله هذه الحكمة، فوجده في الرسول، ولهذا لخص طريقته في الحياة بكلمات عميقة الدلالة: يلبس الشعر إذا حضره، ويلبس الوشي من الحبرات إذا حضره،.... ومرة يأكل التمر دون خبز، والخبز يابساً، ومرة يأكل العناق المشوية ... يأخذ القوت ويترك الفضل، ويترك ما لا يحتاج إليه، ولا يتكلف فوق مقدار الحاجة إليه (4) .... بل إن علم الشريعة نفسه الذي يرفده الاطلاع على سائر العلوم لا يطلب من أجل ذاته أو من أجل الدنيا، " واعلم أن من طلب علم الشريعة ليدرك به رياسة أو يكسب به مالاً فقد هلك، لأنه طلبه لغير ما أمره به خالقه أن يطلبه، لأن خالقنا، عز وجل، إنما أمرنا أن نطلب ما شرع لنا لننجو به بعد الموت من العذاب والسخط ... (5) ".

_ (1) رسائل ابن حزم (1954) : 74. (2) الجذوة: 41. (3) الصلة: 31. (4) رسائل ابن حزم (1954) : 143، والجزء الأول من رسائله (1980) : 377. (5) رسائل ابن حزم (1954) : 55 " من رسالة التوقيف على شارع النجاة.... ".

لقد عاش ابن حزم لحظات " انحدار " التاريخ، في نفسه، التاريخ بمفهومه الكلي؛ فعلاً وفكراً؛ وفي لحظة ذلك الانحدار نفسه عاش رجل وقف ملكاته على التاريخ جاعلاً منه وسيلة وغاية، وكان " رد الفعل " لديه على ذلك الانحدار أن توقف عن كتابة التاريخ كأنما تعطلت حركته جملة واحدة - أعني حركة التاريخ - ذلك هو ابن حيان الذي يقول: " وأنسأتني المدة إلى أن لحقت بيدي منبعث هذه الفتنة البربرية، الشنعاء المدلهمة، المفرقة للجماعة، الهادمة للمملكة المؤثلة، المغربة الشأو على جميع ما مضى من الفتن الإسلامية، ففاضت أحوالها تعاظماً أدلهني عن تقييدها، ووهمني ألا مخلص منها، فعطلت التاريخ إلى أن خلا صدر منها ... " (1) . ولقد كان إحساس الرجلين تجاه ذلك الانحدار متشابهاً، وإن اختلفا في السلوك العملي بعده، فقد عبر عنه ابن حيان بقوله في الفتنة: " فتمخضت عن الفاقرة الكبرى ... مما طوى بساط الدنيا وعفى رسمها وأهلك أهلها " (2) وقال ابن حزم في ذهاب الدولة الأموية: " وبهدمها انهدمت الأندلس إلى الآن، وذهب بهاء الدنيا بذهابها " (3) . وكانت معاصرة ابن حيان لابن حزم تعطيه النموذج الكبير لمعنى التاريخ، فتقنعه بأنه ما دام قد آثر الشريعة لا يستطيع أن ينقطع للتاريخ كما فعل ابن حيان، ولعله أحس أنه لا يستطيع أن يزاحمه في ذلك الميدان؛ ثم إن علاقته التاريخية بالحاضر واهية الجذور، لأنها تتصل بالماضي وتعيش في ذكرياته، فالحاضر - على مستوى التاريخ - لا يمثل له إلا أحداثاً موصولة الأسباب بالفتنة التي قضت على وحدة الجماعة، وهو غير راضٍ عن تلك الأحداث وعن أصحابها في المجال السياسي؛ والحاضر - على مستوى الشريعة - هو العمل الدائب نحو المستقبل، للنجاة الذاتية ولنجاة الآخرين - إن أمكن -، وفي هذا الموقف يصبح التاريخ السياسي وما يتصل به " طغياناً " مستمراً وخروجاً عن الشريعة واغتراراً بالدنيا وتكالباً عليها، مما هو سلبي خالص لا يفيد إلا في استلهام العبرة بهذا العبث الدائب. ولهذا كان ابن حزم غير راضٍ عن ملوك الطوائف قبل أن تحرق كتبه، وإن ألجأته الضرورات إلى العيش في كنف الصالحين منهم كأصحاب البونت أو كأحمد بن رشيق وزير مجاهد في ميورقة، فهو يقول في مفتتح إحدى رسائله: " اللهم إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب عن عمارة شريعتهم

_ (1) الذخيرة 1/2: 576. (2) الذخيرة 1/1: 36. (3) البيان المغرب 2: 40.

اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم، وبجمع أموال ربما كانت سبباً إلى انقراض أعمارهم وعوناً لأعدائهم عليهم عن حياطة ملتهم التي بها عزوا في هاجلتهم وبها يرجون الفوز في آجلتهم ... " (1) ويقول في موضع آخر: " وهي فتنة سوء أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى من وجوه كثيرة يطول لها الخطاب. وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أو حصن في شيء من أندلسنا هذه أولها عن آخرها محارب لله تعالى ورسوله وساع في الأرض بفساد، والذي ترونه عياناً من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية ... وإباحتهم لجندهم قطع الطريق ... ضاربون للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطون لليهود على قوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية والضريبة من أهل الإسلام، معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله، غرضهم فيها استدام نفاذ أمرهم ونهيمهم.... (2) ثم يقول: " والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم.... وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه " (3) . ومن كان يحمل هذه النظرة، فإنه لا يرى في اللجوء إلى التاريخ " منقذاً " لنفسه ولغيره، بل هو يرى فيه تخليداً لأعمالٍ ظالمة لا يقرها، ولا تضيف شيئاً كثيراً إلى العبرة المستمدة من سير الظالمين على مدى العصور. وليس من الغلو في الاستنتاج أن يقال إن اختيار ابن حزم للظاهر، إنما كان ثورة في الأساس على ما لا يرضاه من سلوك العلماء الذين يتقربون من الحكام؛ وليس معنى ذلك أن جميع العلماء - وخاصة المالكية - كانوا يفعلون ذلك، بل كان فيهم الصالحون الذين يشاركون ابن حزم في ثورته على الظلم ومبارحة الشريعة، ولكن اختياره للظاهر، يجعل أولئك الحكام في غير حاجة إليه، فيبعده عنهم ويبعدهم عنه، ويمكنه من الاستقلال العلمي والاقتصار على تخريج الطلبة، وهكذا اتخذ من التمذهب للظاهر حجاباً يحول بينه وبين تقديم الفتاوى لهم أو المشاركة في تسويغ أفعالهم؛ وقد لحظ هو وابن حيان معاً ظاهرة التعاون بين بعض رجال الدين والحكام فسمى هو مثل أولئك العلماء فساقاً ينتسبون إلى الفقه، ويلبسون جلود ضأن على قلوب

_ (1) الرد على ابن النغريلة: 47. (2) الرد على ابن النغريلة: 173 - 174. (3) المصدر السابق: 177.

سباع، ويزينون لأهل الشر شرهم (1) . وقال ابن حيان يصف وحدة الحال بين الفريقين: " ولم تزل آفة الناس مذ خلقوا في صنفين منهم، هم كالملح فيهم، الأمراء والفقهاء، قلما تتنافر أشكالهم، بصلاحهم يصلحون، وبفسادهم يردون، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا هذين، بما لا كفاية له ولا مخلص منه، فالأمراء القاسطون قد نكبوا بهم عن نهج الطريق ... والفقهاء أئمتهم صموت عنهم، صدوف عما أكد الله عليهم في التبيين لهم، قد أصبحوا بين آكل من حلوائهم، خائض في أهوائهم، وبين مستشعر مخافتهم آخذ بالتقية في صدقهم، وأولئك هم الأقلون فيهم، فما القول في أرض فسد ملحها الذي هو المصلح لجميع أغذيتها! " (2) . ومواطن اللقاء بين الرجلين متعددة، ولكن لا تلبث أن تفترق بهما الطريق، فأما ابن حيان فقد وسع من جنبات التاريخ ليصبح شاهداً لا على عصره وحده، بل على تاريخ الأندلس كله، معتمداً التفصيلات التي لا يكاد يضيع منها شيء (3) ، شاملاً بنظره جميع مظاهر الحياة الإنسانية، واقفاً في الوقت نفسه موقف الإدانة لعصره - كما فعل ابن حزم - إلا أنها إدانة شمولية موثقة بشواهدها. وأما ابن حزم فضاق نطاق التاريخ عنده - على معرفته الدقيقة بدقائقه وتفصيلاته - (وأكبر شاهد على ذلك نقط العروس) ، ولذلك اكتفى بأن يستخدمه في غايات محددة لا يعدوها: منها الغاية التعليمية التي جعلته يتوفر على تلخيص ما لا بد للدارس من معرفته، فلخص السيرة والفتوح الإسلامية وأسماء الخلفاء في المشرق والمغرب ومدد حكم كل منهم، ولخص أنساب العرب والبربر في موجز جامع؛ ومنها الاستدلال بالتاريخ على القضايا المتصلة بالأديان وتواريخها، ولهذا لخص تاريخ اليهود - لا من أجل التاريخ نفسه، بل من أجل أن يثبت عدم التزام اليهود بالتوراة في أكثر العهود؛ ومنها إثارة النظر الإنساني إلى العجائب والنوادر، ولهذا ذهب يجزئ التاريخ في قضايا صغيرة مثيرة، فكتب " نقط العروس "؛ ولعله لم يخرج في تأريخه لغزوات المنصور بن أبي عامر عن روح الإيجاز التي سيطرت عليه في كتاباته التاريخية الأخرى. وقد أثر فيه نهج المحدثين في الجرح والتعديل، فجعل أحكامه التاريخية نموذجاً

_ (1) المصدر السابق: 174. (2) الذخيرة 1/3: 180 - 181. (3) انظر مقدمة الدكتور مكي علي المقتبس (ط. مصر) ص: 87 وبخاصة: 98 حيث يتحدث عن اللقاء في النظرة إلى الفتنة بين ابن حزم وابن حيان.

آخر من هذا المنهج، إذ جنح إلى التركيب لا إلى التحليل، في الحكم على الأشخاص والعهود، وهو في هذا يتفق وابن حيان في الإدانة أو ما يسميه ابن بسام تسجيل المثالب (1) ، ولكنهما يختلفان في الطريقة، إذ ما يزال ابن حيان مولعاً بالتحليل مستقصياً فيما يقول، بينما يذهب ابن حزم إلى الإجمال. وقد نجد نماذج من ذلك في جميع الرسائل التي جمعت معاً في هذا الجزء، ولهذا يكفي في مقام الاستشهاد أن أورد أمثلة قليلة. فمن أحكامه على الأشخاص قوله في الحكم الربضي: " وهو الذي أوقع بأهل الربض، وقتل الفقهاء والخيار وخصى عدداً من ذوي الجمال من أهل قرطبة ... وهدم الديار والمساجد وولى ذلك رجلاً نصرانياً كان أثيراً عنده اسمه ربيع " (2) . وذكر الأمير عبد الله بن محمد فقال: " كان قتّالاً تهون عليه الدماء، مع ما كان يظهره من عفته، فإنه احتال على أخيه المنذر لما قصده بالعسكر، وواطأ عليه حجاماً سم المبضع الذي فصده به، ثم قتل ولديه معاً بالسيف واحداً بعد واحد وقتل أخاه القاسم ثالثهم، إلى من قتل من غيرهم ". (3) ويقول في سليمان بن الحكم المتلقب بالمستعين: " وهو الذي كان شؤم الأندلس وشؤم قومه، وهو الذي سلط جنده من البرابرة فأخلوا مدينة الزهراء وجمهور قرطبة حاشا المدينة وطرفاً من الجانب الشرقي، وأخلوا ما حوالي قرطبة من القرى والمنازل والمدن وأفنوا أهلها بالقتل والسبي وهو لا ينكر ولا يغير عليهم شيئاً " (4) إلى أمثلة أخرى كثيرة لا مجال لاستقصائها. ومن أحكامه على العهود والدول قوله الجامع في وصف الدولتين الأموية والعباسية: " وانقطعت دولة بني أمية، وكانت دولة عربية لم يتخذوا قاعدة، إنما كان سكنى كل امرئ منهم في داره وضيعته التي كانت له قبل الخلافة، ولا أكثروا احتجان الأموال ولا بناء القصور، ولا استعملوا مع المسلمين أن يخاطبوهم بالتمويل ولا التسويد ويكاتبوهم بالعبودية والملك، ولا تقبيل الأرض ولا رجل ولا يد، وإنما كان غرضهم الطاعة الصحيحة من التولية.... فلم يملك أحد من ملوك الدنيا ما ملكوه من الأرض،

_ (1) هذا لا يعني أن ابن حزم أو ابن حيان لم يكن يسجل إلا المثالب، ولكن ابن بسام حين جمع هذه المثالب في نطاق وهو يترجم لابن حيان أعطاها بروزاً صارخاً لا يقف إلى جانبه شيء آخر. (2) الجمهرة: 95 - 96. (3) أعمال الأعلام (بروفنسال) : 26. (4) الجمهرة: 102.

إلى أن تغلب عليهم بنو العباس بالمشرق، وانقطع بهم ملكهم، فسار منهم عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس، وملكها هو وبنوه، وقامت به دولة بني أمية نحو الثلاثمائة سنة، فلم يك في دول الإسلام أنبل منها، ولا أكثر نصراً على أهل الشرك، ولا أجمع لخلال الخير، وبهدمها انهدمت الأندلس إلى الآن، وذهب بهاء الدنيا بذهابها. وانتقل الأمر بالمشرق إلى بني العباس ... وكانت دولتهم أعجمية، سقطت فيها دواوين العرب، وغلب عجم خراسان على الأمر، وعاد الأمر ملكاً عضوضاً محققاً كسروياً.... " (1) . وفي مثل هذا الحكم على الدول يتضح " الجانب التركيبي " في نظرات ابن حزم، بحيث يستطيع المرء أن يحل هذه المركبات في بحوث مفردة، وتبدو في ذلك مهارة ابن حزم في انتقاء السمات المميزة، مثلما يبدو جانب هام آخر من حس المؤرخ لديه، وذلك أنه لا ينظر إلى منجزات الدولة الواحدةنظرته إلى بعض الأفراد من ذوي المسؤولية فيها، وإنما يرى هذه المنجزات من منظار المميزات الكبرى، وتلك تتجلى في ما أصاب الجماعة من خير، فقد يعيب هو الوليد بن عبد الملك ويصفه بالطغيان (2) أو يعيب مروان بن الحكم ويتهمه بأنه شق عصا الجماعة ويقول فيه: " مروان ما نعلم له جرحة قبل خروجه على أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما " (3) ولكنه يبرز الخصائص الإيجابية التي تتميز بها الدولة الأموية بكلمات دقيقة دالة، ولا يضع سيئات الأفراد على كاهل الدولة كلها. ومع ذلك نجد ابن حيان يقول فيه: " وكان مما يزيد في شنآنه تشيعه لأمراء بني أمية ماضيهم وباقيهم بالمشرق والأندلس، واعتقاده لصحة إمامتهم، وانحرافه عمن سواهم من قريش حتى نسب إلى النصب لغيرهم " (4) . وهذه المقولة تستحق نقاشاً متأنياً، وأول ما يجب أن نقف عنده لفظة " تشيعه "، فهذه اللفظة تدلُّ على الموالاة والمحبة والتقدير، دون أن يدخل فيها معنى العصبية التي قد تؤسس أحياناً على غير حق وتصبح تعصباً؛ وهذا " التشيع " يتفق وما قلناه عن تقديره لدور الدولة جملة، ولكنه لا يعني إغماض الطرف عن سيئاتها وعن سيئات القائمين على أمورها؛ ويكفي

_ (1) البيان المغرب 2: 39 - 40. (2) نقط العروس، الفقرة (ف) : 22، ص: 71. (3) مقدمة جوامع السيرة: 12 - 13 نقلاً عن المحلى 1: 236. (4) الذخيرة 1/1: 169.

المرء أن يجمع أحكام ابن حزم في أفراد بأعيانهم من أمويي المشرق والمغرب ليدرك أنه كان أبعد من أن يوصف بالتعصب، ولكنه كان يرى للدولة الأموية في الأندلس دورها الكبير ويقارن بين ما كانت عليه الأمور في عهدها وما صارت إليه في عهد ملوك الطوائف، فلا يستطيع منطق وحدة الجماعة عنده أن يقبل ذلك التفكك والتناحر، ولا يستطيع منطق السيادة كما كانت تمثله الدولة الأموية أن يتقبل منطق العبودية الذي كانت تمارسه دول الطوائف. وليس بمستغرب بعد هذا أن يعترف بصحة إمامة الأمويين في المشرق والمغرب. وأما انحرافه عمن سواهم من قريش فإنه كلام غير دقيق، وحسبك أنه يؤمن بخلافة ابن الزبير ولا يؤمن بخلافة مروان، وأنه لا ينكر دور بني العباس في الخلافة وما كان لهم من مآثر. ولم يكن في الأندلس من القرشيين - عدا الأمويين - إلا بنو حمود، وهؤلاء لديه كسائر ملوك الطوائف من غير قريش. وتظل مقولة ابن حيان حول تشيعه في بني أمية صحيحة - على أن تكون بارئة من العصبية - ومثل هذا الموقف زاد في بغض الحكام المعاصرين له من ملوك الطوائف، وهذا أيضاً صحيح، لأنهم كانوا يبغضونه لصراحته في الحق وإنحائه على تصرفاتهم بالملامة، فإذا عرفوا فيه حبه لبني أمية زاد ذلك في شنآنهم له. وهذا الحب للأمويين لم يكن سراً خافياً بل لعله اتصل بالواقع العملي، ولكن المتصدين وجدوا طريقهم للإيقاع بابن حزم عن طريق ذلك الحب، يقول هو في هذا الصدد: " وفي أثر ذلك (أي بيعة علي بن حمود) نكبني خيران صاحب المرية، إذ نقل إليه من لم يتق الله عز وجل من الباغين - وقد انتقم الله منهم - عني وعن محمد بن إسحاق صاحبي أنا نسعى في القيام بدعوة الدولة الأموية، فاعتقلنا عند نفسه أشهراً ثم أخرجنا على جهة التغريب فصرنا إلى حصن القصر " (1) . والشيء الذي أود أن أتوقف عنده في هذا المقام هو أن ابن حزم صادق حين ينفي عن نفسه السعي في القيام بدعوة الأموية، ولكن الباغين كانوا يعرفون فيه حبه للدولة الأموية ويكيدون له من ذلك المدخل، ويلصقون به تهمة يسهل تصديقها. وقد كان هو - وإن لم يسع بنفسه لعودة الأموية - يحب عودتها، ويمني النفس بذلك عند ظهور المرتضى (407 هـ) ، فقد غادر المرية إلى بلنسية عند ظهور المرتضى بها (2) ، وأكبر الظن أنه فعل ذلك لأنه كان يؤمل عودة الخلافة، فلما عادت على وجه اليقين بمبايعة المعتد (417) أصبح

_ (1) طوق الحمامة في الجزء الأول من رسائله (1980) : 261. (2) المصدر السابق: 262.

ابن حزم أحد وزرائه. ولا يمثل ابن حزم خروجاً على جمهرة المشاعر الأندلسية في نزعته الأموية، ولكنه كان أحد ألسنتها المعبرة عن " الأكثرية الصامتة "، وموقف ابن حزم ونظرائه ممن شهدوا فترة التحول في مقدرات الأمور وذهبت أفكارهم وأخيلتهم تقيم المقارنات بين ما كان وما صار موقف طبيعي، يحسه من لا تسمح لهم ظروف التحولات الحاسمة بسوى الموازنة والمقارنة، حتى ليبدوا هذا الجنوح إلى الموازنة والمقارنة عاملاً معطلاً في الانتفاع والاستمتاع بمرافق الحاضر الراهن، وقد صور ابن حزم ذلك في صرخة ذاتية أطلقها حين قال: " وإن حنيني إلى كل عهد تقدم ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء.... وإني لقتيل الهموم في عداد الأحياء ودفين الأسى بين أهل الدنيا " (1) . وحين احتجبت الأموية ولم يبق منها إلا الحنين الواله إلى عهودها شحذت إلى درجة الإرهاف مشاعر الحبِّ للأندلس؛ وهو حب يتجلى لدى ابن حزم في إبرازه للفكر الأندلسي ودفاعه عن مآثر بلده، ويتجلى بقوة في رسالته في فضل الأندلس. لا أقول إن تلك عصبية، بل أقول إنها شعبة عميقة من حب الوطن، حين تلوح في الأفق علامات إشرافه على الضياع، وقد كانت العلامة المنبئة بضياعه هي احتجاب الأموية وانفراط عقد الجماعة. وقد نقع في تلك الرسالة - إلى جانب الإحصاءات السريعة للمنجزات الفكرية الأندلسية - على عبارات مثل: " ونحن إذا ذكرنا ابا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي في الشعر لم نباه به إلا جريراً والفرزدق لكونه في عصرهما، ولو أنصف لاستشهد بشعره، فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين " (2) ومثل قوله: " ولو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا أحمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار بن برد وحبيب والمتنبي..... " (3) فهذه الأحكام وأمثالها يجب ألا تحملنا على نسبة العصبية لابن حزم، فإنما هي أحكام نقدية تقود على التذوق ويتفاوت فيها الناس؛ وإذا تجاوزنا الأحكام النقدية وجدنا ابن حزم يتحدث عن مآثر بلده دون تزيد، ودون لجوء إلى التعميم. استمع إليه وهو يقول: " وأما العدد والهندسة فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ ولا تحققنا به، فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المحسن من

_ (1) طوق الحمامة في الجزء الأول من الرسائل (1980) : 125. (2) رسالة في فضل الأندلس، ف: 21. ص: 187. (3) المصدر نفسه.

المقصر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا " (1) أو حين يقول: " وأما علم الكلام فإن بلادنا وإن كانت لم تتجاذب فيها الخصوم ولا اختلفت فيها النحل، فقل لذلك تصرفهم في هذا الباب، فهي على كل حال غير عرية عنه ... " (2) تجد تواضعاً في الحكم وروحاً علمية أمينة. وكل ذلك ينفي نزعة التعصب، لأن التعصب معناه أن نبرز الحسنات ونخفي السيئات، وليس كذلك ابن حزم، فهو من ذلك الجيل من المفكرين الأندلسيين الذين قال فيهم الدكتور محمود مكي محقاً: " والمفارقة الصارخة التي تبدو عجيبة لأول وهلة هي أن هذا الجيل الذي أشرنا إلى مدى اعتداده بقوميته وبوطنه ... كان أكثر كتّاب الأندلس ومفكريها إلحاحاً على نقد شعبهم وحدةً في إظهار عيوبه ... " (3) . وكان هذا التمجيد لتراث الأندلس في الماضي والحاضر لم يستطع أن يطمس أمام عيني ابن حزم انهيار الحاضر، لأن الوعاء السياسي - وهو الذي يستوعب جميع النشاطات الإنسانية الأخرى ويؤثر فيها - كان في نظره منهاراً، ولهذا لم يجوز أن يفهم الماضي على ضوء الحاضر، والشاهد على ذلك أن قوماً يقولون - مثلاً - إن يوسف الصديق كان في مقدوره أن يعرف أباه خبره لقرب المسافة، وهذا في رأي ابن حزم جهل ممن يقوله: لأن أباه يعقوب كان في أرض كنعان من عمل فلسطين في قوم رحالين وفي طاعة أخرى ودين آخر " كالذي بيننا اليوم وبين من يصاقبنا من النصارى كغاليس وغيرها أو كصحراء البربر ". وإنما كان هذا التعريف ممكناً لمن يرى " أرض الشام ومصر لأمير واحد وملة واحدة ولساناً واحداً وأمة واحدة والطريق سابل، والتجار ذاهبون وراجعون، والرفاق سائرة ومقبلة، والبرد ناهضة وراجعة " (4) . ومعنى ذلك كله أن التغيرات التي جدت بمرور الزمن لا تسمح بمثل هذا القياس، فالتباعد بين الماضي والحاضر في السيادة والوحدة الدينية واللغوية والوحدة الإقليمية وسهولة المواصلات واستتباب الأمن ونشاط العلاقات التجارية وتنظيم البريد يمنع من مثل ذلك. وكل هذه العوامل التي جدت تجعل الماضي مختلفاً عن الحاضر؛ لكن على ضوء الحاضر نفسه يمكن أن تفهم مسافة الخلف بينه وبين الماضي، فأما قياس التطابق

_ (1) المصدر السابق، ف: 16، ص: 185. (2) المصدر السابق، ف: 18، ص: 186. (3) مقدمة المقتبس (ط. مصر) : 91. (4) الفصل 4: 12.

- من دون أخذ بمعالم التغير - فأمر يوقع صاحبه في الخطأ. ولعلنا لو توقفنا غند المعالم التي عدها ابن حزم لوجدناه يجمع فيها أهم مقومات الدولة. غير أن الاستشهاد بالتاريخ على التاريخ قد يكون ممكناً بل ضرورياً إذا كان الواقع المدروس قد بلغ منزلة القانون الطبيعي أو أصبح علامة على طبيعة إنسانية راسخة لا يلحقها التفاوت ويندر فيها الشذوذ، أي أصبح شيئاً يشبه القاعدة العامة. فمن المشاهد في الحاضر والذي دلَّ عليه البحث التاريخي معاً أن الكثرة البالغة في الأطفال ظاهرة غير متوفرة إلا في النادر، وذلك للأسباب الآتية (1) : 1) - لصعوبة تنشئة الأطفال وتربيتهم. 2) - لوقوع حوادث الإسقاط بكثرة. 3) - لإبطاء الحمل وتطاول المدة بين بطن وآخر. 4) - لكثرة الموت في الأطفال. وهذا بعينه يدلّ على أن الكثرة في الذكور لا يمكن أن تكون كثرة بالغة خارجة عن المعتاد لأن كثيراً من الولادات إناث، ومثل هذا الأمر يجعلنا نشك في الأخبار التي تنبئ بخلاف ذلك - كما هي الحال في الأعداد المذكورة في التوراة - أو نعدها شذوذاً خارجاً على القاعدة. والسبيل إلى إثبات غلبة هذه القاعدة أن نرصد ما حولنا، وأن نستقرئ الأخبار عن القضية التي نعالجها، فماذا نجد نجد أننا لو أردنا أن نعد من عاش له عشرون ولداً فصاعداً من الذكور وبلغوا الحلم لم نجدهم إلا في الندرة وفي القليل من الملوك وذوي اليسار المفرط الذين يستطيعون تزوج عدد من النساء والإماء والاعتماد على جهود الخدم والمربيات، فأما من لا يجد إلا الكفاف ولا يستطيع أن يتزوج إلا امرأة أو امرأتين فلا يكون له ذلك العدد من الأولاد. هذا ما تدل عليه المشاهدة ومخالطة الناس. فأما البحث في تواريخ العرب والعجم وممالك النصارى والصقالبة والترك والهند والسودان فإنه يشير إلى ثلاث درجات: (1) الحد الأعلى المعقول للكثرة: 14 ولداً، (2) الحد النادر جداً: عشرون فما فوق، (3) الحد الذي لا يقاس عليه جماعياً: 30 فما فوق؛ وهذا الأخير ينطبق على أفراد بأعيانهم منهم (2) :

_ (1) الفصل 1: 175 وما بعدها. (2) الفصل 1: 175 وما بعدها.

1 - أنس بن مالك الأنصاري 100 ولد (1) 2 - خليفة بن أبي السعدي 100 (2) 3 - أبو بكرة 100 (3) 4 - عمر بن عبد الملك 60 ولداً 5 - جعفر بن سليمان بن علي 40 6 - عبد الرحمن بن الحكم بن هشام 30 7 - موسى بن إبراهيم بن موسى 31 8 - وصيف مولى المعتصم 55 9 - تامزوت مولى بني مناد 80 (4) 10 - رجل بربري من بني دمر (5) 11 - تميم بن زيد بن يزيد اليفرني 50 12 - أبو البهار بن زيري 30 13 - مرزوق بن أشكر الثغري 30 14 - أحد ملوك الهند 80 15 - جدعون بن يوآش اليهودي 70 16 - يائير بن جلعاد اليهودي 32 17 - عبدون بن هلال (هليل) اليهودي 40 18 - أفصان (أبصان) اليهودي (6) 30 19 - جودرز ملك كرمان 90 هذه الجريدة تضم أقل من عشرين مفرقين في أمم مختلفة وفي أزمنة مختلفة، ومثل ذلك لا يقاس عليه، ولهذا يحق لنا هنا أن نقيس الحاضر على الماضي أو العكس، ولا خطر من الوقوع في الخطأ لأننا بإزاء قاعدة تبلغ في شمولها حد الإجماع. ومما يلفت النظر هنا اعتماد ابن حزم على الإحصاء، ويكاد هذا القانون الإحصائي أن ينتظم العدد الجم من رسائله التاريخية، حتى أكثر فصول السيرة بنيت على أساس

_ (1) يدخل في هذا العدد بعض الحفدة - فيما يبدو - (2) يدخل في هذا العدد بعض الحفدة - فيما يبدو - (3) يدخل في هذا العدد بعض الحفدة - فيما يبدو - (4) لهذا الرجل حالة خاصة. إذ كان يغتصب كل امرأة أعجبته من أمة أو حرة. (5) عدَّ له ابن حزم مائتين من ولده وولد ولده. (6) من رقم 15 حتى 18 صححت الأسماء بعرضها على العهد القديم.

من هذا المنهج، وكذلك رسائل أخرى من مثل رسالته في القراءات وأسماء الصحابة الرواة وأصحاب الفتيا من الصحابة (1) . وإذا كانت هذه الرسائل تخدم الناحية التعليمية في الغاية إذ تقرب المادة وتوجزها، فهي من حيث المنهج تخضع للاتجاه العقلاني لدى ابن حزم الذي يستطيع أن يستخدم هذه الإحصاءات استخداماً رياضياً برهانياً في ما يعالجه من قضايا عند الحاجة إليها. من ذلك مثلاً موقفه ممن قال إن المسلمين لم يبايعوا علياً بعد وفاة الرسول لأنه كان قد قتل عدداً من رجالات قريش، فانحرف الناس عنه، ويرد ابن حزم بأن هذا تمويه ضعيف لأن الإحصاء يفنده، فالذين قتلهم عليّ: 1 - رجل واحد من بني عامر بن لؤي هو عمرو بن ود. 2 - رجال من بني مخزوم وبني عبد الدار (لم يذكر ابن حزم عددهم) . 3 - اثنان من بني عبد شمس هما الوليد بن عتبة والعاص بن سهل بن العاص (وقد شارك في قتل ثالث) . هذا كل ما هنالك، ولم يقتل من بني تميم (قبيلة أبي بكر) ولا من بني عدي (قبيلة عمر) أحداً، وهما قد استبعداه من الخلافة، ولم يقتل من الأنصار أحداً (فلم يسرعوا إلى بيعته إن كان النص قد جاء بها) ولم يقتل أحداً من ربيعة ومضر واليمن وقضاعة (فلم لم تبايعه هذه القبائل وبايعت أبا بكر) (2) ، وهكذا يحاول ابن حزم - على قاعدة إحصائية - أن يدفع قول من قال: إن القرشيين كانوا منحرفين عن عليّ لأنه قتل عدداً من رجالهم في حروبه مع النبي؛ ولست أقول أن هذا الجدال القائم على الإحصاءات دامغ لا ينقض، بل إن ابن حزم يعرف ذلك، فيورد حججاً أخرى تؤيد البرهان الإحصائي وتعضده، ولكنه قلما يستغني عن " لغة الأرقام " لأنها رصيد ضروري مسعف عند الحاجة إليه، وإذا كان ذلك الرصيد قد يبرز بعض العجائب والنوادر في مجرى التاريخ الإنساني، فذلك في ذاته لا يمثل إلا جانباً واحداً من فوائد الإحصاء بين جوانب أخرى متعددة. وفي أسلوب ابن حزم خاصيتان تلقيان ظلالاً من الشكّ على دور المؤرخ لديه: إحداهما هي القطع والحسم البات بمثل " لا بد " و " لا شك " فهذه إذا لم يكن لها ما يسوغها تمس جانب الدقة في المؤرخ، والثانية هي الحدة في الخطاب وهي تمس جانب

_ (1) انظرها ملحقة بجوامع السيرة: 269 - 335. (2) الفصل 4: 99.

نقط العروس في تواريخ الخلفاء

الإنصاف في المؤرخ، وخاصة حين تتطابق لديه شخصية المؤرخ مع شخصية المتكلم الجدل. وكلتا الصفتين لا يمكن نفيها عنه أو الإقلال من تأثيرها في نفس من يدرس دور المؤرخ لديه، ولكن مزيداً من التعرف إلى شخصيته في إخلاصه وصدقه وصراحته واعتداده بذكائه واطلاعه يجعل قبول هاتين الخاصيتين أمراً ممكناً؛ فالحسم البات لا يكون إلا من ثقة لا يشوبها غرور كي يجد قبولاً، والحدة قد تكون ذات علاقة بوضع نفسي أو تعويضاً عن فقدان شيء ما (1) ، وحين تخرج إلى السب والتندر والدعاء على الخصم بالويل والثبور تتجاوز مرحلة القبول الموضعي، وإن تكن متصلة بطرائق المناظرة والجدال يومئذ. ترى لو لم يتطابق المؤرخ والمناظر في ابن حزم هل كانت هذه الحدة تجيء أقل سطوعاً أعتقد أن الجواب بالنفي، فهي حدة لم يستطع التخلي عنها من ساهم الدكتور محمود مكي " جيل الفتنة البربرية " من أمثال ابن حزم وابن حيان وابن شهيد، كما لم يستطيعوا أن يتخلوا عن السخرية؛ كانوا نتاج فترة " إحباط " نفسي، عبر عنه كل واحد مهم بطريقته، وإذا كان ابن حزم يصك معارضه برأيه صك الجندل (2) - فيما يقول ابن حيان - فليس ابن حيان فيما يصوره من شخصيات وأوضاع بأقل عنفاً - إن اختلف نوع العنف - وليس ابن شهيد صاحب التوابع والزوابع ورسائل أخرى بأقل سخرية منهما. نظرة في الرسائل المدرجة في هذا الجزء - 1 - نقط العروس في تواريخ الخلفاء (3) سمَّاها ابن حيان " نقط العروس في نوادر الأخبار " (4) وذلك عنوان أدلُّ على

_ (1) انظر حديثاً عن حدة ابن حزم في الجزء الأول من الرسائل (1980) : 76. (2) الذخيرة 1/1: 168. (3) نقط (بفتح النون وسكين القاف) مصدر نَقَط، وعلى هذا يكون معى العنوان " تنقيط العروس " أي تحسينها بالنقط؛ وورد في الأغاني (17: 318) إنما شعر ذي الرمة نُقَطُ عروس تضمحل عما قليل وهذه الصيغة جمع نقطة؛ وانظر الميداني 2: 198 حيث كتبت " نَقْطُ " هنالك، وبهذه الصيغة وردت الترجمة (Naqt) واستشهد الجرجاني في الكتابات بما قيل في شعر ذي الرمة ثم قال: ونقط العروس إذا غسلته ذهب (كنايات: 117) . (4) المقتبس 5: 37، 132.

محتواها من العنوان الذي ورد على مخطوطة ميونخ. وفي نفح الطيب (نقط العروس في تواريخ الخلفاء) وقد فاد منها ابن حيان في المقتبس، ورواها الحميدي تلميذ ابن حزم، كا رواها أبو أسامة يعقوب ابن الفقيه أبي محمد وعنه أخذها البطروجي الحافظ (1) ، وعرفها ابن بسام صاحب الذخيرة (2) وذكره ابن سعيد في ارسالة التي ذيل بها على رسالة في فضل أهل الندلس لابن حزم (3) ، وكانت أحد مصادره في كتاب المغرب (4) كا ذكرها ابن خلكان بقوله: " وله كتاب صغير سماه نقط العروس مع كل غريبة نادرة وهو مفيد جداً "، وقد اعتمه ابن خلكان (5) ونقل عنه التجاني في تحفة العروس (6) ، وأدرج بعض نصوصها لسان الدين ابن اخطيب في كتابه أعمال الأعلام (7) ، والنويري في نهاية الأرب (8) ولا ندري إن كان احب مفاخر البربر (9) ينقل ها مباشرة. وقد قام بشرها المستشرق زيبولد (Seybold) في مجلة مركز الدراسات التاريخية بغرناطة سنة 1911 وأعاد نشرها أستاذنا الدكتور شوقي ضيف بمجلة كلية الآداب - جامعة القاهرة (العدد 13 سنة 1951) عن نسخة بايزيد عمومية وهي براوية الحميدي تلميذ ابن حزم وصاحبه، ولهذه المكانة التي يحتلها الحميدي فإن الثقة بروايته عالية، ولكن عند لمقارة الدقيقة بين النسختين يتبين لنا شدة التفاوت بينهما، فرواية نسخة ميونخ تحتفظ بزيادات لا وجود لها في نسخة الحميدي، وهذه الثانية كذلك، ولهذا كان لا بد ن المزاوجة بينهما لإخراج رواية كاملة، وقد اتخذت نسخة ميونخ (ورمزها: م) أصلاً لأنها تحفل بزيادات كثيرة، ووضعت زيادات نسخة بايزيد (ورمزها: ب) بين معقفين، وقد تسرب الاختلاف بين النسختين لا إلى زيادة هنا ونقص هناك وحسب بل إلى طبيعة العبارة نفسها، وهذا الاختلاف يتمثل أيضاً في النقول التي وردت من نقط العروس في المصادر التي تم ذكرها فآنفاً، وقد يعزى ذلك

_ (1) معجم أصحاب الصدفي: 29. (2) انظر الذخيرة 1/1: 433. (3) نفح الطيب 3: 182. (4) المغرب 1: 45. (5) ابن خلكان 3: 326؛ 5: 22. (6) تحفة العروس: 73، 192. (7) أعمال الأعلام: 14، 26، 63، 132، 142. (8) نهية الأرب 22: 93. (9) مفاخر البربر: 48.

في بعض الأحيان إلى تصرف النقلة، ولكنه قد يشير من ناحية أخرى إلى أن المؤلف كتب غير نسخة واحدة معدلة على الأصل الأول، وهذا التعليل قد يفسر التفاوت الكثير بين النسختين المذكورتين أيضاً. وقد ترجمت هذه الرسالة إلى الإسبانية عن نشرة زيبولد وقام بذلك الأستاذ لويس سيكو دي لوثينا (Luis Seco de Lucena) سنة 1941 في مجلة جامعة غرناطة (ثم جمعت في كتاب ونشرت مع النص العربي الذي حققه زيبولد في بلنسية 1974) . ولما اطلع دي لوثينا على نشرة الدكتور شوقي ضيف، كتب مقالاً بملة الأندلس (العدد 19 سنة 1964 ص 23 - 38) درس فيه نصاً عن غالب القائد (هو الفقرة: 76 من هذه الطبعة) وقارنه بنص عن غالب نفسه ورد في أعمال الأعلام، وهذا النص لم يرد في نسخة ميونخ. ويبدو أن سعد الدين بن شنب لم يطلع على ما كتبه دي لوثينا إذ عاد إلى الموضوع نفسه في مقال له بعنوان: Ibk el - Khatib a - t - il emprunte au Naqt al - " Arus d " ibn. Hazm la relation de la mort de Ghalib al - Nassiri (RHCM4 (1968) pp.17 - 19) وقد كتب أبو عب الرحمن بن عقيل الظاهري مقالاً عن هذه الرسالة بعنوان " التعريف بنقط العروس " نشر بمجلة الدعوة السعودية، العدد: 491. وهي رسالة في النوادر والغرائب، والعنواين فيها تدل على المنحى العام فيها مثل: أخلوقة لم يقع في الدهر مثلها، فضيحة لم يقع في العالم إلى يومنا مثلها، من غرائب المناكح، من غرائب الدهر، من غرائب الأخبار ... الخ؛ ويبدو فيها اهتمام ابن حزم بالألقاب، فقد افتتح الرسالة بهذا الموضوع ثم عاد إليه في الفقرة 84، 85، 86، حتى أنه اقترح ألقاباً صالحة للاستعمال، ومثل هذا الاهتمام لا يتطابق وعدم إيمانه بجدوى الألقاب، فهو يقول في التعليق على كثرة الألقاب وقلة غناء الملقبين، وتدني الحال إلى أن انتحل السماسرة واللصوص والأنذال ورذالات الناس الألقاب لأنفسهم " ولقد كانت دولة عبد الملك وبنيه الوليد ويزيد وهشام وعمر بن عبد العزيز لا عضد لها ولا عماد، ولا قب إلا أسماؤهم وأسماء آبائهم فقط، وقد طبقت الدنيا خساسة وضعفاً ومهانة " (1) . ولا يخفي ابن حزم أنه كان معجباً بالأمير محمود بن سبكتكين إلى أن تلقب

_ (1) نقط العروس، الفقرة: 86، ص: 102.

بلقب " يمين الدولة " فسقط عنده إلى غير ما كان يقدره فيه (1) ؛ ولا تفسير لاهتمامه بموضوع الألقاب إلا أنه داخل في جملة النوادر، وإنه لا يستطيع جحد التاريخ بإغفال هذا الجانب فيه، وإن كان لا يقر الألقاب، ولا يحترمها. وبسبب التفاوت القائم بين نسختي " نقط العروس " لا نستطيع أن نحكم على الترتيب النهائي الذي اختاره ابن حزم لرسالته، ولكنها في حالها الراهنة تعد من أكثر رسائله بعداً عن منهج مرسوم، وذلك أمر يستغرب منه، إلا أن يكون العذر هو أنها خطرات مرت بذاكرته فدونها كما خطرت، ومع ذلك فنحن نلمح فيها موضوعات محددة، فبعد ذكر الألقاب يتعرض ابن حزم لخلافة وشؤونها وما يتصل بها من ولاية عهد (ف 2 - 19) ثم يتحدث عن الخلفاء وأحوالهم فيعد من كان منهم طاغية أو أحمق أو حزماً أو كثير الفتوح أو مهراً بشرب الخمر أو عالماً أو عدلاً أو مسرفاً أو أديباً ... الخ والعلاقة بين الخليفة وأقربائه من أبناء وأخوة وأعمام. ويستغرق هذا الموضوع عدة فقرات في رسالته، ولكنه لا يرى بأساً في أن يدرج هنا وهناك فقراً لا علاقة لها بالموضوع الرئيسي. ثم يعود إلى الخلفاء وأوالهم في الفقرات 89 - 91، 105. وخارج نطاق الخلفاء والخلافة تدث ابن زم عن شؤون مثل: غرائب المناكح، من تزوج من الكبراء والعلية منكحاً ساقطاً، من تزوج من غمار الناس في الخلفاء؛ وغير ذلك من موضوعات، وقد خصص الفقرة (104) للحديث عن أمور تتعلق بالرسول (ص) ، وبكل ذلك تجاوز الحديث ع الخلفاء إلى موضوعات أخرى، ولهذا أشرت إلى أن تسميتها " نقط العروس في تواريخ الخلفاء " غير دقيقة وأدق منها أنها في النوادر، كما قال ابن حيان. ولا ريب في أنها رسالة متعددة الفوائد، تنبه إلى بعض المفارقات في أخبار الناس وأحوالهم، مثيرة بجمع الأشباه والنظائر، وتقديم المعلومات لمفاجئة، وكثير من أجزائها إنما يقوم على الإحصاء، وهي تدلُّ على " ذهنية " نفاذة إلى أمور قد يمر به الآخرون دون توقف عندها. وقد كتبت الرسالة في سنة 432 - فيما أقدر - إذ يذكر فيها (ف: 68) محمد بن عيسى بن مزين صاحب شلب [الآن] وهذا توفي في العام المذكور، كما يذكر مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين وقتله لعمه محمد (ف: 72) وكان ذلك في شعبان من ذلك العام (2) ؛ ولم يكر في الألقاب المضافة إلى الدولة لقب يمن الدولة أحمد بن

_ (1) نقط العروس: الفقرة 86، ص: 101. (2) تاريخ ابن الأثير 9: 488.

أسماء الخلفاء والولاة وذكر مددهم

محمد صاحب البونت، مع أنه نزل عنده وحظي برعايته وقد ظل يمن الدولة حاكماً حتى 434 ولكن ابن حزم في الرسالة التي كتبها له في فضل الأندلس لا يورد له لقباً؛ غير أني لا أقطع بأن تكون الرسالة قد وضعت في صورتها النهائية في ذلك التاريخ نفسه، إذ لو كان الأمر كذلك لما وجدنا في النسختين كل ذلك الاختلاف (1) . - 2 - رسالة في أمهات الخلفاء تقع هه الرسالة في نسخة بايزيد عمومية تالية للرسالة السابقة " نقط العروس " وقد قام بنشرها الدكتور صلاح الدين المنجد بمجلة المجمع العلمي العربي (1959) المجلد: 34، الجزء الثاني، ونصّ الرسالة يشغل الصفحات: 294 - 299. وهذه الرسالة تصلح أن تكون فقرة في " نقط العروس "، ولم يضف استقلالها على شكل رسالة شيئاً إذ إن ابن حزم ذكر أسماء أمهات الخلفاء في المشرق في رسالته " أسماء الخلفاء " (رقم: 4 بين هذه المجموعة) كما ذكر أسماء أمهات الأمراء والخلفاء الأموييين بالأندلس في رسالته " ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس " التي جعلتها ملحقة برسائله. - 3 - جمل فتوح الإسلام هي موجز في الموضوع الذي تناولته مؤلفات مثل فتوح البلدان لبلاذري، وفتوح الشام لكل من الواقدي والأزدي وغيرها، ولابن حزم فيها بعض تعليقات هامة، ولم أجد أحداً اعتمد عليها أو اقتبس منها، وكانت نشرت مع " جوامع السيرة ". - 4 - أسماء الخلفاء والولاة وذكر مددهم (2) هه الرسالة تقتصر على ذكر الخلفاء من بني أمية بالمشرق وبني العباس، وذكر " الولاة " في العنوان لا يدل على أن ابن حزم يذكر فيها العمال وإنما هم الخلفاء أنفسهم. ويحرص ابن حزم أن يذكر عند كل خليفة تاريخ استخلافه وتاريخ وفاته وتحديد مدته بالسنوات والأشهر والأيام وعمره واسم أمه، وأهم الأحداث في زمنه، وقد

_ (1) في الفقرة 14 ما يوحي بأن بعض التعديلات عليها أجريت سنة 452. (2) نشرت ملحقة بكتاب لوامع السيرة.

كتب هذه الرسالة بعد سنة 422 (أي بعد أن تولى القائم باله العباسي) ؛ وفي صورة ثانية من هذه الرسالة (رقم 4ب) ما يدل على أن كتابتها قد تمت بعد سنوات من ولاية القائم إذ قد زاد في الصورة الثانية قوله: " وهو مغلوب عليه لا يظهر ولا ينفذ له أمر " ولعلَّ في ذلك إشارة إلى ما حدث سنة 426 وما بعدها، فقد ذر ابن الأثير في أحداث تلك السنة أن أمر الخلافة انحل ببغداد، وكثر ظهور العيارين وانتشار الأعراب في النواحي وقطع الطرق (1) أو لعل الإشارة إلى فتنة البساسيري (446) . وعد هه الرسالة واحدة في سلسلة من الكتب التي ألفت في أخبار الخلفاء مع ترسم متعمد في الإيجاز مثل: 1 - تاريخ الخلفاء لأبي عبد الله محمد بن يزيد (وفيه زيادات لأبي بكر السدوسي وأبي بكر الشافعي وابن شاذان) . 2 - بلغة الظرفاء في ذكرى تواريخ الخلفاء لروحي. 3 - الأنباء في تاريخ الخلفاء لمحمد بن علي المعروف بابن العمراني. 4 - مختصر التاريخ لابن الكازروني. 5 - خلاصة الذهب المسبوك للاربلي. وتتفاوت هذه الكتب في مدى الإيجاز وفي ما تحرص على إثباته من وقائع وأخبار، وأقربها إلى رسالة ابن حزم تاريخ محمد بن يزيد (ابن ماجه) ولا يستبعد أن يكون ابن حزم قد اطلع على هذه الرسالة، فإن ابن ماجه يحرص فيها على أن يذكر تاريخ تولي الخليفة وتاريخ مقتله ومدة حكمه بالسنة والشهر واليوم وعمره واسم أمه وكنيته ويضيف أحياناً اسم من صلى عليه؛ فالأمور التي يدونها تشبه إلى حد كبير ما دونه ابن حزم في رسالته. وتدل المقارنة بين هذه الكتب على وجود خلاف بينها في مدة الحكم وفي شؤون أخرى. وقد اطلع ابن الوزير صاحب الروض الباسم على رسالة ابن حزم هذه وسماها " أسماء الخلفاء " ونقل عنها بعض مساوئ مروان ابن الحكم (2) كما اطلع على السيرة لابن حزم (3) . أما الصورة الثانية من هذه الرسالة فقد قام بتحقيقها ونشرها الأستاذان أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري وعبد الحليم عويس (4) وقارناها بالصورة التي ألحقت

_ (1) تاريخ ابن الأثير 9: 440 - 441. (2) انظر لروض الاسم 1: 138. (3) الروض الباسم: 61. (4) خلاصة في أصول الإسلام وتاريخه (رسالتان جديدتان لابن حزم) الرياض 1977.

رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها

بجوامع السيرة ووضعا ما لم يرد في الرسالة الاولى بين قوسين. ولكن الاختلاف في العبارات التي تتصل أحياناً بموضوع واحد حداني إلى نشر هذه الرسالة كما هي، بدلاً من مقارنة الرسالة السابقة بها، فهي تبدو وكأنها تأليف مستأنف، وهي جزء من رسالة تامة عنوانها " جمل من التاريخ " وقد حذفت منها ما كان متعلقاً بسيرة الرسول (ص) إذ يمكن مقارنة ما فيه بجوامع السيرة عند نشر هذا الكتاب محققاً على نسخ جديدة. وإليك نموذجاً يبين الفرق بين الرسالتين: الرسالة الأولى الرسالة الثانية 1 - استخلف أبو بكر رضوان الله عليه وبركاته ... 1 - وتولى أمور المسلمين خليفته أبو بكر الصديق 2 - وسمي خليفة رسول الله 2 -......... 3 - وكانت مدته.............. 3 - فولي الخلافة سنتين..... 4 - وتوفي في ثمان خلون من جمادى لآخرة 4 -....... 5 - وله ثلاث وستون سنة 5 - وله ثلاث وستون سنة 6 - وأمه سلمى تكنى بأم الخير...... 6 - وأمه سلمى هي أم الخير........ 7 - وهي مسلمة 7 - وكان أبوه وأمه مسلمين 8 - وفي أيامه كانت وقعة اليمامة ووقعة بصرى ووقعة أجنادين ووقعة مرج الصفر 8 - وهو الذي حارب أهل الردة وقتل مسيلمة وأعد الجيوش إلى الشام لقتال الروم وإلى العراق لقتال الفرس 9 -......... 9 - وقبره مع قبر رسول الله..... الخ ومن هذه المقارنة يبدو مدى التفاوت بين الصورتين في الأسلوب وفي الأخبار. - 5 - رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها هكذا أسماها ابن خير في فهرسته (1) ، كما سميت أحياناً " بيان فضل الأندلس وذكر علمائه "، ولم أعثر على أصل مخطوط لها، وإنما أوردها المقري في نفح الطيب (2) ، وذكر أن الحسن بن محمد التميمي القيرواني المعروف بابن الربيب (3)

_ (1) فهرسة ابن خير: 226. (2) نفح الطيب 3: 158 - 179. (3) ترجم له العمري في المسالك 1: 319 نقلاً عن الأنموذج لابن رشيق وسماه " الحسين " وقال إن أصله من تاهرت وكان عارفاً بالأدب وعلم النسب، قوي الكلام يتكلفه بعض تكلف.

كتب إلى أبي المغيرة ابن حزمن حزم (ابن عم الفقيه) رسالة (1) يذكر فيها تقصير أهل الأندلس في تخليد أخبار علمائهم ومآثر فضلائهم وسير ملوكهم ويقول فيها: " فإن قلت إنه كان ذلك من علمائكم وألفوا كتباً لكنها لم تصل إلينا فهذه دعوى لم يصحبها تحقيق لأنه ليس بيننا وبينكم إلا روحة راكب أو دلجة قارب، لو نفث ببلدكم مصدور، لأسمع ببلدنا في القبور، فضلاً عمن في الدور والقصور، وتلقوا قوله بالقبول كما تلقوا ديوان ابن عبد ربه منكم الذي سماه ب " العقد "، على أنه يلحقه فيه بعض اللوم إذ لم يجعل فضائل بلده واسطة عقده، ومناقب ملوكه يتيمة سلكه.... ". وقد أورد ابن بسام فصولاً من ردّ أبي المغيرة على القروي (2) قال في بعضها: " وأنا أعلم أن عندكم لنا تواليف تطيرون بها " ويقول ابن بسام إن أبا المغيرة خرج إلى التطويل، وختم رسالته بذكر جملة من تواليف أهل الأندلس " (3) . واطلع ابن حزم أبو محمد على رسالة ابن الربيب بعد وفاة صاحبها فكتب رسالته هذه في الرد عليها، والأرجح أن رسالة ابن الربيب حفزته إلى أن يضع رسالة مطولة في تاريخ الفكر الأندلسي فجاءت هذه الرسالة. ويذكر ابن الأبار (4) أن ابن حزم صنع هذه الرسالة لمحمد بن عبد الله بن أحمد الفهري، يمن الدولة، صاحب البونت (من أعمال بلنسية) وأطال الثناء عليه وعلى سلفه في الرسالة، وهذا واضح في الفقرة الثانية منها. ولا تعارض بين ما قاله ابن الأبار وقول الحميدي (5) إنه خاطب بها صديقه أبا بكر ابن إسحاق، فالسالة قد أدت الأمرين معاً، وفي مطلعها: " أما بعد يا أخي يا أبا بكر ... "، وإنما وجهها إلى أبي بكر لأنه وجد في أحد أدراج مكتبته رسالة القروي موجهة إلى رجل أندلسي لم يعين باسمه، والخلاف بين ما يقوله ابن بسام (ثم المقري) وما يقوله ابن حزم أبو محمد واضح. ترى هل كان أبو محمد يجهل حقاً الشخص الذي أرسلت إليه الرسالة ذلك ما لا ريب فيه، فلو عرفه لم يكن له غرض في إخفاء اسمه، ولا حاجة به إلى مجانبة الصد أو إلى استعمال التقية، وتفسير هذا الخلاف أن أبا بكر محمد بن إسحاق كان يملك نسخة من رسالة القروي لم يذكر فيها عنوان الشخص الذي إليه أرسلت.

_ (1) أوردها المقري في النفح 3: 156 - 158 وابن بسام 1/1: 133. (2) الذخيرة 1/1: 136. (3) المصدر نفسه: 139. (4) التكملة: 388. (5) الجذوة: 42.

ولما كانت الرسالة قد ألفت باسم يم الدولة صاحب البونت فلا بد من أن تكون قد كتبت في الفترة الواقعة بين 421 434 وهي الفترة التي تولى فيها يمن الدولة الحكم (1) ، وابن حزم لا يذكر له لقباً في رسالته، ولو كنا نعلم في أي عام انتحل ابن قاسم ذلك اللقب لكان تحديد تاريخ تلك الرسالة أدق. وقد نثر الحميدي معظم فقرات هذه الرسالة في جذوة المقتبس موزعة على التراجم، ولذا يعد نصّ الجذوة هاماً لمقارنته بالصورة التي أوردها المقري؛ وكنت استخرجت هذه الرسالة من نفح الطيب ونشرتها في كتابي " تاريخ الأدب الأندلسي عصر سيادة قرطبة " (الطبعة الأولى 1960) ص 292 313، ثم نشرها الدكتور صلاح الدين المنجد مع رسالة الشقندي (وهي أيضاً في نفح الطيب) تحت عنوان: فضائل أهل الأندلس وأهلها (بيروت 1968) وللأستاذ جعفر ماجد بحث حولها نشره في حوليات الجامعة التونسية عدد 13 (1976) بعنوان " رسالة ابن الربيب ورد ابن حزم ". وبعد أن يذكر ابن حزم السبب الذي حداه إلى كتابة الرسالة والثناء على من كتبت باسمه يتحدث عن فضائل الأندلس ويربطها بحديث أم حرام بنت ملحان (وفيه بشر الرسول بأن المجاهدين في البحر كالملوك على الأسرة) ويبين أن قرطبة تقع بحسب قسمة الأقاليم مع سُرَّ من رأى ولذلك فإن حظ أهلها من الذكاء غير قليل بحسب التقديرات الفلكية. وإذا عاب عائب الأندلس أو قرطبة بقلة التآليف فإن ذلك لو صح لكان منطبقاً على القيروان نفسها لأنه لم يؤلف فيها وفي بعض المدن الأفريقية الأخرى إلا محمد بن يوسف الوراق وو أندلسي لأنه هاجر إل الأندلس وإن نشأ بالقيروان. وهنا يستطرد ابن حزم ليحدد مدلول لفظة " أندلسي " وعلى من تطلق؛ فيرى أن الأندلسي، سوى المقيم الذي يموت في بلده، هو كل شخص هاجر إلى الأندلس وأقام فيها ومات هنالك، مل أبي علي القالي، فأما الأندلسي الذي غادر بلده ول يعد إليه وتوفي في بلاد غريبة فإنه لا يعد أندلسياً مثل محمد بن هانئ. ثم يعود ليعرض للكتب التي خلدت مآثر البلدان العريقة كبغداد والبصرة والكوفة فلا يجد منها إلا القليل. فأما البلدان الأخرى مثل الجبال وخراسان وكرمان والسند والري ... الخ فيصرح ابن حزم بأنه لم ير فيها تآليف تخلد ذكر ملوكها وعلمائها وشعرائها، ولو وجد شيء من ذلك لوصل إلى الأندلس كما وصلت كتب من

_ (1) أعمال الأعلام: 208.

الرموز في نقط العروس

مؤلفات المشارقة وأهل المغرب. ويقف ابن حزم وقفة غير قصيرة نسبياً من تنكر الأندلسيين للعالم المرموق فيهم، وكأنه يقدم لنا هنا حديثاً ذاتياً عن المرء إذا تميز على نظرائه أو خالفهم في طريقتهم المعهودة، وكلا الأمرين يمثله ابن حزم. وبعد ذلك يتولى الردّ العملي القائم على الإحصاء والتقييم فيتناول مؤلفات الأندلسيين التي تستحق أن تذكر وتكون موضع اعتزاز في العلوم المختلفة بحسب الترتيب التالي: علوم الشريعة (الفقه والتفسير والدراسات القرآنية جملة والحديث) - اللغة - الشعر - الأخبار (التاريخ) - الطب - الفلسفة - العدد والهندسة - سبعة علوم، لا يؤلف عالم عاقل إلا في أحدها (1) . ويختم رسالته بتوضيح السبب الذي جعل الاتجاه إلى علم الكلام بالأندلس ضعيفاً ويشير إلى بعض جهوده في نطاق المذهب الظاهري، ثم يميز ذكر بعض الشعراء والبلغاء الأندلسيين مقارناً بينهم وبين نظرائهم من المشارقة. هذه صورة موجزة لبنية الرسالة، وقد كتب ابن سعيد تذييلاً عليها (2) ، واستدرك بعض الكتب التي لم يذكرها ابن حزم لمعاصريه، مثل كتب مكي بن أبي طالب، وهو ممن له مناظرات مع ابن حزم، ولعل ذلك يعود إلى أن تلك الكتب لم تكن في نظر ابن حزم قيمة أو أنها كتبت بعد تاريخ الرسالة، وكذلك ذكر كتاب المتين لابن حيان وكتباً أخرى لابن عبد البر وكتاباً لابن الفرضي في أخبار الشعراء وتاريخ الغزال نظماً، وهذا يدل على أن رسالة ابن حزم أغفلت كتباً كثيرة، ولم يكتب لها الاستيفاء المرجو، وربما كان السبب في ذلك تمييز مؤلفها عمداً بين كتب جديرة بالذكر وأخرى غير جديرة بذلك، وأنها كتبت في تاريخ مبكر من حياة ابن حزم ولم يعد النظر فيها ليضيف إليها ما جدَّ بعد تأليفها. الرموز في نقط العروس ب نسخة بايزيد عمومية من نقط العروس. م نسخة ميونخ من نقطة العروس. ع: العهد القديم.

_ (1) قارن بما قاله في رسالة مراتب العلوم من قبل، انظر ص: 8 فيما تقدم. (2) النفح 3: 179.

[] : زيادة من النسخة ب. () : زيادات توضيحية من المؤلف ابن حزم. : زيادات من وضع المحقق (في العنوانات خاصة) .

فراغ

فراغ

فراغ

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي: - 1 - أول الأسماء التي وقعت على الخلفاء رضي الله عنهم: 1 - الصديق: سمّي به أبو بكر رضي الله عنه. الفاروق: عمر بن الخطاب. ذو النورين: عثمان بن عفان. 2 - ثم لم يتسمَّ ولا سمي أحد من الخلفاء بشيء لازم له، حتى ولي بنو العباس رضي الله عنه، ونن الآن ذاكرون أسماءهم على نسق، ونذكر الأسماء التي اشترك فيها اثنان [....] أسماء الخلفاء، وإن كان الأمر قد رذل الآن غاية الرذالة في المشرق والمغرب، والله المستعان، فيتسمى بأسماء الخلفاء من ليس منهم. السفاح: أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أول خلفاء بني العباس (1) . المنصور: أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، أخو السفاح، وهو أول من تسمى بهذا الاسم. وتسمى به بعده أبو طاهر إسماعيل بن أبي القاسم صاحب افريقية (2) .

_ (1) أطلق لقب السفاح على عبد الله بن علي لتنكيله بالأمويين، وفي نقش مثبت بمئذنة جامع صنعاء يلقب عبد الله أول خلفاء بني العباس بلقب " المهدي "، انظر بحثاً للدكتور عبد العزيز الدوري بعنوان " الفكرة المهدية بين الدعوة العباسية والعصر العباسي الأول " في كتاب " دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى إحسان عباس.... " (تحرير د. وداد القاضي، الجامعة الأمريكية في بيروت، 1980) : 124 وما بعدها. (2) ثالث خلفاء العبديين بأفريقية، توفي سنة 341.

ثم محمد بن أبي عامر المعافري بالأندلس. زاوي بن زيري بن مناد الصنهاجي صاحب غرناطة بالأندلس. وسابور وعبد الله بن مسلمة المعروف بالأفطس صاحبا بطليوس بالأندلس. وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر صاحب بلنسية بالأندلس. ومنذ بن يحيى التجيبي صاحب سرقسطة بالأندلس. وابن ابنه منذر بن يحيى بن منذر بن يحيى. أبو عبد الله محمد بن أبي جعفر المنصور. وكا تسمى به قبله محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قام على أبي جعفر المنصور [بالمدينة] فل يتم له أمر. وكات الشيعة تسمي بهذا الاسم قبل هذا كله محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه المعروف بابن الحنفية. ثم رجل من بني علي قام باليمن. ثم عبيد الله [الشيعي بالقيروان] بأفريقية، [أول قائم بالقيروان منهم] . ث محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر بالأندلس. ثم عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن الأصبغ بن الحكم الربضي

[المعروف بابن المسن أخو الفقيه] (1) بمليلة من بلاد البربر. ثم محمد بن إدريس بن علي ب حمود الحسني صاحب مالقة بالأندلس (2) . الهادي: أبو محمد وسى بن المهدي بن أبي جعفر المنصور. ثم تسمى به رجل حسنيٌّ قام بصعدة من بلاد اليمن (3) . الرشيد: أبو جعفر هارون بن المهدي بن أبي جعفر المنصور. ثم تسمى به هشام بن سليمان بن الناصر حين قيامه (4) ، يأتي قيامه. الأمين: أبو عبد الله محمد بن الرشيد. ثم سمي به صالح (5) صاحب (6) أمير المؤمنين المعتضد [ومولى والده] . المأمون: أبو العباس عبد الله بن الرشيد بن المهدي. ثم تسمى به عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر (7) . ثم القاسم بن حمود الحسني (8) . ثم يحيى بن إسماعيل بن ذي النون (9) . المعتصم (10) : أبو إسحاق محمد بن الرشيد.

_ (1) الفقيه المشار إليه هو عبد الملك بن أحمد بن محمد أبو مروان (- 436) ، وفي الصلة: 342 أنه يعرف بابن المش؛ وانظر الجمهرة: 97 يث ذره ابن زم ولم يذكر أخاه، وإ ذكر عبد العزيز بن هشام بن أمد وقال انه ظهر في بعض نواحي البربر ثم اضحل أمره. (2) انظر جذوة المتبس: 30. (3) هو المعروف بالهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم، وقد نشرت سيرته بتحقيق الدكتور سهيل زكار (بيروت 1972) . (4) البيان المغرب 3: 51. (5) لعل الصواب: صاعد؛ إذ لم أجد م اسمه صالح إلا أن يكون صالح بن صاعد بن مخلد. (6) ب: ابن حاجب. (7) هو المعروف بعبد الرحمن شنجول الذي أدت تصرفاته إلى الفتنة الكبرى في الأندلس، انظر البيان المغرب 3: 38. (8) المصدر السابق: 124. (9) أعمال الأعلام: 177. (10) لم يذكر ابن حزم بين من تلقبوا بالمعتصم محمد بن معن بن صمادح التجيبي الذي خلف أباه سنة 443 ومحمد ابن سعيد بن هارون صاحب أكشونبة (البيان المغرب 3: 168، 215/ والحلة 2: 18) .

ثم تسمى به محمد بن عبد الملك بن محمد بن أبي عامر (1) . ثم محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبي عامر (2) . الواثق (3) : أبو جعفر هارون بن المعتصم بن الرشيد. المتوكل: أبو الفضل جعفر بن المعتصم بن الرشيد. المنتصر: أبو جعفر محمد بن المتوكل بن المعتصم. المستعين: أبو العباس أحمد بن محمد بن المعتصم بن الرشيد. ثم سليمان بن الحكم. ثم سليمان بن الناصر. ثم تسمى به سليمان بن هود الجذامي صاحب سرقسطة (4) . المعتز: أبو عبد الله محمد بن المتوكل. ثم تسمى به [من غير الخلفاء] عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر صاحب شاطبة. المهتدي: أبو عبد الله محمد بن الواثق رحمة الله عليه. المعتمد: أبو العباس أحمد بن المتوكل. المعتضد: أبو العباس بن أبي أحمد الموفق بن المتوكل. ثم تسمى به بمن غير الخلفاء] عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي صاحب إشبيلية وغرب الأندلس. المكتفي: أبو محمد علي بن المعتضد بن أبي أحمد بن المتوكل. المقتدر (5) : أبو الفضل جعفر بن المعتضد.

_ (1) قارن هذا بقوله في الجمهرة: 419 لا عقب لعبد الملك المتسمي بالمظفر؛ وقوله: أما عبد الله الذي قتله أبوه فتخلف ابناً اسمه محمد فمات وتخلف ابناً اسمه عبد الملك ... وما أراه عقب؛ وقد ذكر لسان الدين محمداً المعتصم وجعله ابن عبد الملك المظفر (أعمال الأعلام: 193) . (2) يقول ابن حزم في الجمهرة: 419 أن محمداً هذا توفي في حياة أبيه. (3) تلقب محمد بن معن بن صمادح بلقب " الواثق بفضل الله " إلى جانب تلقبه بلقب " المعتصم ". (4) توفي سليمان بن هود سنة 438. (5) تلقب به أيضاً أحمد بن سليمان بن هود بعد وفاة أبيه (438) . انظر أعمال الأعلام: 181.

القاهر: أبو منصور محمد بن المعتضد. الراضي: أبو العباس محمد بن المقتدر. المتقي: أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر. المستكفي: أبو القاسم عبد الله بن المكتفي. ثم أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر المرواني - وكانا رذلي قومهما، ومن العجب (1) اتفاقهما في الأخلاق الرذلة، وفي غلبة من لا خير فيه من النساء عليهما، وفي كمية العمر: كلاهما عاش اثنتين وخمسين سنة، وفي مدة ولايتهما: فإن كل واحد منهما ملك سنة واحدة وخمسة أشهر، وفي أن كل واحد منهما متغلب عليه، وفي أن كل واحد منهما خلع، وفي أن كل واحد منهما تركه أبوه صغيراً. المطيع: أبو القاسم الفضل بن المقتدر. الطائع: أبو بكر عبد الكريم بن المطيع. القادر: أبو [العباس] أحمد بن إسحاق بن المقتدر. القائم بأمر الله: أبو جعفر عبد الله بن القادر، وهو الخليفة اليوم (422 - 467) وقد تسمى بهذا الاسم قبله جعفر بن أبي جعفر المنصور فلم يتمَّ له أمر ثم أبو القاسم صاحب افريقية (2) . ومنهم وإن كان لا يذكر مع الخلفاء المبارك أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي بن المنصور. 3 - وأما الخلفاء بعد عثمان رضي الله عنه إلى أبي العباس السفاح فالصحيح الذي لا شك

_ (1) مثل هذه المقارنة بين المستكفي العباسي والمستكفي الأندلسي أورده ابن حيان، انظر المغرب 1: 54 - 55 والذخيرة 1/1: 433 والنص في الذخيرة منقول عن نقط العروس وقد جاء فيه: ومن العجب اتفاقهما في الأخلاق والعمر واللقب، وأن كل واحد منهما خلع عن الأمر، وكل واحد منهما تركه أبوه صغيراً، وهذا يظهر أن ابن بسام ينقل بإيجاز وتصرف. (2) هو أبو القاسم محمد بن المهدي العبيدي (322 - 334) .

فيه أنه لم يقع على أحد منهم لقب معروف، إلا أن بعض الرواة ذكر أنهم كانت لهم ألقاب، ونحن نذكرها، وإن لم تصح عندنا، فيُطَّلعَ على الألقاب لا غير وبالله نستعين: معاوية بن أبي سفيان: الناصر لحق الله. يزيد بن معاوية: المستنصر (1) على أهل الزيغ. معاوية بن يزيد: الراجع إلى الله. مروان بن الحكم: المؤتمر بالله. عبد الملك بن مروان: الموثق لأمر الله. الوليد بن عبد الملك: النتقم لله. سليمان بن عبد الملك: المهدي بالله والداعي لأمر الله. عمر بن عبد العزيز بن مروان: المعصوم بالله. يزيد بن عبد الملك: القادر بصنع الله. هشام بن عبد الملك: المنصور. الوليد بن يزيد بن عبد الملك: المكتفي بالله. يزيد بن الوليد بن عبد الملك: الشاكر لأنعم الله: إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك: المتعزز بالله. مروان بن محمد بن مروان آخر خلفاء بني أمية بالمشرق: القائم بحق الله. 4 -: وأما بنو أمية بالأندلس فإنهم لم يتلقبوا، إلا هشام بن عبد الرحمن الداخل، فإنه كان يقال له هشام الرضى، ولم يتسموا بإمرة المؤمنين إلى أن كان عبد الرحمن بن محمد، إلا أنني رأيت شعراً لأبي المخشي عاصم بن زيد التميمي (2) يخاطب فيه

_ (1) ب: المنتصر. (2) كان أبوه من الداخلة إلى الأندلس مع جند دمشق، فنزل بقرية شوش، ونشأ ابنه عاصم على قول الشعر، مدح سليمان بن عبد الرحمن الداخل وعرض بأخيه هشام فقطع هشام لسانه، فغضب عبد الرحمن من فعلته وعنفه وأحسن إلى أبي المخشي، ومات أبو المخشي أيام حكم الحكم الربضي (180 - 206) انظر المغرب 2: 123 - 124 والجذوة: 377 (تحت كنيته) ونقل ما قاله ابن حزم فيه، وزعم ابن شهيد في حانوت عطار أن أبا المخشي أعرابي النشأة وأنه تردد غريباً طارئاً، وكانت ابنته حسانة شاعرة أيضاً، انظر نفح الطيب 4: 167 والحاشية.

عبد الرحمن بن معاوية بإمرة المؤمنين: فأولهم أبو المطرف عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم. ثم ابنه أبو الوليد هشام الرضى. ثم أبو العاصي الحكم الربضي بن هشام، عرف بالربضي لقتله أهل الربض. ثم ابنه عبد الرحمن بن الحكم أبو المطرف. ثم ابنه أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن. ثم ابنه أبو محمد المنذر بن محمد. ثم أخوه أبو محمد عبد الله بن محمد. ثم ابن ابنه عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، وتسمى بالناصر لدين الله، وبأمي رالمؤمنين، ويسمى القائم لله أيضاً، إلا أنه لم يستمر على هذه التسمية، وهكذا أنفذ كتابه إلى قسطنطين ملك الروم باللقبين جميعاً [قال أبو محمد: وأنا رأيت بعيني نيفاً وخمسين كتاباً كتبها بالزهراء وكلها معنونة من عبد الله عبد الرحمن الناصر لدين الله القائم لله أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان] (1) . وكان تسمى بالناصر بله أبو أحمد ابن المتوكل ولم يلِ الخلافة. ثم رجل من بني علي بطبرستان حسني (2) . ثم علي بن حمود الحسني بالأندلس. ثم عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر. ثم المستنصر أبو العاصي الحكم بن عبد الرحمن الناصر. ثم تسمى بهذا الاسم [بعده] معد بن علي بن منصور بن نزار [الشيعي] صاحب مصر.

_ (1) ما بين معقفين زيادة من ب. (2) هو أبو محمد الحسن الأطروش (301 - 304) ؛ ونسي ابن حزم من أئمة الزيدية باليمن الناصر أحمد بن يحيى الرسي (توفي سنة 325) .

ثم حسن بن يحيى بن علي بن حمود الحسني صاحب مالقة. [ثم] المؤيد بالله أبو الوليد هشام بن الحكم المستنصر. وتسمى به قبله أبو إسحاق إبراهيم بن المتوكل ولم يلِ الخلافة. ثم المهدي أبو الوليد محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر. ثم المستعين أبو أيوب سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر، وتسمى أيضاً بالظافر. ثم المستظهر بالله أبو المطرف عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر [أخو المهدي [. [ثم المستكفي، وقد ذكرنا المستكفي] . ثم المعتمد بالله أبو بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن الناصر، وهو آخر ملوكهم بقرطبة، وكان قام قبل ذلك أخوه عبد الرحمن بن محمد وتسمى بالمرتضى فلم يتم أمره. 5 - ومن بني علي رضي الله عنه: المعتلي يحيى بن علي بن حمود. المتأيد بالله إدريس بن علي بن حمود. المستنصر بالله الحسن بن يحيى بن علي وقد تقدم اسمه. العالي [بالله] إدريس بن يحيى بن علي بن حمود، ويسمى السامي، ولم يلِ [وكان قد تسمى بهذا الاسم قبل إدريس ابن ليحيى آخر كان اسمه علياً وكان يحيى قد ولاه عهده ثم مات في حياته] . 6 -[ومن الأدعياء إليهم: المهدي: وقد تقدم ذكره. القائم: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله قتله ابنه المنصور ولم يل الخلافة وتسمى بهذا الاسم عبد الرحمن الناصر بالأندلس. ثم أبو جعفر عبد الله بن القادر، وقد ذكرناه] .

وكان بمصر: أبو تميم معد بن إسماعيل يتسمى بالمعز. وابنه [أبو المنصور] نزار بن معد يسمى العزيز. وابنه منصور بن نزار يسمى الحاكم. وابنه علي بن منصور ويسمى الظاهر. [ثم أبو تميم معد بن علي الملقب بالمستنصر وهو واليهم الآن] (1) . - 2 - من ولي العهد وتسمى أو لم يتسمَّ ولم يتم له أمر، ومن قام بطلب الخلافة وتسمى بها ولم يتم أمره وقد سمّي أو لم يسمَّ: 1 -: عبد العزيز بن مروان: كان ولي عهد أخيه عبد الملك، ولم يتم له أمر، مات في حياة أخيه عبد الملك. أيوب بن سليمان بن عبد الملك: مات في حياة أبيه سليمان بن عبد الملك، وكان ولي عهده، وقيل إن أباه قتله سراً لأنه ارتد إلى النصرانية. الحكم وعثمان ابنا الوليد بن يزيد: قتلا في السجن وكانا وليي عهد أبيهما. عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان (2) : كان ولي عهد ابن عمه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، قتل يوم خلع إبراهيم، وقيل إن عبد العزيز هذا هو أخو أبي العباس السفاح لأمه، أمهما جميعاً ريطة الحارثية تزوجها محمد بن علي بعد الحجاج بن عبد الملك. عبد الله وعبيد الله ابنا مروان بن محمد بن مروان: كانا وليي عهد أبيهما، قتل عبيد الله بأرض الروم (3) ، ولا عقب له (4) ، وعاش عبد الله دهراً بمكة، وله

_ (1) من أطول الخلفاء مدة، حكم من 427 - 487. (2) قارن بالجمهرة: 104. (3) ب: بأرض النوبة. (4) قارن بالجمهرة: 107.

عقب، ومن ولده كان أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني (1) . 2 - ومن بني العباس: عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس: كان ولي عهد المنصور عمه ثم صيره [على العهد] بعد ابنه المهدي، ثم خلعه المهدي جملة. جعفر بن موسى الهادي: ولاه أبوه العهد ولم يتم أمره. القاسم المؤتمن بن هارون الرشيد: ولاه أبوه العهد بعد أخيه المأمون، وخلعه المأمون. ثم سمي بالمؤتمن بعده محمد بن ياقوت (2) . ثم سمي بعده سلامة أخو نجح الطولوني (3) . ثم تسمى به عبد العزيز بن عبد الرحمن (4) أخو محمد بن أبي عامر برهة من دهره (5) . منصور بن المهدي: ولاه أخوه إبراهيم عهده وسمي بالمرتضى بالله، ثم اضمحل أمره. ثم تسمى بهذا الاسم علوي باليمن (6) . علي بن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب: ولاه المأمون عهده، ومات إلى مديدة في حياة المأمون، وقيل أنه سمه، وكان سماه الرضا. وتسمى به أيضاً الحسن بن زيد بطبرستان. موسى الناطق بالحق بن الأمين بن الرشيد: ولاه أبوه عهده، ولم يتم له أمر، ومات وله أربع عشرة سنة، ولا عقب له. إبراهيم المؤيد بن المتوكل: ولاه أبوه العهد بعد المعتز أخيه، ولم يتم له أمر؛

_ (1) أبو الفرج هو: علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان (الجمهرة: 107) . (2) ولي الشرطة في عهد المقتدر، ووكل إليه أمر قيادة الجيش أحياناً وتوفي سنة 323 (انظر صفحات متفرقة من الجزء الثامن من تاريخ ابن الأثير) . (3) ولي حجابة الخلفاء وتوفي سنة 337 (المصدر السابق) . (4) هو الذي تلقب أيضاً بالمنصور (راجع ما سبق) . (5) برهة من دهره؛ ب: في بعض الأوقات. (6) هو أبو القاسم محمد بن يحيى، تولى الحكم (298 - 301) ثم اعتزله وتوفي سنة 310.

خلعه المعتز ثم قتله. الموفق أبو أحمد طلحة بن المتوكل: وهو الناصر أيضاً، ولي عهد أخيه المعتمد، مات في حياة أخيه. المفوض إلى الله جعفر بن المعتمد: ولي عهده أبيه مقدماً على الموفق ثم خلعه أبوه، فلما مات أبوه قتله المعتضد. الغالب عبد الكريم بن القادر: ولي عهد أبيه ومات في حياة أبيه. 3 - ومن بني أمية بالأندلس: المغيرة بن الحكم الربضي (1) : ولي عهد أبيه بعد أخيه عبد الرحمن، خلعه أخوه عبد الرحمن. محمد بن سليمان بن الحكم (2) : ولي عهد أبيه، قُتِل بعد قَتْلِ أبيه [بدهر] ولم يتم أمره، [وذلك أنه فزع إلى منذر بن يحيى مستنصراً به، فأحياه مدة، ثم أمر بقتله رجلاً يعرف بالطرسوسي، فقتله سراً] . - 3 - وممن تسمى [منهم] بالعهد دون أن يسميه خليفة به لأولم يتمَّ له شيء] : 1 -: سليمان بن هشام بن سليمان بن الناصر: تسمى بالعهد في أيام محمد بن هشام المهدي ثم قتل حين قيام أبيه على المهدي [وقتل معه أبوه] وقتل معهما عدد [من بني عمه] . سليمان بن هشام بن عبيد الله بن الناصر: تسمى بالعهد أيام ولاية ابن عمه المستكفي (3) . محمد بن الحكم بن محمد بن عبد الملك بن الناصر (4) : تسمى بالعهد إذ ولي عمه هشام المعتد، دون أن يسميه به عمه، وكان عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر

_ (1) تنسب إليه منية المغيرة بشرقي قرطبة؛ قارن بالجمهرة: 98. (2) قارن بالجمهرة: 102 وذكر ابن حزم أن محمداً هذا كان نظير أبيه في الإهمال والرضى بفساد البلاد. (3) قارن بالجمهرة: 100. (4) لم يذكر ابن حزم في الجمهرة: 100 سوى عبد الرحمن وهشام من أبناء محمد بن عبد الملك بن الناصر.

[وهو من معافر] قد تسمى بولاية العهد لهشام [بن الحكم] المؤيد [ولقب بالناصر؛ وكانت فعلة خارجية] فقتل إلى شهر (1) ولم يتم أمره. 2 -[ومن بني علي] : علي العالي بن يحيى [المعتلي] بن علي بن حمود: ولي عهد أبيه، مات في حياة أبيه، وقد رأيت بعض من يعاني علم التواريخ ينكر هذا، وهو خطأ منه، ولم أكتبه إلا موقناً بالقصة، وليس من لم يعلم حجة على من يعلم. محمد بن القاسم بن حمود: اضمحل أمره بخلع أبيه، ثم تسمى بالخلافة، ثم مات من كثب، وملك الجزيرة إدريس بن علي بن حمود، ادعى العهد، وخطب له بسبتة، وأخوه كاثبه لم ينكر من ذلك شيئاً. الحسن بن إدريس بن علي بن حمود الملقب بالسامي، ولاه أخوه عهده، ثم نفاه إلى العدوة. [وممن تسمى بالعهد دون أن يسمى به إدريس بن علي ادعى العهد بسبتة] . 3 - ومن الأدعياء إليهم من ولاة أفريقية: قاسم بن أبي القاسم بن عبيد الله الشيعي: مات في حياة أبيه، وكان وليَّ عهده. تميم بن أبي تميم: كان ولي عهد أبيه فخلعه في حياته. عبد الرحيم بن إلياس بن أحمد بن عبيد الله الشيعي: ولاه العهد ابن عمه منصور بن نزار بن معد بن إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله، فلما قتل الحاكم منصور بن نزار قتل هو (2) . - 4 - من ولي الخلافة بعهد: 1 -: اختلف الناس في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والذي أدين الله به (3) أنه ولي

_ (1) إلى شهر؛ ب: في حياته. (2) قتل هو؛ ب: قبض عليه وقتل؛ وفي أخبار الدول المنقطعة: 63 أنه هرب عندما بويع علي بن الحكم ولقب الظاهر لإعزاز دين الله. (3) أدين الله به؛ ب: أعهد.

الخلافة بعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ونص عليه، لإجماع أهل الإسلام على تسميته خليفة رسول الله، ولم يتسم بهذا الاسم أحد غيره لا ممن استخلفه عليه السلام على المدينة في أسفاره، ولا ممن استخلفه على الصلوات في غزواته وحجته عليه السلام - وللخبر (1) الثابت الذي رويناه من طرق ثابتة في قصة المرأة التي قالت: يا رسول الله فإن رجعت لو أجدك، تريد الموت - هكذا في نص الحديث - فقال عليه السلام: فأتى أبا بكر. [وكذلك الحديث من قوله عليه السلام في مرضه الذي مات فيه: لقد هممت أن أكتب كتاباً أو أعهد عهداً لئلا يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر أو كلاماً هذا معناه، وهو لا يهم عليه السلام إلا بالحق] ولغير هذا مما ذكرنا في كتاب الفصل (2) ، ولله الحمد. عمر. يزيد بن معاوية. معاوية بن يزيد. عبد الملك. [ابنه] الوليد. سليمان. عمر بن عبد العزيز. يزيد بن عبد الملك. هشام بن عبد الملك. الوليد بن يزيد. إبراهيم بن الوليد. المنصور. المهدي. الهادي. الرشيد. الأمين. المأمون [بعهد أبيه] . الواثق. المنتصر. المعتضد. المكتفي. المقتدر. الطائع. القائم بأمر الله أبو جعفر [أمير المؤمنين الآن ببغداد ولي عهد أبيه] . 2 - ومن بني أمية بالأندلس: هشام الرضى، الحكم [الربضي] . ابنه عبد الرحمن بن الحكم. [ابنه] محمد. المنذر. عبد الله. المستنصر. المؤيد. - 5 - من ولي الخلافة بتشاور: 1 -: عثمان. الحسن بن علي. مروان بن الحكم. المتوكل. المستعين. المعتز. المهتدي. المعتمد. القاهر. الراضي. المتقي. المطيع. القادر. 2 - ومن بني أمية بالأندلس: الناصر. المعتد.

_ (1) وللخبر ... ؛ ب: وللحديث الوارد في ذلك رواه البخاري وغيره. (2) انظر تفصيل هذه البراهين في الفصل 4: 107 وما بعدها.

من ولي الخلافة مغالبة: 1 -: معاوية. ابن الزبير. يزيد بن الوليد. مروان بن محمد. السفاح. إبراهيم بن المهدي. المعتصم. 2 - ومن بني أمية بالأندلس: عبد الرحمن بن معاوية [الداخل] . المهدي. سليمان. المستظهر. المستكفي. - 7 - من طلب الخلافة وتسمى بها ولم يتم أمره من قريش [وأما الخوارج فأمرهم (1) غير هذا] : 1 -: عمرو بن سعيد بن العاص: خرج على عبد الملك بدمشق، وتسمى بالخلافة، ثم انخلع وسلم الأمر لعبد الملك. وقتله عبد الملك. وقد قيل إن سليمان بن هشام بن عبد الملك تسمى بالخلافة في [بعض] خروجه (2) على مروان بن محمد [وأخوهمسلمة حينئذ حي وهو أسن منه] ثم نزل عن ذلك ودخل في طاعة الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي الصفري وسلم عليه بالخلافة، ثم دخل في طاعة أبي العباس السفاح، ثم قتله السفاح. دحية بن المصعب وقد قيل المصعب بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان (3) : قام بمصر على المهدي فقتل. علي بن عبد الله [النفيلي من ولد] خالد بن يزيد بن معاوية (4) : قام على المأمون بدمشق ثم انحل أمره.

_ (1) ب: فشأنهم. (2) ب: قيامه. (3) الجمهرة: 105 دحية بن المصعب بن الأصبغ بن عبد العزيز. (4) الجمهرة: 112.

2 -: عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب: قام [على مروان بن محمد] بفارس، وتسمى بالخلافة، ثم أسره (1) أبو مسلم وقتله. وكان عبد الله بن معاوية هذا فاسد الدين، مذكوراً بالإلحاد والتعطيل. (وقد ذكر بعض الناس أن صاحب الزنج تسمى بالخلافة، ولم يصح هذا، إنما كان يتسمى بالإمام، وكان أيضاً من عبد القيس ولم يكن من قريش أصلاً) . عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس: قام [على أبي جعفر المنصور] بالشام [وسليمان أخوه حي وهو أسن منه] وتسمى بالخلافة وهي خمسة أشهر فقط، ثم ظفر به أبو جعفر المنصور ابن أخيه فقتله. عبد الله بن المعتز: قام على المقتدر وتسمى بالمنتصف، ظفر به وقتل في صهريج ماء بارد، وقتل أبوه في حمام. 3 - ومن بني علي: محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب: قام [على أبي جعفر المنصور] بالمدينة، وأبوه [عبد الله] حي في حبس أبي جعفر المنصور، فقتل رحمه الله بمكة شرفها الله. محمد بن جعفر بن محمد (2) قام على المأمون بمكة فظفر به المأمون، وكان شيخاً محدثاً، فلم يكلفه أكثر من أن يصعد المنبر فيكذب نفسه (3) ففعل. (وكان ابنه علي من أفسق الناس وأشدهم إعلاناً بالقباح) . أبو الفتوح الحسن بن جعفر الحسني (4) : قام بمكة وتسمى بالخلافة وتلقب بالراشد، وأعلن مذهب الزيدية وتبرأ من الإمامية ثم رجع إلى طاعة الحاكم. ولم يتسم أحد من ثوار بني علي رضي الله عنه بالخلافة، على كثرة القائمين منم، إلا محمد بن عبد الله ومحمد بن جعفر والحسن بن جعفر المذكورون آنفاً. وحسبك

_ (1) ب: ظفر به. (2) الجمهرة: 59 وقال: والشيعة تلقبه " الديباجة " لجمال وجهه. (3) فيكذب نفسه، ب: ويشهد على نفسه بالكذب في حديثه. (4) قصته تتصل بثورة الوزير المغربي على الدولة الفاطمية وترد في تاريخ ابن الأثير وذيل تاريخ دمشق، ورسالة ابن القارح والدول المنقطعة وترجمة الوزير المغربي في بغية الطلب وابن خلكان ... الخ.

بعلي بن حمود، لم يتسمَّ في قيامه على سليمان بالخلافة إلا بعد استيلائه على دار المملكة بقرطبة وقتل سليمان. إلا ما ذكر لي بعض أهل الأخبار من أن رجلاً من ولد محمد بن زيد الداعي القائم بطبرستان بويع بالخلافة بنيسابور، ثم اضمحل أمره وفرَّ ودخل غمار الناس، وقيل إنه مات بوادي الحجارة من الأندلس في جملة خساس الجند عند ابن باق، والله أعلم؛ وكذلك المنتمون إليهم كصاحب الزنج [الذي قام] بالبصرة وغيره، ولم يتسم عبيد الله بالخلافة إلا بعد استيلاء جنده على افريقية وذهاب بني الأغلب. 4 - ومن بني أمية بالأندلس: هشام بن سليمان بن الناصر: قام على المهدي، وكان أخوه الحكم أسنَّ منه حياً يومئذ، وتسمى بالمعصموم فظفر به، وقتل ثاني يوم قيامه. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن الناصر: قام على علي والقاسم ابني حمود الحسنيين، وتسمى بالمرتضى، وكان رجلاً فاضلاً قتل غدراً سراً، وخفي أمره رحمه الله، وكان أخوه الحكم المكفوف وهشام المعتد حيين حينئذ وهما أسن منه بسنتين. رجل ادعى أنه عبيد الله المهدي قام [على المستكفي] بمجريط، وثب به وقتل، ولم يكن عبيد الله. [قال أبو محمد] : صح عندنا أنه [لم يكن عبيد الله المهدي وإنما] كان مملوكاً للعطار (1) المعروف بالفصيح [وادعى أنه عبيد الله المهدي] . عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن محمد بن الأصبغ بن الحكم الربضي: قم بمليلة وتسمى بالخلافة ثم اضمحل أمره وعاش في غمار الناس سنتين، وأخواه عبد الملك الفقيه وهشام [حيان] أسن منه بسنتين (2) ، وعاشا بعده دهراً. وتسمى محمد بن زيد القائم بطبرستان بالداعي ولم يسَّ بالخلافة. - 8 - من ولي الخلافة في حياة أبيه: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، مات في حياة أبيه، أبي قحافة عثمان بن عامر

_ (1) ب: غلام العطار. (2) ب: بسنين كثيرة.

رحمه الله، [وورثه أبوه] . سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر: ولي وأبوه حيّ، وقتل [وورثه أبوه الحكم] ثم قتل أبوه بعده بساعة، [قتله علي بن حمود] . عبد الرحمن بن الحكم [الأوسط] : بويع له بالخلافة وأبوه حي [مريض] قد يئس منه، وعلم بذلك ولم يشاور فيه [إلا أنه قد كان ولاه عهده قبل ذلك] وعاش بعد ذلك ثلاثة أيام متبرماً بالحياة. عبد الكريم الطائع: انخلع له أبوه المطيع باختياره، وعاش بعد انخلاعه أربعين يوماً ومات. وأخبر [ني] مخبر ولم يصح عندي أن أحمد القادر ولي الخلافة وأبوه إسحاق بن المقتدر حيّ. - 9 - من ولي الخلافة وأخوه أسنُّ منه [حيّ] : 1 -: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كان أخوه عقيل أسنَّ منه، وعاش بعد أخيه علي دهراً (1) . يزيد بن معاوية: كان أخوه عبد الله بن معاوية أسنَّ منه، وكان يُضَعَّف، وكان عبد الله هذا يوم مرج راهط مع الضحاك بن قيس، فلما هزم أهل دمشق، أدركه عبيد الله بن زياد فأردفه، فرآه عمرو بن سعيد بن العاص فأراد قتله، فسبه عبيد الله ومنعه منه. ولا عقب لعبد الله. هشام بن عبد الملك: ولي الخلافة وأخوه مسلمة أسن منه، وهو يومئذ حي. الوليد بن يزيد: ولي الخلافة وله أخ أسن منه. يزيد وإبراهيم ابنا الوليد: كلاهما ولي الخلافة، والعباس [أخوهما] وغيره من إخوتهما أحياء أسن منهما؛ ومروان بن محمد بن مروان ولى عهده ابنيه عبد الله ثم عبيد الله، وابنه عبد الملك أسنّ منهما ولم يولّه.

_ (1) ب: ومات بعده بزمان.

2 -[وبالأندلس] : عبد الرحمن بن معاوية [الداخل] : ولي الأندلس وله أخوة أحياء أسن منه، منهم الوليد بن معاوية، فاتهم عبد الرحمن أخاه الوليد هذا في أمر ابنه المغيرة بن الوليد، فقتل المغيرة ونفي أبوه الوليد وسائر ولده عن الأندلس (1) ، ومن ولده [أبو المطرف] عبد الرحمن الفقيه المغيري إمام مسجد طالوت بقرطبة، وأخوه. هشام [الرضى] بن عبد الرحمن بن معاوية: ولي أخوه سليمان أسن منه بأربعة عشر عاماً، ولم يزل محارباً له طول حياته (2) ، وقد ذكر لي (3) أن غيره من إخوته كان أسن منه أيضاً. الحكم بن هشام: ولي الخلافة وأخوه عبد الملك (4) أسن منه حي في المطبق، وبقي فيه سبعة عشر عاماً إلى أن مات في المطبق [في حياة أخيه] . عبد الرحمن بن الحكم بن هشام: ولي [الأمر] وأخوه هشام (5) [بن الحكم] حي أسن منه، وكان أبوهما قد سخط على هشام المذكور إذ بلغه أنه يتمنى موته. 3 - ومن بني العباس: أبو العباس السفاح: ولي أخوه أبو جعفر المنصور أسن منه بسنتين (6) وأعقل منه، وولي بعده. الرشيد: ولي وأخوه علي بن المهدي حي أسن منه - أعني هارون - وأم عليّ هذا ريطة بنت أبي العباس السفاح. الأمين: ولي وأخوه المأمون حي، أسن منه بستة أشهر وأعقل، وولي بعده. وذكر بعض أهل الأخبار (7) أن الواثق ولي أخوه محمد والد المستعين حي، وهو أسن من الواثق.

_ (1) ب: وجميع ولده وأخرجهم عن الأندلس. (2) ب: ونازعه طول حياته. (3) ب: وقد أخبرت. (4) قال ابن حزم في عبد الملك بن هشام: نكبه أبوه في حياته وسجنه، فبقي مسجوناً بضع عشرة سنة حتى مات مسجوناً في ولاية أخيه الحكم بن هشام (الجمهرة: 95) . (5) كان هشام أكبر ولد الحكم؛ فلما بلغه أنه يتمنى موته حلف ألا يلي الخلافة بعده أبداً (الجمهرة: 98) . (6) ب: بسنين. (7) ب: ورأيت في بعض الأخبار.

وان المتوكل ولي أخوه أحمد أسن منه وأعقل حيّ يومئذ. ولم يتحقق عندي كلا الخبرين، وهما عندي إلى الحق أقرب، والله أعلم. المعتز: ولي الخلافة وجماعة من إخوته (1) أسن منه [وهم أحياء] منهم الأحدب موسى شقيق المنتصر، ومنهم إبراهيم المؤيد المعقود له بالعهد (2) بعد المعتز، كان أس من المعتز بنحو أربع سنين. ومنهم الموفق شقيق المؤيد، كان مولده سنة تسع وعشرين ومائتين بعد المؤيد؛ ومنهم المعتمد، كان مولده سنة تسع وعشرين قبل الموفق بستة أشهر [وذكر في بعض الأخبار أن الموفق كان أسن من المعتمد، ولم يصحّ ذلك، بل الأصح أن المعتمد كان أسن منه بستة أشهر] ومنهم أبو عيسى، وكان مولد المعتز سنة إحدى وثلاثين في أولها. وإنما مال إليه بسبب أمه قبيحة. وكان المتوكل في آخر أمره قد تبنى خلع المنتصر وإقرار المعتز بالأمر، فعالجه المنتصر، فدس عليه من قتله. وأظن أن أبا عيسى كان أسن من المعتمد، وولي المعتمد وأبو عيسى حيّ، ولم يكن في ولد المتوكل أعف ولا أحسن دينأً من أبي عيسى هذا. وأظن أن القاهر ولي الخلافة وأخوه هارون أسن منه [وهو حي] . [وكذلك] افضل المطيع: ولي الخلافة وإخوته العباس [وعبد الواحد] والمتقي (3) وعلي [كلهم] أسن منه [بسنين] وهم كلهم أحياء. الطائع: ولي الخلافة وأخوه عبد العزيز حي أسن منه، وكان عبد العزيز هذا دهره كله هارباً مع أمه عن أبيه. 4 -[ومن بني علي] : علي بن حمود: ولي الأمر (4) وأخوه القاسم أسن منه بعشر سنين (5) ، م ولي القاسم بعد موته. وحسن بن يحيى بن علي بن حمود: ولي وأخوه إدريس حي، وهو أسن منه، وولي بعده.

_ (1) ب: وأكثر إخوته. (2) ب: بالأمر. (3) م: والمقتفي. (4) ب: الخلافة. (5) ب: بسنتين أو نحوهما.

5 - ومن ولاة مصر (1) : نزار بن أبي تميم: ولي وأخوه تميم أسن منه، حي. - 10 - (2) أربعة إخوة ولوا الخلافة كلهم: لا يعرفون إلا الوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبد الملك بن مروان. وأما ثلاثة إخوة: فالأمين والمأمون والمعتصم بنو الرشيد. والمنتصر والمعتز والمعتمد بنو المتوكل. والمكتفي والمقتدر والقاهر بنو المتضد - ودعي أخوهم هارون بن المعتضد إلى الخلافة، فامتنع، ولم يكن للمعتضد ابن ذكر غيرهم أربعتهم. الراضي والمتقي والمطيع بنو المقتدر. وأما أخوان: 1 -. فيزيد وإبراهيم ابنا الوليد. والمنذر وعبد الله ابنا محمد. ومحمد [المهدي] وعبد الرحمن [المستظهر] ابنا هشام بن عبد الجبار بن الناصر. 2 - ومن بني العباس: السفاح والمنصور ابنا محمد. الهادي والرشيد ابنا المهدي. الواثق والمتوكل ابنا المعتصم. 3 - ومن بي علي: علي والقاسم ابنا حمود.

_ (1) ب: ومن المنتمين إليهم. (2) عقد ابن الجوزي فصلاً مثل هذا في المدهش: 62.

من كان له لقبان (1) : 1 - من الخلفاء: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الناصر لدين الله، القائم بأمر الله ثم اقتصر على الناصر فقط. سليمان بن الحكم: المستعين بالله، الظافر بحول الله. 2 - من ولاة العهود: أبو أحمد الموفق بالله الناصر لدين الله. - 11 - أكثر ما اجتمع في عصر واحد ممن سبق لهم في علم الله عز وجل أن يلوا الخلافة: كان ذلك في ثلاث أوقات: أحدها: آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع في ذلك أحياء: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ومعاوية وعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم. نعم وكان معهم يومئذ حياً عبد الله بن وهب الراسبي، وكان قد بايعه الخوارج بالخلافة وسلموا عليه بإمرة أمير المؤمنين. والوقت الثاني: آخر أيام الوليد بن عبد الملك، فإنه اجتمع فيه أحياء: الوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز ويزيد وهشام والوليد بن يزيد وإبراهيم [ويزيد] ابنا الوليد ومروان بن محمد وأبو جعفر المنصور، وكلهم ولي الخلافة. والوقت الثالث: آخر أيام المؤيد هشام بن الحكم كان اجتمع فيها أحياء: هشام والمهدي وسليمان والمستظهر والمستكفي والمعتد والمرتضى وعلي والقاسم ويحيى وإدريس ومحمد بن القاسم وكلهم سلم عليه بإمرة المؤمنين (2) .

_ (1) ب: اسمان. (2) ب: وكل هؤلاء ولوا الخلافة.

أعرق الناس في الخلافة أباً عن أب دون أن يقطع بينهما ومن لم يلِ (1) : 1 - في بني العباس ستة في نسق: المنتصر والمعتز والمعتمد بنو المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، وسلم بها على عبد الله بن المعتز يوماً وليلة فكان سابعاً. 2 - وفي بني أمية بالأندلس ستة في نسق: المنذر وعبد الله ابنا محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن. 3 - وتمَّ من هذا لولاة مصر ما لم يتم لأحد وهم معد بن علي بن منصور بن نزار بن معد بن إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله، ثمانية في نسق. - 13 - من ولي من الخلفاء شهوراً وأياماً ولم يتم سنة (2) : الحسن بن علي رضي الله عنهما [ولي] ستة أشهر. معاوية بن يزيد [ولي] أربعين يوماً. مروان بن الحكم [ولي] عشرة أشهر. يزيد بن الوليد [ولي] ستة أشهر. أخوه إبراهيم [ولي] ثلاثة أشهر (3) . المستظهر [ولي] سبعة وأربعين يوماً. [محمد] المهتدي رحمه الله [ولي] أحد عشر شهراً. المنتصر [ولي] ستة أشهر. وقد عدَّ فيهم محمد بن هشام بن عبد الجبار وليس بذلك، لأنه قام إلى أن قتل، خطب له بالخلافة، وسلم عليه بها سبعة أشهر، منها ستة أشهر بالثغر خاصة قطعت بين دولتيه بقرطبة.

_ (1) عند مبتدا هذه الفقرة ينتهي الاتفاق في الترتيب بين النسختين. (2) ب: أياماً أو شهوراً ما دون السنة. (3) جاء بعده في نسخة الحميدي ب: " محمد بن هشام المهدي ولي أحد عشر شهراً في خلافتيه معاً " وانظر ما جاء في آخر الفقرة هذه.

من طال عمره منهم فولي عشرين سنة فصاعداً: معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: ولي الخلافة بعد علي عليه السلام عشرين سنة. عبد الملك بن مروان: سلم عليه بالخلافة وولي عشرين سنة. المأمون: وليها عشرين سنة. المعتمد: وليها عشرين سنة. أبو جعفر المنصور: وليها إحدى وعشرين سنة. الرشيد: وليها ثلاثاً وعشرين سنة. المقتدر: وليها خمساً وعشرين سنة. المطيع: وليها ثلاثين سنة. أما من ولي لأنه أسن فأكثرهم ملك أكثر من عشرين سنة ومن ثلاثين سنة: [عبد الرحمن بن معاوية وليها أربعاً وثلاثين سنة. محمد بن عبد الرحمن بن الحكم وليها خمساً وثلاثين سنة. هشام المؤيد وليها ستاً وثلاثين سنة] . القادر وليها ثلاثاً وأربعين سنة. أبو جعفر القائم ابنه: له منذ ولي ثلاثون سنة (1) . ووليها عبد الرحمن الناصر خمسين سنة وستة أشهر متصلة. - 15 - المعرقات في الخلافة من النساء: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوجها علي وابنها الحسن رضي الله عنهم. أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب زوجها عمر بن الخطاب، وأبوها علي، وأخوها الحسن رضي الله عنهم، وجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. بنت أخرى لعلي تزوجها عبد الملك بن مروان.

_ (1) هذا يعني تعديلاً جرى في الرسالة سنة 452 (انظر المقدمة) .

عائشة بنت الواثق بن المعتصم أخت المهتدي وتزوجها المستعين. عاتكة بنت يزيد بن معاوية أبوها خليفة وجدها خليفة وابنها خليفة وابن ابنها خليفة [وهو الوليد بن يزيد بن عبد الملك] وزوجها خليفة وأخوه خليفة. فاطمة بنت عبد الملك بن مروان: جدها خليفة (1) وأبوها خليفة وإخوتها أربعة خلفاء، وبنو إخوتها ثلاثة خلفاء، وزوجها وهو ابن عمها عمر بن عبد العزيز خليفة (ولم يخلف عبد الملك ابنة غيرها، وخلف أربعة عشر ذكراً) . [ودون هؤلاء] : عائشة بنت عثمان رضي الله عنه زوجها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جدها خليفة، وابنها عمر بن عبد العزيز خليفة وفيه يقول (2) الشاعر: بين أبي العصي وآل خطاب ... زبيدة أم جعفر بنت أبي جعفر المنصور: جدها خليفة وزوجها ابن عمها خليفة وهو الرشيد وابنها خليفة وهو الأمين. [ريطة بنت السفاح زوجة المهدي] . فاطمة بنت المنذر: زوجها الناصر. أم الحكم بن سليمان الظافر، زوجها المستظهر، وهي التي يقول فيها (3) : [من الطويل] . وماذا على أم الحبيبة إذ رأت ... جلالة قدري أن أكون لها صهراً حمامة بيت العبشميين (4) حَلَّقتْ ... فطرتُ إليها من سراتهم صقراً فاطمة بنت القاسم بن حمود: تزوجها يحيى بن علي.

_ (1) ها هو ابن حزم يعترف بخلافة مروان هنا (وكذلك ص: 55) بينا عدَّه في رسالة أسماء الخلفاء منشقاً على الخليفة ابن الزبير. (2) ب: ولذلك قال فيه. (3) انظر الجذوة: 24 والحلة السيراء 2: 12 - 17 والذخيرة 1/1: 56 وابن بسام يسمي بنت سليمان " حبيبة " وأمها اسمها " مشنف ". (4) الذخيرة: حمامة عش العبشميين رفرفت.

بنت إدريس بن علي تزوجها حسن بن يحيى بن علي بن حمود، وأخوها محمد ابن إدريس، ولما قتل زوجها أخاها يحيى بن إدريس المعروف بحيون سمت زوجها فقتلته (1) ، فهذه امرأة سُلِّمَ على أبيها وجدها وعمها وأخيها وزوجها بالخلافة. بنت علي بن حمود: تزوجها محمد بن القاسم، وسلم على أبيها وعمها وزوجها وأخويها وبني أخويها بالخلافة. (فأما من تزوجها خليفة وولدت خليفة فكثير جداً ولا معنى لذكر ذلك، [والمراد بهذا من أعتق خادمة وتزوجها وولدت خليفة كمرجان وصبح والخيزران وغيرهن] ) . - 16 - امرأة ولدت خليفتين (2) : ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسية: ولدت الوليد وسليمان. الخيزران: ولدت الهادي والرشيد. أم القاسم وعلي ابني حمود، سُلِّم عليهما بالخلافة. لبونة (3) بنت محمد العرمول (4) بن حسن بن القاسم، قنون، ولدت يحيى وإدريس، ابني علي، سلم عليهما بالخلافة (5) . - 17 - امرأة ولدت ولي عهد: إسحاق، أندلسية، ولدت إبراهيم المؤيد وأبا أحمد الموفق، لم يتم لهما أمر. - 18 - أم خليفة تزوجت بعد خلافة ابنها: أم خالد بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة هي أم معاوية بن يزيد، تزوجت

_ (1) قارن بجذوة المقتبس: 31. (2) المدهش: 64. (3) قارن بجذوة المقتبس: 23. (4) لم أهتد إلى صواب هذه الكلمة، ولعلها بالدال. (5) ذكر ابن الجوزي أيضاً شاهفريد بنت فيروز بن يزدجرد تزوجها الوليد بن عبد الملك فولدت له يزيد وإبراهيم.

مروان بن الحكم بعد موت ابنها معاوية. - 19 - من غرائب المناكح: 1 - امرأة تزوجها ثلاثة خلفاء: عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية تزوجها الوليد وهشام ومروان بن محمد. 2 - ويقول قائلون إن أم هشام المؤيد استحلها ابن أبي عامر بنكاح سرّ (1) ، والله أعلم. 3 - أخرى: تزوج عبد الملك بن مروان أم عثمان بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية بعد أن أطلق عمتها عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وتزوج هشام أختها عبدة بنت عبد الله بن يزيد، وتزوج معاوية بن هشام بنتاً لعبد الله من صغار بناته فكان سلف أبيه وجده. 4 - رجل تزوج بناته أربعة خلفاء (2) : عبد اللهبن عمر بن عثمان بن عفان تزوج بناته الوليد وسليمان ويزيد وهشام. 5 - المرزبانة بنت قديد بن منيع السعدي (3) : تزوجها نصر بن سيار [أمير خراسان] فلما خرج عن خراسان ومات تزوجها أبو مسلم السراج [والي خراسان] فلما قتل تزوجها أبو داود خالد بن إبراهيم الذهلي (4) [والي خراسان بعده] فجرت [هذه المرأة] مجرى ولاية خراسان، كل من ولي خراسان تزوجها. 6 - هند بنت أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارية تزوجها عبيد الله بن زياد أمير العراقين، ثم تزوجها الحجاج بن يوسف أمير العراقين. 7 -[منيعة العربية: تزوجها يعقوب بن الليث ثم أخوه عمرو بن الليث] .

_ (1) قلت في تعليقاتي على الجزء الأول من رسائل ابن حزم (ص: 92) وقد ذهب بعضهم إلى تصور علاقة عاطفية بين صبح والمنصور؛ وها هي الشائعات فيما أورده ابن حزم تتجاوز ذلك إلى " الزواج السري "، وانظر أيضاً البيان المغرب 2: 280 حيث يعرض أحد الشعراء بهذه العلاقة، وعلق المؤرخ على ذلك بقوله: يريد بذلك شغف أم هشام بابن أبي عامر لأنها كانت تتهم به ... الخ. (2) ذكر ذلك ابن الجوزي في المدهش: 63. (3) انظر الطبري 2: 1889، 1995. (4) هو النقيب، من بني عمرو بن شيبان بن ذهل وله ذكر كثير في الطبري (انظر الفهرست لتاريخ الطبري) وفي ب: النهشلي.

- 20 - من تزوج من الكبراء والعلية منكحاً ساقطاً (1) : 1 -: أبو جعفر المنصور (2) تزوج الحميرية أم المهدي وجعفر، وكانت قبله تحت إنسان خياط، فولدت له ابناً سماه لما ولي الأمر طيفور، ودعي بمولى أمير المؤمنين، وإنما كان أخا المهدي لأمه، وكان يسترون ذلك. ذكر ذلك أحمد بن أبي طاهر في أخبار بغداد. وتزوج المنصور أيضاً كردية (3) فولدت له جعفراً الأصعر ابن الكردية، وله عقٌ باقٍ. وتزوج المعتصم مولاة لعلي بن هشام المروزي القائد. وتزوج محمد بن المعتصم مخارق بنت عبيد من أهل الموصل فولدت له المستعين (4) . المعتمد تزوج في خلافته مأمون بنت الثلاج، رقاصة في المجالس عند العامة وأدخلها قصره. عبد الرحمن الناصر تزوج أخت نجدة، امرأة قصَّارة، رآها على بعض الأنهار، تدعى أم قريش. أبو عبد الرحمن المستكفي تزوج بنت الأسلمي (5) . 2 - من الرؤساء: عبد الله بن طاهر بن الحسين تزوج يهودية بنت يهودي صباغ من أهل الموصل وأجبرها وأباها على الإسلام.

_ (1) سقط هذا الفصل من النسخة ب (نسخة الحميدي) . (2) الجمهرة: 21 أم موسى الحميرية تزوجها أبو جعفر بالقيروان في دولة بني أمية وكانت قبله عند فتىً خليع من ولد عبيد الله بن العباس ... وكان قد وقع إلى أفريقية، فولدت له ابنة ومات فاتصل موته بقومه، فنهض أبو جعفر بنفسه لاجتلاب بنته فوجدها قد تزوجت رجلاً خياطاً وولدت منه ابناً، ومات الخياط فتزوجها أبو جعفر لجمالها وسمى ابن الخياط طيفور، فلما صارت إليهم الخلافة قالوا: طيفور مولى المهدي وإنما هو أخوه لأمه وسترد الإشارة إلى ذلك في رسالة أسماء الخلفاء. (3) الجمهرة: 21 تزوجها المنصور في زمن بني أمية في بعض أسفاره. (4) الجمهرة: 25 وانظر رسالة أمهات الخلفاء فيما يلي. (5) سمى ابن حيان المرأة التي كلف بها المستكفي " بنت سكرى الموروية " فلا أدري أهي بنت الأسلمي أم لا. (انظر الذخيرة 1/1: 433) .

عبد الرحمن بن أبي عامر تزوج واجد بنت رجل بستاني (1) . خالد بن أمية بن عيسى بن سهيل تزوج أسماء وخبرها مشهور. الوزير تمام بن عامر بن تمام بن علقمة (2) تزوج بنت رومان النصراني ولها خبر ذكره أحمد بن محمد بن عبد البر في أخبار الفقهاء، فولدت له ابنة تزوجها فطيس بن أصبغ، فولدت له الوزير عيسى بن فطيس (3) . - 21 - من تزوج من غمار الناس في الخلفاء (4) : يدر بن يعلى اليفرني تزوج امرأة حسنية، وابنه تميم كذلك أيضاً، ولقد ملك البلاد بنو خزرون، وهم أشراف البربر، فما استجازوا هذا قط. أبو مسلم تزوج المرزبانة بنت قديد. محمد بن زياد تزوج بنت يزيد بن معاوية. أحمد بن رشيق الكاتب مولى بني شهيد (5) ، تزوج [أسماء] بنت هشام بن عبد الجبار أخت [خليفتين] المهدي والمستظهر. بنت عبد الله بن يحيى بن أبي عامر (6) - وأمها بريهة بنت محمد بن أبي عامر -

_ (1) انظر الجزء الأول من الرسائل: 92 حيث ذكر أن عبد الملك المظفر هو الذي كلف بواجد بنت رجل جنَّان (بستاني) وتزوجها. (2) تمام بن عامر (- 283) ولي خطة الوزارة للأمير عبد الرحمن بن محمد وولديه من بعده وكان عالماً أديباً (الحلة 1: 143 - 144) وقد تزوج أم الوليد بنت خلف بن رومان النصرانية وكانت بارعة الجمال (انظر المقتبس تحقيق د. مكي، ط. بيروت ص: 182) . (3) استكتبه الناصر ثم ولاه الوزارة (329) مكان أبيه فطيس (إعتاب الكتاب: 190) . (4) سقط هذا الفصل من ب. (5) هنا يتبين تقييم ابن حزم للولاء، فابن رشيق هذا كان من أكبر كتاب عصره، قدمه مجاهد العامري على كل من في دولته، وهو الذي آوى ابن حزم حين نعي عليه بقرطبة وغيرها خلافه مذهب مالك، وبين يديه تناظر هو والباجي؛ وقال الحميدي: ما رأينا من أهل الرياسة من يجري مجراه مع هيبة مفرطة وتواضع وحلم (الحلة: 128 ومع كل ذلك فإنه يقع في هذه الرسالة تحت عنوان " غمار الناس ". (6) اسمها حبيبة وقد زوجها له عبد الملك المظفر فهي بنت أخته بريهة، ولذلك قال ابن عم أبيها عبد الله بن عمرو بن أبي عامر يذم فعل المظفر: عربي مزوج ... عبده بنت أخته قبح الله فعل ذا ... ورماه بمقته وقيل انه شعر لعم حبيبة المدعو عبد الملك بن يحيى (الحلة السيراء 1: 278 والجذوة: 372) .

تزوجها عبد الملك بن قند مولى فائق. أختها لأبيها وأمها تزوجها عامر بن أفلح عبد جدها. بنت عبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبي عامر: تزوجها حسن بن مجاهد مولى جدها، ثم خلعها أبوها منه. بنت عمر بن عبد الله بن عمرو بن أبي عامر - وأمها بنت عبد الله بن محمد بن أبي عمر - تزوجها النايه بن غندشلب. (ذكر (1) أن عريب المأمونية [قيل أنها كانت بنت جعفر بن يحيى بن برمك] كانت تقول: ركبني (2) سبعة من الخلفاء، فإن صدقت فقد كان فيهم الأب والابن (3)) [والله أعلم] . - 22 - من كان يظهر التعبد والخشوع وهو من الطغاة (4) : الوليد بن عبد الملك: كان يركب حماراً ويمشي في الأسواق ويحتسب على البقالين وهو أحد الفراعنة (5) . حماد بن بلقين (6) : كانت أفعاله كأفعال بابك، وهو يصوم رجب وشعبان ولا يشرب الخمر. عبد الرحمن الأسلمي من أسلم إخوة خزاعة: فكان يؤذن ويؤم جيرانه في جميع الصلوات ثم ينبههم على الغارات على المسلمين وإفساد السبيل.

_ (1) انظر تحفة العروس للتجاني: 192. (2) التحفة: دخل بي. (3) ب والتحفة: فيهم الوالد والولد. (4) سقط هذا الفصل من النسخة ب. (5) تردد بعض المصادر التاريخية هذا عن الوليد، جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي: 243 وكان الوليد جباراً ظالماً؛ ولكنها لا تذكر شيئاً من ضروب ظلمه وإنما تحمل عليه سياسة بعض ولاته مثل الحجاج وقرة بن شريك ... وها هو ابن حزم يأخذ بهذا الزعم أيضاً. (6) مؤسس دولة بني حماد وباني القلعة المعروفة بهم؛ قرأ الفقه بالقيروان ونظر في الجدل وكان شجاعاً جواداً، وجرت بينه وبين أخيه باديس حروب وأهوال، ومات بتازمرت سنة 419 (أعمال الأعلام - القسم الثالث -: 67 - 76، 85 - 86) .

- 23 - أول من اتخذ من الخلفاء قاعدة جعلها دار ملك (1) : 1 -: أبو جعفر المنصور بنى بغداد. وكان سكنى المهدي بعده في أكثر أيامه عيساباذ. وأكثر سكنى الهادي موساباذ. وكان أكثر مقام الرشيد بالحيرة والأنبار والرقة، وأراد أن يوطن أنطاكية ثم لم يفعل. ثم اتخذ المعتصم سر من رأى قاعدة. ثم أراد المتوكل أن يتخذ دمشق قاعدة، ثم بدا له، وذُكِرَ أنه أراد أن يتخذ سمرقند قاعدة. 2 - وأما بنو أمية: فإن معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك والوليد قطنوا دمشق. وأما سليمان فقطن الرملة من أعمال فلسطين. وأما يزيد فقطن البخراء من أعمال حمص، وكذلك ابنه بعده. وأما عمر بن عبد العزيز فقطن خناصرة من عمل حمص. وأما هشام فقطن الرصافة من عمل الرقة. وسكن يزيد وإبراهيم دمشق. وسكن يزيد وإبراهيم دمشق. وكان مروان متحولاً. - 24 - أول من ذكر فاشياً من الخلفاء بشرب الخمر (2) : يزيد بن معاوية ثم يزيد بن عبد الملك ثم ابنه الوليد - دون مجاهرة بذلك ولا

_ (1) سقط هذا الفصل من ب. (2) لم يرد هذا الفصل في ب.

إعلان به، ولكن الوليد بن يزيد جاهر باستصحاب المغنين فقط -. ثم من بني العباس الهادي والرشيد، وإنما كان يشرب الرشيد ما اختلف في جوازه فقط، وأما خمر العنب فلا. ثم جاهر الأمين جهاراً قبيحاً بالخمر، وأما المأمون فكان يشرب ما اختلف فيه فقط، وكذلك المعتصم والواثق، ثم جاهر المتوكل وكل من بعده إلا المهدي والمتقي، وكانا ناسكين لا يقربان شيئاً من المحرمات رحمهما الله تعالى، وكذلك القادر والقائم ابنه. وأما بنو أمية بالأندلس فجاهر منهم الحكم الربضي، إلا أنه لم يشرب أحد من خلفائهم خمر العنب، وإنما كانوا يشربون العسل المطبوخ فقط، هذا أمر لا شك فيه عندنا أصلاً. فأما عبد الله منهم والحكم والمؤيد والمهدي وسليمان والمستظهر فليس أحد منهم شرب في ولايته: لا مختلفاً فيه ولا خمراً، تديناً وتنزهاً، هذا أمر شاهدنا بعضه وصحَّ عندنا سائره. وكان القاسم بن حمود لا يشرب شيئاً من الأنبذة تديناً. وأما سائرهم فمجاهرون. - 25 - ثلاثة ترشحوا للخلافة، ماتوا في أربعين يوماً (1) : عبد الرحمن المستظهر وسليمان بن المرتضى ومحمد بن عبد الرحمن المعروف بالعراقي بن هشام بن سليمان بن الناصر، قتل المستظهر يوم السبت لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة، ومات سليمان بن المرتضى بعده بعشرة أيام حتف أنفه، وقتل العراقي بعده خنقاً لثلاث عشرة ليلة خلت لذي الحجة. - 26 - نَوْكَى الخلفاء: من بني العباس: الأمين [بن زبيدة] . المعتمد. القاهر. المستكفي. ومن بني أمية: المستكفي. ( [إلا أن القاهر من هؤلاء كان نوكه ممزوجاً بسلاطة، وما كان هشام المؤيد بدونهم إلا أنه كان متنسكاً لا يؤذي أحداً، ولا يمنع أحداً من أن يؤذى، وكان أبعدهم من كل خير وأجمعهم لكل خلة سوء المستكفي والمستكفي] ) .

_ (1) سقط هذا الفصل من ب.

- 27 - *حَزَمَتُهم (1) بعد الصحابة رضي الله عنهم: مروان بن الحكم، عبد الملك بن مروان، هشام بن عبد الملك، مروان بن محمد، عبد الرحمن بن معاوية، أبو جعفر المنصور؛ وما كان المعتصم والمعتضد ببعيدين ممن ذكرنا. - 28 - *ذوو الفتوح منهم: أبو بكر. عمر. عثمان. معاوية، رضي الله عنهم. الوليد. سليمان (2) : فإن خيله كانت تحارب الفرنج في ثغور الأندلس، وعسكر له آخر يحارب النوبة في عقر دارهم، وعسكر له آخر يحارب القسطنطينية قد أشرف على فتحها ويسكنها المسلمون لولا موته، وجيوشه تحارب الترك والخزر والهند، وهو ساكن في قريته ابن سبع وثلاثين سنة، وحمل إليه رأس عبد العزيز بن موسى بن نصير صاحب الأندلس ورأس قتيبة بن مسلم صاحب خراسان، إذ هما مخالفان (3) . هشام أخوه: بلغت خيله أقاصي أرض السودان خلف برِّ غانة إلى معادن الذهب، وفتح صقلية وإقريطش (4) . وأسلم ملك كابل ايام المأمون. وكان للمعتصم فَتْحُ بابكَ المتوسطِ بالكفر دارَ الإسلام فقط (وكان ضدهم: محمد بن عبد الرحمن المستكفي فإنه أقام بقرطبة سبعة عشر شهراً لا تجاوز طاعته فرسخاً) . - 29 - *عالمهم بعد الصدر الأول: المأمون (وكان أخوه المعتصم أمياً لا يقرأ ولا يكتب) .

_ (1) م: حبرهم. (2) من حق هذه الفتوح أن تقرن بالوليد لا بسليمان (ما عدا غزوة القسطنطينية) فإن فتح السند وما وراء النهر والأندلس إنما تمَّ في عهد الوليد، وما كان دور سليمان إلا استمراراً لما تقدمه. (3) خلاف قتيبة أمر تتحدث به المصادر التاريخية، أما القطع بخلاف عبد العزيز بن موسى ففيه نظر. (4) غزيت صقلية أيام هشام (سنة 112، 113، 114، 115، 116، 118) (تاريخ خليفة: 504، 506، 507، 510، 511) 515) وفي سنة 116 أغزى ابن الحبحاب والي أفريقية عبد الرحمن بن حبيب أرض السودان فظفر وأصاب ذهباً كثيراً (المصدر نفسه: 51) فأم أقريطش فلا ذكر لفتحها أيام هشام.

وكان الحكم المستنصر من أشد الناس صبابة بالعلوم لا سيما بالأخبار والمقالات. - 30 - *عُدُلهم بعد الصحابة رضي الله عنهم: معاوية بن يزيد. عمر بن عبد العزيز، يزيد بن الوليد. محمد المهتدي. هشام الرضى (1) . - 31 - *مسرفوهم (2) : يزيد بن معاوية. [الوليد بن عبد الملك] . السفاح. أبو جعفر المصور. الهادي. المعتضد. الحكم الربضي. عبد الرحن الناصر. سليما [الظافر] بن الحكم؛ إلا أنه من بينهم كان إسرافهُ وجوره ممزوجين بضعف وخساسة نفس وسوء سياسة. - 32 - *أدباؤهم [وشعراؤهم] : الوليد بن يزيد. إبراهيم بن المهدي. [الراضي] . سليمان بن الحكم. المستظهر. - 33 - *مجاهروهم بالانهماك في المعاصي واللذات: يزيد بن عبد الملك. ابنه الوليد. الأمين. المتوكل (إلا أن إظهاره السنة وسعادته سترا عليه) . المقتدر. القاهر. المستكفي. الحكم الربضي (3) [وكان يَخْصِي من اشتهر بالجمال من أبناء أهل بلده، منهم طرفة بن لقيط أخو عبد الله بن لقيط، تصَّرف أبوه وإخوته وآله في الولايات الرفيعة، ومنهم نصر صاحب منية نصر، كان أبوه من اسالمة أهل الذمة من أهل

_ (1) جاء في أعمال الأعلام: 14 أن ابن حزم عد هشاماً الرضى ثالث ثلاثة من العدول في بني أمية خاصة؛ وهذا يختلف عما ورد هنا إذ يكون رابع أربعة. (2) ح: مريدهم. (3) انظر المغرب 1: 44 حيث ينقل عن نقط العروس، والنصّ فيه: " ومن المجاهرين بالمعاصي السفاحين للدماء لدينا الحكم الربضي، وقد كان جبروته يخصي من اشتهر بالجمال من أبناء رعيته ليدخلهم قصره " وذكر ذلك المقري في النفح 1: 342 نقلاً عن ابن حزم.

قرمونة، ومات قبل موت ابنه نصر بأيام، ومنهم شريح صاحب مسجد شريح] . [عبد الرحمن الناصر (1) : وله تعليق أولاد السودان في الناعورة وركوب رسيس بقلنسوة وسيف في موكبه (قال أبو محمد: ورسيس هذه كانت امرأة من دار الخراج (2) رفيعة مهيبة اتصلت بالناصر وخفت عليه حتى حمله ذلك على أن أركبها مكشوفة في موكبه بقلنسوة وسيف تقلدته، على بغل خلفه، بينه وبين الأولاد، في يوم سرور، وشقَّ هكذا قرطبة على باب العطارين [من] الرَّبَض الغربيّ كلّه إلى الزهراء. حدثني بذلك الوزير أبو عبدة (3) رحمه الله وأبو عبد الله ابن الغليظ (4) كلاهما عن مالك بن الحسن والد أبي عبدة أنه سلم على الناصر في جملة الموالي في ذلك النهار ورأى هذه الحال] . - 34 - * [ذوو السعد منهم: أريد بذلك] من سعد منهم بغير استحقاق ولا تعب ولا عناء: السفاح. المتوكل. - 35 - *مشائيمهم على قومهم وعلى الناس: سليمان [الظافر] بن الحكم. محمد المستكفي. ومن بني العباس الراضي، فإنه أبطل جند الخلافة جملة فضعفت الخلافة حينئذ

_ (1) قال ابن حيان (المقتبس 5: 37) قد عارض الفقيه العالم أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي جميع ما ظهر للناس وحمله نقلة أخبارهم من محاسن هذا الخليفة الناصر لدين الله بما عفاها ونسخها من سماج معايبه إذ قال في كتابه المسمى نقط العروس في نوادر الأخبار عندما ذكر مثالب جد جده الأقدم الحكم بن هشام الجبار صاحب الربض فعطف على عبد الرحمن الناصر لدين الله هذا فقال: وما كان عبد الرحمن الناصر لدين الله بالبعيد من جد جده الحكم بن هشام في انهماكه في المعاصي والتباسه بالريب وعيثه في الرعايا واستهتاره باللذات وتغليظ العقوبات وتهوينه بالدماء فهو الذي علق أولاد السودان في ناعورة قصره بدلاً من الأقداس الغارفة للماء فأهلكهم، واستركب رسيس الماجنة مضحكته [في] موكبه بسيف وقلنسوة وهي عجوز سوء فاجرة، إلى مناكير كانت له باطنة، الله أعلم بها. (2) يعني أنها من النساء اللواتي كن يسمين " الخراجيات "، لهن دور خاصة بهن، هي الفنادق؛ وقد جاء في رسالة ابن عبدون في الحسبة: 50 يجب أن ينهى نساء دور الخراج عن كشف رءوسهن خارج الفندق. (3) يريد بأبي عبدة: حسان بن مالك بن أبي عبدة الوزير أحد الأئمة في اللغة والآداب، ومات عن سنّ عالية قبل العشرين وأربعمائة (الجذوة: 183 - 184) . (4) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الأعلى بن هاشم من أهل قرطبة وكان من أهل العلم والأدب، وولي قضاء مالقة؛ روى عنه ابن حزم (الجذوة: 66 والصلة: 509) .

وبطل رسمها ولم يبق منها إلا اسمها. - 36 - *العور منهم: المهدي بن المنصور. الواثق. عبد الرحمن بن معاوية. - 37 - خليفة أبخر: عبد الملك بن مروان. خليفة ألثغ: المستعين بن محمد بن المعتصم كان يجعل السين ثاء (1) . خليفة ممرور: عبد الرحمن بن الحكم. - 38 - *المتغلب عليهم (2) : 1 -: المطيع. القادر. القائم. أبو جعفر الراضي في آخر أيامه. المتقي. المعتمد في آخر أيامه. القاهر في أول أيامه. المستكفي [في أولها] . 2 - ومن بني أمية: [هشام بن الحكم] المؤيد. [محمد] المستكفي. المعتد. - 39 - *من غاب عن موضع خلافته: المأمون بويع له ببغداد ولم يدخلها إلى [نحو من] عشرين شهراً. المعتد بويع له بقرطبة ولم يدخلها إلى [نحو] ثلاثة أعوام. - 40 - *من ولي مرتين: المأمون بويع له ببغداد ثم خلع بها ثم بويع الأمين.

_ (1) ب: كانت لثغته في السين يجعلها ثاء. (2) ب: من لم يكن بيده من الخلافة إلا الاسم.

* [من بويع] ثم خلع ثم رُد: 1 -: المقتدر. القاهر. 2 - ومن بني أمية: هشام المؤيد. المهدي. سليمان. 3 - ومن بني علي: القاسم. ويحيى بن علي. - 42 - *من ولي [منهم] بعد عمه: الوليد بن يزيد بعد هشام عمه. المعتضد بعد المعتمد عمه. يحيى بن القاسم. - 43 - *من ولي بعد جده: عبد الرحمن الناصر [بعد عبد الله] . وسائرهم إنما ولي بعد أب أو بعد أخ أو ابن عم قريب أو بعيد. - 44 - *أكثرهم ولداً (1) : عبد الرحمن بن الحكم كان له مائة ولد، خمسون ذكراً وخمسون أنثى (2) .

_ (1) ب: أكثر الخلفاء. (2) انظر المغرب 1: 45 حيث قال: ذكر ابن حزم في نقط العروس أن ولده مائة النصف ذكور؛ وذكر المقري في النفح 1: 347 أن عدد ولده مائة: خمسون من الذكور وخمسون من الإناث، وعند ابن عذاري 2: 122 أن الذكور خمسة وأربعون والإناث اثنتان وأربعون، ومن الغريب أن يقول ابن حزم نفسه في الفصل 1: 175 أنه ولد له خمسة وأربعون ذكراً عاش منهم نيف وثلاثون.

- 45 - *من لم يكن له ولد منهم: معاوية بن يزيد. هشام بن الحكم. - 46 - *من انقرض عقبه منهم: [الحكم] المستنصر بالله. [محمد] المهدي و [عبد الرحمن] المستظهر ابنا هشام بن عبد الجبار. محمد المستكفي. المنذر بن محمد. ومن بني العباس: أبو العباس السفاح. - 47 - *من ولي منهم صبياً: جعفر المقتدر: لم يستكمل إحدى (1) عشرة سنة. هشام المؤيد: ولي ولم يستكمل إحدى عشرة سنة. وأما معاوية بن يزيد فإنه ولي وله تسع عشرة سنة. ولم يل الخلافة أحد دون العشرين غير هؤلاء. [قال ابن حيان: ذكر نفطويه في كتابه أنه لم يل الخلافة قبل المعتز بالله أحد كان أصغر سناً منه، مولده في شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (2) ، قبل خلافة والده المتوكل بمائة يوم محصاة، وبويع بالخلافة بسرّ من رأى صدر المحرم سنة إحدى وخمسين ومائتين، قال: وسنه ثمان عشرة سنة وأربعة أشهر. وقال ابن كامل: قتل المعتز وله عشرون سنة كاملة بعد خلعه بأيام أربعة] (3) . [ويلحق بهؤلاء المقلدين في الصغر منصور بن نزار الملقب بالحاكم بأمر الله

_ (1) ب: أربع؛ وعند ابن العمراني: 153 وكان سنه ثلاث عشرة سنة. (2) ابن العمراني (132) : الحادي عشر من ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، فعمره على هذا الحساب اثنتان وعشرون سنة وثلاثة أشهر وأيام (ومدة خلافته أربع سنين وستة أشهر وخمسة وعشرون يوماً فتكون بيعته وهو دون العشرين) وقد روي أن عمره (يوم توفي) كان أربعاً وعشرين سنة. (3) هكذا هو النص عند الحميدي؛ وأما في نشرة زيبولد فقد ورد في موضعه: " وقد غلط قوم فأدخلوا المعتز في هذه الجملة وهذا باطل، ما ولد المعتز إلا أول سنة إحدى وثلاثين وبلغ الحلم في رأس عين في سفرة أبيه إلى الشام، وولد له المعتضد () في أولها، هذا كله لا شك فيه " والعبارة مضطربة؛ ويبدو أن ابن حزم عدل عن هذا الرأي من بعد واعتمد قول ابن حيان.

صاحب مصر، فهو يلي هشاماً صاحب الأندلس في هذه الخصلة، مولده في عقب ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، وتقليده بعد والده نزار في عقب رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة، وكانت سنه إحدى عشرة سنة، وستة أشهر غير عشرة أيام، ومن الغرائب أن يتناسق بعده ولده علي الظاهر وولد ولده المستنصر في مثل هذه الولاية في الصغر، على أني لم أحص أمدهما من مواليدهما، واعترفت للإجماع على تقليدها في حدّ الأبناء، ولا سيما أحدهما معد بن علي المستنصر الباقي في هذا الوقت، وكان أقرب إلى الطفولة منه إلى الصبا - وفي هذا الباب بقية] . - 48 - *من ولي بمنهم] مسناً قد تجاوز ستين سنة: 1 -: أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ولي الخلافة وله إحدى وستون سنة. عبد الله بن الزبير: ولي الخلافة وله أربع وستون سنة. مروان بن الحكم: بويع له وله إحدى وستون سنة. مروان بن محمد: ولي الخلافة وله إحدى وستون سنة. 2 - ومن بني علي: القاسم بن حمود: ولي الخلافة وله إحدى وستون سنة (1) . (واختلف في عثمان رضي الله عنه ما بين إحدى وخمسين إلى ثماني وسبعين (2) سنة [وقيل أقل من ذلك] والذي لا أمتري فيه أنه لم يكن له إذ ولي إلا أقل من ستين سنة (3)) . - 49 - *من ولي وله خمسون سنة إلى ستين سنة (4) : عمر وعثمان وعلي ومعاوية رضي الله عنهم.

_ (1) ب: ولي الخلافة وقد دخل في إحدى وستين سنة. (2) ب: وستين. (3) ب: لم يكن له إذ ولي إلا ستون سنة. (4) ب: إلى أقل من الستين.

[وهشام] المعتد. [وأحمد] القادر. - 50 - *من ولي منهم وله ما بين أربعين سنة إلى خمسين سنة ولم يتمها: عبد الله المستكفي. المنذر. عبد الله أخوه. الحكم المستنصر. سليمان الظافر. [أبو جعفر المنصور. المعتصم ولي وهو في الأربعين.] . محمد المستكفي. علي بن حمود. - 51 - *من ولي منهم وله ما بين الثلاثين إلى ما دون الأربعين (1) : 1 -: الحسن بن علي رضي الله عنهما. يزيد بن معاوية. عبد الملك بن مروان. الوليد. سليمان. عمر بن عبد العزيز. يزيد بن عبد الملك. الوليد بن يزيد. يزيد بن الوليد. إبراهيم أخوه. هشام الرضى. عبد الرحمن بن الحكم. محمد ابنه. محمد المهدي بن هشام. 2 - ومن بني العباس: السفاح. المهدي. الواثق. المهتدي. المعتضد. القاهر. المتقي. المطيع. الطائع. 3 - ومن بني علي: يحيى بن علي. (وأما سائر الخلفاء فإنما وليها كل منهم دون الثلاثين وفوق العشرين [سوى من ذكرنا] . - 52 - *أطول (2) الخلفاء عمراً:

_ (1) ب: إلى أقل من الأربعين. (2) ب: أكثر.

(وذكر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه تجاوز سبعين، وتجاوزها (1) معاوية وابن الزبير، وبلغها عبد الله بن محمد، وتجاوزها الطائع وعبد الرحمن بن محمد الناصر والقاسم بن حمود. - 53 - *أقصر الخلفاء عمراً: معاوية بن يزيد لم يبلغ العشرين سنة. - 54 - *ومن لم يستكمل خمساً وعشرين سنة (2) : [موسى] الهادي: لم يستكمل أربعاً وعشرين سنة. [محمد] المنتصر: لم يكمل خمساً وعشرين سنة [نقصه من خمسة وعشرين عاماً شهران أو نحوهما] . المعتز: لم يستكمل خمساً وعشرين سنة. - 55 - *الذين تجاوزوا خمساً وعشرين ولم يستكملوا ثلاثين: الأمين [بن زبيدة] . - 56 - *الذين تجاوزوا الثلاثين ولم يبلغوا الأربعين: سليمان بن عبد الملك. [عمر بن عبد العزيز] . الوليد بن يزيد. يزيد بن الوليد إبراهيم بن الوليد. بأبو العباس] السفاح. الواثق. المستعين. المهتدي. المكتفي. المقتدر. الراضي. هشام الرضى. محمد [المهدي] بن هشام بن عبد الجبار.

_ (1) وذكر عن.... وتجاوزها؛ ب: ولا تجاوز السبعين ولا بلغها منهم أحد إلا عثمان و.... الخ. (2) ب: والذين تجاوزا عشرين ولم يبلغوا خمسة وعشرين عاماً.

- 57 - *من خلع من الخلفاء وسلم: الحسن بن علي رضي الله عنهما انخلع مختاراً. معاوية بن يزيد انخلع مختاراً (ولم يضطر واحد منهما إلى الخلع) . إبراهيم بن الوليد. إبراهيم بن المهدي. المستكفي (اضطروا إلى الخلع كلهم وماتوا حتف أنوفهم، إلا أن إبراهيم غرق في الهزيمة مع مروان. وقيل أن المستكفي سمَّه بعض من كان معه) (1) . المطيع (انخلع لابنه بين الطوع والكراهة ومات حتف أنفه إلى أربعين يوماً) . - 58 - *من خلع منهم واعتقل: هشام المؤيد إذ خلعه المهدي. القاسم إذ خلعه ابن أخيه يحيى. المقتدر إذ خلعه [أخوه] القاهر [أول مرة] . القاهر إذ خلعه المقتدر أخوه أول مرة. - 59 - *من خلع وسُمِلَتْ عيناه: القاهر إذ خلعه الراضي. المتقي. المستكفي. الطائع. - 60 - *من خلع ثم قتل إلى مدة: المستعين من بني العباس. - 61 - *من خلع وقتل إثر خلعه: المعتز والأمين.

_ (1) انظر جذوة المقتبس: 26 وما يلي 202.

ومن بني أمية: سليمان بن الحكم [إذ خلعه علي بن حمود] . - 62 - *من لم يجب إلى الخلع وصبر حتى قتل [أو قاتل حتى أثخن ثم أخذ وقتل] : عثمان بن عفان رضي الله عنه صبر حتى قتل. عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قاتل حتى قتل مقبلاً غير مدبر. مروان بن محمد: قاتل حتى قتل مقبلاً غير مدبر. المهتدي رحمه الله قاتل حتى جرح ثم ولى فأدرك وقتل (1) ولم يجب إلى الخلع. - 63 - *من قيم عليه فقتل دون أن يطالب بخلع ولم يدافع: الوليد بن يزيد. المقتدر. المهدي محمد بن هشام. أخوه المستظهر (2) . - 64 - *من خطب لبني العباس أو لبني علي بالأندلس: عبد الرحمن بن معاوية خطب لأبي جعفر المنصور أعواماً. العلاء بن مغيث اليحصبي (3) خطب لأبي جعفر المنصور بباجة وأكشونبة (4) وتدمير. عمر بن حفصون خطب في أعماله برية (5) لإبراهيم بن القاسم بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب صاحب البصرة. ثم خطب لعبيد الله صاحب افريقية، وأذَّن في جميع أعماله بحيَّ على خير العمل.

_ (1) ب: حتى جرح وسلم ففر وظفر به فقتل. (2) بعد هذا تفترق النسختان مرة أخرى؛ ولكن المتبع هو رواية م في الترتيب. (3) العلاء بن مغيث اليحصبي الجذامي ثار بباجة سنة 146 ودعا إلى طاعة أبي جعفر ونشر الأعلام السود فاتبعته الأجناد فنهض إليه عبد الرحمن الداخل فحاصره بقرمونة، وقتل العلاء وتفرق أصحابه (البيان المغرب 2: 51 - 52) . (4) م: بناحية أكشونبة. (5) ب: خطب في ببشتر.

- 65 - *من قام بدعوة (1) بني أمية بعد ذهاب دولتهم بالشام (2) : تمام بن تميم التميمي بالقيروان أيام الرشيد. رافع بن الليث بن نصر بن سيار بسمرقند أيام الرشيد. (وكان عجيف بن عنبسة بن طاهر بن الحسين من قواد رافع) . - 66 - *من تسمَّى بالخلافة من غير قريش (من غير الخوارج) (3) : يزيد بن المهلب [حين قيامه على يزيد بن عبد الملك] . محمد بن الفتح (4) المعروف بواسوال ابن ميمون، المعروف بالأمير ابن مدرار صاحب سجلماسة وكان غاية في إظهار العدل وتسمى الشاكر لله وإليه تنسب المثاقيل الشاكرية، وذلك سنة نيف وأربعين وثلاثمائة، ثم أسره جوهر قائد أبي تميم، وحمله إلى المهدية وبقي بسجلماسة ابنه يخطب لأبيه إلى أن مات. وقد أنكر بعض أهل العلم بالخبر قصة محمد بن الفتح هذا وقال أنه كان صفرياً من الخوارج، وهذا خطأ (5) ، وإنما أتي في هذا من قبل أن آباءه كانوا صفرية، وأمّا هو فسني مالكي المذهب، مشهور بذلك، طلب الفقه بالأندلس وحضر غزوة الخندق. عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر: تسمى بالخلافة يوماً واحداً في غزاته الشتوية، وخرق ثيابه طرباً إذ سمع النداء بذلك، ثم بدا له فترك ذلك، وهذا أحمق ما سمعت (6) .

_ (1) ب: بدعوة خلفاء. (2) ب: بالأندلس في المشرق. (3) من غير الخوارج؛ ب: وهو غير خارجي. (4) مفاخر البربر: 48 وهو ينقل عن نقط العروس: ان اسمه محمد بن ميمون بن الفتوح بن مدرار؛ وهو عند البكري: 151 محمد بن الفتح؛ وقال البكري أن تلقبه بالخلافة وضربه للنقود تم سنة 342. (5) مؤسس دولة بني مدرار أبو القاسم سمعون بن يزيلان الزناتي الملقب بمدرار (أو سمفوا بن مزلان بن نزول) كان صفرياً؛ وظلت دولتهم كذلك إلى أيام اليسع بن المنتصر بن اليسع بن مدرار حين بدأ الصراع بينهم وبين العبيديين، فأصبح صاحب سجلماسة منذ 309 تابعاً للدولة العبيدية داعياً للشيعة؛ حتى جاء محمد بن الفتح فقطع الدعوة الشيعية ودعا إلى نفسه وتلقب بالشاكر لله إلى أن أسره جوهر سنة 349 (أعمال الأعلام - القسم الثالث -: 140 - 149) ؛ وانظر البكري: 151 حيث قال: وكان محمد بن الفتح سنياً على مذهب المالكية يحسن السيرة ويظهر العدل. (6) ب: وا هذا من الفعل الجيد.

- 67 - * [من أراد أن يتسمى بها من هؤلاء ثم منعه مانع: فناخسرو بن الحسن (1) متولي الأمور ببغداد وأعمالها. أخبرني أبو الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني قال (2) : أراد فناخسرو أن يتسمَّى بالخلافة وأوصى إلى الجُعل الحسين بن علي البصري (3) أن يؤلف له كتاباً في تَخْولِة هذا الأمر في غير قريش واستكدّه ذلك جداً، فألف الجعل هذا الكتاب ودفع نسخة منه إلى تلميذ له كان يثق به، فانتشر الأمر من قِبَلِ ذلك التلميذ إلى أن بلغ الخبر إلى خراسان، فصاحوا صيحة واحدة في مجالس الفقهاء وا إسلاماه وا محمداه، فبلغ ذلك فناخسرو فقامت عليه الفتن وخشي إجلاب أهل خراسان كلهم عليه، فكان هذا سبباً لأن سَمَّ الجعل، وقنع الناسُ بموت الجعل وسكن الأمر] . [والمنصور محمد بن أبي عامر أراد ذلك وجمع للمشورة فيه قوماً من خواصه فيهم ابن عياش وابن فطيس وأبي (4) رحمه الله، ومن الفقهاء محمد بن يبقى ابن زرب (5) وأبو عمر بن المكوي (6) والأصيلي (7) . فأما ابن عياش وابن فطيس فصوَّبا ذلك له، وأما أبي رحمه الله فقال له: إني أخاف من هذا تحريك ساكن، والأمور كلها بيدك، ومثلك لا ينافس في هذا المعنى. وأما محمد بن يبقى بن زرب فإنه قال له: وصاحب الأمر ما شأنه فقال له: لا يصلح لهذا، فقال له: يُرَى

_ (1) هو عضد الدولة أبو شجاع بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه (- 372) ؛ انظر ابن خلكان 4: 50 ومصادر أخرى ذكرت في الحاشية. (2) ثابت بن محمد الجرجاني (350 - 431) ؛ انظر ترجمته في الذخيرة 4 1: 124 وقد ذكرت هنالك المصادر الأخرى؛ وكانت صلته بابن حزم وثيقة وأشار إليه في الفصل 1: 17 بأنه أحد الملحدين. في الإحاطة 1: 462 تفصيل لأمر مقتله نقلاً عن ابن حيان. (3) كان من كبار المتكلمين في عصره (توفي سنة 369) انظر ترجمته في فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: 325 وتاريخ بغداد 8: 73 والمنتظم 7: 101 وقد حطَّ عليه التوحيدي في مؤلفاته، انظر مثلاً أخلاق الوزيرين 201 - 214. (4) في ترجمة والد ابن حزم انظر اعتاب الكتاب. 191. (5) محمد بن يبقى بن زرب: أحد صدور الفقهاء في زمانه، ولي القضاء، وكان ذا سيرة حسنة فيه وبقي قاضياً مدة 14 عاماً وتوفي سنة 381 (ترتيب المدارك 4: 631 والنباهي: 77) . (6) هو أبو عمر أحمد بن عبد الملك الأشبيلي المعروف بابن المكوي مولى بني أمية، وكان شيخ الفقهاء بالأندلس في وقته، توفي أول انبعاث الفتنة البربرية فجأة سنة 401 (ترتيب المدارك 4: 635) . (7) هو عبد الله بن إبراهيم بن محمد الأصيلي أبو محمد، تفقه بقرطبة منذ صباه ورحل إلى المشرق 352 (أو 351) وتميز في مذهب مالك، ولاه المنصور قضاء سرقسطة، فلم تطل مدته فيه واستعفى وعاد إلى قرطبة وأصبح رأساً في الشورى بعد وفاة ابن زرب وتوفي سنة 392 (ترتيب المدارك 4: 642) .

ويجرَّب، فقال له: أفي مسائل الفقه تريد أن نسأله قال: لا، ولكن في مسائل السياسة وتدبير المملكة، قال: فإن لم يقم، قال: يُنْظَرُ في قريش. فأعرض عنه مغضباً ونظر إلى الأصيلي وإلى ابن المكوي، فقال له الأصيلي: يا مولاي عربيٌّ ضابط خير من قرشي مضيِّع، قال، فنظر إلى ابن المكوي، فجعل يضحك له، ويقول: يا مولاي ومثلك يفكر في هذا وأنت الكل وكل شيء بيدك، وإنما يرغب في الأسماء من لا يحقِّق، والمدار على الحقيقة، وهي بيدك. فسكت ابن أبي عامر، وقاموا واحداً واحداً. فلما قام القاضي وسلم عليه قال: اخرجوا بين يدي الفقيه، فعظم ذلك على ابن زرب، وقال: لا بأس هذا ما لا تقدرون على عزلنا عنه، ونهض إلى منزله، فمات بعد أيام يسيرة جداً] . وأبو تميم المعز بن باديس صاحب القيروان أراد ذلك فكَّره إليه الفقيه أبو عمران الفاسي ذلك، وبيّن له أن النص لم يجوّز الخلافة إلا في قريش، فقال: إنك إنما تريد بهذا الشقاق والارتفاع عن المسالمة، وهذا لا يتم لك، لأنك إذا فتحت هذا الباب تسمى بها كل من أردت التفوق عليه من مصاقبيك وغيرهم، فبطل ما اختصصت به، وهان هذا الأمر ولم تفقد شيئاً، فسمع المعز له، وترك ما أراد] . - 68 - *من قتل أباه من الخلفاء والمتغلبين: المنتصر دسَّ على أبيه المتوكل من قتله. ومن غير الخلفاء: زيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب دسَّ على أبيه من قتله. أبو تغلب الغضنفر بن ناصر الدولة الحسن بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وثب على أبيه فاعتقله ثم أدخله الحمام وتركه فيه حتى مات. إبراهيم بن محمد بن يعفر الحميري صاحب صنعاء: قتل أباه بيده [وعمه] [أبا الحسن] وقتل ابن عمه [عبد الواحد بن أبي الحسن وجدته أم أبيه] في المسجد الجامع بصنعاء. [قال ابن حيان: ولد ابن يعفر هذا صاحب اليمن اسمه إبراهيم بن محمد، لم يسمع في الملوك أجرأ منه على القتل، قتل أباه محمد بن يعفر وعمه المكني بأبي الحسن وابن أبي الحسن الذين كانوا رضوه للأمر بمكانه في مشيخة معهم من جماعة قومه في

المسجد بصنعاء، رافضة؛ وهذا باب في الأمراء من غير قريش يتسع لأن قتلهم الأقارب كثير] . منوشهر بن [شمس المعالي] قابوس بن وشمكير بن زياد صاحب طبرستان (1) : صعد أبوه إلى علية (2) له [وكانت عادته أن يصعد فيها] وقد دبر [ولده] (3) منوشهر عليه [في أن ترتق أبوابها] فلما صار أبوه في العلية أمر ابنه من أغلق الباب وأقفله ثم تركه سبعة أيام ثم فتح الباب فوجد أباه ميتاً قد قطع يديه بأسنانه (4) . اليشكري فضلون صاحب الحيرة قتل أباه وتزوج امرأته. أذكوتكين بن أساتكين (5) صاحب الري [وقزوين وما هنالك] حارب أباه مدة، ثم أسر أباه فاعتقله إلى أن مات أذكوتكين وولي ابن له حدث فقتل جده وأظهر أنه قتل نفسه. محمد بن عيسى بن محمد بن مزين (6) صاحب شلب [الآن] اعتقل جده أبا أبيه إثر موت أبيه [بحين] حتى مات في حبسه. - 69 - *من قتل ابنه: سليمان بن عبد الملك قتل ابنه أيوب سراً. عبد الله بن محمد قتل ابنيه محمداً والمطرف. عبد الرحمن الناصر قتل ابنه عبد الله، وكان عبد الله فاضلاً ورعاً. إبراهيم بن أحمد بن الأغلب قتل ابناً له رجلاً. نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن نوح بن أسد صاحب خراسان قتل ابنه

_ (1) ب: خراسان. (2) ب: إلى قلعة له. (3) ب: وقد كان تقدم ولده. (4) ب: فوجده قد أكل يديه وقد مات. (5) كان أساتكين من أكابر قواد الأتراك، استعمله الخليفة المعتمد على الموصل، فسيّر إليها ابنه أذكوتكين سنة 259 ونجد أذكوتكين حياً في سنة 276 (انظر ابن الأثير ج 7 في حوادث هاتين السنتين) . (6) توفي عيسى بن محمد بن مزين صاحب شلب سنة 432 وخلفه ابنه محمد فحكم ما كان بيد أبيه (ما عدا باجة) حتى توفي سنة 440 فقوله (الآن) - في النسخة ب - يحدد تاريخاً محتملاً لكتابة العروس (انظر البيان المغرب 3: 192 - 193) .

إسماعيل. خلف بن أحمد صاحب سجستان قتل ابنه ولم يكن له غيره. محمد بن أبي عامر قتل ابنه عبد الله وابن أخيه عبد الله بن يحيى وكان على ابنيه أيضاً وابني عمه (1) . عمر بن حفصون قتل ابنه أيوب. القائد بن حماد بن بلقين قتل ابنه زيري (2) . عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد قتل ابنه (إسماعيل) . - 70 - *من قام على أبيه وحاربه: العباس بن أحمد بن طولون قام على أبيه وحاربه. سليمان بن عمر بن حفصون (3) . قام على أبيه [بأبذة] وحاربه [وصده] ، وكان أبوه يعجبه ذلك، ضرب أباه بالسيف في بعض حروبه معه فسرّ أبوه [بذلك] وافتخر به. إبراهيم بن إسماعيل بن ذي النون حارب أباه دهراً [بسرته] . - 71 - *من قتل أخاه: - المأمون: قتل أخاه الأمين [وخلعه] . - المعتز: قتل أخاه المؤيد وخلعه عن العهد.

_ (1) ب: عبد الله بن يحيى وابني عمه عسقلاجة وأخاه. (2) ولي القائد بعد أبيه حماد وتوفي سنة 446 فكان ملكه سبعاً وعشرين سنة (أمال الأعلام - القسم الثالث -: 86 - 87) . (3) قال ابن حيان في المقتبس (5: 132) وقد ذكر الفقيه العالم أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي بسالة سليمان بن عمر بن حفصون هذا وتمرده في كتابه في نوادر الأخبار المسمى نقط العروس في باب العقاق لآبائهم فقال: سليمان بن عمر بن حفصون المشهور بالبسالة ثار على أبيه عمر بن حفصون المنتزي على خلفاء بني أمية بكورة رية من أرض الأندلس فخالفه وامتنع عليه، ثم عاد لمثل ذلك فامتنع بمدينة أبذة وحارب أباه عمر وصمد له في القتال مواجهاً فصبَّ عليه سيفه وجرحه، فأعجب ذلك منه عمر أباه إمام الفساق، وفخر به؛ اه. قلت: فتأمل الفرق بين النصين.

- عبد الله بن محمد: قتل أخويه: هشاماً بالسيف والقاسم بالسم (1) . - أبو الجيش بن أحمد بن طولون: قتل أخاه العباس يوم موت أبيهما - قيل إنه أفرغ الرصاص في دبره مغلياً (2) . - أبو تغلب بن ناصر الدولة: قتل أخاه حمدان. - زيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب: قتل [جميع] اخوته. - جده إبراهيم بن أحمد: قتل أخاه وعمه وابن أخيه صبياً صغيراً. - نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن نوح صاحب خراسان: قتل أخاه صالحاً بعصر خصاه وقتل أخاه [أبا زكريا] يحيى بالسم. - أبو عبد الله بن البريدي صاحب البصرة: قتل أخاه [أبا يوسف] يعقوب بالسيف. - محمد بن محمود بن سبكتكين: قام على أخيه مسعود بن ممود وقتله. - إبراهيم بن حجاج صاحب إشبيلية: قتل أخاه سليمان خنقاً. - يحيى بن بكر: قتله أخوه خلف بن بكر ساجداً وهو يصلي بهم. - عباد بن محمد بن غسماعيل بن عباد: قتل أخاه. - نصر بن أحمد بن مروان صاحب ديار بكر: أرسل أخاه إلى الأتراك واستدعى منهم برهينة ليخاطبه فقتل الرهينة حتى قتل أخوه قصداً لذلك، هذا بعد أن أولد جارية لأبيه له منها ولد، فكان ابنه وأخوه أخوين. - 72 - *من قتل عمَّه أو خلعه: - أبو جعفر المنصور: قتل عمه عبد الله بن علي.

_ (1) قال لسان الدين في أعمال الأعلام عند الحديث عن الأمير عبد الله بن محمد (أعمال: 26) : ذكره الإمام أبو محمد بن حزم فصرَّح بالحمل عليه وقال: كان قتالاً تهون عليه الدماء مع ما كان يظهره من عفته، فإنه احتال على أخيه المنذر لما قصده بالعسكر وأوطأ عليه حجاماً سم المبضع الذي فصد به، ثم قتل ولديه معاً بالسيف واحداً بعد واحد (راجع الفقرة 69) وقتل أخاه القاسم ثالثهم إلى من قتل غيرهم، قال لسان الدين: والإمام أبو محمد في التجريح والتعديل حجة على قومه؛ وانظر البيان المغرب 2: 156. (2) ب: قيل حقنه بماء مغلي حتى مات.

- المعتضد غرّق عمه ابا عيسى بن المتوكل وقتل عمه المعتمد، قيل سمه في مدوس خرفان، وقيل انه كان إذا نام (1) فتح فاه فأمر من أفرغ [في] فيه (2) رصاصاً مذاباً، وقيل بل حفر له حفرة وملأها بالريش ثم غطاها بحشيش وكانت في طريقه في أحد البساتين، فسقط فيها فلم يخرج إلا ميتاً. - عبد الواحد بن الموفق قتل إثر بيعة ابن أخيه علي المكتفي. - الحكم بن هشام [الربضي] قتل أعمامه: سليمان ومسلمة وأمية (3) . - عبد الرحمن الناصر قتل عمَّه العاصي بن عبد الله (4) . - المغيرة بن الناصر (5) : قتل خنقاً يوم بويع ابن أخيه هشام بن الحكم. - يحيى بن علي بن حمود: خلع عمه القاسم فلما قتل يحيى وولي أخوه إدريس قتل عمه القاسم غماً. - زيادة الله بن عبد الله قتل جميع أعمامه. - جيش بن أبي الجيش بن أحمد بن طولون: قتل عمه ربيعة بن أحمد بالسياط. - نصر بن أحمد بن نوح صاحب خراسان: قتل عم أبيه إسحاق بن أحمد، أدخله مع كلب في غرارة ثم خاط رأسها ودفنها في الرمل، وكان إسحاق هذا فاضلاً مكرماً للعلماء ولأهل الدين، وكان نصر لعنه الله على مذهب الغلاة من القرامطة. - ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان: قتل عمه أبا العلاء سعيد بن حمدان بأن عصر خصاه حتى مات. -[تاج الدولة أبو محمد جعفر بن يوسف: قتل عمه علي بن عبد الله] . - حماد بن بلقين بن زيري: رمى عمه بلكين إلى الكلاب فأكلته حياً. - مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين: قتل عمه محمد بن محمود.

_ (1) ب: رقد. (2) ب: حلقه. (3) ب: قتل عميه سليمان ومسلمة وابن عمه أيضاً (قلت: ولم يعد ابن حزم في الجمهرة من اسمه " أمية " في أعمامه، فلعل رواية ب: هي الأصوب) . (4) م: القاضي المغيرة (وهو وهم مما جاء بعده) . (5) قارن بالجمهرة: 103.

- عباد بن محمد بن إسماعيل: قتل عمه وابناً له صغيراً. - 73 - *من قتل ابن أخيه: - أبو جعفر المنصور: سمّ ابني أخويه: محمد بن السفاح فمات، وعيسى بن موسى فتعالج فبرئ. - المعتصم: قتل العباس بن المأمون، قيل أنه قتله بالمرزاب (1) حتى مات. - القاهر: قتل ابن أخيه أبا أحمد ابن المكتفي بعصر خصاه، وكان أبو أحمد فاضلاً. - عبد الرحمن بن معاوية: قتل ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية (2) . - شيبان (3) بن أحمد بن طولون: قتل ابن أخيه هارون بن أبي الجيش بن أحمد. - محمد بن أبي عامر: قتل ابن أخيه عبد الله بن يحيى، ويحيى أخوه حيّ. - 74 - * [خليفتان تصالحا: وهذا أمرٌ لم يسمع في الدنيا بأشنع منه ولا بأدلَّ على إدبار الأمور: يحيى بقرطبة والقاسم بإشبيلية] (4) . - 75 - *من قتله عبيده: - علي بن حمود: قتله ثلاثة صقالبة في الحمام دفاعاً عن أنفسهم، واعترفوا بذلك وقتلوا، رحمهم الله.

_ (1) بالمزارق. (2) الوليد بن معاوية دخل الأندلس، فلما قتل ابنه المغيرة على يد عمه عبد الرحمن نفي الوليد وبنوه عن الأندلس (الجمهرة: 94) . (3) م: سنان. (4) نقل لسان الدين ابن الخطيب هذا النص عن نقط العروس في أعمال الأعلام: 132 والمعني يحيى بن علي المعتلي الحمودي والقاسم بن حمود عمّه.

- أبو سعيد الجنابي صاحب القرامطة بالأحساء، لعنهم الله: قتله خدمه (1) في الحمام، وما أعلم أحداً بعد الصدر الأول أعظم يداً عند أهل الإسلام (2) منهم، رضي الله عنهم. - مرداويج بن زيار الديلمي صاحب الري وأصبهان: قتله [أيضاً] عبيده في الحمام. - عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب صاحب افريقية: قتله خادمان (3) صقلبيان بكان يثق بهما] وهو نائم على فراشه، وكان فيه خير كثير. - أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن نوح بن أسد صاحب خراسان: قتله [أيضاً] عبدان له كان يثق بهما (4) . - أبو الجيش بن أحمد بن طولون: ذبحه فتىً له حجام في حين تقصيصه له لما أتى ليأخذ الشعر تحت لحيته، حمل الموسى على أوداجه فذبحه. - رافع بن هرثمة قتله عبده (5) غدراً. - أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحميد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله [بن عبد الله] بن عمر بن الخطاب القائم بمصر (6) ، قتله عبدان له (7) كان يثق بهما، وكان رحمه الله فاضلاً، وتقربا برأسه إلى أحمد بن طولون فقال لهما: هل اطلعتما له على معصية لله تعالى، فقالا: لا، قال: فهل أساء إليكما قالا: لا، فأمر بقتلهما. - عبد الملك بن عبد الرحمن بن متيوه (8) [صاحب طليطلة وغيرها] : قتله

_ (1) ب: صقالبته. (2) ب: عند المسلمين. (3) ب: فتيان. (4) ب: عبيد خاصة كانوا له أيضاً. (5) ب: عبيده. (6) ب: أبو عبد الرحمن العمري القائم في أعمال النوبة؛ وانظر الجمهرة: 153 في ضبط نسبه فالأصل في النقط مضطرب؛ وفي سيرة ابن طولون: 64 أن الثائر هو عبد الحميد وأنه يكنى أبا عبد الرحمن، وأن ثورته كانت غضباً لله ضد البجة، فخاف ابن طولون عواقب حركته وبعث إليه من يتفاهم معه فلم يتم التفاهم، ولكن ابن طولون أهمل أمره لأنه لم يكن يخاف جانبه، حتى جاءه الغلمان برأسه تقرباً إليه وماولة للحظوة عنده. (7) ب: كانا له خاصين به. (8) كان والي طليطلة عندما نشبت الفتنة والده عبد الرحمن بن متيوه (منيوه) فورث ذلك ابنه فأساء السيرة (البيان المغرب 3: 276) .

صقلبي له ذباً عن نفسه. - محمود بن الشرب: قتله عبد له كان محسناً إليه مكرماً له، على غير مكروه، إلا أنه ضربه في بعض الأيام مؤدباً له في ذنب فاضطغن عليه فقتله. - 76 - *رجل أتته منيته في الحرب ومات على متن فرسه دون أن يصاب بشيء: غالب يوم حربه مع ابن أبي عامر وقد أشفى على الظفر. [قال أبو محمد (1) : فحدثني وهزّني الوزير والدي نضّر الله وجهه قال: كان المنصور بن أبي عامر في القلب وجعفر بن علي المعروف بالزابي في الميمنة قال: وأبوك [و] أبو الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبي والحسن بن عبد الودود السلمي في الميسرة (2) . قال: وكأني أنظر إلى غالب وهو شيخ كبير قد قارب الثمانين عاماً وهو على فرسه وفي رأسه طرطور عال، وقد عصب حاجبيه بعصابة (3) ، قال: ثم قال لمن حواليه، وكان قد جمع جموعاً عظيمة من المسلمين والنصارى: مَنْ هؤلاء وأشار إلى الميمنة، فقيل له جعفر بن علي وأخوه يحيى والبربر، قال: فحمل عليهم حملة قَصَفَهم فيها قصفاً، لم يثبت منهم أحد على صاحبه واصطكَّت الهزيمة على الميمنة، قال: ثم انصرف، فقال: مَنْ هؤلاء وأشار إلى الميسرة، فقيل له: أحمد بن حزم وحسن بن عبد الودود ومعن بن عبد العزيز، قال فحمل علينا حملة فانفلقنا بين يديه ولم يُلْوِ أحد منا على صاحبه، قال: وابن أبي عامر في القلب يصفق بيديه، وتضطرب رجلاه في ركائبه، وقد أيقن بالهلاك، قال: فانصرف غالب إلى اصحابه، فقال لهم: قد هزمنا الميمنة والميسرة، وإنما بقي لنا القلب وحده، وفيه هذا الأحدب الملعون، يريد ابن أبي عامر، فالآن نحمل عليه ونهلكه، وكان في أول الحرب قد دعا، وقال: اللهم إن كنت أَصْلَحَ للمسلمين من ابن أبي عامر فانصرني وإن كان هو أصلح لهم مني فانصره (4) ، قال: ثم همز فرسه، وترك جهة القتال، وأخذ

_ (1) قارن بما أورده لسان الدين في أعمال الأعلام: 63 ويبدو أن أصل النص واحد رغم الاختلافات. (2) أعمال: والحسن بن أحمد بن عبد الودود في معظم أهل الثغور في الميسرة. (3) أعمال: عليه درع سابغة وعلى رأسه طشتان مذهب مرتفع السمك قد عصبه بعصابة حمراء أعلم بها، وشد جبينه بعصابة أخرى. (4) أعمال الأعلام: اللهم إن كنت تعلم أن بقائي أصلح للمسلمين وأعود عليهم من بقاء محمد بن أبي عامر فأهلكه وانصرني عليه، وإن كان هو أولى بذلك مني فانصره عليّ وأرحني.

ناحية إلى خندق كان في جانب عسكره، فظن أصحابه أنه يريد الخلاء، فلم يتبعه أحد، فلما أبطأ عليهم ركبت طائفة منهم نحوه، فوجدوه قد سقط إلى الأرض ميتاً، وقد فارق الدنيا بلا ضربة ولا طعنة ولا رمية ولا أثر، وفرسه واقف بناحية يعلك لجامه، ولا يعلم أحد بسبب موته، إلا أن الناس ظنوا ظناً وهو أن القربوس ضرب صدر هذا الذي رُزِ [ئَ] من قَدَر. فلما رأى ذلك أصحابه سُقِط في أيديهم وطلبوا حظ أنفسهم. فبادر مبادر منهم بالبشرى إلى ابن أبي عامر، فلم يصدِّق حتى وافى مواف بخاتمه، ووافاه آخر بيده، ووافاه آخر برأسه، ووقعت الهزيمة على النصارى، وكان غالب قد استمد لملوكهم فقتلوا أشنع قَتْل، وقَتِل في جملتهم رذمير بن شانجة ملك البشاكس المعروف براي قُرْجه (1) وسلخ جلد غالب وحُشي قطناً وصُلِب على باب القصر بقرطبة، وصلب رأسه على باب الزاهرة] . [قال أبو [محمد] : فأنا أدركته بها إلى أن أهبط يوم هدْمِ الزاهرة، وكانت هذه الحرب التي هلك فيها غالب سنة إحدى وسبعين] . - 77 - *من عظم أمره من الملتقطين الذين لا يعرف لهم أب (2) : - ديصان صاحب الروحانية (3) : كان لقيطاً. - أبو مسلم السراج صاحب خراسان القائم بدعوة بني العباس: كان لقيطاً بلا شك، وكل ما قيل فيه غير هذا فهو كذب بحت. - بابك الخّرمي وأخوه عبد الله: قيل أنه لا يعرف لهما أب، وأما أمهما فمعروفة وكانت حية حين قتلهما. - وحدثني أبو مروان عبد الملك بن أحمد بن محمد بن محمد بن [عبد الملك بن] الأصبغ بن الحكم الربضي (4) القرشي الفقيه قال حدثني عبد الرحمن بن

_ (1) أعمال: ري قُرْجُه. يعني Ramiro ابن Sancho Garces U Abarca وهو من العائلة الملكية بنبرة، ويلقب Curvus أو كما أورده لسان الدين (rey Gorjo) انظر تاريخ إسبانيا الإسلامية لبروفنسال (بالفرنسية) 2: 227 والحاشية رقم: 1. (2) لم يرد في هذا الفصل في ب. (3) يطلق اليونانيون لفظ الروحانية على الطائفة التي تؤمن بأن النفس في صفائها تنظر بالعين النورية وتستهدي لاستخراج البدائع والاطلاع على المغيبات (مروج الذهب 2: 312) . (4) انظر الجمهرة: 97 والصلة: 342 وقد أشير إليه من قبل: 45 وكانت وفاته سنة 436 بإشبيلية.

عبيد الله بن الوزير عبد الرحمن بن بدر الصاحب قال حدثني جدي عبد الرحمن الوزير أن عبد الله بن محمد الأمير خرج إلى الصيد في الغلس في حياة أبيه، فمرَّ بمسجد فسمع بكاء صبي منبوذ، فرَّقت له نفسه وأمر بأخذه وحمله إلى داره وأمر بتربيته وسماه بدراً، وهو بدر الحاجب (1) . - 78 - *من غرائب الدهر: - زاوي بن زيري (2) بن مناد بن منقوش الصنهاجي [رئيس البرابر] كان في الدنيا معه وهو حيّ أزيد من ألف امرأة لا تحل له واحدة منهن [كلهن] (3) من نسل إخوته، ونحو (4) هذا من العدد من الرجال [من نسل إخوته] . - كذلك اجتمع في عصر واحد الفضل بن جعفر بن العباس بن موسى بن عيسى ابن موسى بن محمد بن علي، وعبد الصمد بن علي، حيين جميعاً. -[اجتمع أيضاً في عصر واحد] عبد الرحمن بن الزبير (5) بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد وسليمان بن محمد أخو عبد الله بن محمد. -[ومن مليح ما ذكره أصحاب الخبر في هذا الباب قالوا (6) : سلم على الرشيد بالخلافة يوم بيعته سليمان بن المنصور وعمر بن [أبي] العباس بن محمد وعم جده عبد الصمد بن علي] . [واتفق مثل ها بعينه يوم بيعة نزار بن معد بمصر، سلم عليه بالخلافة عمه حيدرة بن المنصور وعم أبيه أبو الفرات ابن القائم بأمر الله وعم جده أبو علي بن المهدي بالله، فهذا هذا] .

_ (1) في بعض المصادر: بدر بن أحمد أبو الغصن وكانت وفاته سنة 309 (انظر صفحات متفرقة من الجزء الخامس من المقتبس) . (2) نقل هذا النص عن ابن حزم في القسم الثالث من أعمال الأعلام: 68. (3) زيادة من أعمال الأعلام. (4) ب وأعمال الأعلام: وكذلك مثل. (5) حذف مترجم نقط العروس إلى الإسبانية " الزبير " من سلسلة النسب، وجعله عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر؛ وهذا خطأ، فقد ال ابن حزم في الجمهرة إن عبد الله (لا عبيد الله) بن عبد الرحمن الناصر هذا قتله أبوه، وله ابن اسمه الزبير، وللزبير عقب باق (الجمهرة: 102) . (6) المدهش: 61.

[وممن توافر أهله يوم بيعته جعفر المتوكل على الله سلم عليه بالخلافة ثمانية (1) من أولاد الخلفاء: محمد بن الواثق، وأحمد بن المعتصم، وموسى بن المأمون وعبد الله بن الأمين وأبو أحمد بن الرشيد والعباس بن الهادي، ومنصور بن المهدي وثامنهم محمد بن المتوكل ابنه. وفي الباب زيادة] . - بايع عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن عمّ جده عمرو بن عبد الرحمن. - وبايع المعتز والمؤيد والمنتصر بالعهد - وهم بنو المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي، منصور بن المهدي، وقبل أيديهم. - 79 - *أخلوقة لم يقع في الدهر مثلها (2) : ظهر رجل حصري بعد اثنتين (3) وعشرين سنة من موت هشام بن الحكم المؤيد، وادَّعى أنه هو، فبويع له، وخُطب له على جميع منابر الأندلس في أوقات شتى وسفكت الدماء، وتصادمت الجيوش في أمره] . - 80 - *فضيحة لم يقع في العالم إلى يومنا مثلها (4) : أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها كلهم يتسمى بإمرة أمير المؤمنين، ويُخْطَبُ لهم بها في زمن واحد، وهم (5) : خلف الحصري بإشبيلية على أنه هشام بن

_ (1) ابن العمراني: 115 سبعة (وحذف منهم محمد بن المتوكل) وانظر الكازروني: 145 وابن الجوزي، المدهش: 62 وهو موافق لابن حزم. (2) نقل ابن خلكان هذا النص 5: 22 ونقله النويري 22: 93. (3) ابن خلكان والنويري: بعد نيف. (4) جاء هذا النص في أعمال الأعلام: 142 - 143 على النحو التالي: " اجتمع عندنا بالِأندلس في صقع واحد خلفاء أربعة كل واحد منهم يخطب له بالخلافة بموضعه، وتلك فضيحة لم ير مثلها، أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام كلهم يتسمى بالخلافة وإمارة المؤمنين وهم: خلف الحصيري بإشبيلية على أنه هشام، من بعد اثنتين وعشرين سنة من موت هشام، وشهد له خصيان ونسوان، فخطب له على منابر الأندلس وسفكت الدماء من أجله، ومحمد بن القاسم خليفة بالجزيرة، ومحمد بن إدريس خليفة بمالقة، وإدريس بن يحيى بن علي بببشتر "؛ وقد ورد النص عند النويري 22: 93 وفيه: فضيحة لم يقع في الدهر مثلها ... الخ. (5) النويري: أحدهم.

الحكم، ومحمد (1) بن القاسم بن حمود بالجزيرة [الخضراء] ، ومحمد (2) بن إدريس بن علي بن حمود بمالقة (3) ، وإدريس (4) بن يحيى بن علي بن حمود بِبُبَشتر (5) ] . - 81 - *امرأة وليت الولايات: الشفاء العدوية: ولاها عمر بن الخطاب رضي الله عنه السوق وكانت أهلاً لذلك. - 82 - * [امرأة قعدت للمظالم] : ثمل القهرمانة: قعدت للحكم بين الناس بالمظالم وحضر مجلسها القضاة والفقهاء. - 83 - *من ولي القضاء في صباه (6) : أبو يعلى الحمادي ولي قضاء الأردن وله ست عشرة سنة. عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد المعروف بابن الشرقي (7) : ولي قضاء استجة وله ست عشرة سنة. *وضد ذلك: محمد بن يحيى التميمي المعروف بابن برطال (8) ، وشيخنا يونس بن عبد الله بن مغيث (9) الخطيب كلاهما ولي القضاء بعد أن استكمل إحدى وثمانين سنة، ووليه

_ (1) النويري: والثاني محمد. (2) النويري: والثالث محمد. (3) النويري: بمدينة مالقة. (4) النويري: والرابع إدريس. (5) النويري: بسبتة. (6) لم يرد هذا الفصل في ب. (7) ابن الشرقي - بالفاء - في الصلة: 317 هو ابن الحاكم أبي إسحاق الشرفي، روى عن أبيه وتولى القضاء بعدة كور أيام العامريين ثم تولى في الفتنة الحكم بميورقة وغيرها، ثم رجع إلى قرطبة حيث توفي (438) وقد أناف على السبعين. (8) هو خال المنصور بن أبي عامر، تولى القضاء من 381 - 392 ثم نحي عنه ونقل إلى الوزارة وقد عرفت به في الجزء الأول من رسائل ابن حزم ص 187، الحاشية: 3. (9) هو المعروف بابن الصفار، توفي سنة 429؛ وقد مرَّ التعريف به في الجزء الأول: 241، الحاشية: 2.

محمد إحدى عشرة سنة، ووليه يونس عشرة أعوام. - 84 - * [الأسماء التي تصلح للخلفاء ولم تستعمل بعد: المعول على الله، المؤمل لله، الراغب إلى الله، الساعي لله، المحيي لدين الله، الفاضل بالله، المستجيش بالله، المؤثر للحق في الله، المرتقب في الله، المراقب لله، المستعد بالله، المتأيد بالله، المسترشد بالله، المسدَّد بالله، السديد بالله، الشديد في الله، المستهدي بالله، المستعصم بالله، القاصد للحق، السامي بالله، المستعلي بالله، المعان بالله، الكافي في الله، المظهر لدين الله، الحامي في الله، المجتبى لله، الراجي لله، المرتجي لله، المتقي بالله، المكفي بالله، الرضيّ لأمر الله، المسلم لله، المستسلم لله، المؤتمر لله، المحامي في الله، المرشد إلى الله، الحافظ لدين الله، المحافظ في الله، المحفوظ بالله، الفائز بالله، العائذ بالله، المستعيذ بالله، اللائذ بالله، الصادع بالحق، المسند إلى الله، الذاب عن دين الله، المخلص لله، الخالص لله، المخلَص لله، المصفَّى لله، الصافي لله، الصفيّ لله، المعتني بأمر الله، المنْتَضَى لدين الله، المستولي بالله، المتولي لأمر الله، المُفْتتح بالله، الفاتح بالله، المستفتح بالله، المتتبع لأمر الله، الآمر بأمر الله، القاصد إلى الله، الموفي بأمر الله، المعلي لدين الله، المرتقي بالله، الراقي بالله، المجتهد لله، المدرك بالله، الناجي بالله، الساعي لله، المتعلق بالله، الناشر لدين الله، السائق بأمر الله، المقتفي لأمر الله، المقتدي بأمر الله، الطيب بالله، الطاهر لله، الزاكي بالله، المستعدي بالله، المبتهل بأمر الله، المستفيد لله، المختار لدين الله، المحتسب لله، القاضي بأمر الله، المعتضد لله، المستمد بالله، المتضلع بأمر الله، المتقدم بالله] . - 85 - *أول من سمى بالأذواء: المأمون: سمى الفضل بن سهل ذا الرياستين ثم تسمى [بهذا الاسم] بالأندلس منذر بن يحيى وسمى المأمون هرثمة ذا الحكمين، وعلي بن أبي سعيد ذا العلمين (1) و [سمى] طاهر بن الحسين ذا اليمينين. وتسمى [عندنا] بالأندلس عبد العزيز (2) بن عبد الرحمن بن أبي عامر ذا السابقتين.

_ (1) ب: ذا القلمين. (2) م: عبد الرحمن.

وأبو إبراهيم الطبيب (1) ذا المحكين (2) . وابن ذي النون ذا المجدين. (ورذل الأمر في المشرق الآن [وكثر] حتى عدمت الأسماء (3) وصارت سخرة ومهزأة وتسمى بها كل من لا معنى لذكره (4)) . - 86 - *وأول من سمي مضافاً (5) إلى الدولة: الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب: سمي ولي الدولة أيام المكتفي. ثم سمي المقتدر ابنه الوزير أيضاً الحسين بن القاسم عميد الدولة وهو المقتول على الزندقة بالرقة، المعروف بأبي الجمال لقبح وجهه. فلما ولي المتقي سمّى الاخوة الثلاثة الديالمة، وهم علي والحسن وأحمد بنو بويه: علي عماد الدولة، والحسن ركن الدولة، وأحمد معز الدولة. [ثم سمي الحسن بن عبد الله بن أبي الهيجاء بن حمدان بن ناصر الدولة وأخاه علياً سيف الدولة] . ثم سمي فناخسرو بن الحسن بن بويه عضد الدولة، وبويه أخاه مؤيد الدولة، وعلياً أخاه فخر الدولة، وبختيار بن الأقطع عز الدولة بن معز الدولة، وإبراهيم بن الأقطع أخاه: عمدة الدولة، والمرزبان بن بختيار: إعزاز الدولة. وأنشدني أبو العلاء صاعد بن الحسن الربعي البغدادي اللغوي (6) ، قال: أنشدت المرزبان هذا قصيدة لي أقول فيها: [من الطويل] فإعزازها من عِزِّها من مُعِزِّها ... كقطر غمامٍ من غمامٍ من البحرِ - وسمي ابنا علي فخر الدولة المذكور: شمس الدولة ومجد الدولة.

_ (1) ب: وإبراهيم بن الطبيب. (2) ب: ذا المحلين. (3) ب: حتى كادت الأسماء تعدم. (4) ب: وتسمى بها من لا وجه للاشتغال بذكره. (5) ب: وأول من تسمى باسم مضاف ... (6) توفي سنة 417 وله ترجمة في الذخيرة 4 1: 8 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى.

- وسمي المرزبان أبو كاليجار بن فناخسرو بن الحسن: صمصمام الدولة، وأخوه أبو الفوارس شيرزيل: شرف الدولة، وأخوه أبو نصر خسرو فيروز (1) : بهاء الدولة وغياث الأمة وسيف الملة. - وسمي قابوس بن وشمكير بن زيار [صاحب طبرستان] : شمس المعالي [ومولى الموالي وزين الأيام والليالي] . - وسمي محمود بن سبكتكين: يمين الدولة (2) . (قال علي بن أحمد: وكنت أمير حله وأسير حجه حتى بلغني تسميه بهذا الاسم فسقط عندي [إلى] غير ما كنت أقدره فيه، فإنما يتنافس الفضلاء في ما يقرب إلى الله تعالى، ثم الفحول بعد الفضلاء في علو اليد ونفاذ الأمر وإبقاء طيب الذكر واتساع المملكة لا في هذه الخسائس التي يُسْخَرُ بأربابها) . - وسمى أبو تغلب: عمدة الدولة، وابن عمه سيف الدولة [بن حمدان] : سعد الدولة. وعمران صاحب البطائح معين الدولة. [قال أبو محمد: عمران هذا كان نبطياً يدعي أنه عربي سُلَميّ، وكان لعنه الله رافضياً غالياً، ولي البطائح وهي قرى في نجدات بين البصرة وبغداد اثنتين وأربعين سنة، وعطلت المساجد في أيامه لشدة كفره] . - وسمي محمد بن بقية [وزير بختيار بن أحمد بن بويه] : الناصح [وبلقين بن زيري ظهير الدولة] . - وسمي أبو الصقر (3) : الشكور. - وسمي مؤنس الخادم: المظفر [وهو أول من تسمى بهذا الاسم] ، ثم تسمى به توزون التركي [أبو الوفا] ، ثم عبد الملك بن أبي عامر، ثم يحيى بن منذر بن يحيى، ثم محمد بن عبد الله بن مسلمة. (وانخرق الأمر [واتسع] ورذل جداً حتى سمي بهذه الأسماء في المشرق والمغرب [السماسرة] واللصوص والأنذال [ورذالات الناس] وتطايب الناس بذلك حتى

_ (1) في م: خسرو مهر. (2) نصير الدولة. (3) هو الوزير إسماعيل بن بلبل.

لعهدي بالعامة تسمي رجلاً من أهل قرطبة يسمى أسيد بن حبيب - أيام المستكفي - أمل الدولة. ليري الله عباده هَوَانَ ما تناحروا عليه وباعوا دينهم وأخلاقهم وما غالوا به. وصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحقيقاً على الله تعالى أن لا يرفع الناسُ شيئاً إلا وضعه [الله] ، أو كلاماً هذا معناه، ولاح [أن] الحقيقة إنما هي العمل لدار البقاء والخلود، بما يرضي الله تعالى، والعدل في البلاد، والعمل بمكارم الأخلاق، وحمل الناس على الكتاب والسنة، والاقتصار من حطام الدنيا الفاني الرذل على ما لا بدّ منه. فهذا هو الذي لا يقدر عليه سخيف، ولا يطيقه ضعيف. وبهذا يتبين فضل الفاضل القوي على الساقط المهين، لا بأسماء يقدر على التسمي بها كلُّ نذلٍ خسيسٍ واهن، ولا بملابس لا تصلح إلا للجواري، أو بكل ما يصح في الكف من نشب (1) ، أو بمشارب تذهب عقل شاربها، وتلحقه بالمجانين. ولقد كانت دولة عبد الملك وبنيه الوليد ويزيد وهشام وعمر بن عبد العزيز لا عَضُدَ لها ولا عماد ولا لقب إلا أسماؤهم وأسماء آبائهم فقط، وقد طبَّقَت الدنيا طاعةً واستقامة ونفاذَ أمر، وهي الآن أكثر ما كانت أعضاداً وعمداً، وقد طبقت الدنيا خساسة وضعفاً ومهانةً، ولله الأمر من قبل ومن بعد وحسبنا الله ونعم الوكيل) . - 87 - *من مات من الخلفاء مقتولاً وأنواع قتلهم: عمر رضي الله عنه: طعن بخنجر في السرة. عثمان رضي الله عنه: قطع (2) بالسيوف. علي رضي الله عنه: ضرب (3) بالسيف ضربة كانت منها منيته. عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: قتل بالسيوف (4) وصلب منكّساً. مروان بن الحكم: قيل إن امرأته أم خالد، غمَّته [بمخدة] حتى مات. عمر بن عبد العزيز رحمه الله: [قيل إنه] سمَّ.

_ (1) في م: مدسب. (2) ب: قتل. (3) ب: قتل. (4) ب: بالسيف.

الوليد بن يزيد: قطع بالسيوف (1) . [إبراهيم بن الوليد مات غرقاً] . [مروان بن محمد قتل بالسيف] . السفاح: قيل سمَّ (2) ولم يصح، وقيل مات بالجدري. المهدي: أرادت إحدى حظيّتيه (3) [طلة وحسنة] أن تسم صاحبتها في قطائف (4) فأكل هو منها فمات. [فكانت تقول في بكائها إياه: أردت الانفراد بك فأوحشت نفسي منك، أو كلاماً نحو هذا] . الهادي: دفع بعض جلسائه من جرف على سبيل اللعب فتعلق المدفوع به فماتا جميعاً لأن الهادي وقع على أصول قصب [فارسي] قد قطع فدخل في مخرجه فكان سبب موته. الرشيد: أخطأ عليه [الطبيب] جبرئيل بن بختيشوع في علاج دبيلة كانت معه فكانت سبب منيته. الأمين: قتل بالسيف. المتوكل قطع بالسيوف (5) . المنتصر: [قيل] سمّ في تمرات أكلها (6) وقيل في مبضع فصد به، وقيل رمي الزئبق في أذنيه وهو وجع مثبت. المستعين: قتل بالسيف. المعتز: أدخل في الحمام وأغلق [عليه] حتى مات. المهتدي رحمه الله: قتل بخنجر. المعتمد: قيل سمَّ وقيل رمي في حلقه رصاص مذاب وقيل وقع في حفرة ملئت

_ (1) ب: قتل بالسيف. (2) ب: قيل سمه المنصور. (3) م: حظاياه. (4) ب: حلواء. (5) ب: قتل بالسيف. (6) ب: سمّ في كمثرى.

بالريش فاغتم فمات (1) . المقتدر: قطع بالسيوف (2) وقيل سمه ميسور فتاه في مبضع فصد به. [المنذر قيل سمه أخوه في مبضع فصد به] . [هشام المؤيد قتل خنقاً] . المهدي: قطع بالسيوف، وهو محمد بن هشام. سليمان بن الحكم: قطع بالسيوف (3) . المستظهر: قتل بالسيف. المستكفي: سمَّ. القاسم بن حمود: غمّ. علي بن حمود: قتل بالخناجر. يحيى بن علي بن حمود: قتل بالسيف. حسن بن يحيى بن علي بن حمود: سمّ. - 88 - *لم يل الخلافة (4) في الصدر الأول من أُمُّة أُمُّ ولدٍ إلا (5) يزيد وإبراهيم ابني الوليد، وقيل مروان بن محمد أيضاً. ولا وليها من بني العباس ابن حرة إلا (6) السفاح والمهدي والأمين. ولا وليها من بني أمية بالأندلس ابن حرة أصلاً. وأما القاسم وعلي ابنا حمود فأمهما علوية [حرة] . وقيل أن يحيى وإدريس ابنا علي أمهما علوية. ومحمد بن القاسم بن حمود أمه علوية.

_ (1) ب: وقيل ملئت له حفيرة بالريش ومشى عليها فسقط فيها فمات غماً. (2) ب: قتل بالسيف. (3) ب: قتل بالسيف. (4) نقل هذا النص في تحفة العروس: 73 حتى قوله " حرة أصلاً ". (5) التحفة: حاشا. (6) ب والتحفة: بني العباس من أمه حرة حاشا.

*خليفة استجدى بعد الخلافة: القاهر في خلافة ابن أخيه المطيع. وقد قيل أن المتقي والمستكفي خاطبا أبا بكر بن الحسن بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب مستجديين، ولا يصح هذا عن المتقي ولا يبعد عن المستكفي، لأن المتقي كان قد أخرج أموالاً عظيمة أعدها لنفسه وسلمت له، وأما المستكفي فكان في خصاصة، [نعوذ بالله من البلاء] . - 90 - *من استجدى قبل الخلافة: أبو جعفر المنصور: كان يقصد الأمراء كثيراً [قبل خلافته] وكان في شرط خالد بن عبد الله القسري، رزقه ستون درهماً في الشهر [وولي بعض المحال بالأهواز لسليمان بن حبيب بن المهلب] (1) . وحدثني الكاتب الشيخ المسنّ عبد العزيز بن بقي رحمه الله قال: رأيت علي بن حمود قد استجدى عبد العزيز بن المنذر بن الناصر (2) ، ثم ولى الخلافة وأزال دولة بني أمية، ومات عبد العزيز المذكور في سجنه. - 91 - * من جلد قبل الخلافة: أبو جعفر المنصور: استعمله سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة أيام قيامه بفارس على بعض أعمال الأهواز، فاحتجن لنفسه المال، وطالبه سليمان وضربه بالسياط [ضرباً شديداً] وأغرمه [المال] ، فلما ولي الخلافة أخوه تمكن من سليمان فقتله [وكان المنصور يقول: ثلاث كن في صدري شفى الله منها: كتاب أبي مسلم إليّ وأنا خليفة عافانا الله وإياك من السوء ودخول رسوله علينا وقوله أيكم ابن الحارثية،

_ (1) كان سليمان بن المهلب (في سنة 129) قد انحاز إلى الأهواز مع شيبان بن عبد العزيز، فبعث إليه ابن هبيرة جيشاً بقيادة نباتة بن حنظلة فالتقوا بالماذيار وكانت الكسرة على جيش سليمان (تاريخ خليفة: 585 - 586) وفي هذه الأثناء اتصل أبو جعفر، كما سيأتي، وكان صلب سليمان أيام السفاح (مروج الذهب 4: 133 والمحبر: 486) . (2) هو المعروف بابن القرشية، كان ذا حظ وافلا من الأدب (الجذوة: 271) .

وضرب سليمان بن حبيب ظهري بالسياط] . المأمون: جلده أبوه الحدَّ [في] الزنا [ببعض حرمه] ؛ وفي ذلك يقول شاعر يمدح الأمين أخاه ويعرِّضُ به: [من مجزوء الرمل] لم تلده أمةٌ تعر ... فُ في السوقِ التجارا لا ولا خان ولا ح ُ ... دَّ ولا في الحكم جارا - 92 - *من العيب: أن عبد الرحمن الناصر أخرج إذ ولي عمته أخت أبيه شقيقة عمه المطرف عن القصر لأن عمه شقيقها تولى قتل أبيه، فآواها موسى بن محمد بن حدير (1) فماتت في داره. - 93 - *من الغرائب: أن موسى بن حدير كان [من] أخصِّ الناس بالمطرف بن [الأمير] عبد الله [والمطرف هذا هو] قاتل أخيه محمد بن [الأمير] عبد الله، فلما صارت الخلافة إلى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله [المقتول المذكور] كان موسى بن محمد [بن حدير] من أخص الناس به، وولاه [حجابته و] تدبير أموره [كلها] . وقد شاهدنا مثل هذا: وذلك أن محمد بن سعيد التاكرني (2) كان أحد القائمين مع المهدي محمد بن شهام [بن عبد الجبار] على عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر، ومن المشاهدين لقتل عبد الرحمن وصلبه [والساعين في القيام عليه] وفساد أمره؛ فلما قام عبد العزيز بن عبد الرحمن [المذكور] ببلنسية لم يكن أحد أحظى منه من محمد بن سعيد المذكور، وتولى تدبير مملكته (3) إلى أن مات (4) .

_ (1) سيأتي في الفقرة التالية خبر عنه، وقد استمر موسى في الوزارة أيام الناصر، وكان صاحب المدينة حتى سنة 302 حين صرف عن ولايتها واكتفى بالوزارة، وأخذ يصحب الناصر في غزواته حتى وفاة الحاجب بدر (3 - 9) فولى موسى مكانه وبقي في الحجابة والوزارة حتى توفي سنة 320 (صفحات متفرقة من الجزء الخامس من المقتبس) . (2) أبو عامر محمد بن سعيد التاكوني (نسبة إلى تاكرنا قصبة كورة رندة) كان من أبرز كتاب عصره. (انظر ترجمته في الجذوة: 56 والمغرب 1: 332 والذخيرة 3 1: 226 وإعتاب الكتاب: 201 وأعمال الأعلام: 224) . (3) بك أموره. (4) هنا ينتهي النصّ في النسخة ب.

وكان ناصر الدولة بن حمدان قتل عمه أبا العلاء بعصر خصاه، ثم كان أبو عبد الله بن أبي العلاء أخصَّ الناس بناصر الدولة ومتولي عسكره. - 94 - *من غرائب الأخبار: أحمد بن محمد بن عمروس: حجَّ وولي القضاء والصلاة بأستجة، ثم ولي الشرطة والوزراة وكانت سيرته بحيث عرفت من البلاء. محمد بن أبي عامر: ولي القضاء بسبتة وإشبيلية ثم ولي الأندلس جميعاً. يحيى بن إسحاق: ولي القضاء ببطليوس ثم ولي عمالتها والوزارة. أحمد بن محمد بن يحيى بن برطال: ولي قضاء بطليوس ثم ولي عمالتها. بكر بن محمد بن المشاط: ولي قضاء جيان وغيرها ثم ولي الشرطة، فكان أفسق البرية وأقتلهم ظلماً. الوزير عبيد الله بن يحيى بن إدريس: كان في وزارته مؤذناً في مسجده وكان فاضلاً. أبو الحارث بن أبي عبدة: كان يؤم بجيرانه في المسجد في رمضان وهو وزير. جهور بن محمد بن جهور: كان يؤم بجيرانه في مسجده في رمضان وهو وزير. محمد بن عبد الرحمن بن الشيخ الساير بالسن () : كان يؤم ويؤذن في مسجد وهو يقضي القضايا. - 95 - *من نكح من بني هاشم في بني أمية: رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان. الحسن بن علي رضي الله عنهما: تزوج بنت عثمان رضي الله عنه. أبو جعفر المنصور: تزوج امرأة من بني عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص بن أمية فولدت له علياً والعباس. جعفر بن أبي المنصور: تزوج ايضاً امرأة من ولد عبد الله بن خالد المذكور. المهدي بن المنصور: تزوج بنت سعيد بن المغيرة بن عمرو بن عثمان بن عفان.

الرشيد: تزوج بنت عبد الله بن سعيد بن المغيرة المذكور. الحسن بن زيد القائم بطبرستان: تزوج امرأة من بني أمية. رجل من بني إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي تزوج امرأة من بني سعيد الخير (1) بن عبد الرحمن بن معاوية. أبو لهب بن عبد المطلب: تزوج أم جميل حمالة الحطب بنت حرب بن أمية بن عبد شمس (2) . - 96 - *من تزوج من بني أمية في بني هاشم: الحارث بن حرب بن أمية: تزوج صفية بنت عبد المطلب قبل العوّام بن خويلد (3) . عثمان بن عفان: تزوج أم كلثوم ورقية ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهما. عبد الملك بن مروان: تزوج بنت علي بن أبي طالب عليه السلام وبنت عبد الله جعفر بن أبي طالب. عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: تزوج فاطمة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم (4) . يزيد بن عبد الملك: تزوج امرأة من ولد عبد الله بن جعفر. زيد بن عمر (5) بن عثمان بن عفان: تزوج سكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم (6) ثم خلف عليها بعده سهيل بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم (7) .

_ (1) ذكر ابن حزم (الجمهرة: 95) أن عقب سعيد الخير كثير، وهم بقرطبة وقبرة. (2) انظر أنساب الأشراف 4 1: 5. (3) كانت صفية شقيقة حمزة أمهما هالة بنت وهب، وهي أم الزبير بن العوام وقد أسلمت وعاشت إلى خلافة عمر (الإصابة 8: 128) . (4) انظر أنساب الأشراف 4 1: 605 - 606. (5) في م: عمرو. (6) طلقها زيد امتثالاً لأمر سليمان بن عبد الملك لأنها أبت أن تقبل بعبد الملك زوجاً لها بعد مصعب (أنساب الأشراف 4 1: 641) . (7) في الجمهرة: 105 أن الذي تزوجها الأصبغ بن عبد العزيز.

عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: تزوج نفيسة بنت عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب فولدت له علياً والعباس، قام علي بدمشق أيام المأمون (1) . نفيسة بنت زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام: تزوجها الوليد بن عبد الملك بن مروان. خديجة بنت الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب تزوجها إسماعيل بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، فولدت له محمداً وإسحاق والحسين ومسلمة، ثم ماتت، فتزوج بعدها حمادة بنت الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فولدت له محمداً ويزيد والوليد. مروان بن أبان بن عثمان بن عفان: تزوج أم القاسم بنت الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم فولدت له محمداً (2) . الوليد بن عبد الملك: تزوج زينب بنت الحسن بن الحسن بن علي ثم طلقها، فتزوجها عمه معاوية بن مروان، فولدت له الوليد، ولي دمشق (3) . فاطمة بنت محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب: تزوجها بكار بن عبد الملك (4) . أم فروة بنت جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم تزوجها عبد العزيز بن سفيان بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز بن مروان. ربيحة بنت محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب تزوجها بكار بن عبد الملك ابن مروان. - 97 - *من ولي من بني أمية لبني هاشم. عثمان بن عفان، ومعاوية ويزيد ابنا أبي سفيان، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص: كتبوا كلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) قام علي بن عبد الله بن خالد بدمشق سنة 195 وسمّى نفسه السفياني ودعا إلى نفسه (تاريخ الطبري 3: 830) (2) انظر الجمهرة: 85، 45 حيث ذكر أنها بنت الحسن بن علي، وقد أنحى البلاذري بالذم على مروان هذا (انظر أنساب الأشراف 1 4: 619) . (3) قارن بالجمهرة: 88، 42. (4) قتل بكار يوم نهر أبي فطرس سنة 132 (الجمهرة: 89) .

أبو سفيان بن حرب: ولاه النبي عليه السلام نجران (1) . يزيد ابنه: ولاه النبي عليه السلام تيماء. خالد بن سعيد بن العاص: ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قرى عربية (2) . عتاب بن أسيد بن أبي العاص: ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة (3) . محمد بن عبد الله بن سعيد بن المغيرة بن عمرو بن عثمان بن عفان: ولاه الرشيد قضاء مكة (4) . أبو مروان محمد بن عثمان بن خالد بن عمر بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان ولي قضاء مكة للمعتصم ثم للواثق. رجل من بني مروان ولي قضاء المدينة للمطيع. وولي قضاء القضاة ببغداد وغيرها في أيام المتوكل إلى أيام المطيع الحسن وعلي ابنا محمد بن عبد الملك بن محمد المعروف بأبي الشوارب بن عبد الله بن أبي عثمان بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ثم عبد الله بن علي المذكور، ثم ابنه محمد والحسن ابنا عبد الله، ثم محمد بن الحسن بن عبد الله المذكور. ولم يزل القضاء يتردد إلى صدر من أيام القادر، وكانوا بصريين على مذهب أبي حنيفة (5) . - 98 - *من ولي من بني هاشم لبني أمية: علي بن يحيى (6) بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب استقوده الناصر إلى العدوة. وكان ملوك

_ (1) تاريخ خليفة: 73. (2) منها تبوك وخيبر وفدك ووادي القرى؛ وفي اسمها " قرى عربية " راجع مقالاً للأستاذ محمود شاكر بمجلة العرب 9 (1968) 790 - 797؛ وقال البلاذري (أنساب 4 1: 432) أن الرسول (ص) ولى عمرو بن سعيد قرى عربية، وأنه ولى خالداً صدقات اليمن، ويقال ولاه أمر بني زبيد خاصة، فتوفي رسول الله وهو باليمن (أنساب 4 1: 431) وانظر كذلك تاريخ خليفة: 72 وهو موافق للبلاذري. (3) تاريخ خليفة: 72. (4) لم يشر خليفة إلى مكة وقضاتها في عهد الرشيد. (5) قارن بالجمهرة: 114. (6) أخرجه الناصر سنة 348 إلى شرشل مكانه من العدوة قائداً بمن انضم إليه من الحشم لمكافحة أصحاب الشيعي (البيان المغرب 2: 222) .

الحسنيين يفدون على الناصر والحكم فيكرمونهم الإكرام العظيم ويسجلون لهم على جبايتهم بالعدوة (1) . سليمان بن الحكم ولَّى القاسم وعلياً ابني حمود [فولَّى القاسم الجزيرة الخضراء وولى علياً] (2) سبتة وطنجة، فثار عليه [علي] وأبطل دولة المروانية وتولى قتل سليمان بيده (3) . - 99 - *من غرائب الأسماء في بني هاشم: خالد بن يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (4) . يزيد بن عبد المطلب (5) بن المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم. أبو العاصي الحكم بن محمد (6) بن يحيى بن محمد بن غبراهيم بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. أمية وعبد شمس وأبو سفيان بنو الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف (7) . - 100 - *ومن غرائب الأسماء في بني أمية: علي بن يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان (8) . علي بن محمد بن سليمان المستعين بن الحكم بن سليمان بن الناصر (9) .

_ (1) انظر أمثلة ذلك في البيان المغرب 2: 216، 241 والمقتبس (تحقيق الحجي) : 120. (2) زيادة من الجذوة: 19 وانظر ما يلي: 197 - 198. (3) انظر الجذوة: 20، وكان قتله له سنة 407. (4) انظر عمدة الطالب: 34 حيث ذكر أن عبد الله سمّى ابنه معاوية لأن معاوية بن أبي سفيان طلب منه ذلك وبذل له مائة ألف درهم وقيل ألف ألف؛ ولمعاوية بن عبد الله ابن اسمه يزيد ولم يذكر المؤلف عقباً له. (5) في الأصل: عبد الله والتصحيح عن الأنساب (3: 297) والجمهرة: 70، ويكنى أبا خالد، وكان فقيهاً مات بالمدينة سنة 167، وروي عنه الحديث وكان ضعيفاً فيه. (6) سمّاه في الجمهرة: 48 الحكم بن علي، وساق بقية النسب وقال: إنه وأخاه عبد الرحمن سكنا قرطبة وأعقبا بها. (7) قارن بالأنساب 3: 296 والجمهرة: 70. (8) الجمهرة: 90. (9) الجمهرة: 102.

الحسن والحسين ابنا عثمان بن الأمير محمد. الحسن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الناصر. الحسن وعلي ابنا محمد بن أبي الشوارب. علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني (1) ، وعمه الحسن بن محمد (2) من ولد عبد الله بن مروان الجعدي. - 101 - *ومن مصائب الدنيا: أن القاضي يحيى بن أكثم قاضي القضاة ببغداد ولَّى الديلميُّ محاسبَتَهُ عما جرى على يديه من الأوقاف وغير ذلك صاعدَ بن ثابت النصراني الكاتب. - 102 - *ومن طرائف المذهب: علي بن محمد من ولد زيد بن علي بن الحسين، ففيه نجران: حنبلي النحلة والمذهب. مروان بن محمد السروجي من ولد مروان الجعدي: شاعر مجيد رافضي غالٍ، وزيادة في العجب أنه لم يكن بديار مصر رافضي غال غيره. وأدركنا فقيهين أحدهما: علي بن محمد بن الحسن بن القاسم بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فقيه بافريقية، مصرح بتفضيل عثمان على علي بلا تقية، والثاني: محمد بن عبد الرحمن بن يحيى بن محمد بن أحمد بن مروان بن سليمان بن مروان بن أبان بن عثمان بن عفان بقرطبة (3) ، مشهور مصرح بتفضيل علي على عثمان بلا تقية، وكلاهما متكلم أديبٌ نبيلٌ ورع.

_ (1) نسبه: علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن محمد ابن مروان بن الحكم (الجمهرة: 107، وما تقدم ص: 52) . (2) كان الحسن بن محمد من كبار الكتاب بسرّ من رأى، أدرك أيام المتوكل (الجمهرة: 107) . (3) كنيته أبو القاسم ويعرف بابن شق حبة، كان عالماً بالأدب وسكن طليطلة، وكانت وفاته سنة 443 (الصلة: 502) .

أبو حنيفة مولى يقول: لا يجوز نكاح المولى من قريش ولا في العرب؛ والشافعي قرشي مطلبي منافي يقول هذا جائز. محارب بن دثار (1) أحد أئمة أهل السنة، وعمران بن حطان أحد أئمة الصفرية من الخوارج (2) : كانا صديقين مخلصين زميلين إلى الحج لم يتحارجا قطّ. عبد الرحمن بن أبي ليلى (3) كان يقدم علياً على عثمان، وعبد الله بن عكيم (4) كان يقدم عثمان على علي، وكانا صديقين لم يتحارجا قط، وماتت أم عبد الرحمن فقدم [للصلاة] عليها ابن عكيم. طلحة بن مصرف (5) وزبيد اليامي (6) صديقان متصافيان، وكان طلحة يقدم عثمان، وكان زبيد يقدم علياً، ولم يتحارجا قط. داود بن أبي هند (7) إمام السنة وموسى بن سيار (8) من أئمة القدرية: كانا صديقين متصافيين خمسين سنة لم يتحارجا قط.

_ (1) في الأصل: زياد؛ ومحارب بن دثار سدوسي، مختلف في تاريخ وفاته بين 116 - 119 ووثقه أهل العلم بالرجال (انظر تهذيب التهذيب 10: 49) . (2) عمران بن حطان: سدوسي، قال أبو داود: ليس في أهل الأهواء أصح حديثاً منه، وقد تردد بعضهم في قبول حديثه لأنه كان يرى رأي الخوارج، وكانت وفاته سنة 84 (انظر تهذيب التهذيب 8: 127) . (3) عبد الرحمن بن أبي ليلى أحد التابعين روى عن عدد من الصحابة، وكان ثقة في حديثه، توفي في دير الجماجم سنة 82 وقيل 83 وقيل 86 (تهذيب التهذيب 6: 260) . (4) روى عن عدد من الصحابة، وهو كوفي، مات في ولاية الحجاج (تهذيب التهذيب 5: 323) . (5) طلحة بن مصرف الهمداني أبو محمد (أو أبو عبد الله) الكوفي روى عن عدد من التابعين، وكان ثقة، وكان يسمى سيد الفراء، وقال العجلي: كان عثمانياً، وتوفي سنة 112 (تهذيب التهذيب 5: 25) . (6) في الأصل: زبيد الشامي؛ وذلك خطأ، فهو يامي نسبة إلى يام بطن من همدان. وهو زبيد بن الحارث بن عبد الكريم أبو عبد الرحمن الكوفي، كان ثقة قليل الحديث، توفي سنة 122 أو 123 أو 124 وقال بعضهم فيه إنه كان يتشيع وقال آخر إنه كان علوياً، وقال محمد بن طلحة بن مصرف: ما كان بالكوفة ابن أب وأخ أشد مجانباً من طلحة بن مصرف وزبيد اليامي، كان طلحة عثمانياً وكان زبيد علوياً (تهذيب التهذيب 3: 310 - 311) وهذا هو ما يقوله ابن حزم. (7) داود ابن أبي هند أبو محمد البصري، كان من حفاظ البصريين، ثقة جيد الإسناد صالحاً، توفي سنة 139 أو 140 أو 141 (تهذيب التهذيب 3: 204) . (8) موسى بن سيار الأسواري: بصري كان يجمع في مجلسه العرب والموالي ويقص لكل فريق بلغته، وقال يحيى ابن معين وغيره كان قدرياً، وعن يحيى بن سعيد قال: اصطحب داود بن [أبي] هند وموسى بن يسار (سيار) الأسواري خمسين سنة وبينهما خلاف شديد لم يجر بينهما كلمة (لسان الميزان 6: 136، 120؛ والبيان والتبيين 1: 368 وفضل الاعتزال: 271) .

سليمان التَّيمي (1) إمام أهل السنة والفضل الرقاشي إمام المعتزلة (2) : كانا صديقين إلى أن ماتا متصافيين، وتزوج سليمان بنت الفضل وهي أم المعتمر بن سليمان (3) . بنو خراش كانوا ستة: اثنان من أهل السنة، واثنان من الخوارج، واثنان من الرافضة، وكانوا متعادين، وكان أبوهم يقول لهم: يا بنيَّ لقد حال الله بين قلوبكم. اليمان وهارون وعلي بنو رئاب (4) : علي من أئمة الشيعة والروافض، واليمان من أئمة الخوارج، وهارون من أئمة اهل السنة، وكانوا متعادين. جعفر بن مبشر رأس المعتزلة، وأخوه حبيش بن مبشر (5) مجتهد في السنة، متعاديان. والسيد الحميري كيساني شيعي، وأبوه وأمه خارجيان يلعنهما ويلعنانه (6) . - الكميت بن زيد مضري عصبي كوفي شيعي والطرماح بن حكيم يماني عصبي شامي خارجي، وكلاهما شاعر مفلق، كانا صديقين متصافيين على عظيم تضادّهما من كل وجه (7) . - هشام بن الحكم إمام الرافضة، وعبد الله بن زيد الفزاري إمام الإباضية،

_ (1) في الأصل: التميمي؛ وهو سليمان بن طرخان التيمي (والد المعتمر) البصري، ولم يكن من بني تيم وإنما نزل فيهم، كان من العباد المجتدهين ثقة في الحديث، وكان يميل إلى عليّ، توفي سنة 143 (تهذيب التهذيب 4: 201) . (2) هو الفضل بن عيسى الرقاشي البصري أبو عيسى الواعظ، لم يوثقه المحدثون لأنه كان قدرياً، وفي التهذيب 8: 283 أن المعتمر ابن اخته روى عنه، وحسب نص ابن حزم فإن المعتمر ابن بنته (وانظر فضل الاعتزال: 96) . (3) المعتمر بن سليمان: روى عن أبيه وغيره من المحدثين، وكانت وفاته سنة 187 (تهذيب التهذيب 10: 277) . (4) هارون بن رئاب التميمي أبو بكر أو أبو الحسن البصري العابد روى عن أنس وقيل لم يسمع منه والأحنف بن قيس وغيرهما، ذكره ابن حيان في الثقات، انظر تهذيب التهذيب 11: 4 - 5 وقد نقل ابن حجر نصَّ ابن حزم في الاخوة الثلاثة إلا أنه ذكر " العمار " في موضع " اليمان ". (5) جعفر بن جعفر الثقفي له تصانيف في الكلام وكان من الفقه والزهد بمكان، توفي سنة 234 (لسان الميزان 2، 121 وفضل الاعتزال: 283 وتاريخ بغداد 7: 162) وكان أخوه حبيش (وفي الأصل: وحيش) فقيهاً، وقال النديم: كان حبيش أيضاً متكلماً لكنه لم يقارب جعفراً (الفهرست: 208) . (6) السيد الحميري (105 - 173) إسماعيل بن محمد بن يزيد، كان كيسانياً شاعراً، نظم فضائل علي كلها في شعر، ويقال إنه رجع عن كيسانيته وأصبح إمامياً، انظر أخباره في طبقات ابن المعتز: 32 والأغاني 7: 224 حيث ذكر أن أبوي السيد كانا إباضيين وأنهما لما علما بمذهبه هما بقتله. (7) قارن بالبيان والتبيين 1: 46 " وبينهما مع ذلك من الخاصة والمخالطة ما لم يكن بين نفسين قط، ثم لم يجر بينهما صرم ولا جفوة ولا إعراض، ولا شيء مما تدعو هذه الخصال إليه ".

صديقان مخلصان في دكان وأحمد، لم يتحارجا قط (1) . - أهل وادي بني توبة في الأندلس معتزلة. - أهل بلفيق بغرب المرية همدانيون شيعة. - الحاجب موسى والوزير أحمد ابنا حدير، وابن عمها أحمد بن موسى، والوزير عبد الرحمن بن الحاجب موسى وسعيد بن الوزير أحمد معتزلة كلهم (2) . - 103 - - رجلان صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفهما الفرض: أبو بكر الصديق وعبد الرحمن بن عوف. - رجلان أثنى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: أبو بكر الصديق والعاصي بن الربيع. - رجل اعترف له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنِّ في صحبته وماله على المنبر: أبو بكر الصديق. - رجل قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من القرآن بأمر الله سبحانه وتعالى له بذلك: أُبيّ بن كعب. - رجل استقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن: عبد الله بن مسعود. - رجل استمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءته واستحسنها: أبو موسى الأشعري. - رجل روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالحكم بحضرته: عمرو بن العاص. - رجل حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم والتزم إنفاذ حكمه: سعد بن معاذ. - رجل روى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً وحدَّث عنه على المنبر: تميم الداري.

_ (1) قارن بالبيان والتبيين 1: 46، 47؛ وفيه عبد الله بن يزيد الاباضي، وفي معظم أصول البيان " زيد ". (2) أشار ابن حزم في الفصل 4: 202 - 203 إلى أن أحمد بن موسى بن حدير من شيوخ المعتزلة، وذكر في طوق الحمامة (رسائل ابن حزم 1: 157) أن حكم بن منذر بن سعيد البلوطي كان رأس المعتزلة في عصره، وكبيرهم وأستاذهم، وأن أخاه عبد الملك وأباه كانا متهمين بالاعتزال.

- رجل أري في رؤياه شريعة مقتصرة في الدين قبل أن ينزل بها الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن زيد، أري الأذان. - رجل قصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شاربه بيده: المغيرة بن شعبة. - رجل كواه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده: أسعد بن زرارة. - رجل أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يأت بعد: الأمير الذي يفتح القسطنطينية، والذي يقتله الدجال، والعشرة الذين يخرجون يطلبون طليعة إذا جاشت الروم. - رجل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواره: المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. - 104 - *آخر خليفة حجَّ بالناس: هارون الرشيد. - آخر خليفة غزا أهل الكفر بنفسه: المعتصم، ومن بني أمية عبد الرحمن الناصر. - آخر خليفة خطب على منبر: الراضي؛ ومن بني أمية المستظهر. - آخر خليفة بنى: الراضي، ومن بني أمية الحكم المستنصر. تم كتاب نقط العروس بعون الله ومنه وكرمه والحمد لله وحده، وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

2 - رسالة في أمهات الخلفاء.

2 - رسالة في أمهات الخلفاء.

فراغ

رسالة في أمهات الخلفاء

- 2 - رسالة في أمهات الخلفاء قال أبو محمد ابن حزم: أم النبيّ صلى الله عليه وسلم آمنةُ بنتُ وَهْب بن عبد مناف بن زهرة بن كِلاب بن مُرّة. وأمّ أبي بكر، رضي الله عنه، أمُّ الخير، مسلمةٌ فاضلة، سَلْمى بنت صخر بن عامر (1) بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. أمّ عمر، رضي الله عنه، أرْوى بنت كريز (2) بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف. وأمّ عليّ، رضي الله عنه، فاطمةُ بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، مسلمة فاضلة مهاجرة. أمّ الحسن، رضي الله عنه، فاطمةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها. أمّ معاوية، رضي الله عنه: هند بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، مسلمة مُبايعة. أم يزيد: ميسون بنت بحدل الكلبية. أم عبد الله بن الزبير: أسماء بنت أبي بكر الصديق. أم معاوية بن يزيد: أم خالد بنت [أبي] هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. أمّ مروان بن الحكم: الزرقاء الكنانية. أم عبد الملك: عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاصي بن أمية.

_ (1) في الأصل: صخر بن عمر بن عامر، وفي أصل رسالة أسماء الخلفاء: صخر بن عمرو، ولفظة عمر أو عمرو مقحمة، انظر جمهرة أنساب العرب: 135 ونسب قريش: 275. (2) في الأصل: كرز، وانظر الجمهرة: 74.

أم [الوليد و] سليمان: ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جَذيمة العبسي. أمّ عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه: أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. [أم يزيد بن عبد الملك] : عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. أمّ هشام: أم هشام بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. [أم الوليد بن يزيد] : بنت محمد بن يوسف أخي الحجّاج بن يوسف الثقفيّ. [أم يزيد بن الوليد] : شاهفريد (1) بنت خسروفْيروز بن يَزْدَجِرْد بن شَهْرِيار ابن كسرى أبرويز. [أم إبراهيم بن الوليد] : أم ولد لا أقف الآن على اسمها. وأم مروان: اختُلف فيها، فقيل أم ولد اسمها ريّا. وقيل بنت جعدة بن كلب من بني عامر بن صَعْصَعَة. أمّ السفاح: ريطة بنت عبيد الله (2) بن عبد الله الحارثي، من بني الحارث بن كعب. أمّ المنصور: سلامة البربريّة من نفزة، وقيل من [صنهاجة] . أمّ المهدي: أم موسى بنت منصور الحميري. أمّ الهادي وهارون: الخَيْزَرانُ، مولّدة كوفية. وأمّ الأمين: أم جعفر زُبَيْدةُ بنتُ جعفر الأكبر بن أبي جعفر المنصور. وأمّ إبراهيم بن المهديّ: شَكْلَةُ، ظفرية. وأمّ المأمون: مَرَاجلُ، رومية (3) . وأم المعتصم: ماردة (4) مولّدة كوفية. وأمّ الواثق: قراطيسُ، رومية.

_ (1) في الطبري: شاه آفريد. (2) في الأصل: بنت زياد، وصوبته اعتماداً على الجمهرة والطبري. (3) في رسالة أسماء الخلفاء: بادغيسية خراسانية تركية؛ وانظر ابن العمراني: 96. (4) زاد ابن العمراني: 104 وقيل مارية.

وأمّ المتوكل: شُجاع، تركية. وأمّ المنتصر: اسمها حبشية، روميّة. وأمّ المستعين: مخارق، روميّةٌ أُمُّ ولد. وقيل إنها بنتُ عُبَيْد من أهل دَوْسَر قرية بالموصل. وأمّ المعتزّ: اسمها قَبيحةُ، صقلبية (1) . وأمّ المهتدي: قُرْبٌ، رومية. وأمّ المعتمد: فتيان، أمّ ولد. وأمّ المعتضد: ضِرار (2) ، من دار محمد بن عبد الله بن طاهر. وأمّ المكتفي: خاضع (3) . وأمّ المقتدر: شغب، أمّ ولد. وأمّ القاهر: قَتول (4) ، أمّ ولد. وأمّ الراضي: ظلُوم، أمّ ولد. وأمّ المتَّقي: خلوب (5) ، [أم ولد] . وأمّ المستكفي: غُصْن، أمّ ولد. وأمّ المطيع: شعلة (6) ، من دار العباس بن الحسن. ولا أدري اسم أم الطائع (7) .

_ (1) عند ابن العمراني: 128 رومية. (2) قال السيوطي: 398 وأمه أم ولد اسمها صواب وقيل حرز وقيل ضرار. (3) في رسالة أسماء الخلفاء والطبري والسيوطي: 405 جيجك وعند ابن العمراني: 150 جارية تركية اسمها ججك، قال السيوطي: وكان يضرب بحسنها المثل. (4) تصحف اسمها بين قبول وقتلو؛ وبين فتنة وقينة. (5) قال السيوطي: 424 وقيل زهرة. (6) في رسالة أسماء الخلفاء: مشغلة. (7) لم يذكرها أيضاً في رسالة أسماء الخلفاء؛ وقال ابن العمراني: 179 أن اسمها " عتب ". قلت: وقد زاد ابن حزم في رسالة أسماء الخلفاء ذكر خليفتين بعد الطائع.

أمهات أمراء بني أمية

أمهات (1) أمراء بني أمية بالأندلس (2) أم عبد الرحمن بن معاوية: راح، نفزَّية. وأم هشام: حوراء. وأم الحكم: زخرف. وأم محمد: تهتزّ. وأم المنذر: أثل. [وأم عبد الله: عشار] (3) . وأم الناصر: حزم (4) . وأم الحكم: مرجان. [وأم المؤيد: صبح] . وأم المهدي: مُزْنة. وأم سليمان: ظَبيَة. وأم المستظهر: غاية. وأم المستكفي: حور (5) . [وأم المعتد: عاتب] (6) . آخره: ووله الحمد والمنّة والصلاة على محمد وآله والسلام

_ (1) في الأصل: أول، ولا معنى له؛ إذ أنه سرد جميع أمراء بني أمية. (2) روجعت أسماء أمهات الأمراء الأمويين بالأندلس على ما جاء في الجذوة، وهو مستفاد أيضاً من ابن حزم. (3) زيادة ضرورية عن الجذوة (12) : عشار، وفي بغية الملتمس: أشار. (4) اسمها مزنة كما في الجوة: 13. (5) جذوة المقتبس (25) : حوراء. (6) زيادة من الجذوة: 27.

رسالة في جمل فتوح الإسلام.

3 - رسالة في جمل فتوح الإسلام.

فراغ

جمل فتوح الإسلام

- 3 - جُمل فتوح الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدَّ أكثر العرب - وثبت أهل البَحْرَتين (1) من أهل مكة والطائف، وكثير ممن سكن اليمن - فبعضٌ كفر وارتد، وبعض قال أُصلّي ولا أؤدي الزكاة. فأذعن جمهور الصحابة إلى مسالمتهم، وأبى ذلك أبو بكر: فأنفذ بعث أُسامة بن زيد، فبلغ قرب الشام، وأغار على قُضَاعَة وانصرف. وبعث أبو بكر رضي الله عنه البعوث، حتى قهر المرتدِّين، وراجع الناسُ الإسلامَ. وكان قد تنبأ باليمن الأسود العَنْسيّ، فقتله فيروز الفارسي. وتنبأ طليحة الأسدي في أسد وغطفان، فحاربه خالد، فهرب طليحة ثم أسلم. وتنبأت سَجَاح اليربوعية، وتزوجها مُسَلمة الكذَّاب، ثم أسلمت بعد قتل مسيلمة. وأصحابُ الفتوح من الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ بن أبي طالب في قتل الخوارج، وكفى به فتحاً، ولقد لقي الناسُ مِمَّن نحا ما نحوه من المخاوف والقتل والنهب ما لا يُجْهَل، وكيف هو فتحٌ قد أنذره به، رضي الله عنه، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلم له أن منهم ذا الثُّدَيَّة (2) ، وقد وجده عليٌّ؛ ثم معاوية، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم أبو جعفر المنصور، ثم عبد الله المأمون، وكانت للمعتصم

_ (1) في الأصل: البحرين، والبحرة البلدة، والعرب تسمي المدن والقرى: البحار، وقد فسر البحرتين هنا بأنهما مكة والطائف. وهذا يصدقه قول الطبري 3: 221 " لما فصل أسامة كفرت الأرض وتصرمت وارتدت من كل قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشاً وثقيفاً ". (2) هو حرقوص بن زهير أحد الخوارج يوم النهروان. وقال الفراء هو ذو اليدية، ولكن الأحاديث تتابعت بالثاء. وقيل أن علياً بعد أن قضى على الخوارج تفقد قتلاهم، فاستخرج من بينهم ذا الثدية، فرآه ناقص اليد، ليس فيها عظم، طرفها حلمة مثل الثدي، عليها خمس شعرات أو سبع، رؤوسها معقفة، ثم نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة (مروج الذهب 4: 416 طبع باريس؛ وانظر الإصابة: 2442) .

فتوح غير مبتدأة. فأما أبو بكر رضي الله عنه فكانت فتوجه اليمامة، وهي من أجل الفتوح، لأنه كان بها مُسَيلمة، لعنه الله تعالى، يَدَّعي النبوَّة. ثم دَوَّخَ أبو بكر جميع بلاد العرب، فجعلها مُتملكة ينفذُ فيها حكم الإسلام والولاية والعزل دون معترض، ولم يبق بها إلا مسلمٌ طائع مُنْقاد، أو ذمّيٌّ مُصَغَّرٌ كِتَابيٌّ. ثم فتح عمر وعثمان رضوان الله عليهما جميع الشام ومصر وإرمينية وأذربيجان والريّ وما دون النهر من خُراسان. ثم فتح عليّ رضي الله عنه قَتْلَ الخوارج، وهو كما تقدم من أجلّ الفتوح، لأنهم كانوا لا يرون طاعةَ خليفة، ولا يرونها في قُرَشيّ، وكان ضررهم معلوماً. ثم فتح معاويةُ رضي الله عنه إفريقية وجميع بلاد بلاد البربر إلى بلاد السودان - أسلم كلُّ من ذكرنا؛ وحاصر القُسْطَنْطِنية. وفتح الوليد الأَنْدَلُس كلها، والسِنْدَ كلها، وما وراء النهر، وغزا ملك الصين، ثم فتح سليمان جُرْجَان، وحاصر القُسطنطينية. ثم فتح المنصور طَبَرسْتان. ثم فتح المأمون صِقِلِّية وإقريطش. ثم غلب الكفرُ على آذربيجان وطبرستان ففتحهما المعتصم. اليمامة: وَثَبَ مسيلمةُ في بني حَنيفة، فبعث إليه أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد، فقتل عدو الله، وأَسلم أهلُ اليمامة. فتح الشام: ولما أتمَّ الله تعالى على يدي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمْرَ الرِدَّة، بعث أَبا عُبيدة عامرَ بن الجراح، ومُعاذَ بن جبل، وشُرَحْبِيل بن حَسنَة - وهو شرحبيل بن عبد الله بن عمرو بن المطاع الكِندي - ويزيد بن أبي سفيان، وأمراء إلى الشام. وقد قيل مكان معاذ بن جبل: عمرو بن العاصي. فافتتح شرحبيل بن حَسَنة الأُردنَّ صلحاً، ثم نقضوا، ففتحها عمرو بن العاص ثانية؛ وقيل: بل افتتحها شرحبيل بن حسنة ثانية. وافتتح دمشق خالد وأبو عبيدة ويزيد بن ابي سفيان. وبعث أبو عبيدة إلى حمص جموعاً فصالحوهم.

وافتتح فلسطينَ كلها عمرو بن العاصي، حاشا بيتَ المَقْدِس، فإن عمر رضي الله عنه شَخَص إليها من المدينة فصالحوه. وافتتح أبو عبيدة قِنَّسْرين. وعَمَرَ بعد ذلك معاوية ثغور الشام. وكان فَتْحُ اليمامة بعد ولاية أبي بكر بسبعة أشهرٍ وستة أيام. وكان فتح بُصْرَى من أرض الشام بعد ولايته بعام وأربعة أشهر. وكان فتح دمشق بعد موت أبي بكر الصِّدِّيق، وبعد ولاية عمر، بنحو أحد عشر شهراً. وذلك في سنة أربع عشرة من الهجرة. وكان فَتْحُ حِمْص بعد دمشق بأربعة أشهر، من سنة أربع عشرة من الهجرة أيضاً. وكان فتح بيت المقدس صلحاً بعد فتح حمص بعامين، وذلك في سنة ست عشرة من الهجرة. وكان فتح الأردن وفلسطين بعد فتح دمشق. وكان فتح قِنَّسْرين وفلسطين بعد فتح دمشق. وكان فتح قِنَّسْرين بعد فتح حمص. وكانت من خلال ذلك وقائع عظيمة، منها في حياة أبي بكر: وقعة العَرَبة (1) ثم وقعة الداثنة (2) ، وليست من كبار الوقائع؛ ثم وقعة بُصْرَى، وأَجْنادين، وقُتِلَ [فيها] أَبَانُ بن سعيد بن العاصي وهشام بن العاصي أخو عمرو بن العاصي؛ وكان يوم أجنادَيْن لليلتين بقيتا من جُمَادَى الأولى ثلاث عشرة قبل موت أبي بكر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأربعة وعشرين يوماً؛ [ثم وقعة مَرْج الصُّفَّر (3) ] وفيها قُتل خالد بن سعيد بن العاصي. ثم وقعة فَحْل الأردن في خلافة عمر بعد خمسة أشهر (4) منها، وذلك في آخر ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، وفيها قُتِل عمرو بن

_ (1) في الأصل: العزية، وكانت وقعة العربة أول وقائع المسلمين في ناحية الشام، انظر فتوح البلدان (مصر) : 116. (2) في الأصل: الداية، وفي البلاذري (طبع مصر: 116) أنها الدبية أو الدابية، وفي الطبري 4: 39: الداثنة؛ ولعلها هي داثن نفسها. (3) زيادة يقتضيها السايق، فإن خالداً لم يقتل يوم أجنادين بل يوم مرج الصفر. انظر البلاذري: 124 - 125. (4) في الأصل: خمسة عشر؛ والتصويب من البلاذري: 121.

سعيد بن العاصي؛ ثم يوم اليرموك في سنة خمس عشرة بعد خلافة عمر بسنة وتسعة أشهر، وكان اندفاع المسلمين من المدينة في خلافة أبي بكر إلى الشام في أربعة وعشرين ألفاً. فتح الجزيرة: افتتح أكثرها عياض بن غَنْم الفِهْري بفي خلافة] (1) عمر [بعد وفاة] (2) أبي عُبَيدة بن الجَرَّاح رضي الله عنهما. استخلفه (3) أبو عُبَيْدَة بعد موته سنة ثمان عشرة في طاعون عَمْواس، ففتح الرُّها والرَّقَّة صلحاً ثم فتح حَرَّان ثم سُرُوج. وقدّم صَفْوان بن المُعَطَّل إلى أول أعمال إرمينية، وفتح أيضاً آمد وسائر تلك البلاد أيام عمر رضي الله عنه. فتح إرْمِيْنِيَة: وَجَّه عثمان رضي الله عنه في خلافته حبيبَ بن مَسْلَمَةَ الفِهري من الشام إلى إرمينية، ثم كتب إلى الكوفة أن ينهض سلمان بن ربيعة الباهلي مًمِدَّا لحبيب، فافتتحا إرمينية. فتح آذَرْبَيْجَان: افتتحها حُذَيْفَةُ بنُ اليمان رضي الله عنه سنة تسع عشرة [في خلافة عُمَر] (4) رضي الله عنه صلحاً. فتح مصر: افتتحها عمرو بن العاص عَنْوَةً سنة تسع عشرة في خلافة عمر رضي الله عنهما، وانتهى مُفْتَتِحاً إلى بَرْقَة وزًوَيْلَةَ فصالحهما (5) وبلغ أطرابُلسُ. فتح إفْرِيقِيَّة: أول من غزاها عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح أيام عثمان فصالحهم، ثم انصرف عنهم، فلما كانت سنة خمسين من الهجرة، بعث إليها معاوية عُقْبَةَ بن نافع الفِهْري، فاختطَّ مدينة القَيْرَوَان، وسكن المسلمون إفريقية، وافتتح أعمالها، وأسلم البربر، وكانوا نصارى، وفشا الإسلام إلى أن اتصل ببلاد السودان وبالبحر المحيط؛ وكان تمام ذلك أيام الوليد بن عبد الملك، على يدي موسى بن نُصَيْر. فتح الأَنْدَلُس: ووقع فتحها في سنة اثنتين وتسعين من الهجرة، دخلها طارق بن زياد، قيل إنه مِن الصَّدِف، وقيل هو مولى موسى بن نُصَيْر، ثم اتبعه موسى نصير، ويذكر ولَدُه أنهم من بَكْر بن وائل، وغيرُهم يقول إنه مولى.

_ (1) بياض بالأصل: والزيادة مما يقتضيه السياق، ومما يتفق والرواية التاريخية في فتح الجزيرة كما فصلها البلاذري والطبري. (2) بياض بالأصل: والزيادة مما يقتضيه السياق، ومما يتفق والرواية التاريخية في فتح الجزيرة كما فصلها البلاذري والطبري. (3) في الأصل: استخلف. (4) زيادة لازمة، وقد جرى ابن حزم على ذكر الخليفة في تحديد تاريخ الفتوح. انظر مثلاً فتح مصر فيما يلي. (5) في الأصل: فصالحها.

واستوعب فتح جميع الجزيرة منالبحر الشامي إلى ما يقابله من البحر المحيط عند المضيق؛ ثم غلب النصارى بعد ذلك على نحو نصف الجزيرة. فتح صِقِلِّية: افتتحها أسد بن الفرات القاضي الحنفي ايام ابن الأغلب، سنة اثنتي عشرة ومائتين. فتح إِقْرِيْطِش: فتحها أبو حفص عمر بن عيسى (1) بن نصير من بربر فحص البلوط من قرية ناطرة لونجة منها، تولد بها بنوه والمسلمون إلى أن غلب عليها الروم سنة خمسين وثلاثمائة؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. فتح النُّوبة والبجة: غزاهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح أيام عثمان وهم نصارى، فصالحهم على رقيق يؤدّونه، وبنى على باب مدينة مُلكهم مسجداً، وشرط عليهم حفظه أبداً، ثم أسلمت البجة كلُّهم، وبقيت النوبة والحبشة خاصةً دون سائر السودان منهم نصارى، وهم الأكثر؛ وما ارتفع عن بلادهم يعبدون الأصنام ويسمونها الدقرة، الواحد دقور. القُسْطَنْطِنيَّة: حاصرها المسلمون مرتين: مرة في أيام معاوية وعلى الجيش يزيد ابنه، وهنالك مات أبو أيوب الأنصاري صاحب رَحْلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبره هنالك محفوظ مشهور إلى اليوم، ومرة ثانية في أيام سليمان بن عبد الملك، وصاحب الجيش مَسْلَمَةُ بن عبد الملك، فأشرف على فتحها لولا موت سليمان، وإقفالُ عُمَرَ بنِ عبد العزيز إياه، وبنى عليها مسجداً، وشرط عليهم حفظه، فهو محفوظ هنالك إلى اليوم. فتح مدائن كسرى والعراق: كانت وقعة القادسية التي أذلَّ الله تعالى فيها الفُرْسَ سنة ستَّ عشرة، وقائدُ المسلمين سَعْد بن أبي وقاص أيام عمر رضي الله عنه، ثم حاصر المدائن حتى فتحها، وبنى عُتْبَةُ بن غزوان البصرةَ سنة سبع عشرة. وكانت وقعة جَلولاء سنة ثمان عشرة، وفتح في خلال ذلك السواد وأعمال العراق. فتح حُلْوَان: فتح جرير بن عبد الله البَجَليّ حُلْوَان إثْرَ وقعة جَلُولاء.

_ (1) مختلف في اسمه، فهو عند ابن خلدون 4: 211 عمر بن شعيب البلوطي ويكنى بأبي الفيض، وبلده تسمى مطروح من عمل فحص البلوط، المجاور لقرطبة، وعند ياقوت أنه شعيب بن عمر بن عيسى من أهل قرية بطروج.

فتح الجَبَل: وفتح قِرْمِسِينَ جريرُ بن عبد الله بعد حُلْوَان؛ وكانت وقعة نَهاوَنْد العظيمة التي فلَّ (1) الله جلَّ ثناؤه حَدَّ المجوس سنة عشرين. وفيها قتل أمير المسلمين النعمان بن مُقَرِّن المُزَنيّ؛ وفتحت نهاون؛ وافتتح أبو موسى الأشعري الدِّيْنَوَر وماسَبَذَان (2) ؛ وبعث صهره السائب بن الأقرع الأشعري [إلى] مِهْرِجَان قَذُقَ (3) ، ففتحها. وفتح جرير بن بن عبد الله أيضاً هَمَذان، قيل في أيام عمر، وقيل في أول ايام عثمان، وقيل فتحها في قَرَظَة بن كَعْب الأنْصَاري ومَسْلَمة بن قيس. وفتح أبو مسى قُمّ، ووجه الأحنف إلى قاشان ففتحها. فتح إصبهان والرَّيّ وقُوْمِس: ثم فتح إصبهان - في آخر خلافة عمر وأول خلافة عثمان - عبد الله بن بُدَيْل بن وَرْقاء الخُزَاعي. وفتح الرَّيّ وقُوْمِس جيشٌ بعثهم حُذَيْفَةُ بن اليَمَان، عليهم البَرَاءُ بن عازِب، وقيل سَلَمة بن عمر الضبيّ أيام عمر. ثم نقضت الريُّ، ففتحها قَرَظة بن كعب الأنصاري، بعثه أبو موسى الأشعري في أيام عثمان. فتح أَبْهَر وقَزْوين وزَنْجان: فتح البَرَاء بن عازب في ولاية حُذَيْفَةَ أيامَ عمر، أَبْهَر وَزْوين وزنْجان. فتح شَهْرَزُوْر والصَّامَغان: فتحها عُقبة بن فَرْقَد السُّلمي أيام عمر، رضي الله عنهما. فتح كُوَرِ الأهْواز: فتحها أبو موسى الأشعري أيام عمر، عَنْوَةً وصلحاً. فتح كُوَرِ فارس وكَرْمَان: ووجَّه عثمان بن أبي العاص، وهو والي عمر أخاه الحكم بن أبي العاصي، فقطع البحر إلى تَوَّج (4) من أرْدَشير خُرَّة، ففتحها وسكنها المسلمون، فغزاه شُهْرُكُ (5) ، وهُزِمَ الفرسُ، وأمر عثمان بن أبي العاص بالنهوض إلى

_ (1) في الأصل: قتل. (2) في الأصل: وسبذان. (3) في الأصل: مهرجان فذق، من غير إعجام، ولم يعرفها الناسخ فوضع أمامها علامة استفهام، وقد جاءت في ياقوت والطبري كما ضبطناها. (4) في الأصل: نوح، وصوابه من تاريخ الطبري 1: 2697 - 2700 وياقوت (توج) . (5) في الأصل: سهرك (بالسين المهملة) ، وهو أحد قواد كسرى (انظر تاريخ الطبري - نفسه -) .

فارس، فنهض نحوها، واستخلف على البحرين أخاه المغيرة بن أبي العاصي، وقيل بل أخاه حفص بن أبي العاصي. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري وهو بالبصرة في إنجاد (1) عثمان بن أبي العاصي ففعل، ففتح عثمان كور سابور، وفتحا معاً أَرَّجان وشيراز صلحاً - وشيراز كورة من كور أَرْدَشير خُرَّة (2) - وصالح عثمان بن أبي العاص نَسَا، ومدينة سابور، ثم نقض أهلُها، ففتحت سنة ست وعشرين. ثم فتح عبد الله بن عامر إصطخر في ولايته البصرة لعثمان سنة ثمان وعشرين. ثم فتح جُوْر وهي قاعدة أردشير خُرَّة (3) عنوةً سنة تسع وعشرين، ويومئذ فَني أكثر الأساورة وبيوتات فارس. وكانوا قد لجأوا إلى إصطخر؛ ووجَّه عبد الله بن عامر مُجاشع بن مسعود السُّلَمي في طلب يزدجرد بن شهريار ملك الفرس، فبلغ مجاشع كرمان، وولاه ابن عامر كرمان، وفتح السيرجان (4) قاعدة كرمان عنوة. ثم وجه أبو موسى إلى كرمان الربيع بن زياد الحارثي. ففتح قُمَّ وغيرها. ثم فتح مجاشع جيرفت عنوة. فتح سِجِسْتان وكابُل: وجَّه عبد الله بن عامر الربيع بن زياد الحارثي إلى سجستان ففتح زَرَنج، قاعدة سِجِسْتان، وكثيراً من أعمالها؛ ثم أتبعه ابن عامر بعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب (5) بن عبد شمس، وله صحبة، ففتح أكثر سجستان. حتى بلغ الدوار (6) من أعمال السند، وفتح بست وجابلستان (7) ، ثم تخبَّل (8) أمر سجستان، فبعث إليهم عبد الله بن عامر، أيام ولايته لمعاوية، عبد الرحمن بن سَمُرَةَ أيضاً، ففتحها وفتح كابل. أمر خُراسان: غزا عبد الله بن بُدَيْل بن وَرْقاء من قبل أبي موسى الأشعري في أيام عمر، فبلغ الطبسين، فخرج قوم من أهلها فأتوا عمر بن الخطاب فصالحوه. ثم غزا عبد الله بن عامر خراسان سنة ثلاثين أيام عثمان، فبعث الأحنف على جيش ففتح قُوْهِسْتان، وهزم الهياطلة (9) ، ثم صالح ابن عامر نيسابور وأعمالها. وبثَّ ابنُ

_ (1) في الأصل: اتحاد، وهو تصحيف واضح. (2) في الأصل: جرة. (3) في الأصل: جرة. (4) في الأصل: السرجان. (5) في الأصل: جندب، وصوابه من تاريخ الطبري. (6) في الأصل: الدوار، وصوابه من ياقوت، والدوار: ولاية واسعة وإقليم خصيب وهو ثغر الغور من ناحية سجستان. (7) لم نجد جابلستان فيما بين أيدينا من مراجع، وفي الطبري وياقوت: زابلستان (بضم الباء وكسر اللام) . فلعله مما تتعاقبه الزاي والجيم، كقولهم: توج وتوز، ومنه: التوزي والتوجي. (8) في الأصل: تخيل؛ والخبل: الفساد. (9) في الأصل: الهياطة، وهو خطأ واضح.

عامر البعوث ففتح أبيورد وسرخس وطوس وهراة وبوشنج وباذغيس وطخارستان وبلخ ومرو الشاهجان، ومرو الروذ، والجوزجان (1) والطالقان والفارياب وخوارزم وجميع ما دون النهر. ثم جاز سعيد بن عثمان أيام معاوية النهر - نهر جيجون - فدخل بُخارى وصالح سمرقند وترمذ. ثم استوعب قتيبة بن مسلم - أيام الوليد بن عبد الملك - (2) ففتح ما وراء النهر. السند: كان عمر رضي الله عنه ولَّى عثمان بن أبي العاصي الثقفي البحرين وعُمان ولم يعزله عن الطائف، وقال له: لا أعزلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك. فاستخلف عثمان على الطائف خالاً له من ثقيف، ثم بعث من البحرين أخاه الحكم ابن أبي العاصي، كما ذكرنا آنفاً، إلى فارس. ثم نهض عثمان بنفسه إلى عُمان، وبعث جيشاً إلى تاته (3) من أعمال السند، ثم لم تزل السند تغزى إلى زمان زياد بن أبيه الذي ألحقه معاوية بأبيه، فقيل بعد: زياد بن أبي سفيان، فإنه وجه إليها سنان بن سَلَمة بن المحبق الهذلي. ففتح مكران عنوة وسكنها. ثم لم تزل تغزى إلى أن ولاها الحجاج بن يوسف محمد بن القاسم الثقفي، فافتتح باقي السند. ثم غلب الكفر على ممالك، منها سَنْدان، وبَقي بأيدي المسلمين المنصورة وأعمالها، والمولتان (4) وأعمالها، وهي بلاد واسعة جداً. أمر الدَّيْلَم: دخل إليها الحسن بن علي بن عمر (5) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم، وهو المعروف بالأطروش، في حدود سنة ثلاثمائة،

_ (1) في الأصل: الخورجان. (2) في الأصل: ثم فتح، و " ثم " زائدة، و " فتح " مفعول به للفعل " استوعب ". (3) في الأصل غير منقوطة، وانظر فتوح البلدان: 438. (4) بسكون الواو واللام قال ياقوت: " يلتقي فيه ساكنان ... وأكثر ما يسمع فيه ملتان بغير واو، وأكثر ما يكتب كما ههنا ". (5) في الأصل: عمرو، والتصويب من جمهرة أنساب العرب: 48، ونسب قريش: 61، وذكر ابن حزم في الجمهرة أن الملقب بالأطروش هو " الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر ... " فاختصر هنا النسب فنسبه إلى جده الأعلى.

فاسلموا كلهم على يديه، فهم كلهم شِيعة مسلمون (1) . قال أبو محمد رحمه الله تعالى: وقد كان أسلم بعضهم على يَدَيْ صاحب طَبرسْتان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن. أمر التَّتَر والطَيْلَسان وجبل القَبْق والتُّرْك: أسلم التتر والطيلسان والجبل كلهم، وفشا الإسلام في جبل القَبْق والترك قديماً وحديثاً، والحمد لله رب العالمين. ثم افتتح السلطان العادل محمود بن سبكتكين فتوحات متصلات إلى أن مات رحمه الله تعالى، بلاداً عظيمة في الهند، هي الآن مسكونةٌ بالمسلمين، معمورة بطلاب الحديث والقرآن، والغالب عليها، والحمد لله رب العالمين، مذهب الظاهر (2) . بلاد السودان: بُلِّغْتُ في عام إحدى وثلاثين وأربعمائة أنه أسلم أهل سلا (3) وتَكْرُور، وهما أمتان عظيمتان من بلاد السودان، أسلم ملوكهم وعامتهم، ولله تعالى الحمد كثيراً. تمت الرسالة

_ (1) في هامش النسخة: هكذا قال المصنف رحمه الله تعالى، وقد خفي عليه، وأكثرهم سنية. (2) في هامش النسخة: بل مذهب الحنفي. (3) في الأصل: " سل "، وسلا: هي التي قال عنها ياقوت إنها " مدينة بأقصى المغرب ليس بعدها معمور ... ثم يأخذ البحر ذات الشمال وذات الجنوب وهو البحر المحيط فيما يزعمون وعلى ساحل جنوبه وما سامته بلاد السودان ".

فراغ

فراغ

4 - رسالة أسماء الخلفاء والولاة وذكر مددهم

4 - رسالة أسماء الخلفاء والولاة وذكر مددهم

أسماء الخلفاء المهديين، والأئمة أمراء المؤمنين وأسماء الولاة - من

- 4 - أسماء الخلفاء والولاة وذكر مددهم أسماء الخلفاء المهديين، والأئمة أُمراء المؤمنين وأسماء الولاة - من قريش ومن بني هاشم - أمور المسلمين وذكر مُددهم إلى زماننا وبالله التوفيق خلافة أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه استُخلف أبو بكر رضوان الله عليه وبركاته، يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسُمِّي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مُدَّتُه في الخلافة عامين وثلاثة أشهر وثمانية أيام. وتوفي في ثمان خلون (1) من جُمادَى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة. وأمه: سلمى، تكنى بأم الخير، بنت صخر (2) بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرَّة، مُسْلِمَة، رحمها الله تعالى. وفي أيامه كانت وقعة اليمامة، ووقعة بُصْرَى، ووقعة أجنادَيْن، ووقعة مرج الصُّفَّر. خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكنى أبا حفص، ولي الخلافة في رجب (3) سنة ثلاث عشرة حين موت أبي بكر. وقتل في آخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، قتله أبو لؤلؤة، واسمه فيروز، عبد المغيرة بن شعبة، مجوسي، طعنه حين كبَّر للصلاة، صلاة الصبح؛ فكانت

_ (1) في تلقيح الفهوم: لثمان بقين؛ الروحي: لتسع ليال بقين. (2) في الأصل: ... صخر بن عمرو بن عامر؛ وعمرو مقحمة هنا، انظر جمهرة أنساب العرب: 135، ونسب قريش: 275. (3) كذا قال، وقد ذكر قبل سطور أن أبا بكر توفي في ثمان خلون من جمادى الآخرة؛ وقد بويع عمر يوم وفاة أبي بكر.

خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه

ولايته عشر سنين وستة أشهر ونصف شهر، قُتِل غِيلة، وله ثلاث وستون سنة، وهو أول من سُمِّي أمير المؤمنين. أُمُّه: حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وفي أيامه كانت وقعة فَحْل واليرموك مع الروم، والقادسية وجلولاء ونهاوند على الفرس، وبُنِيَت الكوفة والبصرة وفسطاط مصر. خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يكنى أبا عمرو، وقيل أبا عبد الله، وولي الخلافة في ذي الحجة، بعد قتل عمر، رضي الله عنه، بثلاث ليال، وقيل: بل أول يوم من المحرم سنة أربع وعشرين، وقُتِل في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وكانت ولايته اثني عشر عاماً كاملةً غير عشرة أيام (1) . وقتله أول خَرْمٍ دخل في الإسلام، فإن المسلمين استضيموا في قتله غيلةً. واشترك في قتله جماعة، منهم: كِنانة بن بشر التجيبي، وقُتَيْرَةُ السّكُوني (2) ، وعبد الرحمن بن عديس البَلَوي، وكلهم من أهل مصر. واختلف في سنه ما بين ثلاث (3) وستين إلى تسعين سنة. وأمُّه: أروى بنت كُرَيْر بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف. وفي أيامه كانت وقعةُ إفرِيقية (4) . خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه يكنى أبا الحسن، ولي الخلافة يوم قُتِلَ عثمان رضي الله عنهما بالمدينة، فرحل عن المدينة إلى الكوفة فاستقر بها، وكانت الخلافة قبل ذلك بالمدينة. وتأخر عن بيعته قومٌ من الصحابة بغير عذر شرعي (5) ، إذ لا شك في إمامته. وقُتِل رضي الله عنه بالكوفة

_ (1) في تلقيح الفهوم: قال أبو معشر: اثنتي عشرة إلا ثنتي عشرة ليلة. (2) في الأصل: قنيرة الشكوى. (3) في الأصل: ثلاثة. (4) الروحي: وفتح في أيامه أفريقية وقبرص وكرمان وسجستان ونيسابور وفارس وطبرستان وهراة وأعمال خراسان ... وغزا معاوية القسطنطينية. (5) في هامش النسخة: عذرهم أمر الفتنة واختلاف الناس وعدم استقرار الأمر لعلي وعدم الوصية أو الشورى، والله أعلم، قال أبو عبد الله رحمه الله تعالى بدهلي سنة 1355.

خلافة ابنه أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب

غِيْلة، قتله عبد الرحمن بن مُلْجِم المراديّ حين دخل المسجد، وذلك في رمضان لثلاث بقين منه لسنة أربعين من الهجرة، وله ثلاث وستون سنة. أُمه: فاطمة بنت أَسَد بن هاشم بن عبد مناف، مهاجرة رضوان الله عليها. وفي أيامه كانت وقعةُ الجمل وصِفِّين، وعلم الناس منه فيها كيف قتال أهلِ البَغْي، وحديثُهما قد اعتنى به ثقاتُ أهلِ التاريخ، كأبي جعفر بن جرير وغيره. وقَتَل أهل النَهْرَوان من الخوارج، ونِعْمَ الفتحُ كان، أَنَذَرَ به صلى الله عليه وسلم. وكانت خلافته رضي الله عنه أربعَ سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، واستُضِيم المسلمون في قتله غِيلَةً، رضي الله عنه. خلافة ابنه أمير المؤمنين الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهما يُكنَى أبا محمد، وليَ الخلافة يوم مات أبوه عليٌّ، وكانت مدة خلافته ستة أشهر (1) . كَرِهَ سفك الدماء، فتخلَّى عن حقِّه لمعاوية بن أبي سُفْيان، وانخلع (2) ، وبايع معاوية، وعاش رضي الله عنه متخلياً عن الدنيا إلى أن مات، سنة ثمان وأربعين. وأُمُّه: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولاية معاوية بن أبي سفيان ثم وليَ الخلافةَ - إذ تركها الحسنُ بن عليّ بن أبي طالب - معاوية بن أبي سفيان صَخْرِ بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، يُكْنَى أبا عبد الرحمن. بُويع لثلاثة أشهر خلت من سنة إحدى وأربعين، وكانت مدته عشرين سنة غير سبعة أشهر، ومات في نصف رجب سنة ستين، وسنُّه ثمان (3) وسبعون (4) سنة. وأمه: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، مسلمة. رحمها الله تعالى. وفي أيامه حوصرت القسطنطينية؛ وقُتِل حُجْر بن عَدِيّ وأصحابه صبراً بظاهر

_ (1) في تلقيح الفهوم: سبعة أشهر وأحد عشر يوماً، ويقال: أربعة أشهر؛ الروحي: ستة أشهر وخمسة أيام. (2) في الأصل: تخلع؛ وقد استعمل ابن حزم " انخلع " في حديثه عن معاوية بن يزيد بعد قليل. (3) كلمة " ثمان " بياض في الأصل، وقد أثبتناها من ابن سعد 2/7: 128. (4) في الأصل: وسبعين.

ولاية يزيد ابنه

دمشق أيضاً (1) - من الوهن للإسلام أن يُقْتَل مَنْ رَأَى النبي صلى الله عليه وسلم من غير رِدّة ولا زِنىً بعد إحصان - ولعائشة في قتلهم كلام محفوظ (2) . وفي أيامه بُنِيَتْ القيروان بإفريقية. ولاية يزيد ابنه وبويع يزيد بن معاوية، إذ مات أبوه؛ يكنى أبا خالد. وامتنع عن بَيْعَتِه الحُسَيْن ابن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزُّبَيْر بن العَوَّام. فأما الحسين عليه السلام والرحمة فنهض إلى الكوفة فقُتِل قبل دخولها. وهو ثالثة مصائب الإسلام بعد أمير المؤمنين عثمان، أو رابعها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وخرومِه، لأن المسلمين استضيموا في قتله ظلماً علانيةً. وأما عبد الله بن الزبير فاستجار بمكة، فبقي هنالك إلى أن أغزى يزيدُ الجيوش إلى المدينة، حرمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى مكة، حرم الله تعالى، فَقَتَل بقايا المهاجرين والأنصار يوم الحَرَّة. وهي أيضاً أكبر مصائب الإسلام وخُرومه، لأن أفاضل المسلمين وبقية الصحابة وخيار المسلمين من جِلَّة التابعين قُتِلوا جَهْراً ظُلماً في الحرب وصبراً. وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراثت وبالت في الروضة بين القَبْر والمِنْبَر، ولم تُصَلَّ جماعةٌ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كان فيه أحد، حاشا سعيد بن المُسَيِّب فإنه لم يفارق المسجد؛ ولولا شهادة عمرو بن عثمان بن عفان، ومروان بن الحكم عند مُجْرِم بن عُقْبة المُرِّي بأنه مجنون لقتله. وأكره الناسَ على أن يبايعوا يزيد بن معاوية على أنهم عبيد له، إن شاء باع، وإن شاء أعتق؛ وذكر له بعضهم البَيْعَةَ على حكم القرآن وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتله فضرب عنقه صبراً. وهتك مُسْرِفٌ أو مُجْرِمٌ الإسلام هتكاً، وأنهب المدينة ثلاثاً، واستُخِفَّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومُدَّتِ الأيدي إليهم وانتُهِبَتْ دورُهم؛ وانتقل هؤلاء إلى مكة شرَّفها الله تعالى، فحوصرت، ورُميَ البيتُ بحجارة المنجنيق، تولَّى ذلك الحُصَيْنُ بن نُمَيْر السّكُونيّ في جيوش أهل الشام، وذلك لأن مجرم بن عقبة المُرِّيّ، مات بعد وقعة الحَرَّة بثلاث ليال، ووَليَ مكانه الحُصَيْنُ بن نمير. وأخذ الله تعالى يزيد أخذ عزيز مقتدر، فمات بعد الحرّة بأقل من ثلاثة أشهر وأزيد من شهرين. وانصرفت الجيوش

_ (1) زعموا أن ذلك لأنه كان من أصحاب علي وشيعته، وقد شهد الجمل وصفين. (2) هو قولها - حين عاتبت معاوية في قتل حجر وأصحابه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقتل بعدي أناس يغضب الله لهم وأهل السماء. وانظر أنساب الأشراف 1/4: 264 - 265.

ولاية معاوية بن يزيد

عن مكة. ومات يزيد في نصف ربيع الأول سنة أربع وستين، وله نَيِّف وثلاثون سنة (1) . أُمُّه: ميسون بنت بَحْدَل الكلبيَّة، وكانت مدته ثلاث سنين وثمانية أشهر وأياماً فقط. ولاية معاوية بن يزيد ثم بويع أبو ليلى معاوية بن يزيد بن معاوية، فبقي نحو أربعين يوماً، ثم رأى صعوبة الأمر، وكان رجلاً صالحاً، فتبرأ عن الأمر، وانخلع، ولزم بيته، ومات رحمه الله، إلى أيام (2) ، نحو أربعين يوماً، وسنه عشرون سنة. أمه: أم خالد بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. ولاية عبد الله بن الزُّبَيْر بمكَّة بويع له بمكة سنة أربع وستين، بعد ثلاثة أشهر منها، وأجمع عليه المسلمون كلُّهم من إفريقيَّة إلى خراسان، حاشا شرذمة ابن الأعرابية (3) بالأُرْدُنّ، فوجَّه إليهم رسولَه مروان بن الحكم ليأخذ بيعتهم بعد أن بايعه مروان بن الحكم. فلما ورد عليهم خلع الطاعة، وهو أول (4) من شق عصا المسلمين بلا تأويل ولا شُبهة، وبايعه أهل الأُردُن، وخرج على ابن الزبير، وقتل النُّعمان بن بشير، أول مولود في الإسلام من الأنصار، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحمص. وخرج المختار بن أبي عُبيد بن مسعود الثقفي، فقتل بالكوفة، وادَّعى النبوة في جهالات توجب أنه كان يعلم نفسه أنه ليس كما يظهر، وحاله مضبوطة عند علماء التاريخ. ومن جيد ما وقع منه أنَّه تتبع من (5) الذين شاركوا في أمر ابن الزهراء الحسين، فقتل منهم ما أقدره الله عليه، وفعل أفعالاً يُعفِّي فيها على هذه الحسنة. وقَتَلَ بالكوفة ممنْ توهَّم منه ما يوجب مُباينةَ ما هو عليه، فهذا كان الغالب عليه.

_ (1) في تاريخ خليفة: 255 وهو ابن ثمان وثلاثين سنة؛ وفي تاريخ محمد بن يزيد: 28 ثلاث وثلاثون سنة. (2) من عبارات ابن حزم الغريبة، ولعله يقصد: ومات بعد انقضاء أيام من لزومه بيته، نحو أربعين يوماً. (3) هو حسان بن مالك بن بحدل الكلبي؛ وقد وصفه ثور بن معن السلمي " بالعرابي " (الطبري 2: 472) . (4) نقل ابن الوزير اليماني هذا النصّ عن ابن حزم في كتابه " الروض الباسم " 1: 138 وذكر أنه ينقله عن " أسماء الخلفاء ". (5) لعله يقصد: تتبع بعض الذين شاركوا ...

ولاية عبد الملك بن مروان بن الحكم

وتغلب مروان على مصر والشام، ثم مات بعد عشرة أشهر، فقام مقامه في الخُلْعان (1) لعبد الله بن الزبير، ابنه عبدُ الملك، وبقيت فتنتُه إلى أن قَوِيَ أمرُه، ووجَّه عاملَه الحجاج بن يوسف إلى مكة فحاصرها، ورمي البيت بحجارة المنجنيق، وقتل ابنَ الزبير في المسجد الحرام بمكة سنة ثلاث وسبعين في جُمادى الآخرة مُقبلاً غير مُدْبِر، مُدافَعَةً عن نفسه، مقاتلاً، فلذلك لم يُعْرَف من قتله، وله ثلاث وسبعون سنة، وهو أول مولود ولد في الإسلام. [وقَتْلُه أحد مصائب الإسلام] (2) وخرومِه، لأنَّ المسلمين استضيموا بقتله ظُلْماً عَلانيةً، وصَلْبَه، واستحلال الحرَم. وكانت ولايته تسعة أعوام وشهرين ونصف شهر. أُمُّه: أسماء بنت أبي بكر الصِّدِّيق رضوان الله عليهم. ولاية عبد الملك بن مروان بن الحكم هو أبو الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن [أبي] (3) العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، يكنى بأبي الوليد (4) . وَلي إذْ قُتِلَ ابنُ الزبير، وبقي إلى أن مات، يوم الخميس النصف من شوال سنة ست وثمانين بدمشق. وكانت ولايته ثلاثة عشر عاماً وشهرين ونصفاً. أُمُّه: عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس، قتله (5) النبي صلى الله عليه وسلم صَبْراً. سِنُّهُ إذْ مات اثنتان وخمسون سنة (6) . ولاية الوليد بن عبد الملك يكنى بأبي العباس؛ ولي إ مات أبوه، وبقي والياً إلى أن مات يوم السبت في

_ (1) لعله مصدر كالخلع، ولم نجده في المعاجم؛ وورد في نص أندلسي آخر هو قول أبي حفص الأصغر بن برد: " ولكنا علمنا أن كهولكم الخلوف عنكم، وذوي الأسنان العاصين لكم، ممن يهاب وسم الخلعان، ويخاف السلطان ". وهذا النص يدل على استعمال الخلعان في الأندلس عند غير ابن حزم. (2) بياض في الأصل، وهي زيادة يقتضيها سياق الكلام، وتتفق مع مألوف كلام ابن حزم، انظر قوله عن قتلى الحرة في ولاية يزيد بن معاوية: " وهي أيضاً أكبر مصائب الإسلام وخرومه "؛ وقوله قبل ذلك عن مقتل عمر بن الخطاب: " وقتله أول خرم دخل في الإسلام ". (3) زيادة من جمهرة أنساب العرب: 79، ونسب قريش: 159. (4) هذا تكرار، إذ أنه ذكر ذلك في أول الترجمة. (5) أي: معاوية بن المغيرة والد عائشة؛ انظر جوامع السيرة، ص: 175. (6) تاريخ خليفة: وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ تاريخ محمد بن يزيد: وتوفي وله سبع وخمسون سنة.

ولاية سليمان بن عبد الملك

النصف من جُمادَى الأولى سنة خمس وتسعين، وكانت مدة ولايته تسع سنين وسبعة أشهر، ومات وله ستٌ وأربعون سنة (1) . أُمه: ولادة بنت العباس بن جزء (2) بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسي. وفي أيامه فتحت الأندلس، وما وراء النهر بخراسان والسند. ولاية سُليمان بن عبد الملك كُنيته أبو أيوب، وسكناه بالرملة من فلسطين، وكانت سكنى أبيه وأخيه بدمشق. بويع إذ مات أخوه الوليد، وبقي والياً إلى أن مات يوم الجمعة لعشرٍ خلون من صفر سنة تسع وتسعين. فكانت ولايته عامين وتسعة أشهر وخمسة أيام. ومدة عمره، قيل: سبع وثلاثون سنة (3) ، وهو شقيق الوليد أخيه؛ وفي أيامه حُوصرت القسطنطينية، وحاصرها أخوه مَسلمة، وسنُّ مسلمة أربع وعشرون سنة. خلافة عمر بن عبد العزيز يكنى أبا حفص. وهو عمر بن عبد العزيز، ولي رحمه الله يوم مات سليمان، باستخلاف سليمان، وسكناه بخناصرة من عمل حِمص. فأقام والياً إلى أن مات، رحمه الله، يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة. وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام (4) ، ومات وله تسع وثلاثون سنة، وقيل أربعون سنة كاملة، رضوان الله عليه، وهذا أصح لأن مولده ومولد الأعمش وهشام بن عروة كلهم ولدوا سنة إحدى وستين من الهجرة. وفضله أشهر من أن نتكلف ذكره هنا (5) ، لأن هذا الكتاب بني على ما لا بد من ذكره من الضروري. أُمُّه: أُمُّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. ولاية يزيد بن عبد الملك بن مروان بُويع إذ مات عُمَرُ بن عبد العزيز، باستخلاف سليمان له بعد عُمَر؛ يُكنى

_ (1) زاد في الطبري: وأشهر؛ وفي تاريخ محمد بن يزيد: تسع وأربعون سنة. (2) في الأصل: جرير، وصوابه من الجمهرة: 239، ونسب قريش: 162. (3) عند محمد بن يزيد: وتوفي وله خمس وأربعون سنة. (4) الروحي: وأربعة عشر يوماً؛ محمد بن يزيد: وخمسة وعشرين يوماً. (5) في الأصل: " وفضله أشهر، أمن تتكلف ذكر هنا ". ولا معنى له. وقد صوبناه بما يتفق وسياق الكلام.

ولاية هشام بن عبد الملك

أبا خالد. فبقي والياً إلى أن مات ليلة الجمعة لأربع بقين لشعبان سنة خمس ومائة (1) . وكان سكناه بالبخراء (2) من عمل حمص، فكانت ولايته أربعة أعوام وشهراً واحداً. مات وله نحو أربعين سنة. وأُمُّه: عاتكة بنت يزيد بن معاوية. ولاية هشام بن عبد الملك بويع إذ مات أخوه يزيد باستخلاف يزيد له، وكانت سكناه بالرصافة، على (3) يوم من الرقة؛ يكنى أبا الوليد. فبقي والياً إلى أن مات لعشر خلون لربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، فكانت ولايته تسع عشرة (4) سنة وسبعة أشهر غير أيام، ومات وله اثتان (5) وخمسون سنة. اُمُّه: أُم هاشم (6) بنت [هشام بن] (7) إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. ولاية الوليد بن يزيد بن عبد الملك بويع إذ مات عمه هشام، باستخلاف يزيد له بعد عمه هشام. فلم يزل والياً إلى أن قُتل يوم الخميس لثلاث ليال بقين من جُمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة. وكان يُكنى أبا العباس، وسكناه في بعض أعمال حِمص. وكان فاسقاً خليعاً ماجناً، وكانت ولايته سنة واحدة وشهرين، وقتل وله اثنتان وأربعون سنة (8) . أُمه: بنت محمد بن يوسف، أخي الحجاج بن سوسف الثقفي. خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان أقام رحمه الله تعالى منكراً للمنكر، فقتل ابن عمه الوليد بن يزيد، بما صحَّ من

_ (1) في تاريخ محمد بن يزيد: 23 أن يزيد توفي بإربد. (2) في الأصل: بالبحرا. (3) في الأصل: كل يوم، ولا معنى له. (4) في الأصل: تسعة عشر. (5) في الأصل: اثنان، وفي تاريخ محمد بن يزيد: 43 وله إحدى وستون سنة. (6) كذلك وردت أيضاً في الجمهرة: 139، وفي نسب قريش: 328: أم هشام؛ وفي تاريخ محمد بن يزيد: عائشة. (7) زيادة من الجمهرة: 139 ونسب قريش: 328. (8) تاريخ محمد بن يزيد: خمس وأربعون سنة.

ولاية إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم

فسقه وكفره. وبويع يزيد فأقام والياً إلى أن مات في ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة؛ وكانت مدته ستة أشهر، ومات وله نحو خمس وثلاثين سنة، وكان فاضلاً؛ يكنى ابا خالد، وسكناه بدمشق. أُمُّه: شاهْفَرِيد (1) بنت خسروفَيْرُوز ملك الفرس بن يزدَجِرْد بن شهريار بن كسرى أبرويز. ولاية إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بويع إذ مات أخوه. فأقام ثلاثة أشهر مضطرب الحال، مُخالف الأمر، إلى أن انخلع لمروان بن محمد بن مروان بن الحكم. وبقي حياً إلى أن مات. قيل غرق يوم الزاب، وقيل مات قبل ذلك. يكنى أبا إسحاق أُمُّه أم وَلد لا أعرف اسمها (2) . ولاية مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر الأمويين من الأعياص بويع مروان بن محمد بن مروان بالجزيرة في صفر سنة سبع وعشرين ومائة. فلم يستقر له حال؛ ولا ثبت في مكان واحد، واضطربت لديه الأمور بكثرة خروج بني عمه عليه وغيرهم. ويكنى أبا عبد الملك. فلم يبقى إلى أن قتل ببوصير من أرض مصر، وهو يقاتل إلى أن سقط ميتاً،، فلم يسمع نفسه، يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وتولى قتله عامر بن إسماعيل المُسليّ (3) من أهل خراسان. فكانت ولايته خمس سنين وشهراً، وله ست وتسعون سنة. واختلف في أمه: فقيل أمّ ولد، وقيل من بني جَعْدَة من بني عامر بن صعصعة. وانقطعت (4) دولة بني أمية، وكانت دولة عربية، لم يتخذوا قاعدة (5) ، إنما

_ (1) في الأصل: هفريد، والصواب من الجمهرة: 81، وفي الطبري (2: 1874) : شاه آفريد. (2) عند الروحي أن اسمها " نعمة " وقيل خسفا " خشفاء ". (3) في الأصل: المسل، وصوابه من تاريخ الطبري (انظر الفهرست) . ولعله منسوب إلى محلة بالكوفة سميت باسم القبيلة (انظر معجم البلدان: مسلية) . (4) نقل ابن عذاري هذا النص في البيان المغرب 2: 39 - 40. (5) البيان: دولة بني مروان بالمشرق بمروان بن محمد الجعدي، وكانت على علاتها دولة عربية لم يتخذ ملوكها قاعدة.

كان سُكنى كل امرئ (1) منهم في داره وضيعته التي كانت له قبل الخلافة، ولا أكثروا احتجان الأموال، ولا بناء القصور، ولا استعملوا مع المسلمين أن يخاطبوهم بالتمويل ولا التسويد (2) ، ويكاتبوهم بالعبودية والملك، ولا تقبيل الأرض ولا رجل ولايد، وإنما كان غرضهم الطاعة الصحيحة من التولية (3) والعزل في أقاصي البلاد (4) ، فكانوا يعزلون العمال، ويولون الأخر، في الأندلس، وفي السند، وفي خراسان، وفي إرمينية، وفي اليمن (5) ، فما بين هذه البلاد (6) . [وبعثوا إليها الجيوش، وولوا عليها من ارتضوا من العمال وملكوا أكثر الدنيا، فلم يملك أحد من ملوك الدنيا ما ملكوه من الأرض، إلى أن تغلب عليهم بنو العباس بالمشرق، وانقطع به ملكهم، فسار منهم عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس، وملكها هو وبنوه، وقامت بها دولة بني أمية نحو الثلاثمائة سنة، فلم يك في دول الإسلام أنبل منها، ولا أكثر نصراً على أهل الشرك، ولا أجمع لخلال الخير، وبهدمها انهدمت الأندلس إلى الآن، وذهب بهاء الدنيا بذهابها] . وانتقل (7) الأمر [بالمشرق] إلى بني العباس بن عبد المطلب رضوان الله عليه، وكانت دولتهم أعجمية، سقطت فيها دواوين العرب، وغلب عجم خراسان على الأمر، وعاد الأمر مُلكاً عضوضاً محققاً (8) كسروياً، إلا أنهم لم يعلنوا بسب أحد من الصحابة، رضوان الله عليهم، بخلاف ما كان بنو أمية يستعملون من لعن عليّ (9) ابن أبي طالب رضوان الله عليه (10) ، ولعن بنيه الطاهرين من بني الزهراء؛ وكلهم كان على هذا حاشا عُمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد رحمهما الله تعالى فإنهما لم يستجيزا

_ (1) البيان: أمير. (2) يبدو أنه يقصج " بالتمويل " قولهم: " يا مولاي "، كما يقصد " بالتسويد " قولهم " يا سيدي "؛ وفي البيان: ولا طلبوا مخاطبة الناس لهم بالتمويل والعبودية والملك. (3) البيان: والتولية. (4) البيان: بلاد الدنيا. (5) البيان: في السند والهند وفي خراسان وفي إرمينية وفي العراق وفي اليمن وفي المغرب الأدنى والأقصى وبلاد السوس ويلاد الأندلس. (6) فما بين هذه البلاد: سقطت من البيان المغرب. (7) يستمر ابن عذاري بنقل هذا النص (2: 40) . (8) محققاً: لم ترد في البيان. (9) البيان: بخلاف ما كان عليه بنو أمية من استعمال ذلك في جانب علي. (10) زاد في البيان: وكفاهم ذلك قبحاً وباطلاً.

ولاية أبي العباس السفاح

ذلك. وافترقت في ولاية بني العباس (1) كلمة المسلمين، فخرج عنهم من منقطع الزابين دون إفريقية إلى البحر المحيط وبلاد السودان، فتغلب في هذه البلاد طوائف من الخوارج وجماعية وشيعة ومعتزلة من ولد إدريس وسليمان ابني (2) عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ظهروا (3) في نواحي بلاد البربر، ومنهم من ولد معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، تغلبوا على الأندلس، وكثير من غيرهم. وأيضاً في خلال هذه الأمور تغلب الكَفَرة على نصف الأندلس وعلى نحو نصف السِّند [فأما ما لم يملكه العباسيون فهو ما وراء الزاب من بلاد المغرب وتلمسان وأنظارها، فوليها محمد بن سليمان الحسني، وفاس وأنظارها كان فيها شيعة ثم آل مُلكها إلى إدريس، وأما تامسنا ففيها أولاد صالح بن طريف على ضلالتهم، وأما سجلماسة فنزلها رئيس الصفرية. هذه هي البلاد المتفق عليها، وأما المختلف فيها فإفريقية قيل أنه كان فيها عبد الرحمن بن حبيب ثائراً، وفي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهري] . ولاية أبي العباس السفاح (4) فكانت ولاية أبي العباس السفاح، وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس في الكوفة في ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وسكن الأنبار والياً إلى أن مات في ذي الحجة سنة ست وثلاثين، ومات وله ثلاثون سنة، فكانت ولايته أربع سنين وثمانية أشهر. وأمه: ريطة بنت عُبيد [الله] (5) بن عبد الله بن عبد المدان الحارثية، من بني الحارث بن كعب، كانت قبله (6) تحت الحجاج بن عبد الملك بن مروان، فولدت له عبد العزيز بن الحجاج، وكان أخا أبي العباس لأمه، ثم خلف عليها بعدُ أخوه

_ (1) في الأصل: أبي العباس؛ وذلك غير دقيق لأن ما سيذكره لم يحدث في زمن أبي العباس السفاح وإنما حدث في زمن أبي جعفر المنصور ومن بعده؛ وما أثبته هو ما ورد في البيان المغرب. (2) في الأصل: بني. (3) 3 في النص بعض اختلاف في البيان عما ورد هنا؛ وما يليه بين معقفين زيادة من البيان المغرب، وأسلوبه يشبه أسلوب ابن حزم، والنقل متصل فلذلك استجزت إضافته في موضعه. (4) هذا العنوان كان في صدر الفقرة السابقة، وموضعه الصحيح هنا. (5) زيادة من الجمهرة: 18، والطبري 9: 154. (6) أي قبل محمد بن علي والد أبي العباس السفاح.

ولاية المنصور أبي جعفر

عبد الله بن عبد الملك بن مروان، فولدت له ابنةً أدركت ولاية أبي العباس وكان يكرمها. وفي ولاية أبي العباس استعرض (1) ابن أخيه إبراهيم (2) أَهل الموصل في الجامع إلى أن كسروا المقصورة، وأخذوا العيدان، وصدموا الجند، فأخرجوهم (3) ، فنجوا؛ وكان منهم ابن زريق جد صدقة الأزدي. ولاية المنصور أبي جعفر وولي بعد السفاح أخوه: المنصور، وهو أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس؛ بويع إذ مات أخوه، وهو بَنى بغداد، وجعلها قاعدة ملكهم، وبقي والياً إلى أن مات في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، فكانت ولايته اثنتين وعشرين سنة، مات متوجهاً إلى الحج، ودُفن ببئر بقرب مكة، وله ثلاث وستون سنة. أُمُّه: أم ولد نفزية (4) ، وقيل صنهاجية. ولاية المَهْدِيّ المهدي لقبه، واسمه محمد. وولي بعد المنصور ابنه: أبو عبد الله محمد بن عبد الله، فلم يزل والياً إلى أن مات سنة تسع وستين ومائة، فكانت ولايته عشر سنين وأشهراً (5) ، إذ مات وله ثلاث وأربعون سنة بعيساباذ (6) . أُمُّه: أُمُّ موسى بنت منصور الحميري، كانت من أهل قيروان إفريقية، فتزوجها هنالك فتى من ولد عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، كان خليعاً متخلعاً، فولدت له ابنة. وكان لها زوج قبله خياط ولدت منه ولداً (7) ، وبلغ ذلك قومها، فنهض

_ (1) استعرض الناس: قتلهم ولم يسأل عن حال أحد ولم يبال من قتل منهم. (2) هو إبراهيم بن يحيى بن محمد؛ ويحيى أخو أبي العباس السفاح، ولم يعقب إلا إبراهيم هذا. (3) في الجمهرة: 18 " فأخرجوا لهم " بدل " أخرجوهم "، والخبر في الجمهرة أوضح قال: " ... إبراهيم بن يحيى، هو الذي قتل أهل الموصل، واستعرضهم بالسيف يوم الجمعة؛ فلم ينج منهم إلا نحو أربعمائة رجل، صدموا الجند، فأخرجوا لهم، ثم أمر بأن لا يبقى بالموصل ديك إلا يذبح، ولا كلب إلا يعقر ". (4) في الأصل: بقرية، والتصويب من الجمهرة: 18، وسماها ابن حزم هناك: " سلامة " وكذلك هو في تاريخ محمد بن يزيد: 37. (5) لعلها: " وشهراً " انظر مروج الذهب 4: 165. (6) بهامش الأصل الذي نقلت عنه نسختنا: " ولعله بموساباذ " وفي الطبري 10: 12 أن المهدي توفي بقرية من قرى ماسبذان يقال لها: الرذ، وسماها المسعودي في المروج 4: 165: " ردين ". (7) ذكر ابن حزم هذا الخبر في الجمهرة: 21 وانظر ما تقدم في رسالة نقط العروس، الفقرة: 20.

ولاية الهادي

أبو جعفر المنصور بنفسه، وذلك في خلافة هشام بن عبد الملك، فدخل القيروان ووجد الخياط قد مات أو طلقها، فتزوجها أبو جعفر وأتى بها، فلما صارت الخلافة إليه سَمَّوُا ابن ذلك الخيّاطِ: طيفور، وقالوا: هو مولى المهديّ، وإنما كان أخاه لأمه، وهو جدُّ عُبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر مؤلف " أخبار بغداد " (1) . ولاية الهادي وولي بعد المهدي ابنه: أبو محمد موسى بن محمد، فلم يزل والياً إلى أن مات بموساباذ سنة سبعين ومائة؛ وكانت ولايته عاماً واحداً وشهرين، وله أربع وعشرون سنة وأشهر. وأمه أم ولد، اسمها: الخَيْزُرَان. ولاية الرشيد وولي بعد الهادي أخوه: أبو جعفر هارون بن محمد، فلم يزل والياً إلى أن مات بطوس من خراسان، وهنالك قبره. وكان يحج عاماً ويغزو عاماً، وهو آخر خليفة حجَّ في خلافته، وحجَّ من بعده كثير من قبل ولايتهم. وقد سكن الرقة والحيرة، وكانت وفاته سنة ثلاث وتسعين ومائة. وكانت مدة ولايته ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً، ومات وله ست وأربعون سنة؛ وهو شقيق أخيه موسى. ولاية الأمين وولي بعد الرشيد ابنه: أبو عبد الله محمد الأمين بن هارون الرشيد بن محمد المهدي، فأقام والياً إلى أن قُتيل سنة ثمان وتسعين ومائة، أمر أخوه المأمون طاهر بن الحسين قائده (2) - حين وجَّهَهُ إلى حربه - بقتله، فقتل صبراً محمداً الأمين، وكانت ولايته أربع سنين وأشهراً، ومات وله سبع وعشرون سنة. وأُمُّه: زُبيدة، واسمها أم جعفر بنت جعفر الأكبر بن أبي جعفر المنصور. ولاية المأمون وولي بعد الأمين أخوه: أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي،

_ (1) أحمد بن أبي طاهر - وأبو طاهر هو طيفور - (204 - 280) له مصنفات كثيرة منها كتاب بغداد الذي أتمه ابنه عبيد الله، فإن أحمد عمل إلى آخر أيام المهتدي وزاد فيه ابنه أخبار المعتمد والمعتضد والمكتفي والمقتدر ولم يتمه (الفهرست 163 - 164) فقول ابن حزم " مؤلف أخبار بغداد " غير دقيق. (2) في الأصل: " فأقام قائده "؛ ولا معنى لها، فلعل لفظ " فأقام " من خطأ الناسخ.

ولاية المعتصم

فلم يزل والياً إلى أن مات غازياً بأرض الروم، وقبره بطرطوس، وكانت ولايته عشرين سنة وأشهراً، ومات وله ثمان وأربعون سنة، وكانت وفاته سنة ثماني عشرة ومائتين يوم الخميس، في نصف رجب، وكان يرى حُب آل البيت، ولا يُعْطي من أعرض عنهم، أو عرضهم (1) ، رخصةً، فقيل: كان يَتَشَيَّع. أُمُّه أُمُّ ولدٍ، اسمها: مَرَاجل، بادغيسية خُراسَانية تُركية. وفي أيامه افتتح المسلمون صِقِلِّية وإقْريطش. ولاية المعتصم وولي بعد المأمون أخوه: أبو إسحاق محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله، فَرحل عن بغداد، واتخذ سر من رأى قاعدةً، وأضعف أمور الخُراسانية جند آبائه، واستظهر بالأتراك، فأتى بهم واتخذهم جنداً (2) ، فبطلت دولة الإسلام، وابتدأ ارتفاع عمود الفساد حينئذٍ، وكانت له مع ذلك فتوحات عظيمة الغناء في الإسلام، منها: قتل بابك الخرمي، وقد ظهر بآذربيجان معلناً بدين المجوسية، وبقي نحو عشرين عاماً يهزم الجيوش السُلطانية، ويضع سيفه في الإسلام. ومنها قَتلُه المازيار المجوسي صاحب جبال طبرستان، وفتح طبرستان. وكان هنالك أيضاً معلناً بدين المجوسية. ومنها قتله المُحمرة (3) بالجبل، وقد قاموا أيضاً بدين المجوسية. وهو آخر خليفة غزا أرض الكفر بنفسه. وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب. وكان يذهب مذهب الاعتزال. وكانت ولايته ثمانية أعوام وثمانية أشهر وثمانية أيام؛ ومات وله ثمانٍ وأربعون سنة؛ وذلك سنة سبع وعشرين ومائتين في ربيع الأول. أُمُّه أم ولد، اسمها: ماردة، كوفية، مُولدة.

_ (1) عرضه يعرضه، واعترضه: أوقع فيه وانتقصه وشتمه. (2) في الأصل: " فأتاهم واتخذهم جنداً " والتصويب مما يقتضيه السياق. (3) فرقة من الخرمية.

ولاية الواثق

ولاية الواثق وولي بعد المعتصم: أبو جعفر هارون بن محمد بن هارون بن عبد الله، فبقي والياً إلى أن مات في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وكانت ولايته خمس سنين وثمانية أشهر، وله إذ مات ستٌ وثلاثون سنة وأشهر، وكان يذهب مذهب الاعتزال. أُمُّه أُمُّ وَلد، اسمها: قَرَاطِيس، رُوميَّة. ولاية المُتَوَكِّل وولي بعد الواثق أخوه: أبو الفضل جعفر بن محمد بن هارون بن محمد، فأقام والياً إلى أن قُتِل ليلة الأربعاء لأربع خَلَوْنَ لشوال سنة سبع (1) وأربعين ومائتين. تولى قتله باغر (2) ويجن التركيان (3) ، غدراً في مجلسه، بأمر ابنه المنتصر، كانت ولايته خمسة عشر عاماً، غير شهرين، وقتل وهو ابن اثنتين وأربعين عاماً. أُمه أم ولد، اسمها: تُركية. ولاية المنتصر وولي بعد المتوكل ابنه: أبو جعفر محمد بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد، وهو الذي دسَّ على قتل أبيه، فأقام والياً إلى أن مات لخمس خلون لربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائتين. وكانت ولايته ستة أشهر. وكانت مُدَّة عمره خمساً وعشرين سنة، وكان يتشيع. أُمُّهُ أُمُّ وَلَد، اسمها: حبشية، رومية. وقيل إنما قتل والده لما كان يراه منه ويسمعه من تنقص آل البيت، وما يسمعه من جلسائه، كعلي بن الجهم ومن نحا نحوه. وقد كان الرشيد يميل إلى ما يميل إليه المتوكل لكن بغير إفراط، فقد مدح الرشيد وتنقص أهل البيت في أثناء مدحه بما لا يرضاه، فكان سبباً لحرمان ذلك الشاعر ولطرده، ولم يكن المتوكل يكره المبالغة في تنقص أهل البيت.

_ (1) في الأصل: " تسع "، وهو خطأ واضح، إذ إن ابنه - على ما يذكر بعد قليل - مات سنة ثمان وأربعين ومائتين. (2) في الأصل: باعر. (3) في الطبري 3: 1306: " واجن الأشروسني الصغدي ".

ولاية المستعين

ولاية المُسْتَعين وولي بعد المنتصر ابن عمه لحا: أبو العباس أحمد بن محمد المعتصم، فأقام والياً مخلوعاً إلى أن قتل في شوال من العام المؤرخ (1) . أمر بقتله المعتز، فقتل صبراً، وكان عمره ستاً وثلاثين سنة، وقيل اثنتين وثلاثين سنة. أُمه مُخارق، قيل أم ولد، وقيل إنها بنت عبيد (2) من أهل دوسرة (3) قرية بالموصل. ولاية المعتز وولي بعد المستعين ابن عمه لحا: أبو عبد الله الزبير بن جعفر المتوكل، فأقام والياً، إلى أن قتل في شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين. أدخل في حمام وسد عليه بابه حتى مات. أمر بذلك صالح بن وصيف التركي متولي خلعه. وفي أيامه ابتدأ ظهور المتغلبين في أطراف البلاد، فكانت مدته منذ خلع المستعين إلى أن خلع هو أربع سنين غير خمسة أشهر (4) ، وكان عمره خمساً وعشرين سنة غير شهر (5) ، ولم يحج قط. أمه أم ولد، اسمها: قبيحة، صقلية. خلافة المهتدي رضي الله عنه وولي بعد المعتز ابن عمه لحا: أبو عبد الله محمد بن هارون الواثق، وكان رحمه الله تعالى إمام عدل (6) ، فأقام والياً إلى أن قتل في نصف رجب سنة ست وخمسين ومائتين؛ فقام عليه موسى بن بغا، فحاربه، فأصابت المهتدي جراحات، ثم أخذ فقتل (7) ، فكانت مدته في الخلافة أحد عشر شهراً، وعمره سبع وثلاثون سنة. أُمُّه أُمُّ وَلَد، اسمها: قُرْب.

_ (1) كذا في الأصل؛ وفي ابن الأثير 7: 58، 61 أنه خلع ثم قتل في سنة اثنتين وخمسين ومائتين. (2) في الجمهرة: 22 " وقيل بنت رجل من أهل الموصل ". (3) في معجم البلدان: " دوسر " بغير هاء. (4) ابن العمراني: 132 أربع سنين وستة أشهر وخمسة وعشرين يوماً. (5) ابن العمراني: فعمره ... اثنتان وعشرون سنة وثلاثة أشهر وأيام وقد روي أن عمره كان أربعاً وعشرين سنة. (6) ابن العمراني: 133: وكان المهتدي زاهداً ورعاً صواماً قواماً لم تعرف له زلة. (7) انظر في خبر قتله ابن الكازروني: 159.

ولاية المعتمد

ولاية المعتمد وولي بعد المهتدي ابن عمه لحا: أبو العباس أحمد بن جعفر المتوكل، فأقام والياً إلى أن مات، فكانت ولايته ثلاثاً وعشرين سنة، ومات لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، وله خمسون سنة. أُمه أُمُّ ولد، اسمها: فتيان (1) . وفي أيامه قتل أخوه أبو أحمد الموفق صاحب الزنج القائم بهدم الإسلام. والمعتمد أول خليفة تغلب عليه، ولم ينفذ له أمر ولا نهي (2) . ولم يكن بيده من أمر الخلافة إلا الاسم فقط (3) . ولاية المعتضد وولي بعد المعتمد ابن أخيه: أبو العباس أحمد بن أبي أحمد بن طلحة بن المتوكل، فأقام والياً إلى أن مات لسبع بقين من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، فكانت ولايته عشر سنين غير شهرين وأيام، ومات وله ست وأربعون سنة (4) ، وكان يتشيع، ورجع إلى بغداد وسكنها، ولم يحج قط، لا هو ولا أحد بعده من الخلفاء إلى زماننا إلى أن نقطع عنده إن شاء الله تعالى التأليف عند آخرهم. أُمه أُم ولد، اسمها: ضِرار. وفي أيامه ظهرت دعوة الكفر بقرامطة البحرين، وفي بلاد إفريقية وباليمن، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ولاية المكتفي وولي بعد المعتضد ابنه: أبو محمد علي بن أحمد؛ فأقام والياً إلى أن مات عَشية يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت لذي القعدة سنة أربع وتسعين ومائتين. وكانت مدة

_ (1) في الأصل: قتبان، وصوابها من الجمهرة: 23، والمحبر لابن حبيب: 44 وابن العمراني: 137 وابن الكازروني: 161 وتاريخ محمد بن يزيد: 45. (2) ابن العمراني: 137 ولم يبق للمعتمد على الله تصرف في أمر من الأمور، وإنما كان مستهتراً بالشراب لا يبح من الجوسق بسامراء ولا يخرج منه إلا إلى متصيد أو متنزه. (3) يريد أن السلطة الفعلية كانت بيد أخيه أبي أحمد الموفق طلجة. (4) ابن العمراني (148) وكان ابن خمس وأربعين سنة.

ولاية المقتدر

ولايته خمس سنين وسبعة أشهر وأياماً (1) ، ومات وله ثلاث وثلاثون سنة، وكان يتشيع. أُمه أم ولد، اسمها: جيجك (2) . ولاية المقتدر وولي بعد المكتفي أخوه: أبو الفضل جعفر بن أحمد، وله أربع عشرة سنة (3) ، ولم يَلِ إمرة المؤمنين أحدٌ إلى يومنا هذا أصغر منه. وفي ايامه فسدت الخلافة، ورقت أمور المسلمين، وظهرت غالية الروافض الكفرة، فغلبوا على كثير من البلاد، وتسموا بإمرة المؤمنين، وسلك سبيلهم في ذلك من تغلب على الأندلس من ولد هشام بن عبد الملك بن مروان، وسلك سبيلهم في زماننا من تغلب على بعض الجهات من ولد أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنهما، واختل النظام جُملة. فلم يزل والياً إلى أن قتل في شوال سنة عشرين وثلاثمائة، يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال في حرب مؤنس الخادم، إذ قام عليه، وسنه ثمان وثلاثون سنة وأشهر. وكانت ولايته خمساً وعشرين سنة غير شهرين. أُمُّه أُمُّ ولد، اسمها: شغب (4) . وفي أيامه ملك الروافض الغالية إفريقية كلها، وغلب القرامطة الكفرة على مكة، وقلعوا الحجر الأسود. وقتل الناس في الطواف، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولاية القاهر وولي المقتدر أخوه: أبو منصور محمد بن أحمد، فأقام والياً إلى أن خلع وسملت عيناه، يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين (5) وعشرين

_ (1) ابن الكازروني: 170 توفي عشية السبت ثالث عشر من ذي القعدة من سنة خمس وتسعين ومائتين ... وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وعشرين يوماً؛ وانظر ابن العمراني: 152. (2) في الأصل " ححوا " والتصويب من الطبري 11: 404، وتاريخ الخلفاء للسيوطي (تحقيق محيي الدين سنة 1371) : 376؛ وفي ابن الكازروني: 168 جيجك. (3) ابن العمراني: ثلاث عشرة سنة (وقد مرَّ ذلك ص: 79) . (4) في الأصل: شعب، وصوابه من الطبري 3: 2184 وابن العمراني: 153. (5) عند ابن العمراني: سنة 323.

ولاية الراضي

وثلاثمائة، فكانت ولايته عاماً واحداً وستة أشهر، ثم عاش خاملاً مُضاعاً فقيراً، إلى أن مات سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وله ثمان وخمسون سنة. وأُمُّه أم ولد، اسمها: قَتُول (1) . ولاية الرَّاضي وولي بعد القاهر ابن أخيه: أبو العباس محمد بن جعفر المقتدر، فأقام والياً إلى أن مات ليلة السبت النصف من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وكانت ولايته سبع سنين غير شهر واثنين وعشرين يوماً (2) ، وكانت سنه إذْ مات إحدى وثلاثين سنة وشهوراً. أُمُّه أُمُّ ولد، اسمها: ظَلُوم. وفي أيامه كثر المتغلبون (3) ، فتغلب على كل ناحية مُتغلب، وتغلب عليه وعلى من بعده من الخلفاء، وفسد الأمر إلى هلمَّ جَرّا. ولاية المتَّقي وولي بعد الراضي أخوه: أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر، المُتَّقي، فأقام والياً إلى أن انخلع، وسُمِلَتْ عيناه، لسبع بقين من صفر، سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، أمر بذلك توزون التركي إذ قام عليه، فكانت ولايته أربع سنين غير شهر. وكان رجلاً صالحاً إلا أنه لم يتمكن من ولاية الأمور، وعاش مخلوعاً إلى أن مات سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة. وسنه إذ مات سبع واربعون سنة. وأُمُّه أُمُّ ولد، اسمها: خَلوب. ولاية المُسْتَكْفي وولي بعد المتقي ابن عمه لحا: أبو القاسم عبد الله بن علي المستكفي. فأقام والياً إلى أن خلع وسُمِلت عيناه في جُمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، بأمر أحمد ابن بويه الديلمي الأقطع (4) ، إذْ دخل بغداد وتغلب على الخلافة. وكانت ولايته سبعة عشر شهراً، وعاش مخلوعاً إلى أن مات سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وسنه إذ

_ (1) أو قبول؛ انظر ما تقدم: 121 حاشية: 4. (2) ابن العمراني: 165 فكانت خلافته ست سنين وخمسة أشهر. (3) يعني أمثال بني حمدان وبني بويه وغيرهم. (4) هو معز الدولة البويهي.

ولاية المطيع

مات إحدى وخمسون سنة وشهور. أُمُّه أُمُّ ولد، اسمها: غُصْن. ولاية المطيع وولي بعد المستكفي ابن عمه لحاً: أبو القاسم بن جعفر المقتدر. فأقام والياً إلى أن فلج، وتخلى لابنه عن الأمر طائعاً غير مُكْرَه (1) ، يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت لذي القعدة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً، وسنُّه إذ مات أربع وستون سنة، وعاش في ولايته مُضْطَهداً ليس له من الأمر شيء إلا الاسم. وأُمُّه أُمُّ ولدٍ، اسمُها: مَشْغَلَة. وفي ايامه ضعفت الخلافة ووهت، وغلبت الديالم على بغداد، وغالية الروافض في مصر والشام كلها ومكة والمدينة، وغلب الروم على إقْريطش والثغور الشامية وبعض الجزيرة، وردَّت القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه من الكعبة. ولاية الطائع وولي بعد المطيع ابنه: أبو بكر عبد الكريم، فأقام والياً إلى أن خلع سة ثمانين وثلثمائة. وكانت ولايته ستة عشر عاماً وأشهراً، وعاش بعد ذلك مخلوعاً مسمولاً إلى أن مات سنة أربعمائة (2) ، وتولى خلعه وسَمْلَه خسرو فيروز (3) بن فناخسرو بن الحسن بن بويه الديلمي (4) . ولاية القادر ثم تولى بعد الطائع ابن عمه لحا: أبو العباس أحمد بن إسحاق بن جعفر المقتدر، فأقام والياً إلى أن مات سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة (5) ، ولم يبلغ أحدٌ من الخلفاء في الإسلام مدَّتَه في إمرة المؤمنين، ولا طول عمره، لأن ولايته اتصلت ثلاثاً وأربعين

_ (1) ابن العمراني: 178 طلب الأتراك من الخليفة قلع الديلم فلم يجبهم إلى ذلك، وقصدوا ابنه ولي عهده عبد الكريم فاستجاب لهم، " ودخل الأمير أبو بكر عبد الكريم على أبيه المطيع لله وسامه خلع نفسه، فرأى الجدَّ منه وخاف من القتل على نفسه فخلع نفسه وسلم الأمر إلى ولده ". (2) في سائر الكتب التاريخية: سنة 393. (3) هو بهاء الدولة أبو نصر، وقد ورد اسمه في الأصل: خسرو مهر. (4) عند ابن العمراني أن خلعه تمَّ سنة 381. (5) ابن العمراني: 186 في الحادي والعشرين من ذي الحجة سنة 422.

ولاية القائم بالله عبد الله بن القادر بالله

سنة، ومات وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، لأن مولده كان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. ولاية القائم بالله عبد الله بن القادر بالله تولى بعد القادر بالله: أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله، فهو أمير المؤمنين اليوم (1) . ونسأل الله تعالى بمنه أن يوزع المسلمين أميراً رشيداً يعز به وليه، ويذل به عدوه، ويُعلي به كلمة الإسلام، ويُسفل كلمة من ناوأه من سائر الأديان، ويُظهر معه العدل، وحُكم الكتاب والسنة، آمين، آمين. آمين رَبّ العالمين. قد أعان الله تعالى على استيفاء الغرض في كتابنا هذا، فله الحمد واصباً عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته. وهو المُسْتَغْفَرُ من الزلل، والمرجو للرحمة والقبول. لا إله إلا هو، ربُّ كل شيء ومليكه، الأحد الأول الحق. وصلى الله على سيدنا محمد خيرة الله تعالى من خلقه، وعلى آله وصحبه وعترته، ورضي الله عن صحابته، وسلَّم تسليماً. وكان الفراغ منه في العشر الأخير من شهر صفر سنة 776 ست وسبعين وسبعمائة.

_ (1) فأقام والياً إلى أن مات في سنة سبع وستين وأربعمائة، وكانت خلافته خمساً وأربعين سنة، فهو قد فاق القادر في طول المدة، وفي أيامه بدأت سيطرة السلاجقة ...

فراغ

فراغ

فراغ

الخلفاء بعده - عليه السلام

- 4ب - الخلفاء بعده عليه السلام (صورة أخرى من الرسالة السابقة) الخلفاء بعده - عليه السلام (1) 1 - لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الناس عليه أفذاذاً دون إمام، وتولى أمور المسلمين خليفته أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، واسمه: عبد الله، فولي الخلافة سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام. وتوفي، رضي الله عنه، وله ثلاث وستون سنة. وكان أبوه وأمه مسلمين، وأمه هي أم الخير [سلمى] بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. وهو الذي حارب أهل الردة، وقتل مسيلمة وأغزى الجيوش إلى الشام لقتال الروم وإلى العراق لقتال الفرس. وقبره مع قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بيت عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، وهو الآن داخل المسجد. 2 - ثم استخلف أبو بكر عمر بن الخطاب أبا حفص فولي عشر سنين وستة أشهر وخمسة عشر يوماً. ثم قتل، رضي الله عنه، غيلة وهو في صلاة الصبح، طعنه أبو لؤلؤة، مجوسي فارسي، غلام المغيرة بن شعبة. عاش ثلاثة أيام ومات، رضي الله عنه، وقبره مع قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقبر أبي بكر. وفي أيام عمر فتحت الشام كلها، وجميع أعمال مصر، وأعمال السواد، وبعض فارس وأصبهان والري والأهواز والجزيرة وأذربيجان وديار مضر وديار ربيعة. وبنيت البصرة والكوفة والفسطاط قاعدة أرض مصر.

_ (1) هذا جزء من رسالة بعنوان " جمل من التاريخ " ضمن مجموعة بدار الكتب المصرية وردت تحت عنوان " كتاب الجامع من كتاب الإيصال " وقد نشرها أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري وعبد الحليم عويس (الرياض: 1977) وهذا القسم من الرسالة يقابل الرسالة السابقة، غير أنه يختلف عنها بعض اختلاف، فلذلك آثرت إيراده على حاله، ولم أشأ إثبات الفروق في حاشية الرسالة السابقة. فأما القسم الأول الذي لم أورده هنا فإنه يتعلق بسيرة الرسول، وهو صورة موجزة جداً من بعض ما جاء في جوامع السيرة.

3 - ثم ولي الخلافة عثمان أبو عمرو بن عفان، اثنتي عشرة سنة ثم قتل صبراً، رضي الله عنه. وفي أيامه فتحت اصطخر من فارس وكرمان وسجستان وخراسان - ما دون النهر منها - وأرمينية وغرب أفريقية، وقبره، رضي الله عنه، في طرف البقيع. 4 - ثم ولي الخلافة أبو الحسن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فاضطربت عليه الأمور، ولم يبايعه جمهور الصحابة، رضي الله عنهم، وخالف عليه معاوية بالشام وكانت وقعة الجمل بالبصرة، قتل فيها طلحة والزبير، رضي الله عن جميعهم، وكانا مع عائشة رضي الله عنها. وكانت وقعة صفين بالشام، وقتل الخوارج بالنهروان، وافترقت كلمة الإسلام، وافترقت الطائفة القائمة على عثمان، رضي الله عنه، فرقتين: خوارج وشيعة غالية وغير غالية، وكل لا خير فيه. وكانت ولاية علي بالكوفة خمس سنين غير ثلاثة أشهر. وقتل، رضي الله عنه، غيلة وهو داخل المسجد لصلاة الصبح، ضربه عبد الرحمن بن ملجم المرادي - من الخوارج - ضربة مات منها بعد ثلاثة أيام. وقبره بالغري عند الكوفة. 5 - ثم ولي الخلافة ابنه أبو محمد الحسن بن علي، أمه فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فولي ستة أشهر ثم انحل عن الخلافة طوعاً وسلم الأمر إلى معاوية. وقبر الحسن، رضي الله عنه، بالبقيع بالمدينة، وله تسع وأربعون سنة. 6 - فولي الخلافة أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان، وأجمع عليه جميع المسلمين. وكان كاتباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الوحي وغير ذلك. فأقام خليفة عشرين سنة غير أربعة أشهر. ومات، رضي الله، وله خمس وسبعون سنة. وفي أيامه فتحت افريقية كلها، وسكنها المسلمون، وبنيت القيروان، ونزل ابنه يزيد بالجيش على القسطنطينية، فحاصرها مدة، ومات هنالك أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري، رضي الله عنه - صاحب رَحل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودفن هناك. وقبر معاوية بدمشق. 7 - ثم ولي ابنه أبو خالد يزيد بن معاوية ثلاث سنين وثلاثة أشهر. واضطربت الأمور، ونهض الحسين بن علي، رضي الله عنهما، إلى الكوفة، وقتل هنالك.

وخالفه أهل المدينة، وكانت وقعة الحرة التي قتل فيها خيار الناس. وحاصر عبد الله بن الزبير، رضي الله عنه، بمكة، ثم مات (1) . 8 - وولي الخلافة أبو بكر عبد الله بن الزبير بمكة تسعة أعوام وثلاثة أشهر. وقام عليه بالأردن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس فغلب على الشام ومصر. ثم مات مروان وقام مقامه ابنه عبد الملك، ووجه الحجاج لحصار ابن الزبير بمكة. فحاصره مدة. ثم قتل ابن الزبير، رضي الله عنه، داخل المسجد الحرام مقبلاً غير مدبر، وله ثلاث وسبعون سنة. 9 - فولي أبو الوليد عبد الملك بن مروان، فاجتمع عليه المسلمون، فولي ثلاث عشرة سنة. ثم مات، وله ثنتان وخمسون سنة، وقبره بدمشق. وفي أيامه زاد التفرق، وظهر الإرجاء، وإنكار القدر. 10 - فولي مكانه أبو العباس الوليد بن عبد الملك. ففي أيامه فتحت السند والأندلس وما وراء النهر من خراسان وكانت ولايته تسع سنين وسبعة أشهر. وكان سكناه دمشق. 11 - ثم ولي الخلافة أخوه أبو أيوب سليمان بن عبد الملك، فأغزى أخاه مسلمة بن عبد الملك إلى القسطنطينية، فحاصرها حتى أشرف على أخذها. ومات سليمان، رحمه الله، وكانت ولايته عامين وتسعة أشهر وخمسة أيام. وكان سكناه بالرملة قرب بيت المقدس. 12 - فولي بعده ابن عمه أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان، رضي الله عنه، وكان غاية في العدل والخير. وكانت ولايته عامين وخمسة أيام. وكان سكناه بخناصرة من أرض حمص. وهنالك قبره معروف. 13 - ثم ولي بعده أبو خالد يزيد بن عبد الملك أربعة أعوام وشهراً، وكان مائلاً إلى اللذات. وكان سكناه بالبخراء من أرض حمص. 14 - ثم ولي بعده أخوه أبو الوليد هشام بن عبد الملك تسعة عشر عاماً وعشرة أشهر غير أيام. وكان سكناه بالرصافة بقرب الرقة.

_ (1) يلاحظ أنه لم يذكر خلافة معاوية بن يزيد، وهذا سهو.

15 - ثم ولي بعده ابن أخيه أبو العباس الوليد بن يزيد وكان خليعاً ماجناً. ثم قتل بعد سنة وشهرين. وكان سكناه حيث سكن أبوه. 16 - ثم ولي بعده ابن عمه أبو خالد يزيد بن الوليد، وهو القائم على الوليد المذكور. وكان يزيد غاية في الزهد والعدل. فولي ستة أشهر ومات بدمشق. 17 - فولي بعده أخوه أبو إسحاق إبراهيم بن الوليد الخليع. 18 - وولي أبو عبد الملك مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، فكانت ولايته خمس سنين وشهراً واحداً. واضطربت عليه الأمور من أول ولايته حتى قام عليه أبو مسلم الخراساني بدعوة بني العباس فقتل مروان ببوصير من أرض مصر، مقبلاً غير مدبر وسيفه بيده يضارب به حتى سقط. 19 - وولي أبو العباس وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب فكانت ولايته أربع سنين وثمانية أشهر واياماً، وكان سكناه بالأنبار. وفي أيامه تفرقت الجماعة. فخرج عن طاعته من ما بين تاهرت وطبنة إلى بلاد السودان وجميع الأندلس. وتغلبت على هذه البلاد طوائف من خوارج وجماعية، وضعفت دولة العرب وأجنادها. 20 - فولي بعده أخوه أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد عشرين سنة كاملة (1) . وهو بنى بغداد، ومات محرماً بالحج بمكة ودفن ببئر ميمون. 21 - فولي بعده ابنه: أبو عبد الله المهدي محمد بن أبي جعفر عشر سنين وأشهراً، وكان مقامه بعيساباذ من عمل السواد. 22 - فولي بعده ابنه أبو محمد موسى الهادي سنة واحدة وشهرين، وكان مقامه بموساباذ من عمل السواد. 23 - فولي بعده أخوه أبو جعفر هارون الرشيد ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً، وهو آخر خليفة حجَّ بالناس في خلافته. وكان مقامه بالحيرة وبغداد (2) . وقبره بطوس من خراسان. 24 - وولي بعده ابنه أبو عبد الله الأمين أربع سنين وأشهراً إلى أن قتل ببغداد. 25 - وولي بعده أخوه أبو العباس عبد الله المأمون، وهو بخراسان، ثم رحل إلى

_ (1) في رسالة اسماء الخلفاء: اثنتين وعشرين سنة. (2) في رسالة أسماء الخلفاء: وقد سكن الرقة والحيرة.

بغداد. وكانت ولايته عشرين سنة وأشهراً. ومات بأرض الروم، وقبره بطرسوس. 26 - ثم ولي بعده أخوه أبو إسحاق محمد المعتصم بالله ثمانية أعوام وثمانية أشهر وثمانية أيام. وهو قتل بابك الخرمي القائم بملة المجوس بطبرستان، وهو آخر خليفة غزا دار الحرب بنفسه. وكان سكناه " سر من رأى ". وهو أول من تجند بالعبيد، وضعف أجناد الأحرار. 27 - ثم ولي ابنه أبو جعفر هارون الواثق بالله خمس سنين وثمانية أشهر. 28 - ثم ولي بعده أخوه أبو الفضل جعفر المتوكل على الله خمسة عشر عاماً غير شهرين، إلى أن قتله عبيد أبيه الأتراك بأمر ابنه المنتصر. 29 - ثم ولي ابنه أبو عبد الله محمد المنتصر قاتل أبيه، فكانت ولايته ستة أشهر. 30 - ثم ولي بعده ابن عمه لحا أبو العباس المستعين بالله أحمد بن محمد المعتصم أربع سنين غير ثلاثة أشهر. ثم خلع ثم قتل. وهؤلاء كلهم حجوا قبل الخلافة. 31 - ثم ولي ابن عمه أبو عبد الله المعتز بالله محمد بن المتوكل أربع سنين غير خمسة أشهر ثم خلع وقتل، ولم يحج قط. 32 - ثم ولي ابن عمه أبو عبد الله المهتدي بالله بن الواثق. وكان ناسكاً فاضلاً، فكانت مدته، رحمة الله عليه، إلى أن خلع وقتل: أحد عشر شهراً. وحج قبل الخلافة. 33 - ثم ولي ابن عمه أبو العباس المعتمد على الله أحمد بن المتوكل ثلاثاً وعشرين سنة. وكان ناقصاً متخلفاً متغلباً عليه. وكان مع ذلك فصيحاً خطيباً. ثم مات ولم يكن له مستقر، كان أخوه أبو أحمد الموفق ينقله من موضع إلى موضع. وحج قبل الخلافة. 34 - ثم ولي ابن أخيه أبو العباس المعتضد بالله أحمد بن أبي أحمد الموفق طلحة بن المتوكل عشر سنين غير شهرين. وفي أيامه ظهرت القرامطة ودعوة الباطنية في بلاد الإسلام واستولوا على البحرين وبعض اليمن. ولم يحج قط، ولا غزا دار الحرب، لا هو ولا من كان بعده، ورجع إلى بغداد وعطَّل سر من رأى.

35 - وولي بعده ابنه أبو محمد علي المكتفي بالله خمس سنين وسبعة أشهر. 36 - ثم ولي أخوه أبو الفضل جعفر المقتدر بالله. وفي أيامه غلب الباطنية، لعنهم الله، على افريقية، وأخذ القرامطة، لعنهم الله، مكة، وقلعوا الحجر الأسود وحملوه إلى الإحساء، وأقام عندهم اثنين وعشرين عاماً كاملة، ثم ردوه بقوة الله عز وجل، فابتدأت دولة الخلافة والإسلام تضعف، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وكل من كان قبله من الخلفاء: صلوا بالناس، إلا هو فلم يصل بالناس قط. وكان ملازماً للنساء واللذات، مهملاً للأمور إلى أن قتل. وكانت مدة ولايته خمساً وعشرين سنة غير عشرين يوماً. 37 - ثم ولي أخوه أبو منصور محمد القاهر بن المعتضد سنة واحدة وستة أشهر. ثم خلع وسملت عيناه، وبقي كذلك نحو ستة عشر عاماً إلى أن مات سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. ولم يصل بالناس قط. 38 - وولي - حين خلعه - ابن أخته أبو العباس الراضي بالله محمد بن المقتدر سبع سنين غير أيام. وصلى بالناس مرتين فقط، ولم يصل بالناس خليفة بعده. وفي أيامه بطل حد الخلافة كله، وتغلب عليه وعلى كل من ولي بعده - وإنا لله وإنا إليه راجعون - ومات على فراشه. 39 - وولي بعد أخوه أبو إسحق إبراهيم المتقي لله بن المقتدر أربع سنين غير شهر. وكان متكرماً متصاوناً عما لا يحل. ثم خلع وسملت عيناه وعاش كذلك نحواً من أربع عشرة سنة إلى أن مات سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة. 40 - وولي مكانه إذ خلع ابن عمه أبو القاسم عبد الله المستكفي بن المكتفي سنة واحدة وخمسة أشهر. ثم خلع وسملت عيناه، وبقي كذلك نحو خمسة أعوام إلى أن مات سنة تسع وأربعين وثلاثمائة. 41 - وولي مكانه إذ خلع ابن عمه أبو القاسم الفضل المطيع بن المقتدر، فاتصلت ولايته ثلاثين سنة متغلباً عليه، ولا ينفذ له أمر إلى أن خلع نفسه طائعاً مختاراً لذلك وهو عليل مثبت العلة، لابنه أبي بكر عبد الكريم الطائع لله. ومات على فراشه بعد أربعين يوماً من ولاية ابنه. وفي أيام المطيع غلبت الباطنية على مصر والشام ومكة والمدينة، وإنا لله وإنا إليه

راجعون. وظهر الرفض ودين الغالية في أعمال فارس والري وما والاها. 42 - وولي إذ خلع نفسه ابنه أبو بكر عبد الكريم الطائع لله، فدامت ولايته ست عشرة سنة. ثم خلع وسملت عيناه وعاش كذلك عشرين سنة إلى أن مات سنة أربعمائة. 43 - وولي إذ خلع ابن عمه أبو العباس أحمد القادر بالله بن إسحاق بن المقتدر، فاتصلت ولايته ثلاثاً وأربعين سنة، لم يعش هذه المدة خليفة في الإسلام غيره. وكانت سنوه إذ مات ثلاثاً وتسعين سنة، مائة غير سبع سنين. 44 - ثم ولي بعده ابنه أبو جعفر القائم بالله، وهو الخليفة الآن (1) ، وهو مغلوب عليه لا يظهر ولا ينفذ له أمر إلا في بعض الأحوال في ولاية القضاة واصحاب الصلاة فقط، وإنا لله وإنا إليه راجعون (2) . ونسأل الله أن يعطف على المسلمين بجمع الكلمة، وخلافة حق يظهر تعالى بها ما دثر من حكم الكتاب والسنة، ويعلي بها النصر على الكفار، آمين يا رب العالمين. تم الكتاب المحلى [كذا] والحمد لله كثيراً، وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وسلم تسليماً كثيراً.

_ (1) في هذه العبارة مزيدة ولم ترد في رسالة أسماء الخلفاء، مما قد يدل على أن الصورة الموجزة هذه، من تلك الرسالة، قد كتبت بعد أن وصلت أنباء القائم بالله إلى الأندلس، أي بعد سنوات من بداية خلافته. (2) في هذه العبارة مزيدة ولم ترد في رسالة أسماء الخلفاء، مما قد يدل على أن الصورة الموجزة هذه، من تلك الرسالة، قد كتبت بعد أن وصلت أنباء القائم بالله إلى الأندلس، أي بعد سنوات من بداية خلافته.

فراغ

فراغ

فراغ

رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها

- 5 - رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها (1) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وعلى أصحابه الأكرمين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته الفاضلين الطيبين. 1 - أما بعد يا أخي يا أبا بكر (2) سلام عليك، سلام أخ مشوق طالت بينه وبينك الأميال والفراسخ، وكثرت الأيام والليالي، ثم لقيك في حال سفرٍ ونقلة، ووادَّكَ في خلال جولةٍ ورحلة، فلم يقضِ من مجاورتك أرباً، ولا بلغ في محاورتك مطلباً. وإني لما احتللت بك، وجالت يدي في مكنون كتبك، ومضمون دواوينك، لمحت عيني في تضاعيفها درجاً فتأملته، فإذا فيه خطاب لبعض الكتّاب من مصاقبينا في الدار، أهل إفريقية، ثم ممن ضمته حضرة قيروانهم، إلى رجل أندلسي لم يعينه باسمه، ولا ذكر بنسبه (3) ، يذكر له فيها أن علماءَ بلدنا بالأندلس، وإن كانوا على الذروة العليا من التمكن بأفانين العلوم، وفي الغاية القصوى من التحكم على وجوه المعارف، فإن هِمَمَهم قد قَصَّرتْ عن تخليد مآثر بلدهم، ومكارم ملوكهم، ومحاسن فقهائهم، ومناقب قضاتهم، ومفاخر كتابهم، وفضائل علمائهم، ثم تعدَّى ذلك إلى أن أخلى أرباب العلوم منا من أن يكون لهم تأليف يحيي ذكرهم، ويبقي علمهم، بل قطع على أن كل واحد منهم قد مات فدفن علمه معه، وحقق ظنه في ذلك، واستدل على صحته عند نفسه، بأن شيئاً من هذه التآليف لو كان منّا موجوداً لكان إليهم منقولاً،

_ (1) هذا هو اسم الرسالة كما ورد في فهرسة ابن خير: 226. (2) هو أبو بكر محمد بن إسحاق صديق ابن حزم، والمتنقل معه في الأندلس، والمعتقل معه على يد خيران (انظر الجذوة: 42 وطوق الحمامة في الجزء الأول: 112، 113، 120) . (3) هذا عجيب فقد صرح ابن بسام أن أبا علي ابن الربيب القروي كتبه إلى أبي المغيرة ابن حزم رسالة بهذا المعنى وأن أبا المغيرة رد عليه برسالة أطال فيها القول وختمها بذكر جملة من تواليف أهل الأندلس. الذخيرة 1/1: 133، وهذا هو عين ما قاله صاحب النفح 3: 156.

وعندهم ظاهراً، لقرب المزار وكثرة السُّفار، وترددهم إليهم، وتكررهم علينا. 2 - ثم لما ضمنا المجلس الحافل بأصناف الآداب، والمشهد الآهل بأنواع العلوم، والقصر المعمور بأنواع الفضائل، والمنزل المحفوف بكل لطيفة وسيعة من دقيق المعاني وجليل المعالي، قرارة المجد ومحل السؤدد، ومحط رحال الخائفين، وَمُلْقَى عصا التسيار، عند الرئيس الأجل الشريف قديمه وحسبه، الرفيع حديثُه ومكتسبه، الذي أُجله عن كل خطة يشركه فيها من لا توازي قومته نومته، ولا ينال حُضْرُهُ (1) هويناه، وأربأ به عن كل مرتبةٍ يلحقه فيها من لا يسمو إلى المكارم سموه، ولا يدنو من المعالي دنوه، ولا يعلو في حميد الخلال علوه، بل أكتفي من مدحه باسمه المشهور، وأجتزي من الإطالة في تقريظه بمنتماه المذكور، فحسبي بذينك العلمين دليلاً على سعيه المشكور وفضله المشهور، أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم صاحب البونت (2) ، أطال الله بقاءه، وأدام اعتلاءه، ولا عطل الحامدين من تحليهم بحلاه، ولا أخلى الأيام من تزينها بعلاه، فرأيته أعزه الله تعالى حريصاً على أن يجاوب هذا المخاطب، وراغباً في أن يبين له ما لعله قد رآه فنسي، أو بعد عنه فخفي، فتناولت الجواب المذكور، بعد أن بلغني أن ذلك المخاطب قد مات، رحمنا الله تعالى وإياه، فلم يكن لقصده بالجواب معنى، وقد صارت المقابر له مغنى، فلسنا بمسمعين من في القبور، فصرفت عنان الخطاب إليك، إذ من قبلك صرت إلى الكتاب المجاوب عنه، ومن لدنك وصلت إلي الرسالة المعارضة، وفي صول كتابي على هذه الهيئة حيثما وصل كنايةٌ لمن غاب عنه من أخبار تآليف أهل بلدنا، مثلما غاب عن هذا الباحث الأول، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وإن كنت في إخباري إياك بما أرسمه في كتابي هذا " كمهد إلى البركان نار الحباحب "، وباني صوىً في مهيع القصد اللاحب، فإنك وإن كنت المقصود والمواجه فإنما المراد من أهل تلك الناحية من نأي عنهم علم ما استجلبه السائل الماضي، وما توفيقي إلا بالله سبحانه. 3 - فأما مآثر بلدنا فقد ألف في ذلك أحمد بن محمد الرازي (3) التاريخي كتباً

_ (1) الحُضْر: سرعة الجري. (2) البونت (Elpuente) قرية من أعمال بلنسية، استقل فيها بنو قاسم بعد الفتنة وأولهم عبد الله بن قاسم الذي توفي سنة 421 وخلفه ابنه محمد الملقب بيمن الدولة، وبقي فيها والياً حتى 434 (أعمال الأعلام: 208) . (3) الجذوة: 96 - 97 وطبقات الزبيدي: 327؛ وقد نقل الحميدي نص ابن حزم هنا. وكذلك فعل في كثير مما ورد في هذه الرسالة.

جمة منها كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها وأمهات مدنها وأجنادها الستة (1) ، وخواص كل بلد منها، وما فيه مما ليس في غيره، وهو كتاب مريح مليح. وأنا أقول لو لم يكن لأندلسنا إلا ما رسول الله صلى الله عليه وسلم بشَّر به، ووصف أسلافنا المجاهدين فيه، بصفات الملوك على الأسرة، في الحديث الذي رويناه من طريق أبي حمزة أنس بن مالك أن خالته أم حرام بنت ملحان، زوج أبي الوليد عبادة ابن الصامت، رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين، حدثته به عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبرها بذلك لكفى شرفاً بذلك (2) ، يَسُرُّ عاجله ويغبط آجله. فإن قال قائل: لعله صلوات الله تعالى عليه إنما عنى بذلك الحديث أهل صقلية وإقريطش، وما الدليل على ما ادعيته من أنه صلى الله عليه وسلم عنى الأندلس حتماً، ومثل هذا من التأويل لا يتساهل فيه ذو ورع دون برهان واضح وبيان لائح، لا يحتمل التوجيه، ولا يقبل التجريح. فالجواب، وبالله التوفيق، أنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب، وأمر بالبيان لما أوحي إليه، وقد أخبر في ذلك الحديث المتصل سنده بالعدول عن العدول بطائفتين من أمته يركبون ثبج البحر غزاةً واحدة بعد واحدة، فسألته أم حرام أن يدعو ربه تعالى أن يجعلها منهم، فأخبرها صلى الله عليه وسلم، وخبرة الحق، بأنها من الأولين، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو إخباره بالشيء قبل كونه، وصح البرهان على رسالته بذلك، وكانت من الغزاة إلى قبرس، وخرَّتْ عن بغلتها هناك، فتوفيت رحمها الله تعالى، وهي أول غزاةٍ ركب فيها المسلمون البحر، فثبت يقيناً أن الغزاة إلى قبرس هم الأولون الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أم حرام منهم، كما أخبرت صلوات الله تعالى وسلامه عليه، ولا سبيل أن يظن به، وقد أوتي ما أوتي من البلاغة والبيان، أنّه يذكر طائفتين قد سمى إحداهما أولى، إلا والتالية لها ثانية، فهذا من باب الإضافة وتركيب العدد، وهذا مقتضى طبيعة صناعة المنطق، إذ لا تكون الأولى أولى إلا لثانية، ولا الثانية ثانية

_ (1) لعله يعني الأجناد التي نزلت الأندلس في طالعة بلج القشيري وفرقها أبو الخطار على الكور. انظر النفح 1: 237 والإحاطة 1: 109. (2) يشير إلى حديث أورده مسلم (2: 104) وفيه أن رسول الله (ص) نام ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت له بنت ملحان: ما يضحك يا رسول الله قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة.... وأنه نام مرة أخرى وفعل كفعله الأول، فلما قالت له أم حرام: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين.

إلا لأولى، فلا سبيل إلى ذكر ثالث بعد ثان ضرورة، وهو صلى الله عليه وسلم إنما ذكر طائفتين، وبشر بفئتين، وسمّى إحداهما الأولين، فاقتضى ذلك بالقضاء الصدق آخرين، والآخر من الأول هو الثاني الذي أخبر صلى الله عليه وسلم أنه خير القرون بعد قرنه، وأول القرون بكل فضل بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه خير من كل قرن بعده. ثم ركب البحر بعد ذلك أيام سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية، وكان الأمير بها في تلك السفن هبيرة الفزاري، وأما صقلية فإنها فتحت صدر أيام الأغالبة سنة 212، أيام قاد إليها السفن غازياً أسد بن الفرات القاضي صاحب أبي يوسف رحمه الله تعالى، وبها مات، وأما إقريطش فإنها فُتحت بعد الثلاث والمائتين (1) ، افتتحها أبو حفص عمر بن شعيب (2) ، المعروف بابن الغليظ (3) ، من أهل قرية بطروج (4) ، من عمل فحص البلوط، المجاور لقرطبة من بلاد الأندلس، وكان من فلّ الربضيين (5) ، وتداولها بنوه بعده إلى أن كان آخرهم عبد العزيز بن شعيب الذي غنمها في ايامه أرمانوس بن قسطنطين ملك الروم سنة 350 (6) ، وكان أكثر المفتتحين لها أهل الأندلس. 4 - وأما في قسم الأقاليم فإن قرطبة، مسقط رؤوسنا ومَعَقُّ تمائمنا، مع سُرَّ من رأى في إقليم واحد، فلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه إقليمنا، وإن كانت الأنوار لا تأتينا إلا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور. وذلك عند المحسنين للأحكام التي تدل عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها، فلها من ذلك، على كل حال، حظّ يفوق حظّ أكثر البلاد، بارتفاع أحد النيرين بها تسعين درجة، وذلك من أدلة التمكن في العلوم، والنفاذ فيها عند من ذكرنا، وقد صدق ذلك الخبر، وأبانته التجربة، فكان أهلها من التمكن في علوم القراءات والروايات، وحفظ كثير من الفقه، والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم، بمكان رحب الفناء، واسع

_ (1) الجذوة: بعد الثلاثين والمائتين، وفي ياقوت (إقريطش) بعد 250. (2) ترجمته في الجذوة: 282 وقد نقل الحميدي ما قاله ابن حزم. (3) الجذوة: المعروف بالغليظ. (4) ويقال: بطروش، وهو حصن شامخ الحصانة من أعمال قرطبة ويحيط البلوط بجباله وسهوله، وأهل بطروش يحفظونه، ويستعينون به على الغذاء في أيام الشدة. (5) يريد أنه كان من أهل الربض الذين ثاروا على الحكم الملقب بالربضي، ثم أخرجوا عن الأندلس فلجأوا أولاً إلى الإسكندرية ثم إلى إقريطش، وأقاموا لهم دولة هنالك. (6) انظر ياقوت (إقريطش) حيث ذكر أن أرمانوس قتل ونهب وأخذ عبد العزيز وبني عمه وأموالهم إلى القسطنطينية.

العطن، متنائي الأقطار، فسيح المجال. 5 - والذي نعاه علينا الكاتب المذكور، لو كان كما ذكر، لكنا فيه شركاء لأكثر أمهات الحواضر، وجلائل البلاد، ومتسعات الأعمال، فهذه القيروان بلد المخاطب لنا، ما أذكر أني رأيت في أخبارها تأليفاً غير " المعرب عن أخبار المغرب " وحاشا تآليف محمد بن يوسف الوراق (1) ، فإنه ألف للمستنصر رحمه الله تعالى في مسالك إفريقية وممالكها ديواناً ضخماً، وفي أخبار ملوكها وحروبهم والقائمين عليهم (2) كتباً جمة، وكذلك ألف أيضاً في أخبار تيهرت ووهران وتونس (3) وسجلماسة ونكور والبصرة (4) وغيرها تآليف حساناً. ومحمد هذا أندلسي الأصل والفرع، آباؤه من وادي الحجارة (5) ومدفنه بقرطبة وهجرته إليها، وإن كانت نشأته بالقيروان. 6 - ولا بد من إقامة الدليل على ما أشرت إليه هاهنا، إذ مرادنا أن نأتي منه بالمطلب، فيما يستأنف، إن شاء الله تعالى، وذلك أن جميع المؤرخين من أئمتنا السالفين والباقين، دون محاشاة أحد، بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك، متفقون على أن ينسبوا الرجل إلى مكان هجرته التي استقر بها، ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكناها إلى أن مات، فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة رضي الله تعالى عنهم، وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام وأشهراً (6) ، وقد بقي 58 عاماً وأشهراً بمكة والمدينة شرفهما الله تعالى، وكذلك أيضاً أكثر أعمار من ذكرنا. وإن ذكروا البصريين بدأوا بعمران بن حصين، وأنس بن مالك، وهشام بن عامر، وأبي بكرة، وهؤلاء: مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة والطائف، وجمهرة أعمارهم خلت هنالك. وإن ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ ومعاوية، والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم. وكذلك في المصريين: عمرو بن العاص وخارجة بن حذافة العدوي، وفي المكيين: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير (7) ، والحكم في هؤلاء كالحكم

_ (1) الجذوة: 90، والبغية: 304 والوافي 5 رقم: 2327. (2) الجذوة: والغالبين عليهم. (3) الجذوة: وتنس. (4) نكور مدينة في المغرب على ساحل البحر الأبيض، والبصرة المعنية هنا موضع ببلاد المغرب أيضاً كان على مقربة من مدينة أصيلا. (5) تعرف أيضاً بمدينة الفرج بينها وبين طليطلة خمسة وستون ميلاً (الروض: 606) . (6) علق ابن حجر على هذا بقوله: صوابه أربعة أعوام (النفح 3: 179) . (7) هذا هو النظام الذي جرى عليه ابن سعد في الطبقات، ولكن الأمر في ذلك يختلف عما يذهب إليه ابن حزم، فليس هناك من مترجم مثلاً يقول، إن علياً كوفي أو إن عمراً مصري.

في من قصصنا. فمن هاجر إلينا من سائر البلاد، فنحن أحقُّ به، وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا، الذين إجماعهم فرض اتباعه، وخلافه محرم اقترافه، ومن هاجر منا إلى غيرنا فلا حظٌ لنا فيه، والمكان الذي اختاره أسعد به، فكما لا ندع إسماعيل بن القاسم (1) ، فكذلك لا ننازع في محمد بن هانئ سوانا، والعدل أولى ما حُرص عليه، والنصف أفضل ما دُعي إليه، بعد التفصيل الذي ليس هذا موضعه، وعلى ما ذكرنا من الإنصاف تراضى الكل. 7 - وهذه بغداد حاضرة الدنيا، ومعدن كل فضيلة، والمحلة التي سبق أهلها إلى حمل ألوية المعارف، والتدقيق في تصريف العلوم، ورقة الأخلاق والنباهة والذكاء وحدة الأفكار ونفاذ الخواطر، وهذه البصرة وهي عين المعمور في كل ما ذكرنا: وما أعلم في أخبار بغداد تأليفاً غير كتاب أحمد بن أبي طاهر (2) . وأما سائر التواريخ التي ألفها أهلها، فلم يخصوا بلدتهم بها دون سائر البلاد، ولا أعلم في أخبار البصرة غير كتاب عمر بن شبة (3) ، وكتاب لرجل من ولد الربيع بن زياد المنسوب إلى أبي سفيان، في خطط البصرة وقطائعها، وكتابين لرجلين من أهلها يسمى أحدهما عبد القاهر، كريزي النسب، [في] صفاتها وذكر أسواقها ومحالها وشوارعها. ولا أعلم في أخبار الكوفة غير كتاب عمر بن شبة (4) . وأما الجبال وخراسان وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان والسند والري وأرمينية وأذربيجان وتلك الممالك الكثيرة الضخمة فلا أعلم في شيء منها تأليفاً قصد به أخبار ملوك تلك النواحي وعلمائها وشعرائها وأطبائها (5) ، ولقد تاقت النفوس إلى أن يتصل بها تأليف في أخبار فقهاء بغداد، وما علمناه علم، على أنهم العلية الرؤساء والأكابر العظماء. ولو كان في شيء من ذلك تأليف لكان الحكم في الأغلب أن يبلغنا كما بلغ سائر تآليفهم، وكما بلغنا كتاب

_ (1) يريد أبا علي القالي، فهو قد أصبح - حسب مقياسه - أندلسياً. (2) أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور (- 280) : ترجمته في معجم الأدباء 1: 152 وتاريخ بغداد والفهرست، وقد بقيت قطعة من كتابه تاريخ بغداد نشرها المستشرق هنسي كلر بالزنكو غراف 1908 وأعيد طبعها بمصر 1368هـ. وبقي من كتابه المنظوم والمنثور جزءان (القاهرة، أدب 587) . (3) انظر ترجمة عمر بن شبة في معجم الأدباء 6: 481، والتهذيب 7: 460 ونور القبس: 231 وبغية الوعاة: 361. والكتاب الذي يشير إليه ابن حزم هو: أخبار أهل البصرة. (4) ذكر السخاوي فيمن ألف في الكوفة: ابن مجالد، وعمر بن شبة، وأبا الحسين محمد بن جعفر التميمي الكوفي النحوي (الإعلان: 128) . (5) استفاض التاريخ للبلدان بعد ابن حزم، انظر الإحاطة 1: 90 وما بعدها، وانظر الإعلان بالتوبيخ للسخاوي: 121 - 135.

حمزة بن الحسن الأصبهاني في أخبار أصبهان (1) ، وكتاب الموصلي وغيره في أخبار مصر، وكما بلغنا سائر تآليفهم في أنحاء العلوم. وقد بلغنا تأليف القاضي أبي العباس محمد بن عبدون القيرواني في الشروط واعتراضه على الشافعي رحمه الله تعالى (2) ، وكذلك بلغنا رد القاضي [عبد الله بن] أحمد بن طالب التميمي على أبي حنيفة وتشنيعه على الشافعي (3) ، وكتب ابن عبدوس ومحمد بن سحنون (4) وغير ذلك من خوامل تآليفهم دون مشهورها. 8 - وأما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر " أزهد الناس في عالمٍ أهله ". وقرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال: " لا يفقد النبي حرمته إلأ في بلده ". وقد تيقنا ذلك بما لقي النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش، وهم أوفر الناس أحلاماً، وأصحهم عقولاً، وأشدهم تثبتاً، مع ما خصوا به من سكناهم أفضل البقاع، وتغذيتهم بأكرم المياه، حتى خص الله الأوس والخزرج بالفضيلة التي أبانهم بها عن جميع الناس، والله يؤتي فضله من يشاء. ولا سيما أندلسنا، فإنها خُصت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم، الماهر منهم، واستقلالهم، كثير ما يأتي به، واستهجانهم حسناته، وتتبعهم سقطاته وعثراته، وأكثر ذلك مدة حياته، بأضعاف ما في سائر البلاد. إن أجاد قالوا: سارقٌ مغير، ومنتحل مدع، وإن توسط قالوا: غثٌ بارد وضعيف ساقط، وإن باكر الحيازة لقصب السبق قالوا: متى كان هذا ومتى تعلم وفي أي زمان قرأ ولأمه الهَبَل. وبعد ذلك إن ولجت به الأقدار أحد طريقين إما شفوفاً بائناً يعليه على نظرائه، أو سلوكاً في غير السبيل التي عهدوها، فهنالك حمي الوطيس على البائس، وصار غرضاً للأقوال، وهدفاً للمطالب، ونصباً للتسبب إليه، ونهباً للألسنة، وعرضةً للتطرق إلى عرضه، وربما نحل ما لم يقل، وطوق ما لم يتقلد، وألحق به ما لم يفه به ولا اعتقده قلبه، وبالحرى، وهو السابق المبرز إن لم يتعلق من

_ (1) حمزة بن الحسن الأصبهاني: ترجم له أبو نعيم في تاريخ أصبهان 1: 300 وقد وصلنا من كتبه تواريخ سني ملوك الأرض والأنبياء، والدرة الفاخرة، وهي الأمثال التي جاءت على وزن أفعل التفضيل (ميونخ: 642 والفاتيكان: 526 وداماد إبراهيم: 963 وقد طبع في القاهرة بتحقيق الدكتور عبد المجيد قطامش) ، وشرح ديوان أبي نواس (نشر منه الجزء الأول والثاني بعناية فاغنر) ، ولم يوجد كتابه في أخبار أصبهان. (2) انظر الخشني: 306، وكان ابن عبدون قاضياً في القيروان؛ قال: وكان موثقاً كاتباً للشروط والوثائق (انظر علماء افريقية: 257، 297) . (3) انظر المالكي: 375، 504؛ قال: وله كتب يرد فيها على الشافعي لا بأس بها، وانظر علماء أفريقية 257، 297. (4) انظر الخشني: 182، 178، والمالكي: 360، 345 حيث ترجمة كل من ابن عبدوس وابن سحنون.

السلطان بحظ، أن يسلم من المتالف، وينجو من المخالف. فإن تعرض لتأليف غمز ولمز، وتعرض وهمز، واشتط عليه، وعظم يسير خطبه، واستشنع هين سقطه، وذهبت محاسنه، وسترت فضائله، وهتف ونودي بما أغفل، فتنكس لذلك همته، وتكل نفسه وتبرد حميته، وهكذا عندنا نصيب من ابتدأ يحوك شعراً، أو يعمل رسالة، فإنه لا يفلت من هذه الحبائل، ولا يتخلص من هذا النصب، إلا الناهض الفائت، والمطفف المستولي على الأمد. 9 - وعلى ذلك، فقد جُمع ما ظنه الظان غير مجموع، وألفت عندنا تآليف في غاية الحسن، لنا خطر السبق في بعضها، فمنها: كتاب الهداية لعيسى بن دينار (1) ، وهي أرفع كتب جمعت في معناها على مذهب مالك وابن القاسم، وأجمعها للمعاني الفقهية على المذهب، فمنها كتاب الصلاة وكتاب البيوع وكتاب الجدار في الأقضية وكتاب النكاح والطلاق. ومن الكتب المالكية التي ألفت بالأندلس: كتاب القطني مالك بن علي (2) ، وهو رجل قرشي من بني فهر، لقي أصحاب مالك، وأصحاب أصحابه، وهو كتاب حسن فيه غرائب ومستحسنات من الرسائل والمولدات. ومنها كتاب أبي إسحاق [يحيى بن] إبراهيم بن مزين (3) في تفسير الموطإ، والكتب المستقصية لمعاني الموطإ وتوصيل مقطوعاته من تآليف ابن مزين أيضاً. وكتابه في رجال الموطإ وما لمالك عن كل واحد منهم من الآثار في موطإه. وفي تفسير القرآن: كتاب أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد (4) ؛ فهو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا أستثني فيه انه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله، ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره. ومنها في الحديث مصنفه الكبير الذي رتبه على أسماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف. ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام، فهو مصنف ومسند، وما أعلم هذه الرتبة لأحدٍ قبله، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه، فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة وثمانين رجلاً ليس فيهم عشرة ضعفاء، وسائرهم أعلام

_ (1) الجذوة: 279 وابن دينار (توفي 212هـ) وكان يعجبه ترك الرأي والأخذ بالحديث، ولم يورد الحميدي أسماء كتبه. (2) الجذوة: 324 وابن الفرضي 2: 3 وهو من نسل عبد الملك بن قطن الفهري والي الأندلس (توفي 268 بعد أن كف بصره) وله مختصر في الفقه على مذهب مالك. (3) الجذوة: 350 وقد توفي يحيى سنة 209، وانظر أيضاً ابن الفرضي 2: 178. (4) الجذوة: 167 وهو ينقل النص الموجود هنا، وانظر ترجمته في الصلة 1: 118.

مشاهير، زمنها مصنفه في فضل (1) الصحابة والتابعين ومن دونهم، الذي أربى فيه على مصنف أبي بكر ابن أبي شيبة وصمنف عبد الرزاق بن همام ومصنف سعيد بن منصور وغيرها، وانتظم علماً عظيماً لم يقع في شيء من هذه، فصارت تآليف هذا الإمام الفاضل قواعد للإسلام لا نظير لها. وكان متخيراً لا يقلد أحداً، وكان ذا خاصة من أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه [وجارياً في مضمار أبي عبد الله البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري وأبي عبد الرحمن النسائي رحمة الله عليهم] (2) . ومنها في أحكام القرآن: كتب ابن آمة الحجاري (3) ، وكان شافعي المذهب بصيراً بالكلام على اختياره، وكتاب القاضي أبي الحكم منذر بن سعيد (4) وكان داودي المذهب، قوياً على الانتصار له، وكلاهما في أحكام القرآن غاية، ولمنذر مصنفات: منها كتاب الإبانة عن حقائق أصول الديانة. ومنها في الحديث: مصنف أبي محمد قاسم بن أصبغ بن يوسف بن ناصح (5) ، ومصنف محمد بن عبد الملك بن أيمن (6) ، وهما مصنفان رفيعان احتويا من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات، ولقاسم بن أصبغ هذا تآليف حسان جداً، منها أحكام القرآن على أبواب كتاب إسماعيل (7) وكلامه، ومنها كتاب المجتبى على أبواب كتاب ابن الجارود المنتقى وهو خير منه [انتقاء] (8) وأنقى حديثاً وأعلى سنداً وأكثر فائدة. ومنها كتاب في فضائل قريش وكنانة، وكتاب في الناسخ والمنسوخ، وكتاب [في] غرائب حديث مالك بن أنس مما ليس في الموطإ، ومنها كتاب التمهيد لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبد البر (9) ، وهو الآن في الحياة، لم يبلغ سن الشيخوخة، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً، فكيف أحسن منه. ومنها كتاب

_ (1) الجذوة: فتاوى، وهو أدقّ. (2) زيادة من الجذوة، وقال بعده: هذا آخر كلام أبي محمد. (3) في النفح: ابن أمية، والتصحيح عن الجذوة: 380 ونقل قول ابن حزم. (4) كان قاضي الجماعة في حياة الحكم المستنصر، وهو خطيب الأندلس وفقيهها، انظر الجذوة: 326، وطبقات الزبيدي: 319، وابن الفرضي 2: 142. ومن مصنفاته: الأدلة على استنباط الأحكام من كتاب الله. (5) الجذوة: 311، وتوفي ابن أصبغ سنة 340. (6) انظر الجذوة: 63، وتوفي ابن أيمن سنة 330. (7) هو إسماعيل بن إسحاق القاضي (الجذوة: 311) . (8) زيادة من الجذوة. (9) الجذوة: 344، 345 وهو ينقل نص هذه الرسالة، والصلة: 640، وتوفي ابن عبد البر سنة 463هـ.

الاستذكار وهو اختصار التمهيد المذكور. ولصاحبنا أبي عمر ابن عبد البر المذكور كتب لا مثل لها. منها كتابه المسمى بالكافي في الفقه على مذهب مالك وأصحابه خمسة عشر كتاباً (1) اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه وبوه وقربه فصار مغنياً عن التصنيفات الطوال في معناه. ومنها كتابه في الصحابة [سماه كتاب الاستيعاب في أسماء المذكورين في الروايات والسير والمصنفات من الصحابة رضي الله عنهم والتعريف بهم وتلخيص أحوالهم ومنازلهم وعيون أخبارهم على حروف المعجم، اثنا عشر جزءاً] (2) ليس لأحد من المتقدمين مثله، على كثرة ما صنفوا في ذلك، ومنها كتاب بهجة المجالس وأنس المجالس مما يجري في المذاكرات من غرر الأبيات ونوادر الحكايات. ومنها كتاب جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته (3) . ومنها كتاب شيخنا القاضي أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن الفرضي (4) في المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال، - ولم يبلغ عبد الغني الحافظ البصري في ذلك إلا كتابين، وبلغ أبو الوليد رحمه الله تعالى نحو الثلاثين - لا أعلم مثله في فنه البتة. ومنها تاريخ أحمد بن سعيد (5) ، ما وضع في الرجال أحد مثله، إلا ما بلغنا من تاريخ محمد بن موسى العقيلي البغدادي، لم أره. وأحمد بن سعيد هو المتقدم في التأليف القائم في ذلك. ومنها كتب محمد بن [أحمد بن] يحيى بن مفرج القاضي (6) وهي كثيرة، منها أسفار سبعة جمع فيها فقه الحسن البصري، وكتبٌ كثيرة جمع فيها فقه الزهري. ومما يتعلق بذلك شرح الحديث لقاسم بن ثابت السرقسطي (7) فما شآه أبو عبيد إلا

_ (1) الجذوة: ستة عشر جزءاً. (2) طبع في أربعة أجزاء في القاهرة. (3) أغفل ذكر الدرر في اختصار المغازي والسير وكتاب الشواهد في إثبات خبر الواحد وكتاب البيان عن تلاوة القرآن وكتاب التجويد والمدخل إلى العلم بالتجديد وكتاب العقل والعقلاء وكتاب أخبار أئمة الأنصار. أما كتاب جامع بيان العلم فقد طبع في جزئين (إدارة الطباعة المنيرية 1346هـ) وطبع مجرداً من الإسناد باسم مختصر جامع بيان العلم في جزء واحد؛ وأما بهجة المجالس فطبع أيضاً في مجلدين (القاهرة) كما طبع جزء من الاستذكار (القاهرة 1970) . (4) ابن الفرضي أبو الوليد هو الحافظ الرواية قتل في الفتنة 403، انظر الجذوة: 337 وقد وصلنا كتابه في تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس. (5) الجذوة: 117 وابن الفرضي 1: 55 وأحمد بن سعيد هو الصدفي (توفي سنة 350) ألف في تاريخ الرجال كتاباً كبيراً جمع فيه جميع ما أمكنه من أقوال الناس في العدالة والتجريح. (6) الجذوة: 38. (7) في أصول النفح: عامر بن خلف السرقسطي، والتصويب من الجذوة: 312 وقد نقل تعليق ابن حزم هنالك، حتى قوله: فقط.

بتقدم العصر فقط. ومنها في الفقه الواضحة، والمالكيون لا تمانع بينهم في فضلها واستحسانهم إياها. ومنها المستخرجة من الأسمعة وهي المعروفة ب " العتبية " (1) ولها عند أهل أفريقية القدر العالي والطيران الحثيث. والكتاب الذي جمعه أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام (2) الإشبيلي المعروف بابن المكوي (3) ، والقرشي أبو مروان المعيطي (4) ، في جمع أقاويل مالك، كلها على نحو الكتاب الباهر الذي جمع فيه القاضي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد المصري أقاويل الشافعي كلها. ومنها كتاب المنتخب الذي ألفه القاضي محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة (5) ، وما رأيت لمالكي قط كتاباً أنبل منه في جمع روايات المذهب [وتأليفها] وشرح مستغلقها، وتفريع وجوهها. وتآليف قاسم بن محمد (6) المعروف بصاحب الوثائق، وكلها حسن في معناه، وكان شافعي المذهب نظاراً، جارياً في ميدان البغداديين. 11 - ومنها في اللغة الكتاب البارع (7) الذي ألفه إسماعيل بن القاسم يحتوي على لغة العرب، وكتابه في المقصور والممدود والمهموز لم يؤلف مثله في بابه، وكتاب الأفعال لمحمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بابن القوطية (8) ، بزيادات ابن طريف (9) ، مولى العبديين، فلم يوضع في فنه مثله، وكتاب جمعه أبو غالب تمام بن

_ (1) الواضحة لعبد الملك بن حبيب والعتبية لتلميذه العتبي (الجذوة 264، 37) وها هنا يذكر ابن حزم ما تفتخر به الأندلس بقطع النظر عن رأيه هو فيه، لأنه لا يرى عبد الملك أو تلميذه من ثقات أهل الحديث، وفي الكتابين من غرائب الحديث ما لا يقبله مثل ابن حزم. (2) الجذوة: هاشم. (3) في أصول النفح: الكوي. (4) ترجمة ابن المكوي في الجذوة: 123، والصلة: 28 (توفي سنة 401) واسم المعيطي: محمد بن عبيد الله القرشي، وقد قال ابن بشكوال انهما جمعا الكتاب للمستنصر، أما الحميدي فذكر أنهما جمعاه بأمر المنصور ابن أبي عامر. واسم الكتاب المجموع " الاستيعاب ". (5) الجذوة: 91، ونقل هنالك رأي ابن حزم. (6) الجذوة: 310 وتوفي قاسم سنة 278 وله كتاب الإيضاح في الرد على المقلدين؛ وأعتقد أن النص هنا موجز، فقد قال الحميدي: وقد ذكر هـ أبو محمد في موضع آخر فمد في نسبه وقال: قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد المحدث.... [له] تحقق بمذهب الشافعي وتواليف فيه على مخالفته؛ أو لعل هذا النص مأخوذ عن مصدر آخر ليس هو رسالة ابن حزم هذه؛ ومن الغريب أن الحميدي لم ينقل نص الرسالة، في هذا الموضع، مع أنه نقل ما ورد عن قاسم في الفقرة التالية رقم: 21. (7) بقيت من هذا الكتاب قطعة أخرجها Fulton بالزنكوغراف، لندن 1933 (ط، بيروت: 1975) وهذا النص في الجذوة: 156. (8) في أصول النفح: محمد بن عامر العزي والتصويب عن الجذوة: 71، وقد وصلنا من كتبه كتاب الأفعال وكتاب افتتاح الأندلس. (9) انظر ترجمة ابن طريف في الجذوة: 381.

غالب المعروف بابن التياني في اللغة (1) ، لم يؤلف مثله اختصاراً وإكثاراً وثقة نقل، وهو أظن في الحياة بعد. وهاهنا قصة لا ينبغي أن تخلو رسالتنا منها، وهي: أن أبا الوليد عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الفرضي حدثني أن أبا الجيش مجاهداً صاحب الجزائر ودانية وجَّه إلى أبي غالب أيام غلبته على مرسية، وأبو غالب ساكن بها، ألف دينار أندلسية، على أن يزيد في ترجمة الكتاب المذكور " مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد " فرد الدنانير وأبى من ذلك ولم يفتح في هذا باباً البتة وقال: والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلت، ولا استجزت الكذب، لأني لم أجمعه له خاصة، بل لكل طالب [عامة] (2) فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها. ومنها كتاب أحمد بن أبان بن سيد (3) في اللغة المعروف بكتاب " العالم " نحو مائة سفر على الأجناس، في غاية الايعاب، بدأ بالفلك، وختم بالذرة، وكتاب النوادر (4) لأبي علي إسماعيل بن القاسم وهو مُبار لكتاب الكامل لأبي العباس المبرد، ولعمري لئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحواً وخبراً، فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعراً. وكتاب الفصوص لصاعد بن الحسن الربعي (5) وهو جار في مضمار الكتابين المذكورين. ومن الانحاء تفسير الجرفي (6) لكتاب الكسائي حسن في معناه، وكتاب ابن سيده في ذلك المنبوز ب " العالم والمتعلم " وشرح له لكتاب الأخفش (7) . 12 - ومما ألف في الشعر (8) : كتاب عبادة بن ماء السماء في أخبار شعراء

_ (1) الجذوة: 172، 380 وقد نقل الحكاية عن مجاهد العامري وابن التياني. وانظر أيضاً الصلة 1: 122 وكتاب ابن التياني يسمى تلقيح العين. (2) زيادة من الجذوة. (3) الجذوة: 110، والصلة: 14 وكان صاحب الشرطة بقرطبة، أخذ عن القالي كتاب النوادر، وتوفي سنة 382 وترجم له صاحب الجذوة مرة أخرى تحت " ابن أسيد ": 381 ونقل ما قاله ابن حزم هنا. (4) هو المشهور باسم " كتاب الأمالي "؛ ونقل الحميدي: 156 ما قاله فيه ابن حزم. (5) ترجمة صاعد في الجذوة: 223، والبغية رقم: 852 والذخيرة 1/4: 8. (6) في أصول النفح: الحوفي، والتصحيح عن الجذوة: 384 وضبطه بالجيم وضمها، وهو في البغية رقم: 1576. (7) ترجمة ابن سيده، رقم 892 في الصلة (2: 396) ، وهو صاحب المخصص والمحكم وغيرهما، وتوفي سنة 458، وقد ذكر الحميدي كتاب العالم والمتعلم وشرح كتاب الأخفش عند الكلام على ابن سيد المتقدم الذكر، ويبدو أن المصادر اضطربت في نسبة هذين الكتابين لتشابه الاسمين ولكن من الغريب أن يذكر ابن حزم مؤلفات ابن سيد في مكانين. (8) لم يذكر هنا كتاب أشعار الخلفاء من بني أمية لعبد الله بن محمد بن مغيث والد شيخه يونس المعروف بابن الصفار. انظر الجذوة: 235، حيث ذكر قصة تأليف هذا الكتاب نقلاً عن ابن حزم.

الأندلس (1) ، كتاب حسن، وكتاب الحدائق لأبي عمر أحمد بن فرج (2) ، عارض به كتاب الزهرة لأبي [بكر] محمد [بن] داود رحمه الله تعالى، إلا أن أبا بكر إنما أدخل مائة باب، في كل باب مائة بيت، وأبو عمر أورد مائتي باب في كل باب مائة بيت، ليس منها باب تكرر اسمه لأبي بكر، ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئاً، وأحسن الاختيار ما شاء وأجاد، فبلغ الغاية، وأتى الكتاب فرداً في معناه. ومنها كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس جمعه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسين الكاتب (3) وهو حي بعد. ومما يتعلق بذلك: شرح أبي القاسم إبراهيم بن محمد الافليلي لشعر المتنبي، وهو حسن جدّاً (4) . 13 - ومن الأخبار: تواريخ أحمد بن محمد بن موسى الرازي (5) في أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم وذلك كثيراً جداً، وكتاب له في صفة قرطبة وخططها ومنازل الأعيان بها، على نحو ما بدأ به ابن أبي طاهر في أخبار بغداد، وذكر منازل صحابة أبي جعفر المنصور بها. وتواريخ متفرقة رأيت منها: أخبار عمر بن حفصون القائم برية ووقائعه وسيره وحروبه. وتاريخ آخر في أخبار عبد الرحمن بن مروان الجليقي القائم بالجوف (6) . وفي أخبار بني قسي والتجيبيين وبني الطويل بالثغر (7) فقد رأيت من ذلك كتباً مصنفة في غاية الحسن، وكتاب مجزأ في أجزاء كثيرة في أخبار رية وحصونها [وولاتها] وحروبها وفقهائها وشعرائها تأليف إسحاق بن سلمة بن إسحاق القيني (8) . وكتاب محمد بن الحارث الخشني في أخبار القضاة بقرطبة وسائر

_ (1) عبادة بن ماء السماء: ترجم له في الجذوة: 274 والصلة: 426 والذخيرة 1/1: 468 ولابن حيان في المقتبس نقول عن كتاب لعبادة، وكذلك ينقل ابن سعيد في المغرب عن كتابه في طبقات الشعراء (انظر المغرب 1: 115، 125) . (2) أحمد بن فرج: ترجمته في الجذوة: 97 والصلة 1: 12 والمغرب 2: 56 واليتيمة 1: 368 وقلائد العقيان: 79، ولم يصلنا كتاب الحدائق ولكن الحميدي وابن الأبار في الحلية وابن سعيد في المغرب نقلوا عنه كثيراً. (3) علي بن محمد بن أبي الحسين الكاتب: ترجمته في الجذوة: 290 قال الحميدي: كان في الدولة العامرية وعاش إلى أيام الفتنة. (4) الجذوة: 142. (5) انظر النص في الجذوة: 97. (6) نظر المقتبس (انطونية) : 15 والجذوة: 260 وأشار إلى قول ابن حزم. (7) من أخبار هؤلاء الثائرين طرف في المقتبس وابن عذاري، وانظر في التعريف بهم وبأنسابهم كتاب الجمهرة: 464، أما التجيبيون فهم من العرب، وأما بنو قسي وبنو الطويل وهم بنو شبراط فإنهم من المولدين. (8) في أصول النفح: الليثي، وترجمته في الجذوة: 159 ونقل رأي ابن حزم؛ ومعجم البلدان (رية) .

بلاد الأندلس، وكتاب في أخبار الفقهاء بها (1) . وكتاب لأحمد بن محمد بن موسى في أنساب مشاهير أهل الأندلس (2) ، في خمسة أسفار ضخمة من أحسن كتابٍ في الأنساب وأوسعها، وكتاب قاسم بن أصبغ في الأنساب في غاية الحسن والإيعاب والإيجاز (3) . وكتابه في فضائل بني أمية (4) . وكان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره وانتشر ذكره (5) ، ومنها كتب مؤلفة في أصحاب المعاقل والأجناد الستة بالأندلس. ومنها كتب كثيرة جمعت فيها أخبار شعراء الندلس للمستنصر رحمه الله تعالى، رأيت منها أخبار شعراء البيرة في نحو عشرة أجزاء، ومنها كتاب الطوالع في أنساب أهل الأندلس، ومنها كتاب التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس [وملوكها] تأليف أبي مروان ابن حيان نحو عشرة أسفار، من أجل كتابٍ أُلف في هذا المعنى، وهو في الحياة بعد، لم يتجاوز الاكتهال (6) ، وكتاب المآثر العامرية لحسين بن عاصم (7) في سير ابن أبي عامر وأخباره، وكتاب الأقشتين محمد بن هاشم النحوي في طبقات الكتاب بالأندلس (8) . وكتاب سكن بن سعيد في ذلك (9) . وكتاب أحمد بن [محمد بن] فرج في المنتزين والقائمين بالأندلس وأخبارهم (10) . وكتاب أخبار أطباء الأندلس لسليمان بن جلجل (11) .

_ (1) توفي الخشني 361هـ، وترجمته في الجذوة: 49. وقد وصلنا كتابه في أخبار قضاة الأندلس الذي ألفه بطلب من الحكم المستنصر ونشره ريبيرا 1914 ونشر بمصر 1372 وكذلك وصلنا كتابه علماء أفريقية وهو مطبوع مع الكتاب الأول، وقول ابن حزم " بها " يدل على أن للخشني كتاباً في علماء الأندلس وفقهائها وهو غير الكتاب السابق. (2) الجذوة: 97، قال الحميدي: ولم يبين أبو محمد إن كان هو الأول (أي أخبار ملوك الأندلس) أو غيره لأنه ذكر ذلك في موضعين، وأنا أظن الذي قبله. (3) الجذوة: 312 وسقطت لفظة " والإيجاز ". (4) الجذوة (312) : فضائل قريش. (5) هذا أيضاً في الجذوة (نفسه) . (6) مؤرخ الأندلس المشهور حيان بن خلف أبو مروان، انظر ترجمته في الصلة 1: 150 والذخيرة 2/1: 84 - 114. وانظر ملحق بروكلمان 1: 578 لأسماء كتبه، وقد نشرت أربع قطع؛ م المقتبس ومن تواريخ ابن حيان نقول كثيرة في الكتب الأندلسية وبخاصة في الذخيرة؛ وقارن ما جاء في الجذوة: 188. (7) حسين بن عاصم: ترجمته في الجذوة: 181، ونقل رأي ابن حزم. (8) الأقشتين Augustine ترجمته في الجذوة: 82 والبغية رقم: 268 وطبقات الزبيدي: 305 وابن الفرضي 3: 216. (9) سكن بن سعيد: ترجمته في الجذوة: 181، ونقل رأي ابن حزم. (10) الجذوة: 97. (11) ألف ابن جلجل هذا الكتاب سنة 377 وقد نشر نشرة محققة جيدة بعناية الأستاذ فؤاد السيد رحمه الله (مطبعة المعهد الفرنسي بالقاهرة 1955) ، مع مقدمة ضافية في التعريف بالكتاب ومؤلفه؛ وانظر الجذوة: 208.

14 - وأمّا الطب: فكتب الوزير يحيى بن إسحاق وهي كتب رفيعة حسان (1) . وكتب محمد بن الحسن المذحجي أستاذنا رحمه الله تعالى، وهو المعروف بابن الكتاني، وهي كتب رفيعة حسان (2) . وكتاب التصريف [لمن عجز عن التأليف] لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي (3) ، وقد أدركناه وشاهدناه، ولئن قلنا إنه لم يؤلف في الطب أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع، لنصدقن. وكتب ابن الهيثم (4) في الخواص والسموم والعقاقير من أجل الكتب وأنفعها. 15 - وأما الفلسفة: فإني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيوناً مؤلفة لسعيد بن فتحون السرقسطي المعروف بالحمار، دالة على تمكنه من هذه الصناعة (5) ، وأما رسائل أستاذنا أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي في ذلك فمشهورة متداولة وتامة الحسن فائقة الجودة عظيمة المنفعة. 16 - وأما العدد والهندسة فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ، ولا تحققنا به، فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المحسن من المقصر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا، إلا أني سمعت من أثق بعقله ودينه من أهل العلم ممن اتفق على رسوخه فيه يقول: إنه لم يؤلف في الأزياج مثل زيج مسلمة (6) وزيج ابن السمح (7) ، وهما من أهل بلدنا. وكذلك

_ (1) يحيى بن إسحاق: ترجمته في ابن جلجل: 100 وابن أبي أصيبعة 3: 68 والجذوة: 351 والبغية رقم 1460؛ ونص الجذوة: " وله في ذلك كتب نافعة يعتمد عليها ". (2) محمد بن الحسن المذحجي: (يكتب ابن الحسين في طبقات صاعد وابن أبي أصيبعة، ويكتب ابن الحسن حيث ورد في مؤلفات ابن حزم من مطبوع ومخطوط) ترجمته في ابن أبي أصيبعة 3: 73 والجذوة: 45 والبغية رقم: 81 وله أيضاً كتاب التشبيهات، انظر المقدمة. (3) خلف بن عباس (في النفح: عياش) الزهراوي: ترجمته في ابن أبي أصيبعة 3: 85 والجذوة: 195 (ونقل كلام ابن حزم) والبغية رقم: 715 ومن كتابه التصريف نسخ مخطوطة في برلين وباريس وولي الدين وغيرها (راجع ملحق بروكلمان 1: 425) . (4) اسمه عبد الرحمن بن إسحاق وترجمته في ابن أبي أصيبعة: 74؛ وانظر الجذوة: 383 حيث نقل قول ابن حزم. (5) سعيد بن فتحون السرقسطي: ترجمته في الجذوة: 216 والبغية رقم: 813 وطبقات الأمم: 78 والذيل والتكملة 4: 40 وله تأليف في الموسيقى ورسالة في المدخل إلى علوم الفلسفة سماها " شجرة الحكمة " ورسالة في تعديل العلوم. نالته محنة أيام المنثور بن ابي عامر فهاجر إلى صقلية وبها توفي. (6) مسلمة: هو أبو القاسم مسلمة بن أحمد من أهل قرطبة توفي 398 وله تعديل زيج البتاني ولعله الذي يشير إليه ابن حزم (ابن أبي أصيبعة 3: 62 وطبقات الأمم: 78 وابن القفطي: 326 وانظر مؤلفاته التي وصلتنا في بروكلمان الملحق 1: 431) . (7) ابن السمح: أبو القاسم أصبغ بن محمد بن السمح المهندس الغرناطي كان في زمن الحكم ومن كتبه زيجه الذي ألفه على أحد مذاهب الهند توفي سنة 426 (ابن أبي أصيبعة 3: 62 وطبقات الأمم 79 وانظر مؤلفاته التي وصلتنا في تاريخ بروكلمان 1: 472 والملحق 1: 861) .

كتاب لأحمد بن نصر [في المساحة المجهولة] فما تقدم إلى مثله في معناه (1) . 17 - وإنما ذكرنا التآليف المستحقة للذكر، والتي تدخل تحت الأقسام السبعة التي لا يؤلف عاقل إلا في أحدها (2) ، وهي إما شيء لم يسبق إليه يخترعه أو شيء ناقص يتمه أو شيء مستغلق يشرحه أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء متفرق يجمعه أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مؤلفه يصلحه. وأما التآليف المقصرة عن مراتب غيرها فلم نلتفت إلى ذكرها، وهي عندنا من تأليف أهل بلدنا أكثر من أن نحيط بعلمها. 18 - وأما علم الكلام فإن بلادنا وإن كانت لم تتجاذب فيها الخصوم، ولا اختلفت فيها النحل، فقلَّ لذلك تصرفهم في هذا الباب، فهي على كل حال غير عرية عنه، وقد كان فيهم قوم يذهبون إلى الاعتزال، نظار على أصوله، ولهم فيه تآليف منهم: خليل بن إسحاق (3) ويحيى بن السمينة (4) والحاجب موسى بن حدير (5) وأخوه الوزير صاحب المظالم أحمد، وكان داعية إلى الاعتزال لا يستتر بذلك. 19 - ولنا على مذهبنا الذي تخيرناه من مذاهب أصحاب الحديث كتاب في هذا المعنى (6) ، وهو وإن كان صغير الجرم، قليل عدد الورق، يزيد على المائتين زيادة يسيرة، فعظيم الفائدة، لأنا أسقطنا فيه المشاغب كلها، وأضربنا على التطويل جملة، واقتصرنا على البراهين المنتخبة من المقدمات الصحاح الراجعة إلى شهادة الحس وبديهة العقل لها بالصحة، ولنا فيما تحققنا به تآليف جمة، منها ما قد تم، ومنها ما شارف التمام، ومنها ما قد مضى منه مصدر، ويعين الله تعالى على باقيه، لم نقصد به قَصْدَ

_ (1) انظر الجذوة: 139 وأورد ما قاله ابن حزم هنا. (2) انظر الجذوة: 139 وأورد ما قاله ابن حزم هنا. (3) خليل بن إسحاق: لعل صوابه خليل بن عبد الملك (ابن الفرضي 1: 165 والتكملة 1: 309) وهو ممن صحب ابن مسرة وكان يقول بالاستطاعة وتتلمذ له ابن السمينة. (4) يحيى بن السمينة توفي سنة 315، ترجمته في طبقات الأمم: 74 وابن الفرضي 2: 185. (5) موسى بن محمد بن جدير: ترجمته في الجذوة 316 والبغية رقم: 1320 وأخوه أحمد بن محمد بن جدير ولي أيضاً الوزارة والقيادة لعبد الرحمن الناصر. (6) لعله يعني كتاب " المجلى " الذي شرحه في " المحلى ".

مباهاةٍ فنذكرها، ولا أردنا السمعة فنسميها، والمراد بها ربنا جل وجهه، وهو ولي العون فيها، والمليّ بالمجازاة عليها، وما كان الله تعالى فسيبدو، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 20 - وبلدنا هذا على بعده من ينبوع العلم، ونأيه من محلة العلماء، فقد ذكرنا من تآليف أهله ما إن طُلب مثلها بفارس والأهواز وديار مضر وديار ربيعة واليمن والشام، أعوز وجود ذلك، على قرب المسافة في هذه البلاد من العراق التي هي دار هجرة الفهم وذويه ومراد المعارف وأربابها. 21 - ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي (1) في الشعر، لم نباهِ إلا جريراً والفرزدق لكونه في عصرهما، ولو أنصف لاستشهد بشعره، فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين. وإذا سمينا بقي بن مخلد لم نسابق به إلا محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري وسليمان بن الأشعث السجستاني وأحمد بن شعيب النسائي، وإذا ذكرنا قاسم بن محمد (2) لم نباهِ به إلا القفال () ومحمد بن عقيل الفريابي، وهو شريكهما في صحبة المزني أبي (3) إبراهيم والتلمذة له، وإذا نعتنا عبد الله بن قاسم بن هلال ومنذر بن سعيد لم نجار بهما إلا أبا الحسن ابن المغلس والخلال والديباجي ورويم بن أحمد وقد شركهم عبد الله في أبي سليمان (4) وصحبته. وإذا أشرنا إلى محمد بن يحيى بن لبابة (5) وعمه محمد بن عمر وفضل بن سلمة لم (6) نناطح بهم إلا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن سحنون ومحمد بن عبدوس. وإذا صرحنا بذكر محمد بن يحيى الرباحي (7) وأبي عبد الله محمد بن عاصم لم يقصرا عن أكابر أصحاب محمد بن يزيد المبرد. ولو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا أحمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار بن برد وحبيب والمتنبي (8) فكيف ولنا معه جعفر بن عثمان الحاجب وأحمد بن

_ (1) ترجمة جعونة في الجذوة 177 والبغية رقم: 626 والمغرب 1: 131 وهم يوردون رأي ابن حزم في جعونة. (2) انظر النص في الجذوة: 310. (3) في أصول النفح: ابن. (4) يعني داود بن علي؛ وانظر النص في الجذوة: 246. (5) الجذوة: 71 والبغية رقم: 222. (6) فضل بن سلمة الجهني مولاهم توفي سنة 317 أو 319، انظر الجذوة: 308 والبغية رقم: 1283. (7) محمد بن يحيى الرباحي: ترجمته في الجذوة: 91 والبغية رقم: 312 (وهنالك ما قاله فيه ابن حزم) وابن الفرضي 2: 71 والقفطي 3: 372 وبغية الوعاة: 113 والرباحي نسبة إلى قلعة رباح. (8) ولو لم يكن.... والمتنبي: نقله الحميدي في الجذوة: 105 - 106.

عبد الملك بن مروان (1) وأغلب بن شعيب (2) ومحمد بن [مطرف بن] شخيص (3) وأحمد بن فرج وعبد الملك بن سعيد المرادي (4) ، وكل هؤلاء فحل يهاب جانبه، وحصان ممسوح الغرة. ولنا من البلغاء أحمد بن عبد الملك بن شهيد (5) صديقنا وصاحبنا وهو حي بعد، لم يبلغ سن الاكتهال، وله من التصرف في وجوه البلاغة وشعابها مقدار يكاد ينطق فيه بلسان مركب من لساني عمرو وسهل (6) . ومحمد بن عبد الله بن مسرة (7) في طريقه التي سلك فيها وإن كنا لا نرضى مذهبه، في جماعة يكثر تعدادهم. وقد انتهى ما اقتضاه خطاب الكاتب رحمه الله تعالى من البيان، ولم نتزيد فيما رغب فيه إلا ما دعت الضرورة إلى ذكره لتعلقه بجوابه، والحمد لله الموفق لعلمه، والهادي إلى الشريعة المزلفة منه والموصلة، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وكرم. انتهت الرسالة

_ (1) الجذوة: 123. (2) الجذوة: 84 والمغرب 1: 203. (3) الجذوة: 84. (4) الجذوة: 266. (5) انظر الذخيرة 111: 191 - 336. (6) يعني عمرو بن بحر الجاحظ وسهل بن هارون؛ وهذا النص نقله الحميدي في الجذوة: 124. (7) في ابن مسرة ومذهبه كتاب مستوفى للمستشرق آثين بلاسيوس وخلاصة عنه في تاريخ الفكر الأندلسي لبالنثيا، وفصل موجز في كتابي تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة.

ملحقات

ملحقات

فراغ

ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس

الملحق (1) ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس (1) [ولاية الأمير عبد الرحمن بن معاوية] أول أمراء بني أمية بالأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، يُكنى أبا المُطَرِّف، مولده بالشام سنة ثلاث عشرة ومائة، وأُمُّه أم ولد اسمها راح؛ هرب لما ظهرت دولة بني العباس، ولم يزل مستتراً إلى أن دخل الأندلس سنة ثمان وثلاثين ومائة في زمن أبي جعفر المنصور، فقامت معه اليمانية، وحارب يوسف ابن عبد الرحمن بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري الوالي على الأندلس (2) فهزمه، واستولى عبد الرحمن على قُرطبة يوم الأضحى من العام المذكور، فاتصلت ولايته إلى أن مات سنة اثنتين وسبعين ومائة. كذا قال لنا أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الفقيه: يوسف بن عبد الرحمن ابن أبي عبيدة. ورأيت في غير موضع يوسف بن عبد الرحمن بن أبي عبدة، فالله أعلم. وكان عبد الرحمن بن معاوية من أهل العلم، وعلى سيرة جميلة من العدل. ومن قُضاته: معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي (3) . وله أدبٌ وشعر، ومما أنشدونا له يتشوق إلى معاهده بالشام قوله (4) : [من الخفيف] أيها الرَّاكب المُيَمِّمُ أرضي ... أقْر من بعضيَ السلام لبعضي

_ (1) انظر جذوة المقتبس للحميدي ص 10 - 34. (2) اشتد الخلاف بين القبائل في الأندلس على أثر ضعف الدولة الأموية بالمشرق، ثم اتفقت القبائل على تقديم قرشي يجمع الكلمة إلى أن تستقر الأمور بالشام فقدموا يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وقد انتصر عبد الرحمن على يوسف، وجرى الصلح بينهما إلا أن يوسف عاد فنقض الصلح سنة 141 وقتل سنة 142 (انظر نهاية الأرب 22: 5 - 6) . (3) قيل حجَّ سنة 154 وتوفي سنة 158 (وقيل حجَّ سنة 168) ولذلك أرخ بعضهم وفاته سنة 168 أو 172 أو سنة 185. كان فقيهاً، أما في الحديث فإن ابن حزم يضعفه (انظر الجزء الأول من الرسائل: 435؛ وراجع ترجمته في ابن الفرضي 2: 137 والجذوة: 318 والنباهي: 43) . (4) الأبيات في الحلة السيراء 1: ى36 وذكر بلاد الأندلس: 97 والنفح 3: 38، 54 والمعجب: 41.

ولاية الأمير هشام بن عبد الرحمن

إن جسمي، كما علمتَ، بأرضٍ ... وفُؤادي ومالكيه بأَرض قُدِّر البينُ بينَنا فافترقنا ... وطوى البينُ عن جفوني غَمضي قد قضى اللهُ بالفراق علينا ... (1) فَعسَى باجتماعِنا سوفَ يَقْضي ولاية الأمير هشام بن عبد الرحمن ثم ولي بعد عبد الرحمن ابنه هشام، يُكنى أبا الوليد، وسنُّه حينئذٍ ثلاثون سنة، فاتصلت ولايته سبعة أعوام إلى أن مات في صفر سنة ثمانين ومائة، وكان حسن السيرة متحرياً (2) للعدل، يعود المرضى ويشهد الجنائز، أُمُّه حَوراء. ولاية الحكم بن هشام ثم ولي بعده ابنه الحكم، وله اثنتان وعشرون سنة، يُكنى أبا العاص، أُمُّه أُمُّ ولد اسمها زُخْرُف؛ وكان طاغياً مُسرفاً (3) ، وله آثار سوءٍ قبيحة، وهو الذي أوقع بأهل الربض الوقعة المشهورة فقتلهم وهدم ديارهم ومساجدهم؛ وكان الرَّبَضُ مَحلة متصلة بقصره، فاتهمهم في بعض أمره، ففعل بهم ذلك، فسُمِّي الحكم الرَّبَضيّ لذلك؛ واتصلت ولايته إلى أن مات في آخر ذي الحجة سنة ست ومائتين. ولاية عبد الرحمن بن الحكم ثم ولي بعده ابنه عبد الرحمن، يُكنى أبا المطرف، وله ثلاثون سنة، وأُمُّه أُمُّ ولد اسمها حَلاوة، فاتصلت ولايته إلى أن مات في صفر سنة ثمان وثلاثين ومائتين؛ وكان وادعاً محمود السيرة. ولاية الأمير محمد بن عبد الرحمن ثم ولي بعده ابنه محمد يُكنى أبا عبد الله، وأُمُّه أُمُّ ولد اسمها تهتز؛ فاتصلت ولايته إلى أن مات في آخر صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين. قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: وكان مُحباً للعلوم مؤثراً لأهل الحديث، عارفاً، حسن السيرة؛ ولما دخل الأندلس أبو عبد الرحمن بقي بن مَخْلَدٍ (4) بكتاب " مُصنف "

_ (1) كانت مدة ولايته منذ استولى على قرطبة إلى أن توفي اثنتين وثلاثين سنة. (2) في الأصل: متحيزاً، والتصويب عن المعجب. (3) انظر ما تقدم في رسالة نقط العروس، الفقرة: 31، 33. (4) بقي بن مخلد من حفاظ المحدثين وأئمة الدين رحل إلى المشرق فروى عن الأئمة وكتب المصنفات الكبار وبالغ في الجمع والرواية وكانت وفاته على الأرجح سنة 276 (الجذوة: 167 والصلة 1: 118 وانظر ما ورد في رسالة فضل الأندلس، الفقرة: 10) .

ولاية المنذر بن محمد

أبي بكر بن أبي شيبة وقُرئ عليه، أنكر جماعةٌ من أهل الرأي ما فيه من الخلاف واستشنعوه، وبسطوا العامة عليه، ومنعوه من قراءته، إلى أن اتصل ذلك بالأمير محمد، فاستحضره وإياهم، واستحضر الكتاب كله، وجعل يتصفحه جزءا جزءاً إلى أن أتى على آخره، وقد ظنوا أنه يوافقهم في الإنكار عليه، ثم قال لخازن الكتب: هذا كتاب لا تستغني خزانتنا عنه، فانظر في نسخه لنا؛ ثم قال لبقي بن مخلد: انشر علمك، وارو ما عندك من الحديث، واجلس للناس حتى ينتفعوا بك. أو كما قال، ونهاهم أن يتعرضوا له (1) . ولاية المنذر بن محمد ثم ولي بعده ابنه المنذر بن محمد، ويُكنى أبا الحكم. وأُمه أم ولد اسمها أثْل، وكان مولده في سنة تسع وعشرين ومائتين، فاتصلت ولايته سنتين غير خمسة عشر يوماً، ومات وهو على قلعة يقال لها بباشتر محاصراً لعمر بن حفصون: خارجي قام هناك وتحصن. وكان موته في سنة خمس وسبعين ومائتين؛ وقد انقرض عقِبُ المنذر. ولاية عبد الله بن محمد فَوليَ بعده أخوه عبد الله بن محمد، وكان مولده سنة ثلاثين ومائتين؛ يُكنى أبا محمد. أُمُّه أُم ولد اسمها عشار، طال عمرها إلى أن ماتت قبل موته بسنةٍ وشهر؛ وكان وادعاً لا يشرب الخمر، وفي أيامه امتلأت الأندلس بالفتن، وصار في كل جهةٍ متغلب، فلم يزل كذلك طول ولايته إلى أن مات مُستهل ربيع الأول سنة ثلاثمائة. ولاية عبد الرحمن الناصر ثم ولي بعده ابن ابنه عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، وكان والده محمد قد قتله أخوه المُطرف بن عبد الله في صدر دولة أبيهما عبد الله، وترك ابنه عبد الرحمن

_ (1) في ترجيح وفاة بقي (276) قال الحميدي: إن الأمير عبد الله بن محمد شاور الفقهاء وفيهم بقي بن مخلد ... فصحَّ كونه حياً في أيام عبد الله (خلافاً لمن قال إنه توفي سنة 273) وكانت ولايته في سنة خمس وسبعين وتمادت إلى الثلاثمائة، هكذا أخبرنا أبو محمد فيما جمعه من ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس.

ولاية الحكم المستنصر

هذا وهو ابن عشرين يوماً، فولي الأمر وله اثنتان وعشرون سنة. قال لي أبو محمد عليُّ بن أحمد: وكانت ولايته من المستطرف، لأنه كان في هذا الوقت شاباً، وبالحضرة جماعة أكابر من أعمامه وأعمام أبيه، وذوي القعْدُدِ في النسب من أهل بيته، فلم يعترض معترض واستمر له الأمر، وكان شهماً صارماً. وكلُّ من ذكرنا من الأمراء أجداده إلى عبد الرحمن بن محمد هذا، فليس منهم أحد تسمى بإمرة المؤمنين، وإنما كان يسلم عليهم، ويخطب لهم بالإمارة فقط؛ وجرى على ذلك عبد الرحمن بن محمد إلى آخر السَّنة السابعة عشرة من ولايته، فلما بلغه ضعف الخلافة بالعراق في أيام المقتدر، وظهور الشيعة بالقيروان، تسمى عبد الرحمن بأمير المؤمنين، وتلقب بالناصر لدين الله. وكان يُكنى أبا المُطَرِّف، وأُمه أُم ولد اسمها مُزْنة، ولم يزل منذ ولي يستنزل المتغلبين حتى استكمل إنزال جميعهم في خمس وعشرين سنةً من ولايته، وصار جميع أقطار الأندلس في طاعته، ثم اتصلت ولايته إلى أن مات في صدر رمضان سنة خمسين وثلاثمائة، ولم يبلغ أحد من بني أُمية في الولاية مُدّتَه فيها. ولاية الحكم المستنصر ثم ولي بعده ابنه الحكم بن عبد الرحمن، ويلقب بالمستنصر بالله، وله إذ ولي سبعٌ واربعون سنة، يُكنى أبا العاص؛ أُمه أُمُّ ولد اسمها مَرجان، وكان حسن السيرة، جامعاً للعلوم محباً لها مكرماً لأهلها، وجمع من الكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحدٌ من الملوك قبله هنالك (1) ، وذلك بإرساله عنها إلى الأقطار، واشترائه لها بأغلى الأثمان، ونفق ذلك عليه فحُمِل إليه. وكان قد رام قطع الخمر من الأندلس وأمر بإراقتها وتشدد في ذلك، وشاور في استئصال شجرة العنب من جميع أعماله، فقيل له إنهم يعملونها من التين وغيره، فتوقف عن ذلك. وفي أمره بإراقة الخمور في سائر الجهات يقول أبو عمر يوسف بن هارون الكندي (2) قصيدته المشهورة فيها، متوجعاً لشاربها، وإنما أوردناها تحقيقاً لما ذكرنا عنه من ذلك، وهي قوله: [من الوافر]

_ (1) راجع عن اهتمام الحكم بالعلوم واستعماله لذلك شتى الوسائل كتاب: تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة. (2) هو الرمادي الشاعر، انظر الجزء الأول من رسائل ابن حزم: 120.

بخطب الشاربين يضيق صدري ... وترمضني بليتهم لعمري وهل هم غير عشاق أصيبوا ... بفقد حبائبٍ ومنوا بهجر أعُشاق المُدامة إن جزعتم ... لفرقتهم فليس مكان صبر سعى طلابكم حتى أُريقت ... دماءً فوق وجه الأرض تجري تضوع عرفها شرقاً وغرباً ... وطبق أفق قُرطبة بعطر فقل للمسفحين لها بسفحٍ ... وما سكنته من ظرف بكسر وللأبواب إحراقاً إلى أن ... تركتم أهلها سكان قفر تحريتم بذاك العدل فيها ... بزعمكم فإن يكُ عن تَحري فإن أبا حنيفة وهو عدلٌ ... وفر عن القضاء مسير شهر فقيه لا يدانيه فقيهٌ ... إذا جاء القياس أتى بدر وكان من الصلاة طويل ليل ... يقطعه بلا تغميض شفر وكان له من الشراب جارٌ ... يواصل مغرباً فيها بفجر وكان إذا انتشى غنى بصوت ال ... مضاع بسجنه من آل عمرو " أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... (1) ليومِ كريهة وسداد ثغر " فغيب صوت ذاك الجار سجنٌ ... ولم يكن الفقيه بذاك يدري فقال، وقد مضى ليلٌ وثانٍ ... ولم يسمعه غنى: " ليت شعري أجاري المؤنسي ليلاً غناء ... لخير قطع ذلك أم لشر " فقالوا إنه في سجن عيسى ... أتاه به المحارس وهو يسري فنادى (2) بالطويلة وهي مما ... يكون برأسه لجليل أمر ويمَّم جاره عيسى بن موسى ... فلاقاه بإكرام وبر وقال: أحاجةٌ عَرضت فإني ... لقاضيها ومتبعها بشكر فقال: سجنت لي جاراً يسمى ... بعمرو قال: يطلق كل عمرو بسجني حين وافقه اسم جار ال ... فقيه ولو سجنتهم بوتر فأطلقهم له عيسى جميعاً ... لجارٍ لا يبيت بغير سكر فإن أحببت قل لجوار جارٍ ... وإن أحببت قل لطلاب أجر فإن أبا حنيفة لم يَؤُبْ من ... تطلبه تخلصه بوزر

_ (1) البت للعرجي الشاعر الأموي. (2) يعني القلنسوة، وكان الفقهاء والقضاة يلبسون قلانس طوالاً.

ولاية هشام المؤيد

نواقعها من اجل النهي سراً ... (1) وكم نهيٍ نواقعه بجهر وكان الحكم المستنصر مواصلاً لغزو الروم، ومن خالفه من المحاربين، فاتصلت ولايته إلى أن مات في صفر سنة ست وستين وثلاثمائة؛ وقد انقرض عقبه (2) . ولاية هشام المؤيد ثم ولي بعده ابنه هشام يُكنى أبا الوليد، وأُمه أُمُّ ولد تسَّى صُبح، وكان له إذْ ولي عشرةُ أعوام وأشهر (3) ، فلم يزل متغلباً عليه، لا يظهر ولا ينفذ له أمر. وتغلب عليه أبو عامر مُحمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور، فكان يتولى جميع الأمور إلى أن مات. فصار مكانه أخوه عبد الرحمن بن محمد الملقب بالناصر، فخلط وتسمى ولي العهد، وبقي كذلك أربعة أشهر، إلى أن قام عليه محمد بن هشام بن عبد الجبار يوم الثلاثاء لثمان عشرة ليلة خلت من جُمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فخلع هشام بن الحكم وأسلمت الجيوش عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر، فقتل وصلب. وبقي كذلك إلى أن قتل محمد بن هشام بن عبد الجبار وصُرف هشام المؤيد إلى الأمر، وذلك يوم الأحد السابع من ذي الحجة سنة أربعمائة، فبقي كذلك وجيوش البربر تحاصره مع سليمان بن الحكم بن سليمان، واتصل ذلك إلى خمسٍ خلون من شوال سنة ثلاث وأربعمائة، فدخل البربر مع سليمان قُرطبة، وأخلوها من أهلها، حاشا المدينة وبعض الربض الشرقي، وقُتل هشام. وكان في طول دولته متغلباً عليه لا ينفذ له أمر وتغلب عليه في هذا الحصار واحدٌ بعد واحدٍ من العبيد، ولم يولد له قط. ولاية محمد بن هشام المهدي قام محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، على هشام بن الحكم في جُمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فخلعه وتسمى بالمهدي، وبقي كذلك إلى أن قام عليه يوم الخميس لخمسٍ خلون من شوال سنة تسع وتسعين، هشام بن

_ (1) شرح الحميدي هنا القصة التي تروى عن أبي حنيفة وجاره السكير، وهي رواية الحميدي نفسه عن الخطيب البغدادي، ولا دخل لابن حزم بها. (2) يريد أن المستنصر لم يعقب إلا هشاماً، وهشام لم يعقب، فبذلك انقرض عقبه وعقب أبيه (الجمهرة: 100) . (3) الجمهرة: ابن أحد عشر عاماً.

ولاية سليمان بن الحكم المستعين

سليمان بن الناصر مع البربر، فحاربه بقية يومه والليلة المُقبلة، وصبيحة اليوم الثاني، وقام عليه عامة أهل قرطبة مع محمد بن هشام، فانهزم البربر، وأُسر هشام بن سليمان، فأُتي [به] إلى المهدي فضرب عُنقه. واجتمع البربر عند ذلك فقدموا على أنفسهم سليمان بن الحكم بن سليمان [بن] الناصر ابن أخي هشام القائم المذكور، ونهض بهم إلى الثغر، فاستجاش بالنصارى وأتى بهم إلى باب قُرطبة، وبرز إليه جماعة أهل قرطبة، فلم تكن إلا ساعة حتى قتل من أهل قُرطبة نيف على عشرين ألف رجل في جبل هناك يعرف بجبل قنطيش، وهي الوقعة المشهورة، ذهب فيها من الخيار وأئمة المساجد والمؤذنين خلق عظيم، واستتر محمد بن هشام المهدي أياماً ثم لحق بطُلَيْطُلَة، وكانت الثغور كلها من طُرْطُوشة إلى الأشبونة باقيةً على طاعته ودعوته، فاستجاش بالأفرنج، وأتى بهم إلى قرطبة، فبرز إليه سليمان بن الحكم مع البربر إلى موضع بقرب قرطبة على نحو بضعة عشر ميلاً يُدعى عقبة البقر، فانهزم سليمان والبربر، واستولى المهدي على قرطبة، ثم خرج بعد أيام إلى قتال جُمهور البربر، وكانوا قد صاروا بالجزيرة فالتقوا بوادي آرُ، فكانت الهزيمة على محمد بن هشام، وانصرف إلى قرطبة فوثب عليه العبيد مع واضح الصقلبي، فقتلوه وصرفوا هشاماً المؤيد كما ذكرنا قبل، فكانت مدة ولاية محمد المهدي مذ قام إلى أن قتل ستة عشر شهراً من جملتها الستة الأشهر التي كان فيها سليمان بقرطبة، وكان هو بالثغر؛ وكان يكنى أبا الوليد، أمه أم ولد تسمى مُزنة، وكان له ولد اسمه عبيد الله، انقرض ولا عقب للمهدي، وكان مولد المهدي في سنة ست وستين وثلاثمائة. ولاية سليمان بن الحكم المستعين قام سليمان بن الحكم كما ذكرنا يوم الجمعة لست خلون من شوال سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وتلقب بالمستعين بالله، ثم دخل قرطبة كما ذكرنا في ربيع الآخر سنة أربعمائة، وتلقب حينئذ بالظافر بحول الله مضافاً إلى المستعين، ثم خرج عنها في شوال سنة أربعمائة فلم يزل يجول بعساكر البربر في بلاد الأندلس، يفسد وينهب ويقفر المدائن والقُرَى بالسيف والغارة، لا تُبقي البربر معه على صغير ولا كبير ولا امرأة، إلى أن دخل قرطبة في صدر شوال سنة ثلاث وأربعمائة. وكان من جملة جُنده رجلان من وَلَد الحسن بن علي بن أبي طالب، يُسَمَّيان القاسم وعليا ابني حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمرو بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقودهما على المغاربة ثم ولَّى

أحدهما سبتة وطنجة، وهو علي الأصغر منهما؛ وولي القاسم الجزيرة الخضراء، وبين الموضعين المجاز المعروف بالزقاق، وسعة البحر هناك اثنا عشر ميلاً. وافترق العبيد، إذ دخل البربر مع سليمان قرطبة، فملكوا مدناً عظيمة، وتحصنوا فيها، فراسلهم علي بن حمود المذكور، وقد حدث له طمعٌ في ولاية الأندلس، وكتب إليهم يذكر لهم أن هشام بن الحكم إذ كان محاصراً بقرطبة كتب إليه يوليه عهده، فاستجابوا له وبايعوه، فزحف من سبتة إلى مالقة، وفيها عامر بن فتوح الفائقي مولى فائق، مولى الحكم المستنصر، فأطاع له وأدخله مالقة، فتملكها علي بن حمود، وأخرج عنها عامر بن فتوح، ثم زحف بمن معه من البربر وجمهور العبيد إلى قرطبة، فخرج إليه محمد بن سليمان في عساكر البربر، فانهزم محمد بن سليمان، ودخل علي بن حمود قرطبة وقتل سليمان بن الحكم صبراً، ضرب عنقه بيده يوم الأحد لتسع بقين من المحرم سنة سبع واربعمائة، وقتل أباه الحكم بن سليمان بن الناصر أيضاً في ذلك اليوم، وهو شيخ كبير له اثنتان وسبعون سنة، فكانت مدة سليمان مذ دخل قرطبة إلى أن قتل ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر وأياماً، وقد كان ملكها قبل ذلك ستة أشهر وأياماً، وانقطعت دولة بني أمية في هذا الوقت وذكرهم على المنابر في جميع أقطار الأندلس، إلى أن عاد بعد ذلك في الوقت الذي نذكره إن شاء الله. وكانت أمه أم ولد اسمها ظبية، ومولده سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وترك من الولد ولي عهده محمداً لم يعقب، والوليد ومسلمة. وكان سليمان أديباً شاعراً، أنشدني أبو محمد علي بن أحمد قال: أنشدني فتى من ولد إسماعيل بن إسحاق المنادي الشاعر (1) كان يكتب لأبي جعفر أحمد بن سعيد بن الدّب قال، أنشدني أبو جعفر قال، أنشدني أمير المؤمنين سليمان الظافر لنفسه، قال أبو محمد: وأنشدنيها قاسم بن محمد المرواني (2) قال: أنشدنيها وليد بن محمد الكاتب لسليمان الظافر (3) : [من الكامل]

_ (1) ترجم الحميدي: 152: لإسماعيل بن إسحاق المنادي ثم لإسحاق بن إسماعيل المنادي (158) : ثم قال: هكذا وقع هذا الاسم فيما قيدته بالأندلس، وقد تقدم في باب إسماعيل: إسماعيل بن إسحاق المنادي فلا أدري أهو والد هذا أو ولده أو قد وقع الغلط في تبديل اسمه.... وأبو محمد موثوق بضبطه وإتقانه ومعرفته بالرجل وزمانه. (2) هو المعروف بالشبانسي، كان شاعراً أديباً في الدولة العامرية (الجذوة: 310 وبغية الملتمس رقم: 1296) . (3) الأبيات في الذخيرة 1/1: 47 والبيان المغرب 3: 118 والحلة 2: 8 والمعجب (دوزي) : 31 والنفح 1: 430.

ولاية علي بن حمود الناصر

عجباً يهاب الليث حد سناني ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان وأقارع الأهوال لا مُتهيباً ... منها سوى الإعراض والهجران وتملكت نفسي ثلاثٌ كالدمى ... زُهر الوجوه نواعم الأبدان ككواكب الظلماء لحن لناظر ... من فوق أغصان على كثبان هذي الهلال وتلك بنت المشتري ... حُسناً وهذي أُخت غصن البان حاكمت فيهن السلو إلى الصبا ... فقضي بسلطان على سلطاني فأبحن من قلبي الحمى وثنينني ... في عز ملكي كالأسير العاني لا تعذلوا ملكاً تذلل للهوى ... ذُلُّ الهوى عزٌّ وملك ثاني ما ضر أني عبدهن صبابةً ... وبنو الزمان وهن من عبداني إن لم أُطع فيهن سلطان الهوى ... كلفاً بهن فلست من مروان وإذا الكريم أحب أمن إلفه ... خطب القلى وحوادث السُّلوان وإذا تجارى في الهوى أهل الهوى ... عاش الهوى في عبطة وأمان وهذه الأبيات معارضةٌ للأبيات التي تنسب إلى هارون الرشيد، وأنشدنيها له (1) أبو محمد عبد الله بن عثمان بن مروان العمري وهي (2) : [من الكامل] ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان مالي تطاوعني البرية كلها ... وأُطيعهن وهن في عصيان ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعزُّ من سلطاني ولاية علي بن حمود الناصر تسمَّى بالخلافة وتلقب بالناصر، ثم خالف عليه العبيد الذين كانوا بايعوه وقدموا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وسموه المرتضى، وزحفوا إلى أغرناطة التي تغلب عليها البربر، ثم ندموا على إقامته لما رأوا من صرامته، وخافوا عواقب تمكنه وقدرته، فانهزموا عنه ودسوا عليه من قتله غيلة، وخفي أمره، وبقي علي بن حمود بقرطبة مستمر الأمر عامين غير شهرين، إلى أن قتله صقالبة له في الحمام سنة ثمان وأربعمائة. وكان له من الولد يحيى وإدريس.

_ (1) هذا هو ما يقوله الحميدي لا ابن حزم لأن العمري نحوي فقيه شاعر قرأ عليه الحميدي الأدب ومات قريباً من سنة 440 (الجذوة: 245) . (2) انظر مصادر الأبيات السابقة، وأضف إليها الأغاني 16: 269 والغيث 2: 326، وقد أدرجت هذه الأبيات نفسها في ديوان العباس بن الأحنف: 279.

ولاية القاسم بن حمود المأمون

ولاية القاسم بن حمود المأمون فولي بعده أخوه القاسم بن حمود، وكان أسن منه بعشرة أعوام، وتلقب بالمأمون، وكان وادعاً أمن الناس معه، وكان يُذكر عنه أنه يتشيع، ولكنه لم يظهر ذلك، ولا غير للناس عادة ولا مذهباً، وكذلك سائر من ولي منهم بالأندلس، فبقي القاسم كذلك إلى شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، فقام عليه ابن أخيه يحيى بن علي بن حمود بمالقة، فهرب القاسم عن قرطبة بلا قتال وصار بإشبيلية، وزحف ابن أخيه المذكور من مالقة بالعساكر، فدخل دون مانع وتسمى بالخلافة، وتلقب بالمعتلي، فبقي كذلك إلى أن اجتمع للقاسم أمره، واستمال البربر وزحف بهم إلى قرطبة، فدخلها في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وهرب يحيى بن علي إلى مالقة، فبقي القاسم بقرطبة شهوراً اضطرب أمره، وغلب ابن أخيه يحيى على الجزيرة المعروفة بالجزيرة الخضراء، وهي كانت معقل القاسم وبها كانت امرأته وذخائره، وغلب ابن أخيه الثاني إدريس بن علي صاحب سبتة على طنجة، وهي كانت عدة القاسم ليلجأ إليها إن رأى ما يخاف بالأندلس. وقام عليه جماعة أهل قرطبة في المدينة، وأغلقوا أبوابها دونه، فحاصرهم نيفاً وخمسين يوماً، وأقام الجمعة في مسجد ابن أبي عثمان. ثم إن أهل قرطبة زحفوا إلى البربر، فانهزم البربر عن القاسم، وخرجوا من الأرباض كلها في شعبان سنة أربع عشرة وأربعمائة، ولحقت كل طائفة من البربر ببلد غلبت عليه، وقصد القاسم إشبيلية، وبها كان ابناه محمد والحسن؛ فلما عرف أهل إشبيلية خروجه عن قرطبة ومجيئه إليهم، طردوا ابنيه ومن كان معهما من البربر وضبطوا البلد، وقدموا على أنفسهم ثلاثة رجال من شيوخ البلد وأكابرهم؛ وهم القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي، ومحمد بن يريم الألهاني، ومحمد بن محمد بن الحسن الزُبيدي، ومكثوا كذلك أياماً مشتركين في سياسة البلد وتدبيره، ثم انفرد القاضي أبو القاسم ابن عباد بالأمر، واستبد بالتدبير، وصار الآخران في جملة الناس، ولحق القاسم بشريش، واجتمع البربر على تقديم ابن أخيه يحيى، وزحفوا إلى القاسم فحصروه حتى صار في قبضة ابن أخيه يحيى، وانفرد ابن أخيه يحيى بولاية البربر، وبقي القاسم أسيراً عنده وعند أخيه إدريس بعده، إلى أن مات إدريس، فقتل القاسم خنقاً سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وحمل إليه ابنه محمد بن القاسم بالجزيرة، فدفنه هنالك؛ فكانت ولاية القاسم مُذ تسمى بالخلافة بقرطبة إلى أن أسره ابن أخيه ستة أعوام، ثم كان مقبوضاً عليه ست عشرة سنة عند ابني أخيه إلى أن قتل كما ذكرنا في أول سنة إحدى وثلاثين، ومات وله ثمانون سنة، وله من الولد محمد والحسن

ولاية يحيى بن علي المعتلي

أُمهما أميرة بنت الحسن بن قنون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس ابن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب. ولاية يحيى بن علي المعتلي اختلف في كنيته فقيل أبو إسحاق وقيل أبو محمد، وأُمه لبونة بنت محمد بن الحسن بن القاسم المعروف بقنون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب؛ وكان الحسن بن قنون من كبار الملوك الحسنيين وشجعانهم ومردتهم وطغاتهم المشهورين، فتسمى يحيى بالخلافة بقرطبة سنة ثلاث عشرة وأربعمائة كما ذكرنا، ثم هرب عنها إلى مالقة سنة أربع عشرة كما وصفنا، ثم سعى قوم من المفسدين في رد دعوته إلى قرطبة في سنة ست عشرة فتم لهم ذلك، إلا أنه تأخر عن دخولها باختياره، واستخلف عليها عبد الرحمن بن عطاف اليفرني، فبقي الأمر كذلك إلى سنة سبع عشرة، ثم قُطعت دعوته عن قرطبة، وبقي يتردد عليها بالعساكر إلى أن اتفقت على طاعتهجماعة البربر، وسلموا إليه الحصون والقلاع والمدن، وعظُم أمره، فصار بقرمونة محاصراً لإشبيلية طامعاً في أخذها، فخرج يوماً وهو سكران إلى خيل ظهرت من إشبيلية بقرب قرمونة، فلقيها وقد كمنوا له، فلم يكن بأسرع من أن قتل، وذلك يوم الأحد لسبع خلون من المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وكان له من الولد: الحسن وإدريس، لأُمي ولد. ولاية عبد الرحمن بن هشام المستظهر ولما انهزم البرابر عن أهل قرطبة مع القاسم كما ذكرنا، اتفق رأي أهل قرطبة على رد الأمر إلى بني أُمية، فاختاروا منهم ثلاثة، وهم: عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، أخو المهدي المذكور آنفاً، وسليمان بن المرتضى المذكور آنفاً، ومحمد بن عبد الرحمن بن هشام القائم على المهدي بن سليمان بن الناصر، ثم استقر الأمر لعبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار، فبويع بالخلافة لثلاث عشرة ليلة خلت لرمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة، وله اثنتان وعشرون سنة، وتلقب بالمستظهر، وكان مولده سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، في ذي القعدة. يُكنى أبا المطرف وأمه أم ولد اسمها غاية. ثم قام أبو عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر، مع طائفة من أراذل العوام، فقتل عبد الرحمن بن هشام، وذلك لثلاث بقين من ذي القعدة سنة

ولاية محمد بن عبد الرحمن المستكفي

أربع عشرة المؤرخ، ولا عقب له. وكان في غاية الأدب والبلاغة والفهم ورقة النفس، كذا قال أبو محمد علي بن أحمد وكان خبيراً به. [وقال الوزير أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد: كان المستظهر رحمه الله شاعراً مطبوعاً، ويستعمل الصناعة فيجيد، وهو القائل في ابنة عمه (1) : [من الطويل] حمامة بيت العبشميين رفرفت ... فطرت إليها من سراتهم صقرا تقل الثريا أن تكون لها يداً ... ويرجو الصباح أن يكون لها نحرا وإني لطعان إذا الخيل أقبلت ... جوانبها حتى جونها شقرا ومكرم ضيفي حين ينزل ساحتي ... وجاعلُ وفري عند سائله وفرا وهي طويلة قالها أيام خطبته لابنة عمه أم الحكم بنت المستعين. قال أبو عامر: وكان يتهم في أشعاره ورسائله، حتى كتب أمان يعلى بن أبي زيد حين وفد عليه ارتجالاً، فعجب أهل التمييز منه، وأما أنا فقد كنت بلوته؛ وكان ورود يعلى فجأةً لم يبرح من مجلسه حتى ارتجل الأمان، وأنا والله أخاف أن يزل فأجاد وزاد؛ هذا آخر كلام أبي عامر] (2) . ولاية محمد بن عبد الرحمن المستكفي وولي محمد بن عبد الرحمن المذكور، وله ثمان وأربعون سنة وأشهر، لأن مولده في سنة ست وستين وثلاثمائة، وكنيته أبو عبد الرحمن، وأُمه أُم ولد اسمها حوراء، وكان أبوه قد قتله محمد بن أبي عامر في أول دولة هشام المؤيد لسعيه في القايم وطلبه للأمر؛ وكان محمد بن عبد الرحمن هذا قد تلقب بالمستكفي، فولي ستة عشر شهراً وأياماً إلى أن خلع ورجع الأمر إلى يحيى بن علي الحسني، وهرب المستكفي، فلما صار بقريةٍ يقال لها شمُونْت (3) من أعمال مدينة سالم جلس ليأكل، وكان معه عبد الرحمن بن محمد بن السليم من ولد سعيد بن المنذر القائد المشهور أيام عبد الرحمن الناصر، فكره التمادي معه، وأخذ شيئاً من البيش (4) وهو كثير في ذلك البلد، فدهن له به دجاجة، فلما أكلها مات لوقته، فقبره هنالك. وكان هذا المستكفي في غاية

_ (1) الأبيات من قصيدة في الذخيرة 1/1: 56؛ وبعضها في المعجب (دوزي) : 39 وما تقدم: 66. (2) واضح أن هذا ليس من رواية ابن حزم فلذلك جعلته بين معقفين. (3) المعجب (دوزي) : شمنت. (4) نبات سام (انظر التاج: بيش) .

ولاية هشام بن محمد المعتد

التخلف وله في ذلك أخبار يقبح ذكرها، وكان متغلباً عليه طول مدته لا ينفذ له أمر، ولا عقب له. ولاية هشام بن محمد المعتد ولما قطعت دعوة يحيى بن علي الحسني من قرطبة سنة سبع عشرة كما ذكرنا، أجمع رأي أهل قرطبة على رد الأمر إلى بني أمية، وكان عميدهم في ذلك الوزير أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور بن عبيد الله بن محمد بن الغمر بن يحيى بن عبد الغفار بن أبي عبدة، وقد كان ذهب كل من كان ينافس في الرياسة ويخب في الفتنة بقرطبة، فراسل جمهور ومن معه من أهل الثغور والمتغلبين هنالك على الأمور، وداخلهم في هذا، فاتفقوا بعد مدة طويلة على تقديم أبي بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر وهو أخو المرتضى المذكور؛ قيل: كان مقيماً بالبونت عند أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم (1) المتغلب بها، فبايعوه في شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة وأربعمائة، وتلقب بالمعتد بالله، وكان مولده سنة أربع وستين وثلاثمائة، وكان أسن من أخيه المرتضى بأربعة أعوام؛ وأمه أم ولد اسمها عاتب، فبقي متردداً في الثغور ثلاثة أعوام غير شهرين، ودارت هنالك فتن كثيرة، واضطراب شديد بين الرؤساء بها إلى اتفق أمرهم على أن يصير إلى قرطبة قصبة الملك، فصار ودخلها يوم منى ثامن ذي الحجة سنة عشرين وأربعمائة، ولم يبق إلا يسيراً حتى قامت عليه فرقةٌ من الجند فخلع، وجرت أمور يكثر شرحها، وانقطعت الدعوة الأموية من يومئذ فيها، واستولى على قرطبة جهور بن محمد المذكور آنفاً، وكان من وزراء الدولة العامرية، قديم الرياسة، موصوفاً بالدهاء والعقل، لم يدخل في أمور الفتن قبل ذلك، وكان يتصاون عنها. فلما خلا له الجو وأمكنته الفرصة وثب عليها فتولى أمرها واستضلع بحمايتها، ولم ينتقل إلى رُتبة الإمارة ظاهراً، بل دبرها تدبيراً لم يسبق إليه، وجعل نفسه ممسكاً للموضع إلى أن يجيء مستحق يتفق عليه، فيسلم إليه. ورتب البوابين والحشم على أبواب تلك القصور على ما كانت عليه أيام الدولة، ولم يتحول عن داره إليها، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رتبهم لذلك، وهو المشرف عليه، وصير أهل الأسواق جنداً، وجعل أرزاقهم

_ (1) هو يمن الدولة الفهري الذي نزل عليه ابن حزم بالبونت، وكتب له رسالة في فضل الأندلس؛ انظر الفقرة الثانية من الرسالة المذكورة.

رؤوس أموال [تكون بأيديهم محصلة عليهم يأخذون ربحها فقط ورؤوس الأموال] (1) باقيةٌ محفوظةٌ يؤخذون بها، ويراعون في الوقت بعد الوقت كيف حفظهم لها. وفرق السلاح عليهم وأمرهم بتفرقته في الدكاكين وفي البيوت، حتى إذا دهم أمرٌ في ليل أو نهار كان سلاح كل واحدٍ معه. وكان يشهد الجنائز ويعود المرضى، جارياً في طريقة الصالحين، وهو مع ذلك يدبر الأمور تدبير السلاطين المتغلبين، وكان مأموناً وقرطبة في أيامه حرماً (2) يأمن فيه كل خائف من غيره، إلى أن مات في صفر سنة خمس وثلاثين واربعمائة. وتولى أمرها بعده ابن أبو الوليد محمد بن جهور على هذا التدبير إلى أن مات، فغلب عليها بعد أمور جرت هنالك الأمير الملقب بالمأمون صاحب طُليطلة، ودبرها مدة يسيرة ومات فيها، ثم غلب عليها صاحب إشبيلية الأمير الظافر ابن عباد، فهي الآن بيده على ما بلغنا (3) . وبقي هشام بن المعتد معتقلاً، ثم هرب ولحق بابن هود بلا ردة، فأقام هنالك إلى أن مات سنة سبع وعشرين وأربعمائة، ولا عقب له، وانقطعت دولة بني مروان جملة، إلا أن إشبيلية ومن كان على رأيهم من أهل تلك البلاد، لما ضيق عليهم يحيى بن علي الحسني وخافوا أمره، أظهروا أن هشام بن الحكم المؤيد حي، وأنهم ظفروا به فبايعوه وأظهروا دعوته، وتابعهم أكثر أهل الأندلس. وبقي الأمر كذلك إلى حدود الخمسين وأربعمائة (4) ، فإنهم أظهروا موت هشام المؤيد الذي ذكروا أنه وصل إليهم، وحصل عندهم، وانقطعت الخطبة لبني أمية من جميع أقطار الأندلس من حينئذ وإلا الآن. وأما الحسنيُّون فإنه لما قتل يحيى بن علي كما ذكرنا لسبع خلون من المحرم سنة سبع وعشرين، رجع أبو جعفر أحمد بن أبي موسى المعروف بابن بقنة، و " نجا " الخادم الصقلبي، وهما مدبرا دولة الحسنيين، فأتيا مالقة وهي دار مملكتهم، فخاطبا أخاه إدريس بن علي، وكان بسبتة وكان يمتلك معها طنجة، واستدعياه فأتى إلى مالقة، وبايعاه بالخلافة على أن يجعل حسن بن يحيى المقتول مكانه بسبتة، ولم يبايعا واحداً من ابني يحيى وهما: إدريس وحسن لصغرهما، فأجابهما إلى ذلك، ونهض " نجا "

_ (1) زيادة ضرورية، وهي في المعجب وبغية الملتمس. (2) في الأصل: حريماً. (3) هذا على السماع؛ لا رواية عن ابن حزم. (4) هذا أيضاً مبني على السماع لأن الحميدي كان قد غادر الأندلس.

مع حسن هذا إلى سبتة وطنجة، وكان حسن أصغر ابني يحيى، ولكنه كان أشدهما، وتلقب إدريس بالمتأيد، فبقي كذلك إلى سنة ثلاثين، أو إحدى وثلاثين، فتحركت فتن. وحدث للقاضي أبي القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد صاحب إشبيلية أملٌ في التغلب على تلك البلاد، فأخرج ابنه إسماعيل في عسكر مع من أجابه من قبائل البربر، ونهض إلى قرمونة (1) فحاصرها، ثم نهض إلى أشونة (2) وأستجة (3) فأخذهما وكانتا بيد محمد بن عبد الله البرزالي (4) صاحب قرمونة، فاستصرخ محمد بن عبد الله بإدريس بن علي الحسني وبصنهاجة، فأمده صاحب صنهاجة بنفسه، وأمده إدريس بعسكر يقوده ابن بقنة مدبر دولته، فاجتمعوا مع ابن عبد الله، ثم غلبت عليهم هيبة إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن عباد قائد عسكر القاضي أبيه فافترقوا، وانصرف كل واحد منهم راجعاً إلى بلده، فبلغ ذلك إسماعيل بن محمد فقوي أمله، ونهض بعسكره قاصداً طريق صاحب صنهاجة من بينهم، وركض ركضاً شديداً في اتباعه، فلما قرب منه وأيقن صاحب صنهاجة بأنه سيلحقه، وجه إلى ابن بقنة يسترجعه، وإنما كان فارقه قبل ذلك بساعة فرجع إليه، والتقت العساكر، فما كان إلا أن تراءت، وولى عسكر ابن عباد منهزماً وأسلموه، فكان إسماعيل أول مقتول، وحمل رأسه إلى إدريس بن علي، وقد كان أيقن بالهلاك، وزال عن مالقة إلى جبل بباشتر متحصناً به، وهو مريض مُدنف، فلم يعش إلا يومين ومات. وترك من الولد: يحيى قُتل بعده، ومحمداً الملقب بالمهدي، وحسناً المعروف بالسامي وكان ابن هو أكبر بنيه اسمه علي مات في حياة أبيه، وترك ابناً اسمه عبد الله أخرجه عمه ونفاه لما ولي. وقد كان يحيى ابن علي المذكور قبل قد اعتقل ابني عمه محمداً والحسن ابني القاسم بن حمود بالجزيرة، وكان الموكل بهما رجل من المغاربة يعرف بأبي الحجاج، فحين وصل إليه خبر قتل يحيى جمع من كان في الجزيرة من المغاربة والسودان، وأخرج محمداً والحسن، وقال: هذان سيداكم، فسارع جميعهم إلى الطاعة لهما، لشدة ميل أبيهما إلى السودان قديماً وإيثاره لهم، وانفرد محمد بالأمر وملك الجزيرة، إلا أنه لم يتسمَّ

_ (1) قرمونة Carmona تقع إلى الشرق من إشبيلية وتبعد عنها بمقدار ثلاثين كيلومتراً (الروض: 461 والترجمة: 190) . (2) أشونة Osuna من كور أستجة على بعد 34 كيلومتراً من هذه الثانية (الروض: 60 والترجمة: 29) . (3) أستجة Ecija على نهر شنيل وتعد اليوم من مقاطعة إشبيلية (الروض: 53 والترجمة: 20) . (4) بويع بقرمونة سنة 404 وكان فارساً شجاعاً، يؤثر العدل، فبايعته أستجة وأشونة والمدور وغيرها ولم يزل على أحسن حال حتى توفي سنة 434 (البيان المغرب 3: 311 - 312) .

بالخلافة، وبقي معه أخوه حسن مدة، إلى أن حدث له رأي في التنسك، فلبس الصوف وتبرأ عن الدنيا، وخرج إلى الحج مع أخته فاطمة بنت القاسم زوجة يحيى بن علي المعتلي. فلما مات إدريس، كما ذكرنا، رام ابن بقنة ضبط الأمر لولده يحيى ابن إدريس المعروف بحيون، ثم لم يجسر على ذلك الجسر التام، وتخير وتردد، ولما وصل خبر قتل إسماعيل بن عباد وموت إدريس بن علي إلى " نجا " الصقلبي بسبتة، استخلف عليها من وثق به من الصقالبة، وركب البحر هو وحسن بن يحيى إلى مالقة ليرتب الأمر له، فلما وصلا إلى مرسى مالقة خارت قوى ابن بقنة، وهرب إلى حصن قمارش على ثمانية عشر ميلاً من مالقة. ودخل حسن و " نجا " مالقة، واجتمع إليهما من بها من البربر، فبايعوا حسن بن يحيى بالخلافة، وتسمى المستنصر، ثم خاطب ابن بقنة وأمنه؛ فلما رجع إليه قبض عليه وقتله، وقتل ابن عمه يحيى ابن إدريس، ورجع " نجا " إلى سبتة وطنجة، وترك مع حسن رجلاً كان من التجار يعرف بالسطيفي كان " نجا " شديد الثقة به، فبقي الأمر كذلك نحواً من عامين، وكان حسن بن يحيى متزوجاً بابنة عمه إدريس، فقيل إنها سمته أسفاً على أخيها، فلما مات احتاط السطيفي على الأمر، واعتقل إدريس ابن يحيى، وكتب إلى " نجا " بالخبر، وكان لحسن ابنٌ صغير عند " نجا "، فقيل إنه اغتاله أيضاً وقتله، والله أعلم. ولم يُعْقِب حسن بن يحيى، واستخلف " نجا " على سبتة وطنجة من وثق به من الصقالبة عند وصول الخبر إليه، وركب البحر إلى مالقة، فلما وصل إليها زاد في الاحتياط على إدريس بن يحيى، وأكد اعتقاله، وعزم على محو أمر الحسنيين، وأن يضبط تلك البلاد لنفسه، فدعا البربر الذين كانوا جُند البلد، وكشف الأمر إليهم علانية، ووعدهم بالإحسان، فلم يجدوا من مساعدته بداً في الظاهر، وعظم ذلك في أنفسهم باطناً، ثم جمع عسكره ونهض إلى الجزيرة ليستأصل محمد بن القاسم، فحاربهما أياماً، ثم أحس بفتور نية من معه، فرأى أن يرجع إلى مالقة، فإذا رجع إليها، [و] حصل فيها نفى من خاف غائلته منهم واستصلح سائرهم، واستدعى الصقالبة من حيث ما أمكنه ليقوى بهم على غيرهم وأحس البربر بهذا منه فاغتالوه في الطريق قبل أن يصل إلى مالقة، فقُتل وهو على دابته في مضيق صار فيه، وقد تقدمه إليه الذي أراد الفتك به (1) ، وفر من كان معه من الصقالبة بأنفسهم، ثم تقدم فارسان

_ (1) انظر في مقتل نجا البيان المغرب 3: 291.

من الذين غدروا به يركضان حتى وردا مالقة ودخلا وهما يقولان: البشرى البشرى، فلما وصلا إلى السطيفي وضعا سيوفهما عليه فقتلاه (1) ، ثم وافيا العسكر، فاستخرجوا إدريس بن يحيى من محبسه، فقدموه وبايعوه بالخلافة، وتسمى بالعالي، فظهرت منه أمورٌ متناقضة، منها أنه كان أرحم الناس قلباً، كثير الصدقة، يتصدق كل يوم جمعة بخمسمائة دينار، ورد كل مطرود عن وطنه إلى أوطانهم، ورد عليهم ضياعهم وأملاكهم، ولم يسع بغياً في أحد من الرعية، وكان أديب اللقاء حسن المجلس، يقول من الشعر الأبيات الحسان، ومع هذا فكان لا يصحب ولا يقرب إلا كل ساقط نذل، ولا يحجب حُرَمَهُ عنهم، وكلُّ من طلب منه حصناً من حصون بلاده ممن يجاوره من صنهاجة أو بني يفرن أعطاهم إياه، وكتب إليه أمير صنهاجة في أن يسلم إليه وزيره ومدبر أمره وصاحب أبيه وجده، موسى بن عفان السبتي، فلما أخبره بأن الصنهاجي طلبه منه وأنه لا بد له من تسليمه إليه، قال له موسى بن عفان " افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين "، فبعث به إلى الصنهاجي فقتله وكان قد اعتقل ابني عمه محمداً وحسناً ابني إدريس في حصن يعرف بأيرش، فلما رأى ثقته الذي في الحصن اضطراب آرائه خالف عليه، وقدم ابن عمه محمد بن إدريس، فلما بلغ ذلك السودان المرتبين في قصبة مالقة، نادوا بدعوة ابن عمه محمد بن إدريس، وراسلوه في المجيء إليهم، وامتنعوا بالقصبة، فاجتمعت العامة إلى إدريس بن يحيى واستأذنوه في حرب القصبة والدفاع عنه، ولو أذن لهم ما ثبت السودان ساعة من النهار، فأبى وقال: الزموا منازلكم ودعوني، فتفرقوا عنه، وجاء ابن عمه فسلم إليه، وبويع بالخلافة وتسمى المهدي (2) ، وولى أخاه عهده، وسماه السامي. واعتقل ابن عمه إدريس العالي في الحصن الذي كان هو معتقلاً فيه، وظهرت في محمد بن إدريس هذا رجلةٌ وجرأة شديدة هابه بها جميع البرابر، وأشفقوا منه، وراسلوا المرتب في الحصن الذي كان فيه إدريس بن يحيى واستمالوه، فأجابهم وقام بدعوته. وكان إدريس بن يحيى هذا أول ولايته بعد قتل " نجا " قد ولى سبتة وطنجة رجلين برغواطيين من عبيد أبيه يسميان رزق الله وسُكات (3) ، فلما خلع كما ذكرنا بقيا حافظين لمكانهما، فلما قام كما ذكرنا في حصن أيرش، لم يظهر محمد بن إدريس

_ (1) انظر المصدر السابق. (2) البيان المغرب 3: 292. (3) أو سقوت: ويكتب بصور مختلفة، وفي أخباره راجع البيان المغرب 3: 250 وأعمال الأعلام: 141 وروض القرطاس: 104 وابن خلدون 6: 184 والذخيرة 2/2: 657.

مبالاةً بذلك، بل ثبت ثباتاً شديداً، وكانت والدته تشد منه وتقوي مُنته وتُشرف على الحرب بنفسها وتحسن إلى من أبلى، فلما رأى البربر شدة عزمه وثباته، فت ذلك في أعضادهم، وانحلوا عن إدريس بن يحيى، ورأوا أن يبعثوا إلى سبتة وطنجة إلى البرغواطيين اللذين ذكرنا، وقد كان جعل ابنه عندهما في حضانتهما، فلما وصل إليهما أظهرا تعطيمه ومخاطبته بالخلافة، الا أن الأمر كله لهما دونه، فتوصل إليه قوم من أكابر البربر وقالوا له: إن هذي العبدين قد غلبا عليك، وقد حالا بينك وبين أمرك، فأذن لنا نكفك أمرهما، فأبى، ثم أخبرهما بذلك فنفيا أولئك القوم، وأخرجا إدريس بن يحيى عن أنفسهما إلى الأندلس، وتمسكا بولده لصغره إلا أنهما في كل ذلك يخطبان لإدريس بالخلافة. ثم إن محمد بن إدريس أنكر من أخيه الملقب بالسامي أمراً فنفاه إلى العدوة، فصار في جبال غُمارة وهي بلاد تنقاد لهؤلاء الحسنيين، وأهلها يعظمونهم جداً. ثم إن البرابر خاطبوا محمد بن القاسم بالجزيرة، واجتمعوا إليه ووعدوه بالنصر، فاستفزه الطمع وخرج إليهم، فبايعوه بالخلافة وتسمى بالمهدي، فصار الأمر في غاية الأُخلوقة والفضيحة (1) ؛ أربعة كلهم يسمى بأمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخاً في مثلها، فأقاموا معه أياماً ثم افترقوا عنه إلى بلادهم، ورجع خاسئاً إلى الجزيرة، ومات إلى أيام، وقيل إنه مات غماً. وترك نحو ثمانية ذكور؛ فتولى أمر الجزيرة ابنه القاسم بن محمد بن القاسم، إلا أنه لم يتسم الخلافة، وبقي محمد بن إدريس بمالقة إلى أن مات سنة خمس وأربعين وأربعمائة؛ وكان إدريس بن يحيى المعروف بالعالي عند بني يفرن بتاكرنا، فلما توفي محمد بن إدريس ردته العامة إلى مالقة واستولى عليها. [قال الحميدي] : هذا آخر ما استفدنا أكثره من شيخنا أبي محمد علي بن أحمد رحمه الله، وعلمناه نحن، من جُمل أخبار من ذكرنا من ملوك تلك البلاد إلى وقت خروجنا منها (2) .

_ (1) راجع ما تقدم في نقط العروس، الفقرة: 80. (2) كان خروج الحميدي من الأندلس سنة 448؛ انظر الجذوة: 118.

[ذكر أوقات الحكام من بني إسرائيل]

الملحق (2) [ذكر أوقات الحكام من بني إسرائيل] (1) قال أبو محمد رضي الله عنه: دخل بنو إسرائيل الأردن وفلسطين والغور مع يوشع بن نون مدبر أمرهم عليه السلام إثر موت موسى عليه السلام، ومع يوشع العازار ابن هارون عليه السلام صاحب السرادق بما فيه، وعنده التوراة لا عند أحد غيره بإقرارهم. فدبر يوشع عليه السلام أمرهم في استقامة، وألزمهم للدين إحدى وثلاثين سنة مذ مات موسى عليه السلام إلى أن مات يوشع. ثم دبرهم فنحاس بن العازار ابن هارون، وهو صاحب السرادق والكوهن الأكبر، والتوراة عنده لا عند احد غيره خمساً وعشرين سنة في استقامة والتزام للدين، ثم مات وطائفة منهم عظيمة يزعمون أنه حي إلى اليوم وثلاثة أنفس إليه، وهم الياس النبي الهاروني عليه السلام، ولكيصيدق بن فالج بن عابر بن أرفخشاذ بن سام بن نوح عليه السلام، والعبد الذي بعثه إبراهيم عليه السلام ليزوج إسحاق عليه السلام رفقة بنت بتوئيل بن ناخور أخي إبراهيم عليه السلام. فلما انقضت المدة المذكورة لفنحاس بن العازار كفر بنو إسرائيل وارتدوا كلهم وعبدوا الأوثان علانية، فملكهم كذلك ملك صور وصيدا مدة ثمانية أعوام على الكفر. ثم دبر أمرهم عثنيال (2) بن قناز بن أخي كالب بن يفنة بن يهوذا أربعين سنة على الإيمان، ثم مات، فكفر بنو إسرائيل كلهم وارتدوا وعبدوا الأوثان علانية، فملكهم كذلك عجلون ملك بني موآب ثمان عشرة سنة على الكفر. ثم دبر أمرهم أهود بن قارا (3) ، قيل إنه من سبط أفرايم، وقيل من سبط بنيامين. واختلف أيضاً في مدة رياسته، فقيل ثمانون سنة، وقيل خمس وخمسون سنة، على الإيمان إلى أن مات.

_ (1) الفصل 1: 187 - 196 وقد راجعت هذا الفصل على العهد القديم (رمزه: ع) لضبط أسماء الأعلام وقارن باليعقوبي 1: 46 - 65 وحمزة: 79 - 82. (2) ع: عثنيئيل. (3) ع: أهود بن جبرا، وكذلك اليعقوبي.

ثم دبرهم سمعان (1) بن عنات من سبط أشار خمساً وعشرين سنة على الإيمان. ثم مات فكفر بنو إسرائيل كلهم وعبدوا الأوثان جهاراً. فملكهم كذلك يابين (2) الكنعاني عشرين سنة على الكفر. ثم دبرت أمرهم دبورا النبية من سبط يهوذا، وكان زوجها رجلاً يسمى الفيدوت (3) من سبط أفرايم إلى أن ماتت وهم على الإيمان، فكان مدة تدبيرها لهم أربعين سنة. فلما ماتت كفر بنو إسرائيل كلهم وارتدوا وعبدوا الأوثان جهاراً. فملكهم عوزيب وزاب (4) ملكا بني مدين سبع سنين على الكفر. ثم دبر أمرهم جدعون بن يوآش من سبط أرايم، وقيل بل من سبط منشا وهم يصفون أنه كان نبياً، وكان له واحد وسبعون أبناً ذكوراً. فملكهم على الإيمان أربعين سنة. ثم مات وولي ابنه أبو ملك (5) بن جدعون وكان فاسقاً خبيث السيرة، فارتد جميع بني إسرائيل وكفروا وعبدوا الأوثان جهاراً، وأعانه أخواله من أهل نابلس من بني إسرائيل من سبط يوسف بتسعين دينراً (6) من بيت بعل الصنم ومضوا معه، فقتل جميع إخوته حاشا واحداً منهم أفلت، وبقي كذلك ثلاث سنين إلى أن قتل. ودبرهم بعده تولع بن قواة (7) من سبط يساخر، ولم نجد بياناً هل كان على الإيمان أو على الكفر، خمساً وعشرين سنة، ثم مات. ثم دبر أمرهم يائير (8) بن جلعاد من سبط منشا اثنين وعشرين عاماً على الإيمان إلى أن مات، وكان له اثنان وثلاثون ولداً ذكوراً قد ولي كلُّ واحد منهم مدينة من مدائن بني إسرائيل، فارتد بنو إسرائيل كلهم بعد موته وعبدوا الأوثان جهاراً. وملكهم بنو عمون ثلاث عشرة سنة متصلة على الكفر. ثم قام فيهم رجل من سبط منشا اسمه يفتاح (9) بن جلعاد. ولا يختلفون في أنه

_ (1) ع: شمجر؛ اليعقوبي: سمحر. (2) في المطبوعة: مراش. (3) في المطبوعة: السدوت. (4) ع: صلمناع وزبح. (5) ع: أبيمالك بن يربعل بن جدعون. (6) ع: بسبعين شاقل فضة؛ ودينر دينار (وفي الأصل: دير) . (7) في المطبوعة: مولع بن فرا. (8) في المطبوعة: يابين. (9) في المطبوعة هيلع.

كان ابن زانية وكان فاسقاً خبيث السيرة، نذر إن أظفره الله بعدوه أن يقرب لله سبحانه وتعالى أول من يلقاه من منزله فأول من لقيه ابنته ولم يكن له ولد غيرها فوفى بنذره وذبحها قرباناً. وكان في عصره نبي فلم يلتفت إليه. وأنه قتل من بني أفرايم اثنين وأربعين ألف رجل. فملكهم ست سنين ثم مات. فوليهم بعده أبصان من سبط يهوذا من سكان بيت لحم وكان له ثلاثون ابناً ذكوراً، فوليهم سبع سنين وقيل ست سنين ثم مات. والأظهر من حاله على ما توجبه أخبارهم الاستقامة. ووليهم بعده أيلون من سبط زبلون عشر سنين إلى أن مات. وولي بعده عبدون بن هلال (1) من سبط أفرايم ثماني سنين على الإيمان. وكان له أربعون ولداً ذكوراً. فلما مات ارتد بنو إسرائيل كلهم وكفروا وعبدوا الأوثان جهاراً، فملكهم الفلسطينيون، وهم الكنعانيون وغيرهم، أربعين سنة على الكفر. ثم دبرهم شمشون بن مانوح (2) من سبط داني، وكان مذكوراً عندهم بالفسق واتباع الزواني. فدبرهم عشرين سنة وينسبون إليه المعجزات، ثم أسر ومات، فدبر بنو إسرائيل بعضهم بعضاً في سلامة وإيمان أربعين سنة بلا رئيس يجمعهم. ثم دبرهم الكاهن الهاروني على الإيمان عشرين سنة إلى أن مات. ثم دبرهم شمويل بن القانة (3) النبي من سبط أفرايم، قيل عشرين سنة وقيل أربعين سنة، كل ذلك في كتبهم، على الإيمان. وذكروا أنه كان له ابنان توآل وأبيا (4) يجوران في الحكم ويظلمان الناس. وعند ذلك رغبوا إلى شمويل أن يجعل لهم ملكاً. فولى عليهم شاول الدباغ ابن قيش بن أبيئيل بن شارو بن بكورات بن أفيح (5) بن خس بن سبط بنيامين، وهو طالوت، فوليهم عشرين سنة، وهو أول ملك كان لهم ويصفونه بالنبوة وبالفسق والظلم والمعاصي معاً، وأنه قتل من بني هارون نيفاً وثمانين إنساناً، وقتل نساءهم

_ (1) ع: هليل. (2) ع: منوح. (3) في المطبوعة: فتان. (4) في المطبوعة: قوهال وبيا. (5) في المطبوعة: بن أنيل بن شارون بن بورات بن آسيا (ابن خس لم ترد في ع) .

وأطفالهم لأنهم أطعموا داود عليه السلام خبزاً فقط. فاعلموا الآن أنه كان مذ دخلوا الأرض المقدسة إثر موت موسى عليه السلام إلى ولاية أول ملك لهم - وهو شاول المذكور - سبع ردات فارقوا فيها الإيمان وأعلنوا بعبادة الأصنام. فأولها بقوا فيها ثمانية أعوام، والثانية ثمانية عشر عاماً، والثالثة عشرين عاماً، والرابعة سبعة أعوام، والخامسة ثلاثة أعوام وربما أكثر، والسادسة ثمانية عشر عاماً، والسابعة اربعين عاماً. فتأملوا أي كتاب يبقى مع تمادي الكفر ورفض الإيمان هذه المدد الطوال في بلد صغير مقدار ثلاثة أيام في مثلها فقط. ليس على دينهم واتباع كتابهم أحد على ظهر الأرض غيرهم. ثم مات شاول المذكور مقتولاً وولي أمرهم داود عليه السلام وهم ينسبون إليه الزنا علانية بأم سليمان عليه السلام، وأنها ولدت منه من الزنا ابناً مات قبل ولادة سليمان، فعلى من يضيف هذا إلى الأنبياء عليهم السلام ألف ألف لعنة. وينسبون إليه أنه قتل جميع أولاد شاول لذنب أبيهم، حاشا صغيراً مقعداً كان فيهم فقط. وكانت مدته عليه السلام أربعين سنة. ثم ولي سليمان عليه السلام، وقد وصفوه بما ذكرنا قبل وذكروا عنه أن نفقته فرضها على الأسباط لطل سبط شهر من السنة، وأن جنده كانوا اثني عشر ألف فارس على الخيل وأربعين ألفاً على الرمك خلافاً لما في التوراة أن لا يكثروا من الخيل. وهو الذي بنى الهيكل في بيت المقدس وجعل فيه السرادق والمذبح والمنارة الآن والقربان والتوراة والتابوت وسكينة بني هارون، فكانت ولايته أربعين سنة. ثم مات عليه السلام فافترق أمر بني إسرائيل فصار بنو يهوذا وبنو بنيامين لبني سليمان بن داود عليه السلام في بيت المقدس، وصار ملك الأسباط العشرة الباقية إلى ملك آخر منهم يسكن بنابلس على ثمانية عشر ميلاً من بيت المقدس. وبقوا كذلك إلى ابتداء إدبار أمرهم على ما نبين إن شاء الله تعالى. فنذكر بحول الله تعالى وقوته أسماء ملوك بني سليمان عليه السلام وأديانهم. ثم نذكر ملوك الأسباط العشرة وبالله عز وجل نتأيد ليرى كل واحد كيف كانت حال التوراة والديانة في أيام دولتهم. قال أبو محمد رضي الله عنه: ولي إثر موت سليمان بن داود عليه السلام ابنه رحبعام بن سليمان وله ست عشرة

سنة، وكانت ولايته سبعة عشر عاماً فأعلن الكفر طول ولايته وعبد الأوثان جهاراً هو وجميع رعيته وجنده بلا خلاف منهم. ويقولون إن جنده كانوا مائة ألف وعشرين الف مقاتل، وفي ايامه غزا ملك مصر (1) في سبعة آلاف فارس وخمسة عشر ألف راجل (2) إلى بيت المقدس فأخذها عنوة بالسيف، وهرب رحبعام، وانتهب ملك مصر المدينة والقصر والهيكل وأخذ كل ما فيها ورجع إلى مصر سالماً غانماً. ثم مات رحبعام على الكفر فولي مكانه ابنه أبيا وله ثمان عشرة سنة. فبقي على الكفر هو وجنده ورعيته وعلى عبادة الأوثان علانية، وكانت ولايته ست سنين. ويقولون قتل من الأسباط العشرة في حروبه معهم خمسمائة ألف إنسان. ثم ولي بعد موته ابنه آسا بن أبيا وله عشر سنين، وكان مؤمناً فهدم بيوت الأوثان وأظهر الإيمان، وبقي في ولايته إحدى وأربعين سنة على الإيمان، وذكروا أن جنده كانوا ثلاثمائة ألف مقاتل من بني يهوذا، واثنين وخمسين ألفاً من بني بنيامين. ومات وولي بعده ابنه يهوشافاط بن آسا وهو ابن خمس وثلاثين سنة، فكانت ولايته خمساً وعشرين سنة وذكروا عنه أنه كان على الإيمان إلى أن مات. فولى ابنه يهورام بن يهوشافاط، ولم نجد أمر سيرته ودينه (3) إلا أنه كان مؤالفاً لعبادة الأوثان من ملوك سائر الأسباط، وولي وله اثنان وثلاثون سنة، وكانت ولايته ثمانية أعوام. ومات فولي مكانه ابنه أخزيا وله اثنان وعشرون سنة، فأظهر الكفر وعبادة الأصنام في جميع رعيته، وكانت ولايته سنة. وقتل فوليت أمه عثليا بنت عمري ملك العشرة الأسباط، فتمادت على أشد ما يكون من الكفر وعبادة الأوثان، وقتلت الأطفال، وأمرت بإعلان الزنا في البيت المقدس وجميع عملها، وعهدت أن لا تمنع امرأة ممن أراد الزنا معها، وعهدت أن لا ينكر ذلك أحد، فبقيت كذلك ست سنين إلى أن قتلت. فولي ابن ابنها يوآش بن أخزيا وله سبع سنين، فاتصلت ولايته أربعين سنة، وأعلن الكفر وعبادة الأوثان، وقتل زكريا النبي عليه السلام بالحجارة. ثم قتل غلمانه.

_ (1) هو شيشق. (2) ع: بألف ومئتين مركبة وستين ألف فارس. (3) هذا غريب إذ ورد في ع: وعمل الشر في عيني الرب (الأيام الثاني 21: 6) .

فولي بعده ابنه أمصيا بن يوآش وله خمس وعشرون سنة. فأعلن الكفر وعبادة الأوثان هو وجميع رعيته، فبقي كذلك إلى أن قتل وهو على الكفر، وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة. وفي ايامه انتهب ملوك الأسباط العشرة البيت المقدس وأغاروا على كل ما فيه مرتين. ثم ولي بعده عُزيا بن أمصيا وله ست عشرة سنة، فأعلن الكفر وعبادة الأوثان هو وجميع رعيته إلى أن مات، وكانت ولايته اثنتين وخمسين سنة، وهو قتل عاموص النبي عليه السلام الداوودي. فولي بعده ابنه يوثام بن عزيا وله خمس وعشرون سنة، ولم نجد له سيرة (1) ، وكانت ولايته ست عشرة سنة. فمات فولي مكانه ابنه آحاز بن يوثام وله عشرون سنة، فعلن الكفر وعبادة الأوثان، وكانت ولايته ست عشرة سنة، فأعلن الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات. فولي بعده ابنه حزقيا بن آحاز وله خمس وعشرون سنة، وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة، فأظهر الإيمان وهدم بيوت الأوثان وقتل خدمتهما، وبقي على الإيمان إلى أن مات هو وجميع رعيته. وفي السنة السابعة من ولايته انقطع ملك العشرة الأسباط من بني إسرائيل، وغلب عليهم سليمان الأعسر (2) ملك الموصل، وسباهم ونقلهم إلى آمد وبلاد الجزيرة، وسكن في بلاد الأسباط العشرة أهل آمد والجزيرة. فأظهروا دين السامرة الذين هناك إلى اليوم. ثم مات حزقيا وولي بعده ابنه منشا بن حزقيا وله ثنتا عشرة سنة. ففي السنة الثالثة من ملكه أظهر الكفر وبنى بيوت الأوثان وأظهر عبادتها وجميع أهل مملكته، وقتل شعيا النبي، قيل نشره بالمنشار من رأسه إلى مخرجه، وقيل قتله بالحجارة وأحرقه بالنار. والعجب كله أنهم يصفون في بعض كتبهم بأن الله أوحى إليه مع ملك من الملائكة، وأن ملك بابل كان أسره وحمله إلى بلده وأدخله في تَوْرِ نحاس وأوقد النار تحته، فدعا الله فأرسل إليه ملكاً فأخرجه من التور ورده إلى بيت المقدس، وأنه تمادى مع ذلك كله على كفره حتى مات، وكانت ولايته خمساً وخمسين سنة. فقولوا يا معشر السامعين: بلد تُعْلن فيه عبادة الأوثان، وتبنى هياكلها، ويقتل من وجد فيه

_ (1) جاء في ع (الأيام الثاني 28: 2) وعمل المستقيم في عيني الرب حسب كل ما عمل عزيا أبوه (وسيرة عزيا في ع تخالف ما ذكره ابن حزم بعض الشيء) إلا أنه لم يدخل هيكل الرب. (2) حليف سنحاريب ملك آشور.

من الأنبياء، كيف يجوز أن يبقى فيه كتاب الله سالماً أم كيف يمكن هذا فلما مات منشا ولي مكانه ابنه آمون بن منشا وهو ابن اثنين وعشرين عاماً، فكانت ولايته سنتين على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات. فولي مكانه ابنه يوشيا بن آمون وهو ابن ثمان سنين، ففي السنة الثالثة من ملكه أعلن الإيمان، وكسر الأصنام وأحرقها واستأصل هياكلها، وقتل خدامها ولم يزل على الإيمان إلى أن قتل، قتله ملك مصر. وفي أيامه أخذ إرميا النبي السرادق والتابوت والنار وأخفاها حيث لا يدري أحد لعلمه بفوت ذهاب أمرهم. ثم ولي بعده ابنه يهوياحوز (1) بن يوشيا وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، فرد الكفر وأعلن عبادة الأوثان، وأخذ التوراة من الكاهن الهاروني وبشر منها أسماء الله حيث وجدها، وكانت ولايته ثلاثة أشهر، وأسره ملك مصر. فولي مكانه يهوياقيم بن يوشيا أخوه وهو ابن خمس وعشرين سنة، فأعلن الكفر وبنى بيوت الأوثان، هو وجميع أهل مملكته، وقطع الدين جملة، وأخذ التوراة من الهاروني فأحرقها بالنار وقطع أثرها، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة. ومات فولي مكانه ابنه يهوياكين بن يهوياقيم وتلقب يحنيا وهو ابن ثمان عشرة سنة، فأقام على الكفر وأعلن عبادة الأوثان، وكانت ولايته ثلاثة أشهر، وأسره بختنصر. فولي مكانه عمه متنيا بن يوشيا، وتلقب صدقيا، وهو ابن إحدى وعشرين سنة، فثبت على الكفر وأعلن عبادة الأوثان هو وجميع أهل مملكته، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة. وأسره بختنصر وهدم البيت والمدينة واستأصل جميع بني إسرائيل وأخلى البلد منهم، وحملهم مسبيين إلى بلاد بابل. وهو آخر ملوك بني إسرائيل وبني سليمان جملة. فهذه كانت صفة ملوك بني سليمان بن داود عليهما السلام. فاعلموا الآن أن التوراة لم تكن من أول دولتهم إلى انقضائها إلا عند الهاروني الكوهن الأكبر وحده في الهيكل فقط، وأما ملوك الأسباط العشرة فلم يكن فيهم مؤمن قط ولا واحد فما فوقه، بل كانوا كلهم معلنين بعبادة الأوثان مخيفين للأنبياء مانعين القصد إلى بيت المقدس، لم يكن فيهم نبي قط إلا مقتولاً أو هارباً مخافاً. فإن قيل:

_ (1) ع: يهوآحاز (يوآحاز) .

أليس قد قتل الياس جميع أنبياء بابل لأجل الوثن الذي كان يعبده الملك، والنخلة التي كانت تعبدها بني إسرائيل وهم ثمانمائة وثمانون رجلاً قلنا: إنما كان بإقرار كتبهم في مشهد واحد، ثم هرب من وقته وطلبته امرأة الملك لتقتله وما أبصره أحد. فأول ملوك الأسباط العشرة يربعام بن ناباط (1) الأفرايمي، وليهم إثر موت سليمان النبي صلى الله عليه وسلم، فعمل من حينه عجلين من ذهب وقال: هذان إلاهكم اللذان خلصاكم من مصر، وبنى لهما هيكلين، وجعل لهما سدنة من غير بني لاوي، وعبدهما هو وجميع أهل مملكته، ومنعهم من المسير إلى بيت المقدس، وهو كان شريعتهم لا شريعة لهم غير القصد إليه والقربان فيه. فملك أربعاً وعشرين سنة. ثم مات وولي ابنه ناداب بن يربعام على الكفر المعلن سنتين، ثم قتل هو وجميع أهل بيته. وولي بعشابن آخيا (2) من بني يساخر على عبادة الأوثان علانية أربعاً وعشرين سنة. وولي ولده أيلا بن بعشا على الكفر وعبادة الأوثان سنتين إلى أن قام عليه رجل من قواده اسمه زمري، فقتله وجميع أهل بيته. وولي زمري سبعة أيام، فقتله وأحرق عليه داره، وافترق أمرهم على رجلين، أحدهما يسمى تبني بن جينة، والآخر عمري، فبقيا كذلك اثنتي عشر عاماً. ثم مات تبني وانفرد بملكهم عمري فبقي كذلك ثمانية أعوام على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات. وولي بعده ابنه آخاب بن عمري على أشد ما يكون من الكفر وعبادة الأوثان إحدى وعشرين سنة. وفي أيامه كان إلياس النبي عليه السلام هارباً عنه في الفلوات وعن امرأته بنت ملك صيدا. وهما يطلبانه للقتل. ثم مات آخاب وولي ابنه أحزيا بن آخاب على الكفر وعبادة الأوثان ثلاث سنين. ثم مات وولي مكانه أخوه يهورام بن آخاب على الكفر وعبادة الأوثان اثنتي عشرة سنة إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته. وفي ايامه كان اليسع عليه السلام. وولي مكانه ياهو [بن يهوشافاط] بني نمشي من سبط منشا فكان أقلهم كفراً،

_ (1) ع: نباط. (2) في المطبوعة: أيلا.

هدم هياكل بعل (1) الوثن وقتل سدنته، إلا أنه لم ينقض قط عبادة الأوثان بل ترك الناس عليها ولم يظهر الإيمان. فولي كذلك ثماني وعشرين سنة ومات. وولي مكانه ابنه يهوياحاز (2) بن ياهو سبع عشرة سنة، فبنى بيوت الأوثان، وأعلن عبادتها هو ورعيته إلى أن مات. وفي كتبهم أن أمر الأسباط العشرة ضعف في أيامه، حتى لم يكن معه من الجند إلا خمسون فارساً وعشرة آلاف راجل فقط، لأن ملك دمشق غلب عليهم وقتلهم. وولي مكانه ابنه يوآش (3) بن يهوياحاز ست عشرة سنة على أشد من كفر أبيه، وأخذ في عبادة الأوثان، وهو الذي غزا بيت المقدس وأغار عليه وعلى الهيكل وأخذ كل ما فيه، وهدم من سور المدينة أربعمائة ذراع، وهرب عنه ملك يهوذا. ثم مات وولي مكانه ابنه زخريا بن ياربعام بن يوآش بن يهوياحاز بن ياهو بن نمشي ستة أشهر على الكفر وعبادة الأوثان، إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته. وولي مكانه شلوم بن يابيش (4) من سبط نفتالي فملك شهراً واحداً على الكفر وعبادة الأوثان. ثم قتل وولي مكانه بعده مناحيم بن جادي (5) من سبط يساخر عشرين سنة على عبادة الأوثان والكفر ومات. وولي مكانه ابنه فقحيا (6) بن مناحيم على الكفر وعبادة الأوثان سنتين إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته. وولي مكانه فاقح بن رمليا (7) من سبط داني، فملك ثماني وعشرين سنة على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته. وفي أيامه أجلى تغلث فلاسر (8) ملك

_ (1) في المطبوعة: ماعل. (2) يهوآحاز. (3) يهوآش. (4) في المطبوعة: نامس. (5) في المطبوعة: مياحيم بن قارا. (6) في المطبوعة: محيا. (7) في المطبوعة: ناجح بن رمليا (ع: فقح) . (8) في المطبوعة: تباشر.

الجزير، بني رؤوبين وبني جاد ونصف سبط منشا من بلادهم بالغور، وحملهم إلى بلاده وسكن بلادهم قوماً من بلاده. ثم ولي مكانه هوشيع بن أيلا من سبط جاد على الكفر وعبادة الأوثان سبع سنين، إلى أن أسره كما ذكرنا سليمان الأعسر ملك الموصل وحمله والتسعة الأسباط ونصف سبط منشا إلى بلاد أسرى، وسكن بلادهم قوماً من أهل بلاده، وهم السامرية إلى اليوم، وهوشيع هذا آخر ملوك الأسباط العشرة. وانقضى أمرهم، فبقايا المنقولين من آمد والجزيرة إلى بلاد بني إسرائيل هم الذين ينكرون التوراة جملة، وعندهم توراة أخرى غير هذه التي عند اليهود، ولا يؤمنون بنبي بعد موسى عليه السلام، ولا يقولون بفضل بيت المقدس ولا يعرفونه، ويقولون إن المدينة المقدسة هي نابلس، فأمر توراة أولئك أضعف من توراة هؤلاء، لأنهم لا يرجعون فيها إلى نبي أصلاً، ولا كانوا هنالك أيام دولة بني إسرائيل، وإنما عملها لهم رؤساهم أيضاً. فقد صح يقيناً أن جميع أسباط بني إسرائيل حاشا سبط يهوذا وبنيامين ومن كان بينهم من بني هارون بعد سليمان عليه السلام، مدة مائتي عام وواحد وسبعين عاماً، لم يظهر فيهم قط إيمان ولا يوماً واحداً فما فوقه، وإنما كانوا عباد أوثان ولم يكن قط فيهم نبي إلا مخاف، ولا كان للتوراة عندهم لا ذكر ولا رسم ولا أثر، ولا كان عندهم شيء من شرائعها أصلاً، مضى على ذلك جميع عامتهم وجميع ملوكهم وهم عشرون ملكاً قد سميناهم إلى أن أجلوا ودخلوا في الأمم وتدينوا بدين الصابئين الذين كانوا بينهم متملكين.

شذرات من الروايات التاريخية

الملحق (3) شذرات من الروايات التاريخية - 1 - حدثني أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الفارسي الفقيه وأملاه عليَّ بالأندلس قال: حدثنا أبو البركات محمد بن عبد الواحد الزُبيري (1) قال، حدثني أبو علي حسن بن الأشكري (2) المصري قال: كنت من جُلاس تميم بن أبي تميم، وممن يخف عليه جداً، قال: فأرسل إلى بغداذ فابتيعت له جارية فائقة الغناء، فلما وصلت إليه دعا جلساءه، قال: وكنت فيهم، ثم مدت الستارة وأمرها بالغناء، فغنت (3) [من الكامل] : وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برقٌ تألق موهناً لمعانه يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرى متمنعٌ أركانه فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت (4) به أجفانه قال: فأحسنت ما شاءت، وطرب تميم وكل من حضر، ثم غنت (5) : [من الطويل] ستسليك عما فات دولة مفضل ... أوائله محمودة وأواخره ثنى الله عطفيه وألف شخصه ... على البر مُذ شُدت عليه مآزره قال: فطرب تميم ومن حضر طرباً شديداً، قال: ثم غنت (6) : بمن البسيط] أستودع الله في بغداذ لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

_ (1) الجذوة: 66 - 68 (وبغية الملتمس رقم: 208) والمطرب: 62 - 64 والشريشي 2: 327 - 328 ومصارع العشاق 1: 170 - 171. (2) ولد بمكة سنة 357 وتنقل في البلاد طلباً للعلم ودخل الأندلس وحدث بها (الجذوة: 66) . (3) من الأصوات التي غناها بنان للمتوكل، وورد البيت الأول منها في الأغاني 16: 291 والشعر لمحمد بن صالح العلوي، والقصيدة في المصدر المذكور: 283. (4) الأغاني: سحت. (5) الشعر للحسين بن الضحاك، انظر الأغاني 7: 154، 155. (6) من عينية ابن زريق المشهورة وذكره أبو حيان (الامتاع 2: 166) من الأصوات التي كانت تغني في عصره.

قال: فاشتد طرب تميم وأفرط جداً، ثم قال لها: تمني ما شئت، فلك مناك، فقالت: أتمنى عافية الأمير وسعادته، فقال: والله لا بد لك أن تتمني، فقالت: على الوفاء أيها الأمير بما أتمنى فقال: نعم، فقالت: أتمنى أن أغني هذه النوبة ببغداذ، قال فاستنقع لو تميم وتغير وجهه، وتكدر المجلس، وقام وقمنا. قال ابن الأشكري: فلحقني بعض خدمه وقال لي: أرجع فالأمير يدعوك، فرجعت فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت وقمت بين يديه فقال: ويحك! أرأيت ما امتحنا به فقلت: نعم أيها الأمير. فقال لا بد من الوفاء لها، وما أثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها إلى بغداذ، فإذا غنت هنالك فاصرفها. فقلت: سمعاً وطاعة. قال: ثم قمت وتأهبت، وأمرها بالتأهب وأصحبها جارية له سوداء تعادلها وتخدمها، وأمر بناقة ومحمل فأدخلت فيه، وجعلها معي. وصرت إلى مكة مع القافلة، فقضينا حجنا، ثم دخلنا في قافلة العراق وسرنا، فلما وردنا " القادسية " أتتني السوداء عنها، فقالت: تقول لك سيدتي: أين نحن فقلت لها: نحن نزول القادسية، فانصرفت إليها وأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتها قد ارتفع بالغناء (1) : [من الكامل المجزوء] لما وردنا (2) القادسية حي ... ث مجتمع الرفاق وشممت من أرض الحجا ... ز شميم أنفاس العراق أيقنت لي ولمن أُح ... ب بجمع شمل واتفاق وضحكت من فرح اللقا ... ء كما بكيت من الفراق فتصايح الناس من أقطار القافلة: أعيدي بالله! قال: فما سمع لها كلمة. قال: ثم نزلنا " الياسرية "، وبينها وبين بغداذ نحو خمسة أميال، في بساتين متصلة ينزل الناس بها، يبيتون ليلتهم، ثم يبكرون لدخول بغداذ. فلما كان قرب الصباح إذ أنا بالسوداء قد أتتني مذعورة، فقلت: ما لك فقالت: إن سيدتي ليست بحاضرة، فقلت ويلك! وأين هي قالت: والله ما أدري، قال: فلم أحس لها أثراً بعد، ودخلت بغداذ وقضيت حوائجي بها، وانصرفت إلى تميم فأخبرته خبرها، فعظم ذلك عليه واغتم له، ثم ما زال بعد ذلك ذاكراً لها واجماً عليها. - 2 - قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: كان أبو بكر محمد بن معاوية المعروف بابن

_ (1) وردت هذه الأبيات في البصائر 648/2 منسوبة ليعقوب بن الربيع. (2) البصائر: الثعلبية.

الأحمر (1) مُكثراً ثقة جليلاً، ولم أزل أسمع المشايخ يقولون: إن سبب خروجه إلى المشرق كان أنه خرجت بأنفه أو ببعض جسده قرحة، فلم يجد لها بالأندلس مداوياً، وعظم عليه أمرها، وقيل له: ربما ترقت وتفشغت فأدت إلى الهلاك، فأسرع الخروج إلى المشرق. فقيل له لا دواء لها إلا بالهند، وأنه وصل إلى الهند فأراها بعض أهل الطب هنالك، فقال له: أُداويها على إن تم برؤك وصح شفاؤك، قاسمتك جميع مالك، فقال: رضيت، فداواه. فلما أفاق دعاه إلى بيته وأخرج إليه جميع ماله وقال له: دونك المقاسمة المشروطة، فقال له الطبيب الهندي: أليست نفسك طيبةً بذلك قال: بلى والله! قال: فوالله لا أرزؤك شيئاً من مالك، ولكن آخذ هذا [الشيء] لشيءٍ استحسنه من آلات بيته. وقال له: إنما جربتك بقولي وأردت أن أعرف قيمة نفسك عندك، ولو أبيت ما داويتك إلا بجميع مالك، ولو لم تداوها لهلكت، فإنها قد كانت قاربت الخطر. فحمد الله عز وجل وانصرف، واشتغل في رجوعه بطلب العلم وروايات الكتب، فحصل له علم جمٌّ وبورك فيه. - 3 - حدثني أبو محمد علي بن أحمد (2) قال: حدثني أبو الوليد يونس بن عبد الله القاضي قال: لما أراد الحكم المستنصر غزو الروم سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، تقدم إلى والدي بالكون في صحبته، فاعتذر بضعف في جسمه، فقال المستنصر لأحمد بن نصر: قل له إن ضمن لي أن يؤلف في أشعار خلفائنا بالمشرق والأندلس مثل كتاب الصولي في أشعار خلفاء بني العباس أعفيته من الغزاة. فخرج أحمد بن نصر إليه بذلك فقال: أنا أفعل ذلك لأمير المؤمنين إن شاء الله. قال، فقال المستنصر: إن شاء أن يكون تأليفه له في منزله فذلك إليه، وإن شاء في دار الملك قال المطلة على النهر فذلك له. قال: فسأل أبي أن يكون ذلك في دار الملك وقال: أنا رجل مورود في منزلي، وانفرادي في دار الملك لهذه الخدمة أقطع لكل شغل، فأُجيب إلى ذلك. وكمل الكتاب في مجلد صالح، وخرج به أحمد بن نصر إلى الحكم المستنصر فلقيه بالمجلد

_ (1) جذوة المقتبس: 82 (وبغية الملتمس رقم: 271) وابن الفرضي 2: 70 ينتهي في نسبه إلى هشام بن عبد الملك، رحل إلى المشرق سنة 295 ودخل الهند تاجراً وكان يقول: خرجت من أرض الهند وأنا أقرر أن معي قيمة ثلاثين ألف دينار فلما قاربت أرض الإسلام غرقت فما نجوت إلا سيحاً لا شيء معي؛ عاد إلى وطنه سنة 325 وكانت وفاته سنة 358. (2) الجذوة: 235 (والبغية رقم: 883) .

بطليطلة فسر الحكم به. قال أبو الوليد ابن الصفار: وفي تلك السنة مات أبي - يعني سنة اثنتين وخمسين. وأنشدني له أبو محمد علي بن أحمد: [من الطويل] أتوا حسبة أن قيل جدَّ نحوله ... فلم يبق من لحم عليه ولا عظم فعادوا قميصاً في فراش فلم يروا ... ولا لمسوا شيئاً يدلُّ على جسم طواه الهوى في ثوب سقم من الضنى ... فليس بمحسوس بعينٍ ولا وهم - 4 - وأخبرني أبو محمد علي بن أحمد قال (1) : أخبرني القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله (2) عن أبيه، أنه شاهد قاضي الجماعة محمد بن أبي عيسى (3) في دار رجلٍ من بني جدير مع أخيه أبي عيسى في ناحية مقابر قريش وقد خرجوا لحضور جنازة، وجارية للحديري تغنيهم هذه الأبيات: [من الكامل] طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزهت بحمرة خدك التفاح وإذا الربيع تنسمت أرواحه ... طابت بطيب نسيمك الأرواح وإذا الحنادس ألبست ظلماءها ... فضياء وجهك في الدُّجى المصباح قال: وكتبها قاضي الجماعة في يده ثم خرجوا. قال: فلقد رأيته يكبر للصلاة على الجنازة، والأبيات مكتوبة على باطن كفه. - 5 - حدثني ابو محمد علي بن أحمد قال (4) : حدثني خلف بن عثمان المعروف بابن اللجام (5) قال: حدثني يحيى بن هذيل (6) أن أول تعرضه للشعر إنما كان لأنه حضر جنازة أحمد بن محمد بن عبد ربه، قال: وأنا يومئذ في أوان الشبيبة. قال: فرأيت فيها من الجمع العظيم وتكاثر الناس شيئاً راعني، فقلت: لمن هذه الجنازة فقيل لي

_ (1) الجذوة: 70 (بغية الملتمس رقم: 218) ونفح الطيب: 3: 564. (2) هو ابن الصفار أحد شيوخ ابن حزم، وقد مر التعريف به في الجزء الأول: 214. (3) محمد بن أبي عيسى: هو محمد بن عبد الله من بني يحيى بن يحيى الليثي، قرطبي رحل إلى المشرق 312 وكان حافظاً للرأي معنياً بالآثار شاعراً، تولى قضاء الجماعة بقرطبة سنة 326، مات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة ودفن بها سنة 339 (ابن الفرضي 2: 61 وانظر الجذوة والبغية) . (4) الجذوة: 358 (بغية الملتمس رقم: 1495) . (5) من أصحاب الأصيلي، انظر الجذوة: 195 والصلة: 162. (- 491) . (6) راجع التعليقات على كتاب التشبيهات لابن الكتاني: 337 - 338 ففيها ترجمة موجزة له وذكر للمصادر.

لشاعر البلد، فوقع في نفسي الرَّغبة في الشعر، واشتغل فكري بذلك، وانصرفت إلى منزلي. فلما أخذت مضجعي من الليل أُريت كأني على باب دار فيقال لي: هذه دار الحسن بن هانئ، فكنت أقرع الباب فيخرج إلي الحسن فيفتح الباب وينظرني بعين حولاء ثم ينصرف. قال: فاستيقظت من ساعتي وقمت سحراً إلى المفسر فقصصتها عليه فقال: سيكون محلك من قول الشعر بمقدار ما كان يتحول إليك من عين الحسن. قال لي أبو محمد: مات أبو بكر ابن هذيل سنة خمس أو ست وثمانين وثلاثمائة، وهو ابن ست وثمانين، وكان قد بلغ من الأدب والشعر مبلغاً مشهوراً، ومن مستحسن شعره (1) : [من الكامل] لم يرحلوا إلا وفوق رحالهم ... (2) غيمٌ حكى غبش الظلام المقبل وعلت مطارفهم (3) مجاجات الندى ... فكأنما مطرت بدر مرسل لما تحركت (4) الحمول تناثرت ... من فوقهم في الأرض تحت الأرجل (5) - 6 - أخبرني أبو محمد علي بن أحمد قال (6) ، أخبرني أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسين (7) قال، وجدت بخط أبي قال: أمرنا الحكم المستنصر بالله، رحمه الله، بمقابلة كتاب " العين " للخليل بن أحمد مع أبي علي إسماعيل بن القاسم البغداذي، وابني سيد (8) في دار الملك التي بقصر قرطبة: وأحضر من الكتاب نسخاً كثيرة في جملتها نسخة القاضي منذر بن سعيد التي رواها بمصر عن ابن ولاد. فمر لنا صور من الكتاب بالمقابلة. فدخل علينا الحكم في بعض الأيام فسألنا عن النسخ، فقلنا نحن: أما نسخة القاضي التي كتبها بخطه فهي أشد النسخ تصحيفاً وخطأ وتبديلا، فسألنا عما نذكره من ذلك فأنشدناه أبياتاً مكسورة وأسمعناه ألفاظاً مصحفة ولغات مبدلة، فعجب

_ (1) كتاب التشبيهات (رقم: 300) . (2) التشبيهات: المعتلي. (3) التشبيهات: وعلى هوادجهم. (4) التشبيهات: الركاب. (5) التشبيهات: بين. (6) الجذوة: 47 (والبغية رقم: 94) . (7) هو صاحب كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، وقد أدرك الفتنة البربرية (الجذوة: 290 والبغية رقم: 1194) . (8) لعل الصواب " وابن سيد " وهو إمام في اللغة العربية وقال الحميدي لعله أحمد بن أبان بن سيد الذي روى عن القالي (الجذوة: 110، 381) .

من ذلك وسأل ابا علي فقال له نحو ذلك، واتصل المجلس بالقاضي فكتب إلى الحكم المستنصر رقعة وفيها: [من الوافر] جزى الله الخليل الخير عنا ... بأفضل ما جزى فهو المجازي وما خطا الخليل سوى المغيلي ... وعضروطين في ربض الطراز فصار القوم زرية كل زار ... وسخرياً وهزأة كل هاز فلما دخلنا على المستنصر قال لنا: أما القاضي فقد هجاكم، وناولنا الرقعة بخط يد القاضي، وكانت تحت شيء بين يديه، فقرأناها وقلنا: مولانا نجل مجلسك الكريم عن انتقاص أحدٍ فيه، لا سيما مثل القاضي في سنه ومنصبه، وإن أحب مولانا أن يقف على حقيقة ما أدركناه، فليحضره، وليحضر الأستاذ الأستاذ أبا علي، ثم نتكلم على كل كلمة أدركناها عليه، فقال: قد ابتدأكما والبادي أظلم، وليس على من انتصر لوم. قال أبي: فمددت يدي إلى الدواة وكتبت بين يديه: [من الوافر] هلم فقد دعوت إلى البراز ... وقد ناجزت قرناً ذا نجاز ولا تمش الضراء فقد أثرت ال ... أسود الغلب تخطر باحتفاز وأصحر للقاء تكن صريعاً ... لماضي الحد مصقول جراز رويت عن الخليل الوهم جهراً ... لجهل بالكلام وبالمجاز دعوت له بخير ثم أنحت ... يداك على مفاخره العزاز تهدمها وتجعل ما علاها ... أسافلها ستجزيك الجوازي جزى الله الإمام العدل عنا ... جزاء الخير فهو له مجازي به وريت زناد العلم قدماً ... وشرف طالبيه باعتزاز وجلى عن كتاب العين دجناً ... وإظلاماً بنور ذي امتياز بأستاذ اللغات أبي علي ... وأحداثٍ بناحية " الطراز " بهم صح الكتاب وصيروه ... من التصحيف في ظل احتراز وأسقطنا نحن منها أبياتاً تجاوز الحد فيها. قال: ثم أنشدتها المستنصر بالله فضحك وقال: قد انتصرت وزدت، وأمر بها فختمت، ثم وجه بها إلى القاضي، فلم يسمع له بعد ذلك كلمة.

- 7 - أخبرني أبو محمد علي بن أحمد (1) قال: أخبرني غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله الفهري اللغوي (2) قال: دعاني يوماً رجل من إخواني إلى حضور عرس له في أيام الشبيبة والطلب، فحضرت مع جماعة من أهل الأدب، وأحضر جماعة من الملهين وفيهم ابن مقيم الزامر، وكان طيب المجلس صاحب نوادر، فلما اطمأن المجلس واستمر السرور بأهله، انحرف ابن مقيم إلينا وأقبل علينا، فقال: يا معشر أهل الإعراب واللغة والآداب، ويا أصحاب أبي علي البغداذي، أريد أن أسألكم عن مسألة حتى أرى مقدار علمكم، وسعة جمعكم، فقلنا له: هات بالله قل وأعد يا طيب الخبر، فقال: بماذا تُسمى الدُّويبة السوداء التي تكون في الباقلاء عند أهل اللغة العلماء فرجعنا إلى أنفسنا نفكر، فو الله ما عرفنا ما نقول فيها ولا مرت بأُذننا قط، وبهتنا، ثم قلنا له: ما نعرف، فقال: سبحان الله ما هذا وأنتم الضابطون للناس لغتهم بزعمكم! فقلنا له: أفدنا ما عندك. فقال: نعم، هذه تسمى البيقران. قال الفهري: فتصورت والله في ذهني، وقلت: فيعلان من بقر يبقر يوشك أن يكون هذا وعددتها فائدة، فبينا نحن بعد مدة عند أبي علي إذ سألنا عن هذه المسألة بعينها. قال الفهري: فأسرعت الإجابة ثقةً بما جرى فقلت: تسمى البيقران، فقال: من أين تقول هذا فأخبرته بالمشهد الذي جرى فيها، والحال في استفادتها، فقال: إنا لله، رجعت تأخذ اللغة من أهل الزَّمْر، لقد ساءني مكانك، وجعل يؤنِّبُني، ثم قال: هي الدّفْنِس، والدّنِفس. قال الفهري يطيب الحكاية: فتركت روايتي عن ابن مقيم لروايتي عن أبي علي. - 8 - وأخبرني [أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الفقيه] (3) أن المنصور أبا عامر لما فتح شَنْت ياقب (4) أو غيرها من القلاع الحصينة التي يقال إن أحداً لم يصل إليها قبله، استدعي أبو عمر أحمد بن محمد بن دَرّاج (5) وأبو مروان عبد الملك بن إدريس

_ (1) الجذوة: 374 (والبغية رقم: 1533) . (2) هو غلام أبي علي القالي، انظر المصدرين السابقين. (3) الجذوة: 104 (ترجمة ابن دراج) . (4) شنت ياقب SANTIAGO DE COMPOSTELA في أقصى الشمال الغربي من إيبيريا، وفيها قبر القديس يعقوب وإليه يحجون. (5) شاعر الأندلس في عصره، انظر التشبيهات: 296.

المعروف بابن الجزيري (1) ، وأُمرا بإنشاء كُتب الفتح إلى الحضرة وإلى سائر الأعمال، فأما ابن الجزيري فقال: سمعاً وطاعة، وأما ابن دراج فقال: لا يتم لي ذلك في أقل من يومين أو ثلاثة، وكان معروفاً بالتنقيح والتجويد والتؤدة. فخرج الأمر إلى ابن الجزيري بالشروع في ذلك، فجلس في ظل السُّرادق ولم يبرح حتى أكمل الكتب في ذلك. وقيل لابن دراج افعل ذلك على اختيارك فقد فسح لك فيه. ثم جاء بعد ذلك بنسخة الفتح، وقد وصف الغزاة من أولها إلى آخرها، ومشاهد القتال، وكيفية الحال، بأحسن وصف وأبدع رصف، فاستحسنت ووقع الإعجاب بها، ولم تزل منقولة متداولة إلى الآن، وما بقي من نسخ ابن الجزيري في ذلك الفتح على كثرتها عينٌ ولا أثر. - 9 - وحدثني أبو محمد عل بن أحمد بن سعيد (2) قال: أخبرني هشام بن محمد ابن هشام بن محمد بن عثمان المعروف بابن البشتني، من آل الوزير أبي الحسن جعفر بن عثمان المصحفي، عن الوزير أبي رحمه الله أنه كان بين يدي المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر في بعض مجالسه للعامة، فرفعت إليه رقعة استعطاف لأم رجل مسجون كان ابن أبي عامر حنقاً عليه لجرم استعظمه منه، فلما قرأها اشتد غضبه وقال: ذكرتني والله به، وأخذ القلم يوقع، وأراد أن يكتب: يُصلب، فكتب: يطلق، ورمى الكتاب إلى الوزير. قال: فأخذ أبوك القلم وتناول رقعة وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشُّرط، فقال له ابن أبي عامر ما هذا الذي تكتب قال: بإطلاق فلان، قال: فحرد قوال: من أمر بهذا فناوله التوقيع، فلما رآه قال: وهمت، والله ليصلبن، ثم خط ما كتب، واراد أن يكتب: يُصلب، فكتب: يُطلق. قال: فأخذ والدك الرقعة، فلما رأى التوقيع تمادى على ما بدأ به من الأمر بإطلاقه، ونظر إليه المنصور متمادياً على الكتاب، فقال: ما تكتب قال: بإطلاق الرجل، فغضب غضباً أشد من الأول، وقال: من أمر بهذا فناوله الرقعة، فرأى خطه، فخط على ما كتب، وأراد أن يكتب: يصلب، فكتب: يطلق، فأخذ والدك الكتاب فنظر ما وقع به، ثم تمادى فيما كان بدأ به، فقال له: ماذا تكتب فقال: بإطلاق الرجل، وهذا الخط ثالثاً بذلك، فلما رآه عجب وقال: نعم يُطلق على رغمي،

_ (1) عبد الملك بن إدريس الجزيري (- 394) ، مصادر ترجمته مذكورة في كتاب التشبيهات: 317. (2) الجذوة: 118 (والبغية رقم: 411) واعتاب الكتاب 192.

فمن أراد الله إطلاقه لا أقدر أنا على منعه، أو كما قال. - 10 - أحمد بن أبي بكر بن الحسن الزُّبيدي أبو القاسم (1) : من أهل الأدب والفضل، ولي قضاء إشبيلية بعد أبيه. قال لي أبو محمد علي بن الوزير أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم: إلا أنه كان شديد العجب؛ فأخبرني ابن عمي أبو عمر أحمد بن عبد الرحمن (2) قال: كتب أبو القاسم ابن الزبيدي إلى الوزير أبيك كتاباً يرغب فيه إليه ان بُحسن العناية به في بعض الأمور، وكتب في آخر الكتاب (3) : [من الطويل] ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد قال ابن عمي: فأخبرني عمي، يعني الوزير أبا عمر، وقال: فحولت الكتاب ووقعت على ظهره ولم أزد: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... صديقاً له ما من عداوته بُدُّ - 11 - أخبرني أبو محمد علي بن أحمد (4) قال: أخبرني أبو عمرو البراء بن عبد الملك الباجي (5) قال: لما ورد أبو الفتوح الجرجاني (6) الأندلس كان أول من لقي من ملوكها الأمير الموفق أبو الجيش مجاهد العامري فأكرمه، وبالغ في بره، فسأله يوماً عن رفيق له، من هذا معك فقال:

_ (1) الجذوة: 98 (والبغية رقم: 385) . (2) تولى الحكم بالجانب الغربي من قرطبة أيام المهدي وهو أخو أبي المغيرة (الجذوة: 122 والبغية رقم: 432) . (3) البيت للمتنبي: 184. (4) الجذوة: 173 - 174 (والبغية رقم: 602) والذخيرة 4: 125 ومعجم الأدباء 7: 147. (5) كان وزيراً من أهل الأدب والفضل (الجذوة: 171 والبغية رقم 596) . (6) ثابت بن بن محمد الجرجاني العدوي أبو الفتوح، قتله باديس بن حبوس سنة 431، انظر ترجمته في الذخيرة 1/4: 124 والجذوة والبغية والصلة: 125 والإحاطة 1: 462 وبغية الوعاة: 210 ومعجم الأدباء 7: 145.

اسبيجاب (1) ، وقال للآخر من أين أنت قال: من الأندلس؛ فعجب ابن الأعرابي وأنشد البيت المتقدم؛ ثم أنشدني تمامها: [من الطويل] نزلنا على قيسية يمنية ... لها نسبٌ في الصالحين هجان فقالت وارخت جانب الستر دوننا ... لأية أرض أم من الرجلان فقلت لها: أما رفيقي فقومه ... تميم، وأما أسرتي فيمان رفيقان شتى ألف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتى فيأتلفان وأخبرني عنه أبو محمد علي بن أحمد قال: أخبرني علي بن حمزة مضيف المتنبي، قال: وعنده نزل المتنبي ببغداذ، أن القصيدة التي أولها: هذي برزت لنا فهجت رسيسا ... قالها في محمد بن زريق الناظر في زوامل ابن الزيات صاحب طرسوس وأنه وصله عليها بعشرة دراهم فقيل له: إن شعره حسن فقال: ما أدري أحسن هو أم قبيح ولكن أزيده لقولكم عشرة دراهم، فكانت صلته عليها عشرين درهماً. - 12 - أخبرنا ابو محمد علي بن أحمد قال (2) : حدثني أبو الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني، قال: كنت مع أبي الجيش مجاهد أيام غزاته سردانية، فدخل بالمراكب في مرسى نهاه عنه أبو خروب، رئيس البحريين، فلم يقبل منه. فلما حصل في ذلك المرسى هبت ريح فجعلت تقذف مراكب المسلمين مركباً مركباً إلى الريف، والروم وقوف لا شغل لهم إلا الأسر والقتل للمسلمين، فكلما سقط مركب بين أيديهم جعل مجاهد يبكي بأعلى صوته لا يقدر هو ولا غيره على أكثر، لارتجاج البحر وزيادة الريح. قال: فيقبل علينا أبو خروب وينشد (3) : [من الطويل] بكا دوبلٌ لا أرقأَ الله عينه ... ألا إنما يبكي من الذُّلِّ دَوْبلُ ثم يقول: قد كنت حذرته من الدخول هاهنا فلم يقبل، قال: فَبِجُرَيعة الذّقن ما تخلصنا في يسير من الركب. هذا آخر خبر ثابت بن محمد.

_ (1) أثبتها ياقوت " أسفيجاب " وقال: بلدة كبيرة من أعيان بلاد ما وراء النهر (معجم البلدان 1: 249) . (2) الجذوة: 331 - 332 (والبغية رقم: 1379) . (3) البيت لجرير (كما في اللسان: دبل) والدوبل: ولد الحمار وقد أطلقه جرير على الأخطل.

- 13 - سمعت الفقيه الحافظ أبا محمد علي بن أحمد يقول (1) : " مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف كانت القضاة من قبله، فكان لا يولي قضاء البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال إفريقية إلا أصحابه والمنتمين إلى مذهبه، ومذهب مالك بن أنس عندنا فإن يحيى بن يحيى (2) كان مكيناً عند السلطان، مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاضٍ في أقطارنا إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا والرياسة، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به. على أن يحيى بن يحيى لم يلِ قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائداً في جلالته عندهم، وداعياً إلى قبول رأيه لديهم، وكذلك جرى الأمر في أفريقية لما ولي القضاء بها سحنون بن سعيد، ثم نشأ الناس على ما أنشر ". - 14 - قال لنا أبو محمد علي بن أحمد (3) : توفي أبو عامر ابن شهيد ضحى يوم الجمعة آخر يوم من جُمادى الأولى، سنة ست وعشرين واربعمائة بقرطبة، ودفن يوم السبت ثاني يوم وفاته في مقبرة أم سلمة، وصلى عليه جهور بن محمد بن جهور أبو الحزم، وكان حين وفاته حامل لواء الشعر والبلاغة، لم يخلف لنفسه نظيراً في هذين العلمين جملة. مولده سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، ولم يعقب وانقرض عقب الوزير [أبيه] بموته. وكان جواداً لا يليق شيئاً ولا يأسى على فائت، عزيز النفس مائلاً إلى الهزل. وكان له من علم الطب نصيب وافر، وكانت علة أبي عامر ضيق النفس والنفخ، ومات في ذهنه وهو يدعو الله عز وجل، ويشهد شهادة التوحيد والإسلام. وكان أوصى أن يصلي عليه أبو عمر الحصار الرجل الصالح، فتغيب إذ دعي، وأوصى أن يسن عليه التراب دون لبن ولا خشب فأغفل ذلك.

_ (1) الجذوة 360 - 361 (والبغية رقم: 1497) . (2) يحيى بن يحيى الليثي تلميذ مالك بن أنس (توفي سنة 234) انظر الجذوة 358 - 361 وابن الفرضي 2: 176. (3) الجذوة: 127 (والبغية رقم: 437) .

- 15 - أخبرني ابو محمد علي بن أحمد قال (1) : بات عندي أبو بكر إبراهيم بن يحيى [الطبني] (2) في ليلة مطيرة، فاستدعيت ابن عمه أبا مروان عبد الملك بن زيادة الله (3) بهذين البيتين: [من السريع] صنواك في ربعي فثلثهما ... غيث السواري وأبو بكر صلني بلقياك التي أبتغي ... أصلك بالحمد وبالشكر وأنشدني له من قصيدة طويلة في مدح أبي العاص حكم بن سعيد بن حكم القيسي، وزير دولة المعتد (4) ، قال أبو محمد: وسمعته ينشده إياها ومنها: [من الكامل] إن الرسوم إذا اعتبرت نواطق ... فسل الربوع تجبك عند سؤالها يأبى الفناء يرى فناءً عامراً ... شطر ثاني قد أجملت جمل ولكن ضيعت ... شطر ثاني - 16 - أخبر الإمام أبو محمد ابن حزم (5) أن [محمد بن المظفر عبد الملك العامري] (6) لما أيقن بالموت دق جوهراً عظيماً كانت قيمته ما لا نهاية له، لئلا يتمتع به أحد بعده، فانقضى أمره على هذه السبيل.

_ (1) الجذوة: 149 - 150 (والبغية رقم: 531) . (2) انظر الجزء الأول: 260 (الحاشية رقم: 1) . (3) أبو مروان الطبني: كان إماماً في اللغة شاعراً، رحل غير مرة إلى المشرق ومات بقرطبة مقتولاً بعد سنة 450 (الجذوة: 265 والذخيرة 1/1: 535 والصلة: 343 والمغرب 1: 92 والنفح 2: 496 وبغية الوعاة: 312 والمسالك 11: 398) . (4) المعتد بالله: لقب هشام بن محمد (البيان المغرب 3: 145) . (5) أعمال الأعلام: 194. (6) لا يستبعد أن يكون هذا هو الذي أطال الحديث عن جماله وافتتان الناس به في طوق الحمامة (انظر الجزء الاول: 112 والتعليق رقم: 3) حيث ذكرت اعتماداً على الجمهرة أنه لا عقب لعبد الملك المظفر، ويبدو أن هذا خطأ، فقد ترجم لسان الدين لمحمد بن عبد الملك في أعمال الأعلام (نفسه) ؛ والمسألة لا تزال بحاجة إلى تحقيق.

إضافات واستدراكات

إضافات واستدراكات

فراغ

إضافات واستدراكات

إضافات واستدراكات - 1 - اعتمد القلقشندي في الجزء الأول من مآثر الإناقة على ابن حرم، في نقط العروس، وهذه هي إشاراته إليه: 22: - وحكى ابن حزم في بعض مصنفاته أن خلفاء بني أمية تلقب منهم جماعة بألقاب الخلافة، وأن أول من تلقب بألقاب الخلافة معاوية بن أبي سفيان وأن لقبه كان الناصر لحق الله ثم تبعه باقي خلفاء بني أمية على التلقيب ... قال ابن حزم: وليس بصحيح (نقط العروس، ف: 1، ص: 48) . 88: - قال ابن حزم في " نقط العروس ": وكانت سنه (أي أبو بكر) حين ولي الخلافة دون الستين سنة (ف: 48) (1) . 94: - قال في " نقط العروس ": واختلف في سنه (يعني عثمان بن عفان) حين وليها، فقيل إنه ولي وله ما بين ثمان وخمسين إلى إحدى وخمسين [كذا] سنة، وقيل أقل من ذلك، قال: والحق الذي لا شك فيه أنه لم يكن بلغ ستين سنة (ف: 48) (2) . 100: - قال في " نقط العروس " وكان عمره (أي علي بن أبي طالب) يومئذ دون الستين (ف:49) . 106: - قال في " نقط العروس " وكان عمره (أي الحسن بن علي) حينئذ ما بين ثلاثين سنة إلى أربعين سنة (ف: 51) . 110: - قال في " نقط العوس " وكانت سنه (أي معاوية بن أبي سفيان) دون الستين سنة (ف: 49) . 116: - ومقتضى كلام ابن حزم في " نقط العروس " أنه (يعني يزيد) ولي وعمره

_ (1) هذا غير ما ورد، إذ ذكر ابن حزم أنه ولي الخلافة وله إحدى وستون سنة. (2) نص ابن حزم: واختلف في عثمان ما بين إحدى وخمسين إلى ثماني وسبعين (ب: وستين) سنة.

ما بين العشرين والثلاثين سنة (ف: 51) (1) [ولقبه: المستنصر على أهل الزيغ] . 122: - ومقتضى كلام ابن حزم أنه (اي معاوية بن يزيد) ولي الخلافة وسنه ما بين العشرين والثلاثين سنة (ف: 47، 53) (2) [ولقبه: الراجع إلى الله] . 123: - قال ابن حزم: وسنه (أي ابن الزبير) حين بويع ما يزيد على ستين سنة (ف: 48) . 125: - قال ابن حزم في " نقط العروس ": وكان سنه (أي مروان بن الحكم) يوم ولي الخلافة إحدى وستين سنة. (ف: 48) [ولقبه: المؤتمن بالله] (3) . 128: - قال ابن حزم: وكان عمره (أي عبد الملك) حين ولي الخلافة ما بين الثلاثين سنة والأربعين سنة (ف: 51) [ولقبه: الموثق لأمر الله] . 133: - قال ابن حزم: وكان سنه (أي الوليد بن عبد الملك) حين ولي ما بين الثلاثين والأربعين سنة (ف: 51) [ولقبه: المنتقم لله] . 139: - قال ابن حزم: وكان عمره (أي سليمان بن عبد الملك) حين ولي ما بين الثلاثين والأربعين (ف:51) بولقبه: المهدي بالله الداعي إلى الله] . 142: - قال ابن حزم: وكان سنه (أي عمر بن عبد العزيز) حين ولي الخلافة ما بين الثلاثين سنة والأربعين (ف: 51) [ولقبه: المعصوم بالله] . 147: - قال ابن حزم: وكان عمره (أي يزيد بن عبد الملك) يومئذ ما بين الثلاثين والأربعين (ف: 51) [ولقبه: القادر بصنع الله] . 151: - قال ابن حزم: وكان عمره (أي هشام بن عبد الملك) حين ولي الخلافة ما بين الخمسين والستين (ف: 49) [ولقبه: المنصور بالله] (4) . 158: - الوليد بن يزيد [لقبه: المكتفي بالله] . 159: - ومقتضى كلام ابن حزم أن عمره (أي يزيد بن الوليد) حين ولي الخلافة فيما بين العشرين والثلاثين (ف: 51) [ولقبه: الشاكر لأنعم الله] .

_ (1) عده فيمن ولي ما بين الثلاثين إلى الأربعين. (2) هذا مخالف لما قاله ابن حزم إذ صرح نصاً بأنه ولي الخلافة ولم يبلغ التاسعة عشرة وأنه توفي ولم يبلغ العشرين. (3) في نقط العروس: المؤتمر بالله. (4) في نقط العروس: المنصور.

161 - قال ابن حزم: وسنه (أي إبراهيم بن الوليد) يومئذ ما بين الثلاثين والأربعين (ف: 51) [ولقبه: المقتدر بالله] (1) . 163: - ومقتضى كلام ابن حزم أنه (أي مروان بن محمد) كان سنه بين الثلاثين والعشرين [كذا] (ف: 48) (2) [ولقبه: القائم بحق الله] . 171: - قال ابن حزم: كان سنه (أي السفاح) حين ولي ما بين الثلاثين والأربعين (ف: 51) . 176: - قال ابن حزم: وكان سنه (أي المنصور) حين ولي ما بين الأربعين والخمسين (ف: 50) . 184: - قال ابن حزم: وكان سنه (أي المهدي) حين ولي ما بين الثلاثين والأربعين (ف: 51) . 190: - وقضية كلام ابن حزم أن سنه (أي الهادي) حين ولي كانت ما بين العشرين والثلاثين (ف: 51) . 193: - ومقتضى كلام ابن حزم أنه (أي الرشيد) ولي وعمره ما بين العشرين إلى الثلاثين (ف: 51) . 346: - قال ابن حزم: وكانت وفاته (أي أبو الفتوح السليماني صاحب مكة) عن غير ولد، وانقرض بموته دولة السليمانيين بمكة. - 2 - ص 79 (ف: 47 من نقط العروس) ينقل ابن حيان عن نفطويه وهو إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي المشهور المتوفى سنة 323 (ترجمته في إنباه الرواة 1: 176 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى) وقد ذكر القفطي أن له مصنفاً في التاريخ (1: 180) وهذا يفسر قول ابن حيان " وذكر نفطويه في كتابه " أما ابن كامل المذكور في هذا الخبر فهو أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة أحد أصحاب محمد بن جرير الطبري وقد ذكر صاحب الفهرست من مصنفاته كتاباً في التاريخ (الفهرست: 35 وإنباه الرواة 1: 97 ومصادر أخرى في الحاشية) وقد توفي ابن كامل سنة 350.

_ (1) في نقط العروس: المتعزز بالله. (2) نص ابن حزم على أنه تولى الخلافة وله إحدى وستون سنة.

ص: 85: كانت وقعة الخندق سنة 327 عند مدينة شنت مانقش (شنت مانكش) ، وقد حفر عبد الرحمن الناصر تحت أسوار تلك المدينة خندقاً ليحصر به قوات الأعداء إذا فكروا في الهرب، وكان خصمه هو رذمير الثالث ملك ليون (ملك الجلالقة) وقد مني الناصر بالهزيمة ونجا بفل الجيش إلى قرطبة، وهي المعركة الوحيدة التي لم ينل فيها نصراً، وكانت آخر معركة قادها بنفسه (انظر الروض المعطار: 324 - 325 مادة " سمورة "، وقد فصل ابن حيان في خبرها في المقتبس 5: 432 - 447) . - 4 - ورد في الفقرة: 67 (ص: 87) من نقط العروس ذكر أبي عمران الفاسي: وهو موسى بن عيسى بن أبي حاج الغفجومي (وغفجوم: فخذ من زناتة) نزيل القيروان، أصله من فاس، تفقه على علماء القيروان، ودخل الأندلس فدرس على علماء قرطبة، ثم رحل إلى المشرق وأخذ عن العلماء ودخل بغداد سنة 399 وحضر مجلس أبي الطيب الباقلاني، وكان فقيهاً ورعاً ذا هيبة ووقار، توفي سنة 430 ودفن بالقيروان (انظر معالم الإيمان 3: 159 - 164 تحقيق وتعليق محمد ماضور، والديباج المذهب: 344 والصلة: 577) . - 5 - ص: 90 س 13: يحيى بن بكر قتله أخوه خلف بن بكر ساجداً وهو يصلي بهم: ذكر ابن حيان من اسمه يحيى بن بكر وعدَّه ممن انتزى على الأمير عبد الله بن محمد، وكان خروجه بكورة أكشونبة متزعماً حركة المولدين بها (المقتبس - تحقيق أنطونية -: 15 - 16) وقد بقي إلى صدر من حكم عبد الرحمن الناصر (انظر المقتبس 5: 105، 117 - 118) ولم يذكر ابن حيان خبر مقتل يحيى هذا على أخيه خلف، ولكن نجد أخاه هذا يتزعم في أكشونبة ويقول فيه ابن حيان " من مجرمي أهل الخلاف المستبصرين في الغواية " (5: 248) وقد هاجمه الناصر سنة 317، فبادر إلى إعلان الطاعة، على أن يقره الناصر بمكانه، فقبل الناصر إنابته وأقره على ولاية بلده. - 6 - ص: 99 (ف: 85) ورد في نسخة الحميدي أن عبد العزيز بن محمد بن أبي

عامر لقب " ذا السابقتين " وفي نسخة ميونخ أن الذي نال هذا اللقب هو عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر؛ والصواب أنه عبد العزيز بن عبد الرحمن [بن محمد] بن أبي عامر، وهو الذي اختاره الموالي اعامريون لرئاسة بلنسية، وقد تودد إلى القاسم بن حمود الخليفة بقرطبة وارسل إليه هدية حسنة فسماه: المؤتمن ذا السابقتين (البيان المغرب 3: 164 - 165) . - 7 - ص: 107، س: 12 الوزير عبيد الله بن يحيى بن إدريس: أوجز الحميدي في ترجمته (الجذوة: 250 والبغية رقم: 974) ولكن ابن الفرضي أورد له ترجمة مسهبة نسبياً (1: 294) وذكر فيها ما يقوله ابن حزم عنه، وهو أنه كان يؤذن في مسجده وهو وزير؛ وتوقف عند شهرته بالشعر وأن الشعر كان أشهر أدواته مع معرفته بالآثار والسنن وحفظه للغريب والأمثال؛ ولي أحكام الشرطة ثم الوزارة فما زادته هذه الخطط إلا تواضعاً، وكانت وفاته سنة 352؛ وقد أورد له صاحب كتاب التشبيهات عدداً من المقاطعات الشعرية، وانظر اليتيمة 2: 11. - 8 - ص: 148، س: 2 ذكر ابن حزم أن إبراهيم بن يحيى (ابن أخي السفاح) استعرض أهل الموصل، وقد نسب الأزدي مؤلف تاريخ الموصل (ص: 145) هذا الفعل إلى يحيى نفسه، قال وفيها (أي سنة 133) قتل يحيى بن محمد بن علي أهل الموصل، وقد اختلف في سبب قتله لهم.... وقد أسهب الأزدي في وصف الحادث (146 - 154) ؛ ولم تذكر المصادر شيئاً عن ابن زريق هذا، ولكن نجد من حفدته علي بن صدقة بن دينار الأزدي (أيام الرشيد) وزريق بن علي بن صدفة الذي ولاه المأمون أرمينية وأذربيجان وأمده بالجيوش لحرب بابك (انظر الأزدي - صفحات متفرقة - وأما الطبري 3: 1072 فيسميه صدقة بن علي المعروف بزريق) . - 9 - ص: 179، س: 15 ذكر ابن الجارود وهو الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله ابن علي بن الجارود النيسابوري، وكان من العلماء المتقنين المجودين، توفي سنة 307، وقد عرف بكتابه " المنتقى في الأحكام " (انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ: 794) .

- 10 - ص: 181، س: 6 أبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد المصري: فقيه شافعي، له كتاب " الفروع " في المذهب، وهو كتاب صغير دقيق في مسائله، اهتم بشرحه عدد من الأئمة الكبار مثل القفال المروزي وأبي الطيب الطبري وغيرهما. وكان ابن الحداد فقيهاً محققاً تولى التدريس والقضاء بمصر، وتوفي سنة 344 (انظر ابن خلكان 4: 197 وطبقات الشيرازي: 114 وتاريخ بغداد 1: 365 والوافي للصفدي 2: 70 وطبقات السبكي 1: 288) . - 11 - ص: 184، س: 11 الأقشتين محمد بن هاشم (في النفح: الأقشتين محمد بن عاصم، وهو خطأ تعين تصحيحه) فقد أجمعت المصادر على أن الأقشتين هو محمد بن موسى بن هاشم، ومما يدل على خطأ النفح أن الحميدي استشهد بما ذكره ابن حزم في ترجمة محمد بن موسى بن هاشم (ص: 82) وللأقشتين رحلة إلى المشرق لقي فيها علماء العربية، وكانت وفاته في رجب سنة 307 (وقد ذكرت مصادر ترجمته ص: 184 حاشية رقم: 8، ويضاف إليها بغية الوعاة: 108، 1: 252 (تحقيق أبو الفضل إبراهيم) وإنباه الرواة 3: 216) . - 12 - ص: 187، س: 11 - 13 قال ابن حزم: " وإذا ذكرنا قاسم بن محمد لم نباه به إلا القفال ومحمد بن عقيل الفريابي، وهو شريكهما في صحبة المزني أبي إبراهيم والتلمذة له ". أما قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد فهو محدث أندلسي كان يميل إلى قول الشافعي، رحل فسمع من المزني ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ولزم الثاني للتفقه والمناظرة وتحقق به وبالمزني، وكان أيضاً يذهب مذهب الحجة والنظر وترك التقليد، وألف كتاباً نبيلاً في الرد على يحيى بن إبراهيم بن مزين وعبد الله بن خالد والعتبي، ويعرف بصاحب الوثائق لأنه كان يلي وثائق الأمير محمد طول أيامه، وكانت وفاته سنة 278 (الجذوة: 310 وابن الفرضي 1: 397 والسبكي 2: 344 تحقيق الحلو والطناحي) . وأما القفال، فإنه يدلُّ على أبي بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي

(المتوفى سنة 365) أو على القفال المروزي عبد الله بن احمد (ابن خلكان 4: 200، 3: 46) أو على القاسم بن محمد (ابن الشاشي) وكل من هؤلاء لم يدرك المزني، وأبعدهما زماناً الشاشي الكبير وقد ولد سنة 291 بينا توفي المزني سنة 264. وعلى هذا فالكلمة قد تشير إلى قفال آخر مبكر عاصر المزني، أو تكون مصحفة، وأقرب الوجوه إليها " النقال " وهو الحارث بن سريج الخوارزمي، وإنما قيل له النقال لأنه نقل رسالة الشافعي إلى عبد الرحمن بن مهدي وكانت وفاته سنة 236 (طبقات السبكي 2: 112 تحقيق الحلو والطناحي) . وأما محمد بن عقيل الفريابي أبو سعيد فهو من أصحاب المزني، حدث بمصر وكانت وفاته سنة 285 (طبقات السبكي 2: 243 تحقيق الحلو والطناحي) . وأما أستاذ هؤلاء وهو المزني فهو إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل أبو إبراهيم، أحد كبار أصحاب الشافعي وكان زاهداً ورعاً متقللاً من الدنيا، توفي سنة 264 (ترجمته في طبقات السبكي 2: 93 (الحلو والطناحي) 1: 238 وطبقات الشيرازي: 97 وابن خلكان 1: 96 والانتقاء: 110) . - 13 - ص: 187، س: 13 - 15 قال ابن حزم: " وإذا نعتنا عبد الله بن قاسم بن هلال ومنذر بن سعيد لم نجار بهما إلا أبا الحسن ابن المغلس والخلال والديباجي ورويم ابن أحمد، وقد شركهم عبد الله في أبي سليمان وصحبته ". من الواضح أن ابن حزم يعد هنا البارزين من علماء المذهب الظاهري ممن درس على أبي سليمان داود بن علي إمام الظاهر في المشرق (ترجمته في تاريخ بغداد 8: 369 والفهرست: 271 وطبقات السبكي 2: 284 تحقيق الحلو والطناجي) كما يعد من تأثر بهذا المذهب من الأندلسيين قبله. فأما ابن المغلس فهو عبد الله بن أحمد بن محمد وإليه انتهت رياسة الداوديين في وقته، وكان ثقة مقدماً عند الناس، وله كتاب " الموضح " وتوفي سنة 324 (الفهرست: 27 - 73 وطبقات الشيرازي: 177 وعبر الذهبي 2: 201) . وأما الخلال فقد ذكره ابن النديم (الفهرست: 273) في الداوديين وكناه أبا الطيب، وذكر من كتبه كتاب " إبطال القياس ". ولم يذكر ابن النديم من نسبته " الديباجي "، وهذه النسبة تطلق على كثيرين، وربما رجحت أن يكون المقصود هنا:

أحمد بن محمد بن علي بن الحسن، أبو الحسن الديباجي الذي وصفه الدارقطني بأنه شيخ فاضل صالح وتوفي سنة 328 (تاريخ بغداد 5: 68 - 69) ولكني لست أقطع بذلك. وأما رويم بن أحمد بن يزيد، أبو محمد فقد كان بغدادياً فقيهاً على مذهب داود، ذا نزعة زهدية واضحة، توفي سنة 303 (ترجمته في تاريخ بغداد 8: 430 والمنتظم 6: 136 وحلية الأولياء 10: 296 وطبقات السلمي: 180 وصفة الصفوة 2: 249) . ومن اول الأندلسيين تأثراً بمذهب داود: عبد الله بن قاسم بن هلال (هكذا نسبه ابن حزم، وتلميذه الحميدي في الجذوة: 246) وعند ابن الفرضي 1: 257 عبد الله ابن محمد بن قاسم بن هلال) وهو قرطبي لقي داود وكتب عنه كتبه كلها وأدخلها الأندلس، وكان علم داود الأغلب عليه، وكانت وفاته سنة 292 (في ابن الفرضي 272 خطأ) ، وأما منذر بن سعيد البلوطي (المتوفى في سنة 355) فشهرته تغني عن تكلف ترجمة له (انظر ترجمته في ابن الفرضي 2: 142 والجذوة: 326 والبغية رقم: 1357 والروض المعطار: 95) . - 14 - ص: 187، س: 15 - قال ابن حزم: " وإذا أشرنا إلى محمد بن يحيى بن لبابة وعمه محمد بن عمر وفضل بن سلمة لم نناطح بهم إلا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن سحنون ومحمد بن عبدوس ". هؤلاء ستة أشخاص في نسق وإليك تعريفاً موجزاً بكل واحد منهم: 1 - محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة: كان فقيهاً مقدماً، وجل سماعه من عمه محمد بن عمر (انظر الترجمة التالية) وكان من أحفظ أهل زمانه للمذهب، وهو صاحب كتاب " المنتخب " الذي أثنى عليه ابن حزم في ما تقدم (انظر ص: 181 من هذا الجزء) وقد أشار القاضي عياض في المدارك (4: 398) إلى هذا الثناء فقال: وأثنى ابن حزم الفارسي على كتابه المنتخب (في المطبوعة: المنتخبة) وأنه ليس لأصحابه مثلها. واستقضاه الناصر على البيرة ثم عزله وولاه أمر الوثائق وكانت وفاته سنة 330 (ابن الفرضي 2: 53 والجذوة: 91 والبغية رقم: 311 وترتيب المدارك 4: 398 - 403 والديباج: 251) .

2 - وعمه محمد بن عمر بن لبابة أبو عبد الله: كان إماماً في الفقه مقدماً في حفظ الرأي والبصر في الفتيا، وعين مشاوراً في أيام الأمير عبد الله ثم انفرد بالتيا في أول عهد الناصر، وتوفي سنة 314 (ابن الفرضي 2: 36 والجذوة: 71 والبغية رقم: 222 والديباج: 245) . 3 - فضل بن سلمة بن جرير بن منخل الجهني، أصله من البيرة وقيل من بجانة، رحل رحلتين أقام فيهما عشرة أعوام، وكان من أوقف الناس على الروايات وأعرفهم باختلاف أصحاب مالك، وكانت وفاته 319 أو 317 (الجذوة: 308 والبغية رقم: 312 وابن الفرضي 1: 394 والديباج: 219) . 4 - محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أبو عبد الله: سمع من أبيه وابن وهب وأشهب وابن القاسم وغيرهم من أصحاب مالك وصحب الشافعي وأخذ عنه، وأصبح من أهل النظر والحجة فيما يتكلم فيه ويتقلده من مذهبه، وانتهت إليه الرياسة بمصر على مذهب مالك، وكانت وفاته سنة 268 أو التي بعدها. (الديباج: 231 وترتيب المدارك 3: 62) . 5 - محمد بن سحنون: تفقه بأبيه وغيره، وكان إماماً في الفقه والنظر والرد على أهل الأهواء، وجلس مجلس أبيه بعد موته، وكان غزير التأليف، توفي سنة 256 (الديباج: 234 وترتيب المدارك 3: 104 ورياض النفوس 1: 345) . 6 - محمد بن عبدوس: هو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبدوس، من كبار أصحاب سحنون، وكان ثقة إماماً في الفقه صالحاً زاهداً حسن التقييد، ألف " المجموعة " على مذهب مالك، وله مؤلفات فسر فيها أصولاً من العلم، وكانت وفاته سنة 260 (ترتيب المدارك 3: 119 - 124 ورياض النفوس 1: 360 والديباج: 237) . - 15 - ص: 187، س: 18 أبو عبد الله محمد بن عاصم: يعرف بالعاصمي من أهل قرطبة، روى عن الرباحي والقالي وغيرهما، وكان من كبار العلماء وأدبائهم، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، وتوفي سنة 382 (الصلة: 453 والجذوة: 74 والبغية رقم: 243 وبغية الوعاة 1: 123/ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم) .

- 16 - جاء في كتاب الوافي بالوفيات للصفدي (10: 46) وقال ابن حزم في " نقط العروس " إن سليمان قتل ابنه أيوب سراً لأنه ارتد إلى النصرانية، كان قد ضمه إلى عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر، وكان زنديقاً فزندقه، فدسَّ إليه سليمان سماً فقتله. قال سبط ابن الجوزي في المرآة: أخطأ ابن حزم فإنهم اتفقوا على أن سليمان حزن عليه حتى قالوا إنه انفلقت كبده فمات كمداً. ثم إن ابن أربع عشرة سنة من أين تأتيه الزندقة وعبد الله بن عبد الأعلى لم يكن زنديقاً وإنما المتهم بالزندقة أخوه عبد الصمد (قلت: انظر ص: 51، 88 وليس في كلام ابن حزم شيء عن عبد الله بن عبد الأعلى، فتأمل) .

توجيهات وقراءات تتعلق بالجزء الأول

توجيهات وقراءات تتعلق بالجزء الأول من رسائل ابن حزم

فراغ

توجيهات وقراءات تتعلق بالجزء الأول

توجيهات وقراءات تتعلق بالجزء الأول من رسائل ابن حزم تفضل أخي وأستاذي العلامة الكبير محمود محمد شاكر، فزودني بهذه القراءات لنص الجزء الأول من رسائل ابن حزم (وبخاصة طوق الحمامة) فأنا أثبتها لفائدة القراء، واعترافاً بفضل الأستاذ الكريم: ص 109/س: 13 قران وأنداد: قران وأبداد (قلت: أقترح على أخي أن تقرأ: قران وأفذاذ، فذلك أدقّ) . 110/ - 12 وأشاطه: ظني أن صوابه " واستشاطه ". 113/ - 12 التعديد: صوابه " التعربد ". 116/ - 4 وتخيل الفكر: الصواب " وتخييل ". 126/ - 1 قراءة برشيه " غربها وانتقاصها " هي الصواب لأن " الغَرْب " هو الذهاب والتنحي عن الناس وهو أيضاً النوى والبعد، ومنه " غَرْبة النوى ". 127/ - 3 - 4 اقرأ: أما نفس الحب فما في المبتلى به فضل. 127/ - 7 اقرأ: ولا أحدث الأمور اثنان. 129/ - 13 - 14 اقرأ: أفضل منها في الخلفة. 134/ - 13 - 15 اقرأ: فإن انتظاره ... لموقف ... لأنه إشراف. 135/ - 1 بالتغرير: صوابه " بالتورية ". 135/ - 9 على ما لا يجمل: صوابه " يَحِلّ ". 139/ - 8 ويتحي: الأجود " ويمحي ". 140/ - 14 كتاب المحب: الصواب: كتاباً لمحبّ. 141/ - 7 ويُحْسِن: وَيُحَسِّن. 141/ - 9 ومن تعدى هذه: الصواب " ومن تعرى من هذه ".

145 - 20 - 21 فقطع كلامه المتكلم معه قلقاً واسترعى ... أظن الصواب: " فقطع كلامه المتكلم معه، فانكفأ واستدعى ما كان فيه.... " ويدل على هذا ما بعده. 150/ - 1 فلم بها: لعل الصواب " فتام بها " أو " فتيم بها ". 151/ - 13 متراجعاً: الصواب " مضاعفة " (قراءة برشيه) (وهي جيدة جداً) . 152/ - 5 بقية [من عقل] : لا معنى لزيادة " من عقل "، يقال: في فلان بقية، وفي كتاب الله " فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد " أي فهم وحسن نظر؛ ويكون الذي بعده " أو ثبيت مُكسة " هكذا الصواب إن شاء الله. 155/ - 5 الصواب في البيت الثاني " المستبصر " وهو الذي يتبين ما يأتيه من خير أو شر. 159/ - 7 - 8 اقرأ: وتركك لقاءه اختيار.... وإدخالك الحيف عليها. 159/ - 4 - 8 اقرأ: أسقطت مؤونة.... وهو بين الحض والنهي ... وتقوية لطيفة لها غوص وعمل.... إلى ما يورده من المعاني بلطفه. 164/ - 14 اقرأ: لم يفض منها شيء باللسان (فاض صدره بسره امتلأ ولم يطق كتمه فباح به) . 169/ - 1 كأن له في قلبه ريبة ترى: سأنظر فيها حتى أهتدي إلى حق صوابها. 169/ - 8 وامتنع المناما، صوابه: إذ منع المناما. 169/ - 18 ولا يخلي الغير أن يعتلف: غريب جداً ولعلها " العير ". 171/ - 6 صوابه: وحدث في حب لم يكن. 176/ - 3 الصواب: التي ينظر بها إلى الكلب. 179/ - 12 والتوبيش: صوابه بلا ريب " التقريش ". 183/ - 20 إلى أن جذت جملتها: الصواب بلا ريب " جَذَّت حبليهما ".

191 - 7 معرضاً بمعرض: صوابه " معرضاً كمعرض ". 195/ - 11 اقرأ: وبدأ نقض الهجر (والسياق دالٌّ عليه) . 99/ - 3 اقرأ: وبالضد انقلابهم. 199/ - 20 اقرأ: إلا للنظرة منه. 208/ - 17 أظن أنه: " وتلمأت عليه الصفائح ". 213/ - 13 الشجاع المستقل: صوابه " المشمعل " أما " المستقل " فمتكلف غير جيد. 225/ - 20 آخر شعر في هذه الصفحة من المضارع (وليس من المتقارب) . 237/ - 5 أساورها: أرجح أن الصوابر " تناويرها "، أما ما كتبت في التعليق فاحذفه، لا خير فيه. 271/ - 18 " وايقاع المزح " غير مفهوم، والصواب فيما أظن " وإيقاع المرح " وإن كنت في شك من " إيقاع ". 277/ - 16 مسكا: شرحه غريب، لعله " حسكا ". 277/ - 19 قلَّ فلم: قدك فلم. 289/ - 16 صوابه: ففضت كبده. 300/ - 18 اقرأ: وبصرنا وجه طلبها. 311/ - 9 قد محت: صواب ضبطه قد محت. 312/1 كأن لم تغن بالأمس.

فراغ

بنو الطبني التميميون

بنو الطبني التميميون (1) (مخطط موجود في الكتاب الأصلي)

_ (1) جاء عند ابن عبد الملك في الذيل والتكملة 6: 169 محمد بن حسين بن أحمد بن حبيش بن أسد التميمي الحماني الطبني أبو عبد الله (- 491) وهذا يفترض احلال " أحمد " محل " محمد " ووضع " حبيش " قبل الجد الأعلى " أسد " وهو لا ما يرد في المصادر الأخرى.

بنو حزم

بنو حزم (1) (مخطط موجود في الكتاب الأصلي)

_ (1) ذكر ابن الأبار في التكملة: 51 أحمد بن سعيد بن علي بن أحمد بن أحمد بن سعيد بن حزم وتعقبه ابن عبد الملك في الذيل والتكملة 1: 122 وبين أنه يستبعد أن يكون للفقيه ابن اسمه سعيد، وهو يرجح أن أحمد هذا من بني حزم الإشبيليين، ولكن الفقيه جده من جهة الأم.

العامريون

العامريون (مخطط موجود في الكتاب الأصلي)

بنو أمية بالأندلس

بنو أمية بالأندلس (مخطط موجود في الكتاب الأصلي)

(تكملة للمخطط الموجود في الكتاب الأصلي)

رسائل ابن حزم الأندلسي

رسائل ابن حزم الأندلسي أعلم - وفقنا الله وغياك لما يرضيه - أن علوم الأوائل هي الفلسفة وحدود المنطق التي تكلم فيها أفلاطون وتلميذه أرسطالطاليس ... وهذا علم حسن رفيع لأنه فيه معرفة العالم كله، بكل ما فيه من أجناسه إلى أنواعه إلى أشخاص جواهره وأعراضه، والوقوف على البرهان الذي لا يصح شيء إلا به ... (رسالة التوقيف على شارع النجاة) وأما في زماننا هذا وبلادنا هذه [الأندلس] ... فإنما هي جزية على رؤوس المسلمين يسمونها بالقطيع، ويؤدونها مشاهرة، ضريبة على أموالهم من الغنم والبقر والدواب والنحل ... وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في بعض البلاد؛ هذا كل ما يقبضه المتغلبون اليوم، وهذا هو هتك الأستار ونقض شرائع الإسلام ... (رسالة التلخيص لوجوه اتلخيص)

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم - تصدير - قد حاولت أن تكون هذه الرسائل الثماني التي يتضمنها هذا الجزء " ردوداً " على مختلف المستويات، فبعضها رد على عدو للدين، وبعضها رد على الخصوم، وبعضها ردود على الأصحاب والأصدقاء والمشايعين، وبعضها صورة للفتاوى (أو النوازل) عن مسائل يطرحها بعض السائلين. وتتفاوت هذه الردود بين عنف وهدوء، كما يتفاوت السائلون في حظوظهم من العلم. وابن حزم لا يحب الفناء، ولو خير لما اختار هذا الطريق، ولكنه مدعو إلى أن لا يكتم العلم وإلى أن يبينه للناس. وقد تتكرر التهمة (أو القضية) فيتكرر الرد عليها في غير رسالة، لطبيعة الحياة يومئذ، وطبيعة الحصول على الكتب والرسائل، فاتهام ابن حزم بأنه يعيب الأئمة سيتكرر ولابد، وقضية " ماذا نتعلم " قد أجاب عنها ابن حزم في رسالة " مراتب العلوم " وفي كتاب التقريب لحد المنطق، وفي رسالة التوقيف على شارع النجاة، وفي رسالة التلخيص لوجوه التخليص وربما في غيرها. ومشكلة التقليد سترد في مواضع كثيرة، ولذلك فإن فكر ابن حزم لا يمكن أن تتم دراسته على نحو منظم إلا بعد استكمال مؤلفاته وتنظيمها بحسب الموضوعات. إن جمع هذه الرسائل في نطاق ليس المقصود منه رؤية ابن حزم الفقيه، فذلك شيء لا يتم دون دراسة المحلى والاحكام والإيصال وغيرها من مؤلفاته، ولكن كانت الغاية هنا الوقوف على " ردود فعله " الفكرية، وهو يخاصم أو يترفق، والوقوف على منهجه وعلى المنطلقات الأساسية التي يرتكز إليها ذلك المنهج. ولقد نشرت هذه الرسائل من قبل ما عدا الرسالتين الأخيرتين، ولكني قد عدت على ما نشر برؤية جديدة، وبفهم متميز في إعطاء هذه الرسائل حقها من العناية

ولم أكن لأبلغ كل ذلك لولا المساعدة القيمة التي قام بها الابن البار السيد ماهر زهير جرار، في كل المراحل من إعداد هذه الأجزاء وما سيليها، فله شكري وتقديري ودعائي بان يحالفه التوفيق في كل خطوة كما أكرر شكري لصديقي الدكتور عبد المجيد عابدين لمعاونته واقتراحاته المتعلقة بالألفاظ العبرية. وأردد هنا دعاء أبي حيان: اللهم " وفقنا لأقصد السبل إليك، وخفف علينا في كل الأمور التوكل عليك " يا أرحم الراحمين. بيروت في غرة مايو (أيار) 1981. إحسان عباس

نظرة في رسائل هذه المجموعة

نظرة في رسائل هذه المجموعة - 1 - رسالة في الرد على ابن النغريلة 1 - من هو ابن النغريلة: تختلف المصادر في رسم اسمه على النحو الآتي: (أ) ابن النغرالي في الفصل (ومرة النغرال) وتصحف إلى الغزال في طبقات صاعد. (ب) ابن نغرالة في التبيان وأعمال الأعلام (واللام مشددة) ، ونغرالة في أصول الإحاطة، ونغرالة في البيان المغرب (ويكتبه الأستاذ غرسيه غومس بلام خفيفة) . (ج) ابن نغرله في مغرب ابن سعيد. (د) ابن النغريلي في ذخيرة ابن بسام. (هـ) ابن نغدالة (بالدال) عند دوزي. (و) ابن نفريلة في الأصل المخطوط من رسالة ابن حزم. هذا الاسم إذا أطلق عني أحد اثنين هما: صموئيل بن يوسف (إسماعيل أو أشموال عند ابن حزم في الفصل) المكني بأبي إبراهيم، وابنه يوسف بن إسماعيل المكني بأبي الحسين. والأول وزر لصاحب غرناطة حبوس ثم لابنه باديس وخلفه ابنه في خطته، والثاني - يوسف - هو الذي ثارت به صنهاجة وقتلته. وبعض المصادر مثل الذخيرة والنفح والبيان المغرب ومغرب ابن سعيد يجعل المقتول هو إسماعيل ويجعل الوزير لأول أباه ويسميه يوسف، ويذكر ابن سعيد أن للمقتول إسماعيل ابناً اسمه يوسف كان

صغيراً حين قتل أبوه وصلب (1) . وهذا كله وهم يصححه كتاب التبيان (2) لأن مؤلفه هو حفيد باديس نفسه، وقد شهد تلك الأحداث وعرفها عن كثب. ويبدو أن الاختلاف في رسم الاسم ليس منشؤه التصحيف فحسب، وإنما هو من طبيعة النطق، وربما كانت ألفه المتوسطة وسطاً بين الألف والياء، وربما كانت نهايته بين الهاء والياء تعتمد تارة على نطقه باللهجة العامية الأندلسية وتارة على انتحال نطق فصيح له. وتكاد المصادر تجمع على كتابته بالراء إلا أن دوزي اختار الدال، ولعله لمح شيئاً من الصلة بين الاسم وكلمة ناغيد (أو ناغيذ) العبرية، وهي لقب أحرزه إسماعيل وانتحله ابنه من بعده على غير استحقاق له، قال ابن بسام: " وتسمى من خططه الشرعية بالناغير (الناغيد في نسخة أخرى) معناه المدبر عندهم ". وهاهي كلمة " الناغيد " تتصحف أيضاً فتكتب بالراء. وقد وردت لفظة " الناغيد " (بالدال أو بالذال) في أسفار العهد القديم بمعنى القيم على المعبد (الاخبار الأول 26: 24) وبمعنى رئيس القصر (الاخبار الثاني 28: 7 وأشعيا 22: 21) وبمعنى قائد الجيش أو رئيس فصيلة منه أو زعيم قبيلة (الاخبار الأول 27: 16 والثاني 19: 11) واختار ابن بسام لها كلمة " المدبر "، ولا يبعد أن يكون هو اللفظ الاصطلاحي الذي استعمل في الأندلس. فإذا كان من صلة بين الاسم وبين اللقب فالأقرب أن الاسم هو " الناغيدلي " أو " الناغيدلة " ثم يقصر النطق به لكثرة تردده. فأما المقطع " لي " أو " له " الملحق به فإما ان يكون ذا صلة بلفظة " إيل " العبرية أو يكون صيغة تصغير لاتينية. وهذا كله تخمين أترك تحقيقه للعارفين بهذه الشؤون اللغوية، غير أن إجماع المصادر - تقريباً - على كتابته بالراء وتمسك أساتذة ثقات بهذا الاسم - مثل بروفنسال وغومس - يجعلني أحتفظ به كذلك. 2 - إسماعيل بن النغريلة: (383 - 448/ 993 - 1056) (3) لم يكن أندلسي الأصل بل كان أهله من الطارئين على الأندلس. وقد أخطأ

_ (1) المغرب 2: 115 والصواب أن يقال: إسماعيل الجد، ثم ابنه يوسف الذي قامت عليه ثورة فقتل وصلب ثم الحفيذ إسماعيل الذي هرب إلى أفريقية حين قتل أبوه. (2) التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله (تحقيق ليفي بروفنسال 1955) 30 - 68. (3) ذكر ابن الخطيب في الإحاطة (1: 447) أن إسماعيل توفي سنة 459 وهذا وهم ولعل الصواب 449، وتوفي ابنه يوسف سنة 459 (انظر المصدر نفسه: 448) .

ابن سعيد في قوله إنه من بيت مشهور بغرناطة، فهو غريب عن الأندلس وعن غرناطة معاً لأنه بقرطبة واضطرته فتنة البربر (399 هـ) إلى الهجرة منها، فسكن مالقة حيث افتتح له دكاناً. وكان قد درس التلمود بقرطبة على الكاهن حنوك، كما درس الأدب العربي وغيره حتى أصبح يتقن الكتابة المنمقة بالعربية (1) . وتوصلت به الأحوال إلى أن أصبح كاتباً عند أبي العباس وزير حبوس وكاتبه الأعلى، فلما توفي أبو العباس خلفه ابنه على الكتابة، وكان صغير السن، فأصبحت شؤون الديوان في يد إسماعيل (2) ، وأخذ هذا يتقرب إلى باديس طمعاً منه أن يحظى لديه إذا هو تولى الحكم بعد أبيه حبوس، واتفق حدوث مؤامرة دبرها بعضهم لإزاحة باديس عن الأمارة وشارك إسماعيل فيها ولكنه إمعاناً منه في طلب الحظوة كشف أمرها لباديس وجعله بحيث يسمع ما يقوله المتآمرون؛ ولهذه اليد ولأسباب أخرى اتخذه باديس وزيراً، ومن تلك الأسباب (3) : (أ) أنه ذمي غير أندلسي لا تشره نفسه إلى ولاية. (ب) أن في غرناطة جالية كبيرة من اليهود، فهو أقدر من غيره على جباية الأموال، وعلى ضبط الجباية لان عمالها منهم أيضاً. (ج) أن إسماعيل كان حسن المداراة للناس ماهراً في استخراج ما يريده منهم. وقد حاول دوزي أن يعزو الثقة في إسماعيل إلى مهارته في الكتابة وأن باديس لم يكن يطمئن إلى العرب ولا يجد كاتباً رفيع الأسلوب من البرب، وليس هذا بأقوى الأسباب. وعلى أي حال فإن إسماعيل أثبت في السياسة كفاية ممتازة، وهي كفاية تزداد شأناً كلما تذكرنا طغيان باديس وجبروته واتجاه الأمور وجهة الفوضى والمؤامرات، حتى إن باديس لما فكر في استئصال العناصر العربية في غرناطة نصحه إسماعيل أن لا يفعل ودس نسواناً إلى معارف لهن من نساء زعماء المسلمين بغرناطة لينهاهم عن حضور الصلاة وأحبط تدبير باديس. وكشف باديس مؤامرة من صنهاجة ضده ووقعت يده

_ (1) دوزي: 607. (2) وصار متى غاب ولد أبي العباس يحضر أبو إبراهيم فيسأل حبوس، فيقول معتذراً في الظاهر ومطالباً له في لحن القول: ولد أبي العباس - كما ترى - صبي يؤثر الراحة، وأنت جدير بالإغضاء عليه، وإقامة عذره؛ وأنا عبده أنوب منابه، فمرني بما شئت يتهيأ ذلك. (التبيان 30 - 31) . (3) انظر التبيان: 31 - 32.

على أزيد من مائتي اسم مشتركين فيها فشاور وزيره اليهودي في أمرهم، فأشار عليه بحرق الكتب التي ضبطها وبطي المسألة وقال: إن رأس العقل مداراة الناس (1) . وتجمع المصادر على إطراء إسماعيل وحسن سياسته حتى قال فيه ابن حيان: " وكان هذا اللعين في ذاته على ما زوى الله عنه من هدايته من أكمل الرجال علماً وحلماً وفهماً وذكاء ودماثة وركانة ودهاء ومكراً وملكاً لنفسه وبسطاً من خلقه ومعرفة بزمانه ومداراة لعدوه " (2) وكان قليل الكلام دائم التفكير جماعة للكتب، وكان من الناحية الأدبية يحسن الكتابة بالعربية والعبرية، مزوداً بأنواع مختلفة من الثقافات كالرياضيات والنجوم والهندسة والمنطق والجدل وعلوم الدين. وقد ألف في الرياضيات كتاباً اسمه " السجيح في علوم الأوائل الرياضية ". وقال القاضي صاعد فيه: " وكان عنده من العلم بشريعة اليهود والمعرفة بالانتصار لها والذب عنها ما لم يكن عند أحد من أهل الأندلس " (3) وله رسالة رد فيها على أبي مروان بن جناح اليهودي في نحو اللغة العبرية (4) كما نشر مقدمة للتلمود بالعبرية تناولت منهج التلمود ومصطلحاته. وكتب اثنين وعشرين مؤلفاً في النحو. ومن مؤلفاته المشهورة ما نجا به نحن المزامير (بن تحليم) والأمثال (بن مشلي) والجامعة (بن قوهلت) أي ما دبجه في الأدعية والأمثال والحكمة الفلسفية (5) . وقد وظف نساخاً ينسخون المشنا والتلمود ليقدم النسخ إلى من لا يستطيع شراءها من طلبة العلم، وكان يفضل على اليهود في الأندلس وخارجها ولذا لقبه يهود غرناطة " الناغيد " اعترافاً بفضله (6) ولما فقده اليهود حزنوا عليه كثيراً لأنهم فقدوا دعامة كبيرة من دعائم مجدهم. وقد كان إسماعيل أيضاً شاعراً مرموقاً بين أهل ملته، وله ديوان شعر، ويقال إنه نظم ما يزيد على ألف وسبعمائة بين مقطوعة وقصيدة، ويتناول شعره بعض الموضوعات الدينية، ولكنه يعد من أوائل من تجاوزا تلك الموضوعات إلى موضوعات دنيوية فنظم في الغزل والخمر ووصف الطبيعة ومناظر الحرب والمديح والهجاء، وهي الموضوعات التي كان يجد نماذجها الكثيرة في الشعر العربي؛ وكان يحل في شعره

_ (1) التبيان: 33 - 34. (2) الإحاطة 1: 446. (3) طبقات الأمم: 100. (4) بالثنايا: 492. (5) دوزي: 609. (6) المصدر نفسه: 610.

معاني من المزامير والأمثال والجماعة ويكثر فيه من الإشارات والاقتباسات (1) . ولدى قراءة نماذج من شعره يبدو أنه إذا تجاوز الشؤون الدينية لا يفترق في معانيه وصوره عن الشعر العربي، فمن ذلك قوله في إحدى خمرياته (2) : حمراء في لونها، عذبة في مذاقها خمرة أندلسية غير أنها ذائعة الصيت في المشرق ضعيفة في الكأس ولكن ما إن تخالط اللب حتى تتحكم في الرءوس وتميلها الثاكل الذي تمتزج دموعه بالدم، يبدد دم العنقود أحزانه والندامى الذين يصرفون الكأس من يد إلى يد كأنما يتياسرون فيما بينهم لإحراز جوهرة ثمينة. ومن شعره في القلم: حكمة المرء في سن قلمه وذكاؤه فيما تخط يده قلم المرء يرفعه إلى منزلة يتيحها الصولجان للملك. وله من أخرى: قالت لي ابتهج لان الله قد بلغك سن الخمسين في هذا الكون، ونسيت أن لا فرق لدي بين أيامي التي عبرت وما أسمعه عن أيام نوح ليس لي في هذا العالم إلا الساعة التي أنا فيها. إنها تدوم لحظة، ثم هي لا شيء، كالسحابة.

_ (1) دوزي: 609. (2) حرصت على تأدية هذه المقتبسات على نحو حرفي، لأن أي تحوير فيها يجعلها صورة أخرى مما يشبهها في الشعر العربي. وهذه النماذج في كتاب Master Pieces of Hebrew Literature (نيويورك 1969) ص 175 - 178.

وله من قصيدة أرسلها إلى ابنه يوسف يذكر فيها فكاك الحصار عن لورقة: أبعث بحمامة زاجلة وإن كانت لا تحسن النطق وبرسالة لطيفة مربوطة إلى جناحيها مخلقة بالزعفران، مضمخة بالمسك وعندما تهم أن تطير أبعث معها أخرى حتى إذا لقيها نسر أو وقعت في شرك أو أبطأت، أسرعت الأخرى؛ فإذا بلغت بيت يوسف، حطت على ذروته وإذا طارت لتحط على يده سر بها كأنها بلبل غريد ونشر جناحيها وقرأ في الرسالة: اعلم يا بني أن عصبة الثائرين الملعونين قد فرت وتفرقت بين الربى كالعصف من حقل هبت عليه ريح ومضت في الدروب كالغنم ضلت دون راع لها كانوا يرجون أن يقهروا عدوهم لكنهم لم يبصروه ومضينا للقضاء عليهم لحظة أن هربوا فذبحوا وتساقطوا بعضهم فوق بعض عند المعبر وأخفقت خطتهم ضد المدينة المنيعة المسورة وله قصيدة طويلة يذكر فيها انتصاره - وكان قائداً فيما يقول لجيش غرناطة - على ابن عباد، وذلك بعد الانتصار على زهير الفتى وصاحبه ابن عباس (1) ، وهذا يدل على أن جانباً من شعره يتصل بأحداث الأندلس ويلقي عليها بعض الأضواء. لتلك المنزلة الكبيرة التي بلغها إسماعيل في دولة بني زيري بغرناطة نجد أن الشعراء من يهود وغيرهم كانوا يتقربون إليه بالمدائح، رجاء الحظوة لديه والعطاء، ومن مدائحه أحمد بن خيرة المعروف بالمنفتل، وهو شاعر قرطبي، ولد فيه: وما اكتحلت عيني بمثل ابن يوسف ... ولست أحاشي الشمس من ذا ولا البدرا ويقول ابن بسام في التعليق على هذه القصيدة: " وله في هذه القصيدة من الغلو

_ (1) انظر هذه القصيدة في: Goldstein: Hebrew Poems From Spain ص 46 - 54؛ وفي هزيمة ابن عباد انظر التبيان: 42.

في القول، ما نبرأ منه إلى ذي القوة والحول.. فما أدري من أي شؤون هذا المدل بذنبه المجترئ على ربه أعجب: ألتفضيل هذا اليهودي المأفون على الأنبياء والمرسلين، أم خلعه إليه الدنيا والدين، حشره الله تحت لوائه، ولا أدخله الجنة إلا بفضل اعتنائه " (1) وللمنفتل هذا رسالة يذكر فيها فقره ورحلته عن قرطبة، يؤم جناب إسماعيل بن يوسف " فتى كرم خالاً وعماً، وشرح من المجد ما كان معمى، قساً فصاحة، وكعباً سماحة، ولقمان علماً، والأحنف حلماً " ويطنب فيها في الثناء عليه رجاء نواله ويختم رسالته بقصيدة مدحية أيضاً (2) . وهذا السلطان الواسع الذي أحرزه إسماعيل هو الذي مكن لليهود في كثير من الشؤون الإدارية والمالية لأنه كان يختار الموظفين منهم، فاكتسبوا الجاه في أيامه واستطالوا على المسلمين (3) ، ثم أن هذا الجاه الدنيوي هو الذي ساعد الجماعة اليهودية يومئذ على تثبيت اللغة اليهودية وبعث الثقافة اليهودية والظهور بذلك. 3 - يوسف ابن النغريلة: وخلفه على الوزارة ابنه يوسف وكان فتى جميل الوجه حاد الذهن مقروفاً ببعض الشؤون (4) ، وكان أبوه قد حمله على مطالعة بعض الكتب إليه المعلمين والأدباء من كل ناحية يعلمونه ويدارسونه، وأعلقه بصنعة الكتابة، وألحقه بخدمة بلكين بن باديس (5) . وكان لباديس وزيران هما: علي وعبد الله ابنا القوري، فترقب إليهما يوسف بالأموال حتى اطمئن إليه ونصحا لباديس بالاعتماد عليه، فقدمه باديس على العمال والجبايات، فنفق لديه بتدبير الأموال حتى انتزع له بالحيلة ما كان بيد ابني القوري من أملاك (6) . فاغتاظ ابنا القوري من ذلك وشاركهم شعورهم بعض رجال الدولة وحرضوا بلقين (بلكين) على قتله، وكان بلكين رجلاً لا يستطيع كتمان سر، فأخذ يتحدث بقتله علناً، فاحتال عليه اليهودي بأن دعاه للشرب عنده وتخلص منه بالسم، وكانت هذه الحادثة مما أثار الناس على اليهودي حتى هموا بقتله لأن بلكين كان

_ (1) انظر الذخيرة 1/ 2: 763 - 765. (2) المصدر السابق: 761 - 763. (3) الإحاطة: 446. (4) الذخيرة 1/ 2: 766. (5) الإحاطة 1: 447. (6) انظر التبيان: 37 - 39.

مرجواً لديهم. ولم يكف يوسف عن أساليبه فظل يتعقب ابني القوري حتى نفاهما عما تبقى لهما من أملاك، وازدهاه انتصاره وأبطره. ومن الأسباب التي مكنت له في الدولة (1) : (أ) كبر سن باديس وإسلامه الأمور كلها له واشتغال باديس بالشرب حتى كان لا يكاد يصحو. (ب) اختلاف النساء في القصر حول من يقدم للإمارة بعد باديس وتوصل يوسف إليهن بأسباب الخدمة. (ج) عمله مع أناس قليلي التجارب من مثل ابني القوري وبلكين وأشباههم وجريه فيهم على سياسة التفرقة وتضريب بعضهم ببعض. أما الأسباب التي أدت إلى مصرعه فيمكن إجمالها فيما يلي: (أ) توسع شأن اليهود وتسلطهم على المسلمين في حكومته وحكومة أبيه من قبله ونفور المسلمين من دفع الجبايات لهم، خصوصاً وأن باديس لم يأذن - رسمياً - لليهود بمطالبة المسلمين، ولكن يوسف وأعوانه كانوا يحتالون لذلك. (ب) الصراع بينه وبين الناية وهو عبد للمعتضد بن عباد فر إلى غرناطة ولقي حظوة عند باديس، وكانت المنافسة بينه وبين اليهودي شديدة، وأخذ باديس يصغي إليه فيما يقوله ضد يوسف بعض إصغاء. (ج) كثرت مؤامرات النساء وتشابكت وكانت كلما انكشفت واحدة منها عصبت برأس اليهودي، فرأى يوسف أن لا مخلص له إلا في التآمر مع صاحب المرية - ابن صمادح - ليستولي على غرناطة ويتخلص من باديس. وإتماماً لهذه المؤامرة نصح يوسف لباديس أن يقصي أكابر صنهاجة عن غرناطة ويوليهم الولايات بعيداً عنها، وانكشفت مؤامراته ونادى المنادي بذلك في الأسواق فهبت صنهاجة لدفع ذلك. (د) عدم تورعه عن نقد الأديان والتطاول عليها في سخرية (2) ، حتى كان اليهود أنفسهم غير راضين عنه، بل هم يتشاءمون باسمه ويتظلمون من جور حكمه،

_ (1) التبيان: 41 وما بعدها. (2) يذكر ابن بسام (الذخيرة 1/ 2:766) أنه كان يمتدح بالطعن على الملل.

وتطاول إلى لقب " الناغيد " (1) ونقل عنه أنه يقول إنه ينظم القرآن شعراً وموشحات وهكذا. (هـ) ثورة الأتقياء على هذا الوضع أي على وضع الثقة في شخص غير مسلم، ومن ذلك نجمت قصيدة الشيخ أبي إسحاق الألبيري التي يحرض فيها صنهاجة على التخلص من اليهود والوزير اليهودي ويقول فيها (2) : وإني احتللت بغرناطة ... فكنت أراهم بها عابثين وقد قسموها وأعمالها ... فمنهم بكل مكان لعين وهم يقبضون جباياتها ... وهم يخصمون وهم يقسمون وهم يلبسون رفيع الكسا ... وأنتم لأوضاعها لابسون وهم أمناكم على سركم ... وكيف يكون أمينا خؤون وكان لهذه القصيدة أثر في تحريك النفوس وازدياد الغليان. فلما نادى المنادي " يا معشر من سمع بالمظفر قد غدره اليهودي، وهذا ابن صمادح داخل في البلدة " (3) وتسامع الناس بذلك، هبوا جميعاً. وهرب يوسف إلى داخل القصر واتبعته العامة حتى ظفروا به وقتلوه، وقيل إنهم وجدوه مختبئاً في مخزن للفحم وقد سود وجهه لئلا يعرف، ثم قصدوا اليهود فأحالوا عليهم قتلاً ونهبوا أموالهم، ويقال إنهم قضوا على أربعة آلاف ونيف في تلك المذبحة (4) . 4 - ابن حزم والثقافة اليهودية: لم يكن ابن الحزم يعرف اللغة العبرية، وشاهد ذلك أنه يقول في الفصل: " ولقد أخبرني بعض أهل البصر بالعبرانية " (5) ولكنه فيما يبدو وجد نفسه وجهاً لوجه أمام بعض المجادلين من اليهود في شؤون العقائد، فكان يناظرهم دون أن يطلع على التوراة (6) . وكثرت المناظرات وتعددت حتى قال ابن حيان: ولهذا الشيخ أبي محمد مع يهود -

_ (1) الذخيرة 1/ 2: 767. (2) القصيدة في ديوان أبي إسحاق الألبيري (مدريد) : 151 - 153 و (بيروت) : 96 - 100. (3) يذهب ابن بسام إلى أن ابن النغريلة واطأ ابن صمادح ليتخلص من المظفر باديس، وملكه أكثر حصون غرناطة وأنه كان ينوي أن يتخلص من ابن صمادح بعد ذلك (الذخيرة 1/ 2: 768 - 769) . (4) الذخيرة 1/ 2: 796. (5) الفصل 1: 142. (6) الفصل 1: 213.

لعنهم الله - ومع غيرهم من أولي المذاهب المرفوضة من أهل الإسلام مجالس محفوظة وأخبار مكتوبة (1) . ثم أنه رأى أن الاطلاع على نصوص كتبهم يقوي موقفه وينفي عنه تهمة الجهل بما يوردونه عليه من آراء، فقرأ التوراة وهي الأسفار الخمسة الأولى. ويبدو انه كان منها نسخ مترجمة ترجمات مختلفة ولم تكن هناك ترجمة واحدة معتمدة بقوله: " ورأيت في نسخة أخرى منها " (2) وأورد نصاً مغايراً بعض المعايرة لنص آخر وجده في إحدى النسخ. وقد وصف ابن حزم نسخة التوراة - وهي مجموعة الأسفار الخمسة - بقوله: وإنما هي مقدار مائة ورقة وعشرة أوراق في كل صفحة منها من ثلاثة وعشرين سطراً إلى نحو ذلك بخط هو إلى الانفساح أقرب، ويكون في السطر بضع عشرة كلمة " (3) . ويظهر من النصوص التي أوردها في هذه الرسالة ومن مقابلتها بالترجمة الموجودة بين أيدينا مدى البعد بين الترجمتين في اللفظ والمعنى. وإذا تحدث ابن حزم عن أسفار التوراة استعمل أسماء معربة مثل سفر التكرار (4) (التثنية) أو استعمل الأسماء العبرية، فهو يقول: وأما الكتب التي يضيفونها إلى سليمان عليه السلام - فهي ثلاثة واحدها يسمى شارهسير ثم (صوابه: شيرهشيريم) معناه شعر الأشعار.. والثاني يسمى: مثلا (هذه هي الصيغة السريانية أما العبرية مشلا بالشين) معناه الأمثال، والثالث يسمى فوهلث (صوابه: قوهلث) معناه الجوامع (5) ولا نشك في أن التحريف في الأسماء إنما هو من جهل النساخ وأن ابن حزم كان يعرف الوجه الصحيح منها. واطلع ابن حزم أيضاً على الأسفار الأخرى، وعلى كتب وشروح لليهود ولا يسميها ويكتفي بأن يشير إليها بقوله: " وفي بعض كتبهم " أو " وفي بعض كتبهم المعظمة " (6) كما يشير إلى سفرين من أسفار التلمود يسمي أحدهما شعر توما ويسمي الثاني سادر ناشيم. وقرأ أيضاً تاريخ يوسيفوس (أو يوسف بن هارون الهاروني - كما يسميه -) (7) وبالإضافة إلى هذا الإطلاع عرف شيئاً من أحوال اليهود بالمجاورة والمشاهدة فكان

_ (1) الذخيرة 1/ 1: 170. (2) الفصل 1: 121. (3) الفصل 1: 187. (4) الفصل: 1: 198. (5) الفصل1: 207 - 208. (6) الفصل 1: 217، 218، 219. (7) الفصل 1: 99.

يسأل بعض علمائهم ومقدميهم عما يتوقف فيهن مجادلاً في أكثر الأحيان لا مستفهماً، ونراه في المرية يجلس في دكان إسماعيل بن يونس الطبيب الإسرائيلي الذي كان مشهوراً بالفراسة (1) . وقد جعل وكده منذ البدء إثبات التحريف والتناقض والتبديل على التوراة، ولذلك درسها دراسة مستأنية، وكان هو رائد ابن خلدون في المنهج الذي اتبعه في نقد الخبر التاريخي من هذه الناحية اعني الناحية الزمنية والعددية. 5 - بينه وبين صموئيل بن النغرالي (النغريلة) : وكان من أوائل من لقيه ابن حزم من يهود إسماعيل - أو أشموال - ابن يوسف الكاتب المعروف بابن النغرالي ووصفه بأنه اعلم اليهود وأجدلهم (2) . واعتقد أن اللقاء بينهما لم يتم في قرطبة وإنما كان بعد هجرة ابن حزم منها، وقد ذكر ابن حزم نفسه أنه لقيه مرة عام 404 هـ، ونحن نعلم أن ابن النغريلة فارق قرطبة قبل ذلك بقليل وسكن مالقة وهي إحدى البلاد التي زارها ابن حزم، وربما أقام فيها مدة من الزمن. وفي هذا اللقاء سأله ابن حزم عن قول التوراة " لا تنقطع من يهوذا المخصرة ولا من نسله قائد حتى يأتي المبعوث الذي هو رجاء الأمم " فقال ابن النغرالي: لم تزل رءوس الجواليت ينتسلون من ولد داوود وهم من بني يهوذا وهي قيادة وملك ورياسة، فقال ابن حزم: هذا خطأ لأن رأس الجالوت لا ينفذ أمره على أحد من اليهود ولا من غيرهم وإنما هي تسمية لا حقيقة لها ولا له قيادة ولا بيده مخصرة الخ (3) ثم لم يذكر ابن حزم ماذا كان رد ابن النغرالي عليه. وفي موضع آخر تساءل ابن حزم عن قول إبراهيم إن سارة اخته، فقال ابن النغرالي: إن نص اللفظة في التوراة " أخت " وهي لفظة نقع في العبرانية على الأخت وعلى القريبة، فقال ابن حزم: يمنع من صرفنا هذه اللفظة إلى القريبة هاهنا قوله: لكن ليست من أمي وإنما هي بنت أبي. فوجب أنه أراد الأخت بنت الأم، قال: فخلط (أي ابن النغرالي) ولم يأت بشيء (4) . وتاريخ اللقاء بين ابن حزم وابن النغرالي يدل على أن اهتمام ابن حزم بشؤون الملل

_ (1) رسائل ابن حزم (1980) 1: 114. (2) الفصل1: 135 - 152. (3) الفصل 1: 152 - 153. (4) الفصل 1: 135.

الأخرى بدأ في دور مبكر، وما زال ينمو حتى تمثل على أتمه فيما حواه كتاب الفصل من ذلك. 6 - على من يرد ابن حزم في هذه الرسالة ذكر ابن بسام إسماعيل بن النغريلي ونسب إليه ما ينسبه آخرون إلى ابنه يوسف، وتابعه على ذلك ابن سعيد في المغرب ويبدو أن النص مضطرب وأنه يجب أن نضع كلمة يوسف حيث وردت كلمة إسماعيل (1) ، أما إذا انصرف الكلام على وجهه حسبما يذكره ابن بسام فإن إسماعيل كتب رداً على أبي محمد بن حزم (2) ، ولست أستبعد ان يكون إسماعيل قد اطلع على أجزاء من الفصل تتعلق بالتوراة وكتب رداً عليها، ولكن هل هذا الرد هو الذي أثار ابن حزم لكتابة رسالته هذه يقول ابن حزم في هذه الرسالة: " ولعمري إن اعتراضه الذي اعترض به ليدل على ضيق باعه في العلم وقلة اتساعه في الفهم على ما عهدناه عليه قديماً " فقوله " عهدناه قديماً " يدل على سابق معرفة به، ونحن لا نعرف لابن حزم صلة بيوسف - الابن - وكل ما أشار إليه في الفصل هو صلته بإسماعيل ولكن نستبعد أن يكون إسماعيل هو مؤلف كتاب في تناقض القرآن لان المصادر كلها تجمع على انه كان بعيد النظر حسن المدارارة لا يتورط فيما يوغر عليه الصدور، وهذه صفات عري منها ابنه يوسف، وإليه يمكن أن ينصرف قول ابن بسام: " وجاهر بالكلام في الطعن على ملة الإسلام " (3) وإليه يمكن أن ينصرف قول ابن سعيد: وأقسم ان ينظم جميع القرآن في أشعار وموشحات يغنى بها (4) ثم إن ابن حزم قد شهد لإسماعيل بالعلم والقوة على الجدل. ومهما نقل إن هذا شيء نسبي فلسنا نستطيع أن ننكر شهادة المصادر الأخرى له. اغلب الظن - إذن - أن الذي كتب كتاباً في تناقض كلام الله - بزعمه هو يوسف وان ابن حزم يرد عليه وان قوله " عهدناه عليه قديماً " يشير حقاً إلى معرفة سابقة لا نعرفها. ويجب أن أقرر أن ابن حزم لم يذكر ابن النغريلة نصاً في هذه الرسالة وإنما أشار إلى انه رجل من يهود يعمل في ظل ملك ضعيف وانه استشعر البطر وشمخت نفسه لكثرة أمواله وأنه قليل العلم سيء الفهم، وكل هذه الصفات مما يمكن أن تلصق

_ (1) الذخيرة 1/ 2: 767 وما بعدها. (2) الذخيرة 1/ 2: 766. (3) الذخيرة 1/ 2: 766. (4) المغرب 2: 114.

بيوسف لا بأبيه إسماعيل. ولما كان يوسف قد خلف أباه على الوزارة حوالي سنة 450 أو التي بعدها - في الأرجح - فقد يقترن تطاوله على القرآن الكريم بشموخ نفسه في ارتقائه إلى خطة الوزارة أي أنه كتب ذلك بين عامي 450 - 455، وأن رسالته كانت معروفة قبل سنة 456 وهي السنة التي توفي فيها ابن حزم (في شعبان منها) وابن حزم لم يظفر برسالة ابن النغريلة وإنما ظفر برد عليها، وهذا ربما دل على ان الزمن بين كتابة تلك الرسالة وصدور رسالة ابن حزم قد تطاول. ولعل تاريخ رد ابن حزم لا يعدو ان يكون بين سنتي 453 - 455، ومهما يكن من شيء فإن هذا الكتاب الذي صدر عن ابن النغريلة كان في أساس الثورة عليه بالإضافة إلى إساءاته الأخرى وربما كان لشيوع رد ابن حزم ورد عالم آخر قبله بين الناس دور في تحريك النفوس ضده، وما كانت الصيحة التحريضية التي أطلقها أبو اسحاق الألبيري إلا تتويجاً لذلك التفاعل الذي كان يتحرك في المشاعر. 7 - طريقة ابن حزم في الرد: تنقسم هذه الرسالة في قسمين: الأول: المشكلات التي أثارها ابن النغريلة ورد ابن حزم على كل مشكلة منها "، وتقع في ثمانية فصول - كما سماها ابن حزم - وهو لا يكتفي بالرد بل يشفعه بانتقاد إحدى المسائل التي وردت في التوراة لافتاً ابن النغريلة إلى أن بيته من زجاج؛ وتشغل هذه الفصول الفقرات 1 - 33؛ وفي القسم الثاني ناقش ابن حزم بعض ما يسميه " الطوام " التي وردت في كتب يهود، وهو الجانب الذي أفاض فيه في كتاب الفصل. واعتذر في ختام الرسالة عن إيراد شنع اليهود بمثل ما اعتذر به في الفصل فذهب إلى أن الله تعالى قص علينا من كفرهم، فاقتدى بكتاب الله في ذلك. وهذه الرسالة شاهد آخر يضاف إلى غيره من الشواهد التي تدل على كراهية ابن حزم لملوك الطوائف: " وبالله تعالى نعوذ من الخذلان ومن معارضة الله تعالى في حكمه بإرادة إعزاز من أذله الله تعالى (1) ". وفاتحة الرسالة أيضاً تشير إلى تشاغل أهل الممالك عن إقامة دينهم، وهذا ما عرض له ابن حزم بشيء من التفصيل في رسالة التلخيص لوجوه التخليص.

_ (1) الفقرة 63 من الرسالة.

رسالتان له أجاب فيهما عن رسالتين سئل فيهما سؤال تعنيف

- 2 - رسالتان له أجاب فيهما عن رسالتين سئل فيهما سؤال تعنيف 1 - ابن حزم والمالكية: هكذا هو عنوان هذه الرسالة (في الأصل المخطوط) وهي في الحق رسالة واحدة لا رسالتان، وقد قال ابن حزم في مطلعها: " كتب كتاباً خاطبنا فيه معنفاً " ولم يقل: كتابين. وقد كان صاحب هذه الرسالة مستتراً ثم ظهر، فإذا هو يمثل في موقفه من ابن حزم رأي فقهاء المالكية في بعض المسائل، ولذلك فإن ابن حزم يرد على جماعة لا على فرد، ويقول إنه يورد نص ألفاظهم على ركاكتها وغثائتها لئلا يظنوا بجهلهم أنها إن أوردت مصلحة فقد نسخت حقها ولم توف مرتبتها. وقد كانت الخصومة بين ابن حزم وفقهاء المالكية عنيفة بالغة العنف لان إبطال القياس والرأي والتقليد كان يعني حرباً لا هوادة فيها على فقهاء المالكية بالأندلس يومئذ. ولذلك وقفوا لمناظرة ابن حزم في المجالس العامة، وأشار هو إلى بعض هذه المناظرات في مواطن من كتبه فمنها: أ) مناظرة بينه وبين الليث بين حريش العبدري (1) في مجلس القاضي عبد الرحمن ابن أحمد بن بشر وفي حفل عظيم من فقهاء المالكية، وكانت المناظرة تدور حول كتمان العالم بعض الحديث وإذاعة بعضه الآخر، قال ابن حزم: وذلك أني قلت له لقد نسبت إلى مالك رضي الله عنه ما لو صح عنه لكان أفسق الناس، وذلك انك تصفه بأنه أبدى إلى الناس الملعول والمتروك والمنسوخ من رواية، وكتمهم المستعمل والسالم والناسخ حتى مات ولم يبده إلى أحد، وهذه صفة من يقصد إفساد الإسلام والتلبيس على اهله، وقد أعاذه الله من ذلك، بل كان عندنا أحد الأئمة الناصحين لهذه الملة، ولكنه أصاب واخطأ واجتهد، فوفق وحرم، كسائر العلماء ولا فرق، أو كلاماً هذا معناه (2) . ويقول ابن حزم: إن أحداً من المالكية لم يجب إجابة معارضة بل صمتوا كلهم إلا قليلاً منهم أجابوني بالتصديق لقولي.

_ (1) هو الليث بن أحمد بن حريش العبدري (وتصحف اسم جده ونسبته في كتاب الاحكام: 428) من أهل قرطبة. يكنى أبا الوليد، كان في عداد المشاورين بقرطبة ذا نصيب من علم الحديث، واستقضي بالمرية (الصلة: 451) . (2) الاحكام 2: 122.

ب) مناظرة بينه وبين كبير من المالكيين حول قول ابن عباس في دية الأصابع: ألا اعتبرتم ذلك بالأسنان عقلها سواء وإن اختلفت منافعها. فالمالكية يرون هذا من باب القياس وابن حزم يراه نصاً جلياً في إبطاله. قال ابن حزم لمناظره: عن القياس عند جميع القائلين به وأنت منهم، إنما هو رد ما لا نص فيه إلى ما فيه نص، وليس في الأصابع ولا في الأسنان إجماع بل الخلاف موجود في كليهما، وقد جاء عن عمر المفاضلة بين دية الأصابع وبين دية الأضراس، وجاء عنه وعن غيره التسوية بين كل ذلك، فبطل هاهنا رد المختلف فيه إلى المجمع عليه، والنص في الأصابع والأسنان سواء، ثم من المحال الممتنع أن يكون عند ابن عباس نص ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسوية بين الأصابع وبين الأضراس ثم يفتي بذلك قياساً (1) . وليس هذان المثلان إلا شيئاً يسيراً من ذلك الصراع المذهبي بين ابن حزم والمالكية، وهما نموذج لمناظرات أخرى عنيفة حامية. وقد ملأ ابن حزم كتبه الفقهية بردوده على فقهاء المالكية، ويبدو من حديثه عنهم - بوجه عام - انهم كانوا قد وقفوا عند حد المدونة والمستخرجة لا يتعدونهما إلى شيء، حتى لقد سئل عبد الله بن إبراهيم الأصيلي: كيف صفة الفقيه عندكم بالأندلس فقال: يقرأ المدونة وربما المستخرجة فإذا حفظ أفتى، فقال له سائله وهو شرقي: أجمعت الأمة على أن من هذه صفته لا يحل له أن يفتي. وروى ابن حزم أيضاً هذه القصة قال (2) : حدثني أبو مروان عبد الملك بن أحمد المرواني (3) قال: سمعت احمد بن عبد الملك الإشبيلي المعروف بابن المكوي (4) ونحن مقبلون من جنازة من الربض بعدوة نهر قرطبة وقد سأله سائل فقال له: ما المقدار الذي إذا بلغه المرء حل له ان يفتي فقال له: إذا عرف موضع المسالة في الكتاب الذي يقرأ حل له أن يفتي. ولم يحمل ابن حزم على تقليد المالكيين وحدهم بل على التقليد عند غيرهم من أهل المذاهب الأخرى حتى قال في اتهامه لهم جميعاً: وأما أهل بلدنا فليسوا ممن يعتني بطلب دليل على مسائلهم فيعرضون كلام الله تعالى وكلام الرسول على قول صاحبهم

_ (1) الاحكام 7: 78. (2) الاحكام 5: 129. (3) هو ابن المسن (أو المش) توفي سنة 436 (الصلة: 342) . (4) كبير أهل الفتوى في زمنه بقرطبة. توفي سنة 401 (الصلة: 28 وترتيب المدارك 4: 635) .

وهو مخلوق مذنب يخطئ ويصيب (1) . وكان هذا التقليد هو الذي حال بين أولئك الفقهاء وبين الارتفاع إلى مستوى الأحداث - كما نقول اليوم - لأنهم كانوا يقفون عند رأي صاحبهم لا يتجاوزونه، وقد حدث في أيام الفتنة البربرية أن كان الناس في فزع من هجوم البربر عليهم بقربطة فسألوا فقهاءهم الجمع بين المغرب والعشاء لئلا يتعرض لهم متلصصة البربر في المنعطفات والدروب المظلمة فما استطاعوا أن يفتوهم بذلك جموداً عند حد التقليد. ومن سيئات ذلك التقليد، أن كان أولئك الفقهاء ضعفاء في علم الحديث ومعرفة صحيحه من ضعيفه، عاجزين عن القيام بأمر الجرح والتعديل وتصحيح النقل إجمالاً. ومن المضحك في هذا الباب ما يقوله شيخ من شيوخ المالكية مقدم في مشاورة القضاة في كتاب ألفه مكتوب كله بخطه، وأقر بتأليفه وقرأه غير ابن حزم عليه " روينا بأسانيد صحاح إلى التوارة أن السماء والأرض بكتا على عمر بن عبد العزيز أربعين سنة " (2) قال ابن حزن: هذا نص لفظه، فلا اعجب من الشيخ المذكور في ان يروي عن التوراة شيئاً من أخبار عمر بن عبد العزيز. ولم تنجح المناظرات في رد ابن حزم عن الاتجاه الذي اختاره لنفسه، فحاول المالكية - حسب قوله - إثارة العامة ضده، فلما أخفقوا في هذا أيضاً لجأوا إلى السلطان وكتبوا الكتب الكاذبة " فخيب الله سعيهم وأبطل بغيهم فعادوا إلى المطالبة عند أمثالهم فكتبوا الكتب السخيفة إلى مثل ابن زياد بدانية وعبد الحق بصقلية " فلم ينفعهم ذلك كله، فلجأوا إلى كتابة الرسائل إليه - كهذه الرسالة -. ولا ريب في أن هذه الخصومة كانت من الأسباب التي جرت إلى أزمة شديدة وقع فيها ابن حزم، بالإضافة إلى تكاتف الأشاعرة وغيرهم ضده، وقسمت علماء بلده قسمين: قسم يريد إسكاته وقسم يدافع عنه، وقد سمى هو في المدافعين عنه جماعة من الفقهاء المشهورين. ولخص ابن حيان المؤرخ مشكلة ابن حزم خير تلخيص حين قال: " فلم يك يلطف صدعه بما عنده بتعريض ولا يزفه بتدريج بل يصك به معارضه صك الجندل وينشقه متلقيه إنشاق الخردل فيفر عنه القلوب ويوقع بها الندوب حتى استهدف إلى فقهاء وقته فتمالأوا على بغضه وردوا قوله وأجمعوا على تضليله وشنعوا عليه

_ (1) الإحكام 6: 117 - 118. (2) الإحكام 5: 163.

وحذروا سلاطينهم من فتنته ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ عنه، فطفق الملوك يقصونه عن قربهم ويسيرونه عن بلادهم إلى أن انتهوا به إلى منقطع أثره بتربه بلده من بادية لبلة.. وهو في ذلك غير مرتدع ولا راجع إلى ما أرادوا به، يبث علمه فيمن ينتابه بباديته تلك من عامة المقتبسين منه من أصاغر الطلبة الذين لا يخشون فيه الملامة يحدثهم وفقهم ويدارسهم ولا يدع المثابرة على العلم والمواظبة على التأليف " (1) . انهزم ابن حزم - إذن - أمام المذهب المالكي لان السياسة في المغرب وقفت تسند ذلك المذهب، وما حرق كتبه إلا شاهد قوي على ذلك، وبعد وفاة ابن حزم بسنوات وقعت الأندلس في قبضة المرابطين فبلغ انتصار المذهب المالكي أقصاه؛ لان أمير المرابطين لم يكن يحظى عنده إلا من علم علم الفروع - أي فروع مذهب مالك - فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب وعمل بمقتضاها ونبذ ما سواها وكثر حتى نسي النظر في كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - هكذا قال المراكشي (2) ؛ وهذا هو عين ما كان ينعاه ابن حزم على فقهاء بلده ويلح من اجله على دعوتهم إلى الكتاب والسنة وهجر التقليد للأئمة. 2 - هذه الرسالة: تحوي رسالة الفقهاء المالكية إلى ابن حزم نقاطاً ومسائل كثيرة، وليس من همي ان أسرد كل ذلك ولكني اختار أهم الاتهامات التي وجهوها إلى ابن حزم نفسه. ولا يخطئ الناظر في هذه الرسالة أن يرى تلك الناحية التي عانى ابن حزم شيئاً كثيراً من أجلها، اعني علاقته بعلم المنطق، فهو عند هؤلاء الفقهاء متهم بأنه يرد بالمنطقي على الشرعي وله عناية بحد المنطق، والشق الأول من التهمة باطل لان ابن حزم اتخذ المنطق أساساً في الأحكام الشرعية ليثبت به تلك الأحكام لا ليردها، وأما الشق الثاني فيشير إلى كتاب التقريب " وما فيه من التعمق والعرض وترتيب الهيئات " (3) وقد كان رد ابن حزم على هذا واحداً حيثما هاجمه به أعداؤه وهو: هل عرف هؤلاء الناس حد المنطق أو لم يعرفوه فإن عرفوه فليبينوا ما فيه من المنكرات، وإن لم يعرفوه فكيف يستحلون ان يذموا ما لم يعرفوه

_ (1) الذخيرة 1/ 1: 168. (2) المعجب: 111. (3) انظر الفقرة: 11 من الرسالة.

وقد يتفرع عن هذه التهمة المزدوجة انه أوغل في التصنيف والتمثيل والاشتقاق والنتائج وأنهم يقرون بقوته في الحجاج واتساعه في اللغة ولكنهم يرون طريقته مخالفة لما كان عليه الأئمة من قبل، وكأنهم يلمحون من طرف خفي إلى اقتداره على المنطق هو المسؤول عن ذلك أيضاً. وقد دفع ابن حزم هذا كله، وحمد الله على رزقه من سعة اطلاع وقوة حجة ولم يحمدهم على شهادتهم له بذلك لأنها لا تزيده شرفاً ولا تطغيه. وأما اتهامهم له بأنه ضعيف الرواية عار من الشيوخ فهو متصل - فيما يبدو - بكونه لم يرحل في طلب العلم. ولم ينف ابن حزم هذه التهمة، وإنما رد عليهم بتهمة مقابلة، فهو ليسوا من أهل الرواية وكل ما يعرفونه هو المدونة، وأكثرهم لا يقيم الهجاء، ولا يعرف ما حديث مرسل من مسند، وهم أيضاً عارون من الشيوخ، ما كان لهم شيخ قط إلا عند الملك بن سليمان الخولاني (1) ، وكانوا يجالسونه ثم يخرجون من عنده كما دخلوا. وأقوى ما واجههوه قولهم: " إن أسماء الرجال والتواريخ تختلف في الآفاق، والأسانيد فمنها قوي ومنها ضعيف ". وقد شرح ابن حزم موقفه من الأحاديث المتعارضة باختصار في هذه الرسالة، وملخص ما قاله في الإحكام حول هذه المسألة (2) . (أ) كل خبر لم يأت إلا مرسلاً، أو لم يروه إلا مجهول أو مجرح ثابت الجرعة فهو باطل بلا شك. (ب) من اختلف فيه فعدله قوم وجرحه آخرون استثبتنا أحدهما فإن ثبتت عدالته قطع على صحة خبره وإن ثبتت جرحته قطعنا على بطلان خبره وإن تعادلا توقفنا، وربما اهتدى غيرنا إلى الصواب فيه. (ج) لا يكون خطأ في خبر ثقة إلا باعترافه أو شهادة عدل على أنه وهم فيه أو إثبات خطأ بالمشاهدة. (د) كل خبرين صحيحين متعارضين لم يأت نص بالناسخ منهما فالزائد على الحكم المتقدم من معهود الأصل هو الناسخ. " فإن وجد لنا يوماً غير هذا فنحن تائبون إلى الله تعالى منه، وهي وهلة نستغفر الله عز وجل منها وإنا

_ (1) ترد ترجمته عند ورود ذكره في الرسالة. (2) الإحكام 1: 136 - 138.

رسالة في الرد على الهاتف من بعد

لنرجو أن لا يوجد لنا ذلك بمن الله تعالى ولطفه ". ولا يزال هذا المنهاج من الناحية النظرية سديداً جيداً، أما عند التطبيق العملي فإنه يسمح باختلاف كثير. وقد كشفت هذه الرسالة عن عدة أمور هامة، منها: مدى اطلاع ابن حزم على الفقه المالكي: " فلعمري ما لشيوخهم ديوان مشهور ومؤلف في نص مذهبهم إلا وقد رأيناه ولله الحمد كثيراً ككتاب ابن الجهم وكتاب الأبهري الكبير والأبهري الصغير والقزويني وابن القصار وعبد الوهاب والأصيلي ". ومنها نظرته الموضوعية الناقدة بعد اطلاعه على ما ألفه أهل كل مذهب: " فألف أصحاب الحديث تواليف جمة وألف الحنيفون تواليف جمة وألف المالكيون تواليف والشافعيون تواليف فلم يكن عندنا تأليف طبقة من هذه أولى أن يلتفت إليه من تأليف غيرها بل جمعناها - ولله الحمد - وعرضناها على القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ". وحدد ابن حزم في هذه الرسالة مظان الحديث المعتمدة عنده وهي: تصنيف البخاري وأبي داود والنسائي وابن أيمن وابن أصبغ وعبد الرزاق وحماد ووكيع ومصنف ابن أبي شيبة أو مسنده وحديث سفيان بن عيينة وحديث شعبة. ويقول ابن حزم إنه أضرب عن الحديث المستور من الرواة صيانة لأقدار الأئمة عن تعريضهم لمن لا يعبأ به الله شيئاً. وذكر أنه كان يقتني كل هذه الدواوين وقد رواها وضبطها وصححها. وثمة شيء آخر كشفت عنه هذه الرسالة وهو شيوع آراء منسوبة لابن حزم لم يقل هو بها (ف: 26، 27، 28، 30) وكان هذا مما يوسع شقة الاختلاف بينه وبين أهل المذاهب الأخرى. - 3 - رسالة في الرد على الهاتف من بعد (1) وهذه الرسالة شبيهة بالرسالة السابقة، بل توشك أن تكون ثانية الرسالتين اللتين سئل فيهما سؤال تعنيف، إذ يقول في أولها " أما بعد فإن كتابين وردا علي لم يكتب كاتبهما اسمه فيهما "، ثم يذكر أنه أجاب عن الاول، وأنه بصدد الإجابة في هذه

_ (1) يرى الابن العزيز الباحث الظاهري المحقق أبو عبد الرحمن بن عقيل أن هذه الرسالة كانت رداً على أبي الوليد ابن البارية أحد فقهاء ميورقة. (انظر ص: 126) .

الرسالة عن الكتاب الثاني. ومنزع الاتهامات في الرسالتين واحد، وإن كانت تلك الاتهامات في الرسالة السابقة اعم واكثر وقد أديت بلهجة محاور هادئ نسبياً. أما في هذه الرسالة فإن من بعد امرؤ غاضب يعتمد الشتم والبذاء أكثر مما يعتمد الاحتجاج، فهو يتهم ابن حزم بأنه مفتون جاهل أو متجاهل وأنه ينطوي على خبث سريرة وأنه قليل الدين ضعيف العقل قليل التمييز والتحصيل، وأنه نبغ في آخر الزمان بعيداً عن القرون الأولى الممدوحة في وقت غلبت عليه قلة العلم وكثرة الجهل (وفي هذا يشركه أيضاً الهاتف من بعد دون أن يدري) وهو ينذره بضرورة التوبة فغن لم يفعل فإنه سيستعدي عليه أهل العلم في أقطار الأرض ليفتوا بآرائهم في من كان على مثل حاله، ويختم ذلك داعياً أن يريح الله العباد والبلاد من ابن حزم أو يصلحه إن كان سبق ذلك في علمه. ومع أن هذا السيل من الهجاء يمكن أن يعد هراء لا يغير حقيقة ولا يثبت تهمة، فإن ابن حزم جزأ أقوال هذا الهاتف في أربعة عشر موقفاً، ورد على كل موقف، حتى إن الهاتف حين قال " أنائم أنت أيها الرجل بل مفتون جاهل أو متجاهل " أجابه ابن حزم بهدوء شديد، ملتزماً الفهم الحرفي الظاهري لما أورده ذلك الهاتف فقال: فما نحن ولله الحمد إلا أيقاظ إذا استيقظنا ونيام إذا نمنا، وأما الفتنة فقد أعاذنا الله منها وله الشكر واصباً وأما وصفك لنا بالجهل فلعمري إننا لنجهل كثيراً مما علمه غيرنا، وهكذا الناس، وفوق كل ذي علم عليم (الفقرة: 4 في الرسالة) . وهذا السيل من الشتائم يدور حول تهمتين ترددنا في الرسالة السابقة: (1) أولاهما أن ابن حزم يطعن على سادة المسلمين وأعلام المؤمنين ويقذفهم بالجهل، بل تخطى ذلك إلى الصحابة، وقال انهم ابتدعوا في الرأي وطعن عليهم وسفه آراءهم، وذهب به الاعتداد بالنفس حداً بعيداً حين ظن أنه قد صح له ما لم يصح للصحابة، ومن ثم فهو متناقض لأنه يدعو إلى عدم تقليد الصحابة ويحث أتباعه على تقليده. والرد على هذه التهمة سهل، فابن حزم لم يطعن على أحد من أعلام المؤمنين وسادة المسلمين لا من الصحابة ولا ممن جاء بعدهم، بل هو يأخذ دينه مما نقله هؤلاء عن الرسول (ص) ، وهو يعتقد انه أصح تقديراً للصحابة والأئمة السابقين لأنه جرى على سنتهم في رفض الرأي والقياس والتقليد، وهو لا يتعصب لإمام على إمام كما يفعل

خصومه، وإنما يأخذ كل ما يأخذه عن القرآن والسنة، وإذا كان لا يحتج برأي واحد دون الرسول ولا يقلده فليس معنى ذلك انه يعيبه ويزري عليه. إنما يطعن على الصحابة من ترك جميع ما قالوه إلا ما كان موافقاً لإمامه الذي يقلده. أما اتهامه بأنه يحث أصحابه على تقليده فإنها تدل على غفلة قائلها، إذ لا يصح لامرئ ينهى عن التقليد جملة وتفصيلاً، أن يفتح الباب على نفسه فيدعو الأصحاب لتقليده، فمثل ذلك تناقض لا يقع فيه شخص له أدنى حظ من الذكاء. من الواضح أن توجيه هذه التهمة لابن حزم إنما كان يمليه التناحر المذهبي، ومحاولة الغض من الخصم بكل وسيلة ممكنة، وتشويه موقفه لإسكاته، وعلى ذلك فإن هذه التهمة الباطلة ظلت تلصق بابن حزم، حتى لقد رددها بعض الباحثين في العصر الحديث، دون أن يفقه مدى الشنعة فيها. ولو قال قائل انه يستعمل عبارة فجة خشنة - كما قال الذهبي (1) - لكان أقرب إلى الواقع، ولكن شتان بين ذلك وبين الوقيعة والطعن. (2) وأما التهمة الثانية فهي ان تورط ابن حزم في إنكار الرأي والقياس والقول بالتقليد أو إن شئت فقل بلسان الخصوم: إن خروجه على مذهب مالك وغيره إنما كان بسبب تعويله على كتب الأوائل والدهرية وأصحاب المنطق وكتاب أقليدس والمجسطي وغيرهم من الملحدين. وهذه التهمة أضعف من التي قبلها والرد عليها أسهل ولذلك واجهها ابن حزم بقوله: أخبرنا عن هذه الكتب من المنطق وأقليدس والمجسطي، أطالعتها أيها الهاذر أم لم تطالعها فإن كنت طالعتها فلم تنكر على من طالعها كما طالعتها أنت وهل أنكرت ذلك على نفسك، وأخبرنا ما الإلحاد الذي وجدت فيها وإن كنت لم تطالعها فكيف تنكر ما لا تعرف والحقيقة التي تشف عنها هذه التهمة هي الجهل المطبق لدى ذلك الهاتف، فإن من يزج بكتاب أقليدس في مبادئ الهندسة مع كتب الملحدين والدهرية إنما يكشف عوار نفسه ومبلغ جهله. ومسألة أخرى أهم من هذه جميعاً فاتت جميع الذين هاجموا ابن حزم وهي أن اطلاعه على هذه الكتب كان يجب أن يقوي لديه الميل إلى الأخذ بالرأي والقياس،

_ (1) تذكرة الحفاظ: 1154.

رسالة التوقيف على شارع النجاة باختصار الطريق

أي الاحتكام إلى الجانب العقلاني في النظر إلى الأمور الشرعية، ومع ذلك فإن مطالعتها لم تزده إلا تصلباً برفض الرأي والقياس في شؤون الدين والشريعة، وبرفض العلل في تلك الشؤون نفسها، وكل ما أفاده ابن حزم من الاطلاع على المنطق هو أن يستوعب قيام الأحكام الشرعية على أسس منطقية. هو أمر حاوله الغزالي من بعد ولم يتهمه أحد بالإلحاد أو بالانقياد لآراء الدهرية. - 4 - رسالة التوقيف على شارع النجاة باختصار الطريق تصور هذه الرسالة منعطفاً في مشكلة الثقافة بالأندلس، فبعد الثورة التي مثلها ابن عبد ربه ومن جرى مجراه على الثقافة الهيلينية متمثلة في التهكم بمن يقول بكروية الأرض أو بمن يطلب علم النجوم (أو الفلك بوجه عام) (1) أصبح المثقفون ينقسمون في فريقين: فريق يقبل على علوم الأوائل وفريق يعادي هذه العلوم ويقبل على علوم الشريعة، وعلى هذا الأساس وجه السؤال إلى ابن حزم: أين يقع الحق هل هو في صف طلاب الثقافة الهيلينية أو هو في صف طلاب الثقافة الإسلامية ويبدو أن الذين طرحوا هذا السؤال على ابن حزم دون غيره من الناس إنما كانوا يحاولون الحصول على جواب توفيقي يبعث الاطمئنان في نفوسهم؛ إذ لا ريب في أنهم كانوا يعملون موقفه من علوم الأوائل، وما ناله من خصومه بسبب إقباله على تعلمها. ولكن يبدو أيضاً أن الذين ألقوا عليه ذلك السؤال لم يعرفوا رسالته في مراتب العلوم (وهي رسالة ستكون من مشتملات الجزء التالي) لأنهم لم يطلعوا عليها أو لأنها لم تكن قد كتبت بعد، أو أنهم اطلعوا عليها فلم يقتنعوا بما جاء فيها من مقررات - والفرض الأول أقرب إلى الرجحان - ولها جاءوا يسألونه حول الأفضلية: بين العلوم التي تنسب للأوائل والأخرى التي جاءت متصلة بالنبوة، مؤكدين أنهم يريدون بياناً مختصراً في هذه المسألة، ليكون حاسماً على نحو تقريري واضح، لا يضيع فيه الجواب المحدد في تضاعيف التفصيلات. واستجابة لهذا المطلب قام ابن حزم بحصر العلوم المنتمية إلى الأوائل في أربعة هي/ الفلسفة وحدود المنطق، علم المساحة، علم الهيئة، علم الطب، ووصفها بأنها

_ (1) انظر تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة: 121 - 123.

علوم حسنة لأنها حسية برهانية، وأنها نافعة، ولكن منفعتها كلها دنيوية، لأنها تفيد في شؤون متعلقة بواقع الإنسان على هذه الأرض وتحقق له مصلحة في الدنيا، ومن هذا الجانب لا يمكن أن تكون المطلب النهائي للإنسان، إذ لا تستطيع أن تنافس ما جاءت به النبوة؛ ذلك أن ما جاءت به النبوة يحقق ثلاثة أشياء هامة تعجز عنها علوم الأوائل، وهي: (1) إصلاح الأخلاق النفسية بينما العلوم الهلينية لا تستطيع إلا إصلاح الجسد؛ ومن الواضح أن إصلاح النفوس ومداواتها أهم من إصلاح الأجساد ومداواتها. (2) دفع مظالم الناس الذين لم تصلحهم الموعظة وإيقاف التظالم بينهم، أي تنظيم أمور المعاش وإحقاق العدالة بين الناس، وهذا لا تستطيعه العلوم لأنها اجتهاد بشري غير ملزم ولا ينقاد له الناس بالطاعة كما ينقادون لأوامر صادرة من خارج نطاق الاجتهاد الإنساني. (3) كفالة النجاة للنفس بعد المرحلة الدنيوية. وقد يبدو من هذا العرض أن ابن حزم انتصر للعلوم الدينية دون أن ينكر الدور الهام الذي تقوم به علوم الأوائل، ولكن التعمق في دراسة الرسالة يدل على انه استطاع الربط بين الجانبين ربطاً وثيقاتً حين ذهب يثبت ضرورة الاستدلال العقلي البرهاني الذي يعده مدخلاً إلى التدين (1) ؛ فالمؤمن يستطيع عن طريق التمرس بالفكر المنطقي أن يتوصل إلى البت في أمر العالم: هل هو محدث أو لم يزل، والطرق للبرهان على حدوثه متعددة منها تناهي العدد، ومنها ان الزمان ذو مبدأ، وهذا يعني وجود أول وراء العالم، وهذا الأول لا يمكن أن يكون ذا مبدأ، وأن هذا الأول - وهو محدث العالم - هو الذي علم اللغة وأعطى الأشياء مسمياتها؛ فإذا قد صح ذلك حق لنا ان نتساءل: هل مبتدئ العالم واحد أو اكثر من واحد، وإذا فتشنا وجدنا أن الواحد غير موجود في تركيب العالم، لأنه قابل دائماً للانقسام، وإذن لا بد من واحد خارج عن تركيب العالم. بعد ثبوت حدوث العالم ووجود أول محدث له ينتقل المرء ليتفحص الشرائع بنظر عقلي أيضاً (مستفاد من دراسة علوم الأوائل) فيجد الشرائع من مسيحية ويهودية

_ (1) هذه هي طريقته الذاتية (في الربط) ولكنه لا يفرضها على الآخرين. كما يتبين من الرسالة التالية حين سئل هل فرض الله النظر؛ أي الاستدلال العقلي فنفى أن يكون النظر مفروضاً (الفقرة: 9 من الرسالة التالية) .

رسالة التلخيص لوجوه التخليص

ومجوسية ومانوية وصابئية جميعاً فاسدة، لفساد النقل إما بتغيير أو انقطاع أو ضياع أو تناقض أو غير ذلك، فلم تبق إلا شريعة واحدة تتمتع بالصحة وذلك هي ملة محمد (ص) وذلك لسببين هامين أولهما أن كتابه منقول عن كواف وثانيهما أن أعلامه مثل إعجاز القرآن وشق القمر منقولة كذلك. من ثم يتبين أن جميع العلوم ليست سوى أدوات في خدمة العلم الذي يجدر بالإنسان أن يمضي عمره في طلبه، لأنه يكفل النجاة في المعاد، وهو علم الشريعة الإسلامية؛ فهو علم يؤخذ عن صاحب الشريعة نفسه لا عن غيره، من غير ان يكون لطالبه هدف دنيوي من إدراك رياسة أو كسب مال. - 5 - رسالة التلخيص لوجوه التخليص هذه رسالة من أجود ما كتبه ابن حزم وأكثره هدوءاً وأعلقه بأسباب النفوس الباحثة عن طريق النجاة، ترفرف عليها مسحة الأخوة وتشملها سعة الأفق ورحابة الصدر، وفيها يظهر شموخ ابن حزم في اتساع النظرة الدينية، فهي خلاصة للاستقصاء في البحث والقدرة على الوضوح والوعي والدقة وفهم أحوال الدين والدنيا، كتبها رداً على أسئلة جاءته من بعض أصدقائه " لا يستغني عنها من له أقل اهتمام لدينه " أجادوا فيها السؤال وجود هو فيها الجواب، فضم الأسئلة المتشابهة بعضها إلى بعض في نطاق واحد واستشهد على آرائه بالأحاديث متخففاً من إسنادها في الأكثر، رجاء الاختصار، وكلها أحاديث صحيحة لا يشك أحد في صحتها ولا يتردد في قبولها إلا حديثين (ف: 8) . والأسئلة في مجموعها ثمانية وهي: 1 - ما أفضل ما يعمله المرء ليحصل به على عفو ربه وما انفع ما يشتغل به من كثرت ذنوبه في تكفير الصغائر والكبائر. 2 - ما العمل الذي إذا قطع به الإنسان باقي عمره رجا الفوز وما السيرة التي يختارها ابن حزم. 3 - ما القدر الذي يطلبه المرء من العلوم 4 - أي الأمور في النوافل أفضل الصلاة أم الصيام أم الصدقة

5 - هل حديث التنزل صحيح وهل الإجابة مضمونة في تلك الساعة 6 - ما رأي ابن حزم في الفتنة الأندلسية وانقسام البلاد إلى إمارات 7 - كيف تكون السلامة في المطعم والملبس والمأكل للذين يسكنون الأندلس في ظل تلك الفتنة 8 - هل تتفاضل الكبائر وإذا استثنينا السؤال الخامس - وهو يدور حول مشكلة محددة - وجدنا الأسئلة الأخرى جميعاً بالغة الأهمية. وفي الجواب عن السؤال الأول وضح ابن حزم رأيه في ماهية " الكبيرة " وما الذي يخفف من أثقال الذنوب وأن الله مواهب خمساً قد أتحفنا بها، لا يهلك على الله بعدها إلا هالك وهي: 1 - أن الله يغفر الصغائر باجتنابه الكبائر. 2 - أن التوبة الخالصة قبل الموت تسقط الكبائر نفسها. 3 - إذا ارتكب المرء الكبائر وزنت حسناته بسيئاته فإن رجحت حسناته غفر الله له. 4 - أن السيئة بمثلها والحسنة بعشرة أمثالها. 5 - أن هناك شفاعة ذخرها الله للمؤمنين يخرجهم بها بعد أن ينالوا شطراً من العذاب. وكان من حق ابن حزم هنا أن يجيب عن السؤال الثامن وهو: هل تتفاضل الكبائر لأنه متصل بالموضوع الأول في أجوبته. وإنا لنرى مبلغ الأمل الذي بثه ابن حزم في النفوس عن طريق فهمه الواسع لروح الدين، وهو يجيب عن السؤال الأول. فأما الجواب عن العمل الذي يختاره والسيرة التي يفضلها فقد كان جواباً بارعاً في دقته وشموله؛ ومنه ومن أجوبة أخرى في هذه الرسالة تتضح لنا الروح الاجتماعية التي أدركها ابن حزم من طبيعة الدين، فافضل الأعمال ثلاثة متدرجة، وكلها تضع الفرد موضع المسؤولية الاجتماعية: أولها وأهمها: عمل عالم يعلم الناس دينهم؛ وثانيها: الحاكم العادل الذي يشارك رعيته في كل عمل عملوه في ظل عدله وامن سلطانه؛ وثالثها: مجاهد في سبيل الله، وهكذا تتدرج مراتب العمل عند ابن حزم من أوسع حدوده الاجتماعية إلى أصغر المراتب الفردية حتى يتم من ذلك تسع مراتب متفاضلة

متدرجة لا تحرم الإنسان أملاً، وتليها جميعاً مرتبة واحدة مؤكدة الهلاك وهي حال الكافر فحسب. ومرة أخرى يتبين لنا اخذ ابن حزم بالرجاء وفهمه الدقيق لطبيعة موقف الفرد في الجماعة أو بعيداً عنها. وهذا الفهم للنواحي الاجتماعية هو خير ما يميز هذه الرسالة، ومن خلال هذه الأجوبة كتب ابن حزم صفحة هامة في التاريخ الاجتماعي الاقتصادي للأندلس بعيد الفتنة البربرية، ونحن مدينون له بمعرفة أن الأندلس لم تخمس ولم تقسم عند الفتح، لكن نفذ الحكم فيها بأن لكل يد ما أخذت، ووقعت في البلاد غلبة إثر غلبة، دخلها أولاً الأفارقة فحازوا ما حازوه ثم الشاميون أصحاب بلج فاخرجوا اكثر العرب والبربر المعروفين بالبلديين عما كان بأيديهم ثم كانت الفتنة البربرية فاخذ البربر يستولون على ما بأيدي السكان ويشنون الغارات على المواشي وثمار الزيتون. ويرى ابن حزم أن كل مدبر مدينة أو حصن في الأندلس فهو محارب لله تعالى ساع في الفساد لأنه يسمح بالغارة على الرعية ويبيح للجند قطع الطريق ويضرب المكوس والجزية على رقاب المسلمين ويسلط اليهود عليهم ليجمعوها منهم، وتسمى هذه الجزية " القطيع " وتؤدى بالعنف ظلماً وعدواناً لدفع رواتب الجند، فيعامل الجند بهذه الدراهم والدنانير التجار والصناع فتصبح في حرمتها كالحيات والعقارب والأفاعي بعد أن كانت حلالاً مستخرجاً من وادي لا ردة، ولا سلامة إلا بالإقرار بحرمتها والاستغفار من ذلك إذ كان التورع عن استعمالها أمراً غير عملي. ثم يكون القطيع أيضاً من الغنم والبقر والدواب وعلى الأسواق وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين، وهذه الدواب تباع للذبح وللنسل. فإذا امتنع المرء عن أكل اللحم لم يمتنع عن شراء الدواب للنسل والحرث، وهي نار كلها لأنها بدل من المثمن، ثم ينصرف ثمنها في أنواع التجارات. ثم إن مرتبات الجند تتحصل أيضاً من الجزية على الصابون والملح والدقيق والزيت والجبن، وهي جزية غير مشروعة يدفعها المسلمون وتجري في التعامل " وقد علمتم ضيق الأمر في كل ما يأتي من البلاد التي غلب عليها البربر من الزيت والملح وغن كل ذلك غصب من أهله، وكذلك الكتان أكثره من سهم صنهاجة الآخذين النصف والثلث ممن نزلوا عليه من أهل القرى، ولا سلامة من أكل الحرام والتعامل به في كل ذلك، ولكن ليفعل المرء ما هو ممكن وهو أن يجتنب ما يعرف انه غصب معرفة يقين، ثم يعذر

فيما جهله ". وتستعلن ثورة ابن حزم على هذا الوضع السيئ وعلى الحكام الذين يمكنون للذميين من المسلمين، ويسلمون الحصون للروم دون قتال، على تساهلهم في شؤون المسلمين والاهتمام بمصالح أنفسهم دون مصالح الرعية، ومع ذلك لا نراه ينصح بالخروج عن طاعتهم، وهو نفسه في حيرة من الامر، لانه يعتقد أن اجتماع كل من ينكر بقلبه يؤلف قوة لا تغلب فكيف لا يتم هذا والمسألة أصعب من أن يدعو فيها إلى إصلاح شامل بالقوة ولذلك تراه ينصح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتقية لمن عجز عن ذلك، ولكنه شديد الإنكار على من يعين أولئك الظلمة أو يزين لهم أفعالهم، فإذا اضطر المرء للدخول على بعضهم لقضاء الحقوق فيلفعل، وليعظ إن وجد للوعظ مجالاً. أما العلوم وما يجب طلبه منها فقد وضحه ابن حزم في رسالة في مراتب العلوم بإسهاب وأورد شيئاً مما قاله هنالك في هذه الرسالة بوجه الإيجاز، وخلاصة رأيه أن طلب علم القراءات والنحو واللغة فرض كفاية، وأن طلب العلم إجمالاً لابد أن يكون لوجه الله تعالى غير مخلوط بشيء من طلب الجاه والذكر في هذه الدنيا، والعلم أضعف السبل إلى كسب المال، وغيره من الطرق أقدر على كسب الدنيا لمن أرادها. وعرج ابن حزم في آخر الرسالة على ذكر التوبة فقسمها أربعة أقسام: 1 - التوبة من ذنوب بين العبد وربه كالزنا، وشرب الخمر، وهذه تتم بالاستغفار والقلاع والندم. 2 - التوبة من تعطيل الفرائض عمداً وتتم بالندم والإكثار من النوافل وفعل الخير. ولا قضاء لما فات عند ابن حزم في صوم أو صلاة، أما الزكاة والكفارات فليؤد ما فاته منها. 3 - التوبة لمن امتحن بمظالم العباد وضرب أبشارهم وقذف أعراضهم وإخافتهم ظلماً وتتم بالخروج عن المال المأخوذ ظلماً ورده إلى أصحابه أو إلى ورثتهم أو إلى إمام المسلمين إن كان لهم إمام عدل. 4 - توبة من امتحن بقتل النفس، وهو أصعب الذنوب، وتتم بان يمكن ولي المقتول من دم القاتل، أو ليلزم الجهاد وليتعرض للشهادة جهده.

رسالة البيان عن حقيقة الإيمان

- 6 - رسالة البيان عن حقيقة الإيمان كان ابن الحوات أحد المعجبين بابن حزم حتى إنه ليقول في رسالته إليه: " إنه لولا خوف المشغبين وما ذهينا به من ترؤس الجاهلين لكتبت أقوالك ومذاهبك وبثثتها في العالم وناديت عليها كما ينادى على السلع "، وكان قريباً في الطريقة من ابن حزم: قوة نظر وذكاء وسرعة جواب واستعمالاً للبرهان، أي أن فيه ما يهيئه لان يكون " متكلماً "، ولكن بين الصديقين فوارق أساسية في الطبيعة وعناصر الشخصية. فابن الحوات يخاف المشغبين والحكام الجاهلين، ويحاول أن يقنع صديقه بألا يعرض نفسه للمحنة، ويلمح إليه أنه - أي ابن الحوات - يستعمل ضروباً من الساسة في معاملة الناس، وكأنه يحضه على اتباع طريقته، ولكن ابن حزم يعتقد أن الخوف من المشغبين والمترئسين الجاهلين لا يكف أذاهم، ولذلك فهو يؤثر ان يصدع بالحق دون خشية، وهو لا يخاف الناس " فقد سبق القضاء بما هو كائن فلا ترده حيلة محتال "، وعدم التعرض للمحنة في سبيل الحق ينطبق عليه مثل يردده العوام: " فلان يحب الشهادة والرجوع إلى البيت " فقد جرب هو مواجهة الأخطار حتى لقد انتصر له ناس يخالفونه في مقالته، اليس هذا حماية من الله عز وجل الذي وعد بنصر من ينصره لقد قام يذب عن ابن حزم حين كثرت عليه الهجمات القاضي عبد الرحمن بن بشر وابن عبد الرءوف صاحب الاحكام وحكم بن منذر بن سعيد ويونس بن عبد الله بن مغيث وأحمد بن عباس واحمد بن رشيق، فلماذا يخاف نعم إن السياسة قد تكون ناجحة، ولكن يبدو أنها لم تكن في طبعه، ولهذا فهو يستحسنها حين تكون ضرباً من الموعظة الحسنة، ولكنه لا يستطيع أن يتحول عن طريقته في النقد المواجه إلى المداراة. ويتخلل هذه التلميحات التوجيهية من صديقه ابن الحوات قضيتان أشبه بالنادرتين: في إحداهما يعتب ابن الحوات على ابن حزم انه نمي إليه بأنه (أي ابن حزم) قد نسب إلى صديقه القول بأن لا إدام إلا الخل، وفي الثانية ابن حزم بأنه سريع إلى إفشاء ما يقوله مؤيدوه بل قد يقولهم ما لم يقولوه؛ ويتنصل ابن حزم من هاتين التهمتين ضاحكاً من الثانية متبرئاً من الأولى لأنه لا يستجيز الكذب على أحد ولا يستحل الخروج على المنطق في مثل ذلك القول، لأنه يعلم تمام العلم أن الادام أنواع كثيرة. تلك مقدمة أشبه بالحديث الذاتي، ولكن رسالة البيان عن حقيقة الإيمان إنما

أثارتها قضية أخرى كانت قد دونت في مدرجة ملحقة برسالة ابن الحوات، وهذه القضية هي: هل يتم إيمان المرء دون استدلال ذلك أن ابن الحوات مثل ابن حزم ينكر التقليد، ومن أنكر التقليد توصل بسهولة إلى القول بان العقل الإنساني قادر على معرفة الله، خصوماً وان الآيات التي تحض على استعمال النظر كثيرة، وخصوماً وان ابن حزم نفسه - كما رأينا في رسالة سابقة - يستعمل الاستدلال طريقاً للإيمان. وجواب ابن حزم عن هذه القضية واضح صريح: نعم إنه يعرف علم الكلام وطرائق أهله في الاستدلال، فهو لا يجهل ذلك ولا يمكن أن يتهم بأنه يعادي شيئاً لجهله به. وأنه يستعمل الاستدلال ويحسن استعماله حين يشاء ولكنه لا يراه فرضاً على الناس. بل المفروض على الناس الائتمار لما جاء به الوحي، والآيات الواردة في القرآن حضت على النظر، وثمة فرق شاسع بين الحض والأمر. وهو ينكر التقليد وينهى عنه، ولكن لو أن إنساناً اهتدى إلى الحق عن طريق التقليد لكان مصيباً في الاهتداء إلى الحق مذموماً في المنهج الذي اختاره؛ فالتقليد مذموم لكن إن أدى إلى باطل فقد أوقع صاحبه في الكفر أو الفسق، وإن أدى إلى حق فقد جاء على صاحبه بالتوفيق، ولكنه لم يبرئه من الذم. والفرق بينه وبين ابن الحوات أن هذا الثاني يريد أن يعمم رفض التقليد بحيث يتناول أيضاً عدم تقليد الرسول، احتكاماً إلى العقل على طريقة المعتزلة والأشعرية، بينا يرى ابن حزم ان التقليد هو تقليد كل إنسان دون الرسول، فأما الأخذ بما جاء به الرسول فهو ائتمار لا تقليد. كذلك فإن ابن الحوات يرى أن الرسول لا تجب طاعته إلا بعد معرفة الله، فمعرفة الله مقدمة على معرفة رسله، أما ابن حزم فيرى أن العقل الإنساني لم يعط القدرة على ذلك، وأنه لا وجوب لشيء إلا إذا دعا إليه الرسل، ومعرفة الله قد وجبت على الناس بدعاء الرسل لا بقدرة العقل. فالعقل لا يحرم شيئاً ولا يوجبه وإنما فيه معرفة الأشياء على ما هي عليه. العقل قادر على التلقي والتفسير ولكنه لا يوجب حرمة لحم الخنزير أو أن تكون صلاة الظهر أربع ركعات. كل ما تطلبه الدين من الناس هو الإقرار بدعوة الإسلام وتحقيقها في القلوب، ولكنهم لم يكلفوا المعرفة البرهانية، ومعظم الأمة لا يعرف أن يتهجى كلمة " استدلال " ومع ذلك فغن الواحد فيهم يتحمل العذاب في سبيل دينه، ويستحل دم أبيه إذا كفر. وبعد هذا الجدل النظري يعود ابن حزم بصديقه إلى الواقع العملي: فيتدرج به في

رسالة في الإمامة، ورسالة في حكم من قال إن أرواح أهل الشقاء معذبة إلى

الخطوات التالية: 1 - هل كان إسلام أبي بكر وخديجة وعائشة وعلي وبلال قائماً على طلب معجزة 2 - هل كان إسلام من دعي إلى الإسلام من خارج مكة كالنجاشي وذي الكلاع والمبايعين من الأنصار قائماً على طلب معجزة 3 - هل بدأ ابن الحوات نفسه بالاستدلال على معرفة الله حين البلوغ، وإذا بدأ هذا الاستدلال بعد سنوات من بلوغه الحلم فهل كان خلال تلك السنوات مؤمناً أو كافراً وإذن فهو ينبه صديقه إلى أن لا يتمادى في الانسياق وراء المتكلمين، فهم أجسر الناس على عظيمة تقشعر منها الجلود، وهم سبب المنازعات بين المسلمين وتكفير بعضهم بعضاً. وهكذا وجد ابن حزم من " يزايد " عليه في إنكار التقليد إلى حد التحريم، ويتجاوزه إلى الاحتكام للعقل، متأثراً بطرائق المتكلمين دون أن يكون كذلك، ولكنه قد أوصل أحد المبادئ التي يدعو لها ابن حزم إلى نهايته المنطقية. 7، - 8 رسالة في الإمامة، ورسالة في حكم من قال إن أرواح أهل الشقاء معذبة إلى يوم الدين تتناول الرسالة الأولى أحوال إمام يصلي خلفه الناس دون أن يعرفوا مذهبه، وهذا الإمام يجيز الوضوء بالنبيذ، والغسل من حوض الحمام وهو راكد، ويمسح في الوضوء بطرف رأسه، ويبسمل في الفاتحة ويجعل البسملة آية. إلى غير ذلك من أحواله؛ وتدل الأجوبة على أن ابن حزم لا يرى في أكثر هذه الأحوال مدعاة لعدم الصلاة خلف ذلك الإمام، ذلك لان كل ما يؤاخذه به ذلك السائل قد فعله جماعة من كبار الصحابة والتابعين وليس السائل بأفضل منهم. ولكن الرسالة لا تتوقف عند حد الإمامة، وإنما تتناول أسئلة عن السلم وعن تفرق الأمة ثلاثاً وسبعين فرقة؛ ويدل آخر سؤال على ان السائل مالكي المذهب فهو يطلق على مالك لقب " أمير المسلمين في العلم " فيرد ابن حزم بان ليس للمسلمين أمير طاعته مفترضة في الدين بعد الرسول ويعد عدداً كبيراً من الأئمة لم يكونوا يقلون عن مالك اطلاعاً وتقوى، ويحذر سائله من الإفراط في العصبية لمالك، فقد أفرط قوم في

علي - وهو أعلى من مالك بدرجات كثيرة - فضلوا. وأما الرسالة الثانية (وهي الثامنة بحسب ترتيب هذا الجزء) فإنها لا تقف عند مدلول العنوان، إذ ليس العنوان إلا سؤالاً عن المشكلة التي تناولت الفقرات الخمس الأولى، فإذا انتقلنا إلى الفقرة التالية وجدنا سؤالاً عن الذنوب التي تاب عنها المرء هل تبقى مكتوبة في صحيفته، وأسئلة أخرى عن من حلف مكرهاً هل تجب عليه كفارة، وعن المأسور في دار الحرب هل تلزمه العهود التي قطعها للعدو على نفسه وغير ذلك. وتتخلل الرسالة خرافات يستنكرها ابن حزم، وروح شكية يستعيذ بالله منها، وهي على الجملة رسالة متعددة الأغراض لا تضبط بموضوعات كبرى.

فراغ

1 - رسالة في الرد على ابن النغريلة اليهودي.

1 - رسالة في الرد على ابن النغريلة اليهودي.

فراغ

[47 - أب] رد أبي محمد بن حزم على ابن النغريلة اليهودي لعنه الله

- 1 - [47 - أب] رد أبي محمد بن حزم على ابن النغريلة اليهودي لعنه الله بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله قال أبو محمد علي بن احمد بن حزم رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وسلم تسليماً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم: 1 - اللهم إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم، وبجمع أموال ربما كانت سبباً إلى انقراض أعمارهم وعوناً لأعدائهم عليهم، وعن حياطة ملتهم [بها] عزوا في عاجلتهم وبها يرجون الفوز في آجلتهم حتى استشرف لذلك أهل القلة (1) والذمة، وانطلقت ألسنة أهل الكفر والشرك بما لو حقق النظر أرباب الدنيا لاهتموا بذلك ضعف همنا، لأنهم مشاركون لنا فيما يلزم الجميع من الامتعاض للديانة الزهراء والحمية للملة الغراء، ثم هم متردون بما يؤول إليه إهمال هذا الحال من فساد سياستهم والقدح في رياستهم، فللأسباب أسباب، وللمداخل إلى البلاء أبواب، والله اعلم بالصواب. وقد قال علي بن العباس (2) : لا تحقرن سبيباً ... كم جر أمراً سبيب وقال أبو نصر ابن نباتة (3) :

_ (1) ص: العلة. (2) هو ابن الرومي، والبيت في ديوانه: 183 (اختيار كامل كيلاني) والرواية فيه: كم جر نفعاً سيبب؛ وانظر أيضاً ديوانه الكامل 1: 146. (3) أبو نصر عبد العزيز بن محمد بن نباتة السعدي (317 - 405) من مقدمي شعراء عصره؛ انظر ترجمته في اليتيمة 2: 380 وابن خلكان 3: 190 وتاريخ بغداد 10: 466؛ وقد نشر ديوانه (بغداد 1977) بتحقيق عبد الأمير الطائي والبيتان فيه (2: 703) وفي اليتيمة 2/ 395 والإعجاز والإيجاز: 235 وحماسة الظرفاء: 201 ونهاية الأرب 3: 108.

فلا تحقرن عدواً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر فإن السيوف (1) تجذ الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر لاسيما إن كان العدو من عصابة لا تحسن إلا الخبث مع مهانة الظاهر فيأنس المغتر إلى الضعف البادي، وتحت ذلك الختل والكيد والمكر، كاليهود الذين لا يحسنون شيئاً من الحيل (2) ولا آتاهم الله شيئاً من أسباب القوة وإنما شأنهم (3) الغش [148/ أ] والتخابث والسرقة، على التطاول والخضوع، مع شدة العداوة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم. 2 - وبعد فإن بعض من تقلى قلبه (4) للعداوة للإسلام وأهله وذوبت كبده ببغضه الرسول صلى الله عليه وسلم من متدهرة الزنادقة المستسرين بأذل الملل وأرذل النحل من اليهود التي استمرت لعنة الله على المرتسمين بها، واستقر غضبه عز وجل [على] المنتمين إليها، أطلق الأشر لسانه، وأرخى البطر عنانه، واستشمخت لكثرة الأموال لديه نفسه المهينة، وأطغى توافر (5) الذهب والفضة عنده همته الحقيرة، فألف كتاباً قصد فيه، بزعمه، إلى إبانة تناقض كلام الله عز وجل في القرآن اغتراراً (6) بالله أولاً، ثم بملك ضعفة (7) ثانياً، واستخفافاً بأهل الدين بدءاً، ثم بأهل الرياسة في مجانة (8) عوداً؛ فلما اتصل بي أمر هذا اللعين لم أزل باحثاً عن ذلك الكتاب الخسيس لأقوم فيه بما أقدرني الله عز وجل عليه من نصر دينه بلساني وفهمي، والذب عن ملته ببياني وعلمي، إذ قد عدمها، والمشكى إلى الله عز وجل ووجود الأعوان والأنصار على توفية هذا الخسيس الزنديق المستبطن مذهب الدهرية في باطنه، المكفن بتابوت اليهودية في ظاهره، حقه الواجب عليه من سفك الدماء واستيفاء ماله وسبي نسائه وولده، لتقدمه طوره وخلعه الصغار عن عنقه، وبراءته من

_ (1) اليتيمة: فإن الحسام يجز؛ وفي ص: تحد. (2) الحيل: كذا، ولعله: الحول. (3) ص: ياتهم. (4) ص: فعلى ولبه. (5) ص: نوافر. (6) ص: اعتزازاً. (7) ص: يملك ضعفه. (8) ص: مكانة.

الذمة الحاقنة (1) دمه، المانعة من ماله وأهله، وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل. فأظفرني القدر بنسخة رد فيها عليه رجل من المسلمين، فانتسخت الفصول التي ذكرها ذلك الراد عن هذا الرذل الجاهل، وبادرت إلى بطلان ظنونه الفاسدة بحول الله تعالى وقوته؛ ولعمري عن اعتراضه الذي اعترض به ليدل على ضيق باعه في العلم، وقلة اتساعه في الفهم على ما عهدناه عليه [148 ب] قديماً، فإننا ندريه عارياً إلا من المخرقة، سليماً إلا من الكذب، صفراً إلا من البهت؛ وهذه عقوبة الله تعالى المعجلة لمن سلك مسلك هذا الزنديق اللعين مقدمة، أما ما أعد الله له ولأمثاله من الخلود في نار جهنم [فهو] المقر لعيون أولياء الله عز وجل فيه وفي ضربائه، وبالله تعالى التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. 3 - الفصل الأول: فكان أول ما اعترض به هذا الزنديق المستسر باليهودية، على القرآن بزعمه أن ذكر [قول] لله عز وجل: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} (النساء: 78) قال هذا المائق (2) الجاهل: فأنكر في هذه الآية تقسيم القائلين بأن ما أصابهم من حسنة فمن الله وما أصابهم من سيئة فمن عند محمد، وأخبر أن كل ذلك من عند الله؛ قال: ثم قال في آخر هذه الآية: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} (النساء: 79) قال هذا الزنديق الجاهل: فعاد مصوباً لقولهم ومضاداً لما قدم في أول الآية: 4 - قال أبو محمد بن حزم: لو كان لهذا الجاهل الوقاح أقل بسطة أو أدنى حظ من التمييز لم يتعرض بهذا الاعتراض الساقط الضعيف، والآية المذكورة مكتفية بظاهرها عن تكلف تاويل، مستغنية ببادي ألفاظها عن تطلب وجه لتأليفها، ولكن جهله أعمى بصيرته وطمس إدراكه. وبيان ذلك أن الكفار يقولون: إن الحسنات الواصلة إليهم هي من عند الله عز وجل وان السيئات المصيبة لهم (3) في دنياهم هي من عند محمد صلى الله عليه وسلم، فأكذبهم الله تعالى في ذلك، وبين وجه ورود حسنات الدنيا وسيئاتها على كل من فيها بان الحسنات السارة هي من عند الله تعالى بفضله على الناس، وان كل سيئة يصيب الله تعالى بها إنساناً في دنياه فمن [149/ أ] قبل نفس المصاب بها بما يجني على نفسه من تقصيره فيما يلزمه من أداء حق الله تعالى الذي لا

_ (1) ص: الخافتة. (2) ص: المالق. (3) ص: إليهم.

يقوم به أحد، وكل ذلك من عند الله تعالى جملة، فأحد الوجهين (1) وهو: الحسنات فضل من الله تعالى مجرد لم يستحقه أحد على الله تعالى إلا حتى يفضل به عز وجل من احسن إليه من عباده، والوجه الثاني وهو السيئات تأديب من الله تعالى أوجبه على المصاب بها تقصيره عما يلزمه من واجبات ربه تعالى. 5 - ولا يستوحشن (2) مستوحش فيقول: كيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم المخاطب بهذا الخطاب مقصراً في أداء واجب ربه تعالى فليعلم أن التقصير ليس يكون معصية في كل وقت، وإنما يكون النبي عليه السلام منزهاً عن تعمد المعصية صغيرها وكبيرها. وأما تأدية شكر الله تعالى وجميع حقوقه على عباده فهذا ما لا يستوفيه ملك ولا نبي فكيف من دونهما، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم لا يدخل الجنة بعمله " فقيل له: ولا أنت يا رسول الله فقال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " (3) ، أو كما قال عليه السلام. 6 - فإنما أنكر الله تعالى على الكفار في الآية المتلوة آنفاً قولهم للنبي عليه السلام: عن ما أصابهم من سيئة فهي منك يا محمد، وأخبر عز وجل أنها من عند أنفسهم، وأن كل ذلك من عند الله تعالى؛ فلم يفرق المجنون بين ما أوجبه الله تعالى من أن كل من أصابته سيئة فمن نفسه، وبين ما ذكر الله تعالى من قول الكفار لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن ما أصابهم من سيئة فمنك يا محمد. فأي ظلم يكون اعظم من ظلم من جهل أن يفرق بين معنيي هذين اللفظين 7 - وإنما كان الكفار يتطيرون بمحمد صلى الله عليه وسلم عندما يرد عليهم من نكبة تعرض لهم (4) بكفرهم وخلافهم له عليه [149 ب] السلام، كما تطير إخوانهم قبلهم بموسى صلى الله عليه وسلم إذ قال تعالى حاكياً عنهم قولهم: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله} (الأعراف: 131) . وما أرى هذا الزنديق الأنوك إذ (5) اعترض بهذا

_ (1) ص: إلا لو أحد الوجهين. (2) ص: يستوحش. (3) ورد الحديث في البخاري (رقاق: 18) ومسلم (منافقون: 71 - 73) وابن ماجة (زهد: 20) وفي مواضع كثيرة من مسند أحمد، انظر مثلاً 2: 235، 256، 264، 319 (4) ص: تعرضهم. (5) ص: إذا.

الاعتراض كان إلا سكران الخمر، وسكر عجب الصغير إذا كبر، والخسيس إذا أشر، والذليل الجائع إذا عز وشبع، والسفلي إذا أمر وشط، والكلب إذا دلل ونشط، فإن لهذه المعاني مسالك خفية (1) في إفساد الأخلاق التي تقرب من الاعتدال. وكيف بخلق سوء متكرر في الخساسة والهجنة والرذالة والنذالة واللعنة والمهانة ولله در القائل (2) : [إذا أنت أكرمت الكريم ملكته] ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى وهذا الذي قلنا هو المفهوم من نص الآية دون تزيد ولا انتقاص ولا تبديل لفظ، والحمد لله رب العالمين كثيراً. 8 - ولكن لو تذكر هذا المائق الجاهل ما يقرأونه في كفرهم البدل وإفكهم المحرف بأخرق تحريف وأنتن معان - حاشا ما خذلهم الله تعالى في تركه على وجهه ليبدي فضائحهم، فأبقوه تخبيثاً من الله تعالى لهم ليكون حجة عليهم، من ذكر عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم - في كتابهم الذي يسمونه: " التوراة " إذ يقولون فيه في السفر الرابع عن موسى صلى الله عليه وسلم انه قال مخاطبا لله عز وجل (3) : " يا رب كما حلفت قائلاً: الرب وديع ذو حن عظيم بعفو عن الذنب والسيئة وليس ينسى شيئاً من المآثم، الذي يعاقب بذنب الوالد الولد في الدرجة الثانية والرابعة ". ويقرأون فيه أيضاً في أول السفر الأول (4) : " إن قاين ابن آدم عاقبه الله في السابع من ولده " ثم يقرأون في الكتاب المذكور نفسه في السفر [150 و] الخامس منه: " إن الله تبارك وتعالى قال لموسى: لا تقتل الآباء لأجل الأبناء، ولا الأبناء لأجل الآباء، ألا كل واحد يقتل بذنبه " - فلو تفكر هذا الجاهل المائق وعظيم التناقض لشغله عظيم مصابه عن أن يظن بقول الله تعالى الذي هو الحق الواضح الواحد غير المختلف: {قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً* ما أصابك من حسنة

_ (1) ص: خفيفة. (2) هو المتنبي، والبيتان في ديوانه: 361. (3) عدد 14: 17 - 18 " فالآن لتعظم قدرة سيدي كما تكلمت قائلاً الرب طويل الروح كثير الإحسان يغفر الذنب والسيئة لكنه لا يبرئ بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع ". (4) ان قاين ولد آدم الخ: ليس هذا كذلك في (ع) التكوين 4: 23 وفيه: لذلك كل من قتل قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه. وقد أخبرني الدكتور عبد المجيد بأن النص العبري يعني سبعة أضعاف حيثما ورد في أسفار العهد القديم.

فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وهذا قد بيناه كما مر آنفاً انه لا مجاز للتناقض فيه أصلاً، وإنما التناقض المحض ما نسبوا إلى موسى عليه السلام من أنه قدر بربه أنه يغفر الذنب لفاعله، ويعاقب بذلك الذنب من كان من ولد المذنب في الدرجة الرابعة، ثم يقول في مكان آخر: أن لا تقتل الأبناء لأجل الآباء ولا الآباء لأجل الأبناء، هذا مع إقرارهم بأنه ليس في التوراة ذكر عذاب ولا جزاء بعد الموت أصلاً، وإنما فيها الجزاء بالثواب والعقاب في الدنيا فقط، فهذا هو التناقض المجرد الذي لا خفاء به، وبالله تعالى التوفيق. 9 - الفصل الثاني: وكان مما اعتراض به أيضاً ان ذكر قول الله تعالى: {أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها دماءها ومرعاها والجبال أرساها} ، (النازعات: 27 - 32) قال: فذكر في هذه الآية [أن] دحو الأرض وإخراج الماء والمرعى منها كان بعد رفع سمك السماء وبعد بنائها وتسويتها وإحكام ليلها ونهارها، ثم قال في آية أخرى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وهو بكل شيء عظيم} (البقرة: 29) قال: فذكر [في] هذه الآية ضد ما في الأولى، وذلك أن هذه التسوية للسماء كانت بعد خلق ما في الأرض. 10 - قال أبو محمد: والقول في هذا كالقول [150 ب] في التي قبلها ولا فرق وهو: ان بظاهر هاتين الآيتين يكتفى عن تطلب تأويل أو تكلف مخرج وهو: انه تعالى ذكر في الآية التي تلونا أولاً أنه عز وجل بنى السماء ورفع سمكها وأحكم الدور الذي به يظهر الليل والنهار، وأنه بعد ذلك أخرج ماء الأرض ومرعاها وأرسى الجبال فيها. وذكر تعالى في الآية الأخرى ان تسويته تعالى السموات سبعاً وتفريقه بين تلك الطرائق (1) السبع التي هي مدار الكواكب المتحيرة والقمر والشمس كان بعد خلقه كل ما في الأرض. فلم يفرق هذا الجاهل المائق بين قوله تعالى: إنه سوى السماء ورفع سمكها وبين قوله تعالى: إنه سواهن سبع سموات. فهل بعد هذا العمى عمى، وبعد هذا الجهل جهل 11 - وإنما أخبر تعالى ان تسوية السماء جملة واختراعها كان قبل دحو الأرض، وأن دحوه الأرض كان قبل أن تقسم السماء على طرائق الكواكب السبع، فلاح أن

_ (1) ص: الطرائف.

الآيتين متفقتان يصدق بعضهما بعضاً. ولكن ليذكر هذا الجاهل على ما يفتتحون به كذبهم المفترى وبهتانهم المختلق الذي يسمونه " التوراة " إذ يفترون (1) ان الله تعالى خلق إنساناً مثله، ولم يكن انفرد عنه تعالى إلا بشيئين: علم الشر والخير، ودوام الخلود والحياة، وأن آدم صلوات الله وسلامه عليه أكل من الشجرة التي فيها علم الخير والشر، فلما خالفه عظم ذلك عليه؛ قال: هذا آدم أكل من الشجرة التي بها يكون علم الخير والشر فساوانا في ذلك، فإن أكل من شجرة الحياة حصل على الخلد فكان مثلنا لا فضل لنا فيه، فجعل يخرجه من الجنة وفي يده سيف يذود به شجرة الحياة (2) . حتى لقد انسخف (3) جماعة من نوكاهم إلى ان قالوا: إن لآدم كان إنساناً من نوع الإنس الذي نحن منه، حصل على [151/ أ] أكل شجرة الحياة فزاد (4) بهاؤه وحصل له الخلد. فلو أن (5) هذا الخسيس الجاهل تبراً إلى الله تعالى من المظاهرة لهذا الوضع وهذا الاعتقاد الساقط لكان أحظى (6) له. ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يجعل له الخزي والمهانة، ويؤجل له الخلود بين أطباق النيران المعدة له ولأمثاله ولأشباهه والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً. 12 - الفصل الثالث (7) : وكان مما اعترض به أيضاً ان ذكر قوله عز وجل {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} إلى منتهى قوله في الآية نفسها {وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} (فصلت: 10) قال: فذكر في هذه الآية خلق الأرض في يومين وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام، فهذه ستة أيام، ثم ذكر قوله تعالى {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} (فصلت:11) إلى منتهى قوله تعالى {فقضاهن سبع سموات في يومين} (فصلت: 12) . ثم ذكر قوله تعالى {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام} (ق: 38) . 13 - قال أبو محمد: والقول في هذه الآيات كالقول في التي مضى فيها الكلام

_ (1) ص: يقرون. (2) انظر سفر التكوين 2: 9، 3: 22. (3) ص: إذا انكسف. (4) ص: فدار. (5) ص: قالوا إن. (6) ص: أخطأ. (7) ص: السادس.

ولا فرق، وهي أنها تكتفي بظاهرها عن تكلف تأويل لها، وأنه لا يظن في شيء من هذا كله اختلافاً (1) إلا عديم العقل سليب التمييز مطموس عين القلب ظليم الجهل، لأنه تعالى إنما ذكر خلق الجميع من السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، فسر لنا تعالى تلك الأيام الستة، فمنها يومان خلق فيهما (2) الأرض ومنها أربعة أيام قدر في الأرض أقواتها، وأنه تعالى قضى السموات سبعاً في يومين، وقد صح بما تلونا قبل أن تسويته تعالى السموات سبعاً كان بعد خلقه لما في الأرض جميعاً، فاليومان اللذان خلق [الله] تعالى فيهما السموات سبعاً هما اليومان الآخران من الأربعة [151 ب] الأيام التي قدر فيها أقوات الأرض لأن التقدير هو غير الخلق، لان الخلق هو الاختراع والإبداع وإخراج الشيء من ليس إلى أيس بمعنى من لا شيء إلى ان يكون شيئاً موجوداً. وأما التقدير فهو الترتيب وإحكام الأشياء الموجودات بعد إيجادها، وهذه معان لا يعلمها إلا من أعز الله تعالى نفسه من ذوي الهمم الرفيعة، المترفعة عن مهانة الإساءة ودناءة المعايش، القاصدة (3) إلى طلب المعاني الفاضلة (4) والحقائق المؤدية إلى معرفة الله تعالى، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم، والدخول في ظل الإسلام والملة الحنيفية المصحبة من الله تعالى السعد في الدنيا والنصرة والعزة، المتكفل لها في الآخرة بالفوز بالجنة والقبول والرضوان والريحان، والحمد لله رب العالمين الذي جعلنا من أهلها، وإياه تعالى نسأل ان يميتنا عليها حتى نلقاه وهو راض عنا، آمين. وأما من لم يقطع دهره إلا بالسرقة ولا أفنى عمره إلا بالخيانة والغش فبعيد عن إدراك هذه المعاني وفهمها. 14 - وليت شعري أين كان هذا الخسيس المائق إذ اعترض بهذا الاعتراض على هذه الأنوار الساطعة والحقائق الظاهرة عن التفكر فيما يقرأونه في هذيانهم المخترع وزورهم المفتعل الذي يسمونه " التوراة " إذ يقولون (5) : إن الله تعالى خلق الخلق في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع وهل تكون الراحة إلا لتعب ونصب قد خارت قواه وضعفت طبيعته فمثل هذا وشبههه من دينه الخسيس الذي يستسر (6) به لو تهمم

_ (1) ص: اختلافاً. (2) ص: فيها. (3) القاصدة: غير معجمة في ص. (4) ص: الفاصلة. (5) انظر سفر التكوين 2: 1. (6) ص: يتسر.

بالفكرة فيه ثم بادر إلى التوبة منه والدخول في دين الله تعالى الذي لا دين له سواه، الذي به بدا الملك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين [152 و] . 15 - الفصل الرابع: ثم ذكر الخسيس الجاهل قول الله تعالى {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات: 35) ثم قال في آية أخرى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} (النحل: 111) قال: وهذا تناقض عظيم. 16 - قال أبو محمد: قد قال بعض العلماء المتقدمين: إن المنع من النطق المذكور في الآية إنما هو في بعض مواقف يوم القيامة، وان الجدال المذكور في الآية الأخرى هو موقف آخر مما يتلو ذلك اليوم نفسه، وهذا قول صحيح يبينه قول الله تعالى قبل الآية المذكورة، إذ يقول عز وجل: {انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون* انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب* إنها ترمي بشرر كالقصر* كأنه جمالات (1) صفر* ويل يومئذ للمكذبين* هذا يوم لا ينطلقون* ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات: 29 - 36) فيه بعذر. هكذا نص الآيات متتابعات، لا فصل بينها (2) ، فصح أن اليوم الذي لا ينطقون فيه بعذر إنما هو يوم إدخالهم النار، وهو أول اليوم التالي ليوم القيامة الذي هو يوم الحساب، وهو أيضاً (3) يوم جدال كل نفس عن نفسها؛ وهذا بيان لا إشكال فيه أصلاً. 17 - وها هنا وجه آخر وهو اتباع ظاهر الآيتين دون تكلف تأويل إلا أن يأتي بالتأويل نص آخر أو إجماع من جميع الأمة كلها ما بين الأشبونة والقندهار والشحر وأرمينية والمولتان (4) . فنقول وبالله نستعين: عن هاتين الآيتين بينتان لا اختلاف بينهما أصلاً، وإن النطق المنفي عنهم في الآية الأولى والمعذرة التي لم يؤذن لهم فيها إنما ذلك فيما عصوا فيه خالقهم تعالى، كما (5) قال عز وجل في آية أخرى: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} (يس: 65) فلا عذر لكافر ولا لعاص أصلاً ولا كلام لهم. وأما الجدال الذي ذكر الله تعالى حينئذ

_ (1) جمالات: هذه هي قراءة أبي عمرو. (2) ص: بينهما. (3) ص: وهو الذي أيضاً. (4) في إعجام الأعلام الواردة هنا اضطراب في ص. (5) ص: عما.

[لكل نفس] عن نفسها فإنما هو في طلب الناس مظالمهم [125ظ] بعضهم من بعض، فإن الله تعالى لا يضيع شيئاً من ذلك، على ما صح عن النبي صلى الله عليه [وسلم] من أن يوم القيامة يقص الشاة الجماء من الشاة القرناء (1) . وبيان هذا الذي قلنا ان المعذرة إنما هي إلى الله تعالى، ولا عذر يوم القيامة لمن كفر بالله تعالى أو بنبي من أنبيائه، وخالف الإسلام. وهذا هو الذي (2) يكون يوم القيامة ولا يعذر عليه أحد. وإنما هو مصدر جادل يجادل جدالاً، وجادل هو فعل من فاعلين لا ينكر أحد هذا من أهل اللغة، فالله تعالى لا يجادل، وإنما يجادل الناس بعضهم بعضاً، فكل أحد حينئذ يجادل من ظلمه ليقتص منه وهذا ما لا يعرى منه مؤمن ولا كافر، فاستبان [معنى] الآيتين بظاهرهما دون تكلف تاويل، وبطل ما ظنه هذا الجاهل، والحمد لله رب العالمين. 18 - قال أبو محمد: ليس في حماقاتهم المبدلة التي يسمونها " التوراة " ذكر اجر ولا ثواب لمحسن بعد الموت ولا عقاب لمسيء في الدنيا أصلاً ولا في الكتب التي ينسبونها إلى أنبيائهم من هذا قليل ولا كثير. فلو نظر هذا المجنون فيما ينسبونه إلى سليمان عليه السلام في تصويبه دعاء امرأة دعت له فقالت: ولا زالت أرواح أعدائك يدور بها الفلك؛ وهذا إبطال الثواب والعقاب إلا على معنى التناسخ ومضا [د] لما ذكروه عن غيره من الأنبياء إن هنالك ناراً ونعيماً؛ ومثل ما ينسبونه إليه أيضاً عليه السلام من أنه قال مرة: " عن العالم لا أول له " وأنه قال مرة أخرى: " أنا كنت مع الله تعالى حين خلق الأرض والسماء ". فلو أن هذا الجاهل الشقي اشتغل بمثل هذا وشبهه من كذبهم وافترائهم لكان أولى به من تكلف ما لا يحسن ولا يدري، مما قد فضحه (3) الله فيه عاجلاً، ويخزيه [153/أ] آجلاً، والحمد لله رب العالمين. 19 - الفصل الخامس: ثم ذكر هذا الزنديق الجاهل قول الله تعالى {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} (الرحمن: 39) قال: ثم قال في آية أخرى {فلنسألن الذي أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} (الأعراف: 6) قال: وهذا تناقض. 20 - قال أبو محمد: لو فهم هذا المائق الجاهل أدنى فهم لم يجعل هذا تعارضاً، أما قوله تعالى: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} فإن [ما] بعد هذه الآية

_ (1) ورد الحديث في مسند أحمد 2: 235، 323، 363، 442. (2) ص: الذي لا. (3) ص: نصحه.

متصلاً بها قوله تعالى: {فبأي آلاء ربكما تكذبان* يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام* فبأي آلاء ربكما تكذبان* هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون* يطوفون بينها وبين حميم آن* فبأي آلاء ربكما تكذبان} (الرحمن: 40 - 45) فصح بهذا النص ان هذا إنما هو في حين إيرادهم جهنم التي هي إن شاء الله دار هذا الخسيس ذي الظهارة اليهودية والبطانة الدهرية ولا [ريب] في أنه إذا أخذ بناصيته وقدميه ليهودي بها في النار، نار جهنم، فإنه لا يسال عن ذنبه (1) يومئذ. وأما قوله تعالى: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} ، فإنما ذلك في أول وقوفهم يوم البعث وحين المسألة والحساب. فارتفع التناقض الذي لا مدخل له في شيء من القرآن ولا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم. 21 - ولكن هذا الوقاح المجنون لو تدبر ما في كذبهم المفترى الذي يسمونه " التوراة " في السفر الثاني منه ان الله تعالى قال لموسى بن عمران: إني أرى هذه الأمة قاسية الرقاب دعني لأعقب غضبي عليهم لأهلكهم وأقدمك على أمة عظيمة. ثم ذكروا أن موسى عليه السلام دعا ربه تعالى وقال في دعائه (2) : تذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحق عبيدك الذين حلفت لهم بذلك وقلت لهم سأكثر ذريتكم حتى تكونوا كنجوم السماء وأورثهم جميع الأرض التي وعدتهم بها ويملكونها أبداً، فحن [153 ظ] السيد ولم يتم ما أراد إنزاله بأمته من المكروه. 22 - قال أبو محمد: هذا نص هذا الفصل عندهم. وهذه صفة لا يوصف بها إلا إنسان ضعيف النفس، وفيه البداء، وأنه تعالى لم يتم ما أراد ان يفعل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. 23 - وفي السفر المذكور إثر هذا ان الله تعالى قال لموسى عليه السلام: " من أذنب عندي سأمحوه من مصحفي، فاذهب أنت وهذه الأمة التي عهدت إليك فيها، وسيتقدمك ملك ". ثم بعد شيء يسير ذكر ان الله تعالى قال لموسى: " اذهب واصعد من هذا الموضع أنت وأمتك التي خرجت من أرض مصر إلى الأرض التي وعدت بها

_ (1) ص: دينه. (2) اذكر إبراهيم وإسحق وإسرائيل عبيدك الذين حلفت لهم بنفسك وقلت لهم: أكثر من نسلكم كنجوم السماء، وأعطي نسلكم كل هذه الأرض التي تكلمت عنها فيملكونها إلى الأبد؛ فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه: (خروج 32: 13 - 14) .

مقسماً لإبراهيم وإسحق ويعقوب لأورثها نسلهم وأبعث بين يديك ملكاً لإخراج الكنعانيين والأموريين والبرزيين والحيثيين واليبوسيين (1) ، وتدخل في أرض تفيض (2) لبناً وعسلاً، لست أنزل معكم لأنكم أمة قاسية الرقاب لئلا تهلك بالطريق. فلما سمع العامة هذا الوعيد الشديد عجت تبكي (3) ولم تأخذ زينتها. فقال لموسى بن عمران (4) : قل بني إسرائيل انتم قد قست (5) رقابكم، سأنزل عليكم مرة أهلككم فضعوا زينتكم لأعلم ما أفعله بكم. ثم ذكروا جواب موسى عليه السلام لله تعالى على هذا الكلام فقال: وكان يكلم السيد موسى عليه السلام فماً لفم، كما (6) يكلم المرء صديقه، فقال موسى بن عمران السيد: أتأمرني ان أقود هذه الأمة ولا تأمرني ما أنت باعثه معي. فقال له السيد: سيقدمك وجهي وأروح عندك. فقال موسى عليه السلام: إن لم تتقدمنا أنت فلا ترحلنا (7) من هذا الموضع، وكيف اعرف أنا وهذه الأمة أنك عنا راض إذا لم تنطلق معنا ونتشرف بذلك على جميع من سكن الأرض من الأجناس فقال له: سأفعل ما قلت لأني عنك راض. 24 - قال أبو محمد: ففي هذا الفصل من السخف [154/ أ] غير قليل، وبيان لا يحتمل تأويلاً (8) ، لان فيه البداء، وأنه تعالى عما يقولون علواً كبيراً، قال

_ (1) ص: اليوشيين. (2) ص: تفي. (3) ص: عجب تيه. (4) وقال الرب لموسى اذهب اصعد من هنا أنت والشعب الذي أصعدته من أرض مصر إلى الأرض التي حلفت لإبراهيم وإسحق ويعقوب قائلاً: لنسلك أعطيها؛ وأنا أرسل أمامك ملاكاً وأطرد الكنعانيين والأموريين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين إلى أرض تفيض لبناً وعسلاً فإني لا أصعد في وسطك لأنك شعب صلب الرقبة لئلا أفنيك في الطريق. فلما سمع الشعب هذا الكلام السوء ناحوا ولم يضع أحد زينته عليه. وكان الرب قد قال لموسى: قل لبني إسرائيل أنتم شعب صلب الرقبة إن صعدت لحظة واحدة في وسطكم أفنيتكم ولكن الآن اخلع زينتك عنك فأعلم ماذا أصنع بك ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه، كما يكلم الرجل صاحبه وقال موسى للرب: انظر، أنت قائل لي أصعد هذا الشعب وأنت لم تعرفني من ترسل معي وأنت قد قلت عرفتك باسمك فقال وجهي يسير فأريحك فقال له إن لم يسر وجهك فلا تصدنا من ههنا فإنه بماذا يعلم أني وجدت نعمة في عينيك أنا وشعبك. أليس بمسيرك معنا. فنمتاز أنا وشعبك عن جميع الشعوب الذين على وجه الأرض. فقال الرب لموسى: هذا الأمر أيضاً الذي تكلمت عنه أفعله لأنك وجدت نعمة في عيني وعرفتك باسمك (خروج 33 - 1 - 17) . (5) ص: مسحت. (6) ص: فما يفهم. (7) بعد هذه الكلمة لفظة غير مقروءة في ص. (8) ص: تأويل.

إنه لا يمضي معهم لكن يبعث معهم ملكاً يبصرهم بأمر الله تعالى، فلم يزل به موسى حتى رجع عن قال عز وجل وقال: سأمضي معكم، ولم يقنع موسى بمسير الملك معهم إلا بمسير الباري عز وجل معهم. وفي هذا تحقيق النقلة على الباري في الأماكن، وليست هذه صفة الله تعالى وغنما هي من صفات المخلوقين؛ وفيه التكليم فماً لفم وتحقيق التجسيم والتناقض على الباري تعالى في كلامه وفعله، دون تأويل. ولا مخرج لهم من هذا. 25 - فلو فكر هذا الوقاح الزنديق في مثل هذا وشبهه لزجره (1) عن التعرض لما لا سبيل له إليه وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل. ولو ان هذا الزنديق المائق كان له أقل تحصيل، لما أقدم على المظاهرة (2) بهذا الدين الخسيس طرفة عين، ولكنه لم يقره الشيطان من كل ما استبان له من هذا البهتان إلا انسلاخه من جميع الأديان، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان. 26 - الفصل السادس: ثم ذكر هذا الزنديق الجاهل قول الله تعالى مخاطباً لنبيه عليه السلام: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك الكتاب فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك} (3) ، (يونس: 94) قال هذا المجنون: فهذا محمد كان في شك مما ادعاه. 27 - قال أبو محمد: كان يلزم هذا الخسيس (4) أن لا يتكلم في لغة لا يحسنها، ولكن أبى الله تعالى إلا أن يكشف سوءته ويبدي عورته. وليعلم ان [إن] في هذه الآية ليست التي بمعنى الشرط، لان من المحال العظيم الذي لا يتمثل في فهم من له مسكة أن يكون إنسان يدعو إلى دين يقاتل عليه وينازع فيه (5) أهل الأرض ويدين به أهل البلاد العظيمة ثم يقول لهم: إني في شك مما أقاتلكم عليه أيها المخالفون [154 ب] ولست على يقين مما أدعوكم إليه وأحققه لكم أيها التابعون، إلى مثل هذا السخف الذي لا يتصور إلا في مثل دماغ هذا المجنون الجاهل. وإنما معنى " إن "

_ (1) ص: جرجره. (2) ص: الظاهرة. (3) فإن كنت في شك الآية: انظر الأقوال في تفسيرها. في تفسير الطبري 11: 115 - 116 وليس فيه أن " إن " هنا نافية بمعنى " ما ". وقال أبو حيان في البحر 5: 191: الظاهر أن إن شرطية، وروي عن الحسن والحسين بن الفضل أن " إن " نافية؛ وبهذا يأخذ ابن حزم. (4) ص: الخسيف، ولعلها أيضاً: السخيف. (5) ص: في.

ها هنا الجحد فهي هنا بمعنى " ما " وهذا المعنى هو أحد موضوعاتها في اللغة العربية، كما قال تعالى آمراً (1) نبيه صلى الله عليه وسلم ان يقول: {إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} (الأعراف: 188) بمعنى: ما (2) أنا ندير وبشير لقوم يؤمنون، كما ذكر الله عز وجل عن الأنبياء انهم قالوا: {إن نحن إلا بشر مثلكم} (إبراهيم: 11) وكما قال تعالى مخبراً عن النسوة إذ رأين يوسف عليه السلام فقلن: {إن هذا إلا ملك كريم} (يوسف: 31) بمعنى: ما هذا إلا ملك كريم، وكما قال تعالى: {لو أردنا ان نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} (الأنبياء: 17) أي ما كنا فاعلين. فعلى هذا المعنى خاطب نبيه عليه السلام: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك، ثم قال تعالى فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك، لقد جاءك الحق من ربك بمعنى ولا أعداؤك الذين يقاتلونك من الذين أوتوا الكتاب من قبلك ما هم أيضاً في شك مما أنزلنا إليك بل هم موقنون بصحة قولك وانك نبي حق، رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شك عندهم في ان الذي جاءك الحق. ومثل هذا أيضاً قوله تعالى: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} (إبراهيم: 46) تهويناً (3) له: وكذلك قوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) ، (الزخرف: 81) بمعنى ما كان للرحمن ولد فأنا أول الجاهدين لا يكون له ولد. فوضح جهل هذا المعترض وضعف تمييزه، والحمد لله رب العالمين. 28 - ولو ان هذا الجاهل الأنوك تدبر ما في باطلهم المبتدع وهجرهم الموضوع الذي يسمونه " توراة " إذ يقول: عن موسى عليه السلام راجع ربه إذ أراد إرساله وقال (4) : من أنا [155و] حتى أمضي (5) إلى فرعون، أرسل من تريد ترسل. وأغضب ربع تعالى بذلك، وان يعقوب عليه السلام صارع ربه (6) ليلة بتمامها وهو لا يعرف من هو، فما انسلخ الصباح عرف انه الله - تعالى الله عن هذا الحمق من الكفر علواً كبراً - قالوا: فلما عرفه امسكه فقال له ربه: أطلقني، فقال له يعقوب: لا أطلقك حتى تبارك علي، فقال له ربه: كيف لا أبارك عليك وأنت كنت قوياً

_ (1) ص: أمر. (2) ص: إن. (3) ص: هويناً. (4) فقال موسى لله: من أنا حتى أذهب، إلى فرعون، وحتى أخرج بني إسرائيل من مصر. (خروج 3: 11) . (5) ص: حتى أنه يمضي. (6) وأن يعقوب صارع ربه الخ: انظر أيضاً الفصل 1: 141.

على الله فكيف على الناس! ثم مس مأبضه (1) ، فعرج يعقوب من وقته فكذلك لا يأكل بنو إسرائيل من عروق الفخذ لان الله تعالى مسه. ولا يجرؤ (2) منهم أحد فيقول: إن المصارع ليعقوب كان ملكاً، فإن لفظ اسم المصارع له في توراتهم " إلوهيم " وهذا هو اسم الله تعالى وحده بالعبرية - فلو ان هذا الجاهل تفكر في مثل هذا وشبهه لعلم ان الحق بأيدي غيرهم وأنهم في باطل وغرور، وعلى (3) ضلال وزور، والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله تعالى. 29 - الفصل السابع: ثم ذكر هذا المائق الجاهل قوله تعالى في وصف العسل: إن فيه شفاء للناس، فقال: وكيف هذا وهو يؤذي المحمومين وأصحاب الصفراء المحترقة 30 - قال أبو محمد: لو كان مع هذا الجاهل الأنوك أقل معرفة بطبائع الإنسان او فهم مخارج اللغة العربية لم يأت بهذا البرسام. أما اللغة فإن الله تعالى لم يقل: العسل شفاء لكل علة، وإنما قال تعالى: فيه شفاء للناس؛ وهذا لا ينكره إلا رقيع سليب العقل والحياء او موسوس، لان منافع العسل وشفاءه في إسخان المبرودين وتقطيع البلغم وتقوية الأعضاء حتى صار لا يطبخ اكثر الأشربة إلا به ولا يعجن جميع اللعوقات إلا به، وما وصف جالينوس وبقراط، وهما عميدا أهل الطب، طبخ شيء من الأشربة إلا به جملة، وما ذكرا (4) قط أن [155 ب] يطبخ شراب بسكر. 31 - وكيف ينكر هذا الأنوك ان يكون العسل شفاء محضاً، وهي أغلب أموره، فكيف أن يكون به شفاء، وهم يصفون عن نبي من أنبيائهم انه شفى أكلة في عضو إنسان بتين مدقوق وجعله عليه فإذا كان في التين شفاء من بعض الملل فكيف ينكر هذا الخسيس ان يكون في العسل أشفية كثيرة وقد وجدنا (5) في اختلاطهم الذي يسمونه " توراة " عن الله تعالى في عدة مواضع انه إذا بلغ الغاية في مدح ارض القدس التي وعدهم بها قال: إلا أنها أرض تنبع عسلا ولبناً، ووعدهم فيها بأكل عسل

_ (1) ص: ماء بضه. (2) ص: يجره. (3) ص: على. (4) ص: ذكر. (5) ص: وما وجدناهم.

الصخور. أفترى إذ ليس في العسل شفاء أصلاً، إنما وعدهم تعالى بما فيه الداء والبلاء لا بما فيه الشفاء، هذا مع إنكار العيان، وجحد الضرورات في منافع العسل. 32 - الفصل الثامن: ثم ذكر هذا الزنديق الجاهل قول الله تعالى: {ونزلنا من السماء ماء مباركا) (ق: 9) وقال: كيف يكون مباركاً وهو يهدم البناء، ويهلك كثيراً من الحيوان 33 - قال أبو محمد: من لم يكن مقدار فهمه وعقله إلا هذا المقدار، لقد عجل الله له العقوبة في الدنيا والحمد لله رب العالمين. وليت شعري أما درى هذا الجاهل انه لولا شرب الماء لم يكن في الأرض حيوان أصلاً لا إنسان ولا ما سواه، وأن عناصر جميع المياه الظاهرة على وجه الأرض والمختزنة في أعماقها إنما هي من مواد القطر النازل من السماء أما راى هذا الأنوك ان الأمطار إذا كثرت غزرت العيون وفهقت الأنهار وطفحت البرك وامتلأت الآبار وسالت السيول وتفجرت في الأرض ينابيع حتى إذا قلت الأمطار وضعفت العيون ونقصت الأنهار وجفت (1) البرك والآبار وانقطعت السيول وغارت الينابيع، خشنت الصدور وفسد الهواء أما رأى [156/ أ] أنه لا نماء لشيء من النبات كله، منزرعه (2) وصحراويه، وجميع الشجر بساتينها وشعرائها إلا بالماء النازل من السماء أما قرأ في هذيانهم الذي يسمونه " توراة " امتنان الله تعالى في صفة الأرض المقدسة بأنها لا تسقى من النيل، كما تسقى أرض مصر لكن من ماء السماء أتراه إنما من عليهم بضد البركة لا بالبركة إن هذا لعجب. أما علم أن الأمطار ترطب الأجسام وتذهب بقحلها (3) وأن بالماء الذي عنصره ماء السماء تزال الخسيس وجهله وهو عميد اليهود وعالمهم وكبيرهم، وهذا مبلغه من الجهل والسخف، ونستعيذ بالله من الجهل والضلالة، والحمد لله رب العالمين. 34 - قال أبو محمد: ها هنا انتهى كل ما ظن المائق أنه اعترض به، قد بان فيه كله زوره وجهله واغتراره، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم نحن عن شاء الله تعالى ذاكرون بحول الله تعالى وقوته قليلاً من كثير من قبائحهم يديرونها وينسبونها إلى الباري تعالى في كتبهم التي طالعناها ووقفنا عليها، وتضاعف بذلك شكرنا

_ (1) ص: وخفت. (2) ص: مزرعه. (3) بقحلها: غير معجمة في ص.

لله تعالى على عظيم ما منحنا من نعمة الإسلام والملة التي ابتعت بها محمداً صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً وعلى آله الطيبين والحمد لله على ما أولانا من فضل الإسلام وشرف الإيمان. 35 - اعلموا أيها الناس، علمنا الله وإياكم ما يقربنا منه ويزلف حظوتنا (1) لديه أن اليهود أبهت الأمم وأشدهم استسهالاً للكذب، فما لقيت منهم أحداً قط مجانباً للكذب القبيح على كثرة من لقينا منهم، إلا رجلاً (2) واحداً في طول أعمارنا، فطال تعجبي من ذلك إلى (3) أن ظفرت بسرهم من ذلك في هذا الباب، وهو انهم يعتقدون بسخفهم وضعف [156 ب] عقولهم أن الملائكة الذين يحصون أعمال العباد لا يفقهون العربية ولا يحسنون من اللغات شيئاً إلا العبرانية، فلا يكتب عليهم كل ما كذبوا فيه بغير العبرانية، فحسبكم بهذا المقدار من الجهل العظيم والحمق التام! 36 - فمن طوامهم أن علماءهم يقولون: إن الله عز وجل إنما ستر عن يعقوب أمر يوسف وكونه في مصر ثلاثة عشر عاماً كاملاً، لأن أولاد يعقوب لعنوا كل من ينقل إلى أبيهم ان يوسف حي. قالوا: فدخل الله تحت هذه اللعنة إذا أطلع يعقوب على حياة يوسف، تعالى الله عن إفك هؤلاء المجانين وكفرهم. واغوثاه من عظيم هذا الحمق! أفيكون في البقر والحمير أو الكلاب أضل من قوم هذا مقدار عقولهم، ان يجيزوا أن تكون لعنة مخلوق تلحق الخالق اللهم فإنا نحمدك على توفيقك إيانا للإسلام وهدايتك إليه، ونسألك الثبات عليه إلى ان نلقاك مسلمين، برحمتك آمين. ثم العجب انهم قالوا في إخوة يوسف إنهم كانوا المخبرين ليعقوب بحياة يوسف، فهكذا في نص الكتاب المسمى عندهم " التوراة "، فما نرى اللعنة إلا قد لحقتهم. 37 - ثم نجدهم لا يستحيون من أن ينسبوا إلى الأنبياء عليهم السلام انهم زنوا، وانهم من نسل الزنا، فإن السفر الأول من كتابهم ذلك المسمى " توراة ": أن يهوذا زنى بامرأة ولده ورشاها على ذلك جدياً من الغنم، ورهنها بالوفاء بذلك عصاه وزناره وخاتمه. وقد وقفت بعضهم على هذا فقال لي: كان ذلك مباحاً عندهم، فقلت له: إنك تقول الباطل، إذ (4) ان في توراتهم أن يهوذا (5) الذي جامعها أمر بها أن تحرق

_ (1) ص: خطوتنا. (2) إلا رجلاً: لعلها، ولا رجلاً. (3) ص: إلا. (4) ص: إلا (5) ص: يهودياً.

إذ ظهر حملها. فإن كان ذلك، فلم أمر بحرقها ثم لا يستحيون ان يقولوا: إن من ذلك الزنا حملت بفارص (1) ابن يهوذا الذي من نسله كان داوود وسليمان عليهما السلام، وكثير من الأنبياء كعاموص وشعيا وغيرهم. 38 - ومن عجائبهم [157/ أ] انهم يقولون: عن كل نكاح كان على غير حكم التوراة فهو زنا والمتولد منه ولد زنا، حتى إنهم يبيحون لمن تهود من سائر الأديان ان يتزوج أخته [من] أبيه. ثم لا يستحيون ان يقولوا إن موسى وهرون أخاه تولدا من نكاح عمران بن قاهث بن لاوي عمته أخت أبيه يوخابد (2) بنت لاوي. وأن سارة أم إسحق كانت أخت إبراهيم ابنة والده تارح، وأن سليمان بن داود كان ابن امرأة زنى بها داود، وولدت منه ابناً من الزنا وتزوجها او زنى المحمى حتى لم يطلقها (3) ويقولون: إن الجمع بيت الأختين زنا، وان وطء الإماء بملك اليمين زنا، والمتولد من هذه النكاحات زنا، وهم يقرون أن جميع ولد يعقوب عليه السلام كانوا من أختين نكحهما معاً، وهما ليا وراحيل ابنتا لابان، فولدت له ليا ستة ذكور، وولدت له راحيل يوسف وبنيامين (4) ، وأن الأربعة الباقين من ولد يعقوب ولدوا له من زلفاء وبلها، أمتي (5) راحيل وليا، وطئهما بملك اليمين لا بزواج أصلاً، لأن في توراتهم ان لابان أخذ عليه العهد عند كوم (6) الشهادة أن لا يتزوج على ابنته، فكلهم من أبناء هذه الولادات. وهاتان مقدمتان تنتج ان جميع بني إسرائيل وجميع اليهود أولاد زنا. فغن قالوا: كان ذلك حلالاً قبل أن يحرم، أقروا بالنسخ، وإن قالوا: إن ذلك خاص لبني إسرائيل مذ أنزلت التوراة، لزمهم ترك قولهم: إن كل مولود في الأمم بخلاف حكم التوراة فهو ولد زنا، وعلى كل حال يلزمهم أن أولاد سليمان عليه السلام كانوا أولاد زنا بحت، لأنهم مقرون انهم كانوا من أبناء العمونيات والموآبيات وسائر الأجناس، ورؤوس الجواليت إلى اليوم من أبناء من ذكرنا، تعالى الله تعالى وتنزه أنبياؤه عليهم السلام عن هذه المخازي؛ وإسحق أبوهم، وهرون وموسى وداود

_ (1) ص: بفارض. (2) في (ع) : يوكابد، عدد 26: 58. (3) كذا وردت العبارة، ولا أدري ما وجه الصواب فيها. (4) انظر قصة يهوذا، ونامار في التكوين: 38، وراجع الفصل 1: 145. (5) ص: يلها ابني. (6) ص: كرم، وهي التي سميت بالكلدانية سهودفا وبالعبرانية جلعيد ومعناها رجمة الشهادة (التكوين: 31) .

وسليمان ويوسف على قول [157 ب] هؤلاء الكفرة، لعنهم الله، ولدوا (1) لغير رشدة، لعن الله قائل هذا معتقداً له ومصدقاً له. 39 - ومن عجائبهم أنهم يقرون في كتابهم المسمى بالتوراة ان السحرة فعلوا بالرقي المصري مثلما فعل موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم من قلب العصا حية، ومن قلب ماء النيل، ومن استجلاب (2) الضفادع، حاشا البعوض فلم يقدروا عليه (3) . 40 - قال أبو محمد: لو صح هذا، وأعوذ بالله، وأعوذ بالله، لما كان بين موسى عليه السلام والسحرة فرق إلا قوة العلم والتمهر في الصناعة فقط، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من أن يكون آدمي يقدر بصناعته على خرق عادة، أو قلب عين، وننكر ان الله تعالى يولي ذلك أحداً غير الأنبياء صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، الذين جعل الله تعالى ظهور المعجزات عليهم شاهداً لصدقهم. 41 - ومن عجائبهم قولهم في نقل أحبارهم الذي هو عندهم بمنزلة ما قال الأنبياء: إن فرعون كان بنى في المفاز صنماً يقال له باعل صفون (4) ، وجعله طلسماً باستجلاب بعض قوى الأجرام العلوية، ليحير (5) به كل هارب من أرض مصر، وان ذلك الطلسم حير موسى وهارون وجميع بني إسرائيل حتى تاهوا أربعين سنة في فحص التيه إلى أن ماتوا (6) ملوكهم في المفاز، أولهم عن آخرهم، حاشا يوشع بن نون الافراهيمي، وكالب بن يوفنا اليهوذاني (7) . فتباً وسحقاً لكل عقل يزعم صاحبه ان صناعة آدمية وحيلة سحرية غلبت قوة الله تعالى، وأعجزت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات تائهاً في المفاز حائراً في القفار. 42 - ومن تكاذيبهم قولهم في الكتاب الذي يسمونه " التوراة ": ان الله تعالى قال لهم: سترثون الأرض المقدسة وتسكونها في الأبد. ونحن نقول: معاذ الله أن يقول

_ (1) ص: وولدا. (2) ص: استحلاب. (3) في قصة موسى وقلب العصا حية وقلب ماء النيل. الخ انظر سفر الخروج 8: 18 - 190 " وفعل كذلك الفراعون بسحرهم ليخرجوا البعوض فلم يستطيعوا، وكان البعوض على الناس وعلى البهائم، فقال العرافون لفرعون هذا إصبع الله "؛ وراجع الفصل 1: 154. (4) ص: ياغن صفون، والتصويب من الفصل 1: 218. (5) ص: ليجير. (6) ماتوا: كذا في ص. (7) ص: يوقنا اليهوداني؛ وفي (ع) يفنة القنزي، وهو يهوذاني لأنه من سبط يهوذا.

الله تعالى الكذب، وقد ظهر هذا الوعد، فما سكنوه في [158/ أ] الأبد وما عمروه إلا مدة يسيرة من آباد الأبد، ثم أخلوه وأخرجوا عنه وورثه الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم. 43 - ومن عجائبهم قولهم فيه: إن الله عز وجل قال لموسى: إذا أراد بنو إسرائيل الخروج عن مصر أن يأخذ أهل كل بيت من بني إسرائيل خروفاً أو جدياً (1) ويذبحونها مع الليل ويأخذون من دمائها ويمسون بها أبوابهم وعتب بيوتهم، ثم قال: قلت سأمسح بأرض مصر هذه الليلة، وأهلك كل بكر ولد بأرض مصر من أبكار الآدميين وبكور (2) نتاج المواشي، واحكم في مصر أنا السيد وعند ذلك يكون الدماء. الدم لكم في البيوت التي تكونون فيها، فإذا نظرت إلى ذلك تجاوزكم ولا يصل إليكم ضر. ثم قال بعد أسطار حاكياً عن موسى انه قال لبني إسرائيل (3) : اذهبوا وليذبح أهل كل بيت منكم الضأن، وعيدوا واصبغوا في دمائها رانا (4) ، ورشوا به أبوابكم وأعتابكم ولا يخرج أحد عن باب بيته إلى الصبح، فإن السيد سيمسخ ويهلك المصريين، فإذا نظر إلى الدم على العتب وفي الأبواب لم يجاوز الباب، ولا يأذن للقاتل (5) بالدخول إلى بيوتكم وقتلكم. 44 - قال أبو محمد: فيكون أسخف من عقول [من] ينسبون إلى الله تعالى مثل هذا الكلام الفاسد أو ترى الله عز وجل لا يعرف أبوابهم حتى يجعل عليها علامات! إن هذا لعجب. لو عقل هذا المجنون لشغله هذا السخام الذي في دينه الذي يباهي به، عن التعرض للحقائق يروم إبطالها، فكان كما قال الله عز وجل: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} (الصف: 8) .

_ (1) ص: وجدياً. (2) ص: ويكون. (3) تأخذونه من الخرفان أو من المواعز. ويأخذون من الدم ويجعلونه على القائمتين والعتبة العليا في البيوت التي يأكلونه فيها. فإني أجتاز في أرض مصر هذه الليلة وأضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم. وأضع أحكاماً بكل آلهة المصريين. أنا الرب. ويكون لكم علامة الدم على البيوت التي أنتم فيها فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر فدعا موسى جميع شيوخ بني إسرائيل وقال لهم: اسحبوا وخذوا لكم غنماً بحسب عشائركم واذبحوا الفصح. وخذوا باقة زوفا واغمسوها في الدم الذي في الطست ومسوا العتبة العليا والقائمتين بالدم الذي في الطست. وأنتم لا يخرج أحد منكم من باب بيته حتى الصباح فإن الرب يجتاز ليضرب المصريين، فحين يرى الدم على العتبة العليا والقائمتين يعبر الرب عن الباب ولا يدع المهلك يدخل بيوتكم ليضرب. (خروج 12: 5 - 23) . (4) رانا: كذا وردت ولعلها " زوفا " كما ورد في الحاشية السابقة. (5) ص: للقبائل، وفي (ع) : المهلك.

45 - ومن عجائبهم أنهم يلتزمون أكل الفطير في مرور الوقت المذكور في كل عام ولا يلتزمون أكل الخروف، على ما ذكرنا، وهم يقرون في كتابهم انهم مأمورون بذلك كله. فغن قالوا: إنما أمرنا بذلك ما دمنا (158 ب] في أرض القدس. قيل لهم: اتركوا أيضاً استعمال أكل الفطير حتى تكونوا في أرض القدس فلا فرق في كتابكم بين الأمر بالفطير والخروف. 46 - ومن عجائبهم في الكتاب المسمى عندهم " التوراة " ان موسى عليه السلام مجد الله تعالى يوم أغرق فرعون فقال في تمجيده (1) : ذلك قولي ومديحي للسيد الذي صار لي مسلماً، هذا إلاهي أمجده وإله آبائي أعظمه، السيد قاتل كالرجل القادر. أفيسوغ لذي عقل أن ينسب إلى نبي الله تعالى انه شبه قوة ربه عز وجل بقوة الرجل القادر وهل في الافتراء اعظم من هذا لو عقلوا 47 - ومن عجائبهم قولهم في السفر الثاني من كتابهم (2) : ثم صعد موسى وهرون وناداب وأبيهو وسبعون (3) رجلاً من المشايخ، ونظروا إلى إله إسرائيل وتحت رجله كلبة زمرد فيروزي. وفي بعض الفصول ان موسى عليه السلام قال، أو يعقوب (4) : رأيت الله مواجهة وسلمت نفسي. مع قولهم عن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: من رأى وجهي من الآدميين مات، ولست تقدر تراني، لكن سترى مؤخري. فهل في التناقض اعظم من هذا: مرة يقول من رأى وجهي مات، ومرة يقول رأيته مواجهة وسلمت نفسي. وكل ما ذكرناه ففي كتابهم الذي يسمونه " توراة " لا في نقل ضعيف ولا غيره. 48 - ومن عجائبهم قولهم في السفر الثاني إن هرون [أخا] موسى بإقرارهم قال

_ (1) " الرب قوتي ونشيدي وقد صار خلاصي، وهذا إلهي فامجده إله أبي فأرفعه، الرب رجل الحرب، الرب اسمه (خروج 15: 2 - 3) وانظر أيضاً كتاب الفصل 1: 160 حيث ورد: السيد أمجده كالرجل القادر. (2) ثم صعد موسى وهرون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ بني إسرائيل ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه سبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف (خروج 24: 9) وانظر الفصل 1: 160. (3) ص: وسيقوى. (4) رأيت الله مواجهة الخ. انظر الفصل 1: 141.

لبني إسرائيل في مغيب موسى (1) : اقلعوا أقراط الذهب عن آذان نسائكم ومواليكم (2) وأولادكم وبناتكم، ايتوني بها. ففعلت العامة ما أمر به وأتوا بالأقراط إلى هرون، فلما أقبضها أفرغها وجعل لهم منها عجلاً، فلما بصر به هرون بنى مذبحاً بين يدي وصرخ (3) مسمعاً: غداً عبد السيد (4) . ثم ذكر بعد فصول بأن موسى عليه السلام وجد بني إسرائيل عراة بين يدي العجل [159 و] يتغنون ويرقصون، وكان عراهم هرون بجهالة قلبه. 49 - هذه نصوص كتابهم. أفيسوغ في عقل من له أدنى مسكة أن يكون نبي يعمل عجلاً للعبادة من دون الله تعالى ويأمر قومه يعبدوا له، ويرقص هو وهم تعظيماً للعجل على أنه إلاههم الذي من مصر وإذا جاز ان يكون عجلاً وثناً ويعبدوه، جاز لنبي بالقبول من كلامه وأمره في العجل وما الذي جعل سائر عمله أصح من زناه وفتحه بيوت الأوثان وتقريب القرابين لها ولعل سائر ما أمر به وما عمل مفتعل كل ذلك من جنس عمل العجل والزنا. والذي لا شك فيه عندي ان من يدل توراتهم وأدخل فيها مثل هذا، إنما قصد إلى إبطال النبوة جملة، وبالله تعالى التوفيق. 50 - ومن عجائبهم قولهم في السفر الرابع: إن بني إسرائيل إذ طلبوا أكل اللحم وضجوا من أكل المن، ان الله تعالى قال لموسى (5) : تقدسوا غداً تأكلون اللحمان، فأنا أسمعكم قائلين من ذا الذي يعطينا. قد كنا بخير. يعطيكم السيد اللحمان فتأكلون،

_ (1) إن هارون أخا موسى بإقرارهم الخ: " فقال لهم هرون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هرون، فأخذ ذلك من بين أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عجلاً مسبوكاً فلما نظر هرون بنى مذبحاً أمامه ونادى هرون وقال: غداً عيد للرب.. ولما رأى موسى الشعب أنه معرى لأن هرون كان عراه للهزء بين مقاوميه. إلخ (خروج 32: 2 - 5، 32: 25) وراجع الفصل 1: 161، وقوله: بجهالة قلبه في الفصل 1: 162. (2) ص: وأموالكم. (3) ص: وبرح. (4) ص: السعيد. (5) وللشعب تقول تقدسوا للغد فتأكلوا لحماً لأنكم قد بكيتم في أذني الرب قائلين من يطعمنا لحماً. إنه كان لنا خير في مصر. فيعطيكم الرب لحماً فتأكلون تأكلون لا يوماً واحداً ولا يومين ولا خمسة أيام ولا عشرة أيام ولا عشرين يوماً، بل شهراً من الزمان حتى يخرج من مناخركم ويعيد لكم كراهة.. فقال موسى: ستمائة ألف ماش هو الشعب الذي أنا في وسطه وأنت قد قلت أعطيهم لحماً ليأكلوا شهراً من الزمان. أيذبح لهم غنم وبقر ليكفيهم أم يجمع لهم كل سمك البحر ليكفيهم. فقال الرب لموسى: هل تقصر يد الرب. الآن ترى أيوافيك كلامي أم لا. (عدد 11: 18 - 23) .

ليس يوماً واحداً ولا اثنين ولا خمسة ولا عشرة إلا حتى تكمل أيام الشهر، حتى يخرج على مناخركم وتصيبكم التخم. فقال له (1) موسى: هؤلاء هم ستمائة [ألف] رجل وأنت تقول: أنا أعطيكم اللحوم طعماً شهراً، أترى تكثر ذبائح الغنم والبقر فيقتاتون بها، أو تجمع حيتان البحر معاً لتشبعهم [فقال السيد] : ماذا يهم السيد أترى السيد عاجزاً فالآن ترى إن تم قوله. ثم ذكروا ان الله تعالى أنزل السمانى حول العسكر فأكلوا حتى تخموا ومات كثير منهم بالتخمة، فسمي ذلك الموضع قبور الشهوات (2) . 51 - قال أبو محمد: فلو تدبر هذا اللعين الجاهل كذبهم في هذا الفصل، لردعه عن أن يظن بقول الله تعالى لنبيه عليه السلام {فإن كنت [159: ب] في شك مما أنزلنا إليك} ، وليعلم ان الشك المجرد قد نسبوه إلى موسى عليه السلام في هذا الفصل، فإنه لم يثق بقول ربه ولا صدق قدرته على إطعام بني إسرائيل اللحم شهراً كاملاً، وهذا مع ما فيه من الشك المكشوف الذي لا يجوز ان يخرج له تأويل يبعده عن الشك، ففيه من السخف غير قللي، لان من رأى شق البحر، وإنزال المن (3) المشبع لهم، فواجب عليه ان لا يستعظم إشباعهم بلحم ينزله عليهم. ولكن الكذب والتوليد لا يكون إلا هكذا ليفضح الله تعالى به أهله. والحمد لله على ما من به علينا من طهارة الإسلام، ووضوح حجته، وله الشكر على ما كفانا من دنس الكفر، وتناقض عراه. 52 - وبعد هذا الفصل أيضاً في السفر الرابع ما ذكره من قول الله تعالى لموسى عليه السلام إذ ضج بنو إسرائيل من دخول الأرض المقدسة، قالوا: فقال السيد لموسى ابن عمران (4) : " حتى متى تتناولني هذه الأمة التي لا يؤمنون بي على ما آتيتهم من العجائب التي فعلت أمامهم، سأضربهم بالوبأ حتى أمسخهم، وأجعلك مقدماً على أمة عظيمة أشد قوة من هذه "، وان موسى لم يزل يرغب إلى الله عز وجل حتى قال: قد غفرت لك كما سألتني. ففي هذا الفصل من إطلاق الكذب في الحلف على الله

_ (1) ص: لهم. (2) ص: الشهداء وفي (ع) قبروت هتأوة أي قبور الشهوة (عدد 11: 34) . (3) ص: وإنزال البحر المن. (4) وقال الرب لموسى حتى متى يهينني هذا الشعب وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم. إني أضربهم بالوبأ وأبيدهم وأصيرك شعباً أكبر وأعظم منهم (عدد 14: 11 - 12) وانظر أيضاً (عدد 14: 20) .

عز وجل ما لا يجوز ان ينسب مثله إليه تعالى. 53 - وقد ذكرنا في كتابنا الموسوم " بالفصل في الملل والنحل " (1) الفصل الذي في توراتهم في ذكر أنسابهم، وبينا عظيم الكذب فيه: وهو انهم ذكروا ان سبعة نفر من بني إسرائيل من ولد قاهث بن لاوي نسلوا ثمانية آلاف ذكر قبل موتهم في التيه، وأولئك السبعة أحياء قائمون (2) وهم حينئذ أكثر (3) ما كانوا. وقد قال بعضهم: إن هذا من المعجزات. فأجبناه بان المعجزات إنما تكون [160/أ] للأنبياء عليهم السلام، وأما لكفار (4) عاصين فلا. هذا سوى ما في توراتهم من شرائعهم التي يلتزمونها الآن كالقرابين، وكمن مس نجساً فإنه ينجس إلى الليل، ومن حضر على مقبرة ينجس إلى الليل حتى يغتسل كله بالماء. وأما الصلوات التي يصلونها الآن فمن وضع أحبارهم، فيكفيهم انهم على غير شريعة موسى عليه السلام ولا على شريعة نبي من الأنبياء. 54 - ومن طرائفهم قولهم في كتاب لهم: يعرف (بشعر توما) ان تكسير ما بي جبهة خالقهم (5) إلى أنفه كذا وكذا ذراعاً. وقالوا في كتاب لهم من " التلمود " - وهو فقهم (6) - يسمى " سادر ناشيم " (7) ومعناه حيض النساء: ان في رأس خالقهم تاجاً من كذا وكذا قنطاراً من الذهب، وان صديقون (8) الملك هو يجلس التاج على رأس خالقهم، وان في إصبع خالقهم خاتماً تضيء من فصه الشمس والكواكب. 55 - ومن طوامهم (9) قولهم عن رجل من أحبارهم الذين يريدون، ان من شتم أحداً منهم يقتل، ومن شتم أحد الأنبياء لا يقتل. فذكر عن لعين منهم يدعونه إسماعيل انه قال لهم، وكلامه عندهم والوحي سيان، فقال: كنت أمشي ذات يوم في خراب بيت المقدس، فوجدت الله تعالى في تلك الخرب يبكي ويئن كما يئن

_ (1) راجع الفصل 1: 165 وما بعدها في مناقشة ابن حزم للأعداد التي تذكر عن بني إسرائيل في العهد القديم. (2) ص: نائمون. (3) ص: أكفر. (4) ص: الكفار. (5) أن تكسير ما بين جبهة خالقهم إلخ: انظر الفصل 1: 221. (6) ص: فقيههم. (7) سادر ناشيم. كذا ذكره ابن حزم في الفصل 1: 22 وقال إن معناه: أحكام الحيض، ولعل صوابه فيما يرجح الدكتور عابدين هو سادر هناشيم وهذا التركيب معناه أحكام النساء، لا أحكام الحيض فحسب. (8) ص: صندلقون وفي الفصل (1: 221) صندلفوت؛ وفي (1: 223) صندلفون. (9) كل ما جاء في هذه الفقرة أورده ابن حزم في الفصل 1: 221 - 222.

الحمامة (1) ، وهو يقول (2) : ويلي هدمت بيتي، ويلي على ما فرقت من بني وبناتي، قامتي منكسة حتى أبني بيتي وأرد بناتي وبني، قال هذا الكلب لعنه الله: ثم قبض الله على ثيابي وقال لي: لا أتركك حتى تبارك علي. فباركت عليه وتركني. 56 - قال أبو محمد: أشهد الله تعالى خالقي وباعثي بعد الموت والملائكة والأنبياء والمرسلين والناس أجمعين والجن والشياطين أني كافر برب يكون بين الخرب ويطلب البركة من كلب اليهود. فلعن الله تعالى عقولاً جاز فيها مثل هذا. 57 - ومن عجائبهم قولهم في السفر الخامس من توراتهم ان [160 ب] موسى عليه السلام قال لهم: إن الله تبارك وتعالى يقول لكم (3) : إني لم أدخلكم البلاد لصلاحكم ولا لقوام [قلوبكم] ، ولكن لكفر من كان فيها. ثم يقولون في عيدهم (4) الذي يكون في عشر تخلو من أكتوبر، وهو (5) تشرين الأول، ساخطين على الله تعالى غضاباً عليه تعالى إذ قصر بهم ولم يؤدهم حقهم الذي يجب لهم عليه - فيقولون لعنهم الله: عن الميططرون (6) - ومعناه الرب الصغير، تحقيراً (7) لربهم تعالى وتهاوناً به - يقوم هذا اليوم قائماً وينتف شعره ويقول: ويلي إذ أخرجت بيتي وأيتمت بني، قامتي منكسة لا أرفعها حتى أبني بيتي. فهم كما ترى يلعنون ربهم ويصغرونه ويقولون ذلك بأعلى أصواتهم في أكبر أعيادهم وأعظم مجامعهم. فكيف يجتمع هذا الحمق العظيم قوله لهم في توراتهم: " لم (8) أدخلكم البلاد لصلاحكم ولا لقوام قلوبكم " فهل التناقض والفساد والتبديل الظاهر إلا هذا كله لو عقلوا

_ (1) ص: وينين كما تنين. (2) الفصل: وهو يقول: الويل لمن أخرب بيته وضعضع ركنه وهدم قصره وموضع سكينته، ويلي على ما أخربت من بيتي إلخ. (3) ليس لأجل برك وعدالة قلبك تدخل لتمتلك أرضهم بل لأجل إثم أولئك الشعوب لطردهم الرب إلهك من أمامك (ثنية 9: 5) . (4) ثم يقولون في عيدهم. إلخ: انظر في ذلك كتاب الفصل 1: 223. (5) ص: ومن. (6) الميططرون: هكذا وردت هذه اللفظة أيضاً في الفصل 1: 323. ويعتقد الدكتور عابدين أن الوجه الصحيح من اللفظة هو " ميطوطيون " وهو لفظ يوناني ومعناه: مصاحب الرب أو الذي يجيء بعده في المرتبة. وربما كان هذا الاصطلاح مستفاداً مما أشار إليه النص العبري الوارد في سفر دانيال 11: 38 ومعناه " رب الحرس "، والحرس هي الأرواح التي تلازم الرب وكانت تعبد، وربما جعل كل روح منها " رباً صغيراً ". (7) ص: وتحقيراً. (8) ص: ثم.

58 - وفي السفر الخامس أيضاً أن موسى عليه السلام قال لهم (1) : إن السيد إلاهكم الذي هو نار آكلة. وفي موضع آخر من كتبهم ان الله تعالى هو الحمى المحرقة؛ وفي الذي يسمونه " الزبور ": احذر ربك الذي قوته كقوة الجريش (2) . فهذا وشبهه هو الحمق والتناقض وتوليد زنديق سخر منهم وأفسد دينهم. وهم يحققون على سليمان عليه السلام انه بنى بيوت الأوثان لنسائه وقرب لها القرابين، وهو عندهم نبي. وقد مضى الكلام في بطلان كل كلام وعمل يظهر ممن هذه صفته، وانه ليس مأموناً ولا صادقاً، لعنهم الله فإنهم كذبوا على أنبياء الله وافتروا. 59 - ويقرءون في السفر الرابع من توراتهم (3) أن الله تعالى أمرهم أن يضربوا القرن ضرباً خفيفاً، حتى إذا لقوا العدو [161/أ] فليضربوا القرن بشدة ليسمعه فيبصرهم، وفي هذا من السخف والكفر غير قليل، ولكن حق لمن غضب الله عليه وتبرأ منه وألحقه لعنته وألحقه سخطه ان يكون مقدار علمهم وعقولهم التصديق لكل ما اوردنا، والحمد لله رب العالمين على منته علينا بالإسلام، ومحمد صلى الله وسلم. 60 - وهم معترفون بان التوراة طول أيامهم في دولتهم لم تكن عند أحد إلا عند الكاهن وحده، وبقوا على ذلك نحو ألف ومائتي عام، وما كان هكذا لا يتداوله إلا واحد فواحد فمضمون عليه التبديل والتغيير والتحريف والزيادة والنقصان، لا سيما وأكثر ملوكهم وجميع عامتهم في اكثر الأزمان كانوا يعبدون الأوثان ويبرءون من دينهم ويقتلون الأنبياء، فقد وجب باليقين هلاك التوراة الصحيحة وتبديلها مع هذه الأحوال بلا شك. وهم مقرون بان يهوآحاز (4) بن يوشيا الملك الداوودي (5) المالك لجميع بني إسرائيل بعد انقطاع ملوك سائر الأسباط، بشر من التوراة أسماء الله تعالى

_ (1) " فاعلم اليوم أن الرب إلاهك هو العابر أمامك، نار آكلة (ثتنية: 9: 3) أما قوله: الحمى المحرقة فلم أهتد إليه، ولم يرد لفظ " الحمى " في أسفار العهد القديم إلا في موضعين (تثنية 28: 22 ولاويين 26: 16) وهي لا توصف هنالك بالإحراق، فلعل في النص تحريفاً أو هو منقول من بعض الشروح. أما لفظة " الجريش " فتعني " النافذ " وصفاً للرجل. والنص الذي يشير إليه ابن حزم في المزمور: 77 وليس فيه المعنى الذي أورده ابن حزم. (2) الجريش؛ غير منقوطة في ص، والتصويب من الفصل 1: 206. (3) يقابل هذا في (ع) وإذا ذهبتم إلى حرب في أرضكم على عدو يضر بكم تهتفون بالأبواق فتذكرون أمام الرب إلهكم وتخلصون من أعدائكم (عدد 10: 9) . (4) ص: يهوبا جاري. وفي الفصل (1: 193) يهوخار. (5) يهوآحاز بن يوشيا الملك الداوودي: انظر الملوك الثاني 13: 31، وأخبار الأيام الثاني: 36، وانظر الفصل 1: 193.

وألحق فيها أسماء الأوثان. وهم مقرون أيضاً أن أخاه الوالي بعده وهو الياقيم بن يوشيا احرق التوراة بالجملة وقطع أثرها، وهو في حال ملكه قبل غلبة بخت نصر عليهم. وهم مقرون بان عزرا الذي كتبها لهم من حفظه بعد انقطاع أثرها، إنما كان وراقاً ولم يكن نبياً، إلا أن طائفة منهم قالت فيه إنه ابن الله، قد بادت هذه الطائفة وانقطعت. فأي داخلة أعظم من هذه الدواخل التي دخلت على توراتهم وأما القرآن، فإنه لا يختلف ملي ولا مي أنه لم يزل من حين نزوله إلى يومنا هذا مثبوتاً (1) عند الأحمر والأسود لم ينفرد به أحد دون أحد، بل أبيح نسخه لكل من مضى وجاء، فنقله نقل كواف لا يحصرها عدد، كنقل ان [161 ب] [في] الدنيا بلداً يقال له الهند، وسائر ما لا يجوز للشك فيه مساغ ولا مدخل، والحمد لله كثيراً، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليماً. 61 - قال أبو محمد: إن أملي لقوي وإن رجائي مستحكم في أن يكون الله تعالى يسلط على من قرب اليهود وأدناهم وجعلهم بطانة وخاصة، ما سلط على اليهود، وهو يسمع كلام الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم عن الله لا يهدي القوم الظالمين} (المائدة: 51) وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم اكبر} (آل عمران: 118) ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون بالمودة} (الممتحنة:1) ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين} (المائدة: 57) ، وقوله تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} (البقرة: 61) ؛ وقوله تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} (المائدة: 82) . فمن سمع هذا كله، ثم أدناهم وخالطهم بنفسه من ملوك الإسلام فإنه إن شاء الله تعالى قمين (2) أن يحيق الله عز وجل به ما أحاق بهم من الذلة والمسكنة والهوان والصغار والخزي في الدنيا سوى العذاب المؤلم في الآخرة.

_ (1) مثبوتاً، كذا في ص، ولعله مبثوثاً. (2) ص: من.

62 - وإن من فعل ذلك لحري (1) أن يشاركهم فيما أوعد الله تعالى في توراتهم في الصفر الخامس إذ يقول لهم تعالى (2) : سنأتيكم وسيأتي عليكم هذه اللعنة التي أصف لكم فتكونون ملعونين في مدائنكم وفدادينكم وتلعن أجدادهم وبقاياكم ويكون نسلكم ملعوناً، وتكون اللعنة على الداخل منكم [162/ أ] والخارج، فيبعث الله عليكم الجوع والحاجة والنصب في كل ما علمته أيديكم حتى يهلككم ويقل عددكم لتخليكم منه. ثم يلقي الوبأ على بقيتكم ليقطع آثاركم من الأرض التي أورثكموها ويبعث الرب عليكم الجدب ويهلككم بالسموم والثلوج، ويحيل آثاركم ويطلبكم حتى يندركم ويجعل سماءه فوقكم نحاساً وأرضكم التي تسكنونها حديداً، فتمطر عليكم الغبار من السماء، وينزل عليكم الدماء حتى تهلكوا عن آخركم ويظفر الرب بكم أعداءكم فتدخلون إليهم على طريق واحدة وتنهزمون على سبعة، ويفرقكم في آخر أجناس الأمم، فتكون جيفكم طعم السباع وطيور السماء ولا يكون لهم عنكم دافع، ويبتليكم الرب بما ابتلى به المصريين (3) في أدبارهم من الحكة والأكال (4) الذي لا دواء له، ويبتليكم الرب بالبلية والغم حتى تماسكوا بالحيطان القليلة كتماسك العميان، ولا تقوموا على إقامة سبلكم فتكونوا في هضيمة طول دهر وفي سخره لا يكون لكم منفذ. ويتزوج أحدكم امرأة فتخالفه إلى غيره، ويبني أحكم بيتاً ويسكنه غيره؛ ويغترس كرماً ويقطفه غيره، ويذبح بين قدمي أحدكم ثورة ولا يطعم منه، وينزع من أحكم حماره معاينة ولا يرد إليه، وتعطى مواشيكم الأباعد، ولا تجدون ناصراً على ردها وتغلب على أولادكم وبناتكم، ولا يكون فيكم قوة للدفع عنهم، وتأكل حبوبكم أجناس تجهلونها وفواكه ارضكم، وتكونون مع ذلك في هضيمة أبداً وفي جزع منهم، فيبتليكم الرب بأجناس الأمراض وأضرها (5) التي لا دواء لها من أقدامكم إلى رؤوسكم، ويذهب (6) بالملك الذي تقدمونه على أنفسكم إلى قوم لم تعرفوهم ولا آباؤكم، لتجدوا (7) عندهم أصنامهم المصنوعة من الخشب والرخام،

_ (1) ص: يجري. (2) راجع هذا النص في تثنية: 28: 15 - 58. (3) ص: المصرتدين. (4) ص: الأكال (بدون واو) . (5) ص: وضرها. (6) ص: فتذهب. (7) ص: لتجد، ولعلها لتتخذوا.

وتكونون مثلاً لمن سمع بكم من جميع الأجناس التي أندركم فيها، فتزرعون كثيراً وترفعون قليلاً، لان الجراد [162 ظ] يأتي عليه، وتعمرون كرومكم وتحفرونها ولا تقطفون (1) منها شيئاً، لان الدود يأتي عليها. ويكثر زيتونكم ولا تدهنون (2) لأنها لا تعقد. ويولد لكم الأولاد والبنات ولا تنتفعون بهم لأنهم يساقون في السبي. ويأتي على جميع فواكه بلدكم القحوط والجدب فلا تنتفعون بها. ومن كان بين ظهرانيكم من [أهل] القرى يلعنونكم ولا يشفقون عليكم، فتتواضعون ويكون (3) الأرذال يشتمونكم وتكونون لهم ساقة فيأتي عليكم جميع هذه اللعنات وتتبعكم حتى تحزوا، إذ لم تسمعوا للرب إلاهكم، ولم تحفظوا رسالاته التي عوهدت إليكم، وتكون فيكم العجائب والمسوخ في ذريتكم في الأبد، إذ لم تقفوا عند أمر الرب إلاهكم بطيب أنفسكم (4) ، فتخدمون أعداءكم الذين (5) يبعث الرب عليكم في الجوع والعطش والعري والحاجة، وتحملون على رقابكم أغلال الحديد وتجرونها؛ ويأتي الرب عليكم بجيش من مكان بعيد في سرعة العقبان من الذين لا يكرمون شيخاً ولا يرحمون صغيراً، فيأكلون نتاجكم وما أنبتت أرضكم، ولا يدعون لكم سمناً ولا خمراً ولا زبيباً ولا ثوراً ولا شاة حتى يأتوا عليكم ويخرجوكم من جميع مدائنكم التي يرثكم الرب إلاهكم وتضيق عليكم حتى تأكلوا وسخ أجوافكم ولحوم (6) أولادكم وبناتكم الذين يولدون (7) لكم في زمان حصاركم، فمن كان منكم مترفاً أو متملكاً يمنع أخاه وامرأته لحوم (8) بنيه شحاً عليها إذ لا يجد ما يقتات به سواه من شدة الحصار من أعدائكم لكم. ومن كانت فيكم رخصة البنان التي لا تقوى على المشي من رخوصتها تحسد زوجها على أكل لحوم أولادها، والسلى الذي يخرج من فرجها، إذ لا تجد (9) مطمعاً سواه. 63 - قال أبو محمد: هذه بشارة من الله تعالى لهم، ومنحته التي خصهم بها

_ (1) ص: تقطعون. (2) ص: تذهبون. (3) ص: وتكون. (4) ص: يطلب أنفسكم. (5) ص: الذي. (6) ص: وتحوم. (7) ص: يولدون. (8) ص: نخوم. (9) ص: يجد.

بإقرارهم ألسنتهم، وفي كتابهم [163/أ] الذي يقرءونه. فيلتق الله تعالى امرؤ آتاه الله تعالى نعمة من نعمه، ومنحه عزة، وليجتنب هؤلاء الأنجاس الأنتان الأقدار الذين أحاق الله تعالى بهم من الغضب واللعنة والذلة والقلة والمهانة والسخط والخساسة والوسخ ما لم يحق بأمة من الأمم قط. وليعلم أن هذه الكسى التي كساهم الله تعالى إياها (1) أعدى من الجرب، وأسرع تعلقاً من الجذام، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان، ومن معارضة الله تعالى في حكمه بإرادة إعزاز من أذله الله تعالى، ورفعة من حطه الله، وأكرام (2) من أهانه الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 64 - قال أبو محمد: قد أوردنا في هذا الكتاب من شنعهم أشياء تقشعر منها الجلود، ولولا ان الله تعالى نص علينا من كفرهم ما نص كقوله تعالى عنهم: إنهم قالوا عزير ابن الله، ويد الله مغلولة، وأن الله فقير ونحن أغنياء، لما استجزنا ذكر ما يقولون لشنعته وفظاعته. ولكننا اقتدينا بكتاب الله عز وجل في بيان كفرهم، والتحذير منهم (3) . والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله [وسلم] . تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه وصلى الله على محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً يا رب العالمين

_ (1) ص: إياه. (2) ص: وأكرم. (3) مثل هذا العذر في رواية ما يقوله اليهود قد ردده ابن حزم أيضاً في الفصل 1: 233 قال: ولولا ما وصفه الله تعالى في كفرهم وقولهم: يد الله مغلولة، والله فقير ونحن أغنياء، ما انطلق لنا لسان بشيء مما أوردنا ولكن سهل علينا حكاية كفرهم ما ذكره الله تعالى لنا من ذلك.

2 - رسالتان أجاب فيهما عن رسالتين سئل فيهما سؤال تعنيف.

2 - رسالتان أجاب فيهما عن رسالتين سئل فيهما سؤال تعنيف.

فراغ

[172/أ] رسالتان له أجاب فيهما عن رسالتين

- 2 - [172/أ] رسالتان له أجاب فيهما عن رسالتين سئل فيهما سؤال التعنيف والله أعلم بسم الله الرحمن الرحيم، عونك يا الله. قال أبو محمد علي بن احمد بن سعيد بن حزم رحمه الله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وسلم تسليماً كثيراً، ورضي الله عن الصحابة. أما بعد، فإن بعض من تكلم بما وقر في نفسه بغير حجة وانطلق به لسانه بغير برهان، كتب كتاباً خاطبنا فيه معنفاً على ما لم يفهمه ومتعرضاً لما لا يحسنه، واستتر عنا مدة، ثم ظهر إلينا، فلزمنا أن نبين له موضع الخطأ من كلامه، ونوقفه على مخالفته للحق، تأدية للنصيحة التي افترضها تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ يقول (1) : " الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين عامة ". ونحن نورد نص ألفاظهم، على ركاكتها وغثاثتها، لئلا يظنوا بجهلهم أنها إن أوردت مصلحة قد نسخت (2) حقها ولم توف مرتبتها، ونبين، بعون الله، عظيم ما فيها من الفساد والهجنة، وما توفيقنا إلا بالله العلي العظيم. 1 - بدأ هؤلاء القوم كتابهم بعد أن قالوا: بسم الله الرحمن الرحيم: " أما بعد رعاك الله وكلأك - فإن خصمك يحتج أنه لا يلزمه الخروج عما قيده الشيوخ الثقات عنهم، وتضمن ذلك كتب جمة هي معلومة مشهورة مسموعة رواية رواها الثقات عنهم وهم في جملتهم عدد كثير، إلى قول واحد يطلب التعليل والاحتجاج ويرد بالمنطقي على الشرعي ".

_ (1) أورده البخاري ومسلم في باب الإيمان (42،95) . (2) أرجح أن الصواب: بخست.

فالجواب - وبال التوفيق - أن خصمنا يحتج أنه لا يلزمه الخروج عما قيده الثقات إلى آخر الفصل (1) - كلام يشاركهم فيه كل فرقة من فرق الإسلام، فليسوا أولى بهذه القصة من أصحاب أبي حنيفة ولا من أصحاب الشافعي، ولا من أصحاب أحمد بن حنبل [172 ب] رحمه الله على جميعهم، فكل لهم ثقات على الجملة وثقات عندهم، عن لم يكونوا أكثر من شيوخ المالكيين لم يكونوا أقل منهم، قد رووا أقوالهم وقيدوها عن الثقات كذلك، وهم أيضاً في جملتهم عدد كبير. وتضمنت تلك الأمور كتب الثقات عنهم، ليس جهل هؤلاء بها حجة على أولئك، كما أن أولئك أيضاً لا يعرفون كتب المالكيين، وأكثرهم لم يسمع قط بأسمائها، فأي فرق بين هذه الدعاوى لو نصحوا أنفسهم وأما قولهم في الخروج عما هذه صفته إلى قول واحد، فمعاذ الله أن ندعو أحداً إلى قول أحد غير قول الله عز وجل وقول رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يقول الكاره والراضي منهم والمسلم والراغم إنه الحق الذي لا حق في الأرض سواه. وأما قولهم: إنا نرى التعليل والاحتجاج، فقد مزحوا الكذب بالصدق والباطل بالحق، وأعوذ بالله أن نرى التعليل، بل قد رمونا ها هنا برأيهم، وهم الداعون إلى التعليل لا نحن، وكتب حذاقهم في إثبات العلل والقول بالتعليل مملوءة، كما أن كتبنا وكتب أصحابنا مملوءة من إبطال العلل والمنع من التعليل. فلو اتقى الله تعالى هؤلاء القوم لم يتكلموا فيما لا يحسنونه وقد سمعوا قول الله تعالى: {هاأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} (آل عمران: 66) . وأما قولهم إننا نرد بالمنطقي على الشرعي، فكذب وجهل ومكابرة، ونحن الداعون إلى الشرع، لأننا إنما ندعو الناس إلى كتاب الله تعالى الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت: 42) وإلى بيان رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي أمره الله تعالى بالبيان عنه، وإلى إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فكيف يرد على الشرعي من هذه صفته إنما يرد على الشرعي من يدعى إلى كلام الله تعالى وكلام نبيه محمد صلى عليه وسلم، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فيعارض [173/أ] ذلك برأيه ويعرض عن ذلك إلى قياسه، إن (2) كان

_ (1) ص: الفعل. (2) ص: وإن.

عند نفسه ممن يفهم، أو إلى تقليده إن تقليده إن كان مقصراً معترفاً بتقصيره. فلينظروا هم ونحن في هاتين الصفتين: من الجاهل لكل صفة منهما (1) ثم لينظر كل واحد منا الجزاء من الملي بالمجازاة، من الذي لا إله إلا هو. 2 - ثم قالوا: " والشرع إنما هو مسموع متبع معمول به ". فالجواب: إن هذا حق صحيح، ولكن يلزمهم تبيين من هو الشرع منه مسموع ومن هو المتبع في الشرع، وشرع من هو المعمول به. فإن (2) قالوا: إنه لا يسمع الشرع إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، ولا يتبع في الشرع أحد سواه عليه السلام، ولا يجوز العمل إلا بشرعه، صدقوا وهو قلنا، ولله الحمد، ووافقونا وانقطع الخلاف. فإن قالوا غير هذا لزمهم ما لا يخفى على أحد من أهل الإسلام، فإن قالوا: هو مسموع من العلماء وهم المتبعون فيه، قيل لهم: هل اتفق العلماء أو اختلفوا فإن قالوا: اتفقوا، كذبوا كذباً لا يخفى على ذي عقل، ولا يرضي بالكذب إلا خسيس لا دين له ولا مروءة. وغن قالوا: بل اختلفوا، قيل لهم: فلا تموهوا بإجمال ذكر العلماء من أهل الأمصار. 3 - ثم قالوا: " فمن الشرع ما قد عمل به، ثم ترك لحديث وارد نسخه، أو لوهن في طريقه فلم يصح، أو لم يقع الإجماع على استعماله من أجل ذلك ". الجواب - وبالله التوفيق - عن قولهم: فمن الشرع ما قد عمل به، ثم ترك لحديث وارد نسخه، فينبغي لمن تعاطى هذا يورد (3) ذلك الحديث الذي نسخ ذلك الشرع، فإن أورده لزم الانقياد له، وغن عجز عن ذلك فليتق الله على نفسه، ولا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بان يقول عليه بظنه ما لا يعلم صحته، فان الله تعالى يقول: {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً} (يونس: 36) ، وقد صح أن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتبوأ مقعده من النار (4) ، ومن [173 ب] ترك شرعاً صحيحاً لدعواه الكاذبة أن ها هنا حديثاً قد نسخه، ولا يدري صحة ذلك ولا يعرفه، فقد أتى أكبر الكبائر، ونعوذ بالله من الخذلان.

_ (1) ص: منها. (2) ص: بأن. (3) ص: بورود. (4) ورد في أكثر كتب الصحاح (انظر مثلاً البخاري: علم: 38 ومسلم، إيمان: 112) وراجع مسند أحمد 1: 65، 70، 78، 130 ومواطن أخرى كثيرة جداً.

وأما قولهم: لوهن في طريقه فلم يصح، فهذا علم ما يدرى منهم أحد يدري فيه كلمة فما فوقها، ومن تكلم فيما لا يدري فقد تعرض لسخط الله، إذ يقول: {وتقولون لأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} (النور: 15) . ثم أطرف شيء قولهم: " أو لم يقع الإجماع على استعماله "؛ نسأل هذا الجاهل الذي أتى بهذه الطامة عن كل ما يدينون ما خالف فيه مالكاً سائر العلماء، وربما بعض أصحابه: هل وقع الإجماع على استعماله (1) أم لا فغن قالوا: وقع الإجماع على استعماله، كابروا أسمج مكابرة، وناقضوا بادعائهم الإجماع على ما فيه الاختلاف بإقرارهم. وغن قالوا: لم يقع الإجماع على استعماله، قيل لهم: فكيف تعيبون القول بما لم يقع الإجماع على استعماله وانتم تقولون في أكثر أقوالكم بما لم يقع الإجماع على استعماله ولو أن من هذا مبلغه من العلم سكت، لكان أولى به وأسلم، والحمد لله على مننه. 4 - ثم قالوا: " وليس يشك أن المتقدمين من الصحابة والتابعين والسلف الماضين قد بحثوا عنه ووقفوا منه على حقيقة أوجبت تركه أو استعماله (2) ، فسكتوا عن ذلك للمعرفة الثابتة التي وردتهم (3) ، وإنهم في غير الثقة والقبول غير متهمين ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إنه جرى (4) أيضاً في هذا الفصل أيضاً من البرد والغثاثة على مثل ما جرى عليه قبل هذا. ويقال لهم: هل اتفقوا -[اعني] الصحابة والتابعين والسلف الماضين - على كل شيء من مسائل الدين حتى لم يختلفوا، أو اختلفوا فان هم (5) قالوا: لم يختلفوا في كل مسألة، ظهر كذبهم على جميعهم وصاروا في نصاب من يرجم لعظم ما تقحم [174/أ] فيه. وإن قالوا: اختلفوا في كثير من المسائل، قيل لهم: صدقتم، فأما ما اجتمعوا عليه فنحن الذين اتبعوا إجماعهم، ولله الحمد كثيراً، وإنما خالف إجماعهم من دعا إلى تقليد إنسان بعينه، كما فعل هؤلاء في تقليدهم مالكاً دون غيره، ولم يكن قط في الصحابة، ولا في

_ (1) ص: استعمال. (2) ص: واستعماله. (3) ص: المعرفة الباقية التي زودتهم. (4) ص: جزا. (5) ص: فإنهم.

التابعين، ولا في القرن الثالث واحد فما فوقه فعل هذا الفعل، ولا أباحه لفاعل، فهم المخالفون حقاً للإجماع حقاً في هذا وفي مسائل (1) أخر قد أوضحناها في كتبنا. وأما ما اختلفت فيه الصحابة، رشي الله عنهم، فليس قول بعضهم أولى من قول بعض، ولا يحل تحكيم إنسان ممن دونهم في الاختيار في قولهم، ولا يجوز في ذلك إلا ما أمر الله تعالى به، إذ يقول: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء: 95) ، فمن رد الاختلاف إلى اختيار مالك (2) وأبي حنيفة والشافعي أو إنسان بعينه، فقد خالف القرآن والإجماع المتقدم من الصحابة والتابعين، وهو الإجماع الصحيح. وأما قولهم: إن الصحابة والتابعين بحثوا عنه ووقفوا على حقيقة أوجبت تركه، فهذه صفة معدومة فيما لم يصح نسخه، ولا سبيل إلى وجوبها إلا فيما تيقن نسخه كالقبلة إلى بيت المقدس، وما أشبه ذلك. وأما ما اختلفوا، فحاشا لله أن يكون إجماعاً فيما قد صح فيه الخلاف. وأما الطامة فقولهم: " فسكتوا عنه للمعرفة الثابتة التي وردتهم "، فهذه عظيمة نعوذ بالله من أن يظن مثلها بالصحابة، رضي الله عنه، من أن سكتوا عن تبليغ ناسخ صح عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فعل هذا فقد وجبت عليه اللعنة وحقت، قال الله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون* إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك [174 ظ] أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} (البقرة: 159 - 160) ، فكيف يحل لمن يدري ما الإسلام أن يظن أن الصحابة والتابعين اتفقوا على السكوت عن ذكر حديث ناسخ لعمل شرعي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما لا يظنه بهم إلا الروافض الملعونون، ونعوذ بالله من الخذلان. وأما قولهم: " وإنهم في غير الثقة والقبول غير متهمين "، صحيح، وهو قولنا لا قولهم؛ لأنا نحن الذين ندين لله تعالى بكل ما أسنده لنا الثقة عن الثقة حتى يبلغ إليهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا ما صح نسخه وعلم (3) ناسخه، أو ثبت تخصيصه

_ (1) ص: في مسائل. (2) ص: مالكاً. (3) وعلم: مكررة في ص.

ونقل ما خصه؛ ونحن الذين قبلنا منهم حقاً، وإنما ترك توقيفهم (1) ورفض القبول منهم واتهمهم من اطرح جميع أقوالهم، ولم يلتف إليها، ولا اشتغل إلا قول مالك وحده، وحكم عليهم رأي مالك واختياره، فهذا هو المتهم لهم حقاً، لا من لم يخالف إجماعهم ولا حكم في اختلافهم أحداً (2) غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلأي أقوالهم حكم النبي صلى الله عليه وسلم قال به، والحمد لله رب العالمين. 5 - ثم قالوا: " فوجب لهذا الطالب المجتهد الاقتداء بهم وسلوك طريقتهم والأخذ بسيرتهم إذ عنهم أخذ دينهم، وهم الناقلون إليه شريعته نقل كافة عن كافة، ونقل واحد عن كافة، ونقل كافة عن واحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكرم ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن قولهم: وجب لهذا الطالب المجتهد الاقتداء بهم، وسلوك طريقتهم، والأخذ بسيرتهم فصحيح إن فعلوه، وحق إن عملوا به، ونحن نسألهم ونناشدهم الله ما الذي يدينون به ربهم تعالى: أهو ما (3) وردهم عن الصحابة والتابعين، أو ما وجدوا في المدونة من رواية ابن القاسم عن مالك فغن قالوا: بما جاءنا عن الصحابة، كذبوا كذباً يستحقون به المقت من الله تعالى، ومن [175/ أ] كل من سمعهم. فإن قالوا: بل بما جاءنا من رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، فليعلموا أنهم لم يقتدوا بالصحابة والتابعين والسلف المرضيين، ولا سلكوا طريقهم، ولا أخذوا بسيرتهم. وإن قالوا: إن مالكاً (4) لم يخالف طريقة الصحابة والتابعين، قيل لهم: ما مالك بهذا أولى ممن خالفه كسفيان الثوري والليث والأوزاعي وأحمد بن حنبل، وغيرهم، ومن ادعى على هؤلاء وغيرهم أنهم (5) كلهم خالفوا الصحابة والتابعين، حاشا مالكاً وحده، قالوا الكذب والباطل، ولم ينفكوا ممن عكس عليهم هذه الدعوى الكاذبة فنسب إلى مالك ما نسبوه هم إلى غير مالك، وحاشا لله من هذا، بل كل امرئ منهم مجتهد لنفسه يصيب ويخطئ، وواجب عرض أقوالهم على القرآن والسنة، فلأيها شهد القرآن والسنة أخذ بقوله وترك ما عداه. وقد بينا ان سيرة الصحابة والتابعين وطريقهم هي الاجتهاد، وطلب سنن النبي صلى الله عليه ولسم ولا مزيد،

_ (1) ص: نزل توفيقهم. (2) ص: أحد. (3) ص: بما. (4) ص: مالك. (5) ص: أن.

وترك تقليد (1) إنسان بعينه. فهم قد خالفوا جميع سيرة الصحابة والتابعين، وخالفوا طريقهم، ولم يقتدوا بهم، ونحن مقتدون بهم حقاً، والحمد لله رب العالمين. وأما قولهم: " فعنهم أخذ دينه "، فلو اتقوا الله تعالى ولم يكذبوا كان أسلم لهم في الدنيا والآخرة، ولو رجعوا إلى أنفسهم فنظروا هل رووا ما يدينون به عن الصحابة والتابعين أو لم يشتغلوا قط بشيء من ذلك فأن كان عندهم الصحابة والتابعون (2) إنما هم مالك وحده، فهذه حماقة (3) لا يرضاها لنفسه ذو مسكة. وأما قولهم: " وهم المبلغون والناقلون إليه شريعته نقل كافة عن كافة (4) ونقل واحد عن كافة، ونقل كافة عن واحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم "، فهذه والله طريقتنا لا طريقتهم، وسبيلنا لا سبيلهم، هذا أمر لا يستطيعون إنكاره؛ لأنهم لا يشتغلون بحديث أصلاً، ولا بأثر، إنما هو قول مالك وابن [175ب] القاسم، وهذا رأي، ولا مزيد إلا في الندرة فيما لا يعرفون صحته من سقمه، وفيما يأخذون بعضه، ويخالفون بعضه تظارفاً (5) ولا مزيد، ونسأل الله التوفيق. 6 - ثم قالوا: " ففي الخروج عن الثقات وعن الجماعة إلى رأي واحد إن كان ذلك الواحد من جملة الجماعة لا مزية له عليه، فهو والله شذوذ، وخطأ لا يحل "، وهذه صفتهم في خروجهم عن أقوال جميع الصحابة والتابعين، وسائر الفقهاء لهم إلى رأي مالك وحده، إن كان ذلك الواحد هو الذي أجازه الله تعالى برسالته، واستصفاه لوحيه وعصمه، وافترض طاعته على الجن والأنس، فقد وفق (6) من خالف بأهل الأرض كلهم له، فكيف وجميع (7) الصحابة والتابعين مجموعون على وجوب ترك قول كل قائل لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه طريقتنا، والحمد لله رب العالمين كثيراً. فانظروا الآن من الزائر منا ومنهم، ومن الشاذ نحن أم هم وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل.

_ (1) ص: التقليد. (2) ص: والتابعين. (3) ص: جماعة. (4) عن كافة: مكررة في ص. (5) ص: بطارقة. (6) ص: وقف. (7) ص: جميع.

7 - ثم قالوا: " ولاسيما أن هذا المدعي الحق فيما يمتثله ويؤثره ويصوبه من الترتيب، والهيئات، والاشتقاق، والتفتيق، وتغليب الظاهر، وإعماله على مفهوم خطابه على ما يبدو للسامع، وترك الأخذ بالتأويل، والأحكام الماضية من السلف الصالح ". فالجواب - وبالله التوفيق - إن هذا كلام مخلط يشبه كلام الممسوسين (1) لأنه ناقص غير تام، وما ندعي الحق إلا فيما لا يقدر أي واحد (2) منهم أن ينكر ان الحق فيه من القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم فقط، وأما ذكر هيئات واشتقاق وتفتيق، فحمق صفيق، وهذيان عتيق، ومن عند الله يكون التوفيق. وأما تغليبنا الظاهر وإعماله، على مفهوم خطابه، فكلام لا يعقل لاستعمال الظاهر دالاً بمفهوم خطابه، وهو نفسه الذي يبدو للسامع منه، لا معنى للظاهر غير ذلك. فلو عقل هؤلاء المساكين [176/أ] ما تكلفوا ما يفتضحون فيه من قرب، لكن من يضل الله فلا هادي له. وأما ترك الأخذ بالتأويل، فلا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما تأويل يشهد بصحته القرىن، او سنة صحيحة أو إجماع، فبه نقول إذا وجدناه، وإما تأويل دعوى لا يشهد بصحته (3) نص قرآن، ولا إجماع، فهذا الذي ننكره وندفعه ونبرأ إلى الله تعالى منه. فإن كانوا أنكروا إنكارنا هذا الباطل، فما يحتاج معهم إلى تطويل أكثر من أن نقول لهم: ما الفرق بين تأويلكم العاري من شهادة القرآن والسنة، وبين تأويل غيركم من الحنفيين (4) والشافعيين إذا عري أيضاً من تصحيح القرآن والسنة وهذا ما لا سبيل إلى فرق بينه، ولا يتبع شيئاً مما هذه صفته بعد قيام الحجة ووصول البيان إليه إلا (5) محروم التوفيق محروم البصيرة. وأما الأحكام الماضية بين السلف الصالح، رضى الله عنهم، فإنها لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أحكام لم يختلفوا فيها، وإما أحكام اختلفوا فيها:

_ (1) ص: المشوشين. (2) ص: على واحد. (3) ص: بصحة القرآن. (4) ص: الحنيفيين. (5) ص: لا.

فأما الأحكام التي لم يختلفوا فيها، فهم الذين يخالفونها كخلافهم إعطاء أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما - بحضرة الصحابة دون خلاف من أحد منهم - ارض خبير اليهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو ثمر إلى غير أجل، فخالفوا هذا الحاكم، وقالوا: هذا باطل لا يجوز. وغير هذا كثير جداً قد جمعناه عليهم مما لا ينكرون صحته. وأما الأحكام التي فيها [اختلاف] ، فإنا حكمنا فيما امرنا الله تعالى أن يرد إليه ما تنازع العلماء فيه من القرآن، ومن السنة الصحيحة، فلأيهما شهد القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحة أخذناه. وأما هم فحكموا على الصحابة رضي الله عنهم رأى مالك، واختيار ابن القاسم، فلينظر الناظر أي الطريقين أهدى فإن قالوا: ما يتهم مالك ولا بن القاسم. قيل لهم: ولا يتهم سفيان ولا ابن المبارك ولا الأوزاعي ولا الوليد بن مسلم [176 ب] ولا الليث ومن روى عنه، ولا احمد بن حنبل ولا سائر الفقهاء، فأي فرق بين تحكيم أولئك فيما اختلف فيه السلف، وبين تحكيم هؤلاء ومن فوقهم من التابعين 8 - ثم قالوا: " وهو مع ذلك ضعيف الرواية عار من الشيوخ، وإنما هي كتب حسنها وأتقنها وضبطها؛ فمنها مروي مما قد رواها (1) على شيخ أو شيخين لا أكثر، ومنها كتب مشهورة ثابتة بيده صحيحة، مثل المسانيد، والمصنفات والصحيح كمسلم والبخاري، لا يمترى في شيء منها، ومنها ما قد خفي على المحتج لعدم الراوي لها، وقلة استعمالها أو لطروئها (2) وحدوثها في بلدتنا لم يروها علماء بلدنا، ولا شغلوا (3) بها، ولا سمعوا بها فيما مضى عمن مضى، فنافروها ولم يقبلوا عليها، فهم لا مكذبون (4) لها، ولا عاملون [بها] ، ثم إنهم رأوا فيها تغليب أحاديث قد تركت وسكت عنها الصحابة والتابعون، والعلماء الماضون، ومخالفة أحكام قد حكم بها السلف الصالح وقضوا بها واستمر الحكم عليها ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذا كلام مخلط في غاية التناقض. أما قولهم عنا بضعف الرواية، والتعري من الشيوخ، فلو كان لهم عقول لأضربوا

_ (1) ص: قدروها. (2) ص: لطرسها. (3) ص: شعاع. (4) ص: يكذبون.

عن هذا، لأنهم ليسوا من أهل الرواية فيعرفوا قويها (1) من ضعيفها، ولا اشتغلوا [بها] قط ساعة من الدهر، وما يعرفون إلا المدونة على تصحيفهم لها، وما عرفوا قط من الصحابة، رضي الله عنهم، رجلاً، ولا من التابعين عشرة رجال، ولا يفرقون بيت تابع وصاحب، سوى من ذكرنا، فلا حياء يمنعهم من أن يتعرضوا للكلام في الرواية. وأكثر المتكلمين في هذا الباب لا يقيمون الهجاء، ولا يعرفون ما حديث مسند من حديث مرسل، ولا ثقة من ضعيف، ولا حديث النبي صلى الله عليه وسلم من كعب الاحبار، وما منهم أحد يمزج له حديث موضوع مع صحيح فيميزه (2) ، ثم يقولون: عار من الشيوخ، وهم ما كان لهم شيخ قط، ولا عمروا لمجلس حديث، ولا اشتغلوا [177/أ] بتفنيده (3) ، إنما كان عندهم عبد الملك بن سليمان الخولاني (4) ، فكان (5) شيخاً صالحاً لم يكن أيضاً (6) مكثراً من الرواية، كان ربما ألم به بعضهم إلمام من لا يدري ما يطلب، يخرجون من عنده كما دخلوا، لم يعتدوا قط عنه كلمة، ولا اهتبلوا بما يروي بلفظة، إنما يقعدون عنده قعود راحة، إذا لم يكن عليهم شغل. ثم لم يلبث هؤلاء الخشارة أن نقضوا كذبهم خذلاناً من الله تعالى، فشهدوا لنا بأنها كتب أتقناها وضبطناها، منها مروي رويناها عن شيخ أو شيخين، ومنها كتب مشهورة ثابتة بأيدينا مثل المسانيد المصنفات، لا يمترون فيها. وهذا ضد ما حكموا من تعرينا من الشيوخ ومن ضعف الرواية، فهم لا يدرون ما يقولون ولا يبالون بالكذب والفضيحة (7) ، لكنا والله نصفهم بما هم (8) أهله من انهم ماضبطوا قط كلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صاحب ولا عن تابع، ولا يحسنون قراءة حديث لو وضع بأيديهم، ولا يفرقون بين جابر بن عبد الله وجابر بن زيد ولا يفرقون بين رأي

_ (1) ص: قربها. (2) ص: فيميزه. (3) ص: بتنفيذه؛ وقد تقرأ " بنقده ". (4) عبد الملك بن سليمان الخولاني أبو مروان: محدث سمع بالأندلس، وأفريقية، ومصر، ومكة. قال الحميدي: وسمعنا بالأندلس منه الكثير؛ (قلت: وربما خالف هذا ما يقوله ابن حزم) توفي بميورقة قبل 440 هـ (الجذوة: 266 وعنه الصلة: 343) . (5) ص: فكانا. (6) ص: أيضاً له. (7) الأصوب: والعضيهة. (8) ص: هو.

ورواية (1) . وأما أن من كتبنا ما خفي على المحتج لعدم الراوي لها (2) وقلة استعمالها، فما خفاء العلم على الحمير حجة على أهل العلم، ولا قلة طلبهم لرواية السنن دليلاً على عدم الراوي، بل الرواة ولله الحمد موجودون. فمن (3) أراد الله تعالى به خيراً وفقه لطلب ما يقرب منه، ولم يشغله عما يعنيه ما لا يعنيه وما لا يغني عنه من الله شيئاً؛ وكذلك ليس قلة استعمالهم لتلك الكتب عيباً على الكتب، إنما (4) العيب في ذلك على من ضيعها، وحظ نفسه ضيع لو عقل. وأما ما ذكره من طروئها في بلدهم، فما بلدهم حجة على أهل العلم، ولكن هكذا (5) يكون إزراء السكارى على الأصحاء، واعتراض أهل النقص على أهل الفضل. والعجب كله قولهم: " علماء بلدنا "، وهذه والله صفة معدومة في بلدهم جملة، فما يحسنون ولله الحمد لا رأياً ولا حديثاً ولا علماً [177 ب] من العلوم إلا الشاذ منهم والنادر ممن هو عندهم مغموز (6) عليه، " والجاهلون لأهل العلم أعداء "، ومن جهل شيئاً عاداه (7) . والعجب أيضاً عيبهم كتب العلم بأنهم لم يسمع ذكرها عندهم ولا سمعوا بها فيما مضى، فنافروها ولم يقبلوا عليها. إن هذا لعجب، فإذا نافرت كتب العلم هذه الطبقة المجهولة الجاهلة، فكان ماذا لقد اذكرني هذا الجنون ما حكاه الأصمعي (8) ، فإنه ذكر أنه مر بكناسين على حش، أحدهما يكيل والثاني يستقي، والأعلى يقول للأسفل: إن المأمون سقط من عيني مذ قتل أخاه! فما سقوط هذه الكتب عند هؤلاء الجهال إلا كسقوط المأمون من عين الكناس، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأما قولهم: إنهم رأوا فيها تغليب أحاديث قد (9) تركت، فليت شعري من تركها

_ (1) ص: رواية. (2) ص: بها. (3) ص: لمن. (4) ص: إما. (5) ص: هذا. (6) ص: معموراً. (7) من جهل شيئاً عاداه، يظن بعضهم أنه حديث، قال ابن الديبع: ليس بحديث، انظر الأخبار الموضوعة: 341. (8) ما حكاه الأصمعي إلخ، انظر في الامتاع 2: 54 حكاية مشابهة. (9) ص: فقد.

لئن كان تركها تارك لقد أخذ بها من هو فوقه أو مثله، وما ضر الحديث الصحيح من تركه، بل تاركه هو المحروم حظ الأخذ به، فإما مخطئ مأجور في اجتهاده، وإما عاص لله تعالى في تقليده في ترك السنة. وأما قولهم: وسكت عنها الصحابة والتابعون والعلماء الماضون. فقد كذبوا على الصحابة والتابعين، وعلى العلماء الماضين، ونسبوا إليهم الباطل، وكيف سكتوا عنها وهم رووها ونقلوها وأقاموا بها الحجة على من بعدهم كالذي يلزمهم. وأما قولهم: ومخالفة أحكام قد حكم بها السلف الصالح: ما خالفوا قط حكماً صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغن كان واحد منهم أو اثنان خالفوا بعض ذلك، فقد وافقه غير المخالف ممن هو ربما فوق المخالف له أو مثله، والحجة كلها هي القرآن والسنة لا ترك تارك ولا أخذ آخذ، والحق حق أخذ به أو ترك، والباطل باطل أخذ به أو ترك، وما عدا هذا فهذر وهذيان، وبالله تعالى التوفيق. وما نعلم أشد خلافاً لما حكم به الصحابة والتابعون [178/أ] منهم - كم قصة في الموطأ خاصة لأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان وغيرهم رضي الله عنهم خالفوها!! فمن السلف الصالح إلا هؤلاء لو عقلوا ونعوذ بالله من الخذلان والجبن. 9 - ثم قالوا: " ثم رأوا تصنيفاً وتمثيلاً واشتقاقاً وتعريفاً ونتائج تلزم المرء على سبيل طريق الاحتجاج، وظاهر القول مما يحكمه البيان، وينطلق به اللسان وتصوبه اللغة وتقيمه (1) [الحجة] وتصرفه الألحان من الكلام والأفانين من النحو وتحبير المعاني باللفظ وإشعارها بالحس وتنبيهها بالجرس، فأنكروا (2) ذلك وفروا عنه، إذ (3) لم يكن ذلك طريقة من مضى ولا سنن [من به] يقتدى، فوقع النفار في النفوس، وجعلوا ذلك كله بدعة وحدوث شرع، وزيادة وتنميقاً أحدثوه (4) أصحاب الكلام، وأهل البدعة ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق -: إن في هذا الكلام عبرة لمن اعتبر، فأول ذلك إقرارهم لنا بأنهم رأوا لنا تصنيفاً وتعريفاً (5) ونتائج تلزم المرء على طريق الاحتجاج

_ (1) ص: وتفهمه. (2) ص: أنكروا. (3) ص: إذا. (4) أحدثوه: كذا في ص؛ وله أشباه - ولعله هنا نص قولهم فلم يغيره ابن حزم. (5) ص: وتفريقاً ولعلها " وتفتيقاً ".

وظاهر القول مما يحكمه (1) البيان وينطق به اللسان وتصوبه اللغة وتقيمه الحجة وبصرفه (2) اللحن بأفانين النحو وتحبير المعاني في اللفظ، وإشعارها بالحس وتنبيهها بالجرس. وهذه - ولله الحمد - نعمة جليلة لله تعالى علينا لا نقوم بشكرها، وهل الحق إلا في النتائج اللازمة للمرء على طريق الاحتجاج أما سمعوا قول الله تعالى {فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} (الرحمن: 33) ، ولا خلاف أن السلطان هو الحجة، وقوله تعالى: {فلله الحجة البالغة} (الأنعام: 149) وإذا شهدوا لنا بالبيان فلله الحمد كثيراً، {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان} ، (الرحمن: 1 - 2) ، أما علموا أن القرآن بيان من الله تعالى وإذا شهدوا لنا باللغة تصوب (3) قولنا، فقد فزنا - ولله الحمد - بالقدح المعلى (4) ، قال تعالى: {قرآناً عربياً} (يوسف: 2/ طه: 113/ الزمر: 28/ فصلت: 3/ الشورى: 7/ الزخرف: 3) ، فإذا اللغة تشهد [178 ب] لنا، والقرآن بأيدينا، فقد فلجنا (5) - ولله الحمد - وخاب وخسر من خالفنا. وأما قولهم في خلال ذلك إنهم رأوا لنا تمثيلاً واشتقاقاً (6) فكذب بحت. أما الكذب فدعواهم علينا التمثيل، فلسنا نقول به ولله الحمد، لأنه من باب القياس الذي هو عندنا عين الباطل، لكنا نريهم بالتمثيل الذي يقرون به تناقض أقوالهم وإفساد بعضها بعضاً. وأما الاشتقاق، فقد عرف أهل المعرفة أننا (7) لا نقول به فيما عدا الأوصاف من الصفات فقط. وأما قولهم (8) إنهم أنكروا كل هذا وقد فروا عنه: فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير. وإن من أنكر البيان والحجة وما يصوبه النحو واللغة وأشعر بالحس، لمخذول مسخم الوجه، ونعوذ بالله من الضلال. وكذلك إخبارهم بوقوع النفار لهذا الحق، وأنهم جعلوا كل ذلك بدعة، فلا جرم قد قيل في القرآن: {إن هذا إلا سحر يؤثر*

_ (1) ص: ما يحكم. (2) ص: وصرف. (3) ص: فصورة. (4) ص: قرنا. بالقدح المعنى. (5) ص: فلحنا. (6) ص: وإشفاقاً. (7) ص: لأننا. (8) ص: قولهم له.

إن هذا إلا قول البشر} (المدثر: 24 - 25) . وأطرف من هذا كله، جعلهم القرآن والسنة بدعة وإحداث شرع؛ فهل في الحيوان أكثر ممن يجعل قول من قال: لا آخذ إلا بما صح عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأجمعت عليه الصحابة، إحداث شرع فليت شعري هل إحداث الشرع إلا في الحكم في التحريم والتحليل، والرأي والظن، لو عقلوا وأما قولهم (1) : لم يكن هذا طريقة من مضى، ولا سنن من به يقتدى، فقد كذبوا وأفكوا، وهل طريقة من مضى ومن به يقتدى إلا التمسك بالقرآن، والأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما الطريقة التي لم تكن قط طريقة من مضى، ولا من به يقتدى، هي طريقتهم في تقليد إنسان بعينه، فهذه البدعة المنفية التي لم تكن قط صدر الإسلام، وإنما حدثت في القرن الرابع، ونعوذ بالله من الحدثان كلها. 10 - ثم قالوا: " وان معنى الفقه غير معنى الكلام " لأ179/أ] . فالجواب -[وبالله تعالى التوفيق]- أن هؤلاء القوم ليسوا من أهل الفقه ولا من أهل الكلام، ولا يحسنون شيئاً غير التناغي والقول (2) الفاسد، نحو ما أوردنا من كلامهم آنفاً. وطريقة الفقه والكلام الصحيح، إنما هي اتباع القرآن والسنن فقط، وما عدا ذلك فباطل لا يجوز اتباعه، وبالله تعالى التوفيق. 11 - ثم قالوا: " فخلوا كتاب حدا المنطق (3) لأجل ذلك، ولما فيه التعمق والعرض، وترتيب الهيئات ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذا من ذلك الباطل (4) . ليت شعري أدخل حد المنطق في السنن إن هذا لعجب عجيب؛ ومن كانت هذه منزلته من الفهم ما كان حقه أن يعود إلا إلى كتاب الهجاء. ومن طرائف الدهر قولهم: إن في حد المنطق ترتيب الهيئات، وهذا أمر ما علمه قط أحد في حد المنطق، ونسأل هؤلاء السعوات (5) عن حد المنطق هذا الذي يذمونه: هل عرفوه أم لم يعرفوه فإن كانوا عرفوه فليبينوا

_ (1) ص: قولهم له. (2) ص: يحسبون التفاغي والهبول. (3) ص: فحملوا حد كتاب المنطق. (4) ص: من الباطل. (5) هكذا هي صورة اللفظة في ص؛ ولعلها " الببغاوات ".

لنا ما وجدوا فيه من المنكرات. وإن كانوا لم يعرفوه، فكيف يستحلون (1) أن يذموا ما لم يعرفوه (2) ألم يسمعوا قول الله تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} (يونس: 39) ولكن إعراضهم عن القرآن إلى ما يطول عليه ندمهم يوم القيامة، [هو] الذي أوقعهم في الفضائح والقبائح، ونعوذ بالله من الخذلان. 12 - ثم قالوا: " ولو صح ما ذكرته من أمثال هذه الطرائق وإقامتها بالحجة والكلام، فقام بذلك أمثالك، ورووها (3) عن الثقات والمشاهير، وأقاموها بالأسانيد الصحاح والرواية الصحيحة، حتى يوصلوها إلى من لا يهتم من التابعين، لوجب لخصمك اتباعهم فيه ولزومه والعمل به ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - عن هذا شهادة منهم على أنفسهم، فليعلموا (4) أن كل ما نقوله لهم بأجمعهم منقول بالأسانيد الصحاح عن الرواة الثقات موصلة إلى النبي صلى الله عليه [179 ب] وسلم فواجب عليهم ما التزموه من الرجوع إلى الحق. فإن شكوا في ذلك، فالميدان بيننا وبينهم، وهذه كتبنا حاضرة مروية عنا، مثبتة بخطنا وخط الثقات، ممن أخذها عنا، قد شرقت وغربت، فهم بين خيرتين (5) : إما أن يحضروا معنا، ويسألوا عن كل خبر أوردناه (6) ، فإن كان عندهم علم يعترضون به فليعترضوا، وإن لم يكن عندهم فليسكتوا. وإما أمنا لهم (7) ، وإن كرهوا ذلك، فليمحصوا (8) كتبنا. فغن كان فيها شيء غير الحق فقد مكناهم من مقابلتنا، أو كفيناهم المؤنة في إثبات ما يريدونه. هيهات هيهات، يأبى الله إلا أن يتم نوره، ولا تستر الشمس بالأكف، وما يعارض الحق بالجهل. نعم، فليعلموا أنا لم نأت بحديث إلا من تصنيف البخاري أو تصنيف مسلم أو تصنيف أبي داود أو تصنيف النسائي أو تصنيف ابن أيمن أو تصنيف ابن أصبغ أو مصنف عبد الرزاق، أو تصنيف حماد أو تصنيف وكيع أو مصنف ابن أبي شيبة أو مسنده أو حديث سفيان بن عيينة أو حديث شعبة أو ما جرى هذا المجرى، مما لا يقدر عدو الله على

_ (1) ص: يستحلوا. (2) ص: يعرفون. (3) ص: وردوها. (4) ص: فيعلموا. (5) ص: حيرتين. (6) ص: خبر وردناه. (7) ص: أمثالهم. (8) ص: فليمحوا.

القدح (1) فيها، وأضربنا عن الحديث المستور من رواتنا. صيانة لأقدار الأئمة عن تعريضهم لمن لا يعبأ الله به شيئاً، إلا في الندرة مما لابد من إيراده. وكل هذه الدواوين عندنا - ولله الحمد - روايتنا وضبطنا وتصحيحنا، وذلك فضل الله ومنته؛ لكنهم بكم إذا ضمنا وإياهم مجلس، فإذا غابوا أتوا بمثل هذه البلاغم العفنة المضحكة، ونعوذ بالله مما امتحنهم به. 13 - ثم قالوا: " لكن بشرع زائد وعلم مبتدع انفردت به أنت من طريق نقلتها، وخالفت فيها من مضى من طريق ما ظهر إليك واطلعت عليه من وهلة أو غفلة أو تضييع أو عي أو بلادة أو قلة فهم نسبته إلى الرواة المؤلفين للدواوين الراسخة، لاتساعك في الكلام، ومعرفتك في اللغة، وتصديقك كتاب حد المنطق ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق -[180/أ] أن هذا مما قد أخزيناهم (2) فيه، وبينا أن الشرع الزائد والجهل المبتدع هو ما هم عليه من التقليد الذي قد نهى عنه من قلدوه، والذي هم مقرون بأنه لا يجوز، وكفى ضلالاً وبدعة وشرعاً مهلكاً لمن يدين الله تعالى بشيء يقر بأنه باطل، وهذا يكفي من عقل، وبالله تعالى التوفيق. وأما قولهم: إننا انفردنا به وخالفنا من مضى، فكذب منهم بحت لم يستحيوا فيه من عاجل الفضيحة. وما انفردنا قط بقول ولله الحمد، بل نحن أشد موافقة للصحابة والتابعين، رضي الله عنهم، منهم. فقد ألفنا كتاباً ضخماً فيما خالفوا فيه الطائفة من الصحابة رضي الله عنهم بآرائهم، دون تعلق بأحد من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. وهم لا يجدون لنا هذا، إلا أن يجدوه في الندرة، ومما تعلقوا فيه من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فشتان بين الأمرين. وأما قولهم: إننا نسبنا إلى الرواة المؤلفين للدواوين الراسخة الوهلة (3) والغفلة والتضييع والعي والبلادة وقلة الفهم، فقد كذبوا. وغنما بينا بالبرهان الحق خطأ من اخطأ وصواب من أصاب فقط، وما العائب للصحابة إلا هم في ازورارهم (4) عن كل ما جاء عنهم، وإطراحهم لجميع أقوال الصحابة استغناء عنهم برأي مالك وحده دون جميع فقهاء أهل الإسلام، سالفهم وخالفهم.

_ (1) ص: ما. الكدح. (2) ص: أجزيناهم. (3) ص: الواهلة. (4) ص: أحوالهم.

وأما إقرارهم لنا بالاتساع في الكلام والمعرفة باللغة، فأمر لا نحمدهم عليه في الإقرار، لأنا (1) لم نزد بذلك فضلاً، ولا يغضنا (2) جحدهم لذلك إن جحدوا وحسبنا الله ونعم الوكيل. 14 - ثم قالوا: " وصنعت دواوين وحبرتها على ما قد ظهر إليك، لم تقتنع بتواليفهم ولا صوبتها ولا رضيتها، فخالفتهم وعبتهم فيما ألفوه وخطأتهم فيما صوبوه (3) ، استنقاصاً لحقهم، وتنكباً عن [180 ب] قصدهم ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - أن هؤلاء القوم لا يستحيون من الكذب والبهتان، يطلقون أننا رغبنا عن تواليفهم ولم نصوبها ولا رضيناها، وخالفناها، وعبناها (4) وخطأناها، استنقاصاً لحقهم (5) ، وتنكباً عن قصدهم، فهلا بينوا هذا الضمير إلى من يرجع وهذه التواليف ما هي لكننا نحن نبين - بحول الله تعالى - كل ذلك ببيان نشهد الله تعالى وملائكته وكل من سمعه بأنه الحق، وذلك أن الناس ألفوا: فألف أصحاب الحديث تواليف جمة، وألف الحنفيون تواليف جمة، وألف المالكيون تواليف، والشافعيون تواليف، فلم يكن عندنا تأليف طبقة من هذه أولى أن يلتفت إليه من تأليف غيرها، بل جمعناها ولله الحمد وعرضناها على القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلأي تلك الأقوال شهد القرآن والسنة أخذنا به، وتركنا ما عداه. وأما هم (6) فخالفوا تواليف جميع أهل الإسلام أولها عن آخرها، ولم يقنعوا بها ولا صوبوها (7) ولا رضوها، بل خالفوها وعابوها وخطأوا أصحابها استنقاصاً لجميع أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم في مشارق الأرض ومغاربها، حاشا المدونة والمستخرجة فقط. فمن أشد استنقاصاً للعلماء، ولكتب العلماء، هم أم نحن وهل في هذا خفاء على ذي بصيرة والحمد لله رب العالمين.

_ (1) ص: لاكنا. (2) ص: يقصنا (واقرأ أيضاً: يقضنا) . (3) ص: ضربوه. (4) ص: وعايناها. (5) ص: واستنقاصاً لحظهم. (6) ص: فأما قولهم. (7) ص: ضربوها.

15 - ثم قالوا (1) : " وخصمك لا يتهم أحداً (2) من الآخذين عنهم كذلك، ولا يقع في نفسه أنك افقه ممن مضى، ولا أحذق ممن سلف، ولا أدرى بالمعاني والأحكام والتأويل، وعلم الناسخ والمنسوخ والأوامر والأفعال، والعام والخاص والمحظور والمباح، والفرض والندب، إذ قد حووا وطالعوا ما لا تحوي أنت عشر معشاره ولا تطالعه أبداً، لقربهم من دار الهجرة ومعدن الرسالة، ولصلاحهم (3) [181/أ] وإصلاحهم وورعهم، وأنهم في القرن المحمود الممدوح، وانهم قد طالعوا دواوين لم تطالعها أنت، وأن من الدواوين ما لا تقف أنت على أسمائها ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - اننا قد بينا أنهم هم المتهمون (4) للصحابة والتباعين حقاً، لأنهم كلهم عندهم (5) في نصاب من لا ينبغي أن يشتغل به ويطلب أقوالهم، ولا يلتفت إلى شيء من فقههم إلا ما وافق مالكاً (6) فقط. وأما قولهم: إنه لا يقع بأنفسهم أننا أفقه ممن مضى، ولا أحذق ممن سلف إلى آخر الكلام، فهذا أمر لا ندعيه لأنفسنا، ومعاذ الله أن نظن هذا، ولكن كما نظروا هذا النظر، وأصابوا في ذلك، فلينظروا أيضاً أن مالكاً وابن القاسم لم يكونوا أفقه ممن مضى قبلهما من الصحابة والتابعين، ولا أدرى منهم بالمعاني والأحكام والتاويل، والناسخ والمنسوخ والأوامر والأفعال والخاص والعام، والمحظور والمباح والفرض والندب، إذ قد حووا بلا شك من لقاء النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهدته ما لا يحوي مالك وابن القاسم عشر معشاره، ولا طالعوه قط، لقرب أولئك من النبوة ومهبط الرسالة، ولمضمون صلاحهم وورعهم، وانهم القرنان الفاضلان المقدمان على قرن مالك وابن القاسم. فإذن (7) لم يكن تأخر مالك عنهم موجباً تقليد رجل منهم. إلا اننا نحن على كل حال، ولله الحمد، لا ندعو إلى رأينا ولا قولنا، وإنما ندعو إلى اتباع المضمون له أنه أفضل جميع الإنس والجن، والمقطوع بعظمته، وأنه لا يقول إلا الحق، والذي امرنا الله باتباعه بإقرارهم إن كانوا مسلمين. وإلى هذا ندعوهم، وهم

_ (1) ص: قالوا قولهم. (2) ص: أحد. (3) ولصلاحهم: مكررة في ص. (4) ص: المتهمون. (5) ص: عندنا. (6) ص: مالك. (7) ص: فإذ.

يدعوننا إلى ترك ما صح عنه عليه السلام، واتباع رأي مالك. وإذا كان سائغاً لهم عند أنفسهم خلاف سفيان الثوري، وسعيد بن المسيب، والزهري لقول مالك، وساغ (1) لابن وهب وأشهب والمخزومي وابن الماجشون [181 ظ] وابن نافع وابن كنانة مخالفة مالك في مسائل جمة، فقد سوغ (2) ذلك وأوجب لنا وعلينا خلاف مالك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما القبر من دار الهجرة، فدار الهجرة باقية بفضلها، لم ينتقص من فضلها شيء أصلاً، وقل غناء (3) ذلك عن سكانها. وأما قولهم: " لأنهم في القرن [الممدوح المحمود] لورعهم وصلاحهم "، فما مالك أولى بذلك من فقهاء زمانه كسفيان والليث والأوزاعي ومعمر وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم ممن قبله وبعده ومعه، والفضل بيد الله تعالى لا بأهواء المتمنين. وأما قولهم: إنهم طالعوا دواوين لم نطالعها نحن، ومن الدواوين ما لا نقف على أسمائها، فلعمري ما لشيوخهم (4) ديوان مشهور مؤلف في نص مذهبهم إلا وقد رأيناه ولله الحمد، كثيراً، ككتاب ابن الجهم وكتاب الأبهري الكبير، والأبهري الصغير والقزويني وابن القصار وعبد الوهاب والأصيلي (5) ، ولقد كان ينبغي لهم

_ (1) ص: وشاع. (2) ص: فبما سورغ من. (3) ص: عنا. (4) ص: شيوخهم. (5) محمد بن الجهم (- 329 أو 333) : له عدة كتب منها بيان السنة ومسائل الخلاف والحجة لمذهب مالك، وشرح مختصر ابن عبد الحكم الصغير، ولا أدري إلى أيها يشير ابن حزم. وأبو بكر محمد بن عبد الله الأبهري الكبير (- 375) شرح كتابي ابن عبد الحكم الصغير والكبير وله كتب أخرى. والأبهري الصغير هو محمد بن عبد الله أبو جعفر (- 365) له كتاب في مسائل الخلاف نحو مائتي جزء وكتاب تعليق المختصر الكبير مثله وغيرهما. وأما القزويني فهو أبو سعيد أحمد بن محمد زيد (مات بعد 390) وقد صنف في المذهب والخلاف، من ذلك كتاب المعتمد في الخلاف نحو مائة جزء وله أيضاً كتاب الالحاف في مسائل الخلاف. وأما ابن القصار فهو أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد (- 398) تفقه بالأبهري الكبير؛ وقال فيه الشيرازي (طبقات الفقهاء: 168) وله كتاب في مسائل الخلاف كبير، لا أعرف لهم كتاباً في الخلاف أحسن منه. وعبد الوهاب هو أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر (- 422) تفقه على كبار أصحاب الأبهري كابن القصار وغيره من مؤلفات عديدة في المذهب والخلاف منها كتاب النصرة لمذهب إمام الهجرة وكتاب أوائل الأدلة في مسائل الخلاف. وأما الأصيلي فهو أبو محمد عبد الله بن إبراهيم، (- 392) أندلسي، تفقه ببلده وبالقيروان ومصر والعراق وصنف كتاب " الآثار والدلائل " في الخلاف (وهؤلاء جميعاً من كبار المالكية، وتراجمهم في الديباج والمدارك، وطبقات الشيرازي، وبعضها في الفهرست وابن خلكان) .

أن يدخلوا فيها هذه الخبايا التي تركنا بها هؤلاء الجهال، وإن كانت عندهم ولم يذكروها فقد غشوهم وظلموهم. وإن كانوا الغاية في ذلك الذي لم يقدروا على أكثر منها (1) ، فما بال كلام هؤلاء الجهال بالأهذار المقرة لعيون الشامتين ولكن لو عرف الناقص نقصه لكان كاملاً. 16 - ثم قالوا: " وهل تدعي [انك] أنت أحطت (2) بجميعها علماً، وأحصيت ما في جميعها حفظاً " فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - انه يعكس عليهم هذا السؤال، يقال لهم: أتراكم أنتم أحطتم (3) بجميع تواليف العلماء، وأحصيتموها (4) فإن قلتم: نعم، كذبتم لأنكم لا تدرون شيئاً من الكتب، إلا خواص منكم، إلا المدونة والمستخرجة فقط. وإن قلتم: لا، قيل لكم: فمن أين وقع لكم أن تدينوا الله تعالى بقول مالك دون قول من سواه لو نصحتم أنفسكم وأما نحن فقلنا: قد أحطنا (5) - ولله الحمد - بكل ما يحتج به المخالفون [182/أ] والموافقون، جمعنا ولله الحمد صحيح أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلمن وجمهور ما رواه المستورون ممن لم يبغوا مبلغ ان يحتج بنقلهم. هذا أمر نهتف [به] ونعلنه على رغم الكاشح وصغار وجهه، فمن استطاع إنكاراً فليبرز صفحته وليناظر مناظرة العلماء، فمن عجز عن ذلك فليسأل سؤال المتعلمين، أو ليسكت سكوت أهل الجهل الخبيرين بجهلهم. فإن أبوا إلا الرابعة، وهي هذر النوكى، فتلك خطة عائدة على أهلها بالخزي والدمار في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين. 17 - ثم قالوا: " وإنك تقصيت وأحصيت حديث رسول الله عليه وسلم كله أجمع أكتع حتى لم يفت حظك منه شيء، فتعمل من [غير تقليد] صاحب وتابع " فالجواب - وبالله تعلى التوفيق - قد قلنا اننا حصلنا بروايتنا وضبطنا ولله الحمد

_ (1) هذا مضطرب ويبدو منقطع الصلة بما قبله. (2) ص: خطب. (3) ص: أخطأتم، وهي كذلك حيثما وردت في هذا النص. (4) ص: وأخفيتموها. (5) ص: فقد أخطأنا.

كل خر صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرهان واضح، وهو أن المشهور من المسندات والمصنفات الموعية للأخبار، فقد جمعناها ولله الحمد، ولا يشذ عنا خبر فيه خير أصلاً، وحتى لو لم نحط بها كلها لما وجب بذلك طرح ما بلغنا منها، بل كان يلزمنا أن نعمل بما بلغنا، ولو لم يكن إلا خبر واحد، لا يحل غير ذلك. ثم نقول لهم: أتراكم انتم أحطتم بجميع حديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعلموا انه شاهد لأقوال مالك ثم نحن ننزلكم درجة: أتراكم أحطتم بجميع أقوال مالك ومسائله حتى لم يفتكم منها واحدة، فعلمتم أنها كلها حق هذا أمر يدري الله تعالى أنكم كاذبون في كل ما تذكرون فيه، فما سؤالكم إلا عائد عليكم. وهكذا عادة الله تعالى فيمن عند عن الحق، وفارق طريق السنة، وبالله تعالى التوفيق. 18 - ثم قالوا: " فخصمك لا يرى في معتقده أن يتهم (1) صاحباً، ولا أن [82 ب] يخطئه وينسب إليه غفلة أو تقصيراً (2) ، وكيف وهم القدوة المرضيون الذين بهم قامت الشرائع وبينت الحقائق " فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إننا ما نعلم أحداً أشد اتهاماً للصحابة كلهم من هؤلاء المقلدين، ولا أعظم تخطئة لهم منهم، لأنهم طرحوا جميع أقوال الصحابة، رضي الله عنهم، ولا يرونهم في نصاب من يستحق أن تكتب أقوالهم إلا ما وافق رأي مالك، فقد اعترفوا مخالفة الذين قامت بهم الشرائع، وثبتت بتبليغهم الحقائق. ونحن نسألهم فنقول لهم: أخبرونا، إذا أوجدناكم (3) في الكتب التي أنتم مقرون بها كالموطأ والبخاري أقوالاً صحاحاً عن الصحابة والتابعين [أتقرون بها] أو بما جاء عن مالك فإن قلتم: بما صح عن الصحابة، كذبتم وأفكتم: وإن قلتم: بما جاء عن مالك، صدقتم واعترفتم باتهامكم للصحابة وتخطئتكم إياهم، بخلاف ما قلتم ها هنا. فإن قلتم: لم يخالف مالك تلك الأقوال إلا بما هو أولى منها. قيل لكم: إذا خفي ذلك العلم الذي وقع عليه مالك على أولئك الصحابة، فأحرى وأمكن وأوجب على أن يخفى على مالك علم كثير وقفنا نحن عليه، إذ نسبتنا نحن من مالك، أقرب من نسبة مالك من أقل صاحب من الصحابة، لان مالكاً وغير مالك لو أنفق مثل أحد ذهباً لم يبلغ نصف مد شعير يتصدق به أقل الصحابة. وليست هذه المنزلة ولا هذه

_ (1) ص: فيهم. (2) ص: عقله أو تقصداً. (3) ص: وجدناكم.

الفضيلة لمالك على أحد من الناس، بل نحن وهم من جملة المسلمين، لا نقطع له ولا لنا بنجاة، ولا نضمن لنا ولا له الجنة ولا العصمة، بخلاف ضمان ذلك للصحابة رضي الله تعالى عنهم، وبالله التوفيق. 19 - ثم قالوا: " ومن أحكامهم ما قضوا بها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر الحكم عليها أو تتابع العمل بها وهو حاضر معهم لا غائب ولا متخلف، فهل كانت تحل لهم مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يقضوا [183/ أ] بخلاف ما يرضاه، أو يبلغهم عنه حكم فيرغبوا عنه ويقتصروا على رأيهم، أو يؤثروا أقوالهم على قوله بعد علمهم بقوله، [فإنه لا يجوز أن يقصدوا إلى خلافه عليه السلام استخفافاً بأمره] ويتجنبوا (1) ما يستحسنه عليه السلام فمعاذ الله وحاشا لله من ذلك، فهم المنزهون عن كل شر، المظنون بهم كل خير، بهم قامت (2) أعلام الدين، ورسخ العلم، وسطع الحق وأشرق النور، وأينعت (3) الحكمة، واتسعت السنة، ولاح الدليل ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذه التمويهات ليس بأيديهم غيرها، وهي كلها عليهم لا لهم. أما قولهم في أحكامهم التي قضوا بها في عهد رسول الله صلى عليه وسلم، فنحن الآخذون، وهم المخالفون في أكثر الأمر، كقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه: نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه، فخالفوهم بآرائهم في هذا القول الظاهر إلى جنب (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكم علي باليمين في الثلاثة المتداعين في الولد بعلم رسول الله صلى الله وسلم في الإقراع عليه بينهم، وغير ذلك كثير جداً، وقد ذكرناه (5) في كتابنا (6) ولله الحمد. وأما قولهم: " فهل كانت (7) تحل لهم مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أن يقضوا بخلاف ما يرضاه، أو يبلغهم عنه حكم فيرغبوا عنه ويقتصروا على رأيهم

_ (1) ص: ويستحسنوا. (2) ص: لهم ما قامت. (3) ص: وأنبعث، ولعلها: ونبعت. (4) كذا هو في ص. (5) ص: ذكرنا. (6) لعل الصواب: في كتبنا؛ إذ لم يعين كتاباً. (7) ص: فإن كانت.

بعد علمهم بقوله، فإنه لا يجوز أن يقصدوا إلى خلافه عليه السلام استخفافاً بأمره " هذا ما لا يظن مسلم. لكن قد صح عن الواحد بعد الواحد منهم رضي الله عنهم أنه بلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأول فيه تأويلاً، كما روينا في نهيه عليه السلام عن الحمر الأهلية، فاختلف الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، فقال بعضهم: إنما حرمت لأنها كانت حمولة الناس. وقال بعضهم: إنما حرمت لأنه لم تكن حمر (1) . وقال بعضهم: إنما حرمت لأنها كانت تأكل القذر. وقال بعضهم: بل حرمت ألبتة. فهذه التأويلات [183 ب] كلها لا يجوز أن تكون كلها حقاً، ولا يجوز أن يضاف إلى الله منها شيء دون شيء آخر فيها بغير نص. فمثل هذا قد يتأوله المتأول مقدراً انه الحق، وهذا ما لا يجوز قبوله ممن وهم فيه، ومثل هذا كثير جداً. وأما مدحهم الصحابة رضي الله عنه، فنحن أمدح لهم منهم، وأعرف بحقوقهم وأشد توقيراً لهم، ولكن القوم مموهون يهولون بمدح الصحابة وبإنكار خلافهم، وهم أترك الناس لأقوالهم وأشد خلافاً لهم، لا يلتفتون إلى شيء من أقوالهم، وإنما يكتبون أقوال مالك فقط. فما الذي ادخل تقليد مالك في مدح الصحابة، لو نصحوا انفسهم، وبالله تعالى التوفيق. وإذ يهولون بمدح الصحابة رضي الله عنهم ويعظمون خلافهم، فنحن نسألهم عن المسائل المأثورة في الموطأ وغيره عن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة، أيأخذون بها أم يتركونها لقول مالك فإن قالوا: نتركها عاد تشغيبهم عليهم، وإن قالوا: بل نأخذها كذبوا، فإن قالوا: [إن] مالكاً كان أعرف بما ترك من أين تركها، قلنا لهم: يكفيكم بهذا إقرارهم بان مالكاً أظفر بعلم خفي عن عمر، وأمكن أن نعلم نحن كثيراً خفي عن مالك ولم يعرفه، لما قد ذكرناه من النسبة والنسابة بين جميع الناس وبين مالك وبين أول الصحابة رضي الله عنهم، وبالله تعالى التوفيق. 20 - ثم قالوا: " فنفس هذا السائل تنازعه أن الذي عليه الأكثر والجمهور هو الهدى، وانه الطريقة المثلى، لاتفاق العلماء، وائتلاف الجماعة وتتابع العمل، واستقرار الأمر عليه. ويقوله عليه السلام: إن أمتي هذه لا تجتمع على ضلالة، وإن أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذا من العار والشنار الذي ينبغي أن يستحيي

_ (1) يريد لم توجد بكثرة.

منه من له مسكة حياء وعقل، لان ما اتفقت عليه الجماعة وائتلفت فيه العلماء واستقر [184/أ] الأمر عليه، فلا خلاف فيه بين أحد من الأمة، ولا هم أولى به من غيرهم. وأما ما اختلف الناس فيهن فليس بعضهم أولى بالحق فيه من بعض، إلا من وافق قوله القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، فلا أضل ولا أجهل ولا أقل حياء ممن يريد (1) رأي مالك الذي خالفه فيه غيره من العلماء بان يوجب اتباع الإجماع. وأما قولهم: إن الذي عليه الأكثر فهو الهدى والطريقة المثلى، فكلام في غاية السخف، لان الحنفيين كانوا أكثر من المالكيين أضعافاً مضاعفة، ولعلهم اليوم يوازونهم في العدد، والشافعيين أكثر منهم، فينبغي أن يتبع الأكثر، وقد قيل أهل المقالة تعد كثرتهم، فينبغي أن يعود الهدى لذلك ضلالاً. وهذا (2) كلام مبرسم لا يرضى به [من له] مسكة عقل. وقد كان مالك وحده ثم وافقه نفر يسير ثم كثروا. وقد كان القائلون بمذهب الأوزاعي كثيراً ثم انقطعوا، وكل هذا لا معنى له. ثم يقال لهم: عن التزمتم اتباع الأكثر فإن جميع أهل الإسلام مجمعون على [أن] اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو الواجب، وأنه لا يلزم اتباع أحد دونه، فلا تفارقوا هذا الإجماع فهو الحق المبين الذي من عاج عنه ضل في الدنيا والآخرة. وأما قولهم: " أصحابي (3) كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "، فحديث موضوع (4) ، ثم لو صح لكان حجة عليهم، لأنهم يلزمهم على هذا أن لا ينكروا على أحد قال بقولة قائلها صاحب، وقد صح عن بعض الصحابة ألا غسل من الإكسال، وإباحة الدرهم من الدرهمين، وإباحة المتعة، وأكل البرد للصائم، وغير ذلك كثير لا يقولون به. وبالجملة إن القوم في هذر وعمى لا يحسنون، ولا يبالون ما يتكلمون به، والله اعلم. 21 - ثم قالوا: " ويخشى أن يكون غيرك ببلدة أخرى فيأتيه [أحدهم] [184 ب] ببرهان ودليل وحجة تقهره بخلاف ما قد أوضحت أنت وبينته له، فيقع في نفسه

_ (1) يريد: كذا هي في ص، ولعل الصواب: " يرى ". (2) ص: ولذا. (3) ص: وأما قولهم أتباع النبي صلى الله عليه وسلم فقط وأما أصحابي. (4) انظر الأخبار الموضوعة: 388.

أنه الحق، فينصرف إليه ويعمل بما قد رواه له وأوضحه، لحديث (1) قد صح عنده ورواه لم تطلع أنت عليه ولا أحصاه حفظك، ولا أحاط به علمك، فلا يدري بمن (2) منكما يثق ولا بأيكما يتعلق، فيظل حيران هائماً، وكل واحد منكم يأتي بحجة وبرهان ودليل، وإذ حديث النبي صلى الله عليه وسلم كثير متسع أكثر من أن يحاط به أو يحصى، ويدعي غيرك أن الحديث الذي ترويه أنت هو [المنسوخ والذي يرويه هو] (3) الناسخ بأصح أسانيد ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذه طريق ضلال، ومن تلاعب الشيطان بمن أراد (4) الله تعالى به الخذلان، ولو وجب أن لا يرجع أحد إلى ما قام به البرهان خوف أن يأتيه غيره بحجة أخرى، لما وجب أن يؤمن كافر أبداً، ولا أن يتوب مبتدع أبداً، ولا أن يرجع مخطئ إلى حقيقة أبداً، لأنه يقول اليهودي والنصراني والمجوسي والثنوي إذا أخذته الحجة، وقام عليه البرهان: كيف أرجع إليك ولعل غيرك يلقاني يوماً ما فيأتيني بحجة وبرهان ودليل يقهرني، بخلاف ما أوضحت أنت وبينت، فأرجع إليه أيضاً، وهكذا أبداً ويقول الخارجي والرافضي والمرجى والمعتزلي إذا قامت عليه الحجة، واثبت له البرهان: كيف أرجع إلى قولك، ولعل غيرك يلقاني يوماً فيأتيني بحجة وبرهان، ودليل يقهرني بذلك بخلاف ما أضحت أنت وبينت فأبقى حيران ويقول الحنفي والشافعي والحنبلي كذلك أيضاً سواء سواء، فعلى هذا القول الباطل يجب أن يبقى اليهودي على دينه ودين أبيه، والنصراني كذلك والمجوسي كذلك والثنوي يجب ان يبقى اليهودي على دينه ودين أبيه، والنصراني كذلك والمجوسي كذلك والثنوي كذلك والمعتزلي كذلك والخارجي كذلك والرافضي كذلك، فأي قول في الأرض أبعد عن الهدى من قول أدى إلى هذه الطريقة وهذا [185/أ] باب لا تنجلي الحيرة فيه عن الممتحن بها بكلام يسير، ولا بد لطالب الحقائق من أن يسمع حجة كل قائل، فإذا أظهر البرهان لزمه الانقياد والرجوع إليه، وإلا فهو فاسق. والبرهان لا يجوز أن يعارضه برهان آخر، فالحق لا يكون شيئين مختلفين ولا يمكن ذلك أصلاً، والحق مبين في الملل والديانات بموجب العقل والبراهين الراجعة إلى أول الحس والضرورة. فلا بد لمن أراد الوقوف على الحقائق من طلب العلم المؤدي إلى معرفة

_ (1) ص: الحديث. (2) ص: لمن. (3) زيادة لازمة يقتضيها السياق. (4) ص: راأه.

البرهان، والحق يستبين في النحل بالرجوع إلى القرآن الذي اتفقت عليه الفرق، وإلى الإجماع المتيقن. فلا بد لمن أراد الوقوف على الحقائق في ذلك من الوقوف على ما أوجبه القرآن وصح به الإجماع. والحق يتبين فيما اختلف فيه العلماء بالرجوع إلى ما افترض الله تعالى الرجوع إليه من أحكام القرآن والسنن المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فواجب على كل مسلم طلب ما يلزمه من ذلك والبحث عنه واعتقاده الحق إذا صح عنده، وكل هذا لا يدرك بالأماني الفاسدة ولا بالأهذار الباردة ولا بالدعاوى الكاذبة، لكن بطلب أحكام القرآن والبحث عن الحديث وضبطه والاشتغال به عما لا يجدي ولا يغني، وحسبنا الله ونعم الوكيل. [أما قولهم] : إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم متسع جداً أكثر من أن يحصى أو يحاط به، ويدعي غيرك أن الحديث الذي ترويه أنت منسوخ والذي يرويه هو هو [الناسخ] بأصح أسانيد - فكلام باطل؛ بل حديث النبي صلى الله عليه وسلم محصى مضبوط مجموع مستقصى (1) ولله الحمد. ومن ادعى في حديث انه ناسخ أو منسوخ لم يصدق ألبتة إلا بأن يأتي على ما يدعيه بذلك بنص صحيح يخبر (2) انه منسوخ، أو بإجماع صحيح يخبر انه منسوخ، أو بتقدم تاريخ مع تعذر الجمع بينهما، وكل هذا سهل ممكن لمن طلبه لا لمن قعد يهذر ويشتغل بالحديث البارد، وبالله [185 ب] تعالى التوفيق. وأما قولهم: " إذ كل ما ذكرتم مانع من الرجوع إلى ما قامت به البينة " (3) . فالحجة (4) عندكم فيما اعتقدتم مذهب مالك ولعل غيره أصح منه. فإن قالوا: وجدنا عليه من وثقنا به من شيوخنا. قيل لهم: وهكذا يقول أهل كل مذهب فيما هم عليه، وهكذا يقول أهل كل ملة فيما هم عليه، وهكذا يقول أهل كل نحلة فيما هم عليه: انهم كلهم وجدوا على ما هم عليه من وثقوا به، ومن لا يتهم بأنه ما جهل الحق، ولا انه قال الباطل. فحصلنا من هذا الجنون على لزوم الضلال وعلى قوله تعالى: {إنا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} (الأحزاب: 67) . ويقال لهم: لا يخلو السائل عن هذا من أن يكون ممكناً منه طلب العلم وفهمه، أو يكون

_ (1) ص: مقتصى. (2) ص: غير. (3) لم يرد هذا القول في ضمن حديثهم السابق (الفقرة: 21) . (4) ص: الحجة.

غبيا (1) لا يقدر على الطلب. فإن كان ممكناً منه طلب العلم، فليطلب وليبحث حتى يقف على البرهان ويعرفه. وإن كان غبياً، فليقل لمن أفتاه بشيء فيما نزل به: أهكذا أمر الله تعالى ورسوله فإن قال له: نعم، أخذ به، وإن قال: لا، أو قال له: هذا قول فلان، وذكر أحداً من دون النبي صلى الله عليه وسلم من صاحب أو تابع أو فقيه أو سكت عنه، لم يلزمه اتباعه، وطلب عند غيره، وبالله تعالى التوفيق. 22 - ثم قالوا: " ومما (2) يحتج به عليك أيضاً أن أسماء الرجال والتورايخ تختلف في الآفاق والأسانيد، فمنها ما فيه الضعيف قوي، والقوي ضعيف، فكيف لك بالتغليب في الأحاديث المتضادة المتعارضة وقد يكون الرجال في الحديث الذي يرونه في طريق النهي، هم الذين يرونه من طريق الأمر، أو يتفرقوا فيكونوا هم ثقات لا داخل فيهم، إن غلبت أصحاب النهي، فقد كذبت (3) أصحاب الأمر وليسوا أهلاً للتكذيب ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - أن هذا لا يدرك بيانه إلا بطلب العلم والبحث، لا بالنهي والجلوس. والذي ذكروا من اختلاف التواريخ هو كما قالوا، ولكن اختلافهم [186/ أ] في الواحد يجرحه قوم ويعدله آخرون قليل جداً. والقول في ذلك أن المختلف فيه إن كان ممن اشتهرت عدالته في ضبطه، فالتعديل أولى به، حتى يأتي المجرح ببيان جرحة تسقط لها عدالته. وأما من كان مجهول الحال. فالتجريح أولى به من التعديل، لأن أصل الناس الجهل بهم والجهل منهم حتى يصح عليهم العلم (4) بهم. وأما الأحاديث المتعارضة (5) ، فقد بينا جملة العمل فيها في غير ما موضع من كتبنا، وبينا ذلك في أشخاص الأحاديث والحمد لله رب العالمين. ونحن نذكرها هنا جملة من ذلك كافية إن شاء الله تعالى فنقول، وبالله تعالى التوفيق: إن الحديثين إذا نظرا، فإن كان أحدهما صحيح السند (6) ، نظر: فإن كان أحدهما أقل معاني من الآخر، استعملا معاً إن كان كلاهما نهياً أو كان كلاهما أمراً، ولم يجز ترك شيء

_ (1) ص: عيناً. (2) ص: وما. (3) ص: ذكرت. (4) ص: والعلم. (5) وأما الأحاديث المتعارضة الخ: قارن ما قاله هنا بما جاء في الإحكام 1: 136 - 137. (6) ص: المسند.

منهما، أو استعملا معاً أيضاً، بأن (1) نستثني أحدهما من الآخر [إن كان أحدهما نهياً والآخر] أمراً إذ لا يجوز ترك واحد منهما للآخر. وإن لم يمكن استعمالهما ألبتة، طلب الناسخ منهما من المنسوخ. فإن عرف ببرهان لا بدعوى لكن بنص آخر يبين أن أحدهما هو الناسخ، أو بإجماع على ذلك، فالزائد، لأنه شرع وارد لا يجوز تركه، ولأنه بيقين دافع لحكم الخبر الآخر وزائد عليه، فلا يحل ترك اليقين. وهذه وجوه لا يخرج عنها خبران متعارضان أبد الأبد، والحمد لله رب العالمين. ثم نعكس عليهم هذا السؤال بعينه ونقول: إذا اختلفت الرواية عن مالك لوجهين أو ثلاثة وأربعة، وهذا كثير لهم جداً، فبأيها تأخذون أتغلبون رواية ابن القاسم فقد كذبتم ابن وهب وأشهب ومطرفاً (2) وغيرهم، وليسوا أهلاً للتكذيب، أم كيف تفعلون فهذه هي الحيرة والضلالة حقاً، لا ما قد بينه الله تعالى وأوضحه ورفع (3) الإشكال فيه، والحمد لله رب العالمين [186ب] . 23 - ثم قالوا: " ونجد العلماء أيضاً يختلفون في التأويل ولا يتفقون، فكيف يوافقك على أن التأويل في آية كذا هو أمر كذا على ظاهر الآية وأن الآية لا تحتمل تأويلاً غير ظاهرها [وهو يجد غيرك يحدثه في تلك الآية بغير ما حدثته، بزائد فيه أو بناقص منه] " فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - أن هذا كلام مختلط في قوله، فكيف يوافقنا على ان التأويل في آية كذا هو أمر كذا على ظاهر الآية وان الآية لا تحتمل تأويلاً وهذا برسام هائج لأن القول بالتأويل خلاف الأخذ بالظاهر بلا شك، وهم قد ساووا هنا بين الأمرين، ونحن لا نقول بالتأويل أصلاً إلا أن يوجب القول به نص آخر أو إجماع أو ضرورة حس، ولا مزيد، وإلا فمن ادعى تأويلاً بلا برهان، فقد ادعى ما لا يصح، فدعواه باطل، ولا يحل أن يقال إن الله تعالى لم يرد بهذه الآية إلا معنى كذا، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد بهذا القول إلا معنى كذا، من غير أن يأتي نص وإجماع بذلك، لأ [ن] من قال هذا من عند نفسه، فقد تقول على الله

_ (1) ص: فإن. (2) هو مطرف بن عبد الرحمن بن إبراهيم (- 282) قرطبي روى عن يحيى وطبقته ورحل فسمع من سحنون ونظرائه، وكان مشاوراً في الأحكام، زاهداً ورعاً (الديباج: 346 وابن الفرضي 2: 134) . (3) ص: ووقع.

تعالى وعلى رسوله عليه السلام إذ لم يأت له حجة خبر عنه تعالى ولا عن نبيه صلى الله عليه وسلم. وأما قولهم (1) : إن العلماء اختلفوا في التأويل، فنعم، وليس قول أحد منهم حجة على الآخرين منهم، والواجب رد ما تنازعوا فيه إلى ما أمر الله تعالى بالرد إليه، إذ يقول عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء: 59) ونحن نعلم أن الله تعالى إذا نص على شيء فهو الذي أراد منا، ولو أراد غير ما خاطبنا به لبينه لنا بلا شك. فإذا لم يفعل، فما أراده قط؛ فمن ادعى انه أراده قط، فقد قال الباطل. والأمر في هذا أبين من الشمس لمن أراد الله به خيراً ولم يرد أن يضله. ثم نسألهم بهذا القول بعينه، فنقول لهم: قد تنازع العلماء كما قلتم في التأويل، فما الذي جعل تأويل مالك أولى من تأويل غيره، لو كان لكم اهتبال بأديانكم، ونسأل الله تعالى العصمة [187/ أ] . وأما قولهم: " وهو يجد غيرك يحدثه في تلك الآية بغير ماص: ووقع. (2) حدثته، بزائد فيه أو بناقص منه "، فإنه إن وجد عند غيرنا حديثاً صحيحاً لم يجده عندنا أو زيادة وليس كلامنا ولا كلام غيرنا حجة على الله ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم، بل كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم هو الحجة علينا وعلى كل أحد، وما ندعو إلا إليه فقط، وبالله تعالى التوفيق. 24 - ثم قالوا: " ثم إنك تنهى عن النظائر والتفريع والتناتج والقياس، ثم تأتي بما هو أشد وأشنع، وذلك أنك تخالف مسائل كثيرة عما وردت واستقرت عليه وصح العمل بها، وتدعي أنت خلافها من طريق ظاهر الحجة والاتساع في اللغة والتصريف في الكلام، فتذهب إلى التشقيق والتناتج، ومن سبقك من المتقدمين العالمين بالسنة واللغة لم يكلفوا أنفسهم ما تتكلفه أنت، ولا غاصوا في المسائل، ولا أحالوها عن ما وردت عليه على حسب مفهومها ومسموعها، وتورعوا أن يقولوا: هذه مسألة فيها لأهل الكلام تصريف معان واحتجاج يؤدي إلى العقل قبول ذلك ويصوبه ".

_ (1) ص: قوله. (2) بغير ما: مكررة في ص.

فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذا كلام إنسان مخبول العقل يتناثر تناثر الرمل ولا يعقل (1) . فأول ذلك أنهم أنكروا نهينا عن النظائر والتفريع والتناتج والقياس، فخلط تخليطاً بجنون؛ وما نهينا قط عن التفريع والتناتج ولا عن النظائر إذا وقعت تحت نوع واحد، لكن نهينا عن القياس جملة، فجمع هؤلاء بين المختلفات جمع أهل الجهل حقاً. والتفريع هو ذكر تصاريف المسألة التي يجمعها جملة النص، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) : " من زاد في صلاته أو نقص فليسلم، ثم يسجد سجدتين "؛ فنقول: من صلى ستاً أو سبعاً ساهياً فقد دخل في هذا الحديث [187 ب] ، لأنه زاد سجدة أو سجدتين أو سجدات ساهياً فقد دخل في هذا الحديث، لأنه في صلاته. وهذا كثير جداً لو جمع لقام منه جزء ضخم. والتناتج هو نحن قوله صلى الله عليه وسلم (3) : " كل مسكر خمر وكل خمر حرام "، فانتج هذا أن المسكر حرام. وأن السيكران خمر، وأن كل نقيع العسل إذا أسكر خمر، ومثل هذا كثير جداً. والنظائر هي كقوله عليه السلام (4) : " إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة "، فكل حيضة فهي نظير تلك الحيضة في النوعية، والحكم لازم لها لزوماً، وهذا كله هو الظاهر بعينه، والنص بعينه. وأما القياس فهو غير هذاكله، وإنما هو أن يحكم لما لم يأت به النص بما جاء به النص في غيره، كحكمهم في تحريم الجوز بالجوز متفاضلاً ونسيئة، قياساً على تحريم الملح بالملح والقمح بالقمح والتمر بالتمر متفاضلاً ونسيئة، فهذا هو الباطل الذي لا يحل القول به، لأنه شرع لم يأذن به الله. وقد تقصينا الكلام في هذا كله في غير هذا المكان، ولكنا لا نفقد مهذاراً يكرر السؤال فنكرر له الجواب، إقامة لحجة الله تعالى عليه، وبالله تعالى التوفيق. ثم نعود إلى تخليطهم فنقول لهم: " إننا نأتي بما هو أشد وأشنع "، هو قول كان ينبغي لهم أن يبينوه وإلا فهو كذب وبهت. ثم ذكرتم أننا نخالف مسائل كثيرة عما وردت واستقرت عليه وصح العمل بها

_ (1) لعل الصواب: ولا يعقد. (2) هو في ابن ماجه (إقامة: 131، 133) ومسند أحمد 2: 483. (3) ورد في الصحاح (انظر مثلاً: البخاري " أدب ": 80 ومسلم " أشربة " 73 - 75) ومسند أحمد 1: 274، 289، 350 ومواطن أخرى. (4) ورد الحديث في البخاري (حيض: 19؛ وضوء: 63) ومسلم (حيض: 62) وغيرهما من كتب الصحاح وفي مسند أحمد 6: 83، 129، 141، 187.

ندعي نحن خلافها من طريق ظاهر الحجة والتصريف في اللغة والاتساع في الكلام: أي عمل هو، وعمل من هو فان كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ، فهم إذا صلوا [فليصلوا] كصلاته قاعداً بالناس في الفريضة، وكتسليمه مرتين من الصلاة، وكمسحه على العمامة، وغير ذلك كثيراً جداً. وإن كان عمل الصحابة (2) رضي الله عنهم فقد ذكرنا فعلهم، وعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إضعاف القيمة على رقيق [188/أ] حاطب، وعمله في حكمه بان يكون القراض مضموناً بحضرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وغير ذلك كثير. وددت لو بينوا لنا عمل من يريدون عمل قضاتهم بالأندلس وأفريقية فما جعل الله تعالى أولئك حجة على أحد، وما هم أولى باتباع عملهم من قضاة خراسان وسجستان والسند وسائر بلاد الإسلام من الحنفيين والشافعين، والله اعلم. وأما قولهم: " إن من سبقنا من المتقدمين العالمين بالسنة واللغة لم يتكلفوا قط غير طلب الحق في القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فغن كانوا لم يتكلفوا (3) ذلك فبئس ما فعلوا، ولقد ظلموا أنفسهم، وبئس ما أثنى عليهم هؤلاء المخاذيل، وإن كانوا لم يغوصوا (4) في المسائل، فما أحسنوا (5) في ذلك، مع انهم أيضاً كذبوا عليهم، فما ندري أحداً أكثر غوصاً على ما لا يكاد يقع من المسائل منهم. وأما قولهم: " ولا أحالوها عما وردت على حسب مفهومها ومسموعها "، فهذا هو مذهبنا الذي ندعو الناس إليه، وهم لا ينكرون علينا إلا هذا بعينه، فلو عقل هؤلاء القوم ما هذروا هذا الهذر، ونعوذ بالله من الخذلان. 25 - ثم قالوا: " كقولك في المصلي: إن له ان يقول عند افتتاحه الصلاة: الكبير الله أو كبير الله، والله اكبر، واحتججت فيه بكلام كثير، وأن اللفظ بالتكبير إنما جاء على العموم، فكل ما كبر به الله تعالى فهو تكبير، وأن من كبر

_ (1) فإن كان عمل رسول الله الخ: جاء في الاحكام 2: 100 - 101 وكان آخر عمله عليه السلام الصلاة بالناس جالساً وهم أصحاء وراءه، إما جلوس على قولنا وإما قيام على قول غيرنا، فقالوا هم [أي المالكية] صلاة من صلى كذلك باطل (وانظر أيضاً 2: 101) . (2) وإن كان عمل الصحابة الخ: ورد مثله في الاحكام 2: 107 - 108 وفيه تفصيل لما خالفوه من أعمال عمر. (3) ص: يكلفوا. (4) ص: يعرضوا. (5) ص: حسنوا.

" الله أكبر " فقد خص، وكيف خص وهو لم يبلغه قط أن النبي صلى الله عليه وسلم، إلى من دونه من صاحب أو تابع انهم كبروا في الصلاة بما عدا " الله اكبر "، فصار عموماً عندهم إذا لم يبلغهم غيره ولا صح سواه ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - أن الذي ذكروا عنا أنا قلناه هو (1) قولنا حقاً، وقد أوردنا حجتنا، ولم يأتوا بمعارضة فيها أصلاً أكثر من دعواهم انه لم يبلغهم قط عن النبي صلى الله [188 ب] عليه وسلم إلى من دونه من صاحب وتابع أنهم كبروا في الصلاة بما عدا " الله اكبر ". فيقال لهم: هبكم، لو صح ذلك عندكم، كما قلتم، لما كان لكم في ذلك حجة، إذ لم يمنع عليه السلام ولا أحد من الصحابة أن يكبروا بغير " الله أكبر "، وقد أجاز أبو حنيفة رضي الله عنه وغيره أن يفتتح الصلاة بالله أعظم. ويقال لهم: إن كان عدم البلاغ بافتتاح الصلاة بما عدا " الله أكبر " حجة عندكم، فمن أين أجزتم تنكيس الوضوء، ولم يأت قط عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، انه نكس وضوءه فأي فرق بين النقلين فجعلتم النقل الواحد حجة والآخر غير حجة. فان قالوا: الواو في آية الوضوء لا تعطي رتبة. قيل لهم: والأمر بالتكبير لا يقتضي أنه لا يكبر بغير " الله أكبر "، ولا فرق. ولا سبيل لهم من الانفكاك من هذا ألبتة، وبالله تعالى [التوفيق] . ثم يقال لهم أيضاً: هل بلغكم قط أن أحداً من الصحابة والتابعي أو تابعي التابعين قلد رجلاً واحداً دون النبي صلى الله عليه وسلم في قوله كله، كما فعلتم أنتم بمالك فإذا لم يبلغكم ذاك، فكيف استحللتموه وقد صح النهي عن التقليد، وأمرتم باتباع القرآن والسنة فقط فكيف صار العمل عندكم " بالله أكبر " حجة، ولم يأت قط نهي عن التكبير بالله الكبير ولم يكن العمل بترك التقليد لإنسان بعينه حجة عندكم، وقد صح النهي مع هذا العمل عن التقليد لها. في هذا عجب لمن عقل، ونسأل الله تعالى التوفيق. 26 - ثم قالوا: " وإنك تقول: من صلى ثماني ركعات ونسي من كل ركعة سجدة، فقد أجزأته وصلى كما أكر، وأنها (2) صلاة تامة مجزئة عنه ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إننا هكذا قلنا، وهو الحق عند الله، وكل من قال غير هذا فمخطئ عند الله عز وجل بلا شك، لان النبي صلى الله وسلم

_ (1) ص: وهو. (2) ص: أنها.

[189/أ] قال: " من زاد في صلاته أو نقص فليسلم ويسجد سجدتين " (1) ، وهذا قد زاد في صلاته ساهياً قياماً وركوعاً وعمل باقي ذلك وسجد ثماني سجدات كما أمر، فهو معفو عنه بالنص ويسلم ويسجد للسهو، كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن أخبرونا انتم: من أين قال قائلكم عن من صلى خمس ركعات ساهياً ان صلاته تامة ويسجد للسهو، وإن صلى ستاً ساهياً بطلت صلاته، لأنه زاد في صلاته مثل نصفها فيا ليت شعري من أين خرجت هذه الشريعة الجديدة وأين قال الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم: إن من زاد في صلاته أقل من نصفها ساهياً صحت له، وإن من زاد فيها مثل نصفها ساهياً بطلت وهل جاء بهذا قرآن أو سنة صحيحة أو سقيمة أو قول صاحب أو معقول أو قياس شيء له وجه في الصواب حاشا لله من هذا، بل القرآن والنص من السنة الثابتة والمعقول والقياس كل ذلك يكذب هذا القول الفاسد. أما القرآن، فإن الله تعالى يقول: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} (الأحزاب: 5) ، ولم يخص تعالى خطأ من خطأ، فلا يجوز أن يخص شيئاً من ذلك إلا أن يأتي بتخصيص شيء (2) منه نص قرآن أو سنة أو إجماع. وأما السنة فقول النبي صلى الله تعالى [عليه وسلم] : " من زاد في صلاته أو نقص "، فلم يخص عليه السلام [من] يفعل شيئاً من الدين يستدركه عليه غيره برأيه الفاسد، أو يريد منا ما لا يبلغه إلينا، هذا كله ضلال فاحش ممن قاله. وأما الإجماع، فما نعلم أحداً قال بهذا القول قبل القائل به منه، فلا فرق بين زيادة ركعة أو ركعتين. فإن قالوا: مقدار النصف كثير. قيل لهم: عهدنا بكم تقولون: إن الثلث هو الكثير، قلتم ذلك في الحوائج وغير ذلك، فما الذي جعله ها هنا في حد القليل أما هذا مما ينبغي أن يرغب عن القول به كل من نصح نفسه، وبالله تعالى التوفيق. 27 - ثم قالوا: [189 ب] " وكذلك تقول: إنه من نسي القراءة في الركعة الأولى ولم يذكر (3) حتى صلى، أن صلاته فاسدة منتقضة، وأنه لم يصل كما أمر، وغيرك يقول: يلغيها ويأتي بركعة مكانها ويسجد لسهوه ويتم صلاته، والله اعلم ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذا كذب وجهل، وما قلنا قط ما ذكروا،

_ (1) من قبيل هذا الحديث: سجدتا السهو تجزيان من كل زيادة ونقص (مجمع الزوائد 2: 151) . (2) ص: بتخصيص ثم بشيء. (3) ص: يذكره.

بل قولنا إن كبر ثم نسي القراءة في الركعة الأولى أو في ركعتين أو في أكثر، ثم ذكر، فإنه يبني على تكبيره ويأتي بما بقي في صلاته كما أمر، ثم يسجد للسهو بعد السلام كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه زاد في صلاته ذلك الوقوف الذي تعدى فيه. ولكن يقال لهم: أين هذا الجواب الذي أجبتم به في هذه المسألة لعلها صلاة الصبح من قولكم (1) إن من زاد في صلاته مقدار نصفها بطلت صلاته. فلم أنكرتم (2) علينا قولنا فيمن نسي فصلى ثماني ركعات ساهياً أن صلاته تامة وهذا لا مخلص لهم منه ألبتة، والله تعالى التوفيق. 28 - ثم قالوا: " وكذلك تقول أيضاً: إن من ترك حرفاً واحداً من الحمد ولو واواً ولم يقرأه ناسياً، فقد بطلت تلك الركعة، وبطلت الركعة التي تليها، لأنه لم يقرأ كما أمر، وأن عليه الرجوع من حيث ترك ويتم قراءتها، وكذلك [لا] تصح له الركعة التي ترك فيها الحرف من الحمد لله ناسياً، أرأيت لو ترك قراءة الحرف من الحمد في أول ركعة من صلاته، ولم يسقط شيئاً من ذلك في سائر صلاته التي عليه، [فعليه] على أصلك أن يأتي بركعة ولا بد وأنت قلت: إذا فسدت أول ركعة من صلاته فقد فسدت كلها، ولا يصح أن يلغي تلك الركعة ولا يعتد بها، ويبني على ما صح من الركوع بعد فساد تلك الركعة، لأنك قلت: متى بطلت ركعته الأولى فقد بطلت تكبيرة الإجرام ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق -[190/أ] أن هذا الكلام كله كذب وإفك، وما قلناه قط ولا علمنا قط بقوله، فليبينوا لنا من أين رووه (3) لنا، أو من أخبرهم بذلك عنا من ثقات أصحابنا فلا سبيل لهم إلى أحد الوجهين أبداً، وما قلنا إلا انه إذا لم يكبر الإحرام فهذا لم يدخل بعد في الصلاة فلا صلاة له. وأما إذا كبر كما أمر ثم نسي حرفاً من أم القرآن ولم يذكر إلا في آخر صلاته وقد صلى الركعات الباقيات بأم القرآن، فإنه يعيد في الركعات التي قرأ فيها بأم القرآن ويلغي الركعة التي أسقط منها الحرف من أم القرآن، ويأتي بركعة، ثم ليسلم وليسجد للسهو، فإن [ذكر] ذلك قبل أن يقرأها من الركعة الثانية، عاد إلى الوضع الذي أسقط منه الحرف فقرأ من هنالك، وبنى وسجد للسهو بعد السلام، لأنه زاد في صلاته كما أمر رسول الله

_ (1) من قولكم إن: مكررة في ص. (2) ص: صلاته فإن لم، ثم قالوا فلم أنكرتم؛ وهو نص مضطرب. (3) ص: في أين رواه.

صلى الله عليه وسلم. فإن كانوا ينكرون علينا هذا، وما نعرف من قولهم إلا الحق [في] قولنا ها هنا فلا عليهم، فماذا يقولون فيمن أسقط من أم القرآن ناسياً من ركعة حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو كلمة أو كلمتين أو ثلاثاً حتى نوقفهم على ألا يقرأ منها إلا حرفاً واحداً فقط ويسقط باقيها ناسياً؛ فإن فرقوا بين شيء من ذلك، تناقضوا وسخف قولهم. وإن سووا بين ذلك كله، فهو قولنا، لان قراءة جميعها فرض، وإذ هو فرض، فكل حرف منها فرض، وبعض الفرض بلا خلاف. ومن لم يأت الفرض كما أمر فلا يعتد بتلك الركعة. هذا قولنا الذي نقطع على انه الحق عند الله تعالى، لموافقته لقول النبي صلى الله عليه وسلم (1) : " لا صلاة لمن لم يقترئ بأم القرآن "، ومن أسقط منها حرفاً ناسياً فلم يقترئ بأم القرآن. وأما من ترك منها ولو حرفاً واحداً عامداً فقد بطلت صلاته كلها، لتعمده ان يخالف فيها ما أمر به، وبالله تعالى التوفيق. 29 - ثم قالوا: " وإنك مرة تتأسى بفعل النبي [190 ب] صلى الله عليه وسلم، ومرة تتخلف عنه، كتنفلك في العيدين في المصلى، ولم يرد بذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تنفل، ولا خالفه أحد من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والعلماء المشاهير في جميع الآفاق، فكلهم اقتصروا على الائتساء به في ذلك، وخالفتهم أنت لولوعك بالاحتجاج، وليرفع الناس رءوسهم إليك. ولو سلكت طريقة من مضى لكان أجمل لك وأولى ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - هذا كلام جمعوا فيه الكذب والجهل المظلم، واستحقوا به المقت من الله تعالى. فأما الكذب والجهل، فجسرهم على دعوى الإجماع من الصحابة والتابعين المشاهير في جميع الآفاق على ترك التنفل في المصلى قبل صلاة العيدين، فلو كان لهم مسكة عقل لم يقدموا على مثل هذا، وهذا أيوب السختياني وقتادة صاحباً أنس بن مالك، يذكران أن أنس بن مالك وأبا هريرة كانا يتنفلان في المصلى قبل صلاة العيدين، وذكر أيوب انه رأى ذلك من أنس بعينه، ولا يصح عن أحد من الصحابة النهي عن ذلك إلا عن ابن مسعود وحذيفة، وبرواية (2) ساقطة منقطعة. وصح عن ابن عمر أنه كان لا يتنفل في المصلى قبل صلاة العيد، فقيل له: فمن تنفل في المصلى فقال كلاماً معناه: لا يضيع له ذلك عند الله تعالى. وجاء عن

_ (1) انظر الحديث في صحيح مسلم (صلاة: 35، 36) . (2) ص: ورواه.

على بن أبي طالب انه خرج إلى المصلى، فرأى الناس يتنفلون، فقيل له: ألا تنهاهم يا أمير المؤمنين فقال: ما كنت بالذي ينهى عبداً إذا صلى. ومن التابعين ممن تنفل في المصلى قبل صلاة العيدين: الحسن البصري وجابر بن زيد وغيرهما. ومن الفقهاء: الشافعي وغيره. قال: حدثنا أحمد بن محمد الخولاني (1) إجازة، حدثنا الطلمنكي (2) إجازة قال: حدثنا ابن عون [الله] (3) قال حدثنا ابن الأعرابي (4) قال: حدثنا سعدان بن نصر بن منصور المخرمي (5) قال حدثنا معاذ بن معاذ [191/أ] العنبري، حدثنا سليمان التميمي، عن عبد الله الداناج (6) قال: رأينا أبا بردة يصلي يوم العيد قبل الإمام. وبه إلى سليمان قال: رأيت أنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن (7) ، وسعيد بن أبي الحسن، وجابر بن زيد يصلون قبل الإمام في العيد. فلو سكت هؤلاء الحمير عما لا يحسنون لكان أستر لعوارهم (8) وأخفى لعارهم. فإن قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم [لم] يتنفل قبل الصلاة بالمصلى، قلنا لهم: صدقتم، لأنه كان الإمام عليه السلام، وكان إقباله وتكبريه للصلاة بلا مهلة. وهكذا نقول نحن: من أتى وهو الإمام فليكن إقباله وتكبيره للصلاة معاً. وما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التنفل يوم العيد بالمصلى، ولو كان مكروهاً لما أغفله حتى يبينه له غيره بالرأي الفاسد، بل قد حض عليه السلام على التنفل جملة، وهذا من التنفل ومن فعل الخير،

_ (1) هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله الخولاني قرطبي الأصلي إشبيلي الموطن، أجاز له عدد من الشيوخ منهم الطلمنكي وغيره ولم يكن عند كبير علم أكثر من روايته عن أولئك الجلة، وهو أصغر من ابن حزم، إذ ولد سنة 410 (الصلة: 76) وابن حزم يروي مباشرة عن الطلمنكي، فلا أدري لماذا يروي هنا عنه بالواسطة. (2) الطلمنكي: هو أحمد بن محمد بن أبي عبد الله أبو عمر، كان إماماً في القراءات ثقة في الرواية، مات سنة 428؛ وروى عنه ابن حزم وابن عبد البر (الجذوة: 106 والديباج: 39) وهو يروي عن ابن عون الله. (3) أحمد بن عون الله بن حدير أبو جعفر: قرطبي رحل وسمع بمكة من ابن الأعرابي وغيره كما سمع بمصر وأطرابلس الشام، وكان شيخاً صالحاً صدوقاً متشدداً على أهل البدع توفي سنة 378 (ابن الفرضي 1: 67 - 68) . (4) المقصود هنا: أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد ابن الأعرابي المحدث الصوفي، نزيل مكة توفي 340 عن أربع وتسعين سنة، روى عن الحسن الزعفراني وسعدان بن نصر وغيرهما (عبر الذهبي 2: 252) . (5) سعدان بن نصر المخرمي أبو عثمان البزاز سمع من ابن عيينة وغيره ووثقه الدارقطني، وكانت وفاته سنة 265 (الشذرات 2: 149) . (6) معاذ بن معاذ العنبري أبو المثنى كان قاضي البصرة حافظاً وثقه أحمد وابن القطان وتوفي سنة 196 (تذكرة الحفاظ: 324) وهو يروي عن الحافظ سليمان بن طرخان التيمي (المتوفى سنة 143) (التذكرة: 150) والداناج هو عبد الله بن فيروز البصري (التهذيب 5: 395) . (7) ص: الحسين. (8) ص: لعوارهم.

والله تعالى يقول: {وافعلوا الخير} (سورة الحج: 77) . لكن لو أنكروا على أنفسهم البدعة المحضة والضلال الذي في أيديهم بالخطبة قبل الصلاة في العيدين ائتساء بمروان إذ يقول، وقد ذكر له أبو سعيد الخدري السنة في ذلك فقال له مروان: ذهب ما هنالك يا أبا سعيد. وتمادوا على ذلك بعد زوال أمر بني مروان اتباعاً للبدعة وثباتاً على الضلالة. فهذا كان ينبغي لهم أن ينكروا لا [تنفل] من تنفل بما لم ينه عنه. ونسألهم هل صح قط عن النبي صلى الله عليه وسلم، هل صام [أكثر من نصف] الدهر، أو صلى أكثر من ثلاث عشرة (1) ركعة من الليل، أو أباح أكثر من قيام ثلث الليل فلابد لهم من الإقرار بأنه لم يأت قط عنه عليه السلام إلا ذلك؛ فمن أين استجازوا أن يستبيحوا خلاف أمره وفعله، فيبيحوا صوم أكثر من نصف الدهر، وقيام اكثر من ثلث الليل، وصلاة أكثر من ثلاث عشرة ركعة، ولم يفعله قط صلى الله عليه وسلم فإن قالوا: قد جاز لك عن بعض الصحابة. قيل لهم: وقد [191 ب] صح تحريم ذلك عن بعضهم أيضاً، فلم أجزتم الفعل المخالف للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمره ولفعله وأنكرتم علينا فعلاً جماعة من الصحابة، ولم يصح النهي عن أحد منهم، ولا نهى عنه قط رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل هذا إلا أحموقة منهم وجهل وغباوة وأما قولهم: إننا خالفناهم لولوعنا بالاحتجاج، فقد أريناهم كذبهم، وأننا لم نخالفهم، ولكن أولعنا بالاحتجاج بالقرآن والسنن، فانه لأفضل من ولوعهم باتباع التقليد وخلاف القرآن والسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع الصحابة والتابعين. أما قولهم: " ليرفع الناس رءوسهم إلينا "، فكذب واضح، وما أردنا قط الترؤس على أمثالهم، ولو أردنا ذلك لسلكنا سبيلهم في التقليد، ولو فعلنا ذلك لما شقوا غبارنا في الرياسة في الدنيا، هذا ما لا يقدرون على إنكاره، فما منهم أحد يدعي انه يدانينا - ولله الحمد - في حفظ ما طلبوه، ليأكلوا به الخبز الخبيث لا الطيب، من الآراء، لو ملنا إليها أول ميلة، ولكن معاذ الله من ذلك، فما هذه الرياسة عندنا إلا نهاية الخساسة، وأما الذي نطلب الرياسة عنده، فهو الملي بقبول رغبتنا في ذلك لا إله إلا هو. وأما قولهم: " لو سلكت طريقة من مضى لكان أجمل لك " فنعم ولله الحمد، نحن السالكون طريقة من مضى من الصحابة والتابعين الذين هم الناس حقاً في اتباع

_ (1) ص: ثلثة عشر.

القرآن والسنن، ورفض التقليد والقياس، وهم الذين خالفوا من مضى في كل ذلك. فلو اتبعوا طريقة من مضى ليلموا في دينهم، وأما طريق من بعد الصحابة والتابعين من أهل التقليد والقياس، فيعيذنا الله من اتبع طريقتهم وسلوك منهجهم، ونسأل الله العافية من الخزي في ميزانهم، وله الحمد كثيراً [192/أ] على عصمته من ذلك من جميع البدع المضلة حمداً كما هو أهله. 30 - ثم قالوا: " وإنك رتبت في كتبك خلاف ما رتبه الماضون المتفقون في الأحكام والشرائع في حكم ترتيب الصلوات وإرفاعها وحكم النية والوضوء، فقلت: إنه [إن] توضأ لصلاة بعينها لم يجز له أن يصلي بذلك الوضوء صلاة غيرها ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - ان هؤلاء القوم لا يستحيون من الكذب، ومن هذه صفته فقد كان الإضراب عن مجاوبته أولى، ولكن عدم العقل ممن هذه صفته يوهمه بجهله، إن أعرض عن مجاوبته، ان ذلك عجز عن البيان وإجلال لهم ومهابة منهم، فرأينا في واجب النصيحة لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن وللمسلمين عامة، مجاوبتهم، مبينين لجهلهم وكذبهم، ومزيلين لهذا الظن السوء عن أنفسهم، وتعريفاً لهم بمقاديرهم، كي يرتدعوا بذلك عن مثل هذا الهوس البارد وشبهه. فأما قولهم: إننا نقول: من توضأ لصلاة بعينها لم يجز له أن يصلي بذلك الوضوء صلاة غير تلك الصلاة، فهذا قول ما قلناه قط، ولا نجده لنا ولله الحمد كثيراً في رواية أحد من ثقات أصحابنا عنا، وكيف وقولنا المشهور والذي لم نختلف فيه قط أن من تيمم لصلاة فرض أو نافلة، فإن له أن يصلي بذلك التيمم أبداً ما لم ينتقض وضوؤه بحدث من الأحداث، كالوضوء ولا فرق، أو ما لم يجد ماء، لكن لو سألوا أنفسهم في قولهم: إن من تيمم لفرض صلى به بعد الفريضة ما شاء من النوافل، وإن تيمم لنافلة لم يصل به بعدها فرضاً، لكان أولى بهم، فغن هذا لا يعقل وجهه ولا يدرى من أين وجب، ولعل الناسين رأوا لنا مسألة أخرى لم يفهموها ولا أحسنوا تأديتها من أين: إنا نقول من توضأ لصلاة بعينها ونوى أنه لا يرفع الحدث بوضوئه إلا لتلك الصلاة فقط لا لغيرها، فإنه لم يتوضأ [192 ب] كما أمر، ولا يصلي بذلك الوضوء لا تلك الصلاة ولا غيرها، إذ لم يأت بالوضوء الذي أمر الله تعالى به، فهو غير متطهر.

وأما قولهم: إننا رتبنا في كتبنا (1) خلاف ما رتبه (2) الماضون المتفقون في الأحكام والشرائع، فهم الذين فعلوا ذلك، وقد نبهنا لهم عن مسائل جمة من الطهارة ومن الصلاة خالفوا فيها الصحابة الذين لا يعرف لهم مخالف فيها، والكتاب حاضر لا يمتنع عليهم رؤيته، ففي ذلك فلينتظروا إن قدروا، وهي أربع عشرة (3) مسألة من الطهارة وخمس وثلاثون مسألة من الصلاة، من جملتها مسائل خالفوا فيها الإجماع المتيقن، كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً بالناس، وغير ذلك كثيراً جداً مما قد بيناه في كتبنا، وأما خلافنا كتبهم فنعم، ما نعتذر من ذلك، وبالله تعالى التوفيق. 31 - ثم قالوا: " إنك (4) قلت: إن تارك الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها انه لا قضاء عليه فيما قد خرج وقته ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - أننا هكذا نقول، وهو الحق الراجح الذي لا يحل خلافه، ولنا في هذه المسألة كتاب مفرد مشهور. وجملة الأمر أن إعادة الصلاة في غير وقتها إيجاب شرع، والشرائع لا يوجبها إلا الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، لا من سواهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبين أوقات الصلوات، أوائلها وأواخرها، وأخبر بانقطاع أوقاتها، ولم يأمر بإعادة، وما كان ربك نسياً، ولو أراد تمادي أوقاتها لما عجز عن ذلك، ولا يجوز ان يكون حكم وعمل في غير وقته، وما عمل في غير وقته فهو غير العمل الذي أمر الله تعالى به. وهذا قول ابن عمر وابن مسعود وسلمان وغيرهم، لا يعرف لهم من الصحابة مخالف في ذلك. ومن عجائب الدنيا أن يفرض (5) الله تعالى الصلاة في وقت محدود، فيقول هؤلاء المخاذيل: إن من تعمد لا يؤديها [193/أ] ثم صلى في غير الوقت، فقد أطاع وعمل ما أمر به. وهذا هو الكذب البحت، وقد قال الله تعالى: {فويل للمصلين الين هم عن صلاتهم ساهون} (الماعون: 5) ، فأثبت الله تعالى انهم يصلونها، وأنهم يسهون عنها، وأوجب لهم الويل، ومن صلى كما أمر فما له الويل، بل له السعد فصح ان من له الويل على ما صلى فلم يصل ولا صلاة له (6) ، وهذا في غاية الوضوح

_ (1) ص: كتابنا. (2) ص: رتبته. (3) ص: أربعة عشر. (4) ص: إن. (5) ص: يعوض. (6) كذا، وأظن صوابه: فصح أن من له الويل هو الساهي عما صلى، فلم يصل، ولا صلاة له.

لمن أراد الله به خيراً. 32 - ثم قالوا: " وقلت: عن الذي يأبى أن يصليها وهو يقر ان صلاتها فرض عليه لا قتل عليه، [قالوا] وقد قال الله على يتوب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} (التوبة: 5) . فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إننا هكذا نقول، لأن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال من رواية ابن مسعود وعائشة وعثمان رضي الله عنهم (1) : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زناً بعد إحصان، أو نفس بنفس " ولا يحل قتل مسلم بغير هذه الثلاث إلا أن يأتي نص بقتله في قتله بصفته، فيضاف إلى هذا الحكم. ولم يأت نص بقتل تارك الصلاة حتى يخرج وقتها وهو يقر بفرضها، والعجب كل العجب من قولهم بقتل الممتنع من الصلاة إذا خرج وقتها وهي عندهم تجزئة متى صلاها أبداً. فلم خصوا خروج الوقت بقتله ووقتها باق في قولهم الفاسد أبداً فهل في التخليط أكثر من هذا وأما الآية التي ذكروا فلا حجة فيها، لان الله تعالى يقول فيها: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} (التوبة: 5) فإنما أمر الله تعالى بقتل المشركين لا بقتل المسلمين، فمن أسلم فليس مشركاً، وإذ ليس مشركاً فقد حرم قتله. فإن أبوا التعلق بظاهر قوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} ، قيل لهم: ليس مراد الله تعالى ما ظننتم. برهان ذلك إجماع الأمة كلها، أولها عن آخرها وأنتم في الجملة، على أن امرءاً لو أسلم [193ب] مع طلوع الشمس فأنه يخلى سبيله ولا يثقف حتى يأتي الظهر ولا حتى يحول الحول على ماله فيزكي عليه، هذا ما لم يقله مسلم قط. ولو أسلمت نفساء أو حائض، فلا خلاف من أحد من الأمة كلها أنها يخلى سبيلها ولا يثقف حتى تطهر فتصلي؛ وصح بهذا يقيننا ان مراد الله تعالى بقوله: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} ، إنما هو الإقرار بان الصلاة فرض، ولو كان ما ظنوه لوجب ألا نخلي سبيل من أسلم حتى يأتي وقت الصلاة فيصلي وحتى يحول عليه الحول كاملاً (2)

_ (1) أورده البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، وانظر مسند أحمد 1: 40، 55، 61، ومواضع أخرى فيه؛ وبهذا الحديث احتج عثمان رضي الله عنه على من حاصروه. (2) ص: كامل.

فيزكي، فحينئذ يطلق ويخلى سبيله. ومن قال هذا فقد خرج عن الإسلام بخرقه الإجماع. ثم. نسألهم عن المقر بفرض الصلاة وهو يقول: لا أصلي، أكافر هو أو مؤمن فإن قالوا: كافر، وهم لا يقولون هذا، لزمهم ألا يورثوا منه ورثته المسلمين ولا يدفنوه في مقابرهم ولا تنفذ وصيته. ثم نسألهم، فإن قالوا: بل هو مسلم، فقد حرم الله دماء المسلمين إلا بحقها، وقد بين الله تعالى حقها، ولم يبين في جملة ذلك من قال: لا أصلي، وهذا القول منهم لم يأت بد قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا نظر، فهو فاسد مقطوع على فساده، واستحلال لدم مسلم بالباطل وبالرأي الفاسد. وأما نحن فنقول: إنه أتى منكراً، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) : من رأى منكم منكراً أن يغيره بيده، فنحن نضربه (2) أبداً حتى يصلي أو يموت، غير قاصدين إلى قتله، وهكذا نفعل بكل من أتى منكراً حتى يتركه، وبالله تعالى التوفيق. 33 - ثم قالوا: وقلت: " إن للمصلي أن يصلي ظهراً خلف من يصلي عصراً ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - أننا هكذا قلنا، وهو الحق الذي من خالفه أخطأ بيقين، لأن الله تعالى يقول: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (البقرة: 286) ، ويقول: {لا تكلف إلا نفسك} (النساء: 84) ، وقال تعالى: {عليكم أنفسكم} (المائدة: 105) ، وقال رسول الله صلى الله عليه [194/أ] [وسلم] (3) : إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى - ولكل مصل ما نوى ونيته. وما أوجب قط رسول الله صلى الله عليه وسلم ان تتفق نية الإمام مع نية المأموم، بل قد أباح الله تعالى اختلاف نياتهم بيقين. وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بقوم ثم سلم، ثم صلى بآخرين تلك الصلاة بعينها، فهي له عليه السلام تطوع ولهم فرض، وقد فعل ذلك معاذ بعلمه، وهذا مما خالفوا فيه السنة وجميع الصحابة أولهم عن آخرهم بآرائهم الفاسدة. والعجب انهم يأمرون من صلى الفرض عندهم ووجد

_ (1) انظره في مسلم (إيمان: 78) ومسند أحمد 3: 10، 52. (2) ص: نصوبه. (3) هذا حديث مشهور، ورد في الكتب الستة، وفي مسند أحمد 1: 25، 43.

إماماً يصلي بجماعة أن يصلي معه إن شاء، فهي له نافلة، وللإمام فريضة. فليت شعري أي فرق بين أن يصلي المرء نافلة خلف من يصلي فريضة، وبين أن يصلي فريضة خلف من يصلي نافلة أو ظهراً خلف من يصلي عصراً فإن قالوا: لا ندري أي صلاة هي الفرض، أتوا بالمحال الظاهر، لأنهم لا يجيزون على هذا ان يصلي مع الجماعة إلا أن يشاء، وهذه صفة النافلة بلا شك لا صفة الفرض، مع انه لا يحل لمسلم ان يصلي في يوم واحد صلاتين بنية أيهما ظهر ذلك اليوم، هذا ما لا يقوله مسلم، فهو إذا صلى الأولى بنية الظهر فقد أدى فرضه، لا يحل له ذلك في الثانية بوجه من الوجوه، لأنه يزيد في الدين شرعاً لا يحل له زيادته، وبالله تعالى التوفيق. 34 - ثم قالوا: " وإنك استحسنت قول ابن عمر، وجعلت قوله حجة (1) في القصر في قوله: لو سافرت ميلاً لقصرت، وهل قوله حجة تلزم المسافر الموقوف عند قوله، وهل قوله وقول غيره إلا سواء ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - قد كذبوا علينا في دعواهم أنا استحسنا قول ابن عمر في هذا، وأنا جعلنا قوله حجة، ومعاذ الله من ذلك، ومن أن يكون قول أحد غيره (2) حجة بعد رسول الله صلى [194ب] الله عليه وسلم. وما جعلنا الحجة في ذلك إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عمر بن الخطاب وأم المؤمنين عائشة (3) وابن عباس رضي الله عنهم: من أن صلاة السفر ركعتان (4) ، ولم يخص الله تعالى سفراً من سفر، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، {وما كان ربك نسياً} (مريم: 64) ولم نجد أحداً يقصر في أقل من ميل، ووجدنا عمر بن الخطاب وغيره يقصرون في هذا القدر، فقلنا باتباع السنة في ذلك لا باتباع ابن عمر في ذلك. ولكن بهذا أنكروا على أنفسهم تقليد ابن عمر من بين الصحابة في المنع من المسح على العمامة، وقد خالفه في ذلك جمهور الصحابة، هنالك كان فعل ابن عمر حجة، وهذا هو الضلال بعينه والتخليط والتحكيم في الدين بالرأي الفاسد. وكذلك تقليدهم

_ (1) ص: حجر. (2) ص: عنده. (3) بعده في ص: رضي الله عنها؛ ولا ضرورة لإثباته لورود " عنهم " من بعد. (4) انظر الحديث في البخاري (تقصير: 11، 12) ومسلم (مسافرين: 5) وابن ماجه (إقامة: 73، 75) ومسند أحمد في مواضع كثيرة منها: 1: 37، 241، 243، 251 إلخ.

مالكاً في أن لا قصر في أقل من ثمانية وأربعين ميلاً بغير أن يعضد قوله هذا قرآن، ولا سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس، ولا نظر، ولا احتياط، ولا رأي يصح، بل خذلهم مالك في هذه المسألة بعينها، فروى عنه أشهب أن القصر جائز في أربعين ميلاً، وروى عنه ابن الماجشون في " المبسوط " (1) لإسماعيل أن القصر جائز في أربعين ميلاً، وروى عنه إسماعيل بن أبي أويس ابن عمه وابن اخته (2) أن القصر جائز في ستة وثلاثين ميلاً، وأنه بلغه ذلك عن ابن عباس وابن عمر، فقد أسلمهم صاحبهم في هذه المسألة وتبرأ من تقليدهم، وبالله تعالى التوفيق. وما علم قط ذو حس سليم فرقاً بين ثمانية وأربعين ميلاً وبين سبعة وأربعين ميلاً ولا بين ستة وثلاثين ميلاً وخمسة وثلاثين ميلاً وأربعين ميلاً، وكل هذا لا معنىً له، ولا يتشاغل به ناصح لنفسه أصلاً، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 35 - ثم قالوا: " وقلت في الحد على قاذف الصبية دون البلوغ: إنما لزمه الحد للكذب وغيرها عندي [195/ أ] سواء ". فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إننا هكذا نقول، لأن الله تعالى يقول: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} (النور: 4) ، والصغيرة محصنة بالإسلام وبالحرية، وبعدم الزنا منها جملة بيقين الكذب عليها، وقلنا: العجب كله ممن يوجب الحد بالشك في كذبه ولعله صدق، ثم يسقط الحد بيقين الكذب، وإنما كان ينبغي لهم أن يعجبوا من قياسهم حد القذف والزنا على قذف آخر بفعل قوم لوط، وبين قاذف بالكفر أو ببعض الكبائر من الزنا وأكل لحم الخنزير وغير ذلك، فمن أين خصوا من رمى آخر بفعل قوم لوط بالحدود دون من رماه بالكفر أو بالعقوق أو بشرب الخمر، وهم لا يقولون إن فعل قوم لوط زنا ولا حده عندهم حد الزنا، فمن هذا ينبغي أن يعجب، لا ممن تعلق بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. إلى ها هنا انتهى ما رسموا من السخف، وقد أوضحنا أنه كله عائد عليهم، وهم قوم كادونا من طريق المغالبة وإثارة العامة، فأركس الله تعالى جدودهم، وأضرع خدودهم، وله الحمد كثيراً، وخابوا في ذلك فعادوا إلى المطالبة عند السلطان، وكتبوا

_ (1) المبسوط في الفقه كتاب لإسماعيل بن إسحاق القاضي أحد أعلام مذهب مالك، وكانت وفاته سنة 282 (الديباج 92 - 95) . (2) إسماعيل بن أبي أويس أبو عبد الله هو ابن عم مالك وابن أخته وزوج ابنته، توفي سنة 226 (الديباج: 92) .

الكتب الكاذبة، فخيب [الله] سعيهم، وأبطل بغيهم، وله الشكر واصباً، وخسئوا في ذلك فعادوا إلى المطالبة عند أمثالهم، فكتبوا الكتب السخيفة إلى مثل ابن زياد (1) بدانية وعبد الحق (2) بصقلية، فأضاع كيدهم وفل أيدهم، وله المن كثيراً والفضل، فخزوا في ذلك، ولم يبق لهم وجه إلا مثل هذه السخافة، فرموا سهمهم الضعيف، فأظهر الله في ذلك عوارهم وأبدى عارهم، وهو أهل الطول والمنة علينا أبداً، فعاد جدهم حسيراً، وحدهم كسيراً، وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم أنبيائه ورسله وسلم تسليماً كثيراً، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين.

_ (1) ابن زياد: لم أهتد - على طول البحث - إلى ترجمة له أو تعريف به. (2) هو عبد الحق بن محمد بن هارون الفقيه الصقلي (- 466) تفقه بشيوخ القيروان وصقلية وحج مرتين ولقي القاضي عبد الوهاب وأبا ذر الهروي وإمام الحرمين الجويني، وألف كتاباً كبيراً في شرح المدونة، وله استدراك على مختصر البرادعي (ترتيب المدارك 2: 775؛ الديباج: 174) .

3 - رسالة في الرد على الهاتف من بعد.

3 - رسالة في الرد على الهاتف من بعد.

فراغ

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله - 3 - رسالة في الرد على الهاتف من بعد بسم الله الرحمن الرحيم: من علي بن أحمد إلى الهاتف من بعد دون أن يسمى أو (1) يعرف (2) : الحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد خاتم النبيين، وعلى ملائكة الله المقربين وأنبيائه المرسلين (3) ، ثم السلام على أهل الإسلام، فإن كنت منهم أيها المخاطب فقد شملك ما عمهم، وإن لم تكن منهم فلست أهلاً للسلام عليك. أما بعد: فإن كتابين وردا علي لم يكتب كاتبهما اسمه فيهما، فكانا كالشيء المسروق المجحود، وكابن الغية المنبوذ، كلاهما تتهاداه الروامس، بالسهب الطوامس، فاجبنا عن الأول بما اقتضاه سفه كاتبه، وهذا جوابنا عن الثاني. 1 - أما استعاذته بالله من سوء ما ابتلانا الله به - فيما زعم - من الطعن على سادة المسلمين، وأعلام المؤمنين، وقذفنا لهم بالجهل، والقول في دين الله تعالى بما لم يأذن الله به، فليعلم الكذاب المستتر باسمه، استتار الهرة بما يخرج منها، انه استعاذ بالله تعالى من معدوم؛ حاشا لله أن يكون منا طعن على أحد من أعلام المؤمنين وسادة المسلمين، أو أن نقذفهم بالجهل، أو أن نقول في دين الله بما لم يأذن به الله، وإنما وصمنا (4) بذلك جسارة وحيفا فيما (5) نسب، وصم جيل (6) معرضين عن القرآن والسنن، متدينين بالرأي والتقليد، لا يعرفون غيره، مخالفين لكل إمام سلف أو خلف.

_ (1) في الأصل: أن. (2) في آخر الرسالة ما يلمح إلى أن ابن حزم كان يعرف هذا الهاتف من بعد أو الجهة التي ورد منها هتافه، وذلك حيث يقول: وقد استتبنا اللعين المريد المرتد المتوجه إليكم بهذه الأكذوبات المفتراة. إلخ. (3) ص: والمرسلين. (4) ص: وصفنا. (5) ص: وجفا مما. (6) ص: حبل.

وأما من كان مجتهداً مأجوراً أجرا أو أجرين فليس ممن يهمل لسانه ويطلق كلامه، بما ضرره عليه عائد في الدنيا والآخرة. 2 - ثم قال: " فلم تقنع (1) بهذا المقدار في من هو في عصرنا، ومن كان قبل ذلك من علماء المسلمين، حتى تخطيت إلى أصحاب نبيك محمد، صلى الله عليه وسلم، وقلت إنهم ابتدعوا من الرأي ما لم يأذن به الله تعالى لهم، وأحدثوا بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز ". قال علي: فاعلم أيها السافل أنك قد كذبت، وما يعجز أحد عن الكذب إذا (2) لم يردعه عن ذلك دين أو حياء. معاذ الله من أن ننسب إلى الصحابة شيئاً مما ذكرت، فكيف هذا ونحن نحمد (3) الله تعالى على ما من به علينا من الجري (4) على سنتهم: من ترك التقليد ورفض القياس واتباع القرآن والسنن، وإنما الواصف لهم بما ذكرت من راء أن أقوالهم لا ينبغي أن تكتب، وفتاويهم لا يجب أن تطلب، وانهم كلهم أخطأوا إلا فيما وافق تقليده فقط، فهذا هو الذي لا يقدر أحد على إنكاره من فعلكم لشدة اشتهاره، والحمد لله رب العالمين. 3 - ثم قال: " فليت شعري إذا كان ذلك كذلك عندك، فسنن النبي، صلى الله عليه وسلم: نقل من تقبل (5) فيها " قال علي: فقد قلنا لك إنك تكذب فيما نسبت إلينا، ونحن نقبل ديننا عن الصحابة، رضي الله عنهم، وهم حجتنا فيما نقلوه إلينا، وفيما أجمعوا عليه وإن لم ينقلوه مسنداً، ثم عن التابعين، وأفاضل الرواة، وهكذا عمن بعدهم من المحدثين، فعن هؤلاء نأخذ ديننا، ونقبل سنتنا. ولكن، أيها الجاهل، أما أنت وضرباؤك فقد استغنيتم عن القرآن، واكتفيتم بالتقليد عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تتعنون (6) في نقل سنة، ولا تشتغلون بحكم آية، وهذا أمر لا تقدرون (7) على جحوده؛ فليت شعري، من إمامكم في هذه الطامة وعن من

_ (1) ص: يقنع. (2) ص: إذ. (3) ص: بحمد. (4) ص: الجزاء. (5) ص: يقبل. (6) تقرأ أيضاً: تتعبون. (7) ص: تقتدرون (دون إعجام) .

بلغكم انه قال: استغنوا بالرأي عن القرآن، ومعاذ الله أن يقول هذا أحد من المسلمين لا سالف ولا خالف؛ وأما نحن فلا نفني ليلنا ونهارنا، ولا نقطع أعمارنا ولله الحمد كثيراً، إلا بتقييد أحكام القرآن، وضبط آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة أقوال الصحابة، رضى الله عنهم، والتباعين والفقهاء مكن بعدهم - رحمة الله على جميعهم - لا تقدر على إنكار ذلك، وإن رغم انفك، ونضجت كبدك غيظاً. وطريقتنا هذه هي طريقة علماء الأمة دون خلاف من أحد منهم. 4 - ثم قال: " أنائم أنت أيها الرجل بل مفتون جاهل [أو متجاهل] ". قال علي: فما نحن، ولله الحمد، إلا أيقاظ إذا استيقظنا، ونيام إذا نمنا. وأما الفتنة فقد أعاذنا الله منها، وله الشكر واصباً، لأننا لا نتعصب (1) لواحد من الفقهاء على آخر، ولا نثبت إلى أحد دون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا نتخذ دون الله ولا رسوله، صلى الله عليه وسلم، وليجة، وكيف لا نقطع بذلك وقد وفقنا الله تعالى لملة الإسلام، ثم لنحلة أهل السنة أصحاب الحديث، ثم يسرنا لاتباع القرآن وسنن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين، إذ أحدثت وضرباءك سبيل الرأي والتقليد، وأضربت عن القرآن والسنة. فأنت المفتون الجاهل حقاً، إذ تنكر على من اتبع القرآن والسنة وإجماع الأمة. وهذه هي الحقائق التي يقطع كل مسلم على أنها الحق عند الله عز وجل، وأما وصفك لنا بالجهل، فلعمري إننا لنجهل كثيراً مما علمه غيرنا، وهكذا الناس، وفوق كل ذي علم عليم. وأما قولك " متجاهل " فلعلها صفتك، إذ قامت حجة الله عليك، وأعرضت عنها لعمى قلبك، فنعوذ بالله مما ابتلاك به، ونسأله الثبات على ما أنعم به علينا من الحق. 5 - ثم قال: " [ومثلك] قد انطوى على خبث سريرة وأبدى بلفظه ما يجنه ويستره " (2) . قال علي: فنحن نقول: لعن الله الخبيث السريرة، وإنما يعلم السرائر خالقها والمطلع عليها تعالى ثم الذي يسرها لكن ظاهره مبد عن باطنه. فمن أعلن باتباع كلام الله عز وجل، والسنن المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين،

_ (1) ص: نتغصب. (2) ص: قد قال قد انطوى أبدى بلفظه ما تجنه وتستتر. وهي عبارة مضطربة وقد أصلحتها بما يوضح المعنى.

فذلك دليل على طيب سريرته، ومن اعرض عن القرآن والسنن وعادى (1) أهلها واتكل على التقليد، وخالف الإجماع، فهذا برهان على خبث سريرته وفساد بصيرته، ونعوذ بالله من الخذلان. 6 - ثم قال: وما أرى هذه الأمور إلا (2) من تعويلك على كتب الأوائل والدهرية وأصحاب المنطق وكتاب إقليدس والمجسطي، وغيرهم من الملحدين. قال علي: فنقول، وبالله تعالى التوفيق: اخبرنا (3) عن هذه الكتب من المنطق واقليدس والمجسطي: أطالعتها أيها الهاذر أم لم تطالعها فإن كنت طالعتها، فلم تنكر على من طالعها كما طالعتها أنت وهلا أنكرت ذلك على نفسك وأخبرنا ما الإلحاد الذي وجدت فيها، إن كنت وقفت على مواضعه منها. وإن كنت لم تطالعها، فكيف تنكر ما لا يعرف أما سمعت قول الله عز وجل {فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} (آل عمران: 66) وقوله تعالى {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} (النور: 15) ولك قلة اشتغالك بالقرآن وعهوده تعالى فيه، سهل عليك مثل هذا وشبهه. ولو كان لك عقل تخاف به الشهرة (4) ، لم تتكلم في كتب لم تدر ما فيها. 7 - ثم خرج إلى السفه الذي هو أهله فقال: " واعلم أن صورتك عندنا انك جمعت ثلاثة أشياء: قلة الدين، وضعف العقل، وقلة التمييز والتحصيل ". قال علي: فليعلم هذا الجاهل السخيف وأشباهه أن هذه الصورة عندهم (5) لا عندنا، وان ذمهم زين لمن ذموه، ومدحهم غضاضة على من مدحوه لأنهم لا ينطقون عن حقيقة، وإنما هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً. فليقل بعد ما شاء، لكن نحن نوضح إن شاء الله تعالى [أن] هذه الصفات التي ذكر هي صفات كاتب الصحيفة الخاسئة (6) . أما قلة دينه: فاعتراضه بالجهل على القرآن، وأما ضعف عقله: فكلامه فيما لا يحسن، وأما قلة تمييزه وتحصيله: فتهديده من لا يحفل به.

_ (1) تقرأ أيضاً: وعاب، وفي ص: وعاد. (2) في الأصل: هذا الأمورات. (3) ص: أخبرونا. (4) الشهرة: الشنعة والفضيحة. (5) ص: عندهم لا عندهم لا عندنا. (6) ص: الخامسة.

عوى ليروع البدرا (1) ... وما كلب وإن نبحا 8 - ثم قال: " أما قلة دينك فلما أظهرته من الطعن على الصحابة، وتخطئتك (2) لهم وتسفيهك لآرائهم ". قال علي: فقد كذب هذا ومضى جوابه وأنه هو الطاعن عليهم، المخطئ لهم، المسفه لآرائهم، ببرهان لا إشكال فيه؛ وأنه تارك لجميعهم إلا ما وافق تقليده، فأي طعن على الصحابة، رضي الله عنهم، أعظم من هذا! وأما تسفيهه لآرائهم، فهو يعلم من نفسه، وغيره يعلم منه، أن رأيهم كلهم عنده في نصاب من لا يلتفت إليه ولا يعتد به في العلم، إلا رأي من قلده دينه. فأي سفه أكثر من هذا وأي تخطئة لهم تفوقه (3) 9 - ثم قال: " وأما ضعف عقلك، فلما ظننته بنفسك من انك قمت بإظهار الحق وبيانه، وأنه قد صح لك منه ما لم يصح لصحابة نبيك، صلى الله عليه وسلم، ولا اهتدوا إليه ". قال علي: فلو علم هذا المجنون الفاسق، أن هذه صفته وصفة أمثاله لأعول على نفسه. فأول ذلك كذبه علينا أننا ندعي انه قد صح لنا من الحق ما [لم] يصح لصحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا اهتدوا إليه. وكيف هذا ولا نقول بغير السنن التي نقلوها إلينا، وعرفوا بها، ولا نتعداها. فكيف يصح لنا ما لم يصح لهم وليس عندنا شيء من الدين إلا من قبلهم ونقلهم فقد صح كذبه جهاراً. وأما الصفة التي ذكر فصفته لأنه سلك تقليد مالك، ولا يختلف اثنان أنه لم يكن قط في أصحابه، رضي الله عنهم، مقلد لأحد، ولا موافق لجميع قول مالك حتى لا يحل عنه خلاف لشيء منها، فقد صح يقيناً أن هذا الجاهل، كاتب تلك الصحيفة، هو الذي يظن نفسه انه وقع من التقليد على علم غاب عن جميع الأمة، فهو العديم العقل حقاً، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله الهدى والتوفيق. 10 - ثم قال: " وأنت إنما نبغت في آخر الزمان وفي ذنب الدنيا، بعد البعد عن

_ (1) ص: ذا البدء. (2) ص: وتحطيطك. (3) ص: تفوته.

القرون الممدوحة (1) ، في وقت قلة العلم وكثرة الجهل، فهذا عند (2) كل عاقل من فساد حسك ونقصان عقلك ". قال علي: فأما قوله إننا في آخر الزمان، فنعم، وفي ذنب الدنيا والبعد عن القرون الممدوحة، وفي وقت العلم وكثرة الجهل. ولكن الله تعالى، وله الحمد، علمنا من فضله كثيراً، ويسرنا لسلوك طريق الصحابة والتابعين وأهل القرون الممدوحة، ثم من بعدهم لأئمة المسلمين وأعلام المحدثين، إذ صرف قلبك عنهم، ووفقنا لاتباعهم والتمسك بطريقتهم إذ أعماك عن ذلك، وهدانا إلى طلب السنة إذ أضلك عنها (3) ، فله الحمد كثيراً. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: " عن هذا الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً، طوبى للغرباء (4) ". ولله الحمد [على ما وهب] (5) من قوة (6) الحس وتمام التمييز؛ ومن ضعف حسك وعدم عقلك، إعراضك عن ما أمر الله به من اتباع ما أتاك به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبلت على ما نهاك عنه [من] التقليد. 11 - ثم قال: " وأما ضعف تمييزك وتحصيلك فظاهر في تناقضك. وذلك أنك تنهى غعن تقليد الصحابة فمن دونهم وتحث أتباعك على تقليدك، والتعويل على تواليفك، وتذم القول بالرأي، وأنت تفتي في دين الله عز وجل، بما لم يرد بيانه في كتاب الله، ولا على لسان رسول الله، صلى الله عليه وسلم ". قال علي: فليعلم هذا الجاهل أنه كاذب (7) في أكثر ما ذكر: أما نهينا عن تقليد الصحابة فمن دونهم، فأمر لا ننكره، ونحن في ذلك موافقون لجميعهم في نهيم عن ذلك بلا خلاف. أينكر هذا السائل أمراً قد صح به إجماع الأمة كلها وهلا أنكر هذا على مالك إذ لا يختلف أحد أن قوله: لا يقلد لا صاحب ولا من دونه وأما قوله إننا نحض أتباعنا على تقليدنا فقد كذب صراحاً بواحاً (8) ، وما نحض

_ (1) انظر معنى مشابهاً لهذا فيما رد ابن حزم على جماعة من المالكية سألوه أسئلة تعنيف: 90. (2) ص: غر. (3) ص: ضلك. (4) انظر تخريج هذا الحديث وشرحه في رسالة لابن رجب الحنبلي سماها " كتاب كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة " ط. مطبعة النهضة الأدبية 1332هـ؛ وهو في صحيح مسلم والترمذي وابن ماجة ومسند أحمد 1: 194، 398؛ 2: 177. (5) زيادة يقتضيها المعنى. (6) من قوة: مكررة في الأصل. (7) ص: كاذب في كاذب في أكثر (8) ص: نواحاً. والصراح: الخالص، والبواح: البين. ويجوز أيضاً براحاً بمعنى جهاراً.

أصحابنا وغيرهم، ولا نملأ كتبنا إلا بالأمر باتباع القرآن وسنن النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الامة، ومطالعة أقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من العلماء، وعرضها (1) على كلام الله عز وجل، وكلام نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلأيها شهدا (2) قلناه. وأما دعواه (3) بأننا في القرآن والسنة، فقد كذب جهاراً علانية، نفتي في كتبنا بما ليس في القرآن والسنة، فقد كذب جهاراً علانية، وكتبنا حاضرة ومشهورة، ظاهرة منشورة، ما فيها كلمة مما يقول، والحمد لله رب العاملين كثيراً. ولو تفكر هذا الجاهل فيمن هو المفتي بما ذكر لسخنت عينه، ولعظمت مصيبته، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 12 - ثم قال: فانتبه أيها الجاهل، واعرف منزلتك، فإنك جاهل بمقدار نفسك. قال علي: فلو أوصى نفسه بهذه الوصاة (4) أو قبلها لوفق، فهي والله صفته يقيناً. 13 - ثم قال: " وحالك عند أهل التحصيل على وجهين: أحدهما ضعف العقل وقلة التمييز، والثاني خبث السريرة وقصد التمويه والتطرق إلى أسباب قد تريدها، والله تعالى بالمرصاد، وعالم سرائر العباد ". قال علي: فليعلم هذا أن هذه هي صفاته، وأما تشنيعه بما ذكر فمنزلة نهيق ناهق وعواء عاو (5) ، ولن يعدم على ذلك خزياً من الله عاجلاً وآجلاً، ومقتاً من عباده عوداً وبدءاً (6) ، والله حسيب كل ظالم. 14 - وأما قوله: " لئن (7) لم تنتبه من رقدتك، وتستيقظ من غفلتك، وتبادر إلى التوبة من عظيم ما افتريت، فسيرد فيك، وفيمن يقصدك ويترك أن يقيم فيك

_ (1) ص: وعرضهم. (2) ص: فلأيهما شهد. (3) ص: دعواهم. (4) ص: الموصاة. (5) ص: وعوي. (6) ص: وبداء. (7) ص: أين.

حق الله، من أجوبة أهل العلم في أقطار الأرض ما ستعلمه (1) ، وأرجو أن يريح الله منك العباد والبلاد دون ذلك، أو يصلحك إن كان قد سبق في علمه ذلك. ولتعلمن أيها الإنسان، نبأه بعد حين ". فنقول له: أيها المخذول عماذا نتوب عن اتباع القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة واتباع جميع الصحابة رضي الله عنهم، وسلوك سبيل كل عالم في الأرض من المؤمنين فمعاذ الله من التوبة من هذا. وإلى ماذا نرجع إلى رأي مخلوق لا يغني عنا من الله شيئاً وتقليده حاشا الله من ذلك. ولعمري لئن نصحت نفسك ونظرت لها، لترجعن إلى ما دعوناك إليه من اتباع القرآن والسنة وإجماع الامة، وإلا فسترد وتعلم. وقد استتبنا اللعين المريد المرتد (2) المتوجه إليكم بهذه الأكذوبات المفتراة، والفضائح المفتعلة، وهو ابن البارية، ولقينا (3) العتقي الذي حمق من حمق منكم، ونحن نرجو عادة الله تعالى فيمن عند عن كلامه، واستغنى عن كلام نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (الحج: 40) . وأما وعيدك بأجوبة العلماء في أقطار الأرض: فتلك أضاليل المنى وغرورها ... سرت بكم في الترهات البسابس (4) العلماء والله قسمان لا ثالث لهما: إما عالم موافق، وإما عالم أداه (5) اجتهاده إلى مخالفتي، فهو إما سالك طريق أهل العلم في حسن المعارضة والمخاطبة بالحجة لا بالخبط والتخليط والحماقة، وإما ممسك ساكت، لا كالطريق التي سلكت من التقحم في الفتيا، قبل أن تستفتى، والتهالك في السخف.

_ (1) أبان ابن حزم (في ما تقدم ص: 116) أن المالكية بالأندلس أثاروا العامة ضده، ثم لما أخفقوا في ذلك سعوا به إلى السلطان وكتبوا له الكتب فخذلوا في ذلك أيضاً " فعادوا إلى المطالبة عند أمثالهم فكتبوا الكتب السخيفة إلى مثل ابن زياد بدانية وعبد الحق بصقلية فأضاع الله كيدهم ". (2) ص: المرتد المرتد. (3) ص: وبقينا. (4) البسابس: الكذب، والترهات البسابس: الباطل، وربما قالوا ترهات البسابس على الإضافة. (5) ص: آذاه.

وأما قولك: " أرجو أن يريح الله منك العباد والبلاد " فإنما يريح الله من الكافر العاند عن كلام الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأما المؤمن فمستريح. وما أقول لك إلا كما (1) قال جرير (2) : تمنى رجال أن (3) أموت وغن أمت ... فتلك طريق لست فيها بأوحد ص: آذاه. لعل الذي يبغي وفاتي ويرتجي ... (4) بها قبل موتي أن يكون هو الردي والله لئن مت، ما أسد قبوركم، ولا أوفر عليكم رزقاً. ولأردن على رب رحيم، وشفيع مقبول، لأني كنت تبع كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لا أتخذ دونهما وليجة. لكن إن مت انت، فتقدم والله على رب خالفت كتابه، وعلى نبي اطرحت أوامره ظهرياً وأطعت غيره دونه، فاعد للمسألة جواباً، وللبلاء جلباباً؛ وسترد فتعلم ولا عليك إن مت عاجلاً أو تأخر موتي، فلقد أبقى الله تعالى لك ولأمثالك مما أعانني الله ووفقني له حزناً طويلاً، وخزياً جزيلاً، وكسراً لكل رأي وقياس (5) ونصراً للسنة مؤزراً، ولينصرن الله من ينصره، فهل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين. وبعد، فلتطب نفسك بعد أن تذيقها برد اليأس، على أن تعارض بهوس ما في تلك الرسالة الحق الواضح، وكيف تعارض نص القرآن والسنة هيهات من ذلك.

_ (1) ص: وأما قولك كما. (2) البيتان من قصيدة في ملحق ديوان عبيد بن الأبرص: 80 ولم ينسبهما أحد لجرير، وقال الراجكوتي في ذيل السمط: 104 إنه وجد الشعر في كتاب الاختيارين منسوباً لمالك بن القين الخزرجي وفي تفسير الطبري 30: 145 بيت منسوب لطرفة بن العبد، وانظر أبياتاً من القصيدة والخبر المتصل بها في أمالي القالي 2: 218 والعقد 4: 443 ومروج الذهب 3: 136 والبداية والنهاية 9: 232. (3) رواية ديوان عبيد: تمنى مريئ القيس موتي. (4) رواية البيت في ديوان عبيد: لعل الذي يرجو رداي ومنيتي ... سفاهاً وجبناً أن يكون هو الردي (5) ص: قياساً.

فأقصر فهو أروح لك، وأجمل بك (1) عن شاء الله تعالى. والسلام على من اتبع الهدى ورحمة الله وبركاته عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل. تمت الرسالة في الرد على الهاتف من بعد بحمد الله وشكره وحسن توفيقه ولله الحمد والشكر دائماً أبداً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

_ (1) ص: واجمح لك.

4 - رسالة التوقيف على شارع النجاة.

4 - رسالة التوقيف على شارع النجاة.

فراغ

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم - 4 - رسالة التوقيف على شارع النجاة باختصار الطريق قال الشيخ الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين كثيراً، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وسلم تسليماً وبالله نستعين على كل ما يقرب منه، أما بعد فإن خطابك اتصل بي فيما شاهدته من انقسام أهل عصرنا قسمين: فطائفة اتبعت علوم الأوائل وأصحاب تلك العلوم، وطائفة اتبعت علم ما جاءت به النبوة، ورغبتك في أن أبين لك وجه الحق في ذلك بغاية الاختصار، لئلا ينسي آخر الكلام أوله، وبنهاية (1) البيان، ليفهمه كل من قرأه، بلا كلفة، وأن يكون عليه من البرهان ما يصححه لئلا يصير دعوى كسائر الدعاوي، فسارعت إلى ذلك متأيداً بالله عز وجل لوجوب نصيحة الناس والسعي في استنقاذهم من الهلكة، وحسبنا الله تعالى: 1 - اعلم - وفقنا الله وإياك لما يرضيه - أن علوم الأوائل هي: الفلسفة وحدود المنطق التي تكلم فيها أفلاطون وتلميذه أرسطاطاليس والإسكندر (2) ومن قفا قفوهم، وهذا علم حسن رفيع لأنه فيه معرفة العالم كله، بكل ما فيه من أجناسه إلى أنواعه إلى أشخاص جواهره وأعراضه، والوقوف على البرهان الذي لا يصح شيء إلا به، وتمييزه مما يظن من جهل (3) أنه برهان، وليس برهاناً، ومنفعة هذا العلم عظيمة في تمييز الحقائق مما سواها.

_ (1) ص: ونهاية. (2) هو الإسكندر الأفروديسي الذي فسر أكثر كتب أرسطاطاليس (انظر الفهرست: 253 وابن أبي أصيبعة 1: 69 والقفطي: 54) وكانت بينه وبين جالينوس مناظرات ومشاغبات كما كانت شروحه يرغب فيها في الأيام الرومية والإسلامية. (3) من جهل: مكررة في ص.

2 - وعلم العدد الذي تكلم فيه أندروماخش (1) مؤلف كتاب الأرثماطيقي في طبائع العدد، ومن نحا نحوه، وهو علم حسن صحيح برهاني. إلا أن المنفعة به إنما هي في الدنيا فقط: في قسمة الأموال على أصحابها ونحو هذا، وكل ما لا نفع (2) له إلا [142ب] في الدنيا فهي منفعة قليلة وتحة (3) لسرعة خروجنا من هذه الدار ولامتناع (4) البقاء فيها، وكل ما ينقضي فكأنه لم يكن، وكما يقول يحيى (5) : (6) وما هذه الدنيا سوى كر لحظة ... يعد بها الماضي وما لم يحن بعد هي الزمن الموجود لا شيء غيره ... (7) وما مر والآتي عديمان يا دعد 3 - وعلم المساحة التي تكلم فيها جامع كتاب أقليدس (8) ومن نهج نهجه، وهو علم حسن برهاني، وأصله معرفة نسبة الخطوط والأشكال بعضها من بعض، ومعرفة ذلك في شيئين: أحدهما فهم صفة هيئة الأفلاك والأرض، والثاني في رفع الأثقال (9) والبناء وقسمة الأرضين ونحو ذلك. إلا أن هذا القسم منفعته في الدنيا فقط. وقد قلنا إن ما لا نفع له إلا في الدنيا فمنفعته قليلة لسرعة انقطاعها، ولأنه قد يبقى المرء في دنياه - طول مدته فيها - عارياً من هذين العلمين، ولا يعظم ضرره بجهلهما (10) لا في عاجل ولا في آجل. 4 - وعلم الهيئة: الذي تكلم فيه بطليموس، ولونخس (11) قبله، ومن سلك

_ (1) لم يذكر كل من ابن أبي أصيبعة والقفطي لأندروماخس الحكيم الفيلسوف كتاباً في طبائع العدد، (انظر القفطي: 72) ، أما مؤلف الأرثماطيقي في علم العدد فهو نيقوماخوس (القفطي: 336) . (2) ص: يقع. (3) ص: وتحى، والوتحة: القليلة التافهة. (4) ص: والامتناع. (5) ص: يحى، ولعل الشاعر هو يحيى بن حكم الجياني الملقب بالغزال، وهو شاعر أندلسي حكيم؛ وإذا قرئت اللفظة " نحن " وهو الأرجح فالبيتان لابن حزم نفسه، وهما شبيهان بشعره. (6) ص: لر محطة. (7) الشطر الثاني من هذا البيت غير واضح كثيراً في الأصل. (8) كتاب اقليدس هو المعروف بأصول الهندسة أو الأصول كما سماه الإسلاميون وهو كتاب جامع في بابه؛ وقد نقل إلى العربية مرات عدة، وعملت عليه شروح كثيرة، وشرحه بعض الأندلسيين (القفطي: 62 - 65 ومقدمة ابن خلدون: 424) . (9) ص: الانتقال. (10) ص: ضرورة بجهلها. (11) أما بطليموس فهو القلوذي صاحب المجسطي ومنظم علم الفلك، وكل من جاء بعده من علماء الهيئة فإنما حاول شرح كتابه، وأما لو نخس فلم أتبينه والأشبه أن يكون هو إبرخس الذي يقال إنه أستاذ بطليموس وعنه أخذ (انظر الفهرست: 267) .

مسلكهما، أو سلكا مسلكه، ممن كان قبلهما من أهل الهند والنبط والقبط، وهو علم برهاني حسي حسن، وهو معرفة الأفلاك ومدارها وتقاطعها ومراكزها وأبعادها، ومعرفة الكواكب وانتقالها وأعظامها وأبعادها وأفلاك تداويرها، ومنفعة هذا العلم إنما هو في الوقوف على أحكام الصنعة وعظيم حكمة الصانع (1) وقدرته وقصده واختياره، وهذه منفعة جليلة جداً لا سيما في الآجل. 5 - وأما القضاء بالكواكب فباطل لتعريه من البرهان، وإنما هو دعوى فقط، ولا نحصى كم شاهدنا من كذب قضاياهم المحققة، وإن أردت الوقوف على ذلك فجرب، تجد كذبها أضعاف صدقها كالراقي والمتكهن سواء سواء ولا فرق. 6 - وعلم الطب الذي تكلم فيه [143/أ] أبقراط وجالينوس وذياسقوريدس (2) ومن جرى مجراهم، وهو علم مداواة الأجسام من أمراضها مدة مقامها في الدنيا، وهو (3) علم حسن برهاني؛ إلا أن منفعته إنما هي في الدنيا فقط، ثم ليست أيضاً صناعة عامة، لأننا قد شاهدنا سكان البوادي وأكثر البلاد يبرأون من عللهم بلا طبيب، وتصح أجسامهم بلا معالجة كصحة المتعالجين وأكثر، ويبلغون من الأعمار كالذي يبلغه أهل التداوي في القصر والطول، وفيهم من يرتاض ومن يخدم ولا يرتاض، ومن لا يرتاض ولا يخدم كأهل اليسار منهم والدعة من الرجال والنساء. فان قيل: إن لهم علاجات يستعملونها (4) قلنا تلك العلاجات ليست جاريات (5) على قوانين الطب بل هي مذمومة عند أهل العلم بالطب، واكثر ما يقدمون عليه بالرقي ولا مدخل له عند أهل الطب. 7 - فاعلم الآن أن كل علم قلت منفعته، ولم تكن مع قلتها إلا دنياوية وعاش من جهله كعيش من علمه - مدة كونهما (6) في الدنيا - فإن العاقل الناصح لنفسه لا يجعله وكده، ولا يفني فيه عمره، لأنه ينفق أيام حياته، التي لا يستعيض في الدنيا منها (7) فيما لا ضرورة به إليه ولا كثير حاجة تدعوه نحوه.

_ (1) ص: الصنائع. (2) انظر الفهرست: 287، 288، 293 والقفطي: 100، 122، 183، وذياسقوريس المشار إليه هنا هو العين زربي؛ قال القفطي: وهو أعلم من تكلم في أصل علاج الطب، وهو العلامة في العقاقير المفردة، وهو من حيث الزمن سابق على جالينوس. (3) ص: وهم. (4) ص: يستعملوها. (5) ص: جايزات. (6) ص: كونها. (7) ص: فيها.

8 - ووجدنا ما جاءت به النبوة ومنفعته في ثلاثة أشياء: أحدها: إصلاح الأخلاق النفسية وإيجاب التزام حسنها: كالعدل والجود والعفة والصدق والنجدة في موضعها، والصبر والحلم والرحمة، واجتناب سيئها كأضداد هذه التي ذكرنا. وهذه منفعة عظيمة لا غنى لساكني الدنيا عنها، ولا شك في العقل في أن صلاح النفس ومداواتها من فسادها، أنفع من مداواة الجسد وإصلاحه، لأن مداواة الجسد تابعة لمداواة النفس. إذ في مداواة النفس إيجاب ألا يدخل الإنسان على جسده ما يؤلمه بالمرض، فيقطع به عن مصالحه [143 ب] . وما عم إصلاح النفس والجسد معاً أفضل وأولى بالاهتبال به مما خص إصلاح الجسد فقط - هذا برهان عقلي ضروري حسي. 9 - ولا يمكن ألبتة إصلاح أخلاق النفس بالفلسفة دون النبوة، إذ طاعة غير الخالق - عز وجل - لا تلزم. وأهل العقول مختلفون في تصويب هذه الأخلاق، فذو القوة الغضبية التي هي غالبة (1) على نفسه لا يرى من ذلك ما يراه ذو القوة النباتية (2) الغالبة على نفسه، وكلاهما لا يرى من ذلك ما يرى ذو القوة الناطقة الغالبة على نفسه (3) . 10 - والوجه الثاني من منافع ما جاءت به النبوة: دفع مظالم الناس الذين لم تصلحهم الموعظة ولا سارعوا إلى الحقائق، وحياطة الدنيا والأبشار والفروج والأموال، والأمن على كل ذلك من التعدي والغلبة وكفاية من ضاع ولم يقدر على القيام بنفسه. وهذه منفعة عظيمة جلليلة، لا بقاء لأحد في هذه الدنيا، ولا صلاح لأهلها إلا بها. وإلا فالهلاك لازم والبوار واجب. وليست كذلك منفعة العلوم التي قدمنا قبل، وقد قدمنا أنه لا سبيل إلى منع التظالم ولا إلى إيجاد التعاطف بغير النبوة أصلاً، لما ذكرنا من أن طاعة غير الخالق تعالى لم يقم برهان بوجوبها، ولأن الفسوق ومختلفة الأهواء لا ينقاد بعضها إلى بعض. 11 - والوجه الثالث من منافع ما جاءت به النبوة هو التقدم لنجاة النفس فيما بعد خروجها من هذه الدار، من الهلكة التي ليس معها ولا بعدها شيء من الخير، لا ما قل ولا ما كثر، ولا سبيل ألبتة إلى معرفة حقيقة مراد الخالق منها ولا إلى معرفة

_ (1) ص: عالية. (2) ص: السانية. (3) قسم الفلاسفة الأخلاق والقوى بنسبتها إلى الأنفس وهي: النفس النباتية الشهوانية والنفس الحيوانية الغضبية، والنفس الإنسانية الناطقة فالأولى مسؤولة عن شهوة الغذاء، والثانية عن شهوة الجماع والانتقام والرياسة، والثالثة عن شهوة العلوم والمعارف والتبحر والاستكثار منها (انظر رسائل إخوان الصفا 1: 241 وما بعدها) .

طريق خلاصنا إلا بالنبوة، وأما بالعلوم الفلسفية التي قدمنا فلا - أصلا - ومن ادعى ذلك فقد ادعى الكذب، لأنه يقول ذلك بلا برهان ألبتة، وما كان هكذا فهو باطل، ولا يعجز أحد عن الدعوى، وليست [144/أ] دعوى أحد أولى من دعوى غيره بلا (1) برهان. ثم البرهان قائم على بطلان هذه الدعوى، لأن الفلاسفة الذين إليهم يستند هذا المدعي يختلفون في أديانهم كاختلاف غيرهم سواء سواء، فوجب طلب الحقيقة في ذلك عند من قام البرهان على انه إنما يخبر عن خالق العالم ومدبره - عز وجل -. وهذا مكان يلزم العاقل الناصح لنفسه ألا يجعل كده ولا اجتهاده إلا في الوقوف على حقيقته، وإلا فهو موبق لنفسه، ولا يشتغل عن ذلك بعلم من العلوم تقل منفعته، ومن فعل هذا فهو ضعيف العقل، فاسد التمييز، سيئ الاختيار، مستحق للذم، جان على نفسه عظيم الجنايات. 12 - فأول ذلك أن ينظر: هذا العالم محدث كما قالت الأنبياء - عليهم السلام - وأكثر علماء الأوائل والفلاسفة، أم لم يزل كما قال غيرهم. ومعرفة حقيقة ذلك قريبة جداً لصحة البرهان الحسي الضروري المشاهد على تناهي عدد الأشخاص النامية من كل نوع من أنواع الحيوان والنبات، فإن أشخاص نوعين منها اكثر عدداً بلا (2) شك من أشخاص أحد ذينك النوعين. فإذ لا شك في هذا عند أحد، فقد ثبت المبدأ في وجود كل عدد متناه، فقد وجب لها المبدأ ضرورة - ولا بد - وإن زمان وجود الفلك الكلي - بكل ما فيه - يزيد عدد ساعاته بما يأتي منه، وبالضرورة يدري كل أحد (3) أن ما قبل الزيادة، فإن النقص موجود فيه قبل تلك الزيادة، عما صار إليه بتلك الزيادة. ولا شك في [أن] الزيادة والنقص لا يمكن وجودهما إلا في ذي نهاية ومبدأ. فصح المبدأ للعالم ضرورة، وصح أنه محدث مبتدأ (4) ، والله أعلم. 13 - وأيضاً فإن الزمان كله يوم ثم يوم - هكذا مدة وجوده - وكل يوم فله مبدأ ونهاية بالمشاهدة. فإذ كل جزء من أجزاء الزمان ذو مبدأ ونهاية - والزمان ليس هو شيئاً غير أجزائه التي هي أيامه [144 ب]- فالزمان ذو مبدأ ونهاية - ولابد - ضرورة، ومن ادعى مدة غير الزمان فقد ادعى الباطل وما لا يقوم به برهان أبداً. ومن أراد إيقاع الزمان على الباري تعالى فقد تناقض بالباطل، لأن الزمان - كما بينا - ذو مبدأ، والباري

_ (1) ص: فلا. (2) ص: عدد فلما. (3) ص: أن كل أحد. (4) انظر ما أورده ابن حزم من براهين على حدوث العالم في الفصل 1: 14 وما بعدها.

لا مبدأ له، فهو خالق الزمان، فهو في غير زمان - ولابد -. 14 - ثم ينظر هل له محدث مبتدئ أو لا، فوجب بأول العقل أن الحدوث والإبتداء فعل، والفعل يقتضي فاعلاً ضرورة، ولا يمكن غير ذلك أصلاً. وأيضاً فإن النشأة والتربية والعيش، وعمارة ما لا عيش إلا به من نبات الأرض والحيوان المسخر، لا يمكن شيء من ذلك ألبتة ولا يكون وجوده أصلاً إلا بلغة يقع بها التخاطب والتفاهم، ووجدنا كل من لم يعلم اللغة لا يتكلم أبداً. وهكذا وجدنا كل من يولد أصم، فإنه لا يكون ضرورة إلا أبكم لا ينطق أبداً؛ فصح ضرورة انه لا يتكلم أحد أبداً إلا من سمع الكلام وعلمه، وكذلك جميع العلوم لا يمكن ألبتة أن يحسنها أحد أبداً إلا حتى يعلمها، برهان ذلك المشاهد مدة عمر العالم إلى يومنا هذا، فإن كل من لا يعلم الكلام لا يعلمه. والكلام التي لا علم فيها كبلاد الروم والصقالبة والترك والديلم والسودان والبربر والبوادي التي بين الحواضر لا سبيل إلى أن يوجد فيها شيء من العلوم التي لم يعلموها مذ وجد (1) العالم إلى يومنا هذا، وكذلك جميع الصناعات من الحرث والحصاد والدرس، وآلات كل ذلك، والذرو والطحن وعمل الكتان والقطن والقنب والحرير وغزل ذلك كله، لا سبيل إلى أن يعرف أحد شيئاً من ذلك كله إلا حتى يوقف عليه فيقبله ويترفق به ويفتق (2) بذهنه في ذلك بما جعل في طبعه من قبوله (3) ، وبرهان ذلك انه من لم يعلمه قط لا يدريه، وأن البلاد التي خلت من بعض هذه الصناعات لا توجد أصلاً فيها مذ كان العالم إلى يومنا [145/أ] هذا، بخلاف ما تقتضيه الطبيعة مما لا يحتاج فيه إلى معلم: كالرضاع والأكل والشرب والجماع وغير ذلك مما لا يحتاج فيه الإنسان إلى معلم وكذلك سائر الحيوان. فصح ضرورة - صحة حسنة مشاهدة - أنه لا بد في اللغات من معلم، ولابد في الصناعات من معلم، ليس من المعلمين الذين في طبعهم تعلم ذلك دون تعليم، إذ لو كان ابتداء ذلك موجوداً في الطبيعة لوجد ذلك في كل عصر وفي كل مكان، لان الطبيعة واحدة في جميع النوع؛ وكذلك نجدهم يستوون كلهم فيما توجبه الطبيعة لهم، إلا أن يعرض عارض حائل في بعض النوع. فوجب ضرورة أن مبتدئ إيجاد (4) العالم هو الذي ابتدأ تعليم اللغات وابتدأ تعليم الصناعات، لابد من ذلك، وانه تعالى علم كل ذلك أول من أحدث

_ (1) ص: وجدوا. (2) ص: ويفيق. (3) اقرأ في الفصل 1: 68، 72 نصاً مشابهاً لهذه الفقرة. (4) ص: إيجاب.

من نوع الإنسان، ثم علمها ذلك المعلم سائر نوعه. ثم تداولوا تعلم ذلك. وهذا برهان ضروري حسي مشاهد، يقتضي - ولابد - وجود الخالق ووجود النبوة، وهي تعليم الخالق اللغات (1) والعلوم والصناعات ابتداء، ووجود الرسالة وهي تعليم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لمن أمر بتعليمه إياه. 15 - فإذ قد صح هذا كله من قرب، فالنظر واجب: هل مبتدئ العالم واحد أم اكثر من واحد. ومعرفة حقيقة هذا يقرب جداً - وذلك أنه لولا الواحد لم يوجد عدد ولا معدود، ففتشنا العالم كله هل نجد فيه واحداً فلم نجده أصلاً، لان كل ما في العالم فإنه ينقسم أبداً فهو كثير لا واحد، فإذا لابد من واحد في العالم، فالواحد هو غير العالم، وليس غير العالم إلا مبتدئ العالم، فهو الواحد الذي لا يكثر، لا واحد سواه؛ فوجدنا العالم محدثاً تالياً كما وصفنا، لم يكن ثم كونه مكونه الذي ابتداه، ولابد من أول، إذ لولا الأول لم يكن الثاني أصلاً، ووجود الثاني يقتضي ضرورة وجود [145 ب] الأول، ولابد؛ والثاني موجود فالأول موجود. ففتشنا العالم كله عن أول لم يزل فلم نجده لأنه كله محدث، لم يكن ثم كونه مبتدئه، فوجب ضرورة أن الأول غير العالم، وليس غير العالم إلا مبتدئ العالم ومحدثه. 16 - فإذ قد صح الخالق وأنه واحد أول لم يزل، وصحت النبوة، وصحت الرسالة، فالنظر واجب في الأنبياء: فوجدنا شريعة النصارى في غاية الفساد لوجوده: أحدها قولهم بخلاف التوحيد في الابن والأب وروح القدس، والثاني لفساد نقلهم لرجوعه إلى ثلاثة فقط وهم مرقش ولوقا ويوحنا الناقل من متى (2) ، فوضح عليهم الكذاب وأن أناجيلهم متضادة، ظاهرة الكذب (3) في أخبارها، فبطلت الثقة بنقلهم، مع أنها شريعة معمولة من أساقفتهم وملوكهم بإقرارهم، وما كان هكذا فالأخذ به لا يجوز؛ إذ لا يجوز في هذا المكان إلا ما صح أنه جاء به المرسل عن الله تعالى. ووجدنا اليهود أيضاً شريعتهم في غاية الفساد لأنها راجعة إلى كتب ضائعة النقل، لم ينقلها من أول كونها إلى فشوها عندهم كافة، بل دخلها التغيير والإتلاف وانقطاع

_ (1) انظر رأي ابن حزم في كيفية ظهور اللغات أعن توقيف أم عن اصطلاح، مفصلاً في الإحكام 1: 29 وما بعدها. (2) راجع في هذا المعنى كتاب الفصل 1: 114، 210. (3) ص: الذب.

حكمها ونقلها، لكفرهم بها أيام دولتهم، ثم بعدها (1) ، واتصال ذلك فيهم المئين من السنين، مع عظيم ما فيها من كذب الاخبار، مع بطلان شرائعهم التي أمروا بها بإقرارهم، وامتناع إقامتها، وما كان هكذا فليس هو من عند الله بل هو باطل مفتعل، إذ لا سبيل إلى العمل بالواجب عندهم. ثم نظرنا في المجوس فوجدناهم مقرين أن شريعتهم كثير منها من عمل أزدشير بن بابك الملك، وأنه ضاع من شريعتهم وكتابهم نحو الثلثين (2) أيام أحرق الإسكندر كتابهم، وما كان هكذا فلا يجوز التدين به لأن الدين [الذي] يزعمون انه الحق لا يختلفون في أنه قد علم، وما كان هكذا فلا يتدين به عاقل. ثم نظرنا [146/أ] في المنانية (3) فوجدنا نقلهم فاسداً غير متصل بصاحبهم مع ظهور الكذب في كتب صاحبهم، وفساد ما أتى به وأخبر عنه. ولم ينقل له أحد أية معجزة نقلاً يوجب صحة العلم بها، وما كان هكذا فهو باطل بلا شك، مع ما فيها من الفساد الظاهر من إيجابه قطع النسل ليعود النور إلى خلاصه، وهذا أمر لا يمكن ألبتة لاختلاف أجناس الحيوان البحري والطائر والدارج وعدم القوة على قطع تناسلها، فلا أفسد من شريعة مدارها على سبيل إيجاب ما لا سبيل إليه. ثم نظرنا في الصابئين فوجدناها ملة قد بطلت بالكلية، ولم يبق لها أثر مع أن أصولهم أصول المنانية التي لا شك في كذبهم. وأيضاً فإن نقلهم قد انقطع فلا سبيل إلى تصحيح معجزة شاهدة لمن قلدوه دينهم. وأيضاً فإن شرائعهم بإقرارهم من عمل أكابرهم، وما كان هكذا فلا يتدين لبه عاقل. فإذ قد بطلت هذه الديانات وليس في العالم ملة تقر بنبي غير هؤلاء - ولابد من ملة مأخوذة عن نبي إذ لا سبيل إلى معرفة ما يأمر به الخالق تعالى إلا بنقل نبي - لم يبق إلا محمد بن عبد الله عليه السلام وملته هو الذي كتابه منقول نقل الكواف من

_ (1) غير واضحة في ص. (2) كذا ذكر في الفصل (1: 115) وقبل ذلك (1: 113) قال: مقرون بلا خلاف أنه ذهب منه مقدار الثلث. (3) في ص: المباينة: والمنانية هم أتباع ماني (انظر كتاب الفصل 1: 35 والشهرستاني على هامش الفصل 2: 81) ومدار مذهب ماني على تخليص النور من الظلمة، وهذا يقتضي الزهد والرياضة، التي ينتج عنها طبقة الصفوة من الناس فيحرم عليهم التناسل. وكل شيء حتى إطعام بأنفسهم. وكل رجل من هؤلاء لابد له من رفيق من طبقة السماعين أو المريدين يقوم بخدمته.

عنده إلينا - بخلاف نقل الإنجيل الراجع إلى ثلاثة قد ظهر كذبهم، وبخلاف نقل (1) التوراة التي هي راجعة إلى واحد وهو عزرا (2) ، وكانت قبل ذلك أيام دولتهم ممنوعة من كل واحد إلا من الكاهن وحده - وأعلامه منقولة كذلك في الكتاب المذكور، كإعجاز القرآن وعجز العرب عنه وكشقه القمر إذ سألوه آية، وكتجربة اليهود بأن يتمنوا الموت وإعلامه انهم (3) لا يتمنوه أبداً (4) وإذعان ملوك اليمن وإيمانهم به دون خوف منهم له ولا طمع منه في حظوة [146 ب] دنيا من مال أو جاه لديه، بل دعاهم إلى ترك الملك والنزول عنه والدخول في العامة، وإسقاط الفخر والثأر والعداوات وطلب الدماء. والرجوع إلى مؤاخاة من قتل الآباء والأبناء، فأجابوه كلهم كملوك اليمن وملوك عمان والبحرين وغيرهم - حتى جبلة بن الأيهم ثم ارتد أنفة ولم يزل نادماً على ردته - لا ينكر ذلك أحد، مع براءة كتابه المنزل عليه من كل كذب ومن كل مناقضة ومن كل محال، فصحت نبوته صحة لا مرية فيها، وشريعته المتصلة من عهده عنه إلينا، لأنها لم تكن قط منقطعة فيما بينه وبيننا ولا طرفة عين فما فوقها، ولا كانت عند خاص دون عام، بل منقولة من بين المشرق والمغرب. فإذا قد صح هذا كله: فالواجب على العاقل ألا يقطع دهره إلا بطلب معرفة ما ينجيه في معاده، ويخلصه من الهلكة ومن النيران المحيطة بها، ويرفعه إلى السموات التي هي محل الحياة الأبدية والنجاة من كل مكروه، وموضع السرور السرمدي واللذات الدائمة التي لا انقطاع لها، ولا يشتغل من سائر العلوم إلا بمقدار ما يعرف به أعراضها، ويزيل عن نفسه عمى (5) الجهل بأنه لعل فيها ما ليس فيها، وما يتعلق بالديانة منها، ثم يرجع إلى ما فيه خلاصه. وإذ لاشك في هذا فاعلم ان الفلاسفة لم يدعوا قط انهم تخلصوا بها بعد الموت،

_ (1) ص: فعل. (2) هو من الشخصيات الهامة في التاريخ الإسرائيلي ويقال إن ملك الفرس المسمى Artaxerxes أرسله من بابل إلى القدس ليعيد الشريعة المهملة فقرأ في القدس الشريعة على الناس وأدخل فيها إصلاحات. ويقال إن عمله لم يقتصر على إعادة توراة موسى التي كانت قد احترقت بل إنه أحيا كثيرا مما كان قد درس من كتب اليهود، غير أن بعض المؤرخين يظن أنه لم يكن شخصية تاريخية. (3) ص: أنه. (4) سورة البقرة: 94 وانظر فصلاً عقده ابن حزم عن أعلام الرسول في كتابه " جوامع السيرة " الورقة السادسة وما بعدها. قال: ودعا اليهود إلى تمني الموت وأخبرهم أنهم لا يتمنونه فحيل بينهم وبين النطق بذلك. (5) ص: عم.

ولو ادعوا ذلك لكانت دعواهم كاذبة لتعريها من برهان يصدق الأبدية، والنجاة من كل مكروه، وموضع السرور السرمدي واللذات الدائمة التي لا انقطاع لها، والله اعلم بالصواب. وأيضاً فانهم في آرائهم في أديانهم يختلفون: هذا بين في كتبهم، فبعضهم يثبت حدوث العالم كسقراط وأفلاطون، وبعضهم يثبت أنه لم يزل وانه له فاعل لم يزل يخلق، وهذا قول ينسب إلى أرسطاطاليس، وبعضهم يثبت النبوة والمعاد والجزاء في المعاد، والملائكة، كأفلاطون وصاحب كليلة ودمنة من [147/أ] فلاسفة الهند، وبعضهم يقول بتناسخ الأرواح، كصاحب كتاب سندباد من فلاسفة الهند. فهم كغيرهم في الاختلاف، ولا فرق، ولا فضل. فالعاقل الناصح لنفسه هو من اتبع من يخلصه، والمجنون هو من اتبع من لا يخلصه ولا يغني عنه شيئاً، ولا ينفعه عاجلاً ولا آجلاً، ليس في الحماقة أكثر من هذا. وإذ لا شك في هذا فهذه صفة تعم كل أحد حاشا الذي أرسله الله خالقنا تعالى إلينا، لخلاصنا في عاجلنا وآجلنا. 18 - واعلم أن من طلب علم الشريعة ليدرك به رياسة أو يكسب به مالاً فقد هلك، لأنه طلبه لغير ما أمره خالقه ان يطلبه، لان خالقنا - عز وجل - إنما أمرنا أن نطلب ما شرع لنا لننجو به بعد الموت من العذاب والسخط. فمن طلبه لغير ما أمره به خالقه، فقد عطاءه وبطل تعبه وحبط عمله وضل سعيه. 19 - واعلم أن من أخذ الشريعة عن غير ما صح عن صاحب الشريعة الذي أرسله الله تعالى بها، واتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه فقد خاب وخسر وبطل عمله، والذي قلنا في هذا هو الذي مضى عليه جميع أهل الحق من الذين صحبوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فمن بعدهم، جيلاً جيلاً؛ وحدث في خلال ذلك من الآراء الفاسدة ما لا يخفى على أحد حدوثه ومبدأه، وقد لاح أن كل حادث غير ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو باطل مفترى، والباطل فرض اجتنابه، وبالله التوفيق. فهذا بيان ما سالت عنه بغاية الاختصار والبيان ونهاية البرهان، والحمد لله كثيراً، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم تسليماً كثيراً. كملت رسالة التوقيف على شارع النجاة باختصار الطريق، بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه، وبالله المستعان

5 - رسالة التلخيص لوجوه التخليص

5 - رسالة التلخيص لوجوه التخليص

فراغ

- 5

- 5 - رسالة التلخيص لوجوه التخليص [235 ب] بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلى على محمد وعلى آله قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم رحمه الله: سلام عليكم أيها الاخوة الفضلاء، والصدقاء الكرام، المغتبط بودهم، الذي هو أفضل من القرابة الواشجة والمجاورة الدائمة، فقد بشر الله عز وجل المتحابين فيه بأتم البشرى، وأنه يظلهم يوم لا ظل إلا ظله. فأني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو الموفق للخير، الواهب للنعم، وأسأله الصلاة على نبيه ورسوله وصفيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم، وأستوهبه تعالى لي ولكم المزيد من كل حسنة مقربة منه ومبعدة (1) من سخطه. قال أبو محمد: أما بعد، فإن كتابكم ورد علي وفي أوله وصفكم لي بما لست أهله عند نفسي، ولكني احدث بنعمة الله تعالى علي مؤتمراً لأمره إذ يقول عز وجل {وأما بنعمة ربك فحدث} (الضحى: 11) ، فأقول: بلى، عن الله تعالى عندي نعماً أنا أسأله ثم أرغب إليكم بالأمانة التي عرضها الله تعالى {على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} (الأحزاب: 72) أن تسألوه تعالى لي ولكم إذ يخفف في سجودكم في أواخر ليلكم، أن لا يجعل ما وضع عندنا من مادة الفهم في دينه فتنة لنا في دينه، ولا حجة علينا في الآخرة، وأن يجعل ما أودعنا من ذلك عوناً على طاعته في هذه الدار، وزلفى لديه تعالى في دار القرار، آمين آمين. والذي ذكرتم من وجوب الإرشاد للمسترشد، ولزوم البيان لمن سأل، فنعم، سمعاً وطاعة لأمر الله تعالى إذ يقول: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون* إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم} (البقرة: 159، 160) ، أعاذنا الله وإياكم من كل ما يؤدي للفتنة، ورزقنا البيان الموجب لمرضاته وتوبته، آمين.

_ (1) ص: وببعده.

ولقد ذكر بعض (1) أهل العلم وابتغاء الخير في الشيخ الفاضل أبي الخيار مسعود ابن سليمان بن مفلت (2) رضي الله عنه معتمداً قوياً ومعتقداً (3) كافياً، برد الله مضجعه، [236/أ] ونفعه بفضله وعمله، وصحة ورعه وفهمه، وصدعه بالحق، رفع الله بذلك درجته. وأما ما ذكرتم من صفتي عنكم فأقول على ذلك ما قال سفيان ابن عيينة، رحمه الله، إذ رأى حاجة الناس إليه بذهاب السالفين من أئمته، فأنشد رافعاً صوته بحضرة الجماعة (4) : خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد ورأيت المسائل التي سألتم عنها، فوجدتها مسائل لا يستغني من له أقل اهتمام بدينه عن البحث عنها والوقوف عليها. ولقد أجدتم (5) السؤال، وأنا أسأل الله تعالى [أن] يوفق لإصابة الجواب عنه يا رب العالمين. ورأيتكم سألتم في بعض تلك المسائل بألفاظ شتى والمعنى واحد، فنصصت ألفاظكم فيها لتقفوا على ذلك إن شاء الله تعالى. 1 - سألتم - وقفنا الله وإياكم - عن أقرب ما يعتب به العبد المجرم ربه تعالى، وعن أفضل ما يستنزل به عفوه وفضله عز وجل، ويستدفع به سخطه وغضبه، وعن انفع ما يشتغل به من كثرت ذنوبه، وعن خير ما يسعى به المرء في تكفير صغائره وكبائره. فهذه أيها الصفوة الفاضلة أربع مسائل فرقتم بينها ومعناها واحد. فالجواب إن شاء الله تعالى عن ذلك. قال تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114) . وحدثنا الرجل الصالح [أبو] محمد [عبد الله] بن يوسف بن نامي، عن احمد بن فتح (6) ، عن عبد الوهاب بن عيسى،

_ (1) ص: لبعض. (2) أبو الخيار مسعود بن سليمان بن مفلت الشنتريني؛ قرطبي، أحد شيوخ ابن حزم، كان فقيها عالما زاهدا يميل إلى الاختيار والقول بالظاهر وتوفي سنة 426 (الجذوة: 38 والصلة: 583) . (3) ص: ومقعداً. (4) خلت الديار البيت: قال سفيان بن عيينة: كنت أخرج إلى المسجد فأتصفح الخلق، فإذا رأيت مشيخة وكهولاً جلست إليهم وأنا اليوم قد اكتنفني هؤلاء الصبيان، ثم أنشد البيت (انظر حلية الأولياء 7: 274، 290، 291) والبيت في البيان 3: 219، 336 منسوب لحارثة بن بدر، تمثل به سفيان، وقد جلس على مرقب عال وأصحاب الحديث على مدى البصر يكتبون. (5) ص: أخذتم. (6) أبو محمد عبد الله بن يوسف بن نامي، قرطبي روى عن أحمد بن فتح التاجر وغيره وكان شيخاً صالحاً، توفي سنة 435 (الجذوة: 429 والصلة: 262) ؛ وأحمد بن فتح يعرف بابن الرسان من أهل قرطبة توفي سنة 403 (الصلة: 31) وهذا هو أحد اسنادين يتكرران عند ابن حزم إلى مسلم (انظر مجلة معهد المخطوطات 4 - 2: 335) .

عن احمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، عن قتيبة بن سعيد وعلي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، أنبأنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1) : " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر "، فكان هذا الحديث موافقاً لقول الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} (النساء: 31) . فصح أن بأداء الفرائض واجتناب الكبائر - أعاذنا الله وإياكم منها - تحط السيئات التي هي دون الكبائر. فبقى أمر الكبائر، فوجب النظر فيها، فوجدنا الناس قد اختلفوا فيها (2) . فقالت طائفة: هي سبع، واحتجوا بحديث النبي عليه السلام (3) [236 ب] : " اجتنبوا السبع الموابقات، فذكر عليه السلام الشرك، والسحر، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " وروي عن ابن عباس أنه قال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. فوجب النظر فيما اختلفوا فيه من ذلك، ورده إلى القرآن وحديث النبي الصحيح عنه كما أمرنا ربنا عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء: 59) ، فلما فعلنا ذلك، وجدنا الحديث المذكور الذي احتج به من قال: إن الكبائر سبع، لا أكثر ليس فيه نص على أنه لا موبقات إلا ما ذكر فيه، ولا فيه ما يمنع من وجوب موبقات أخر إن جاء بذلك نص آخر. وأما لو لم يأتنا آخر في أن ليس ها هنا كبائر غير السبع المذكورة، لوجب علينا الاقتصار على ما في ذلك الحديث فقط. وإما وجدنا نصاً آخر بإثبات كبائر لم تذكر في هذا الحديث، فواجب علينا إضافتها إلى الموبقات المذكورة فيه،

_ (1) الصلوات الخمس الخ: الحديث في صحيح مسلم (طهارة 14، 15) وانظر مسند أحمد 2: 229، 359، 400. (2) فوجدنا الناس قد اختلفوا فيها الخ: أورد الطبري في تفسيره أقوالاً متعددة في عدد الكبائر، فمن أهل التأويل من قال: إن الكبائر هي التي عدت في سورة النساء من أولها حتى هذه الآية، وقال آخرون: الكبائر سبع وهي حسبما عدها علي: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والفرار يوم الزحف والتعرب بعد الهجرة. وقال عطاء: هي سبع: قتل النفس وأكل الربا واكل مال اليتيم ورمي ابن عباس: هي إلى السبعين أقرب. وقال: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، وقال: كل ما أوعد الله أهله عليه النار فكبيرة (راجع تفسير الطبري 8: 233 - 254) ؛ وسيعد المؤلف منها عدداً كثيراً. (3) اجتنبوا السبع: في البخاري (وصايا: 23، طب: 48، حدود 44) ومسلم (إيمان: 144) وأبي داود (وصايا: 10) والنسائي (وصايا: 12) .

لأنه ليس شيء من كلامه عليه السلام أولى بالقبول من بعض، بل الكل واجب قبوله، ولا تعارض في شيء منه، لأنه كله من عند الله عز وجل، قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 3) ، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه، قال الله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (النساء: 82) . فصح بهذا ما قلنا من ضم ما يوجد في النصوص ضماً واحداً، وقبوله كله وإضافته بعضه إلى بعض، فنظرنا في ذلك فوجدناه عليه السلام قد ادخل في الكبائر وبنص لفظه غير الذي ذكر في الحديث الذي ذكرنا آنفاً، فمنها: قول الزور، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والكذب عليه السلام، وتعريض المرء أبويه للسب بأن يسب آباء الناس. وذكر عليه السلام الوعيد الشديد بالنار على الكفر، وعلى كفر نعمة المحسن بالحق، وعلى النياحة في المآتم، وحلق الشعور فيها، وخرق الجيوب، والنميمة، وترك التحفظ من البول، وقطيعة الرحم، وعلى الخمر، وعلى تعذيب الحيوان بغير الذكاة لأكل ما يحل أكله، أو ما أبيح أكله منها، وعلى إسبال الإزار، على سبيل البخترة، وعلى المنان بما يفعل من الخير، وعلى المنفق سلعته بالحلف الكاذب، وعلى مانع فضل مائه من الشارب، وعلى الغلول، وعلى مبايعة الأئمة للدنيا فإن أعطوا منها وفي [237/أ] لهم وغن لم يعطوا منها لو يوف لهم، وعلى المقتطع بيمنه حق امرئ مسلم، وعلى الإمام الغاش لرعيته، وعلى من ادعى إلى غير أبيه، وعلى العبد الآبق، وعلى من غل، وعلى من ادعى ما ليس له، وعلى لاعن ما لا يستحق اللعن، وعلى بغض الأنصار، وعلى تارك الصلاة (1) ، وعلى تارك الزكاة، وعلى بغض علي. ووجدنا الوعيد الشديد في نص القرآن قد جاء على الزناة والمفسدين في الأرض بالحرابة، فصح لي أن كل ما يوعد الله به النار فهو من الكبائر (2) . فلما صح هذا كله بنص القرىن، إذ من اجتنبها أدخله الله مدخلاً كريماً، ونص الحديث أيضاً، وجب النظر في ذلك على المؤمن المشفق من عذاب ربه تعالى ومن نار هي أحر من نار هذه بسبعين ضعفاً، ومن الوقوف بأصعب الأحوال وأشد الأهوال واعظم الكرب واكثر الضيق وأكثر العرق

_ (1) ص: الأنصار. (2) فصح لي أن كل ما يوعد الله به النار الخ: هذا رأي قال به جماعة قبل ابن حزم منهم ابن عباس وسعيد بن جبير، انظر تفسير الطبري 8: 246 - 247.

في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، نسأل الله عز وجل أن يعيذنا وإياكم من شر ذلك اليوم، وأن يرزقنا فيه الفوز والنجاة. فوالله أيها الأحبة إن أحدنا ليشتد روعه ويخفق قلبه من وعيد آدمي ضعيف مثله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يقدر أن يتمادى شهراً واحداً في عذاب من عاداه وكاشفه بأكثر من الحبس، فكيف بذلك اليوم المذكور، وبعذاب أهونه الوقوف في حال دنو الشمس من الرءوس، وبلوغ العرق إلى أكثر مساحة الأجسام، في يوم طوله خمسون (1) ألف عام، ثم بعد ذلك يرى مصيره إما إلى جنة أو إلى نار فأين المفر إلا إلى الله وحده لا شريك له فوجدناه تعالى قال: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} (الأنبياء: 47) ، وقال تعالى: {فأما من ثقلت موازينه* فهو في عيشة راضية* وأما من خفت موازينه* فأمه هاوية* وما أدراك ماهيه* نار حامية} (القارعة: 6 - 11) ، فعلمنا بهذا وبقوله تعال: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114) ، أن من استوت حسناته وسيئاته وفضلت له حسنة واحدة لم ير ناراً فيا لها من سرور ما أجله، وهذا هو معنى قوله عليه السلام (2) : " إن بغياً سقت كلباً فغفر الله لها، وإن رجلاً أماط غصن شوك عن الطريق فأدخله الله الجنة " وذلك أن هذين فضل لهما هذان العملان بعد موازنتهما سيئاتهما بحسناتهما، فخلصا من النار [237 ب] ودخلا الجنة. فوجب علينا إذ قد جاءتنا عهود ربنا بهذا كله، أن نطلب الأعمال الماحية أو الموازنة للسيئات، فيثابر المرء منها على ما وفقه الله تعالى للمثابرة عليه. فوجدناه، عليه السلام، قد سئل عن أحب الأعمال إلى الله تعالى، فذكر الصلاة لميقاتها، والجهاد، وكثرة السجود، وذكر عليه السلام انه (3) : " لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل أوتي مالاً فسلطه الله على هلكته في الحق "، وذكر لعمر، رضي الله عنه، تحبيس أصل ماله وتسبيل ثمرته، وذكر عليه السلام أنه (4) " لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه طائر أو سبع أو إنسان إلا كان له

_ (1) ص: خمسين. (2) الحديث في صحيح مسلم (سلام: 154، 155) ومسند أحمد 2: 507. (3) هو في البخاري (علم: 15؛ زكاة: 5؛ أحكام: 3؛ اعتصام: 13) ومسلم (مسافرين: 268) وانظر مسند أحمد 1: 385، 432) . (4) هو في البخاري (أدب: 27؛ حرث: 1) وفي مسلم (مسافاة: 7 - 10، 12) وانظر مسند أحمد 3: 147، 192.

صدقة ". وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء وجب إتحافكم به، فهو من أفضل الهدايا، وذلك ما حدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف بن نامي بالإسناد المتقدم إلى مسلم، أنبأنا عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، ثنا محمد بن ميمون ثنا واصل الأحدب مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود الدؤلي، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (1) : " يصبح على كل سلامي من احكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، ويجزئ من كل ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ". وحديث رويناه من طريق مالك عن سمي مولى أبي بكر (2) ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: أن النبي عليه السلام قال (3) : " من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في كل يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما أتى به إلا من عمل (4) أكثر من ذلك ". وصح عنه عليه السلام أنه قال لأصحابه رضي الله عنهم (5) : " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة قالوا: وكيف يا رسول الله قال: إن " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن " وانه عليه السلام ذكر لهم سبحان الله والحمد لله والله أكبر، عدداً يبلغ مائتين وخمسين مرة لكل واحدة منهن عشر حسنات فذلك ألفان وخمسمائة حسنة كل يوم، وأنه عليه السلام قال (6) : فأيكم يعمل في يومه ألفين وخمسمائة سيئة أو كلاماً هذا معناه؛ وأمر عليه السلام الفقراء إذ شكوا إليه [أن] الأغنياء يعتقون وتصدقون، وهم لا يقدرون على ذلك [238/أ] فأمرهم عليه السلام أن يقولوا في دبر كل صلاة:

_ (1) هو في البخاري (صلح: 1؛ جهاد: 72، 128) ومسلم (مسافرين: 84؛ زكاة: 56؛ أدب: 160) ومسند أحمد 2: 316، 328. (2) هو سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، لمالك عنه ثلاثة عشر حديثاً أحدها مرسل، وفي حديث منها ثلاثة فتصير خمسة عشر حديثاً؛ انظر تجريد التمهيد: 68، 70. (3) هو في البخاري (بدء الخلق: 11؛ دعوات: 64) ومسلم (ذكر: 27) ومسند أحمد 2: 302، 355. (4) بأفضل مما جاء به إلا أحداً عمل (تجريد التمهيد: 69، 70) . (5) انظر الترمذي (ثواب القرآن: 10) وراموز الأحاديث: 172. (6) الحديث في ابن ماجة (إقامة: 32) والترمذي (دعوات: 25) ومسند أحمد 2: 161) .

الله اكبر أربعاً وثلاثين مرة، وسبحان الله ثلاثاً وثلاثين مرة، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين مرة فتلك مائة. وقد نص الله أن الحسنة بعشرة أمثالها، فعلى هذه للمائة المذكورة ألف حسنة (1) . وحض النبي على قول لا حول ولا قوة إلا بالله، وأخبر أنها من كنوز الجنة (2) . وحض عليه السلام على الاستغفار، وأخبر عليه السلام أنه ربما استغفر في اليوم مائة مرة. فهذه وصايا نبيكم الذي بنا رءوفاً رحيماً حريصاً على صلاحنا، الذي لا ينطق عن الهوى عن هو إلا وحي يوحى، فعليكم بها، ودعوا أقوال البطالين الكذابين المفسدين في الأرض القائلين إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة البطالين، كذبوا وأفكوا، بل هم البطالون المبطلون حقاً، العائجون عن سبيل ربهم وعن صراط نبيهم المستقيم، بل الاستغفار تركه علامة الفاسقين المصرين المستخفين، نعوذ بالله من مثل سيرتهم. فهذه وفقنا الله وإياكم حظوظ رفيعة مع سهولة مأخذها، وقرب متناولها، لا تقطع بأحد منكم عن عمله، ولا تقطع جسمه، ولا ترزؤه كلفة، إذ أحصاها عالم الغيب والشهادة عز وجل اجتمع بها ما يرجى تثقيل ميزان الحسنات، فتحبط بذلك السيئات، فلعل النجاة تحصل. ولسنا نقول هذا على الاقتصار على ذلك دون الاستكثار من سائر أعمال الخير، ومن تلاوة القرآن ما أمكن، فإنا روينا عن ابن عباس رضي الله عنه، أو عن أنس بن مالك - الشك مني - انه قال (3) : إنكم لتعلمون أعمالاً هي أدق في عيونكم من الشعر، كنا نعهدها على عهد رسول الله من الموبقات، فاعلموا أيها الإخوة أن الأمر والله جد، وان المنتشب صعب، وأن التخليص عسير إلا بتوفيق الله عز وجل برحمته لعمل الخير، بقبول اليسير منا، وتجاوزه عن كثير ذنوبنا، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، ولكن الله تعالى قال وقوله الحق: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى* وأن سعيه سوف يرى* ثم يجزاه الجزاء الأوفى* وأن إلى ربك المنتهى} (سورة النجم: 39 - 42) و {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} (سورة النمل: 90) ، وقال تعالى {فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون} (سورة يس: 54) .

_ (1) راجع البخاري (أذان: 155) والترمذي (مواقيت: 185) . (2) انظر مسند أحمد 5: 156. (3) إنكم لتعلمون أعمالاً إلخ: ورد هذا القول في كتاب الزهد لابن حنبل: 195 منسوباً إلى أبي سعيد الخدري.

فيستحب للمسلم الذي يطلب النجاة أن يأتي بما لعله أن يوازي ذنوبه ويوازن سيئاته، وأن يواظب على قراءة القرآن فيختمه في كل شهر مرة، فإن ختمه في أقل فحسن ما بين ما ذكرنا إلى أن يختمه في ثلاث لا أقل، ولا يسع أحداً أن يختمه في أقل من ذلك، ويواظب مع ذلك [238ب] على قراءة قل هو الله أحد، ولو في كل ركعة من صلاته مع أم القرآن وسورة أخرى، فإنا روينا أن رجلاً من الأنصار كان يفعل ذلك، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فعله ذلك فقال: إني أحبها، فقال عليه السلام: عن حبك إياها أدخلك الجنة، أو كما قال. وإن لم يفعل فليقرأها في كل يوم مرة، فإنها تعدل في الآخر ثلث القرآن، وهذا الآخر لا يحقره إلا مخذول، فإن كثر منها فحظه أصاب؛ وليكثر من الصلاة على النبي متى ذكر، فإنا روينا عنه انه قال (1) : من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً. أفيزهد أحدكم عند الأكل والشرب وعند المسرة ترده، [إلا] محروم. وليكثر من حمد الله عز وجل عند الأكل والشرب وعند المسرة ترده، فقد روينا عن النبي عليه السلام في ذلك كلاماً معناه أن العبد لا يزال يفعل ذلك حتى يرضى الله عنه، أو كلاماً هذا معناه، وليكثر من قول لا إله إلا الله، فإنها ألفاظ تتم بحركة اللسان دون حركة الشفتين فلا يشعر بذلك الجليس. وليواظب على صلاة الفرض في الجماعة، فإنه صح عن النبي عليه الصلاة أن صلاة الصبح في الجماعة تعدل قيام ليلة، وصلاة عشاء الآخرة في الجماعة تعدل قيام نصف ليلة (2) ، فأيكم أيها الأخوة يطيق القيام ما بين طرفي ليلة لا ينام فيها أو نصف ليلة كذلك فقد حصل له هذا الأجر تاماً بأهون سعي وأيسر شيء. وليكثر من ألفاظ رويناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهي انه دخل على إحدى أمهات المؤمنين وهي في مصلاها تذكر الله عز وجل، فقال لها رسول الله: لو قلت كلمات ثلاثاً فوزنت (3) بما قلت لرجحتهن - أو قال: لعدلتهن (4) - وهي: " سبحان الله عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته "، فنحن نستجب أن يقولها العبد ثلاثاً كل يوم، وليواظب جهده، وقد صح أن العبد يحاسب

_ (1) هو في مسند أحمد 3: 102، 261؛ 2: 172، 187. (2) انظر سنن أبي داود (صلاة: 48) ومسلم (مساجد: 247) ومسند احمد 2: 485. (3) ص: لوزنت (ولعلها: لو وزنت) . (4) انظر مسند أحمد 1: 258.

يوم القيامة، فإن وجد في فرائض صلاته نقص جبر من تطوع عن كان له، وكذلك في صيامه وزكاته وسائر أعماله، ورويناه من طريق تميم الداري عن رسول الله، ويبين صحة هذا قوله تعالى: {إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} (آل عمران: 195) ، ولا يلتفت إلى قول من يصد عن سبيل الله: " لا صلاة لمن لا يتم الفرض "، فهذا قول لم يأت به نص ولا إجماع، وإنما هذا فيمن ضيع الفرض في آخر وقته أو حلول وقته الذي لا فسحة فيه واشتغل بالنفل [239/أ] كإنسان لم يبق عليه من صلاة الفرض إلا مقدار ما يصليها فقط، فترك الفرض واشتغل بالتطوع، أو وجد الصلاة المنكوبة تقام أو تصلى فتركها وأقبل على ما ليس بفرض من الصلاة، كمثل ما يأمر به بعض الناس: من وجد الإمام في الركعة الأولى من صلاة الصبح أن [يركع] ركعتي الفجر، فهذا هو الخطأ، فهذا لا يقبل منه، لأنه لم يصل الصلاة التي أمر بها، ومن لم يفعل ما أمر به وفعل غير ما أمر به لم يقبل منه: قال عليه السلام (1) : " من عمل عملاً ليس عليه امرنا فهو رد " وكإنسان صام رمضان في الحضر تطوعاً لا بنية الفرض، فهذا لا يقبل منه. وأما من عليه من الفرض أو سلفت عليه فروض قد عطلها، فيستحب له التطوع ما أمكنه، كما روينا في الحديث المأثور آنفاً من جبر الفرض بالتطوع. واعلموا - رحمنا الله وإياكم - أن الله عز وجل ابتدأنا بمواهب خمس جليلة، لا يهلك على الله بعدهن إلا هالك، وهي انه تعالى غفر الصغائر باجتناب الكبائر فلو أن امرءاً وافى عرصة القيامة بملء الأرض صغائر إلا أنه لم يأت كبيرة أو أتاها ثم تاب منها، لما طالبه الله بشيء منها، وقال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} (النساء: 31) . والثانية: من اكثر من الكبائر، ثم منحه الله التوبة النصوح على حقها وشروطها قبل موته، فقد سقط عنه جميعها، ولا يؤاخذه ربه تعالى بشيء منها، وهذا إجماع من الأمة. والثالثة: أن من عمل من الكبائر ما شاء الله، ثم مات مصراً عليها، ثم استوت حسناته وسيئاته لم يفضل له سيئة، مغفور له، غير مؤاخذ بشيء مما يفعل، قال الله

_ (1) هو في البخاري (اعتصام: 20؛ وبيوع: 60؛ وصلح: 5) ومسلم (أقضية: 17، 18) وابن ماجه (مقدمة: 2) وانظر الجامع الصغير 2: 176) .

تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114) ، وقال تعال: {فأما من ثقلت موازينه} (القارعة: 6) . والرابعة: انه تعالى جعل السيئة بمثلها والحسنة بعشر امثالها، ويضاعف الله تعالى لمن شاء. والخامسة: انه تعالى جعل الابتداء على من أحاطت به خطيئته، وغلب شره على خيره، بالعذاب والعقاب، ثم نقله عنه بالشفاعة إلى الجنة فخلده فيها، ولم يجعل (1) ابتداء جزائه على حسناته بالجنة، ثم ينقله منها إلى النار. فهل بعد ذلك الفضل منزلة نسأل الله أن لا يدخلنا في عداد من يعذبه بمنه. فهذا أصلحنا الله وإياكم جواب [239 ب] ما سألتم عنه مما يكفر الذنوب الكبائر، وفيما يأتي بعد أيضاً من الجواب في سائر ما سألتم عنه، أشياء تستضيف إلى ما قد ذكرنا بحول الله تعالى وقوته. 2 - وسألتم عن العمل الذي إذا قطع المرء به باقي عمره رجوت له الفوز عند الله عز وجل، وأيقنت له به، وعن السيرة التي أختارها وأحسد عليها من أعطيها، من أبواب التخلص من سخط الله في القول والعمل. وهاتان مسالتان وإن كنتم فرقتم بينهما فهي واحدة فأقول - وبالله [تعالى] التوفيق -: إني قد أدمت البحث عما سألتم عنه مدى دهر طويل، وفتشت عنه القرآن والحديث الصحيح، فلاح لي بعد طلب كثير، وتحصل لي بعد طلب شديد ما أخاطبكم به، أسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لطاعته آمين. وقد كنت جمعت في هذا فصلاً نسخته لكم على هيئته، وهو أن فتشت على مراتب الحقائق في دار القرار في الآخرة - وإما الدنيا فمحل مبيت بؤسها منقض (2) ، وسورها منسي كأن ذلك لم يكن - فوجدتها عشر مراتب، منها ثلاث هي مراتب الملك، والعلو، والسبق. فأولها: مرتبة عالم يعلم الناس دينهم، فإن كل من عمل بتعليمه أو علم شيئاً مما كان هو السبب في علمه، فذلك العالم والمتعلم شريك له في الأجر إلى يوم القيامة على آباد الدهور، فيا لها منزلة ما أرفعها، أن يكون المرء أشلاء متمزعة في قبره أو مشتغلاً

_ (1) ص: يجل. (2) ص: منقضى.

في أمور دنياه وصحف حسناته متزايدة، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب ومواترة عليه من حيث لم يقدر. ويؤيد هذا قوله عليه السلام (1) : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين "، وقوله لعلي (2) : " فوالله يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك من حمر النعم "، وقوله عليه السلام (3) : " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة، فذكر عليه السلام ولداً صالحاً يدعو له، وصدقة جارية، وعلماً ينتفع به " قوله (4) : " من عمل في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب له مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء "، ويؤيد هذا قول الله عز وجل: {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} (النحل: 25) ، وقوله: {وليحملن أثقالهم} (العنكبوت: 13) فأسأل الله أيها الاخوة أن يجعلنا وإياكم من أهل الصفة الأولى، وأن يعيذنا من الثانية. فبشروا من سن القبالات والمكوس ووجوه الظلم بأخزى الجزاء واعظم البوار في الآخرة، إذ سيئاتهم تتزايد على مرور الأيام والليالي، والبلايا تترادف عليهم وهم في قبورهم؛ ولقد كان أحظى (5) لهم لو لم يكونوا خلقوا من الإنس. واعلموا [240/أ] انه لولا العلماء الذين ينقلون العلم ويعلمونه الناس جيلاً بعد جيل لهلك الإسلام جملة، فتدبروا هذا وقفوا عنده وتفكروا فيه نعماً، ولذلك سموا ورثة الانبياء، فهذه مرتبة. والثانية: حكم عدل، فإنه شريك لرعيته في كل عمل خير عملوه في ظل عدله وأمن سلطانه بالحق لا بالعدوان، وله مثل أجر كل من عمل سنة حسنة سنها. فيا لها مرتبة ما أسناها أن يكون ساهياً لاهياً وتكسب له الحسنات، وأين هذه الصفة وأما الغاش لرعيته والمداهن في الحق، فهو ضد ما ذكرنا، ويؤيد هذا قوله عليه السلام (6) : " وغن المقسطين فيما ولوا على منابر من نور على يمين الرحمن "، أو كلاماً هذا معناه؛

_ (1) من يرد الله الخ: ورد في البخاري (علم: 10) ومسلم (إمارة: 175؛ زكاة: 98) ومسند أحمد 1: 306؛ 2: 134؛ 4: 94 ومواطن أخرى. (2) انظره في سنن أبي داود (علم: 10) . (3) إذا مات الإنسان الخ في الجامع الصغير 1: 35. (4) انظره في مسلم (زكاة: 69) ومسند أحمد 4: 357، 359، 361) . (5) ص: أحضا. (6) الحديث في صحيح مسلم (امارة: 18؛ قضاة: 1) ومسند أحمد 2: 159. 160. 203 وانظر الجامع الصغير 1: 85) .

فهذه ثانية. وأما الثالثة: مجاهد في سبيل الله عز وجل، فإنه شريك لكل من يحميه بسيفه في كل عمل خير يعمله، وإن بعدت داره في أقطار البلاد، وله مثل أجر من عمل شيئاً من الخير في كل بلد أعان على فتحه بقتال أو حصر (1) ، وله مثل أجر كل من دخل في الإسلام بسببه أو بوجه له فيه أثر إلى يوم القيامة. فيا لها حظوة ما أجلها أن يكون لعله في بعض غفلاته ونحن نصوم له ونصلي. واعلموا أيها الاخوة الأصفياء أن هذه الثلاث سبق [إليها] الصحابة رضي الله عنهم، لأنهم كانوا السبب في بلوغ الإسلام إلينا وفي تعلمنا العلم، وفي الحكم بالعدل فيما ولوا، وفي فتوح البلاد شرقاً وغرباً، فهم شركاؤنا وشركاء من يأتي بعدنا إلى يوم القيامة، وفي كل خير يعمل به مما كانوا السبب في تعليمه أو بسطه أو فتحه من الأرض. واعلموا أن لولا المجاهدون (2) لهلك الدين ولكنا ذمة لأهل الكفر، فتدبروا هذا فإنه أمر عظيم، وإنما هذا كله إذا صفت النيات وكانت لله، فقد سئل النبي عن عمل المجاهد وما يدانيه، فأخبر عليه السلام انه لا يعدله إلا أمر لا يستطاع، فسألوه عنه فقال كلاماً معناه (3) : أيقدر أحدكم أن يدخل مصلاه إذا خرج المجاهد فلا يفتر من صلاة وصيام فقالوا: يا رسول الله، لا نطيق ذلك. فاخبرهم أن هذا مثل المجاهد. وأخبرهم أيضاً عليه السلام (4) : أن روث وبولها ومشيها وشربها الماء، وإن لم يرد سقيها، كل ذلك له حسنات. وسئل عن أفضل الأعمال، فأخبر بالصلاة لوقتها وبر الوالدين والجهاد (5) . وسئل عليه السلام عن الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل ليرى مكانه فقال (6) : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو شهيد " أو كما قال؛ وأخبر عليه السلام: أن الأعمال بالنيات. فهذه الثلاث المراتب هي مراتب السبق التي من أمكنه شيء منها فليجهد نفسه،

_ (1) ص: حصور. (2) ص: المجاهدين. (3) جاء في مسند أحمد (4: 272) مثل المجاهدين في سبيل الله كمثل الصائم نهاره والنائم ليله حتى يرجع حتى يرجع. (4) انظر صحيح البخاري (تفسير سورة 99: 1؛ مسافاة: 12؛ جهاد: 48، اعتصام: 24) . (5) مسند أحمد 1: 418. (6) انظر سنن أبي داود (جهاد: 24) والنسائي (جهاد: 21) .

وما توفيقي إلا بالله عز وجل. ومن احب قوماً فهو معهم، فقد قال رجل: يا رسول الله [240 ب] متى الساعة فقال له عليه السلام: ماذا أعددت لها فاستكان الرجل وقال: يا رسول الله، ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله. فقال له (1) : أنت مع من أحببت؛ أو كما قال عليه السلام. وبعد هذه المرتبة مرتبة رابعة، هي مرتبة الحظوة والقربة، وهي حالة إنسان مسلم فتح الله له باباً من أبواب البر مضافاً إلى أداء فرائضه، إما في كثرة الصيام أو كثرة صدقة، أو كثرة صلاة، أو كثرة حج وعمرة، وما أشبه ذلك، فهذا له نوافل عظيمة وخير كثير، إلا أنه ليس له إلا ما عمل، وصحيفته تطوى بموته، حاشا من حبس أرضاً أو أصلاً تجري صدقته بعده، كما اختار النبي لعمر رضي الله عنه إذ شاوره فيما يعمل في أرضه بخيبر، فإن هذا أيضاً تلحقه الحسنات بعد موته ما دامت الصدقة. ولقد سمعت أبا علي الحسين بن سلمون المسيلي (2) يقول كلاماً استحسنته، وهو انه قال لي يوماً: من كثرت ذنوبه فعليه بكسب الضياع. ولعمري لقد قال الحق، فإن الضيعة إذا كسبت من حل ومن ارض مباح اكتسابها، فقد نص النبي أن كل من أكل من غرس مسلم أو من زرعه فهو له صدقة (3) . وإذا اكتسبت من غير وجه مرضي، فهي غل وثقل على من اكتسبها. فاعتمدوا على ما نص (4) لكم نبيكم عليه السلام، ودعوا كلام الفساق من (5) أهل الجهل الذين يفسدون في الأرض أكثر مما يصلحون. فيحكون عن رجل أنه وجد ابنته قد غرست دالة فقلعها وقال: إنا لم نبعث لغرس الدوالي. فاعلموا أن هذا الرجل جاهل سخيف العقل مخالف لرسول الله، مهلك للحرث، مفسد في الأرض. فهذه مرتبة رابعة، وهي دون المراتب الثلاث الأول.

_ (1) أنت مع من أحببت: في البخاري (فضائل الصحابة: 6؛ أدب: 95، 96) ومسند أحمد 5: 156. (2) الحسين بن سلمون المسيلي: كان أحد الفقهاء المشاورين في عهد سيلمان بن حكم الذين أمر بتأخيرهم علي بن حمود، ثم أعادهم إلى الشورى وتوفي 431 (انظر التكملة رقم: 226 والصلة: 145) وفي ص: الحسن. (3) انظر البخاري (أدب: 27؛ حرث: 1) ومسلم (مسافاة: 7 - 10، 12) ومسند أحمد 3: 147، 192؛ 6: 420. (4) ص: حض ما حض. (5) ص: عن.

ثم مرتبة خامسة: وهي مرتبة الفوز والنجاة، وهي حالة إنسان مسلم يؤدي الفرائض ويجتنب الكبائر ويقتصر على ذلك، فإن فعل هذا فمضمون له على الله تعالى الغفران بجميع سيئاته ودخول الجنة والنجاة من النار؛ قال الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر مات تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} (النساء: 31) ، وقد نص النبي عليه السلام في الذي سأله عن فرائض الإسلام فأخبره بها فقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص، قال عليه السلام (1) : أفلح عن صدق، ودخل الجنة إن صدق. فهذه المراتب الخمس هي مراتب الزلفى والقربى التي لا خوف على أهلها ولا هم يحزنون. ثم بعدها مرتبتان [241/أ] وهما مرتبتا السلامة مع الغرر (2) ، وعاقبتهما محمودة، إلا أن ابتداءهما مذموم مخوف هائل، وهما حال إنسان مسلم عمل خيراً كثيراً وشراً كثيراً، وأدى الفرائض وارتكب الكبائر، ثم رزقه الله التوبة قبل موته. والثانية حال امرئ مسلم عمل حسنات وكبائر ومات مصراً، إلا أن حسناته أكثر من سيئاته. وهذان غررا ولكنهما فائزان ناجيان بضمان الله عز وجل لهما إذ يقول: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} (طه: 82) ، ولقوله {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية} (القارعة: 6) ولقوله تعالى {عن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114) ، ولا خلاف بين أحد من أهل السنة فيما قلنا من هذا. ثم مرتبة ثامنة وهي مرتبة أهل الأعراف، وهي مرتبة خوف شديد وهول عظيم، إلا أن العاقبة إلى سلامة، وهي (3) حال امرئ مسلم تساوت حسناته وكبائره، فلم تفضل له حسنة يستحق بها الرحمة، ولا فضلت له سيئة يستحق [بها العذاب] . وقد وصف الله صفة هؤلاء في الأعراف، فقال تعالى بعد أن ذكر مخاطبة أهل الجنة لأهل النار {فهل وجدتم ما وعد ربكم قالوا نعم} (الأعراف: 44) ثم قال بعد آية {وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون* وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} (الأعراف: 46 - 47) .

_ (1) انظر البخاري (إيمان: 3) ومسلم (8، 9) والنسائي (صلاة: 4) . (2) ص: الغرور. (3) ص: إن.

فهذه الوقفة لا يعدل همها والإشفاق منها سرور الدنيا كله، ولكنهم ناجون من النار داخلون الجنة، لأنه لا دار سواهما، فمن نجا من النار فلابد له من الجنة، وليتنا نكون من هذه الصفة، فو الله إنها لمن أبعد (1) آمالي التي لا أدري كيف التوصل إليها إلا برحمة الله، وأما بعمل أعلمه مني فلا. ثم مرتبة تاسعة وهي مرتبة نشبة (2) ومحنة وبلية وورطة ومصيبة وداهية، نعوذ بالله منها، وإن كانت العاقبة إلى عفو وإقالة وخير، وهي حال امرئ مسلم خفت موازينه ورجحت كبائره على حسناته، فهؤلاء الذين وصفوا في الأحاديث الصحاح أن منهم من تأخذه النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من يبقى فيها ما شاء الله من الدهور، كما وصف النبي عليه السلام في مانع الزكاة (3) انه يبقى في العذاب الموصوف في الحديث يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى مصيره إلى جنة أو إلى نار، فيا لها بلية ما اعظمها؛ وكما نص عليه السلام انه سأل أصحابه (4) : " من المفلس عندك " قالوا: يا رسول الله، الذي لا دينار له ولا درهم، فاخبرهم عليه السلام [241ب] أن المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة وله صيام وصلاة وصدقة فيوجد قد شتم هذا، وقتل هذا وظلم هذا، وأخذ مال هذا، فينتصفون من حسناته حتى إذا لم يبق له حسنة أخذ من سيئات هؤلاء الذين ظلم فرميت عليه، ثم قذف به في النار. وهذا معنى قوله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} (العنكبوت: 13) ، فيبقى هؤلاء في النار على قدر ما أسلفوا، حتى إذا بقوا كما (5) جاء في الحديث الصحيح، جاءت الشفاعة التي ادخرها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وجاءت الرحمة التي ادخرها الله لذلك اليوم الفظيع والموقف الشنيع وأخرجوا كلهم من النار فوجاً بعد فوج بعد ما امتحشوا أو صاروا (6) حمماً. والله أيها الاخوة لولا أن عذاب الله لا يهون منه شيء ولا يتمناه عاقل لتمنيت أن أكون من هؤلاء خوفاً من خاتمة سوء، وأعوذ بالله مما يوجب الخلود ويقتضي جوابه تعالى إذ يقول: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} (المؤمنون: 108) ولكن يمنعني من

_ (1) ص: بعد. (2) ص: تشبه. (3) انظر إثم مانع الزكاة في البخاري (زكاة: 3) وابن ماجه (زكاة: 2) والترمذي (زكاة: 1) . (4) انظر صحيح مسلم (بر: 60) ومسند أحمد 2: 303، 334، 372. (5) ص: كذا. (6) ص: وصاروا.

ذلك الرجاء في عظيم عفوه عز وجل، وأن النفس لا تساعد على أن تعد شيئاً من عذاب الله خفيفاً ولو نظرة إلى النار، أعاذنا الله منها، فوالله إن أحدنا ليستشنع موقف [جنا] يته أو موقف قصاصه بين يدي مخلوق ضعيف، فكيف بين يدي الخالق الذي ليس كمثله شيء، والذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء فكيف بنار أشد من نارنا بسبعين ضعفاً فتأملوا ذلك عافانا الله وإياكم منها في فعل الصواعق في صم الهضاب وشم الجبال، فإنها تبلغ في التأثير فيها في ساعة ما لا تبلغه نارنا لو وقدناها هنالك عاماً مجرماً، فكيف بجلود ضعيفة ونفوس ألمة، هذا على أن الحسن البصري رضي الله عنه ذكر يوماً موقف رجل يخرج من النار بعد ألف سنة فقال (1) : يا ليتني ذلك الرجل! وغنما تمنى الحسن هذا خوفاً من خاتمة شقاء، وأن يموت على غير الإسلام فيستحق الخلود في النار في الأبد. فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يدعو الله أن يميته على الإسلام، وكان الأسود بن يزيد (2) يقول: ما حسدت أحداً حسدي مؤمناً قد دلي في قره! وإنما تمنى الأسود ذلك لأنه إذا مات مسلماً أمن الكفر. فهذه المرتبة أيها الأخوة مرتبة نعوذ بالله منها، فقد صح عن النبي عليه السلام أن المرء المنعم في الدنيا يغمس في النار غمسة ثم يقال (3) : أرأيت خيراً قط فيقول: لا ما رأيت خيراً قط! هذا في غمسة، فكيف بمن يبقى خمسين ألف سنة يجدد له فيها أضعاف العذاب على انه قد صح عن النبي عليه السلام [242/أ] من طريق أبي سعيد الخدري (4) أن آخر أهل النار دخولاً الجنة وخروجاً من النار، وأقل أهل الجنة منزلة، رجل أمره الله أن يتمنى فيتمنى مثل ملك ملك كان يعرفه في الدنيا فيعطيه الله مثل الدنيا كلها عشر مرات، وهذا حديث صحيح، فلا يدخلنكم فيه داخلة لبراهين يطول فيها الكلام ولصغر قدر الأرض وقلته في الإضافة إلى قدر الآخرة وسعتها، يعلم ذلك من علم هيئة العالم وتفاهة الأرض في عظيم السموات. ولعمري إن هذه فضيلة عظيمة، لا سيما إذا أفكرنا أنها خالدة لا تنقضي أبداً. ولكن إذا أفكرنا فيما

_ (1) انظر الحسن البصري لابن الجوزي: 16. (2) الأسود بن يزيد توفي في الكوفة سنة 75 (انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 6: 70 - 75، وكتاب الزهد: 347 وتهذيب التهذيب 1: 342) . (3) انظر ابن ماجه (زهد: 38) . (4) إن آخر أهل النار الخ: في البخاري (رقاق: 51) ومسلم (إيمان: 308، 311) والترمذي (جنة: 17) .

قبلها من طول المكث بين أطباق النيران، يتجرعون الزقوم ويشربون الغسلين، ولهم مقامع من حديد، والأغلال في أعناقهم، والملائكة يسحبونهم على وجوههم، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب، لم يف بذلك سرور وإن جل، ونٍال الله أن يجرينا وإياكم من هذه المرتبة، آمين. فلهؤلاء ذخرت الشفاعة وفي جملتهم يدخل من لم تكن له وسلية، ولا عمل خيراً قط غير اعتقاد الإسلام والنطق به، ولا استكف عن شر قط حاشا الكفر، على قدر ما يفضل من السيئات على الحسنات يكون العذاب، فأقله غمسة كما جاء في الحديث المذكور منه آنفاً، ولم يلج منه عضو في النار كما جاء في حديث جواز الصراط، وأكثره الذي ذكرنا أنه آخر أهل الإسلام خروجاً من النار في الحديث المذكور آنفاً. وأما المرتبة العاشرة فهي مرتبة السحق، والبعد، والهلكة الأبدية، وهي مرتبة من مات كافراً، فهو مخلد في نار جهنم لا يخفف عنهم من عذابها، ولا يقضي عليهم فيموتوا، خالدين فيها أبدا، سواء صبروا أم جزعوا، ما لهم من محيص. اللهم عياذك، عياذك، عياذك من ذلك، وقد هان كل ما تقدم ذكره عند هذه: " وإنما نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي " (1) ، ثبتنا الله وإياكم على الإسلام والإيمان وابتاع محمد عليه السلام. فهذا جواب ما سألتم عنه من السيرة المختارة التي أحسد عليها صاحبها، وأتمنى أعاليها، قد لخصتها وفسرتها، ثم أعيدها لكم مختصرة، ليكون أقرب للذكر وأسهل للحفظ إن شاء الله تعالى فأقول، وبالله التوفيق: إن أجل سير المسلم ثلاثة: طلب العلم، ونشره، والحكم بالعدل لمن ولي شيئاً من أمور المسلمين والجهاد - كل هذا مع أداء الفرائض واجتناب المحارم. وبعد هذا المداومة على الوتر، وركعتي الفجر والضحى، وركعتين في الليل وقبل الوتر [242 ب] في منزله، وركعتين متى دخل المسجد، فإن زاد فليصل الضحى ثماني ركعات، وليصل اثنتي عشرة (2) ركعة في آخر الليل في منزله قبل الوتر أو في أي وقت أمكنه من الليل، ولا أحب له الزيادة في الضحى على ما ذكرت، لكن من أراد الزيادة فليطول القراءة والركوع والسجود ما شاء، فإني أخاف عليه ما خافه مالك بن أنس إذ سأله سائل عن رجل أحرم قبل

_ (1) نوكل بالأدنى إلخ: عجز بيت من الشعر لأبي خراش الهذلي وصدره: " على أنها تعفو الكلام وإنما " (انظر ديوان الهذليين 1: 158) . (2) ص: اثنا عشر.

الميقات، فكره ذلك وقال: لعله يتوهم أنه يأتي بأحسن مما (1) أتى به نبيه عليه السلام فيهلك! وأنا لكل أحد أن يزيد على عدد ما كان ينتفل به نبيه محمد لوجهين: أحدهما قول الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) ، والثاني: أن يخطر الشيطان في قلبه فيوسوس انه قد فعل من الخير أكثر مما كان محمد يفعله، فيهلك في الأبد ويحبط عمله، ويجد صلاته وصيامه في ميزان سيئاته، فيا لها مصيبة ما اعظمها، أن يحصل في جملة من قال الله تعالى: {وجوه يومئذ خاشعة* عاملة ناصية* تصلى ناراً حامية} (الغاشية: 2 - 4) فلا دنيا ولا آخرة، على أن مداواة هذا البلاء لمن امتحن به سهلة، وهي أننا نقول له: ليعلم العاقل أن تكبيرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم اعظم عند الله واجل من كل عمل خير يعمله جميعنا، لو عمر العالم كله. فإن أحب المزيد كما ذكرنا فليركع أربع ركعات في منزله قبل الظهر، وركعتين قبل العصر، وركعتين بعد العصر، وركعتين بعد المغرب، وكل هذه النوافل فهي في البيوت أفضل منها في المسجد، وركعتين بعد غروب الشمس وقبل صلاة المغرب، إما في المنزل، وإما في المسجد، وست ركعات بعد صلاة الجمعة، ويستحب للمرء أن لا يقصر من الصيام عن صيام يوم عرفة ويوم عاشور التاسع والعاشر، وستة أيام من شوال مضافة إلى رمضان، لا يحول بينه وبينها إلا يوم الفطر وحده، فقد صح عن النبي عليه السلام أن ذلك يعدل صيام الدهر، وان صيام يوم عرفة وعاشورا يكفر عامين وعاماً، وهذا أمر لا يزهد فيه إلا محروم. فإن أحب المزيد فليصم الاثنين والخميس، فإن أحب المزيد فليصم يوماً ويفطر يوماً، فإن زاد على ما ذكرنا فهو آثم عاص. سئل رسول الله عن صيام الدهر فقال: لا صام ولا أفطر. وقد روي عنه عليه السلام ما هو أشد من هذا، وصح انه سئل عن أفضل من صيام يوم وإفطار يوم قال: " لا أفضل من ذلك " (2) ، فمن [لم] ينته إلى ما حده له نبيه فلا عفا الله عنه. والحج والعمرة والتطوع كذلك حسن جداً وأجر عظيم، لا جزاء له إلا الجنة بنص كلامه عليه السلام، والصدقة بما تيسر، فإن الإكثار منها فيما فضل عن قوته وبما بقي له غناء، ولا تحل الصدقة [243/أ] بأكثر من ذلك، وعياد مرضى الجيران، وشهود جنائزهم، فرض على مسلم جار على الكفاية، ولقاء الناس بالبشر والبر وانطلاق

_ (1) ص: ما. (2) انظر مسند أحمد 2: 158.

الوجه، وهذا كله بعد أداء الفرائض واجتناب الكبائر، ويستحب من الذكر ما تقدم في أول هذه الرسالة، فبهذا يتخلص المسلم من عذاب الله، ويستوجب الجنة بفضل الله، فمن عجز عن هذا كله فليقتصر على أداء الفرائض واجتناب الكبائر فإنه فائز، ومع هذا فليخف ربه وليحسن الظن به، فقد صح عنه عليه السلام انه قال (1) : إن الله يقول: انا عند ظن عبدي بي. فاعلموا أن تحسين الظن بالله تعالى أجر عظيم، وانه عمل بالقلب رفيع فاضل، فلعل ربه تعالى قد حفظ له حسنة لا يلقي العبد إليها باله ولا يذكر علتها، كما أنه أيضاً ربما هلك بسيئة حفظت عليه كان هو يحقرها، وليدم على فعل الخير وإن قل، فبهذا جاء الأثر الصحيح (2) : " عن أحب الأعمال إلى الله أدومها ". ولا احب لنفسي ولكم ولا لأحد من المسلمين التقصير عن هذا، فمن ابتلي بالتقصير عنه فليتدارك نفسه بالتوبة والندم والاستغفار فيما سلف فإنه يجد ربه قريباً إذا راجعه، قابلاً له إذا فزع إليه، غافراً لما سلف من ذنوبه كما قال تعالى {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب} (غافر: 3) . فمن امتحن بتسويف التوبة ومماطلة النفس، فليكثر من فعل الخير ما أمكنه، ولعل حسناته تذهب سيئاته، وليدخل في قوله: {خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم} (التوبة: 102) ، ولعله (3) يقل مكثه في النار، فقد جاء النص الصحيح بتفاضل مقامهم، فمن ابتلي وعجز فليتمسك بالعروة الوثقى، عروة الإسلام، وليعلم قبح ما يقول، فلعله ينجو من الخلود، وهو ناج منه بلا شك عن مات مسلماً. 3 - وسألتم - رحمنا الله وإياكم - عن طلب العلم، وهل الآداب من العلم، تعنون (4) النحو واللغة والشعر، وعن طلب الاشتغال بروايات القراء السبعة المشهورين على اختلاف ألفاظها وأحكامها، وعن قراءة الحديث، وعن مسائل، فنعم - وفقنا الله وإياكم لما يرضيه -: أما الاشتغال بروايات القراء المشهورين السبعة وقراءة الحديث وطلب علم النحو، واللغة، فإن طلب هذه العلوم فرض واجب على المسلمين على الكفاية، بمعنى أن من

_ (1) هو في صحيح البخاري (توحيد: 15، 35) مسلم (توبة: 1؛ ذكر 2،19) وفي مواضع كثيرة من مسند أحمد 2: 251، 315، 391، 413 الخ. (2) هو في صحيح البخاري (إيمان: 32، رقاق: 18) ومسلم (مسافرين: 216، 218) ومسند أحمد 2: 350، 5: 219، 6: 40، 61 (ومواطن أخرى كثيرة) . (3) ص: ولعل. (4) ص: تمنعون.

قام بطلبها حتى يعم بعلمه تعليم من طلبها أو فتيا من استفتاه فيها من أهل بلده أو قريته، فإذا قام بذلك من يغنى بهذا القدر، سقط فرض طلبها حينئذ عن الباقين، إلا ما يخص كل إنسان في نفسه فقط، فالذي يلزم كل إنسان من حفظ القرآن فهو أم القرآن وشيء من القرآن معها، ولو سورة أي سورة كانت، أو أي آية، فهذا لابد لكل إنسان منه. ثم طلب علم القرآن واختلاف القراء السبعة فيه وضبط قراءتهم [243 ب] كلهم، فرض على الكفاية وفضل عظيم لمن طلبه إن كان في بلده كثير ممن يحكمه وأجر جزيل، قال عليه السلام (1) : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه "، فكفى بهذا فضلاً، وقد أمر عليه السلام بتعليم القرآن فمن تعلمه فهو خير، ولو ضاع هذا الباب لذهب القرآن وضاع، وحرام على المسلمين تضييعه، وذهابه من أشراط الساعة، وكذلك ذهاب العلم. وأما النحو واللغة ففرض على الكفاية أيضاً كما قدمنا، لان الله يقول: {وما أرسلنا من سرول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (إبراهيم: 4) ، وأنزل القرآن على نبيه عليه السلام بلسان عربي مبين، فمن لم يعلم النحو واللغة، فلم يعلم اللسان الذي به بين الله لنا ديننا وخاطبنا [به] ومن لم يعلم ذلك فلم يعلم ذلك فلم يعلم دينه، ومن لم يعلم دينه ففرض عليه أن يتعلمه، وفرض عليه واجب تعلم النحو واللغة، ولابد منه على الكفاية كما قدمنا، ولو سقط علم النحو واللغة على نية إقامة الشريعة بذلك، وليفهم بهما كلام الله تعالى وكلام نبيه وليفهمه غيره، بهذا له أجر عظيم ومرتبة عالية لا يجب التقصير عنها لأحد. وأما من وسم اسمه باسم العلم والفقه وهو جاهل للنحو والغة فحرام عليه أن يفتي في دين الله بكلمة، وحرام على المسلمين أن يستفتوه، لأنه لا علم له باللسان الذي خاطبنا الله تعالى به. وإذا لم يعلمه فحرام عليه أن يفتي بما لا يعلم؛ قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} (الإسراء: 36) ، وقال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (الأعراف: 33) ، وقال تعالى: {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} (النور: 15) . فمن لم يعلم

_ (1) ورد هذا الحديث في صحيح البخاري (فضائل القرآن: 21) والترمذي (ثواب القرآن: 15) وابن ماجه (مقدمة: 16) .

اللسان الذي به خاطبنا الله عز وجل، ولم يعرف اختلاف المعاني فيه لاختلاف الحركات في ألفاظه، ثم أخبر عن الله بأوامره ونواهيه فقد قال على الله ما لا يعلم. وكيف يفتي في الطهارة من لا يعلم الصعيد في لغة العرب وكيف يفتي في الذبائح من لا يدري ماذا يقع عليه اسم الذكاة في لغة العرب أم كيف يفتي في الدين من لا يدري خفض اللام أو رفعها من قول الله عز وجل {إن الله بريء من المشركين ورسوله} (التوبة: 3) ، ومثل هذا في القرآن والسنة كثير، وفي هذا كفاية. فمن طلب علم النحو واللغة على النية التي ذكرنا فهو [244/أ] أعظم أجر وأفضل علم، ومن طلبهما ليكونا له مكسباً ومعاشاً فهو مأجور محسن، ولكن أجره دون أجر الأول، وفوق سائر الصناعات التي يعاش منها، لأنه يعلم الخير ويبقي آخر عالماً فيمن علم، ومن طلبهما ليتوصل بهما إلى إقامة المظالم وإحياء رسوم الجور والتدرب في أحكام المكوس والقبالات والمخاطبة عن فساق الملوك بما يرضيهم ويسخط الله عز وجل، فقد خاب وخسر وغدا في لعنة الله وراح فيها، لأنه ظالم، وقد قال الله: {ألا لعنة الله على الظالمين} (هود: 18) . وأما علم الشعر فإنه على ثلاثة أقسام: أحدها (1) : أن لا يكون للإنسان علم غيره فهذا حرام، يبين ذلك قوله عليه السلام (2) : لان يملأ، أو يمتلئ، جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً. والثاني: الاستكثار منه، فلسنا نحبه وليس بحرام، ولا يأثم المستكثر منه إذا ضرب في علم دينه بنصيب، ولكن الاشتغال بغيره أفضل. والثالث: الأخذ منه بنصيب، فهذا نحبه ونحض عليه، لان النبي عليه السلام قد استنشد الشعر، وأنشد حسان على منبره عليه السلام. وقال عليه السلام (3) : " إن من الشعر حكماً " وفيه عون على الاستشهاد في النحو واللغة. فهذا المقدار هو الذي يجب الاقتصار عليه من رواية الشعر، وفي هذا كفاية، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأما من قال الشعر في الحكمة والزهد فقد أحسن وأجر، وأما من قال معاتباً

_ (1) ص: أحدهما. (2) انظره في الجامع الصغير 2: 122. (3) هو في البخاري (أدب: 90) والترمذي (أدب: 69) وابن ماجه (أدب: 41) ومسند أحمد 1: 269، 303؛ 3: 456؛ 5: 125.

لصديقه ومراسلاً له، وراثياً من مات من إخوانه بما ليس باطلاً، ومادحاً لمن استحق الحمد بالحق، فليس بآثم ولا يكره ذلك، وأما من قال هاجياً لمسلم، ومادحاً بالكذب، ومشبباً بحرم المسلمين، فهو فاسق، وقد بين الله هذا كله بقوله {والشعراء يتبعهم الغاوون} (الشعراء: 224) . والذي يجب على طالب العلم أن لا يقتصر على أقل منه من النحو، فمعرفة (1) ما يمر من القرآن والسنة من الإعراب، ويكفي من ذلك كتاب الواضح أو كتاب الزجاجي (2) ، فإن قال وأوغل حتى يحكم كتاب سيبويه وما جرى مجراه فقد أحسن، وذلك زيادة في فضله وأجره. وأما من اللغة فمثل ذلك أيضاً، ويجزئ عنه منه [244 ب] الغريب المصنف لأبي عبيد (3) ، فإن زاد وأوغل واستكثر من دواوين اللغة فقد أحسن وأجر. ويجب رواية شعر حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، وما خف من مختار أشعار الجاهلين ومختار أشعار المسلمين، غير مستكثر من ذلك، ولكن بقدر ما يتدرب في فهم معاني لغة العرب ومخارج كلامهم. وعلم الحساب والطب أيضاً من العلوم الرفيعة، فمن طلب علماً من ذلك لينتفع به الناس في القسمة والعلاج وحساب مقابلتهم فهو مأجور. وتعلم هذا المقدار فرض على الكفاية، إذ لو جهل هذا لضاع كثير من الدين، كحساب الوصايا والمواريث ومعرفة البيوع وغير ذلك. ومن طلبهما ليكتسب منهما فمأجور أيضاً، ومن طلبهما ليتوصل بهما إلى الظلم فآثم فاسق. وأما معرفة قراءة الحديث ففرض على الكفاية بقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (التوبة: 122) . ولا سبيل إلى التفقه في الدين إلا بمعرفة أحكام القرآن، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، صحيحه من سقيمه، وناسخه من منسوخه، وما أجمع عليه مما اختلف فيه، فهذا أفضل ما استعمل المرء فيه نفسه، وأعظم ما يحاول لأجره وأمحاه لذنوبه. وقد قسم النبي هذا الباب أقساماً

_ (1) ص: بمعرفة. (2) الواضح في النحو لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي. وأما كتاب الزجاجي فهو " الجمل ". (3) يعني القاسم بن سلام وكتابه جليل القدر صرف في تأليفه وجمعه أربعين سنة.

كثيرة كافية كما حدثنا القاضي حمام بن احمد، قال: ثنا عبد الله بن إبراهيم الأصيلي، نبا أبو أحمد الجرجاني، نبا محمد بن يوسف الفربري، نبا محمد بن إسماعيل البخاري، نبا محمد نبا حماد بن أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (1) : " مثل ما بعثني الله [به] من الهدى والعلم كمثل غيث كثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى به [الناس] فشربوا وسقوا وزرعوا (2) ، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلاً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم (3) ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به "؛ فهذا الحديث أيها الاخوة الأصفياء لو لم يأتنا غيره لكفانا، ففيه جماع (4) طبقات الناس كما ترون، والطائفة الأولى التي (5) أنبتت الكلأ والعشب هم الذين فهموا معاني القرآن والحديث وتدينوا بها وعلموها الناس؛ والطائفة الثانية التي أمسكت الماء فشرب الناس منها فسقوا ورعوا هم الشيوخ الذين رووا لنا الحديث [245/أ] ، وقيدوه وعنوا به وبلغوا إلينا فأخذناه عنهم وإن لم يكن لهم فقه فيه، ولكنهم رضي الله عنهم أجروا فينا أجراً عظيماً، لأنهم كانوا سبب علمنا، فهم شركاؤنا في كل ما قيدنا وعلمنا مما أخذنا عنهم، والطائفة الثالثة هي المعرضة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي لا ترفع به رأساً ولا تقبله إذا سمعته ولا تعنى به ولا تطلبه، كما أن تلك القيعان مر عليها الماء مراً، كما دخل خرج، فمن استطاع منكم أيها الإخوة في الله عز وجل أن يكون من الطائفة الأولى النقية فليفعل، فحسب الواحد منا أن يكون في جملة من أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن لم يمنح ذلك، فليكن من الأجادب التي تمسك الماء، لعل الله ينفع بنا وبكم في ذلك، ولو أن يموت أحدنا وهو مقيد بحديث النبي يشاهد مجالسة طالب له مستكثر منه، فأعيذ نفسي وإياكم بالله أن نكون من القيعان التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ.

_ (1) مثل ما بعثني الخ: انظر باب العلم من صحيح البخاري (والرقاق: 26 والاعتصام: 2) والعيني 1: 465. (2) وزرعوا: في هامش ص: صوابه " ورعوا " وكذلك أخرجه مسلم في كتابه. إذ الزرع في الأول. وتصحفت اللفظة في البخاري، والله أعلم، من النقلة. (3) ص: وعمل. (4) ص: إجماع. (5) ص: الذي.

وأما كتب الرأي، فاعلموا أنها لا تحل قراءتها على معنى تقليد ما فيها والتدين به، ويكفي في هذا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول عن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء: 59) ، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فحرام عليه أن يرد شيئاً مما اختلف فيه إلى قول عائشة وأم سلمة وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ والعباس، رضي الله عنهم أجمعين، وهؤلاء أفاضل الأمة وعلماؤها، فكيف إلى قول أبي حنيفة وإلى سفيان ومالك والشافعي وأحمد وداوود وأبي يوسف ومحمد وابن القاسم لان من رد ذلك إلى غير القرآن وحديث النبي عليه السلام، فقد خالف ما أمره به تعالى في الآية المذكورة. ومن لم [يفعل] ما أمر الله تعالى به، فقد عصى الله عز وجل ورسوله واستحق أقبح الصفات، ولم يحكم بما أنزل الله عز وجل {ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون} (المائدة: 47) . وقد أخبرنا حمام بن أحمد (1) ، قال ثنا عبد الله بن علي الباجي (2) ، ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن (3) ، نبا أحمد بن مسلم، نبا أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، نبا وكيع بن الجراح، عن هشام بن عروة، عن أبيه [245 ب] ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام أنه قال (4) : " لا ينزع العلم انتزاعاً من قلوب الرجال، ولكن ينزع بذهاب العلماء، فإذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فأفتوا بالرأي فضلوا وأضلوا ". وقال عبد الله بن عمر: لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيماً حتى فشا فيهم أبناء سبايا الأمم فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا. وقد أخبرنا بهذا الحديث أيضاً حمام بن أحمد بن عبد الله بن إبراهيم، نبا أبو أحمد وأبو زيد المروزي كلاهما عن محمد بن يوسف الفربري، عن محمد بن إسماعيل البخاري، نبا سعيد بن تليد، نبا ابن وهبن ثني عبد الرحمن بن شريح وغيره عن محمد أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول:

_ (1) قد مر التعريف به: 144. (2) عبد الله بن علي بن محمد الباجي أبو محمد أصله من باجة القيروان. سكن إشبيلية. ففيه محدث مكثر جليل. سمع من ابن لبابة ومحمد بن عبد الملك بن أيمن وغيرهما (الجذوة: 233 عبد الله بن محمد بن علي. وانظر الصلة: 275 فلعله هو) . (3) محمد بن عبد الملك بن أيمن رحل إلى العراق وحدث بالمشرق والأندلس. وله مصنف قال فيه ابن حزم انه مصنف رفيع وتوفي سنة 330 (الجذوة: 63) . (4) انظر هذا الحديث في مسند أحمد 2: 481.

سمعت رسول الله يقول (1) : " إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً، ولطكن ينتزعه بقبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال فيستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون " فهذان عدلان جليلان أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن يتيم عروة (2) وهشام شهدا على عروة، وشهد عروة على عبد الله، وعبد الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أبلغتكم، وليس اختلاف الألفاظ بموجب تعليلاً في الرواية إذا كان المعنى واحداً فقط، فصح ان النبي كان إذا حدث بحديث كرره ثلاث مرات فيؤديه السامع على حسب ما سمع في كل مرة: فهذه صفة الرأي. واعلموا رحمكم الله أني أقول إعلاناً لا أسره ان تقليد الآراء لم يكن قط في قرن الصحابة رضي الله عنهم، ولا في قرن التابعين ولا في قرن تابع التابعين، وهذه هي القرون التي أثنى النبي عليها، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا سبيل إلى وجود رجل في القرون الثلاثة المتقدمة قلد صاحباً أو تابعاً أو إماماً أخذ عنه في جميع قوله فأخذه كما هو، وتدين به وأفتى به الناس، فالله الله في أنفسكم، لا تفارقوا ما مضى عليه جميع الصحابة أولهم عن آخرهم وتابعهم عن [متبوعهم] ، وتابع التابعين أولهم عن آخرهم، دون خلاف من واحد منهم، من ترك التقليد واتباع أحكام القرآن وحديث النبي عليه السلام وروايته والعمل به. فاجتنبوا هذه [246/أ] الحادثة في القرن المذموم المخالفة للإجماع المتقدم، وبعد أزيد من مائتين وخمسين عاماً من موت النبي عليه السلام، فكل بدعة ضلالة، فقد نصحت لكم وأديت ما لزمني في ذلك، وبقي ما عليكم. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (3) : " الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله قال: لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ". وإنما يجوز قراءة كتب الرأي على وجه اذكره لكم، وهو طلب ما أجمع عليه أئمة العلماء فيتبع ويوقف عنده، لان الله امرنا في الآية التي تلونا بطاعة أولي الأمر منا ولنعرف ما اختلف فيه العلماء فيعرض على كتاب الله عز وجل، وعلى حدي النبي، فلأي تلك الأقوال شهد القرآن والسنة المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذنا به، ونترك سائر ذلك عن كنا

_ (1) إن الله لا ينزل الخ: انظر البخاري: (كتاب الاعتصام: 7) ، والعيني 1: 528، وانظر راموز الحديث: 91 في أحاديث مشابهة. (2) محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود أبو الأسود المدني يتيم عروة، الأرجح أنه توفي سنة 137، وكان ثقة (تهذيب التهذيب 9: 307) . (3) الحديث في باب الإيمان من البخاري ومسلم (42، 95) .

نؤمن بالله وباليوم الآخر، فهو أعرف بنفسه (1) . فعلى هذا الوجه يجب قراءة كتب الرأي، لا على ما سواه. فمن قرأها على هذا أجر، وانتفع بها جداً، وأما من قرأها متديناً بها غير عارض لها على القرآن وحديث النبي فهو فاسق، لعصيانه ما أمره الله تعالى به، ولأنه لم يحكم بما انزل الله: فمن جمع إلى هذا استحلال مخالفة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يعتقد صحته عنه عليه السلام لقول أحد دونه، واعتقد ان هذا جائز فهو كافر مشرك مرتد عن الديانة، منسلخ عن الإسلام، حلال الدم والمال. وروينا عن النبي انه قال (2) : " كل أحد يدخل الجنة إلا من أبى. قيل: يا رسول الله ومن يأبى قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى ". ولا يحسبوا أني سبقت إلى هذا القول، فمعاذ الله ان أقول ما لم يقله الله تعالى ورسوله، قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} (النساء: 65) . فأنا أقول: والله ما آمن من حكم غير رسول الله في دينه. واعلموا أيضاً أن هذا الذي قلت هو رأي الشافعي ومالك وإسحاق بن راهويه، فإنه بلغني عن مالك، رحمه الله، انه سأله سائل فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في رجل قيل له: قال النبي كذا، فقال هو: قال إبراهيم النخعي كذا فقال مالك: أرى أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وبلغني عن الشافعي، رحمه الله، انه ذكر يوماً حديثاً عن النبي عليه السلام [246 ب] فقال له إنسان: يا أبا عبد الله، أتأخذ بهذا الحديث فقال له الشافعي: أرأيت يا هذا علي زناراً خارجاً من كنيسة تسمعني أحدث عن النبي صلى الله [عليه] وسلم وتقول لي: تأخذ به وما لي لا آخذ به إذا صح الحديث عن رسول الله فهوديني وقولي. وذكر محمد بن نصر عن إسحاق بن راهويه انه قال: من سب رسول الله أو ترك صلاة فرضاً متعمداً حتى خرج وقتها بلا عذر أو رد حديثاً مسنداً صحيحاً بلغه عن رسول [الله] ، فهو كافر مشرك. وقد سمعنا أصحابنا يحكون عن ابن القاسم، رحمه الله، انه كان لا يجيز بيع كتب الرأي، فسئل عن ذلك فأخبر أنه لا يدري أحق هو أم باطل، وأجاز بيع المصاحف وكتب الحديث، لان الذي فيها حق. فكيف يظن جاهل لا يتقي الله عز

_ (1) فهو أعرف بنفسه: كذا في ص، ويبدو فيه انقطاع. (2) الحديث في البخاري (اعتصام: 2) ومسند أحمد 3: 361.

وجل أن مالك بن أنس وابن القاسم يلزمان الناس بتقليدهما وهما يقران أنهما لا يعلمان أحق ما أفتيا برأيهما أم باطل وقد صح ما هو أغلظ من هذا، وهو أن مالكاً رضي الله عنه تمنى عند موته أن يضرب بكل مسألة أفتى فيها برأيه سوطاً، وهكذا كان الأئمة الفضلاء قبل زماننا هذا المدبر، رضي الله عنهم وعن الباقين، وفاء بالجميع إلى طاعته، ووالله لقد خذل الله وجل أمة تدين بشيء تمنى قائله أن يضرب بالسياط ولا يقوله. وأما ما ذكرتم من أمر قارئ هذه العلوم إن حضر بباله عند (1) الاشتغال بها حب الرئاسة في الدنيا وطلب الظهور، وكيف إن كان معظم نيته هذا المعنى. فهذا مذهب سوء. صح عن النبي أنه قال (2) : " من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ". والحديث الصحيح الذي رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أنه (3) " يؤتى يوم القيامة برجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه الله نعمه فعرفها، قال: فما علمت فيها قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، وقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار "، والحديث الصحيح عن النبي أنه قال (4) : " إن الله تعالى قال: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه ". وفيما ناولني حمام بن أحمد، وأخبرني أنه أخبر به العباس بن أصبغ [247/أ] عن محمد بن عبد الملك بن أيمن. نبا إسماعيل بن إسحاق القاضي ببغداد، نبا إسماعيل ابن أبي أويس، ثني أخي يعني أبا بكر، عن سليمان بن بلال، عن إسحاق بن يحيى ابن طلحة، عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (5) : " من ابتغى العلم ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء، أو ليقبل بأفئدة الناس إليه فإلى النار ". وهذه أحاديث في غاية الصحة، وأولاد كعب بن مالك ثقات كلهم، وهم ثلاثة مشهورين: عبد الله وعبد الرحمن وسعيد، فهذا أصلحكم الله وإيانا فتيا

_ (1) ص: هذا. (2) الحديث في أبي داود (علم: 12) ومسند أحمد 2: 338. (3) ورد في صحيح مسلم (إمارة: 152) والنسائي (جهاد: 22) ومسند أحمد 2: 322؛ 3: 81. (4) ورد في صحيح مسلم (زهد: 46) ومسند أحمد 3: 466؛ 4: 215. (5) من ابتغى العلم الخ: هذا الحديث راوه البيهقي، والعقيلي في الضعفاء، والحاكم في المستدرك، انظر راموز الأحاديث: 395 والترمذي (علم: 6) وابن ماجه (مقدمة: 23) .

نبيكم عليه السلام، وكلام ربكم عز وجل، فبأي حديث بعد الله وآياته تؤمنون (1) أم أي قول بعد قول الله تعالى وكلام نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تطلبون وتقرءون (2) لا كفى الله من لم يكفه قول ربه تعالى، وقول نبيه عليه السلام. فالله الله عباد الله، تداركوا أنفسكم بتصفية نياتكم في هذا الباب وفي العمل المرغوب في الصلاة والصيام والصدقة، ولا تشوفوا في شيء منه قصداً لغير وجه الله تعالى؛ فوالذي لا إله إلا هو إن من طلب علماً من علوم الديانة ليدرك به عرض دنيا أو ذكراً في الناس أو عمل عملاً مما أمره الله تعالى بعمله له فعمله هو لغيره تعالى، لقد كان أحظى له في آخرته وأسلم في عاقبته وأنجى له عند ربه تعالى أن يكون دفافاً أو بهزرياً (3) . ووالله لأن يلقى الله تعالى عبد بكل بائقة (4) دون الشرك، لا أخص من ذلك قتل النفس ولا قطع الطريق ولا ما دونهما، أخف وزراً من أن يلقاه وقد تدين لغيره وصلى وصام لسواه. واعلموا رحمكم الله أن من تعدم اللهو واللعب حتى مضى وقت صلاة مفروضة ولم يصلها، أخف ذنباً عند الله تعالى ممن صلاها لأجل الناس، ولولاهم ما صلاها، لأن كل إنسان من الذين ذكرنا لم يصل الصلاة التي أمر بها، وزاد هذا الآخر على الأول أن صلاها لغير الله تعالى؛ وكذلك من طلب العلم لغير الله تعالى، فإنه ترك الاشتغال بما يصلحه في دنياه وبما يروح به نفسه من البطالة، وأتعب نفسه في أفضل الأعمال، فقصد به التقرب إلى الناس فوكله الله إلى من قصده، وقال عليه السلام (5) : [247ب] " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " أو كما قال عليه [السلام] ، فالجد الجد فإن لإبليس اللعين ها هنا مسلكاً خفياً ومدبا (6) لطيفاً ومولجاً دقيقاً يحبط به الأعمال ويهلك به الرجال، أجارنا الله وإياكم من كيده وبغيه، ولا وكلنا إلى أنفسنا طرفة عين فنهلك. وأنا أريكم إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله، ميلقاً (7) يعرف به كل

_ (1) انظر سورة الجاثية، الآية: 6. (2) ص: ويقرون. (3) كذا وردت في ص؛ ولعلها: بيرزيا أو هنزمريا وهو الذي يحيي الهنرمز وهو عيد من أعياد العجم. (4) ص: نافقة. (5) مر تخريجه: 133. (6) ص: وديناً. (7) ص: ميدقاً؛ والميلق: أداة يملس بها الذهب، أو لعله يختبر، وهذا هو المقصود هنا.

واحد منكم وغيركم ممن يقرأ كتابي هذا، إن كانت نيته صادقة لله عز وجل أو مشوبة بقصد (1) إلى غيره، وذلك أن يفكر المرء في نفسه فيما يعمل من طلب علم أو فعل بر فيقول لها: يا نفس، أرأيت لو أن من يراني أو يبلغه خبري من الناس يكون طريقتهم في العلم وفي طلبه وفي عملهم على خلاف ما هم عليه كانوا يكرهون هذا الوجه من طلبي لما أطلب، ولا يستحسنون ما أفعل من البر، أكنت تفعلينه أم لا فإن علم من نفسه أنها كانت تفعل ذلك، سخط الناس أم رضوا، نفق عندهم أو كسد، فليحمد ربه تعالى وليبشر، كان (2) عمله وطلبه خالصاً. وإن وجد نفسه تخبره أن الناس لو كرهوا ما يطلب وما يعمل لم يطلبه ولم يعمله، فليعلم أنه هلك وأن عمله وتعبه عليه لا له، وأنه قد خسرت صفقته، وأنه قد أشرك في نيته وعمله غير ربه تعالى، إذ قرن به الناس، فمن أضيع (3) عملاً أو أسوأ منقلباً من هذا نعوذ بالله من هذه المرتبة، ونسأله التوقي من هذا. وليت شعري على ماذا يحصل المسكين الذي يطلب العلم ليحظى (4) به في دنياه والله لا حصل من ذلك إلا (5) على دنيا منغصة، ولباس خشن، ولذات يستتر بها استتار الغراب بسفاده ولا يتهناها موفرة، وعلى ما (6) لا توفى نفسه منها. ولو طلب الدنيا على وجهها لكان أنفذ لأمره وأعظم لجاهه وأكثر لماله وأوفر للذاته وأتم لهيبته، وأقل لوزره، وأخف لعذابه. ولا يغرنكم ما يقول كاذب على العلماء: " طلبنا العلم لغير الله، فما زال بنا حتى ردنا إلى الله "، فلعمري إن جديراً ألا يبارك (7) تعالى في كل شيء ابتدأ لغير وجهه عز وجل، وحسبنا الله ونعم الوكيل [248/أ] . وأما إن نوى في عمله أن يأمر بمعروف وينهى عن منكر، ويحكم بالعدل إن ولي شيئاً من أمور المسلمين، وأن يظهر في ذلك الحق ما أمكنه، رضي الناس أم سخطوا، وأحب مع ذلك أن لا يذل ويكرم، وكانت نيته أن لا تأخذه في الله لومة لائم إن آتاه الله حظاً من الدنيا، وسره أن يؤتى مالاً حلالاً لا يأكله بخلافه ولا يكتسبه بدينه ولم يترك

_ (1) ص: لقصد. (2) ص: فإن. (3) ص: أطيع. (4) ص: ليحضا. (5) ص: إلى. (6) ص: مال. (7) ص: تبارك وتعالى.

لذلك أمراً يعتقده حقاً، ولا استعمل لأجل رغبته فيما ذكرنا أمراً يراه باطلاً، فهذه نية خير ومقصد حسن، ومذهب فاضل كانت عليه الصحابة والتابعون وأئمة الخير. وقد قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (1) : " المؤمن القوي أحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف ". وقد أثنى الله تعالى على {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} (الحج: 41) والدلائل على كل ما قلنا من القرآن والحديث تكثر جداً، وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله تعالى. 4 - وأما ما سألتم عنه من أي الأمور أفضل في النوافل: الصلاة أم الصيام أم الصدقة فقد جاءت الرغائب في كل ذلك، وكلها فعل حسن، وما أحب للمؤمن أن يخلو من أن يضرب في هذه الثلاث بنصيب ولو بما قل، إلا أن الصدقة الجارية في الثمار في الأرضين أحب إلي من الصلاة والصوم في التنفل. وقد روينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " إذا صمت ضعفت عن الصلاة. والصلاة أحب إلي من الصيام "، ولسنا نقلد في ذلك ابن مسعود، ولا نقول أيضاً إن هذا ليس كما قال، ولكني أقول: " والله أعلم "، إذ لا نص في ذلك عن النبي عليه السلام؛ ولكني قد قلت: إني أحب للمؤمن أن يضرب في كل هذه الثلاثة نصيب ويأخذ بحظه من كل واحد منها وإن قل، فلذلك إن شاء الله خير له بلا شك من أن يأخذ بإحداهن ولا يأخذ من الباقيين نصيباً. وبيان ذلك أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المصلين يدعون (2) من باب الصلاة، والصائمين يدعون من باب الصيام، وأصحاب الصدقة يدعون من باب الصدقة (3) ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، ما على من يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها. فقال: نعم، وأرجو أن تكون منهم. فإنما اخترنا ما بشر به [248ب] النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وحسبك بهذا اختياراً فاضلاً، جعلنا الله وإياكم من أهله، آمين. 5 - وأما ما سألتم عنه مما روي في حديث التنزل، وهل الإجابة مضمونة في تلك الساعة، فحديث التنزل صحيح، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه: {ادعوني

_ (1) انظر الحديث في صحيح مسلم (قدر: 34) . (2) ص: يدعوا. (3) انظر هذا الحديث في صحيح البخاري (صوم: 4؛ فضائل أصحاب النبي: 5) ومسلم (زكاة: 85) ومسند أحمد 2: 268.

أستجب لكم} (غافر: 60) ، وأخبرنا تعالى أنه لا يخلف الميعاد، ولكن ها هنا بينت ما سألتم عنه بياناً شافياً وهو قوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (فاطر: 10) ، فإنما شرط الإجابة العمل الصالح، أو أن يكون الداعي مظلوماً، على ما جاء في الأثر عن النبي عليه السلام فمن دعا وعمله صالح أو هو مظلوم فقد جاء في الأثر عن النبي عليه السلام: أن دعاء المؤمن لا يخلو من إحدى ثلاث: إما تعجيل إجابة، وإما كفاية بلاء، وإما تعويض أجر، أو كلاماً هذا معناه. فاعلموا وفقنا الله وإياكم أن من دفع الله تعالى عنه بلاء، أو عوضه أجراً فقد أجاب دعاءه ولم يخيبه، وللإجابة في اللغة معنى غير الإسعاف، يقال في اللغة: ناديت فلاناً فأجابني، ودعوته فأجابني بمعنى أتاني، فالإجابة من الله تعالى بمعنى قبول عمل العامل في الدعاء وتعويضه عنه الأجر ودفعه عنه البلاء، وربما يفضل الله تعالى بإسعافه في أن يكون ما طلب، إذا كان مما سبق في علم الله تعالى أن يكون. 6 - وأما ما سألتم عنه من أمر هذه الفتنة وملابسة الناس بها مع ما ظهر من تربص بعضهم ببعض، فهذا أمر امتحنا به، نسأل الله السلامة، وهي فتنة سوء أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى من وجوه كثيرة يطول لها الخطاب. وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أو حصن في شيء من أندلسنا هذه، ولها عن آخرها، محارب لله تعالى ورسوله وساع في الأرض بفساد؛ للذي ترونه عياناً من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية التي تكون في ملك من ضارهم، وإباحتهم لجندهم قطع الطريق على الجهة التي يقضون (1) على أهلها، ضاربون للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطون لليهود على قوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية والضريبة من أهل الإسلام، معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله، غرضهم فيها استدام نفاذ أمرهم ونهيهم. فلا تغالطوا أنفسكم ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه [249/أ] ، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشر شرهم، الناصرون لهم على فسقهم. فالمخلص لنا فيها الإمساك للألسنة جملة واحدة إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذم جميعهم؛ فمن عجز منا عن ذلك رجوت أن تكون التقية تسعه، وما أدري كيف هذا، فلو اجتمع كل من ينكر هذا بقلبه لما غلبوا. فقد صح عن النبي

_ (1) ص: يعصون؛ ولعلها (ينقضون) .

صلى الله عليه وسلم أنه قال (1) : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ". وجاء في بعض الأحاديث: ليس وراء ذلك من الإيمان شيء، أو كما قال عليه السلام؛ وجاء في الأثر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (2) : " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليعمنكم الله بعذاب ". واعلموا رحمكم الله انه لا عذاب أشد من الفتنة في الدين، قال الله تعالى: {والفتنة أشد من القتل} (البقرة: 191) ، فأما الغرض الذي لا يسع أحداً فيه تقية، فأن لا يعين ظالماً بيده ولا بلسانه، ولا أن يزين له فعله ويصوب شره، وعاديهم بنيته ولسانه عند من يأمنه على نفسه، فإن اضطر إلى دخول مجلس أحدهم لضرورة حاجة أو لدفع مظلمة عن نفسه أو عن مسلم، أو لإظهار حق يرجو إظهاره، او الانتصاف من ظالم آخر، كما قال تعالى: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون} (الأنعام: 129) أو لصداقة سالفة - فقد يصادق الإنسان المسلم اليهودي والنصراني لمعرفة تقدمت - أو لطلب يعانيه، أو لبعض ما شاء الله عز وجل، فلا يزين له شيئاً من أمره ولا يعنيه ولا يمدحه على ما لا يجوز، وإن أمكنه وعظه فليعظه، وإلا فليقصد إلى ما له قصد غير مصوب له شيئاً من معاصيه، فإن فعل فهو مثله، قال الله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} (هود: 113) وفي هذا كفاية. 7 - وأما ما سألتم عنه من وجه السلامة في المطعم والملبس والمكسب، فهيهات أيها الإخوة، إن هذا لمن أصعب ما بحثتم عنه وأوجعه للقلوب وآلمه للنفوس. وجوابكم في هذا ان الطريق ها هنا طريقان: طريق الورع، فمن سلكه فالأمر - والله - ضيق حرج. وبرهان ذلك أني لا أعلم لا أنا ولا غيري بالأندلس درهما حلالاً [249 ب] ولا ديناراً طيباً يقطع على انه حلال، حاشا ما يستخرج من وادي لاردة (3) من ذهب، فإن الذي ينزل منه في أيديهم، يعني أيدي المستخرجين له بعد ما يؤخذ منهم ظلماً فهو كماء النهر في الحل والطيب، حتى إذا ضربت الدراهم وسبكت الدنانير فاعلموا أنها تقع في أيدي الرعية فيما يبتغونه من الناس من الأقوات التي لا تؤخذ إلا منهم، ولا

_ (1) انظر الجامع الصغير 2: 17. (2) هو في باب الفتن من سنن الترميذي وابن ماجه (8، 20) ومسند أحمد 1:2، 5، 7، 9؛ 6: 304، 333، وانظر الجامع الصغير 2: 122. (3) تقع لاردة (Lerida) شرقي مدينة وشقة على نهر يخرج من أرض جليقية وهو النهر الذي تلقط منه برادة الذهب الخالص، واسم النهر شيقر Segar (الروض المعطار: 503 والترجمة: 202) .

توجد إلا عندهم من الدقيق والقمح والشعير والفول والحمص والعدس واللوبيا والزيت والزيتون والملح والتين والزبيب والخل وأنواع الفواكه والكتان والقطن والصوف والغنم والألبان والجبن والسمن والزبد والعشب والحطب. فهذه الأشياء لابد من ابتياعها من الرعية عمار الأرض وفلاحيها ضرورة. فما هو إلا أن يقع الدرهم في أيديهم، فما يستقر حتى يؤدوه بالعنف ظلماً وعدواناً بقطيع (1) مضروب على جماجمهم كجزية اليهود والنصارى، فيحصل ذلك المال المأخوذ منهم حق عند المتغلب عليهم، وقد صار ناراً، فيعطيه لمن أختصه لنفسه من الجند الذين استظهر بهم على تقوية أمره وتمشية دولته، والقمع لمن خالفه والغارة على رعية من خرج من طاعته أو رعية من دعاه إلى طاعته، فيتضاعف حر النار، فيعامل بها الجند التجار والصناع، فحصلت بأيدي التجار عقارب وحيات وأفاعي، ويبتاع بها التجار من الرعية، فهكذا الدنانير والدراهم كما ترون عياناً دواليب تستدير في نار جهنم، هذا ما لا مدفع فيه لأحد، ومن أنكر ما قلنا بلسانه فحسبه قلبه يعرفه معرفة ضرورية، كعلمه أن دون غد اليوم، فإذا فاتنا الخلاص فلا يفوتنا الاعتراف والندم والاستغفار، ولا نجمع ذنبين: ذنب المعصية وذنب استحلالها، فيجمع الله لنا خزيين وضعفين من العذاب، نعود بالله منذلك، ولنكن كما قال الله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} (آل عمران: 135) ، هذا مع ما لم نزل نسمعه (2) سماع استفاضة توجب العلم الضروري أن الأندلس لم تخمس وتقسم كما فعل رسول الله فيما فتح، ولا استطيبت أنفس المستفتحين، وأقرت لجميع [250/أ] المسلمين، كما فعل عمر رضي الله عنه فيما فتح، لكن نفذ الحكم فيها بان لكل يد ما أخذت، ووقعت فيها غلبة بعد غلبة، ثم دخل البربر والأفارقة فغلبوا على كثير [من القرى دون قسمة] (3) ، ثم دخل الشاميون في طالعة بلج بن بشر بن عياض القشيري فأخرجوا اكثر العرب والبربر المعروفين بالبلديين عما كان بأيديهم، كما ترون الآن من فعل البربر، ولا فرق، وقد فشا في المواشي ما ترون من الغارات و [في] ثمار الزيتون ما تشاهدون من استيلاء

_ (1) القطيع هنا بمعنى الضريبة، وسيشرحها في ما يلي. (2) ص: فنسمع. (3) ما بين معقفين غير واضح في النسخة، وقد استوفيته من كتاب فجر الأندلس: 621 للدكتور مؤنس. وهذا الكتاب قد نقله مما نشره بلاسيوس في مجلة الأندلس، المجلد الثاني: 1934.

البربر والمتغلبين على ما بأيديهم إلا القليل التافه، ومشى في بلاد المتغلبين يقيناً العرى الحالسة (1) ظلم بظلم. وهذا باب الورع وقد أعلمتكم انه ضيق. وأما الباب الثاني فهو باب قبول المتشابه، وهو في غير زماننا هذا باب جدي لأنه لا يؤثم صاحبه، ولا يؤجر، وليس على الناس أن يتجنوا على أصول ما يحتاجون إليه في أقواتهم ومكاسبهم إذا كان الأغلب هو الحلال وكان الحرام مغموراً. وأما في زماننا هذا وبلادنا هذه، فإنما هو باب أغلق [] فرقت بين زماننا هذا والزمان الذي قبله، لأن الغايات [..] (2) فإنما هي جزية على رءوس المسلمين يسمونها بالقطيع، ويؤدونها مشاهرة وضريبة على أموالهم من الغنم والبقر والدواب والنحل، يرسم على كل رأس، وعلى كل خلية شيء ما، وقبالات ما، تؤدى على كل ما يباع في الأسواق، وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في بعض البلاد. هذا كل ما يقبضه المتغلبون اليوم، وهذا هو هتك الأستار ونقض شرائع الإسلام وحل عراه عروة عروة، وإحداث دين جديد، والتخلي (3) من الله عز وجل. والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما يحمونهم عن حريم الأرض وحسرهم معهم آمنين (4) ، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه. فإن قلتم: نحن نجتنب اللحم، فانتم تعلمون علماً يقيناً أن المواشي المغنومة ليست تباع للذبح فقط، بل تباع للنسل والرسل كثيراً وللحرث بها، فتباع ويؤخذ فيها الثمن، وهو نار لأنه بدل من المثمون ومال أخذ بالباطل، ثم ينصرف في أنواع التجارات والصناعات في الملابسات [250ب] ، فيمتزج الأمر. فهذا ملا أحيلكم فيه على غائب، لكن ما ترونه بعيونكم وتشاهدونه أكثر من مشاهدتي له. وأنتم ترون الجند في بلادكم لا يأخذون أرزاقهم إلا من الجزية التي يأخذها المتغلبون من المسلمين فيما يباع في أسواقهم على الصابون والملح وعلى الدقيق والزيت وعلى الجبن وعلى سائر السلع، ثم بتلك الدراهم الملعونة يعاملون التجار والصناع، فحسبكم وقد علمتم ضيق

_ (1) كذا هو في ص، ولا أدري ما صوابه. (2) ما هو بياض بين معقفين قد ذهب جانب منه لأنه كتب في الحاشية. (3) ص: والنحل. (4) العبارة غير واضحة، وهي صورة لما في ص.

الأمر في كل مرة ما يأتي من البلاد التي غلب عليها البرير من الزيت والملح، أن كل ذلك غصب من أهله، وكذلك الكتان أكثره من سهم صنهاجة الآخذين النصف والثلث ممن أنزلوا عليه من أهل القرى، وكذلك التبن مزرقة، وأما القمح فهو أشبه بيسير، لأن الأرض وإن كانت مغصوبة فالزرع لزراعة حلال وعليه إثم الأرض، إلا أن تكون الزريعة مغصوبة، فحصلنا في شعل نارٍ [أشد] من ذي قبل؛ ولكن التخلص لنا ولكم أن لا يأخذ الإنسان فيما يحتاج إليه ما أيقن أنه مغصوب بعينه، ولعلنا فيما جهلنا من ذلك أعذر قليلاً فإن النار المدفونة في الرماد أفتر حراً من النار المؤججة المشتعلة، فواغوثاه. 8 - وأما ما سألتم عنه من تفاضل الكبائر، فنعم، فالحسنات تتفاضل والكبائر تتفاضل؛ سئل صلى الله عليه وسلم عن اكبر الكبائر، فذكر عليه السلام أشياء، منها عقوق الوالدين، وشهادة الزور. واستعظم عليه السلام أشياء منها زنا الزاني بامرأة جاره، ومنها زنا الشيخ ومنها زنا الزاني بامرأة المجاهد، فهذه الوجوه أعظم عند الله بنص نبيه عليه السلام [من] سائر (1) وجوه الزنا وكل عظيم؛ وذكر كذب الكاذب أيضاً بعد العصر، فدل على انه اعظم منه إثماً في سائر الأوقات، وذكر عليه السلام كذب السلطان وزهو الفقير، فعلمنا بذلك ان الكذب من الملك أعظم ذنباً من كذب غيره، وأن زهو الفقير أكبر إثماً من زهو الغني. وكذلك الإلحاد بالبيت والظلم بمكة اعظم منه في سائر البلاد، والقتل بلا شك أعظم إثماً من اللطمة والضربة، والكذب على النبي أشنع من الكذب على غيره. قال النبي عليه السلام (2) : " إن الكذب [علي] أعظم من الكذب على غيري فمن كذب علي فليلج النار " [251/أ] ، وإن شعبة بن الحجاج رحمه الله يقول: لأن أزني أحب إلي من أن أدلس، وأنا أقول: لأن يضرب عنقي أو أصلب أو يرمى بي وأهلي وولدي إلي من أن أقطع الطريق أو أقتل النفس التي حرم الله بغير الحق، وأنا أعلم أن ذلك حرام، [وهذا] أحب إلي من أن أستحل الاحتجاج بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا أعتقده صحيحاً، أو أن أرد حديثاً صحيحاً عنه عليه السلام، ولم يصح نسخه بنص آخر، ولا صح عندي تخصيصه بنص آخر، فالكبائر تتفاضل كما أخبرتكم تفاضلاً بعيداً، وكذلك العذاب عليها بتفاضل كما تتفاضل الحسنات ويتفاضل الجزاء عليها؛ صح عن النبي صلى الله

_ (1) ص: وسائر. (2) انظر الحديث في البخاري (علم: 38) ومسلم (زهد: 72) ومسند أحمد 2: 47، 83، 123، 150.

عليه وسلم [أنه] قال (1) : " إن أهل الجنة يتراءون من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري ". وصح عنه عليه السلام أنه أمرنا أن نسأل الله الفردوس الأعلى، فإنه وسط الجنة وأعلاها، وفوق ذلك عرش الرحمن (2) . وجاء نص القرآن بان المنافقين في الدرك الأسفل من النار (3) . وقال تعالى: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} (غافر: 46) ، والأشد والأسفل لا يقعان إلا بالإضافة إلى ما هو أخف وأعلى. وجاء الحديث الصحيح (4) أن أبا طالب يخفف عنه العذاب بنعلين في رجليه يغلي منهما دماغه، وأنه أخرج عمه من النار إلى ضحضاح منها، وانه أخف أهل النار عذاباً، هذا الذي ذكرت معاني الحديث التي ذكرت لكم. فهذا أصلحكم الله بيان ما سألتم عنه حسب ما علمني الله عز وجل، لم أقل شيئاً من ذلك من عند نفسي، ويعيذني الله ما أقول في شيء من الدين برأي أو بقياس، لكن حكيت لكم ما قاله الله تعالى وعهده إليكم نبيكم عليه السلام. ولعمري إني لأفقر منكم إلى قبول ما أوصيتكم به، وأحوج إلى استعماله. فإني والله أعلم من عيوب [نفسي أكثر مما أعلم من عيوب] كثير من الناس ونقصهم. وقد توصل الشيطان إلى جماعة من الناس بأن أسكتهم عن تعليم الخير، بان وسوس إليهم، أو لمن يقول لهم: إذا أصلحتم أنفسكم، فحينئذ اسعوا في صلاح غيركم؛ وربما اعترض عليهم بقول الله عز وجل: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة: 105) وبقوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (البقرة: 44) الآية؛ والحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (5) : أن رجلا يقذف به في النار فتندلق أقتابه [251 ب] فيقول له أهل النار: يا فلان ألست الذي كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول: نعم، كنت آمركم بالمعروف ولا أفعله، وأنهاكم عن المنكر وآتيه، أو كما قال عليه السلام، فأسكتهم عن تعليم الخير. فاعلموا رحمكم الله أن الآية الأولى لا حجة فيها للمعترض بها فيها، لأنه ليس فيها نهي لنا عن أن

_ (1) ورد الحديث في البخاري (بدء الخلق: 8؛ رقاق: 51) ومسلم (جنة: 10،11) ومسند أحمد 2؛ 335،339،5: 340. (2) انظر مسند أحمد 2: 335،339. (3) سورة النساء: 145. (4) انظر هذا الحديث في مسلم (إيمان: 362) ومسند أحمد 3: 27،78. (5) ورد في البخاري (بدء الخلق: 10) ومسلم (زهد: 51) ومسند أحمد 5: 205،206،207.

ننهى من ضل عن ضلالة، ولكن فيها تطبيب لأنفسنا عن غيرنا ولا يضرنا من ضل إذا اهتدينا. وقد جاء في بعض الآثار أن المنكر إذا خفي لم يؤخذ به إلا أهله، وأنه إذا أعلن فلم ينكره أخذ فاعله وشاهده الذي لا ينكره (1) . فإنما في هذه الآية إعلام لنا أننا لا نضر بإضلال من ضل إذا اهتدينا و [على] من اهتدى بنا أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وأما (2) الآية الثانية فلم ينكر فيها الأمر بالبر، وإنما أنكر استضافة إتيان النكر إليه، ونعم. معترفون لها (3) بذنوبنا منكرون على أنفسنا وعلى غيرنا، راجعون الأجر على إنكارنا، خائفون العقاب على ما نأتي مما ندري أنه لا يحل. ولعل أمرنا بالمعروف وتعليمنا الخير ونهينا عن المنكر، يحط به ربنا تعالى عنه ما نأتي من الذنوب، فقد أخبرنا تعالى أنه لا يضيع عمل عامل منا. وأما الحديث المذكور فهو رجل غلبت معاصيه على حسناته، فإن كان مستحلاً للمنكر الذي كان يأتي ومرائياً بما يأتي به، فهذا كافر مخلد في نار جهنم، ويكفي من بيان هذا قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} (الزلزلة: 7 - 8) . فمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وعصى مع ذلك، فوالله لا ضاع له ما أسلف من خير ولا ضاع عنده ما أسلف من شر، وليوضعن كل ما عمله يوم القيامة في ميزان يرجحه مثقال ذرة، ثم ليجازين بأيهما غلب. هذا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد. وقد أمر تعالى فقال: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران: 104) ، وقال تعالى {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (التوبة: 122) ، فأمر تعالى من نفر ليتفقه في الدين بان ينذر قومه، ولم ينهه عن ذلك إن عصى، بل أطلق الأمر عاماً، وقال تعالى: {وما يفعلوا من خير فلن يكفروه} (آل عمران: 115) ، فمن رام أن يصد عن هذه السبيل بالاعتراض الذي قدمنا، فهو فاسق صاد عن سبيل الله، داعية من دواعي النار، ناطق بلسان الشيطان، عون لإبليس على ما يحب، إذ لا ينهى عن باطل ولا يأمر بالمعروف ولا يعمل خيراً. وقد بلغنا عن مالك انه سئل عن مسألة فأجاب فيها، فقال له قائل: يا أبا عبد الله، وأنت لا تفعل ذلك، فقال: يا ابن أخي ليس [352/أ] في الشر قدرة. ورحم الله الخليل بن أحمد الرجل الصالح حيث يقول:

_ (1) ص: يقره (وقد يصح بحذف لا) . (2) ص: وإنما. (3) لها: لا أدري وجه موقعها هنا.

اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري (1) وذكرت هذه المسألة يوماً بحضرة الحسن البصري رضي الله عنه فقال (2) : ود إبليس لو ظفر منا بهذه، فلا يأمر أحد بمعروف ولا [ينهى] عن منكر. وصدق الحسن، لأنه لو لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يذنب، لما (3) أمر به أحد من خلق الله تعالى بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكل منهم قد أذنب وفي هذا هدم للإسلام جملة. فقد صح عن النبي عليه السلام أنه قال: " ما من أحد إلا وقد ألم، إلا ما كان من يحيى بن زكريا " أو كلام هذا معناه. فخذوا حذركم من إبليس وأتباعه في هذا الباب، ولا تدعوا الأمر بالمعروف وإن قصرتم في بعضه، ولا تدعوا النهي عن منكر وإن [كنتم] تواقعون بعضه، وعلموا الخير وإن كنتم لا تأتونه كله، واعترفوا بينكم وبين ربكم بما تعلمونه بخلاف ما تعلمونه، واستغفروا الله تعالى منه دون أن تعلنوا بذكر فاحشة وقعت منكم، فإن الإعلان بذلك من الكبائر؛ صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. فلعل أحدنا يستحي من ربه تعالى إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وهو يعلم من نفسه خلاف ما يقول يكون ذلك سبب إقلاعه ومقته لنفسه، ولعل الاعتراف الله تعالى والاستغفار المردد له يوازي ما يقصر فيه، فيحط عنا تعالى ربنا ذو الجلال، وقد قال تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله} (النساء: 108) . وقد امرنا الله تعالى على لسان نبيه بالاستخفاء بالمعاصي إذا وقعت، ونهينا عن الإعلان بها أشد النهي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً معناه (4) : " كل الناس معافى إلا المجاهر، والإجهار أو من الإجهار، الشك مني، أن يبيت المرء يعمل عملاً فيستره الله عليه، ثم يصبح فيفضح نفسه، أو كما قال عليه السلام. فإنما أنكر فعل المعصية نفسها ثم وصف عز وجل [أنهم] مع ذلك يستخفون من الناس وأنه معهم، فلا يمكنهم الاستخفاء منه بل هو عالم بذلك كله. وإذا رأيتم من يعتقد انه لا ذنب له فاعلموا أنه قد هلك؛ وإن العجب (5) من اعظم الذنوب وأمحقها للأعمال. فتحفظوا حفظنا الله وإياكم من العجب والرياء، فمن امتحن

_ (1) اعمل بعلمي البيت في عيون الأخبار 2: 125 ونور القبس: 61 وطبقات الزبيدي: 43. (2) انظر الجزء الأول من رسائل ابن حزم: 414. (3) ص: لمن لا. (4) انظر البخاري (أدب: 60) ومسلم (زهد: 52) نصه في البخاري: كل أمتي معافى إلا المجاهرون؛ وفي مسلم: كل أمتي معافاة إلا المجاهرين وان من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملاً الخ. (5) قارن هذا بما جاء عن العجب في رسالة مداواة النفوس، في الجزء الأول: 386 وما بعدها.

بالعجب في علمه فليفتكر فيمن هو أفضل عملاً منه، وليعلم انه لا حول ولا قوة له فيما يفعل من الخير، وأن ذلك إنما [252 ب] هو هبة من الله تعالى، فلا يتلقاها بما يوجب أن يسلبها ولا يفخر بما حصل له فيه، لكن ليعجبه فضل ربه تعالى عليه، ليعلم أنه لو وكل إلى نفسه طرفة عين لهلك. وأما الرياء فلا يمنعكم خوف الرياء أن يصرفكم عن (1) فعل الخير، لان لإبليس في ذم الرياء حبالة ومصيدة، فكم رأيت من ممتنع من فعل الخير خوف أن يظن به الرياء، ولعلكم قد امتحنتم بهذا، ولكن أصفوا نياتكم لله تعالى، ثم لا تبالوا من كلام الناس فإنما هو ريح وهواء منبث، وقل والله ضرر كلامهم وكثر نفعه لكم، فعليكم بما ينتفعون به في دار قراركم وعند من يعلم سركم وجهركم وعند من يملك ضركم ونفعم، وحده لا شريك له. 9 - واعلموا أن كل حديث ذكرته لكم في رسالتي هذه فليس شيء منه إلا صحيح السند متصل ثابت بنقل الثقات مبلغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا أن الحديث الذي من طريق ابن أبي أويس عن أخيه، ذكرناه قبل (2) ، قد أسيء (3) الثناء على أبي [بكر] لكراهته بعض أئمة الحديث (4) ، وحديث الإجهار لم يأت إلا من طريق ابن أخي الزهري، وقد تكلم فيه، إلا أن معنى الحديث صحيح فخرج متمماً من سائر الأحاديث الثابتة. لكني أضربت عن الأسانيد خوف التطويل ورجاء الاختصار، مع أن أكثرها أو كلها مشهورة في المصنفات المشهورة من روايتنا، والحمد لله رب العالمين. واعلموا أن كل ما اخترت فيها من صفة ذكر أو كيفية عمل، فليس من رأيي، وأعوذ بالله العظيم، ولكنه كله إما اختيار مروي عن النبي وإما عمل، ولابد، وكل ذلك منقول بالأسانيد الصحاح ولله الحمد. 10 - ومضى في كلامنا ذكر التوبة، فأردت أن أبين لكم وجوهها، وإن كانت

_ (1) ص: خوف الرياء أن يطريكم في. (2) انظر ما تقدم ص: 169. (3) ص: أنشأ. (4) راجع تهذيب التهذيب 1: 310 في ترجمة إسماعيل بن أبي أويس، وستجد مدى الاختلاف في تعديله وتجريحه، فقال فيه بعضهم: مخلط، وقال آخر ضعيف، غير ثقة، ونقل ابن حجر عن ابن حزم نفسه في المحلى نقلاً عن آخرين أنه كان يضع الحديث، ومن الغريب ألا يتوقف ابن حزم عنده هنا، ويكتفي بالتلميح إلى موقف أخيه أبي بكر.

ليست مما سألتم عنه باسمه، لكن نسق الكلام اقتضى إثباتها، لأنها دخلت فيما سألتم مما يحط الكبائر، فاعلموا أن التوبة تكون على أربعة أضرب: أحدها: ما بين المرء وبين ربه تعالى من أعمال سوء عملها كالكبائر من الزنا وشرب الخمر وفعل قوم لوط والشرك وما أشبه ذلك، فالتوبة من هذا تكون بالإقلاع والندم والاستغفار وترك المعاودة بفعله وإضمار ان لا يعود بنيته. فإن فعل التائب من هذه الوجوه هذا الفعل سقط عنه بإجماع الأمة كل ما فعل من ذلك بينه وبين ربه تعالى، وأيضاً فيمن أقيم عليه الحد مما ذكرنا ومات مسلماً كان ذلك كفارة لما فعل بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم. والضرب الثاني: من عطل فرائض الله عمداً حتى فات وقتها، فقد اختلف الناس، فقوم قالوا: يقضيها، وقوم قالوا: لا سبيل إلى قضائها، وبهذا نأخذ، لان من فعل الشيء في غير الوقت الذي أمره الله تعالى أن يفعله فيه، فلم يفعل الشيء الذي أمره الله تعالى أن يفعله، وإنما فعل شيئاً آخر [253/أ] . وإذا لم يفعل ما أمر به فهو باق، وتوبة هذا عندنا بالندم والإقلاع والإكثار من النوافل وفعل الخير، كما جاء في الأمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) : " أن لم يوف فرض صلاته جبر من تطوع إن وجد له ". فأما ما كان من هذا فرضاً في المال فليؤده متى أمكنه كالزكاة والكفارات، لأن الله عز وجل لم يحد لأحد وقت أداء الزكاة والكفارات حداً لا يتعدى، كما حد عز وجل للصلاة حداً وللصيام وقتاً محدود الطرفين معلوم الأول والآخر ينقضي وقت كل ذلك بخروج أوله. والضرب الثالث: من امتحن بمظالم العباد، من أخذ أموالهم وضرب أبشارهم وقذف أعراضهم وإخافتهم ظلماً والإفساد عليهم، فالتوبة من هذه، الخروج عن المال المأخوذ بغير حقه ورده إلى أصحابه أو إلى ورثتهم، فاما أن يردها إلى الذين غصبها منهم بأعيانهم فقد سقط الإثم عنه يقيناً، وأما إن ردها إلى ورثتهم فقد سقط عنه إثم غصبه ما غصب عن الورثة أيضاً وبقي حق الموتى قبله، لأنه فعل ثان. فليكثر من فعل الخير ما أمكنه، فإن جهلوا فإلى إمام المسلمين إن كان لهم إمام عدل تجب طاعته، وإن لم يكن فلا بد من صرف المال إلى مصالح المسلمين، لأنه مال لا يعرف ربه، وليكثر

_ (1) مما يتصل بهذا المعنى: أول ما يحاسب به العبد صلاته فإن كان أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها قال الله عز وجل: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملوا به فريضته. ثم الزكاة. ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك (مسند أحمد 2: 425؛ 4: 65، 103؛ 5: 72، 377) .

مع ذلك من الخير ليجد أرباب المتاع ما يأخذون منه يوم القيامة فليس إنصافه عمراً بمسقط عنه ظلم زيد. وأما من تاب بزعمه وهو زام يديه على ما ظلم فيه أو على ما يدري انه ظلم بعينه بين، فهذا مصر لا تائب، ولكنه ممسك عن الازدياد من الظلم، كإنسان مصر على الزنا إلا انه لا يزني. وأما التوبة من ضرب إنسان، فهو بأن يمكن الإنسان من نفسه ليقتص منه أو ليعفو، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقتص من نفسه في ضربة بقضيب، فإن مات المضروب فموعدهما يوم يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، ولكن ليستكثر من فعل الخير ليجد من ظلم ما يأخذ وما يترك، وكذلك القول في سب الأعراض والإخافة. وأما الإفساد فالتوبة منه بالإقلاع والندم والإصلاح. والضرب الرابع: من امتحن بقتل النفس التي حرم الله تعالى، وهذا أصعب الذنوب مخرجاً، فقد جاء عن النبي: من استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة [253 ب] وقد عاينها وشم ريحها ملء محجم من دم امرئ مسلم فليفعل، أو كلاماً هذا معناه. فمن ابتلي بهذه العظيمة، فتوبته أن يمكن ولي المقتول من دمه، فإن قتله فقد اقتص منه وانتصف، وإن عفا أو أكثر قتلاه، فليلزم الجهاد، وليتعرض للشهادة جهده، فما أرجو أن يكفر عنه فعل شيء غيرها. فإن اعترض معترض بالحديث الذي فيه أن رجلاً قتل مائة ثم تاب أدخله الجنة (1) ، فلا حجة له فيه، لأن ذلك كان في الأمم الذين قبلنا، هكذا نص الحديث المذكور، وكانت أحكام تلك الأمم بخلاف أحكامنا، قال الله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة} (المائدة: 48) ، ومنها [ما] جاء في الحديث نفسه أن توبة ذلك القاتل كانت بأن خرج من قريته قرية السوء إلى قرية قوم صالحين، وهذا لا معنى له عندنا ولا في ديننا بإجماع الأمة، وقد كانت توبة بني إسرائيل بقتل أنفسهم، وهذا حرام عندنا وفي ديننا لا يحل ألبتة، ولعل ذلك القاتل المائة كان كافراً فآمن، فمحا إيمانه كل ما سلف له في كفره، فهذا أيضاً وجه ظاهر.

_ (1) انظر ابن ماجه (الديات: 2) ومسند أحمد 3: 20، 42، والحديث في صورة قصة، فإن الرجل بعد أن قتل مائة عرضت له التوبة " فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل فأتاه فقال إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة، اخرج من القرية الخبيثة التي أنت بها إلى القرية الصالحة، قرية كذا وكذا، فاعبد ربك فيها، قال فخرج إلى القرية الصالحة فعرض له أجله في الطريق، قال: فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب " الخ.

وأما التوبة في شريعتنا فإنما هي التبرؤ من الذنب والخروج عنه بما أمكن، إلا الكافر والحربي فإن توبته من كفره ومن كل ما قتل أو ظلم فإنما هو بالإسلام فقط واعتقاد العمل به وبشرائعه وليس عليه في ما قتل من المسلمين في حال كفره إذا أسلم وسدد وأصلح. والحمد لله رب العالمين. فهذا جواب ما سألتم عنه، وفقنا الله وإياكم للخير، وجعلنا في ديننا إخوانا على سرر متقابلين، آمين. والحمد لله عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المسلمين وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تمت رسالة التلخيص لوجوه التخليص

6 - رسالة البيان عن حقيقة الإيمان

6 - رسالة البيان عن حقيقة الإيمان

فراغ

- 6

- 6 - رسالة البيان عن حقيقة الإيمان كتب بها رضي الله عنه إلى أبي أحمد عبد الرحمن بن خلف المعافري الطليطلي المعروف بابن الحوات (1) ، رضي الله عنه [190 ب] بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله قال الفقيه الحافظ أبو محمد علي بن حزم رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته الفاضلين، وسلم تسليماً كثيراً وبعد، فإنه وردني يا سيدي وأخي كتابك، أكرم كتب الأحبة في الله عز وجل، وحمدت الله تعالى عز وجل على ما أدى إليه من صلاح حالك. وأورد علي صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الحسن (2) - أكرمه الله - من خبرك ما أبهجني، وملأ نفسي سروراً، فلن تزال الدنيا بخير، ما دام مثلك مرفوع اللواء، معمور الفناء، وحمدت الله عز وجل على ما ذكرته فيه من حسن معتقدك لي، فهذا الذي يلزم بعضنا لبعض، فنحن غرباء بين المتعصبين على من سلم لهم دنياهم، ليسلم له دينه، ووقفت على قولك فيه: إنه لولا خوف المشغبين، وما دهينا (3) به من ترؤس الجاهلين، لكتبت أقوالك ومذاهبك وبثثتها (4)

_ (1) هو عبد الرحمن بن احمد بن خلف، أبو احمد المعارفي الطليطلي: كان إماماً مختاراً يتكلم في الحديث والفقه والاعتقادات بالحجة، قوي النظر، كي الذهن سريع الجواب بليغ اللسان وله تواليف جيدة ومشاركة قوية في الأدب والشعر لقيه الحميدي تلميذ ابن حزم بالمرية، وتوفي قريباً من سنة خمسين وأربعمائة وقيل سنة 448 وقد أوفى على الخمسين (انظر جذوة المقتبس رقم: 590، ص: 252 وبغية الملتمس رقم: 997 والصلة:321) . (2) يعرف بابن الكتاني وقد كر الحميدي (الجذوة:35) انه كان ذا مشاركة قوية في علم الأدب والشعر، وله تقدم في علوم الطب والمنطق وكلام في الحكم ورسائل وكتب معروفة، ولابن حزم صلة وثيقة به واستشهاد ببعض أقواله وعنه اخذ المنطق والفلسفة. وهو صاحب كتاب التشبيهات من أشعار أهل الاندلس؛ وقد ترجمت له في المقدمة وذكرت هنالك مراجع ترجمته. . (3) ص: ذهبنا. (4) ص: تبثها.

في العالم، وناديت عليها كما ينادى على السلع. 1 - فاعلم يا أخي - وفقنا الله وإياك - أن خوفك المشغبين لا يكف عنك غرب أذاهم، لو قدروا لك على مضرة، وان كشفك الحق وصدعك به لا يقدم إليك مؤخراً عنك أتخشون الناس {فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} (التوبة: 13) . يقول الواحد الأول خالقنا لا إله إلا هو {فلا تخافوهم وخافون} (آل عمران: 175) . 2 - يا أخي: اجتهد لربك، وادع إليه وخفه في الناس، يكفك الله تعالى أمرهم، ولا تخفهم فيه، فيدعك وإياهم، وأعوذ بالله، قد سبق، قد سبق القضاء بما هو كائن فلن يرده حيلة محتال، وكائن بالموت قد نزل، فتركت (1) من تداريهم مسرورين بذهابك، لا ينفعونك بنافعة. واذكر قول نبيك محمد عليه السلام لعلي رضي الله عنه (2) " لأن [91/أ] يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ". 3 - ولقد أضحكني قولك: إنك علمت من مذهبي أني أفصح بكل من قال مقالة، فخشيت ان أفصح باسمك فيما لم تقله، فمعاذ الله أن أفصح عنك أو عن غيرك، إلا باليقين المحض، وأما إذا علمت أن الأخ من إخواني يكره أن أفصح عنه بمقالة يقولها، فهي مدفونة خلال الشغاف، لا سبيل إلى تحريك لساني بها بيني وبين نفسي، بحيث يمكن أن يسمعني سامع، فكيف أن أبثها وأما أنا فلست أكره أن تبث عني ما أقوله على حسبه. 4 - وأما قولك: أما تقصد إلى، إلى أن لا يؤثر عنك قول إلا حتى تستخير الله تعالى فيه كثيراً، وتصحح نيتك في ذلك، فحسن جداً وحال لا ينبغي لأحد تعديها (3) . 5 - وأما قولك: حتى إذا بلغت إلى حد الحسبة والصبر، إن كانت محنة، تناولت الأوكد فالأوكد، فحالة أريد ألا تتصورها ولا تتمثلها فإنها مبخلة مجبنة؛ وتذكر قول العامة: فلان يحب الشهادة والرجوع إلى البيت؛ مع أني أرجو الكفاية من الله عز وجل والحماية؛ واذكر قوله ووعده الصادق المضمون عندي إذ يقول

_ (1) ص: فتركب. (2) في الجامع الصغير (2: 122) لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت. (3) ص: يعديها.

تعالى {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (الحج: 40) . والله يا أخي، ولله الحمد، لقد حماني تعالى، وما اعدمني قط من مخالفي مقالتي من يذود عني ويذب عن حوزتي أشد الذب، وإني لأدعو الله لهم مدى عمري. أولهم القاضي أبو المطرف عبد الرحمن بن أحمد بن بشر (1) وأبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرؤوف (2) [صاحب] الأحكام (3) - نور الله وجهيهما، وجازاهما بأفضل سعيهما، فلقد قام لي منهما ما يقوم من الأخوين المحبين. ثم أبو العاصي حكم بن سعيد (4) ، غفر الله ذنبه، وتغمد خطاياه، وقارضه بالحسنى فإنه أبلى في جانبي أتم بلاء؛ وما قصر يونس بن عبد الله بن مغيث شيخنا (5) نضر الله وجهه، واكرم منقلبه ولقد [91 ب] بلغ أبو جعفر أحمد بن عباس (6) من ذلك الغاية القصوى، واستئثار الأجر الجزيل والذكر الجميل. برد الله مضجعه، ولقاه الروح والريحان؛ ثم الكاتب الفاضل ذو المآثر العالية والفضائل السامية والأعمال الزاكية والسعي المحمود، أبو العباس (7)

_ (1) ترجم له الحميدي في الجذوة رقم: 588، ص 251 وابن بشكوال في الصلة: 319 - 321 وابن سعيد في المغرب:1: 158 والنباهي في المرقبة العليا: 87. ولاه علي بن حمود القضاء سنة 407 فبقي فيه إلى آخر سنة 419 وكان ماهراً بالحكومة مع حلاوة اللفظ وحسن الخط، وعابه ابن حيان مؤرخ الأندلس بالشعوبية وبقعوده عن الرحلة إلى المشرق، وإليه كتب ابن حزم قصيدته البائية التي يفخر فيها بنفسه وأثنى عليه بالعلم. وقد توفى أبو المطرف عام 422هـ. (2) كان صاحب أحكام المظالم، واسع العلم حاذقاً بالفتوى صليباً في الحكم مؤيداً للحق، وتوفي سنة 424 (الصلة: 489) . (3) ص: الحكم. (4) هو الحكم بن منذر بن سعيد، وقد رم حديث عنه في طوق الحمامة، وكانت وفاته سنة 420 (الصلة: 146) . (5) انظر ترجمته في الجذوة: 362 والبغية ص: 498 والصلة: 622 والمرقبة العليا: 95: وكان يونس من أعيان أهل العلم أخذ عنه ابن حزم وابن عبد البر، وعرف بالزهد والميل إلى التحقيق في التصوف وألف فيه كتباً وقد تولى القضاء بعد أبي المطرف، وبعد أن أثنى عليه ابن حيان بمعرفة الحديث والشهرة في الخطابة والتقدم في علم اللسان والآداب ورواية الشعر ذمه لأنه لم يحج، ولأنه كان يحب الدنيا ويزدلف إلى الملوك - توفي يونس سنة 429هـ. (6) المشهور بهذا الاسم والكنية في الزمان ابن حزم أبو جعفر أحمد بن عباس الأنصاري وكان كاتباً بارعاً في الفقه، معروفاً بحبه الشديد لجمع الكتب وبخله بها، بلغ مرتبة الوزارة ثم قتله باديس بن حبوس سنة 427 هـ. (انظر الإحاطة 1: 129 والذخيرة 1/ 2: 643) . (7) أبو العباس هذا هو أحمد بن رشيق الكاتب الذي بسق في صناعة الرسائل وشارك في سائر العلوم ومال إلى الفقه والحديث وقدمه الأمير مجاهد العامري على كل من في دولته، وكان يجمع العلماء والصالحين ويؤثرهم ويصلح الأمور جهده وقد رآه الحميدي تلميذ ابن حزم وروى عنه (انظر الجذوة: 207 ص: 114) وهو الذي قرب ابن حزم أثناء إقامته بميورقة، وفي مجلسه جرت المناظرة بين ابن حزم وأبي الوليد الباجي.

المشغوف بالعلم وتقديم الحسنات كشغف غيره بالأموال واللذات، صديقك ومحبك ومؤثرك، لا زالت عليه من الله واقية في دنياه، فلقد هيأه ويسره لمنافع عباده، وأجرى الصالحات على يده كثيراً، وألحقه إذا دعاه بنبيه في أعلى عليين، آمين. وبالله المستعان، وعليه الاتكال. 6 - أما قولك: إنك تتناول في خلال ما تتناول بضروب من السياسة فحسن جداً، جعلنا الله وإياك من الداعين إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة. 7 - ومن اعجب ما مر بي منذ دهر قولك في كتابك: إنه بلغك عني أني أقول عنك إنك تقول: لا إدام إلا الخل؛ من أجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم الإدام الخل " (1) . فاعلم - يا أخي - انه قد ساءني هذا جداً أن أكون عندك بهذا المحل، وأقل ما أقول لك: والله الذي لا أقسم بسواه - ولو علمت أعظم من هذا القسم لأقسمت به لك، وأعوذ بالله أن أعتقد في العالم قسماً غيره، فكيف مثله، فكيف أشد منه - إن كنت قط سمعت هذه المقالة من أحد من خلق الله تعالى يحيكها لي عنك، ولا رأيتها عنك في كتاب، ولا طنت على أذني حتى رأيتها في كتابك، فكيف أن أحكيها عنك، فأستجيز الكذب البحت عليك! حاشا الله من هذا. وليس هذا النص من دليل الخطاب، إنما كان يمكن أن يتأول على من يقول بدليل الخطاب: لا نعم الإدام إلا الخل. وأما القطع بان لا إدام غيره، فليست هذه القضية مقتضية هذه الاخرى؛ فبالله ما أعرضت عن كل شرير يريد أن يسمع الناس سبهم على ألسنة [92/أ] غيرهم. 8 - ورأيت المدرجة ووقفت عليها. أسأل الله أن يجعلنا وإياك ممن يستمع القرآن والقول فيتبع احسنه، والجملة التي أوردت من قولي فيها فهو قولي أيضاً. وكذلك وقفت على الفصول التي ذكرتني بها، أحسن الله جزاءك على ذلك، فهكذا تكون الناس. 9 - أولها قولك: انظر هل فرض الله تعالى النظر أم لا (2) فجوابي إنه لم يفترض قط في التوحيد وصحة النبوة وجميع الشرائع، النظر؛ بل إنما افترض في كل ذلك اتباع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقط. ولو فرضه الله تعالى فيها، ما جاز قبولها

_ (1) انظر حديث " نعم الإدام الخل " في صحيح مسلم 2: 144 وفي سنن أبي داود (أطعمة: 39) والنسائي (إيمان: 21) وابن ماجه (أطعمة: 33) والجامع الصغير 2: 188) . (2) تحدث ابن حزم عن هذه المشكلة في الفصل (4: 35) وعقد لها فصلاً عنوانه هل يكون مؤمناً من اعتقد الإسلام دون استدلال، وهو في موقفه من إنكار الاستدلال والنظر يرد على الطبري والأشعري.

من أحد حتى يقرر على الوجه الذي صح به عنده التوحيد والشريعة كلها. فتثبت يا أخي ها هنا، فإن نظري ونظرك لا يحكمان على ميراث الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم؛ وإنما افترض على الناس في الشرائع كلها شيئاً واحداً وهو الائتمار لما جاء به الوحي من عند الله تعالى فقط. فهذا الوجه خاصة، هو الذي افترض على الناس عقده، والقول به، والعمل. وأما طرق الاستدلال التي عني بها المتكلمون فما افترضها الله تعالى قط على أحد. وأقول قولة أقدم لك فيها مقدمة تصلح بعض ما يمكن أن ينكره منكر من قولي وهي: إني أريد [أن] أقول قولاً يعيذني الله من أن أقوله مفتخراً أو ممتدحاً، لكن سياق الكلام والحجة أوجب أن أقوله وهو: إني ولله الحمد لست بمبخوس الحظ من هذا العلم، اعني علم أهل الكلام وطريقهم في الاستدلال (1) فيظن ظان أني إنما قلت ما قلت عداوة لعلم جهلته، لا، ولكن الحق لا يجوز أن يتعدى. وأما قول الله تعالى {أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق من شيء} (الأعراف: 185) وقوله {أو لم يتفكروا} وقوله {أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي، أفلا يؤمنون} (الأنبياء: 30) الآية، [92 ب] وسائر الآيات التي في معنى هذا، فإنك يا أخي إن تدبرتها، كفينا التعب؛ وهي أنها كلها بلفظ الحض لا بلفظ الأمر، وهذا قولي نفسه، وأما الأمر بالاعتبار فليس من هذا الباب، إنما هو الأمر بالاتعاظ بمن هلك ممن عصى الله تعالى فيخاف العاصي له عز وجل مثل ذلك فقط، وليس شيء من هذا يوجب انه لا يصح لأحد اسم التوحيد وحكمه عند الله تعالى إلا بأن يكون اعتقاده إياه من طريق الاستدلال. 10 - وأما قولك: انظر الأدلة المحرمة للتقليد (2) فأنا أريد أن تتفقد وان تتدبر كلامي، فإنك تجده صفراً من مدح التقليد، ومملوءاً من ذمه؛ وليس في قولي إن من اتفق له معرفة الحق بمعنى اعتقاده من جهة التقليد فإنه من أهل الحق عند الله تعالى

_ (1) ذكر ابن حزم كيف بقي سنين كثيرة لا يعرف الاستدلال ولا وجوهه ثم تعلم طرقه وأحكمها (الفصل 4: 38 - 39) قال: فما زادنا يقيناً على ما كنا بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة التي نشأنا عليها فقط كالقول في الدين بالقياس. (2) انظر المحلى: 66 في تحريم التقليد وإبطاله: وخلاصة رأي ابن حزم أن التقليد هو اخذ المرء قول من دون رسول (ص) ممن لم يأمرنا الله عز وجل باتباعه قط ولا يأخذ قوله بل حرم علينا ذاك ونهانا عنه، وأما أخذ المرء قول الرسول فليس تقليداً بل هو إيمان وتصديق واتباع للحق.

وإن كان مذموماً في تقليده لا في اعتقاده الحق، ما يوجب علي أني أبيح التقليد، وأنا لم أبحه قط، لا في التوحيد ولا في غيره. إنما هو عندي كإنسان خرج ليسرق فأتفق له أن وجد متاعاً له قد كان سرق منه فأخذه: هو مصيب في اعتقاده الحق، مسيء في تقليده، وتأمل القرآن كله لا تجد فيه إلا الحض على البحث لا على إيجابه ألبتة، وإنما تجد فيه ذم التقليد إذا وافق الباطل فقط، فهنالك ذم الله تعالى اتباع الآباء والسادة والكبراء والأحبار، وهنا ذمه الله على كل حال. وأما إذا وافق الحق فقد قال الله عز وجل {والذين آمنوا واتبعناهم ذرياتهم بإيمان، ألحقنا بهم ذرياتهم} (الطور: 21) ، وأمر الله تعالى باتباع ما اجمع عليه أولو الأمر منا بخلاف أولي إذا اختلفوا، فبهذا جاءت النصوص ولا مدخل للنظر على ما جاء به كلام الله تعالى. (1) 11 - وأما قولك لي أن النظر ما في الفطرة من خطأ الاقتصار على الدعوى، فلم أحمد ذلك أصلاً، ولا أمرت به، وإنما قلت وأقول إن [93/أ] المقلد مذموم في تقليده، فإن أصاب الحق بتوفيق الله عز وجل له إليه، فهو من أهل الحق، وإن حصل عليه بطريق غرر، وهما عملان متغايران، وفق في أحدهما ولم يحمد (2) في الآخر. وهذا جواب قولك لي: إذ كل قائل مدع، فيجب أن لا يؤخذ بقول أحد من المختلفين والقائلين أو يؤخذ بقول جميعهم وكلا الأمرين خطأ. فتأمل يا أخي، إنك ألزمتني ما لا يلزمني وأنا لم آمر قط بالتقليد: فاضبط عني: إنما قلت التقليد مذموم فإن أدى إلى باطل فصاحبه إما كافر إذا وافق كفراً، وإما فاسق إذا وافق خطأ في الشريعة، وإما مخطئ فيه إذا وافق الصواب بالبخت (3) ، ولم أقل قط إنه واجب، أو يؤخذ بقول مدع، ولا أنه جائز فضلا عن أن يكون واجباً، ولا أنه ممكن أيضاً؛ ولا قلت قط إنه جائز أن يؤخذ فيقول قائلاً ما بلا دليل، فكيف أن أوجبه! لكن قلت إن القول بالحق واجب لأنه حق. 12 - وأما قولك لي: فكان عندك جائزاً أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: قلدوني في قولي، فجوابي إنه عليه السلام لم يقله، ولو قاله لواجب ولكنه لم يقله، لكن قال: قولوا لا إله إلا الله وإني رسول الله، فهذا واجب بيقين عند الله تعالى وعند

_ (1) واتبعناهم قراءة أبي عمرو، وذرياتهم على الجمع منصوباً فيهما وهي قراءة البصريين وابن عامر وقرأ الباقون بغير ألف على التوحيد، والقراءة المتداولة " واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ". (2) ص: يجهد. (3) ص: بالبحث.

كل مسلم. ولم يقل عليه السلام قط، ولا أحد من الخلفاء بعده، إنه لا يلزمكم هذا القول أن تقولوه إلا حتى تستدلوا وتناظروا وتعرفوا الجوهر من العرض، ومعاذ الله أن يكون هذا واجباً ويغفله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتفق الأمة الفاضلة كلها على إبطاله وإغفاله، حتى جاءت المعتزلة والأشعرية (1) ، وهما الطائفتان المعروف (2) قدرهما عند المسلمين. فها هنا قف يا أخي وقفة، وتأمله بقلب سليم، فإنه أظهر من كل ظاهر. 13 - وأما قولك لي: لو جاز أن يقلد لجاز أن يقلد غيره، فهذا لا يلزمني لأنه الحق، وغيره [93 ب] هو المبطل الباطل. فمن سكنت نفسه إلى قوله عليه السلام، ولم تنازعه إلى دليل وقبله وقاله، فقد وفق للخير والهدى؛ ومن نازعته نفسه ولم تقنع إلا ببرهان، فهذا هو الذي يلزمه النظر والاستدلال، ويلزمنا البيان له والمحاجة والمجادلة بالتي هي أحسن، وإقامة البرهان عليه. وهكذا فعل عليه السلام، فإنه قبل الإسلام ممن أسلم بلا اعتراض، ومن حاجة أتاه بالآيات، ودعاه إلى المباهلة وتمني الموت وأقام عليه حجة البرهان الواضح. فتأمل هذا تجده كما أقول لك، ودع عنك بالله حماقات أهل السفسطة المسخرين لحماقات كتب ابن فورك (3) والباقلاني (4) ، وما هنالك، فما سرني انتساخك لكتابه المعروف " بالدقائق " وستقف عليه إن شاء الله تعالى وتتدبره، فلتعلم أن الكاغد مخسور في نسخه، بل المداد على تفاهة قدره. 14 - وأما قولك: أما الرسول فلا تجب طاعته إلا بعد معرفة الله ضرورة، إذ من جهل (5) المرسل وقدره، وما يلزم من طاعتهن لم يلزمه اتباع مرسله ولا طاعته، هذا

_ (1) انظر ما سماه ابن حزم شنع المعتزلة في الفصل (4: 192) وهو فصل من كتاب سماه النصائح المنجية من الفضائح المخزية والقبائح المردية من أقوال أهل البدع، ثم أضافه إلى كتاب الفصل؛ وأما الأشعرية هاجمهم في مواضع شتى من كتابه (وانظر بخاصة الفصل 4: 204) وقد عدهم من المرجثة وأكثر ما يعيبهم عنده قولهم إن الإيمان عقد بالقلب وإن أعلن المرء الكفر بلسانه وعبد الأوثان أو لزم اليهودية والنصرانية إلخ قال: وأما الأشعرية فكانوا ببغداد وبالبصرة ثم قامت لهم سوق بصقلية والقيروان وبالأندلس ثم رق أمرهم. (2) ص: المعروفة. (3) هو محمد بن الحسن انظر ترجمته في طبقات السبكي 3: 52 وتبيين كذب المفتري: 232 وابن خلكان 4: 272 ومرآة الجنان 3: 17 وإنباه الرواة 3: 110 والوفي 2: 344 والشذرات 3: 181 وكانت وفاته سنة 406 هـ. (4) توفي القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني سنة 403 هـ، انظر ترجمته في تبيين كذب المفتري: 217 وتاريخ بغداد رقم: 2906 وابن خلكان 4: 269 وترتيب المدارك 4: 585 والوافي 3: 177 والديباج: 267 وابن كثير 11: 350 والمنتظم 7: 265. (5) ص: جعل.

ما لم يدفعه عقل، فمعرفة الله مقدمة على معرفة رسله، هنا انتهى قولك. وهذا قول يجب أن تتأمله، فليس على ما ذكرت، ولا كانت معرفة الله واجبة قبل الرسل. قال الله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (الإسراء: 15) . فإذا سقط العذاب (1) عن كل من لم يأته رسول بنص كلام الله تعالى، بيقين ندري أن كل ما لا يعذب الله تعالى عليه ولا ينكره فليس واجباً بل إنما وجبت على الناس معرفة الله بدعاء الرسل عليهم السلام، إليه تعالى فقط، لا قبل ذلك. يا أخي قولك في وجوب معرفة الله تعالى قبل الرسل، والوجوب فعل يقتضي موجباً بضرورة العقل، فقل لي: من أوجب المعرفة فإن قلت عن الله تعالى أوجبها. قلنا لك: فمن أين [94/أ] زعمت أن الله تعالى أوجبها فإن قلت: بضرورة العقل، ادعيت على العقول ما ليس فيها (2) ، وجمهور الناس من أصحاب الحديث والفقهاء والخوارج والشيعة متفقون مصرحون بان معرفة الله تعالى لا تلزم إلا بمجيء الرسل ودعائهم إلى الله تعالى فقط. وإن قلت: إن العقل أوجب ذلك فرضاً، فهذا محال ظاهر، والعقل لا يحرم شيئاً ولا يوجبه، والعقل عرض [من] الأعراض محمول في النفس ومن المحال أن تحكم الأعراض وتوجب وتشرع؛ وإنما في العقل معرفة الأشياء على ما هي عليه فقط من كيفياتها ولا مزيد. وهذا باب قد أحكمته غاية الإحكام في صدر كتاب " أصول الأحكام (3) . فتأمل هذا الفصل تجده كما قلت. ولا تحسنن (4) ظنك بكل ما تجده لأولئك المهذرين السوفسطائيين على الحقيقة، المتسمين بالمتكلمين الذين يأتونك بألف كلمة من هذرهم (5) ينسي آخرها أولها، وليست إلا الهذيان والتخليط وقضايا فاسدة بلا برهان، بعضها ينقض بعضاً. 15 - وأما قولك: مع أن ظواهر الشريعة دلت على لزوم المعرفة والعلم بالله عز

_ (1) ص: الكلام. (2) قارن هذه بفكرة ابن الطفيل في حي بني يقظان فهي نعتمد على الاستدلال النظري لمعرفة الله تعالى. دون رسول. وابن حزم ربما لم ينكر هذا ولكنه ينكر وجوب المعرفة. (3) هو كتابه الإحكام في أصول الأحكام. وفيه حديث مفصل عن مهمة العقل (1: 13 وما بعدها) وخلاصة رأيه أن في العقل الفهم عن الله تعالى ومعرفة صفات المدركات. لكنه لا يوجب أن يكون الخنزير حراما أو حلالاً أو أن تكون صلاة الظهر أربعاً وصلاة المغرب ثلاثاً، أو أن يقتل من زنا وهو محصن وإن عفا عنه زوج المرأة وأبوها، ولا يقتل قاتل النفس المحرمة عمداً إذا عفا عنه أولياء المقتول الخ (المصدر المذكور ص 28) . (4) ص: تحسبن. (5) غير واضحة في الأصل.

وجل، من ذلك قوله {فاعلم أنه لا إله إلا هو} (محمد: 19) والمقلد غير عالم ولا عارف، فإنما المأمور بهذا العلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، المأمور بعقب هذا الأمر بالاستغفار للمؤمنين، وهو عليه السلام قد علم الله تعالى بأعظم البراهين، من مشاهدة الملائكة، ومشاهدة السموات سماء سماء، ومكالمة الله تعالى، ورؤية المعجزات على يده، فهو المأمور بالعلم حقاً، وأما سائر الناس فلم يؤمروا قط بهذا، وإنما أمروا بان يقولوا شهادة الإسلام بألسنتهم ويعتقدوها بقلوبهم، فهذا هو الذي أمروا به حتى لا تجد انهم أمروا بغير ذلك أصلاً. فمن شرهت نفسه إلى العلم المحقق فليطلب الاستدلال، كما فعل إبراهيم عليه السلام [94 ب] في إحياء الطير، ومن لم تنازعه نفسه، فلو فعل ذلك لكان حسناً؛ ومن لم يفعل، لم يخرج بذلك من كونه من أهل الحق إذا وقفه الله تعالى. 16 - وأما قولك: وأريد أن تتأمل قولك: لا يلزم من معرفة الباري تعالى والنبوة إلا (1) ما دعاهم إليه نبيهم المختوم به الرسل من صحة الاعتقاد: هل (2) الذي دعاهم إليه من الاعتقاد هو المعرفة أو غيرها فإن كانت المعرفة، فلا تكون إلا بتقديم البراهين وإلا كانت غير معرفة. وإن كانت غيرها فالمعرفة لم تفرض، وغنما فرض غيرها؛ ويجب أن تعرف ما ذلك المفترض، وفي إيثار هذا الكلام ما فيه - فنعم يا أخي قد تأملته جداً وأنا ثابت عليهن والحمد لله رب العالمين. وأنا أكرره فأقول: لم يفترض الله تعالى على الناس قط [إلا] (3) الإقرار بألسنتهم بدعوة الإسلام واعتقاد تحقيقها بقلوبهم فقط؛ وأما المعرفة التي لا تكون إلا ببرهان فما كلفوها قط. وأما من عبر (4) عن صحة الاعتقاد بالمعرفة فإن الجواب عن هذا دخول في استعمال الألفاظ المشتركة التي استعمالها أس البلاء. لكن نقول لك: عن كنت تعبر بالمعرفة عن صحة الاعتقاد للحق، فالناس مكفلون هذا. وإن كنت تعني بقولك المعرفة: العلم المتولد عن البرهان فما كلف الناس قط هذا. وهذا علم الأنبياء عليهم السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجميع أمته بعده حتى حدث من تعرف، فأتوا بقول إذا حققته لزم التقصير البين للنبي صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين بعده.

_ (1) ص: إلى. (2) ص: هل هو. (3) زيادة لازمة. (4) ص: غير.

17 - وأما قولك لي: وأرغب أن تتأمل قولك " حاشا من كان عقده انه لو كان أبوه يهودياً أو نصرانياً لكان يهودياً أو نصرانياً، فهذا ليس عقده بصحيح (1) . ثم قلت أنت: وهل من لم يكن عارفاً بالأدلة ولا واثقاً بها وكان مقلداً إلا على ذلك وهل يرتفع أحد من هذا العقد الذي ليس بصحيح عندك [95/أ] حتى يعتقد الدين، لا لان آباءه اعتقدوه ولا أن قومه اعتقدوه إلا عن معرفة بالبراهين الصحيحة ومعرفة الحق مجرداً، وإنما لحظت هذا وما تصل به، لان (2) الدليل الذي اقتصرت عليه ليس بصحيح عندك؛ فغن الرسول لم يقتصر (3) على دعواه فيما دعا إليه ولا رضي عمن (4) قلده - هذا نص قولك - فاعلم يا أخي أن كل من اعتقد الحق عن غير استدلال فليس على ما ذكرت، بل أكثر الأمة والحمد لله ممن لا يدري يتهجي لفظة " استدلال " فكيف أن يعرف معناها، تجده لو خير بين أن يعذب بأنواع العذاب، إلى انقضاء عمر الدنيا، وبين أن يفارق الإسلام لتخير بلا شك أنواع العذاب، ونجده لو كفر أبوه وأهل بلاده بعد أن يفارق الإسلام لتخير بلا شك أنواع العذاب، ونجده لو كفر أبوه وأهل بلاده بعد ان تحقق عقد الإسلام في قلبه، لاستحل دم أبيه وولده وأهل بلده، وهذا أمر تشاهده بنفسك من أكثر العوام الذين أنت تدري انهم لم يعرفوا الدين قط من طريق الاستدلال. وأما من تعتقد انه لو كفر أهل بلده لكفر هو معهم، فهذا عند الناس كلهم كافر غير صحيح لاعتقاده، فتأمل هذا تجده كما أقول لك أيضاً، والله أعلم. 18 - وأما قولك لي: إن الرسول عليه السلام لم يقتصر على دعواه فيما دعا إليه ولا رضي عمن قلده، فكلام غير محقق، بل ما اقتصر قط عليه السلام إلا على دعائه فقط، إلا من طالبه بآية، فحينئذ أتاه بها، وأما من لم يطلبه بها فما قال له عليه السلام قط: لا تؤمن حتى ترى آية، وما زال عليه السلام راضياً عمن اتبعه ورضي به، وغن لم يطلبه بدليل على ما أورد بعد هذا إن شاء الله تعالى، فصح أن الدليل الذي استدللت به في غاية الصحة، وانه عيان مشهور منقول نقل الكواف، لا معترض فيه، والحمد لله رب العالمين. 19 - وأما قولك في الخبر الصحيح (5) : " وأما المنافق أو المرتاب [95 ب] فهو

_ (1) ص: صحيح. (2) ص: بأن. (3) ص: وأن الرسول يقصر. (4) ص: من. (5) أورد البخاري هذا الحديث في كتاب العلم وكتاب الكسوف وكتاب الجمعة، وهو بصورته هذه من حديث أسماء في سؤال القبر: فأما المؤمن أو قال الموقن - شك هشام - فيقول (إذا سئل عن النبي) هو رسول الله هو محمد صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا وصدقنا فيقال له نم صالحاً قد كان نعلم إنك لتؤمن به، وأما المنافق أو قال المرتاب - شك هشام - فيقال له ما علمك بهذا الرجل فيقول لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت (وفي نسخة فقلته) . وانظر ابن ماجه (زهد: 32) والترميذي (جنائر: 70) ابن حزم، في هذا الخبر أن الرسول قال: المنافق والمرتاب ولم يقل غير المستدل فاللفظ لا يسعف خصوم ابن حزم، ثم إن المنافق والمرتاب مقلدان للناس لا محققان، والتقليد شيء غير الاستدلال.

الذي يقول سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، وان المؤمن هو الذي يقول جاءنا بالبينات والهدى " فخبر صحيح وهو حجتي عليك لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حكى القول " سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته " عن منافق أو مرتاب، وإنما أتيت أنا على محقق بقلبه ليقينه نافر عن الشك والجحد كل النفار إلا أنه فتح (1) الله عز وجل له في ذلك الحق بالبخت لا عن استدلال؛ وهذا بعينه هو الذي يقول بقلبه ولسانه في الدنيا كما نقول، إذا مات، جاءنا بالبينات والهدى، فتأمل هذا تجده كما قلت لك، والحمد لله رب العالمين. 20 - وأما قولك لي: ويجب أن تنظر في القول إنه عليه السلام لم يدع أحداً إلى غير هذا عموماً، وإذا لم يدع إليه فهو تكلف، وإذا كان تكلفاً فكيف يرجع إليه من اختلج في صدره شيء أو كيف يجده فنعم يا أخي ما دعا عليه السلام إلى غير هذا، ومن العجب أن يكون دعا إلى غير هذا واتفقت الأمم على كتمان هذا وطيه. أترى هذا يا أخي ممكناً حاشا لله من هذا، ونعم، هو تكلف حسن ممن لم تنازعه نفسه إليه. وأما تعجبك بقولك: فكيف يرجع إليه من اختلج في صدره شيء أو كيف يجده أما علمت أن شرب الدواء والكي تكلف وأن من احتاج إليهما لدفع ضرر حل به وجب عليه أن يرجع إليهما فأي عجب في هذا وأنا لم أحتج عليك بهذا التظير، وإنما أريتك إن هذا الذي أنكرت وجوه موجود في العالم، وإنما طلب الاستدلال لتعلم القرآن كله، وتعلم الكتاب ليس فرضاً لكنه تكلف حسن ممن تكلفه، وهما فرض على من قصد ضبط الديانة للناس، والاستكثار من الخير والعلم فقط. 21 - وأما قولك: فإن قيل هو مندوب إليه، ولذلك كان له عليه أجر، قيل فجائز لجميع الأمة تركه ولا إثم عليها في إغفاله، وإذا كان هذا أدى إلى أن يكون جميع الشرع [96/أ] بأيدينا دعوى، وفي هذا ما لا يخفى، فاعلم انه مندوب إليه كما قلنا ببرهان انه لم يأت به قط أمر من عند الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه

_ (1) غير معجمة في الأصل.

وسلم، وأما قولك فجائز لجميع الأمة تركه ولا إثم عليها في إغفاله، فنعم هو كذلك، وهذه صفة ما لم يأت به أمر من عند الله تعالى، ولو (1) أن الأمة كلها التقت بالقبول وصحة العقد، ولم يكن فيها منازع ولا كافر، ما احتيج إلى الاستدلال ألبتة، إذ لم يأت بإيجابه أمر من الله عز وجل ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم. 22 - وأما قولك: إذا كان هذا، أدى إلى أن جميع الشرائع بأيدينا دعوى، وفي هذا ما لا يخفى، فغن الله تعالى حض على الاستدلال كما قلنا ولم يفترضه، وعلمنا إياه ولم يوجب تعلمه على أحد، وأوجب علينا مناظرة المعاندين بالبراهين؛ وأنا يا أخي لم أنكر هذا قط، وغنما قلت إن من لم تنازعه نفسه إليه، وأنس إلى اعتقاد صحة الإسلام والإقرار به فهو مسلم صحيح الإسلام عند الله تعالى، وإن المعتقد لذلك (2) عن استدلال أفضل فألزمتني ما لم يلزمنيه قولي (3) . 23 - وأما قولك: فينظر فيما فرض الله تعالى من تدبر القرآن وما فيه من الدلائل. فتدبر القرآن فرض، ومعنى تدبره فهم معاني ألفاظه. وكيف لا يكون فرضاً وهو بيان ما افترض، وقد تدبرناه ولله الحمد فلم نجد فيه فرض قبل الرسل، وهذا قولنا والحمد لله، وهنا انتهى قولك وما اقتضاه من جواب. 24 - ثم أنا أبتدئك بما يلزم بعضنا لبعض من بيان الحق وتعاطي البراهين، فأقول لك وبالله تعالى التوفيق: قبل كل شيء أريد أن تنظر في كلامي بعينٍ (4) سليمةٍ من الأعراض ومن الاستحسان معاً، وبنفس بريئةٍ من النفار والسكون معاً، لا (5) كما ينظر المرء بما

_ (1) ص: ولولا. (2) ص: كذلك. (3) قابل هذا يقول ابن حزم (الفصل 4: 40) : ونحن لا ننكر الاستدلال بل هو فعل حسن مندوب إليه محضوض عليه كل من أطاقه لأنه نزود من الخير، وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق. . وإنما ننكر كونه فرضاً على كل أحد، لا يصح إسلام أحد دونه، هذا هو الباطل المحض (وانظر أيضا وقفة ابن حزم عند هذا الموضوع في الفصل 5: 110) . (4) ص: بغير. (5) ص: لكن.

لم يسمعه قط، فيسبق إليه منه قبول [96ب] يسهل عليه الباطل أو نفار يوعر عليه الحق. فمن هذين السعيين تاه أكثر الناس وفارقوا المحجة. 25 - فأقول إليك يا أخي: كان إسلام خيار أهل الأرض بعد النبيين عليهم السلام كخديجة وعائشة أمي المؤمنين، وأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وبلال، وزيد بن حارثة، وخالد بن سعيد بن العاصي، وعمرو بن عبسة، وعثمان بن عفان، والزبير وطلحة، وزينب وأم كلثوم وفاطمة ورقية، بنات النبي صلى الله عليه وسلم. فهل ذكر قط أحدهم أو جميعهم أو غيرهم عنهم أنهم لم يسلموا حتى سألوا آيةً وطلبوا معجزة، وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برهاناً هل كان أكثر من أن دعا الإسلام خديجة إلى الإسلام وأبا بكر عليهما الرضوان، فلم تكن لهما كبوة ولا تردد؛ وأما عائشة وعلي وزينب وأم كلثوم وفاطمة ورقية فهل كان إسلامهم إلا على تدريب الكافل والأبوين ولا مزيد وسكت عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، لأنه قد قيل إنهما لم يسلما إلا بعد معجزة رأياها. فلعمري يا أخي إن قال قائل: إن هؤلاء المذكورين لم يسلم منهم أحد إلا عن معجزة طلبها فعرضت عليه ليقولن ما يشهد قلبه بأنه كاذب فيه ثم لا يبقى أحد في العالم لم يدر شيئاً من السير والأخبار إلا كذبه ودرى أنه كاذب. 26 - تفكر يا أخي كيف أسلم النجاشي وبأذان والمنذر بن ساوى وعباد (1) وجيفر ابنا الجلندى وذو الكلاع وذو ظليم وذو مران وذو زود وهؤلاء ملوك بلادهم (2) ؛ وكيف أسلم الستة من الأنصار، والاثنا عشر، والثلاثة وسبعون الذين هم خيار أهل الأرض. هل طلب واحد منهم معجزة أو رغب آية تفكر في هذا، ودعنا من استبشاع مخالفة هذيان المتكلمين (3) الذين لم ينتج الله تعالى على أيديهم إلا افتراق الكلمة، وتفكير المسلمين بعضهم بعضاً. [97/أ] ألم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (4) " دعوا لي صاحبي فإن الناس قالوا كذبت، وقال أبو بكر صدقت " ولذلك سمي الصديق.

_ (1) سماه المقري زي في الإمتاع عمرا واسمه في جوامع السيرة والفصل: عياذ؛ وفي سيرة ابن سيد الناس: عبد. (2) انظر جوامع السيرة: 30 وما بعدها وكذلك الفصل 2: 85. (3) ص: هذان المتكلفين. (4) في صحيح البخاري (5: 5) إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر الصديق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوالي صاحبي. وانظر حديثاً مقارباً في مجمع الزوائد 9: 44.

27 - فتفكر يا أخي في نفسك: كيف كان إسلامك مذ بلغت مبلغ التكليف وتوجه إليك الخطاب من الله عز وجل، عن استدلال كان منك من تلك الليلة فهذا بعيد جداً، وإن كان استدلالاً بعد ذلك فكيف تعرف نفسك بين بلوغك إلى وقت استدلالك، أترى تلزم نفسك حكم الكفر معاذ الله من هذا. 28 - ثم أقول لك: الناس أربعة: فإنسان استدل فأداه استدالاله إلى حق مأجور مرتين. وآخر استدل وبحث ونظر، فأداه ذلك إلى دهرية أو تبرهم أو منانية أو بعض أنواع الكفر، فهذا كافر مخلد في النار إن مات على ذلك، أو أداه إلى قول الأزارقة وأصحاب الأصلح أو بعض البدع المهلكة، فهو فاسق، وآخر قلد فاتفق له الحق فهو من أهل الحق، وهكذا عوام أهل الإسلام كلهم، وآخر قلد فأداه ذلك إلى الباطل، فهو إما كافر وإما فاسق. 29 - وتثبت فيما قلت لك من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس كلهم، فهو برهان ضروري منقول نقل الكواف، لا يشك فيه مسلم موحد ولا ملحد في أنه عليه السلام لم (1) يقل لأحد دعاه إلى الإسلام: لا تسلم حتى تستدل. وهذه كتبه إلى كسرى وقيصر والملوك، وذكر رسله إلى البلاد. ما في شيء منها ولا في بعوثه وغزواته إيجاب استدلال، فإن جاز عندك أن يتفق الناس كلهم على كتمان هذا. فأعيذك بالله من أن يجوز هذا عندك. 30 - ثم اعلم يا أخي ن الفرقة المحدثة لهذه المقالة. فرقة أنت تدري أنها غير مرضية عند جميع أئمة الهدى قديماً وحديثاً. وأنهم مطعون عليهم في أديانهم مظنون (2) بهم السوء في اعتقادهم. وبرهان ذلك أنهم أجسر الناس على عظيمة تقشعر منها عند جميع الأمة مرذولين إلى أن يبلغ (3) إلى الذين لقينا منهم. ولقد قال لي بعض إخواني كلاماً أقوله لك - قال: أسألك بالله هل بلغك أن أحداً أسلم على يدي متكلم من هؤلاء المتكلمين، واهتدى على أيديهم من ظلالة. وهل أسلم من أسلم واهتدى من اهتدى إلا بالدعاء المجرد الذي مضى عليه السلف فوالله يا أخي ما وجدت لقوله جواباً، بل ما وجدتهم أحدث الله تعالى على أيديهم إلا الفرقة والشتات والتخاذل وافتراق

_ (1) ص: لا. (2) ص: فيظنون. (3) ص: إلى بيلغ.

الكلمة والجسر على كل طامة وعظيمة وتكفير المسلمين بعضهم بعضاً، وهذا أمر مشاهد. ثم هم في خلال ذلك أبعد الناس عن المجيء ببرهان حق، وأكثرهم سفسطة وتخليطاً واضطراباً وتناقضاً. 31 - فإن قال قائل: قد ذممت التقليد، وأبو بكر وخديجة وعائشة وعلي وخالد ابن سعيد وعمرو بن عبسة والأنصار رضي الله عن جميعهم مقلدون أفهم مذمومون (1) في تقليدهم قلنا وبالله تعالى التوفيق: لسنا نقول هذا، ولكنا قد بينا في غير هذا الموضع أن التقليد هو لمن اتبع من لا (2) يؤمر باتباعه فهذا هو المذموم في تقليده وإن أصاب الحق. وأما من اتبع من افترض الله تعالى عليه اتباعه، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس يسمى مقلداً، بل هو موفق مطيع لله تعالى، محسن، سواء (3) اتبعه في عقدة الإسلام أو فيما دون ذلك من الاعتقادات أو العبادات والأحكام. وقد بينا أيضاً في غير هذا الموضع أنه قد تقع الضرورة بخبر الواحد ويصح به العلم المتيقن، وكل هؤلاء وقع لهم العلم الحق واليقين (4) الضروري بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالإسلام وبصحة نبوته. هذا ما لا شك فيه عندنا ألبتة، ولا يجوز غير هذا ألبتة. ولقد كانوا أعلم وأفضل وأجل وأسلم وأتم من أن يستجيبوا لقول قائل، بلا برهان (5) لولا أن الله تعالى أنزل السكينة عليهم كما قال الله عز وجل: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم [98/أ] فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً} (الفتح: 18) وكما قال تعالى {حبب إليكم الإيمان وزينة في قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون، فضلاً من الله ونعمة. والله عليم حكيم} (الحجرات: 7) . 32 - وأيضاً فقد صح برهان واضح أن الله تعالى خلق كل شيء في العالم من حامل ومحمول، ولا ثالث لهما في العالم، فإذا ذلك كذلك، فهو تعالى خالق الإيمان في قلوب المؤمنين، فمن خلق الله تعالى الإيمان في قلبه ولسانه فهو مؤمن صحيح الإيمان، سواء خلقه في قلبه ولسانه دون استدلال أو خلقه باستدلال؛ وكذلك الكفر أيضاً:

_ (1) ص: فهم مهمومون. (2) ص: مما. (3) ص: وسواء. (4) ص: اليقين. (5) فلا معنى.

من خلق الله تعالى الكفر [في قلبه] أو خلقه على لسانه فهو كافر محض. 33 - وأيضاً فقد يستدل الدهر كله من لا يوفق للحق كما استدل الفيومي (1) والمقمس وأبو ريطة اليعقوبي واذرباذ الموبذ (2) وأبو علي يزدان بخت المناني (3) ، ثم من فرق المسلمين: هشام بن الحكم (4) وعلي بن منصور (5) والنظام وغيره، فبعضهم يسر للكفر وبعضهم يسر للإيمان ولضلال البدعة معاً. 33 - وقد يدعي المجتهدون في نصر أقوال مالك وأبي حنيفة أنهم مستدلون جهدهم وقد ملأوا الدنيا صحائف سمجة، ولم ييسروا إلا للخطاء في أكثر أقوالهم، وقد ييسر الله تعالى للإيمان والسنة من لا يستدل، فالكل فعل الله تعالى، فمن يسر للحق، فهو محق كيفما اعتقده، ومن يسر للباطل فهو مبطل كيفما اعتقده. 34 - فإن قلت: بأي شيء يعرف الموفق للعلم الصحيح أن هذا حق وأن هذا باطل قلنا: بالبراهين، وهذا ما لا نخالفك فيه، إلا أن عدم الاستدلال بالبرهان لا يخرج الحق عن أن يكون حقاً في ذاته ولا الباطل عن أن يكون باطلاً في ذاته. والله تعالى يخلق الإيمان والكفر في قلوب عباده، وهم طبقات (6) : فمنهم من يخلق الإيمان في قلبه ضرورة بداءة كما خلق الله في قلوبنا معرفة [98 ب] أن الكل أكثر من الجزء، وأن الحلو حلو والمر مر، وهذا أرفع درجات الإيمان، وهذا إيمان الملائكة والأنبياء عليهم السلام؛ ومنهم من خلق الإيمان في قلبه ضرورة عن تصديق مخبر كإسلام من

_ (1) قال ابن النديم (الفهرست: 23) : " ومن أفاضل اليهود وعلمائهم المتمكنين من اللغة العبرانية ويزعم اليهود أنها لم تر مثله الفيومي، واسمه سعيد ويقال سعديا وكان قريب العهد وقد أدركه جماعة من زماننا " وله كتب عدة. (2) هو اذرباذ بن ماركسفند، موبذ موبذان، عاصر ماني وناظره بحضرة الملك بهرام بن بهرام في مسألة قطع النسل وتعجيل فراغ العالم، فانقطع ماني وقتله بهرام على الأثر (الفصل 1: 36) . (3) في الأصل: مروان، وانظر الفهرست (تجدد) : 398، 401 حيث ذكر أن يزدان بخت ظهر في خلافة المأمون فخالف في بعض أصول طائفة المهرية من المانوية ومالت إليه شرمذة منهم، وقد أحضره المأمون من الري وناظره المتكلمون وأفحموه، وعرض عليه المأمون أن يسلم فلم يفعل؛ ولم يذكر ابن النديم كنيته، وهنالك من رؤسائهم أبو علي سعيد وأبو علي رحا، فلعل هنا خلطاً بين اثنين منهم. (4) انظر ترجمة هشام بن الحكم في الفهرست: 175 - 176، واعتقادات الرازي: 64 وتبصير الأسفراييني: 93، 70، وهو زعيم الحكمية أو الهاشمية من فرق الشيعة، ويدين بالتجسيم. (5) هو الحلاج، انظر أخباره في صلة الطبري، وتجارب الأمم، ونشوار المحاضرة والمنتظم وفيما جمعه ماسينيون من أخباره وأقواله. وانظر أيضاً ديوانه الذي جمعه ماسينيون في المجلة الأسيوية: 1931. (6) ص: طبقتان.

ذكرنا من الصحابة، رضي الله عنهم، الذين صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبره، ومنهم من خلق الإيمان في قلبه ضرورة عن استدلال وبرهان برؤية المعجزات أو نقلها إليه، وهذه صفة إيمان المستدلين منا، ومنهم من خلق الإيمان في قلبه بغير سبب، وهذه صفة إيمان المحققين من العوام، ولا إيمان لمن خرج من هذه الطباق. وكذلك خلق الله تعالى الكفر في قلوب عباده، فمنهم من خلقه تقليداً، ومنهم من خلقه في قلبه حسداً للعرب وللنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من خلقه في قلبه اتباعاً لهوى وقع له أو سكوناً إلى الشك، ومنهم من خلقه في قلبه استدلالا ببعض الأدلة الفاسدة، ومنهم من حكم الله تعالى عليهم بالكفر وإن اعتقد الإيمان وعمل به وأعلنه، لكن خرق الإجماع في بعض أقواله كمن أقر بنبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أو كذب بآية من القرآن أو بشريعة مجتمع عليها، أو عمل عملاً يكون به كافراً، إن شاء الله تعالى. فهذا بيان جميع هذه المسألة، والحمد لله رب العالمين، ثم السلام عليك أيها الأخ المحمود، ورحمة الله وبركاته. تمت بحمد الله عز وجل وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً والحمد لله وحده

فراغ

7 - رسالة في الإمامة

7 - رسالة في الإمامة

فراغ

- 7

- 7 - [221 ب] رسالة في الإمامة للفقيه أبي محمد رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم قال أبو محمد علي بن احمد بن حزم: - الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه وسلم تسليماً؛ {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً} (الكهف: 17) وأصدق الكلام كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد عليه السلام، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن الجهل والحيرة، ونسأله تعالى الهدى والتوفيق لما يرضيه، آمين. قرأت - علمنا الله وإياك ما يزلفنا لديه - سؤالك، ووقفت عليه، وذكرت فيه انك غنما تسأل سؤال المتعلم، وذكرت قول الله، عز وجل في الذين أخذ عليهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه (1) فوقفت عند عهد الله - عز وجل - في ذلك على كراهتي المسائل، فقد كره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كثرة المسائل (2) ، وكرهها السلف الصالح، لا على سبيل الاسترشاد وطلب البيان، لكن على سبيل التفاخر، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 1 - ذكرت - وفقنا الله وإياك لعلم يقرب منه وعمل يرضيه - أنك رأيت الرجل يصلي خلف الرجل الإمام أياماً كثيرة لا يدري مذهبه، فاعلم - عافانا الله وإياك - أن البحث عن مثل هذا أحدثه الخوارج، فهي التي كشفت الناس مذاهبهم، وامتحنتهم في ذلك، وسلك سبيلهم المأمون والمعتصم والواثق مع ابن أبي داود وبشر المريسي ومن هنالك؛ وما امتنع قط أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولا من خيار التابعين من

_ (1) إشارة إلى الآية: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس (آل عمران: 187) . (2) في كراهية الرسول لكثرة المسائل انظر صحيح مسلم (فضائل: 130) .

الصلاة خلف كل إمام صلى بهم؛ حتى خلف الحجاج وحبيش بن دلجة (1) ونجدة الحروري والمختار، وكل متهم بالكفر، وقيل لابن عمر في ذلك، فقال: إذا قالوا حي على الصلاة أجبناهم، وإذا قالوا حي على سفك الدماء تركناهم. وقال عثمان رضي الله عنه -[222/أ] عن الصلاة من احسن ما عمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم. 2 - ثم قلت، فيقال لك: إن الذي نصلي خلفه يجيز المسح على الجورب دون أن يكون عليه أديم (2) ، وهذا يا أخي عجب؛ اعلم انه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم [المسح] على الجوربين [دون] أن يذكر أحد في ذلك جلداً، أوضح ذلك [أبو] مسعود البدري والبراء بن عازب وأنس بن مالك وابن عمر وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب، ولا يعرف لهم، رضي الله عنهم، في ذلك مخالف من الصحابة. وصح ذلك أيضاً عن سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي والأعمش. واختلف في ذلك [عن] عطاء؛ والإباحة أصح عنه. وسئل عن ذلك أحمد بن حنبل فقال: هو مروي عن سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله، صلى الله [عليه] وسلم، فإن كنت لا تستجيز الصلاة خلف من سميت لك، فقد خسرت صفقتك. 3 - ثم ذكرت أن ذلك الإمام قيل عنه إنه يجيز الوضوء بالنبيذ (3) ، فاعلم يا أخي أن الوضوء بالنبيذ، وإن كنا لا نقول به لأنه لم يصح الحديث في ذلك عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فقد رويناه عن علي بن أبي طالب وعكرمة والاوزاعي، وروي عن الحسن بن حي وحميد بن عبد الرحمن (4) وغيرهما من الفقهاء. فغن كنت لا تجيز الصلاة خلف هؤلاء، فأنت أعلم.

_ (1) كان على قضاعة الأردن مع معاوية يوم صفين، وخرج سنة 65 إلى المدينة وهي في طاعة ابن الزبير، ففر عنها واليها، وبعث ابن الزبير جيشاً لحربه بقيادة عياش بن سهل الأنصاري فلحقه بالربذة، وقتل حبيش، ونجا بعض أصحابه وفيهم الحجاج بن يوسف، ورجع الفل إلى الشام (الطبري 2: 578 - 579) . (2) في المسح على الورب قارن بالمحلى 2: 84. (3) انظر المحلى 1: 202 - 203 حيث اعتبر ابن حزم أن ما سقط عنه اسم الماء كالنبيذ فهو تيمم، قال وروي عن عكرمة أن النبيذ وضوء وقال الأوزاعي: لا تيمم إذا عدم الماء ما دام يوجد نبيذ غير مسكر وقال حميد صاحب الحسن بن حي: نبيذ التمر خاصة يجوز الوضوء به والغسل. (4) الحسن بن صالح بن حي (100 - 167 أو 168) كان صحيح الرواية يتفقه (طبقات الشيرازي: 85 وتهذيب التهذيب 2: 286) ومن تلامذته حميد بن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي (مختلف في تاريخ وفاته بين 189ن 190، 192) وكان ثقة كثير الحديث (تهذيب التهذيب 3: 44) .

4 - ثم قلت: عن ذلك الإمام يجيز الوضوء والغسل من حوض الحمام، وهو راكد، وهذا يا أخي أعجوبة. أما علمت أن حذاق أصحاب مالك: إسماعيل القاضي (1) وكل من بعده هذا قولهم وهو الذي يحققون على مالك وينصرونه، وهو أن كل ما عندهم وإن حلته نجاسة فلم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر يتوضأ فيه ويغتسل به. 5 - ثم قلت إن ذلك الغمام لا يوجب الماء إلا من الماء (2) ؛ فاعلم يا هذا أن هذا القول، وإن كنا لا نقول به لأنه قد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، إيجاب الغسل وإن لم ينزل، فأخذنا بهذا لأنه زائد على الحديث الآخر، فقد قال بهذا القول من يوم من أيامه يعدل كل من أتى بعده ويأتي إلى نزول المسيح، عليه السلام، وهو عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص [222 ب] وأبو أيوب الأنصاري وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وأبو سعيد الخدري وزيد بن ثابت ورافع بن حديج وابن عباس والنعمان بن بشير، ومن التابعين الأعمش وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهشام بن عروة وعطاء بن أبي رباح وجماعة من بعد هؤلاء، فإن كنت ترفع نفسك عن الصلاة خلف هؤلاء فسترد وتعلم. 6 - قم قلت: إن ذلك الإمام قيل عنه إنه يرى الجرعة من الخمر ليست حراماً، وأن النقطة أو النقطتين من الخمر لا تنجس الثياب ولا الجسد، فهذا غير ما كنا فيه، ولا خلاف بين أحد من المسلمين أن من استحل الخمر قليلها وكثيرها فهو كافر مشرك مرتد، وهو عندنا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل فكان ماله فيئاً. وإن كنت عنيت بالخمر ما كان من الأنبذة من غير عصير العنب، فنحن وإن كنا لا نقول بهذا أيضاً وهي عندنا كلها خمر محرمة، فقد أباحها من الأئمة من [هم] أعلى مراتب ممن جاء بعدهم ممن يؤخذ دينه عنهم: كعلقمة (3) وإبراهيم النخعي والأعمش وسفيان الثوري ووكيع وكان شديداً في ذلك جداً. وقد روي عمن هو أجل من هؤلاء، فإن كنت ترغب بنفسك عن الصلاة خلف هؤلاء فحسبك بذلك جهلا وغباروة، وخلافا للأمة

_ (1) إسماعيل بن إسحاق القاضي: بصري استوطن ببغداد، وبه تفقه أهل العراق من المالكية، وكان فاضلاً عالماً، ألف عدداً من الكتب منها كتاب أحكام القرآن، وكتاب في القراءات، وولي القضاء اثنتين وثلاثين سنة، توفي سنة 282 (الديباج المذهب: 92 - 95 وطبقات الشيرازي: 164 - 165) . (2) انظر مناقشة ابن حزم لهذه المسالة في المحلى 2: 2 وأسماء من خالف رأيه ص: 4. (3) هو علقمة بن قيس النخعي خاله إبراهيم النخعي؛ توفي سنة 162 (طبقات الشيرازي: 79) .

في تعظيم هؤلاء وأخذهم السنن والدين عنهم، ولم يعصم أحد من الخطأ بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فكل مجتهد مأجور (1) ، إن اخطأ أجراً واحداً، وإن أصاب أجرين، والمجتهد المخطئ أفضل من المقلد المصيب، لأنه لا يجتهد إلا عالم ولا يقلد إلا جاهل. وأما تنجيس الخمر ما وقعت فيه فلا نعلم في أنها تنجس ما مست من ذلك خلافاً، إلا شيئاً ذكره بعض العلماء عن ربيعة وهو قول فاسد، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 7 - ثم ذكرت أن هذا الإمام كان يمسح بطرف رأسه (2) ، فاعلم أن هذا عمل قد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وصح عن ابن عمر ثم عن إبراهيم النخعي وصفية بنت أبي عبيد (3) وفاطمة بنت المنذر (4) والشعبي وعبد الرحمن بن أبي لليلى [223/أ] وعكرمة والحسن البصري، وعطاء (5) ، وأبي العالية والأوزاعي والليث، وجمهور الفقهاء وغيرهم، فغن كنت لا ترضى الصلاة خلف هؤلاء فالنقص والعار راجع إليك في ذلك لا عليهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 8 - ثم ذكرت أن هذا الغمام يقوم من جلوس، فاعلم أن هذا قد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وعن مالك بن الحويرث (6) صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن عمرو بن سلمة الجرمي (7) ، وقد صلى بالصحابة في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال بذلك طوائف من العلماء بعدهم، فإن كنت ترغب بنفسك عن الصلاة خلف من ذكرنا فنفسك سفهت وإياها ظلمت، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأما قولك: نهى عنه بعض العلماء فقد علمنا بذلك، وقال به من العلماء من ذكرت لك ممن أجل ممن نهى عنه، فاعلمه، وليس بعضهم حجة على بعض، ولكن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الحجة على الجميع، قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء:

_ (1) كل مجتهد مأجور: انظره في البخاري (اعتصام: 21) ومسلم (أقضية: 15) ومسند أحمد 4: 198، 204، 205. (2) في مواقف الأئمة من مسح الرأس انظر المحلى 2: 52. (3) صفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفي زوج ابن عمر وأخت المختار، مدنية تابعية ثقة (تهذيب التهذيب 12: 430) . (4) فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام زوج هشام بن عروة، مدنية تابعية ثقة (تهذيب التهذيب 12: 444) . (5) ص: والعطاء. (6) مالك بن الحويرث الليثي، سكن البصرة وبها مات سنة 94 (الاستيعاب: 1349) . (7) عمرو بن سلمة بن قيس الجرمي أبو بريد، نزل البصرة (الاستيعاب: 1179) .

59 -. 9 - وقلت في هذا الإمام: إنه يبسمل في أم القرآن ويجعلها آية، فاعلم يا هذا أن القراء الكوفيين (1) وهم عاصم (2) وحمزة (3) والكسائي (4) يفعلون ذلك ويعدونها آية من أم القرآن، وهو قول علي وابن عمر وأبي بن كعب وأبي هريرة وابن الزبير وابن عباس والزهري وعبد الله بن مغفل (5) وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وطاوس والحكم بن عتيبة (6) ، وأبي إسحاق السبيعي (7) ، وقال به طوائف من العلماء بعدهم كابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم، حتى إن بعضهم أبطل صلاة من لم يقرأ بها في ابتداء أم القرآن. ونحن وإن كنا لا نبطل صلاة من لم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فقد قال بذلك من ذكرنا، نعم، وروي ذلك عن جمهور الصحابة وعن أبي بكر وعمر، فغن كنت لا تجيز الصلاة خلفهم فنفسك [223 ب] ظلمت وعن جهلها بينت، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 10 - وقلت في هذا الإمام: إن هذا الإمام يسلم عن يمينه وشماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فاعلم يا هذا أن هذا هو الصحيح عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم عن أبي بكر الصديق، وابن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، ونافع بن الحارث بن عبد الحارث، ثم علقمة وأبي عبد الرحمن السلمي والأسود بن يزيد وإبراهيم النخعي وخيثمة (8) ؛ وعمن بعدهم: سفيان الثوري والحسن بن حي وأحمد بن حنبل وإسحاق، وأبي ثور (9) وغيرهم وجمهور أصحاب الحديث، حتى إن بعض من زكريا يراها فرضاً. فإن كنت ترفع

_ (1) ص: الكوفيون. (2) في الأصل: حازم؛ وهو عاصم بن أبي النجود شيخ الإقراء بالكوفة وأحد القراء السبعة، توفي سنة 129 (غاية النهاية 1: 346) . (3) حمزة بن حبيب الكوفي التميمي أحد القراء السبعة، توفي سنة 156 (غاية النهاية 1: 261) . (4) هو علي بن حمزة الذي انتهت إليه رياسة الإقراء بالكوفة، توفي سنة 189 (غاية النهاية 1: 535 - 540) . (5) عبد الله بن مغفل المزني أحد عشرة بعثهم عمر ليفقهوا أهل البصرة (طبقات الشيرازي: 51) . (6) الحكم بن عتيبة مولى كندة، فقيه كوفي توفي سنة 115 (طبقات الشيرازي: 82) . (7) في الأصل: وأحمد بن إسحاق السبيعي؛ وأبو إسحاق اسمه عمرو بن عبد الله بن عبيد كوفي تابعي ثقة، توفي في تاريخ أدناه 126 وأعلاه 129 (تهذيب التهذيب 8: 63 - 67) . (8) خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة مات بعد سنة ثمانين (تهذيب التهذيب 3: 178) . (9) اسمه إبراهيم بن خالد، صاحب الشافعي، توفي سنة 240 (طبقات الشيرازي: 92 والسبكي 1: 227 والفهرست: 211) .

نفسك عن الصلاة خلف هؤلاء؛ فما تضر بذلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 11 - ثم ذكرت -[دعاءه]- بعد (1) الصلاة، فحسن قال الله تعالى {ادعوني أستجب لكم} [وأنه يصلي] صلاة الظهر في أول زوال الشمس فهو أفضل (2) إلا في الصيف في شدة الحر. صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، انه سئل عن أفضل الأعمال، فقال: الصلاة في أول وقتها، وصح ذلك أيضاً عن من بعده من الصحابة ومن بعدهم، رضي الله [عنهم] . وتأخيرها ما لم يخرج وقتها واسع. وما نعلم أحداً من المسلمين منع من الصلاة في أول وقتها حتى تسأل عن الصلاة خلف من يصليها (3) حينئذ - وحسبنا الله ونعم الوكيل. 12 - وأما عادة (4) رفع اليدين عند كل تكبيرة؛ فقد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ومن العجب انه في الموطأ الذي ربما عرفتموه. وأما سائر كتب (5) العلماء ودواوين الحديث فالعمل بها في هذه البلاد الأندلسية قليل؛ وكنت أريد [أن] أذكر لك من نقل ذلك وتشدد في توكيده، ولكن يكفيني من ذلك أن أشهب (6) وابن وهب (7) وأبا المصعب (8) رووا رفع اليدين في الركوع، والرفع في الركوع عن مالك من قوله وفعله، فإن كنت لا ترضى الصلاة خلفه فحسبك ورأيك في ذلك. واعلم يا أخي أن ابن عمر كان يحصب من [224/أ] رآه يصلي ولا يرفع يديه في الركوع ولا في السجود، والفاعلون لذلك أكثر من ان يجهلهم الجاهلون. 13 - وأما قولك في السلم: الدرهم بدرهمين، فهذا وإن كان عندي حراماً، فقد قال به كل من لا يعدل كل من بعده يوماً من أيامه، وهو ابن عباس، ثم فقهاء

_ (1) ض: بعض. (2) المحلى 3: 168 إن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس. (3) ص: فضلتها. (4) ص: دعاوة؛ وانظر المحلى 3: 234 في رفع اليدين للتكبير مع الإحرام، وكذلك 4: 87 في رفعهما في غير الإحرام. (5) كتب: مكررة في ص. (6) هو أشهب بن عبد العزيز (- 244) ترجمته في ترتيب المدارك 1: 447 وابن خلكان 1: 238 وطبقات الشيرازي: 150. (7) اسمه عبد الله (- 196) ترجمته في ترتيب المدارك 2: 421 وطبقات الشيرازي: 150. (8) الأرجح أنه أحمد بن أبي بكر زرارة بن مصعب الزهري (- 242) انظر طبقات الشيرازي: 149 وترتيب المدارك 2: 511 والانتقاء: 62 وعبر الذهبي 1: 436.

أتهل مكة وجماعة من بعدهم. وقد قلت لك إنه لم يعصم أحد من الخطأ بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو الحجة على كل أحد، ولكن إن كنت ترفع نفسك عن الصلاة خلف ابن عباس فتباً لك وسحقاً. 14 - وأما الحديث الذي ذكرت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، تفرقت الألسن على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا الناجية، قالوا: يا رسول الله، ما الناجية قال: ما أنا عليه أنا وأصحابي؛ فليس هكذا الحديث، وأعلى ما في الحديث حدي حدثنيه أبو عمر، قال: حدثنا احمد بن قاسم قال: حدثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم قال: أخبرنا جدي قاسم بن أصبغ البياني قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي، أخبرنا نعيم - هو ابن حماد - أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا عيسى عن جرير - هو ابن عثمان - عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم (1) : تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام، ويحرمون الحلال؛ فهذا أصح ما في هذا الباب وأنقاها سنداً؛ وأما سائر الأحاديث الواردة فيه فمعلومة جداً لم يدخلها أحد من اهل الانتقاء في المصنفات والمسندات، فاعلمه. 15 - وأما قولك: فهل قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا على ما لجأ إليه أمير المسلمين في العلم ومن تبعه وهو مالك بن أنس - رحمه الله. فاعلم يا هذا: أن قول كل أحد مردود (2) إلى قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن صدقه قول رسول الله فذلك من سعد ذلك القائل، وإن رده قول رسول الله ترك قول ذلك القائل، كائناً من كان. ولا يحل لمسلم ان يحكم قول قائل على قول النبي، صلى الله عليه وسلم. وأما قولك: [224 ب] أمير المسلمين في العلم ومن تبعه، وهو مالك، فما للمسلمين أمير مفترضة طاعته في دينهم بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ وأما مالك، رحمه الله، فهو أحد (3) العلماء والأئمة، اجتهد كاجتهاد الأئمة غيره منهم،

_ (1) حديث " تفترق أمتي " في سنن أبي داود (سنة: 1) والترمذي (إيمان: 18) وإبن ماجه (فتن: 17) ومسند أحمد 2: 332، 33: 145. (2) ص: يردوه. (3) ص: جد.

وله نظراء من الأئمة ليس له عليهم تقدم في علم ولا فقه ولا سعة رواية ولا حفظ ولا ورع، كسفيان الثوري بالكوفة والاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز (1) بالشام والليث بمصر، إلى آخرين ليس له عليهم فضل في الورع والحفظ والعلم إلا أنهم لم يكثروا الفتوى تورعاً، كشعبة (2) وابن جريح (3) وسفيان بن عيينة وابن أبي ذئب (4) ومعمر (5) وغيرهم، إلى آخرين ليس له عليهم فضل في كثرة الفتوى وإن كان (6) أحفظ منهم للحديث كابن أبي ليلى وابن شبرمة (7) والحسن بن حي وعثمان البتي (8) ، وأبي (9) حنيفة وسوار بن عبد الله القاضي وغيرهم، إلى آخرين أتوا بعد هؤلاء وإن تأخرت أزمانهم فلم يتأخروا في العلم والفقه وسعة الرواية وكثرة الفتيا عنهم: كالشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد وأبي ثور وداود بن علي ومحمد بن نصر المرزوي (10) ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم، ثم قبل كل من ذكرنا ممن هو عند جميع المسلمين أجل من كل من ذكرنا كعطاء وطاوس ومجاهد وعبيد بن عمير بمكة، وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله وسليمان بن يسار وعروة وخارجة وأبي بكر بن عبد الرحمن، والقاسم بن محمد الزهري وربيعة بالمدينة، عمر بن عبد العزيز وقبيصة بن ذؤيب بالشام، والحسن البصري ومحمد بن سيرين وأيوب السختياني وعبد الله بن عون وسليمان التميمي ويونس بن عبيد بالبصرة، وعلقمة والأسود والحكم ابن عتيبة بالطوفة، ثم قبل هؤلاء الصحابة، رضي الله عنهم؛ كل هؤلاء يا هذا نقلهم

_ (1) كان فقيه أهل الشام مع الأوزاعي وبعده؛ توفي سنة 166 (انظر طبقات الشيرازي: 76) . (2) يعني شعبة بن الحجاج، انظر ترجمته في ابن خلكان 2: 469. (3) اسمه عبد الملك بن عبد العزيز. (4) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة (توفي سنة 158 أو في التي بعدها) انظر تهذيب التهذيب 9: 303 - 307. (5) لعله معمر بن راشد الأزدي البصري سكن اليمن وكان ثقة صدوقا توفي سنة 154 (تهذيب التهذيب 10: 243 - 246) . (6) ص: كانوا. (7) هو عبد الله بن شبرمة الضبي الكوفي (- 144) كان فقيهاً عفيفاً حازماً ثقة في الحديث (تهذيب التهذيب 5: 250 وطبقات الشيرازي: 84) . (8) عثمان بن سلم البتي البصري (- 143) كان صدوقاً ثقة وكان صاحب رأي وفقه، ولقب البتي لأنه كان يبيع البتوت، وهي أكسية غليظة (تهذيب التهذيب 7: 153) . (9) ص: وأبو. (10) محمد بن نصر المرزوقي أبو عبد الله (- 294) ولد ببغداد واستوطن سمرقند وكان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم بالأحكام، أثنى عليه ابن حزم كثيراً (انظر طبقات الشيرازي: 106 والسبكي 2: 20) .

مضبوط محفوظ مروي، والحمد لله رب العالمين، ليس جهل من جهله حجة على من علمه. وكانوا كلهم رضي الله عنهم يختلفون [225/أ] فلا ينكر بعضهم على بعض إلا أن يكون عند أحد منهم خبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيذعن له الآخر حينئذ. على هذا جرى الصحابة، رضي الله عنهم، والتابعون وتابعو التابعين أولهم عن آخرهم لا أحاشي منهم أحداً بوجه من الوجوه، إلى أن حدث ما حدث في القرن الرابع؛ فإن كنت لا تعرف ذلك فاطلب الروايات للعلم عند ضباط الحديث تجدها، وكذلك الروايات عن كل من ذكرنا لك (1) في كتابي هذا حاضرة، والحمد لله رب العالمين. فإن كان هؤلاء لم يستحق أحد منهم أن يكون أميراً للمسلمين في العلم إلا مالكاً ومن اتبعه فهذه بدعة وضلالة لا يعلم في الإسلام بدعة اعظم منها، ما لم تبلغ الكفر؛ لأن من ضل في هذه الطريقة وهلك باتباعها فإنما ضل بإفراطه في علي - رضي الله عنه، وهو صاحب بدري سابق خاص بالنبي، صلى الله عليه وسلم، مضمون له الجنة، فقد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، انه قال (2) : " لا يبغضه إلا منافق "؛ وأما الضلال بمثل هذا الإفراط في رجل من عرض المسلمين لا يقطع له بالجنة ولا تضمن له النجاة من النار بل يرجى له ويخاف عليه ولا يقطع له بأكثر من حسن الظن به فما ظننت قط بأحد هذا الإفراط، والحمد لله على ما من به من الهدى وعصم به من الهوى، وإنا لله وإنا إليه راجعون على ما فشا من البدعة وطمس من السنة. وكذلك والله ما توهمت أن مسلماً يعتقد أو يظن أن مالكاً وحده ومن اتبعه لجأوا إلى غير ما نص عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم في العلم، وأن سائر من خالف أقوال مالك من الصحابة والفقهاء والتابعين بدلوا ما قضى (3) رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فإن لم يكن عندك هذا فلم خصصت مالكاً ومن اتبعه بذلك في كلامه دون سائر العلماء، وما شاء الله كان. فقد أجبتك عما لزمني الجواب عنه بما (4) أخذ علي من عهد الله تعالى، ولولا ذلك لما (5) اجبتك، والله يعلم أني غير حريص [225 ب] على الفتيا، ومن علم أن كلامه من عمله محصى له مسؤول عنه قل كلامه بغير يقين، ولو أنك يا هذا

_ (1) عن. ذكرنا: مكرر في ص. (2) في مسند أحمد 6: 292 عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق، وانظر الترمذي (مناقب: 20) والنسائي (إيمان 19: 20) . (3) ص: قبض. (4) ص: عليهم. (5) ص: فما.

تشغل نفسك بالكرب لما حدث في الناس من كون خطة يتنافس فيها للرياسة، حتى إذا غاب الذي ولاه السلطان ووفقه الله، تعادى الناس من الغمامة خلف كل همزة لمزة واتقاء شر من هو شر الناس الذين يتقون بشرهم حتى تعطل صلاة الجماعة ولا يعمر بها المساجد وتقر عين إبليس بحرمان صلاة الجماعة وفضل السبع وعشرين درجة، لكان أولى بك [من] أن تتورع عن الصلاة خلف من لا تدري مذهبه، وحسبنا الله ونعم الوكيل. تمت رسالة الإمام ولله الحمد وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً آمين.

8 - رسالة في حكم من قال إن أرواح أهل الشقاء معذبة إلى يوم الدين.

8 - رسالة في حكم من قال إن أرواح أهل الشقاء معذبة إلى يوم الدين.

فراغ

[227/أ] رسالة في حكم من

- 8 - [227/أ] رسالة في (1) حكم من قال: إن أرواح أهل الشقاء معذبة إلى يوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً قال أبو محمد علي بن احمد رضوان الله عليه: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 1 - ذكرت - وفقنا الله وإياك لما يرضيه - ما حكم من قال: إن أرواح أهل الشقاء معذبة إلى يوم الدين وقد قال عز وجل في المجرمين {يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً} إلى قوله عز وجل {إن لبثتم إلا يوماً} (طه: 103 - 104) فهذا أصلحك الله لا يخالف قول من قال: إنها معذبة إلى يوم الدين لأنه أيضاً نص القرآن، لكنها معذبة في غير نار جهنم. قال الله تعالى {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} (السجدة: 21) وقال تعالى في آل فرعون {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} (غافر: 46) وقال تعالى {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون} (الأنعام: 93) فصح أن النفس معذبة كما ترى من حين موتها إلى يوم القيامة دون الأجساد، فإذا كان يوم القيامة أحيا الله تعالى العظام، وأخرجها من القبور وركب عليها الأجساد ورد إليها الأنفس، ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وإنما تخافت المجرمون بينهم: {إن لبثتم إلا عشراً} {إن لبثتم إلا يوماً} {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} (يس: 52) لأنه صار العذاب الذي كانوا فيه هيناً يسيراً بالإضافة إلى عذاب جهنم، أعاذنا الله من عذابه. وهذا الذي تتفق به الآيات كلها، وإنما هلك من هلك بأخذه آية وتركه أخرى، وأخذه حديثاً وتركه آخر، وأخذه آية وتركه حديثاً يبينها، وأخذه حديثاً وتركه آية، وهذا خطأ لا يحل، وإنما الفرض على المسلمين أخذ كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن وسنة وضم كل ذلك بعضه إلى بعض.

_ (1) في الأصل: عن.

2 - وأما ما ذكرت عن عبد الملك بن مسلمة، انه قال: " إذا خرج من هذا الجسم الظاهر بالوفاة ركب (1) في جسم باطن " فلا أدري من عبد الملك بن مسلمة، إلا أني ادري أن هذا القول سخيف وكذب على الله تعالى مجرد، وضلالة [237 ب] فاحشة، وهذا مذهب أهل التناسخ وهو كفر مجرد. فإن كان قائله من [أهل] الدين المشاهير فهي زلة عالم وغفلة وهلة، يعذر فيها بالجهالة لها، وإن كان من غير هذه الصفة فهي تهمة في دينه، لان القرآن والسنن كلها ليس في شيء منها شيء من هذا، وإنما فيها أن النفس، وهي النسيم، في حكم كذا وفي أمر كذا إلى يوم القيامة. فإن ذكر ذاكر ما روي من أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر فهذا لفظ لا يصح، وإنما صح أن نسمة المؤمن طائر يعلف من ثمار الجنة فقط، فالنسمة الطائر الذي يطير ويعلف من ثمار الجنة فقط، وكذلك ما روي أيضاً في قناديل معلقة لا يصح، وغنما صح أن الأرواح تسرح في الجنة ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش (2) ، وتلك القناديل هي صور طير خضر. هكذا نص الحديث فلا يجوز ان يحرف. والصحيح المعفي على هذا كله هو ما ذكر النبي، عليه السلام، انه رآه ليلة الإسراء من الأسودة عن يمين آدم، عليه السلام، ويساره (3) ، إذ رأى آدم، عليه السلام، في السماء الدنيا، وأن تلك الأسودة نسم بنيه فالذين [عن] يمينه أرواح أهل السعادة، والذين عن يساره أرواح أهل الشقاء، وأن أرواح الأنبياء والشهداء في الجنة، وبهذا جاء القرآن في قوله {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة، والسابقون السابقون، أولئك المقربون، في جنات النعيم} (الواقعة: 9 - 12) وقوله تعالى {فأما إن كان من المقربين، فروح وريحان وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين، وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم، وتصلية جحيم، إن هذا لهو حق اليقين} (الواقعة: 88 - 95) وأما قول من قال إن مستقرها في الصور فخطأ، إذ لم يأت به قرآن ولا نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من أخبار السدي (4) ؛ وإنما صح قول الله

_ (1) ركب: مكررة في ص. (2) حديث أن الأرواح تسرح الخ في صحيح مسلم (إمارة: 121) وسنن أبي داود (جهاد: 25) والترمذي (تفسير سورة 3: 19) ومسند ابن حنبل 6: 386؛ وانظر وقوف ابن حزم عند هذا الحديث في الفصل 5: 77. (3) انظر صحيح البخاري (صلاة: 1) ومسلم (إيمان: 263) ومسند أحمد 5: 143. (4) في الأصل: البذي.

تعالى {ونفخ في الصور} {ثم نفخ فيه أخرى} (الزمر: 68) فالصور حق من أنكره كفر، والنفخ حق من أنكره كفر. وأما من قال إن فيه ثقباً على عدد الأرواح، والأرواح فيه، فخرافة من توليد أهل الكذب والإزراء على الإسلام، ونعوذ بالله [228/أ] من مثل هذا فإن اعتقاده والقول به يزري إلى إضافته بالله تعالى وبرسوله، وهو كذب عليهما. وقد قال الله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (الأعراف: 33) فقرن الله تعالى مع الشرك به القول عليه بما لا علم للقائل به، وأخبرنا أن الشيطان يأمرنا بذلك فليتق الله امرؤ ولا يقل عن الله ما لا علم له به؛ وهكذا القول بأنها على أفنية القبور وأنها ترد كل اثنين وخمسين، فكل هذه خرافات لا يحل القول بها لما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق. 3 - وأما قول القائل إن النفس والروح شيئان، فخطأ وقول بلا برهان، وقد قال الله تعالى {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (البقرة: 111) فصح أن كل من لا برهان له فليس بصادق؛ وقد قال قوم عن الله تعالى قال {يا أيتها النفس المطمئنة} (الفجر: 27) وقال {ولا أقسم بالنفس اللوامة} (القيامة: 2) وقال {إن النفس لأمارة بالسوء} (يوسف: 53) هي كل نفس في الأرض حاشا الأنبياء بقوله عليه السلام (1) : " والقلب يتمنى ويشتهي، فأهل الخير يردعون بتوفيق الله تعالى لهم ما تأمره به أنفسهم، وأهل الشر يرتكبون ما أمرتهم به أنفسهم ويتبعون أهواءهم " والنفس اللوامة هي كل نفس دون الأنبياء - عليهم السلام - لان كل أحد دونهم يلوم نفسه على تقصير يكون منها وعلى استقلالها مما تعلو به الدرجات في الجنة. والروح والنفس شيء واحد بدلائل تكثر ذكرناها في كتاب الفصل (2) ، من جملتها قول النبي - عليه السلام - إذ نام عن الصلاة (3) : " إن أرواحنا كانت بيد الله " ثم قال بلال: يا رسول الله اخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، فأقره، عليه السلام، ولم ينكره. وصح بالنصوص كلها أن النفس مخاطبة ملزمة من الله تعالى محاسبة، ولم يختلف مسلمان في أن للإنسان نفساً (4) وهي الروح مع الجسد، فلو كانا اثنين لكان

_ (1) انظر صحيح مسلم (قدر: 21) ومسند أحمد 2: 343، 379، 536. (2) الفصل 5: 74؛ والأدلة النقلية فيه: 91. (3) يشبه هذا عند البخاري (إرشاد الساري: 1: 514) إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم؛ وانظر مجمع الزوائد 1: 320، 322. (4) ص: نفس.

المعذب عند الموت اثنان، وهذا لا يقوله أحد. وسائر ما قلت من خروج واحد وإبقاء آخر تخليط لا دلائل عليه. وقد فسر أمر الرؤيا في كتاب الفصل فأغنى عن التطويل (1) . 4 - وأما الذي كان يمضي على أتانه (2) فإنما هو خبر [228 ب] مروي رويناه عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، ومطرف رحمه الله ثقة، وهذا لا يصح عنه، وحاشا لمطرف أن يقول هذا الكذب الذي يكذبه القرآن حيث يقول تعالى {وما أنت بمسمع من في القبور} (فاطر: 22) وإذ يقول - عز وجل - {إنك لا تسمع الموتى} (النمل: 80) فلا يجوز أن يخص من هذا شيء إلا ما خصه النص الصحيح، كخطاب النبي لأهل القليب (3) ، فهو مستثنى، وما صح من نحو هذا فقط. ولو صح هذا عن مطرف، وهو لا يصح، لامكن انه نعس على دابته فرأى ذلك في النوم، فكيف ومثل هذا لا يقطع به على الله تعالى في الغيب إلا جاهل، وبالله التوفيق. 5 - وأما قولك إن الميت إذا دلي في قبره أتاه ملك اسمه رومان إلى آخر الكلام، فخرافة موضوعة لم يأت قط من طريق لينة فكيف قوية. وإنما صح أنه يأتيه ملكان أسودان فيسألانه ويقطعانه، على ما جاءت به الآثار الصحاح المشهورة. وقول الله تعالى {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} (الإسراء: 13) كقوله {قال طائركم عند الله} (النمل: 47) فكأن هذا والله اعلم ما عمله المرء وصار (4) له في ما أحصي عليه. 6 - وأما سؤالك عن الذنوب التي (5) تاب عنها العبد بعدما كتبت في الصحيفة، هل تبقى فلا أصل [له] وحاشا لله من ذلك، ولو كان ذلك لكان الكفر إذا تاب عنه المرء بإسلامه باقياً عليه. وهذا ما لا يقوله أحد. وإنما يثبت في الصحيفة ويوازن به العبد ما لا يثبت عنه قط، وبهذا صحت الآثار فيما جاء فيه ترغيب: أن من فعل كذا محيت عنه كذا وكذا سيئة، فصح أنها تمحى. وقد علم قدر ما جنى وقدر ما فضل عليه وان لا يدخل أحد بعمله الجنة إلا إن أسعده الله برحمته. 7 - وأما سؤالك عن قوله الله تعالى {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات}

_ (1) الفصل 5: 19. (2) ص: أثانة. (3) يعني قليب بدر. (4) ص: وطار. (5) ص: الذي.

(الفرقان: 70) فنعم، إن من تاب عن الذنب فقد سقط عنه بإجماع الأمة. ومعنى التوبة ترك العودة والندم والاستغفار، فقد عوض التائب مكان كل توبة أزلفها ندماً واستغفاراً، والندم والاستغفار حسنة فهي له مكتوبة. وقد سقطت سيئاته وأبدل الله تعالى بها الحسنات له. 8 - وأما قولك عن عمر إنه تمنى أن يكون له مثل جبل كذا ذنوباً مغفورة، فأعوذ بالله أن يتمنى [229/أ] عمر بهذا أو مسلم في الأرض، فكيف يجوز لذي عقل أن يتمنى بأن يعصي الله عز وجل! أو ما سمعت قول الله تعالى {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} (الجاثية: 21) بل يقول: ليت ما أذنبنا من صغير وكبير نتوب عنه أو مغفور أو غير ذلك أو لم يفعله. 9 - وأما ما سألت عنه ممن يجني الجنايات فتقام عليه الحدود، وهل تبقى عليه تبعة لله تعالى فقد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أن الحدود كفارات (1) حاشا الفساد في الأرض فإنه باق؛ قال الله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (المائدة: 33) فقد نص الله تعالى أن هؤلاء يكون ما أقيم عليهم في الدنيا من الحد خزياً لهم وأن لهم في الآخرة عذاباً عظيماً (2) . 10 - وأما ما سالت عنه من نزول الماء كمني الرجل، فيبعث الله من في القبور، فأذكر هذا الحديث (3) ولا يحضرني ذكر سنده، فغن صح قلنا به وإلا فلا. وليس هذا مما امرنا به ولا نهينا عنه، والله على ما يشاء قدير. ولا يجوز أن يقال شيء من هذا بغير يقين علم. 11 - وأما الحديث الذي ذكرت من أنه لا تقوم الساعة حتى لا يبقى أحد يأمر

_ (1) في أن الحدود كفارات انظر الترمذي وابن ماجة والدرامي (حدود: 12، 33ن 21 على التوالي) . (2) ص: لا يكونوا. خزيا لهم من الحد..عذاب عظيم. (3) أخرجه ابن حجر في مجمع الزوائد (10: 329) من حديث عبد الله بن مسعود ولم يذكر سنده: " ثم يرسل الله ماء من تحت العرش يمني كمني الرجال فتنبت جسمانهم ولحمانهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الري " والحديث بطوله رواه الطبري، قال وهو موقوف مخالف للحديث الصحيح.

بالمعروف وينهى عن المنكر (1) ، وأن الله تعالى يبعث ريحاً تقبض أرواح المؤمنين، فقد جاءت في هذا آثار صحيحة معروفة إن [أردتها] فهي حاضرة. وأما عمر مولى غفرة (2) فضعيف وإنما صحت من طريق غيره. 12 - وأما ما ذكرت من قول سحنون وابنه في الرجل الذي كان يغتسل في يوم شديد البرد فقال أحدهما: وجبت، فقال الآخر: إن كان من حلال، فقال: وإن كان من حرام، فهذا لا يصح وليس الإيجاب لأحد دون الله تعالى على لسان رسوله، ولو شهد شاهد بالإيجاب لمن اغتسل من الجنابة لوجبت الشهادة بذلك لمن صلى صلاة أو صام يوماً حاراً أو ما أشبه ذلك، وهذا ما لا يختلف فيه اثنان في أنه لا يقطع لإنسان بعينه في الجنة قطعاً إلا قوم من خشارة الخوارج قد بادوا؛ وأيضاً فما يدري من يقول وجبت على ما [229 ب] ذا يموت المقول عنه ذلك، وأما إن كان من حرام فأعوذ بالله من ذلك، فإن وجوب النار أقرب إليه من وجوب الجنة، إلا أن يرمه الله تعالى. ولو كان الاغتسال توبة من الزنا وهو مصر على تماديه لكانت كل حسنة يعملها توبة من كل سيئة تقدمت له، وهذا ما لا يقوله أحد. 13 - وأما ما ذكرت من طلوع الشمس من مغربها فصحيح لا داخلة فيه، وإنما هي في ذلك يومها فقط، ثم ترجع كما كانت بلا خلاف. 14 - وأما قولك: هل يصبح الناس يومئذ قد انتزع القرآن من صدورهم فليس في هذا خبر صحيح نعتمد عليه، ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى، وهو على كل شيء قدير. 15 - وأما سؤالك عن من حلف خوف السلطان بإكراه: هل عليه كفارة فلا كفارة على المكره ولا يلزمه شيء لقول النبي، عليه السلام (3) : " عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". وإنما الكفارة على المختار للحنث القاصد إليه فقط للنص الوارد بذلك، وللإجماع على وجوب الكفارة على من هذه صفته، ولا نص ولا

_ (1) في اضطراب الأمر بالمعروف والنهي قبيل قيام الساعة، انظر مجمع الزوائد 10: 326؛ وفي الريح التي تقبض أرواح المؤمنين انظر مصنف عبد الرزاق؛ " والناسقة (من آيات الساعة) ريح باردة طيبة يرسلها الله فيقبض بتلك الريح نفس كل مؤمن " (11: 378) . (2) ترجمته في تهذيب التهذيب 7: 471 وميزان الاعتدال 3: 210 وتاريخ الإسلام: 104. (3) انظر هذا الحديث في سنن ابن ماجه (طلاق: 16) .

إجماع فيما عدا ذلك. والشرائع لا يشرعها إلا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن ربه تعالى، وأما من حلف وشك في الحنث فلا كفارة عليه حتى يوقن، لأننا كنا على يقين انه لم يلزمه كفارة، فلا يجوز أن يلزم عتقاً أو إطعاماً او كسوة أو صياماً بالظنون، ولا يلزم الشرائع إلا باليقين، قال تعالى {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً} (يونس: 36) . 16 - وأما سؤالك عن عهدة (1) السنة من الجنون والجذام والبرص، فلا يصح في ذلك شيء عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أصلاً بوجه من الوجوه. وإنما روي في العهدة ثلاثة أيام وأربعة من طريقتين واهيين وهما: الحسن عن سمرة، والحسن عن عقبة بن عامر [ولم نرو فيما عدا ذلك] شيئاً أصلاً. 17 - وأما سؤالك عن الفرق بين توأمي الزانية، والمغتصبة، والمستأمنة، والمسبية [فأقول في الجواب: أما المستأمنة والمسبية] (2) فتوأماهما أخوان لأب وأم بلا شك، لان الأصل في ذلك انهما ابن زوج، إذ لا يحمل أحد على حكم الزنا إلا ببينة، فهما لاحقان بأبيهما لان أمهما فرش له. ونكاح أهل الشرك صحيح لإجماع الأمة على إقرارهم عليه إذا أسلموا معاً، لأن منه خلق النبي [230/أ] صلى الله عليه وسلم وهو مخلوق من أصح نكاح بلا خلاف. وأما توأما المغتصبة والزانية الملعنة فإنما هما لأم فقط، لان الزانية والمغتصبة ليستا فراشاً للرجل وقد قال عليه السلام (3) : " الولد للفراش وللعاهر الحجر " فلا يجوز أن يكونا لغير صاحب فراش، وقد أبطل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نسب ابن الملاعنة من أبيه وألحق ولدها بأمه فقط، فهما لأم فقط، ولا فرق بينهما وبين سائر ولدها منه قبل اللعان، إن جاز أن يلحقا به وقد نفاهما، فهما مع سائر ولدها منه إخوة لأب وأم أيضا؛ وهذا ما لا يقوله أحد. 18 - وأما سؤالك عن المأسور في دار الحرب الملتزم مالاً لهم بالعهود والمواثيق والأيمان، هل يلزمه الوفاء بذلك فنعوذ بالله من هذا، وهي في إجماع الأمة كلها عهود ومواثيق على باطل وظلم وعلى إعطاء مال بغير حق، ولا يجوز الوفاء بعهود

_ (1) في حديث عقبة بن عامر " عهدة الرقيق ثلاثة أيام " هو أن يشتري الرقيق ولا يشترط البائع البراءة من العيب فما أصاب المشتري من عيب في الأيام الثلاثة فهو من مال البائع ويرد إن شاء بلا بينة، فإن وجد به عيباً بعد الثلاثة فلا يرد إلا ببينة (اللسان: عهد) . (2) زيادة ضرورية. (3) ورد هذا الحديث في جميع الصحاح؛ وانظر أيضاً مسند أحمد 1: 25، 59 (ومواضع أخرى كثيرة) .زيادة ضرورية.

الباطل، ولا يحل له أن يبقى عندهم عن قدر على الخلاص، ولا يعطيهم شيئاً إن انطلق قبل أن يأخذوه منه. وإنما قال تعالى {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} (النحل: 91) وهذا ليس عهد الله إنما هو عهد الشيطان؛ فمن قال إنها عهود حق فسله ماذا يقول في أسرهم إياه وحسبهم له، أحق هو أم باطل فإن قال: هو حق، كفر بإجماع المسلمين، وجعل قتل أهل الكفر وأسرهم للإسلام حقاً وعدلا، وإن قال: هو باطل، نقض قوله وصدق انه باطل. 19 - وأما سؤالك عن المصر، فإن الله تعالى يقول {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} (آل عمران: 135) وأخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ان من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه (1) ، وهذا كله حق. فالمصر هو الذي عمل الذنب ثم نوى التمادي عليه، فهذا ما لم يعمله، فعليه إثم الإصرار لا إثم مواقعة الذنب حتى يواقعه؛ وأما من هم بسيئة فلم يعملها، فليس مصرا بنص القرآن الذي ذكرنا، ولا إثم عليه فيما هم به حتى يعمله، للنص المذكور. 20 - وأما سؤالك عن من افتض بكراً، فقام عليه أهلها يطلبونه، فأنكرت هي وأقر هو، وقولك: فذهب قوم أن يفرض لها ما يتحلل به عذرتها، وقلت: إلى من يرفع ذلك، أو بأي وجه يستحقه فهذه قضية سخيفة جداً، وما علمنا الفروج في الزنا تستحل بعطية، ولا أن يصالح عليها [230 ب] في ذلك بمال، وقد قال تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (البقرة: 188) وهذا الباطل. ونهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن مهر البغي. وأما إذا أقر هو، فعليه الحد للزنا ولا مزيد، وما عدا ذلك فهذر وجنون، ولو أعطاها شيئاً (2) على هذا الوجه لردته إليه. 21 - وأما سؤالك عن من أقر لآخر بحق، والمقر له منكر، أيوقف له أم لا وهل يدفعه إلى ورثته بعده أم لا فهذا مما اختلف فيه العلماء، فقالت طائفة: يوقف له، وقالت طائفة: لا يوقف له، وقد بطل هذا الإقرار إذا لم يصدقه المقر له، وهذا هو الصحيح، لان ذلك المال المقر له به لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون ملكه للذي هو بيده في جملة ماله، أو المقر له به. فإن كان للمقر له به

_ (1) ورد هذا الحديث في البخاري (رقاق: 31) ومسلم (إيمان: 206، 207، 259) ومسند أحمد 1: 279، 310، 361؛ 2: 334، 41، 498. (2) ص: من.

فإنكاره مطرح وواجب أن يقضى له به أوجب أم كره، وهذا ما لا يقوله أحد. وإن كان لا يجب هذا، فهو بيقين للمقر له كما كان لا ينتقل عنه إلا بنص أو إجماع، إذ قد بطل إقراره به وسقط به، ولا حق لورثة المقر له به، إلا أن يجدد الذي هو بيده إقرار لهم به. لأن الإقرار الأول قد بطل، ولا يجوز أن يقضى بأمر قد بطل. 22 - وأما سؤالك عمن عليه دين لآخر فمات صاحب الدين ولا وارث له، فإن هذا مال يجب تفريقه في مصالح المسلمين بإجماع الأمة. على أن كل مال (1) لا رب له فهو في مصالح أهل الإسلام، حيث ما وضع منها جاز، وبالله تعالى التوفيق. 23 - وأما سؤالك عمن غصب مالا لإنسان فمات المغصوب منه، فماذا يكون للميت وورثته فإن ذلك حق للمغصوب منه قد وجب قبل الغاصب، فلا يسقط بموته، والميت يطالبه به بين يدي الله تعالى، وهو ولي إنصافه منه، بقوله تعالى {ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} (الزلزلة: 7، 8) وقوله تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40) ثم إذا انتقل ملك ذلك المغصوب إلى ورثة الميت، فهو حق آخر وحكم آخر. وقد تجدد للغاصب غصب آخر من الورثة فحقهم أيضاً فيه بتمامه وهكذا أبدا، وبالله التوفيق. 24 - وأما سؤالك عن قول الشيطان {إني أرى ما لا ترون} (الأنفال: 48) وقول القبيلتين من الجن، هاروت وماروت {إنما نحن فتنة} (البقرة: 102) هل وقف على من سمع ذلك مشافهة منهما ومن إبليس أم الله تعالى أخبر بذلك فما ظننت قط [231/أ] أن مسلما يسأل هذا السؤال، وهل خبر أصدق من خبر الله تعالى! وهل يمتري مسلم في أن ما أخبره الله تعالى فانه حق كما أخبر به وهذا مكان لا يستحق الزيادة في الجواب على هذا أصلاً، لعظيم الأمر في ذلك، ونعوذ بالله من الخذلان. 25 - ثم من عجائب الدنيا سؤالك في قول الكفار لعنهم [الله] عن رسول [الله] ، صلى الله عليه وسلم، به جنة، ماذا أرادوا بذلك أرادوا بذلك سواد وجوههم وحمقهم. أو عن مثل هذا يسأل أو يشتغل منه بأكثر من لعنتهم على ذلك واستعظام ما أتوا به فقط، وهذا أيضاً من نوع ما قبله. وأما احتجاج من احتج بقول الكافر: به جنة في أن الجان تتكلم على لسان المصروع فاحتجاج سخيف من دماغ ضعيف،

_ (1) ص: من.

ومن أسخف ممن يحتج بقول الكفار في النبي، صلى الله عليه وسلم، به جنة، فقولهم كله باطل وزور وإفك. 26 - وأما ما كرت من قول بعض المفسرين: إن الشيطان ألقى ذلك على لسان نبيه، فحاشا لله من هذا. وهذا هو الكذب، والرواية في هذا باطل، ومعاذ الله أن يسلط الله شيطاناً يتكلم على لسان نبيه، عليه السلام، وهو تعالى [يقول] {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 3، 4) ومع هذا، فما أدري ما هذا العقل الذي يسمع فيه هذا الحمق، وهذا لا يجوز إلا على سكران أو موسوس أو مبرسم يهذي ويتكلم بما لا يدري ولا يعرفه، فكيف ان يظن هذا بالنبي أنه تكلم بالكفر وهو لا يدري ألا إن هذا هو الضلال. 27 - وأما كلام الشيطان على لسان المصروع فهذا من مخاريق العزامين (1) ولا يجوز إلا في عقول ضعفاء العجائز، ونحن نسمع المصروع يحرك لسانه بالكلام، فكيف صار لسانه لسان الشيطان عن هذا لتخليط ما شئت. وإنما يلقي الشيطان في النفس يوسوس فيها، كما قال الله تعالى {يوسوس في صدور الناس} (الناس: 5) وكما قال تعالى {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} (الحج: 52) فهذا هو فعل الشيطان فقط، وأما أن يتكلم على لسان أحد فحمق عتيق وجنون ظاهر، فنعوذ بالله من الخذلان والتصديق بالخرافات. 28 - وأما قولك فيما جاء أن [الصداقة] (2) تنسأ في الأجل، فلا يصح أصلاً، وغنما صح أن صلة الرحم تزيد في العمر وتنسأ الأجل، ومعنى هذا أن الله تعالى قد سبق في علمه أن جعل صلة الرحم سبباً لبلوغ المدة [231 ب] التي قدرها له، كما جعل الغذاء والماء سبباً، والتنفس سبباً، لبلوغ المدة التي قدرها لنا، ولا فرق. 29 - وأما سؤالك عن قوله تعالى {إذا حضر أحدكم الموت} الآية (المائدة: 106) فغن الناس اختلفوا فيها، فقالت طائفة: هي منسوخة. قال أبو محمد: وهذا خطأ لا يحل القول به، ولا يحل أن يقال في شيء من القرآن إنه منسوخ بالظن، إلا بنص جلي يبين أنها منسوخة، أو بإجماع على ذلك، ولا إجماع في ذلك

_ (1) ص: العوامين؛ والعزامين أراه الذين يستعملون العزائم وهي الرقى. (2) زيادة تقديرية.

ولا نص. وقال آخرون: معنى {من غيركم} (1) : من غير قبيلتكم، وهذا خطأ لوجهين، أحدهما: انه تخصيص للآية بلا برهان، والثاني: انه لا يجوز ذلك في اللغة، لأنه تعالى لم يخاطب قبيلة بعينها وإنما خاطب الذين آمنوا في أول الآية؛ وغير الذين آمنوا هم الذين كفروا بلا شك. فالحكم بها واجب باق محكم إلى يوم القيامة، لا شك في ذلك، لأنه نص من الله تعالى لم يأت ما يبطله؛ وشهادة الكفار جائزة في السفر خاصة، في الوصية خاصة مع إيمانهم، وهو قول ابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وتميم الداري (2) ، ثلاثة من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا مخالف لهم من الصحابة كلهم يأمر بالحكم بها، وبالله التوفيق. 30 - وأما سؤالك: البلاء أفضل أم العافية، والفقر أفضل أم الغنى فسؤال فاسد، إنما الفضل للعباد بأعمالهم، وباختصاص الله تعالى إياهم، وباختصاص الله تعالى ما شاء مما خلق بالتفضيل. ونحن نسأل الله تعالى العافية والغنى ونعوذ بالله من البلاء والفقر، وإنما الفضل بالصبر والشكر. وقد جاء عن النبي، صلى الله عليه وسلم، تفضيل الصبر، والقرآن أيضاً، والله تعالى يعلم مقادير ذلك (3) وسنرد ونعلم، وإنما كلفنا العلم والعمل بما نعلم، ولم نكلف علم ما عنده تعالى من المقادير، وإنما علينا التسليم لقوله فقط، ونهينا عن التكلف. 31 - وأما قولك إنه يحط سليمان، عليه السلام، من درجته في الجنة، لما أوتي من الملك، فما سمعنا بهذا أصلا. والإخبار عن الله بما (4) يفعل لا يحل إلا بنص صحيح عن النبي، والاشتغال بالسؤال عن مثل هذا فضول، ومن اشتغل بطلب الفضول وما لا يعنيه أو شك أن يضيع الحق وما يعنيه. 32 - وأما سؤالك عن تفاضل ساحة الجنة، وأنها سبع جنات، فقد نص تعالى على أن بعضها فوق [232/أ] بعض بقوله تعالى {وللآخرة أكبر درجات واكبر تفضيلا} (الإسراء: 21) وبقوله تعالى {لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار} (الزمر: 20) ولو لم يكن كذلك لما كان

_ (1) هو لاحق بالآية السابقة: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم. (2) ص: الرازي. (3) يبدو أن في العبارة نقصاً. (4) ص: بلا.

جزاء من لا عمل له غير الإيمان كالجزاء الانبياء، وهذا ما لا يقوله أحد. وقد أخبر عليه السلام أن أهل الجنة يتراءون أهل الغرفات كما يتراءى الكوكب الدري في الأفق الشرقي، أو كما قال عليه السلام (1) . 33 - وأما قولك هل يبلغ أحد درجات النبيين: فأما أن يساويهم في جميعها فلا سبيل إلى ذلك أصلاً، ولكن أزواجهم معهم فيها بلا خلاف. وأما قولك: قيل إن بعض النبيين أعلى درجة في الجنة [من] العلماء ثم الشهداء، وقيل الصديقين، فأقوال فاسدة لم يأت نص بشيء منها، ولكن الحق من ذلك أن (2) الصحابة - رضي الله عنهم - بعد النبيين على قدرهم، ثم الناس على قدر أعمالهم. قال الله عز وجل {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} (النمل: 90) فأبطل الله تعالى أن يجزي أحداً بغير ما يعمل، وبالله التوفيق. 34 - وأما سؤالك عن قول (3) النبي عند موته " [في] الرفيق الأعلى (4) فهم الذين سمى الله تعالى النبيين والشهداء والصالحين، وهؤلاء هم المترافقون في الجنة، جعلنا [الله] من أهلها بمنه، آمين، والسلام عليك يا أخي ورحمة الله. تم الجواب والحمد لله كثيراً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم آمين

_ (1) انظر سنن الترمذي (جنة: 19) . (2) ص: أما. (3) ص: سؤال. (4) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: توفي الرسول في بيتي وكان جبريل يدعو له بدعاء إذا مرض، فذهبت أدعو له فرفع بصره إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى (ابن سعد 2: 261) .

جزاء من لا عمل له غير الإيمان كالجزاء الانبياء، وهذا ما لا يقوله أحد. وقد أخبر عليه السلام أن أهل الجنة يتراءون أهل الغرفات كما يتراءى الكوكب الدري في الأفق الشرقي، أو كما قال عليه السلام (1) . 33 - وأما قولك هل يبلغ أحد درجات النبيين: فأما أن يساويهم في جميعها فلا سبيل إلى ذلك أصلاً، ولكن أزواجهم معهم فيها بلا خلاف. وأما قولك: قيل إن بعض النبيين أعلى درجة في الجنة [من] العلماء ثم الشهداء، وقيل الصديقين، فأقوال فاسدة لم يأت نص بشيء منها، ولكن الحق من ذلك أن (2) الصحابة - رضي الله عنهم - بعد النبيين على قدرهم، ثم الناس على قدر أعمالهم. قال الله عز وجل {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} (النمل: 90) فأبطل الله تعالى أن يجزي أحداً بغير ما يعمل، وبالله التوفيق. 34 - وأما سؤالك عن قول (3) النبي عند موته " [في] الرفيق الأعلى (4) فهم الذين سمى الله تعالى النبيين والشهداء والصالحين، وهؤلاء هم المترافقون في الجنة، جعلنا [الله] من أهلها بمنه، آمين، والسلام عليك يا أخي ورحمة الله. تم الجواب والحمد لله كثيراً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم آمين

_ (1) انظر سنن الترمذي (جنة: 19) . (2) ص: أما. (3) ص: سؤال. (4) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: توفي الرسول في بيتي وكان جبريل يدعو له بدعاء إذا مرض، فذهبت أدعو له فرفع بصره إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى (ابن سعد 2: 261) .

تصدير

تصدير يحتوي هذا الجزء الرابع من رسائل ابن حزم على خمسة عنوانات مرتبة كالآتي: (1) رسالة في مراتب العلوم. (2) التقريب لحد المنطق والمدخل إليه. (3) فصل هل للموت ألم أم لا. (4) الرد على الكندي الفيلسوف. (5) تفسير ألفاظ تجري بين المتكلمين في الأصول. وهي جميعاً تومئ إلى ما غلي فيه المنحى المنطقي الفلسفي على ما كتبه ابن حزم، وكلها قد نشرت من قبل ما عدا الرسالة الخامسة، ولكن هذه الطبعة تتميز بمقدمة إضافية درست فيها رسالة مراتب العلوم في السياق العام الذي جرى فيه تصنيف العلوم عند العرب من جابر بن حيان حتى ابن حزم؛ وكذلك أعدت كتابة مقدمة " التقريب " في ضوء المعلومات التي وفرها لي اكتشاف مخطوطة جديدة، وأفدت مما كتب حول تصنيف العلوم التقريب من دراسات لباحثين معاصرين. فأما مقدمة " الردّ على الكندي الفيلسوف " فلم أجر فيها إلا قليلاً من التعديلات لاعتقادي أولاً أن هذا الكتاب ليس لابن حزم على وجه اليقين، وثانياً لأنني أعتقد أن ما هذا العنوان يمثل عدة كتب لا كتاباً واحداً وحسب. ولا بد لي في هذا من التقديم الشكر لعدد من الأصدقاء الذين كان لمساعدتهم أثر كبير في إنجاز هذا الكتاب: فقد أولت الدكتورة وداد القاضي هذا الجزء شيئاً غير قليل من عنايتها ودقتها، كما أمدني الدكتور رضوان السيد بكل ما أعانني على دراسة ما صدر من بحوث حديثة ذات صلة بهذا الجزء، وقام الدكتور جورج صليبا بتوضيح مصطلح " البيابانية " عند أهل الهيئة، وتولى الابن العزيز ماهر زهير جرار عناء تدقيق النص معي، على الأصول الخطية؛ فلهم جميعاً أجزل الشكر. أما الأستاذ درويش الدم مدير مطبعة " مركز الطباعة الحديثة " فلا أستطيع أن أفيه حقه من الثناء لصبره على كثرة ترددي في القراءات بين الترجيح والقطع، وتغيير الحواشي المرفقة غير مرة، فله للعاملين في المطبعة المذكورة أعلاه أوفى شكر وتقدير.

وأخيراً لا آخراً فإن للصديقين الأثيرين: رشاد بيبي وماهر الكيالي فضلاً كبيراً، لا على هذا الجزء من رسائل ابن حزم وحسب، بل على جميع الأجزاء، أما الأول فلدقته المتناهية في ضبط الكتاب وحرصه على الجودة والإتقان، وأما الثاني فلحماسته في رؤية رسائل ابن حزم " مجموعة كاملة ". فللصديقين العزيزين كل الحب والعرفان بالفضل. والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما فيه الخير، ويمنحني القدرة على إنجاز ما تبقى من هذه الرسائل، إنه ولي الحمد وأهله. بيروت في 28 أبريل (نيسان) 1983 إحسان عباس

مقدمة

مقدمة رسالة مراتب العلوم في ضوء ما سبقها من تصنيف للعلوم عند العرب ربما كان من المتعذر تحديد بداية دقيقة للنزوع إلى معالجة العلوم على أساس تصنيفي في الحضارة العربية، ولكن هذه الظاهر تطالعنا منذ أواخر القرن الثاني الهجري على يد جابر بن حيان، غير أنها لا تستقوي إلا في أواخر الثالث، تصبح على أشدها في القرن الرابع، اذ تتعدى فيها المحاولات والانتحاءات، تلبيةً لما تم حينئذ من تطورات هامة على جميع المستويات وفي طليعتها تنوع الروافد الثقافية وضروب المعارف التي تستدعي على نحو طبيعي نظرة تأملية فاحصة تقوم على المقايسة والمقارنة بل وعلى المفاضلة في بعض الأحيان (1) . ولم يكن من المستغرب أن يكون معظم القائمين بهذا النوع من النشاط مفكرين ذوي صلات قوية بالثقافات الأجنبية وبخاصة الثقافة اليونانية، وإذا ذكرنا أبا بكر الرازي والفارابي وإخوان الصفا وابن سينا والتوحيدي على المستوى الفكري النظري للتصنيف، ومحمد بن إسحاق النديم ومحمد بن أحمد الخوارزمي صاحب مفاتيح العلوم على المستوى التطبيقي العملي للتصنيف، فقد حصرنا أهم الذين عنوا بتلك الظاهرة ووضعوا لها أسسها الفكرية (2) . ولهذه الحقيقة نفسها أسبابها الكثيرة، وفي مقدمتها تعدد ما أصبح ينضوي تحت لفظة " علم " من فنون وصناعات لم تكن تحظى من قبل بهذا الاسم، ومن حقول معرفة جديدة لم يكن اسم العلم إذا أطلق ليشملها؛ ذلك أن لفظة " علم " بصيغة المفرد كانت غامضة أو محدودة؛ أما غموضها فيتصل بتلك الحكم التي تحث على طلب العلم

_ (1) انظر مسألة تصنيف المعرفة في الشرقين الأدنى والأوسط في القرون الوسطى، بقلم م. م. خير الله يف ص: 193 - 204 (وبخاصة ص: 197) من مجلة التراث العربي، العددان 4، 5 السنة الثانية، دمشق (عدد خاص عن ابن سينا) . (2) لحميد بن سعيد بن بختيار المتعلم كتاب " إضافة العلوم " ولعله " أصناف العلوم " ذكره ابن النديم في الفهرست (الحاشية) 220.

وتتحدث عن فضائله (بل وأحياناً عن كثرته وتنوعه) دون توضيح للمراد، وأما محدوديتها فتتبين لنا حين نجد لفظ العلم مقصوراً على طلب الحديث، فإذا اتسع شمل الفقه أو التفقه على وجهٍ من الوجوه في شؤون الدين (1) ؛ فلما وجد هؤلاء المفكرون أن لفظة " علم " لم تعد تغني كثيراً في الدلالة على ضروب المعارف الأصيل منها والمستحدث جعلوا يتحدثون عن " العلوم " بصيغة الجمع، حيناً، أو يوسعون من مدلول لفظة " علم " حيناً آخر بما يدرجون تحتها ن تفريعات، وكان الإحساس بقوة المفارقة بين تيارين كبيرين تيار الثقافة الأصلية وتيار الثقافة المستحدثة يجعل التصنيف عملاً ملحاً لأنه يخضع ذينك التيارين لوحدة فكرية، ويطمس ما قد يظن بينهما من تعارض، ويتيح للتيار المستحدث وجوداً معترفاً به، ويرسخ أصوله، ويستدعي على مر الزمن قبوله. وكان أمام أولئك المفكرين نموذج في التصنيف يمكنهم احتذاؤه إذا شاءوا، وهو ما يمكن أن نسميه على وجه التعميم النموذج اليوناني، فقد كان لدى أفلاطون تصور واضح لتصنيف العلوم، وكذلك كان الحال بالنسبة لأرسطاطاليس، وكان هذا النموذج يستثير هؤلاء المفكرين إلى الإفادة منه وإلى اختيار مدى صلاحيته لأوضاعهم الثقافية التي لم تكن بالضرورة مشبهة لأوضاع المجتمع اليوناني، كما أن وجود هذا النموذج لدى الفيلسوفين الكبيرين كان يعني أن التصنيف للعلوم جزء من مهمة المفكر، وأنه لا يجوز لمن أخذ بسهم من الدراسة الفلسفية أن يهمل هذه الناحية، لأن مزاولتها تعني دربةً فكرية على رؤية الأصول والفروع، وإبرازاً للقدرة على التصور الواضح لأنواع المقولات. وكان الجو مهيأ لاستخدام تلك القدرة الفكرية في مجالين؛ أولهما الرد على تلك التفريعات الساذجة للعلم من مثل " العلم أربعة: الفقه للأديان والطب للأبدان والنجوم للأزمان والنحو للسان " (2) ، أو مثل " العلم علمان: علم يرفع وعلم ينفع، فالرافع هو الفقه في الدين والنافع هو الطب " (3) ، ومن هذا القبيل ما يرويه ابن عبد البر عن أبي إسحاق الحوفي (وقد تفوق في الرؤية على ما سبق) : " العلوم ثلاثة: علم دنياوي وعلم دنياوي وأخروي وعلم لا للدنيا ولا للآخرة، فالعلم الذي للدنيا علم الطب والنجوم وما أشبه، والعلم الذي للدنيا والآخرة علم القرآن والسنن والفقه فيهما، والعلم ليس للدنيا

_ (1) في دلالة لفظة " علم " على الحديث وحده، انظر مثلاً تقييد العلم للخطيب البغدادي، تحقيق يوسف العش (الطبعة الثانية 1974) وخاصة الحاشية: 2 ص: 5. (2) ربيع الأبرار للزمخشري 3: 193. (3) ربيع الأبرار 3: 201.

ولا للآخرة علم الشعر والشغل به " (1) ، ولهذه الأقوال نظائر تسبقها زمنياً وتتلوها، والمراد منها في هذا المقام أن تكون مثالاً على تجاهل أصحابها للنزعة الشمولية في التقسيم والتفريع، أو عجزهم عن التمرس بالنظرة الشمولية في هذا المجال، فالشيء المستقر في نفوسهم هو أن هناك معارف تتصل بالشريعة، وهذه المعارف ضرورية، وأما ما كان خارج ذلك من معارف فهم يختارون منها ما يناسب (كالطب مثلاً) ويهملون كل ما عداه لأنه لا تحكمهم رغبة في الاستقصاء والتصنيف. وثاني هذين المجالين هو الرد على تعصب الفرد للصنعة التي يحسنها أو ما يمكن أن يسمى " غرور المعرفة القليلة "، وكانت صورة هذا كله تمثل صراعاً بين فضل الأدب بمعناه الواسع وفضل العلم بمعناه الشمولي أيضاً وخير ما يصور هذا الموقف حكاية ذكرها الرازي الطبيب في كتاب الطب الروحاني (2) ؛ قال: " ولقد شهدت ذات يوم رجلاً من متحذلقيهم (يعني الأدباء) عند بعض مشايخنا بمدنية السلام، وكان لهذا الشيخ مع فلسفة حظ وافر من المعرفة بالنحو واللغة والشعر، وهو يجاريه وينشده ويبذخ ويشمخ في خلال ذلك بأنفه ويطنب ويبالغ في مدح أهل صناعته ويرذل من سواهم، والشيخ في كل ذلك يحتمله معرفةً منه وعجبه ويبتسم إليّ، إلى أن قال فيما قال: هذا والله العلم وما سواه ريح، فقال له الشيخ: يا بني هذا علم من لا علم له، ويفرح به من لا عقل له، ثم أقبل عليّ وقال: سل فتانا عن شيء من مبادئ العلوم الاضطرارية، فإنه ممن يرى أن من مهر في اللغة يمكنه الجواب عن جميع ما يسأل عنه، فقلت: خبرني عن العلوم: اضطرارية هي أم اصطلاحية، ولم أتمم التقسيم على تعمدٍ، فبادر فقال: العلوم كلها اصطلاحية فقلت له: فمن علم أن القمر ينكسف ليلة كذا وكذا وأن السقمونيا يطلق البطن متى أخذ إنما صح له علم ذلك من اصطلاح الناس عليه قال: لا، قلت: فمن أين علم ذلك فلم يكن فيه من الفضل ما يبين عما به نحوت؛ قم قال: فإني أقول إنها كلها اضطرارية، ظناً منه وحسباناً أنه يتهيأ له: خبرني عمن علم أن المنادى بالنداء المفرد مرفوع وأن المنادى بالنداء المضاف منصوب، أعلم أمراً اضطرارياً طبيعياً أم شيئاً مصطلحاً عليه باجتماع عليه من بعض الناس دون بعض فلجلج بأشياء يروم أن يثبت

_ (1) جامع بيان العلم وفضله 2: 50. (2) رسائل فلسفية للرازي 1: 43.

بها أن هذا الأمر اضطراري وأقبل الشيخ يتضاحك ويقول له: ذق يا بني طعم العلم الذي هو على الحقيقة علم ". قد يبدو هذا المثل نموذجاً فردياً، وأنه لا يصلح لأن يستنتج منه حكم عام، لولا أن الرازي يذكر في تضاعيفه أن أصحابه (أي الحكماء) كانوا يردون على هذه العصابة (أي الأدباء) بأن علمهم اصطلاحي، فالأمر أوسع من أن يكون مقصوراً على حادثة فردية، بحيث يمكن أن يكون صراعاً بين فئتين متفاوتتين في الانتماء الثقافي؛ ويستدرك الرازي على ما تقدم بقوله: " ولسنا نقصد الاستجهال والاستنقاص لجميع من عني بالنحو والعربية واشتغل بهما وأخذ منهما، فإن فيهم من قد جمع الله له إلى ذلك حظاً وافراً من العلوم، بل للجهال من هؤلاء الذين لا يرون أن علماً موجود سواهما، ولا أن أحداً يستحق أن يسمى عالماً إلا بهما " (1) . كان في وسع هذا النحوي اللغوي أن ينكر كل ما سوى علمه لقصور في تصوره، وكان في وسع المحدث أن يتجاهل كل ما لا يمت بصلةٍ إلى علمه لأنه خاضع لمنهجيه دقيقة أيضاً توازي (وليس من الضروري أن توافق) منهجية المفكر المتفلسف، ولكن لم يكن بمقدور هذا الأخير أن يقف موقفاً مشابهاً لهذين، خضوعاً أيضاً لانتمائه ولمنهجه، ولذلك كانت نظرته الشمولية إلى العلوم وتفريعاتها، ثم الخروج بتصنيف لها، أمراً يشبه الحتم، وكان هو حريصاً أشد الحرص على ذلك لكي يمنح الفلسفة (وخاصة الجانب المتافيزيقي منها) مكاناً في تصانيفاته، ذلك أنه لم يكن يجد من ينكر عليه ناحية " المنفعة " في سائر علوم الأوائل (ما عدا الجانب التنجيمي من علم الهيئة وما عدا الموسيقى لدى من يضيق ذرعاً بها) إلا أنه كان يواجه حملة شعواء على مستويات مختلفة إذا هو تحدث عن المتافيزيقا ا (لعلم الإلاهي) . فالرغبة لدى هؤلاء في التصنيف قوة حافزة ليس هدفها إيجاد مكان للمعارف المتصلة بالشريعة ضمن رؤية معينة، فهذه المعارف لها من المؤيدين ما يكفل لها الوجود الكامل في أي تصنيف، ولكن الهدف هو إظهار " التكامل " بين معارف الأوائل والمعارف الدينية أو على الأقل: وضع تصور جديد لا ينبذ الفلسفة ولا يهمل الشريعة، ويتمتع بشمول يحترم الفكر ويجد من الفكر نفسه كل تقدير (2) .

_ (1) رسائل فلسفية للرازي 1: 44. (2) يعكس الأستاذ محمد وقيدي هذا الوضع حين يقول: " إن قيام الشريعة الجديدة قد أدى إلى قيام معارف جديدة لم تكن معروفة لدى الأوائل، وهذه المعارف مشروعة وضرورية لارتباطها بأهداف الشريعة، لذلك فإنه ينبغي النظر في الكيفية التي تدمج بها هذه المعارف التي كانت معروفة قبلها "، انظر: المبادئ المعرفي ... في مجلة دراسات عربية، مارس 1982 ص: 72.

وكان من أقوى التصانيف جاذبية ذلك التقسيم الثلاثي الذي يستنتج من موقف أرسطاطاليس، أعني قسمة العلوم إلى علوم نظرية وعلوم عملية وعلوم منتجة أو آلية (ميكانيكية) ، ثم على وجه الخصوص قسمة العلوم النظرية في ثلاثة أيضاً هي العلم الرياضي والعلم الطبيعي والعلم الإلاهي (المتافيزيقا) (1) ، وقد وجدت هذه القسمة الأخيرة صيغتها الحاسمة لدى ابن سينا (428 / 1036) حين لم يكتف بأخذها كما هي بل أعطاها من الوصف ما ينبئ عن تدرج في القيمة، إذ وضع العلم الطبيعي في القاعدة وسماه العلم الأسفل، وجعل العلم الإلاهي في الأعلى، وسمى العلم الرياضي العلم الأوسط (2) ؛ وقد كان لهذه التسمية الجديدة أثرها في مختلف الفئات، وعندما وصلت في تأثيرها إلى فقيه مثل ابن عبد البر النمري في القرن الخامس (463 / 1071) تحول بها إلى ما يخدم الغاية الدينية فقال: " والعلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة: علم أعلى وعلم أسفل وعلم أوسط، فالعلم الأعلى عندهم علم الدين الذي لا يجوز لأحد الكلام فيه بغير ما أنزل الله في كتبه وعلى ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم نصاً، والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا التي يكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيره، ويستدل عليه بجنسه ونوعه كعلم الطب والهندسة، والعلم الأسفل هو إحكام الصناعات وضروب الأعمال مثل السباحة والفروسية والزي والتزويق والخط وما أشبه ذلك من الأعمال التي هي أكثر من أن يجمعها كتاب أو يأتي عليها وصف وإنما تحصل بتدريب الجوارح فيها " (3) . ولم يكن ابن عبد البر غافلاً عما أحدثه من تغيير في التصنيف الفلسفي لأنه أضاف قائلاً: " وهذا التقسيم في العلوم كذلك هو عند أهل الفلسفة، إلا أن العلم الأعلى عندهم هو علم القياس في العلوم العلوية التي ترتفع عن الطبيعة والفلك، مثل الكلام في حدوث العالم وزمانه والتشبيه ونفيه وأمور لا يدرك شيء منها بالمشاهدة ولا بالحواس " (4) ، وهو يعتقد أن هذا علم عنه لأن الكتب السماوية الناطقة بالحق والصدق قد قامت مقامه.

_ (1) G. Sarton، Introduction to the History of Science، Baltimore، p. 128، n. b. (2) تسع رسائل لابن سينا: 105. (3) جامع بيان العلم 2: 46. (4) جامع بيان العلم 2: 46.

إن هذا النموذج الأرسطاطاليسي السينوي ظل هو المحور المعتمد في كل تصورٍ لأصناف العلوم، ولكن بدلاً من طرح العلم الأعلى عند الفلاسفة ووضع علم آخر موضعه كما فعل ابن عبد البر أصبح جهد المصنفين موجهاً نحو الإبقاء عليه كما هو، واستحداث مركب آخر ثنائي يقسم العلوم في قسمين: علوم الدين وعلوم الدنيا، أو علوم المسلمين وعلوم الأوائل، أو العلوم النقلية والعلوم العقلية، إلى غير ذلك من تسميات خلدت هذا التوزاي على مرّ الزمن. ولا ندري متى بدأت هذه الرؤية الثنائية تجد طريقها إلى التصنيف، ولكنا نعتقد أنها أقدم بكثير من التقسيمات الثلاثية، وأنها ربما كانت وليدة اشتداد حركة الترجمة في القرن الثاني الهجري، ذلك أنا نجدها عند جابر بن حيان (200 / 815) الذي يرى أن العلوم تقع في ضربين: علم الدين وعلم الدنيا (1) ؛ إلا أننا إذا استرسلنا مع جابر في تفريعاته وجدناه يبني منهجاً غايةً في الغرابة، فيقسم العلوم الدينية إلى شرعية وعقلية، والشرعية ظاهرة وباطنة، والعقلية نوعان: علوم معانٍ وعلوم حروف، فعلوم المعاني نوعان: فلسفة وإلهية وعلوم الحروف تنقسم أيضاً إلى قسمين: طبيعي وروحاني، فالطبيعي إلى أربعة: هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسية، والروحانية ينقسم بدوره إلى نوراني وظلماني. ذلك هو الهيكل الذي تمثل أركانه العلوم الدينية؛ أما العلوم الدنيوية فيقسمها جابر بحسب قيمتها إلى علم شريبف وعلم وضيع: فالعلم الشريف هو الكيمياء المجال الذي اختاره جابر لفكره وتجاربه والوضيع هو علم الصنائع التي تعين الإنسان على الكسب الدنيوي (2) . وليس من الواضح إن كان الكندي (260 / 873) قد اعتمد القسمة الثنائية على نحو ما، فإن رسالتيه اللتين قد توضحان موقفه لم يصلا إلينا وهما: كتاب مائية العلم وأقسامه وكتاب أقسام العلم الإنسي (3) ، غير أن استخدامه لفظة " الإنسي " في عنوان الكتاب يوحي بأنه كان يرى للعلوم مصدرين أحدهما إنساني، وذلك ما يدل عليه قوله في رسالته في كمية كتب أرسطاطاليس وما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة: " فإن عدم عادم علم الكمية وعلم الكيفية، عدم علم الجواهر الأولى والثواني فلم يطمع له

_ (1) رسائل جابر بن حيان (كتاب الحدود) : 100 وانظر أيضاً منهج البحث عند العرب لجلال محمد عبد الحميد موسى (بيروت 1972) ص: 61. (2) انظر التعليق السابق. (3) الفهرست لابن النديم: 316.

في علم شيء بتةً من العلوم الإنسانية التي تتم بطلب وتكلف البشر وحيلهم ... " (1) ثم يمضي في المقارنة بين علم الفيلسوف وعلم الرسل صلوات الله عليهم، فهذا الثاني يكون " بلا طلب ولا تكلف ولا بحث ولا بجبلةٍ بالرياضيات والمنطق ولا بزمان " (2) ؛ ترى هل يعد الكندي العلوم المنبثقة عما جاء به الرسل من فقه وحديث وغير ذلك وهي جهد إنساني يتم بطلب البشر وتكلفهم من ضمن العلوم الإنسية، أو يلحقها بمصدرها الأول إتباعاً ذلك ما لا تبينه رسالته في كمية كتب أرسطاطاليس التي تنبئ عن معرفةٍ واضحة لتصنيف العلوم حسب النموذج الفلسفي المذكور، وإن كان الإحساس بالثنائية متوافراً لديه (3) . وذلك الإحساس نفسه هو الذي كان يشعر به الفارابي (339 / 950) وهو يحاول إحصاء العلوم؛ غير أنه بدلاً من أن يجعل العلوم في قسمين: دينية ودنيوية، اختط لنفسه منهجاً جديداً يمكن أن يوصف بالتفرد، فقد أبرز في البداية قيمة علمين قد يعدهما غيره آلتين للعلوم وهما علم اللسان وعلم المنطق، والثاني منهما عند أرسطاطاليس آلة (وكذلك عند ابن سينا) ، وغايته من ذلك حصر الأساسين الكبيرين اللذين تنبني عليهم العلوم جملةً، وما كان ليتجاهل أن هذين الأساسين بتفريعاتهما المختلفة قد أصبحا وخاصة علم اللسان علوماً جمة؛ فعلم اللسان يشمل علم بالألفاظ المفردة وعلم الألفاظ عندما تكون مفردة وعلم قوانينها عندما تكون مركبة وقوانين تصحيح الكتابة وقوانين تصحيح القراءة وقوانين تصحيح الأشعار (4) . سبعة علوم في مجموعها عند كل أمة تمثل " الأوليات " التعبيرية وصورها المختلفة؛ فهي على أنه علم أو علوم تمثل في سياق العلوم الأخرى ما تمثله الأبجدية في الكتابة، وأما صناعة المنطق فإنها تعطي بالجملة " القوانين التي شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات، والقوانين التي تحفظه وتحوطه من الخطأ والزلل والغلط في المعقولات، والقوانين التي يمتحن بها

_ (1) رسائل الكندي الفلسفية 1: 372. (2) المصدر السابق 1: 373. (3) لا يتحدث الكندي في رسالته المشار إليها عن تفرعات العلوم الدينية، وإنما يتحدث عن تفرعات الفلسفة فهي تنقسم قسمين: علوم هي آلة كالمنطق والرياضيات (من عدد وهندسة وتنجيم وموسيقى) وعلوم تطلب لذاتها على المستويات النظري (كالطبيعيات وعلم النفس والمتافيزيقا) والعملي (كالأخلاق والسياسة) . (4) إحصاء العلوم: 46 - 47.

في المعقولات ما ليس يؤمن أن يكون قد غلط فيها غالط " (1) . ويقارن الفارابي بين المنطق وبين علم النحو وعلم العروض (2) ، ويورد أقسام المنطق الثمانية بحسب كتب أرسطاطاليس: قاطيغورياس، باري أرمنياس، أنالوطيقا الأولى، أنالوطيقا الثانية، طوبيقا، سوفسطيقا، ريطوريقا، بويطيقا (3) . أما العلم الثالث فهو ما يسميه أرسطاطاليس العلم الرياضي، ويسميه الفارابي علم التعاليم، ويسقمه إلى علم العدد والهندسة والمناظر والنجوم والموسيقى والأثقال والحيل، فيضيف إلى الأربعة الكبرى، وهي العدد والهندسة والنجوم والموسيقى ثلاثة أخرى يعدها غيره أقساماً فرعية للعلوم الرياضية (4) ، ويبدو هنا حرص الفارابي على التوازن العددي، فعلوم اللسان سبعة وكذلك التعاليم، وعلم المنطق ثمانية، وكذلك العلم الطبيعي (وهو الرابع من حيث الترتيب) ، فهو ثمانية فروع مبنية على جهود أرسطاطاليس في كتبه الآتية: السماع الطبيعي والسماء والعالم والكون والفساد والآثار العلوية وكتاب المعادن وكتاب النبات وكتاب الحيوان وكتاب النفس. فإذا عرض الفارابي للعلمين الخامس والسادس وهما العلم الإلاهي زالعلم المدني (أو ما يسميه غيره العلوم العملية: من أخلاق وسياسة وتدبير) تبين لنا أنه التزم إلى حد كبير بالمفهوم المشائي لصنوف العلوم؛ غير أنه يفاجئنا برؤية جديدة حين يضع العلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام في فصل واحد، ذلك أنه يلمح قاسماً مشتركاً بين هذه العلوم، فإذا كانت الأخلاق تبحث في الفضائل والرذائل، وكانت السياسة هي أن تكون الأفعال والسنن الفاضلة موزعة في المدن والأمم (والتدبير يعني بالمنزل وبشؤون الاقتصاد عامة) فإن الفقه يتناول الأفعال التي تنظم المعاملات، كما أن الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال التي صرح بها واضع الملة، أي هو نصر للفقه والأصول الفقهية. ولا بد من أن نلحظ أن إحصاء الفارابي للعلوم، رغم احتفاظه بلب التصنيف الفلسفي، استطاع أن يضيف إليه أجزاء جديدة مستوحاة من الواقع العملي للعلوم لدى الأمة

_ (1) إحصاء العلوم: 53. (2) إحصاء العلوم: 54. (3) أصبحت أقسام المنطق تسعة عند ابن سينا (تسع رسائل) لأنه عد فيها إيساغوجي أو المدخل لفرفوريوس الصوري، وقد أخذ بهذا بعض من جاءوا بعده. (4) تسع رسائل: 112.

الإسلامية (1) ، وإن لم يحاول أن يلجأ إلى ثنائية الدين والدنيا، بل مزج بينهما مزجاً بارعاً على نحو لم يوفق إليه من جاءوا بعده؛ ومن الواضح أن منهج الفارابي يتميز بوضع " مقولات كبرى " يمكن أن تندرج تحتها تفريعات قد تجد في المستقل، فهو لم يحاول أن يعطي للفروع تسميات محددة، وإنما ترك الجو صالحاً لمزيد من التوالد الطبيعي في العلوم. ويبدو أن كتاب إحصاء العلوم يمثل تطوراً في نظرة الفارابي نفسه إلى التصنيف؛ ففي رسالة " كتاب التنبيه على سبيل السعادة " نجده يلتزم التقسيم التقليدي، فيجعل الفلسفة النظرية ثلاثة أصناف: علم التعاليم والعلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعيات، والفلسفة المدنية تشمل الأخلاق والسياسة. ولم ينس الفارابي أن يعرج على تبيان ما يميز علماً عن علم في المرتبة، ولهذا جعل فضيلة العلم أو الصناعة مبنيةً على واحد من الأمور الثلاثة؛ فالعلم يفضل علماً آخر بشرف الموضوع مثل علم النجوم، أو باستقصاء البراهين مثل علم الهندسة، أو بعظم الجدوى مثل العلوم الشرعية والصناعات الضرورية، وقد يجتمع ثلاث من هذه الخصائص أو اثنتان في علم فيكتسب فضيلة إضافية وتلك هي الحال العلم الإلاهي (2) . وليس يضيرنا أن نسأل هنا على ضوء ما جد بعد الفارابي من نظرات تصنيفية أين يقع في منهجه المتطور كل من الطب والفراسة وتعبير المنامات والطلسمات والنيرنجات والكيمياء وسائر تلك الأمور التي ستجد لها مكاناً بعده لدى إخوان الصفا وابن سينا، سواء أجعلت أصولاً أم فروعاً في البنية التصنيفية؛ إن هذا التساؤل يوضح إلى أي مدى كان الفارابي منحازاً إلى " الأساس الفكري " (3) في نظرته إلى العلوم، على ما منهجه العام من مرونة وسعة. وحين حاول إخوان الصفا أن يلبوا حاجة الواقع الراهن حينئذ في تصنيفهم للعلوم عادوا إلى انتحال قسمة ثلاثية من نوع جديد، فجعلوا العلوم رياضية (يعني قائمة على الدربة والتمرين، وهي شيء مختلف عن الرياضيات) وشرعية وفلسفية، محاولين

_ (1) استيحاء الواقع العملي في التصنيف شيء والقول بأن التصنيفات للعلوم تبين المعيار الذي تقاس به المعارف في كل عصر شيء آخر، فالعيار لدى معظم هؤلاء الفلاسفة لم يكن يعكس معياراً عصرياً عاماً (راجع مقالة وقيدي المذكورة سابقاً ص: 71 - 72) . (2) كتاب التنبيه على سبيل السعادة (ضمن رسائل الفارابي ط. حيدر أياد الدكن 1345، وكل رسالة مرقمة على حدة) ص: 20 - 21. (3) رسالة في فضيلة العلوم والصناعات (ضمن رسائل الفارابي) ص: 1.

الاحتواء الشامل لكل ضروب النشاط الإنساني، موسعين من مدلول لفظة " علم " إلى أقصى حد تتطلبه طبيعة العصر، ولا بأس أن أورد هنا تقسيماتهم لطرافتها (1) : أ - العلوم الرياضية تسعة: (1) علم الكتابة والقراءة. (2) علم اللغة والنحو. (3) علم الحساب والمعاملات (الحساب هنا بمعنى المحاسبة وليس علم العدد النظري) . (4) علم الشعر والعروض. (5) علم الزجر والفأل وما يشاكله. (6) علم السحر والعزائم والكيمياء والحيل وما شاكلها. (7) علم الحرف والصنائع. (8) علم البيع والشراء والتجارات والحرث والنسل. (9) علم السير والأخبار. ب - العلوم الشرعية ستة. (1) علم التنزيل. (2) علم التأويل. (3) علم الروايات والأخبار. (4) علم الفقه والسنن والأحكام. (5) علم التذكار والمواعظ والزهد والتصوف. (6) علم تأويل المنامات. ج - العلوم الفلسفية أربعة. (1) الرياضيات، وهي أربعة: العدد. الجومطريا. الأسطرنوميا. الموسيقى. (2) المنطقيات، وهي خمسة (ترتقي إلى ثمانية كتب أرسطاطاليس يضاف إليها ايساغوجي) . (3) الطبيعيات، وهي سبعة (بحسب ما في كتب أرسطاطاليس في هذا المجال) . (4) الإلهيات، وهي خمسة: معرفة الباري. علم الروحانيات. علم النفسانيات.

_ (1) رسائل إخوان الصفا 1: 266 - 275.

علم السياسة. علم المعاد. ويتضح من هذا كله مدى التغييرات التي أحدثوها في مناهج ن سبقهم إضافةً وتعديلاتن فقد حشدوا الأمور النفعية التي تتطلبها الحياة اليومية أو ترغب فيها تحت عنوان جديد هو العلوم الرياضية (دون أن يكون للطب أي وجود في نظامهم) ، وتنبهوا لأول مرة إلى علم السير والأخبار، وآثروا كلمة " تأويل " على كلمة " تفسير " خدمةً لمعتقداتهم الإسماعيلية، وعدوا المواعظ والزهد والتصوف لأول مرة علماً، وجعلوا تأويل المنامات تحت العلوم الشرعية، ولم يغيروا شيئاً في تصنيف المنطقيات والطبيعات عما جاء عند الفارابي، ولكنهم جعلوا السياسة في الإلاهيات، وهو شيء لا وجود له في النموذج اليوناني، كما أن مفهوم للروحانيات (التي هي ملائكة الله وخالص عباده) والنفسانيات (التي هي معرفة النفوس والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية) وإضافتهم علم المعاد (وهو كيفية انبعاث الأرواح من ظلمة الأجساد وحشرها لحساب يوم الدين) كل ذلك إلى استغراقهم في توصيل معتقداتهم الخاصة إلى الآخرين، وتلك هي غايتهم الكبرى من مجموع الرسائل. وموقف ابن سينا في تصنيف العلوم مقارب لموقف إخوان الصفا، وأغلب الظن أنه متأثر بهم، فقد كان أبوه إسماعيلياً على ما حكى في سيرته، ولكنه أشد حذراً منهم، وأكثر التزاماً بالمفهوم الأرسطاطاليسي (1) . فالسياسة والأخلاق عنده ما يزالان كما هما عند الفارابي من العلم المدني (أو الحكمة العملية) إلا أنه يضيف إليهما ما يتعلق بالنبوة والشريعة، ويجعل الطب والتنجيم والفراسة والتعبير والطلسمات والنيرنجات والكيمياء فروعاً من الحكمة الطبيعية، ويعد عمليات الحساب وعلم المساحة والحيل وجر الأثقال والموزاين ونقل المياه والزيجات والتقاويم متفرعة من العلوم الرياضية. ويكاد اللقاء بين ابن سينا وإخوان الصفا يكون تاماً في ما يشمله العلم الإلاهي (بعد إسقاط علم السياسة) ، فهذا العلم يتكون في نظره من خمسة أصول: النظر في معرفة المعاني العامة لجميع الموجودات ن الهوية والوحدة والكثرة والوفاق والخلاف ... الخ النظر في الأصول والمبادي، النظر في إثبات الحق الأول وتوحيده، النظر في

_ (1) يخرج ابن سينا بعض الشيء عن مفهوم أرسطاطاليس، ذلك في منطق المشرقيين (ص: 6) حين يجعل العلوم النظرية أربعة: العلم الطبيعي والعلم الرياضي والعلم الإلهي والعلم الكلي (والكتاب ناقص لا يفي بما وعد به في المقدمة ولذلك فليس واضحاً ما يعنيه بالعلم الكلي) .

إثبات الجواهر الأول الروحانية، تسخير الجواهر الجسمانية السماوية والأرضية لتلك الجواهر الروحانية؛ تلك هي أصول العلم الإلاهي، أما الفروع فهي كيفية نزول الوحي، والجواهر الروحانية التي تؤدي الوحي، وعلم المعاد (1) . ويكرر أبو الحسن العامري تصور الكندي للعلوم من أنها علوم هي آلة كالمنطق واللغة وعلوم مقصودة لذاتها، إلا أنه أوضح وأصرح من الكندي حين يجعل العلوم الملية موازية للعلوم الحكمية من حيث إن كلاً من الفئتين تقصد لذاتها؛ ويعني بالعلوم الملية صناعات ثلاثاً: صناعة الحديث وهي تشمل الأخبار والتفسير والتاريخ والحديث، وصناعة الكلام، وصناعة الفقه، وصحيح أن العلوم الحكمية (التي آلتها المنطق) تختلف عن العلوم الملية (التي تتخذ من اللغة آلة لها) في المنهج فإحداهما قائمة على العقل والبرهان والأخرى على الخبر، ولكن الاثنتين تتعاونان على بلوغ السعادة الأبدية وليس بينهما " عناد أو مضادة ". ولا بد من أن نلحظ هنا أن العامري يصرح بالتكافؤ في قسمته الثنائية على غير ما جرى عليه الفارابي وابن سينا، وأنه يلتقي مع إخوان الصفا حين يجعل " علم الأخبار والتاريخ " واحداً من العلوم الملية (الشرعية) (2) . تلك صورة للجهود النظرية التي بذلت في التصنيف حتى أوائل القرن الخامس الهجري، وهي إذا وضعت موضع التطبيق العملي قد تتطلب تعديلاً في مجالات مختلفة، فهناك علوم قد تجد ولا يؤخذ لها حساب في المنهج النظري (إلا أن يكون مرناً مثل منهج الفارابي) ، وهناك علوم فرعية في نظر أولئك المصنفين ولكن العلم الفرعي قد يتسع مع الزمن ويكبر الاهتمام به حتى ليزاحم العلم الأصلي في أهميته وكثرة تفرعاته الجديدة، وليس يغني كثيراً أن يقال إنه من الناحية الفكرية المحض فرع من العلم الطبيعي أو من العلم النظري مثلاً. وقد تنبه الفارابي إلى شيء من هذا عندما عدّ علم الأثقال وعلم المناظر في صميم علم التعاليم، بينما عدهما ابن سينا علوماً فرعية؛ ولهذا كانت حاجة المصنف العملي إلى تسمية العلوم وعدها أكثر من حاجته إلى تصنيفها، مع عدم الخلط بين تيارين يبدوان متفاوتين في طبيعتهما. ولهذا عادت القسمة الثنائية تفرض نفسها أكثر من أية قسمة أخرى في هذا المجال وخاصة لدى الخوارزمي (387 / 997) وابن النديم (438 / 1047) .

_ (1) تسع رسائل: 110 - 116. (2) الإعلام بمناقب الإسلام: 87 وما بعدها؛ وانظر تصنيف العلوم لدى ابن حزم، مقالة للدكتور سالم يفوت في مجلة دراسات عربية (مارس 1983) ص: 63 - 64.

وقبل أن نعرض لهذين المصنفين لا بد من الوقوف عند رسالة تبدو خارجةً تماماً عن المنطق التصنيفي الذي عرفناه منذ الكندي حتى ابن سينا، فلا هي تلحظ القسمة الثلاثية ولا تحفظ بدقة الثنائية ولا يبدو أن لها صلة بالتصنيف النظري أو العملي، وتلك هي " رسالة في العلوم " وهي تحمل اسم أبي حيان التوحيدي (414 / 1023) وتجئ رداً على من زعم أن " ليس للمنطق مدخل في الفقه، ولا للفلسفة اتصال بالدين، ولا للحكمة تأثير في الأحكام " (1) ، فهي دفاع عن المنطق والفلسفة (الحكمة) وعن طريقة الأوائل جملةً، ومؤلفها يحيل على كتب ألفت من قبل، منها كتاب أقسام العلوم وكتاب اقتصاص الفضائل وكتاب تسهيل سبل المعارف (2) . والكتاب الأول أقسام العلوم هو في الأرجح من تأليف أبي زيد البلخي أحمد بن سهيل (3) (322 / 934) ، وأما الثاني والثالث فلم أعثر على صاحبيهما، على أن للكندي رسالة بعنوان " رسالة في تسهيل سبل الفضائل " (4) ، والعنوان الذي ذكره مؤلف رسالة العلوم يجمع بين اسمي الرسالتين المذكورتين على نحو يوحي بأن ثمة خلطاً سببه اضطراب النسخ؛ ويبدو على كل حال أن مؤلف الرسالة كان من أبناء القرن الرابع لأنه لا يتجاوز الإشارة إلى البلخي والكندي، وهو قد غادر العراق إلى بلد لم يذكره، ولكنه لقي في ذلك البلد من يتعقبه " أما إنه لو أنصف لعلم أني إلى تسمحه أحوج مني إلى تصفحه، وهو بمجاملته أسعد مني بمجادلته، وأنا لإحسانه أشكر ني لامتحانه " (5) . فمؤلف الرسالة في البلد الذي حله داعية إلى المنطق والفلسفة، وهو يجد من ينكر عليه ذلك، وهو يتحدث إلى القوم الذي نزل بينهم بلغة الاستعلاء حين يقول " فما هذا بلغني عن بعضكم على حسن توفري على صغيركم وكبيركم "؛ وهذا المؤلف يمنح الكلام مقاماً كبيراً بين العلوم، فهو علم " يدور النظر فيه على محض العقل في التحسين والتقبيح والإحالة والتصحيح " (6) ، بل هو متأثر بالفارابي في ما يجريه من مقارنة بين الكلام والفقه حين يقول: " وبابه مجاور لباب الفقه والكلام فيهما مشترك، وإن كان بينهما انفصال وتباين فإن الشركة بينهما واقعة، والأدلة فيهما متضارعة؛ ألا ترى أن الباحث

_ (1) رسائل أبي حيان التوحيدي: 105. (2) رسائل أبي حيان: 106. (3) الفهرست: 153. (4) الفهرست: 319. (5) رسائل أبي حيان: 104. (6) رسائل أبي حيان: 108.

عن العالم في قدمه وحدثه وامتداده وانقراضه يشاور العقل ويخدمه ويستضيء به ويستفهمه، كذلك الناظر في العبد الجاني: هل هو مشابه للمال فيرد إليه أو مشابه للحر فيحمل عليه " (1) ؛ وكل هذا لا ينطبق على التوحيدي، لم يكن يسافر من بلد إلى بلد " مفيداً أو مستفيداً " للدعوة إلى المنطق والفلسفة، وهو أبعد ما يكون عن الشعور بأسباب السيادة والاستعلاء، وهو ضيق الصدر بالكلام والمتكلمين على حد سواء. ومهما يكن من أمر فإن مؤلف هذه الرسالة يرتب العلوم على النحو التالي: الفقه (ومداره على الكتاب والسنة والقياس) والكلام والنحو واللغة والمنطق والطب والنجوم والحساب المفرد بالعدد والهندسة والبلاغة ثم التصوف (وهو مضاف إلى الرسالة إلحاقاً) . وباستطاعتنا أن نلحظ أنه يعد أربعة من العلوم الإسلامية وخمسةً من علوم الأوائل؛ فأما وضعه البلاغة عاشراً لتلك العلوم التسعة فحجته فيه أن البلاغة تتصل بكل واحدٍ منها، وقد منح للبلاغة ما منحه الفارابي لعلم اللسان جملةً؛ وموضع المغالطة عند مؤلف الرسالة أنه بدلاً من أن يحدد مفهوم البلاغة وأبعادها تحدث عن البليغ الذي يستطيع بصناعته " سلّ السخائم وحل الشكائم " الذي يجب أن يبرأ من التكلف وأن يحتكم إلى سلاسة الطبع، وبدلاً من أن تجئ البلاغة عنده نتيجةً لا حكام اللغة والنحو وغيرهما من الأدوات جاءت علماً مستقلاً بنفسه، ولم تكن في الواقع كذلك. وبهذا خرج على القسمة الثنائية، كما أغفل علوماً أخرى كانت جديرة باهتمامه. ويبدو تأثر المؤلف بمن سبقه من المصنفين النظريين حين ألمح بسرعة إلى انقسام كل علمٍ من علوم الأوائل إلى اتجاه عملي وآخر نظري، كذلك هو وضع الطب والنجوم والحساب والهندسة. فمن اقتصر على الجانب العملي منها كان في درجة الصناع ولم يعد في العلماء، ويمكن أن نعد ذكره للتصوف تثراً بإخوان وإن كان حديثه عن التصوف يذكر بأبي حيان، وذلك حين يقول: " اعلم أن التصوف علم يدور بين إشارات إلاهية وعبارات وهمية وأغراض علوية وأفعال دينية وأخلاق ملوكية " (2) ، ومجيء التصوف في نهاية الجريدة كلها يدل على اضطراب في التقسيم، كما قدمت فإذا عددناه إلحاقاً على أصل الرسالة فإنا لا نستبعد أن يكون المؤلف قد اقتبسه من أبي حيان وبسببه نسبت الرسالة كلها له.

_ (1) المصدر نفسه: 109. (2) المصدر السابق: 116.

ويختلف التصنيف لدى الخوارزمي وابن النديم بسبب اختلاف الغاية عند كل منهما. فالأول يهدف إلى حصر المصطلحات التي جدت في كل علم، ولذلك كانت قسمته للعلوم بسيطة، فهي تقع في مقالتين، وكل مقالة تنقسم في فصول، فالأول منهما تضم الفقه، والكلام، والنحو، والكتابة، والشعر والعروض، والأخبار؛ والثانية تضم الفلسفة والمنطق والطب وعلم العدد والهندسة وعلم النجوم والموسيقى والحيل والكيمياء؛ وهو يصرح بأنه اختار القسمة الثنائية لأنه يريد أن يخصص المقالة الأول للحديث عن علم الشريعة وما يقترن بها من العلوم العربية، والثانية لعلوم العجم من اليونانيين وغيرهم من الأمم (1) . وإذا كانت هذه القسمة صريحة لدى الخوارزمي فإنها ضمنية لدى ابن النديم، ويمكن بسهولة أن نرى في تتابع العلوم الإسلامية في المقالات الست الأولى ثم ذكر الفلسفة والعلوم القديمة بعد ذلك اتكاءً على التقسيم الثنائي، ولكن مهما يكن من شأن هذا التصنيف الضمني فقد كانت طبيعة عمل ابن النديم تستلزم النظر إلى الكتب المؤلفة لا إلى افتراض مجالات علمية، وتلك الكتب المؤلفة أحياناً تعز على التصنيف التقليدي المتوارث حتى عهده؛ فهناك مثلاً علم الكلام، وهو داخل في بعض التصنيفات السابقة، ولكن هناك المتكلمون من شتى الفرق الإسلامية، وقد ألفت في أخبارهم كتب كثيرة، وهناك كتب بالعربية في مذاهب الصابئة الحرانية وغيرهم، وكلها تستحق أن تفيد ضمن التاريخ الشمولي للحركة الفكرية؛ ولكن أين تقع تلك الكتب إذا اعتبرنا التصنيف المتعارف لهذا يتعدى ابن النديم حدود التصنيف للعوم إلى أمور تقع في خارجه وفاءً بالغاية التي من أجلها صنع كتاب الفهرست، ولا يمكن أن يحاسب مثلما يحاسب مثلاً ابن سينا وإخوان الصفا، فهؤلاء جعلوا للطلسمات والنيرنجات وما أشبهها مكاناً في المبنى العلمي، وقد كان في مقدورهم أن يسقطوا (من زاوية الفكر النظري لمفهوم لفظة علم) ؛ ولكن ابن النديم الذي كان يحصى ما ألف من كتب في كل مجال لا يلام إذا عقد فصلاً (المقالة الثامنة) في فنون الأسمار والخرافات والعزائم والسحر والشعبذة، ولو أسقط هذا الفصل من كتابه لكان ذلك إخلالاً بالأمانة في رصد الواقع العملي؛ ولما كان الفهرست مبنياً على أخبار المؤلفين في كل فن (ثم ذكر ما ألفه كل منهم في ميدانه) فليس من العدل أن نطبق عليه الأحكام التي تطبق على غيره من الكتب الخاصة

_ (1) مفاتيح العلوم: 4 - 5.

بالتصنيف؛ وقد كان في مقدور الفهرست أن يوحي بإعادة النظر في تصنيف العلوم ولكنه لم يفعل إلا في حدود يسيرة. في هذا السياق المشرقي المتدرج يجيء ابن حزم (456 / 1046) في أقصى المغرب (في الأندلس) ليمثل وقفة هامة لأنها تجاوزت ما تم في المشرق، وإن كان صاحبها قد تأثر بما حققه المشارقة في هذا الميدان. فقد انطلق ابن حزم نحو الحديث عن العلوم وتصنيفها من موقعين: الأول صلته بالمنطق والفلسفة، وهي صلة تكاد تلزم صاحبها بالوقوف عند العلوم ومقدمات كل علم وكيفية أخذ تلك المقدمات، وهذا ما تصدى له في كتاب التقريب لحد المنطق، والثاني نزعة التدين العملي التي كانت توجه تلامذته إلى سؤاله عن العلوم وماذا يأخذون منها وماذا يتركون، وهذا ما عرض له في رسالته " مراتب العلوم " و " رسالة التلخيص لوجوه التخليص ". ومن الغريب أن ابن حزم في التقريب قد تناهى في التبسيط فلم يعبأ بتلك النظرة الشمولية التي وضعها الفارابي ولا بتلك التصنيفات الأرسطاطاليسية التي تمسك بها ابن سينا، ولم يعر التقسيم الثلاثي أدنى اهتمام، بل اكتفى بتسمية العلوم الدائرة بين الناس في زمنه فوجدها على طريق الحصر اثني عشر علماً (ينتج عنها علمان) فعدها دون أن يراعي قليلاً ثنائياً الانقسام بين العلوم الإسلامية وعلوم الأوائل وهي: علم القرآن. علم الحديث. علم المذاهب. علم الفتيا. علم النحو. علم اللغة. علم الشعر. علم البر. علم الطب. علم العدد والهندسة. علم النجوم (وينتج عنها لم البلاغة وعلم العبارة) (1) ؛ وفي هذه التسمية رغم بساطتها نجد أن ابن حزم قد ذكر علمين لم يكن لهما ذكر من قبل وهما علم المذاهب وعلم الفتيا؛ وأكد حرصه على علم العبارة (تعبير المنامات) وعلم الخير، وضع البلاغة في نهاية العلوم الأصلية كما فعل مؤلف الرسالة المنسوبة لأبي حيان؛ ولا نظن أن ابن حزم قد زاد علماً جديداً على ما كان معروفاً، فعلم المذاهب يمكن أن يستنتجه كل من قرأ " الفهرست "، وهو تسمية جديدة لعلم الكلام توسع من حدوده أو تضيق بحسب مفهومات المذهب الظاهري (2) ، مثلما أن علم الفتيا تسمية جديدة لعلم الفقه (توسع من حدوده أو

_ (1) التقريب لحد النطق (الطبعة الأولى) : 201. (2) أشار إليه ابن حزم في موضع آخر من التقريب (ص: 10) باسم " علم النظر في الآراء والديانات والأهواء والمقالات ".

تضيق) لأن الفتيا تعتمد في نظره على مقدمات مأخوذة من القرآن والحديث والإجماع (ولم يقل القياس لأنه ينكره في مذهبه) ؛ ومن الواضح أنه كسر التقسيم الثنائي حين تعمد أن يضع المنطق بين العلوم الإسلامية ليوحي بأنه علم مشترك بين جميع الأمم مثلما أنه في خدمة جميع العلوم، كما أنه لم يجر أي ذكر للفلسفة لأن القسم الذي يهمه منها مثل حدوث العالم والخلاء والملاء وما أشبه يقع حسب تصوره في ما سماه " علم المذاهب "؛ كما أنه لم يفسح في تصنيفه هذا مجالاً للعلوم الطبيعية (عدا الطب) مثل الحيل والمناظر؛ والجواب عن هذا أنه يحتكحم إلى الأمر الدائر بين الناس في تعداد العلوم هنا، وأنه يعلم تماماً كما قال في رسالته في مراتب العلوم " أن كل ما علم فهو علم فيدخل في ذلك علم التجارة والخياطة والحياكة وتدبير السفن وفلاحة الأرض ... " (1) . وبسبب هذا الاحتكام إلى ما دار بين الناس فارق التصنيف الفلسفي عن وعي وتعمد: " وهذه الرتبة هي غير الرتبة التي كانت عند المتقدمين، ولكن إنما نتكلم على ما ينتفع به الناس في كل زمان مما يتوصلون به إلى مطلوبهم من إدراك العلوم " (2) ، وهي غاية عملية تنسجم تماماً مع روح كتاب التقريب الذي ما وضع أصلاً إلا لتلك الغاية نفسها. واستجابةً لتساؤلات تلامذته حول العلوم استطاع ابن حزم أن يقرر الحد الأدنى الضروري لكل طالبٍ من علم القراءات والحديث والنحو واللغة والشعر والحساب والطب (3) ، كما توجه بطبيعة التساؤلات نفسها إلى فكرة المفاضلة بين العلوم، وهذا ما يوحي به عنوان رسالته " مراتب العلوم "، وهو عنوان استعمله الفارابي من قبل (4) ، ولعله هو ذلك الكتاب نفسه الذي سمي من بعد " إحصاء العلوم ". ودين ابن حزم للفارابي يتجاوز العنوان إلى فكرة المفاضلة نفسها التي عرضها الفارابي أيضاً في إحدى رسائله الأخرى، إلا أن ابن حزم انتقل بالمفاضلة إلى مستوى جديد لم يهتم به الفارابي، للفرق الأصيل بين توجه الرجلين؛ فأفضل العلوم لدى ابن حزم " ما أدى إلى الخلاص

_ (1) رسائل ابن حزم (ط / 1956) : 80. (2) التقريب: 201. (3) رسائل ابن حزم: 63 وما بعدها؛ والرد على ابن النغريلة ورسائل لابن حزم: 160. (4) الفهرست: 321 وقد جاء في فاتحة إحصاء العلوم: " مقالة في إحصاء العلوم، كتاب أبي نصر محمد بن محمد الفارابي في مراتب العلوم ".

في دار الخلود ووصل إلى الفوز في دار البقاء " (1) ، وذلك هو علم الشريعة، إذ حقيقة العلم ما ينفع في الدار العاجلة والآجلة؛ وليس معنى هذا أن العلوم الأخرى مطرحة، بل كل علم منها له فضل في ذاته وفضل في أنه درجة تصل بصاحبها إلى إتقان العلم الأسمى؛ ولما كان الإنسان لا يستطيع أن يحيط بالعلوم كلها فإنه ينصح بأن يأخذ من كل علم بنصيب، " ومقدار ذلك معرفته بأعراض ذلك العلم فقط ... ثم يعتمد العلم الذي يسبق فيه بطبعه وبقلبه وبحيلته فيستكثر منه ما أمكنه، فربما كان ذلك منه في علمين أو ثلاثة أو أكثر على قدر زكاء فهمه وقوة طبعه وحضور خاطره وإكبابه على الطلب ... " (2) وهنا يعود ابن حزم ليقرر الحد الأدنى الصالح من كل علم ولكن على نحو متدرج لكي يرسم برنامجاً تربوياً للدراس، يوصله في النهاية إلى إتقان علم الشريعة، وهذا هو المنهج الإسلامي الذي يضعه ابن حزم عامداً فيما أظن إزاء المنهج الأفلاطوني الذي تطلب فيه العلوم بالتدريج أيضاً للبلوغ إلى مرحلة الديالكتيك، كما يعرف كل من له إلمام بمنهجه التعليمي في كتاب الجمهورية. ولكن ما هي هذه العلوم التي يفترض في الدارس أن يعرفها هنا يفارق ابن حزم ذلك التعداد الذي أوصلها من قبل إلى أربعة عشر علماً، ليضع قاعدة جديدة في التصنيف لم يتنبه لها أحد سوى الفارابي على نحو عام، وهي أن العلوم عند كل أمة وفي كل زمان ومكان سبعة: ثلاثة علوم تتميز بها أمة عن أخرى وهي علم شريعتها وعلم أخبارها وعلم لغتها، وأربعة تتفق فيها الأمم وهي علم النجوم وعلم العدد وعلم الطب وعلم الفلسفة (3) ؛ إن العودة إلى سحر الرقم سبعة في هذه القسمة يجب أن لا يوقع في الوهم بأنها متناقضة مع القسمة الأولى إلى أربعة عشر، لأن التدقيق يجعلنا نرى أن علوم الأوائل (أو العلوم المشتركة بين الأمم) كانت بحسب الإحصاء الأول أربعة، وهي كذلك في الإحصاء الثاني بفرق واحد وهو وضع الفلسفة في موضع المنطق لأنها أعم في الدلالة؛ أما العلوم الخاصة بكل أمة على حدة فإن ما عد في الإحصاء الأول هو تفريعاتها؛ فعلم الشريعة يساوي في الإحصاء الأول: علم القرآن. الحديث. المذاهب. الفتيا (مع وضع لفظتي الكلام والفقه موضع المذاهب والفتيا) ؛ وعلم اللغة يساوي اللغة. النحو. الشعر؛ وعلم الخبر على حاله في كليهما؛ ثم هناك علمان في

_ (1) رسائل ابن حزم: 62. (2) رسائل ابن حزم: 73. (3) رسائل ابن حزم: 78.

الإحصاء يكونان نتيجة عن العلوم وهما علم البلاغة وعلم العبارة. ولا يخضع ابن حزم لواقع التأليف كما خضع مفكرو المشرق فعدو في العلوم أموراً لا ينطبق عليها اسم العلم مثل الطلسمات والكيمياء (بمعنى تحويل المعادن إلى ذهب) والسحر والشعوذة، لا لأن هذه الأشياء قد تتعارض مع بعض معتقده الديني، وإنما لأنها كانت علوماً عند ناس ثم درس رسمها " فمن ذلك علم السحر وعلم الطلسمات، فإن بقاياها ظاهرة لائحة، وقد طمس معرفة علمها " (1) ، أي أن ابن حزم يرى أسسها ووسائلها قد خفيت ولا سبيل إلى استعادتها، ومن قبيل هذين العلمين الموسيقى وقد يبدو هذا مستغرباً لأول وهلة، ولكن الذي يعنيه ابن حزم هو الموسيقى التي يحكمون أنها كانت تشجع الجبناء وتسخي البخلاء وتؤلف بين النفوس ثلاثة أنواع من الموسيقى لم يعد لها وجود؛ فأما الموسيقى التي لا تصنع مثل هذه المعجزات فإنه لا ينكر وجودها (2) ويضيف إلى هذين علم الكيمياء، فهو بخلاف الطلسمات والموسيقى اللذين وجدا ثم عد ما لم يكن له وجود ألبته: " وأما هذا الذي يدعونه من قلب جوهر الفلز فلم يزل عدماً غير موجود وباطلاً لم يتحقق ساعةً من الدهر، إذ من المحال الممتنع قلب نوع إلى نوع، ولا فرق بين أن يقلب نحاس إلى أن يصير ذهباً أو قلب ذهب إلى أن يصير نحاساً وبين قلب إنسان إلى أن يصير حماراً أو قلب حمار إلى أن يصير إنساناً " (3) . يتضح من كل ما تقدم في تاريخ تصنيف العلوم ابتداءً من جابر بن حيان حتى ابن حزم (وما بعد ابن حزم ينتمي إلى بحث آخر) أنه كانت لدى المصنفين المتفلسفين أو المتأثرين بالفلسفة تصورات سمولية منطلقة أساساً من موقف فكري محدد، قد يكون حيناً يونانياً في أسسه، وقد يبارح تمثل اليونانيين في تصنيفهم للعلوم (كما وضح عند ابن حزم) ؛ وعلينا ألا ننخدع بعنوان كتاب الفارابي " إحصاء العلوم " فنظنه مجرد تعداد لأنواعها، بل هو كتاب تصنيفي دقيق المنحى واسع الأفق يعتمد أساساً فلسفياً (4) ؛

_ (1) رسائل ابن حزم: 59 - 60. (2) يكن أن يقارن ابن حزم هنا بمعاصره وصديقه ابن عبد البر، فإنه رفض الموسيقى واللهو على شرائط العلم والإيمان (جامع بيان العلم 2: 47) . (3) رسائل ابن حزم: 60. (4) ينظر في هذا مقالة الدكتور سالم يفوت: 58 - 59 حيث يناقش أرنالديز وماسينيون في ما كتباه في كتاب لهما عن العلم العربي (باريس 1966، الجزء الأول، ص: 488) إذ يذهبان إلى أن العرب تخلوا عن رؤية قاعدة فلسفية في تصنيفهم للعلوم وأن ما قاموا به هو عمل " إحصاء " وحسب، والفارابي وابن حزم على تباعد وتقارب بينهما يدحضان هذه المقولة.

وقد كان من الطبيعي اللجوء إلى تلك القسمة الثنائية في النظرة إلى العلوم، كما كان من الطبيعي التفاوت بين المنصفين في إيلاء الأهمية أو الأفضلية لهذا القسم من العلوم دون ذاك؛ وقد استطاع ابن حزم أن يتجاوز حتى مفهوم " التكافؤ " بين الشقين، حين وضع نصب عينيه أن كل شر يفعله المرء من علم وغيره فيجب أن يقوم بأدائه خالصاً لله، وعلى أساس هذه الحقيقة نظر إلى أن العلوم كلها تخدم غاية واحدة " وإجهاد المرء نفسه فيما لا ينتفع به إلا في هذه الدار من العلوم رأي فائل وسعي خاسر، لأن المنتفع به في هذه الدار من العلوم إنما هو ما أكتسب به المال أو ما حفظت به صحة الجسم فقط فهما وجهان لا ثالث لهما " (1) ويرى ابن حزم أن العلم ليس أحسن السبل لكسب المال كما أن حفظ صحة الجسد لا بد أن تكون تابعة لحفظ صحة النفس، ولهذا استطاع أن يوحد الغاية من خلال تصنيفه فيراها في طلب علم الشريعة، مثلما كانت سائر العلوم عند المصنفين المتفلسفين في خدمة الفلسفة. فالشريعة تصلح الجسد والنفس معاً، ولهذا فهي مقدمة على الفلسفة التي هي مقصورة على إصلاح الأخلاق النفسية، ولا يمكن إصلاح أخلاق النفس بالفلسفة دون النبوة إذ طاعة غير الخالق عز وجل لا تلزم. والشريعة تحقق غايتين أخريين لا تحققهم الفلسفة، وهما: ترتيب الوضع الإنساني بدفع التظالم وإيجاد الأمن في هذه الدنيا، والفوز بالنجاة في الآخرة (2) . وعلى هذا الأساس لا ترفض الفلسفة بل تندمج مع سائر العلوم في خدمة الشريعة، ولا ينكر ابن حزم ما لها من فائدة شأنها شأن سائر العلوم النافعة؛ وبذلك تجاوز ابن حزم التقسيم الثنائي للعلوم، وهو على وعي به، ليربط جميع العلوم معاً في تساندها وشد بعضها أزر بعض " فالعلوم كلها متعلق بعضها ببعض " ومن ثم لا يستغني منها علم عن غيره. وفي هذا يتجلى لنا إلى أي حد فارق ابن حزم المصنفين المشارقة في الرؤية والتنظير، وإذا كان ابن عبد البر يلتقي به، فذلك مما لا غرابة فيه، فقد كان الرجلان صديقين وبينهم مجالات اللقاء كثيرة في الرواية وتبادل الآراء، ولعل ابن حزم هو صاحب التأثير الواضح في معاصره، فقد تمت كتاباته في العلوم ومراتبها في دور مبكر، ونحن نرى في تصوره رسوخاً ووضوحاً أقوى من تصور ابن عبد البر وأشد منه احتفالاً بالموضع نفسه. وتبدو جرأة ابن حزم لا في أنه عكس وضع التصنيفات المشرقية وحسب بل في أنه خلافاً للاتجاه العام بين

_ (1) رسالة مراتب العلوم (الطبعة الأولى) : 61 (ضمن رسائل ابن حزم) . (2) رسائل ابن حزم: 46 وما بعدها.

أبناء بلده وجد لعلوم الأوائل مكاناً " ضروياً " في منهجه التصنينفي. هل كان ابن حزم يهون من شأن التعارض المفترض الذي يقيمه الآخرون بين ما يسمى علوم الأوائل وما يسمى علوم الشريعة إن من عرف ابن حزم، الذي طلب الفلسفة ودرس المنطق وألف فيه ووجهت إليه من أجل ذلك تهم مختلفة، لا يستكثر منه هذا الموقف، بعد أن استبان له شخصياً سلامة منهجه الذي مارسه عملياً، فنظرته هذه هي خلاصة لتجربته الذاتيه محمولة على " مركب " فكري مفلسف. ولنعد إلى رسالة مراتب العلوم: إنها رسالة لا تقف عند إحصاء العلوم وتصنيفها وتحديد مجال كل علم منها، بل تتعدى ذلك إلى عدة قضايا تتصل بالعلم مثل التكسب بالعلم، فابن حزم يعلي من قيمة المؤدب الذي يعلم الناشئة الهجاء أو الحساب أو الطب، وينهى عن صحبة السلطان بالعلم وخاصة أن يصحبه من يصحبه بالطب أو علم النجوم، وينصح للمتعلم أن لا يقتصر على السماع من أستاذ واحد، ويحذر من طلب العلم للفخر والتمدح ونيل الجاه، ويقف وقفةً طويلة عند ذم المرء لما يجهل من العلوم، ويطبق قانون " التعاون " في العلم كالتعاون في شؤون الحياة الأخرى، ثم لا ينسى أن يقف عند أدعياء العلم الذين يظنون أنهم من أهل العلم وهم ليسوا من أهله؛ وبالجملة فهو يقرر في رسالته هذه بعض " آداب العلم ". على أن أهم مظهر في الرسالة بعد تبيانها لمراتب العلوم هو رسمها لمنهج في التدريس؛ فبعد أن يسلم الوالد ابنه وهو في الخامسة من عمره لمعلم الخط، يتدرج في مراحل الطلب صعوداً، ولعل هذا المنهج يصور سيرة حياة ابن حزم نفسه في هذا الميدان على نحو مقارب، ومن الطبيعي أن يباين منهجه هذا ما كان سائداً في الأندلس لأنه جعل للمنطق والعلوم الطبيعية مكانةً هامةً فيه، وهير ما يوضح ذلك المنهج أن نضعه على شكل جدول كالآتي: 1 - 2 3 - المرحلة الأولى نوع العلم أ - الخط.

1 - 2 - 3 المرحلة الثانية: نوع العلم أ - النحو. المرحلة الثالثة: نوع العلم: علم العدد المرحلة الرابعة: نوع العلم: المنطق والعلوم الطبيعية.

- 2

1 - 2 - 3 المرحلة الخامسة: نوع العلم: علمالأخبار المرحلة السادسة: نوع العلم: [القضايا الفكرية مثل] المرحلة السابعة: نوع العلم: علم الشريعة. ولا يبين ابن حزم إن كانت هذه المراحل متدرجة متعاقبة أو أنها يمكن (بعد المرحلة الأولى) أن تجيء متوازنة مترافقة أو متداخلة، ولكن الأقرب للمعقول أنه عنى الفرض الثاني، فإن تعاقب هذه المراحل يستغرق وقتاً طويلاً. على أنا قد نقبل الفرض الأول (التعاقب) إذا تذكرنا أن ابن حزم يفترض كتباً مقررة بأعيانها، ولا يدعو إلى التوسع (إلا في العلم الذي يوافق رغبة المرء وملكاته وهذا لا يتعدى ثلاثة علوم بحال) وأنه كان يقيس على استعداده الذاتي، فهو قد استطاع في فترة وجيزة لا تتعدى عشر سنوات، لا أن يتقن علوماً كثيرة (ثم يتخصص في علم الشريعة) وحسب، بل أن يكتب مؤلفات في بعض تلك العلوم (وذلك ما سأوضحه عند الحديث عن التقريب لحد المنطق في ما يلي) . - 2 كتاب التقريب لحد المنطق 1 - اسم الكتاب: اسمه كما جاء على الورقة الأولى من المخطوطة " كتاب التقريب لحد المنطق، كلام الرئيس الأوحد أرسطاطاليس وغيره، مما عني بشرحه الفقيه الإمام الأوحد الأعلم أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ... ". وقد أشار إليه ابن حزم مرات في

كتابه الفصل في الملل والنحل فقال في باب عن ماهية البراهين " هذا باب قد أحكمناه في كتابنا الموسوم بالتقريب في حدود الكلام " (1) . وقال في موضع آخر: " هذه شغيبة قد طالما حذرنا من مثلها في كتبنا التي جمعناها في حدود المنطق " (2) فأطلق اسم " الكتب " على هذا الكتاب أنه مؤلف من كتب ثمانية؛ وذكره مرة ثالثة في الفصل فقال: " وبينا في كتاب التقريب لحدود الكلام أن الآلة المسماة الزراقة ... الخ " (3) وقال مرة رابعة " على حسب المقدمات التي بيناها في كتابنا الموسوم بالتقريب في مائية البرهان " (4) فأشار في هذه التسمية إلى بعض جزء من الكتاب، وذكره ابن حزم أيضاً في الأحكام فقال: " في كتابنا الموسوم بالتقريب لحدود المنطق " (5) . وقد ورد ذكر هذا الكتاب بين مؤلفات ابن حزم الأندلسي عند كل من الحميدي في الجذوة وصاعد في طبقات الأمم. فقال الحميدي: " التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، فإنه سلك في بيانه وإزالة سوء الظن عنه وتكذيب الممخرقين به طريقة لم يسلكها أحد قبله فيما علمناه " (6) . وهذه التسمية هي أدق ما هنالك وهي بعينها مثبتة بكاملها على الورق (55) من نسخة المكتبة الأحميدي بتونس من كتاب التقريب. أما صاعد فقال: " فعني بعلم المنطق وألف فيه كتاباً سماه التقريب لحدود المنطق بسط فيه القول على تبيين طرق المعارف واستعمل فيه أمثلة فقهية وجوامع شرعية " (7) . وقد رددت المصادر المغربية والمشرقية، مع بعد، قول الحميدي وقول صاعد، ونوه الذهبي في سير أعلام النبلاء لدى عده مؤلفات ابن حزم بأن " التقريب " يقع في مجلد (8) . وهذا يكاد يشبه الإجماع على أن عبارة التقريب " لحد " أو " بحد " أو " لحدود " المنطق هي التي اختارها المؤلف لكتابه وإن تجاوزنا أحياناً إلى تسميات أخرى متقاربة.

_ (1) الفصل 1: 4. (2) الفصل 1: 25. (3) الفصل 5: 70. (4) الفصل 5: 128. (5) الأحكام 5: 182. (6) جذوة المقتبس: 291. (7) طبقات الأمم: 76. (8) ردد ابن خلكان (3: 326) قول الحميدي (وعنه اليافعي في مرآة الجنان) وكذلك فعل لسان الدين في الإحاطة (4: 113) أما قول صاعد فنجده مثلاً لدى الزوزني في المنتخبات الملتقطات من كتاب أخبار العلماء (232) ونقله أبو عبد الرحمن بن عقيل في كتابه ابن حزم خلال ألف عام 2: 75.

ورغم ذلك كله فإنا نجد على الورقة الأولى من نسخة إزمير، عنواناً يخالف كل ما تقدم في نصه إذ جاء هنالك: " كتاب المدخل إلى كتب المنطق الأولى تأليف الشيخ الإمام الحافظ الفقيه أبي محمد عليّ بن أحمد بن حزم الظاهري رحمه الله تعالى ... "، وهو عنوان غير دقيق، فالكتاب ليس مدخلاً، إذ المدخل له ما بعده، إلا إذا قدرنا أن كتاب ابن حزم صورة مبسطة (كما توحي بذلك لفظة تقريب) تمكن قارئها بعد ذلك من الدخول إلى التفصيلات الدقيقة في الكتب المنطقية، على أن من الخير أن نتجنب هذه التسمية لأن المدخل إلى المنطق ينصرف إلى إيساغوجي، فالمدخل هو القسم الأول من كتاب ابن حزم. 2 - متى ألف كتاب التقريب: في كتاب " التقريب " إشارات إلى كتاب " الفصل "، من ذلك قوله في أحد المواطن: " وقد أثبت غيرنا ليس جسماً ... والكلام في هذا واقع في ما بعد الطبيعة وفي علم التوحيد وقد أثبتناه في كتاب الفصل في الملل والنحل " (1) وقوله في موطن آخر: " والنفس ليست نامية وإنما النامي جسمها المركب فقط ... وللبراهين على هذا مكان آخر قد ذركناه في كتاب الفصل ... " (2) . هل يعني هذا أن ابن حزم ألف كتاب التقريب بعد كتاب الفصل لو وقف الأمر عند حد الإشارات السابقة لصح التقدير، لكنا نجد في الفصل نفسه إشارات متعددة إلى التقريب نفسه، كما وضحنا آنفاً، وهذا قد يستدعي القول إن بعض أجزاء الفصل كتب قبل التقريب مثل الفصل عن الجواهر والأعراض والجسم والنفس (الفصل 5: 66) والكلام في النفس (5: 84) وأن هناك فصولاً من كتاب الفصل نفسه كتبت بعد التقريب مثل باب مختصر جامع في ماهية البراهين (1: 4) فما أورده في هذا الموضوع في الفصل إنما هو اختصار لما أحكم إيراده في التقريب، وكالحديث عن الآلة المسماة بالزراقة لإثبات نفي الخلاء جملة فإنه يعيد ذكرها في الفصل بناءً على ما ذكره في التقريب (5: 70) . وكل هذا يثبت أن الفصل على فترات ربما كانت متباعدة نسبياً، وأن تأليف التقريب وقع في تاريخ متوسط بين بعض أجزاء الفصل وبعضها الآخر: وهذا في النهاية لا يحدد تاريخاً واضحاً لتأليف التقريب، لأنا لا نعرف

_ (1) النسخة التونسية (س) الورقة: 12 ظ (والإشارة إلى الفصل 5: 66) . (2) المصدر نفسه (والإشارة إلى الفصل 5: 84) .

على وجه اليقين متى بدأ تأليفه لكتاب الفصل، ومتى انتهى منه. كذلك حاولنا أن نستأنس ببعض الأحداث التي وردت في كتاب التقريب من أجل تعيين تأريخه من مثل ذكر ابن حزم حكاية عن مؤدبه أحمد بن محمد بن عبد الوارث (1) ، الذي كان قد توفي عند تأليف الكتاب لأن ابن حزم بترحم عليه، ولكن المصادر لم تذكر تاريخ وفاته (2) . غير أن هناك إشارات أخرى قد تمكننا من الخروج بنتيجة إيجابية في هذه القضية، ومن ذلك: (1) قول ابن حزم في كتاب التقريب: " وما ألفنا كتابنا هذا وكثيراً مما ألفنا إلا ونحن مغربون عن الموطن والأهل والولد، مخافون مع ذلك في أنفسنا ظلماً وعدواناً " (3) وهذه قولة هامة وإن كانت تعميمية، وقد تصح الإفادة منها إذا قرنت بما يلي. (2) يتحدث ابن حزمن في كتاب التقريب عن حادث اعتقاله على يد المستكفي لأن ابن حزم كان يوالي المستظهر (4) ، وقد تم هذا في سنة 414 أو أواخر 413 في أكثر تقدير. (3) يذكر ابن حزم في الكتاب نفسه أن صديقه ابن شهيد ألف كتاباً في علم البلاغة أثناء كتابته هو لكتاب التقريب (5) ، وقد توفي ابن شهيد سنة 426 وتعطل عن التأليف قبل ذلك بعام أو أكثر، وهذا يعين أن كتاب التقريب قد كتب قبل ذلك التاريخ. (4) يضاف إلى ما تقدم قول صاعد الأندلسي عند حديثه عن والد ابن حزم: " وكان ابنه الفقيه أبو محمد وزيراً لعبد الرحمن المستظهر ... ثم نبذ هذه الطريقة وأقبل على قراءة العلوم وتقييد الآثار والسنن فعني بعلم المنطق ... وأوغل بعد هذا في الاستكثار من علوم الشريعة " (6) ؛ فهذا القول يؤكد أن حياة ابن حزم العلمية لم تبدأ إلا بعد مقتل

_ (1) س: 86 ب. (2) ترجم له ابن الأبار في التكملة: 790 والحميدي في الجذوة: 99. (3) س: 90 / و. (4) س: 90 / و. (5) س: 91 / ب " وبلغنا حين تأليفنا هذا أن صديقنا أحمد بن عبد الملك بن شهيد ألف في ذلك كتاباً " (وهذا الفصل من أواخر فصول التقريب؛ ونستبعد أن يكون ابن حزم قد بدأ كتابة هذا الفصل قبل سائر كتابه) . (6) طبقات الأمم: 76.

المستظهر، وبعد اعتزاله العمل السياسي، وأن المنطق كان من أوائل ما درس، وأنه بعده أوغل في علوم الشريعة مستكثراً منها، فهل تصدى للتأليف فيه بعد أن أحكم درسه له يبدو أن الفترة بين دراسته للمنطق وتأليفه فيه لم تكن فترة طويلة. (5) ومما يحفز إلى هذا القول أن لدينا شهادة قاطعة تحدد تاريخ دراسته للمنطق وهو قول ابن حزم نفسه: " قرأت حدود المنطق على أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي الطبيب رحمه الله المعروف بابن الكتاني " (1) وابن الكتاني فيما استظهرته في موطن آخر (2) لم تتعد وفاته سنة 422، فإذا صح ذلك كانت دراسة ابن حزم للمنطق بين 414 422 فإذا كان قد ألف التقريب قبل وفاة صديقه ابن شهيد فمعنى ذلك أنه كتبه قبل سنة 425، فتاريخ التأليف على ذلك قريب من تاريخ الدراسة. (6) ونؤيد كل ما تقدم بشهادة تلقي أضواء توضيحية على القضية التي أعالجها هنا وهي قول ابن حزم نفسه في المنطق: " ثم قرأته على ثابت بن ممد الجرجاني العدوي المكنى بأبي الفتوح.... فلما انتهيت إلى أول أقودمطيقاً (أقودقطيقا) على الجرجاني ( ... ) حضر معنا عنده محمد بن الحسن اعترافاً للجرجاني وتقديماً له، وشهد قراءتي على الجرجاني " (3) وأبو الفتوح الجرجاني دخل الأندلس سنة 406 وافداً من المشرق (4) وتورط في شؤون السياسة بعد اتصاله بباديس بن حبوس صاحب غرناطة فقتل سنة 431 (5) وقد ذكره ابن حزم في الفصل، فلا بد من أن تكون الصلة بينهما قد حدثت في حدود الفترة التي قدرناها لدراسة المنطق. (7) وهناك نسخة معتمدة للتقريب هي نسخة أبي عبد الله الرصافي (6) ، وقد قرئت على ابن حزم وخط ابن حزم عليها يشهد بأنها قرئت عليه، وقد فرغ من نسخها في صفر سنة تسع وثلاثين وأربعمائة (437) (7) وهذا يقطع بأن المؤلف قد وضع الصورة

_ (1) نسخة إزمير (م) الورقة: 74. (2) انظر مقدمة كتاب التشبيهات لابن الكتاني: 16. (3) م، الورقة: 74؛ وكتاب أرسطو المشار إليه هو الرابع في الترتيب. (4) الجذوة: 173 والصلة: 125. (5) الإحاطة 1: 458. (6) ترجم الحميدي في الجذوة: 63 لمن اسمه محمد بن عبد الملك بن ضيفون الرصافي وكنيته أبو عبد الله، وهو من معاصري ابن حزم، وعنه روى أبو عمر ابن عبد البر، فلعله هو المعنى هنا. (7) م: الورقة: 74.

الأولى لكتابه قبل التاريخ المذكور. 3 - دواعي تأليفه: قضى ابن حزم جانباً من شبابه وهو يطلب العلم في قرطبة حتى سنة 401. وقد أثر في نفسه في ذلك الدور المبكر من حياته ما سمع بعض الأغرار يقولونه في المنطق والعلوم الفلسفية عامة دون تحقيق، وأولئك هم الذين عناهم بقوله: " ولقد رأيت طوائف من الخاسرين شاهدتهم أيام عنفوان طلبنا، وقبل تمكن قوانا في المعارف، وأول مداخلتنا صنوفاً من ذوي الآراء المختلفة، كانوا يقطعون بظنونهم الفاسدة من غير يقين أنتجه بحث موثوق به على أن الفلسفة وحدود المنطق منافية للشريعة " (1) . ولعل بيئة قرطبة والأندلس عامة يومئذ بمعاداتها لعلوم الأوائل هي التي حفزت حب الاستطلاع لديه فجعلته يدرس الفلسفة والمنطق، ومن ثم قوى لديه الشعور بأن العلوم الفلسفية لا تنافي الشريعة، بل إن المنطق منها يمكن خاصة يمكن أن يتخذ معياراً لتقويم الآراء الشريعة وتصحيحها، وكان اتجاهه إلى مجادلة أهل المذاهب والنحل الأخرى يفرض عليه أن يتدرع بقوة منطقية في المناظرة والجدل. وهاتان الغياتان كانتا من أول العوامل التي حدت به إلى التأليف في المنطق ليثبت عدم التنافي بينه وبين الشريعة وليعزز به موقفه العقلي إزاء الخصوم ويضع فيه القواعد الصحيحة للجدل والمناظرة ويبين فيه حيل السفسطة والتشغيب. وظل ابن حزم على رأيه هذا يؤمن بفائدة المنطق والفلسفة وسائر علوم الأولين ما عدا التنجيم -. فهو في رسالة " مراتب العلوم " ينصح الدارس أن يبدأ بعد تعلم القراءة والكتابة وأصول النحو واللغة والشعر والفلك، بالنظر في حدود المنطق وعلم الأجناس والأنواع والأسماء المفردة والقضايا والمقدمات والقرائن والنتائج ليعرف ما البرهان وما الشغب، وكيف التحفظ مما يظن أنه برهان وليس ببرهان، فهذا العلم يقف على الحقائق كلها ويميزها من الأباطيل تمييزاً لا يبقى معه ريب (2) . ويسأله أحدهم رأيه في أهل عصره وكيف انقسموا طائفتين: طائفة اتبعت علوم الأوائل وطائفة اتبعت علم ما جاءت به النبوة ويطلب إليه أن يبين له أيهما المصيب، فيقول في الجواب: أعلم وفقنا الله وإياك لما يرضيه أن علوم الأوائل هي الفلسفة وحدود المنطق التي تكلم المنطق فيها أفلاطون

_ (1) التقريب: 51 / و. (2) رسائل ابن حزم: 71 (ط. مصر) .

وتلميذه أرسطاطاليس والإسكندر ومن قفا قفوهم، وهذا علم حسن رفيع لأنه فيه معرفة العالم كله بكل ما فيه من أجناسه إلى أنواعه، إلى أشخاص جواهره وأغراضه، والوقوف على البرهان الذي لا يصح شيء إلا به وتمييزه مما يظن من جهل أنه برهان وليس برهاناً، ومنفعة هذا العلم عظيمة في تمييز الحقائق مما سواها.... (1) . فهذا الإيمان بفائدة علوم الفلسفة والمنطق هو الذي جعل ابن حزم بعد درسه لها، يحاول أن يوصل ما فهمه منها مبسطاً إلى الآخرين. وقد كسب له هذا الاتجاه عداوة الفريق الذي يكره الفلسفة والمنطق، وهو يومئذ الفريق الغالب في الأندلس. واتخذ اعداؤه هذه الناحية فيه محطاً لهجماتهم، ومن أمثلة ذلك أن أحد الناقمين كتب إليه كتاباً من الإمضاء، اتهمه فيه بأن الفساد دخل عليه من تعويله على كتب الأوائل والدهرية وأصحاب المنطق وكتاب أقليدس والمجسطي وغيرهم من الملحدين. فكتب ابن حزم يقول في الجواب: " أخبرنا عن هذه الكتب من المنطق وأقليدس والمجسطي: أطالعتها أيها الهاذر أم لم تطالعها فإن كنت طالعتها فلم تنكر على من طالعها كما طالعتها أنت وهلا أنكرت ذلك على نفسك وأخبرنا عن الإلحاد الذي وجدت فيها إن كنت وقفت على مواضعه منها، وإن كنت لم تطالعها فكيف تنكر ما لا تعرف (2) " وأصبح ابن حزم يعتقد أن فائدة المنطق أمر لا يرتاب فيه منصف لأنها فائدة غير واقفة عند حدود الاطلاع والرياضة الذهنية بل تتدخل في سائر العلوم كعلم الديانة والمقالات والأهواء وعلم النحو واللغة والخبر والطب والهندسة وما كان بهذا الشكل فإنه حقيق أن يطلب وأن تكتب فيه الكتب، وتقرب فيه الحقائق الصعبة. وغدا هذا الإيمان بقيمة المنطق وفائدته ابتداء حافزاً قوياً للتأليف فيه. إلا أن ابن حزم واجه في دراسته لهذا العلم صعوبتين، فلم لا يحاول تذليلهما للقارئ الذي يود الانتفاع بدراسة المنطق: الأولى تعقيد الترجمة وإيراد هذا العلم بألفاظ غير عامية، ويعني ابن حزم بالعامية الألفاظ الفاشية المألوفة التي يفهمها الناس لكثرة تداولها، فليكتب، إذن، كتاباً قريباً إلى الإفهام " فإن الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يسهله جهده ويقربه بقدر طاقته ويخففه ما أمكن " (3) . وهو يحسن الظن بالمترجمين ويرى

_ (1) المصدر نفسه: 43. (2) المصدر نفسه: 10. (3) التقريب، الورقة: 4 ظ (من نسخة س) .

أن توعيرهم للألفاظ هو شح بالعلم وضن به يوم كان الناس جادين في طلبه يبذلون فيه الغالي والنفيس. الصعوبة الثانية: أن المناطقة قد درجوا على استعمال الرموز والحروف في ضرب الأمثلة. ومثل هذا شيء يعسر تناوله على عامة الناس، فليحول ابن حزم الأمثلة من الرموز إلى أخرى منتزعة من المألوف في الأحوال اليومية والشريعة. وهو يحس بخطر ما هو مقدم عليه، ويعتقد أنه أول من يتجشم هذه المحاولة. ولم يكتب ابن حزم هذا الكتاب إلا بعد أن حفزه كثير من الدواعي في الحياة اليومية، وإلا بعد أن وجد الحاجة ماسة إلى المنطق في النواحي العملية من علاقات الناس وتفكيرهم، فهو قد لقي من يعنته بالسؤال عن الفرق بين المحمول والمتمكن، ولقي كثيراً من المشغبين الآخذين بالسفسطة في الجدل، وواجه من يسومه أن يريه العرض منخزلاً عن الجواهر، وقرأ مؤلفات معقدة لا طائل تحت تعقيدها، ورأى من يدعي الحكمة وهو منها براء فأراد لكتابه أن يكون تسديداً لعوج هذه الأمور وإصلاحاً لفسادها، ورداً على المخالفين والمشغبين وإقامة للقواعد الصحيحة في المناظرة، وهي يومئذ شغل شاغل لعلماء الأندلس. 4 - مصادر الكتاب: منذ أن بدأ دور الترجمة في تاريخ الفكر العربي بدأ النقلة ومن بعدهم من الشراح يهتمون بكتب أرسطاطاليس النطقية. وينسب إلى ابن المقفع أنه نقل ثلاثة من كتب المنطق الأرسطاطاليس وهي: قاطيغورياس وباري أرمينياس وأنولوطيقا، وأنه ترجم المدخل المعروف بإيساغوجي ... وعبر عما ترجم من ذلك بعبارة سهلة قريبة المأخذ (1) . ويذكر طيماثاوس الجاثليق الذي اتصل بالرشيد والمأمون أن الخليفة " أمرنا بترجمة كتاب طوبيقا لأرسطو الفيلسوف من السريانية إلى العربية. وقد قام بذلك بعون الله الشيخ أبو نوح " (2) . وقد ترك لنا صاحب الفهرست صورة من جهود النقلة والشراح المختصرين للكتب المنطقية الثمانية (3) . وهو بيان يدل على ما بذله كل من الكندي وأحمد بن الطيب وثابت بن قرة ومتى بن يونس القنائي والفارابي ويحيى بن عدي وغيرهم في هذا الميدان:

_ (1) طبقات الأمم: 49. (2) التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية: 116 (ترجمة عبد الرحمن بدوي) القاهرة: 1949. (3) الفهرست: 308 - 310، 316، 320 - 323.

1 - فأما الكندي فإن له رسالة في المدخل مختصرة موجزة ورسالة في المقولات العشر، ورسالته في الاحتراس من خدع السوفسطائيين، ورسالة في إيجاز واختصار البرهان المنطقي. 2 - وأما تلميذه أحمد بن الطيب فقد اختصر كلاً من فاطيغورياس وباري أرمنياس وأنالوطيقا الأول والثاني، وإيساغوجي. وله كتاب في الصناعة الديالقطية أي الجدلية على مذهب أرسطاطاليس من كتاب سوفسطيقا لأرسطاطاليس. 3 - ولثابت كتاب باريمنياس، وجوامع كتاب أنالوطيقا الأولى، واختصار المنطق ونوادر محفوظة من طوبيقا وكتاب في أغاليط السوفسطائيين. 4 - وانتهت رياسة المنطقيين إلى متى في عصره وكان أكثر جهوده موجهاً إلى النقل، كما أنه فسر الكتب الأربعة في المنطق بأسرها، وعليها يعول الناس في القراءة، وله شرح إيساغوجي. 5 - وأبعدهم أثراً في الدراسات المنطقية وهو الفارابي، وهو لم يكن مترجماً ولكنه وضع الكتب المنطقية في شكل معتمد، وفسرها بعبارات واضحة نالت إعجاب من جاءوا بعده وأصبحت كتبه المرجع المفضل في هذا الباب. 6 - وتتلمذ عليه وعلى متى منطقي آخر أصبحت له الرياسة بعدهما في المنطق وهو يحيى بن عدي. ومن يحيى استمد أبو سليمان المنطقي أستاذ التوحيدي وشيخ تلك العصبة من التلامذة الذين يكثر أبو حيان من التحدث عنهم في كتبه، مثل ابن زرعة الذي كتب مقالة في أغراض كتب أرسطاطاليس ومقالة في معاني إيساغوجي وكتاب سوفسطيقا؛ ومثل أبي الخير بن الخمار الذي فسر إيساغوجي واختصره وكتب كتاب اللبس في الكتب الأربعة في المنطق. تلك هي الحال في المشرق. أما في الأندلس فإن الإقبال على الفلسفة والمنطق قبل عهد الحكم المستنصر كان ضعيفاً، فكان أشهر من عني بالدراسات الفلسفية عامة قبل الفتنة البربرية (339) هو أبو القاسم مسلمة بن أحمد المرجيطي وعليه تتلمذ بعض المشهورين من حكماء الأندلس، ولكنه هو وأكثر تلامذته اتجهوا اتجاهاً رياضياً مع بعض اهتمام بالأمور المنطقية، وقد شاركه هذا الاهتمام الطبقة الأولى من دراسي المنطق في الأندلس وهم: ابن عبدون الجبلي وعمر بن يونس بن أحمد الحراني وأحمد بن حفصون وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم القاضي وأبو عبد الله محمد بن مسعود البجاني ومحمد بن ميمون المعروف

بمركوس وسعيد بن فتحون السرقسطي، وعلى هؤلاء درس ابن الكتاني، شيخ ابن حزم (1) . ونضيف إلى هؤلاء من الأندلسيين المهتمين بالمنطق ملحان بن عبيد الله بن سالم وكان له نظر في حد المنطق ومطالعة لكتب الفلسفة، والرباحي وقد نظر في المنطقيات فأحمها (2) واثنين من اليهود وهما منحم بن الفوال من سكان سرقسطة، وقد ألف كتاباً في المنطق على طريقة السؤال والجواب، ومروان بن جناح، ولم يذكر له في المنطق تأليف معين (3) . وعلى هذا يكون ابن حزم من رجال الطبقة الثالثة الذي توفروا على الدراسات المنطقية في الأندلس، بل لعله أن يكون أبرزهم في عصره. لكن إلى أي حد كانت الترجمات والشروح والمختصرات المشرقية معروفة في الأندلس لا القاضي صاعد يحدثنا بشيء من ذلك، ولا ابن حزم في كتاب التقريب يشير إلى شيء واضح دقيق، وكل ما نستطيع أن نقوله في هذا الصدد لا يعدو الفرض والتقدير. ولنا أن نفترض أن المشارقة الراحلين إلى الأندلس مثل الحراني، والأندلسيين الراحلين إلى المشرق مثل ابن عبدون الجبلي قد نقلوا معهم فيما نقلوه من كتب شيئاً من الترجمات في المنطق. ولا يبعد أن يكون ابن حزم قد عرف شيئاً منها وعول عليها كما عول على بعض مؤلفات الأندلسيين أنفسهم. وهناك مصدر مشرقي لا شك في أن ابن حزم اطلع عليه وهو كتاب أو كتب من تأليف الناشئ الأكبر أبي العباس المعروف بابن شرشير (- 293) . وأبو العباس هذا شاعر معتزلي ألف في الرد على المنطقيين، وهو من أوائل المفكرين الذين حاولوا الطعن في منطق أرسطو. وقد استشهد به أبو سعيد السيرافي في مناظرته مع متى المنطقي وهي المناظرة التي حفظها أبو حيان في كتاب الإمتاع والمؤانسة ويبدو مما أورده ويبدو مما أورده ابن حزم أن بعض آراء الناشئ كانت نوعاً من السفسطة، ولذلك حمل عليه ووصفه بكثرة الهذر. ولعل الناشئ ممن نبهوا ابن حزم إلى بحث مسألة أسماء الله تعالى لأن الناشئ كان يقول: إن الأسماء " حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق " (4) .

_ (1) عيون الأنباء 2: 45. (2) طبقات الزبيدي: 303، 310. (3) عيون الأنباء 2: 50. (4) الرد على المنطقيين (ط. بمباي) : 156.

غير أن أهم عبارة تومئ إلى مصدر ابن حزم في المنطق هي قول ابن تيمة " ولتعظيمه يعني ابن حزم المنطق رواه بإسناده إلى متى الترجمان الذي ترجمه إلى العربية " (1) وقد ظلت هذه العبارة مبهمة الدلالة حتى عثرت على مخطوطة إزمير التي احتفظت لنا في ختام كتاب التقريب بنص غاية في الأهمية جلا كل لبس وأماط كل حيرة حول مصدر ابن حزم في المنطق، وقد أوردت في ما تقدم بعض نقولٍ من هذا النص، ولكني أورده هنا كاملاً: " قال لي الشيخ أبو بكر، قال لي الشيخ أبو عبد الله [يعني الرصافي] ، قال لنا أبو محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم الفقيه الحافظ: قرأت حدود المنطق على أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي الطبيب، رحمه الله، المعروف بابن الكتاني، وما رأيت ذهناً أحد منه في هذا الشأن، ولا أكثر تصريفاً له منه، وكان قد قرأه على أبي عبد الله الجبلي الطبيب، وقرأه الجبلي ببغداد على أبي سليمان داود بن بهرام السجستاني، وقرأه داود على متى. ثم قرأته أيضاً على ثابت بن محمد الجرجاني العدوي المكني بأبي الفتوح، وما رأيت في خلق الله عز وجل أعلم بهذا العلم منه، لا أحفظ له منه، ولا أوسع فيه منه، فلما انتهيت إلى أول أقود قطيقا على الجرجاني، حضر معنا عنده محمد بن الحسن اعترافاً للجرجاني تقديماً له، وشهد قراءتي له على الجرجاني؛ وكان الجرجاني قد أخذ هذا العلم عن الحسن [بن] سهل بن السمح (2) ببغداد وأخذه الحسن بن سهل عن متى، وأخبرني ثابت أنه ساكن الحسن في منزل واحد أعواماً ". هما إذن طريقان ينتهيان إلى متى كما قال ابن تيمة: إحداهما عن طريق ابن الكتاني والأخرى عن طريق ثابت الجرجاني الأستاذين المباشرين لابن حزم، فهما المصدران لما ثقفه في المنطق، ولكن النص لم يذكر اعتمادهما على مؤلفات بأعيانها، وإنما يؤكد قضية الرواية سماعاً، ولهذا لا يبعد أن نفترض أنه رغم الرواية الشفوية كان هذان الأستاذان يعتمدان على جهود متى الذي لقب " المنطقي " لشهرته

_ (1) الرد على المنطقيين: 132. (2) كان من الفلاسفة الذين يلتفون حول أبي سليمان المنطقي، وقد ذكره أبو حيان في المقابسات: 109، وذكر أن له دكاناً بباب الطاق ببغداد، إلا أنه أنحى عليه في الإمتاع (1: 34) اتهمه بأنه مستفرغ في كسب الدوانيق " لم يعبق بفوائح الحكمة ولم يتضرج (في المطبوعة: يتفوح) بردع الفلسفة " (في أصل الإمتاع ولم يتفرخ بربع، وصوابه: ولم يتفرج بربع) .

في هذا العلم، وقد ذكرت من قبل أن له شرحاً على إيساغوجي وأن له تفسيراً للكتب الأربعة في المنطق، فهو فسر باري أرمينياس وأنالوطيقا الأول ونقل أنالوطيقا الثاني عن ترجمة سريانية لحنين بن إسحاق، ثم شرحه، وفسر المقالة الأولى من طوبيقا، ونقل أبو طيقا من السريانية إلى العربي كما نقل سوفسطيقا من اليونانية إلى السريانية وله نقول وتفسيرات على كتب أخرى من كتب أرسطاطاليس غير المنطقية (1) . أبو بشر متى المنطقي أبو سليمان المنطقي - - الحسن بن سهل بن السمح أبو عبد الله الجبلي أبو عبد الله الكتاني ثابت الجرجاني

_ - ابن حزم

5 - منهج ابن حزم في التقريب: ورث المناطقة المسلمون عن المدرسيين والشراح الإسكندرانيين وغيرهم ترتيب الكتب المنطقية الأرسطاطاليسية في ثمانية (1) ، وهذا هو ما وضحه الفارابي توضيحاً كافياً في ص تفصيلي نقله ابن أبي أصيبعة (2) ، سمى الكتاب الأول " المقولات " قاطاغورياس والثاني: العبارة باريمنياس، والثالث: القياس أو أنالوطيقا الأولى، والرابع: البرهان أو أنالوطيقا الثانية، والخامس: المواضع الجدلية أو طوبيقا، والسادس: الحكمة المموهة أو سوفسطيقا، والسابع: الخطابة أو الريطورية، والثامن: الشعر أو فويطيقا. وقال الفارابي: والجزء الرابع هو أشدها تقدماً للشرف والرئاسة، والمنطق إنما التمس به على القصد الجزء الرابع وباقي أجزائه إنما تحمل لأجل الرابع. وقد سار ابن حزم على هذه القسمة، على نحو مقارب، فقدم قبل الكتب الثمانية القول في المدخل أو إيساغوجي، ثم تناول القول في كتب أرسطاطاليس، فسمى الأول الأسماء المفردة، وسمى الثاني كتاب الأخبار وهو الذي دعاه الفارابي باسم " العبارة " وأدرج الكتب الأربعة التالية (3، 4، 5، 6) في باب واحد وجمعها تحت اسم " البرهان "، ورفض اسم القياس. ومع إيمانه بأن " البرهان " هو الغاية الكبرى فإنه لم يميز " أنالوطيقا الثاني " تمييزاً بائناً، وفرق القول في السفسطة على عدة مواضع، وقبيل آخر هذا الفصل تحدث عن رتبة الجدال وآداب المناظرة (الفقرة: 18) ثم شفع هذه الفقرة بفقرة أخرى (رقم: 19) تحدث فيها عن أخذ المقدمات من العلوم وقسمها إلى اثني عشر علماً ونص على أنه لا يلتزم في هذه القسمة ما جرى عليه المتقدمون. ولم يقف فيهما عند شيء من آراء أرسطاطاليس. والكتاب ينقسم حسب النسخة التونسية، في سفرين، يقف السفر الأول منهما عند نهاية القضايا القاطعة. ويبتدئ السفر الثاني بذكر القضايا الشرطية دون أن يكون لهذه القسمة أية علاقة بطبيعة الموضوع، وليس لهذه القسمة وجود في نسخة إزمير، فهي تجزئه اعتبارية من عمل أحد النساخ.

_ (1) الرد على المنطقيين: 156. (2) عيون الأنباء 1: 58 - 59.

وقد ذكر ابن حزم في موضع من كتابه أنه بناه على الاختصار، وهذا كلام صحيح إذا نحن قسنا هذا الكتاب بالكتب المنطقية كلها، وكان الأصح أن يقول إنه بناه على الاختيار، من جهة، وعلى التبسيط من جهة أخرى، فأما الاختيار فإنه حاول أن يبرز لقراء المنطق النقاط التي يراها هامة لترسيخ القواعد الأصلية فيه، وفي أثناء هذه المحاولة كان تبسيط في الشرح من أجل تبسيط المعلومات. ويتضح ذلك بإجراء بعض المقارنات، ففي الحديث عن " الجنس " يقول فرفوريوس الصوري: " يقال الجنس لجماعة قوم لهم نسبة بوجه الوجوه إلى واحد أو لبعضهم البعض على المعنى الذي يقال به جنس الهرقليين من قبل نسبتهم من واحد، أعني من هرقل، إذ كان جماعة القوم الذين لبعضهم قرابة إلى بعض من قبله قد يدعي جنساً بانفصالهم من سائر الأجناس الأخر. وقد يقال أيضاً على جهة أخرى جنس لمبدأ كون كل واحد واحد، إما الوالد أو من الموضع الذي يكون فيه الإنسان، فإنه على هذه الجهة تقول إن أورسطس من طنطالس وأولس من إيرقلس، وتقول أيضاً أن جنس أفلاطن أثيني وجنس فنطارس ثيباي، وذلك أن البلد مبدأ لكون كل واحد كالأب.... الخ " (1) . فإذا أراد ابن حزم أن يعرض لهذه الفكرة قال: " ذكر الأوائل قسماً في الجنس لا معنى له وهو كتميم لبني تميم، والبصرة لأهلها، والوزارة لكل وزيرن والصناعة لأهلها، وهذا غير محصور ولا منضبط، فلا وجه للاشتغال به (2) ". فهذا الذي قاله فرفوريوس في عبارات مطولة أوجزه ابن حزم في كلمات قليلة. وإليك مثالاً آخر: " يلخص ابن رشد ما يقوله أرسطاطاليس في تحديد معنى الانعكاس: " وأعني بالانعكاس أن يتبدل ترتيب أجزاء القضية فيصير محمولها موضوعاً وموضوعها محمولاً، ويبقى صدقها وكيفيتها من الإيجاب والسلب أيضاً محفوظاً، فإذا ما تبدل الترتيب ولم يبق الصدق محفوظاً فهو الذي يسمى في هذه الصناعة قلب القضية " (3) . وحين تناول بن حزم موضوع الانعكاس تجده يقول: " والانعكاس هو أن تجعل الخبر مخبراً عنه موصوفاً، وتجعل المخبر عنه خبراً موصوفاً به من غير أن يتغير

_ (1) إيساغوجي نقل أبي عثمان الدمشقي، تحقيق الدكتور أحمد فؤاد الأهواني (القاهرة 1952) : 68. (2) التقريب (النسخة س) ، الورقة: 9. (3) تلخيص منطق أرسطو (بيروت 1982) 1: 144.

المعنى في ذلك أصلاً، بل إن كانت القضية موجبة قبل العكس فهي بعد العكس موجبة، وإن كانت نافية قبل العكس فهي بعد العكس نافية، وإن كانت صادقة قبل العكس فهي بعد العكس صادقة، وإن كانت كاذبة قبل العكس فهي بعد العكس كاذبة، إلا أنه في بعض المواضع تكون القضية كلية قبل العكس وجزئية بعد العكس، لا يحيلها العكس بغير هذه البتة، وإنما نعني بهذا العكس ما لا يستحيل أبداً.... " (1) فتأمل كيف يتوسع ابن حزم في البسط والتبسيط معاً لما جعله ابن رشد في كلمات قليلة. ومن أجل التيسير على متلقي المنطق وضع ابن حزم أمثلة منطقية مستمدة من الشريعة، كما " عرب " كثيراً من الأمثلة التي وردت مترجمة عن اليونانية، وحذف كثيراً من الأمور المعقدة التي لا يحتاجها المبتدئ، من ذلك قوله: " ولم أترك إلا أشخاص تقاسيم من موجبات وسوالب من البسائط والمتغيرات والمحصورة والمهملة ومن المخصوصة ومن الاثنينية والثلاثية والرباعية لا يحتاج إليها، وإنما هي تمرن وتمهر لمن تحقق بهذا العلم تحققاً يريد ضبط جميع وجوهه " (2) . أو قوله في موضع آخر: " وذكر الفلاسفة ها هنا شيئاً سموه " كون الشيء في الشيء " وليس يكاد ينحصر عندنا، وإن كنا محصوراً في الطبيعة، فلم نر وجهاً للاشتغال به، إذ ليس إلا من تشقيق الكلام فقط كقولهم: النوع في الجنس في النوع وما أسبه ذلك مما لا قوة فيه في إدراك الحقائق وإقامة البراهين وكيفية الاستدلال الذي هو غرضنا في هذا الكتاب " (3) . وابن حزم لا ينقاد للآراء إذا لم تكن مما يرتضيه حكمه العقلي، ولذلك نجده كثيراً ما يحمل الخطأ على الترجمة والمترجمين أو يذهب إلى التصريح بمخالفة الأوائل في كثير من المواقف؛ قال أبو محمد (4) في بعض تعليقاته: " هذه عبارة المترجمين وفيها تخليط لأنهم قطعوا على أن الرسم ليس مأخوذاً من الأجناس والفصول وأنه إنما هو مأخوذ من الأعراض والخواص، ثم لم يلبثوا أن تناقضوا فقالوا: إن كل حد رسم فأوجبوا أن الحد مأخوذ من الأعراض أو أن بعض الرسوم مأخوذ من الفصول، وهذا ضد ما قالوه

_ (1) التقريب: 48 و (من النسخة س) . (2) التقريب: 46 / و (من النسخة س) . (3) التقريب: 33 / و. (4) جاء في النسخة التونسية قال الشيخ بدل قال أبو محمد، وقد أثارت اللفظة اهتمامي في الطبعة الأولى، فكتبت عنها في المقدمة، وقدرت أن الشيخ ربما كانت تشير إلى متى المنطقي؛ وهو تقدير غير مستبعد، لو اتفقت النسختان على إيرادها.

قبل " (1) ؛ وخطأ الفلاسفة في بعض ما ذهبوا إليه كقولهم في القدمة: إن الجنس أقدم من النوع من أجل أنه مذكور في الرتبة قبله، وقولهم إن المدخل إلى العلوم أقدم من العلوم (2) ، غير أنه أشد في حملته على المشغبين وخاصة حين يمتد شغيهم إلى الأمور الفكرية والدينية. وواضح أن كثيراً من منهج ابن حزم في الكتاب متأثر بمسلمات عقائدية أو مذهبية التحمت بنفسه قبل أن يتصدى للخوض في المنطق، مثل قضية الخلاء والملاء والاسم والمسمى وأسماء الله الحسنى وإنكار القياس والعلل في الشريعة، وغير ذلك، فهو كثيراً ما ينحو نحو الاستطراد لبيان هذه المسائل، حتى حين تكون صلتها بموضوعات كتابه واهية. ومما التزمه ابن حزم في منهجه الاعتماد على طبيعة اللغة العربية سواء أكان ذلك في نواحي تميزها أم قصورها، فهو يعلم أن السؤال ب " ما " أو ب " أي " في اللغة العربية قد يستويان وينوب كل واحد منهما عن صاحبه، " ومن أحكم اللغة اللطينية عرف الفرق بين المعنيين اللذين قصدنا في الاستفهام، فإن فيها للاستفهام عن العام لفظاً غير لفظ الاستفهام عن أبعاض ذلك العام " (3) واللغة العربية ليس فيها لفظة تخص بالكمية دون سواها " وهذا يستبين في اللغة اللطينية عندنا استبانة ظاهرة لا تختل، وهي لفظة فيها تختص بها الكمية دون سائر المقولات العشر؛ وللكيفية أيضاً في اللطينية لفظ يختص بها اختصاصاً بيناً لا إشكال فيه دون سائر المقولات، لا توجد لها ترجمة مطابقة في العربية " (4) ؛ وإذا وجد مصطلحاً غريب الدلالة في اللغة العربية استبعده، فالأوائل سمت النوع " صورة " في بعض المواضع، وهو يقدر أن يكون ذلك منهم اتباعاً للغة يونان، فربما كان هذا الاسم عندهم، ولكنه لا يصح في اللغة العربية (5) . لهذا كله يصدق قول الدكتور سالم يفوت بأن كتاب التقريب يمثل " قراءة لأرسطو حاولت رفع إبهامات والتباسات النص الأرسطي اعتماداً على مبادئ تقول بنسبة المعاني الفلسفية وارتباطها باللغة فيها.... وبالفعل نلاحظ أن العرض لدى ابن حزم لا يمثل الهدف الأساسي، بل هو مجرد لحظة أولى تتلوها ثانية، هل لحظة اتخاذ الموقف انطلاقاً

_ (1) التقريب: 8 / ظ. (2) التقريب: 33 / و - ظ. (3) التقريب: 7 / ظ. (4) التقريب: 22 / ظ، وانظر أيضاً: 23 / ظ. (5) التقريب: 9 / ظ.

من المبادئ المومأ إليها " (1) فهذه الحقيقة يدركها من درش كتاب التقريب بعناية، نعم إن ابن حزم لا ينكر أن منطلقاته تمتد إلى فرفوريوس الصوري وإلى أرسطاطاليس أو إلى الأوائل جملة، كما يحلو له أن يعبر، وقد يكون متأثراً بالرواقين في تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف كما يقول روجيه أرنالديز، أو في حديثه عن الحد والرسم، كما يقول روبير برونشفيك (2) ؛ ولكن ليس هذا هو الشيء الأساسي، إنما الشيء الأساسي هو الانتقال من مرحلة التبسيط أو شرح المستغلق ورفع الالتباس في بعض مواقف الأوائل إلى موقف فكري واضح مستمد من طبيعة اللغة والدين، موجه إلى غايات محددة؛ وقد حدد الدكتور سالم يفوت ثلاثة دواع تظهر الحاجة إلى صناعة المنطق وهي: (1) فهم بناء كلام الله ورسوله، وفهم أحكامه وطرق استنباطها (منطق البيان) . (2) الرد على المشغبة، وهو مر يقتضي التسل بالأفانين التي يلجأون إليها (منطق الجدل) . (3) التمييز بين الحق والباطل، وهو أمر يتم بطبيعة الحال لا بصورة مجردة، بل اعتماداً على النص الديني (3) . وعلى أساس من هذه الدواعي يعلل الدكتور يفوت أن " إسراع " ابن حزم في تناول أربعة كتب لأرسطو في مجال لا يتجاوز مائة صفحة إلا قليلاً بأنه إنما كان يهدف إلى " رفع قلق الموقف الأرسطي " وهذا ما جعله " يعيد كتابة " أجزاء كثيرة من المنطق " ويهمل " أبواباً كاملة (4) . 6 - صرح ابن حزم بأن كتاب التقريب يقع تحت النوع الرابع من المؤلفات، وهو النوع الذي يتناول شرح المستغلق: " ولن نعدم إن شاء الله أن يكون فيها بيان تصحيح رأي فاسد يوشك أن يغلط فيه كثير من الناس، وتنبيه على أمر غامض، واختصار لما ليست بطالب الحقائق إليه ضرورة، وجمع أشياء متفرقة مع الاستيعاب لكل ما

_ (1) مجلة دراسات عربية، العدد 4 (السنة 19 شباط - فبراير 1983) : 57. (2) المصدر نفسه: 56. (3) المصدر نفسه:61. (4) المصدر نفسه: 71.

بطالب البرهان إليه بأقل حاجة، وترك حذف شيء من ذلك البتة " (1) ، وقد رأينا أن هذه الغاية التي وجه لها ابن حزم جهده قد أكسبت كتابة سمات من الأصالة، ففي قيامه بشرح المستغلق وحذف ما هو غير ضروري، وإثارة أمر غامض، وجمع أشياء متفرقة في نطاق واحد، مع الاستيعاب للأوليات الضرورية، برزت شخصية رجل مستقل في فكره، واضح في أهدافه؛ ومهما يشتم من تواضع في كلمته التي حدد بها طبيعة كتابه فإنه كان يدرك إدراكاً تاماً بأنه يحاول أمراً لم يحاوله أحد قبله: " ولم نجد أحداً قبلنا انتدب لهذا " (2) فهو يدرك خطورة ما هو مقدم عليه، ولكنه يجد في نفسه الاستعداد لذلك، أعني " لكشف غمة العداء للمنطق واكتساب الأجر في هداية الناس إلى فوائده ". ومع ذلك فربما كان ابن حزم مسبوقاً إلى هذه الخطوة أو إلى ما هو شبيه بها، فقد بين الدكتور عمار الطالبي أن الفارابي كان أول ن يسر المنطق وقر به للإفهام واستخدام فيه عبارات الفقهاء والنحاة واصطلاحات المتكلمين، وقارن فيه بين منهج الأصوليين ومنهج المشائين، وضرب الأمثلة من القرآن ومن عبارات الفقهاء في القياس وغيره من الاستقراء والتمثيل، وألف في ذلك كتاباً سماه " كتاب المختصر الصغير في المنطق على طريقة المتكلمين " (3) . يبدو لي أم ثمة فرقاً أصيلاً بين الفارابي وابن حزم في هذا الموقف، فالفارابي يأخذ منطق أرسطاطاليس كما هو ويقارنه بمنطق آخر، اتخذت من علم الكلام، بينما يجرد ابن حزم من منطق أرسطاطاليس " معياراً " يحسنه الناس البسطاء، ويخدم " تربية فكرية " تمتد إلى شؤون الدين والحياة بعامة؛ وأياً كان الأمر فهل اطلع ابن حزم على محاولة الفارابي يثير الدكتور الطالبي مسألة اللقاء بين ابن حزم والفارابي في مسألة قياس الغائب على الشاهد فيقول: والغريب أن آراء ابن حزم في مسألة قياس الغائب على الشاهد أو الاستقراء تماثل آراء الفارابي، إذ أورد نظرية الأصوليين واصطلاحهم في إجراء العلة والمعلول وانتهى إلى نفس الرأي الذي انتهى إليه الفارابي في القول بأن الاستدلال بالشاهد على الغائب إنما يصح في الإبطال لا في الإثبات (4) . ولعل هذا

_ (1) التقريب: 5 / ظ. (2) التقريب: 4 / و. (3) نصوص فلسفية (إشراف وتصدير الدكتور عثمان أمين، 1976) : 87. (4) المصدر السابق: 90؛ وانظر التقريب: 76 / و.

الاستنتاج الذي وصل إليه ابن حزم إنما توصل إليه مستقلاً من كثرة تقليبه للتجارب الاستقرائية التي كان يواجه بها أصحاب المذاهب الأخرى. وقد اتهم ابن حزم بعض معاصريه بأنه لم يفهم منطق أرسطاطاليس، فقال فيه صاعد: " وخالف أرسطاطاليس واضع هذا العلم في بعض أصوله مخالف من لم يفهم غرضه ولا ارتاض في كتابه، فكتابه من أجل هذا كثير الغلط بين السقط " (1) ؛ ورد ابن حيان المؤرخ الأندلسي هذه التهمة حين قال: " كان أبو محمد حامل فنون من حديث وقفه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة، وله في بعض تلك الفنون كتب كثيرة لم يخل فيها من الغلط والسقط، لجرأته في التسور على الفنون، لا سيما المنطق، فإنهم زعموا أنه زل هنالك، وضل في سلوك تلك المسالك، وخالف أرسطاطاليس واضعه، مخالفة من لم يفهم غرضه ولا ارتاض في كتبه " (2) . أما أنه خالف أرسطاطاليس فشيء واضح في كتابه، وأما أنه لم يفهم غرضه، فذلك هو الشيء الذي حاولنا رفضه آنفاً، فقد يختلف غرضه ابن حزم عن غرضه أرسطاطاليس في هذا، دون أن يهتم بأنه لم يفهم غرض المعلم الأول. أما إن كان ما يقوله صاعد بأن ابن حزم وقع في الخطأ بمعنى أنه أجرى اجتهادات " لا منطقية " في محاولته للتبسيط، فشيء لا يمكن الحكم عليه إلا بعد فحص دقيق للمصطلح المنطقي والتمثيلات التي جاء بها في كتابه ومقارنتها بما لدى أرسطاطاليس، فقد اعتمد ابن حزم على منطقيات لم تكن موجودة لدى أرسطاطاليس، وأباح لنفسه القيام بأمور لم يجدها للمعلم الأول، فمن ذلك: (1) أنه صرح بأنه لا يتقيد في هذا أو ذاك من الآراء بقول الأوائل (وفيهم أرسطاطاليس نفسه) ، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، وهذا أمر يدل على استقلال في النظر، لا على أنه لم يفهم غرض أرسطاطاليس. (2) صدر في مفهوماته عن مقدمات دينية لم تكن لدى أرسطاطاليس، وهو شديد الشغف بالتقريب بين المنطق والشريعة، وجعل الأول في خدمة الثانية (وهذا قد

_ (1) طبقات الأمم: 76. (2) الذخيرة لابن بسام 1: 167 ونص ابن حيان هذا نقله ابن سعيد في المغرب والذهبي في سير أعلام النبلاء وفي تذكرة الحفاظ وفي تاريخ الإسلام كما نقله الصفدي في الوافي بالوفيات.

يوقع صاحبه في الإحالة إذا لم يكن صاحبه دقيقاً متحرزاً) . (3) تجاوز التمثيل بالحروف والرموز إلى انتزاع الأمثال من مألوف الحياة ومن الشريعة (1) ، فأصبح منطقه خاضعاً لمواصفات اللغة (لا تجريدياً كالمعادلات الجبرية) . (4) حكم نظرته الظاهرية في كثير من الأمور فأنكر القياس والعلية في الأمور الشرعية، وأطنب في بيان المعرفة العقلية، وأضعف من قيمة الاستقراء (وبهذا خالف أرسطاطاليس الذي يقول: إننا يلزم أن نعلم الأوائل بالاستقراء، وذلك أن الحس إنما يحصل فيها الكلي بالاستقراء) . (5) استأنس بأحكام مستمدة من طبيعة اللغة العربية نفسها، مما هو غير موجود أو متحقق في لغة أخرى كاليونانية. ومهما يكن من شيء فكتاب التقريب " ظاهرة " هامة في تاريخ الفكر الإسلامي بالأندلس، وفيه، إذا تجاوزنا النواحي المنطقية الخالصة، حقائق هامة تتناول طبيعة الحياة الفكرية في المجتمع الأندلسي، وفيه كثير مما يتصل بابن حزم ونظرته إلى الحياة والناس، وهو مقدمة للغزالي في المشرق الذي احتذى حذو ابن حزم فاستمد أمثله المنطق من الفقه. 7 - تحقيق كتاب التقريب: حين ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب (1959) لم يكن بين يدي إلا نسخة المكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة بتونس، ورقمها: 6814 وهي من المخطوطات التي صورها معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية (القاهرة) ورقم الفيلم: 8، وقد أذن لي المشرفون على المعهد يومئذ مشكورين بتصوير نسخة عن ذلك الفيلم. وتقع المخطوطة في اثنتين وتسعين ورقة، في كل صفحة 26 سطراً، ومتوسطاً كلمات السطر الواحد: 11 كلمة، وهي مكتوبة بخط نسخي دقيق القلم أو متوسط الدقة وكثير من الكلمات فيها نقصه الإعجام. ومن أبرز ما فيها أن الناسخ يضع الحرف " ط " فوق الكلمة التي يشير بحذفها أو إسقاطها. وهو يثبت الياء في حال الرفع في كلمات مقل: متناهي. تالي. واهي. وهكذا، وقد حذفت هذه الياء حيثما وقعت وأشرت إلى بعض ذلك لا كله في الحواشي على سبيل التمثيل. كذلك فإن الناسخ لا يتقيد

_ (1) انظر مثلاً التقريب: 59 ظ، 67 و....

بعكس العدد المفرد مع المعدود، فهو يكتب مثلا: ستة أرجل، سمحت لنفسي بتغيير هذا أيضاً. وليس على هوامش النسخة سوى بعض التصويبات وتعليقتين أو ثلاث. والنسخة ليست مؤرخة ولكن خطها قد يدل على أنها ربما كتبت في القرن السابع أو قبله بقليل. وقد قلت يوم ظهور الطبعة الأولى: إنني بذلت في تصحيحها جهدي، ولكني لم أستطع أن أحل كل ما اعترضني فيها من مشكلات، على إدامة النظر وتكرار المحاولة. واليوم، أحمد الله على أن هذه المشكلات التي أشرت إليها لم يبق منها إلا القليل القليل، وذلك بعد العثور على نسخة التقريب في إزمير (ورقمها: 764) وهي نسخة قيمة جداً تقع في 74 ورقة وفي كل صفحة من صفحاتها 25 سطراً ومعدل الكلمات في السطر الواحد 16 كلمة، وخطها نسخي واضح دقيق جميل، وبعض الحروف فيها ينقصها الإعجام جزئياً، ونظراً لظهور هذه النسخة إلى جانب السابقة رمزت للتونسية بالحرف (س) وللإزميرية بالحرف (م) وتعد النسخة (م) وتعد النسخة (م) أكثر ضبطاً من أختها، وهي منسوخة مباشرة فيما يبدو عن نسخة الشيخ أبي بكر البغدادي، وهذا أخذ نسخته عن نسخة الشيخ أبي عبد الله الرصافي التي قرئت على ابن حزم؛ وتشمل الورقات 74 77 منها: تفسير ألفاظ تجري بين المتكلمين في الأصول، وفي آخرها: كتب هذا الباب من كتاب النبذ الكافية في أصول أحكام الدين تأليف الشيخ الفقيه الحافظ أبي محمد عليّ بن أحمد بن سعيد رحمه الله، وقرأت هذا على شيخنا أبي بكر البغدادي قال قرأ علينا الشيخ أبو عبد الله الرصافي قال لنا الشيخ أبو محمد (بن) عليّ منصفه رحمهم الله تعالى. واسم الناسخ " محمد بن عبد الملك بن عبد العظيم الحنفي " ولكنه لم يثبت تاريخاً للنسخ. وعلى الورقة من النسخة (م) تملكات مختلفة أكثرها غير مؤرخ، وأحدها تملك يحمل تاريخ سادس جمادى الأولى سنة 946 كما أثبت الناسخ بخطه على هذه الورقة فهرستاً بأسماء الكتب المنطقية التي ذكرها ابن حزم في التقريب وهي كتاب إيساغوجي وكتب أرسطاطاليس الثمانية، وفهرست آخر بأسماء الكتب التي ألفها " أرسطاطاليس " في أصول الحكمة النظرية وهي إعادة للكتب الثمانية مع إضافة أسماء بعض الكتب الأخرى. وعلى حواشي الورقة السادسة منها وبين السطور تعليقات هي

- 3

شروح وتفسيرات. وهي تشبه النسخة (س) في سقوط بعض العبارات منها عند تشابه النهايات، وفي إثبات الياء في حال الرفع في مثل: متناهي. تالي. واهي؛ ومن الغريب أن النسختين تتفاوتان في التقديم والتأخير على نحو يكاد يكون مطرداً في مواطن لا يختل فيها المعنى إطلاقاً، فقد يجيء في إحدى النسختين عبارة " ساقط مرذول " وفي الثانية " مرذول ساقط "، كما يطرد فيهما إلى حد بعيد عبارات الدعاء فحيث يجيء في إحدى النسخ " عز وجل " يجيء في الثانية " تعالى " ولكن (م) أدق بكثير من (س) في الجملة، ولهذا رجحت قراءاتها في معظم الأحوال، لأنها أقرب الصورتين إلى نسخة المؤلف. وقد يبدو أنني أثقلت الحواشي بإثبات فروق غير ضرورية، ومع ذلك فلا أدفع أن يكون فاتني إثبات فروق أخرى، كان لا بد من أن تزيد الحواشي ازدحاماً. قد تحقق بالمقارنة نص يرضي دارسي المنطق والقراء، فيما اعتقد، وهذا يجعلني أعتذر عما لحق الطبعة الأولى من أخطاء وتجاوزات لم يكن لي قبل بتصحيحها؛ على أني يجب أن أقول أيضاً إنه لو جرى الاعتماد على (م) وحدها لبقيت نسبة الخطأ والسقط كثيرة أيضاً، فالحمد لله على أن وفقني لتدارك ذلك، راجياً مت يهتم بآراء ابن حزم أن يلغي الطبعة الأولى في قراءته أو دراسته. - 3 فصل: هل للموت ألم أم لا هذه رسالة صغيرة (أو فصل) في مشكلة تعرض لها الفلاسفة: هل للموت ألم أو لا، فقد ناقشها الكندي وأسهب في جلائها مسكويه في تهذيب الأخلاق عندما تحدث عن " الخوف من الموت "، وكذلك فعل غيرهما من الفلاسفة، ولم يضف ابن حزم إلى هذه القضية شيئاً جديداً، ولكن إثباتها هنا بين رسائل ذات طابع فلسفي أمر ضروري لأنه يوضح طبيعة المشكلات التي كان يحاول علاجها. ويتجلى حرص ابن حزم على ربط المشكلة بحديث الرسول: " إن للموت سكرات " مبيناً فهمه الخاص لذلك الحديث، وهي وقفة طبيعية من ابن حزم.

- 4

- 4 - كتاب في الرد على الكندي جاء هذا الكتاب تالياً لكتاب التقريب من نسخة المكتبة الأحمدية بتونس حيث كتب على الورقة الأولى " وفيه الرد على محمد بن زكريا الرازي المتطبب في كتابه المسمى بكتاب العلم الإلهي.... بكتاب التوحيد من تأليفه قدس الله روحه ونور ضريحه " ويبدو أن كلمة " بكتاب التوحيد " تصحيح أضافه الناسخ على هامش الورقة الأولى بعد أن وضع علامة " م " فوق " بكتاب العلم الإلهي ". ويستطيع المرء من النظرة الأولى أن يحكم بأن هذا الكتاب لا صلة له بكتاب العلم الإلهي للرازي ولا رد على محمد بن زكريا، فليس للرازي فيه أي ذكر وليست محتوياته رداً على كتاب العلم الإلهي وإنما هو في أكثره رد عبلى الكندي مؤلف كتاب التوحيد، ثم يلي ذلك فصول تتريب على النحو الآتي: (أ) تعريف ببعض المصطلحات (ف 62 76) . (ب) مناظرة بين المؤلف وأحد الدهرية (ف 77) . (ج) فصل في أمور شتى (ف 78 81) . (د) جملة المختلفين من أهل الملة الإسلامية (ف 82) . (هـ) رسالة اتفاق العدل بالقدر (ف 83) . (و) فقرتان في الروح (ف 84 85) . ولما تبينت أن القسم الأول منه رد على الكندي رجعت إلى رسائل الكندي فوجدت أن كتاب التوحيد المذكور هنا ليس إلا رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، ولا خلاف في التسمية لأن اسم هذه الرسالة حسبما يذكر ابن أبي أصيبعة هو " كتاب الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد " وهي رسالة نشرت مرتين، مرة بتحقيق الدكتور أحمد فؤاد الأهواني (1948) ومرة بتحقيق الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة مع عدد من رسائل الكندي (1950) . ومن المقارنة بين ما نقله مؤلف هذا الكتاب وبين رسائل الكندي وجدت النص متفقاً، إلا أن مؤلف الرد كان يلخص العبارة أحياناً أو يعتمد الحذف وينتقي عبارات خاصة من رسالة الكندي، وقد اخترت أن أقارن هذا الرد بالرسالة التي نشرها الدكتور أبو ريدة لأنه حافظ في هوامشها على الأصل، وهذا جدول بما أظهرته المقارنة:

ف 1: رسالة الكندي إلى المعتصم في الفلسفة الأولى: 97. 2: - المصدر نفسه: 101. 4: - المصدر نفسه: 104. 5: - المصدر نفسه: 106 107. 7: - المصدر نفسه: 107 109 110. 8: - المصدر نفسه: 111. 10: - المصدر نفسه: 111. 13: - المصدر نفسه: 112. 14: - المصدر نفسه: 112. 17: - المصدر نفسه: 112 113 114. 30: - المصدر نفسه: 143 144. 57: - يشير إلى قول الكندي 159 160 والواحد الحق إذن لا ذو هيولي ولا ذو صورة ولا ذو كمية ولا ذو كيفية ولا ذو إضافة ولا موصوف بشيء من باقي المقولات ولا ذو جنس ولا ذو فصل ولا ذو شخص ولا ذو خاصة.... الخ. 69، - 78: رسائل الكندي: 217 218. غير أن الفقرة 47 من هذا الكتاب وهي نقل لبعض كلام الكندي ليس لها ما يوازيها في المجموعة المنشورة من رسائله. فإذا كان المؤلف ينقل من رسالة الفلسفة الأولى فهذا دليل على أن الرسالة ناقصة وذلك شيء قد نبه عليه الدكتور أبو ريدة بقوله: " ومن أسف أن هذا هو كل ما عندنا من كتاب الكندي في الفلسفة الأولى، ويظهر أن له بقية لأن المؤلف يقول في آخر الفن الرابع إنه سيكمل الكلام بما يتلوه تلواً طبيعياً " (1) هذا وان مؤلف الكتاب يشير إلى رد الكندي على الدهرية والمنانية، فلعل رسالته في التوحيد قد شملت هذا الموضوع نفسه، وقد ذكر ابن أبي أصيبعة للكندي الرسائل التالية مما يحسن أن يكون متصلاً بكتاب التوحيد: (1) رسالة في الرد على المنانية. (2) رسالة في الرد على الثنوية. (3) رسالة في نقض مسائل الملحدين.

_ (1) رسائل الكندي: 96.

وقد يكون الكندي عالج الرد على المنانية والثنوية والملحدين في غير موضع واحد من رسائله، فمرة وصل الكلام فيه بكتاب التوحيد ومرة أفرد له رسائل مستقلة. ولعل أول شيء استوقفني حين قرأت هذا الكتاب هو: هل الكتاب من تأليف ابن حزم ذلك لأن الذي نسبه لابن حزم ظن أنه كتاب في الرد على العلم الإلاهي للرازي، ولابن حزم كتاب يرد به على الرازي في العلم الإلاهي ذكره كثيراً في كتاب الفصل وأشار إلى بعض ما يحتويه. ولكن هذا كتاب آخر في الرد على الكندي تليه رسائل وفصول لا تجمعها رابطة واحدة، وليس فيه إشارة واحدة إلى ابن حزم نفسه إذ ابن حزم يصدر أقواله دائماً بمثل: قال عليّ، أو قال أبو محمد. ولم يرد مثل هذا مرة واحدة في الكتاب بل جاء فيه حيناً: قال محمد، وحيناً قال الموحد. وإذا حسبنا أن " قال محمد " خطأ صوابه: قال (أبو) محمد، وأن لفظة " أبو " قد سقطت سهواً من الناسخ لم نجد عبارة " قال الموحد " مما يستعمله ابن حزم في كتبه، ولم يشر أحد فيما أعلم إلى أن لابن حزم كتاباً في الرد على الكندي أو رسالة في اتفاق العدل والقدر، ولم يشر ابن حزم نفسه إلى شيء من ذلك، ومن عادته أن يسمي بعض كتبه في مادة واحدة، وقد كان من الممكن أن يشير إلى هذا الكتاب في كتاب الفصل مثلاً حيث عالج مسألة أسماء الله تعالى وصفاته وتحدث عن الدهرية وعن القدر، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث. ومن هنا نشأة الحيرة وثار التساؤل: من هو مؤلف هذا الكتاب وفي محاولتي الإجابة عن هذا السؤال طرحت على نفسي سؤالاً آخر وهو: هل اطلع ابن حزم على فلسفة الكندي وبعد البحث وجدت ما يؤيد وجود صلة بين بعض الأفكار عند كل منهما إلا أن ابن حزم لم يذكر الكندي فيما أعلم إلا في نقل واحد في كتاب الجمهرة (1) ؛ وهذه هي أهم مجالات الاتفاق بينهما: 1 - المصطلح المنطقي الذي استعمله ابن حزم في كتاب التقريب شديد الشبه بالمصطلح المنطقي لدى الكندي. 2 - يستعمل ابن حزم في إنكار الخلاء والملاء في كتاب الفصل وكتاب التقريب نفس البرهان الذي يورده الكندي.

_ (1) الجمهرة: 109.

3 - يرى ابن حزم أن ليس في العالم جزء لا يتجزأ (1) أصلاً وللكندي رسالة في بطلان قول من زعم أن جزءاً لا يتجزأ. فهما متفقان في الفكرة ولكن لا ندري إلى أي حد يتفقان في طريقة البرهان لأن رسالة الكندي لم تصلنا. 4 - ذهب ابن حزم إلى القول بأن الواحد ليس عدداً وبرهانه على ذلك أن خاصية العدد أن يوجد عدد آخر مساو له وآخر ليس مساوياً له، والمساواة هي أن تكون أبعاضه كلها مساوية له وبعضها غير مساو له (2) وهذا مشبه لقول الكندي: " وإن كان الواحد كمية فخاصة الكمية تلحقه وتلزمه أعني أنه مساو ولا مساو ". ويستنتج الكندي أن الواحد إذن ليس عدداً ويقول: الواحد ليس بعدد بالطبع بل باشتباه الأسم (3) ، وبنحو من هذا القول قال ابن حزم إذ يذهب إلى أن تسميته بالعدد أمر مجازي. 5 - قال الكندي: " وقد ينبغي ألا يطلب في إدراك كل مطلوب الوجود البرهاني لأنه ليس كل مطلوب عقلي موجوداً بالبرهان لأنه ليس لكل شيء برهان ". وبمثل هذا يقول ابن حزم: " والمشاهدات التي لا يجوز أن يطلب عليها برهان، إذ لو طلب على كل برهان آخر لاقتضى ذلك وجود أشياء لا نهاية لها وهذا محال " (4) . وكرر هذا الرأي في كتاب التقريب. 6 - تحديد الباري عز وجل عند كل منهما يكاد يتفق نصاً، فيقول الكندي: " ولا هو عنصر ولا جنس ولا نوع ولا شخص ولا فصل ولا خاصة ولا عرض عام ولا حركة ولا نفس ولا عقل ولا كل ولا جزء.... ولا هو زمان ولا مكان ولا جوهر ولا عرض " (5) . ويقول ابن حزم: " والباري عز وجل ليس في مكان ولا هو جرم ولا جوهر ولا عرض ولا عدد ولا جنس ولا نوع ولا شخص ولا متحرك ولا ساكن فليس في زمان وإنما هو حق في ذاته موجود بمعنى أنه معلوم " (6) . 7 - استعمل ابن حزم رأي الكندي في أن الشيء لا يمكن أن يكون علة ذاته. قال

_ (1) الفصل 5: 92. (2) الأصول والفروع: 85. (3) رسائل الكندي: 146. (4) الأصول والفروع: 64 - 65. (5) رسائل الكندي: 160 - 161. (6) الأصول والفروع: 99.

الكندي: " فنقول إنه ليس ممكناً أن يكون الشيء علة كون ذاته.... لأنه لا يخلو من أن يكون أيسا وذاته ليس أو يكون ليساً وذاته أيس " (1) وقد وضع ابن حزم بدل لفظي " أيس وليس " كلمتي موجود ومعدوم فقال: " إما أن يكون أحدث ذاته وهو موجود وهي معدومة أو أحدث ذاته وهو معدوم وذاته موجودة أو أحدثها وكلاهما موجود أو أحدثهما وكلاهما معدوم " (2) . فإذا استأنسنا التشابه بصور التشابه بين آراء الكندي وابن حزم لم نستبعد أن يكون ابن حزم قد اطلع على رسائل الكندي فأخذ من أفكاره ما وافق مبادئه وأنكر عليه ما أنكره في هذا الكتاب. ومن المرجحات التي تقوي نسبة الكتاب إليه أن الفكرة الأساسية في كتابه توافق الرأي الأساسي لابن حزم في مسألة أسماء الله تعالى، ومدار الرد على الكندي أنه لا يجوز لنا أن نسمي الله (علة) لسببين عقلي ونقلي. أما العقلي فهو أن العلة تفترض المعلول ولا تنفك عنه، كما أن المعلول يفترض العلة ولا ينفك عنها. فالعلاقة بين العلة والمعلول علاقة إضافة. وقد أخطأ الكندي حين نفى الإضافة أولا عن الله ثم عاد يسميه علة، " فالمعلول نوع لعلته والعلة أصل لمعلولها " ولا يمكن من هذا التأليف أن يوجد التضامن القائم بينهما، إذن فإن التضامن من محرك غيرهما ليس مثلهما لا محالة، والله هو مبدع العلل وليس له مثل، وليس هو لشيء علة، إذ العلة في العقول الصحيحة هي السبب المطبوع لكون المسبب لا محالة، فالأول جل وعز لا سبب لأنه هو محدث الأسباب. وأما السبب النقلي فلم يقف عنده المؤلف في هذا الكتاب ولكنه ملموح من كلامه، وهو أن لفظ العلة لا يسمى به الله لأنه لا يجوز لنا أن نطلق عليه اسماً غير وارد نصاً في الأسماء التسعة والتسعين، وهذا ما وقف عنده ابن حزم في كتاب الفصل في مواطن متفرقة وكرره دون ملل فقال مثلاً: " فمن وصف الله تعالى بصفة يوصف بها شيء من خلقه أو سماه باسم يسمى به شيء من خلقه استدلالاً على ذلك بما وجد في خلقه فقد شبهه تعالى بخلقه وألحد في أسمائه وافترى الكذب، ولا يجوز أن يسمى الله تعالى ولا أن يخبر عنه إلا بما سمى به نفسه أو أخبر به عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله

_ (1) رسائل الكندي: 123. (2) الأصول والفروع: 70.

عليه وسلم أو صح به إجماع جميع أهل الإسلام المتيقن ولا مزيد " (1) . فالفكرة الأساسية في هذا الرد متفقة تمام الاتفاق ورأي ابن حزم في أسماء الله تعالى صفاته كما أن هذه العبارة التي وردت في الرد وهي " من المقلوب قياس أمور خالقنا على قياس أنفسنا " إنما هي لب المفهوم العام الذي بنى عليه ابن حزم فكرته في التنزيه وما تفرع عنه من مسائل ويكاد يقولها نصاً في بعض المواطن من كتبه. كذلك وصف قول داود القياسي " إن الله لم يزل متكلماً " بأنه مذهب مدخول يتفق وقول ابن حزم في الفصل: " ومن قال إن شيئاً غير الله تعالى لم يزل مع الله عز وجل فقد جعل لله عز وجل شريكاً " (2) غير أنه حين قال: " ولكنا نقول إنه لم يزل متكلماً منذ خلق القلم ولا يزال إلى يوم القيامة " فذلك رأي لم يجيء فقي كتاب الفصل. وليس في المناظرة التي دارت بين المؤلف وأحد الدهرية مما يستبعد نسبته إلى ابن حزم لأنها تشبه طريقته في الجدل وهو يحدثنا أنه كان يناظر الدهريين. وكل ما تقدم محاولة لتوضيح الأسباب التي تقوي نسبة هذا الكتاب إلى ابن حزم. ومع ذلك فهناك أمور أخرى ما تزال تبعد نسبة هذا الكتاب عنه، ومنها أنه لم يذكر الكندي في كتبه الأخرى ولم يشر إلى رد له عليه، ولم يرد أي ذكر لهذا الكتاب عند أحد ممن ترجم لابن حزم، وهذه وإن كانت أسباباً لا تقطع بشيء إلا أنها تقوي الجانب الذي ينفي نسبة الكتاب إليه. وهناك مسألة تحتاج شيئاً من التأمل وهي أن هذا الكتاب فيما يبدو جهد رجلين لا واحد، فقد جاء فيه " أخشى أن يكون هذا الكندي الشقي كان زنديقاً، فإن كانت هذه بصيرته وإياها قصد فما أرى في جهنم أسفل درجة منه، فإن لم يكن قصدها " والشيخ " دبرها على لسانه فهو معه في أسفل السافلين، فإذا لم تكن كلمة " والشيخ " محرفة، فها هنا شخص يلخص آراء الكندي ويرد عليها وشخص يعلق على ذلك تعليقاً آخر. فإذا كانت محرفة ووضعنا مكنها مثلاً كلمة " الشيطان " صح أن الكتاب من جهد رجل واحد. ومما قد يضعف نسبة الكتاب إلى ابن حزم عبارات وردت فيه استبعد صدورها عنه مثل:

_ (1) الفصل 2: 139 وانظر أيضاً 1: 39، 2: 161. (2) الفصل 3: 9.

1 - " فالعلم معرفة العلل والرسوخ فيه بقدر الرسوخ " فهذا لا يقوله ابن حزم أبداً لأن العلم عنده يبطل العلل جملة أحياناً، فقد أنكر هو العلل في أحكام الشرائع. 2 - " ونحن لا نتمكن من صفة العلة التي من جهتها أخطأت الجهمية لأنه من الكلام في الصفات العلى التي لم يبح لنا نبينا صلى الله عليه وسلم الكلام فيها ولا يتجاوزها علم القلوب "، وهذا لا يقوله ابن حزم لأنه يناقش أصحاب النحل في أدق شبهاتهم دون تحرج كما يشهد بذلك كتاب الفصل. 3 - " فالإمكان هي الإرادة هي الملك هي العرض وهو الغاية القصوى والنهاية العظمى والفصل الأكبر " وهذا قول يشبه التفسير الباطني ولا أرى له بابن حزم نسباً. هذا وقد أكثر ابن حزم الحديث عن الجواهر والعرض في كتبه فلم يقل إن الجواهر ينقسم قسمين روحاني وجسماني والعرض ينقسم قسمين كذلك. وتكلم عن المرجئة والخوارج والجهمية، وليس في ما كتبه مشابه لما جاء هنا؛ وأشد من هذا وأبين كلامه عن " الروح "، فالكلام عنها في هذا الكتاب منقطع الصلة بكلامه عنها في كتاب الفصل، واحسب الفصل الذي عقده المؤلف للكلام عن الروح في هذا الكتاب شاذاً إذا قارناه بما جاء في الفصل كذلك، فإن في هذا الكتاب حديثاً فذاً مدهشاً عن " الثنائية الكونية " يستحق أن يكرر، وابن حزم شغوف بترديد أفكاره وتكريرها، فلو كان هذا من آرائه لبسطه وفصله في مواضع أخرى. وهذه كلها حجج تناهض ما قدمته من براهين على نسبة الكتاب لابن حزم: فأيها يرجح الدارس على الرغم من قوة الأدلة في الرأي الأول أراني أرجح أن هذا الكتاب ليس من مؤلفات ابن حزم. أما الاتفاق في الآراء بين ابن حزم والكندي فلا يثبت أن ابن حزم أخذ فلسفة الكندي بطريق مباشر وإنما هو أخذ بعض الآراء الأرسطاطاليسية، فالتقى فيها مع الكندي نفسه. لقد قرأ ابن حزم الفلسفة على أستاذه محمد بن الحسن المذحجي ووصفه بأنه أهل التمكين في علوم الأوائل (1) وأن كلامه في هذه الأمور كلام من يقتدي به، وعنه أخذ المنطق كما قدمناه فصلته بالمذحجي في الدراسات المنطقية والفلسفية صلة قوية،

_ (1) الأصول والفروع: 8.

- 5

ولكن لا ندري على وجه التحقيق ما هو الاتجاه الفلسفي الذي كان المذحجي آخذاً فيه. ترى هل هذا الكتاب من تأليف المذحجي نفسه واطلع عليه ابن حزم وزاد فيه بعض تعليقات من لدنه هل هو مذكرات متفرقة كتبها ابن حزم في دور مبكر أثناء طلبه الفلسفة هل هو من تأليف أحد الظاهرية الذين تابعوا ابن حزم في مسألة الصفات والأسماء كل هذه فروض يصعب ترجيح أحدها، ولكن إن صح أن هذا الكتاب من تأليف " محمد " المذحجي فإنه يكشف لنا عن أثر هذا الأستاذ في ابن حزم تلميذه في الفكر الفلسفي والمصطلح وفي الناحية الكلامية. - 5 - تفسير ألفاظ تجري بين المتكلمين في الأصول هذا مسرد لطيف مفيد، وهو لا يمثل رسالة مستقلة لأنه مسخرج من كتاب النبذ الكافية في أصول أحكام الدين، ولكن الحاقه بنسخه كتاب التقريب التي قرئت على ابن حزم نفسه، وكان يمتلكها أبو عبد الله الرصافي، ربما دل على أن ابن حزم نفسه أذن بإفراد هذا " المعجم "؛ الذي كرره ابن حزم أيضاً في كتابه الإحكام في أصول الأحكام؛ وهو متسق في بابه مع نظرة ابن حزم لقضايا الجدل والبرهان حسب ما عرض لها في كتاب التقريب لحد المنطق، إذ الجدل والبرهان لا تتم شروطها قبل تحديد المصطلح. الرموز المستعملة في هذا الجزء ص: الأصل حين يكون الاعتماد على نسخة مفردة. س: النسخة التونسية من التقريب. م: نسخة إزمير من التقريب. ر: رسائل الكندي (في رسالة الرد على الكندي) .

1 - رسالة مراتب العلوم

1 - رسالة مراتب العلوم

فراغ

- 1

- 1 - رسالة مراتب العلوم بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله رسالة مراتب العلوم قال الفقيه الإمام الحافظ أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم، رحمه الله: الحمد لله رب العالمين الذي أفاض علينا النعم الجزيلة، ومنحنا القوى الرفيعة، حمداً يرضيه عنا، ويقتضي لنا المزيد من آلائه (1) ومواهبه السنية، وصلى الله على سيدنا محمد، خيرته من الإنس، وصفوته من ولد آدم، المبعوث بالهدى لاستنفاذ من اتبعه من ظلمات الكفر وعمى الجهل إلى نور العلم. أما بعد: فإن الله تعالى كرم بني آدم وفضلهم على كثير ممن خلق، وخصهم على سائر خليقته بالتمييز الذي مكنهم به من التصرف في العلوم والصناعات. فواجب على المرء ألا يضيع وديعة خالقه عنده، وأن لا يهمل عطية باريه لديه، بل فرض عليه أن يصونها باستعمالها فيما له خلق، وأن يحوطها في تصريفها فيما دعي إليه. وبعد: فإن لكل مقام مقالاً، ولكل زمان حالاً، وإن السالفين قبلنا كانت لهم علوم يواظبون على تعليمها، ويورثها الماضي منهم الآتي. ثم إن من تلك العلوم ما بقي وبقيت الحاجة إليه، ومنها ما درس رسمه، ودثرت أعلامه، وانبت (2) جملةً فلم يبق إلا أسمه. فمن ذلك علم السحر، وعلم الطلسمات (3) ، فإن بقاياها ظاهرة

_ (1) ص: الإله. (2) ص: وأبنت. (3) انظر مقدمة ابن خلدون: 433 وقد عرف الأندلسيون علوم السحر والطلسمات عن طريق مسلمة بن أحمد المجريطي إمام أهل الأندلس في التعاليم والسحريات فهو الذي لخص كتب الأقدمين في هذه الناحية.

لائحة، وقد طمس معرفة علمها، ومن ذلك علم الموسيقى وأصنافها الثلاثة، فإن الأوائل يصفون أنه كان منها [ما] يشجع الجبناء وهو اللوي، ونوع ثان يسخي البخلاء وأظنه الطنيني، ونوع ثالث يؤلف بين النفوس وينفر (1) . وهذه صفات معدومة من العالم اليوم جملة. فاعلموا أسعدكم الله بتوفيقه أن من رأيتموه يدعي علم الموسيقى واللحون، وعلم الطلسمات، فإنه ممخرق كذاب ومشعوذ وقاح، وكذلك من وجدتموه يتعاطى علم الكيمياء فإنه قد أضاف إلى هذه الصفات الذميمة التي ذكرنا استئكال (2) أموال الناس، واستحلال التدليس في النقود وظلم من يعامل في ذلك، والتغرير بروحه وبشرته في جنب ما يعاني من هذه الرذيلة. فإن العلمين المذكورين أولاً، وإن كانا قد عدما وانقطعا ألبتة، فقد كانا موجودين دهوراً. وأما هذا العلم الذي يدعونه من قلب جوهر الفلز (3) ، فلم يزل عدماً غير موجود. وباطلاً لم يتحققساعةً من الدهر؛ إذ من المحال الممتنع قلب نوع إلى نوع، ولا فرق بين أن يقلب نحاس إلى أن يصير ذهباً أو قلب ذهب إلى أن يصير نحاساً، وبين قلب إنسان إلى أن يصير حماراً، أو قلب حمار إلى أن يصير إنساناً. وهكذا سائر الأنواع كلها، وهذا ممتنع ألبته، وبالله تعالى التوفيق، ومنه أستمد (4) لا إله إلا هو، فلا وجه للاشتغال بلعم قد دثر وعدم، وإنما الواجب أن يتهمم المرء بالعلوم الممكن تعلمها التي قد يتنفع بها في الوقت، وأن يؤثر منها بالتقديم ما لا يتوصل إلى سائره إلا به ثم الأهم فالأهم والأنفع فالأنفع، فإن من رام الاتقاء إلى أرفع العلوم دون معاناة ما (5) لا يوصل إليه إلا به، كمن رام الصعود إلى عليةٍ مفتحة مظلمة أنيقة البناء دون أن يتكلف التنقل إليه في الدرج (6) والمراقي التي لا سبيل إلى تلك العلية إلا بها.

_ (1) الأجناس في الموسيقى ثلاثة أحدهما الطنيني والثاني اللوي والثالث التأليفي وتسمى كذلك بنسبة تقسيم الأبعاد فالأول أفحلها وهو يحرك النفس إلى النجدة وشدة الانبساط ويسمى الرجلي، والثاني يحرك النفس للكرم والحديث والجراءة ويسمى الخنثوي، والثالث يولد الشجا والحزن ويسمى النسوي (مفاتيح العلوم: 140) . (2) ص: في استئكال. (3) ص: الفكر. (4) ص: استمده. (5) ص: من. (6) ص: ص: الدرع.

وليس للمرء إلا داران: دار الدنيا، ودار معاده إذا فارق الدنيا؛ وبيقين ندري (1) أن مدة المقام في هذه الدار إنما هي أيام قلائل. وإجهاد المرء نفسه فيما لا ينتفع به إلا في هذه الدار من العلوم رأي فائل، وسعي (2) خاسر، لأن المنتفع به في هذه الدار من العلوم، إنما هو ما اكتسب به المال، أو ما حفظت به صحة الجسم فقط، فهما وجهان لا ثالث لهما. فأما العلوم التي يكتسب بها المال فإن وجه المكسب بها ضيق غير متسع، واكتساب المال بغير العلم أجدى وأشد توصلاً إلى المراد من التوسع في [العلم] (3) لكسب المال، كصحبة السلطان وعمارة الأرض والتقلب في التجارات. وهذه الوجوه كلها قد نجد الجاهل الأغتم أنفذ (4) فيها من العالم النحرير؛ فإذ ذاك كذلك، فالشغل بطلب العلم ليكون سبباً إلى كسب المال والتعب فيه بهذه النية عناء (5) وظلال، وفاعله قد جمع عيبين عظيمين: أحدهما ترك أخصر الطريقين إلى مطلوبه وأسهلها في التوصل إلى غرضه، ورك أوعرهما مسلكاً وأطولهما تعباً وأقلهما فائشدة وأبعدهما منفعة. والوجه الثاني أنه استعمل الفضيلة التامة التي بان بها عن الحشرات والبهائم في اقتناء حجارة لا يدري متى تدعه أو يدعها، وكان كمن أتعب نفسه وأسهر ليله وأطال كده في إقامة سيف هندي قاطع نفيس، وبنى داراً سرية أنيقة البناء محكمة النقوش (6) ، موثقة الأساس، فلما تما له كما أراد جعل يستعمل في كسر العظام وقطع البقل، وأوقف الدار لطرح ما يكنس فيها من الحشيش (7) ، فمن أخسر صفقة من هذا!!. وأما العلم الذي ليس فيه إلا حفظ صحة الجسم فقط، فإن المتعب فيه بدنه،

_ (1) ص: يدري. (2) ص: قاتل، وبيع. (3) زيادة يقتضيها السياق. (4) ص: انفسد. (5) ص: عياء. (6) ص: النفوس. (7) ص: الحسوس.

المجهد لنفسه في تلقيه (1) وتقييده لا يحصل من تمامه لديه إلا على البصر (2) في معاناة مرض لا يدري أيتم له غرض من برئه أم لا يتم. ثم إن تم فليس على ثقة من عود ذلك الداء بعينه أشد ما كان، أو حدوث داء آخر مثل الذي استنفد طوقه في معاناته (3) وأعضل منه. وأما المضمون المحتوم فإنه لا يقدر على دفع الموت إذا حل، ولا على علاج الزمانة إذا استحكمت؛ ولعل ذلك يحدث بمن أتعب نفسه في مداواته في أسرع من كر (4) الطرف. فمن تأمل ما ذكرنا، علم أن المنفعة بما قصد به من العلوم إلى المنفعة الخاصة، قليلة جداً وضعيفة العائدة جملة. إلا أن هذين الوجهين (5) وإن كانا وتحي النفع قليلي الإجزاء (6) لا تصالهما (7) بالتعب في اقتناء العلم الذي هو سببهما، فلهذا حظ من النفع. وإنما الداء العياء، والذم الكامل، والخسارة المحضة، حال من اقتنى أرفع العلوم ليحصل به على كسب ال من غير وجهه، وصرف ما علم في غير طريقه، فإن حال الجاهل الخاملة أجل (8) من حال العالم، لما ذكرنا. ونسأل الله التوفيق ونعوذ به من الخذلان. فإذ الأمر كما ذكرنا، فأفضل العلوم ما أدى إلى الخلاص في دار الخلود ووصل إلى الفوز في دار البقاء. فطالب هذه العلوم لهذه النية هو المستعيض تبعبٍ يسير راحة الأبد، وهو ذو الصفقة الرابحة والسعي المنجح الذي بذل قليلاً واستحق كثيراً،

_ (1) ص: تتقيه. (2) ص: الحصر. (3) ص: استنفذ طونه في معاته. (4) ص: كد. (5) ص: إن هذا من الوجهين. (6) الوتح: القليل التافه، والإجزاء مصدر من أجزأ بمعنى أغنى وكفى. (7) ص: لا تحاصلها. (8) ص: لحامله أمل.

وأعطى تافهاً وأخذ عظيماً (1) . وهو الذي عرف ما لا يبقى معه فزهد فيه، وميز ما لا يزايله فسعى له، ونسأل الله أن يجعلنا في عدادهم بمنه آمين. وباليقين يدري كل ذي [لب] (2) سليم أنه لا يتوصل إلى العلوم إلا بطلب، ولا يكون الطلب إلا بسماع وقراءة وكتاب، لا بد من هذه الثلاث خصال، وإلا فلا سبيل دونها إلى شيء من العلوم ألبتة. فإذ ذلك كذلك فلنتكلم بعون الله تعالى على وجه التوصل إلى العلوم، وبيان أفضلها صفةً وأعلاها قدراً، والذي بالناس إليه الضرورة الماسة، والفاقه الشديدة، والحد الذي لا يجزئ منه ما دونه، والنهاية التي لا وراء لها منه. فالواجب على من ساس صغار ولدانه وغيرهم أن يبدأ منذ أول اشتدادهم وفهمهم ما يخاطبون به، وقوتهم على رجع الجواب وذلك يكون في خمس سنين أو نحوها من مولد الصبي فيسلمهم [إلى مؤدب] (3) في تعليم الخط وتأليف الكلمات من الحروف، فإذا درب الغلام في ذلك، درس (4) وقرأ. والحد الذي لا ينبغي أن يقتصر المعلم على أقل منه أن يكون الخط قائم الحروف، بيناً صحيح التأليف الذي هو الهجاء، فإن الخط إن لم يكن هكذا لم يقرأ إلا بتعب شديد. وأما التزيد في حسن الخط فليس هو فضيلة بل لعله داعية إلى التعلق بالسلطان، فيفني دهره إما في ظلم الناس، وإما في تسويد القراطيس بتواقيع بعيدة (5) من الحق، مشحونة بالكذب والباطل، فيضيع زمانه باطلاً، وتخسر صفقته، ويندم حين لا ينفعه الندم، وكان كإنسان مسكاً كثيراً فترك أن يصرفه في التطييب به ومداواة النفوس بريحه وفغوته (6) وأقبل يطيب به البهائم، ويصبه في الطريق حتى فني في غير فائدة. فهذا [حدّ] تعليم الكتاب.

_ (1) ص: تانيها ... عظيمها. (2) زيادة لازمة. (3) زيادة يقتضيها. (4) ص: ودرب. (5) ص: بعيد. (6) ص: وقوته؛ والفغوة: الرائحة الطيبة.

وحد تعلم القراءة أن يمهر في القراءة لكل (1) كتاب يخرج من يده بلغته التي يخاطب بها صقعه، وينفذ فيه، ويحفظ مع ذلك القرآن، فإنه يجمع بذلك وجوهاً كثيرة عظيمة، أحدها التدرب في القراءة له وتمرين (2) اللسان على تلاوته فيحصل من ذلك حداً، إلى ما يحصل من عهوده الفاضلة ووصاياه الكريمة، ليحدها عدةً عنده مدخرةً لديه قبل حاجته إليها يوم حاجته إليها (3) . فإذا نفذ في الكتاب والقراءة كما ذكرنا. فلينتقل إلى علم النحو واللغة معاً: ومعنى النحو: هو معرفة تنقل هجاء اللفظ وتنقل حركاته الذي يدل كل ذلك على اختلاف المعاني كرفع الفاعل ونصب المفعول، وخفض المضاف، وجزم الأمر والنهى، وكالياء في التثنية والجمع، في النصب وخفضهما، وكالألف في رفع التثنية، والواو في رفع الجمع وما أشبه ذلك. فإن جهل هذا العلم عسر عليه علم ما يقرأ من العلم. واللغة: هي ألفاظ يعبر عن المعاني فيقتضي من علم النحو كل ما يتصرف في مخاطبات الناس وكتبهم المؤلفة، ويقتضي من اللغة المستعمل الكثير التصرف. وأقل ما يجزئ من النحو " كتاب الواضح " للزبيدي (4) أو ما نحا نحوه " كالموجز " لابن السراج (5) ، وما اشبه هذه الأوضاع الحقيقة، وأما التعمق في علم النحو ففضول لا منفعة بها بل هي مشغلة عن الأكود، ومقطعة دون الأوجب والأهم، وإنما هي تكاذيب فما وجه الشغل بما هذه صفته وأما من هذا العلم فهي المخاطبة،

_ (1) ص: كل. (2) ص: وتمييز. (3) ص: إليه يوم حاجته إليه. (4) هو محمد بن الحسن نحوي الأندلس ولغويها المشهور؛ انظر ترجمته في الجذوة رقم 34 وإنباه الرواة: 624 والمحمدون: 207 والوافي 2: 351 وبغية الوعاة: 1: 84. (5) هو محمد بن السري البغدادي النحوي صاحب المبرد وعنه أخذ الزجاجي والسيرافي. توفي سنة 316 وله مؤلفات أخرى عدا الموجز منها الأصول في النحو، والجميل والاشتقاق وغيرها (انظر تاريخ بغداد 5: 293 ومعجم الأدباء 7: 9 والوافي 3: 76) .

وما بالمرء حاجة إليه في قراءة (1) الكتب المجموعة في العلوم فقط. فمن يزيد في هذا العلم إلى إحكام كتاب سيبويه فحسن، إلا أن الاشتغال بغير هذا أولى وأفضل، لأنه لا منفعة للتزيد على المقدار الذي ذكرنا إلا لمن أراد أن يجعله معاشاً، فهذا وجه فاضل لأنه باب من العلم على كل حال. والذي يجزئ من علم اللغة كتابان: أحدهما " الغريب المنصف " لأبي عبيد، والثاني " مختصر العين " للزبيدي، ليقف على المستعمل بهما، ويكون ما عدا المستعمل منهما عدة لحاجة إن عنت يوماً ما في لفظ مستغلق فيما يقرأ من الكتب. فإن أوغل في علوم اللغة حتى يحكم " خلق الإنسان " لثابت، و " الفرق " له (2) ، و " المذكر والمؤنث " لابن الأنباري و " المدود والمقصور والمهموز " لأبي عليّ القالي و " النبات " لأبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري، وما أشبه ذلك فحسن بخلاف ما قلنا في علل النحو، لأن اللغة كلها حقيقة وذات أوضاع صحاح وعبارات عن المعاني، ولو كانت اللغة أوسع حتى يكون لكل معنى في العالم أسم مختص به، لكان أبلغ للفهم وأجلى للشك وأقرب للبيان، إلا أن الاقتصار على المقداد الجاري مما ذكرنا، والانصراف إلى الأهم والأوكد من سائر العلوم، أولى. وإن كان مع ما ذكرنا رواية شيء من الشعر فلا يكن إلا من الأشعار التي فيها الحكم والخير، كشعر حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، وكشعر صالح بن عبد القدوس ونحو ذلك، فإنها نعم العون على تنبيه النفس. وينبغي أن يتجنب من الشعر أربعة أضرب: أحدها: الأغزال والرقيق: فإنها تحث على الصبابة وتدعو إلى الفتنة، وتحض على الفتوة وتصرف النفس إلى الخلاعة واللذات (3) وتسهل الانهماك في الشطارة والعشق وتنهى عن الحقائق، حتى ربما أدى ذلك إلى الهلاك والفساد في الدين وتبذير

_ (1) ص: قل. (2) ثابت بن أبي ثابت، أبو محمد اللغوي، من أصحاب أبي عبيد القاسم بن سلام وكتابه " خلق الإنسان " أجاد فيه حق الإجادة (انظر إنباه الرواة 1: 162 وبغية الوعاة: 1: 481. (3) ص: الذات.

المال في الوجوه الذميمة وإخلاق وإذهاب المروءة وتضييع الواجبات. وإن سماع شعر رقيق لينقض بنية المرء الرائض لنفسه حتى يحتاج إلى إصلاحها ومعاناتها برهة، لا سيما ما كان يعني (1) بالمذكر وصفة الخمر والخلاعة، فإن هذا النوع يسهل الفسوق ويهون المعاصي ويردي جملة. والضرب الثاني: الأشعار المقولة في التصعلك وذكر الحروب كشعر عنترة وعروة بن الورد وسعد (2) بن ناشب وما هنالك، فإن هذه أشعار تثير النفوس وتهيج الطبيعة وتسهل على المرء موارد التلف في غير حق، وربما أدته إلى هلاك نفسه في غير حق، وإلى خسارة الآخرة، مع إثارة الفتن وتهوين الجنايات والأحوال الشنيعة والشره إلى الظلم وسفك الدماء. والضرب الثالث: أشعار التغرب، وصفات المفاوز والبيد المهامه، فإنها تسهل التحول والتغرب وتنشب المرء فيما ربما صعب عليه التخلص منه بلا معنى. والضرب الرابع: الهجاء، فإن هذا الضرب أفسد الضروب لطالبه، فإنه يهون على المرء الكون في حالة أهل السفه من كناسي الحشوش (3) والمعاناة لصنعة الزمير المتكسبين بالسفاهة والنذالة والخساسة وتمزيق الأغراض وذكر العورات وانتهاك حرم الآباء والأمهات، وفي هذا حلول الدمار في الدنيا والآخرة. ثم صنفان من الشعر لا ينهى عنهما نهياً تاماً ولا يحض عليهما بل هما عندنا من المباح الكروه وهما: المدح والرثاء: فأما إباحتهما فلأن فيهما ذكر فضائل الموت والممدوح، وهذا يقتضي للراوي ذلك الشعر الرغبة في مثل ذلك الحال، وأما كراهتنا لهما فإن أكثر ما في هذين النوعين الكذب، ولا خير في الكذب. وأيضاً فإن الإكثار من رواية الشعر، هو كسب غير محمود، لأنه [من] طريق

_ (1) ص: وينهي. (2) ص: سعيد؛ أما سعد فهو أحد شعراء الحماسة؛ كان من شياطين العرب وهو صاحب يوم الوقيط في الإسلام بين تميم وبكر، وقد أصاب دماً فهدم بلال داره. (راجع الشعر والشعراء: 677 والخزانة 3: 444 والسمط: 729) . (3) ص: كناني الحسوس.

الباطل والفضول، لا من طريق الحق والفضائل، ولا يظن ظان أن هذا علم جهلناه فذممناه، فقد علم من داخلنا أو بلغه أمرنا كيف توسعنا في رواية الأشعار، وكيف تمكنا من الإشراف على معانيها، وكيف وقوفنا على أفانين الشعر ومحاسنه، ومعانيه وأقسامه، وكيف قوتنا على صناعته، وكيف تأتي مقصده ومقطوعه لنا، وكيف سهولة نظمه علينا في الإطالة فيه والتقصير (1) ، ولكن الحق أولى بما قيل. فإذا بلغ المرء من النحو واللغة إلى الحد الذي ذكرنا فلينتقل إلى علم العدد، فليحكم الضرب والقسم والجمع والطرح والتسمية، وليأخذ طرفاً من المساحة، وليشرف على الأرثماطيقي وهو علم طبيعة العدد وليقرأ كتاب أقليدس قراءة متفهم له، واقفٍ على أغراضه، عارفٍ بمعانيه، فإنه علم رفيع، به يتوصل إلى معرفة نصبة الأرض ومساحتها وتركيب الأفلاك ودورانها ومراكزها وأبعادها، والوقوف على براهين كل ذلك وعلى دوران الكواكب وقطعها في البروج، فهذا علم رفيع جداً يقف به المرء حقيقة تناهي جرم العالم وعلى آثار صنعة الباري في العالم، فلا يبقى له إلا مشاهدة الصانع فقط؛ وأما الصنعة والإدارة والتركيب، فقد شاهد كل ذلك بوقوفه على ما ذكرنا. وبمطالعته كتاب المجسطي يعرف الكسوفات وعروض البلاد وأطوالها والأوقات وزيادة الليل والنهار والمد والجزر ومنازل الشمس والقمر والدراري. وأما الإيغال في المساحة فمنفعته في جلب المياه ورفع الأثقال وهندسة البناء وإقامة الآلات الحكمية. وأما الاشتغال بأحكام النجوم فلا معنى له، ولا يخلو من أن يكون ما يحكون من قضاياها حقاً أو باطلاً، إذ لا سبيل إلى قسم ثالث، فإن كانت حقاً فما لها فائدة إلا استعجال الهم والغم والبؤس والنكد، لتوقع المرض والنكبات وموت الأحبة وانقطاع كمية العمر ومعرفة فساد المولد. فإن قالوا إنه قد يمكن دفع ما يتوقع من ذلك فقد قضوا بأنها لا حقيقة لها، إذ الحق الحتم لا سبيل إلى رده. وإن كانت باطلاً

_ (1) بذلك شهد الحميدي تلميذ ابن حزم (الجذوة: 291) حين قال: وكان له في الآداب والشعر نفس واسع وباع طويل، وما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه، وشعره " كثير ".

فأهل (1) أن لا يشتغل به. ونقول قولاً صحيحاً متيقناً ليعلم كل ذي عقل ينصح نفسه بأنه لا سبيل إلى قلب الأنواع وإحالة الطبائع، فمن اشتغل بشيء من هذين العلمين، فإنما هو إنسان محروم مخذول يطلب ما لا يجد أبداً، وبالجملة فليس القضاء بالنجوم علم برهان، وإنما هي تراعي (2) أبداً، وبالجملة تجارب، وإذ هي كذلك، فباطل بلا شك، لأن التجارب لا تكون إلا بتكرير الحال مراراً كثيرة جداً على صفة واحدة لا تستحيل أبداً (3) والنصبة التامة من الكواكب لا تعود إلا إلى عشرة آلاف من السنين، ولا سبيل إلى ضبط تجربة مثل هذه إلا بتداول قومٍ متعاقبين لرصد تلك النصب (4) ؛ وباليقين ندري أنه لا يبقى فيما انحدر عن شرق العمود مملكة عشر الدور، فكيف الدور كله وإذا ذهبت المملكة لم تذهب إلا بحروف وغارات وسوء حال وفساد بلاد وحدوث أخر، وهذا كله يذهب علوم تلك المملكة ورتبها وأرصادها وأكثر أخبارها بل كلها، فلا سبيل مع ذلك إلى اتصال رصد هذه المدة كلها، فكيف يمكن دوام التجربة تكراراً دوراً بعد دور وما عندنا تاريخ أبعد من تاريخ التوراة وليس له إلا ثلاثة آلاف سنة فقط، فأين يقع مما نريد (5) وأما تاريخ الفرس [فما] عندنا أخبار لهم فاشية محققة إلا عن عهد ملوك الساسانية وذلك أقل من ألف عام، وكذلك تاريخ الروم. وأما تاريخ القبط والسريانيين وأدوم وعمون وموآب وسائر تلك الأمم، فما لهم اليوم في الدنيا خبر ولا أثر، فكيف تبقى أرصاد المدة المذكورة وأما الهند والصين فلم تبلغنا آثارهم كما نريد، ولعل لهم أرصاداً قديمة، فإنهما

_ (1) ص: أهل. (2) ص: تداعى. (3) تكلم ابن خلدون في إبطال صناعة النجوم ناقضاً إمكان كمال التجربة فقال: فالمتقدمون منهم يرون أن معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها بالتجربة وهو أمر تقصر الأعمار كلها لو اجتمعت عن تحصيله، إذ التجربة إنما تحصل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العلم أو الظن (مقدمة: 477) . (4) كرر ابن حزم نقض القضاء بالنجوم في كتابه الفصل (5: 38) مستدلاً بفكرة استحالة التجربة فقال: " إن التجربة لا تصح إلا بتكرر كثير موثوق بدوامه تضطر النفوس إلى الإقرار به كاضطرارنا إلى الإقرار بأن الإنسان إن بقي ثلاث ساعات تحت الماء مات، وإن أدخل يده في النار احترق ولا يمكن هذا في القضاء بالنجوم لأن النصب الدالة عندهم على الكائنات لا تعود إلا في عشرات آلاف من السنين، لا سبيل إلى أن يصح منها تجربة ". (5) ص: فأين يقعان مما أريد.

مملكتان لسمتا من الآفات على مر الدهور. على أن أهل الصين ليسوا أهل علوم ألبتة، وإنما هم أهل صناعات، فلعل هذا يكون بالهند. فإن لم يكن فمضمون عدمه من العالم - هذا إلى ما شروط علم القضاء من الصفات التي لا سبيل لمن يدعي علمها إلى استيفائها (1) : من معرفة مواقع السهام ومطارح الشعاعات والدرج النيرة والمظلمة، والقتمة والآبار (2) ، وخواص الدراري في كل برج، والكواكب البيبانية (3) وغير ذلك مما لا يمكنهم توفيته حقه على أصولهم. فإذا كان ذلك كذلك، فتحقيق علمهم في القضاء لا سبيل إليه ألبتة؛ ولا يحصى كم شهدنا لهم من القضايا المحققة المتفق عليها من أهل الإحسان لهذا العلم؛ على ما في كتبهم، فما صدق منها شيء إلا الأقل النزر الذي يصدق بالتقدير أكثر منه، نعني من المواليد التي لا شيء في علمهم أحق منها. وأما المناخات وتحاويل السنين والقرانات الصغار فيعلم الله أننا ما رأيناهم صدقوا منها في قضية أبداً، كل سنة رأينا، وما وجدنا أكثر كلامهم في ذلك إلا على ظاهر الرأي والتقدير فقط (4) ، ولو لم يكن من مظاهر الدعوى إلا قولهم زحل يشرف في برج كذا، ويسقط في برج كذا (5) ، وكذا سائر الدراري. ودعواهم في وجوه المطالع وسائر تلك الخرافات، فإنهم لا يأتون على ذلك لا ببرهان ولا بإقناع ولا بشغب وإنما هو " اسمع واسكت وصدق الأمير ". وما كان هذا سبيله فلا ينبغي أن يشتغل به عاقل اشتغال معتد به علماً، إلا أنه لا ينبغي لطالب الحقائق أن يخلوا من النظر فيه ليعرف أغراضهم، ويريح نفسه من تطلعها إلى الوقوف [عليها] ، وليفيق من دعاويهم ومخرقتهم، ويزيل عن نفسه الهم إذا عرف لا فائدة فيه. ولقد حدثني شيخنا يونس بن عبد الله القاضي (6) قال:

_ (1) انظر العبارة التالية في شروط علم القضاء مكررة نصاً في الفصل 5: 38 وهي محرفة أيضاً هنالك. (2) ص: والقيمة والآثار. قال الخوارزمي في مفاتيح العلوم: 132 " والدرجات المظلمة درج معروفة والدرجات القتمة من القتام وهو الغبار، والآبار درج في البروج إذا عنها الكواكب نحست فيها، واحدها بئر ". (3) ص: البنيانية، وتكتب أيضاً " البيابانية " نسبة إلى بيابان وهو الفلاة بالفارسية إذ يهتدي في الفلوات. أفادنيه صديقي الدكتور جورج صليبا، فله الشكر. (4) راجع الفصل 5: 39. (5) شرف الكوكب درجة في برج ينسب إليه ولكل واحد من السبعة سر. فشرف زحل في الميزان وشرف المشتري في السرطان وشرف المريخ في الجدي ... وهكذا؛ والذي يقابل الشرف هو الهبوط أو السقوط. (6) مرت ترجمته في الجزء الأول من الرسائل ص: 214.

سمعت يحيى بن مجاهد الفزاري الزاهد يقول: هذا كان أوان طلبي للعلم إذ قوي فهمي واستحكمت إرادتي. فقلت له: فعلمنا الطريق، لعلنا ندرك ذلك بوصاتك، في استقبال أعمارنا قال: نعم كنت آخذ من [كل] علم طرفاً، فإن سماع الإنسان قوماً يتحدثون وهو لا يدري ما يقولون غمة عظيمة، أو كلاماً هذا معناه. قال أبو محمد: ولقد صدق رحمه الله. فإذا بلغ الإنسان حيث ذكرنا، أخذ في النظر في حدود المنطق وعلم الأجناس والأنواع والأسماء المفردة والقضايا والمقدمات والقرائن والنتائج ليعرف المرء ما البرهان وما الشغب، وكيف التحفظ مما يظن أنه برهان وليس ببرهان، فبهذا العلم يقف على الحقائق كلها يميزها من الأباطيل تمييزاً لا يبقى معه ريب. وينظر في الطبيعيات، وعوارض الجو، وتركيب العناصر، وفي الحيوان والنبات والمعادن، ويقرأ كتب التشريح ليقف على محكم الصنعة وتأثير الصانع وتأليف الأعضاء واختيار المدبر وحكمته وقدرته. فإذا أحكم ذلك في خلال ابتدائه بالنظر في العلوم فلا يكن منه إغفال لمطالعة أخبار الأمم السالفة والخالفة، وقراءة التواريخ القديمة والحديثة ليقف من ذلك على فناء (1) الممالك المذكورة، وخراب البلاد المعمورة، ودثور المدائن المشهورة التي طالما حصنت وأحكمت مبانيها، وذهاب من كان فيها وانقطاعهم، وتقلب الدنيا بأهلها، وذهاب الملوك الذين قتلوا النفوس وظلموا الناس واستكثروا من الأموال والجيوش والعدد ليستديموها لهم (2) ولأعقابهم فما دامت (3) لهم، بل ذهبوا وانقطعت آثارهم، ورحل بنوهم وضاعوا، وبقي ما تحملوا من الآثام والذم والذكر القبيح لازماً لأرواحهم في المعاد ولذكرهم في الدنيا، فيحدث له فيها بذلك زهد وقلة رغبة، وليشرف على اغترار الملوك بها، لعظيم الحسرات النازلة بهم وبمخلفيهم، وليقف على حمد المتقين الأخيار للفضائل فيرغب فيها، ويسمع ذمهم للرذائل فيكرهها. ويوفي على

_ (1) ص: خنا. (2) ص: ليستدموا ما هم ولا. (3) ص: دام.

تيقن النصح منها لما يرى من تناصر التواريخ على تباعد أقطار حامليها، وتفاوت أزمانهم وتباين هممهم واختلاف أديانهم وتفرق مذاهبهم على نقل قصة ما، فيوقن أنها حق لا شك فيه، ويسمع بخلاف نقلهم في قصة ما، فيدري أنها مضطربة. ويرى أخبار العلماء والصالحين فيرى الحرص على مثل حالهم ويرغب في إلحاق اسمه بأسمائهم إذا سلك طريقهم وحذا حذوهم وعمل عملهم، ويطالع آثارهم المفسدين في الأرض وسوء الآثار عليهم، وما أبقوا من الأسماء الذميمة، فيمقت طريقهم، ويجتنب أن يكون مذكوراً فيهم. ويجعل هذا العلم خاصةً وقت راحته وسآمته من تعلم غيره من العلوم، فإن هذا العلم سهل جداً ومنشط ومنتزه ولذة، لا ينبغي لأحد أن يخلو منه فلا يدري أثراً ولا ما تقوم به الحجة من الأخبار التي يضطر إلى العلم بها حقيقة، بل يكون بمنزلة من قدر أن العالم لم يكن إلا مذ كان هو. فإذا أحكم ما ذكرنا فأولى الأشياء به معرفة ما له خرج إلى هذا العالم، وما إليه يرجع إذا خرج من هذا العالم، وبيان ذلك بيان انقضاء أيام سفره، فإنها قليلة جداً، فلا شيء أوكد عليه من هذا، لأن ما عدا ذلك من بؤس ونعيم ولذة ومال ورياسة وفقر وخمول ونكد كله في أسرع وقت، لسنا نقول بالموت الذي لا بد منه فقط، بل بالهرم وعوارض الدهر الذي لا يؤمن تقلبه (1) بأهله قبل كر الطرف. فيلزم (2) المرء أن ينظر إذا أحكم ما ذكرنا أن يطلب البرهان من العلوم الضرورية التي ذكرنا على: هل العالم محدث أو لم يزل. فإذا له أنه محدث وذلك قائم في إحصاء العدد لأزمانه وعدد أشخاصه وأنواعه (3) ، نظر هل [له] (4) محدث أو لا محدث له فإذا حصل له أنه محدث لم يزل، وهذا قائم من باب الفضائل من حدود المنطق، نظر هل المحدث واحد أو أكثر من واحد، فإذا حصل له أنه

_ (1) ص: نقوله. (2) ص: فليلزم. (3) ص: أشخاص أنواعه. (4) زيادة لازمة.

واحد وهذا قائم من باب الإحصاء المذكور في العدد، [نظر] (1) هل النبوة ممكنة أو واجبة أو ممتنعة، فإذا حصل له أنها ممكنة بالقوة بما يوجبه أن المحدث للعالم مختار لا يعجز عن شيء، ثم إذا حصل له أنه قد وجدت بالأخبار الضرورية، نظر في النبوات التي افترقت عليها الملل، فإذا حصل له أن كل ما ثبتت به نبوة واحد منهم، فواجب أن تثبت بمثله نبوة من نقل عنه مثل الذي نقل عن غيره منهم، وقف عند ذلك وسلم الأمر إلى من صحت له البراهين بنبوته، وأنه عن الله عز وجل يتكلم وعن عهوده يخبر، وتبحث (2) حينئذ عن كل ما أمر به أو نهي عنه فاستعمل نفسه به، ولم يقبل من إنسان مثله لم يؤيد بوحي من الله، عز وجل، أمراً ولا نهياً، فهذا [طريق] (3) الخلاص (4) وشارع النجاة ومحلة الفوز التي من عاج عنها طال تحيره وتردده، وافترقت به السبل حتى يهلك خاسراً نادماً، أو موفياً [على النجاة] (5) بالبخت، كمن وجد لقطة بلا طلب، ونعوذ بالله من البلاء. وهذه الطريق التي (6) وصفنا مؤدية إلى الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وموجبة لطلبنا في القرآن من عهود الله تعالى، وطلب عهوده عليه السلام، وتمييز صحيحهما مما لم يصح منهما والأخذ بكل ذلك، والتمسك به فإن هذا معدوم في جميل الملل، حاشا ملة الإسلام: لأن ملة من عبد الأوثان أو دان بقول البراهمة المبطلين للنبوات فإنه لا سبيل إلى إثبات شريعة لهم إذ قد أعدموا المثبت الشارع، وأعدموا الطريق الموصلة إليه، فبقي الناس على قولهم سدىً لا زاجر لهم عن ظلم ولا عن فاحشة وأما دين لمنانية فظاهر التخلط لقولهم بأن الصانع صنع في نفسه، وهذا

_ (1) زيادة لازمة. (2) ص: ويبحث. (3) زيادة يقتضيها المعنى. (4) ص: أخلص. (5) زيادة موضحة للمعنى. (6) ص: الذي.

مبطل بما يوجب حدوث العالم على ما بيناه في كتابنا الموسوم بالفصل بالملل والنحل (1) - وأما شريعة النصارى فإنهم مقرون أن شرائعهم ليست عن وحي الله تعالى، وإنما هن زكريا الملك وسائر بطارقته، وهذا شيء تشهد العقول بأنه لا يلزم إذ لم يوجب إلزامه برهان وأما ملة المجوس فهم معترفون بأن ثلثي كتابهم ذهب، وأن في ذلك الذاهب كانت الشرائع، ومن الباطل الممتنع أن يكلف الله تعالى الناس أن يعملوا بشيء لا يدرونه، وقد ذهب عن أيديهم، ويقرون أن أزدشير بن بابك وضع لهم شرائع ملة اليهود فمعترفون أن أكثر شرائعهم اللازمة لا سبيل لهم إليها إذ خرجوا عن صهيون، وأن شرائع الربانيين منهم (2) التي هم الآن عليها، هي غير شرائعهم التي أمروا بها في التوارة، وأن علماءهم عوضوهم عن تلك هذه، ويلزمهم الإقرار بمن صح عنه من الأعلام مثلما صح عن نبيهم عليه السلام. فإن اشتغل مغفل عن علم الشريعة بعلمٍ غيره، فقد أساء النظر وظلم نفسه، إذ آثر الأدنى والأقل على الأعلى والأعظم منفعة؛ فإن قال قائل: إن في علم العدد والهيئة والمنطق (3) معرفة الأشياء على ما هي عليه، قلنا إن هذا حسن إذا قصد به الاستدلال على الصانع للأشياء بصنعته، ليتدرج بذلك إلى الفوز والنجاة والخلاص من العذاب والنكد؛ وأما إن لم يكن الغرض إلا معرفة الأشياء الحاضرة على ما هي عليه فقط، فطالب هذه العلوم، ومن جعل وكده معرفة صفة البلاد على ما هي عليه، وصفات سكان أهل كل بلدة وما هي عليه صورهم سواء، ومن كان هذا هو غرضه فقط، فهو إلى أن يوصف بالفضول والحماقة أقرب منه إلى أن يوصف بالعلم، إذ حقيقة العلم هو ما قلنا إنه يطلبه لينتفع به طالبه، وينتفع به غيره في داره العاجلة وداره

_ (1) كذا ورد اسم الكتاب هنا وهو معروف باسم الفصل في الملل والأهواء والنحل وانظر في هذا الكتاب 1: 14 وما بعدها أدلته على حدوث العالم؛ وقد تصدى ابن حزم لمحاكمة النحل أيضاً في رسالة " التوقيف على شارع النجاة "، في الجزء الثالث من الرسائل. (2) قال ابن حزم في ذكر فرق اليهود (الفصل 1: 99) الربانية هم الأشنعية، وهم القائلون بأقوال الأحبار ومذاهبهم، وهم جمهور اليهود. (3) ص: المنطق.

الآجلة التي هي محل قراره ومكان خلوده، وبالله تعالى نتأيد. فإن كان المرء العالم في كفاف من العيش، من وجه مرضي، فليحمد الله عز وجل، وليقنع به، وليعمل لدار القرار، ولا يسره الإكثار من أحجارٍ وخرقٍ يتركها عما قريب، أو تتركه. وإن كان في حاجة، فإن أمكنه أن يجعل مكتسبه من العلم فحسن، إما أن يكون معلم هجاءٍ فهي فضيلة عظيمة لأنه سبب [حياة] (1) كل من تعلم منه شيئاً، وله الأجر المضاعف من كل من يتعلم ممن علمه هو إلى انقضاء الأبد، بأن كان سبب حياة نفوسهم أو مؤدب نحو، أو مؤدب حسابٍ أو طبيباً. فإن كان في أحد هذه السبل فلينصح في صناعته تلك، وليطلب التزيد من العلم بما أمكنه، ليكون سبباً للخير في تعليم الجاهل، وإبراء الأدواء بإذن الله تعالى، ولا يرض بالغش والتمويه، فيفسد خلقه ومتاعه ومكتسبه فتخسر صفقته، وليستعمل القناعة جهده. وإن ابتلى بصحبة سلطان فقد ابتلى بعظيم البلايا، وعرض للخطر الشنيع في ذهاب دينه، وذهاب نفسه وشغل باله وترادف همومه، فلا يشاركه في محظور ألبتة وإن أداه ذلك إلى التلف، فلأن يتلف مظلوماً مأجوراً محتسباً محموداً أفضل من أن يبقى ظالماً مسيئاً آثماً مذموماً، ولعل تلفه سريع، وإن تأخر مدةً فلا بد من التلف، وليعلم أن السلطان إذا رأى منه إشفاقاً على دينه ونصيحة له فيما لا يؤذيه في معاده، فإنه تتزيد ثقته به، ويجل في عينه؛ وإذا رآه شرها مؤثراً عاجلته على آخرته، ساء ظنه به، ولم يأمنه على نفسه إذا رأى الحظ له في هلاكه. ولقد نكره للفاضل أن يصحب السلطان بعلم الطب، فإن الغالب على الملوك الجهل والسبعية (2) وقلة الصبر على ما قطع بهم عن لذاتهم، وتدبير الأصحاء ومعاناة المرضى لا يحتمل هذا، فهم دأباً يكلفون الطبيب إحياء الموتى ويستقصرونه (3) دون هذه المنزلة، فإن اتبع أهواءهم غشهم، وإن نصحهم عصوه واستثقلوه.

_ (1) زيادة يقتضيها السياق. (2) ص: والستعية. (3) ص: ويستقصرونهم.

وأما صحبتهم بالنجوم فلا يدخل في ذلك ذو مسكة عقل ألبتة، لأنه يتعاطى ما ليس في قوته الوفاء به، فهو دهره في كذب متصل ومواعيد وخدائع متصلة، وفضائح متواترة، وخزايا متتابعة. وكد من اتصل بسلطان إصلاح أخلاقهم وحملهم على البر وصرفهم عن المأثم جهده وطاقته. ودعائم العلم مشهورة مستحكمة يؤثر بها العلم على سائر أعراض الدنيا من اللذات والمال والصوت (1) ، ثم قصد إلى عين العلم، ليخرج به عن جملة أشباه البهائم فقط، لا يجعله مكتسبه ولا ليمدح به، وذكاء وفهم وبحث وذكر وصبر على كل ذلك، والتعب فيه وإنفاق المال عليه والاستكثار من الكتب، فلن يخلوا كتاب من فائدة وزيادة علم يجدها فيه إذا احتاج إليها، ولا سبيل إلى حفظ المرء لجميع علمه الذي يختص به. فإذا لا سبيل إلى ذلك فالكتب نعم الخازنة له إذا طلب، ولولا الكتب لضاعت العلوم ولم توجد. وهذا خطأ ممن ذم الإكثار منها، ولو أخذ برأيه لتلفت العلوم ولجاذبهم الجهال فيها وادعوا ما شاءوا. فلولا شهادة الكتب لا ستوت دعوى العالم والجاهل. وسقوط الأنفة في التكرر على العلماء، وتقييد ما [يسمع] وجمعه، وملازمة المحبرة والكتب يده وكمه، وسكنى حاضرة فيها العلم، ولقاء المتنازعين وحضور المتناظرين، فبهذا تلوح الحقائق، فليس من تكلم عن نفسه وما يعتقد كمن تكلم عن غيره، ليست الثكلى كالنائحة المستأجرة، ومن لم يسمع إلا من عالم واحد أوشك أن لا يحصل على طائل، وكان كمن يشرب من بئر واحدة ولعله اختار الملح المكدر، وقد ترك العذب. ومع اعتراك الأقران ومعارضتهم يلوح الباطل من الحق، ولا بد، فمن طلبه كما ذكرنا أوشك أن ينجح مطلبه وأن لا يخفق سعيه، وأن يحصل في المدة اليسيرة على الفائدة العظيمة. ومن تعدى هذه الطريق كثر تعبه، وقلت منفعته. ومن اقتصر على علم واحد لم يطالع غيره؛ أوشك أن يكون ضحكة وكان ما خفي عليه من علمه الذي اقتصر عليه، أكثر مما أدرك منه لتعليق العلوم بعضها ببعض، كما ذكرنا، وأنها درج بعضها إلى بعض، كما وصفنا، ومن طلب الاحتواء على كل علم أوشك أن ينقطع وينحسر، ولا يحصل على شيءٍ،

_ (1) الصوت والصات والصيت: الذكر الحسن.

وكان كالمحضر إلى غير غاية، إذ (1) العمر يقصر عن ذلك، وليأخذ من كل علم بنصيب، ومقدار ذلك معرفته بأعراض ذلك العلم فقط، ثم يأخذ مما به ضرورة إلى ما لا بد له منه كما وصفنا، ثم يعتمد العلم الذي يسبق (2) فيه بطبعه وبقلبه [و] بحيلته، فيستكثر منه ما أمكنه، فربما كان ذلك منه في علمين أو ثلاثة أو أكثر، على قدر زكاء فهمه، وقوة طبعه، وحضور خاطره، وإكبابه على الطلب، وكل ذلك بتيسير الله تعالى؛ فلو بإرادة (3) المرء كان، لكان منى كل أحدٍ أن يكون أفضل الناس. والفهم والعناية مقسومان كقسمة المال والحال: والحظ مقسوم فأجمل في الطلب ومن طلب [العلم] (4) ليفخر به أو ليمدح به أو ليكتسب به مالاً أو جاهاً، غبعيد عن الفلاح لأنه ليس له غرض في التحقيق فيه، وإنما غرضه شيء آخر غير العلم. ونفس الإنسان وعينه طامحتان إلى غرضه فقط فلا يبالي كيف كان طلبه إذا حصل على مراده الذي إياه قصد. فالعلوم تنقسم أقساماً سبعة عند كل أمة وفي كل زمان وفي كل مكان وهي: علم شريعة كل أمة، فلا بد لكل أمة من معتقد ما، إما إثبات وإما إبطال، وعلم أخبارها وعلم لغتها، فالأمم تتميز في هذه العلوم الثلاثة، والعلوم الأربعة الباقية تتفق فيها الأمم كلها، وهي [علم النجوم] ، وعلم العدد والطب، وهو معاناة الأجسام، وعلم الفلسفة، وهي معرفة الأشياء على ما هي عليه من حدودها من أعلى الأجناس إلى الأشخاص، ومعرفة إليهة. وقد بينا أن كل شريعة سوى الإسلام فباطل، فالواجب الاقتصار على شريعة الحق، وعلى كل ما أعان على التبحر في علمها. وعلم شريعة الإسلام ينقسم أقساماً أربعة: علم القرآن، وعلم الحديث، وعلم

_ (1) ص: أذى. (2) ص: ينشق. (3) ص: إرادة. (4) زيادة لازمه.

الفقه، وعلم الكلام: فعلم القرآن: ينقسم إلى معرفة قراءته ومعانيه. وعلم الحديث: ينقسم إلى معرفته متونه ومعرفة رواته. وعلم الفقه: ينقسم إلى أحكام القرآن، وأحكام الحديث، وما أجمع المسلمون عليه وما اختلفوا فيه، ومعرفة وجوه الدلالة وما صح منها وما لا يصح. وعلم الكلام: ينقسم إلى معرفة مقالاتهم ومعرفة حجاجهم وما يصح منها بالبرهان وما لا يصح. وعلم النحو: ينقسم إلى مسموعه القديم وعلله المحدثة. وعلم اللغة: مسموع كله فقط. وعلم الأخبار ينقسم على مراتب: إما على الممالك (1) أو على السنين وإما على البلاد وإما على الطبقات أو منثوراً. فأصح التواريخ عندنا تاريخ الملة الإسلامية ومبدؤها وفتوحها وأخبار خلفائها وملوكها والمنتزين عليهم وعلمائهم وسائر ما انتظم بذلك. وأما تاريخ بني إسرائيل فأكثره صحيح وفي بعضه دخل، وإنما يصح منه أخبارهم مذ صاروا بالشام إلى أن خرجوا عنها الخرجة الآخرة، لا من قبل ذلك. وأخبار الروم إنما تصح من عهد الاسكندر لا ما قبل ذلك. وأخبار الترك والخزر وسائر أمم الشمال وأمم السودان فلا علوم لهذه الأمم ولا تواليف ولا تواريخ. ولم تبلغنا أخبار الهند والصين كما نريد، إلا أنهم أمتا علم وضبط وتواليف وجمع. وأما الأمم الداثرة من القبط واليمانيين والسريانيين والاشمانين وعمون وموآب وسائر الأمم فقد بادت أخبارهم جملة، فلم يبق منها إلا تكاذيب وخرافات. وأما الفرس فلا يصح شيء من أخبارهم إلا ما كان من عهد دارا بن دارا فقط. وأصح أخبارهم ما كان من عهد أزدشير بن بابك فقط. فالطالب للأخبار ينبغي له ألا يشتغل إلا بما أعلمناه بصحته ولا ينبغي له قطع وقته بما لا يجدي عليه نفعاً لا بما أخبرناه ببطلانه، فقد

_ (1) ص: ممالك.

كفيناه التعب في ذلك، وإن أحب التعب وقف على ما وقفنا عليه من ذلك. وعلم النسب جزء من علم الخبر. وعلم النجوم: ينقسم إلى معرفة علم الهيئة والتعديل ببرهانه ثم الذي يذكرونه من القضاء. وعلم العدد: ينقسم إلى ضبط قوانينه ثم برهانه ثم العمل بذلك في المساحات وغير ذلك. وعلم المنطق: ينقسم إلى عقلي وحسي وأما العقلي فإلاهي وطبيعي، وأما الحسي فطبيعي فقط. وعلم الطب: ينقسم قسمين: طب النفس وهو من نتيجة علم المنطق بإصلاح الأخلاق ومداواتها (1) وصرفها عن الإفراط والتقصير وإقامتها على الاعتدال؛ وطب الأجسام: وهو ينقسم إلى معرفة الطبائع الجسمية ومعرفة تركيب الأعضاء ومعرفة العلل وأسبابها وما تعارض به من الأدوية وتميز القوي من الأدوية والأغذية (2) ، وينقسم أيضاً قسمين: عمل باليد كالجبر والبط والكي والقطع، وعمل في صرف قوى العلل بقوى الأدوية، وينقسم أيضاً قسمين: حفظ الصحة لئلا يحدث المرض ثم معاناة المرض. وعلم الشعر: ينقسم إلى روايته ومعانيه ومحاسنه ومعايبه وأقسامه ووزنه ونظمه. وها هنا علمان إنما يكونان (3) نتيجة العلوم التي ذكرنا إذا اجتمعت، أو من نتيجة اجتماع علمين منهما فصاعداً، وهما علم البلاغة، وعلم العبارة: فأما علم البلاغة فإن صرفه صاحبه إلى الله عز وجل وإلى تبين الحقائق وتعليم الجهال فهي فضيلة، وأما إن صرفه في ضد ذلك خسرت صفقته، إذ أتعب نفسه وأفنى عمره فيما هو وبال عليه، ونعوذ بالله من البلاء.

_ (1) ص: ومداراتها. (2) ص: للأغذية. (3) ص: يكونا.

وأما علم العبارة (1) فهو طبع في المعبر مع عون العلم عليه ولا يقطع بصحته إلا بعد ظهور ذلك عليه لا قبله. فهذه الأفانين هي التي يطلق عليها في قديم الدهر وحديثه اسم العلم والعلوم. وعند التحقيق وصحة النظر فكل (2) ما علم فهو علم؛ فيدخل في ذلك علم التجارة والخياطة والحياكة وتدبير السفن وفلاة الأرض وتدبير الشجر ومعاناتها وغرسها والبناء وغير ذلك. إلا أن هذه إنما هي للدنيا خاصة فيما بالناس إليه الحاجة في معايشهم. والعلوم التي قدمنا، الغرض [منها] التوصل إلى الخلاص في المعاد فقط، فلذلك استحقت التقديم والتفضيل، والله تعالى التوفيق. ونحن نوصي طالب العلم (3) بأن لا يذم ما جهل منها، فهو دليل على نقصه وقوله بغير معرفة، وأن لا يعجب بما علم فتطمس فضيلته، ويستحق المقت من الواهب له ما وهب، وأن لا يحسد من فوقه حسداً يؤديه إلى تنقيصه، فهذه رذيلتان. وأما إن حسده لم ينتقصه، وكان ذلك رغبة في الوصول إلى ما وصل إليه محسوده فحسن، وهو رغبة في الخير. وأن لا يحقر من دونه فقد كان في مثل حاله قبل أن يعلم ما علم. وأن لا يكتم علمه فيحصل هو ومن لا علم له ف منزلة واحدة، إذ كلاهما غير مستعمل للعلم ولا مظهر له. وأن لا تكلم في علم قبل أن يحكمه فيخزى، وأن لا يطلب بعلمه عرض دنياه فيبذل الأفضل بالأدنى، وأن يستعمل تقوى الله تعالى في سره وجهره، فهو زين العالم، وبالله التوفيق. @فصل والعلوم التي ذكرنا يتعلق بعها ببعض ولا يستغني منها علم عن غيره، فأول ذلك أنا قد ابنا أن غرضنا من الكون في الدنيا والمطلوب بتعلم العلوم إنما هو تعلم علم

_ (1) يعني علم تعبير الرؤيا. (2) ص: فهل. (3) ص: العالم.

ما أراد الله تعالى منا، وما به أخبر عنا (1) ، وما به يكون المخلص من هول مكاننا الكدر المظلم المشوب بالآفات المملوء من أنواع المتالف والمهالك، والمحفوف بأصناف البلايا والمعاطب، وهو المعرفة بالشريعة والإعلان بها والعمل بموجبها، فإذا الأمر كذلك، فلا سبيل إلى صحة المعرفة بها واستحقاق حقيقتها إلا بمعرفة أحكام الله عز وجل وعهوده إلينا في كتابه المنزل، وبمعرفة ما وصانا به محمد عليه السلام وبلغه لينا، وما أجمع علماء الديانة عليه، وما اختلفوا فيه، ولا يوصل إلى هذا إلا بمعرفة الناقلين لتلك الوصايا وأزمانهم وأسمائهم وأنسابهم للفرق بين ما اتفقت فيه الأسماء، وبمعرفة المقبولين من غيرهم ومعرفة من لقوا فحدثوا عنه ممن له يلقوه فبلغهم عنه، وبمعرفة القراءات المشهورة (2) ليوقف بذلك على ما تتفق فيه المعاني مما تختلف فيحدث باختلافهم حكم ما، وكل هذا لا يتم إلا بمعرفة مستعمل اللغة ومواقع الإعراب الذي تختلف المعاني باختلاف أمثلته وأشكاله، ولا بد في اللغة والإعراب من التعلق بطرف من علم الشعر، ولا بد من المعرفة بالنسب بما يدري المرء من تجوز الإمامة ممن لا تجوز فيهم، ومن هم الأنصار الذين [أمرنا] (3) بالإحسان إلى محسنهم والتجاوز عن مسيئهم، ومن هم أولو القربى الذين حرمت عليهم الصدقة، ولا بد أن يعرف من الحساب ما يعرف به القبلة والزوال إلى أوقات الصلوات، ولا يوقف على حقيقة ذلك إلا بمعرفة الهيئة، ولا يعرف حقيقة البرهان في ذلك إلا من وقف على حدود الكلام، ولا بد أن يعرف من الحساب أيضاً كيف قسمة المواريث والغنائم، فإن تحقيق ذلك فرض لا بد منه. ولا بد في الشريعة من معرفة العيوب التي تجب [التكليف كعاهة الجنون المتملكة، وقوام الآفات والأدواء، فلا بد من] (4) معرفة العلل ومداواتها وهو علم الطب. والدعاء إلى الله عز وجل واجب، ولا سبيل إليه إلا بالخط والبلاغة، ومعرفة ما تستجلب به القلوب من حسن اللفظ وبيان المعنى، ولا يكون هذا إلا بالمعرفة الشرعية

_ (1) ص: اخترعنا. (2) ص: المشورة. (3) زيادة لازمة. (4) ما بين معقفين مكتوب في هامش النسخة وقد طمس معظمه.

فصل

وباللغة وبالإعراب وبالفصاحة وحكم المنظوم والمنثور. والرؤيا حق وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فلا بد من معرفة عباراتها، ولا تكون عباراتها إلا بالتمكن في العلوم المذكورة. وأما القضاء بالنجوم فلا يعرف بطلانه إلا من أشرف عليه، ولا يعرف الخطأ من الصواب إلا بمعرفتهما معاً، فهذا وجه تعلق العلوم بعضها ببعض، وافتقار بعضها إلى بعض. وإن لم تمكن (1) المرء الإحاطة بجميعها فليضرب في جميعها بسهم ما وإن قل، - كما قدمنا وليكن الناس فيها في تعاونهم على إقامة الواجب من ذلك عليهم كالمجتمعين لإقامة منزل، فإنه لا بد من بناء وأجراء ينقلون الحجر وينقلون الطين، ومن صناع القرمد وقطاعي الخشب وصناعي الأبواب والمسامير حتى يتم البناء، وكذلك سائر ما بالناس الحاجة إليه من الحرث فإنه لا يتم إلا بالتعاون على [القيام] بآلاته والعمل بها. وكذلك التعاون على ما به تكون النجاة والترقي إلى عالم الخلود، ورضى الخالق أوجب وأكرم، وبالله تعالى نتأيد. ط فصل ومن السمج القبيح بقاء الإنسان فارغاً في مدة إقامته في هذه الدار، مفنياً تلك المدة فيما غيره أولى به وأحسن منه، في حماقة وبطالة أو معصية وظلم. وقد سمعت شيخنا ابن الحسن (2) يقول لي ولغيري " إن من العجب من يبقى في هذا العالم [دون] معاونة لنوعه على مصلحة. أما يرى الحراث يحرث له والطحان يطحن له والنساج ينسج له والخياط يخيط له والجزار يجزر له والبناء يبني له وسائر الناس كل متول شغلاً، له فيه مصلحة وبه إليه ضرورة أفما يستحي أن يكون عيالاً على كل العالم

_ (1) ص: يكن. (2) ص: أبو الحسن، وشيخه هذا هو أبو عبد الله محمد بن الحسن المعروف بابن الكتاني، وقد ترجمت له في مقدمة كتابه " التشبيهات ".

لا يعين هو أيضاً بشيء من المصلحة " (1) ولقد صدق، ولعمري إن في كلامه من الحكم لما يستثير الهمم الساكنة إلى ما هيئت له. وأي كلام في نوع هذا احسن من كلامه في تعاون (2) الناس. وقد نبه الله تعالى عباده بقوله {وتعاونوا على البر والتقوى} (المائدة: 2) فكل ما لمخلوق فيه مصلحة في دينه أو ما لا غنى للمرء عنه في دنياه فهو بر وتقوى، إذا استعان به على أمر الله وحض عليه. وأفضل ما استعمله المرء في دنياه، بعد أداء ما يلزمه لله تعالى في نفسه من تعلم اعتقاده من قول وعمل، أن يعلم الناس دينهم الذي له خلقوا، فيقودهم إلى رضى الله عز وجل ويخرجهم بلطف خالقه تعالى من الظلمة العمية إلى النور الخالص، ومن المضيق المهلك إلى السعة الرحبة، ثم الحكم بالحق، والمنع من الظلم، والذب عن الحوزة بجهاد أهل الحرب والمحاربة (3) وأهل البغي، وإقامة [الناس] (4) على ما خلقوا له من إقامة الدين الذي افترضه الله تعالى عليهم، ثم العون في إحراز ما ذكرنا بكتابه واحتراز وقسمة وإقامة حد وقبض مال واجب وغير ذلك، ثم هكذا أبداً كل ما فيه عون على ذلك حتى يبلغ الأمر إلى الصناعات التي لا غنى بالناس عنها. واعلم أن كل أحد من الناس ممن له تمييز صحيح فإنه لا يخلو من أن يكون موقناً بصحة المعاد بعد الموت وبالجزاء، أو يكون شاكاً في ذلك، أو يكون معتقداً أن لا معاد ولا جزاء، وإنما هي هذه الحياة الدنيا فقط. فإن كان ممن يوقن بالمعاد والجزاء فاللازم له إجهاد نفسه واستفراغ طوقه فيما يتخلص به من الهلكة في معاده، ويكون حينئذ إذا اشتغل بغير ذلك وضيع ما فيه نجاته وخلاصه في الأبد، فاسد التمييز

_ (1) نص هذه العبارة كما أوردها الحميدي في الجذوة، مروياً عن ابن حزم: إن من العجب من يبقى في العالم دون تعاون على مصلحة؛ أما يرى الحراث يحرث له والبناء يبني له والخراز يخرز له؛ وسائر الناس كل يتولى شغلاً له فيه مصلحة وبه إليه ضرورة أما يستحي أم يبقى عيالاً على كل من في العالم، ألا يعين هو أيضاً بشيء من المصلحة (الجذوة: 46) . (2) ص: كلام في نوع. (3) أهل المحاربة هم المفسدون في الأرض الذين حكم القرآن بأن يقتلوا أو يصلبوا أو ينفوا من الأرض. (4) زيادة لازمة.

سخيف (1) العقل مذوماً مهلكاً لنفسه، بل أسوأ حالة من المجانين والحيوان الدارج (2) غير الناطق. ولا مخلص في المعاد إلا بالحبث عن شريعة الحق و [إيثار] (3) تعلمها على كل علم. و [الآجلة] . فالواجب عليه إجهاد نفسه وترك كل حال شاغلة له عن البحث عن صحة الأمر، عن أن المعاد حق أو شيء غيره حق. وإذا اشتغل عن شيء غيره فهو بلا شك فاسد التمييز، خاسر الصفقة مغرر بنفسه عن الأمر الذي فيه عظيم البلاء عليه أو كثير السعادة له، ولا يصل إلى علم ذلك إلا بالبحث عن الشرائع وطلب البرهان فيها حتى يقع على حقيقة الأمر في ذلك. وإن كان غير معتقد لصحة المعاد، ولم يكن عند شيء غير هذه الدار، فلا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن لا يكون يرى إمراج النفس (4) في الشهوات، وإهمالها في اللذات وإطلاقها على اتباع الهوى فإن كان هذا هكذا فليس أولى بذلك فيه (5) من غيره؛ وهذا رأي يقتضي له أن لا يتظلم ممن تلف بقتله وأخذ ماله أو هتك ستره وتسخيره (6) فيما يلذ به غيره وإشقائه فيما ينعم به سواه، ولا أخسر صفقة ممن يرى أن لا دار له سوى هذه ثم لا يكون حظه منها إلا الشقاء والتعب والهلكة أو يكون ممن يقو بالسياسة التي جماعها الأمن له من غيره، ولغيره منه، على دمه (7) وحرمته وبشرته وماله وشمول العافية (8) وصلاح الحال والكفاية. وهذا لا يصح ألبتة ولا يوجد إلا باستعمال الشريعة الداعية بالوعيد بالآخرة والعقاب في الدنيا لأجل معصيته، فإذ لا سبيل إلى ذلك إلا بالشريعة فالاشتغال بها هو الغرض، والاشتغال عنها رأي فاسد.

_ (1) ص: بتخفيف. (2) ص: الدارج. (3) ما بين معقفين في هذه العبارة التي كتبت بهامش النسخة، مطموس. (4) ص: إمراح، وإمراج النفس إطلاقها على سجيتها، وتركها ترعى حيث شاءت. (5) ص: في غيره. (6) ص: وتسخير. (7) ص: ذمته. (8) ص: العاقبة.

وأيضاً فإن المشتغل بعلم الشريعة محصل الأمن من السلطان والخاصة والعامة، متصد لعلو الحال في الدنيا والصلاح فيها؛ ومن خالفها محصل (1) للمخالفة للسلطان والخاصة والعامة، متعرض للبلاء في دمه وحاله وماله؛ فلا أضعف حالاً ولا أسوأ تمييزاً ولا أضعف عيشاً ممن (2) لا يقر بالمعاد ولا يعرف إلا هذه الدار، ثم هو متعرض للبلاء مدة حياته. وإنما يتحمل الأذى والمخاوف ويتعرض للهلكة والبلاء (3) من يرى أنه إذا خرج من هذه الدار صار إلى الحياة الأبدية والنعيم السرمدي والسرور الخالد (4) وإلا فهو أحمق مجنون. وإنما قلنا هذا البرهان العقلي الحسي الضروري: إن إيثار علم الشريعة على كل علم واجب على كل من لا يقر بالمعاد وعلى من يشك بالمعاد، كوجوبه على من يقر بالمعاد. وإن قوماً قوي جهلهم، وضعفت عقولهم، وفسدت طبائعهم، يظنون أنهم من أهل العلم وليسوا من أهله، ولا شيء أعظم آفة على العلوم وأهلها الذين هم أهلها بالحقيقة من هذه الطبقة المذكورة، لأنهم تناولوا طرفاً من بعض العلوم يسيراً، وكان الذي فاتهم من ذلك أكثر مما أدركوا منه، ولم يكن طلبهم لما طلبوا من العلم لله تعالى، ولا ليخرجوا من ظلمة الجهل، لكن ليزدروا بالناس زهواً وعجباً، وليماروا لجاجاً وشغباً، وليفخروا أنهم من أهله تطاولاً ونفجاً، وهذه طريق مجانية الفلاح، لأنهم لم يحصلوا على الحقيقة وضيعوا سائر لوازمهم فعظمت خيبتهم ولم يكن وكدهم أيضاً، مع الازدراء بغيرهم، إلا الازدراء بسائر العلوم وتنقيصها، لظنهم الفاسد أنه لا علم إلا الذي طلبوا فقط. وكثيراً ما يعرض هذا لمبتدئ في علم من العلوم وفي عنفوان الصبا وشدة الحداثة. إلا أن هؤلاء لا يرجى لهم البرء من هذا الداء، مع طول النظر والزيادة في السن. فقصدنا أن نري كل من هذه صفته أحد وجهين: إما نقص علمه الذي يتبجح

_ (1) ص: فحصل. (2) ص: لمن. (3) ص: ولبلا. (4) ص: الخالدي.

به عن غيره من العلوم؛ أو فاقة (1) علمه ذلك إلى غيره من العلوم، وأنه إن لم يضف غيره من العلوم على علمه كان ناقصاً لا ينتفع به كبير منفعة بل لعله يستضر به (2) جداً: فمن ذلك أنا وجدنا قوماً منأهل طلب العلم، أعني الديانة، يزورن بسائر العلوم، وهذا نقص عظيم شديد لا ينتفع به صاحبه في قسمة الفرائض والمواريث وأن يعرف من المطالع ما يعرف به أوقات الصلوات ودخول شهر رمضان شهر الصوم ووقت الحج، وإن لم يعرف مضار المأكل والمشرب أوشك أن يتناول ما يؤذيه ويضر به، وذلك محرم وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتداوي فاتباع أمره فرض. فتعلم الطب فرض على الكفاية، ومضيعه مضيع فرض. والقرآن عربي فلا سبيل إلى أن يعلمه من لم يعلم العربية، ولا سيما إن كان المذكور لم تناول من الشريعة إلا علماً واحداً من علومها، فهذا إنسان ناقص مسيء إلى نفسه مهلك لها، لأنه إن تناول علم القرآن ولم تناول علم السنن كانت يده من الدين صفراً، وكان علمه عليه لا له. ومن أحسن علم السنن ولم يحسن علم القرآن لم يعلم ما يجوز به القراءة مما لا يجوز، وما أنزل الله تعالى مما لم ينزل. وإن تعلق بالفتيا دون علم بالقرآن والسنن فهو والحمار سواء ولا يحل له أن يفتي لأنه لا يدري أحق أم باطل، وإنما يفتي مقلداً لمن لا يدري هل أصاب أو أخطأ ولا يعرف ما هو عليه أهو من الدين أم من غير الدين إلا ظناً. وإن تعلق بالكلام دون أن يعرف السنن كان هالكاً، لمغيبه عن حقيقة الشريعة التي كلفه الله تعالى إياها، وألزمه أداءها (3) . ووجدنا قوماً طلبوا علوم العرب فازدروا على سائر العلوم كالنحو واللغة والشعر والعروض، فكان هؤلاء بمنزلة من ليس في يده من الطعام إلا الملح وليس معه من السلاح إلا المصقلة التي بها يجلى السلاح فقط، وكان [الواحد منهم] غائباً عن علم الشريعة التي لا معنى لخروجنا إلى هذا العالم غيرها، ولا خلاص لنا ولا سلامة

_ (1) ص: بانه. (2) ص: يستصريه. (3) ص: والتزمه إياها.

عند خروجنا من الدنيا إلا بها، وكان بمعزل عن علم الحقائق. ووجدنا قوماً طلبوا علوم الأوائل أو علماً منها، واتخذوا سائر العلوم سخرياً مثل من تعلق بالطب فلم ير علماً غيره؛ فيقال له إنك لا تشك أنه قد يكون فمن لا يتعاني ولا يحسن الطب أحسن أجساماً وأطول أعماراً من المتعنين، كأهل البادية (1) والعامة والبلاد التي لا يحسن أهلها الطب، هذا أمر لا ينكره منكر، فأن هذا عيان مشاهد، فما فائدة الطب إذن ولا غرض لأهله إلا تصحيح الأجسام ودفع الأمراض المخوف منها الموت (2) ولم يحصلوا من هذا الغرض إلا على أقل مما حصل عليه غيرهم. ومثل قوم من أهل الهندسة وعلم الهيئة ما عدا ذلك من العلوم إلا هذراً ولغواً فيقال لهم: ما الفرق بين معرفة قطع كوكب كذا وكوكب كذا وصفة برج كذا وبرج كذا وبرج كذا من الأرض وبين صفة مدينة كذا، وحركات ملك فلانة، أو حركات فلان وفلان وهذا لا سبيل لهم إلى المخلص منه لأن كل ذلك خبر عن بعض ما في العالم فقط لا يفيد فائدة إلا المعرفة بما عرف من كل ذلك بأنه على هيئته والاستدلال بكل ذلك على الصانع المدبر سواء. فإن صار إلى علم القضاء لم يحصل إلا على دعاوى كاذبة وخرافات لا تصح، بل البرهان قائم على بطلان هذه الدعاوي، بما قد أحكمناه في غير هذا الموضع، ومن ذلك أنهم لا يدعون على ذلك دليلاً أصلاً إلا تجارب يذكرونها وهذا باطل لأن تلك التجارب لا يمكن إثباتها ألبتة لأنها لا تكون إلا في مدد طوال، ولا سبيل إلى بقاء دولة ولا استمرار حالة على سلامة، مقدار تلك المدة أبداً، ونقول لهم: إن أصح ما بأيديكم، بإقراركم، المواليد والقرانات (3) ونحن نجد الكبش يولد ويعيش ويذبح وهو يباشر أكله (4) في دقيقة واحدة ثم يعمل من جلده أديم، فبعضه

_ (1) كرر ابن حزم هذه الفكرة عن أهل البادية وصحتهم وطول أعمارهم في رسالة " التوقيف على شارع النجاة "، وانظر كيف كانت هذه الفكرة مختمرة أيضاً عند ابن خلدون فقد وضحها كما وضح استقلال أهل البوادي بطبهم في المقدمة: 364 وما بعدها. (2) في الأصل: للموت. (3) إذا ذكر القرآن إطلاقاً عني به اجتماع زحل والمشتري خاصة، فإذا قصد قرآن كوكبين آخرين قيد بذكرهما. (4) في الأصل: وهو ناشر كله.

رق ينسخ فيه (1) وتطول مدة بقاءه، وبعضه نطائق (2) تقطع وتعفن، ولم يتقدم في الوجود والنشأة بعض ذلك الأديم بعضاً. وأيضاً فإنهم خابوا من علم الشريعة الذي هو الحقيقة. وطائفة حصلت على علم حدود المنطق، فنقول لهم: إنكم لم تحصلوا إلا على العلوم التي لا منفعة لها ولا فائدة، إلا تصريفها في سائر فأنتم (3) كمن جمع آلة البناء ولم يصرفها في البنيان فهي معطلة لديه لا معنى لها، فإن قالوا إن لهذه العلوم معايش ومكاسب، قلنا هي أضعف المكاسب وأقل المعايش سعة، فإذ ليس غرضكم إلا هذا، فالتجارة والزراعة وصحبة السلطان أجدى بالمكسب وأوسع بالوفر (4) حظاً مما أنتم عليه. ولم نورد شيئاً من هذا تنقيصاً لشيء ن هذه العلوم ومعاذ الله من هذا ولو فعلنا ذلك لدخلنا في جملة من نذم، ولركبنا الملة (5) الخسيسة، لكن تنقصاً لمن قصد بعلمه ذم سائر العلوم وتنقصها. وأما من طلب علماً ما، لم يفتح الله تعالى له في غيره، وهو مع ذلك معترف بفضل سائر العلوم ونقص حاله إذ أقصر عنها، فهو محسن حمود فاضل قد تعوض الإنصاف والعدل والصدق مما فاته منها فنعم العوض ما حصل عليه، ولا ملامة عليه فيما لم يفتح الله تعالى له فيه، وأما من أخذ من كل علم ما هو محتاج إليه واستعمل ما علم كما يجب فلا أحد أفضل منه، لأنه قد حصل على عز النفس وغناها في العاجل وعلى الفوز في الآجل، ونجا مما حصل فيه أهل الجهل، ومن لم يستعمل ما علم من أضداد هذه الأحوال. وجملة الأمر أنه لولا طلب النجاة في الآخرة لما كان لطلب شيء من العلوم معنى لأنه تعب، وقاطع عن لذات الدنيا المتعجلة من المشارب والمآكل والملاهي والسفاه الاعتلاء واتباع الهوى؛ فلو لم يكن آخرة يؤدي إليها طلب العلوم، لما كان

_ (1) ص: ورق ينسج فيه. (2) ص: بطائق. (3) ص: فأنت. (4) ص: بالدفر. (5) ص: المدة.

أحد أسوأ حالاً من المشتغل بالعلم؛ فإذ الأمر كذلك فالعلوم كلها (1) متعلق بعضها ببعض كما بينا قبل، محتاج بعضها إلى بعض، ولا غرض لها إلا معرفة ما أدى إلى الفوز في الآخرة فقط، وهو علم الشريعة، وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل. تمت الرسالة الموسومة بمراتب العلوم والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً

_ (1) في الأصل: فالأمر كله.

2 - التقريب لحد المنطق

2 - التقريب لحد المنطق

فراغ

وعلى آل محمد وصحبه وسلم

- 2 - التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صلّ على سيد المرسلين وعلى آل محمد وصحبه وسلم (1) قال الإمام الأوحد الأعلم، أو بمحمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب ابن صالح بن خلف بن معدان بن يزيد الفارسي (2) : الحمد لله رب العالمين، بديع السماوات والأرض وما بينهما، ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، وصلى الله على محمد عبده وخاتم أنبيائه ورسوله إلى عباده من الأنفس الحية القابلة للموت، من الإنس والجن، بالدين الذي اجتبرهم بهن ليسكن الجنة التي هي دار النعيم السرمدي من اطاعه، ويدخل النار التي هي محل العذاب الأبدي من عصاه؛ وما توفيقنا إلا بالله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله (3) ، عز وجل. أما بعد: فإن الأول الواحد الحق الخالق لجميع الموجودات دونه؛ يقول في وحيه الذي آتاه نبيه وخليله المقدس: {الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل} (الزمر: 62) وقال تعالى: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} (آل عمران: 19) مثنياً عليهم؛ وقال تعالى: {الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان،

_ (1) م: بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (2) م: قال الشيخ أبو محمد عليّ بن أحمد الفقيه رضي الله عنه. (3) م: إلا به.

علمه البيان} (الرحمن: 1 4) وقال تعالى {اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم} (العلق: 3) فهذه الآيات جامعة لجميع وجوه (1) البيان الذي امتن به عز وجل، على الناطقين من خلقه وفضلهم به على سائر الحيوان، فضلاً منه تعالى يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ووجدناه عز وجل قد عدد في عظيم نعمه على ابتداء اختراعه من النوع الإنسي تعليمه أسماء (2) الأشياء؛ فقال تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} (البقرة: 31) وهذا هو الذي (3) بانت به الملائكة والإنس والجن من سائر النفوس الحية، وهو البيان عن جميع الموجودات (4) ، على اختلاف وجوهها، وتباين (5) معانيها، التي من أجل اختلافها وجب أن تختلف أسماؤها، ومعرفة وقوع المسميات تحت الأسماء، فمن جهل مقدار هذه النعمة عند نفسه، وسائر نوعه، ولم يعرف موقعها لديه، لم يكد يفضل البهائم إلا بالصورة: فلله الحمد على ما علم وآتى، لا إله إلا هو. ومن لم يعلم صفات الأشياء المسميات، الموجبة لافتراق أسمائها ويحد كل ذلك بحدوده (6) ، فقد جهل مقدار هذه النعمة النفيسة، ومر عليها غافلاً عن معرفتها، معرضاً عنها، ولم يخب خيبةً يسيرة بل جليلة جداً. فإن قال جاهل: فهل تكلم أحد من السلف الصالح في هذا قيل (7) له: إن هذا العالم مستقر في نفس كل ذي [2 ظ] لب، فالذهن الذكي واصل بما مكنه الله تعالى فيه من سعة الفهم، إلى فوائد هذا العلم، والجاهل متسكع كالأعمى حتى ينبه عليه، وهكذا سائر العلوم. فما تكلم أحد من السلف الصالح، رضي الله عنهم، في مسائل النحو، لكن لما فشا جهل الناس، باختلاف الحركات التي باختلافها

_ (1) ص: جامعة لوجوه. (2) أسماء: سقطت من م. (3) س: وهو الذي. (4) م: المرادات. (5) س: وبيان. (6) س: بحدودها. (7) م: فقيل.

اختلفت (1) المعاني في اللغة العربية، وضع العلماء كتب النحو، فرفعوا إشكالاً عظيماً، وكان ذلك معيناً على الفهم لكلام الله عز وجل، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وكان من جهل ذلك ناقض الفهم عن ربه تعالى، فكان هذا من فعل العلماء حسناً وموجباً لهم أجراً. وكذلك القول في تواليف العلماء ككتب اللغة، وكذلك القول أيضاً في تواليف كتب الفقه (2) ؛ فإن السلف الصالح غنوا عن ذلك كله بما أبانهم الله به من الفضل ومشاهد النبوة، وكان من بعدهم فقراء إلى ذلك كله، يرى ذلك حساً ويعلم نقص من لم يطلع هذه العلوم ولم يقرأ هذه الكتب وأنه قريب النسبة من البهائم، وكذلك هذا العلم فإن من جهله خفي عليه بناء كلام الله عز وجل (3) مع كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وجاز عليه الشغب جوازاً لا يفرق بينه وبين الحق، ولم يعلم دينه إلا تقليداً، والتقليد مذموم، وبالحرى إن سلم من الحيرة، نعوذ بالله منها. فلهذا ولما (4) نذكره بعد هذا، إن شاء الله تعالى، وجب البدار إلى تأليف هذا العلم، والتعب في شرحه وبسطه، بحول الله وقوته، فنقول وبالله تعالى نستعين: إن جميع الأشياء التي أحدثها الأول، الذي لا أول على الإطلاق سواه، وقسمها الواحد الذي لا واحد على التصحيح حاشاه، واخترعها الخالق الذي لا خالق على الحقيقة إلا إياه، فإن مراتبها في وجوه البيان أربعة، لا خامس لها أصلاً ومتى نقص (5) منها جزء واحد اختل من البيان بمقدار ذلك النقص. فأول ذلك كون الأشياء الموجودات حقاً في أنفسها، فإنها إذا كانت حقاً فقد أمكنت استبانتها، وإن لم يكن لها مستبين، حينئذ، موجود، فهذه أولى مراتب البيان؛ إذ ما لم يكن موجوداً فلا سبيل إلى استبانته. والوجه الثاني: بيانها عند من استبانها وانتقال أشكالها وصفاتها إلى نفسه،

_ (1) م: تختلف. (2) س: وكذلك القول في تواليف كتب العلماء في اللغة والفقه. (3) م: تعالى (وكذلك تتبادل اللفظتان في م س على نحو شبه مطرد) . (4) س: وما. (5) س: وإن تناقص.

واستقرارها (1) فيها بمادة العقل الذي فضل به الناطق (2) من النفوس، وتمييزه لها على ما هي عليه إذ من لم يبن له الشيء لم يصح له علمه ولا الأخبار عنه، فهذه المرتبة الثانية من مراتب البيان. والوجه الثالث: إيقاع كلماتٍ مؤلفات من حروف مقطعات، مكن الحكيم [3 ب] القادر لها المخارج من الصدر والحلق وأنابيب الرئة والحنك واللسان والشفتين والأسنان، وهيأ لها الهواء المندفع بقرع اللسان إلى صمخ (3) الآذان، فتوصل بذلك نفس المتكلم مثل ما قد استبانته واستقر فيها إلى نفس المخاطب، وتنقله إليها بصوت مفهوم بقبول الطبع منها للغةٍ اتفقا عليها، فتستبين من ذلك ما قد استبانته نفس المتكلم، ويستقر في نفس المخاطب، مثل ما قد استقر في نفس المتكلم، ويخرج (4) إليها بذلك مثل ما عندها، لطفاً من اللطيف الخبير، لينتج لها ما وهبنا (5) من هذه الخاصة الشريفة، والقوة الرفيعة، والطبيعة الفاضلة، المفربة لمن استعملها في طاعته، إلى فوز الأبد برضاه والخلود في جنته، نتيجة يبين بها (6) من البهائم التي لا ثواب ولا عقاب عليها، والتي سخرها لنا في جملة ما سخر، وذللها لحكمنا مع ما ذلل، إذ خلق لنا ما في السماوات والأرض، إلا ما حمى عنا، واستثنى بالتحريم علينا، فلله الحمد والشكر منا، والسمع والطاعة علينا، ومن فضله (7) تتميم ذلك لنا بمنه وطوله، قال الله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (إبراهيم: 4) فهذه المرتبة الثالثة من مراتب البيان. والوجه الرابع: إشارات تقع باتفاق، عمدتها تخطيط ما استقر في النفس من

_ (1) س: واستقراره. (2) س: العاقل. (3) صمخ: جمع صماخ وهو ثقب الأذن؛ وفي س: سمخ وهو لغة فيه. (4) س: وخرج. (5) س: لينتج لما وهب لنا (ولفظة لينتج لم يعجم منها إلا التاء في النسخة (س) . (6) م: تبين. (7) فضله: سقطت من س.

البيان المذكور، بخطوط متباينة، ذات لون يخالف لون (1) ما تخط فيه، متفق عليها بالصوت المتقدم ذكره، فيسمى ذلك كتاباً تمثله اليد التي هي آلة لذلك. فتبلغ به نفس المخطط ما قد استبانته إلى النفس التي تريد أن تشاركها في استبانة ما قد استبانته، فتوصلها إليها العين، التي هي آلة لذلك. وهي في الأقطار المتباعدة، وعلى المسافات المتنائية التي يتفرق الهواء المسمى صوتاً قبل بلوغها، ولا يمكن توصيله إلى من فيها فتعلمها بذلك دون من يجاورها في المحل ممن لا تريد إعلامه. ولولا هذا الوجه، ما بلغت إلينا حكم الأموات على آباد الدهور، ولا علمنا علم (2) الذاهبين على سوالف الأعصار، ولا انتهت إلينا أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية. وتندرج في هذا القسم أشياء وليست بالفاشية، فمنها: إشارات باليد فقط، ومنها إشارات بالعين أو ببعض الأعضاء، وقد يمكن أن يؤدي البيان بمذاقات، فمن ذلك (3) ما يدرك الأعمى بها البيان، ومنها ما لا يدركه إلا المبصر، إلا أنها حاشا الخط لا يدرك بها البيان (4) إلا الحاضر وحده على حسب ما يتفق عليه مع المشير بذلك إليه، فهذه المرتبة الرابعة من مراتب البيان [3 ظ] إذ لا سبيل إلى الكتاب إلا بعد الاتفاق على تمييز تلك الخطوط بالأصوات الموقفة عليها، قدرة (5) عجزت العقول عن أكثر من (6) المعرفة بها، وتوحد الأول الواحد الخالق الحق بتدبير ذلك واختراعه دون علة أوجبت عليه ذلك، إلا أنه يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وصارت نهاية الفضائل فينا (7) فهم ما ذكرنا واستعمال في وجوهه والإقرار للخالق الأول الواحد الحق بالقوة والقدرة والعلم وأنه مباين لخلقه في جميع صفاتهم.

_ (1) م: مخالف للون. (2) م: علوم. (3) م: هذه. (4) ومنها ما يدركه.. البيان: سقط من س. (5) س: ندرة. (6) من: سقطت من س. (7) س: فيها.

فإن من سلف من الحكماء، قبل زماننا، جمعوا كتباً رتبوا فيها فروق وقوع المسميات تحت الأسماء التي اتفقت جميع الأمم في معانيها، وإن اختلفت في أسمائها التي يقع بها التعبير عنها، إذ الطبيعة واحدة، والاختيار مختلف شتى، ورتبوا كيف يقوم بيان المعلومات من تراكيب هذه الأسماء، وما يصح من ذلك وما لا يصح، وتقفوا (1) هذه الأمور، فحدوا في ذلك حدوداً ورفعوا الأشكال، فنفع الله تعالى بها منفعة عظيمة، وقربت بعيداً، وسهلت صعباً، وذللت عزيزاً (2) ، فمنها كتب أرسطاطاليس الثمانية في حدود المنطق. ونحن نقول قول من يرغب إلى خالقه الواحد الأول في تسديده وعصمته، ولا يجعل لنفسه حولاً ولا قوة إلا به، ولا يعلم إلا ما علمه: إن من البر الذي نأمل أن نعتبط به عند ربنا تعالى بيان تلك الكتب لعظيم فائدتها فإنا رأينا الناس فيها على ضروب أربعة: الثلاثة منها خطأ بشيع وجور شنيع، والرابع حق مهجور، وصواب مغمور، وعلم مظلوم؛ ونصر المظلوم فرض وأجر. فأحد الضروب الأربعة قوم حكموا على تلك الكتب بأنها محتوية على الكفر للإلحاد، دون أن يقفوا على معانيها أو يطالعوها بالقراءة. هذا وهم يتلون قول الله عز وجل، وهم المقصودون (3) به إذ يقول تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} (الإسراء: 36) وقوله تعالى: {ها أنتم هؤلاء حاجتهم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} (آل عمران: 66) وقوله تعالى: {قل هل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (النمل: 64) فرأينا من الأجر الجزيل العظيم في هذه الطائفة إزالة هذا الباطل من نفوسهم الجائرة الحاكمة قبل التثبيت، القائلة دون علم، القاطعة بغير برهان، [4 و] ورفع المأثم الكبير عنهم بإيقاعهم هذا الظن الفاسد على قوم (4) برآء ذوي ساحة سالمة وبشرة نقية وأديم أملس مما قرفوهم به. وقد قال رسول الله،

_ (1) س: وتقفوا. (2) م: وعراً؛ وفي س بعدها: إرادة الحقائق؛ ولا وجود لها في م. (3) م: المقصرون. (4) م: أقوام.

صلى الله عليه وسلم، الواسطة بيننا وبين الواحد الأول: " من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما (1) . فنحن نرجو من خالقنا أن نكون ممن (2) يضرب لنا في كشف هذه الغمة بنصيب وافر ننتفع به جداً يوم فقرنا إلى الحسنات وحاجتنا إلى النجاة بأنفسنا مما يقع فيه الآثمون، وأن ييسرنا لسنةً حسنة نشارك من تصرف بعدنا ما كنا السبب في علمه إياه، من أجره، دون أن ينقص (3) من أجرة شيء، فهكذا وعدنا الخالق (4) الأول على لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم فهؤلاء ضرب. والضرب الثاني: قوم يعدون هذه الكتب هذياناً لا يفهم، وهراء من القول وهذراً من المنطق (5) . وبالجملة فأكثر الناس سراع إلى معاداة ما جهلوه وذم ما لم يعلموه، وهم كما قال الصادق عليه السلام: " الناس كإبل مائةٍ لا تجد فيها راحلة " (6) . فرأينا أيضاً أن من وجوه البر إفهام من جهل هذا المقدار الذي نصصنا على فضله أولاً، ولعمري ما ذلك بقليل إذ بالعلم بهذا المعنى بنا عن البهائم وفهمنا مراد الباري عز وجل في خطابه إيانا. والضرب الثالث: قوم قرأوا هذه الكتب المذكورة بعقول مدخولة وأهواء مؤوفة وبصائر غير سليمة، وقد أشربت قلوبهم حب الاستخفاف واستلانوا مركب العجز واستوبأوا نقل الشرائع (7) وقبلوا قول الجهال إنها كتب إلحاد، فمروا عليها أمراً لم يفهموها ولا تدبروا ولا عقلوها (8) فوسموا أنفسهم بفهمها، وهم أبعد الناس عنها وأنآملهم عن درايتها، وكان ما ذكرنا في تلبيس أمر هذه ومنفراً عنها فقوى رجاؤنا في أننا ببيان ما نبينه منها نكون السبب في هداية من سبقت له الهداية في علم

_ (1) الحديث في صحيح البخاري (أدب: 73) ومسلم (إيمان: 111) ومسند أحمد 2: 18، 44، 47. (2) ممن: سقطت من م. (3) م: ينتقص. (4) م: الواحد. (5) س: هذياناً من المنطق وهذراً من القول. (6) الحديث في مسند أحمد 2: 7، 44، 70 والبخاري (رقاق: 35) ومسلم (فضائل الصحابة: 232) . (7) س: الشرع. (8) إنها كتب.... عقلوها: سقط من س.

الله عز وجل، فيفوز بالحظ الأعلى ويحوز القسم الأسنى إن شاء الله عز وجل. ولم نجد أحداً قبلنا انتدب لهذا فرجونا ثواب الله عز وجل وأملنا عونه تعالى (1) في ذلك. والضرب الرابع: قوم نظروا فيها بأذهانٍ صافية وأفكار نقية من الميل وعقول سليمة فاستناروا بها ووقفوا على أغراضها فاهتدوا بمنارها وثبت التوحيد عندهم ببراهين ضرورية لا محيد عنها، وشاهدوا انقسام المخلوقات وتأثير الخالق فيها وتدبيره إياها، ووجدوا هذه الكتب الفاضلة كالرفيق الصالح والخفير (2) الناصح والصديق المخلص [4 ظ] الذي لا يسلم عند شدة، ولا يفتقده صاحبه في مضيق إلا وجده معه. فلم يسلكوا شعباً من شعاب العلوم إلا وجدوا منفعة هذه الكتب أمامهم ومعهم، ولا طلعوا ثنية من ثنايا المعارف إلا أحسوا بفائدتها غير مفارقةٍ لهم، بل ألفوها تفتح لهم كل مستغلق، وتليح إليهم كل غامض في جميع العلوم، فكانت لهم كالميلق (3) للصيرفي، والأشياء التي فيها الخواص لتجلية مخصوصاتها. فلما نظرنا في ذلك وجدنا من بعض الآفات (4) الداعية إلى البلايا التي ذكرنا تعقيد الترجمة فيها وإيرادها بألفاظ غير عامية ولا فاشية الاستعمال، وليس كل فهم تصلح له كل عبارة، فتقربنا إلى الله عز وجل بأن نورد معاني هذه الكتب (5) بألفاظٍ سهلة سبطة يستوي إن شاء الله في فهمها العامي والخاصي والعالم والجاهل حسن إدراكنا وما منحنا خالقنا تبارك وتعالى من القوة والتصرف. وكان السبب الذي حدا من سلف من المترجمين إلى إغماض الألفاظ وتوعيرها وتخشين المسلك نحوها، الشح منهم بالعلم والضن به. ولقد يقع لنا أن طلاب العلم يومئذ والراغبين فيه كانوا كثيراً ذوي حرص قوي، فأما الآن وقد زهد الناس فيه زهداً ليته سلم أهله منهم، بل قد أداهم زهدهم فيه (6)

_ (1) وأملنا عونه تعالى: انفردت به م. (2) م: والحفير؛ والخفير؛ المجير. (3) س: الميدق؛ م: الميذق؛ والميلق: وعاء لتمليس الذهب (انظر ملحق المعجمات لدوزي: 638) . (4) م: من بعض اللغات. (5) الكتب: سقطت من س. (6) زهداَ.... فيه: سقط من س.

إلى إيذاء (1) أهله وذعرهم ومطالبتهم والنيل منهم ولم يقنع الجاهل بأن يترك وجهله، بل صار داعية إليه وناهياً عن العلم بفعله وقوله، وصاروا كما قال حبيب بن أوس الطائي في وصفهم (2) : غدوا وكأن الجهل يجمعهم به ... أب وذوو الآداب فيهم نوافل فإن الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله، أن يسهله جهده، ويقربه بقدر طاقته، ويخففه ما أمكنه. بل لو كان أمكنه أن يهتف به على قوارع طرق المارة، ويدعو إليه في شوارع السابلة، وينادي عليه في مجامع السيارة، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه، ويجري (3) الأجور لمقنيه (4) ، ويعظم الأجعال عليه (5) للباحثين عنه، ويسني مراتب أهله، صابراً في ذلك على المشقة والأذى، لكان ذلك على المشقة والأذى، لكان ذلك حظاً جزيلاً وعملاً جيداً وسعياً مشكوراً كريماً وإحياء للعلم؛ وإلا فقد درس وطمس (6) وبلي وخفي، إلا تحلة القسم، ولم يبق منه إلا آثار لطيفة وأعلام داثرة والله المستعان. ورأينا هذه الكتب كالدواء القوي، إن تناوله ذو الصحة المستحكمة، والطبيعة السالمة، والتركيب الوثيق، والمزاج الجيد، انتفع به وصفى بنيته وأذهب أخلاطه [5 و] وقوى حواسه، وعدل كيفياته؛ وإن تناوله العليل المضطرب المزاج، الواهي التركيب، أتى عليه، وزاده بلاء وربما أهلكه وقتله. وكذلك هذه الكتب إذا تناولها ذو العقل الذكي والفهم القوي لم يعدم أين تقلب وكيف تصرف منها نفعاً جليلاً وهدياً منيراً وبياناً لائحاً ونجحاً في كل علم تناوله وخيراً في دينه ودنياه، وإن أخذها ذو العقل السخيف أبطلته أو ذو الفهم الكليل بلدته وحيرته؛ فليتناول كل امرئِ حسب طاقته. وما توفيقنا إلا بالله عز وجل. ولا ينذعر قارئ كتابنا هذا من هذا الفصل، فيكع راجعاً، ويجفل هارباً،

_ (1) م: أذى. (2) البيت في ديوانه: 256 (شرح محيي الدين الخياط) ، وقوله: الطائي في وصفهم: سقط من م. (3) س: ويجزي. (4) م: لمقتبسيه. (5) عليه: سقطت من م. (6) وطمس: سقطت من س.

ويرجع من هذه الثنية ثانياً من عنانه، فإنا نقول قولاً ينصره البرهان، ونقضي قضيةً يعضدها العيان: إن أقواماً ضعفت عقوهم عن فهم القرآن فتناولوه بأهواء جائرة، وأفكار مشغولة، وأفهام مشوبة فما لبثوا أن عاجوا عن الطريقة، وحادوا عن الحقيقة: فمن مستحل دم (1) الأمة، ومن نازع إلى بعض فجاج الكفر، ومن قائل على الله عز وجل ما لم يقل. وقد ذكر الله عز وجل وحيه وكلامه فقال: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً، وما يضل به إلا الفاسقين} (البقرة: 26) وهكذا كل من تناول شيئاً على غير وجهه، أو وهو غير مطيقٍ له، وبالله تعالى نستعين. وليعلم من قرأ كتابنا هذا أن منفعة هذه الكتب ليست في علم واحدٍ فقط بل في كل علم، فمنفعتها في كتاب الله عز وجل، وحديث نبيه، صلى الله عليه وسلم وفي الفتيا في الحلالوالحرام، والواجب والمباح، من (2) أعظم منفعة. وجملة ذلك في فهم الأسماء (3) التي نص الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وسلم، عليها وما تحتوي عليه (4) من المعاني التي تقع عليها الأحكام وما يخرج عنها من المسميات، وانقسامها (5) تحت الأحكام على حسب ذلك والألفاظ التي تختلف عباراتها وتتفق معانيها. ولعلم العالمون أن من لم يفهم هذا القدر فقد بعد عن الفهم عن ربه تعالى وعن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجز له أن يفتي بين اثنين لجهله بحدود الكلام، وبناء بعضه على بعض، وتقديم المقدمات، وإنتاجها النتائج التي يقوم بها البرهان وتصديق أبداً، ويميزها من المقدمات التي تصدق مرة وتكذب أخرى ولا ينبغي أن يعتبر بها. وأما علم النظر في الآراء والديانات والأهواء والمقالات فلا غنى بصاحبه عن الوقوف على معاني هذه الكتب لما سنبينه في أبوابه إن شاء الله تعالى. وجملة ذلك معرفة ما يقوم بنفسه مما لا يقوم بنفسه، والحامل والمحمول، ووجوه الحمل والشغب

_ (1) م: دماء. (2) من: سقطتن من م. (3) س: الأشياء. (4) س: عليها. (5) س: وانتسابها.

والبرهان والإقناع (1) ، وغير ذلك. وأما علم النحو واللغة والخبر وتمييز حقه من باطله والشعر والبلاغة والعروض [5 ظ] في جميع ذلك تصرف شديد وولوج لطيف وتكرر كثير ونفع ظاهر. وأما الطب والهندسة والنجوم فلا غنى لأهلها (2) عنها أيضاً لتحقيق الأقسام والخلاص من بلية (3) الأسماء المشتركة وغير ذلك، مما ليس كتابنا هذا مكاناً لذكره. وهذه جمل يستبينها من قرأ هذه الكتب وتمهر فيها وتمرن بها ثم نظر في شيء من العلوم التي ذكرنا وجد ما قلنا حقاً، ولاحت له أعلامها في فجاجها وأغماضها تبدي له كل ما اختفى وبالله تعالى التوفيق. وكتابنا هذا واقع من الأنواع التي لا يؤلف أهل العلم وذوو التمييز الصحيح إلا فيها تحت النوع الرابع منها، وهو شرح المستغلق، وهو المرتبة الرابعة من مراتب الشرف في التواليف. ولن نعدم، إن شاء الله، أن يكون فيه (4) بيان تصحيح رأى فاسد يوشك أن يغلط فيه كثير من الناس وتنبيه على أمر غامض، واختصار لما ليست بطالب الحقائق إليه ضرورة، وجمع أشياء مفترقة (5) مع الاستيعاب لكل ما بطالب البرهان إليه أقل حاجة، وترك حذف شيءٍ من ذلك البتة. والأنواع التي ذكرنا سبعة لا ثامن لها: وهي إما شيء لم يسبق إلى استخراجه فيستخرجه؛ وإما شيء ناقص فيتممه؛ وإما شيء مخطأ فيصححه؛ وإما شيء مستغلق فيشرحه؛ وإما شيء طويل فيختصره؛ دون أن يحذف منه شيئاً يخل حذفه إياه بغرضه؛ وإما شيء مفترق فيجمعه؛ وإما شيء منثور فيرتبه. ثم المؤلفون يتفاضلون فيما عانوه من تواليفهم مما (6) ذكرنا على قدر استيعابهم ما قصدوا، أو تقصير (7) بعضهم عن بعض، ولكل قسط من الإحسان

_ (1) س: والشغب والإتباع. (2) م: بأهلها. (3) س: من الثلاثة. (4) س: فيها. (5) م: متفرقة. (6) م: في ما. (7) س: يقتصر.

[المدخل إلى المنطق أو إيساغوجي]

والفضل والشكر والأجر، وإن (1) لم يتكلم إلا في مسألة واحدة إذا لم يخرج عن الأنواع التي ذكرنا في أي علم ألف. وأما من أخذ تأليف فأعاده (2) على وجهه أو قدم وأخر، دون تحسين رتبةٍ، أو بدل ألفاظه دون أن يأتي بأبسط منها وأبين، أو حذف مما (3) يحتاج إليه، أو أتى بما لا يحتاج إليه، أو نقض صواباً بخطأ، أو أتى بما لا فائدة فيه، فإنما هذه أفعال أهل الجهل والغفلة، أو أهل القحة والسخف، نعوذ (4) بالله من ذلك. [المدخل إلى المنطق أو إيساغوجي] وهذا حين نبدأ، إن شاء الله عز وجل بحوله وقوته، فيما له قصدنا فنشرع في بيان المدخل إلى الكتب الكذورة، وهو المسمى باللغة اليونانية إيساغوجي. معنى إيساغوجي في اللغة اليونانية " المدخل " (5) وهو خاصة من تأليف فرفوريوس الصوري (6) . والكتب التي بعده من تأليف أرسطاطاليس معلم الإسكندر ومدبر مملكته، وبالله تعالى التوفيق، وبه نعتصم ونتأيد، لا إله إلا هو. 1 - الكلام في انقسام الأصوات المسموعة [6 و] جميع الأصوات الظاهرة من المصوتين فإنها تنقسم قسمين: إما أن تدل على معنى، وإما أن لا تدل على معنى. فالذي لا يدل على معنى لا وجه للاشتغال به لأنه لا يحصل لنا منه فائدة نفهمها؛ وطلب ما هذه صفته عناء ليس من أفعال أهل العقول. وهذا مثل كل صوت سمعته لم تدر ما هو؛ ويدخل في هذا أيضاً الكلام الظاهر من المبرسمين

_ (1) م: ولو. (2) م: فادعاه. (3) م: ما. (4) ي: فنعود. (5) معنى.... المدخل: سقط من م. (6) فرفوريوس الصوري: ظهر بعد جالينوس وشهر بشرح كتب أرسطاطاليس (انظر الفهرست: 313 والقفطي: 256) .

والمجانين (1) ومن جرى مجراهم (2) . فإن قال قائل: " فإن هذا الكلام الذي ذكرت يدل على أن قائله لا يعقل أو أنه مريض "؛ قيل له وبالله تعالى التوفيق، إنه لم يدلك على ذلك (3) بمعناه، لكن لما فارق كلام أهل التمييز كان كالدليل على آفة بصاحبه. وأيضاً فقد يظهر مثل هذا الكلام من حاكٍ (4) أو مجان، فلا يدل على أن صاحبه لا يعقل. فليس ما اعترض به هذا المعترض حقاً. وهذا العلم إنما قصد به ما يكون حقاص، وتخليصه مما قد يكون حقاً وقد لا يكون. ثم نرجع فنقول: إن الصوت الذي يدل على معنى ينقسم قسمين: إما أن يدل بالطبع وإما أن يدل بالقصد. فالذي يدل بالطبع هو كصوت الديك الذي يدل في الأغلب على السحر، وكأصوات الطير الدالة على نحو ذلك، وكأصوات البلارج والبرك (5) والاوز والكلاب بالليل الدالة في الأغلب على أنها رأت شخصاً، وكأصوات السناير في دعائها أولادها وسؤالها وعند طلبها (6) السفاد وعند التضارب، وكل صوت دلك بطبعه على مصوته كالهدم ونقر النحاس وما أشبه ذلك من أصوات الحيوان غير الإنسان. فهذه إنما تدل على كل ما ذكرنا بالعادة المعهودة منا (7) في مشاهدة تلك الأصوات، لا أنا نفهمها كفهمنا ما نتخاطب به فيما بيننا باللغات المتفق عليها بين الأمم التي نتصرف بها في جميع مراداتنا. فهذه الأصوات التي ذكرناها (8) لم نقصدها في كتابنا هذا إذ ليس يستفاد منها توقيف على علم ولا تعليم صناعة ولا إفادة خبر وقع. وأما الصوت (9) الذي يدل بالقصد فهو الكلام الذي يتخاطب الناس به فيما

_ (1) م: من المجانين والمبرسمين. (2) س: مجراهما. (3) س: إنه يدلك ذلك. (4) م: حاكي. (5) في م س: البلوج، والبلارج: طائر كبير طويل المنقار، والبرك: جمع بركة وهو طائر من طيور الماء أبيض، والبرك أيضاً الضفادع. (6) م: سؤالها ودعاء أولادها وعند طلب. (7) س: مما. (8) م: ذكرنا. (9) الصوت: سقطت من م.

بينهم ويتراسلون بالخطوط المعبرة عنه في كتبهم لإيصال ما استقر في نفوسهم من عند بعضهم إلى بعض، وهذه هي التي عبر عنها الفيلسوف بأن سماها " الأصوات المنطقية الدالة ". فإن شغب مشغب بما يظهر من بعض الحيوان غير الناطق من كلام مفهوم كالذي يعلمه الزرزور والببغاء والعقعق من حكاية كلام يدرب عليه (1) قائم المعنى، فليس ذلك كلاماً صحيحاً ولا مقصوداً به إفهام معنى ولا يعدو ما علم (2) ولا يضعه موضعه، ولكن يكرره كما يكرر سائر تغريده كما عوده (3) . وكثير من الحيوان في طبيعته أن يصوت بحروف ما على رتبة ما، وذلك كله بخلاف كلام الإنسان [6 ظ] الذي يعبر به عن أنواع العلوم والصناعات والأخبار وجميع المرادات. ثم نرجع فنقول: إن هذا القسم الذي ذكرنا أنه يدل بالقصد ينقسم قسمين: إما أن يدل على شخص واحد وإما أن يدل على أكثر من شخص واحد. فأما الذي يدل على شخص واحد فهو كقولنا: زيد وعمرو وأمير المؤمنين والوزير وهذا الفرس وحمار خالد وما أشبه ذلك. فهذه إنما تعطينا إذا سمعنا الناطق ينطق بها الشخص الذي أراد الناطق وحده، لسنا نستفيد منه أكثر من ذلك. وليس هذا الذي قصدنا الكلام عليه لأن هذه الأسماء لا يضبط حدها من اسمها لفرق نذكره بعد هذا، إن شاء الله عز وجل. واعلم قبل أن كل جزء مجتمع في العالم توجد في العالم أجزاء مثله كثيرة، إلا أن بعضها منحاز عن بعض فإنا نسميه شخصاً بالاتفاق منا كالرجل الواحد، والكلب (4) الواحد، والجبل الواحد، والحجر الواحد، وبياض الثوب (5) الواحد، والحركة الواحدة وسائر كل ما انفرد عن غيره. فإذا سمعتنا نذكر الشخص أو الأشخاص فهذا نريد. وأما القسم الثاني: وهو الذي يدل على أكثر من واحد فهو كقولنا: الناس والخيل والحمير والثياب والألوان وما أشبه ذلك. فإن كل لفظة مما ذكرنا تدل إذا قلناها على

_ (1) س: يدري فيه. (2) س: ولا يعد مما علم. (3) م: عود. (4) م: كالكلب.... والرجل. (5) في هامش س: " اللون " بدلاً من الثوب في خ.

أشخاص كثيرة العدد جداً. وقد يقوم مقام هذه الألفاظ أيضاً في اللغة العربية أسماء تقع على الجماعة كما ذكرنا، وتقع أيضاً على الواحد، إلا أن حال المتكلم تبين عن مراده بها كقولك: " الإنسان " فإن هذه لفظة تدل على النوع كله، كقول الله عز وجل: {إن الإنسان لفي خسر} (العصر: 2) فإنما عنى جماعة ولد آدم وتقع أيضاً هذه اللفظة على واحد فتقول: أتاني الإنسان الذي تعرف، وأنت تريد غلامه أو زوجته أو واحداً من الناس بعينه. وكذلك أيضاً في جميع الأنواع فتقول " الفرس " ألا ترى أنك تقول: الفرس صهال، وتقول " الفرس " لفرس واحد بعينه معهود، فإذا أردت رفع الإشكال أتيت بلفظ الجمع الموضوع له خاصةً فقلت: الخيل أو الناس وما أشبه ذلك. فهذا القسم هو الذي قصدنا بالكلام عليه، ولوقوعه على جماعة احتجنا إلى البيان عنه وعليه تكلمنا لا على غيره من الأقسام التي ذكرنا قبل، لفرط الحاجة إلى أن نحد كل شخص واقع تحت هذه اللفظة بصفات توجد في جميعها، ولا توجد في سائر الأشخاص التي لا تقع عليها هذه اللفظة، تميزه مما سواه، فإنك تقدر أن تأتي بصفات توجد في كل ما يسمى جملاً لا يخلو منها جمل أصلاً ولا توجد البتة [7 و] فيما لا يسمى جملاً، ولست تقدر على أن تأتي بصفات توجد في كل ما يسمى زيداً ولا يخلو زيد منها أصلاً ولا توجد البتة (1) فيمن لا يسمى زيداً. فهذا هو الفرق الذي وعدنا بذكره آنفاً ودعت (2) الضرورة أيضاً إلى طلب هذه الفروق لاختلاف الأسماء في اللغات العربية والعجمية (3) فاحتجنا إلى تقرير الصفات التي تتميز بها المسميات إذ المعاني في جميع اللغات واحدة لا تختلف وإنما تختلف الأسماء فقط. وأيضاً فإن اللغة إما أن تضيق عن أن توقع على كل نوع اسماً تفرده (4) به. وإما أنه لم يتهيأ ذلك للناس بالاتفاق أو لما الله عز وجل أعلم به (5) . وأكثر ذلك

_ (1) فيمن لا يسمى جملاً.... البتة: سقط من س. (2) م: ودفعت. (3) م: والأعجمية. (4) س: تفرده (دون إعجام التاء) (5) م: به أعلم.

في الكيفيات فإنك تجد صفرة النرجس صفرة، وصفرة المشمش صفرة، وصفرة الخيري صفرة، وصفرة الذهب صفرة، وهذه كلها ظاهرة التباين للعين وليس لكل واحد منها اسم يخصه يبين به مرادنا منها. وكذلك أيضاً كثير من أنواع الحيوان كالمتولد في مناقع المياه وعفن الرطوبات من أنواع الحشرات التي لا نعلم لها أسماء تخصها والاختلاف بين صفاتها مرئي معلوم، فلا بد من طلب صفات مفرقة يقع بها البيان لما نريده منها، إن شاء الله عز وجل، لا إله إلا هو (1) . 2 - باب الكلام على الأسماء التي تقع على جماعة أشخاص ثم (2) نظرنا إلى هذا القسم الذي قصدنا الكلام عليه فوجدناه ينقسم (3) قسمين: أحدهما دال على جماعة أشخاص (4) دلالةً لا تفارقها البتة، ولا ترتفع عنها إلا يفسادها، وهذا القسم سماه الفيلسوف " ذاتياً " وشبهه بجزء من أجزاء ما هو فيه للزومه إياه، ونحن نقول إنه الزم لما هو فيه من الجزء لسائر أجزائه. فإن الجزء قد يذهب وتبقى سائر الأجزاء بحسبها كيد الإنسان فإنها تقطع ويبقى إنساناً بحسبه. وهذا اللفظ إن ذهبت الصفات التي من أجلها استحق الشيء المسمى أن يسمى بهذا الاسم بطل المسمى به جملة على ما نبينه بعد هذا، إن شاء الله عز وجل. والقسم الثاني دال على جماعة أشخاص دلالة قد تفارق ما هي فيه أو تتوهم مفارقتها له ولا يفسد بمفارقتها إياه. وهذا القسم سماه الفيلسوف " غيرياً " للدليل الذي ذكرنا فيه. ثم نظرنا إلى القسم الأول الذي قلنا إنه يسمى ذاتياً فوجدناه ينقسم ثلاثة أقسام: إما أن يكون لفظ يسمى به أشخاص كثيرة مختلفة بأشخاصها وبأنواعها، ويجاب بذلك من سأل فقال: " ما هذا الشيء " فاتفقنا على أن سمنا هذا اللفظ " جنساً "؛ وإما أن يكون لفظ تسمى به أشخاص كثيرة مختلفة بأشخاصها لا

_ (1) لا إله إلا هو: لم يرد في م. (2) س: قد. (3) ينقسم: سقطت من س. (4) س: الأشخاص.

بأنواعها، ويجاب بذلك من سأل فقال: " ما هذا من الجملة التي سميت " فاتفقنا على أن سمينا هذا اللفظ " نوعاً "؛ وإما أن يكون لفظ يسمى به أشخاص كثيرة مختلفة بأنواعها وأشخاصها إلا أنه يجاب به من سأل فقال: " أي شيء هذا من الجملة التي سميت " [7 ظ] فاتفقنا على أن سمينا هذا " فصلاً ". وتفسير هذه المعاني يأتي بعد هذا، إن شاء الله عز وجل. فهذه الثلاثة الأقسام هي ذاتيات كما قدمنا. وبيان ذلك أن تقول: ما هذا الشيء (1) فيقال لك جسم؛ فتقول: أي الأجسام هو فيقال لك: النامي (2) ؛ فتقول أي النماة هو فيقال لك: ذو السعف والخوص والورق والجريد المستطيل (3) والثمرة التي تسمى تمراً. فالجسم: جنس، والنامي: نوع، وقولك: ذو السعف والخوص والجريد: فصل؛ وأنت أسقطت الصفات التي ذكرنا، التي من أجلها استحقت تلك الأشخاص أن تسمى بالأسماء التي ذكرنا، وتوهمت معانيها معدومة، سقطت عنها تلك الأسماء البتة، فلهذا سميت ذاتية. ثم نظرنا إلى القسم الثاني الذي ذكرنا أنه يسمى غيرياً (4) فوجدناه ينقسم قسمين: إما لفظ يدل على كثيرين (5) مختلفين بأنواعهم في جواب " أي " فيكون ذلك (6) " عرضاً عاماً " وإما لفظ يدل على كثيرين مختلفين بأشخاصهم (7) في جواب " أي " فيكون ذلك " عرضاً خاصاً ". واعلم أن اللغة العربية لم تمكن العبارة فيها بأكثر مما ترى. على أن السؤال ب " ما " والسؤال ب " أي " قد يستويان (8) في اللغة العربية وينوب كل واحد من هذين اللفظين

_ (1) س: ما هذا. (2) م: نامي. (3) والورق والجريد المستطيل: والعراجين في م. (4) في هامش س: صوابه " عرضياً ". (5) م: كثير. (6) ذلك: سقطت من س. (7) في جواب أي: سقط من م. (8) م: يستوي.

عن صاحبه ويقعان بمعنى واحد، ومن أحكم اللغة اللطينية عرف الفرق بين المعنين اللذين قصدنا في الاستفهام، فإن لفظ الاستفهام فيها عن العام غير لفظ الاستفهام عن أبعاض ذلك العام ببيان لا يخيل على سامعه أصلاً. 3 - باب الكلام في تفسير ألفاظ اندرجت لنا في الباب الذي قبل هذا الذي نبدأ به ذكرنا في الباب الذي قبل هذا أشياء تختلف بأنواعها وأشخاصها، وأشياء تختلف بأشخاصها فقط دون أنواعها، ومثال ذلك أننا نقول في الذاتية: حيوان، فيدلنا على الإنسان والفرس وغير ذلك. وهذه أشياء تختلف بالأنواع والأشخاص معاً، فإن الإنسان يخالف الفرس بشخصه في أنه غيره، ويخالفه أيضاً بصفات شخصه؛ ونقول: فرس زيد، وفرس عمرو (1) فهذان إنما يختلفان بالشخص فقط، أي أن هذا غير هذا، وإلا فهذا فرس وهذا فرس، وهما متفقان في الصفات التي بها استحق كل واحد منهما أن يسمى فرساً؛ وكذلك الدينار والدينار، والدرهم (2) والدرهم، وهكذا سائر الأشياء. وكذلك نقول في الغيرية: أبيض وأبيض ونعني الإنسان أبيض (3) ، والثوب أبيض، والحائط أبيض، وهذه كلها مختلفة بأنواعها (4) وأشخاص في أن كل واحد منها غير الآخر. وتختلف أيضاً بصفاتها في أن (5) أحدها لحم ودم والثاني كتان محوك والثالث [8 و] تراب وماء وجص. ونقول ضحاك وضحاك فإنما يختلفان بالشخص في أن هذا غير هذا. وأما سائر الصفات التي بها استحقا اسم الإنسانية فهما فيهما متفقان، فهذه جملة كافية تفرح أكثر الغم في الجهل بالمراد بهذا اللفظ الذي تقدم قبل؛ وبقي تفسير كثير يأتي بعد هذا، إن شاء الله تعالى. 4 - باب الكلام في الحد والرسم وجمل الموجودات وتفسير الوضع والحمل هذا باب ينبغي ضبطه جداً كالمفتاح لما يأتي بعد هذا إن شاء الله عز وجل.

_ (1) م: خالد.... زيد. (2) م: والدينار. (3) م: الأبيض (وكذلك فيما يلي) . (4) بأنواعها: سقطت من م. (5) في أن: فإن م.

اعلم أنه لا موجود أصلاً ولا حقيقة البتة إلا الخالق وخلقه فقط، ولا سبيل إلى ثالث أصلاً. فالخالق واحد أول لم يزل. وأما الخلق فكثير. ثم نقول: أما الخلق فينقسم قسمين لا ثالث لهما أصلاً: شيء يقوم بنفسه ويحمل غيره، فاتفقنا على أن سميناه " جوهراً " (1) ؛ وشيء لا يقوم بنفسه ولا بد من أن يحمله غيره فاتفقنا على أن سميناه " عرضاً ". فالجوهر هو جرم الحجر والحائط والعود وكل جرم في العالم. والعرض هو طوله وعرضه ولونه وحركته وشكله وسائر صفاته التي هي محمولة في الجرم. فإنك ترى البلحة (2) خضراء ثم تصير حمراء ثم تصير صفراء والحمرة غير الخضرة وغير الصفرة، والعين التي تتصرف عليها (3) هذه الألوان واحدة تنتقل فتصير جسماً آخر. وكذلك ترى الذهب زبرة، ثم يصير سبيكة ثم يصير ديناراً منقوشاً والجسم في كل ذلك هو نفسه. وكذلك ترى الإنسان مضطجعاً ثم راكعاً ثم (4) قائماً ثم قاعداً وهو في كل ذلك واحد لم يتبدل، وأعراضه متبدلة متغايرة، تذهب (5) وتحدث. ولا بد لكل ما ذكرنا من قسمي الخلق من صفات محمولة فيه أو معنى يوجد له يمتاز بذلك مما سواه ويجب من أجله الفرق بين الأسماء. وأما الخالق عز وجل، فليس حاملاً ولا محمولاً بوجه من الوجوه وقد أحكمنا هذا المعنى في مكان غير هذا، والحمد لله رب العالمين على توفيقه إيانا. ثم نرجع فنقول: إن الصفات أو المعاني التي ذكرنا أنه لا بد لكل ما دون الخالق تعالى منها، فإنها تنقسم قسمين: إما دالة على طبيعة ما هي فيه مميزة له مما سواه، فاتفقنا على أن سميناها (6) " حداً "؛ وإما مميزة له مما سواه وهي غير دالة على طبيعة، فاتفقنا على أن سميناها " رسماً ". ونقول: إن المحارجة (7) في الأسماء لا معنى لهان وإنما

_ (1) إزاء كلمة " جوهر " وكلمة " عرض " في هامش س تعريف لهما. قال كاتبه: " وما في باطن الكتاب من كلام الشيخ على الجوهر والعرض قد خالف فيه كافة المحققين ". (2) كلمة البلحة كتبت فوق كلمة " النخلة " في س. (3) س: عليه. (4) ثم: سقطت من س. (5) قبل كلمة " تذهب " في س وقعت لفظة " فصفة ". (6) م: سمينا هذا. (7) س: المحارحة؛ م: المخارجة.

يشتغل بذلك أهل الهذر والنوك والجهل؛ وإنما غرضنا منها الفرق بين المسميات، وما يقع به إفهام بعضنا بعضاً فقط. فقد أرسل الله تعالى رسلاً بلغات شتى، والمراد بها معنى واحد، [8 ظ] فصح أن الغرض إنما هو التفاهم فقط، ولا بد لكل ما دون الخالق تعالى من أن يكون مرسوماً ومحدوداً (1) ضرورة، لأنه لا بد أن يوجد له معنى يميز به طبعه مما سواه، عرضاً كان أو جوهراً (2) . وقد سمى المتقدمون الاسم في هذا المكان " موضوعاً "، فإذا سمعتهم يقولون " الموضوع " فإنما يعنون الاسم المراد بيانه بالرسم أو بالحد، فكل محدود مرسوم وليس كل مرسوم محدوداً، لأن كل حد فهو تمييز للمحدود مما سواه، وكل رسم فهو تمييز للمرسوم (3) مما سواه؛ فكل حد رسم وبعض الرسم حد، وليس كل رسم لطبيعة المرسوم ولا مبيناً لها (4) ، وكل حد فهو مميز لطبيعة المحدود ومبين لها (5) ، فليس كل رسم حداً فالرسم أعم من الحد. فالرسم المطلق الكلي (6) ينقسم قسمين: قسم يميز طبيعة المرسوم فهو رسم وحد، وقسم لا يميزها فهو رسم لا حد. وعبر الأوائل عن الحد بأنه: " قول وجيز دال على طبيعة الموضوع مميز له من غيره "، وعبرت عن الرسم بأنه: " قول وجيز مميز للموضوع من غيره ". والحد محمول في المحدود والرسم محمول في المرسوم، لأن كل واحد منهما صفات ما هو فيه. فإذا كان التمييز مأخوذاً من جنس الشيء المراد تمييزه ومن فصوله كان حداً ورسماً، وإذا كان مأخوذاً من خواصه وأعراضه كان رسماً لا حداً. قال أبو محمد (7) : هذه عبارة المترجمين وفيها تخليط لأنهم قطعوا على أن الرسم ليس مأخوذاً من الأجناس والفصول، وأنه إنما هو مأخوذ من الأعراض [والخواص] . ثم لم يلبثوا أن تناقضوا فقالوا: إن كل حد رسم، فأجبوا أن الحد مأخوذ من الأعراض وأن بعض الرسم مأخوذ من الفصول، وهذا ضد ما قالوه قبل. وأيضاً فإنهم قالوا: إن

_ (1) س: ومحدوده. (2) لأنه لا بد.... جوهراً: سقط في م. (3) س: المرسوم. (4) لها: سقطت من م. (5) س: ومميز. (6) المطلق الكلي: سقط من س. (7) س: قال الشيخ؛ وهذه الفقرة متقدمة عن موضعها في س.

الرسم غير الحد، ثم قطعوا أن الحد هو بعض الرسم، وهذا [تناقض] كما ترى. لكن الصواب أن نقول: إن كل مميز شيئاً عن شيء فهو إما أن يميزه بتمييز يؤخذ من فصول ومن أجناس، فيكون حداً منبئاً عن طبيعة الشيء، مميزاً له مما سواه أو يميزه بتمييز يؤخذ من أعراض وخواصه، فيكون مميزاً للشيء مما سواه فقط، غير منبئ عن طبيعته، فيكون التمييز رأساً جامعاً، ينقسم إلى نوعين: إما حد وإما رسم. وهذا فإنما هو بيان لمعنى لفظة الحد ولفظة الرسم فقط، لا أن الحد يحتاج إلى حد، ولو كان ذلك لوجب وجود محدودات لا نهاية لها، وهذا محال ممتنع باطل. وإنما يشغب علينا في هذا المكان أحد رجلين: إما مشغب لا يستحيي من إنكار ما يعلم [9 و] صحته فيسعى في إبطال الحدود عن المحدودات، وإما ملحد ساع في إثبات أزلية العالم، وكل لا يعبأ به، لأنه دافع مشاهدة، ولله الحمد. وقد بينا أن الحد إنما هو صفات ما متيقنه في أشياء ومتيقن عدمها في أشياء أخر، فتصف كلاً بما فيه. فمن أنكر هذا فقد أنكر الحس والعيان وخرج من حد من يشتغل به. فالحد هو نحو (1) قولنا في الإنسان: إنه الجسد القابل للون، ذو النفس الناطقة الحية الميتة. فإن الحي جنس للنفس، أي نفس كانت؛ وسائر ما ذكرنا فصول لها من سائر النفوس الحيوانية. فهذا هو الحد كما ترى. والرسم مثل قولك (2) في الإنسان: إنه هو الضحاك أو الباكيز فهو كما ترى مميز للإنسان مما سواه، وليس منبئاً عن طبيعته التي هي قبول الحياة والموت. والحد مبين ذلك. وحكم الحد أن يكون مساوياً للمحدود. ومعنى ذلك أن يقتضي لفظه إذا ذكر، جميع المراد فلا يشذ عنه شيء مما أردت أن تحده، ولا يدخل فيه ما ليس منه. فإن زدت في الحد لفظاً، فإن كان الذي زدت لفظاً يقع على معاني أكثر من معاني المحدود أو مثلها، بقي المحدود بحسبه، كقولنا في حد نفس الإنسان: إنها حي ناطق ميت جوهر حساس ضحاك بكاء مشرق في جسد يقبل الألوان منتصب القامة ونحو هذا. فالمحدود حتى الآن صحيح

_ (1) نحو: سقطت من س. (2) س: قوله.

الرتبة لأن كل نفس لكل إنسان فهذه صفاتها. وإن كان الذي زدت لفظاً يقتضي معاني أقل من معاني المحدود، كان ذلك نقصاناً من المحدود، كقولك في نفس الإنسان: إنها حية ناطقة ميتة حائكة أو تقول: طبيبة أو كاتبة، فإن هذا إنما هو حد لبعض نفوس الناس لا لجميعها، إذ ليس كل إنسان كاتباً ولا طبيباً ولا حائكاً. وأما إذا أنقصت من الحد الذي لا فضلة فيه، نعنى لا زيادة فيه على مقدار الكفاية في الحد، فإنه زيادة في المحدود كقولك في نفس الإنسان: إنها حية ناطقة فإن الملك والجني يدخلان تحت هذا الحد. واتفق الأوائل على أن سموا المخبر عنه موضوعاً، وعلى أن سموا ذكرك لمن تريد أن تخبر عنه وضعاً، واتفقوا على أن سموا الخبر " محمولاً " وكون الصفة في الموصوف " حملاً "؛ فما كان ذاتياً من الصفات كما قدمنا قيل فيه: هذا " حمل جوهري "، وما كان غيريا قيل: هذا " حمل عرضي " وكل هذا اصطلاح على ألفاظٍ يسيرة ستجمع تحتها معاني كثيرة، ليقرب الإفهام. فإذا قلت: زيد منطلق، فزيد موضوع، ومنطلق (1) محمول على زيدٍ، أي هو وصف له. وهذا يسميه النحويون الابتداء والخبر إذا جاء على هذه الرتبة. فإذا سمعت الموضوع والمحمول فإنما تريد المخبر عنه والخبر عنه فاعلم، والله أعلم. 5 - باب الكلام على الجنس ذكر الأوائل قسماً في الجنس لا معنى له، وهو: كتميم لبني تميم، والبصرة لأهلها، والوزارة لكل وزير [9 ظ] ، والصناعة لأهلها، وهذا غير محصور ولا منضبط فلا وجه للاشتغال به. وإنما نقصد بكلامنا الجنس الذي ذكرنا أولاً وهو: اللفظ الجامع لنوعين من المخلوقات فصاعداً وليس يدل على شخص واحد بعينه كزيد وعمرو، ولا على جماعة مختلفين بأشخاصهم فقط كقولك (2) : الناس، أو كقولك (3) الإبل، أو كقولك الفيلة، لكن على جماعة تختلف بأشخاصهم

_ (1) س: منطلق. (2) س: كقوله. (3) س: كقوله.

وأنواعهم كقولك " الحي " الذي يدل على الخيل والناس والملائكة وكل حي. والجنس الذي نتكلم عليه ليس يقع على بعض ما يقتضيه الحد، لكن على كل ما يقع عليه الحد، والجنس لا يفارق ما تقع عليه التسمية به إلا بفساد المسمى واستحالته. وذلك مثل قولك " الجوهر " فإن هذه اللفظة يسمى بها كل قائم بنفسه حامل (1) لغيره، فلا يمكن أن يوجد شيء قائم بنفسه حامل لغيره لا يسمى جوهراً، ولا يمكن أن يوجد جوهر لا يكون قائماً بنفسه حاملاً لغيره. ولو أنك توهمت هذا الشيء غير قائم بنفسه، لبطل أن يسمى جوهراً. وأما البلدة فقد ينتقل عنها الإنسان إلى غيرها ويبقى إنساناً بحسبه. وكذلك الخطة والصناعة والتجارة. وأما بنو تميم فقد نجد ناساً كثيراً ليسوا من بني تميم، فليس شيء من هذه الوجوه جنساً. 6 - باب الكلام على النوع سمى الأوائل النوع في بعض المواضع اسماً آخر وهو " الصورة " وأرى هذا اتباعاً للغة يونان، فربما كان هذا الاسم عندهم، أعنى الذي يترجم عنه في اللغة العربية بالصورة، واقعاً على النوع المطلق، ولا معنى لأن نشتغل بهذا إذ لا (2) فائدة فيه. وإنما نقصد بالنوع إلى أن نسمي كل جماعة متفقة في حدها أو رسمها مختلفة بأشخاصها فقط، كقولك (3) : الملائكة والناس والجن (4) والنجوم والنخل والتفاح والخيل والجراد والسواد والبياض والقيام والقعود وما أشبه ذلك كله. والنوع واقع تحت الجنس لأنه بعضه. وقد يجمع الجنس أنواعاً كثيرة يقع اسمه نعني اسم الجنس على كل نوع منها، ويوجد حده في جميعها وتتباين هي تحته بصفات يختص بها كل نوع منها (5) دون الآخر. وذلك أنك تقول: حي فيقع تحت هذه التسمية الناس والخيل والبغال والأسد وسائر الحيوانات، فإذا حددت الحي فقلت: هو الحساس المتحرك بإرادة كان هذا الحد أيضاً جامعاً لكل ما ذكرنا وموجوداً في جميعها، وكان كل نوع مما

_ (1) س: حاملاً. (2) إذ لا: فلا في م. (3) م: كقولنا. (4) والجن: سقطت من م. (5) منها: سقطت من م.

ذكرنا يختص بصفة دون سائرها، كالنطق والصهيل والشحيج والزئير وغير ذلك. فالحي جنس وكل ما ذكرنا أنواع تحتهن أي أن الحي يجمعها، وهي أبعاضه، وهي مختلفة تحته كما قدمنا [10 و] . وها هنا رتبة عجيبة وهي أن المبدأ في التقسيم للعالم جنس لا يكون نوعاً البتة، كالجوهر فإنه يسمى به الحجارة والشجر والنبات والحيوان، كل ذلك أوله عن آخره جوهر، والجوهر مبدأ ليس فوقه جنس يقع تحت اسمه الجوهر وغير الجوهر. والوقف في تقسيم العالم نوع لا يكون جنساً البتة كالناس والخيل والنمور والياقوت والعنب وما أشبه ذلك؛ فإنه ليس تحت كل اسم من هذه الأسماء إلا أشخاصه فقط كزيد وعمرو وهند، وكل (1) فرس على حدته، وكل ياقوتة على حدتها، وكل عنبة على حدتها. ولا تغتر (2) بأن تكون أيضاً أوصاف تجمع بعض الناس دون بعض كالسود والبيض والفطس والطوال والقصار، وكذلك في كل نوع، فإنما هذه أصناف وأقسام. والطبيعة في كل واحد منهم واحدة، وحد كل واحد منهم واحد جامع لجميعهم، وليس كذلك حد الأنواع، بل لكل نوع حد على حدة لا يشاركه فيه نوع آخر البتة، وبين هذين الطرفين أشياء تكون نوعاً وجنساً كالنامي فإنه نوع للجوهر لأن من (3) الجوهر نامياً وغير نام، والنامي أيضاً جنس لذي النفس الحية الميتة، ولغير ذي النفس، لأن الشجر والنبات وجسم الإنسان وسائر الحيوان القابل للموت نوام (4) كلها، واسم النامي يقع على جميعها ويعمها. واتفق الأوائل على أن سموا الجنس الأول جنس الأجناس نعني الذي لا جنس فوقه، وهو الذي لا يكون نوعاً أصلاً. واتفقوا على أن سموا النوع الآخر نوع الأنواع، وهو الذي قلنا إن فيه الوقف وإنه لا يكون جنساً البتة، وإنه لا نوع تحته، وليس تحته شيء غير أشخاصه فقط. وهذا النوع هو الذي يعبر عنه بأنه يلي الأشخاص. وأما سائر الأنواع التي ذكرنا أنها بين الطرفين وأنها أنواع وأجناس فإنها ليست تلي

_ (1) م: وككل. (2) تغتر: غير معجمة في م؛ س: صورة قد تقرأ، يعتبر. (3) من: سقطت من س. (4) س: نوامي.

الأشخاص في الرتبة، لأن بينها وبين الأشخاص أنواعاً أخر، كقولك: " الناس " فإن هذه اللفظة بين قولك " الحي " وبين: زيد وعمرو. فاستبان ولله الحمد أن الجنس ينقسم قسمين: جنس لا يكون نوعاً البتة (1) وهو المبدأ أعني الجوهر (2) ، وجنس قد يكون نوعاً؛ واستبان (3) أن النوع ينقسم قسمين: نوع لا يكون جنساً وهو الذي فيه الوقف في القسمة، كأشخاص الناس أو الخيل (4) ، ونوع قد يكون جنساً وهو (5) في الحقيقة (6) ثلاثة أقسام: القسم الواحد جنس محض، والقسم الثاني نوع محض، والقسم الثالث جنس من وجه ونوع من وجه آخر، فهو جنس لما تحته لأنه عام له، ونوع لما فوقه لأنه معموم به. وقد عبر بعضهم بأن قال إنما هو (7) نوع لما تحته أي جامع له، ولم يعبر أحد بأن يقول إنه جنس [10ظ] لما فوقه. وإنما ذكرت لك هذا لئلا تراه فيشكل عليك. والصواب ما ذكرنا أولاً من أنه نوع لما فوقه من الأجناس، وجنس لما تحته من الأنواع، لأنك إذا أضفته إلى ما فوقه فالأحسن أن تسميه باسم غير الذي تسميه به إذا أضفته إلى ما تحته، ليلوح الفرق بين اختلاف إضافيته. وأما نوع الأنواع الذي ذكرنا فلا يجوز أن نسميه جنساً أصلاً لأن الجنس إنما يسمى به ما يجمع نوعين فصاعداً لا الذي يلي الأشخاص فقط. 7 - باب جامع للكلام في الأجناس والأنواع معاً أجناس الأجناس التي لا تكون نوعاً أصلاً وهي أوائل في قسمة العالم: ذكر المتقدمون أنها عشرة ثم حققوا فقالوا: إن الأصول منها أربعة، فالعشرة هي: الجوهر، والكم، والكيف، والإضافة، والمتى، والأين، والنصبة، والملك، والفاعل والمنفعل. والأربعة التي حققوا أنها رؤؤس المباديء وأوائل القسمة: الجوهر

_ (1) البتة: سقطت من س. (2) أعني الجوهر، لم ترد في م. (3) س: فاستبان. (4) كأشخاص ... الخيل: سقط من م. (5) س م: وهي. (6) الحقيقة: سقطت من س. (7) إنما هو: إنه في م.

والكم والكيف والإضافة. وأما الست البواقي فمركبات من الأربع المذكورة، أي من ضم بعضها إلى بعض على ما يقع في أبوابها، إن شاء الله عز وجل. واعلم أن الجوهر وحده من جملة الأسماء التي ذكرنا - قائم بنفسه وحامل لسائرها، والتسعة الباقية (1) محمولات في الجوهر وأعراض له وغير قائمات بأنفسها. فإن قال قائل: هلا جعلت شيئاً أو موجوداً أو مثبتاً أو حقاً، جنساً جامعاً لهذه الأسماء العشرة، لأن جميعها موجود ومثبت وحق وشيء، قيل له وبالله تعالى التوفيق: قد قدمنا أن الجنس منه يؤخذ (2) حد كل ما تحته وأن الحد ينبئ (3) عن طبيعة المحدود، فوجب أن الجنس فيه إنباء عن طبيعة كل ما تحته. والطبيعة هي قوة في الشيء توجد (4) بها كيفياته على ما هي عليه. فما لم يكن منبئاً عن طبيعة ما تحت اسمه فليس جنساً. فلما كانت لفظة شيء وموجود ومثبت وحق (5) لا تنبيء عن طبيعة كل ماوقعت عليه، ولم يكن فيها أكثر من أنه ليس باطلاً ولا معدوماً فقط، وجب أن لا يكون شيء من هذه الألفاظ جنساً لما سمي به. وأما لفظة معلوم فقد تقع على الموجود والمعدوم والحق والباطل لأن الباطل معلوم أنه باطل، والمعدوم معلوم أنه معدوم، فليس أيضاً جنساً لما قدمنا، ولأنه كان يجب أن يكون الباطل والحق تحت جنس واحد وهذا محال شنيع. وأيضاً فإن وجودنا بعض هذه الرؤوس مخالف لوجودنا سائرها [11و] فبعضها تجدها النفس بالحواس الأربع المؤديات (6) لصفات محسوساتها إلى النفس الحساسة، غير قائمة بأنفسها، وبعضها تجدها النفس بمجرد العقل، غير قائمة بأنفسها، كوجود (7) العدد والزمان والإضافة، وبعضها تجدها النفس بتوسط العقل والحواس معاً قائماً بنفسه كالجوهر، وقد تجد النفس أيضاً بمجرد العقل وبتدرج من

_ (1) م: والتسع البواقي. (2) م: يؤخذ منه. (3) م: متنبئ. (4) س: يوجد؛ م: تجري. (5) م: وحق مثبت. (6) س: الأربعة؛ م: المؤدية. (7) م: كوجودنا.

وجودها هذه العشرة (1) موجوداً حقاً غير موصوف بشيء من صفات هذه العشرة (2) وهو الأول الواحد الخالق الذي لم يزل لا إله إلا هو. وكل ما يقع تحت جنس واحد فلا يكون وجوده إلا على صفة واحدة جامعة لجميعه، أي بحد واحد جامع لكل ما تحت الجنس، أو بخاصة واحدة جامعة لكل ما تحت الجنس، على ما نبين في باب كل رأس من العشرة المذكورة، وخواص الرؤوس المحققة من هذه العشر مختلفة فوجب أن لا تكون كلها تحت جنس واحد، فوجب أن لا يكون موجود جنساً لهذه العشرة البتة. والقول في مثبت كالقول في موجود ولا فرق. وأما لفظة حق وشيء فبعض هذه العشرة إنما هو حق بنفسه، وهو الجوهر، وكذلك هو أيضاً شيء بنفسه، وسائرها إنما هي حق بغيرها وشيء بغيرها (3) ، لأنها إنما تحققت بالجوهر، وبه صارت أشياء، ولولا الجوهر لم تكن حقاً ولا شيئاً. وكل ما يقع تحت جنس فطبيعته واحدة لا مختلفة، وهذه الأشياء طبائعها مختلفة كما ترى، فوجب أن لا يكون حق وشيء جنساً لها، إذ إنما يكون إيقاع (4) أسماء الأجناس على ما تحتها على حسب اتفاقها في طبائعها، واتفاقها في حدودها، واتفاقها في فصولها فيوجب ذلك اتفاق أسمائها، وبحسب اختلافها في الطبائع تختلف فصولها وحدودها فتختلف أسماء أجناسها لذلك. واعلم أن موجوداً وحقاً ومثبتاً وشيئاً (5) واقعة على كل ما تقع عليه وقوع الأسماء المشتركة، على ما نبين في باب وقوع الأسماء على المسميات. فإن قال قائل (6) : فهلا جعلتم قولكم " عرضاً " جنساً للتسع الباقية دون الجوهر قيل له، وبالله تعالى التوفيق: إن كون هذه التسع المسميات عرضاًكون مختلف، وحمل الجوهر لها حمل مختلف، لأن بعضها محمول في شخصه (7) وعرض فيه كالكيفيات، وبعضها

_ (1) زاد بهامش س: إلى معرفة ما هو. (2) س: العشر (كذلك في ما يلي) . (3) وشيء بغيرها: سقط من م. (4) إيقاع: سقطت من م. (5) وردت هذه الألفاظ مرفوعة في م، وهو صواب كذلك. (6) قائل: سقطت من م. (7) م: جرمه.

محمول في طبيعته وعرض فيها كالعدد والزمان، وبعضها عرض له من قبل غيره، ومحمول في طبيعته بطبيعة غيره، كالإضافة. وقد قدمنا أن الجنس منبئ عن طبيعة ما تحته، وهذه التي ذكرنا طبائعها في كونها عرضاً مختلفة ورسومها مختلفة فبطل أن يكون [11ظ] عرض جنساً لها، فمن نازعنا من أهل السخف والسفسطة وقال: أنا أريد أن أسمي جنساً كل اسم عبر به عن كثير وجماعة، ولا أبالي باتفاق طبائعها تحت ذلك الاسم أو باختلافها، قلنا له: لسنا ننازعك ولا ننفق معك الساعات في ما لا فائدة فيه، إلا أننا نقول لك قولين كافيين لمن عقل ولم يرد الشغب، فنقول: إن عزمت على ما ذكرت وكنت موحداً، فاعلم أنك قد أوقعت الله عز وجل تحت الأجناس، لأنه تعالى موجود وحق ومثبت. فإذا أوقعته تحت جنس فقد جعلته محدوداً ضرورة، إذ كل ما وقع تحت جنس فمحدود، تعالى الله عن ذلك. والقول الثاني أنا نقول له (1) : لسنا ننازعك في الجيم والنون والسين فإن بدا لك أن تسمى يدك أو رجلك أو ضرسك جنساً فلا مانع لك من ذلك إلا أنك تحتاج إلى من يوافقك على التخاطب بهذه اللغة التي أحدثتها، وحسبنا أن نقف عند طاعتك في اسم توافقنا عليه، نتفق على إيقاعه على كل جماعة تجمعها طبيعة واحدة تقوم منه فصولها، وتوجد منه حدودها، ويوجد أيضاً تحته (2) كثيرون مختلفون بأنواعهم، لنتفاهم به مرادنا، فإن أبيت من ذلك ولم توقع ما دون الخالق تعالى تحت حدود، فإنك واقع تحت المجاهرة بمكابرة العقل والحواس، لأنك ترى ضرورة أشياء تتفق في صفة واحدة، وأشياء أخر تخالفها في تلك الصفة وتتفق في صفة أخرى، وهذا هو معنى الحد لأن كل صفة تحد ما هي فيه دون ما ليست فيه، لا يدفع هذا إلا مجنون أو من هو في أسوأ من حال المجنون لقصده إبطال الحقائق وتلبيس المعارف وإثبات الأشكال. ومن بلغ هاهنا ترك الكلام معه، إذ غايتنا ممن يكلم أن ينصرف إلى الحق أو يلحق بالذين لا تجري أحكام العقل عليهم، مع أن هذا كفر من معتقده، إن كان ممن يسم نفسه بالإيمان؛ وبالله تعالى نعوذ من الضلال وما دعا إليه.

_ (1) س: والقول الثاني نقول. (2) م: تحته أيضاً.

وبهذا نكلم أيضاً من قال: هلا سميتم نوعاً ما سميتم جنساً ما سميتم نوعاً، فإني قد شاهدت من يسأل هذا السؤال الأحمق. واعلم أن الجوهر وحده دون سائر الأشياء التي ذكرنا موجود بنفسه وسائرها متداول عليه، وكلها موجود به لا سبيل إلى أن توجد دونه البتة، والجوهر وإن كان لا يوجد دونها أيضاً البتة، فقد يوجد دون بعضها، ولا سبيل إلى أن يوجد شيء منها دون جوهر البتة، إلا أن الجوهر محسوس بالعقل فقط، وليس مرئياً ولا مذوقاً ولا ملموساً ولا مشموماً وإنما نرى الألوان، فإذا عدم اللون لم نر شيئاً كالهواء المتحرك، وهو الريح فإنه يحس باللمس، وينطح [12و] الأجسام العظام فيسقطها وهو غير مرئي لأنه لا لون له، والجن (1) كذلك، وقد أخبرنا الصادق، عليه السلام، عن الله (2) عز وجل، أنهم يروننا من حيث لا نراهم، ونحن ذوو ألوان وهم غير ذوي ألوان، وكذلك أيضاً لا نشم الحجر لأنه لا رائحة له، وإنما نشم (3) الرائحة على حسب اختلافها وكذلك أيضاً لا يذاق الحجر فإنه لا طعم له وإنما تذاق الطعوم على حسب اختلافها، وإنما تلمس المجسة من الخشونة أو اللين أو الاملاس أو الصلابة أو التهيل، وقد يسمح بعض الجواهر بعرض فيه (4) على ما يقع (5) بعد هذا، إن شاء الله عز وجل. وإنما أوقعنا ما يقع تحت الحواس تحت الكيفية طلباً للاختصار وجمعاً للكثير تحت اسم واحد، ولأنها كلها ترسم برسم واحد، على ما يقع في بابه إن شاء الله. وكل واحد من الرؤوس التي ذكرنا جامع لطبيعة أشياء كثيرة فسمينا كل واحد منها (6) جنس أجناس، وسمينا كثيراً مما يقع تحت كل رأس منها أجناساً أيضاً، إلى أن نبلغ إلى الأنواع المحضة التي تلي الأشخاص. واعلم أن كل رأس أعلى، ومرادنا بذلك جنس الأجناس، وكل ما تحته مما

_ (1) م: والجني. (2) م: الخالق. (3) م: يشم ... تشم. (4) بعرض فيه: سقطت من م. (5) يقع: يأتي، في س. (6) منها: سقطت من س.

يسمى جنساً أو نوعاً فإن كل ما يقع تحته يسمى باسم الرأس الذي هو أعلى منه، ويحد (1) بحده، فإن نفس الإنسان تسمى جوهراً وتسمى حية وترسم برسم الجوهر وتحد بحد الحي وكذلك جسد الإنسان يسمى نامياً وجوهراً وجسماً ويحد ويرسم بحد كل واحد من هذه الأسماء ورسمها (2) . واعلم أنه لا يسمى الرأس (3) الأعلى باسم ما تحته ولا يحد بحده. والمتقدمون يعبرون في هذا المكان بأن يقولوا: " الأعلى يقال على الأسفل والأسفل لا يقال على الأعلى " وإنما كان ذلك لأن الأسفل موجود في الرأس الأعلى هو وغيره مما هو واقع تحت الرأس الأعلى، فلو سميت الرأس الأعلى باسم بعض (4) ما يقع تحته لكنت قد نقصته بعض صفاته. ألا ترى كل نامٍ (5) جسم فلو سميت الجسم المطلق نامياً، لكنت مخطئاً كاذباً، لأن الحجر جسم وليس الحجر نامياً، فكان يجب من قولك أن يكون الحجر نامياً (6) وهذا محال. وأنت إذا سميت النامي جسماً كنت مصيباً، وزيد يسمى إنساناً ويحد بحد الإنسان، ويسمى حياً ويحد بحد الحي، ويسمى جسماً ويرسم برسم الجسم، ولا يسمى الجسم المطلق حياً ولا يحد بحد الحي ولا يسمى أيضاً (7) إنساناً ولا يحد بحد الإنسان، ولا يسمى زيداً ولا يحد بحد زيد. ونعني بالجسم المطلق كل ما يطلق على كل طويل عريض عميق. فالحجر جسم وليس حياً ولا إنساناً ولا زيداً. فالمطلق هو الاسم الكلي الذي يعم كل ما سمي (8) به وقد [12ظ] قدمنا قبل أن الأشياء والمخلوقات تنقسم أقساماً ثلاثة: أجناس وأنواع محضة (9) وأشخاص. فكل ما يسمى جنساً مما لا يكون إلا جنساً محضاً ومما يكون جنساً ونوعاً فإنه محدود عندنا وفي الطبيعة، أي أننا نبدأ فنقول: كل ما دون الخالق عز وجل

_ (1) س: ونحده. (2) س: ويحد ويرسم برسم وحد ... الأسماء. (3) الرأس: سقطت في م. (4) بعض: سقطت من س. (5) م س: نامي. (6) وكان يجب ... نامياً: سقط من س. (7) أيضاً: سقط من م. (8) م: يسمى. (9) محضة: من م وحدها.

ينقسم قسمين: جوهر ولا جوهر. فالجوهر هو الجسم في قولنا والجسم هو الجوهر ولا شيء دون الخالق تعالى إلا جسم أو محمول في جسم. وقد أثبت غيرنا جوهراً ليس جسماً وهذا باطل وليس هذا مكان حل الشكوك المعترض بها علينا في هذا القول وقد أحكمناه في مكانه، وبالله التوفيق. والكلام في هذا هو واقع فيما بعد الطبيعة وفي علم التوحيد وقد أثبتناه في كتاب الفصل في الملل والنحل (1) . وكذلك رسم غيرنا أيضا ًفي حد الإنسان أنه حي ناطق ميت. وهذا الحد لا يخلو من أن يكون أراد به الجسم المركب وحده أو النفس وحدها أو الجسم المركب والنفس معاً، فإن كان (2) أراد الجسم المركب وحده أو النفس وحدها (3) أو الجسم المركب والنفس معاً فذلك خطاْ لأنه أدخل الجسم المركب تحت الحي، والحي إنما هو النفس وحدها، وهي الحساسة المتحركة التي إن بطلت بطل حس الجسم وحركته البتة، وإن كان أراد النفس وحدها فذلك خطأ أيضاً لأنه أدخلها تحت النامي، والنفس ليست نامية وإنما النامي جسمها المركب فقط، وللبراهين على هذا مكان آخر قد ذكرناه في كتاب الفصل (4) أيضاً في باب النفس (5) . ثم نرجع فنقول: والجوهر منقسم (6) قسمين: حي ولا حي. والحي ينقسم قسمين (7) : نفس ناطقة ونفس غير ناطقة. ولا حي بحياة إلا نفس ولا نفس إلا (8) حية بحياة. وحد الحي ذي الحياة هو الحساس المتحرك بإرادة. فالنفوس (9) الناطقة هي الملائكة وأنفس الأشخاص الخلدية التي أخبرنا الصادق، صلى الله عليه وسلم، أنها في دار النعيم من الحور والولدان وأنفس الأنس وأنفس الجن. وغيرنا يعتقد مكان الأشخاص

_ (1) الفصل 5: 66. (2) كان: من م وحدها. (3) أو النفس وحدها: سقط من م. (4) الفصل 5: 84. (5) في باب النفس، سقط من م. (6) م: ينقسم. (7) حي ... قسمين: لم يرد في م. (8) ولا نفس إلا: لم يرد في س. (9) م: فالنفس.

الخلدية التي ذكرنا أن الأجرام العلوية من الكواكب والفلك ذات أنفس حية ناطقة وللكلام في كل (1) هذا الشك مكان غير هذا. والنفس غير الناطقة هي أنفس سائر الحيوان. والنفس الناطقة تنقسم قسمين: ناطقة ميتة وناطقة غير ميتة. فالغير ميتة هي الملائكة وأنفس الأشخاص الخلدية التي ذكرنا، والميتة هي أنفس الإنس والجن. ومعنى قولنا ميتة أي أنها مفارقة لمدرعاتها من الأجسام المركبة من العناصر الأربعة التي ابتدأت بالتشبث بها في عالم الامتحان، لا أنها تعدم أصلاً (2) ولا يبطل حسها وفكرها وتمييزها وحركتها أصلاً. والميتة تنقسم قسمين: ذات جسد [13و] يقبل الألوان (3) ، وهي نفس الإنسان، وذات جسد لا يقبل الألوان (4) وهي نفس الجني. وأما غير الناطقة فترسم بالصهال والنهاق (5) والنباح والشحاج (6) وبغير ذلك من سائر الصفات المحسوسة فيها المفرقة بين أنواعها، وهي أنواع كثيرة تلي الأشخاص بعد. وأما اللاحي نريد القسم الذي هو غير حي فينقسم قسمين: مركب ولا مركب، فالغير مركب هي العناصر الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض والأفلاك التسعة وما فيها من الدراري والكواكب. والأفلاك التسعة هي السماوات السبع التي هي سبع طرائق للدراري والكرسي الذي هو فلك المنازل والعرش الذي هو الفلك الكلي المحيط الذي يدور دورة في كل يوم وليلة الذي ليس فوقه خلاء ولا ملاء والذي هو منتهى جرم العالم وكرته ولا شيء بعده. ومعنى قولنا مركب وغير مركب هو أن المركب ماخلقه الخالق عز وجل من أشياء شتى كأجسام الحيوان والشجر المركبة من العناصر الأربعة. ومعنى قولنا غير مركب وبسيط هو ما خلقه الخالق تعالى من طبيعة واحدة لا من أشياء

_ (1) م: حل. (2) أصلاً: سقطت من س. (3) م: ذات جسد قابل للألوان. (4) م: وذات جسد لا قابل للألوان. (5) والنهاق: لم ترد في س. (6) م: والشحاج والنابح.

شتى، وإلا فكل مركب وكل غير (1) مركب فمؤلف من أجزاء كثيرة محتمل للتجزيء والانقسام أبداً. والمركب ينقسم قسمين: نام ولا نامٍ (2) والنامي ينقسم قسمين: ذو نفس ولا ذو نفس. وحد النامي هو ما تغذى بغذاء ينقسم من وسطه إلى طرفيه ويحيله إلى نوعه، فاللا ذو نفس الشجر والنبات وهما قسمان: ذو ساق ولا ذو ساق ثم كل واحد من هذين القسمين ينقسم على أنواع كثيرة تلي الأشخاص بعد. وذو النفس ينقسم قسمين: ذو نفس ناطقة مثل أجساد الإنس والجن وذو نفس لا ناطقة مثل أجساد سائر الحيوان. وذو النفس الناطقة ينقسم قسمين جسم يقبل الألوان وهو جسم الإنسان وجسم لا يقبل الألوان (3) وهو جسد الجن (4) . وذو النفس الغير ناطقة هو أجسام سائر الحيوان وهي أنواع كثيرة جداً تلي الأشخاص بعد وتحد بصفاتها المختصة بها وبفصولها المميزة لطبائعها وبالإضافة إلى أنفسها. فتقول: ذو النفس المفترسة الزآرة، وذو نفس ناهقة وما أشبه ذلك. وهكذا يحد كل نوع من الشجر والنبات بفصوله المميزة لطبائعه وبصفاته المختصة به، وهذا أمر يكثر جداً ويتسع وإنما قصدنا هاهنا الكلام على الجمل. وغير النامي ينقسم أقساماً كثيرة منها معدنيات [13ظ] كالياقوت والذهب وغير ذلك، ومنها خشبيات وهي أنواع محضة تلي الأشخاص ويحد كل نوع منها بفصوله المميزة لطبيعته مما سواه وبصفاته التي تخصه. فهذه الأجناس محدودة كما ترى عندنا محصورة، ومحدودة في أنفسها محصورة، وهو الذي أردنا بقولنا إنها محدودة في الطبيعة لأننا قد تيقنا أن هذه الأقسام لا زيادة فيها أصلاً وأنها متناهية العدد كما ذكرنا. وأما كل ما هو نوع محض وهي الأنواع التي تلي الأشخاص وهي التي قلنا فيها إنها تسمى أنواع الأنواع فإنها محدودة في الطبيعة غير محدودة عندنا، نعني بذلك أن عدد هذه الأنواع من الحيوان والشجر والنبات والأحجار متناه (5) في ذاته عند

_ (1) م: وغير. (2) م س: نامي وى نامي (وكذلك هو حيثما ورد) . (3) يقبل الألوان: ملون في س. (4) م: الجني. (5) س م: متناهي.

الباري عز وجل بعدد لا يزيد أبداً ولا ينقص، فنحن على يقين من أنه لا يحدث حيوان لم يحدث بعد، مثل ذي أربع من الجمال يطير أو ذي ثلاثة رؤوس ولا أن الخيل تفنى حتى لا يوجد في العالم فرس وكذلك سائر الأنواع. وقد نبه الرسول عليه السلام على ذلك بقوله: " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها " (1) . ففي هذا إخبار أن كل أمة من الأمم لا سبيل إلى إعدامها. وقال تعالى في أنه لا مزيد في الأنواع (2) {وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدل لكلماته} (الأنعام:115) وكذلك قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} (البقرة: 31) . برهان ثان: جميع الأنواع محصورة العدد لا زيادة فيها لإدخاله تعالى الكلية فيها والكلية لا تدخل إلا في ذي نهاية (3) ، إلا أننا لا نحيط بأعدادها نحن، فلسنا نحصي أنواع الطير، ولا أنواع الحيوان المائي والبري وسائر الحشرات، وإنما يعلم عددها باريها عز وجل، إلا أنه متناه محصور كما قدمنا. وبرهان ذلك أن ما لا نهاية له فلا يجوز أن يكون شيء أكثر منه، والأشخاص الواقعة تحت الأنواع أكثر من الأنواع، فلما كان ذلك وجب أن الأنواع ليست مما لا نهاية له، وإذا كان ذلك وجب أنها متناهية ضرورة، ولما كانت أنواع الأنواع لا نحيط نحن بها أوجب ذلك علينا أن نتوصل إليها بالأنواع التي تكون أجناساً لنصل إلى علم اتفاقها واختلافها ولذلك لم ننحدر من الأجناس الأول إلى الأنواع المحضة؛ وأما الأشخاص فليست محصورة لا عندنا ولا في الطبيعة، لأننا نجد بالحس الضروري أن أشخاص الناس إذا كان طاعون أو قتل ذريع في يوم معركة، أنها قد قلت جداً عما كانت عليه بالأمس، ثم إذا أتصل النماء والذرء وتهدنت البلاد، كاد المعمور يضيق بأهله لكثرتهم، فهم أبداً (4) يزيدون وينقصون. والأنواع ليست كذلك. لكنها لا [14و] تزيد ولا تنقص أبداً إلا أن يشاء الخالق إفناء ما شاء منها يوم البعث في عالم الجزاء فهو القادر

_ (1) الحديث في الجامع الصغير 2: 132. (2) بهامش س عند قوله " لا مزيد في الأنواع " لا يخفى ما فيه لقوله: " ويخلق ما لا تعلمون " ثم أورد المعلق حكاية رواها أبو نعيم في الحلية عن امرأة مزدوجة الخلقة. (3) وكذلك.. نهاية: سقط من م. (4) م: دأباً.

على ما يشاء لا إله إلا هو. وأما الأشخاص فليس لها عدد تقف عنده، فلا يمكن أن لا تزيد ولا تنقص، لكن ما خرج منها إلى الوجود فمحدود العدد، محصور مذ خلق الله تعالى العالم إلى كل وقت يقال فيه الآن. وأما ما لم يخرج منها بعد إلا أنه مما علم الله تعالى أنه سيخرج فهو في علم الله تعالى محدود محصور (1) وفي الطبيعة معدود (2) إذا خرج، لا قبل أن يخرج، والزيادة فيها ممكنة في قوته عز وجل بلا نهاية في عدد ولا أمد. وأنت ترى بما بينا أنه كلما ابتدأنا من عند أنفسنا، نعني من (3) الأشخاص صاعدين إلى جنس الأجناس، ابتدأنا بالكثرة، فكلما ارتفعنا قل العدد إلى أن نبلغ إلى الرؤوس التي ذكرنا، وإذا ابتدأنا من هنالك لم نبتدئ إلا بقسمين فقط وهما: جوهر ولا جوهر ثم نتزيد العدد في الكثرة إلى أن نبلغ إلى الأنواع التي تلي الأشخاص. واعلم أن العموم ليس بلا نهاية، لكن بنهاية، فأعم الأسماء (4) قولك شيء وموجود، وهذا الذي يسميه النحويون أنكر النكرات، وكذلك الخصوص ليس أيضاً بلا نهاية، لكن أخص الأسماء كلها فيما دون الله، تبارك وتعالى (5) ، أنا وأنت، وهذا أعرف المعارف. واعلم أن جنس الأجناس مبدأ لما تحته، كآدم للناس، والأنواع كالأمم، وأنواع الأنواع كالقبائل، نريد أنها مثلها في التفرع عنها فقط. واعلم أنهم قالوا: إن الجنس الذي هو جنس الأجناس مرسوم لا محدود لأنه ليس فوقه جنس يؤخذ حده منه وأما الأنواع فمحدودة. وأما الأقسام التي تنقسم عليها أنواع الأنواع فإنها (6) تسمى أقساماً أو أصنافاً، وذلك

_ (1) م: محصور معدود. (2) وفي ... معدود: لم يرد في م. (3) من: في م وحدها. (4) س: الأشياء. (5) م: دون الخالق تعالى. (6) م: فإنما.

مثل (1) ذكور كل نوع وإناثه، أو سودانه وبيضانه، أو ما اختلفت ألوانه من سائر الأنواع، أو ما اختلفت طعومه مما أستوى تحت نوع واحد من الثمار والنبات وسائر ما يختلف في صفة ما وهو يجمعه كله نوع واحد؛ لأنك تجد الأسود والأبيض من الناس، والذكر والأنثى من كل نوع من الناس والحيوان غير الناطق وكثير من النوامي غير الحية، وذوات الألوان المختلفة من الخيل والدجاج وغير ذلك، فكل ذلك محدود بحد واحد، ومجتمع في طبيعة واحدة. وكثير من ذلك يعم أبعاضاً من أنواع كثيرة، كالذكر والأنثى والأسود والأبيض، ومن المحال أن يكون نوع واحد تقع تحته طبائع مختلفة متضادة الصفات، لا تحد كلها بحد جامع لها؛ فلذلك لم تجعل هذه أنواعاً جامعة لما تحتها (2) ، وإنما نبهنا على هذا (3) لئلا يقول جاهل (4) : إن هذه الأقسام مختلفة، فهلا جعلتموها أنواعاً مختلفة، فأريناه أن حدها واحد، وطبيعتها واحدة، وخواصها واحدة، وفصولها واحدة، وإنما [14ظ] اختلفت في الأعراض فقط، وبهذا لم ننكر صبغ النحاس أبيض (5) حتى يعود في مثل لون الفضة، وأنكرنا ومنعنا من أن نحيل طبع النحاس أصلاً إلى طبع الفضة، كما لا سبيل إلى إحالة طبع الحمار إلى طبع الإنسان البتة أصلاً، والله أعلم (6) . 8 - باب الفصل ذكرت الأوائل في الفصل قسمين سموهما: عامياً وخاصياً، وليس وضعهما عندنا في باب الكلام في الفصل الذي نقصده في الفلسفة صواباً، لأنهما واقعان في باب الكلام في العرض؛ وإنما نقصد هاهنا الكلام في (7) الفصل الذي يفصل الأنواع

_ (1) مثل: لم ترد في س. (2) وكثير من ذلك ... تحتها: سقط من م. (3) م: بهذا. (4) م: الجاهل. (5) أبيض: في وحدها. (6) والله أعلم: زيادة من م (وهو يتكرر فيها عند نهايات الفصول) . (7) العرض ... في: سقط من س.

بعضها عن (1) بعض تحت جنس واحد. مثل أن تقول: حي، فيقول لك قائل: نفس الإنسان حي ونفس الحمار حي، فأي الحيين تعني فتقول: الحي (2) الناطق الميت، فالناطق الميت فصلان، فصلا نوع الإنسان (3) من نوع الحمار تحت جنس الحي، فهذا الفصل نريد، لا ما سواه. وهذا الذي يسميه الأوائل " خاص الخاص " فنقول: وبالله نستعين وبه التوفيق (4) : إن الفصل هو ما فصل طبيعة من طبيعة، فبان لنا به أن هذه غير هذه البتة مما إذا توهمنا أن ذلك الفصل معدوم مما هو فيه، مرتفع عنه، فقد فسد الذي هو فيه وبطل البتة، فإنك متى رفعت النطق والموت عن الإنسان لم يكن إنساناً أصلاً، بوجه من الوجوه، وهذا فرق ما بين الفصل والخاصة على ما يقع بعد هذا إن شاء الله تعالى. ولذلك سمي هذا الفصل ذاتياً فيما خلا قبل هذا. وبهذا الفصل تقوم الأنواع تحت الجنس وينفصل بعضها من بعض، ويتميز بعضها من بعض. ومنفعته عظيمة في كل علم، إذ قد يلزم بعض النامي ما لا يلزم بعضه، ويلزم بعض الحي ما لا يلزم سائره، فلولا الفصول المميزة لكل نوع على حدة، لاختلطت الأحكام والصناعات وجميع فوائد العالم، فلم تستبن. واعلم أن هذه الفصول تسميها الأوائل " الجوهرية " للزومها ما هي فيه، فكأنها الجواهر (5) لثباتها. واعلم أن الفصول والأجناس والأنواع لا تقبل الأشد ولا الأضعف، ولا تقع على ما تقع عليه إلا وقوعاً مستوياً، ولا يجوز أن يكون إنسان أشد في أنه إنسان من إنسان آخر، ولسنا نعني المروة والذكرة (6) ، لكن نعني في أنه آدمي وإنسان فقط، ولا يكون فرس أضعف فرسية من فرس آخر، ولا حمار أقوى حمارية من حمار آخر

_ (1) م: من. (2) الحي: سقطت من م. (3) م: الأنواع. (4) م: وبالله تعالى التوفيق. (5) م: الجوهر. (6) س: المروءة والمذكرة.

وهكذا كل أشياء استوت في جنس أو نوع أو فصل، فإنها كلها فيه متساوية لا يفضل في كونها إياه بعضها بعضاً أصلاً بوجه من الوجوه. ورسم الفصل هو أن تقول: هو الذي تتميز به الأنواع بعضها من بعض تحت جنس واحد، والفصول موجودة في الأنواع بالفعل، وفي الجنس بالقوة. نريد بالقوة: إمكان أن يكون، وبالفعل: أنه قد كان ووجب (1) [15و] وظهر ووجد، فإنك إذا قلت: الحي، فإن النطق فيه بالقوة، أي أن بعض الأحياء ناطقون، ولو كان النطق (2) فيه بالفعل لكان كل حي ناطقاً، وهذا محال. وأنت إذا قلت الحي الناطق، فالنطق فيه بالفعل أي أنه قد ظهر ووجد. والنطق الذي يذكر (3) في هذا العلم ليس الكلام ولكنه التمييز للأشياء والفكر في العلوم والصناعات والتجارات وتدبير الأمور، فعن جميع هذه المعاني كنينا بالنطق اتفاقاً منا. وكل إنسان فناطق النطق الذي بينا، إلا من دخلت على ذهنه آفة عرضية، وإلا فبنيته، ولو رمى الحجارة، محتملة لو زالت تلك الآفة لكل ما ذكرنا. وليس كذلك سائر الحيوان، حاشا الملائكة والجن، فإنه لا يتوهم من شيء من الحيوان غير ما ذكرنا فهم الأمور التي وصفنا. وأما الفصول إذا حققتها فكيفيات، إلا أنها لا تفارق ما هي فيه ولا تتوهم مفارقتها له إلا ببطلانه. وكذلك (4) المعنى الذي صارت به الأشخاص تسمى أنواعاً وأجناساً، فإنه أيضاً كيفية كما ذكرنا. وأنت إذا وجدت فصلاً ذاتياً تستغني به في تمييز ما تريد منه من الأنواع، فأكتف به ولا معنى لأن تأتي بفصل آخر. فإن اضطررت إلى فصول كثيرة، ينفرد النوع الذي تريد أن تفصله من غيره بجميعها وتشاركه أشياء أخر (5) في كل واحد منها على الانفراد، فلا بد أن تأتي بجميعها أو بما ينفرد منها به ليتم لك التمييز والتخليص الذي تريد إبانته.

_ (1) س: وجب. (2) س: الناطق. (3) م: تذكره. (4) س: وذلك. (5) م: أنواع أخر.

واعلم أنه ليس النوع والجنس شيئاً غير الأشخاص، وإنما هي أسماء تعم جماعة أشخاص اجتمعت واشتركت في بعض صفاتها، وفارقتها سائر الأشخاص فيها، فلا تظن غير هذا، كما يظن كثير من الجهال الذين لا يعلمون. 9 - باب الخاصة من الخاصة ما هو مساو للمخصوص، أي أنها في جميع أشخاصه، وهذه هي التي (1) نقصد بالكلام في هذا الباب (2) . ومنها ما هو أخص من المخصوص بها أي أنها في بعض أشخاصه لا في كلها، وذلك مثل الشيب في حال الكبر، فإنه فيما هو فيه في وقت دون وقت، ومثل النحو والشعر فإنهما بالفعل في بعض ما هما فيه بالقوة دون بعض، فليس كل إنسان نحوياً وشاعراً، إلا أنه قد كان ممكناً ومتوهماً أن يكون نحوياً وشاعراً. وأما الخاصة المساوية فقد تقوم مقام الحد، ويرسم بها ما كان (3) فيه رسماً صحيحاً [15ظ] دائراً على طرفي مرسومه منعكساً. فإنك تقول: كل إنسان ضحاك، وكل ضحاك (4) إنسان، فهذا هو الانعكاس الصحيح، وهذا هو الدوران على الطرفين. أي أنه لا يشذ عنه شيء مما تريد أن ترسمه به أو تحده. وكل إنسان فضاحك إما بالقوة أي بالإمكان في كل وقت، وإما بالفعل في بعض الأوقات دون بعض أي بظهور الضحك منه. فإن قال قائل: فبأي (5) شيء فرقتم بين الخاصة والفصل فالجواب: إن الفصل هو ما لايتوهم عدمه عن الشيء الذي هو فيه إلا ببطلان ذلك الشيء، فإن النطق والموت إن توهم أنهما قد عدما من شيء لم يكن ذلك الشيء إنساناً البتة، وأما الخاصة فبخلاف ذلك، ولو توهمنا الضحك معدوماً بالكل جملة واحدة، حتى لا يعرف ما هو، لم يبطل الإنسان ولا امتنع من أجل عدم الضحك أن يتكلم في النحو والفقه والفلسفة وأن يعمل الديباج ويخيط ويغرس (6) ويحرث ويحصد وغير

_ (1) س: وهذا الذي. (2) س: الكتاب. (3) م: هي. (4) ضحاك: ناطق ميت في س (وما يلي يؤيد رواية م) . (5) س: فلأي. (6) م: ويقرش.

ذلك مما ينتجه له النطق الذي هو التمييز، فهذا فرق بين واضح. 10 - باب العرض هذا وإن كان كيفية كالفصل والخاصة فبينة وبينهما (1) فرق كبير (2) ، وهو أن الفصل لا يوجد في غير ما فصل به أصلاً، والخاصة أيضاً كذلك، لا توجد في غير مخصوصها أصلاً. وأما العرض العام الذي قصدنا بالكلام فيه (3) في هذا المكان فإنه يعم أنواعاً كثيرة جداً، وهو ينقسم أقساماً: فمنه ما يعرض في بعض الأنواع دون بعض ثم في بعض أحواله دون بعض، وذلك كحمرة الخجل، وصفرة الجزع (4) ، وكبدة الهم، وهذه سريعة الزوال جداً؛ وكالقعود والقيام والنوم وما أشبه ذلك، وهذه كلها تستحيل بها أحوال من هي فيه لاستحالة الأسباب المولدة لها، وتنفصل بها أحواله بعضها من بعض؛ ومنها ما هو أبطأ زوالا كصبا الصبي وكهولة الكهل وما أشبه ذلك، ومنها ما لا يزول أصلاً، إلا أنها لو أمكن أن تزول لم يبطل شيء من معاني ما هي فيه، كزرقة الأزرق وجدع الأجدع (5) وقنا الأقنى وفطس الأفطس وسواد الغراب وحلاوة العسل وما أشبه ذلك، فإنه إن توهم الزنجي أبيض والغراب أعصم لم يخرجا بذلك عن الغرابية ولا عن الإنسانية، وكذلك العسل قد يكون منه مر ولا يبطل أن يكون عسلاً؛ وبالصفات التي ذكرنا ينفصل بعض أنواع الأعراض عن بعض. وهكذا عبر الأوائل في هذا الباب وهي عبارة غير محققة، لأنهم ذكروا عرضاً عاماً لأكثر من نوع، ثم إنهم ذكروا تحته حمرة الخجل وما لا يكون إلا لبعض نوع واحد أو لنوع واحد، وكان هذا بالخاصة أشبه منه بالعرض العام وأولى به (6) . واعلم أن في الأعراض أنواعاً وأجناساً وأشخاصاً، كما في الجواهر، على ما قدمنا قبل.

_ (1) س: وبينها. (2) س: كثير. (3) فيه: سقطت من م. (4) م: الفزع. (5) وجدع الأجدع: سقط من س. (6) هذه الفقرة انفردت بها م.

واعلم أن بعض [16و] النوع لو توهم معدوماً لم يعدم الجنس، ألا ترى لو عدم البياض لم يعدم اللون لأنه يبقى السواد (1) والخضرة والحمرة وغير ذلك، وكذلك لوعدم الإنسان لم يعدم الحي، لأنه يبقى الخيل والدجاج وغير ذلك، وكذلك لو عدم الجنس لعدمت جميع الأنواع البتة. وهذا انتهاء (2) الكلام في المدخل إلى علم المنطق والألفاظ الخمسة التي هي: الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض، وهو الذي يسميه الأوائل " إيساغوجي " وأول من جمعه رجل يسمى فرفوريوس من أهل صور. والحمد لله رب العالمين كثيراً لا شريك له ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم تسليماً (3)

_ (1) السواد: سقطت من م. (2) وها هنا انتهى. (3) م: والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد عبده ورسوله.

- 1

- 1 - بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الأسماء المفردة وهو أول ما بدأ به أرسطاطاليس من كتبه، وهو المسمى في اللغة اليونانية " قاطاغورياس "، معناه: العشر المقالات (1) ، فنقول وبالله التوفيق وبه نتأيد (2) ، أ -[مقدمة أولى] إن الأسماء التي يقع كل واحد منها على كثير، أي على جماعة أشخاص فإنها تقع تحتها مسمياتها في جميع اللغات، أولها عن آخرها، على خمسة أوجه لا سادس لها: إما أن يكون المسمى يوافق المسمى الثاني في اسمه وحده معاً، كقولنا: فرس وفرس، أو كقولنا: حي وحي، فإن كل واحد من هذين المسميين يوافق الآخر في اسمه، لأنه لفظ واحد، ويوافقه أيضاً في حده، لأن كليهما حساس متحرك بإرادة، وكلاهما أيضاً صهال محدد الآذان (3) مستعمل في الركوب، متوهم منه السرعة في الجري، وهذا النوع يسمى " الأسماء المتواطئة " وإن شئت قلت: المتفقة. والثاني أن يكون المسمى يخالف المسمى في اسمه وحده معاً كقولنا: رجل وحمار، فإن هذين لفظان مختلفان (4) وحدان مختلفان، وهذا النوع يسمى " الأسماء المختلفة ". والثالث: أن يكون المسمى يوافق المسمى في اسمه ويخالفه في حده، كقولنا: " نسر " للطائر المبالغ في الأستعلاء في الجو الذي يأكل الجيف، وقولنا لبعض حافر (5) الفرس نسر، وقولنا " نسر " للنجم الذي في السماء وما أشبه هذا مما هو كثير في اللغة، وهذا النوع يسمى " الأسماء المشتركة "، ومنها يقع البلاء كثيراً في المناظرة،

_ (1) معناه ... المقالات: سقط من م. (2) وبه نتأيد: من م وحدها. (3) م: الأذن. (4) وحدان مختلفان: لم يرد في س. (5) م: أعضاء حافر.

فيتنازع الخصمان ويكثران الهراش وأحدهما يريد معنى ما والآخر يريد معنى آخر (1) ، وهذا لا يقع إلا بين جاهلين أو جاهل [16ظ] وعالم أو سوفسطانيين أو سوفسطاني ومنصف، ولا يقع أبداً بين عالمين منصفين بوجه منن الوجوه، ولا يسلم من ذلك إلا من تميز (2) في هذه الصناعة وأشرف عليها وقوي فيها، فإنه لا يخفى عليه من معاني الكلام شيء. والرابع أن يكون المسمى يوافق المسمى في حده، ويخالفه في اسمه، مثل قولنا: سنور وضيون (3) وهر، فإن هذه ألفاظ مختلفة، وهي كلها واقعة وقوعاً واحداً على كل شخص من أشخاص النوع المتخذ في البيوت لصيد الفأر الذي يلح في السؤال عند الأكل، ويشبه الأسد في خلقه، وهذا النوع من الأسماء يسمى " الأسماء (4) المترادفة ". والخامس: أن يكون المسمى يخالف المسمى في حده وفي اسمه الذي خص نوعه به إلا أنهما يتفقان في صفة من صفاتهما أوجبت لهما الاشتراك في اسم مشتق منها، إما جسمانية وإما نفسانية، حالاً كانت أو هيئة (5) ، فالجسمانية كقولنا: ثوب أبيض، وطائر أبيض، ورجل أبيض، فإن كل واحد من هذه المسميات حده (6) غير حد صاحبه، واسمه في نوعه غير اسم صاحبه، وقد اشتركت كلها في أن سمي كل واحد منها أبيض. والنفسانية كقولنا أسد شجاع ورجل شجاع، وهذا النوع من الأسماء يسمى " الأسماء (7) المشتقة ". وهذه الأقسام الخمسة تقع على الأجناس والأنواع وأصناف (8) الأنواع التي كأنها أنواع، كقولنا: رجل وامرأة وذكر وأنثى. وأما الأسماء المختصة فهي التي تقع على ذات المسمى وحده، أو على كل شخص

_ (1) ما، آخر: من م وحدها. (2) م: تمهر. (3) س: وضيوز. (4) الأسماء: سقطت من س. (5) حالاً ... هيئة: سقط من م. (6) وقعت لفظة " حده " قبل " من هذه المسميات " في س. (7) الأسماء: سقطت من س. (8) م: وأقسام.

ب (مقدمة ثانية)

من أشخاص ما (1) ، وهي أن تكون المسميات منها وضعت لها أسماء تختص بالمسمى أو بأشخاص ما لتمييز بعضها من بعض، فإما تتفق فيها وإما تختلف، وهي قد تبدل ولا تستقر استقراراً لازماً لأنها (2) إنما تكون باختيار المسمى، ولو شاء لم يسم ما سمي بذلك، ولم يقصد به الإبانة عن صفات مجتمعة في المسمى دون غيره، كما قصد في الأول، ولا اشتقت للمسمى بها من صفة فيه أصلاً وهي التي يسمسها النحويون " الأسماء الأعلام " وذلك نحو قولك: زيد وعمرو أو زيد وزيد أو أسد في أسم رجل أو كافور في اسمه أيضاً وما أشبه ذلك. فهذه أقسام المسميات كلها تحت الأسماء، ووقوع الأسماء كلها على المسميات ولا مزيد. وأسماء الله تعالى (3) التي ورد النص بها أسماء أعلام غير مشتقة من شيء أصلاً. وأما صفات الفعل له تعالى فمشتقة من أفعاله، كالمحيي والمميت، وما أشبه ذلك وتلك الأفعال أعراض حادثة في خلقه، لا فيه، تعالى الله عن ذلك [17و] . ب (مقدمة ثانية) باب من أقسام الكلام ومعانيه قد بينا (4) ، قبل، أن الكلام ينقسم قسمين: مفرد ومركب، فالمفرد لا يفيدك فائدة أكثر من نفسه، كقولك: رجل وزيد وما أشبه ذلك؛ والمركب يفيدك خبراً صحيحاً، كقولك: زيد أمير، والإنسان حي وما أشبه ذلك.

_ (1) م: كل شخص من الأشخاص. (2) لأنها: سقطت من س. (3) عقد ابن حزم في الفصل (2: 120 وما بعدها) فصلاً طويلاً لبيان هذه المسألة وناقش إطلاق كل صفة على حدة. وخلاصة رأيه أن الله لا يسمى إلا بما سمى به نفسه اتباعاً للنص، دون خروج عن ذلك أبداً. قال: ومما أحدثه أهل الإسلام في أسماء الله عز وجل " القديم " وهذا لا يجوز البتة لأنه لم يصح به نص البتة ولا يجوز أن يسمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه. وقد قال تعالى: {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} ؛ فصح أن القديم من صفات المخلوقين فلا يجوز أن يسمى الله تعالى بذلك، وإنما يعرف القديم في اللغة من القدمية الزمانية، أي أن هذا الشيء أقدم من هذا بمدة محصورة، وهذا منفي عن الله عز وجل وقد أغنى اله عز وجل عن هذه التسمية بلفظة " أول ". (2: 151 - 152) . (4) م: قلنا.

والمركب كله ينقسم أقساماً خمسة لا سادس لها وهي: إما خبر وإما استخبار، وهو الاستفهام وإما نداء وإما رغبة وإما أمر. فهذه الأربعة منها لا يقع فيها صدق ولا كذب، ولا يقوم منها برهان أول (1) على من ينكر وجوب الأمر، وأما بعد وجوب قبول الأمر بخبر يوجبه أو باتفاق من الخصمين فالأمر حينئذ مبرهن على صحة وجوبه، وليس برهاناً، وقد ينطوي في الأمر خبر، وذلك أن قول القائل: افعل كذا، ينطوي فيه أنك ملزم أن تفعل كذا. وأما النهي فهو نوع من أنواع الأمر، لأنه أمر بالترك. وكذلك ينطوي في الطلبة، وهي الرغبة، إخبار بأن الراغب يريد الشيء المرغوب فيه، ولا تظن أن قولك آمراً: قم، أنه اسم مفرد، فذلك ظن فاسد، بل هو مركب لأن معناه " قم أنت ". وكذلك قولك مخبراً عن غائب: قام، إنما معناه (2) " قام هو "، ولو انفرد في حقيقة المعنى دون ضمير، لما تم ولكان ناقصاً فاعلمه. وكذلك قولك مستفهماً: أقام أي هل قام هو. وأما إذا خرجت الرغبة على غير وجهها، فإن الكذب قد يدخل فيها، كمن قال وهو صحيح: اللهم أصحني، وإنما الحق أن يقول: اللهم أدم صحتي. وكذلك الاستفهام، إذا ما (3) استفهم عن باطل فهو باطل، كسائل سأل: لم اشتد الحر في الشتاء وأما الخبر ففيه يدخل الصدق والكذب، وفيه تقع الضرورة والإقناع، وفي فاسد البنية منه يقع الشغب، ومن صحيحه يقوم البرهان على كل قضية في العالم، وإياه قصد الأوائل والمتأخرون بالقول، وتحته تدخل جميع الشرائع، وكل مؤات (4) من الطبيعيات وغيرها اتفق الناس عليه أو أختلفوا فيه. وهو يصح بوجوه: أحدها أن يكون معلوماً صحته بأول العقل أو بالحواس، ومنها ما يصح ببرهان يقوم على صحته من مقدمات تنتج نتائج على ما يقع في هذا

_ (1) م: أولي. (2) قام إنما معناه: سقط من س. (3) ما: من م. (4) س: مواتي، وفوقها علامة خطأ؛ م: رأي.

الديوان إن شاء الله عز وجل، ومنها ما ينقله صادق قد قام على صدقه برهان مما قدمنا، أو نقله مصدقون بضرورة، على ما قد وقع في غير هذا القول (1) ؛ وقد ظن قوم أن القسم والشرط والتعجب والشك، وجوه زائدة على ما ذكرنا، وذلك ظن فاسد [17ظ] لأنها كلها واقعة تحت قسم الخبر وراجعة إليه. أما القسم فإنه إخبار بإرادتك إذا قلت: " والله " فإن قولك ذلك إنما هو: أحلف معظماً لأمر الله تعالى. وأما الشرط فإنه خبر واضح لا خفاء به؛ والشك كذلك؛ والتعجب إخبار بالحال التي تعجبت منها. وقد ظن قوم أن من الخبر ما لا يدخله صدق ولا كذب، وهو إخبار الهاذي بأمر متيقن صحته، لم يقصده، كقوله: لا إله إلا الله، مات الرجل فهذان خبران صحيحان. قال أبو محمد: وهذا الظن غير صحيح لأنه لا يكون مخبراً إلا من قصد الخبر، والخبر مع المخبر من باب الإضافة، فلا خبر إلا لمخبر، والهاذي ليس مخبراً بكلامه (2) ، فكلامه ليس خبراً. وإذ قد وافانا ذكر الأمر فلنقل على أقسامه قولاً وجيزاً؛ وذلك أن الأمر ينقسم أقساماً منها: الواجب الملزم، وهو عنصر الأمر الذي لا ينتقل عنه لفظ الأمر إلا بدليل برهاني، ومنها المحضوض عليه غير الملزم، ومنها المباح، ومنها المسموح فيه، وهو الذي تركه أفضل؛ ومنها التبرؤ كقول القائل: اعمل ما شئت؛ ويكون الآمر غير راض عن المأمور؛ ومنها الوعيد كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} (فصلت:40) ومنها القسر (3) كقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان: 49) ومنها تقرير كقول المعصي: قد نهيتك فاصبر واحتمل ما أتاك؛ ومنها (4) تعجيز كقوله تعالى: {قل كونوا حجارة أو حديداً} (الإسراء:50) ومنها ما هو بمعنى

_ (1) م: الديوان. (2) بكلامه: لم ترد في م. (3) س: القسم، وفوقها علامة خطأ. (4) م: ومنه.

الدعاء، كقول القائل: ابعد، اخسأ، ومنها زجر، كقوله تعالى: {اخسئوا فيها} ومنها تكوين، وليس هذا القسم إلا للباري تعالى وحده في أمره ما يريد أن يكون بالكون، وما يريد أن يعدم بالتلف. ومنه أمر بمعنى النهي كقول القائل لمن تقدم نهيه إياه عن شيء: افعله وسترى ما يكون أو وأدري أنك رجل. وما أشبه ذلك؛ ومنها أمر (1) بمعنى التعجب كقولك: أحسن يزيد أي ما أحسنه. ثم تنقسم الأسماء أيضاً أقساماً أربعة إما حاملة ناعتة، وإما حاملة منعوتة، وإما محمولة ناعتة وإما محمولة منعوتة. ومعنى قولنا: ناعتة، أي أنها تقال على جماعة أشخاص تحتها فتسمى تلك الأشخاص كلها بذلك الأسم، ومعنى قولنا: منعوتة، أي تسمى باسم واحد وهي جماعة، ومعنى قولنا: حاملة أي أنها تقوم بأنفسها وتحمل غيرها، ومعنى قولنا: محمولة: أي أنها (2) لا تقوم بأنفسها. والحمل المذكور حملان: حمل جوهري وحمل عرضي، فالجوهري يكون أعم ويكون مساوياً، ولا يكون أخص أصلاً، والعرضي [18و] يكون أعم ومساوياً وأخص، فالحمل الجوهري الأعم مثل قولك: الإنسان حي، فإن الحياة محمولة في الإنسان حملاً جوهرياً، إذ لولا الحياة لم يكن إنساناً، والحياة أيضاً في غير الإنسان موجودة. فلذلك قلنا إن هذا الحمل أعم؛ والحمل الجوهري المساوي مثل كون الحياة في الحي فإنها مساوية للحي، لا تكون حياة في غير حي، ولا يكون حي في العالم بلا حياة وتسميتنا الخالق تعالى حياً ليس على هذا الوجه، وإنما سميناه بذلك اتباعاً للنص، ولولا ذلك لم يجز لنا أن نسميه حياً إذ الحياة ليست إلا قوة تكون بها الحركة الإرادية والحس، وكلا الأمرين منفي عن الباري عز وجل. وليست أسماؤه عز وجل مشتقة أصلاً ولا واقعة تحت شيء من الأقسام الخمسة التي ذكرنا قبل (3) ، لكنها أسماء أعلام فقط، لم يوجب تسميته تعالى بها دليل، حاشا أننا أمرنا تعالى بأن نسميه بها وندعوه بها ونناديه بها، لا إله إلا هو. س: ومنه. وإنما دل البرهان على أنه تعالى أول حق واحد خالق فقط ثم نخبر عنه بأفعاله، عز وجل، فقط من

_ (1) س: ومنه. (2) أنها: لم ترد في س. (3) قبل: في م وحدها.

إحياء وإماتة وتصوير وترتيب ونحو ذلك، أو ما أمرنا أن نسميه به، دون أن يكون هنالك شيء أوجب تسميته بذلك. ولا يجوز أن يكون حمل جوهري أخص أصلاً، لأنه حينئذ كان يكون غير جوهري، إذ الجوهري هو ما لم يتم جميع النوع إلا به، لا ما يكون في بعضه دون بعض. وأما الحمل العرضي الأعم فكقولنا للزنجي: أسود، فإن الأسود أعم من الزنجي، لأن السواد في الغراب والسبج والمداد (1) وغير ذلك (2) . وأما الحمل العرضي المساوي فكقولنا للإنسان: ضحاك، فالضحك (3) لا يكون في غير الإنسان، ولا يكون إنسان إلا ضحاكاً. وأما الحمل العرضي الأخص فكقولنا في بعض الناس أطباء (4) وفقهاء وحاكة وما أشبه ذلك، فإن هذه الصفات لا توجد في كل إنسان، لكن في بعضهم، ولا توجد في غير إنسان؛ وقد يكون من هذا الحمل ما هو أخص الخاص، كقولك هذا الشخص هو زيد. وأما الحمل الممكن فيكون أعم، كالسواد هو في بعض الناس وغيرهم، ويكون أخص كالطب، ليس إلا في بعض الناس فقط لا في جميعهم، ولا في غيرهم، ولا يكون مساوياً البتة (5) كالضحك للإنسان. وأما الحمل الواجب فينقسم قسمين: عام كالحياة للحي، ومساوٍ (6) كالضحك للإنسان، ويكون أعم كالحياة له ولغيره، ولا يكون أخص؛ والنفي في الممتنع يكون أعم فقط، كنفي الجمادية عن الإنسان، وربما وجد مساوياً، ولا يوجد أخص فيما أوجبه الطبع للنوع [18ظ] .

_ (1) س: والمراح. (2) وغير ذلك: سقط من س. (3) س: والضحك. (4) أطباء: سقطت من س. (5) البتة: من م وحدها. (6) م: والحمل الواجب يكون مساوياً.

وأما (1) الأشياء الحاملة الناعتة فكقولك: الإنسان الكلي، أي الواقع على كل أشخاص الناس، وهو الذي أراد الله تعالى بقوله: {إن الإنسان خلق هلوعا} (المعارج: 19) فإنه تعالى لم يرد إنساناً بعينه، لكنه عز وجل عنى النوع كله. فأما الإنسان (2) الكلي وقد يقال أيضاً: الإنسان المطلق، هو حامل لصفاته من النطق والحياة واللون والطول والعرض وغير ذلك، وناعت لزيد وخالد وهند وزينب، ولكل شخص من الناس، وهو المسمى الإنسان الجزئي، فزيد يسمى إنساناً، وكل واحد (3) من الناس كذلك، فالإنسان الكلي ناعت لكل من ذكرنا، أي مسمى به كل واحد من الناس. وهذا القسم لا يكون محمولاً أصلاً، أي لا يبكون عرضاً البتة (4) ، لأن العرض محمول لا حامل، والجواهر حامل لا محمول. وأما الحاملة المنعوتة: فالأشخاص الجوهرية، مثل قولك: زيد وعمرو وكلب خالد وجمل عمرو، وغير ذلك، فإن هذه كلها منعوتة أي (5) تسمى كلها باسم واحد يجمعها كما بينا آنفاً (6) ، وهي حاملة لصفاتها من العلم والشجاعة والطول والعرض والنطق وغير ذلك من سائر الصفات، وهذه أيضاً لا تكون محمولة البتة. وأما المحمولة الناعتة: فكقولنا العلم فأنه نوع من كيفيات النفس، وتحت العلم أنواع كثيرة، هو لها جنس جامع، كالفقه والطب والفلسفة والنحو والشعر وغير ذلك، وكل واحد من هذه يسمى علماً، فالعلم ناعت لها، وكل واحد من هذه العلوم نوع يقع تحته أصناف منه وأشخاص أبواب ومسائل، كوقوع القبائل وأشخاص الناس تحت قولك: الإنسان، وهكذا كل نوع تحت كل جنس، فسبحان مدير العالم كما شاء، لا إله غيره. ثم نرجع إلى تفسير الناعتة المحمولة فنقول: إن العلم الكلي محمول في أنفس العلماء

_ (1) م: فأما. (2) فأما الإنسان: بالإنسان في م (اقرأ: فالإنسان) . (3) م: أحد. (4) م: البتة عرضاً. (5) أي: من م. (6) آنفاً: سقطت من س.

والنحو محمول في أنفس النحويين، وكذلك كل علم في أنفس أهله، ونقول: إن كل علم (1) من العلوم ناعت لما تحته من الأبواب والمسائل، أي أن جميعها يسمى باسم ذلك العلم، فكل مسألة من مسائل النحو تسمى نحواً وعلماً، وكل مسألة من مسائل الفقه تسمى فقهاً وعلماً، وكل قضية من قضايا الطب تسمى طباً وعلماً، وكل لفظة من اللغة تسمى لغة وعلماً، وكل حديث من الخبر يسمى خبراً وعلماً (2) ، وهكذا في كل علم. وهذه المسائل تسميها (3) الأوائل " علماً جزئياً "، وجميع علوم الناس تسمى: " علماً كلياً ". وأما المحمولة المنعوتة فهي علم كل امرئ على حياله [19و] وهي أيضاً مسائل كل علم، فإن كل (4) ذلك محمول في نفس العالم به، وهي منعوتة باسم العلم الجامع لها، أي أنها كلها تسمى علماً - كما قلنا (5) -. واعلم أن الناعت قد يكون منعوتاً، إلا أنه لا بد في أول طرفيه من ناعت لا ينعته شيء، وهو جنس الأجناس الذي قدمنا أولاً، ولا بد في آخر طرفيه من منعوت لا ينعت شيئاً، وهو الأشخاص من الجواهر والأعراض على ما قدمنا. واعلم أن الحامل لا يكون محمولاً أصلاً، والمحمول لا يكون حاملاً أصلاً لما قد بينا من أن الحامل هو القائم بنفسه، والمحمول هو الذي لا يقوم بنفسه، فمحال لا يتشكل في العقل أن يكون شيء قائم (6) بنفسه لا قائم بنفسه. وقد أضجرني قديماً (7) بعض أصدقائنا (8) ببلية أدخلها عليه حسن ظنه بكلام

_ (1) م: نزع. (2) وكل حديث ... وعلماً: سقط في م. (3) س: تسميه. (4) كل: سقطت من س. (5) م: قدمنا. (6) م: قائماً (وسقط ما بعدها) . (7) قديماً: سقطت من س. (8) بهامش س: أصحابنا.

قرأه للكثير الهذر المكنى بأبي العباس المعروف بالناشئ (1) ، فكان أبداً يسومني الفرق بين المحمول والمتمكن، ولم يعنه الخالق تعالى إلى وقتنا الذي كتبنا فيه كتابنا هذا، على فهم الفرق بينهما، وهو أن المحمول إنما تقوله في الصفات التي تبطل ببطلان ما هي فيه، كبياض زيد وحياته، فإن زيداً إن بطل، بطلت حياته وبياضه، بلا شك، وقد يبطل أيضاً ببياضه ولا يبطل زيد بل يكون صحيحاً سوياً إما لشحوب وإما لبعض الحوادث. والمتمكن إنما نقوله في الجواهر التي لا تبطل ببطلان ما هي فيه ككون زيد في البيت ثم ينهدم البيت ويصير رابية أو وهدة، وزيد قائم صحيح ينظر في أسبابه، ويزايل زيد البيت ولا يبطل واحد منهما، وهكذا أجزاء الجسم في الجسم إنما هي متمكنة لا محمولة، وهذا فرق لا يختل على ذي حس سليم أو إنصاف. وبالجملة، فكون الجسم في الجسم تمكن، وهو غير الحمل الذي هو كون العرض في الجسم. وكل ما نعت نوعاً فهو ناعت لأشخاص ذلك النوع، أي كل اسم سمي به نوعاً فإنه يسمى به كل شخص من أشخاص ذلك النوع، جوهراً كان أو غير جوهر. إذ ليس الجنس شيئاً غير أنواعه، وليس الجنس وأنواعه شيئاً غير الأشخاص الواقعة تحتها. واعلم أن فصول كل جنس من الأجناس فإنه يوصف بها كل ما تحته من أنواعه وكل شخص من الأشخاص الواقعة تحت أنواعه، كالحساس فإنه يقال على كل حي وعلى كل إنسان وفرس وحمار وعلى زيد وعمرو وهند وسائر أشخاص الحيوان كله، وهكذا في جميع الأجناس والأنواع كلها. وقد قلنا أيضاً: إن الأجناس تعطي كل ما تحتها من نوع أو شخص أسماءها وحدودها، أي أن اسم ذلك الجنس وحده يسمى به ويحد كل نوع تحته وكل شخص يقع تحت [19ظ] كل نوع من

_ (1) هو عبد الله بن محمد الأنباري المعروف بابن شرشير (906/293) كان شاعراً ذا اهتمام بالمنطق، وله تصانيف رد فيها على الشعراء والمناطقة وله أرجوزة في العلوم تبلغ أربعة آلاف بيت؛ انظر تاريخ بغداد 10: 92 والنجوم الزاهرة 3: 298 وشذرات الذهب 2: 214 وقد نشر له الدكتور يوسف فان إس كتابين هما: مسائل الإمامة ومقتطفات من الكتاب الأوسط (بيروت 1971) وقدم لهما بدراسة عن حياته ومؤلفاته.

[المقولات العشر]

أنواع ذلك الجنس. واعلم أن فصول كل نوع فإنها لا توجد في نوع آخر أصلاً بوجه من الوجوه ولا اسمه ولا حده، لأن الفرس لا يسمى باسم الإنسان ولا يحد بحده، وكذلك كل نوع أبداً، والله تعالى أعلم. [المقولات العشر] 1 - باب الكلام على الجوهر وهو أول الرؤوس العشرة التي قدمنا أنها أجناس الأجناس، لأنه حامل لها، وباقيها محمولة فيه، وهو قائم بنفسه، وهي غير قائمة بأنفسها. وسمت الأوائل أشخاص الجواهر: " الجواهر الحق الأول " تعني بذلك زيداً وعمراً وبعير عبد الله وكلب خالد وثوب عمرو، وما أشبه ذلك. وسمت الأجناس والأنواع (1) " الجواهر الثواني " لأن الأول على الحقيقة هي الأشخاص القائمة، وسمت ما في الأشخاص القائمة من الأعراض: " الأعراض الحق الأول " وسمت أنواعها وأجناسها التي في أنواع الجواهر وأجناسها: " الأعراض الثواني ". واعلم أن الجواهر لا ضد لها أصلاً، فإن وصفت بالتضاد يوماً ما، فإنما يراد أنها تتضاد كيفياتها فقط. وبهذا المعنى بطل أن يكون الأول تعالى ضداً لخلقه لأنه عز وجل لا كيفية له أصلاً، والتضاد لا يكون إلا في كيفية على مكيف، فالباري عز وجل ليس ضداً ولا مضاداً ولا منافياً لا إله إلا هو. والجوهر لا يقال فيه أشد ولا أضعف أي لا يكون حمار أشد في الحمارية من حمار آخر، ولا تيس أشد في التيسية من تيس آخر، ولا إنسان أضعف إنسانية من إنسان آخر، وكذلك الكمية أيضاً على ما يقع في بابها إن شاء الله عز وجل. وإنما يقع التضاد والأشد والأضعف في بعض الكيفيات على ما يقع في بابها، إن شاء الله عز وجل.

_ (1) م: الأنواع والأجناس.

ورسم الجوهر هو (1) أن نقول: إنه القائم بنفسه القابل للمتضادات، فإن النفس قائمة بنفسها تقبل العلم والجهل والشجاعة والجبن والنزاهة والطمع وسائر المتضادات من أخلاقها، التي هي كيفياتها، وكذلك كثير من الأجرام تقبل البياض والسواد اللذين أحدهما لون مفرق للبصر وهو البياض، والثاني جامع للبصر وهو السواد. وكثير منها يقبل الحر والبرد والمجسة، التي هي خشونة أو املاس، والرائحة التي هي طيب أو نتن، وغير ذلك من الصفات التي تقع عليها الحواس؛ فكل قائم بنفسه قابل للمتضادات (2) حامل لها في ذاته، وبهذا خرج الباري عز وجل عن أن يكون جوهراً أو يسمى جوهراً، لأنه تعالى ليس حاملاً لشيء من الكيفيات أصلاً [20و] فليس جوهراً. وأما ما يظن قوم من أن الكيفية تقبل الأضداد لأن اللون يقبل (3) البياض والحمرة (4) فذلك ظن فاسد، لأن أنواع الكيفية بعضها هي (5) الأضداد نفسها، فهي متضادة بذاتها، لا حاملة للتضاد في ذاتها، بل هي الأضداد المحمولة أنفسها، والجوهر حامل لها كزيد، مرة هو صبي، ومرة هو شيخ، ومرة هو أصفر من الفزع أو المرض، ومرة هو أسمر من الشمس، ومرة هو حار لقربه من النار، وأخرى هو بارد لقربه من الثلج، ومرة قاعداً ومرة قائماً، وهو زيد نفسه. وكل هذه كيفيات وأعراض متعاقبة عليه (6) ذاهبة واردة، فبعضها متضاد وبعضها مختلف. وكذلك الكلام والفكر الذي هو التوهم لا يقبلان الأضداد قبول الجوهر للأضداد، لأن الكلام والتوهم إما أن يكون صدقاً وإما أن يكون كذباً، بصحة معنى الشيء المتوهم، أو الكلام، أو ببطلانه، وليس الصدق والكذب متعاقبين على كلام واحد ولا على

_ (1) هو: سقطت من م. (2) فهو جوهر ... للمتضادات: سقط من س. (3) م: يجمع. (4) م: والخضرة. (5) س: من. (6) س: عليها.

توهم واحد (1) بل هما كلامان: أحدهما صدق والآخر كذب (2) ، وكذلك التوهم أيضاً، والله أعلم. 2 - الكلام على الكمية (3) وهي العدد ذكر الأوائل أن الكمية تقع على سبعة أنواع: أولها العدد ثم الجرم ثم السطح ثم الخط ثم المكان ثم الزمان ثم القول؛ ثم تنقسم هذه السبعة على قسمين: أحدهما متصل والآخر منفصل (4) ؛ فالمتصل ما كان له فصل مشترك وهي خمسة من هذه السبعة وهي: الجرم والسطح والخط والمكان والزمان، فالفصل المشترك للجرم هو: السطح، والفصل المشترك للسطح هو الخط، والفصل المشترك للخط هو النقطة، والفصل المشترك للزمان هو الآن، وللمكان أيضاً فصل مشترك. والمنفصل هو الذي له ترتيب وليس له فصل مشترك وهو: العدد والقول (5) . قال أبو محمد عليّ بن أحمد رضوان الله عليه (6) ونحن إن شاء الله، عز وجل مفسرون ما ذكرنا في هذا الباب (7) ، على ما شرطنا في أول الكتاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فنقول: إن القسم الذي (8) هو العدد من هذه السبعة هو الكمية على الحقيقة الذي لا كمية غيره، لكنه يقع على سائر الأنواع التي ذكرنا،فوقوعه على الجرم إنما هو بمساحته: فإن كل جرم في العالم، فله مساحة وذرع (9) ، دق أم عظم، والمساحة عدد يؤخذ بمقدار متفق عليه: إما شبر وإما ذراع وإما ميل [20ظ] وإما فرسخ وإما غلظ ظفر أو شعرة، أو أقل أو أكثر، فلهذا المعنى أدخلوا الجرم في باب الكمية.

_ (1) ولا ... واحد: سقط من س. (2) م: أحدهما كذب ... صدق. (3) م: باب الكمية. (4) س: منفصل ... متصل. (5) وهو العدد والقول: سقط من م. (6) هذا الدعاء لم يرد في م. (7) الباب: في م وحدها. (8) الذي: سقطت من م. (9) وذرع: في م وحدها.

والعدد أيضاً واقع على الأجرام بوجه آخر، وهو عدد أجزائه بعد انقسامها، أو عدد الأشخاص إن أردت إحصاء جملة منها، والأجرام هي الأجسام، فتعد ما أردت عدده بواحد، اثنان (1) ، ثلاثة، أربعة، حتى تبلغ إلى ما تريد إحصاءه منها. وقد رأيت بعض من يدعي هذا العلم يتعقب على الأوائل إدخالهم الجرم تحت الكمية، وهذا يدل على مغيب هذا المعترض عن هذا العلم، وعن الحقيقة المقصودة، ولو أن مثل هذا الصنف من الناس ينصفون أو يتركون التعلم لكان أصون للعلم وأقل ضرراً على أهله وأعظم للمنفعة، لكن صدق الله عز وجل إذ يقول: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم} (هود:119) . والجرم المذكور هو كل طويل عريض عميق. وأما وقوع العدد على السطح فالسطح هو (2) نهاية الجرم من جميع جهاته الست، وهذا أيضاً وجه من وجوه وقوع العدد على الجرم، فإنه لا بد لكل جرم من جهات ست، وهي فوق وأسفل وأمام ووراء ويمين وشمال، لا بد لكل جرم من هذه الجهات الست، ولا سبيل إلى جهة سابعة، والست عدد، فهذا عدد لازم واقع على كل جرم. ووقوع العدد بالمساحة على الجرم هو نفس وقوعه (3) على السطح. ونقول أيضاً في زيادة شرح في السطح: إن السطح هو منقطع كل جرم لاقى جرماً ما (4) ، إما ماء وإما هواء وإما أرضاً وإما غير ذلك، أي جرم كان؛ والمساحة تقع على السطح، على ما قدمنا، إذ لكل سطح مقدار ما معدود مذروع كما وصفنا آنفاً. وأما وقوع العدد على الخط فالخط هو تناهي كل سطح وانقطاعه، وأمثل ذلك بمثال ليكون زائداً في البيان فأقول: إن السكين جرم ومنتهى (5) جانبيه سطح،

_ (1) م: اثنين. (2) فالسطح هو: فهو في س. (3) م: هو نفسه ووقوعه. (4) ما: في م وحدها. (5) م: ومستوى.

وتناهي (1) كل جانب من جوانبه خط، فمن أول طرفه الحاد إلى منتهاه خط، وكذلك ما أخذ من تناهي سطحه مع حرف قفاه فهو خط. ونهايته هي النقطة، ولا يقع على النقطة عدد ولا مساحة ولا ذرع لأنها ليست شيئاً أصلاً، وإنما هو اسم عبر به عن الانقطاع والتناهي وعدم تمادي ذلك الجرم فقط؛ فالخط المذكور له أيضاً مساحة وهي مذروعة معدودة، وهذا أيضاً وجه من وجوه (2) وقوع العدد على الجرم. وأما وقوع العدد على المكان، فالمكان أيضاً جرم من [21و] الأجرام لأنه إما أرض وإما هواء وإما ماء وإما بساط وغير ذلك، أي جرم فيه جرم آخر، ولكل شيء مما ذكرنا مساحة وذرع معدود. وإما وقوع العدد على الزمان، فالأزمنة ثلاثة: حال وماض (3) ومستقبل، فهذا وجه من وجوه وقوع العدد على الزمان. وأيضاً فالزمان هو مدة بقاء الجرم ساكناً أو متحركاً، والحركات معدودة بأولى وثانية وثالثة (4) وهكذا ما زاد، فالعدد لازم للزمان وواقع عليه من هذا الوجه أيضاً، وإلا فالزمان ليس عدداً محضاً مجرداً لكنه مركب من جرم (5) وكيفيته في سكونه أو حركته ومن عدد تلك الكيفية. وأما القول: فإنما أراد الأوائل بذلك عدد نغم اللحون، وعدد معاني الكلام، فإن لكل ذلك عدداً محصوراً في ذاته، فمنه ما نعلمه ومنه ما يغمض عنا. وأرادوا بذلك أيضاً الحروف المسموعة بالصوت المندفع من مخارج الكلام، وهي التي تسميها العامة: " حروف الهجاء " وهي التي تبتديء بأبجد أو بألف ب، ت، ث، وهي محصورة معدودة (6) لا مزيد فيها في الطبيعة البتة، وإن كانت قد تتفاوت أعدادها في اللغات، فهي في العربية ثمانية وعشرون حرفاً، وهي في العبرانية اثنان وعشرون حرفاً، وأراها

_ (1) س: ومتناهي. (2) وقوع: سقطت من س. (3) س: وماضي. (4) وثالثة: سقطت من س. (5) م: جسم. (6) م: معدودة محصورة.

في الطبع ثمانية وثلاثين حرفاً (1) ، إلى ذلك انتهى تحصيلنا فيها، وأخبرني المخبر (2) ، وهو أبو الفتوح الجرجاني (3) أنها تبلغ في اللغة الفارسية أربعين حرفاً، ولم أستخبره عن الكيفية في ذلك، إلا إن كانوا يعدون منها (4) الأصوات الحادثة من إشباع الحركات الثلاث التي هي الرفع والنصب والخفض، فحينئذ (5) تبلغ واحداً وأربعين حرفاً، وللكلام في هذا المعنى مكان آخر. وأما العدد نفسه فهو: اثنان ثلاثة أربعة فما زاد، والواحد مبدأ وليس عدداً، كما سنبينه في آخر هذا الباب، إن شاء الله عز وجل. وأما ما ذكرناه آنفا من أن من (6) العدد ما هو متصل ومنه ما هو منفصل، وما ذكرنا من الفصل المشترك، فالمعنى في الفصل المشترك أنه ما كان أنواع ما يقع عليه العدد له نهاية إذا التقت بنهاية شيء آخر من نوعه اتحد الشيئان معاً، أي صارا شيئاً واحداً، كالجرمين فإنهما إذا التقيا بعد أن كانا مفترقين، وتمازجا، فإنهما يصيران جرماً واحداً كماء جمعته إلى ماء، فصارا ماء واحداً، وتراباً واحداً (7) إلى تراب، وحيطاً إلى حيط (8) ، وما أشبه ذلك، وهذا إنما هو (9) بتلاقي سطحيهما، وكذلك إن التقى سطح وسطح، فصار (10) خطاهما خطاً واحداً، بعد أن كان السطحان [21ظ] مفترقين، كسطح عجين ضممته إلى سطح عجين آخر، فصارا

_ (1) وهي في العبرانية ... حرفاً: سقط من س. (2) م: مخبر. (3) وهو ... الجرجاني: سقط من م؛ وأبو الفتوح هذا هو ثابت بن محمد الجرجاني (350 - 431) أخذ العلم عن علماء بغداد، وهاجر إلى الأندلس، والتحق بباديس بن حبوس، فاتهم بالتدبير ضده، فأخذ وقتل؛ وخبر محنته ومقتله مفصل في الإحاطة 1: 462 وقد كان على صلة بابن حزم، وقد وصفه بالإلحاد (الفضل 1: 17) ؛ وأخباره في الجذوة: 173 (وبغية الملتمس رقم: 602) والصلة: 125 والذخيرة 1/4: 124 ومعجم الأدباء 7: 145 وبغية الوعاة 1: 482. (4) م: فيها. (5) م: فهي حينئذ. (6) س: أن من. (7) واحداً: سقط من م. (8) م: وخيط إلى خيط. (9) هو: سقطت من س. (10) س: فصارا.

عجيناً واحداً، وما أشبه ذلك. وكذلك القول في التقاء الخطين، وكل ذلك إنما هو بضم جرم إلى جرم، وكذلك مكان كان فيه زيد، ومكان كان فيه عمرو إلى جانبه، فقاما عنه، فصار المكانان مكاناً واحداً، فهذا هو الفصل المشترك بين الجرمين الذي هو آخر للأول وأول للثاني، وليس جزءاً لهما ولا لواحد منهما وإنما هو نهاية ارتفعت للأجتماع الحادث. وكذلك الفصل المشترك للزمان، فهو قولك الآن، فإن الآن نهاية للماضي (1) وابتداء للمستقبل، فإذا أتى (2) المستقبل، صار الذي كان الآن ماضياً، مع الماضي قبله، فاتحدا أي صارا زماناً واحداً ماضياً، وقولك " الآن " هو حال لا ماضياً ولا مستقبلاً، فهذا هو الذي قلنا فيه إنه متصل لأنه يتصل الشيئان منه فيصيران شيئاً واحداً. وأما قولنا في العددً والقول: إنهما منفصلان وإن لهما ترتيباً وليس لهما فصل مشترك، فهو أن الحروف التي ذكرنا آنفاً وهي حروف الهجاء فإنه لا يجوز أن تجتمع الباء مع التاء فيصيران معاً باء واحدة أو تاء واحدة أو حرفاً واحداً، وكذلك الباء مع الباء والتاء مع التاء وكل حرف مع مثله أو مع خلافه كذلك ولا فرق، بخلاف ما ذكرنا قبل من تصير المكانين مكاناً واحداً والزمانين زماناً واحداً والجرمين جرماً واحداً والسطحين سطحاً واحداً والخطين خطاً واحداً. لكن لهذه الحروف ترتيب في ضم بعضها إلى بعض، يقوم من ذلك الترتيب فهم المعاني في الكلام؛ وكذلك النغم، لا يجوز أن تصير النغمتان نغمة واحدة ولا المعنيان معنى واحداً، لكن لكل ذلك ترتيب معلوم، فلهذا سمي القول منفصلاً، وقيل فيه (3) : إنه ليس له فصل مشترك. وكذلك العدد فإنه لا يجوز أن تضم ثلاثة قد انتهت إلى ثلاثة تبتدئها فتصير الثلاثتان ثلاثة واحدة. وهكذا كل عدد إلا أن يضم بعض الأعداد إلى بعض ترتيباً ونظماً معلوماً تعرف به نسبة بعضها من بعض وحدوث أعداد من جمع بعضها إلى بعض، فهذا غاية البيان في هذا الباب، ولم نترك فيه شيئاً من اللبس بحول الله تعالى وقوته الواردة علينا الموهوبة من قبله عز وجل، وله الحمد والشكر، لا إله إلا هو.

_ (1) م: لما مضى. (2) م: مضى. (3) فيه: سقطت من م.

وذكر الأوائل أيضاً قسماً آخر لأنواع الكمية التي ذكرنا وهي أنها (1) تنقسم قسمين: أحدهما: لذي [22و] وضع (2) والآخر لغير ذي وضع. تفسير ذلك أن قوله: " ذو وضع " عبارة عما ثبتت أجزاؤه، وقوله " ما ليس ذا وضع " إنما هي عبارة عما لا تثبت أجزاؤه. فالذي تثبت أجزاؤه هو الجرم والسطح والخط والمكان، لأن أجزاء كل واحد من هذه ثابتة مع مرور العدد عليها، فإنك كلما ذرعت المكان أو الجرم كان ما ذرعت منها باقياً ثابتاً مع ما يستأنف ذرعه من باقيه. والخط والسطح معدود الذرع مع عدك ذرع الجرم الحامل لهما. وأما الذي هو غير ذي وضع فهو الزمان والعدد والقول، فإنك إذا قلت أمس أو عددت ساعات يومك وجدت كل ما تعد من ذلك فانياً ماضياً غير ثابت ولا باق، وهكذا ينقضي الأول فالأول من الزمان، وكل ما تقضى منه فهو فإن معدوم، بخلاف ما ذكرنا، قبل، من بقاء أجزاء الجرم. ونجد (3) أجزاء الزمان التي لم تأت بعد، معدومة، بخلاف جميع أجزاء الجرم، وما طواه العدد معه من سطوحه وخطوطه. وما أنت فيه من الزمان فلا يثبت ثباتاً تقدر على إقراره وإمساكه أصلاً بوجه من الوجوه، لكنه يثبت ثم ينقضي بلا مهلة، وهكذا أبداً. وكذلك أجزاء القول، إذا تكلمت، من حروفه ونغمه ومعانيه، فإن كل ما تكلمت به من ذلك (4) فقد فني وعدم، وما لم تتكلم به من ذلك فمعدوم لم يحدث بعد، والذي أنت فيه من كل ذلك فلا (5) قدرة لك على إثباته ولا إمساكه ولا إقراره أصلاً، بوجه من الوجوه، لكن (6) ينقضي أولاً فأولاً بلا مهلة، فسبحان مخترع العالم ومدبره. وأما من ظن أن الكيفيات قد تدخل تحت الكمية أيضاً وذلك لأنه سمع الناس

_ (1) س: أيضاً. (2) س: للذي هو وضع. (3) م: وكذلك تجد. (4) م: من كل ذلك. (5) س: لا. (6) م: لكنه.

يقولون: بياض كثير وبياض قليل، فذلك ظن فاسد لأنه إنما يعني بذلك سعة سطح الجرم الحامل للون أو ضيقه وقلة ذرعه، وإنما (1) الكمية هاهنا لمساحة الجرم الحامل كما قدمنا قبل، وكذلك أيضاً من قال: عمل كثير أو طويل، فإنما ذلك لكثرة الزمان وطوله. وليس للكمية ضد البتة: ليس للذراع ضد، ولا للشبر ضد، وكذلك سائر مقادير الكمية. وكذلك من ظن أن الكثير ضد للقليل، والكبير ضد للصغير فظنه فاسد، وإنما ذلك من باب الإضافة، إذ ليس في العالم شيء كبير بذاته، ولا صغير بذاته، وإنما الكبير كبير بالإضافة إلى ما هو أصغر منه، والصغير صغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه. ألا ترى أن حبة الخردل (2) كبيرة بالإضافة إلى الصؤابة وإلى طحن الخردلة، وكذلك الأرض صغيرة بالإضافة إلى الفلك، ولا جزء وإن دق إلا ومتوهم [22ظ] أدق منه. وكذلك الفلك الأعلى الذي لا شيء بالفعل أكبر منه، فالمتوهم (3) في قوة الخالق تعالى الزيادة فيه، وإحداث ما هو أعظم منه. وقد نقول: جبل صغير، وخردلة كبيرة بالإضافة إلى جبل أكبر منه، وبالإضافة إلى خردلة أخرى أصغر منها، فلو كان الصغير ضداً للكبير لكان الشيء ضداً لنفسه لأنه كبير من جهة صغير من أخرى، وهذا محال. وهكذا القول في القليل والكثير، ولا فرق، فإن المائة قليل بالإضافة إلى الألف، وكثير بالإضافة إلى العشرة، وهكذا كل عدد فمتوهم الزيادة عليه (4) أبداً. إلا أن كل ما خرج منه إلى الفعل فمتناه أبداً. ولو كان عشرة في مدينة لكان ذلك عدداً قليلاً جداً، فلو كانوا مع رجل وامرأة (5) في بيت لكانوا عدداً كثيراً جداً، وكذلك لو كانوا بنيه. واعلم أن الكثير والقليل والطويل والقصير والكبير والصغير والعظيم والحقير والجليل والدقيق والضخم والضئيل والغليظ والرقيق والجسيم (6) واليسير والتافه والنزر كل

_ (1) م: فإنما. (2) م: الخردلة. (3) م: فمتوهم. (4) تكررت لفظة " الزيادة " بعد " عليه " في م. (5) م: وامرأته. (6) م: والضخم والغليظ والضئيل ... والجم.

هذه من باب الكمية وليس كل شيء منها موصوفاً (1) به شيء في العالم على الإطلاق، لكن بالإضافة إلى ما فوقه وما دونه - على ما قدمنا -. والقبل والبعد أيضاً مما يقع في العدد لأن الاثنين قبل الثلاثة، ويقع في الزمان، ويقع في الإضافة على ما نذكر في بابها إن شاء الله تعالى. والكمية هو كل معنى حسن فيه السؤال عنه بكم، والكمية لا تقبل الأشد ولا الأضعف. لست تقول خمسة أشد من خمسة في (2) أنها خمسة، ولا أضعف منها في ذلك أيضاً، وهكذا كل عدد، وكذلك لا تقول: زمان أشد زمانية من زمان ولا أضعف. وخاصة الكمية التي (3) لا توجد في غير الكمية، ولا يخلو منها نوع من أنواع الكمية فهي مساو ولا مساو وكثير وقليل وزائد وناقص، فإنك تقول هذه العشرة مساوية للثمانية والاثنين، وغير مساوية للثمانية فقط، وهكذا في جميع أنواع الكمية. وهذه عبارة لم تعط اللغة العربية غيرها، وقد تشاركها فيها الكيفية، وهذا (4) يستبين في اللغة اللطينية عندنا استبانة ظاهرة لا تختل (5) ، وهي لفظة فيها تختص بها الكمية دون سائر المقولات العشر. وللكيفية أيضاً في اللطينية لفظة تختص بها اختصاصاً بيناً لا إشكال فيه، دون سائر المقولات، لا توجد لها ترجمة مطابقة في العربية، فإنما يصار في مثل هذا إلى الأبعد من الأشكال على حسب الموجود في اللغة، وبالله تعالى التوفيق [23و] . وبهذا الذي ذكرنا يتبين (6) أن الواحد ليس عدداً لأن العدد هو ما وجد عدد آخر مساو له، وليس للواحد عدد يساويه، لأنك إذا قسمته لم يكن واحداً بعد بل هو كسير (7) حينئذ، وبهذا وجب أن الواحد الحق إنما هو الخالق المبتدئ لجميع الخلق، وأنه ليس عدداً ولا معدوداً، والخلق كله معدود.

_ (1) س: موصوف. (2) في: سقطت من س. (3) التي: سقطت من س. (4) م: وهكذا. (5) م: تحيل. (6) م: تبين. (7) م: كثير.

3 - باب الكيفية تكاد الكيفية تعم جميع المقولات التسع، حاشا الجوهر، لكنها لما كانت جواباً فيما يسأل (1) عنه بكيف، لم تعمها عموماً كلياً مطلقاً، إذ من سأل: كيف هذا لم يجب: إنه سبع (2) أذرع، ولا إنه أمس، ولا إنه في الجامع. والكيفية هو كل ما تعاقب على جميع الأجرام ذوات الأنفس، وغير ذوات الأنفس من حال صحة وسقم وغنى وعدم وخمول ولون، وسواء كانت الأمور التي ذكرنا مزايلة: كصفرة الخوف وحمرة الخجل وكدرة الهم، أو كانت غير مزايلة كصفرة الذهب وخضرة البقل وحمرة الدم وسواد القار وبياض البلور. ومن الكيفيات أيضاً جميع أعراض النفس من عقل وحمق وحزم وسخف وشجاعة وجبن وتمييز وبلادة (3) وعلم وجهل ورضى وغضب وورع وفسق وإقرار وإنكار وحب وبغض (4) ، ومنها الطعوم والروائح والمجسات وتراكيب الكلام والحر والبرد والصور في جميع (5) الأشكال وسائر الأعراض، كل ذلك كيفية، والتضاد لا يكون إلا في الكيفيات خاصة، وليس يكون في كل كيفية، بل يكون (6) في بعضها دون بعض، والكيفيات أنواع كثيرة جداً، ففي بعض أنواع الكيفية يقع التضاد، فيكون نوع منها ضداً لنوع آخر بذاتهما. ومن خواص الكيفيات أيضاً أنها قد يكون بعضها أشد من بعض، وبعضها أضعف من بعض، كما كان بعض الكميات أكثر من بعض، وبعضها أقل من بعض. فنقول: إن صوت الرعد أشد من صوت البط وريح المسك أعبق من ريح الصندل، وطعم العسل أحلى من طعم الحنظل (7) ، وهكذا في الخشونة واللين والألوان وفي

_ (1) س: سئل. (2) س: سبعة. (3) م: وبلدة. (4) س: وبغض وحب. (5) في جميع: وجميع في م. (6) بل يكون: لكن في م. (7) م: المخيطا.

كثير من الكيفيات؛ وإنما ذلك منها فيما كانت له وسائط بين ضدين، وكانت تقبل المزاج ومداخلة بعضها بعضاً لا في كل كيفية على ما نبين في باب الكلام في التقابل إن شاء الله عز وجل. وأما استواء أشخاصها تحت النوع الجامع لها وتحت (1) الجنس فلا يجوز أن يقع في شيء من ذلك تفاوت ولا تفاضل، ولا يجوز أن يقع في شيء من ذلك (2) أشد ولا أضعف، ولا [23ظ] يجوز أن نقول: لون أشد لونية من لون آخر، أي في أن كل واحد منهما لون؛ ولسنا نعني بذلك الإشراق أو الانكسار، وكذلك لا يكون صدق أصدق من صدق آخر ولا كذب أكذب من كذب آخر وإنما يتفاضل هذا في الإثم والاستشناع فقط، وإلا فكذب المزاح كذب بحت، والكذب على الخالق عز وجل كذب بحت، وكذلك المحال كذب بحت (3) متساو كل ذلك في أنه كذب استواءً صحيحاً، لا تفاضل فيه، ولا أشد ولا أضعف، لكن بعضها أعظم إثماً وأقبح في الشناعة من بعض. وكذلك لا يكون علم بشيء أصح من علم آخر بشيء آخر، ولا جهل بشيء أكثر من جهل بشيء آخر، ولا أشد ولا أضعف. فإن دخلت وسيطة الشك في شيء من ذلك، خرجت تلك الكيفية من أن تكون علماً جملة واحدة، ولم يقع ذلك الظن تحت نوع العلم. وكذلك لا يكون سواد أشد من سواد آخر إلا وقد داخل (4) أحد السوادين بياض شابه أو حمرة أو خضرة أو صفرة. وكذلك لا تكون سرعة أشد من سرعة إلا وقد داخل إحداهما توقف في خلال الحركة. وهكذا كل ما يقال فيه أشد وأضعف، فتأمل هذا بعقلك تجده صحيحاً يقيناً لا محيد لك عنه أصلاً. وأما الخاصة التي تخص جميع الكيفيات ولا (5) تخلو منها كيفية أصلاً فهي شبيه ولا شبيه، فإنك تقول هذا الصدق شبيه بهذا الصدق، وهذا الكذب غير شبيه

_ (1) س: تحت. (2) تفاوت.. ذلك: سقط من س. (3) كذب المحال وقع في م قبل الكذب على الخالق. (4) س: دخل. (5) م: فلا.

بهذا الصدق، وهكذا في كل كيفية. وقد ذكرنا قبل أن هذه عبارة لم نقدر في اللغة العربية على أبين منها، ولهذا المعنى في اللطينية لفظة لائحة البيان غير مشتركة، ولم توجد لها في العربية ترجمة مطابقة لها فصير إلى أقرب ما وجد رافعاً للإشكال. والكيفيات أجناس وأنواع متوسطة، وأنواع أنواع، وذلك أن اللون نوع تحت الكيفية وجنس لما تحته، ثم البياض والحمرة والخضرة والصفرة أنواع تحت اللون وذوات أشخاص شتى، وهكذا كيفيات النفس: الفضيلة نوع (1) تحت الكيفية، والصبر نوع تحت الفضيلة، والحلم نوع تحت الصبر، وهذا كثير جداً. ونقول: إن الكيفيات تنقسم قسمين: جسمانية ونفسانية، فالجسمانية ما عمت الأجسام أو خصت بعضها كاللون والطعم والمجسة وغير ذلك، والنفسانية ما عمت النفوس أو خصت بعضها كالعقل والحمق والعلم والجهل والفكر والذكر والتوهم وسائر أخلاق النفس. ونقول أيضاً: إن القسمين اللذين ذكرنا ينقسم كل واحد منهما قسمين: أحدهما ما كان بالقوة، وهو ما كان يمكن ظهوره إلا أنه لم يظهر بعد، كقعود القائم وكفر المؤمن وإيمان الكافر وغضب الحليم وحلم الغضبان [24و] وسواد ما يحمل الصبغ مما لم يصبغ بعد وما أشبه ذلك. والثاني ما كان بالفعل، وهو ما (2) قد ظهر وعلم حساً أو بتوسط حس أو بالعقل، كحمرة الأحمر، وطول الطويل، وحلاوة الحلو، وإيمان المؤمن، وحلم الحليم، وما أشبه ذلك، فهذا هو معنى ما نفهمه بالحكاية (3) عن الأوائل أنهم يقولون: هذا الأمر بالقوة، وهذا الأمر بالفعل، وإنما يعنون بالقوة الإمكان وما احتملت (4) البنية أو الرتبة أن يوجد فيها أو بها، ويعنون بالفعل: الذي قد ظهر ووجد ووجب (5) .

_ (1) نوع: سقطت من س، وورد فيها " الفضيلية ". (2) ما: سقطت من س. (3) م: تسمع الحكاية. (4) س: احتمل. (5) م: ووجب وجد.

ثم نقول: إن الكيفيات أيضاً تنقسم قسمين أحدهما يسمى: " حالاً " وهو ما كان سريع الزوال كالغضب الحادث والطرب الحادث وحمرة الخجل وصفرة الفزع والقيام والقعود وما أشبه ذلك؛ والثاني يسمى " هيئة " وهو ما لم يعهد زائلاً عما هو فيه، إلا أن يتوهم زواله ويبقى الذي هو فيه بحسبه: كطبع الشح وطبع النزق وطبع السخف وكزرقة الأزرق وفطسة الأفطس وما أشبه ذلك. وأما (1) الكيفية الجسمانية فهي تقع تحت الحواس وهي تنقسم قسمين: أحدهما يحيل ضده إذا لاقاه إلى طبعه فيسمى ذلك " فاعلاً " وهذا (2) كالحر والبرد، فإن الحر إذا لاقى برداً لا يقاومه أكسب حامله حراً، والبرد إذا لاقى حراً لا يقاومه أكسب حامله برداً. والقسم الثاني يضعف هذا الأمر منه ويكثر فيه فعل القسم الأول، فيسمى هذا القسم الثاني " منفعلاً " وذلك مثل الرطوبة واليبس، فإن الحر إذا لاقى رطباً أيبسه، وقد يرطبه أيضاً، بأن تصعد إليه رطوبة. ووقوع الكيفية الجسمانية تحت الحواس ينقسم خمسة أقسام: أحدهما ما يدرك بحس البصر، والثاني ما يدرك بحس السمع، والثالث ما يدرك بحس الشم، والرابع ما يدرك بحس الذوق، والخامس ما يدرك بحس اللمس باليد أو بجميع الجسد. وكل هذه الحواس موصلات إلى النفس، والنفس هي الحساسة المدركة من قبل هذه الحواس المؤدية إليها. وهذه الحواس إلى النفس كالأبواب والأزقة والمنافذ والطرق. ودليل ذلك أن النفس إذا عرض لها عارض أو شغلها شاغل بطلت الحواس كلها، مع كون (3) الحواس سليمة، فسبحان المدبر، لا إله إلا هو. وأما (4) الذي يدرك بحس البصر فينقسم قسمين: أحدهما ما يدرك بالنظر بالعين مجرداً فقط، وليس ذلك شيئاً غير الألوان، والثاني ما أدركته النفس بالعقل والعلم وبتوسط اللون أو اللمس أو بهما جميعاً، كتناهي الطول والعرض، وشكل كل ذي

_ (1) م: فأما. (2) س: وهكذا. (3) م: على أن تكون. (4) م: فأما.

شكل من مدور ومربع وغير ذلك، والحركة أو السكون أو [24ظ] ضخم الجسم وضؤولته، وما أشبه ذلك. فإنك لما رأيت اللون قد انتهى وانقطع، علمت أن حامله قد تناهى فانتهى طوله، وكذلك علمت (1) بتناهيه من كل جهة كيفية شكل ذلك الجرم، وكذلك لما رأيت اللون منتقلاً من مكان إلى مكان علمت أن الحامل له منتقل (2) ناقل له، وكذلك لما رأيت اللون ساكناً علمت أن حامله ساكن، وهذا كله (3) يدركه البصير، والأعمى باللمس، كما قلنا في اللون، سواء سواء. فإنك إن لمست مجسة الشيء منتقلة، علمت أن حامل تلك المجسة متحرك، وإن لمستها ساكنة، علمت أن حاملها ساكن في مائية البصر وإدراكه (4) . ومن هذا ما يدرك بتوسط اللون وحده والعقل فيوصلان إلى النفس ما أدركا وما فهم العقل بتوسط إدراكه وإدراك البصر معاً، كالمعاني المفهومة المعلومة من الخط في الكتاب، فإنك بتناهي ألوان الخطوط تعلم الحروف التي من تأليفها تفهم المعنى وكمعرفتك بهيئة الإنسان أنه خجل أو خائف أو مأسور أو غضبان أو ملك أو عالم وما أشبه ذلك. فمن معرفتك برؤية اللون ومعرفة الصفات عرفت من هو المرئي وما هو. وللكلام في مائية البصر وإدراكه للألوان مكان آخر. ولكن نذكر منه ها هنا طرفاً بحسب استحقاق هذا الديوان، وهو: إن البصر إذا لاقى ملوناً وانقطع علمت أن حامله قد انتهى وانتهى طوله، وكذلك علمت (5) أنه خرج من الناظرين خطان يقعان على المرئي بلا زمان ويتشكل ذلك المرئي فيهما، وفي قوة الناظر قبول لجميع الألوان. وإنما قلنا بلا زمان، لأنك ترى الكواكب التي في الأفلاك البعيدة إذا أطبقت بصرك ثم فتحته بلا زمان. وكذلك إذا أطبقت بصرك ثم فتحته فإنك ترى أقرب الأشياء إليك في مثل الحال التي رأيت فيها الكواكب لا في أسرع منها، فصح أنه يقع على المرئي بلا زمان. وأيضاً فإن في الطريق إلى المرئي البعيد (6) أشياء كثيرة لا يقع عليها البصر،

_ (1) وانقطع ... علمت: سقط من س. (2) م: الحامل منتقل له. (3) م: كله أيضاً. (4) في ... وإدراكه: سقط من م. (5) وانقطع.. علمت: سقط من م. (6) البعيد: لم ترد في س.

إما بظلام (1) حواليها، وإما لاشتباه الألوان، فلو قطع الأماكن بنقلة زمانية لرأى الأقرب قبل الأبعد. وإنما قلنا بخروج الخطين من الناظرين دون الرأي الآخر الذي لبعض الأوائل، لأننا نقدر على صرف ذينك الخطين كيف شئنا، بمرآة تقابل مرآة أخرى فترد قوة النظر إلى قفا الناظر. وقد ترد ذينك الخطين أيضاً الأبخرة المتصاعدة والماء وغير ذلك، وبمرآة تنظر فيها فينعكس ذانك الخطان فترى وجهك. وكذلك أيضاً (2) ينعكس الصوت الخارج من الصائح قبالة جبل بعد أن يقرع الجبل فيرجع إلى أذن ذلك الصائح، فيسمع صوته نفسه كأن مكلماً آخر رد [25و] عليه مثل كلامه، وفي هذا كفاية. وأما المحسوس بالسمع فينقسم قسمين: أحدهما الإدراك بسمع الأذن نفسه بذاته بلا واسطة (3) ، لكن بملاقاة الهواء المندفع ما بين المصوت، أي شيء كان، وما يقرع أو ما يقرعه، بالطبع الذي ركبه فيه الباري عز وجل إلى صماخ (4) أذن السامع. وهو يقطع الأماكن في مدة متفاوتة على قدر البعد والقرب وقوة (5) القرع وضعفه، فلذلك صار بين أول القرع الذي هو عنصر الصوت وبين سماع السامع له مدة؛ وإنا نستبين (6) ذلك إذا كان المصوت منك على بعد جداً فحينئذ يصح أن له مدة كالذي يشاهد (7) من ضرب القصار الأرض بالثوب فنراه حين يفعله (8) بلا زمان ثم يقيم (9) حيناً، وحينئذ يتأدى إلينا الصوت. وهكذا القول في الرعود الحادثة مع البروق فإن البرق يرى أولاً حين حدوثه في الجو بلا مهلة ثم يقيم (10) حينئذ حيناً ثم يسمع الرعد، ذلك تقدير العزيز العليم.

_ (1) م: لظلم. (2) أيضاً: سقط من س. (3) م: بلا توسط. (4) صماخ: في م وحدها. (5) م: في قوة. (6) م: وإنما يستبين. (7) م: نشاهد. (8) س: يقلعه. (9) م: نقيم. (10) م: ونقيم.

والقسم الثاني هو ما تدركه النفس بالعقل والعلم وبتوسط الصوت مثل تأليف اللحون وتركيب النغم ومعاني الكلام المسموع وما أشبه ذلك، إذ إنما تأدى إلينا كل ذلك بحاسة السمع وتوسطها. وبهذا القسم صح لنا أن نقول سمعنا كلام الله عز وجل وسمعنا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسمعنا كلام فلان وفلان ممن لم نشاهده وقدم زمانه من السالفين من البلغاء والشعراء وكل من حكي لنا كلامه. ومن ذلك تمييزك بالكلام من هو المتكلم وما حاله: أسائل أم ملك أم مريض وما أشبه ذلك، وكمعرفتك بالصوت ما هو المصوت وأي الأشياء هو. وأما المحسوس بالشم فهي الأرائح (1) من الطيب والنتن وما بينهما من الوسائط كروائح بعض المعادن (2) وما أشبه ذلك. والشم هو إدراك النفس بتوسط الشم من الأنف تغيراً يحدث في الهواء الذي بينهما وبين المشموم وانفعالاً من طبع المشموم وانحلال بعض أجزائه من رطوباته. وقد تدرك النفس أيضاً بتوسط العقل والشم معرفة مائية المشموم الرائحة كمعرفتنا المسك بتمييزنا رائحته، والنتن كذلك، وكذلك سائر المشمومات. وأما المحسوس بالذوق فهو الطعوم كالحلاوة والمرارة والتفاهة والزعوقة (3) والملوحة والحموضة والحرافة والعفوصة؛ وهو إدراك النفس بملاقاة أعضاء الفم جسم المطعوم (4) ، لا بتوسط شيء (5) بينها وبينه إلا انحلال (6) ما ينحل من المطعوم من رطوباته فيمازج رطوبة الحنك واللسان والشفتين واللهوات. وقد تدرك الأعضاء [25ظ] المذكورة أيضاً بعض الطعوم (7) بتوسط الهواء وانحلال بعض أجزاء الطعوم فيه كالحنظل المدقوق؛ وقد تدرك النفس أيضاً بتوسط الذوق والعقل معرفة مائبة المذوق كمعرفتنا بذوق العسل في الظلام أنه عسل وكذلك غير ذلك من المذوقات ومعرفتنا بأنه عسل غير معرفتنا بأنه حلو. أما معرفة أنه حلو فبالذوق مجرداً وأما معرفة أنه عسل فبتوسط العقل والذوق معاً. وكذلك القول (8) في الأقسام المتقدمة

_ (1) م: الأراييح. (2) م: المعاذر. (3) س: والتفاهة والدعوق. (4) م: الطعوم. (5) شيء: سقطت من س. (6) س: إلا بانحلال؛ وسقطت " إلا " في م. (7) م: الطعوم. (8) القول: سقطت في م.

في سائر الحواس. وأما ما لا ينحل منه شيء فلا طعم له ولا رائحة كبعض الحجارة وكالزجاج وما أشبه ذلك، على قدر قوة ما ينحل من المذوق تدرك النفس طعمه. وأما المحسوس باللمس فهو ينقسم قسمين: أحدهما ما (1) تدركه النفس بملاقاة بشرة الجسد السليم لسطح الملموس بلا توسط شيء بينهما، إما من استواء أجزاء سطحه ويسمى ذلك املاساً (2) ، وإما من ثباته فيسمى صلابة، وإما من تفرقها فيسمى تهيلاً أو تهولاً (3) ، وإما من اختلاف أجزاء سطحه ويسمى (4) ذلك خشونة. والثاني ما أدركته النفس بالعقل والعلم وبتوسط اللمس المذكور أو البصر كالذي قدمنا قبل من معرفة تناهي الجسم وكيفية الأشكال والحركة ومائية الملموس: أي (5) شيء هو فإنه يعرف ما هو بتوسط العقل واللمس معاً أو بحس النفس مجرداً أو بتوسط (6) اللمس وحده بلا عقل (7) كالحر والبرد والرطوبة واليبس. فقد صح كما ترى أن العقل يشارك جميع الحواس فيما تدركه وينفرد عنها بالدلالة على أشياء كثيرة وإدراك أشياء جمة. 4 - باب الإضافة الإضافة على الحقيقة: هي ضم شيء إلى شيء وها هنا عبارة أخرى أخص (8) بالمعنى المراد بالإضافة في طريق الفلسفة وهي أن تقول: الإضافة هي نسبة شيء من شيء وحسابه منه، كالقليل الذي لا يكون قليلاً إلا بإضافته إلى ما هو أكثر منه ونسبته إليه وحساب قدره من قدره.

_ (1) ما: سقطت من م. (2) س: بذلك. (3) م: ترهلاً أة تهيلاً. (4) م: فيسمى. (5) أي أي. (6) أو بتوسط: وتوسط في م. (7) بلا عقل: في م وحدها. (8) م: هي أخص.

وأما الغرض المقصود بالإضافة في هذا المكان (1) فهو نسبة شيئين متجانسين ثبات كل واحد منهما بثبات الآخر يدور عليه ولا ينافيه. ومعنى قولنا متجانسين أي أنهما تحت جنس واحد من المقولات العشر التي قدمنا أنها أجناس الأجناس. والمضافان هما الشيئان اللذان لا يثبت واحد منهما إلا بثبات الآخر. وبالجملة فإن الأوائل لما رأوا شيئين لا يثبت (2) أحدهما إلا بثبات الآخر، رأوا أن (3) ضم كل واحد منهما إلى صاحبه معنى ثالث غيرهما، فجعلوا ذلك [26و] المعنى رأساً من رؤوس المقولات وهو الإضافة، فتكلموا عليه مجرداً، وإن كان لا يتجرد، لكن كما تكلموا على الكيفية مجردة وعلى الكمية مجردة، وعلى الجوهر مجرداً، وإن كان الجوهر لا يخلو أبداً من كيفية وكمية وزمان ومكان، ولا تخلو الكيفية من جوهر يحملها، ولا تخلو الكمية من معدود، ولا الزمان من ساكن أو متحرك، ولا المكان من متمكن، لكن لتخلص الأشياء المتغايرات ويتبين (4) لكل طالب للعلم حكم كل شيء على انفراده، فإنما أتت البلية في الآراء والديانات من قبل امتزاج الكلام والضعف عن تخليص حكم كل شيء لما هو مخصوص به دون غيره. والمضاف ينقسم قسمين لنظير ولغير نظير، فالنظير هو الذي يتفق فيه المضافان بالأسم والإضافة معاً، كقولك: المصادق أو الجار أو الأخ أو المعادي (5) فإنه لا يكون أحد مصادقاً لأحد إلا وذلك الآخر مصادق له وكذلك المعادي والأخ والجار. وأما (6) الذي يخرج من باب هذه الإضافة فالصديق والعدو فقد يكون المرء صديقاً لمن ليس هو (7) له صديقاً أي محباً وكذلك العدو فقد يعادي الإنسان من يحبه ككثير من الأبناء لآبائهم وبعض الأزواج لبعضهم. وأما غير النظير فينقسم قسمين: أحدهما ما كانت فيه ذات كل أحد (8) من المضافين موجودة قبل الإضافة، مثل

_ (1) م: الكتاب. (2) م: يثبت كل. (3) رأوا أن: وأن في س. (4) م: ولكن ليخلصوا ... ويبينوا. (5) ربط بين هذه الألفاظ بواو العطف في م. (6) م: وإنما. (7) هو: سقطت من س. (8) م: واحد.

المالك والمملوك والزوج والزوجة، فإن المملوك قد يكون موجوداً فلم يكن أباً حتى وجد الابن، وبالجملة فاستحقاق أحد المضافين لاسم الإضافة بينهما سواء، لا يتقدم أحدهما الآخر فيها، وذلك لأنه إذا ذكر أحد المضافين بالاسم الذي يقتضي الإضافة دل ذلك على وجود الآخر ضرورة كقولنا أب، فإن هذا الاسم يقتضي ابناً مضافاً إليه ضرورة (1) ، وهكذا كل مضاف. وكذلك لا يجوز أن نقول ضعف إلا ووجب مضعوف، والمضعوف هو اسم لعدد يسمى النصف الثاني إذا أضيف إلى هذا النصف ضعفاً له، وهكذا القول في الصغير والكبير (2) والقليل والكثير والخفيف والثقيل والرخو والمكتنز [26ظ] والمساوي والمثل وغير ذلك مما يقتضي مضافاً إليه. والإضافة تقع في جميع المقولات إذا أصبت (3) في إدارتها وإيقاع حكمها فإنك تقول في الكيفية: الهيئة هيئة للمتهيء بها، والمتهيء بالهيئة ذو هيئة، والجعد جعد بالجعودة، والجعودة جعودة للجعد، وكذلك العلم يقتضي عالماً والعالم فيما بيننا يقتضي علماً، وكذلك سائر الكيفيات (4) . وكذلك جميع الكميات: فالعدد يقتضي معدوداً والمعدود يقتضي عدداً. وكذلك المكان يقتضي متمكناً والمتككن يقتضي مكاناً. وكذلك ذو (5) الزمان يقتضي زماناً، والزمان يقتضي ذا زمان. وكذلك القيام والقعود والملك والفعل والانفعال. وإنما تكون الإضافة صحيحة إذا أصبت (6) في لفظ إيقاعها وإدارتها. ولذلك قالت الأوائل إن الإضافة

_ (1) كقولنا ... ضرورة: سقط من س. (2) م: الكبير والصغير. (3) م: أصيب. (4) م: سائر جميع الكيفيات. (5) ذو: سقطت من م. (6) م: أصيب.

موجودة في المقولات كلها بالعرض لا بالطبع، أي أنها ليست موجودة في اقتضاء اللفظ لها على كل حال لأنك إذا قلت: الطائر بالجناح طائر كان غير مستقيم لأنك تجد ذا جناح لا يطير كالنعام وتجد ما قد ذهب جناحه بآفة وهو يسمى طائراً، ولكن إن قلت: ذو الجناح بالجناح ذو جناح والجناح لذي الجناح جناح كان قولك صحيحاً صواباً، فتحفظ من مثل هذا في مناظرتك وفي طلبك (1) الحقائق فإنك ربما ألزمت في شيء أنه يقتضي شيئاً آخر فتجيب إليه وذلك غير واجب عليك ولا لازم (2) لك - على ما قدمنا - وهذا من أغاليط الأرذال الممخرقين، وذلك نحو قول بعض الكذابين: الفاعل من أجل فعله جسم، والباري جل وتعالى فاعل، فالباري جسم، فهذا فاسد جداً لما قد (3) بينا لك لأنه ليس من أجل أن الفاعل فاعل وجب أن يكون جسماً، لكن الصواب في القضية أن نقول: الفاعل بالفعل فاعل أو ذو فعل فهذه قضية صحيحة تعلمها النفس بأول العقل. وقد غالط بعضهم أيضاً فقال: السميع بالسمع سميع والحي بالحياة حي فأرادوا أن يوجبوا للباري تعالى حياة وسمعاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؛ ونحن لم نسم الباري تعالى حياً من أجل وجود الحياة له فيلزمنا إضافة الحياة إليه، وكذلك التسمية له تعالى بأنه سميع بصير؛ وإنما سميناه حياً وسميعاً وبصيراً اتباعاً للنص لا لمعنى أوجب ذلك وليس شيء من ذلك مشتقاً من عرض فيه، تعالى الله (4) عن أقوال الجهلة الملحدين، وعن أن (5) يقع تحت الأجناس والأنواع وعن [27و] حمل الأعراض فكل هذا تركيب لا يكون إلا في محدث وإنما هذه أسماء أعلام للباري تعالى فقط. وكذلك القول في أن المجداف للسفينة مجداف والسفينة بالمجداف سفينة خطأ لكن الصواب أن تقول المجداف للمجدوف مجداف والمجدوف بالمجداف مجدوف. وكذلك لو قال إنسان: الراس بالإنسان راس والإنسان بالرأس

_ (1) م: مناظراتك وطلب الحقائق. (2) س: وإلا لزم. (3) قد: سقطت من م. (4) الله: لم ترد في م. (5) وعن أن: وأن في س.

إنسان لكان خطأ، إذ قد يكون ذو رأس ليس إنساناً، لكن الصواب ذو الرأس بالرأس ذو رأس والرأس لذي الرأس رأس فهذه الرتبة هي غاية الصحة والإصابة. فهذه هي (1) الرؤوس الأربعة والست البواقي منها مركبات على ما يقع في أبوابها إن شاء الله تعالى (2) . 5 - باب القول على الزمان قد بينا في باب الكمية ما الزمان وما معنى هذه اللفظة وأنها مدة وجود الجرم ساكناً أو متحركاً، فلو لم يكن جرم لم تكن مدة، ولو لم تكن مدة لم يكن جرم. وقد ذكرنا في باب الإضافة وجه كون الزمان مضافاً، والله جل وتعالى (3) ليس جرماً ولا محمولاً في جرم فلا زمان له ولا مدة، تعالى الله عن ذلك، ولو كانت له تعالى مدة لكان معه أول آخر غيره، ولو كان ذلك لوقع العدد عليهما ودخلا بعددهما تحت نوع من أنواع الكمية. ولو كان ذلك لكان تعالى محصوراً محدوداً (4) محدثاً، تعالى الله عن ذلك. وهو تعالى لا يجمعه مع خلقه عدد إذ لا يكون الشيئان معدودين بعدد واحد إلا باجتماعهما في معنى واحد ولا معنى يجمع (5) الخالق والخلق أصلاً. والزمان ينقسم ثلاثة أقسام: أحدهما مقيم وهو الذي يسميه النحويون فعل الحال ثم ماض ثم آت وهو الذي يسميه النحويون الفعل المستقبل. وقد أكثروا في الخوض في أيها قبل وإنما ذلك للجهل بطبائع الأشياء وحقائقها. وهذا أمر بين وهو أن الحال وهو الزمان المقيم أولها كلها لأن الفعل حركة أو سكون يقعان في مدة فإذا كان زمان الفعل أولاً لغيره من الأزمان، فالفعل الذي فيه أول لغيره من الأفعال ضرورة، والزمان المقيم أول الأزمنة كلها لأنه قبل أن يوجد مقيماً لم يكن موجوداً البتة ولا كان شيئاً أصلاً، وما ليس شيئاً فإنما هو عدم فلا وجه للكلام فيه بأكثر من أنه عدم ولا

_ (1) هي: سقطت من س. (2) إن شاء الله تعالى: والله أعلم بالصواب في م. (3) م: والباري تعالى. (4) محدوداً: سقطت من س. (5) س: لجمع.

شيء. ثم لما وجد كان ذلك أول مراتبه في الحقيقة، ثم انقضى وصار (1) ماضياً وصح الكلام فيه لأنه قد كان حقاً [27ظ] موجوداً. وإنما غلط من غلط في هذا الباب لوجهين: أحدهما أنه راعى حال نفسه فلما وجد نفسه مستقبلة للأمور قبل كونها وللزمان قبل حلوله وقبل مضي كل ذلك، قدر أن (2) الزمان المستقبل قبل المقيم وقبل الماضي وهذا غلط فاحش وجهل شديد، لأنه موافق لنا من حيث لا يفهم. ألا ترى أنه إنما جعل الأول في الرتبة كونه مستقبلاً لما لم يأت وهذا هو الزمان المقيم على الحقيقة، وفعله لذلك هو فعل الحال لا غيره، وهو الذي قلنا فيه إنه أول الأزمنة والمقدم من الأفعال، ثم جاء ذلك الزمان المستقبل والفعل المنتظر معه بعد ذلك. والماضي أشد تحققاً من المستقبل لأن الماضي قد كان موجوداً ومعنى صحيحاً يحسن (3) الأخبار عنه وتقع الكمية عليه والكيفية، والمستقبل بخلاف ذلك كله. واعلم أن الموجود من هذه الأزمنة هو المقيم وحده، والموجود من الأفعال هو المسمى حالاً الذي هو في الزمان المقيم، لأن الماضي إنما كان موجوداً وثابتاً وصحيحاً وحقيقة وشيئاً إذ كان مقيماً، ثم لما انتقل عن رتبة كونه مقيماً عدم وبطل وتلاشى. والمستقبل إنما يوجد ويصح ويثبت ويصير حقيقة وشيئاً إذا صار مقيماً وأما قبل ذلك فليس شيئاً وإنما هو عدم وباطل. فتدبر هذا بعقلك تجده ضرورياً يقيناً لا محيد عنه ولا سبيل إلى غيره إلا لمن كابر حسه وناكر عقله، نعوذ بالله من ذلك. والوجه الثاني أن الذي لم يحقق النظر لما لم يقدر على إمساك الزمان وقتين تفلت عليه ضبط الزمان المقيم ولم يكد يتحقق ذلك لحسه. فليعلم (4) أن الزمان لا يثبت وإنما هو منقض أبداً شيئاً بعد شيء، والزمان المقيم هو الآن؛ فإن قولك " الآن " هو فصل موجود أبداً بين الزمان الماضي والزمان الآتي؛ والآن هو الموجود في الحقيقة من الزمان أبداً، وما قبل الآن

_ (1) م: فصار. (2) أن: سقطت من م. (3) س: لحسن. (4) س: فلتعلم.

فماض وما بعد الآن فمستقبل؛ إلا أن العبارة في اللغة العربية عن الزمان المقيم والزمان المستقبل بلفظ واحد وهو في اللغة الأعجمية بصيغتين مختلفتين وذلك أوضح في البيان والإفهام. إلا أن في اللغة العربية إذا أردت تخليص المستقبل محضاً ورفع الاشكال عنه أدخلت عليه (1) السين أو سوف فقلت سيكون أو سوف يكون فأتى المستقبل مجرداً مخلصاً. وإن شئت زدت لفظاً غير هذا [28و] وهو مثل قولك غداً أو بعد ساعة أو فيما يستأنف أو ما أشبه ذلك من الألفاظ (2) التي تحدد (3) معنى الاستقبال مخلصاً بلا إشكال. والزمان مركب من جرم ومن كيفية في سكونه أو حركته ومن عدد أجزاء سكونه أو أجزاء حركاته فلذلك لم يكن رأساً مع الأربع المقولات المتقدمات. والقبل والبعد واقع في الزمان بإضافة بعضه إلى بعض، والله أعلم. 6 - باب القول في (4) المكان المكان (5) هو ما كان جواباً في السؤال بأين: فتقول أين محمد فيقول المجيب: في المسجد أو في القصر أو في منزله أو ما أشبه ذلك. والمكان لا يكون البتة إلا جرماً، لا يجوز غير ذلك. وإنما تركب المكان من جرم أضيف إلى جرم بمعنى أنه لاقى أحد سطوح المكان أحد سطوح المتمكن أو بعضها أو جميعها على حسب تمكن المتمكن في المكان. والمتمكن مع المكان ينقسم قسمين: أحدهما أن يكون المتمكن متشكلاً بشكل المكان الذي هو فيه وذلك مثل كل شيء مائع الأشياء أو منثورها، في كل شيء (6) جامد الأجزاء أو مجموعها، كالماء في الخابية فإنه يتشكل بشكل الخابية (7) حتى لو تمثلته قائماً لرأيته في صفة الخابية نفسها، وترى ذلك عياناً إذا جمد الماء (8)

_ (1) عليه: سقطت من م. (2) م: ما أشبه هذه الألفاظ. (3) م: مما يجرد. (4) م: على. (5) المكان: في م وحدها. (6) شيء: في م وحدها. (7) في صفة الخابية: سقطت من م. (8) الماء: سقطت من م.

فيها بعد ميعانه وانكسرت الخابية، وكالبر والدقيق في الإناء المربع أو المثلث أو غير ذلك من الأشكال فإنك ترى كل ذلك أيضاً متشكلاً بشكل إنائه أو البيت الذي هو فيه على ما قدمنا قبل، فهذا قسم. والقسم الثاني أن يكون المكان متشكلاً بشكل المتمكن فيه وذلك معكوس القسم الذي ذكرنا قبل، وهو كون كل جامد الأجزاء أو مجتمعها في كل مائع الأجزاء أو منثورها ككون الجرم في الماء أو في الهواء فإن مكانه فيهما متصور بصورته، ويمثل ذلك بجرم بيضة أو عود أدخلته في ماء فجمد الماء حواليه (1) بعد أن كان مائعاً فإنك تجده متشكلاً بشكل ما هو فيه أي متصور بصورته وهيئته. وكذلك كون الحجر في الدقيق أو البر فإن مكانه متشكل بشكله. والهواء جرم من الأجرام ذو جهات ست قابل للمتضادات من الحر والبرد والرطوبة واليبس إلا أنه لما لم يكن ملوناً لم تقع عليه حاسة البصر فلم ير. وأنت تعلم أنه جرم بحركتك يدك أو المروحة أو إذا (2) عدا بك فرس سريع فإنك تجد جرماً ملاقياً لك تحسه حساً قوياً لا ينكره إلا جاهل سخيف أو معاند. وكون الأجرام فيه متمكنة وهو مكان لها ككون الحيوان المائي في الماء، متى أنتقل [28 ظ] جرم من الأجرام التي في الهواء أو الماء من المكان الذي كان فيه إلى مكان آخر انتقل ما كان في مكانه الذي صار إليه من الهواء ومن الماء إلى المكان الذي كان فيه إلى مكان آخر انتقل ما كان في مكانه الذي صار إليه من الهواء ومن الماء إلى المكان الذي خرج عنه؛ والخلاء باطل وتفسيره مكان لا متمكن فيه، إذ المكان والمتمكن من باب الإضافة، فلا يكون متمكن إلا في مكان ولا مكان إلا لمتمكن ضرورة. والبرهان على بطلان الخلاء لذكره مكان غير هذا، إلا أنا ندل منه على طرف كاف إن شاء الله عز وجل لنتم الكلام في طبيعة المكان وهو ما تراه من فعل الإناء المتخذ للهو الصبيان المسمى سارقة الماء وفعل الزراقة والمحجمة، فإن هذه الأشياء تستحيل بها الأشياء الثقال التي من طبعها الرسوب عن طبائعها في السفل إلى الارتفاع والتصعد

_ (1) س: حواليها. (2) أو إذا: وإذا في م.

لأنه لو خرج (1) الهواء من هذه الأشياء أو الماء ولم يستخلف مكان كل ذلك جرماً آخر لكان ذلك المكان خالياً، ولو كان ذلك لصح الخلاء، فلما لم يكن ذلك أصلاً بوجه من الوجوه علمنا أن الخلاء محال معدوم لا سبيل إليه. وفي هذا كفاية (2) . فإن قال قائل: إذا كان كل (3) جرم يقتضي مكاناً وكان كل مكان جرماً (4) فكل مكان يقتضي مكاناً أبداً. وأراد بهذا أن يثبت أن لا نهاية لجرم العالم فهذا شغب فاسد. وقد أوضحنا تناهي جرم الفلك والعالم في " كتاب الفصل (5) " فأغنى عن ترداده إلا أنا نذكر ها هنا منه طرفاً ليتم الغرض إن شاء الله. وإنما نورد في هذا الكتاب ما يليق بمعناه المقصود فيه، بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى نتأيد: إن الجرم واقع تحت الكمية بذرعه على ما قدمنا وكرة العالم جرم قد ظهر بالفعل، فالعدد واقع على مساحته ضرورة، ولا يقع العدد إلا على محصور به أي معدود به، وقد قدمنا أنه لا عدد إلا وله أعداد أخر إذا جمعت كانت له (6) مساوية، ولا تقع المساواة إلا في متناه ضرورة، وكل ما وقع عليه الإحصاء بالعدد والكمية فمتناه ولا بد، وأيضاً فكل عدد خرج إلى حد الفعل فذو أجزاء كنصف وثلث وما أشبه ذلك وكل هذا يوجب النهاية يقيناً وهذا من باب الإضافة، فالفلك الذي هو محيط بالعالم كله متناه (7) ضرورة.

_ (1) لأنه لو خرج: لولوج في س. (2) تحدث ابن حزم عن هذا الموضوع بشيء من الإسهاب في الفصل 1: 25 - 27 ثم قال: 32 ومما يبطل به الخلاء الذي سموه مكاناً مطلقاً وذكروا أنه لا يتناهى وأنه مكان لا متمكن فيه برهان ضروري لا انفكاك منه وأطراف شيء أنه برهانهم الذي موهوا به وشغبوا بإيراده وأرادوا به إثبات الخلاء، وهو: أننا نرى الأرض والماء والأجسام الترابية من الصخور والزئبق ونحو ذلك طباعها السفل أبداً وطلب الوسط والمركز وأنها لا تفارق هذا الطبع فتصعد إلا بقسر يغلبها ويدخل عليها كرفعنا الماء والحجر قهراً، فإذا رفعناهما ارتفعا، فإذا تركناهما عاد إلى طبعهما بالرسوب؛ ونجد النار والهواء طبعهما الصعود والبعد عن المركز والوسط، ولا يفارقان هذا الطبع إلا بحركة قسراً تدخل عليهما، يرى ذلك عياناً كالزق المنفوخ والإناء المجوف المصوب في الماء، فإذا زالت تلك الحركة القسرية رجعا إلى طبعهما. ثم نجد الإناء المسمى سارقة الماء يبقى فيها صعداً ولا ينسفل ونجد الزراقة ترفع التراب والزئبق والماء ... ونجد المحجة تمص الجسم الأرضي إلى نفسها. (3) كل: سقطت من س. (4) م: وكل مكان جرم. (5) الفصل 1: 14 وما بعدها. (6) له: سقطت من م. (7) س م: متناهي (وله أشباه كثيرة) .

فإن قال قائل: فإن الفلك له مكان (1) قيل له، وبالله تعالى التوفيق: كل جزء منه فالجزء الملاصق له هو مكان له لا مكان له غيره البتة، وحركته دورية لا ينتقل بها عن مكانه لكن يصير كل جزء حيث كان الذي يليه فقط، إلا أن الصفحة العليا منه لا يلاصقها من أعلاها شيء أصلاً بوجه من الوجوه لا خلاء ولا ملاء، ولا فوقه لا مكان ولا متمكن ولا مساحة [29و] ولا شيء (2) يقع عليه الوهم بوجه من الوجوه. وقد قدمنا أن كل جرم فذو ستة سطوح: فوق وأسفل ويمين وشمال وأمام ووراء، والفوق والأسفل قد يقع في الإضافة لأنه توجد أشياء هي فوق أشياء وتحت أخر، وقد لا يقعان أيضاً في باب الإضافة من هذا الوجه فإن صفحة الفلك العليا فوق لا فوق له أصلاً، فليست تحتاً لشيء البتة، ومركز كرة الأرض تحت لا تحت له أصلاً فليس فوقاً لشيء البتة. والمركز المذكور مبدأ من قبلنا وصفحة الفلك العليا نهاية لذلك المبدأ أي موقف لا تمادي وراءه. ولسنا نعني بهذا إثبات أن له وراء، بل إنما نعني أنه متناهي الذرع لا وراء له ولا فوق ولا بعد أصلاً. وهكذا مرادنا في قولنا إن زماناً سابقاً لم يكن قبله زمان إنما مرادنا بذلك أنه ذو مبدأ وليس لذلك المبدأ قبل فيكون قد تقدمه زمان. وصفحة الفلك العليا مبدأمن قبل الطبيعة الكلية أي وجود الأشياء وعمومها وإحاطتها. والمركز المذكور نهاية لذلك المبدأ أي موقف لا تمادي بعده، فجل الخالق الأول لا إله إلا هو. والمكان مركب من كيفية وجوهر مع جوهر. 7 - باب النصبة النصبة كيفية صحيحة لا شك فيها وهي نوع من أنواع الكيفية، إلا أنهم خصوا بهذا (3) الاسم نعني (4) النصبة هيئة المتمكن في المكان كقيامه فيه أو قعوده أو بروكه أو اضطجاعه وما أشبه ذلك.

_ (1) فإن الفلك له مكان: فأين الفلك في م. (2) شيء: سقط من س. (3) س: بها. (4) س: فمعنى.

8 - باب الملك الملك إضافة صحيحة إلا أنهم خصوا بهذا الاسم نعني الملك ما كان من الإضافة متملكاً للجوهر كالأموال وما أشبهها وهذا حقيقة الملك. وهو (1) مركب من جوهر مع جوهر وإضافة إلا أن بعض الأوائل أدخلوا في الملك قولك: لفلان يد ورجل وبه حرارة وما أشبه ذلك، وهذا عندنا قضاء فاسد فلا وجه للاشتغال به إذ غرضنا الحقائق وما قام به (2) برهان أو جزء من برهان يوصل إلى معرفتها، وبالله تعالى التوفيق لا إله إلا هو (3) . 9 - باب الفاعل الفعل تأثير يكون من الجرم المختار أو المطبوع في جرم آخر، فإما أن يحيله إلى طبعه فيخلعه عن نوعه ويلبسه نوع نفسه، وإما أن يحيله عن بعض [29ظ] كيفياته إلى كيفيات أخر، وإما أن يفعل فعلاً مجرداً كالمتحرك والقائم (4) والمتفكر وما أشبه ذلك. فأما (5) القسمان الأولان فالأول منهما كفعل (6) النار في الماء والهواء فإنها تخلعهما عن صفات أنواعهما (7) الجوهرية وتكسوهما صفات نوعها الجوهرية (8) أي تحيلهما ناراً. وكالآكل فإنه يحيل طبيعة ما أكل إلى نوعه. وأما الثاني فكفعل السكين والحجر والقاطع بهما فإنهما يحيلان عن الاجتماع إلى الافتراق ومثل ذلك كثير، وكطبع العناصر المركب منها الإنسان في أن يحيل كل

_ (1) م: فهو. (2) م: منه. (3) لا إله إلا هو: لم يرد في م. (4) م: والعالم. (5) س: وأما. (6) م: أما الأول منهما فكفعل. (7) م: نوعهما. (8) تكسوهما ... الجوهرية: في م وحدها.

قوي (1) منها ما لاقى من سائرها إلى نوعه، ووجد (2) ذلك في كل ما تركب منها فكل امريء يريد التكثر بغيره في أعراضه، تبارك المدبر لا إله إلا هو. والفعل ينقسم قسمين: إما فعل يبقى أثره بعد انقضائه كفعل الحراث والنجار والزواق، وإما فعل لا يبقى أثره بعد انقضائه كالسابح والماشي والمتكلم وما أشبه ذلك. والفاعل والمنفعل مركبان من جوهر وجوهر وكيفية. 10 - باب المنفعل المنفعل هو المتهيء لقبول الفعل الذي ذكرنا كالمحترق والمستحيل بالنار والمنقطع بالسكين والمخيط بالإبرة وما أشبه ذلك؛ وهذه الأشياء كلها وإن كانت إنما تكون بمعاناة (3) غيرها فلولا أن قبول التأثير في طباعها لم يمكن الفاعل فيها أن يفعل شيئاً فيها (4) البتة؛ فإن لم يكن ذلك كذلك فليخط بقناة (5) أو بموزة أو يحرق بنفخة أو يقطع (6) برجله. وهذه المعارضات شغب وسفسطة من المعترضين بها القائلين: لم تحترق النار وإنما أحرق بها الإنسان ولا قطعت السكين وإنما قطع الإنسان بها فأردنا بيان أن في السكين قوة وفي النار كذلك لولاهما ما أمكن الإنسان أن يفعل بهما فعلاً مما يحدث عنهما. واعلم أن المنفعل أيضاً يؤثر في الفاعل فيه (7) لا بد من ذلك إلا أنه أقل تأثيراً، فأنك لو أدمت (8) الإدارة بضابط حديد ذكر صقيل في رق أملس رطب لأثر ذلك مع الطول في الضابط تأثيراً يظهر إلى كل من له أدنى حس ظهوراً لائحاً واضحاً. وهكذا كل مؤثر في العالم ولا تحاش شيئاً أصلاً وإن بعد عن حسك، فإن مع الطول والتمادي ومرور الدهور المتواترة يظهر ظهوراً جلياً ولو أنه جر إصبع على حديدة،

_ (1) الإنسان ... قوي: سقط من م. (2) م: وجد. (3) س: بمعناه. (4) م: يفعل فيها شيئاً. (5) م: بقثاءة. (6) م: وليحرق ... وليقطع. (7) س: الفعل. (8) س: أدمنت.

ج باب الكلام على الغير والمثل والخلاف والضد والمنافي والمقابلة والقنية

فسبحان المؤثر الحق الذي لا يؤثر فيه شيء لا إله إلا هو. وهذه مرتبة (1) تقتضي وجود الخالق المؤثر الذي ليس مؤثراً فيه [30و] ضرورة على ما بينا في كتاب الفصل. وذكر الأوائل أن أسطقسين من الأسطقسات (2) الأربعة فاعلان وهما: الحرارة والبرودة، وأن اسطقسين منهما منفعلان (3) وهما: الرطوبة واليبوسة، وهذا حكم صحيح، ومرادهم بذلك أن الحرارة والبرودة إذا لقيا شيئاً ما رداه إلى طبعهما ولا تفعل ذلك الرطوبة ولا اليبوسة. فإن قال قائل: قد ترطب الرطوبة ما قابلت، وتيبس اليبوسة ما لقيت، فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن القضايا التي يوثق بها هي التي تصدق أبداً، لا التي تصدق مرة وتكذب أخرى (4) ؛ وليس كل شيء يرطب بملاقاة الرطب، ولا كل شيء ييبس بملاقاة اليابس. فلو ألقيت حديدة في ماء وأبقيتها (5) فيه ما شاء الله أن تبقى لم ترطب ولا يبس (6) الماء من أجل ملاقاة الحديد، وأما الحر إذا لاقى شيئاً فلا بد من (7) أن يحره ضرورة، وكذلك البارد لا يلقى شيئاً إلا برده وبالله تعالى التوفيق. انتهى الكلام في المقولات العشر والحمد لله كثيراً (8) . ج باب الكلام على الغير والمثل والخلاف والضد والمنافي والمقابلة والقنية والعدم وتفسير معاني هذه الأسماء قد قدمنا مرادنا بقولنا شخص وأشخاص، وأخبرنا أننا لا نعني بذلك الجرم وحده لكن كل جزء مجتمع منفرد من جرم أو عرض محمول في جرم. فنقول: شخص

_ (1) م: رتبة. (2) بهامش س: الاستقصات خ. (3) س: مفعلان. (4) م: تكذب مرة وتصدق أخرى. (5) م: وبقيت. (6) س: ييبس. (7) من: في م وحدها. (8) انتهى ... كثيراً: لم يرد في م.

سواد هذا الثوب حالك أو مصقول، وشخص حركة هذا المتحرك من ها هنا إلى ها هنا، وشخص هذه المسألة محكم وما أشبه ذلك، اتفاقاً منا ليقع بذلك الإفهام لمرادنا، إن شاء الله عز وجل. ولا بد لأهل كل علم وأهل كل صناعة من ألفاظ يختصون بها للتعبير عن مراداتهم وليختصروا بها معاني كثيرة فنقول (1) وبالله تعالى نتأيد: كل شخصين وكل شيئين جمعهما اسم واحد أو اسمان مختلفان لا يخص شيئاً دون شيء، فهما متغايران ضرورة، على كل حال، أي أن كل واحد منهما غير الآخر؛ فزيد غير عمرو، وعلم زيد غير علم عمرو، وثوب زيد غير ثوب خالد، وطول زيد هو غير زيد وغير طول عمرو (2) ، وبياض خالد غير بياض محمد، وهكذا كل شيئين أيضاً قطعاً، وكل موجودين. والخالق تعالى غير خلقه، ولو لم يكن هذا الشيء غير هذا الشيء لكان إياه وهو نفسه، ولا سبيل إلى قسم ثالث (3) ؛ وهكذا كل لفظين فإما أن يكون معناهما واحداً فيكونا حينئذ من الأسماء المترادفة، وإما أن يكون (4) معناهما متغايرين (5) ، أي أن كل مسمى [30ظ] بلفظ (6) من ذينك اللفظين غير المسمى باللفظ الآخر ولا سبيل إلى قسم ثالث بوجه من الوجوه، ولا يتشكل في الوهم البتة (7) ولا يعقل، ولا يكون أبداً لفظان معنياهما (8) لا هما متغايران ولا هما لا متغايران، إذ من أشنع المحال أن يكون معنى هذا الاسم ليس هو معنى هذا الاسم الثاني، ولا هو معنى آخر غيره؛ ومن المحال الممتنع الباطل (9) أيضاً أن

_ (1) فنقول: سقطت من س. (2) وقعت هذه الجملة في م بعد قوله: فزيد غير عمرو. (3) م: إلى ثالث في التقسيم. (4) معناها واحداً ... أن يكون: سقط من س. (5) س: متغايران. (6) س: أي مسمى كل لفظ. (7) البتة: سقطت من س. (8) متغايران ... معنياهما: سقط من س. (9) الباطل: سقطت من م.

يكون معنى هذا الاسم هو معنى هذا (1) الاسم الثاني وهو أيضاً غيره، فهذا يؤدي إلى أن هذا هو هذا ليس هو هذا، وهذا فساد ظاهر، إذ لا يجوز أن يراد بالاسم الواحد إلا معنى واحداً أو أكثر من واحد، ولا يجوز أن يراد (2) بالاسمين إلا معنى واحداً أو أكثر من واحد. وما عدا هذا فوسواس، ونحمد الله تعالى على ما وهب من العقل. فإن أعترض (3) قوم بما ذكر الأوائل من أن الشيء إنما يكون غير الشيء إذا كان جوهره مخالفاً لجوهره، فإنهم قد قالوا أيضاً: الإنسان هو الحمار بالجنسية أي أنهما تحت جنس واحد ولم يريدوا ما نحن فيه. والذي نريد نحن إنما هو أن يكون هذا الشيء لا يغابر هذا الشيء أيضاً أصلاً بذاته أو يغايره، فإن قال قائل: فالجزء هو الكل أو هو غيره فالحقيقة أنه غيره لأن الجزء قد يبطل ولا يبطل الكل فلو لم يكن غيره لما وجد دونه، وإنما الكل لفظة تسمى بها هذه (4) الأبعاض كلها في حال اجتماعها، والأبعاض هي الأجزاء، وإلا فكل بعض غير البعض الآخر. والكل ينقسم قسمين: أحدهما كل يسمى كل جزء من أجزائه باسم كله، وذلك إنما يقع في أشخاص النوع، أو فيما لم يركب من أشياء مختلفة، كأجزاء الماء فكلها يسمى ماء، وأجزاء النار كذلك، وكذلك كل شخص من الإنسان الكلي يسمى إنساناً. والقسم الثاني كل (5) لا يسمى شيء من أجزائه باسم كله وذلك هو في المركب من عناصر مختلفة، كأعضاء الإنسان، فليس شيء منها يسمى إنساناً، وكذلك الباب فإنه مركب من خشب لا يسمى باباً (6) ومن مسامير لا تسمى باباً. فمن ناظرك ها هنا فكلفه أن يحد لك معنى التغاير ومعنى الهوية ثم كلمة حينئذ. فإن قال قائل: إذا كان بعض الشيء غير الشيء وكل بعض من أبعاضه هو غير

_ (1) الاسم هو معنى هذا: سقط من م. (2) بالاسم الواحد ... يراد: سقط من س. (3) م: اغتر. (4) هذه: سقطت من م. (5) كل: قسم في س. (6) س: مركب من خشب ومسامير، والخشبة لا تسمى باباً.

كله، والشيء كله إنما هو أبعاضه كلها ليس هو شيئاً غيرها أصلاً، فالشيء غير نفسه، والبعض غير نفسه، فهذا تمويه لأن الكل إنما هو اسم يقع على الأبعاض كلها إذا اجتمعت ولا يقع على شيء منها على انفراده، ألا ترى أن [31و] البعض إذا فني (1) لا يفنى الكل بفنائه ولا يحد هو بحد كله فإنما اسم " كل " بمنزلة اسم إنسان، واليد ليست إنساناً، والرأس ليس إنساناً، والرجل ليست إنساناً، والمعدة ليست إنساناً، فإذا اجتمع كل ذلك حدث له حينئذ اسم الإنسان (2) لا قبل ذلك. وهكذا هو الكل مع أجزائه، إلا أننا نزيد في (3) السؤال بياناً ولا ندع للمتحير معنى يتحير فيه (4) فنقول: كل اسمين فإنهما لا يخلوان من أحد وجهين ضرورة لا ثالث لهما: إما أن يقعا جميعاً على شيء واحد أو على أكثر من شيء واحد فلا بد للمسؤول حينئذ من أن يصير إلى أحد هذين المعنيين، وإلا بان انقطاعه وصح حينئذ أن معنى اللفظين معنى واحد، وكل واحد من اللفظين يعبر به عن مسمى واحد، أو أن كل واحد من اللفظين يعبر به عن معنى غير معنى اللفظ الآخر، وإن كان معنياهما متغايرين فكل (5) واحد منهما غير الآخر. ثم نعود، وبالله تعالى التوفيق، فنقول (6) : ثم تنقسم الأشياء بعد التغاير أقساماً: فمنها أغيار أمثال كسواد هذا الغراب وسواد هذا الثوب وكالدينار والدينار وكل ما يقع تحت نوع واحد من الأنواع التي تلي الأشخاص من جرم أو غيره، ومها أغيار خلاف كالدينار والدرهم والبياض والحمرة والقيام والاتكاء وكالدينار والحمرة وكل ما وقع تحت نوعين مختلفين أو تحت جنسين مختلفين. إلا أن كل ما ذكرنا وإن كانت (7) خلافاً كما قلنا فهي أيضاً أمثال من وجه آخر لاتفاقهما في الرأس الأعلى الذي هو جنس الأجناس، أو لاتفاقهما في الانقسام وإن لم يجمعهما جنس أجناس،

_ (1) إذا فني: سقط من م. (2) م: إنسان. (3) في: سقطت من م. (4) م: ولا ندع للتحير معنى. (5) م: معناهما متغاير كل. (6) م: ثم نعود فنقول وبالله ... الخ. (7) م: كان.

وفي الحدوث وفي التأليف. وأما الباري عز وجل فخلاف لخلقه كله من كل وجه لا تماثل بينه تعالى وبين جميع خلقه، ولا بينه تعالى وبين شيء من خلقه بوجه من وجوه البتة. واللفظ الأول وهو التغاير يقع في كل مسميين. وهذان القسمان يقعان في الجواهر والأعراض، وهذا القسم الثاني، أعني المخالفة يقع بين كل موجودين وسواء كانا تحت نوعين مختلفين أو تحت جنسين مختلفين أو كان أحدهما مما يقع تحت الأجناس والآخر مما لا يقع تحت الأجناس، ولا بد في كل موجودين ضرورة من أن يكونا مختلفين أو متماثلين؛ ثم قسمان باقيان لا يقعان إلا في الكيفيات، أحدهما: أغيار أضداد كالسواد والبياض (1) والثاني أغيار متنافية كالحياة والموت والسكون والحركة وما أشبه ذلك. والأضداد هي كل لفظتين (2) اقتسم معنياهما طرفي البعد، وكانا واقعين تحت مقولة واحدة [31ظ] وكان بينهما وسائط؛ فإما تحت نوعين مختلفين تحت جنس واحد كالسواد (3) والبياض اللذين هما نوعان واقعان تحت جنسين مختلفين، وهما الفضيلة والرذيلة، وإما كالفضيلة والرذيلة اللذين هما جنسان جامعان لما ذكرنا وتجمعهما الكيفية؛ وكل ضدين فإنهما يدركان بحاسة واحدة أبداً لا يجوز غير ذلك، إما أن يدركا معاً بالعقل وإما معاً بالبصر وما أشبه ذلك من لمس وذوق وشم، فتأمل هذا بعقلك تجده يقيناً. وكل ضدين فإن أحدهما إن كان في النفس فإن الثاني فيها أيضاً وإن كان أحدهما في الجرم فإن الثاني فيه أيضاً (4) ، لا يجوز إلا هذا، لأن الأضداد أيضاً تتعاقب على حاملها كالبياض والسواد (5) اللذين في الجسم، والحلم والطيش اللذين في النفس، وكذلك سائر أخلاق النفس من العلم والجهل والعدل والجور والورع والفسق والرضا والغضب (6) وسائر أخلاقها. وكذلك سائر الأضداد المتعاقبة على الجرم

_ (1) كالسواد والبياض: كالحلاوة والمرارة في م. (2) م: هي لفظين. (3) م: كالحضرة. (4) وإن كان ... أيضاً: سقط من م. (5) م: والخضرة. (6) اضطرب ترتيب هذه الأخلاق في س.

المركب: من الحر والبرد واليبس والرطوبة، فالمتضادة هي إذا ما وقع أحدهما أرتفع الآخر وبينهما وسائط (1) . والمتنافية هي ما اقتسم أيضاً طرفي البعد ولا وسائط بينهما وكانا إذا ارتفع أحدهما وقع الآخر، وذلك مثل الحياة والموت والاجتماع والافتراق وصحة العضو ومرضه وما أشبه ذلك. وقولنا في هذا المكان: " الحياة والموت " إنما هي مسامحة (2) لا تحقيق، وإنما أردنا بذلك اجتماع النفس مع الجسد المركب من العناصر فعن هذا عبرنا بالحياة، وأردنا بقولنا الموت مفارقة النفس للجسد المذكور، فهذا الاجتماع والافتراق هما المتنافيان. وأما الحياة التي هي الحس والحركة الإرادية فهي جوهرية في النفس لا تفارق النفس أبداً، وإذ ذلك كذلك فلا ضد للحياة على الحقيقة، لأن الضد مع ضده أبداً واقعان متعاقبان على شيء (3) واحد، وكذلك المتنافيان. والمواتية أيضاً على الحقيقة هي عدم الحس والحركة الإرادية وإنما هذا في الجمادات. فالموت إذاً (4) جوهري أيضاً غير مفارق لها بوجه من الوجوه، فلا ضد للمواتية أيضاً على الحقيقة على هذا الوجه ولا منافي لها أيضاً ولا للحياة. والجسد المركب من الطبائع الأربع مواتي أبداً لا حياة له بوجه من الوجوه أصلاً [32و] وإنما الحياة للنفس المتخللة له، ولكنا اضطررنا إلى التعبير بالحياة والموت عن اجتماعها مع الجسد المذكور ومفارقتها إياه لعادة الناس في استعمال هاتين (5) العبارتين عن هذين المعنيين فأردنا التقريب والإفهام كما ترى. فمتى رأيت في كتابنا هذا أن الموت ضد الحياة فهذا الذي أردنا فلا تظن بنا خطأ في هذا المعنى، وقد قال بعض أهل الشريعة: إن العلم يضاد الموت، وهذا كلام فاسد، لأن النفس بعد مفارقتها للجسد هي أثبت ما كانت قط (6) علماً، والجسد المركب لا يعلم شيئاً. والفرق بين المنافي والمضاد أن الضدين بينهما وسائط ليست (7) من أحد الضدين

_ (1) فالمتضادة ... وسائط: سقط من م. (2) س: مشاحة. (3) س: على كل شيء. (4) فالموت إذاً: سقط من م. (5) س: لعادة الناس لهاتين. (6) قط: سقطت من م. (7) م: ليسا.

كالحمرة والصفرة والخضرة (1) التي بين السواد (2) والبياض وكحال الاعتدال الذي (3) بين الجود والشح على ما نبين في كتابنا في أخلاق النفس (4) إن شاء الله عز وجل. والمنافيان هما اللذان ليس بينهما وسائط، فإن الحياة والموت فيما يكونان فيه ليس بينهما وسيط لا يكون حياة ولا موتاً؛ وكذلك صحة العضو ومرضه لا يجوز أن يكون العضو صحيحاً مريضاً، ولا لا صحيحاً ولا مريضاً. والصحة هي تصرف العضو في فعله الطبيعي، والمرض هو ضعفه عن ذلك. وكذلك الجور والعدل في الحكم (5) : لا يجوز أن يكون حكم لا عدلاً ولا جوراً ولا عدلاً جوراً. ولما كان هذان الأمران أعني التضاد والمنافاة معنيين مختلفين احتجنا في العبارة عنهما إلى اسمين متغايرين لئلا يقع الإشكال (6) ؛ وقد حد قوم الضد بأنه الذي إذا وقع ارتفع الآخر، وهذا خطأ، لأن هذا قول يوجب أن يكون الاتكاء ضد القعود والخضرة ضد الحمرة وهذا خطأ، وإنما هذا من الخلاف والتغاير لا من التضاد، وحد الضد على الحقيقة هو ما عبرنا به آنفاً. وأما حال الجسم التي تنفي الضدين معاً من بعض الأضداد وبعض المتنافيين فلا يعرف لها (7) اسم في الأكثر من مواضعها، كحال نفس الطفل فإنه لا يسمى براً ولا فاجراً ولا عالماً ولا جاهلاً بل كل حال من هذه الأحوال منفية عنه بلفظة " لا " فنقول: الطفل لا يعلم شيئاً ولا يطلق عليه اسم الجهل إلا مع إمكان العلم، ويقال الطفل ليس براً ولا فاجراً فإذا قوي واحتمل الأمرين وقع عليه أحدهما على حسب ما يبدو منه، وكالحجر لا يقال عنه حي ولا ميت لكن ننفي عنه كلا الأمرين بلفظة " لا "، أو " ليس " أو " ما " فنقول: الحجر ليس حياً ولا ميتاً. وقد يستحيل حامل كل واحد من المتنافيين أو الضدين أو الخلافين إلى حمل القسم الآخر فيكون

_ (1) والخضرة: سقطت من م. (2) م: الخضرة. (3) م: التي. (4) هي رسالته التي تحمل عنوان: " رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل، وقد طبعت عدة مرات (انظر الجزء الأول من رسائل ابن حزم/ 1980ص: 323) وقد عالج ابن حزم في باب الأخلاق منها بعض الفضائل ومركباتها (ص 379 وما بعدها) . (5) س: في العدل والحكم. (6) م: اشكال. (7) لها: سقطت من س.

الحي ميتاً والميت حياً والأسود أبيض والأبيض أسود. وليس ذلك لازماً لكن على حسب ما يكون ولكنه ممكن في الأغلب ومتوهم لو كان [32ظ] كيف كان يكون في الجملة. وقد يدخل في الامتناع بالفعل لضروب من النصبة (1) المانعة منه في العادة. وأما التقابل فهو ينقسم قسمين: تقابل في الطبع وتقابل في القول: فالذي في القول هو الإيجاب والسلب، نعني بالإيجاب إثبات شيء لشيء (2) كقولك زيد منطلق والخمر حرام والزكاة واجبة على مالك مقدار كذا وكذا (3) من المسلمين والعالم محدث ومحمد رسول الله وما أشبه ذلك. والسلب نفي شيء عن شيء كقولك زيد ليس أميراً ومسيلمة ليس نبياً والربا ليس حلالاً والعالم ليس أزلياً وما أشبه ذلك؛ وقد يأتي لفظ الإيجاب والسلب كذباً إذا أوجبت الباطل ونفيت الحق. وإنما الفرق بين الإيجاب والسلب إدخال ألفاظ النفي وهي لا أو ليس أو ما أو الحروف التي تجزم في اللغة العربية الأفعال، بغير معنى الشرط، أو تنصبها وهي " لم " وأخواتها و " لن " وما أشبهها، فيكون نفياً، أو إخراجها فيكون إيجاباً. وأما الذي في الطبع فينقسم ثلاثة أقسام: أحدها مقابلة الأضداد والمتنافيات، والثاني مقابلة المضاف، والثالث مقابلة القنية والعدم. وقد تكلمنا قبل في الأضداد وفي المتنافيات وفي الإضافة بما كفى. واعلم أن الضدين ثبات كل واحد منهما بنفسه، وكذلك المتنافيان. وأما المضافان فثبات كل واحد منهما بثبات الآخر، على ما بينا هنالك. ولذلك لا يدور كل واحد من الضدين على الآخر وكذلك المتنافيان. وأما المضافان فكل واحد منهما يدور على صاحبه فنقول: ضعف النصف ونصف الضعف ولا نقول جور العدل ولا عدل الجور ولا بياض السواد (4) ولا سواد (5) البياض ولا شر الخير ولا خير الشر. ومعنى

_ (1) م: النصب. (2) س: بشيء. (3) وكذا: سقطت من م. (4) م: الخضرة. (5) م: خضرة.

التقابل هو كون شيئين في طرفين معينين يقتضي أحدهما وجود الآخر على الرتب التي ذكرنا، فكأنه يقابل أحدهما الآخر. وأما مقابلة القنية والعدم فذلك كالبصر وعدمه الذي هو العمى، فإن أحد هذين يدور على الآخر ولا يدور الآخر عليه، ومعنى الدوران هو الإضافة فنقول عمى البصر ولا نقول بصر العمى. واعلم أن القنية هي التي لا تدور على العدم أي لا تضاف إليه والعدم يدور على القنية أي يضاف إليها (1) . والعدم ليس معنى لكنه ذهاب الشيء وبطلانه ولا يعد عادماً إلا من يحتمل وجود ما هو عادم له، ألا ترى أن الحجر لا يسمى عادماً وكان هذا عندنا معنى [33و] اتبعت فيه اللغة اليونانية، وأما اللغة العربية فكل حال لم يكن فيها شيء ما فإنه يطلق فيها اسم عدم ذلك الشيء، وسواء كان موجوداً قبل ذلك أو لم يكن. وكذلك يسمى فيها أيضاً بالعدم كل ما لم يكن، وسواء توهم كونه أو لم يتوهم؛ إلا أن الفرق بين الضدين وبين العدم والوجود أن كلا (2) الضدين لهما إنية ومعنى ذلك أنهما موجودان، والموجود له إنية أي أنه موجود، والعدم لا إنية له أي لا وجود له. واعلم أن السلب والإيجاب إنما يقعان في الاخبار وبذلك يكون الصدق والكذب، وذكر الفلاسفة ها هنا شيئاً سموه " كون الشيء في الشيء " وليس يكاد ينحصر عندنا وإن كان محصوراً في الطبيعة، فلم نر وجهاً للاشتغال به إذ ليس إلا من تشقيق الكلام فقط كقولهم: النوع في الجنس والجنس في النوع وما أشبه ذلك مما لا قوة فيه في إدراك الحقائق وإقامة البراهين وكيفية الاستدلال الذي هو غرضنا في هذا الكتاب. وكذلك ذكروا أيضاً شيئاً وسموه " يكون الشيء مع الشيء " ورتبوه على ثلاثة أقسام: أحدها كون الشيء مع الشيء في زمن واحد، وهو المعهود في استعمال اللغة إذ كل شيئين كانا في زمان واحد فهما معاً أي كل واحد منهما مع الآخر، ورتبوا في ذلك أيضاً كون المضافين أحدهما مع الآخر أي أن (3) مع النصف ضعفاً ومع الضعف

_ (1) س: عليها. (2) س: كل. (3) أن: سقطت من س.

نصفاً، ورتبوا في ذلك أيضاً كون النوعين معاً تحت جنس واحد أي مستويين فيه كالفرس والحمار تحت جنس (1) الحي، وكل هذه الأقسام ترجع إلى ال " مع " الزماني ولا تخرج عنه. وذكروا شيئاً (2) سموه " القدمة "، وهذه لفظة أستعملها أهل اللغة العربية فيما تقدم زمانه زمان غيره كقولهم: الشيخ أقدم من الغلام، ودولة بني أمية أقدم من دولة بني العباس، وما أشبه ذلك، وأما أهل الكلام فإنهم استعملوها في الخبر عن المخلوقات والخالق تعالى فسموا الواحد الأول عز وجل قديماً ونحن نمنع من ذلك ونأباه ولا نزيل القديم والقدم عن موضعهما (3) في اللغة ولا نصف به الخالق عز وجل البتة. وقد قال عز وجل: " كالعرجون القديم " يريد البالي الذي مرت عليه أزمنة محيلة (4) له بتطاولها، ونضع مكان هذه العبارة لفظة " الأول "، والإخبار بأنه تعالى لم يزل، وأن جميع ما دونه وهي كل المخلوقات لم تكن ثم كانت، وأن كل شيء سواه تعالى محدث مخلوق، وهو خالق أول واحد حق لا إله إلا هو. وذكر الأوائل أشياء في القدمة ليست صحيحة منها: أن الجنس أقدم من النوع بالطبع [33ظ] من أجل أنه مذكور في الرتبة قبله، وهذا لا معنى له لأن الجنس هو جملة أنواعه نفسها، فلا يكون الشيء أقدم من نفسه، ولا يجوز أن يكون الكل أقدم من أجزائه. وذكروا أيضاً أن المدخل إلى العلوم أقدم من العلوم وهذا خطأ لأن العلم موجود في الطبيعة [أي بالقوة فيها] قبل دخول الداخل إلى طلبه. وذكروا أيضاً قدمة الشرف وهذا فاسد البتة إلا إن (5) كان ذلك في اللغة اليونانية، واغتر بعضهم في ذلك في اللغة العربية في قولهم: " فرس عتيق " فظنوه بمعنى قديم كقولهم: " رجل عتيق " (6) ، أي قديم، وليس كذلك، لأن العتيق في اللغة

_ (1) م: نوع. (2) س: أشياء. (3) م: موضعهما. (4) س: مختلفة. (5) س: بأن. (6) فظنوه ... عتيق: سقط من م.

العربية من الأسماء (1) المشتركة فيقع على القديم كقولهم: " شراب عتيق " ويقع على الحسن (2) الجيد كقولهم: " عتيق الوجه "، و " فلان ظاهر العتق " أي ظاهر الحسن، فعلى هذا المعنى قالوا: فرس عتيق، ويقع أيضاً على البراءة من الملك فيقولون: أعتق فلان عبده والعبد عتيق أي مبرأ من الملك. وأما العلة والمعلول فمن باب الإضافة ولا يجوز أن تسبق العلة المعلول أصلاً، ولو سبقته لوجدت (3) وقتاً ما غير موجبة له، ولو كان ذلك لم تكن علة له (4) ، إذ العلة ليست شيئاً أصلاً (5) إلى القوة الموجبة لوجود ما يجب بوجودها، وبالله تعالى التوفيق. د باب الكلام على الحركة الحركة تنقسم ستة أقسام: قسمان أولان وهما حركتا الكون والفساد وهما في الجوهر، ومعنى الكون: " خروجه من الإمكان والعدم إلى الوجوب والوجود " وهذه حركة للجوهر الخارج لا لمبدعه المخرج له عز وجل؛ ومعنى الفساد: " خروجه من الوجود والوجوب إلى البطلان والعدم "، وذلك واجب في الأعراض ومتوهم على الأجرام إن شاء ذلك (6) خالقها تعالى فيما شاء منها. والفساد عندنا على الحقيقة افتراق الجسم على أشياء (7) كثيرة وذهاب أعراضه وحدوث أعراض أخر عليه، وأما الأجرام كلها فغير معدومة الأعيان أبداً بوجه من الوجوه، ولكنها منتقلة من صفة إلى صفة كما قال تعالى: {خلقاً من بعد خلق} (الزمر:6) ومن مكان إلى مكان ومن عالم إلى عالم حتى تستقر المتعبدة منها في دار النعيم أو العذاب في عالم الجزاء بلا نهاية. وهاتان الحركتان تقعان أيضاً (8) في الأعراض كلها لأنها كائنات فاسدات.

_ (1) س: الأشياء. (2) م: الجنس. (3) س: لوجد. (4) له: سقطت من س. (5) أصلاً: سقطت من م. (6) ذلك: في م وحدها. (7) م: أجزاء. (8) أيضاً: سقطت من س.

ثم قسمان آخران وهما حركة الربو والاضمحلال [34و] وهما من الكمية، فالربو هو: " تباعد (1) نهايات الجرم عن مركزه " والاضمحلال هو: " تقارب نهايات الجرم من مركزه "، وهذان لا يكونان إلا في النوامي، فيكون الربو بغذاء يستحيل إلى نوعها وينبسط من وسطها إلى طرفيها، ويكون الاضمحلال بأخذ الجو (2) من رطوباتها أكثر مما يقبله الجرم من الغذاء، فترى الشجرة والنبت والحي ذا الجسد المركب يتغذى فيستحيل الغذاء أجزاء كأجزاء (3) المتغذي به، ففي الحيوان يستحيل دماً ولحماً وشحماً وعظماً وعروقاً وشرايين وعصباً وشعراً وهلباً وريشاً وجلداً، فيمتد من (4) ذلك الجسم ويطول ويعرض ويضخم؛ ويستحيل الغذاء للشجرة من الماء والرطوبات من الأرض (5) والدمن عوداً ولحاءً وورقاً وزهراً وطعماً وصمغاً وخوصاً وعساليج، ويمتد ويعظم كما ذكرنا، وكذلك في النبت، ثم إذا ابتدأ كل ذلك يضمحل بتناهي أمره الذي رتبه له خالقه عز وجل صار (6) الجو والحر يأخذ من رطوبات الأجرام التي ذكرنا أكثر مما يقبله من الغذاء حتى ييبس الشجر والنبات ويموت الحي وتفترق (7) أجزاؤه وترجع نفسه إلى عالمها الذي شاهدها فيه الصادق المبتعث من الخالق الأول (8) عز وجل، إلينا (9) ، صلى الله عليه وسلم، حين جولانه وتصرفه في عالم (10) الأفلاك بالقدرة الإلهية التي خص بها وهو ما بين مبدأ الأفلاك الذي هو فلك القمر، وبين تناهي أبعد العناصر الأربعة، جعل الله لنا في ذلك الفوز والنجاة والراحة وتخلصنا مما يقع فيه العصاة الآثمون (11) . وتفتقر سائر (12) العناصر الجسدية إلى مستقرها الذي رتبها باريها

_ (1) س: هو ما تباعد. (2) س: الجزء. (3) كأجزاء: سقط من س. (4) من: سقطت من س. (5) من: سقطت من س. (6) صار: سقطت من س. (7) م: فتفترق. (8) م: من الأول الواحد الخالق. (9) س: النبي. (10) م: أعالي. (11) م: الآثمون العصاة. (12) سائر: سقطت من م.

تعالى فيه إلى أن يجمعها كلها يوم المبعث (1) ويعيدها كما بدأها، لا إله إلا هو. وتتفرق أيضاً أجزاء الشجر والنبات إلى مقرها أيضاً من العناصر الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، فسبحان المبدع المركب المتمم المدبر، لا إله إلا هو، {إن في ذلك لآية لقوم يعلمون} (النمل:52) {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} (يوسف:105) . ثم قسمان باقيان وهما الاستحالة والنقلة: فالاستحالة كاستحالة الخمر خلاً، فإن الخمر لم ترب ولا اضمحلت، ولا حدثت عينها ولا عين الخل، ولا عدم واحد منهما، ولا انتقل من مكان إلى مكان. وكذلك استحالة النار إلى الهواء والهواء إلى النار وبعض العناصر إلى بعض، وقد نجد المربع تزيد (2) عليه مربعاً آخر فينمى ويربو ولا يستحيل عن التربيع. وأما النقلة فهي [34ظ] الحركة العامية الظاهرة وهي تبدل الأماكن، وهذان القسمان كيفية، ومنافي كل حركة سكون المتحرك بها، فالسكون بالجملة ينافي الحركة بالجملة. والحركة المكانية النقلية تنقسم قسمين: اختيارية وطبيعية. فالاختيارية تنقسم قسمين: أحدهما تحريك الباري عز وجل ما شاء من أجرام الجو حيث شاء تعالى من ريح أو مطر وما أشبه ذلك، وهي حركة حالة في الأشياء المذكورات وتأثير فيها. والثاني تحريك النفس لما هي فيه (3) من الأجسام صعداً وسفلاً، وأمام ووراء، ويميناً ويساراً، وتحرك (4) كل جسم مختار بجبلته. والطبيعة تنقسم ثلاثة أقسام: حركة من الوسط بمعنى علواً كالنار والهواء الآخذين أبداً في الارتفاع، ولا يأخذان سفلاً إلا بالقسر والقهر، وحركة إلى الوسط كحركة الماء والأرض فلا يأخذان أبداً إلا سفلاً يطلبان المركز أبداً (5) ولا يأخذان علواً إلا

_ (1) م: البعث. (2) س: يزيد. (3) فيه سقطت من س. (4) س: وتحريك. (5) أبداً: في م وحدها.

بالقسر والقهر؛ وحركة حوالى الوسط، وهي حركة الأفلاك وكل ما فيها من الأجرام الجارية على رتبة معهودة طبيعية وهي كلها حركة استدارة، وهذه الحركة تنقسم قسمين إما من شرق إلى غرب كالفلك الأعلى في ذاته، وإما من غرب إلى شرق كالشمس والقمر والكواكب وأفلاكها، ثم هي أيضاً تختلف في حال سرعتها وبطئها، فتبارك الخالق المدبر، لا إله إلا هو (1) . تم كتاب قاطاغورياس، وهو كتاب الأسماء المفردة، بحوله وقوته وصلى الله على محمد وعلى آل محمد وسلم (2) .

_ (1) م: فتبارك المدبر الخالق. (2) بحوله ... وسلم: لم يرد في م.

- 2

- 2 - بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الأخبار وهو الأسماء المجموعة إلى غيرها وتسمى " المركبة " وهو المسمى في اللغة اليونانية " باري أرمينياس " 1 - رسم الاسم الاسم صوت موضوع باتفاق لا يدل على زمان معين، وإن فرقت أجزاؤه لم تدل على شيء من معناه، نريد بقولنا " موضوع باتفاق " اصطلاحاً من أهل اللغة على ما يختصرون به المعاني الكثيرة بلفظ مختصر يدل عليها كاتفاق العرب على أن سمت الراعي الطويل العنق، الأحدب الظهر، العالي القوائم، القصير الذنب، المتخذ للحمل والركوب " بعيراً "، واتفاق العجم على أن سمته باسم آخر. وكل تلك الأسماء دالة على الحيوان الذي ذكرنا [35و] دلالة واحدة وهكذا كل مسمى وضع له اسم. وقولك " بعير " لا يدل على زمان معين، لا حال ولا ماض ولا مستقبل. وأنت إذا قسمته فقلت: " بعي " لم يدل على معنى البعير. وقد ظن قوم (1) جهال أن من الأسماء ما يدل شيء من أجزائه (2) على شيء من معناه، كقولك: " عبد الله "، فإن عبداً يدل على معنى، فاعلم أن المعنى الذي يدل عليه " عبد " غير المعنى الذي يدل عليه " عبد الله " أي أنه لا يدل على المعنى الذي قصد بتسمية الرجل عبد الله. ألا ترى أنك تقول فيمن اسمه عبد الرحمن ليس هذا عبد الله هذا عبد الرحمن، أو هذا خالد فيمن اسمه خالد وتكون صادقاً مصيباً؛ ويكون مسميه عبد الله كاذباً مخطئاً، فلو كان المراد في التسمية الاخبار بأنه عبد الله لكان عبد الرحمن، ولكان عبد الرحمن عبد الله أيضاً، ولكنت في نفيك أنه عبد الله أيضاً كاذباً، ولكان من سماه عبد الله في الشهادة عليه والإخبار عنه صادقاً ولا شك في كذبه، فصح ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.

_ (1) قوم: سقطت من م. (2) م: يدل بعض أجزائه.

وقد لاح بالحقيقة التي بينا أن الأوصاف والأخبار كلها إنما تقع على المسميات لا على الأسماء وأن المسميات هي المعاني والأسماء هي عبارات عنها، فثبت بهذا أن الاسم غير المسمى (1) ، ووضح غلط من ظن غير ذلك من أصحابنا الذين يقولون الكلام (2) غير محققين له: إن الاسم هو المسمى (3) ، وقد احتج بعضهم في خطائه ذلك بقول الله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} . (الأعلى:1) وهذا منهم سقوط شديد، وإنما بيان ذلك أن المسميات لما لم يتوصل (4) إلى الأخبار عنها أصلاً إلا بتوسط العبارات المتفق عليها عنها جعلت المسميات عين (5) تلك العبارات وإنما المراد المعبر بها عنها (6) . ولما لم يكن سبيل إلى الثناء على الله عز وجل إلا بذكر الاسم المعبر به عنه لم يقدر على إيقاع الثناء والحمد (7) والتسبيح له تعالى إلا بتوسط الاسم، فأمرنا تعالى بما نقدر عليه لا بما لا نقدر عليه أصلاً، والمراد بالتسبيح هو تعالى، لا الصوت الفاني المنقطع المعدوم أثر وجوده، الواقع تحت حد الكمية في نوع القول كما قدمنا، فاعلم هذا. ومن الأسماء معارف وهي الخصوص كقولك زيد وعمرو والرجل الذي تعرف وغلام زيد وغلام الرجل وغلامي. ومنها نكرات وهي العموم كقولك رجل ما وحمار ما، وللأسماء أبدال (8) تنوب عنها معروفة في اللغات بعضها للحاضر المتكلم وبعضها للحاضر المكلم وبعضها للمخبر عنه وبعضها للمشار [35ظ] إليه كقولك: أنا وأنت وهو وهذا. وهذه هي المسماة (9) عند أهل النحو الضمائر والمبهمات والكنايات

_ (1) أورد ابن حزم في كتاب الفصل باباً في " الكلام في الاسم والمسمى " (5: 27) وقال: ذهب قوم إلى أن الاسم هو المسمى، وقال آخرون الاسم غير المسمى، واحتج من قال إن الاسم هو المسمى بقول الله تعالى: تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام، ويقرأ أيضاً ذو الجلال والإكرام، قال: ولا يجوز أن يقال تبارك غير الله فلو كان الاسم غير المسمى ما جاز أن يقال تبارك اسم ربك. وبقوله تعالى سبح اسم ربك الأعلى ... الخ. (2) س: بالكلام. (3) إن الاسم هو المسمى: سقطت العبارة من م. (4) م: توصل. (5) جعلت المسميات عين: حملت الصفات على في م؛ وفي أصل س: الصفات. (6) م: عنها بها. (7) س: والمدح. (8) أبدال: التي في س. (9) س: المسميات.

وقد قدمنا أنها غاية الخصوص وأعرف المعارف. 2 - القول على الكلمة تعني الفلاسفة بهذه اللفظة (1) الشيء الذي يسميه النحويون: " النعوت " والذي يسميه المتكلمون " الصفات "، وإذا رسمه النحويون قالوا: هو اسم مشتق من فعل مثل صح يصح فهو صحيح وظرف يظرف فهو ظريف (2) وما أشبه ذلك. وقال الأوائل: إنه يدل على زمان مقيم (3) لأنك تقول صح يصح فهو صحيح فهذا إخبار عن حاله الآن، وذلك بين (4) فعل ماض ومستقبل، وهذه الكلمة صوت موضوع باتفاق أيضاً على ما قدمنا في الاسم لا يدل بعض أجزائها على معناها إلا أنها تدل على زمان مقيم كما ذكرنا. وذكروا في قولك الصحة أنها اسم لا كلمة وهذا الذي يسميه النحويون المصدر وهو على الحقيقة اسم للسلامة من العلل إلا أنه قد ينقسم قسمين: فمنه ما يكون فعلاً لفاعل وحركة لمتحرك كالضرب من الضارب، ومنه ما يكون صفة لموصوف كالصحة للصحيح فإنها محمولة فيه وصفة من صفاته. وأما الصحيح والضارب فاسمان للبريء من العلة وللمتحرك (5) بالضرب استحقهما بمحموله وتأثيره، وإنما ذكرنا هذين اللفظين لأنهما موضوع الخبر ومحموله فهما جزءان للخبر، وكذلك قولك (6) فعل وقعد أسماء (7) موضوعة للعبارة عن التأثير الظاهر من الأجرام أو فيها وهي أيضاً جزء من أجزاء الخبر كقولك: زيد صحيح وعبد الله منطلق، فالخبر يقوم من اسمين أحدهما اسم مميز للمخبر عنه من غيره وهو الموضوع والثاني صفة مميزة للإخبار عنه من غيره وهو المحمول.

_ (1) م: بهذا اللفظ. (2) وظريف ... ظريف: في م وحدها. (3) س: معين. (4) بين: سقطت من س. (5) س: فاسما المبرأ ... والمتحرك. (6) س: كقولك. (7) س: أشياء.

3 - القول على القول أراد الأوائل بلفظة القول ها هنا كل خبر قائم بنفسه وأقل ذلك اسم وصفة على ما قدمنا. والخبر المذكور يدل كل جزء منه على شيء من معناه بخلاف الألفاظ المفردات، إذ قلت محمد نبي دلك " محمد " على بعض مرادك بقولك: محمد نبي، وكذلك إذا قلت " نبي " أيضاً دلك على بعض مرادك بقولك محمد نبي (1) . وللخبر توابع ألفاظ (2) سمتها الأوائل " لواحق وربطاً "، فاللواحق أشياء زائدة في البيان والتأكيد مثل قولك: العقل الحسن لزيد، والشعر الطويل (3) الجيد [36و] لفلان، والقوم أجمعون أتوني، فإن قولك: العقل الحسن اسمان لم يتم الخبر بهما تمامه بقولك زيد قائم، فلم يكن حكم اجتماع هذين اللفظين الناقصين كحكم اجتماع اللذين تم المعنى بهما. والألف واللام الداخلان في اللغة العربية للتعريف أو ما قام مقامهما في سائر اللغات من (4) اللواحق أيضاً لأن كل ذلك بيان لاحق بالمبين فلذلك سميت هذه الزوائد لواحق. وأما الربط فهي التي يسميها النحويون حرفاً جاء لمعنى، وهي ألفاظ وضعت للمعاني الموصلة بين الاسم والاسم، وبين الاسم والصفة، وبين المخبر عنه والخبر، كقولك: زيد في الدار، وزيد وعمرو قاما، وزيد لم يقم، وهي مثل حروف الخفض ك: في وعن ومن وسائرها وكحروف الاستفهام مثل: هل وكيف وما أشبه ذلك، فإنك تقول: هل قام زيد وكذلك سائر الحروف الموصلة للمعاني. ومنفعة هذه الحروف في البيان عظيمة فينبغي تثقيف معانيها في اللغة، إذ لا يتم البيان إلا بها، وتنوب عن تطويل كثير. ألا ترى أنك تقول اخوتك وأعمامك أتوني، فلولا الواو احتجت إلى إفراد كل واحدة من الجملتين والإخبار عنها بأنهم أتوك. وقد يكون القول مركباً من لفظين ولا يكون تاماً كقولك: إن جئتني أو كقولك:

_ (1) وكذلك ... نبي: سقط من س. (2) ألفاظ: سقطت من س. (3) الطويل: سقطت من م. (4) س: هي من.

إذا مات زيد، فإن قلت إن جئتني أكرمتك كان كلاماً تاماً (1) ، وإذا مات زيد انقطعت حركته كان كلاماً تاماً. والخبر كما قدمنا إما إيجاب وإما نفي، والموجب إما أن يكون كذباً وإما أن يكون صدقاً، والمنفي أيضاً كذلك. والخبر إذا تم كما ذكرنا سمي قضية فإما صادقة وإما كاذبة، فاحفظ هذا واذكره فإنه سيمر بك كثيراً إن شاء الله تعالى. والقضية النافية والموجبة تنقسم كل واحدة (2) منهما قسمين: إما معلقة بشرط وإما قاطعة. فالمعلقة كقولك: من بدل دينه بغير الإسلام لزمه القتل، وقولك (3) : إن كان متحركاً بإرادة فهو حي، وكقولك: إذا غابت الشمس كان الليل. وأعلم أن إن ومتى ومتى ما وإذا وإذا وما وكلما هذه الحروف توجب حكماً واحداً (4) في الشرط وتعليق المحمول بالموضوع فيها، فإن أردت أن تجعل هذه القضايا بلفظ النفي قلت: من بدل دينه (5) لم يجز أن يستبقى إلا أن يسلم، وإن كان متحركاً بإرادة فليس ميتاً [36ظ] وإن غابت الشمس لم يكن نهاراً. وأما القاطعة فأن تقول: كل إنسان جوهر، أو أن تقول: الصلوات الخمس فرض على من خوطب بها، والنفي يكون بإدخال لا أو ليس أو ما أو الحروف التي ذكرنا أنها تجزم الأفعال بغير الشرط أو تنصبها، فإذا أدخلت شيئاً من هذه الحروف التي ذكرنا أنها تجزم الأفعال بغير الشرط أو تنصبها، فإذا أدخلت شيئاً من هذه الحروف على قضية كاذبة صار النفي حقاً. " إله غير الله " قضية كاذبة فإذا أدخلت عليها حرف النفي فقلت (6) " لا إله غير الله " صدقت. وإذا أدخلت أحد (7) هذه الحروف على قضية صادقة كنت كاذباً فهذا هو (8) الذي سمته الأوائل " السلب والإيجاب " لأن هذه الحروف تسلب ما أوجبت في لفظك الذي أدخلتها عليه. ولكل موجبة سالبة واحدة ولكل سالبة موجبة واحدة وليس ذلك إلا بإدخال حرف من حروف النفي التي ذكرنا أو إخراجه فقط، وبالله تعالى

_ (1) تاماً: سقطت من س. (2) س: ينقسم كل واحد. (3) م: وكقولك. (4) س: موجب حكمها واحد. (5) قلت ... دينه: سقط من م. (6) فإذا ... فقلت: سقط من س. (7) أحد: لم ترد في س. (8) هو: سقطت من س.

التوفيق. واعلم أن كل قضية وقع في أول عقدها استثناء فهي شرطية (1) ، والشرطية تكون على وجهين: إما متصل وإما مقسم فاصل. فالمتصل هو ما أوجب أرتباط شيء بشيء آخر لا يكون إلا بكونه؛ وهو يكون على وجهين: إما موجب كقولك: إن غابت الشمس كان الليل، وإما ناف كقولك: إن لم تطلع الشمس لم يكن نهار. ألا ترى أنك ربطت كون النهار بكون طلوع الشمس ووصلته به، وربطت كون الليل بكون مغيب الشمس ووصلته به، وربطت كون الليل بكون (2) مغيب الشمس ووصلته به. وأما المقسم الفاصل فهو ما جاء بلفظ الشك وإن لم يكن شكاً لكنه حكم للموضوع بأحد أقسام المحمولات وذلك مثل قولك: العالم إما محدث وإما لم يزل، وإن شئت أتيت بلفظة أو؛ إلا أن لفظة إما إذا قطعت وقسمت أبين من لفظة أو، وإذا كنت مقرراً مستفهماً، فإن شئت أتيت بلفظة أم، وإن شئت بلفظة أو، فتقول: أمحدث العالم أو لم يزل، وإن شئت قلت: أم لم يزل. وقد تكون أقسام هذا النوع أعني الفاصل أكثر من قسمين، وذلك على قدر توفية القسمة جميع ما تحتمله في العقل، وهذا موضع يعظم فيه الغلط إذا وقع في القسمة اختلال ونقص، فتحفظ منه أشد التحفظ، فإن كنت مسؤولاً فتأمل (3) هل أبقى سائلك قسماً من أقسام سؤاله فنبه عليه، فإن لم تفعل فلا بد لك من الخطأ ضرورة إذا أجبت (4) . وإن كنت سائلاً فلا ترض لنفسك بهذا فإنه من فعل الجهال أو الوضعاء الأخلاق المغالطين لخصومهم القانعين بغلبة الوقت دون إدراك الحقائق. واعلم [37و] أن المحمول إذا كان واحداً والموضوعات كثيرة فهي قضايا كثيرة كقولك: الملك والانسي والجني (5) أحياء. فهذه ثلاث قضايا، وإذا كان الموضوع

_ (1) م: من الشرطية. (2) يكون: سقطت من س. (3) فتأمل: مكررة في م. (4) م: أوجبت. (5) س: والإنس والجن.

واحداً والمحمولات كثيرة فهي قضية واحدة كقولك: نفس الإنسان حية ناطقة ميتة مشرقة على جسد يقبل اللون منتصب القامة؛ فإن فرقت كل ذلك أو كان كل محمول منها مستغنياً بنفسه (1) كانت قضايا متغايرة. واعلم أن الكلام لا يسمى قضية حتى يتم، وسواء طال أو قصر، كقولك الإنسان المركب من جسد يقبل اللون ونفس حية ناطقة ميتة يحرك يده بجسم محدد الطرف، وفي طرفه جسم (2) مائع مخالف للون سطح جسمه في يده، يخط في ذلك السطح خطوطاً تفهم معانيها، فكل هذا مساو لقولك إنسان كاتب. واعلم أن القضايا إما اثنينية وهي المركبة من موضوع ومحمول كما قدمنا، وإما أكثر من اثنينية وهي أن تزيد صفة أو زماناً فتقول: محمد كان أمس وزيراً وعمرو رجل عاقل، وقد تزيد أيضاً على هذا بزيادتك فائدة أخرى وهي أن تزيد في القضية: إما وجوبها ولا بد، وإما إمكانها، وإما أنها محال لا تكون. وأنت إذا زدت على القضية التي هي مخبر عنه وخبر صفة أخرى كما ذكرنا جاز ذلك، وكانت الزيادة التي زدت هي غرضك في الخبر، يعني أنها تصير هي المحمول والخبر معاً، وكان المحمول والموضوع اللذان كانا هما المخبر عنه والخبر معاً موضوعاً ومخبراً عنه فقط، كقولك: زيد منطلق فإذا زدت فقلت: زيد المنطلق كريم أو زيد منطلقاً كريم فيصير قولك " زيد منطلقاً (3) " موضوعاً أي مخبراً عنه ويصير قولك " كريم " هو المحمول، أي هو الخبر، وهكذا القول في النفي ولا فرق. واعلم أن القضايا إما مهملة وإما مخصوصة وإما ذوات أسوار. فالمخصوصة ما كانت خبراً عن شخص واحد أو عن أشخاص بأعيانهم لا عن جميع نوعهم بنفي أو إيجاب، كقولك: زيد غير منطلق، وإخوتك لا كرام، وفلان خليفة، وعمرو حي. واعلم أن هذا القسم الذي سميناه مخصوصاً لا يقوم منه برهان عام فتحفظ من

_ (1) ... بنفسه: سقط من س. (2) م: في. (3) س: منطلق.

ذلك وسيأتي بيان هذا القول في الكتاب الذي يتلو هذا الكتاب إن شاء الله عز وجل. وأما ذوات الأسوار فهي تنقسم قسمين في الإيجاب وقسمين في النفي. فقسما الإيجاب إما كلي وإما جزئي، فالكلي ما وقع بلفظ [37ظ] عموم كقولك: كل أو جميع أو لا واحد وما أشبه ذلك. والجزئي ما وقع بلفظ تبعيض كقولك: بعض أو جزء أو طائفة أو قطعة وما أشبه ذلك؛ وقسما النفي إدخال حروف النفي على كلا (1) هذين القسمين. وهذه الأسماء التي (2) تعطي العموم المتيقن أو التبعيض المتيقن هي المسماة أسواراً لأنها كالسور المحيط بما في دائرته أو سائر شكله، ومن هذه أعني ذوات الأسوار يقوم البرهان الصحيح على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله عز وجل، وبها يقع الإلزام الذي به تبين الحقائق كقولك: كل (3) إنسان حي، أو جميع الناس أحياء أو لا واحد من الناس نهاق أو لا واحد (4) من الناس صهال أو قولك: بعض الناس كاتب أو طائفة من المسلمين (5) أطباء وما أشبه ذلك، وكقولك في النفي لا بعض الناس حجر وما أشبه ذلك (6) . وأما المهملة فهي التي لا يكون عليها شيء من الأسوار التي ذكرنا وقد تنوب، في اللغة العربية، المهملة مكان ذوات الأسوار، وذلك أنها لفظة تقع على الجنس أو النوع كقولك: الحي حساس، أو كقولك: الإنسان حي، وبين قولك كل إنسان حي، والحقيقة في ذلك عند قوة البحث أن تتأمل القضية المهملة فتنظر في محمولها فإن لم يمكن إلا أن يكون عاماً (7) فالموضوع كلي، وإن لم يمكن أن يكون عاماً فالقضية جزئية ومما يبين هذا أنك إن لفظت بالمهمل فقلت: الإنسان حي ناطق ميت، الإنسان

_ (1) كلا: سقطت من س. (2) التي: سقطت من س. (3) كل: في م وحدها. (4) م: أحد. (5) م: من الناس. (6) وكقولك ... ذلك: سقط من م. (7) م: فإن كان يمكن أن يكون عاماً.

ضحاك، لم ينكر ذلك أحد، ولو قلت الإنسان طبيب بالفعل، الإنسان حائك بالفعل لأنكر ذلك عليك كل سامع ولكذبوك، لأن الصفة جزئية، وكذلك لو قلت الأطباء محسنون لكذبك كل سامع لأن الأطباء عموم. والمحسنون هم بعض الأطباء بلا شك، فلما حملت على المهمل صفة جزئية أنكرتها النفوس. واعلم أن السور الكلي لا يجوز أن يوضع إلا قبل الموضوع أي قبل المخبر عنه لا قبل المحمول، وهو الخبر، لأنك إذا قلت: كل إنسان حي صدقت، وإذا قلت: الإنسان كل حي، كذبت؛ وإنما يجوز أن تقرن السور الكلي (1) بالمحمول إذا كان حداً أو رسماً، كقولك: نفس الإنسان كل حية ناطقة مبتة ذات جسد ملون (2) ، وإذا قلت: الإنسان كل ضحاك، أو إذا كان السور جزئياً مثل قولك: الإنسان بعض الحي. 4 - باب العناصر [38و] اعلم أن عناصر الأشياء كلها، أي أقسامها، في الإخبار عنها، ثلاثة أقسام لا رابع لها: إما واجب وهو الذي قد وجد (3) وظهر، أو ما يكون مما لا بد من كونه، كطلوع الشمس كل صباح، وما أشبه ذلك. وهذا يسمى في الشرائع: " الفرض واللازم ". وإما ممكن وهو الذي قد يكون وقد لا يكون، وذلك مثل توقعنا أن تمطر غداً وما أشبه ذلك، وهذا يسمى في الشرائع: " الحلال والمباح ". وإما ممتنع وهو الذي لا سبيل إليه كبقاء الإنسان تحت الماء يوماً كاملاً، أو عيشه شهراً بلا أكل أو مشيه في الهواء بلا حيلة وما أشبه ذلك، وهذه التي إذا ظهرت من إنسان علمنا أنه نبي وهذا القسم يسمى في الشرائع (4) : " الحرام والمحظور ". ثم الممكن ينقسم أقساماً ثلاثة لا رابع لها: ممكن قريب كإمكان وقوع المطر عند تكاثف الغيم في شهري كانون وغلبة العدد الكبير من الشجعان العدد اليسير من

_ (1) السور الكلي: سقط من م. (2) م: يقبل اللون. (3) س: وجب. (4) س: الشرع.

الجبناء؛ وممكن بعيد وهو كانهزام العدد الكثير من الشجعان عند عدد يسير من جبناء وكحجام يلي الخلافة وما أشبه ذلك؛ وممكن محض وهو يستوي طرفاه، وهو كالمرء الواقف إما يمشي وإما يقعد وما أشبه ذلك. وكذلك نجد هذا القسم المتوسط في الشرائع ينقسم أقساماً ثلاثة: فمباح مستحب ومباح مكروه ومباح مستو لا ميل له إلى إحدى الجهتين. فأما المباح (1) المستحب فهو الذي إذا فعلته أجرت وإذا تركته لم تأثم ولم تؤجر، مثل صلاة ركعتين نافلة تطوعاً؛ وأما المباح المكروه فهو الذي إذا فعلته لم تأثم ولم تؤجر وإذا تركته أجرت وذلك مثل الأكل متكئاً ونحوه؛ وأما المباح المستوي فهو الذي [إذا) فعلته أو تركته لم تأثم ولم تؤجر وذلك مثل صبغك ثيابك أي لون شئت، وكركوبك أي حمولة شئت ونحوه. وقد يأتي اللفظ الذي يعبر به عن الممكن على وجوه، فمنه ما يأتي بلفظ الإيجاب كقولك: ممكن أن يموت هذا المريض، وقد يأتي بلفظ الشك فتقول: هذا المريض إما يموت وإما يعيش، وهذا الرمان إما حلو وإما حامض. وقد يأتي بلفظ النفي فتقول: هذا المريض لا ممتنع أن يبرأ. واعلم أن كل ممكن فإنك تصفه بالضدين معاً أحدهما بالقوة والآخر بالفعل كقولك: القاعد قائم أي أنه قاعد بالفعل قائم بالإمكان. واعلم أن الواجب قبل الممكن لأن الواجب هو الموجود وأما الممكن فلم يأت بعد وأما الممتنع فهو باطل لأنه لا يكون ولا يظهر. واعلم أن الواجب ينقسم قسمين: أحدهما [38ظ] ما كان معلوماً قبل كونه أنه لا بد من كونه، كطلوع الشمس غداً، أو ما لم يزل ملازماً واجباً مذ وجد كملازمة التأليف للأجسام. والثاني ما كان قبل وجوبه غير مقطوع على أنه يكون كصحة المريض أو موته. واعلم أن الممتنع ينقسم أقساماً أربعة:

_ (1) هذه الفقرة من أنواع المباح سقطت من م.

أحدها الممتنع بالإضافة وهو إما في زمان دون زمان، أو في مكان دون مكان، أو من جوهر دون جوهر، أو في حال دون حال، كوجوب كون الفيلة فاشية في الهند وكونها إلى الآن ممتنعة أن تكون فاشية في أرض الصقالبة، وكوجوب المردة في خلال استيفاء المرء أربعة عشر عاماً وامتناع اللحية في تلك المدة ووجوبها بعد وجودها وكوجوب رفع المرء الذي لا يجود بنفسه أو ليس مغمى عليه لرطل (1) وامتناع حمله ألف رطل، وكامتناع الضعيف من رفع (2) خمس مائة رطل، ووجوب حمل القوي لها، وكإمكان الذكي أن يغوص على المعاني (3) الغامضة ويعمل الشعر الجيد، وامتناع ذلك من الغبي البليد (4) الأبله الطبع فهذا وجه. والثاني الممتنع (5) في العادة قطعاً وهو متشكل في حس النفس وتخيلها لوكان كيف كان (6) يكون، كاتقلاب الجماد حيواناً، واختراع الأجسام دون تولد، ونطق الجماد، وهذا القسم به تصح نبوة النبي، إذا ظهرت منه ولا سبيل إليها لغيره. والثالث الممتنع في العقل ككون المرء قائماً قاعداً في حال واحدة، وككون الجسم في مكانين، وكانقلاب الذي لم يزل محدثاً، أو المحدث لم يزل؛ أو وجود أشياء كثيرة لم تزل (7) ، وهذا بالجملة هو كل ما ضاد الأوائل المعلومة بأول العقل، وهذا ما لا سبيل إلى وجوده أصلاً، ولا يفعله الخالق أبداً، ولا يكون ذلك أصلاً، وفيه فساد بنية العالم وانخرام رتب العقول التي هي أسباب معرفة الحقائق {وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته} والرابع الممتنع (8) المطلق مثل كل سؤال أوجب على ذات الباري تعالى تغيراً، فهذا هو الممتنع لعينه (9) الذي ينقض بعضه بعضاً ويفسد

_ (1) لرطل: هي قراءة م وأصل س، وفي هامش س: أرطالاً يسيرة. (2) من رفع: لم ترد في س؛ وجاء بدله: وكامتناع حمل الضعيف خمسمائة ... الخ. (3) المعاني: سقطت من س. (4) س: البعيد. (5) س: ممتنع. (6) كان: سقطت من س. (7) وكانقلاب ... تزل: سقطت من م. (8) الممتنع: سقط من س. (9) لعينه: لم ترد في س.

أوله آخره (1) ، وهذا مثل سؤال من يسأل هل يقدر الله تعالى أن يخلق مثله ونحو هذا، فأعلمه لأنه لا يحدث أولاً على الإطلاق (2) . واعلم أنه لا قسم لقضايا العالم غير ما ذكرنا أصلاً. وقد يأتي أيضاً اللفظ الذي يعبر به عن الواجب بلفظ النفي وبلفظ الإيجاب، وقد يأتي اللفظ الذي يعبر به عن الممتنع بلفظ النفي، وقد يأتي أيضاً (3) بلفظ الإيجاب، ولا سبيل إلى أن يأتيا بلفظ شك فتقول: واجب أن تطلع الشمس غداً، وممتنع أن لا تطلع غداً (4) ، وتقول: واجب أن لا يوجد في النار برد، وممتنع [39و] أن يوجد في النار برد (5) . وقد قال قوم إن العناصر اثنان وهما واجب وممتنع فقط، قالوا: ولا ممكن البتة لأن الشيء الذي تسمونه ممكناً هو قبل وجوده ممتنع، وهو بعد وجوده واجب، فلا ثالث. قالوا: وما غاب عنا فإما أنه في علم الله تعالى يكون وإما أنه لا يكون، فإن كان الله عز وجل قد علم أنه سيكون، فهو الآن واجب أن يكون، وإن كان تعالى علم أنه لا يكون فهو الآن ممتنع أن يكون. ونحن نقول: إن هذا حكم فاسد. أما حجتهم الأولى من أن الشيء قبل كونه ممتنع فخطأ، بل في القوة وفي الظن ربما قد (6) كان وربما لم يكن؛ وأما احتجاجهم بعلم الله تعالى فإن الله تعالى قد أمر ونهى، فلو لم يكن الشيء الذي أمر به تعالى متوهماً كونه من (7) المأمور به لم يكن للأمر به (8) معنى، فالمتوهم كونه هو الممكن، وأفعال المختارين قبل كونها داخلة في قسم الممكن (9) ، بخلاف أفعال الطبيعة.

_ (1) م: آخره أوله. (2) لأنه ... الإطلاق: سقط من م. (3) أيضاً: سقطت من م. (4) وممتنع ... غداً: سقط من م. (5) وممتنع ... برد: سقط من م. (6) قد: لم ترد في م. (7) س: في. (8) به: سقطت من س. (9) م: قسم حد الممكن.

ثم نقول: إن الحس والعقل قد ثبت فيهما أن بين مشي القاعد الصحيح الجوارح والجسم الغير ممنوع وبين مشي المقعد المبطل الساقين فرقاً، وهذا فرق بين الممكن والممتنع. وكذلك فيهما أن بين قعود الصحيح الذي ذكرنا الذي إذا شاء تركه تركه، وبين قعود المقعد الذي لو رام جهده تركه لم يقدر، فرقاً واضحاً، وهذا فرق بين الممكن والواجب. والواجب أن نلزم (1) من قال بخلاف قولنا أن لا يتأهب للجوع إذا أصابه بأكل الطعام لأنه إن كان انتهى أجله فواجب أن يموت، وإن كان لم ينته أجله فممتنع أن يموت، وينبغي له (2) أن يقتحم النيران إذ إن كان (3) في المغيب أنه لا يحترق فممتنع أن يحترق، فيلزم مخالفنا أن تأهبه وفكرته وسعيه فيما يدفع به عن نفسه البرد والعطش والأذى كتأهبه وفكرته لدفع حركة الفلك أو لمنع الشمس من الطلوع، ونحن إنما نناظر الناس حتى نردهم إلى موجب العقل أو الحس أو نلزمهم أن يخرجوا عن رتب العقل وإلى مكابرة الحس، فإذا خرجوا إلى ما ذكرنا فقد كفونا التعب معهم، ولزمنا الإعراض عنهم وتركهم يتمنون الأضاليل ويفرحون بالأباطيل كالسكارى والصبيان المغرورين بأحوالهم، المسرورين بأفعالهم، ونشتغل بما يلزمنا من تبيين الحقائق لطلابها، فإنما نتكلم مع النفوس العاقلة المميزة، لا مع الألسنة فقط، ولا مع النفوس السخيفة. 5 - باب الكلام في الإيجاب والسلب وهو النفي ومراتبه ووجوهه النفي المفيد معنى والذي تنفي به ما أوجب خصمك إنما حكمه أن يكون للمحمول لا [39ظ] للموضوع لأنك تثبت الاسم ثم توجب له صفة أو تنفيها عنه. ولو نفيت الموضوع وهو الاسم المخبر عنه لكنت لم تحصل معنى تخبر عنه كقولك: لا زيد منطلق، لأن ظاهر هذا اللفظ نفي زيد ونفي الانطلاق معه. والأوائل يسمون مثل هذا " قضية غير محصلة "، وإنما الصواب أن تقول: زيد غير منطلق، أو ليس منطلقاً، فتكون قد أثبت زيداً ونفيت عنه الانطلاق. والأوائل يسمون هذه " قضية مسلوبة " و " متغيرة في المحمول " لأنك غيرتها عن الإيجاب، فتحفظ في هذا المكان، فأقل

_ (1) سقطت عبارة: والواجب أن في م، وجاء مباشرة " ويلزم ... ". (2) له: سقطت من س. (3) س: إذا كان.

ما في ذلك أن تجيب على أحد وجهي الكلام اللذين هما إما نفي المخبر عنه جملة وإما نفي الصفة عنه، فتكون مجيباً قبل تحقيق السؤال وتصحيحه، فيلزمك نقص الفهم والجور في الحكم. وإذا أردت نفي ما أوجب خصمك نفياً تاماً صحيحاً فلا بد لك من أنك إنما تريد نقض بعضه أو نقض كله، فإن أردت نقض بعضه فبين ذلك، وإن أردت نقض كله فلا بد من أن يجمع كلامك ثمانية شروط وإلا فليس نقضاً تاماً: أحدها (1) : أن يكون الموضوع فيما أوجب هو وفيما نفيت أنت واحداً، فإن كانا اثنين وقع الشغب، وذلك مثل قول القائل: الموجود محدث، فيقول الآخر: الموجود ليس محدثاً، فهذا فساد في بنية الكلام، وليس أحد الكلامين نقضاً للآخر، لأن الباري عز وجل موجود، وليس محدثاً، والعالم موجود وهو محدث، ونحو ذلك عرض لأصحابنا من أهل السنة والمعتزلة فإنهم أكثروا التنازع والخوض حتى كفر بعضهم بعضاً، فقالت المعتزلة: القرآن مخلوق، وهم يعنون العبارة المسموعة، وقال أصحابنا: القرآن لا مخلوق (2) ، وهم يعنون علم الباري عز وجل. والثاني: أن يكون المحمول الذي أوجب أحدهما هو المحمول الذي نفى الآخر لا غيره أصلاً، وذلك مثل قائل قال (3) زيد عالم، فقال مخالفه: زيد ليس بعالم، فإن عنى أحدهما عالماً بالنحو، وعنى الآخر عالماً بالفقه لم تتناقض قضيتاهما. والثالث: أن يكون الجزء الذي فيه استقر الحكم من الموضوع واحداً في كلتا القضيتين لا غيره كقائل قال: زيد أسود، يريد أسود الشعر، فيقول الآخر: زيد ليس بأسود، يريد اللون أو العين. والرابع: أن يكون الجزء من المحمول في القضيتين واحداً لا متغايراً كقائل قال (4) : زيد ضعيف، فيقول الآخر: زيد ليس بضعيف، يريد أحدهما ضعف الجسم بالبنية الكلية، والآخر نفي ضعف الجسم بالمرض الذي هو جزء من أجزاء [40و] الضعف. والخامس: أن يكون الزمان الذي أثبت فيه أحدهما ما أثبت هو الزمان الذي نفى فيه الآخر

_ (1) م: وهي؛ ثم حذف العدّ واستعمل لفظة " ومنها ". (2) وهم يعنون ... مخلوق: سقط من س. (3) س: مثل قول القائل. (4) س: كقول القائل.

ما أثبت هذا لا غيره، كقائل قال: زيد كاتب - أي قد كتب ويكتب (1) فيقول الآخر: زيد ليس كاتباً، أي ليس الآن يكتب. والسادس: أن تكون الحال التي أثبت فيها أحدهما ما أثبت، هي الحال التي نفى فيها الآخر (2) ما أثبت هذا لا غيرها، كقائل قال: الطفل فارس، يريد الإمكان والاحتمال في البنية (3) ، فيقول الآخر: الطفل ليس بفارس يريد بالفعل في حال الطفولة. والسابع: أن تكون إضافة الشيء الذي أثبت هو وإضافة الشيء الذي نفى خصمه إلى شيء واحد لا إلى شيئين، كقائل قال: زيد عبد، فيقول الآخر: زيد ليس عبداً، يريد أحدهما لله عز وجل، ويريد الآخر نفى أنه متملك لإنسان، ونحو قولك (4) : السيف يقطع، فيقول خصمك: السيف ليس يقطع، أردت اللحم (5) ، وأراد هذا الحجارة. والثامن أن تكون القضيتان مستويتين في الجوهر أو في العرض، لا مختلفتين، كقائل قال: زيد ينتقل، فقال خصمه: زيد لا ينتقل، وهما يخبران جميعاً عن رجل (6) قاعد في سفينة تسير، فهو ينتقل بالعرض، أي بنقل السفينة إياه، وهو غيرمنتقل بذاته بل هو ساكن. وبالجملة ففتش كلام خصمك فإن كان في كلامك الذي تريد إيجابه أو نفيه معنى يخالف ما حكم هو فيه بإيجاب أو بنفي فبينه ولا تخالف شيئاً من معانيه إلا بحرف النفي فقط وإلا كنت شغبياً معنتاً (7) أو جاهلاً، فهذه شروط النقيض. والنفي الكلي وهو نفيك الصفة عن جميع النوع أو نفيك جميع الصفة عن بعض النوع تنطق به (8) بلفظ يشبه في ظاهره الجزئي لأنك إذا أردت النفي الكلي، وهو العام، قلت ليس واحد (9) من الناس صهالاً، أو ليس أحد من الناس صهالاً،

_ (1) ويكتب: في م وحدها. (2) الآخر: سقطت من س. (3) م: واحتمال البنية. (4) س: ذلك. (5) س: وأراد هذا اللحم. (6) عن رجل: سقط من س. (7) م: معيباً. (8) به: سقطت من س. (9) س: واحداً.

وليس واحد من الخيل ناطقاً، وليس شيء من النطق في هذا الفرس. والنفي الجزئي، وهو نفيك الصفة عن بعض النوع لا عن كله، تنطق به بلفظ جزئي وبلفظ كلي [ ... ] (1) ومعنى هذين اللفظين واحد لا اختلاف فيه، أحدهما ظاهره العموم والثاني ظاهره الخصوص. والإيجاب الكلي وهو إثباتك الصفة لجميع النوع لا يكون إلا بلفظ كلي إما بسور كما قدمنا، وإما مهمل يقصد به العموم كقولك: كل إنسان حي، أو كقولك: جميع الناس أحياء، أو تقول، الإنسان حي، وأنت لا تريد شخصاً واحداً بعينه، أو تقول: الناس أحياء وأنت لا تريد بعضاً منهم. والإيجاب الجزئي وهو إثباتك الصفة لبعض النوع لا يكون أصلاً إلا بلفظ جزئي كقولك: بعض الناس كتاب، فأفهم هذه الرتب وتثبت فيها. وقد قال [40ظ] بعض المتقدمين إن القائل إذا أتى بقضية مهملة فقال: الإنسان كاتب، ان الأسبق إلى النفس أن مراده بذلك بعض النوع لا كله. وأما نحن فنقول: إن هذا القول غير صحيح وإن هذه المهملات يعني الألفاظ التي تأتي في اللغة: مرة للنوع كله، ومرة للشخص الواحد، ومرة لجماعة من النوع، فإنها إن لم يبين المتكلم بها أنه أراد شخصاً واحداً من النوع، أو بعض النوع دون بعض، أو لم يقم على ذلك برهان ضروري، أو مقبول، أو متفق عليه من الخصمين، فلا يجوز أن تحمل على عموم النوع كله لأن الألفاظ إنما وضعت للإفهام لا للتلبيس. وكل لفظة فمعبرة عن معانيها ومقتضية لكل ما يفهم منها، ولا يجوز أن يكلف المخاطب فهم بعض ما تقتضيه اللفظة (2) دون بعض، إذ ليس ذلك في قوة الطبيعة البتة، بل هذا من الممتنع الذي لا سبيل إليه ومن باب التكهن، إلا باتفاق منهما أو ببيان زائد، وإلا فهي سفسطة وشغب وتطويل بما لا يفيد ولا يحقق معنى.

_ (1) زاد في س: لأنك تقول [ليس] بعض الناس كاتباً؛ وهو كلام ناقص، ولا وجود له في م؛ وهو نقص لم تسعف النسختان على استكماله. (2) س: يقتضيه اللفظ.

وسمى بعض المتقدمين قول القائل: كل إنسان حي، وقول المخالف له: ليس (1) كل إنسان حياً، " ضداً "، وسمى قول القائل: كل إنسان حي وقول الآخر لا بعض الناس حي، " نقيضاً " وذكر أن النقيض أشد مباينة من الضد، واحتج بأن قال إن القضيتين الأوليين اللتين سميناهما ضداً كلتاهما كلية، الواحدة موجبة والأخرى نافية، والقضيتان الأخريان اللتان سميناهما نقيضاً، الواحدة كلية والثانية جزئية، والواحدة موجبة والثانية نافية، فإنما اختلفت الأوليان (2) في جهة واحدة وهي الكيفية فقط أي في الإيجاب والنفي، وهما متفقتان في الكمية أي أن كلتيهما كلية، واختلفت الأخريان في جهتين: إحداهما الكيفية، أي الإيجاب والنفي كاختلاف قضيتي الضد، والثانية الكمية وهي أن الواحدة كلية والثانية جزئية. قال: فما اختلف من جهتين أشد تبايناً مما اختلف من جهة واحدة. ونحن نقول: إن هذا خطأ وإن هذا القائل إنما راعى ظاهر اللفظ دون حقيقة المعنى، وإن قضاء هذا القائل وإن كان صادقاً في عدد وجوه الاختلاف، فهو قضاء كاذب في شدة الاختلاف، ولو كان (3) قال مكان أشد " أكثر " لكان حقاً. بل نقول: إن التي تسمى ضداً، ونحن (4) نسميها " نفياً عاماً " إن (5) شئت، أو " نقيضاً عاماً "، أشد تبايناً من [41و] الأخرى التي نسميها " نقيضاً خاصاً " لأن قائل الأولى نفى جميع ما أوجبه الآخر وكذبه في كل ما حكى، ولم يدع معنى من معاني قضيته إلا وخالفه فيها وباينه في جميعها. وأما الثانية فإن قائلها إنما نفى بعض ما أوجبه (6) الآخر وأمسك عن سائر القضية فلم ينفها ولا أوجبها ولا خالفه فيها ولا وافقه، وإنما باينه في بعض قضيته لا في كلها، والمباين في الجميع أشد خلافاً من المباين في البعض.

_ (1) له: سقطت من س؛ ليس: لا في م. (2) س: اختلف الأولتان. (3) كان: سقطت من م. (4) س: فنحن. (5) س: أو ان شئت، ونقلت " أو " إلى ما بعد الفعل، وهو أصوب، كما في م. (6) س: أوجب.

وإذا أتاك خصمك بمقدمة مهملة فقرر معه معناها: العموم (1) أراد أو (2) الخصوص، أي على الكل يحملها أو على بعض ما يقتضيه اللفظ الذي تكلم به، وتحفظ من إهمال هذا الباب، وإذا قضيت قضية فنفاها خصمك فتأمل فإن كان ما أوجبت ونفى هو من ذوات الوسائط فحقق عليه في أن يبين ما أراد كقولك: زيد أبيض، فيقول هو: ليس زيد بأبيض، فإنه لا يلزمه بهذا القول أن يكون زيد أسود، ولعله أراد أنه أحمر أو أصفر. ومثال هذا في الشرائع أن تقول: أمر كذا حرام فيقول خصمك ليس بحرام أو تقول أمر كذا واجب، فيقول خصمك: ليس بواجب، فإنه في قوله ليس بحرام ليس يلزمه أنه واجب ولا في قوله إنه ليس واجباً أنه حرام، بل لعله أراد أنه مباح فقط. وأما غير ذوات الوسائط فلا تبال (3) عن هذا لأنك إن قلت: زيد حي فقال خصمك: هو غير حي فقد أوجب أنه ميت ضرورة، ولا واسطة (4) هاهنا، ولقد لزمه القول بموته (5) فانظر أنه قد يكون معنى النفي بلفظ الإيجاب إلا أن ذلك ليس شرطاً عاماً تثق النفس به بل هو في مكان دون مكان لأنك تقول: فلان ميت فيقول خصمك: فلان يكتب أو فلان حي فهذا معنى صحيح في نفي الموت ولكن لا تثق بهذا؛ فإنك إذا قلت: فلان متكيء فيقول خصمك: فلان جالس فقد تكونان معاً كاذبين بأن يكون المخبر عنه قائماً، وحقيقة النفي هو ما صدق أحدهما وكذب الآخر، فإذا أردت حقيقة النفي ورفع الإشكال فلا بد من أحد حروف النفي التي قدمنا ذكرها فتأمن من (6) الغلط، ولهذا قال المتقدمون: إن لكل موجبة سالبة واحدة، ولكل سالبة موجبة واحدة، أي أن ذلك لا يكون إلا بإدخال حرف النفي فقط، والله أعلم بالصواب.

_ (1) زاد في هامش س " هل " قبل لفظة " العموم ". (2) م: أم. (3) س: تبالي. (4) م: وسط. (5) س: وقد لزمه الموت بقوله. (6) من: سقطت من م.

[41ظ] 6 باب اقتسام القضايا: الصدق والكذب وإذ قد ذكرنا أن عناصر الاخبار ثلاثة أي انقسامها ثلاثة وهي: واجب أو ممكن أو ممتنع فلنذكر إن شاء الله عز وجل بتوفيقه لنا وجوه اقتسام (1) القضايا الموجبات والنوافي للصدق في هذه الأقسام الثلاثة فنقول، وبالله تعالى نتأيد: إن النفي العام والإيجاب العام يقتسمان (2) الصدق والكذب ضرورة في عنصر الوجوب، فالموجبة أبداً (3) صادقة حق، والنافية أبداً كاذبة باطل، مثل قولك: كل إنسان حي، فهذا حق ونفيه كذب، إذا قلت: ولا واحد من الناس حي فهذا أمر لا يخونك أبداً، فاضبطه. وكذلك أيضاً في عنصر الإمكان. فإن قولك: كل إنسان كاتب، إذا عنيت بالقوة، وإما إذا عنيت بالفعل فالقضيتان العامتان الموجبة والنافية كاذبتان فيه أبداً، كقولك: كل إنسان كاتب أي محسن للكتابة أو قولك ولا واحد من الناس كاتب، فكلتاهما كذب. وأما في عنصر الامتناع فالنافية أبداً صادقة، والموجبة أبداً كاذبة، كقولك: كل إنسان نهاق فهذا كذب، وإذا قلت ليس أحد من الناس نهاقاً فهذا صدق. ثم لنتكلم عن النفي الخاص والإيجاب الخاص إن شاء الله تعالى، فنقول وبالله تعالى نتأيد: إن (4) قضيتي النفي الخاص والإيجاب الخاص في عنصر الوجوب يقتسمان الصدق والكذب ضرورة لأنك تقول: بعض الناس حي فذلك حق ونفيه لا بعض الناس حي كذب، وأما في عنصر الامتناع فإنهما أيضاً يقتسمان الصدق والكذب: فإن (5) قولك بعض الناس حجر كذب ونفيه بعض الناس لا حجر صدق، فتصدق النافية أبداً في هذا القسم وتكذب الموجبة أبداً (6) فيه. وإما في عنصر الإمكان فكلتاهما (7) صادقة ضرورة وذلك قولك: بعض الناس كاتب تريد بالفعل حق،

_ (1) اقتسام: أقسام في س (في العنوان وأكثر الفصل، وهو خطأ) . (2) س: ينقسمان إلى. (3) س: والموجبة. (4) س: بأن. (5) س: في أن. (6) أبداً: سقطت من س. (7) س: فكلاهما.

ونفيه بعض الناس لا كاتب تريد بالفعل حق. ثم لنتكلم على الإيجاب العام والنفي الخاص، فنقول وبالله تعالى نتأبد: إن قضيتي الإيجاب العام والنفي الخاص في عنصر الإيجاب يقتسمان الصدق والكذب ضرورة، فإن قولك: كل الناس حي صدق، ونفيه: لا كل الناس حي ولا بعض الناس حي كذب، فتصدق الموجبة أبداً وتكذب النافية. وأما في عنصر الإمكان فإنهما أيضاً يقتسمان الصدق والكذب، فإن قولك كل الناس كاتب، تريد بالفعل، كذب، ونفيه لا كل الناس [42و] كاتب أو لا بعض الناس كاتب (1) ، تريد بالفعل، صدق، فتكذب الموجبة وتصدق النافية. وأما في عنصر الامتناع فإنهما أيضاً يقتسمان الصدق والكذب ضرورة، كقولك: كل إنسان نهاق كذب، ونفيه لا كل الناس نهاق أو لا بعض الناس نهاق صدق، فتكذب الموجبة وتصدق النافية. ثم لنتكلم على الإيجاب الخاص والنفي العام، فنقول، وبالله تعالى نتأيد: إن قضيتي الإيجاب الخاص والنفي العام في عنصر الوجوب يقتسمان الصدق والكذب ضرورة. فإن قولك بعض الناس حي حق، ونفيه: ليس واحد من الناس حياً كذب، فتصدق الموجبة وتكذب النافية. وأما في عنصر الإمكان فكذلك أيضاً، لأن قولك: بعض الناس كاتب حق، ونفيه لا واحد من الناس كاتب كذب، فتصدق الموجبة وتكذب النافية. وأما في عنصر الامتناع فكذلك أيضاً، لأن قولك: بعض الناس حجر كذب، ونفيه لا واحد من الناس حجر صدق، فتصدق النافية وتكذب الموجبة، فتدبر هذه القسمة فإنك ترى رتبة حسنة لا تخونك أبداً فاضبط: إننا عنينا بقولنا فيما تقدم لنا " عام " أنه الذي تسميه الأوائل " كلياً " والذي قلنا فيه " خاص " فهو الذي تسميه الأوائل " جزئياً ". واعلم ان العموم في النفي والإيجاب في عنصر الإمكان كاذبان أبداً، وأن الخصوص في النفي والإيجاب في عنصر الإمكان (2) صادقان أبداً.

_ (1) أو لابعض الناس كاتب؛ سقط من م. (2) كاذبان ... أبداً: سقط من س.

واعلم أن الموجبة العامة في عنصر الوجوب صادقة أبداً. واعلم أن النافية العامة في عنصر الوجوب كاذبة أبداً. واعلم أن الموجبة الخاصة في عنصر الوجوب صادقة أبداً. واعلم أن النافية الخاصة في عنصر الوجوب كاذبة أبداً. واعلم أن الموجبة العامة في عنصر الإمكان كاذبة أبداً. واعلم أن النافية العامة في عنصر الإمكان كاذبة أبداً. واعلم أن الموجبة الخاصة في عنصر الإمكان صادقة أبداً. واعلم أن النافية الخاصة في عنصر الإمكان صادقة أبداً. واعلم أن الموجبة العامة في عنصر الامتناع كاذبة أبداً. واعلم أن النافية العامة في عنصر الامتناع صادقة أبداً. واعلم أن الموجبة الخاصة في عنصر الامتناع كاذبة أبداً. واعلم أن النافية الخاصة في عنصر الامتناع صادقة أبداً. واندرج لنا فيما ذكرنا آنفاً أمر غلط فيه جماعة من الناس فعظم فيه خطأهم وفحش جداً. وذلك أنهم قدروا أن القائل: ليس بعض الناس نهاقاً، أنه قد أوجب لسائرهم النهيق [42ظ] ، فظنوها قضية كاذبة، وهذا كذب منهم وظن فاسد رديء باطل ينتج لهم نتائج عظيمة الفحش، لأنه يخبر عن سائرهم بخبر أصلاً لا بأنهم ينهقون، ولا بأنهم لا ينهقون، ولا ندري لو أخبر أكان يخبر بكذب أو بصدق حتى يخبر، فندري حينئذ صفة خبره، لكنه الآن قد صدق في نفيه النهيق عن بعضهم صدقاً صحيحاً متيقناً، وسكت عن سائرهم، وليس يلزم من أخبر عن بعض النوع بخبر يعمه ويعم سائر نوعه أن يخبر ولا بد عن سائر النوع إلا إن شاء أن يخبر، والسكوت ليس كلاماً؛ ومن سكت فلم يتكلم، ولا يقضى على أحد بسكوته وأنه قضى قضاءً لا يعلم إلا بالكلام إلا حيث أمضت الشريعة القضاء به فيما صار خارجاً بالأمر عن المعهود المعلوم فقط، وليس ذلك إلا في موضعين فقط لا ثالث لهما، أحدهما إقرار الرسول عليه الصلاة والسلام على ما رأى، والثاني صمات البكر. ومن تكلم فلم يسكت، ألا ترى أن من قال نفس زيد حية ناطقة ميتة فهو صادق، فلو كان ظن هذا الظان الذي أبطلنا غلطه حقاً لكان القائل نفس زيد ناطقة ميتة كاذباً، لأنه على حكم هؤلاء الجهال كان

يكون موجباً لسائر أنفس الناس غير (1) ما أخبر به عن نفس زيد، وهذا ما لا يظنه ذو عقل؛ ولو كان هذا لكانت القضايا المخصوصة كلها كواذب، أي أن كل خبر عن شخص بعينه كان يكون كاذباً، إذ ينطوي فيه عندهم أن سائر نوعه بخلاف ذلك، فلما كان هذا مكابرة للحس صح ما قلنا أولاً من أن المخبر بأن بعض الناس ليس حماراً صادق، ولم يكن النفي لما هو منفي أولى بالصدق فيه من الإيجاب لما هو موجب، ولم يلزمه أن يظن به أنه أوجب الحمارية لسائر من سكت عنه من باقي النوع، لكن سائر النوع موقوف على ما هو عليه أي له من الحكم ما قد وجب بعد له بغير هذه القضية التي قضيت على بعضه، وهذا الذي غلط فيه كثير ممن تكلم في علوم الشريعة وسموه " بدليل الخطاب " وقضوا به القضايا الفاسدة؛ وكذلك من أخبر بممكن فقال: بعض الناس كاتب أو ليس زيد كاتباً فليس فيه أن سائر الناس لا كتاب ولا أن من عدا زيداً كاتب، ولا يوجب قوله ما ذكرنا شيئاً مما سكت عنه أصلاً، وإنما يؤخذ حكم سائرهم من دلائل أخر وقضايا غير هذه، ولو كان ما ظنه هؤلاء المغفلون لوجب ضرورة أن قول [43و] القائل: ليس زيد كاتباً (2) كذب، إذ ذلك يوجب على حكم هؤلاء أن جميع الناس حاشاه كتاب. فلما كان كلا الأمرين باطلاً بطل الحكم لجميع ما ذكروه (3) ، ولما صدق القائل: ليس زيد كاتباً، والقائل: عمرو كاتب، والقائل: خالد حي، والقائل: ليس عبد الله حجراً، ولم يوجب كل ذلك حكماً على غير من ذكر لا بموافقة ولا بمخالفة، صح ما قلناه من أن القضية إنما تعطيك مفهومها خاصة وإن ما عداها موقوف على دليله، وبطل أيضاً قول من قال: إن ما عداها داخل في حكمها، وبالله تعالى التوفيق. ولا يظن ظان أن هذا نقض لما قلنا في كتبنا في أحكام الدين إن الحكم الذي حكم به الواحد الأول تعالى على لسان الذي ابتعثه رسولاً إلينا في شخص من نوع أنه لازم لجميع النوع إلا أن يبين أنه خص به ذلك الشخص، وقلنا أيضاً إنه غير لازم

_ (1) س: على. (2) س: زيد كاتب. (3) م: لكل ما ذكروا.

لغير ذلك النوع أيضاً أصلاً إلا ببيان وارد بأنه فيما (1) سواه من الأنواع، فمن ظن في كلامنا هذا الظن فقد غاب عن فهم قولنا. وبيان ذلك أن عدد الأشخاص غير متناه عندنا، على ما قدمنا في أول هذا الديوان، فلا سبيل إلى عموم كل شخص منها بخطاب يخصه إذ هم حادثون جيلاً بعد جيل، والرسول عليه السلام مبتعث ليحكم في كل شخص وعلى كل شخص يحدث أبداً إلى انقضاء عالم الاختبار (2) ، فإذا حكم عليه السلام في شخص بحكم ولم يعلمنا أنه خاص به ولا انفرد (3) به ذلك الشخص بكلام يخصه به كان كحكمه على البعض الذين في عصره، وكان ذلك جارياً بالمقدمات المقبولة على كل حادث من الأشخاص أبداً. ويكفي من بطلان هذا الأعتراض أنه لا شيء من كلامه، عليه السلام، أتى مفرداً إلا وقد جاء بيان واضح بأنه (4) عام لمن سوى ذلك الشخص ولما سواه أبداً. وليس هذا مكان الكلام في ذلك، وإنما نبهنا عليه لئلا يتحير فيه من صدم به ممن يقول بقولنا، وبالله تعالى التوفيق. واعلم أن قولك: كل الناس حي وقول الذي يناظرك: بعض الناس حي (5) ليس خلافاً لقولك؛ وكذلك لو قال: زيد حي، لكن هذا تتال في الإيجاب لأنه تلاك فصوب بعض قولك ولم يخالفك في سائره ولا وافقك لكنه أمسك عنه؛ وكذلك إذا قلت: كل الناس لا حجر، فقال هو: بعض الناس لا حجر، فلم يخالفك أيضاً لكنه تتال في النفي أي تتابع. وإنما يكون خلافاً إذا قلت: ليس بعض الناس حياً، فهذا خلاف [43ظ] أحدهما نفي عام والثاني نفي خاص. وأما القضايا المخصوصة وهي التي يخبر بها عن شخص واحد فإنها تقتسم الصدق والكذب أبداً في الواجب والممكن والممتنع، أما في الواجب فتصدق الموجبة أبداً

_ (1) م: في. (2) م: الاختيار. (3) م: أفرد. (4) بأنه: سقطت من س. (5) وقول الذي ... حي: سقط من م.

وتكذب النافية، كقولك، زيد (1) حي، زيد لا حي. وأما في الممتنع فتكذب الموجبة أبداً وتصدق النافية كقولك: زيد حجر، زيد لا حجر. وأما في الممكن فكيف ما وافق حقيقة الخبر في صفة ذلك الشخص المخبر عنه مثل قولك: زيد طبيب، زيد ليس بطبيب، فإن التي توافق صفته تصدق، إما الموجبة وإما النافية، والتي تخالف صفته تكذب، إما الموجبة وإما النافية. 7 - باب ذكر موضع حروف النفي واعلم أنه واجب أن تراعي إذا أردت أن تنفي صفة ما أين تضع حرف النفي، فأصل الحكم فيه إذا أردت البيان ورفع الإشكال أن تضع حرف النفي قبل الخبر لا قبل المخبر عنه، فيقول خصمك: زيد حي فتقول: زيد لا حي. واعلم أن الأوائل إذا وضعوا حرف النفي قبل الموضوع الذي هو المخبر عنه، كان معه خبراً أو لم يكن معه خبر، فحينئذ يسمونه " غير محصل " وإذا (2) وضعوه قبل الموضوع، ووضعوه ثانية أيضاً قبل المحمول الذي هو الخبر سموه " غير محصل ومتغيراً " ولو وضعوه قبل المحمول فقط سمي " متغيراً " فقط. وذكروا أنه قد يقع في المهمل الذي لا سور عليه، وفي المخصوص وهو الإخبار عن شخص واحد وفي ذوات الأسوار. وإذا وضعوه قبل المحمول في القضية ذات السور سموه " مسلوباً "، وإذا وضعوه قبل السور سموه " نقيضاً "، وإذا وضعوه في كل موضع من هذه المواضع جمعوا له الأسماء الثلاثة المذكورة. وكل قضية لم يكن حرف النفي قبل موضوعها الذي هو المخبر عنه فهي تسمى " بسيطة "، نافية كانت أو موجبة، ذات سور كانت أو غير ذات سور، وذلك أنك إذا قلت: كل لا إنسان حجر (3) فإنك لم تحصل شيئاً تخبر عنه. وتأمل عظيم الغلط

_ (1) زيد: في م وحدها. (2) س: إذا. (3) وذلك أنك ... حجر: هذه عبارة م؛ وموضعها في س: وأنك إذا قلت لا إنسان حجر.

الواقع (1) في تسويتك وضع حرف النفي قبل السور ووضعه قبل المحمول فإنك إذا قلت: لا كل إنسان كاتب صدقت، وكنت إنما نفيت بذلك الكتابة عن بعض الناس على الحقيقة، لاعن كلهم على ما قدمنا من أن النافية الجزئية تظهر بقول كلي وبجزئي أيضاً. وتأمل ذلك في قولك: ليس كل إنسان كاتباً فإن هذا أبين في اللغة العربية وأوضح في أنه نفي جزئي (2) [44و] وكذلك لو أضمرت اسم ليس فقلت: ليس كل إنسان كاتب (3) أي ليس الحكم كل إنسان كاتب، فهذه كلها نوافي جزئيات فاضبط ذلك جداً. وأنت إذا قلت: كل إنسان لا كاتب فإنك نفيت الكتابة عن الجميع واحداً واحداً فتحفظ من (4) مثل هذا، فأيسر ما في ذلك أن يكون خبرك كذباً وإن كنت لم تقصده فتضل بذلك من حسن ظنه بك، وهذه خطة خسف لا يرضى بها فاضل. واعلم أنك إنما تنفي ما تلصق به حرف النفي، فإن ألصقته بالمحمول الذي هو الخبر عن المخبر عنه نفيت المحمول كله، وإن ألصقته بالسور فإنما تنفي بعض القضية أو جميعها على حسب صيغة لفظك في اللغة، ألا ترى أنك تقول: ممكن أن يكون زيد أميراً، فإن جعلت حرف النفي قبل ممكن فقلت لا ممكن أن يكون زيداً أميراً فهذا " نقيض " لأنك نفيت النوع وهو العنصر، يعني أنك نفيت إمكان القضية كلها، فإذا جعلت حرف النفي بعد ممكن وقبل ذكر يكون الذي هو الزمان فقلت ممكن أن لا يكون زيداً أميراً فهذا " تغيير " لأن الإمكان لم تنفه بل أثبته، لكن أدخلت فيه نفي ما أدخل خصمك فيه الإمكان، وتغيرت المقدمة عن حالها، وهي: كون زيد أميراً؛ فإن جعلت حرف النفي بعد العنصر والزمان أي بعد لفظ الجواز وهو الإمكان وبعد لفظ الكون وقبل الموضوع الذي هو المخبر عنه فقلت: ممكن أن يكون غير (5) زيد أميراً فلم تنف عن زيد شيئاً وهذا الذي يسمى " غير محصل "، ويسمى أيضاً

_ (1) س: الرافع. (2) س: يجزئي. (3) س: كاتباً. (4) م: في. (5) م: لا.

" متغيراً "، إذا كانت [غير] بمعنى ليس (1) ، لأنك (2) لم تنف عن شخص بعينه شيئاً ولا نفيت (3) أيضاً ما أوجب خصمك ولا أوجبت أيضاً لشخص بعينه شيئاً لكن أخبرت عن غير زيد، وغير زيد لا يتحصل من هو ولا ما هو، وأبقيت الإمكان والكون بحسبهما مثبتين لا منفيين. وكذلك المقدمة التي أثبت خصمك لم تنفها أنت ولا أثبتها أيضاً بل سكت عنها جملة فلم تناقضه ولا خالفته. وإن (4) جعلت حرف النفي بعد النوع وبعد الزمان وبعد الموضوع وقبل (5) المحمول فقلت: ممكن أن يكون زيد لا أميراً فهذا سلب، ويسمى أيضاً " انتقالاً "، لأنك أثبت النوع الذي هو الإمكان والزمان الذي هو الكون والموضوع الذي هو المخبر عنه ونفيت عنه الحمل الذي أثبت خصمك فقط، فهذه قضية نافية. وهكذا القول في القضايا المهملة وفي القضايا المحصورة ولا فرق في نفي ما تنفي وإيجاب ما توجب. فافهم اختلاف هذه الرتب فمنفعتها في إيراد الحقائق وتثقيف المعاني ورفع الاشكال منفعة عظيمة (6) جداً وبالله تعالى [44ظ] التوفيق. وأعلم أنك إذا أوجبت لمخبر عنه بلفظة " ذي " شيئاً ما، مثل قولك: ذو مال أو ذو صفة كذا، فإنك إذا أردت نفي ذلك عنه لم يكن لك بد من إبقاء لفظة ذي في نفيك ذلك عن من أوجبته له فتقول: ليس ذا مال. 8 - بقية الكلام في اقتسام القضايا الصدق والكذب واعلم أن من القضايا ما تصدق مفردة وتصدق مجموعة، ومنها ما تصدق مفردة وتكذب مجموعة، ومنها ما تكذب مفردة وتصدق مجموعة، ومنها ما تكذب مفردة وتكذب مجموعة.

_ (1) إذا كانت ... ليس: سقط من م. (2) لأنك: سقطت من س. (3) س: أنفيت. (4) م: فان. (5) س: وبعد. (6) عظيمة: سقطت من س.

فالتي (1) تصدق مفردة ومجموعة مثل قولك الإنسان حي، الإنسان ناطق، الإنسان ميت، الإنسان ضحاك، فكل ذلك حق صدق، فإن قلت: الإنسان حي ناطق ميت ضحاك، فكل ذلك حق صدق. وأما التي (2) تصدق مفردة وتكذب مجموعة فكعبد مجتهد لنفسه لا لسيده، فقولك فيه: إنه عبد حق، وقولك فيه: مجتهد حق (3) ، فإن قلت: هذا عبد مجتهد كذبت حتى تبين وجه اجتهاده؛ وإنما هذا في الصفتين المحمولتين إذا كانتا مضافتين إلى شيئين مختلفين فألبست بإسقاط ما هي مضافة إليه وأوهمت أن كلتا الصفتين مضافة إلى شيء واحد. وأما التي تصدق مجموعة وتكذب مفترقة فكرجل قوي النفس ضعيف الجسم، فإنك إن قلت: فلان ضعيف كذبت، وإن قلت فلان قوي كذبت. حتى تجمع فتقول: فلان قوي النفس، ضعيف الجسم، وإنما هذا فيما لا تقال فيه الصفة على الإطلاق لكن بإضافة. وأما التي تكذب مجموعة ومفردة فكقولك: الإنسان صهال، الإنسان نهاق، الإنسان شحاج (4) فهذا كذب؛ فإن جمعته فقلت الإنسان صهال نهاق شحاج (5) ، فهو كذب أيضاً. فاضبط جميع هذا إن أردت تحقيق المعارف وتصحيح القضايا وبالله تعالى التوفيق. 9 - باب الكلام في المتلائمات (6) هذه لفظة عبر بها الأوائل عن قضايا مختلفة الألفاظ متفقة المعاني وإن كان ظاهر لفظ بعضها وحقيقة معناها النفي، وظاهر بعضها وحقيقة معناها الإيجاب، وهي مع ذلك متفقة المعاني اتفاقاً صحبحاً لا اختلاف بينها. فاعلم أنه قد ترد [45و] أخبار وقضايا بألفاظ شتى ومعناها واحد، فيظن الجاهل أنها مختلفة المعاني بسبب ما يرى من اختلاف

_ (1) س: فالذي. (2) س: الذي. (3) وقولك ... حق: مكرر في س. (4) س: سجاع. (5) س: شجاع. (6) س: الملائمات.

ألفاظها فيغلط كثيراً، وهذا ما ينبغي لطلاب الحقائق أن يضبطوه ويقفوا على مراتبه ولا يمروا عنها معرضين، مثال (1) ذلك من أحكام (2) الشريعة قولك: وطء الرجل كل ما عدا الزوجة المباحة له أو أمته المباحة له حرام، وقولك: ليس شيء مما عدا زوجة الرجل المباحة له أو أمته المباحة له ليس حراماً (3) معنيان متفقان متطابقان، والألفاظ (4) مختلفة، ظاهر إحدى القضيتين إباحة، وظاهر الأخرى تحريم. وكذلك إذا قلت: ليس (5) كل ما ليس لحم خنزير حلالاً، وقولك: بعض ما ليس لحم خنزير ليس حلالاً، فهذان لفظان مختلفان ومعنيان متفقان، وهكذا ينبغي أن تتأمل الألفاظ الواردات وتتأمل معانيها لئلا تتجاذب أنت وخصمك فنون الاختلاف والتشاجر وأنتما متفقان غير مختلفين. واعلم أن قولك إذا قلت ممكن أن يكون، وقلت غير ممتنع أن يكون، وقلت غير واجب أن يكون، وقلت غير واجب أن لا يكون، فكلها متلائمات أي متفقات المعاني (6) . واعلم أن قولك واجب ان لا يكون، ممتنع أن يكون، غير ممكن أن يكون متفقات المعاني. واعلم أن قولك غير واجب أن يكون، غير واجب أن لا يكون متفقان. واعلم أن قولك غير ممتنع أن يكون وقولك غير ممتنع أن لا يكون متفقان. واعلم أن قولك ممكن أن يكون وممكن أن لا يكون متفقان. واعلم أن هذه الستة كلها متفقة. واعلم أن قولك ممكن أن يكون ليس نفيه ممكن أن لا يكون، لكن نفيه أن تقول: لا ممكن أن يكون، ونقيض قولك واجب أن يكون قولك لا واجب أن يكون، وضده

_ (1) س: مثل. (2) س: أمثال. (3) س: له حلالاً. (4) م: بألفاظ. (5) ليس: سقطت من س. (6) هذه الفقرة مضطربة في س.

واجب أن لا يكون، ونقيض ممتنع أن يكون لا ممتنع أن يكون، وضده ممتنع أن لا يكون، وهذا هو الذي سميناه نحن فيما خلا نفياً عاماً ونفياً خاصاً. واعلم أن قولك كل مؤلف لا أزلي، وقولك ليس واحد من المؤلفات أزلياً متفقان، وقولك ليس كل مرضعة حراماً وقولك بعض المرضعات حلال متفقان، وقولك بعض المؤلفات غير مركب، وقولك ليس كل مؤلف مركباً متفقان. واعلم أن قولك ليس واحد من المؤلفات غير محدث وقولك كل مؤلف محدث متفقان. ومما يدخل [45ظ] في هذا النوع كل عدد أستثني منه عدد فقولك (1) مائة غير واحد ملائم لقولك تسعة وتسعون، وقولك مائة غير تسعة وتسعين ملائم لقولك واحد. وكذلك كل عدد أضفت إليه عدداً آخر فإنه ملائم للعدد المساوي لهما، كقولك ثلاثة وسبعة فذلك ملائم لقولك عشرة فاعلمه. والجامع لهذا الباب هو أنك إذا أثبت معنى بلفظ إيجاب لشيء ما ثم نفيت عن ذلك الشيء نفي الصفة التي أوجبت له، فقد أوجبت له تلك الصفة (2) . وكل كلام أعطي معنى كإعطاء كلام آخر له (3) فالكلامان مختلفان والمعنى واحد، فاحفظ هذا واضبطه. وأنت إذا سلبت شيئاً ما معنى ما، أي نفيته عنه بلفظ النفي، ثم أوجبت لذلك الشيء نفي ذلك المعنى الذي نفيته عنه في القضية الأخرى، فاللفظان مختلفان والمعنى واحد. مثال ذلك أن تقول: زيد صالح، فإذا سلبت الصلاح فقلت زيد غير صالح، فإذا نفيت النفي فقلت زيد ليس غير صالح فقد أوجبت له الصلاح (4) ، فاضبط هذا تسترح من شغب كثير وتخليط كبير ولا تعد هذه الرتبة إن شاء الله تعالى. واعلم أن الكلي من الأخبار التي تسمى قضايا ومقدمات يقتضي الجزئي منها، أي أن الجزئي بعض الكلي إذا كان كلاهما موجباً أو كلاهما نافياً، وهو معنى من معاني التتالي الذي ذكرنا قبل. ألا ترى أنك تقول: كل حساس حي، فهذه قضية

_ (1) س: كقولك. (2) فقد أوجبت له تلك الصفقة: سقط من م. (3) له: في م وحدها. (4) مثال ذلك ... الصلاح: سقط من م.

كلية، ثم يقول خصمك أو أنت: كل إنسان حي، فليست هذه الجزئية معارضة لتلك الكلية أصلاً ولا منافية لها بل هي بعضها وداخلة تحتها، ومثل هذا في الشريعة قول الله عز وجل: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (المائدة: 38) . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القطع في ربع دينار ". فهذه الجزئية بعض تلك الكلية وتفسير لجزء من أجزائها وليست دافعة لها ولا لشيء منها أصلاً، ولا مانعة من القطع في أقل من ربع دينار إلا بإدخال حرف النفي فينتفي حينئذ ما نفاه اللفظ الجزئي ويكون ذلك كقول القائل: الحساس ناطق ثم يقول بعد ذلك: لا ناطق إلا الإنسان (1) والملك والجني، فتكون هذه الجزئية مبينة لمراد القائل: الحساس ناطق أي أنه أراد بعض الحساسين (2) لا كلهم، وليس ذلك كذباً لأن الحساس يقع على الإنسان أي يوصف به كما يقع على كل حي. وهكذا (3) القول في الكليات من النوافي [46و] والجزئيات منها ولا فرق، وبالله تعالى التوفيق. فقد أتينا على كل ما بطالب الحقائق والإشراف على صحيح معاني الكلام إليه فاقة وضرورة من أحكام الأخبار وهي الأسماء المركبة، وبقيت أشياء تقع، إن شاء الله عز وجل، في الكتاب الذي يتلو هذا، وهو كتاب صناعة البرهان. ولم أترك (4) إلا أشخاص تقاسيم من موجبات وسوالب، من البسائط (5) والمتغيرات والمحصورة والمهملة ومن المخصوصة ومن الإثنينية والثلاثية والرباعية لا يحتاج إليها، وإنما هي تمرن وتمهر لمن تحقق بهذا العلم تحققاً يريد ضبط جميع وجوهه. وإنما هذه المسائل التي تركنا كالنوازل الموضوعة في الفقه كقول القائل: رجل مات وترك عشرين جدة متحاذيات وعشرين من بنات (6) البنين وبني البنين بعضهم أسفل من بعض في درج مختلفة، فمثل هذا لا يحتاج إليه لأنه لا يمر في الزمان ولكنه تمهر

_ (1) س: إنسان. (2) س: الحساس. (3) س: وهذا. (4) م: نترك. (5) س: الوسائط. (6) س: عمات.

وتفتيق للذهن، وكنحو المسائل الطوال التي أدخلها أبو العباس المبرد في صدر كتابه " المقتضب " (1) في النحو فإنها لا ترد على أحد أبداً لا في كتاب ولا في كلام، وكنحو كلام (2) كثير من وحشي اللغة كالعفنجج والعجالط والقذعمل (3) ، ولسنا نذم من طلب هذا كله بل نصوب رأيه، لكنا نقول: ينبغي لطالب كل علم أن يبدأ بأصوله التي هي جوامع له ومقدمات، ثم بما لا بد منه من تفسير تلك الجمل، فإذا تمهر في ذلك وأراد الإيغال والإغراق فليفعل، فإنه من تدرب بالوعر زاد ذلك في خفة تناوله السهل، فقد بلغنا عن بعض الأنجاد أنه كان إذا أراد حرباً أدمن لباس درعين قبل ذلك بمدة، فإذا حارب خلع إحداهما لتخف عليه الواحدة، والنفس هكذا، وبالله التوفيق وله الأمر من قبل ومن بعد (4) . تم كتاب باري أرمينياس والحمد لله على ذلك كثيراً كما هو أهله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم تسليماً كثيراً مؤبداً (5)

_ (1) كتاب المقتضب في النحو منه نسخة في كوبريللي (1507) في أربع مجلدات، صححها السيرافي، ومن رواة الكتاب ابن الراوندي الملحد، وقد أهمل الناس هذا الكتاب حتى قيل إن شؤم ابن الراوندي دخله (أفادني هذا كله العلامة هلموت ريتر، وقد ذكر هذا الكتاب في مقالة له بمجلة Oriens المجلد السادس ص 67. قلت: هذا ما ذكرته في تعليقات الطبعة الأولى، وقد ظهر المقتضب بعد ذلك في أربعة مجلدات بتحقيق الأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة (القاهرة) عن نسخة صورت عن نسخة كوبريللي، محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم: 1525 نحو. والمسائل المشكلة في أول المقتضب التي يشير إليها ابن حزم فقد أثارت انتباه النحويين ففسرها الرماني، وذلك من مثل: سرني والمشبعة طعامك شتم غلامك زيداً، ومثل: ظننت الذي الضارب أخاه زيداً عمراً ... الخ، وهي افتراضات تمحلية. (2) كلام: سقطت من م. (3) العفنجج: الضخم الأحمق؛ العجاليط: الخاثر؛ القذعمل: الضخم من الإبل. (4) وبالله ... بعد: ولله الأمر ... بعد في م. (5) تم كتاب ... مؤبداً: تم: ... والحمد لله رب العالمين في م.

3 - 4 - 5 - 6 بسم الله الرحمن الرحيم كتاب البرهان

3 - 4 - 5 - 6 بسم الله الرحمن الرحيم كتاب البرهان 1 -[نظرة عامة في القضايا وانعكاسها] قال أبو محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم رضي الله عنه (1) : هذا الجزء من ديواننا هذا جمعنا فيه ما في الكتاب الثالث من كتب أرسطاطاليس في المنطق وهو المسمى باليونانية " أنولوطيقيا " [46ظ] وما (2) في الكتاب الرابع من كتبه في المنطق وهو المسمى باليونانية " أفوذ قطيقا " (3) لتناسب (4) معنى الكتابين، إذ الغرض فيهما البيان عن صور (5) البرهان وشروطه على ما نفسر (6) بعد هذا إن شاء الله. وأضفنا إليه أيضاً ما ذكره في كتابه الخامس من كتبه في المنطق وهو المسمى " طوبيقا " (7) وهو الموضوع في الجدل (8) ، وزدنا في هذا الكتاب (9) أشياء من مراتب الجدال وشروطه كثيرة مما لا غنى بالمتناظرين الطالبين للحقائق عنها، إذ ما ذكر في هذا (10) الكتاب هو من شرط (11) قيام البرهان وتوابعه اللاحقة له، وأضفنا إليه أيضاً ما ذكره في كتابه السادس من كتبه في المنطق وهو المسمى باليونانية " سوفسطيقا " (12) وهوصفة أهل الشغب المنكبين عن الحقائق إلى نصر الجهل والشعوذة، إذ لا غنى بطالب الحقائق عن معرفة أهل هذه الصفة والتأهب لهم. فلما كان كل ما ذكرنا متشبثاً بالبرهان جمعناه إليه وبلغنا الغاية (13) في التقصي والبسط والشرح والإيجاز

_ (1) علي بن أحمد ... عنه: لم يرد في م. (2) ما: سقطت من س. (3) أفوذ قطيقا يعرف باسم أنولوطيقا الثاني أيضاً؛ وفي م: أقوذ قطيقا. (4) س: ليناسب. (5) م: صورة. (6) س: على نفس. (7) م: طونيقي. (8) م: الجدال. (9) الكتاب: في م وحدها. (10) هذا: سقطت من م. (11) م: شروط. (12) س: سوفسطيا. (13) م: من.

كما وعدنا، ولله الحمد، فنقول وبالله التوفيق (1) وبالخالق الأول الواحد (2) نستعين: قد مضى لنا في الكتب المتقدمة من هذا الديوان أمور يجب ضبطها وذكرها وحضورها في الفهم والحفظ والإيراد لها عند الحاجة إليها من التبيين (3) لك من غيرك والتبيين منك لغيرك، بحول الواحد الأول وقوته الموهوبة منه لنا عز وجل، ونحن الآن آخذون في ثمرة هذا الديوان وغرضه الذي إياه قصدنا بكل ما تقدم لنا في الأجزاء المتقدمة لهذا الجزء، وغرضنا في هذا الجزء (4) بيان إقامة البرهان وكيفية تصحيح الاستدلال في جمل الاختلاف الواقع بين المختلفين في أي شيء اختلفوا فيه، فنقول، وبالواحد الأول تعالى نتأيد: إننا قد قلنا إن القضية لا تعطيك أكثر من نفسها، فإن اتفق الخصمان عليها وصححاها والتزما حكمها واختلفا في فرع من فروع ذلك المعنى وجب عليهما أن يأتيا بقضية أخرى يتفقان على صحتها أيضاً، فإن كانت القضيتان المذكورتان صحيحتين في طبعهما وفي تركيبهما (5) فالانقياد لهما حينئذ لازم لكل واحد (6) ، واعلم أن القضيتين المذكورتين إذا اجتمعتا سمتهما الأوائل " القرينة ". واعلم أن باجتماعهما كما ذكرنا تحدث أبداً عنهما قضية ثالثة صادقة أبداً لازمة ضرورة لا محيد عنها، وتسمى هذه القضية الحادثة عن اجتماع [47و] القضيتين الأولى والثانية (7) : " نتيجة " لأنها أنتجت عن تينك القضيتين (8) والأوائل يسمون القضيتين والنتيجة

_ (1) وبالله التوفيق: في م وحدها. (2) الواحد: في م وحدها. (3) م: التبين. (4) في هذا الجزء: سقطت من س. (5) س: وتركيبها. (6) م: أحد. (7) الأولى والثانية: في م وحدها. (8) لأنها.. القضيتين: سقط من س.

معاً في اللغة اليونانية " السلجسموس " (1) وتسمى الثلاث (2) كلها في اللغة العربية: " الجامعة "، مثال ذلك أن تقول: كل إنسان حي فهذه قضية تسمى على انفرادها: " مقدمة " ثم تقول: وكل حي جوهر، فهذه أيضاً قضية تسمى على انفرادها " مقدمة " فإذا جمعتهما معاً فاسمهما قرينة لاقترانهما وذلك إذا قلت: كل إنسان حي، وكل حي جوهر فيحدث من هذا الاجتماع قضية ثالثة وهي ان كل إنسان جوهر فهذه قضية تسمى على انفرادها نتيجة، فإذا جمعتها ثلاثتها (3) سميت كلها جامعة، والجامعة باليونانية السلجسموس. وقد قدمنا في الجزء الذي قبل هذا ذكر القضايا وأنها بسائط ومتغيرات وقلنا إن المتغيرات في الموضوع هي غير المحصلات وهي التي تقع [فيها] (4) حروف النفي قبل الشيء الموصوف وهو المخبر عنه، وهو الذي تسميه الأوائل الموضوع، فاعلم أن هذه التي تسمى متغيرات لا تنتج، أي أنه لا يوثق بأنها تنتج على كل حال إنتاجاً صحيحاً أبداً لا يخون البتة، وإن كانت قد تنتج في بعض الأحوال صدقاً فقد تنتج أيضاً كذباً. وما كان بهذه الصفة مما قد (5) يصدق مرة ويكذب أخرى، فلا ينبغي أن يوثق بمقدماته ولا بنتائجها الحادثة عنها، ولا يجب أن يلتزم في أخذ البرهان، وإنما ينبغي أن يوثق بما قد تيقن أنه لا يخون أبداً. ثم قلنا إن البسائط وهي التي حققت معنى (6) المخبر عنه ثم أوجبت له صفة أو نفت عنه صفة، منها محصورات ومهملات؛ وبينا أن المحصور هو ما وقع قبله لفظ يبين أن المراد به العموم وهو المسمى كلياً أو لفظ (7) يبين أن المراد به الخصوص، وهو المسمى جزئياً؛ وذلك مثل قولك: كل الناس ناطق، بعض الناس ناطق أو كاتب إن شئت، ليس أحد من

_ (1) م س: السجلسموس. (2) س: الثلاثة ووقعت لفظة كلها بعد " العربية " في م. (3) س: لثلاثتها. (4) فيها: سقطت من م س. (5) قد: من وحدها. (6) س: مع. (7) يبين ... لفظ: سقط من م.

الناس نهاقاً، ليس بعض الناس نهاقاً أو كاتباً إن شئت، وما أشبه ذلك. وذكر الأوائل أن المهملات لا تنتج كما ذكرنا في المتغيرات سواءً سواءً، وهذا في اللغة العربية قول (1) لا يصح، وإنما حكى القوم عن لغتهم، لكنا نقول إن المهملة ما لم يبين الناطق بها أنه يريد بها بعض ما يعطي اسمها أو لم يمنع من العموم بها مانع ضرورة فإنها كالمحصورة الكلية ولا فرق. وسيأتي بيان هذا فيما يستأنف إن شاء الله عز وجل؛ فعلى هذا الحكم يلزم أن المهمل ينتج كإنتاج المحصور الكلي. ثم نرجع فنقول إن الجزئيات من [47ظ] المحصورات والمهمل الذي يوقن أنه جزئي لا ينتج، بمعنى أنه لا ينتج إنتاجاً صحيحاً ضرورياً أبداً، وإنما قلنا (2) هذا إذا كانت المقدمتان معاً جزئيتين، نافيتين كانتا أو موجبتين. وأما إذا كانت إحداهما كلية والأخرى جزئية فذلك ينتج على ما نبين بعد هذا، إن شاء الله تعالى (3) . واعلم أن القضية المخصوصة وهي التي تخص شخصاً واحداً بعينه فحكمها في كل ما قلنا حكم الجزئية ولا فرق، وذلك (4) نحو قولك: زيد منطلق وما أشبه ذلك (5) . ثم قلنا إن المحصور ينقسم قسمين: موجب وناف، واعلم أن القضايا النافيات أيضاً لا تنتج، كليتين كانتا أو جزئيتين، أي أنها لا تنتج إنتاجاً موثوقاً به في كل حال، وإنما ذلك إذا كانتا معاً نافيتين، وأما إذا كانت احداهما نافية والأخرى موجبة فذلك ينتج، على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى. فصح الآن أن المقدمات التي ينبغي أن يوثق بها هي المحصورات والمهمل الذي في معنى المحصور، وهي كل قرينة كانت فيها (6) مقدمة كلية أو مقدمة موجبة،

_ (1) قول: سقطت من س. (2) قلنا: سقطت من م. (3) س: فحكمه. (4) س: في ذلك. (5) س: وما أشبهه. (6) س: قبلها.

إما أن تكون إحدى المقدمتين قد جمعت الأمرين معاً: العموم والإيجاب، وإما أن تكون المقدمتان اقتسمتا الأمرين فكانت الواحدة كلية والثانية موجبة، وإما أن تكون كل واحدة منهما كلية موجبة (1) . واعلم أنا قدمنا أن أقل (2) القضايا قضية من كلمتين موضوع ومحمول، بمعنى مخبر عنه وخبر، فإذا أردت أن تجمع قضيتين يقوم منهما برهان، فلا بد لك (3) من أن يكون في كلتا القضيتين لفظة موجودة في كل واحد منهما، أي تتكرر تلك اللفظة في كل واحدة من المقدمتين. ولا بد من ان يكون في كل واحدة منهما لفظة تنفرد بها ولا تتكرر في الأخرى، إذ لو اتفقنا في المخبر عنه والخبر لكانت القضيتان قضية واحدة ضرورة، كقولك: كل إنسان حي، وكل حي جوهر، فهاتان قضيتان قد تكرر ذكر الحي في كل واحدة منهما، وهذه اللفظة المتكررة كما ذكرنا تسميها الأوائل (الحد المشترك) من أجل اشتراك القضيتين فيه، وقد انفردت كل واحدة منهما بلفظة فانفردت الأولى بالإنسان لأنه ذكر فيها ولم يذكر في الثانية، ولو ذكر لكانت الثانية هب الأولى نفسها، وانفردت الثانية بالجوهر ولم يذكر في الأولى ولو ذكر لكانتا (4) واحدة، فافهم هذا واضبطه، إن شاء الله عز وجل. واعلم أن القضايا البسيطة المحصورة [48و] تنقسم قسمين: قسماً ينعكس وقسماً لا ينعكس، والانعكاس هو أن تجعل الخبر مخبراً عنه موصوفاً، وتجعل المخبر عنه خبراً موصوفاً به، من غير أن يتغير المعنى في ذلك أصلاً، بل إن كانت القضية موجبة قبل العكس فهي بعد العكس موجبة، وإن كانت نافية قبل العكس فهي بعد العكس نافية، وإن كانت صادقة قبل العكس فهي بعد العكس صادقة، وإن كانت كاذبة قبل العكس فهي بعد العكس كاذبة، إلا أنه في بعض المواضع تكون القضية كلية قبل العكس، وجزئية بعد العكس لا يحيلها (5) العكس بغير هذه البتة، وإنما نعني بهذا العكس ما (6) لا يستحيل أبداً فيما ذكرنا قبل.

_ (1) وأما أن تكون كل ... موجبة: في م وحدها. (2) أقل: سقطت من م. (3) لك: سقطت من س. (4) س: لكانت. (5) يحيلها: في م وأصل س، وبهامش س لا تختلف في. (6) م: الذي.

وأما التي قد تنعكس كما ذكرنا في بعض المواضع وربما أيضاً تتبدل إذا عكست، إما من صدق إلى كذب، وإما من كذب إلى صدق، وإما من نفي إلى إيجاب، وإما من إيجاب إلى نفي، فهذه هي القسم الذي قلنا فيه إنه لا ينعكس، وليس هذا القسم مما يتعنى به في إقامة البرهان لأنه قد يخون وليس بمستمر الصدق أبداً. والعكس الذي ذكرنا إنما هو تبدل مواضع الألفاظ في القضية فقط. وقد قدمنا وجوه أقسام الصفات في الموصوفين قبل وأنها ستة (1) : فوصف الشيء بما هو واجب له ينقسم قسمين: إما أعم منه كالحياة للإنسان فإنها تعمه وتعم معه أنواعاً (2) كثيرة سواه، وإما مساو (3) كالضحك لإنسان، فإنه لكل إنسان وليس لغير الناس أصلاً، ولا يجوز أن يكون أخص البتة. ووصف الشيء بما هو ممكن له ينقسم قسمين: إما أعم كالسواد فإنه في بعض الناس وفي أشياء من غير الناس، وإما أخص كالطب فإنه في بعض الناس دون بعض وليس لغير الناس ولا يجوز أن يكون مساوياً أصلاً، لأنه لو كان مساوياً لكان واجباً، والواجب غير الممكن. ووصف الشيء بامتناعه بما هو ممتنع فيه فيكون (4) أعم كوصف الإنسان بأنه ليس حجراً، فإن هذا الوصف يعمه ويعم كل حيوان، وقد يمكن أن يوجد مساوياً كنفي الجمادية عن الحيوان. ثم نرجع إلى بيان العكس فنقول وبالخالق الواحد نتأيد: إن النافية الكلية تنعكس نافية كلية فنقول: لا واحد من الناس حجر، فإذا عكست (5) قلت: لا (6) واحد من الحجارة إنسان. واعلم أن كل (7) ما انعكس كلياً فإنه ينعكس جزئياً، إذ كل ما أوجبته للكل فهو موجب لكل جزء من أجزائه التي تسمى باسمه، وكل ما نفيته عن الكل فهو منفي عن كل جزء من أجزائه التي [48ظ] تسمى باسمه، نريد بالأجزاء

_ (1) م: خمسة. (2) س: أنواع. (3) م: مساوياً. (4) م: يكون. (5) م: عكستها. (6) م: ولا. (7) كل: سقطت من م.

هاهنا أشخاص النوع التي كل شخص منها يسمى باسم النوع فإن كل آدمي يسمى في ذاته إنساناً، والنوع أيضاً كله (1) يسمى إنساناً، ولم نرد أجزاء الجسم التي لا يقع على الجزء منها اسم الكل، كيد الإنسان ورجله؛ ألا ترى أنك لو قلت أيضاً: ولا بعض الحجارة إنسان، أو قلت: لا بعض الناس حجر لصدقت، فهذا الذي ذكرنا عكس صحيح صادق أبداً. والموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية فتقول: كل إنسان حي، فإذا عكست قلت: وبعض الأحياء إنسان، وهذا عكس (2) صادق أبداً. واعلم أن ما كان من هذا الباب والذي بعده مما قلنا فيه إنه ينعكس جزئياً فإنه لا ينعكس (3) كلياً أصلاً لأنه ليس كل ما وجب للجزء وجب للكل. ألا ترى أنك لو قلت: وكل حي إنسان لكذبت لأن الملك حي وليس إنساناً. والفيل حي وليس إنساناً. ولا تغتر بما تجد من هذا الباب ينعكس (4) كلياً صادقاً نحو قولك كل حي حساس وكل حساس حي، ولو قلت أيضاً وبعض الحساس حي لصدقت، وهذا إنما يصدق في المساوي فقط. فإن هذا العكس إن صدق في مكان كذب في آخر كما قدمنا. وإنما يكذب ذلك إذا كان الوصف أعم من الموصوف أو أخص منه كما قدمنا؛ فأما الأعم فنحو قولك: كل إنسان حي وأما الأخص فكقولنا: كل طبيب إنسان، فإذا عكست وقلت: وبعض الناس أطباء صدقت ولو قلت: وكل الناس أطباء كذبت، فلهذا قصدنا إلى عكسها جزئية لأنها تصدق في كل ذلك أبداً على كل حال من عام أو خاص أو مساو (5) فتحفظ من هذا الباب ولا تغلط فيه، وأنت إذا سلكت الطريق التي نهجنا لك أمنت الغلط البتة ولم يكن (6) إلى كلامك سبيل. والموجبة الجزئية تنعكس موجبة جزئية فتقول: إن كان بعض الناس نحويين

_ (1) م: كله أيضاً. (2) عكس: سقطت من س. (3) م: يعكس. (4) ينعكس: سقطت من م. (5) س م: مساوي. (6) م: يكن له.

فبعض النحويين ناس، ولا تنعكس كلية لأنك وإن كنت تصدق في بعض المواضع فإنك كنت تكذب في مواضع أخر أيضاً. وإنها تصدق في الحمل الأخص والمساوي وتكذب في الحمل الأعم، وأنت إذا عكستها جزئية صدقت أبداً على كل حال. ألا ترى أنك تقول: إذا كان بعض النحويين ناساً فكل الناس نحويون كذبت. واعلم أن هذه القضايا كلها التي ذكرنا أنها تنعكس أي أنها تصدق إذا عكست أبداً فإنها تصدق في إيجابك الواجب، وفي اخبارك عن الممكن بما هو حق من صفاته وفي نفيك الممتنع. [49و] . (1) واعلم أن النافية الجزئية لا تنعكس أي أنها ليس لها رتبة تصدق فيها أبداً لأنها وإن صدقت في نفي الممتنع إذا قلت: ليس بعض الناس حجراً فعكست فقلت: ولا بعض الحجارة إنسان فصدقت، فإنك إن نفيت الممكن حق نفيه فقلت: ليس كل إنسان طبيباً فإنك صادق، فإن عكست فقلت: ولا كل طبيب إنسان أو قلت ولا بعض الأطباء ناس كنت كاذباً، فلهذا لم نشتغل بعكس النوافي في الجزئيات لأنها في بعض المواضع تكذب في العكس. فأفهم ذلك (2) كله، فبكل طالب علم حقيقة إليه أعظم (3) حاجة. ونمثل ذلك بمثال شرعي فنقول: إنك تقول في النافية الكلية: إذا صح أنه ليس شيء من المسكرات حلالاً فليس شيء من (4) الحلال مسكر أو لو عكستها جزئية لصدقت أيضاً، ولكن الكلي أتم وأعم للمطلوبات، فاكتفينا به إذا وجدناه واستغنينا به عن أن نذكر ما ينطوي فيه من جزئياته، لأن (5) الإخبار عن الكل إخبار عن كل جزء من أجزائه. ونقول في الموجبة الكلية إذا كان كل والد واجب البر فبعض الواجب برهم الوالد، ولو عكستها كلية لكذبت لأنه يجب بر الأم والخليفة والعالم والفاضل والجار وليس واحد من هؤلاء والداً.

_ (1) م: وإنما. (2) م: هذا. (3) أعظم: لم ترد في س. (4) المسكرات ... من: سقط من م. (5) س: إلا أن.

وتقول في عكس الموجبة الجزئية: إذا كان بعض الكفار مباح الدم فبعض المباح دماؤهم كفار (1) ولو عكستها كلية فقلت: وكل مباح دمه كافر لكذبت، لأن الزاني المحصن مباح دمه وليس كافراً، فافهم هذا كله وثق به فإنه لا يخونك أبداً. وبرهان صحة ما ذكرنا أولاً إذا قلنا لا واحد من الناس حجر وأنه ينعكس كلياً فنقول: ولا واحد من الحجارة إنسان أنه إن خالفنا في صحة هذا العكس مخالف قلنا إن كان عكسنا هذا ليس حقاً فنقيضه حق على ما قدمنا من اقتسام قضيتي النفي والإيجاب للصدق والكذب. ونقيض قولنا لا واحد من الحجارة إنسان، بعض الحجارة إنسان، فنضم قولنا: بعض الحجارة إنسان ظغلى مقدمتنا التي صححنا فنقول: لا واحد من الناس حجر، وبعض الحجارة إنسان، وإذا كان بعض الحجارة إنساناً فبعض الناس حجارة، وقد قدمنا أنه ليس واحد من الناس حجراً، وهذا تناقض ومحال. وهذا (2) الذي ذكرناه فإنما هو (3) في عنصر الوجوب وهو لزوم الصفة للموصوف. وأما في عنصر الإمكان فلا فرق بين [49ظ] قضاياه في الموجبات الجزئيات وبين ما ذكرنا من قضايا عنصر الوجوب، فنقول في الحمل الأعم: إن كان بعض الناس أسود فبعض السودان ناس، ونقول في الحمل الأخص: إن كان بعض الناس طبيباً فبعض الأطباء ناس، وليس في الإمكان حمل مساو لأن المساوي لازم لجميع النوع بالفعل. وإما قضايا الإمكان الكليات فإنها في الموجبات كواذب، نقول: ممكن أن يكون كل إنسان أسود أو طبيباً، فهذا كذب. وعكس الحمل الأعم كاذب أيضاً وهو: ممكن أن يكون كل أسود إنساناً. وأما (4) عكس الحمل الأخص فصادق، نقول: ممكن أن يكون كل طبيب إنساناً. وأما قضايا الإمكان النوافي فالكلية كاذبة أبداً هي (5) وعكسها، نقول: إن كان ممكن أن لا يكون واحد من الناس أسود أو طبيباً فممكن أن لا يكون واحد من

_ (1) م: كفار. (2) س: هذا. (3) فإنما هو: سقط من س. (4) وعكس الحمل الأعم ... وأما: سقط من س. (5) هي: سقطت من س.

السودان أو الأطباء إنساناً. وأما النافية الجزئية في عنصر الإمكان فإنها تنعكس نافية جزئية. نقول: ممكن أن لا يكون بعض الناس أسود، وعكسها: ممكن أن لا يكون بعض السودان إنساناً وهذا في الحمل الأعم، وتكذب في الحمل الأخص لأنك إذا قلت ممكن أن لا يكون بعض الناس طبيباً فتصدق، فإذا عكست وقلت: ممكن أن لا يكون بعض الأطباء إنساناً، كذبت. وأما في عنصر الامتناع فإن الموجبة الجزئية تنعكس موجبة جزئية. نقول: ممتنع أن (1) يكون بعض الناس حجراً، وممتنع أن لا يكون بعض الحجارة إنساناً، وتنعكس أيضاً موجبة كلية صادقة فتقول: ممتنع أن يكون كل واحد من الحجارة إنساناً. وأما الموجبة الكلية فتنعكس أيضاً كلية وجزئية صادقتين أبداً، نقول: ممتنع أن يكون كل واحد من الناس حجراً، وممتنع أن يكون كل واحد من الحجارة إنساناً، وممتنع أن يكون بعض الحجارة إنساناً. فأما (2) النافية الكلية في عنصر الامتناع فتنعكس جزئية، فتقول: إن كان ممتنع أن لا يكون كل واحد من الناس حياً، فممتنع أن لا يكون بعض الأحياء إنساناً، وهكذا تصدق في منع نفي الضحك المساوي للنوع. وفي الحمل الأخص كالطب وما أشبهه نقول: إن كان ممتنع أن لا يكون كل (3) واحد من الأطباء إنساناً فممتنع أن لا يكون بعض الناس طبيباً. وأما النافية الجزئية في عنصر الامتناع فإنها تنعكس نافية جزئية كقولك: ممتنع ألا يكون بعض الناس حياً (4) وممتنع أن لا يكون بعض الأحياء ناساً وهذا (5) ينعكس في الحمل المساوي والأخص أبداً.

_ (1) س: أن لا. (2) م: وأما. (3) كل: سقطت من س. (4) ممتنع ... حياً: سقط من س. (5) م: وهكذا.

ومنفعتنا بمعرفة عكس القضايا من (1) وجهين. أحدهما ما يستأنف من رد بعض البراهين التي فيها صعوبة إلى البين (2) اللائح منها، وهو الذي يأتي إن شاء الله [50و] عز وجل في رد أنحاء الشكل الثاني والثالث إلى الشكل الأول مفسراً في موضعه. والوجه الثاني في تصحيح المقدمات التي يريد طلاب (3) الحقائق تقديمها ليجعلوها أصولاً لينتجوا منها ما يشهد للصحيح من الأقوال. وإذ قد قدمنا أن القضية تكون من موضوع ومحمول أي من مخبر عنه وخبر وأن القرينة تكون من مقدمتين في كل واحدة منهما (4) لفظة تشترك فيها المقدمتان معاً، فاعلم أن كل لفظة من ألفاظ المقدمتين فإن الأوائل يسمونها " حداً " ويسمون اللفظة المشتركة: " الحد المشترك ". فاعلم الآن (5) أن أشكال البرهان لا تكون إلا ثلاثة، نعني بأشكاله صور القرائن التي يقوم منها البرهان، لأنه لا بد من أن يكون الحد المشترك محمولاً في المقدمة الواحدة وموضوعاً في الثانية، أو يكون محمولاً في كل واحدة منهما أو يكون موضوعاً في كل واحدة منهما (6) ؛ ولا سبيل في رتبة العقل إلى قسمة (7) رابعة بوجه من الوجوه البتة. واعلم أيضاً أنه لا فرق بين قولك: الحياة في كل إنسان وبين قولك: كل إنسان حي، تريد في المعنى، وهذا تسميه الأوائل " تقديم الحمل " أي أن (8) تجعل الصفة مخبراً عنها والموصوف مردوداً إلى (9) الصفة أي كأنه خبر عنها فلا تبال باختلاف هذه العبارات. واعلم أن الأوائل يسمون المقدمة التي فيها اللفظ الأعم " مقدمة كبرى " مثل

_ (1) م: في. (2) س: البيان. (3) زاد في س: بطلان. (4) س: منها. (5) هذه قراءة م؛ س: واعلم (وسقطت: الآن) . (6) في كل ... منهما: فيهما في س (والعبارة بهامش س) . (7) م: قسمة العقل ... رتبة. (8) س: أنه أيضاً. (9) م: على.

قولك: كل إنسان حي، وكل حي جوهر فالتي فيها ذكر الجوهر هي التي يسمونها كبرى لأن اللفظة التي فيها (1) أعم من اللفظة التي في المقدمة الأخرى، وذلك أن الجوهر أعم من الحي ومن الإنسان، والأخرى يسمونها الصغرى. واعلم أنه لا تنتج نافيتان ولا جزئيتان ولا مخصوصتان وهي التي يخبر بها (2) عن شخص واحد بعينه. واعلم أن الحد المشترك لا يذكر في النتيجة أصلاً، ولو ذكر فيها لكانت النتيجة إحدى المقدمتين، وإنما يذكر في النتيجة اللفظة التي تنفرد بها المقدمة الواحدة، واللفظة الأخرى التي تنفرد بها أيضاً (3) المقدمة الثانية. واعلم أنه لا يخرج في النتيجة إلا أقل ما في المقدمتين وأبعده من اليقين والقطع، لأن النتيجة من طبعها تحري الصدق فيها، فلذلك لا يخرج فيها إلا الأقل الذي لا شك فيه. فإن كانت إحدى المقدمتين مهملة والأخرى ذات سور، فالنتيجة مهملة، وإن كانت إحدى المقدمتين جزئية خرجت النتيجة جزئية، وإن كانت إحدى المقدمتين مخصوصة خرجت النتيجة مخصوصة، وإن كانت إحدى المقدمتين نافية خرجت النتيجة نافية، وإن [50ظ] كانت إحدى المقدمتين جزئية أو مخصوصة والأخرى نافية خرجت النتيجة جزئية نافية أو مخصوصة نافية. نقول: لا واحد من الناس حجر وزيد من الناس فزيد لا حجر، وإنما هذه الرتبة فيما يصدق أبداً ويوثق (4) بإنتاجه. وكذلك إن كانت إحدى المقدمتين ضرورية والثانية ممكنة فإنه لا تخرج في النتيجة إلا الممكنة، وأما إذا استوت المقدمتان، فالنتيجة مثلهما، فإن كانتا موجبتين فالنتيجة موجبة، وإن كانتا ضروريتين فالنتيجة ضرورية، وإن كانتا ممكنتين فالنتيجة ممكنة، وإن كانتا مهملتين فالنتيجة مهملة، إلا أنهما إن كانتا كليتين فالنتيجة كلية وربما كانت جزئية ولا تبال عن هذا، فالجزئي منطو في الكلي وليس الكلي منطوياً في الجزئي، وتذكر (5) ما قلنا لك إن أشكال البرهان ثلاثة: فللشكل الأول أربعة أنحاء، وللشكل

_ (1) هي التي ... أعم: سقط من س. (2) م: فيها. (3) أيضاً: سقطت من س. (4) س: وموثوق. (5) س: وتذكر على.

الثاني أربعة أنحاء (1) ، وللشكل الثالث ستة أنحاء، وإنما نعني بذلك الأنحاء الصادقة في الإنتاج أبداً على كل حال، فالشكل للبرهان كالجنس، والنحو له كالنوع، ثم المقدمات المأخوذة كالأشخاص، وهي غير محصاة عندنا بعدد لأنها تتصرف في كل علم وفي كل مسألة. واعلم أنه إنما سمي الشكل الأول أولاً لأن الشكلين الآخرين يرجعان عند الحقيقة إليه على ما نبين بعد هذا إن شاء الله عز وجل. واعلم أنه قد تقدم لك مقدمتان نافيتان فينتجان لك إنتاجاً صادقاً صحيحاً (2) فلا تثق بذلك لأنها طريق خوانة غير موثوق بصدقها أبداً، بل قد تقدمهما صحيحتين فتنتجان لك نتيجة كاذبة؛ فالخداع من هذا الباب هو نحو ما أقول لك: ليس كل إنسان حجراً، ولا كل حجر حماراً، النتيجة: فليس كل إنسان حماراً، وهذا حق. والفاضح لكل ما ذكرنا هو نحو ما أقول لك: تقول ليس كل إنسان أسود ولا كل أسود حي فهاتان صادقتان، النتيجة فليس كل إنسان حياً (3) ، وكذلك أيضاً لو قلت: فليس بعض الناس حياً فكلتاهما كذب، فإياك والاغترار بمقدمتين نافيتين أصلاً (4) ؛ وإنما (5) صدقت القرينة الأولى من قبل حسن نظم المقدمتين لأنك نظمتها نظماً جعلت الذي (6) نفيت عن الحجر مما ينتفي (7) عن الإنسان جملة. وأنا أريك الآن زيادة بيان في صدق هذا الحكم، فأعمل لك مقدمتين إحداهما كذب بحت فتنتج لك إنتاجاً حقاً وهو أن تقول: كل إنسان حجر وكل حجر جوهر، النتيجة فكل إنسان جوهر. وتقول: ليس كل إنسان كلباً وليس [51و] كل كلب فرساً، النتيجة ليس كل إنسان فرساً (8) وذلك حق، فالأولى مقدمة

_ (1) س: وللثاني (سقطت بقية العبارة) . (2) صحيحاً: سقطت من م. (3) س: حي. (4) فكلتاهما كذب ... أصلاً: سقط من م. (5) وإنما: سقطت من س. (6) س: التي. (7) س: ينفى. (8) النتيجة ... فرساً: سقطت من م.

كذب أنتجت حقاً لحسن نظمها، وهو أنك وصفت الحجر بصفة تعمه وتعم الإنسان، والأخرى في النفي كذلك، نعني في حسن النظم فقط. فاعلم الآن أنه لا بد من صدق كل واحدة من المقدمتين، ولا بد مع الصدق فيهما من إحسان رتبتهما على الطريق (1) التي وصفت لك، وإلا تحيرت وتخبلت عليك الأمور، واختلط الحق في ذهنك بالباطل. وكذلك في المقدمتين الجزئيتين، وقد قدمنا أن حكم المخصوص حكم الجزئي ولا فرق فنقول: زيد ناطق وبعض الناطق (2) ميت فزيد ميت، هذه نتيجة حق، ولكن لا تثق بمقدمتين جزئيتين البتة ولا مخصوصتين ولا مخصوصة وجزئية. واعلم أن هذه إنما صدقت من قبل صدق الخبر عن طبائع المخبر عنهما وعموم الصفة للمخبر عنهما، وأنا أريك خيانة هذه الطريق، وذلك أن تقول: زيد أبيض، وبعض البيض حجر، فهاتان صادقتان، النتيجة: فزيد حجر، وهذا كذب. وإن شئت قلت: زيد ناطق، وبعض الناطقين كاتب، هاتان مقدمتان حق، النتيجة: فزيد كاتب؛ هذه النتيجة [يمكن] أن تكون حقاً وممكن (3) أن تكون كذباً. فتدبر مثل هذا ولا تنسه تفق من شغب عظيم، وتعلم أن الجزئيتين والمخصوصتين [والمخصوصة] والجزئية لا تنتج إنتاجاً صادقاً مطرداً لا يخون (4) . وها نحن بحول الله (5) خالقنا الواحد تعالى وعونه لنا شارعون في تشخيص الأشكال الثلاثة المذكورة آنفاً من مثال طبيعي ومثال (6) شريعي ليكون أسهل للطالب وأجلى للشك. ولقد رأيت طوائف (7) من الخاسرين شاهدتهم أيام عنفوان طلبنا وقبل تمكن قوانا في المعارف وأوان (8) مداخلتنا صنوفاً من ذوي الآراء المختلفة كانوا

_ (1) م: الطرائق. (2) م: الناطقين. (3) س: لممكن. (4) وتعلم أن ... يخون: سقط من س. (5) لم ترد اللفظة في م. (6) م: ومن مثال. (7) م: وأجلى لشك طوائف ... الخ. (8) س: وأول.

يقطعون بظنونهم الفاسدة من غير يقين أنتجه بحث موثوق به على أن علم (1) الفلسفة وحدود المنطق منافية للشريعة، فعمدة غرضنا وعلمنا (2) إنارة هذه الظلمة بقوة خالقنا الواحد عز وجل لنا (3) فلا قوة لنا إلا به وحده لا شريك له. وأعلم أن هذا الكلام الذي نتأهب لإيراده دأباً وننبهك على الإصاخة إليه هو الغرض المقصود من هذا الديوان وهو الذي به نقيس جميع ما اختلف فيه من أي علم كان، فتذوقه (4) ذوقاً لا يخونك أبداً، وتدبره (5) نعماً وتحفظه جداً فهو الذي وعرته الأوائل وعبرت [51ظ] عنه بحروف الهجاء ضنانة به، واحتسبنا (6) الأجر في إبدائه وتسهيله وتقريبه على كل من نظر فيه للأسباب التي ذكرنا في أول ديواننا هذا، ولم نقنع إلا بأن جعلنا جميع الأنحاء من لفظ واحد في الإيجاب ولفظ واحد في النفي، ليلوح رجوع بعضها إلى بعض ومناسبة بعضها بعضاً ووجوه (7) العمل في أخذ البرهان بها، فقربنا من ذلك بعيداً وبينا مشكلاً وأوضحنا عويصاً وسهلنا وعراً وذللنا صعباً ما نعلم أحداً سمح بذلك ولا أتعب (8) ذهنه فيه قبلنا، ولله الحمد أولاً وآخراً. وبوقوفك على هذا الفصل تدفع (9) عنك غمة الجهل والنفار الذي يولده الهلع من سوء الظن بهذا العلم وشدة الهم بمخرقة كثير ممن يدعيه ممن ليس من أهله، وفقنا الله وإياك وسائر أهل نوعنا عامة وأهل ملتنا من المؤمنين (10) خاصة لما يرضيه، آمين. فاعلم (11) أن الشكل الأول كبراه أبداً كلية (12) إما موجبة وإما نافية، وصغراه

_ (1) علم: سقطت من س. (2) م: وعملنا. (3) لنا: زيادة من م؛ فلا: لا في س. (4) م س: وتذوقه. (5) م س: فتدبره. (6) م: فاحتسبنا. (7) م: ووجه. (8) م: وأتعب. (9) م: ترتفع. (10) من المؤمنين: سقطت من س. (11) م: واعلم. (12) كلية: سقطت من م.

أبداً موجبة إما جزئية وإما كلية. واعلم أيضاً أن الشكل الثاني والثالث راجعان إلى الشكل الأول أبداً، إما إلى قرينة من قرائنه، وإما إلى (1) نتيجة من نتائجه، إما في اللفظ، وإما في الرتبة، على ما نبين في كل نحو منهما إن شاء الله عز وجل. واعلم أن الصغرى من المقدمتين مقدمة أبداً لتخرج اللفظة التي انفردت بها موضوعة في النتيجة أي مخبراً عنها، والكبرى مؤخرة أبداً لتخرج اللفظة التي انفردت بها محمولة في النتيجة أي خبراً. واعلم أنه إن وقعت صفة تخص بعض النوع (2) في زمان دون زمان في إحدى المقدمتين وجب ضرورة أن تكون الأخرى كلية، وقد ذكرنا قبل أن بعض الأوائل وصفوا أن المقدمة الكبرى تقع فيها لفظة أعم من اللفظتين الأخريين المشتركة والتي انفردت بها المقدمة الأخرى، وهذا أمر غير صحيح على الإطلاق بل قد أجاز من عليه المعتمد في هذا العلم، وهو أرسطا طاليس، مرتب هذه الصناعة، المساواة في المقدمات وهو الصحيح. وقد وجدنا خمسة أنحاء منها الأربعة متساوية المقدمتين وهو النحو الثاني من الشكل الأول، والنحو الأول والثاني من الشكل الثاني، والنحو الثاني من الشكل الثالث، والنحو الخامس من الشكل الثالث وصغراه كلية وكبراه جزئية، فاللفظة الأعم في ذلك النحو خاصة في المقدمة الصغرى [52و] لا في الكبرى. وقد نبهنا على كل نحو منها في مكانه إن شاء الله عز وجل، وما توفيقنا إلا بالله تعالى، وهذا حين نأخذ في تشخيص الأنحاء المذكورة: الشكل الأول: الحد المشترك فيه موضوع في إحدى المقدمتين محمول في الأخرى أي إن اللفظة المذكورة في كلتا المقدمتين هي في إحداهما مخبر عنه وموصوف، وهي في الأخرى خبر وصفة. مثال ذلك: الشكل الأول: الحد المشترك فيه مخبر عنه في إحدى المقدمتين وخبر في الأخرى.

_ (1) إلى: سقطت من س. (2) س: صفة تحت النوع.

النحو الأول من الشكل الأول: صغرى كلية موجبة: كل إنسان حي. كبرى كلية موجبة: وكل حي جوهر. النتيجة: كل إنسان جوهر. النحو الثاني من الشكل الأول: قالوا صغرى كلية موجبة: كل إنسان حي. كبرى كلية نافية: ولا واحد حي حجر. النتيجة: لا واحد إنسان حجر. وإن شئت قلت: لا أحد من الناس حجر. وهذا النحو متساوي المقدمتين، ليست إحداهما أعم من الأخرى. النحو الثالث من الشكل الأول: صغرى جزئية موجبة: بعض الناس حي. كبرى كلية موجبة: وكل حي جوهر. النتيجة: بعض الناس جوهر. النحو الرابع من الشكل الأول: صغرى جزئية موجبة: بعض الناس حي. كبرى كلية نافية: ولا واحد من الأحياء حجر. النتيجة: بعض الناس ليس حجراً. الشكل الثاني: الحد المشترك فيه محمول في كلتا المقدمتين أي أنه خبر فيهما معاً. النحو الأول من الشكل الثاني: قالوا صغرى كلية موجبة: كل إنسان حي. كبرى كلية نافية: ولا واحد من الحجارة حي. النتيجة: فلا واحد من الناس حجر. ليس بين هذا النحو الأول من الشكل الثاني وبين النحو الثاني من الشكل الأول إلا أن

المحمول وهو الخبر الذي في المقدمة الكبرى من ذلك النحو الثاني من الشكل الأول هو موضوع أي مخبر عنه في المقدمة الكبرى من هذا النحو الأول من الشكل الثاني على حسب ما أتينا به هناك (1) وهنا فقط. برهان صحة هذه النتيجة نعكس المقدمة النافية فنقول: إن كان لا واحد من الحجارة حي فلا واحد من الأحياء (2) حجر، وقد قلنا كل إنسان حي فنضيف اللفظ الذي حصل لنا في العكس إلى هذه التي لم تعكس فنقول: كل إنسان حي، ولا واحد من الأحياء حجر، وهذا هو النحو الثاني من الشكل الأول بعينه، خرج في العكس المخبر عنه خبراً والخبر مخبراً عنه على ما قدمنا إذ وصفنا رتب العكس فتذكره، وإنما لم نعكس الموجبة لأننا لو عكسناها لأتانا النحو الثالث من الشكل الثاني، وسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. النحو الثاني من الشكل الثاني: قالوا صغرى كلية: ولا واحد من الحجارة حي. كبرى كلية موجبة: وكل إنسان حي. النتيجة: فلا (3) واحد من الحجارة [52ظ] إنسان. ليس بين هذا النحو والنحو الذي قبله فرق أصلاً إلا أن كبرى ذلك هي صغرى هذا، أخرت هنالك وقدمت هنا، وصغرى ذلك هي كبرى هذا قدمت هنالك (4) وأخرت هنا، وإنما - كان ذلك لأنا نخرج موضوع نتيجة الذي قبل هذا محمولاً في نتيجة هذا، والمحمول هنالك موضوعاً هنا. وبرهان هذا (5) النحو بعكستين عكسة للمقدمة الثانية وعكسة أخرى للنتيجة التي ذكرنا، فنقول إن كان لا واحد من الحجارة حي، فلا واحد من الأحياء حجر، وقد قلنا إن كل إنسان حي فنقول لا واحد من الأحياء حجر (6) وكل إنسان حي فلا واحد من الحجارة إنسان. ثم نعكس هذه النتيجة فنقول: إذا كان لا واحد من الحجارة إنسان فلا واحد من الناس حجر،

_ (1) م: هنالك. (2) س: الناس. (3) س: لا. (4) وقدمت هنا ... هنالك: سقط من م. (5) محمولاً في ... هذا، سقط من س. (6) وقد قلنا ... حجر: سقط من س.

وهذه هي نتيجة النحو الثاني من الشكل الأول بعينها. واعلم أن مقدمتي هذا النحو والنحو الذي قبله متساويتان ليس في إحداهما لفظة هي أعم من اللفظة التي في الأخرى. واعلم أنه لا فرق في شيء من الأنحاء كلها بين قولك: لا واحد من الناس حجر، وقولك: لا شيء من الناس حجر، وقولك: لا واحد إنسان حجر، كل ذلك سواء قل كيف شئت. والأولى أن تقول الذي هو أبين في اللغة التي عبارتك بها، وهكذا حكم كل ما نفيت. النحو الثالث من الشكل الثاني: صغرى جزئية موجبة: بعض الناس حي. كبرى كلية نافية: ولا واحد من الحجارة حي. النتيجة: بعض الناس لا حجر. ليس بين هذا النحو وبين النحو الرابع من الشكل الأول فرق إلا أن محمول المقدمة الكبرى من ذلك النحو هو موضوع المقدمة الكبرى من ذلك النحو هو محمول المقدمة الكبرى من هذا النحو. برهانه بعكس المقدمة النافية فتقول: إذا كان لا واحد من الحجارة حي فلا واحد من الأحياء حجر، ونضيف إلى ذلك المقدمة التي لم تعكس فنقول: بعض الناس حي ولا واحد من الأحياء حجر، وهذا هو النحو الرابع من الشكل الأول بعينه. النحو الرابع من الشكل الثاني: صغرى جزئية سالبة: بعض الحجارة ليس حياً. كبرى كلية موجبة: وكل إنسان حي. النتيجة: فبعض الحجارة ليس إنساناً؛ وإن شئت قلت: فليس كل حجر إنساناً، لأنا قد قلنا قبل إن النافية الجزئية تظهر بلفظ كلي وجزئي إن شئت. ثم

نعكس هذه النتيجة فنقول: إذا كان بعض الحجارة ليس إنساناً، فبعض الناس ليس حجراً، وهذا هو نتيجة النحو الرابع من الشكل الأول بعينها. وهذا النحو لا تعكس مقدمته لأنك لو عكست الموجبة الكلية لانعكست جزئية ومعها [53و] جزئية نافية، وجزئيتان لا تنتج، والنافية الجزئية لا تنعكس على ما قدمنا. لكن برهانه برفع الكلام إلى الإحالة (1) ، وذلك أن نقول: إن أنكر منكر أن هذه النتيجة حق وهي قولنا فبعض الحجارة ليس إنساناً، فنقيضها حق وهو كل الحجارة إنسان، فنقول: كل الحجارة إنسان، وكل إنسان حي على ما أثبتنا في المقدمة الكبرى فينتج لنا ذلك: كل حجر حي، وقد صححنا في المقدمة الصغرى: بعض الحجارة لا حي، وهذا ضد ما أنتج لنا ما قدمنا آخراً، وهذا محال. الشكل الثالث: الحد المشترك فيه موضوع في كلتا المقدمتين أي مخبر عنه، ونتائجه كلها جزئيات. النحو الأول من الشكل الثالث: صغرى كلية موجبة: كل إنسان حي. كبرى كلية موجبة: وكل إنسان جوهر. النتيجة: فبعض الأحياء جوهر. برهانه بعكس المقدمة الصغرى فنقول: إن كان كل إنسان حياً فبعض الأحياء إنسان، ونضيف إليها المقدمة الكبرى فنقول: بعض الأحياء إنسان (2) ، وكل إنسان جوهر، فبعض الأحياء جوهر، وهذه هي رتبة النحو الثالث من الشكل الأول.

_ (1) س: الإحالة ... الكلام. (2) ونضيف ... إنسان: سقط من س.

النحو الثاني من الشكل الثالث: قالوا صغرى كلية موجبة: كل إنسان حي. كبرى كلية نافية: ولا واحد من الناس حجر. النتيجة: فبعض الأحياء لا حجر. برهانه بعكس المقدمة الصغرى نقول: إن كان كل إنسان حياً، فبعض الأحياء إنسان، ولا أحد (1) إنسان حجر، فبعض الأحياء ليس حجراً، وهذه رتبة النحو الرابع من الشكل الأول بعينها، وهذا النحو متساوي المقدمتين ليس في إحداهما لفظ أعم مما في الأخرى. النحو الثالث من الشكل الثالث: صغرى جزئية موجبة: بعض الأحياء ناس. كبرى كلية موجبة: وكل الأحياء جوهر. النتيجة: بعض الناس جوهر. برهانه بعكس المقدمة الجزئية نقول: إن كان بعض الأحياء ناساً فبعض الناس حي، ثم نضيف ذلك إلى المقدمة الكلية فنقول: بعض الناس حي، وكل حي جوهر، وهذا هو النحو الثالث من الشكل الأول بعينه. النحو الرابع من الشكل الثالث: صغرى كلية موجبة: كل إنسان حي. كبرى جزئية موجبة: وبعض الناس جوهر. النتيجة: بعض الجوهر حي (2) . رتية هذا النحو مخالف لرتبة الذي قبله في تقديم الجزئية وتأخيرها، فكبرى ذلك صغرى هذا، وصغرى ذلك كبرى هذا، إلا أنه (3) يخرج موضوع نتيجة الذي قبل هذا محمولاً في نتيجة هذا في الرتبة، ومحمول نتيجة ذلك موضوعاً في نتيجة هذا، إذ الحد الذي في المقدمة الكبرى هو [53ظ] الذي يخرج محمولاً في النتيجة، وبرهانه بعكس المقدمة الجزئية، نقول: إن كان بعض الناس جوهراً فبعض الجوهر ناس، ثم نضيف ذلك إلى المقدمة الكلية فنقول: بعض الجوهر ناس، وكل الناس

_ (1) م: واحد. (2) س: بعض الحي جوهر. (3) إلا أنه: لأن في م.

حي، النتيجة: بعض الجوهر حي، وهذه رتبة النحو الثالث من الشكل الأول بعينها. النحو الخامس من الشكل الثالث: قالوا صغرى كلية موجبة: كل إنسان حي. كبرى جزئية نافية: وبعض الناس لا حجر. النتيجة: فبعض الحي ليس حجراً. لا عكس في هذا، لأنك لو عكست الكلية لانعكست جزئية، وجمعنا (1) إليها جزئية أخرى، وجزئيتان لا تنتج، والجزئية النافية لا تنعكس، لكن برهانه يرفع الكلام إلى الإحالة فنقول: إن كانت النتيجة المذكورة باطلاً فنقيضها حق، وهو كل حي حجر، ثم نقول: كل إنسان حي وكل حي حجر، النتيجة: فكل الناس حجر، وقد اتفقنا في المقدمة على أن بعض الناس لا حجر، وهذا محال، ونتيجة هذا النحو هي نتيجة النحو الثاني من الشكل الثالث، ويرجع هذا النحو إلى النحو الرابع من الشكل الأول بأن تأخذ النتيجة فتضيفها إلى المقدمة الصغرى، فتقول: كل إنسان حي، وبعض الحي لا حجر، النتيجة: فبعض الناس لا حجر، وهذه هي (2) نتيجة النحو الرابع من الشكل الأول، وهذا النحو ليس في كبراه لفظة أعم من التي في صغراه. النحو السادس من الشكل الثالث: صغرى جزئية موجبة: بعض الحي إنسان. كبرى كلية نافية: ولا واحد من الأحياء حجر. النتيجة: بعض الناس (3) لا حجر. برهانه بعكسة واحدة، نقول: إن كان بعض الحي إنساناً فبعض الناس حي، ثم نضيف ذلك إلى الكلية السالبة فنقول: بعض الناس حي ولا واحد من الأحياء حجر، وهذا هو النحو الرابع من الشكل الأول. وإنما لم نعكس ما لم يعكس من المقدمات في الشكل الثاني والثالث لأنه إما كانت تخرج جزئيتين أو تخرج إلى ما قد خرج قبلها أو بعدها من الأنحاء، أو لأنه كان يكون أطول في العمل فقصدنا الأخصر

_ (1) م: ومعنا. (2) هي: من م وحدها. (3) س: الحي.

والأكثر فائدة فهذه الأنحاء التي لا ينتج سواها إنتاجاً مطرداً. وسنبين إن شاء الله تعالى اعتراضات اعترضها المشغبون في هذه الأشكال، وحل ذلك كله بحول الله وقوته، وها نحن آخذون في تمثيل هذه (1) الأنحاء بمثال إلا هي ومثال شريعي بحول الله واهب الفضائل لمن شاء من عباده لا إله إلا هو (2) ليظهر فضل هذه [54و] الصناعة في كل علم. الشكل الأول: النحو الأول من الشكل الأول: كل ما خرج إلى الفعل من العالم فمعدود وكل معدود فمتناه فكل ما خرج إلى الفعل من العالم فمتناه. مثال شريعي: كل مسكر خمر وكل خمر حرام فكل مسكر حرام. النحو الثاني منه: كل ما خرج إلى الفعل من العالم معدود ولا واحد من المعدودات أزلي، فليس شيء مما خرج إلى الفعل من العالم أزلياً. مثال شريعي: كل مسكر خمر وكل خمر ليست حلالاً فكل مسكر ليس حلالاً. النحو الثالث منه: بعض العالم مركب وكل مركب مؤلف من شتى (3) ، فبعض العالم مؤلف من شتى (3) . مثال شريعي: بعض المملوكات حرام وطئها، وكل حرام ففرض اجتنابه، فبعض المملوكات فرض اجتنابها. النحو الرابع منه: بعض العالم مركب وليس شيء من المركبات أزلياً فبعض العالم ليس أزلياً. مثال شريعي: بعض البيوع ربا وليس شيء من الربا حلالاً، فبعض البيوع ليس حلالاً.

_ (1) هذه: سقطت من م. (2) لا ... هو: سقطت من س. (3) س: شتى. (3) س: شتى.

الشكل الثاني: النحو الأول منه: كل جمل العالم مؤلفات من أجزائها وليس شيء من المؤلفات أزلياً فليس شيء من العالم أزلياً. مثال شريعي: كل ذبح لما لم تملكه فقد نهيت عنه وليس شيء مما نهيت عنه حلالاً، فليس ذبحك لشيء لم تملكه حلالاً. النحو الثاني منه: ليس شيء أزلي مؤلفاً (1) وكل جمل العالم مؤلفات (2) من أجزائها فلا شيء في جمل العالم أزلي (3) . مثال شريعي: ليس شيء حلالاً مما نهيت عنه (4) ، وكل ذبح لما لم تملكه فقد نهيت عنه، فليس حلالاً ذبحك لما (5) لم تملكه. النحو الثالث منه: بعض العالم مركب، وليس شيء أزلي مركباً، فبعض العالم ليس أزلياً. مثال شريعي: بعض الآباء كافر وليس أحد تجب طاعته كافراً، فبعض الآباء لا تجب طاعته. النحو الرابع منه: بعض العالم ليس خالقاً، والأزلي خالق، فبعض العالم ليس أزلياً. مثال شريعي: بعض الفروج من المتملكات لا يحل وطئه، وكل فرج زوجة أو أمة مباحين يحل وطئه، فبعض الفروج من المتملكات، ليس فرج زوجة أو أمة، ليس مباحاً. الشكل الثالث: النحو الأول منه: كل مركب متناه (6) ، وكل مركب مؤلف، فبعض المتناهيات

_ (1) م: ليس شيء من المؤلفات أزلياً. (2) س: المؤلفات. (3) م: فلا شيء أزلي في كل جمل العالم. (4) م: ليس شيء مما نهيت عنه حلالاً. (5) م: ما. (6) س: متناهي.

[54ظ] مؤلف. مثال شريعي: كل قاذف محصنة فاسق، وكل قاذف محصنة يحد، فبعض الفاسقين يحد. النحو الثاني منه: كل جسم مركب من أجزائه، وليس واحد من الأجسام أزلياً، فبعض المركب من أجزائه ليس أزلياً. مثال شريعي: كل المحرمين منهي عن الصيد (1) ، وليس أحد من المحرمين مباحاً له النساء، فليس بعض المنهيين عن الصيد (1) مباحاً لهم النساء. النحو الثالث منه: بعض الأعراض عدد، وكل الأعراض محمول، فبعض العدد محمول. مثال شريعي: بعض المصلين مقبول الصلاة، وكل مصل فمأمور باستقبال الكعبة إن قدر، فبعض المقبول صلاتهم مأمور باستقبال الكعبة إن قدر. النحو الرابع منه: كل جسم معدود، وبعض الجسم مركب، فبعض المركب معدود. مثال شريعي: كل مرضعة خمس رضعات حرام، وبعض المرضعات خمس رضعات أم، فبعض الأمهات حرام. النحو الخامس منه: بعض الأجسام ليس عرضاً، وكل جسم فشاغل مكاناً، فبعض الأعراض ليس شاغلاً مكاناً. مثال شريعي: ليس بعض القاتلين بغير حق يفاد منه، وكل قاتل بغير حق فاسق، فبعض من لا يفاد منه فاسق. النحو السادس منه: بعض الأجسام ذو جهات ست، وليس شيء من الأجسام عرضاً، فبعض ما هو ذو جهات ست ليس (2) عرضاً.

_ (1) م: التصيد. (1) م: التصيد. (2) شيء من الأجسام ... ليس: سقط من م.

مثال شريعي: بعض الشروط مفسد للعقد، وليس شيء من الشروط متقدماً للعقد، فبعض المفسد للعقد لا يتقدم العقد. فإذ قد أتممنا بحمد الله تعالى وعونه لنا ما كنا (1) وعدنا به من ذكر أنحاء أشكال البرهان، فلنقل إن كل نتيجة ظهرت فيما قدمنا من القرائن فإنها إن (2) كانت موجبة كلية فإنه قد يصح (3) بصحتها عكسها وهو موجبة جزئية. وإن كانت موجبة جزئية فإنه قد يصح (3) بصحتها عكسها وهو موجبة جزئية. وإن كانت سالبة (4) كلية فإنه قد يصح بصحتها عكسها وهو نافية كلية. وإذا صحت الكلية فقد صحت جزئياتها وليس إذا صحت الجزئية صحت كليتها، فتأمل هذا تجده، وقد قدمنا لك من ذلك أمثلة بينة فأغنى عن تكرارها. فتدبر في هذا المكان عظيم منفعة العكس لأنه يصح لك بصحة النتيجة ما انطوى فيها مما ذكرنا الآن. [55و] وأما النافية الجزئية فقد قدمنا أنها لا تنعكس، وإذا كان ماقلنا، فذلك إنتاج من النتيجة صادق أبداً، فالنتائج كما ذكرنا أربع عشرة (5) نتيجة، تنعكس منها ثمان، ثلاث في الشكل الأول اثنتان منهما موجبتان، إحداها جزئية، والثانية كلية، والثالثة كلية نافية، واثنتان في الثاني كليتان نافيتان، وثلاث في الثالث موجبات جزئيات (6) ، فلذلك اثنتان وعشرون نتيجة صادقة أبداً (7) . وتذكر ما قلنا قبل إن القضايا، وهي الأخبار، تنقسم قسمين: قاطعة وشرطية، فهذه القاطعة قد ذكرتا أقسامها، والحمد لله واهب التمييز والعلم والبيان والقوة وهو الذي لا يستمد المزيد في كل ذلك ومن كل خير إلا منه، لا إله إلا هو، فإذ قد أتممنا ذلك فلنشرع (8) في ذكر القسم الثاني وهو الشرطية، إن شاء الله عز وجل ولا

_ (1) س: كنا له. (2) م: إذا. (3) م: فإنها قد صح. (3) م: فإنها قد صح. (4) م: نافية. (5) س: أربعة عشر. (6) جزئيات: في م وحدها. (7) أبداً: لم ترد في س. (8) في: لم ترد في س.

حول ولا قوة إلا بالله تعالى ذكره. تم السفر الأول من كتاب التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية تأليف أبي محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الأندلسي رحمة الله عليه والحمد لله على ذلك كثيراً، كما هو أهله، وصلى الله على النبي محمد وسلم (1)

_ (1) تم السفر ... وسلم: لم يرد في م.

وهذا بدء السفر الثاني بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد

وهذا بدء السفر الثاني بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد (1) 2 - باب ذكر القضايا الشرطية نقول وبالله تعالى نستعين (2) إن الشرطية هي ما لم يقطع في وصف الموصوف فيها بشيء لازم، والشرطية هذه تنقسم قسمين: إما معلقة بشيء آخر وإما مقسمة. فالمعلقة تنقسم قسمين، المعلقة بالجملة وتسمى المتصلة وهي التي علق الحكم فيها بحكم آخر تصح بصحته أو تبطل ببطلانه. مثال ذلك: إن كان من زنى وهو محصن وهو بالغ عاقل ثيباً فإنه يجلد ويرجم، لكنه ثيب فإنه يجلد ويرجم؛ فهذه قضية شرطية مركبة من حكمين: أحدهما صفة الزاني والثاني صفة ما يصنع به إن زنى وهو الجلد والرجم. فالحكم الأول يسمى المقدم، وهو قولك [55ظ] إن كان زنى وهو محصن بالغ عاقل ثيباً، والحكم الثاني يسمى التالي (3) وهو قولك فإنه يجلد ويرجم، فأثبت على ذكر (4) هذه التسمية أيضاً فستتكرر (5) عليك كثيراً (6) إن شاء الله عز وجل. فأحد قسمي المعلقة اللذين (7) ذكرنا آنفاً أنها تنقسم عليهما أن يستثنى المقدم، ومعنى قولنا يستثنى هو أن يشترط أن كون الأمر المذكور أولاً موجب لكون الأمر المذكور آخراً. فإن لم يكن الأول لم يكن الآخر، والقسم الثاني هو ما استثنيت فيه التالي أي أنك تشترط أن كون الشيء الذي تذكر آخراً موجب لكون (8) الأمر المذكور أولاً. فإن لم يكن المذكور آخراً لم يكن المذكور أولاً، فالقسم الأول مقدمة تركبت من موضوع ومحمول إلا أن أحدهما قرن به حرف شرط فإن أردت إنتاجها أضفت إليها أخرى

_ (1) وهذا بدء ... محمد: لم يرد في م. (2) م: نتأيد. (3) س: الثاني. (4) ذكر: لم ترد في س. (5) س: فتتكرر. (6) كثيراً: لم ترد في س. (7) س: التي. (8) م: كون.

فقلت: إن كان الزاني المحصن البالغ العاقل يجلد ويرجم فهذه مقدمة من مخبر عنه وخبر قرنت بأحدهما حرف شرط. ثم تقول: وهذا زان محصن (1) بالغ عاقل فهذه مقدمة ثانية إليها فتمت قرينة النتيجة فهذا يجلد ويرجم. والقول في كل ما صحبه حرف من حروف الشرط الواحد، وهي إن وإذاوإذا ما ومتى ومتى ما ومهما وكلما وما أشبه ذلك. وإن شئت أن تقدم في اللفظ المعلقة على التي علقت بها فلك ذلك. والمعلقة هي المسببة والمعلقة بها هي السبب، كالزنا مع الإحصان هو سبب الرجم، وكطلوع الشمس هو سبب النهار، وكدخول الأرض بين الشمس والقمر هو سبب كسوف القمر (2) ؛ فهذه الأسباب هي المعلق بها الحكم، والكسوف والشمس (3) والنهار هي المسببات (4) وهي المعلقات. فنقول في تقديم المعلقة: إن كان نهار فالشمس قد طلعت، وإن كان اسم الثيب يقع على الزاني إن كان بالغاً عاقلآً محصناً (5) فإنه يجلد ويرجم، وهذ1مثل تقديمك المحمول على الموضوع في القضايا القاطعة التي ليس فيها شرط. فتقول: الحياة في كل إنسان والجوهرية في كل حي فالجوهرية في كل إنسان. وقد تكون المقدمتان في الشرطية نافيتين، وقد تكون موجبتين وقد تكون موجبة ونافية كقولك: إن لم تغرب الشمس لم (6) يأت الليل وإن لم يكن في الجو برق لم يكن صعق وإن لم تقر بما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم، لم تكن مسلماً [56و] فالمقدمة الأولى هي قولك: إن لم تغرب الشمس وإن لم يكن في الجو برق وإن لم تقر بما أتى (7) به محمد، صلى الله عليه وسلم. والثانية هي قولك: لم يكن ليل، لم يكن صعق، لم تكن مسلماً. وأما الموجبتان فكالتي قدمنا قبل.

_ (1) محصن: سقطت من س. (2) م: الكسوف القمري. (3) م: والرجم. (4) م: المسميات. (5) محصناً عاقلاً: وقعت بعد " إن كان " في س. (6) م: فلم. (7) س: جاء.

وأما الموجبة والنافية فكقولك: الماء راسب بالطبع ما لم يقسر (1) أو يستحل، والنار صعادة بالطبع ما لم تقسر أو تستحل (2) ، والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فكأنك قلت: إن تركت الماء بطبعه فهو راسب، وإن تركت النار بطبعها فهي صعادة، وإن كان المتبايعان مجتمعين فالخيار لهما. وقد تكون المقدمات كثيرة في هذا الباب مثل قولك: إذا كان العالم محدثاً وكان المحدث يقتضي محدثاً، وكان لا شيء غير المحدث والمحدث، وكان لا محدث غير المحدث للعالم، وكانت أحداث مخالفة للطبيعة ظاهرة من إنسان محدث لها بأختياره، وكان يأتي بها شواهد على دعواه فمحدثها له محدث العالم، وإذا كان محدثها له متى طلبها من محدث العالم فمحدث العالم شاهد له بصحة ما يدعي، وإذا كان محدث العالم شاهداً له ومحدث العالم لا يشهد لمدعي باطل فهذا (3) ليس مدعي باطل. وإذا كان ليس مدعي باطل فهو مدعي حق. وإذا كان مدعي حق وجب تصديقه. فالمقدم من هذا الاستدلال الشرطي كما ترى مقدمات كثيرة والتالي واحد وهو: فإذا كان مدعي حق وجب تصديقه. فهذا هو القسم الأول الذي ذكرنا أنه يستثنى فيه المقدم. أي أن (4) المقدمة الأولى هي التي نقطع على أنها حق بعد أن يشترط أنها إن صحت الأولى صحت التي علقت صحتها بصحتها. وإن بطلت الأولى (5) بطلت التي علقت صحتها بصحتها. وهذا واجب بأول العقل ضرورة: إذ كل شيء لا يجوز أن يصح إلا حتى يصح شيء آخر، ثم إذا لم يصح ذلك الشيء الآخر فواجب ضرورة أن لا يصح الذي لا صحة له إلا بوجود صحة لم توجد. ومن هذا الأصل الضروري البرهاني (6) أبطلنا في الشرائع كل عقد أرتبط بشرط فاسد لا يصح في النكاح والطلاق والبيوع والعتق وسائر العقود كلها. وكذلك إن كان

_ (1) س: يفسد. (2) س: تفسد أو تستحيل. (3) م: فهو. (4) أن: سقطت من م. (5) الأولى: سقطت من س. (6) م: البرهاني الضروري.

التالي لا يوجد ضرورة إلا بوجود الأول والأول غير موجود (1) فالتالي غير موجود. فإن جعلت (2) المقدمة الأولى جزئية فقلت: إن كان زيد طبيباً فهو ناطق، لكن زيد (3) طبيب فهو ناطق، فلو استثنيت نقيض الأول أي (4) صححت [56ظ] نفيه فقلت: لكن زيد ليس طبيباً لم يصح لك أنه ليس ناطقاً، وهكذا كل ما كان فيه الوصف في المقدم جزئياً للذي في التالي. وأما إن كان مساوياً له أو أعم فإنك إذا نفيت الأول انتفى الثاني كقولك: إن كان الإنسان حساساً أو قلت ضحاكاً فهو حي، لكنه ليس حساساً أو ليس ضحاكاً فليس حياً. ولا يجوز أن يكون التالي جزئياً للمقدم البتة لأنه مرتبط به موجود بوجوده، فهو (5) أبداً إما مساو وإما أعم فاحفظ كل هذا واضبطه. فلو استثنيت نفي التالي أي صححته فإنه ينتج لك نفي الأول ضرورة على كل حال جزئياً كان الأول أو مساوياً. ألا ترى أنك لوقلت: إن كان زيد طبيباً فهو عالم لكنه ليس عالماً أصلاً فليس طبيباً؛ وكذلك المساوي، ألا ترى أنك لو قلت: إن كان الجرم إنساناً فهو ضحاك لكنه ليس ضحاكاً فليس إنساناً؛ ومن (6) الجزئي الأخص أيضاً أن نقول: إن كان الجرم إنساناً فهو ناطق لكنه ليس ناطقاً فليس إنساناً. فإن استثنيت التالي أي صححته لم يصح لك الأول إلا في المساوي وحده، وأما الأعم فلا لأنك لوقلت: إن كان الجرم إنساناً فهو حي، لكنه حي، فلا يصح لك بذلك أنه إنسان. فالوجه هاهنا أن تصحح إما الأول فينتج لك صحة التالي، وإما أن تصحح نفي التالي فيصح لك نفي الأول. وأما إن صححت التالي أو صححت نفي الأول فإنه لا يصح لك بتصحيح التالي تصحيح الأول. ولا يصح لك بتصحيح نفي الأول نفي التالي إلا في المساوي فقط. إلا أنك تحتاج إذا أردت بنفي التالي نفي الأول في المساوي إلى عمل يمتد في إنتاج ذلك، إذ ليس ذلك بيناً بسرعة كبيان انتفاء

_ (1) والأول غير موجود: سقطت من س، وكرر بدلها الجملة السابقة. (2) س: وجدت. (3) م: لكن زيداً. (4) س: الذي. (5) م: فهذا. (6) س: وهو من.

التالي بانتفاء الأول؛ ألا ترى أنك إذا قلت: إن كان العمر طويلاً فالهرم موجود، لكن العمر ليس طويلاً، النتيجة: فالهرم ليس موجوداً، بين. فلو قلت والقرينة بحسبها: لكن (1) الهرم غير موجود، فإنك تحتاج في الإنتاج من ذلك أن طول العمر ليس موجوداً إلى عمل، وهو أن تقول: إن كان الهرم يوجد بوجود طول العمر فليس يمكن أن يعدم الهرم ويوجد طول العمر، لأن طول العمر إذا كان موجوداً وجد الهرم، فإن كان الهرم موجوداً وليس طول العمر موجوداً (2) فليس الهرم إذن موجوداً بوجود طول العمر؛ وقد قدمنا أن الهرم يوجد بوجود طول العمر وهذا تناقض. وإنما كانت تكون بينة لوقدمت فقلت: إذا [57و] كان ضعف الكبر غير موجود فطول العمر غير موجود، وضعف الكبر غير موجود، فطول العمر غير موجود وهذا بين. وقد قلنا إن القسم الذي تستثني فيه (3) ضد المقدمة التالية أي تصححه فإنه ينتج لك نفي الأول ضرورة مثل أن تقول: إن كان العالم غير محدث فهو غير مؤلف ولا متناهي الجرم، لكن العالم مؤلف متناهي الجرم، فالعالم محدث. وقد تكون المقدمات التوالي في هذا النوع متنافية كقولك: إن كان يوجد زمان لغير جرم ذي زمان، والزمان إنما هو مدة يعد بها سكون أو حركة، فليس يوجد إذن زمان لغير جرم ذي زمان. فهذه أقسام الشرطي المتصل وهي إما أن تصحح المقدم وإما أن تصحح نفيه وإما أن تصحح التالي وإما أن تصحح نفيه (4) ، فاعلم. وأما الشرطي المقسم (5) فهو أن تقسم الشيء الذي تريد معرفة صحة حكمه على جميع أقسامه ولا تترك من جميع أقسامه التي (6) يعطيه العقل إياها قسماً أصلاً، ولا تكون تلك الأقسام إلا متعاندة (7) أي متباينة مختلفة كل واحد منها مخالف لسائرها، وجائز أن تكون الأقسام أثنين فصاعداً ولكن لا بد من الاختلاف المذكور.

_ (1) س: لكون. (2) لأن طول العمر ... موجوداً: هذه هي قراءة م والنص مضطرب في س. (3) س: منه. (4) وإما أن تصحح التالي ... نفيه: سقط من م. (5) س: المنقسم. (6) س: الذي. (7) س: متغايرة (حيث ورد) .

فالذي ينقسم قسمين نحو قولك: العالم إما محدث وإما أزلي، وهذا الشيء إما حرام وإما غير حرام، وهذا الشيء واجب أو غير واجب. ونحو قولك: هذان الاسمان إما واقعان على معنى واحد وإما على أكثر من معنى واحد. وأما الذي ينقسم أقساماً أكثر من أثنين أن تقول: لا يخلو العالم إن كان محدثاً من أن يكون أحدث نفسه أو أحدثه غيره أو حدث لا من محدث. ونحو قوله: هذا الشيء إما واجب وإما مباح متساو وإما مباح مستحب وإما مباح مكروه (1) وإما حرام وهذه الأقسام كما ترى تامة التعاند (2) أي كل قسم منها مخالف لسائرها وقسمت تامة مستوفاة. وأما إذا كان التقسيم ناقصاً، وهو (3) أن تكون أخللت بشيء من أقسامه إما جهلاً وإما نسياناً وإما عمداً، فليست أقسامه حينئذ تامة المعاندة (4) وذلك نحو قولك: لا يخلو محدث العالم أن يكون أحدثه لجوده أو كرمه (5) أو لأنه (6) أو لاجترار منفعة أو لدفع مضرة أو لعلة ما (7) غير ما ذكرنا. فهذا تقسيم ناقص لأنك أسقطت منه القسم الصحيح وهو أن يكون أحدثه لا لعلة أصلاً. وقد يعرض من هذا الباب [57ظ] أن يكون التقسيم لا يخرج (8) إلا على قسمين فقط فيحذف المقسم أحد القسمين ويذكر الآخر فيجعله كلياً في الحكم وهو في الحقيقة جزئي كقول القائل: الزمان حركة تعد فأخرج ذلك مخرج صفة كلية للزمان، وإنما الصواب أن يقول (9) الزمان معنى لا زمناً (10) ، أي لا أن الزمان

_ (1) وإما مباح مكروه: تقدم في م. (2) س: المعاني. (3) س: هو. (4) س: المغايرة. (5) م: وكرمه. (6) كذا في م، وسقط من س. (7) ما: في م وحدها. (8) س: يكون. (9) الصواب أن يقول: سقط من س. (10) الزمان ... زمناً: سقط من م.

حركة تعد أو سكون يعد (1) ؛ ومن ذلك أيضاً ان تقول: المدبر المعتق بالموت موصى به فهو من الثلث. وإنما الصواب ان تقول المدبر المعتق (2) بالموت إما موصى بعتقه أو معتق نصفه (3) فتوفي القسمة حقها، فتحفظ من مثل هذا أشد التحفظ، فإن دخول الأغاليط كثيراً ما تدخل في (4) هذا الباب، فأقل ما في هذا الباب (5) أن تعمى عليك الحقائق إن كنت باحثاً فتعتقد الباطل وتضل غيرك ممن يحسن الظن بك، أو تتحير إن ظهر ما فسد (6) من الأقسام إليك، أو تجيب جواباً فاسداً إن كنت مسؤولاً، أو تغالط خصمك إن كنت سائلاً، وكل هذه أحوال غير محمودة، بل هي (7) مذمومة عند أهل الغقل جداً. فإن كنت جاهلاً بالتقسيم فتعلم وابحث، وإن كنت ناسياً ففتش وتدبر، وإن كنت عامداً فتلك أقبح فأعرض عنها. ومن ذلك أيضاً ان تقول: زيد إما (8) جالس وإما متكيء، وليس هذا تقسيماً صحيحاً، إذ لعله ماش أو واقف. فاعلم الآن أن التقسيم إذا وقع على قسمين فقط واستوفيا حقيقة الطبع في التقسيم التام الذي لا يشذ عنه شيء فإنك إذا صححت أحد القسمين وأثبته وأخرجته من الشك فإنه ينتج لك أي يصحح لك ضد (9) القسم الآخر ضرورة لا بد من ذلك، كقولك: العالم إما أزلي وإما محدث، لكن العالم محدث، فصح أنه ليس أزلياً. فإذا صححت نفي أحد القسمين وأثبته أنتج صحة القسم الآخر ضرورة (10) كقولك: العالم إما أزلي وإما محدث لكنه ليس أزلياً فصح أنه محدث وهكذا (11) إذا كانت الأقسام أكثر من اثنين فإنك إذا صححت أحدها فقد صح أنه

_ (1) س: بعد ... بعد. (2) م: المعتق المدبر. (3) س: بصفه. (4) م: من. (5) م: ما في ذلك. (6) م: فسد ما ظهر. (7) هي: سقطت من م. (8) س: إما زيد. (9) س: هذا. (10) ضرورة: وقعت في س بعد أن " أنتج ". (11) م: لكنه ... محدث: سقط من م؛ وهذا.

مخالف لسائرها لا بد من ذلك. وكذلك إذا صححت نفي جميع تلك الأقسام حاشا واحداً صح أن حكمه هو ذلك الواحد الذي بقي ضرورة، فإن صححت أن حكمه مخالف لبعض تلك الأقسام وبقي منها أكثر من واحد سقطت الأقسام التي صح أنه مخالف لها ولم يصح أن حكم الشيء الذي يتعرف [58و] صحة حكمه في أحد ما بقي دون سائر ما بقي، ولا تبال أي الأقسام قدمت في اللفظ ولا أيها أخرت من (1) هذه الوجوه كلها. ونحن نمثل الوجوه الثلاثة التي ذكرنا فنقول، وبالله تعالى نتأيد: إذا قلت هذا الطعم إما تفه وإما زعاق وإما حلو وإما مر وإما حامض وإما ملح وإما حريف وإما عفص، لكنه مر، فقد نفيت عنه جميع الطعوم الباقية كلها يقيناً بلا شك. وكذلك إذا قلت: هذا العدد إما مساو لهذا العدد، وإما أقل منه، وإما أكثر منه، لكنه أكثر منه، فقد نفيت القسمين الباقيين (2) بلا شك وهو حينئذ لا مساو ولا أقل يقيناً. فإن أبطلت جميع الأقسام حاشا واحداً فقلت في المسألة الأولى: لكنه ليس تفهاً ولا زعاقاً ولا حلواً ولا مراً ولا حامضاً ولا ملحاً ولا حريفاً فقد صح بلا شك أنه عفص. وكذلك لو قلت في الثانية لكنه ليس أكثر منه ولا مساوياً له فقد صح أنه أقل منه يقيناً (3) ، فإن أبطلت بعض الأقسام وسكت عن أكثر من واحد منها سقطت الأقسام التي صححت أنها مخالفة له فقط ولم يثبت له واحد بعينه من الذي نفيت وبقي الاستدلال والنظر واجباً فيها كقولك في المسألة الأولى لكنه ليس مراً ولا حلواً فقد سقطت عنه المرارة والحلاوة وبقي الطعم مشكوكاً فيه على باقي الأقسام، ثم كلما أسقطت قسماً بقي موقوفاً على الباقي حتى لا يبقى إلا واحد فيصح حينئذ أن ذلك الواحد هو حكمه، وهكذا في جميع المسائل؛ وإنما أخرجت لك الوجوه كلها من مسألة واحدة لترى نسبة الوجوه بعضها من بعض بأمكن وأسهل منها لو كانت من مسائل شتى. ولو أنك أثبت من الأقسام الكثيرة اثنين فصاعداً بحرف الشك مثل أن تقول: لكنه إما حلو وإما حامض وإما مر فقد أبطلت سائرها وبقي الحكم موقوفاً على الذي قصرتها عليه.

_ (1) س: في. (2) م: النافيين. (3) م: بيقين.

واعلم أن هذا الفصل لا يكون صحيحاً إلا بعد ذكرك جميع ما توجبه الطبيعة من الأقسام كلها، ثم تقصره منها على بعضها دون بعض، وأما إن لم تذكر أولاً جميع الأقسام (1) وابتدأت بذكرك (2) بعض الأقسام مقتصراً عليها في القسمة فقد أسأت العمل، والصواب عنك (3) ممنوع إلا من جهة واحدة لا ينبغي لك أن تتكل عليها (4) ، وهي (5) أن يتفق لك صحة وقوع أحد الأقسام التي ذكرت على الشيء الذي تطلب معرفة صحة حكمه، فإنك حينئذ إذا صححت ذلك القسم [58ظ] الموافق خاصة صادفت الحق غير محسن في إصابته لكن كإنسان أوقعه البخت على كنز، وذلك نحو قولك: هذا الشيء إما حار وإما بارد لكنه حار، فإن كنت قد أصبت في وصفه بالحر حقيقة طبعه فقد أنتج لك ذلك بطلان كل قسم ذكرته أو لم تذكره، وإن نفيت في هذا العمل أحد القسمين اللذين ذكرت فإنه لم يصح لك شيء بعد، وذلك نحو قولك هذا الشيء إما حار وإما بارد، لكنه ليس بحار فاعلم أنك لم تصب بعد حقيقة طبعه ولا أثبت له البرد، لأنك أسقطت القسم الثالث وهو المعتدل، فلعله معتدل إذ ليس حاراً فلا يكون أيضاً داخلاً في القسم الثاني الذي ذكرت وهو البارد. ولو كان تقسيمك موعباً لارتفع الإشكال على ما قدمنا قبل وأنت إذا قطعت في القسمة الناقصة على أنه لا بد من أحد الأقسام التي ذكرت فالكذب حصتك من هذا الخبر والفضيحة صفتك فيه، وهاتان صفتا سوء، والأمر لله (6) من قبل ومن بعد. فاحفظ هذه المعاني وميزها إذا مرت بك في جميع مطالبك وفتش عنها في كل ما يرد عليك فإنك تستضيء في العلم ضياءً تاماً وتشرف على عجائب تفرج عنك هموماً عظيمة إن كنت ممن يهتم بالحقائق. واعلم أن إيرادك في التقسيم لفظة إما أو لفظة أو، أو أنه لا يخلو من كذا وكذا، أو لا بد من كذا وكذا، أو هذا ينقسم كذا وكذا قسماً، منها كذا ومنها كذا، أو لا

_ (1) كلها ... الأقسام: سقط من س. (2) س: فلو ابتدأت بذكر. (3) عنك: سقطت من س. (4) س: تنكل عنها. (5) س: وهو. (6) م: ولله الأمر.

سبيل إلى غير كذا وكذا، أو ما أعطى هذا (1) المعنى، فكل ذلك سواء لا يحيل شيء من ذلك معنى أصلاً (2) . 3 - باب من أنواع البرهان تتضاعف الصفات فيه واعلم أنه قد تقع مقدمات بنسبة أعداد في الكثرة أو في القلة أو المساواة أو تفاضل كيفيات في الشدة أو الضعف أو تماثلها، فمنها ما هو تقديم صحيح فينتج إنتاجاً صحيحاً راجعاً إلى الشكل الول، كقولك: النرجس أشد صفرة [59و] من اللفاح واللفاح أشد صفرة من الأترج. النتيجة: فالنرجس أشد صفرة من الأترج. فالحد الأوسط وهو اللفظة المشتركة في كلتا المقدمتين، التي طالما بينتها عليك زمان وصفي لك أنحاء الأشكال الثلاثة، هو هاهنا (3) قولك (4) : اللفاح، وقولك أشد صفرة هو الغرض المقصود والرابط ما بين الحدين، فلا بد من خروجه في النتيجة كخروج لفظة (5) كل أو بعض في الأشكال المتقدمة، والحدان المقتسمان وهما اللفظان اللذان انفردت كل مقدمة منهما بواحد هما (6) النرجس والأترج. وربما جاءا بلفظ تنظير (7) صحيح فتقول: نسبة الخمسة إلى العشرة كنسبة الاثنين من الأربعة، النتيجة: فالخمسة نصف العشرة، وهكذا إن شيهت كيفية بكيفية ما. ثم شبهت تلك الكيفية الثانية بكيفية أخرى، فقد أنتج لك ذلك شبه الكيفية الأولى بالكيفية الثانية (8) ضرورة، وذلك مثل قولك: بياض زيد كبياض عمرو وبياض عمرو كبياض خالد. النتيجة: فبياض (9) زيد كبياض خالد. فهذه القرينة أعطت الخمسة أنها نصف العشرة وأعطتها أيضاً أن لها نسبة من عدد يشبه نسبة عدد آخر من عدد آخر،

_ (1) هذا: سقطت من س. (2) تكررت هذه الفقرة في س واضطربت النهايتان. واعتمدت هنا رواية م، فحذفت المكرر. (3) ها هنا: سقطت من س. (4) س: قولنا ... وقولنا. (5) س: لفظ. (6) س: وهو. (7) س: بنظير. (8) م: الثالثة. (9) م: بياض.

وكذلك أعطت الأخرى أن بياض زيد يشبه بياض عمرو ويشبه أيضاً (1) بياض خالد. وهذا مكان ينبغي أن تتحفظ فيه فربما غالط فيه بعض النوكى كما فعل الناشيء المكنى بأبي العباس إذ قال: إذا كانت العشرة في عشرة مائة، فالخمسة في الخمسة خمسون، وذلك لأن الخمسين نصف المائة والخمسة نصف العشرة، ونسبة العشرة من المائة كنسبة الخمسة من الخمسين، ونسبة الخمسة من العشرة كنسبة الخمسين من المائة. وإنما وقع هذا الإيهام الساقط لأن المتكلم أتى بلفظ غير واضح في المقدمة وكان الصواب ان يقول إذا كانت عشرة مكررة عشر مرات مائة فخمسة مكررة خمس مرات (2) خمسة وعشرون. لكن أهل صناعة الحساب اختصروا التطويل بلفظ اتفقوا على وضعه للتفاهم فيما بينهم وليس عليهم أكثر من ذلك البيان (3) للجاهل فقط. وتحفظ أيضاً من أن تأتي بحمل مختلف، ومعنى ذلك أن تكون الصفة التي تصف بها المخبر عنه في هذا النوع من البرهان مختلفة، فيتولد عليك من هذا غلط مثل ان تقول: الورد أطيب رائحة من الخزامى، والخزامى أضعف رائحة من المسك، فهذا تركيب [59ظ] فاسد لأن حق هذه القرائن أن تكون الصفة من نوع واحد إلا في درج التفاضل (4) فقط لأنها هي مع (5) الحد المشترك فلا يجوز إلا أن تكون بلفظ واحد ومعنى (6) واحد. وحكم (7) الحد المشترك في هاتين القضيتين مختلف أحدهما أطيب رائحة، والثاني أضعف رائحة، فليس حداً مشتركاً، بل هما كلامان مختلفان لم يتم فيهما حق (8) الاقتران، فلذلك خرجت النتيجة في بعض المواضع فاسدة، وربما صدقت، ولكنها غير موثوق بها على ما قدمنا. مما قد يصدق مرة ويكذب (9) أخرى: ألا ترى

_ (1) أيضاً: سقطت من س. (2) م: مرار. (3) م: إلا البيان. (4) التفاضل: سقطت من س. (5) مع: سقطت من س. (6) س: في معنى. (7) حكم: سقطت من س. (8) س: حد. (9) س: وقد تصدق ... وتكذب.

أنك لو قلت: الورد أطيب رائحة من الخزامى، والخزامى أضعف رائحة من البنفسج، النتيجة: فالورد أطيب رائحة من البنفسج صادقة، وإذا قلت الورد أطيب رائحة من الخزامى، والخزامى أضعف رائحة من المسك، النتيجة: فالورد أطيب رائحة من المسك كاذبة، وأنت إذا التزمت ما حددته (1) لك صدقت أبداً بلا شك، وذلك أن تقول: الورد أطيب رائحة من الخزامى، والخزامى أطيب رائحة من الضيمران، فالورد أطيب رائحة من الضيمران، فهذا الترتيب لا يخونك أبداً. ونمثل ذلك بمثال شريعي فنقول: إن موه مموه فقال: عليّ أكثر فضائل من العباس، والعباس أقل فضائل من أبي بكر، فأراد أن ينتج من ذلك: فعلي أكثر فضائل من أبي بكر وقال: إن مقدمتي كلتيهما صادقة لم يسوغ له (2) ذلك، وقيل له اجعل مكان أبي بكر رسول الله، ملى الله عليه وسلم، فإنها أيضاً تأتيك مقدمتان صادقتان، ثم انظر ماذا تنتج فتقول: عليّ أكثر فضائل من العباس والعباس أقل فضائل من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فهاتان صادقتان، والنتيجة: فعلي أكثر فضائل من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهذا كذب وكفر. ولا يترك يأخذ في نتيجة قرينة واحدة ما وصف به المخبر عنه في المقدمة الأولى وفي نتيجة قرينة أخرى ما وصف به المخبر عنه في المقدمة الثانية، مثل أن يأخذ في الواحدة ذكر الأكثر وفي الثانية ذكر الأقل، ولكن يعكس عليه ما يريد من ذلك فيلوح تمويهه من قريب، حتى إذا جعلت حكم الحد المشترك واحداً في اللفظ أصبت أبداً، وذلك مثل ان تقول: عليّ أكثر فضائل من أبي هريرة، وأبو هريرة أكثر [60و] فضائل من معاوية، النتيجة: فعلي أفضل من معاوية (3) ، فهذا الترتيب لا يخونك أبداً وصح لك في هذا النوع من البرهان صفتان للمخبر عنه أحدهما فضله على من نسبته منه والثانية فضله على من نسبت إليه الذي نسبت منه أولاً. ولذلك ترجمناه بأنه تتضاعف فيه الصفات، وبالله تعالى التوفيق.

_ (1) م: حددت. (2) له: سقطت من م. (3) النتيجة فعلي ... معاوية: سقط من م.

4 - باب من أنواع البرهان تختلف مقدماته في الظاهر إلا أن الغرض في نفيها وإيجابها واحد هذا نوع من إقامة البرهان يصدق أبداً إذا رتب رتبة حسنة كقولك: بعض الموجودات شيء لم يزل، ولا موجود إلا الخالق والجوهر والعرض، وهذا الذي (1) لم يزل ليس هو الجوهر ولا العرض. النتيجة: فهو الخالق عز وجل. فالمقدمة الأولى من هذه المقدمات الثلاث هي من النوع الذي ذكرنا قبل هذا متصلاً آخره بأول هذا الباب وهو الذي يعطي المخبر عنه أكثر من صفة واحدة. ألا ترى أنك (2) أوجبت للمخبر عنه أنه لم يزل وأنه موجود وبأنه خالق لا إله إلا هو. والمقدمة الثالثة هي من القضايا المقسمة وقد صححت فيها نفي أنه الجوهر أو العرض، فوجب أنه القسم الثالث ضرورة وهو الخالق عز وجل. والمقدمة الثانية المتوسطة هي من كلا النوعين المذكورين فأخذت من النوع الذي يعطي المخبر عنه أكثر من صفة واحدة قولك (3) فيها إنه لم يزل وإنه ليس الجوهر وليس العرض، وأخذت من المقسمة قولك ليس الجوهر وليس العرض، ووصفت أيضاً فيها الموجود أنه أكثر من واحد، فقد أنتجت هذه المقدمات الثلاث نتيجة واحدة. وهذا النوع كثير التكرر في تضاعيف المناظرات (4) وجم (5) المرور في أثناء البحث عن الحقائق المطلوبات، لأنك توقن وجود (6) شيء ما فتريد تحقيق صفاته، فتأخذ كل قسم ممكن أن يكون الموصوف يوصف به ثم تنفي عنه ما صح نفيه بالدلائل الصحاح حتى تنتفي (7) كلها حاشا واحداً منها فقط. فذلك الذي يبقى هو صفة الشيء الذي تريد معرفة حقيقة حكمه. ومن ذلك أن تقول: واحد ممن في المنزل (8) قتل زيداً، ولم يكن في البيت إلا يزيد وخالد ومحمد، فمحمد كان نائماً، ويزيد كان مغشياً عليه من علة به، النتيجة: [60ظ] فخالد قتله. وقد تكثر

_ (1) س: والذي. (2) س: أنك إذا. (3) س: كقولك. (4) س: المناظرة. (5) س: وحر. (6) س: وجوب. (7) م: تنفى. (8) س: من في (وسقطت لفظة المنزل) .

المقدمات هاهنا جداً وتكون من جميع أنواع البرهان وتنتج إنتاجاً صحيحاً إذا رتبت على حسب ما ذكرنا من رتبة كل نوع من أنواع البرهان في بابه. ومن هذا الباب يفهم أن للأب الثلثين من قول الله تعالى: {وورثه أبواه فلأمه الثلث} (النساء:11) وذلك أن المال ثلث وثلثان والمال للأبوين وللأم منه الثلث. النتيجة: فالثلثان للأب. وبالله تعالى التوفيق (1) . 5 - باب من أنواع البرهان تكثر مقدماته وتوجب كل مقدمة منها المقدمة التي بعدها (2) مثال ذلك أن تقول: إذا أفرط الأكل وجبت التخمة، وإذا وجبت التخمة ضعفت المعدة، وإذا ضعفت المعدة وجب سوء الهضم، وإذا وجب سوء الهضم وجب المرض. النتيجة: فوجود إفراط الأكل يوجب إفراط المرض (3) . وهذا برهان صحيح لأن فساد الهضم لا يوجد إلا ومرض معه (4) وفساد المعدة لا يوجد إلا وسوء الهضم (5) معه، والتخمة لا توجد إلا وفساد المعدة معها، والزيادة في الأكل (6) فوق القدر الموافق لقدرة (7) الطبيعة لا توجد إلا وتخمة معها، وما لا يوجد إلا ووجد شيء آخر معه بوجوده والثاني أيضاً إذا وجد أوجب ثالثاً فواجب أن لا (8) يوجد الثالث إلا بوجود الأول. وهذا أيضاً مما ينبغي أن تتحفظ في وضع مقدماته من أن تدخل (9) فيها مقدمة كاذبة. فإن قائلاً لو قال: إذا وجدت قلة المال وجد الفقر، وإذا وجد الفقر فالحاجة موجودة، وأراد أن ينتج من ذلك: إذا وجدت قلة المال فالحاجة موجودة، فهذا كذب لأن كل (10) قلة مال ليست فقراً، وقد يكون المرء صنعاً (11) وذا غلة كفاف لا

_ (1) هذه الجملة لم ترد في م. (2) م: منه ... بعده؛ س: بعده. (3) م: فوجد إفراط الأكل فوجد. (4) س: ومعه مرض. (5) م: هضم. (6) في الأكل: سقطت من س. (7) م: لقوة. (8) فواجب أن لا: فلا في س. (9) س: يدخل. (10) كل: لم ترد في س. (11) س: صانعاً.

يحتاج إلى أحد ولا بفضل عنه شيء؛ لكن لو قلت: إذا وجدت حال التقصير عن الكفاف وجد الفقر، وإذا وجد الفقر وجدت الحاجة، لأنتج ذلك إنتاجاً صحيحاً وهو: إذا وجدت حال التقصير عن الكفاف وجدت الحاجة. فينبغي لك (1) أن تتحفظ من مثل هذا من الأسماء المشتركة العامة لمعان فتحقق معانيها بألفاظ مختصة بها، وأن تتحفظ من الصفات الكليات العامة فلا توقعها بعمومها على بعض ما تحتها دون بعض. وقد موه بعض المغالطين (2) فقال ليفسد هذا البرهان: إذا عدمت [61و] النار عدم الحر، وإذا عدم الحر لم نحتج إلى التبرد، فأراد أن ينتج: إذا عدمت النار لم نحتج إلى التبرد، وهذا كذب لأن المحموم والصائف محتاجان إلى التبرد ولا نار ظاهرة عندهما، وإنما هذا لأن المقدمة الأولى كذب، وإنما الصاب أن يقول: إذا عدمت النار عدم الحر المتولد عنها. وهذا مثال شريعي: كل وطء صح علم الواطئ بباطنه وظاهره وحكمه فهو إما فراش وإما عهر، وكل مباحة العين للواطئ (3) فراش وكل ما ليس فراشاً فهو (4) عهر، والأمة المشتركة عهر (5) ، وكل ذي عهر عاهر، فكل واطىء أمة مشتركة عاهر وكل عاهر فله الحجر، فكل واطئ أمة مشتركة فله الحجر. فهذه المقدمات كلها أنتجت أن كل واطئ أمة مشتركة فله الحجر. 6 - باب من البرهان شرطي اللفظ قاطع المعنى مثاله: إن وصف شيء بالإسكار وصف بالتحريم، ونبيذ التين إذا إلى وصف بالإسكار، فالتحريم واجب لنبيذ التين إذا إلى. فهذا كما ترى ظاهره أن الوصف بالتحريم إنما هو معلق بالإسكار فإذا أردت أن تجعله قاطعاً في لفظه قلت: التحريم حكم كل مسكر، وبعض المسكرات نبيذ التين إذا غلى، فالتحريم حكم نبيذ التين

_ (1) لك: سقطت من س. (2) س: المخالفين. (3) م: للوطء. (4) فهو: سقطت من س. (5) والأمة ... عهر: سقط من م.

إذا غلى (1) . وقد غالط في هذا الباب قوم من المشغبين فقالوا: قد قطعتم بأن نافيتين لا تنتج إنتاجاً موثوقاً به، وأنتم في بعض هذه الأبواب التي خلت تنتجون إنتاجاً مطرداً من نافيتين، وفي هذا الباب أيضاً كقولكم (2) من لم يكن ضحاكاً لم يكن إنساناً، والفرس ليس ضحاكاً، فالفرس ليس إنساناً. وتقولون: كل من لم يؤمن فليس مقبولاً من الله عز وجل، والوثني ليس مؤمناً (3) ، فليس مقبولاً من الله عز وجل. فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إن النفي الذي أبعدنا إقامة البرهان المطرد منه هو (4) كل نفي مجرد وهو كل نفي لم يوجب (5) للمخبر عنه صفة أصلاً، فسواء إذا كان النفي بهذه الصفة أي بلفظ النفي أو بلفظ الإيجاب لا (6) ينتج أبداً شيئاً، وسنذكر شيئاً من هذا في باب مفرد في هذا الديوان في ذكر مغالطات (7) [61ظ] رامها بعض المغالطين في الأشكال، إن شاء الله عز وجل. وأما ما كان نفياً في اللفظ (8) وهو يوجب معنى وصفة ما للمخبر عنه فهذا ليس نفياً ولكنه إيجاب صحيح، وإنما يراعى المعنى الذي يعطيه اللفظ لا صيغة اللفظ وحده. ومن هاهنا لم يلزمنا تشبيه الباري عز وجل في نفينا عنه أشياء هي أيضاً منفية (9) عن كثير من خلقه إلا أن ذلك لم يوجب تشبيهه (10) تعالى كقولنا (11) . إن الباري تعالى ليس جسماً، والعرض ليس جسماً، والباري تعالى ليس عرضاً، والجسم ليس عرضاً، لأنا في هذا النفي لم نثبت للباري حالاً يشترك فيها مع العرض إذ نفينا عنه الجسمية، ولا مع الجسم إذ نفينا عنه العرضية، وهذا هو

_ (1) فالتحريم ... غلى: سقط من م. (2) م: كقولك. (3) م: لم يؤمن. (4) هو: سقطت من س. (5) سقطت " لم " من س، وورد فيها " موجب " بدل " يوجب ". (6) س: فلا. (7) س: مخلطات. (8) م: وأما كل نفي في لفظه. (9) م: منتفية. (10) م: شبهه. (11) زاد في م: بما انتفى عنه ما انتفى عن الباري تعالى.

النفي المجرد المحض. وأما في القضايا التي ذكرنا آنفاً فإننا أوجبنا فيها الضحك لمن كان إنساناً، وأوجبنا للفرس نفي الإنسانية، وأوجبنا له بذلك شبهاً مع كل من ليس ضحاكاً في أنهم ليسوا ناساً. وكذلك أوجبنا لمن لم يؤمن ضد القبول، وهو التبرؤ، وأوجبنا ضد الإيمان، وهو الكفر للوثني. وقد قدمنا أن المعنى إذا أنحصر إلى شيئين فنفيت أحدهما فقد أوجبت الآخر ضرورة فاحفظ هذا وإذا نفيتهما معاً (1) فلم توجب شيئاً أصلاً، وإذا نفيت النفي فقد أوجبت ضرورة وإذا أوجبت النفي فقد نفيت بلا شك. فثقف هذا كله يثلج (2) يقينك بصحة علمك. 7 - باب من البرهان يؤخذ من نتيجة كذب بأن يصدق نفيها اعلم أنه إذا كانت (3) إحدى المقدمتين كذباً والأخرى صدقاً فأنتجت نتيجة كاذبة ظاهرة الكذب وكانت المقدمة الكاذبة مما رضيها خصمك سامحته في ذلك لتريه فحش إنتاجه (4) ؛ فإن الشيء إذا كذب فنفيه حق لا شك في ذلك (5) ، فإذا كذبت نتيجة ما فنفيها حق. فقد يصح أخذ البرهان على هذا الوجه صحة مطردة موثوقاً بها أبداً. مثال ذلك: إنسان (6) خالفك فقال: العالم أزلي، فقلت له (7) : أنا أسامحك في تقديم هذه المقدمة فأقول: العالم أزلي وأضيف إليها صحيحة أخرى (8) وهي الأزلي ليس مؤلفاً فالنتيجة: العالم ليس مؤلفاً (9) ، وهذا كذب ظاهر وإذا كان هذا كذباً فنقيضه حق، وهو العالم مؤلف، وإذا كان هذا حقاً وقد قدمنا أن الأزلي ليس مؤلفاً فقد صح أن العالم ليس أزلياً إذ هو مؤلف، وظهر كذب مقدمته، إذ قال: العالم

_ (1) معاً: سقطت من س. (2) يثلج: ينتج في س (دون إعجام) . (3) م: كان. (4) م: فسامحته فيها ... إنتاجها. (5) في ذلك: سقط من س. (6) م: كإنسان. (7) له: سقطت من م. (8) م: أخرى صحيحة. (9) م: فالعالم.

أزلي. فهذا استدلال صحيح لا [62و] يخون (1) أبداً إذا أخذ مما يخالف النتيجة وترد (2) النتيجة إلى الإحالة. وتذكر هاهنا (3) ما كتبت لك في أنحاء من الأشكال الثلاثة التي يصح البرهان فيها بردها إلى الإحالة. ومن ذلك أيضاً أن تقول النصارى: الفاعل الأول ثلاثة فتقول: قل بنا الفاعل ثلاثة، ثم نضيف إلى هذه المقدمة مقدمة صحيحة متيقنة وهي: والثلاثة عدد والعدد مركب من أجزائه المساوية لكله، فالثلاثة مركبة من أجزائها المساوية لجميعها، وقد قلتم الأول ثلاثة، فالأول مركب من أجزائه المساوية لجميعه وكله، وقد تيقنتم أنتم ونحن أن الأول غير مركب وغير ذي أجزاء، فالأول مركب ذو أجزاء لا مركب ولا ذو أجزاء، وهذا محال، وإذ هذا محال وصح أنه لا مركب فقد صح أنه ليس عدداً وإذ (4) صح أنه ليس عدداً فقد (5) صح أنه ليس ثلاثة، وظهر كذب مقدمتكم (6) الفاسدة، وبالله تعالى التوفيق. 8 - باب من البرهان مركب من نتائج كثيرة مأخوذة من مقدمات شتى مثال ذلك أن نقول: كل معدود فذو طرفين وكل ذي طرفين فمتناه فكل معدود متناه؛ ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان الأول فنقول: كل معدود متناه وكل متناه فذو أجزاء فالنتيجة: كل معدود فذو أجزاء. ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان الثاني فنقول: كل معدود فذو أجزاء وكل ذي أجزاء مؤلف، النتيجة: فكل معدود مؤلف. ثم (7) نأخذ نتيجة هذا البرهان الثالث فنقول كل معدود مؤلف (7) وكل مؤلف فمقارن للتأليف، النتيجة: فكل معدود مقارن للتأليف، ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان الرابع فنقول: كل معدود مقارن للتأليف، وكل مقارن للتأليف فلم يسبق التأليف، النتيجة:

_ (1) م: يخونك. (2) م: وبرد. (3) س: هنا. (4) م: فإذ. (5) فقد: سقطت من س. (6) م: مقدمتهم. (7) سقط من س. (7) سقط من س.

فكل معدود فلم يسبق التأليف، ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان الخامس فنقول: كل معدود لم يسبق التأليف (1) والعالم معدود، [فالنتيجة] : فالعالم لم يسبق التأليف (1) ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان السادس فنقول: العالم (2) لم يسبق التأليف، والتأليف محدث، [النتيجة] : فالعالم لم يسبق المحدث، ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان السابع فتقول (2) : العالم لم يسبق المحدث وما لم يسبق المحدث فمحدث مثله، النتيجة: فالعالم محدث. وقد تأتيك في هذا الباب مقدمات قاطعة وشرطية متصلة ومقسمة، واستدلال بضد ما يخرج في النتيجة، وبالجملة فإنه يتصرف لك في جميع أنواع البرهان، وكل ذلك إذا أخذته على الشروط التي قدمنا فهو موثوق بإنتاجه، والحمد لله رب العالمين (3) . 9 - باب [62ظ] من أحكام القضايا واعلم أن من القضايا قضايا ينطوي في ذكرك إياها قضايا أخر وإن كنت لم تلفظ بها وهذا المعنى يؤخذ (4) من المتلائمات ومن عكس القضايا وقد ذكرناهما (5) . وهذا نحو قولك: لا يجوز أن يكون الأزلي مؤلفاً، فقد انطوى لنا في هذا الكلام أنه لا يجوز أن يكون المؤلف أزلياً ضرورة لا بد من ذلك، وانطوى فيه (6) أيضاً أن المؤلف محدث. وكذلك إذا قلت: كل مسكر حرام، فقد انطوى فيه أن المسكر ليس حلالاً، وأن الحلال ليس مسكراً، وانطوى فيه أيضاً أن نبيذ التمر إذا أسكر حرام وأن السوكران إذا أسكر حرام، وأن نبيذ التفاح إذا أسكر حرام (7) ، وغير ذلك كثير (8) . وكذلك (9) إذا قلت: زيد يمشي فقد انطوى لك فيه أنه متحرك وأنه ذو رجل سالمة

_ (1) سقط من س. (1) سقط من س. (2) سقط من س. (2) سقط من س. (3) والحمد ... العالمين: ولله الحمد في م. (4) م: يأخذ. (5) س: ذكرناها. (6) س: فيها. (7) وإن السوكران (أصل س: السكيران) ... حرام: سقط من م. (8) كثير: سقطت من س. (9) س: كما.

وأنه حي وأشياء كثيرة. ولذلك ظن قوم ذوو شغب وجهل أننا مخطئون في قولنا إن القضية الواحدة لا (1) تنتج ولا (2) تعطيك إلا نفسها فقط، وقال آخرون منهم إن القضية الواحدة تنتج (2) وأبوا ما (3) ذكرنا، وليس ظنهم صحيحاً لأن كل ما ذكرنا ليس إنتاجاً إذ شرط معنى الإنتاج أن نستفيد من اجتماع كلتا القضيتين معنى ليس منطوياً (4) في إحداهما أصلاً فأنت إذا قلت: كل مسكر حرام فليس فيه إيجاب أن نبيذ التمر يسكر ولا بد أصلاً لكن حتى تلفظ به وتصحح له أنه قد يسكر، فإذا حققت (5) له هذه الصفة فحينئذ تقطع له بالتحريم دون شرط، وإلا فإنما هو (6) في قولك كل مسكر حرام بالإمكان إن أسكر لا بالوجوب؛ إذ في العالم أشياء كثيرة لا تسكر فلعله منها فتدبر هذا ودع المسامحة وحقق. وهذا الذي ذكرنا في هذا الباب من قضايا تفهم منها (7) قضايا لم يلفظ بها إنما هو انطواء فيها فقط (8) ، ومعنى الانطواء أننا أتينا إلى معان كثيرة فعبرنا عنها بلفظ واحداً طلباً للاختصار. وبالجملة فكل قضية (9) فجزئياتها يدخل الإخبار عنها في الإخبار بكليتها كقولك: الإنسان حي فإنك قد أخبرت أن زيداً حي وعمراً حي وخالداً حي (10) وهنداً حية، وبالجملة فكل رجل وامرأة لأنهم أجزاء الإنسان فافهم هذا. وكذلك أيضاً ينطوي (11) في كل قضية إبطال ضدها كقول الله تعالى {أن إبراهيم لأواه حليم} (التوبة:114) فقد (12) انطوى فيه نفي ضد الحلم وهو السفه،

_ (1) لا: سقطت من س. (2) سقط من س. (2) سقط من س. (3) م: وأتوا بما ذكرنا. (4) س: مطوياً. (5) س: جعلت. (6) هو: سقطت من س. (7) س: من. (8) س: الانطواء فقط فيها. (9) فكل قضية: سقط من س. (10) س: إن زيداً وعمراً أحياء. (11) م: ينطوي أيضاً. (12) م: قد.

فقد انطوى فيه ان إبراهيم ليس سفيهاً. وأما الانتاج فخلاف ذلك، وهو ما قد بيناه ولله الحمد. واعلم أيضاً أنه ليس في كل وقت [63و] يردك الكلام الذي تريد أن تجعله مقدمة على الرتب (1) التي قدمنا لك في أخذ البرهان، لكن تردك الأقوال (2) المخالفة لتلك الرتب على ثلاثة اوجه: فوجه مخالف لكل ما ذكرنا في الرتبة والمعنى فلا تلتفت إليه وحقق الرتبة والصدق على الشروط التي قدمنا لك، فليس يقوم لك من غبر ما قلنا برهان البتة. ووجه آخر فيه ألفاظ زائدة لا تصلح المعنى ولا تفسده ولو سكت عنها لم تحتج إليها فلا تبال بها، وعان أخذ البرهان من سائر الكلام الصحيح، وتلك الألفاظ الزائدة إنما تعطي معنى ليس من البرهان في شيء، ومن هذا المكان تثبت لنا إقامة الحد بشهادة شاهدين اتفقا على ما يوجب الحد ثم اختلفا في صفات لا معنى لها في الشهادة، والشهادة تامة دونها، كشاهدين شهدا على زيد أنه سرق بقرة فقال أحدهما: صفراء وقال الآخر: سوداء فإنه ليس كونها صفراء أو سوداء مما يعاند (3) سرقته لها ولا ينفيها نعني لا ينفي (4) سرقته لها، والكلام تام دون ذكر شيء من ذلك. ومن هذا الباب أيضاً نفسه ومن ضده أبطلنا إقرار من أقر بمحال كمن قال: فلان قتلته (5) بسحري لعلمنا أن السحر لا يقتل، فالزيادة التي زاد مفسدة للمعنى فهي مقدمة فاسدة، ولو أقر مرة فقال، قتلته بسيف، وقال مرة أخرى: قتلته برمح لكان إقراراً صحيحاً، لأنه ليس شيء من هذه الزيادات معاندة للقتل فسكوته عنها وذكره لها سواء إذ ليس في ذكرها ما يفسد المقدمة. ونحو هذا ما يذكره أهل الملل المخالفة لنا من أن للدنيا مذ حدثت سبعة آلاف

_ (1) س: الترتيب الذي. (2) م: قد ترد كالأقوال. (3) س: يغاير. (4) لا ينفي: سقطت من س. (5) م: قتلت فلاناً.

سنة. وقال (1) آخرون خمسة آلاف سنة (1) . وقال آخرون ستة آلاف سنة (2) . وقال آخرون أربعمائة ألف سنة وقلنا نحن لا حد عندنا في ذلك، وقد يمكن أن تكون أضعاف أضعاف هذه الأعداد كلها، وقد يمكن أن يكون أقل من ذلك، فكل هذه الأقوال ليس بكادح في اتفاقنا على أن للعالم أولاً ومبدأً (3) . وهذه كلها ألفاظ لسنا نقول إنها لا تفسد المبدأ والحدوث (4) فقط، لكنا لا نقتصر على كل (5) ذلك حتى نقول: بل إنها كلها على اختلافها موجبة للحدوث والمبدأ، فلسنا نستضر باختلاف مثل هذه الألفاظ ولا بزيادتها ولا بنقصانها (6) إذا أعطت صحة المعنى المطلوب ولم تفسده. والوجه الثالث أن يأتي بلفظ (7) قد قام البرهان على وجوب الانقياد إليه (8) فنحتاج إلى أخذه في المقدمات بيننا وبين من خالفنا [63ظ] في بعض الآراء ممن يقر معنا بذلك اللفظ وينقاد له، وفي ذلك اللفظ حذف بين ولفظ قد ترك ذكره ولا (9) يقدر خصمنا على إنكار ذلك ولا يضر ذلك الحذف شيئاً أو هو (10) كما لو ذكر ولا فرق، إذا تيقن كونه قائماً في المعنى، وذلك نحو مقدمة نأخذها من قول الله عز وجل: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء:43) فلا شك عند السامع لهذه الآية، إن كان له أدنى فهم للسان العربي وأقل معرفة بالملة الإسلامية، أن

_ (1) وقع في م آخراً. (1) وقع في م آخراً. (2) وقع هذا بعد الجملة التالية، في م. (3) كذب من ادعى لمدة الدنيا عدداً معلوماً: عالج ابن حرم هذا الموضوع في الفصل 2: 105 فقال: وأما اختلاف الناس في التاريخ فإن اليهود يقولون للدنيا أربعة آلاف سنة ونيف، والنصارى يقولون: للدنيا خمسة آلاف سنة؛ وأما نحن فلا نقطع على عدد معروف عندنا. وأما من ادعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقل فقد كذب، وقال ما لم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لفظة تصح عنه عليه السلام خلافه. (4) س: والحدث. (5) كل: سقطت من م. (6) م: أو نقصها. (7) م: لفظ. (8) م: له. (9) م: لا. (10) س: وهو.

هاهنا (1) معنى به إليه ضرورة قد (2) حذف من اللفظ اكتفاء بأنه لا يخفى ذلك أصلاً وهي " فأحدثتم " ومكان معنى هذه اللفظة بين " سفر " وبين " أو جاء " وكذلك إن احتجنا إلى مقدمة أخرى من قوله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} (المائدة:89) فلا شك عند أحد (3) من أهل الملة الإسلامية واللغة العربية أن المعنى " فحنثتم ". وقد يكون الحذف على رتبة أخرى، وهو أن يوجب اللفظ في بنية اللغة ارتباطاً بمعنى لم يذكر ولا بد من تصحيحه كقول القائل: فلان تاب، فلا يحيل (4) على سامع أنه أذنب، وفلان أرتد فلا يحيل على سامع أنه قد كان مسلماً، وهذا المال موزون فلا يحيل على سامع أنه بميزان، ومثل هذا كثير، فمثل هذا الحذف لا يضر الكلام شيئاً، والكلام صحيح، وأخذ المقدمات منه للبرهان واجب وإثبات المعنى للمحذوف (5) فيها لازم، ولا يتعلل في مثل هذا الحذف إلا جاهل غبي أو مكابر سخيف أو منقطع متسلل (6) . وكذلك إذا قلت ضرب زيد بالسيف عمراً فأبان رأسه أنتجت (7) أن زيداً قتل عمراً وهذا إنتاج صادق صحيح (8) وتقديم صحيح ولا يضرك إن حذفت من المقدمة: وكل من أبين رأسه مقتول، وكل من أبان رأس غيره فقد قتله ففلان قتل فلاناً. وكذلك قوله عز وجل: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} (البقرة:196) فهذا إنتاج صحيح مكتفى به عن أن نقول سبعة وثلاثة مساوية لعشرة، فتلك عشرة، لصحة العلم بذلك. فافهم الآن من هذا الباب أن خلاف الرتب التي قدمت لك (9) لا يكون إلا على

_ (1) س: هنا. (2) م: وقد. (3) س: عند من له لسان. (4) س: يحتل (حيث وقع) . (5) م: المحذوف. (6) كذلك هي حيثما وردت في الفصل 2: 180 متسلل عنه. (7) م: فأنتجت. (8) م: صحيح صادق. (9) لك: سقطت من س.

ثلاثة أوجه: فساد الرتبة والمعنى فاطرحه، وزيادة في (1) اللفظ فإن كانت تفسد (2) المعنى فاطرحه، وإن كانت (3) لا تفسده فلا تبال بها (3) فلن يضرك، وحذف من اللفظ فإن كان يفسد المعنى فاطرحه وإن كان لا يفسده فلا تبال به [64و] فلن يضرك، وثقف هذا كله فالمنفعة به عظيمة جداً. واعلم أن الخصم إذا أقر لك بالمقدمتين اللتين على الشروط التي قدمنا من الصحة وأنكر النتيجة فقد تناقض وسقط وبطل قوله، وكذلك إن كانت النتيجة كاذبة على ما قدمنا فوجب عليه تصديق ضدها على ما قدمنا من البرهان الذي يؤخذ من ضد النتيجة الكاذبة التي يسامح الخصم في أخذ (4) المقدمات فيه (5) ، فإن صدق ذلك الضد فقد راجع الحق ولزمه أن يكذب مقدمته الفاسدة، وإن صدق النتيجة ولم يرجع عن تكذيب مقدمته الفاسدة فقد صدق الشيء وضده وهذا (6) محال، ومن أنكر الحق وصدق الباطل أو صدق الشيء وضده (6) أو أنكرهما جميعاً فقد سخف وسقط الكلام معه وبان بطلان قوله، وبالله تعالى التوفيق، وله الأمر من قبل ومن بعد لا إله إلا هو. ولا تغلط فتقدر أن من وافقك في قولك فقد لزمه ما لزمك فهذا جهل ممن أراد إلزام خصمه، أو شغب. واعلم أن موافقة الخصم للخصم (7) تنقسم قسمين: أحدهما موافقة في النتيجة فقط دون موافقة له في المقدمات المنتجة للنتيجة، فهذا هو الذي قلنا لك أن لا تغتر (8) به إذ إنما وافقك على ذلك لتقديمه مقدمات أخر أنتجت تلك النتيجة إما هي فاسدة وإما مقدماتك فاسدة، فإن هذا وإن أدخلته مقدماته في موافقتك الآن فهي مخرجة له عما قليل إلى مخالفتك. والوجه الثاني أن يوافقك على مقدماتك فهذا الوفاق اللازم

_ (1) في: من م وحدها. (2) س: كان يفسد. (3) س: كان ... به. (3) س: كان ... به. (4) س: إحدى. (5) فيه: سقطت من س. (6) سقط من س. (6) سقط من س. (7) المخصم: سقط من م. (8) س: تعبر.

الذي تقوم به الحجة إن كانت صحاحاً بالجملة أو تقوم به على الخصمين معاً الحجة فقط على كل حال صحاحاً كانت أو غير صحاح لالتزامهما إياها. فإن قال قائل: كيف تختلف المقدمات وتنتج نتيجة واحدة لا سيما وأحد العملين في بعض المقدمات حق والعمل الثاني باطل، فقد صار الحق والباطل ينتجان إنتاجاً واحداً، فليتذكر (1) على ما ذكرناه قبل أن نبدأ بذكر أنحاء الأشكال من أنه قد تكون مقدمات فاسدة (2) تنتج إنتاجاً صحيحاً وبيناها هنالك وما نذكره (3) إثر هذا الباب، فمذكور (4) هنالك تقديم مقدمتين نافيتين فنقول لك (5) : ليس كل إنسان حجراً ولا كل حجر حماراً النتيجة: ليس كل إنسان حماراً. وقلنا هنالك إن هذا تقديم غرار خوان (6) لأنك إذا وثقت به واستسلمت إليه قدم إليك (7) مثلها فقال: ليس كل إنسان أسود وليس كل أسود حياً، النتيجة: ليس كل أسود حياً (8) فهذا تقديم فاسد، قد (9) ينتج إنتاجاً يوافق [64ظ] الإنتاج الصحيح في بعض المواضع، إلا أنك إن اتبعته فكما أدخلك في الحقيقة في مكان فكذلك يخرجك منها في آخر (10) . وقد بينا هذا هنالك وفي الباب الذي يتلو هذا الباب ولم ندع للإشكال إليك سبيلاً. وكثيراً ما يحتج علينا اليهود بأنا قد وافقناهم على أن دينهم قد كان حقاً وأن نبيهم (11) حق، ويريدون من هاهنا إلزامنا الإقرار به حتى الآن، فاضبط هذا المكان، واعلم أنا إنما وافقناهم على مقدماتهم، وهي (12) مقدمات أنتجت لنا موافقتهم فيما

_ (1) س: فليذكر. (2) م: فواسد. (3) م: نذكر. (4) م: فمما ذكرنا. (5) لك: سقطت من م. (6) م: حوار. (7) م: لك. (8) النتيجة ... حياً: سقط من م. (9) س: وقد. (10) س: الآخر. (11) س: ونبيهم. (12) مقدماتهم وهي: سقطت من م.

ذكروا، فأضربوا عن تلك (1) المقدمات واتباعها فيما أنتجت وتعلقوا بالموافقة في النتيجة فقط. فلا تغتر بموافقة في النتيجة أصلاً حتى تصحح المقدمات؛ وإنما صححنا نحن وهم أن من ثبت أنه أتى بمعجزات فهو نبي، وموسى، عليه السلام، أتى بمعجزات، النتيجة (2) : فموسى نبي، وهذه المقدمة نفسها تنتج نبوة محمد، صلى الله عليه وسلم، فنقول: كل من أتى بمعجزات فهو نبي، ومحمد صلى الله عليه وسلم أتى بمعجزات (3) فهو نبي، فاضبط هذا جداً. وقد وافقنا أصحاب القياس في نتائج كثيرة إلا أن مقدماتهم غير مقدماتنا فليس إلزامنا إياهم ولا إلزامهم إيانا رافعاً (4) الشغب بتلك النتائج واجباً لكن حتى نتفق على المقدمات الموجبة لها. فإن شغب مشغب فقال: قد رأينا (5) مقدمات يختلف إنتاجها، وذكر استدلال الخارجي والمرجىء بقول الله عز وجل: {لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى} (الليل:15،16) فإن الخارجي قال: قد صحت آثار وآيات بأن القاتل يصلاها ولا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى، فالقاتل هو الأشقى الذي كذب وتولى. وقال المرجئ: قد صحت آثار (6) وآيات بأن المقر بالتوحيد والإيمان يدخل الجنة، والنار لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى، فالزاني (7) لم يكذب ولا تولى فالزاني لا يصلاها. فأعلم ان هذا من البرهان (8) الذي نبهتك عليه (9) فتذكر عليه، إذ أخبرتك أن من المقدمات المقبولة كلاماً فيه حذف، والحذف في هذه المقدمات التي قدر الجاهل (10) أنها أنتجت إنتاجاً مختلفاً هو شيء قد دل عليه البرهان، وهو أن (11) المراد لا يصلاها صلي خلود

_ (1) تلك: في س وحدها. (2) النتيجة: في م وحدها. (3) س: بمعجزة. (4) رافعاً: سقطت من م. (5) س: أبنا لكم. (6) م: أخبار. (7) م: والزاني. (8) م: من الباب من البرهان. (9) م: له. (10) م: الجهال. (11) أن: سقطت من س.

وأنها (1) نار بعينها من جملة نار جهنم لا يصلى تلك النار إلا أهل هذه الصفة، وليس في هذا أن كل نار في جهنم لا يصلاها إلا أهل هذه الصفة (1) . وهذا أيضاً مما ينبغي أن تتحفظ منه بأن تستوعب كل ما هو متصل بالمقدمات وإلا فهي مقدمات ناقصة، وليست في (2) هذه الآية وحدها مقبولة عندنا لكن معها (3) آيات [65و] كثيرة وأخبار كثيرة فضمها كلها بعضها إلى بعض (4) ولا تأخذ بعض الكلام دون بعض فتفسد المعاني، وأحذرك من شغب قوم في هذا المكان (5) إذا ناظروا ضبطوا على آية (6) واحدة أو حديث واحد، وهذا سقوط شديد وجهل مفرط إذ ليس ما ضبطوا عليه أولى بان يتخذ مقدمة يرجع إلى إنتاجها من آيات أخر وأحاديث أخر، وهذا تحكم وسفسطة فاحذره أيضاً جداً. 10 - باب أغاليط أوردناها خوفاً من تشغيب مشغب بها في البرهان وينبغي أن تتحفظ من أغاليط شغب (7) بها مشغبون وقحاء في عكس المقدمات وفي الأشكال، وقد ذكرنا في بعض الأبواب الخالية نبذاً من هذا، فمن ذلك أنا قد قلنا: إن النافية الكلية تنعكس نافية كلية، فإن قال لك قائل: لا فارسي إلا أعجمي، هذا حق، وعكسها لا أعجمي إلا فارسي، كذب. فتنبه لموضع المغالطة، واعلم أن هذه القضية موجبة لا نافية وإن كان ظاهرها النفي، وتذكر ما قلنا لك في الباب المترجم بأنه (8) باب من البرهان شرطي اللفظ قاطع المعنى في الإنتاج من مقدمتين ظاهرهما أنهما نافيتان فإن ذلك يبين لك هذا المكان.

_ (1) سقط من م. (1) سقط من م. (2) في: سقطت من م. (3) معها: سقطت من س. (4) س: فنضمها كلها إلى بعضها بعض. (5) في هذا المكان: سقطت من س. (6) س: على أنه آية. (7) شغب: مكررة في س؛ م: تشغب. (8) س: في هذا ... فإنه.

ونزيد هاهنا بياناً فنقول: ألا ترى أنك قد أوجبت العجمة لكل فارسي فهذه موجبة كلية وليست نافية البتة، وإذ هي كذلك فعكسها موجبة جزئية، وهي قولك: وبعض الأعجمين فارسي؛ وكذلك قولك: ليس شيء من الجوهر محمولاً في عرض، فهذه صادقة، فإذا عكست فقلت: ولا شيء من الأعراض محمولاً في الجوهر، فهذا كذب. فتفهم موضع المغالطة في (1) هذا الباب، وهو أن العكس الذي ذكرنا حكمه في النوافي وصححناه إنما هو في نفي اشتباه الذاتين أو في نفي اشتباه جزئيهما ولم نرد نفي اشتباه غيرهما. وهاهنا إنما نفيت اشتباه موضع الجوهر وموضع العرض، وموضعهما غيرهما، وموضع كل شيء فهو غير الشيء الذي في الموضع بلا شك. وتحفظ أيضاً من المغالطة الواقعة (2) في عكس الموجبة الكلية بأن يقال لك: أليس كل ماض من الزمن قد كان مستقبلاً، فلا بد من نعم، فيقال لك: فبعض المستقبل قد كان ماضياً، وهذا كذب، فتحفظ من موضع المغالطة هاهنا، وهو أنه إنما دخل الكلام (3) الغلط من التسوية بين زمانين هما غير الصفتين اللتين هما المضي والاستقبال، المضي (4) خبر عن شيء كان موجوداً حال المستقبل، لأن المستقبل عدم ولا حال للعدم (4) . ويقتضي لفظ [65ظ] المخبر عنهما اختلافهما لا التسوية بينهما، وتصحيح ذلك أن تقول: بعض المستقبل يصير ماضياً أو قد صار ماضياً وهذا (5) صحيح. وتحفظ أيضاً من غلط يقع في عكس الموجبة الجزئية. مثاله: بعض الخمر قد كان عصيراً، فإن قلت: بعض العصير قد كان خمراً كذبت. والغلط أيضاً هاهنا من قبل تسويتك بين زماني المخبر عنهما، وزمانهما غيرهما، وإنما يصح العكس في الصفات الملازمة للمخبر عنهما لا في الصفات اللازمة لغيرهما. وتصحيح ذلك أن

_ (1) س: من. (2) م: غلط يقع. (3) الكلام: سقطت من م. (4) سقط من م. (4) سقط من م. (5) م: فهذا.

تقول: وبعض العصير صار خمراً أو يصير خمراً؛ فاحفظ الآن أن العكس الصحيح إنما هو في الذوات أو في الصفات الملازمة للذوات. وقد غالط (1) أيضاً بعض النوكى ممن مذهبه إفساد الحقائق والجري إلى غير غاية وطلب ما لا يدري هو فكيف غيره فقال: إن الشكل الأول قد يكذب فيقول: الفرس وحده صهال، والصهال حي، فالفرس وحده حي. فإنما أتى الغلط هاهنا من زيادة زيدت تفسد المعنى وهي " وحده "، فتذكر ما قلت لك في الباب الذي قبل هذا الباب من حكم اللفظ الزائد في المقدمات فاسدات اللفظ (2) والرتبة؛ فتأمل الألفاظ الزائدة كما حددت لك، وأعلم أن الموصوف في النتيجة ليس مقتضياً لأن تلك الصفة لا تكون إلا له ولا بد، بل قد تعمه وتعم غيره. ونزيدك بياناً ليقوى تحفظك من تخليط كل (3) من لا يتقي الله عز وجل في السعي في إفساد الحقائق من المدلسين الذين هم أحق بالنكال من المدلسين في النقود والبيوع، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من غشنا فليس منا " (4) ولا غش أعظم من غش في إبطال الحقائق فنقول، وبالله تعالى التوفيق: تأمل ضعف هذا المدلس فإنه إذا قطع بأن الفرس وحده صهال، فقد صح بلا شك أن الصهال وحده فرس، لأن الصهيل صفة مساوية للفرس ليست أعم منه وقد نبهناك على هذا في باب عكس القضايا فلما أتى هذا المدلس بقضية توجب أن الصهال وحده فرس قال: والصهال حي، بعد أن شرط انفراد الصهال بالفرسية، وأدرج في قوله الصهال حي أنه الصهال المراد بالذكر في المقدمة الأولى، فأوجب برتبة لفظه أن وصف الصهال بالجياة وصف مساو لا أنه وصف أعم، فصار قائلاً الصهال وحده حي، فهذه المقدمة الثانية مموهة كما ترى، وهي كاذبة لأنها وضعت موضع كذب وشبهت بالحقائق (5) ، فلكذب المقدمة كذبت النتيجة. وقد بينت [26و] لك أن كذب المقدمة الثانية إنما كان لأنه

_ (1) س: غالط قوم. (2) م: فأسأت النظم. (3) كل: سقطت من م. (4) الحديث في الجامع الصغير 2: 176 وقد أورده الترمذي. (5) م: بالحق.

بناها كلية اللفظ على موصوف جزئي، فتفهم هذا وتحفظ من أهل الرقاعة جداً. وإنما كان الصواب أن يقول في النتيجة فالفرس حي، ولا يذكر " وحده " لأن " وحده " في الحقيقة مع " صهال " خبر عن الفرس، وليس لفظ " وحده " تابعاً للفرس فيذكر في النتيجة، لكنه تابع للصهال - وهو الحد المشترك - ولو ذكره في المقدمة الثانية مع الصهال فقال الفرس وحده صهال، وهو وحده (1) صهال حي، فالفرس حي لأصاب. ومن ذلك أيضاً لو قال قائل وهو يشير إلى رجل بعينه: الإنسان طبيب، لكان هذا اللفظ عاماً وباطنه الخصوص، فلو حمل عليه وصفاً يجب أن لا يقع إلا على معنى عام لكان كاذباً. وقد سأل بعض المغالطين طبيباً فقال له: الحر يحلل (2) قال له نعم، فقال له: والبرد يحلل (3) قال له نعم، فقال له: فالحر هو البرد والبرد هو الحر؛ فقال له الطبيب: إن وجهي تحليلهما (4) مختلف وليس من أجل اتفاقهما في صفة ما وجب أن يكون كل واحد منهما هو الآخر، فلج المشغب وأبى، فلما رأى الطبيب جنونه وتراقعه (5) قال له: أنت حي قال نعم قال: والكلب حي قال نعم قال: فانت الكلب والكلب أنت. واعلم أن هاتين الشغيبتين من الشكل الثاني، وقد أسيء (6) في رتبتهما لأن الشرط في الشكل الثاني أن تكون إحدى مقدمتيه نافية ولا بد، فافهم هذا واضبطه فإنه لا يخونك أبداً. ولا تلتفت إلى أهل الشغب فإن مثل (7) هؤلاء إنما يجرون مجرى المضحكين لسخفاء الملوك والملهين (8) لضعفاء المطاعين، وليسوا من أهل الحقائق أصلاً، فلا تعبأ بهم شيئاً.

_ (1) وهو وحده: الوحدة في م وأصل س. (2) س: يحلل البرد. (3) س: يحلل الحر. (4) س: تحليلها. (5) س: وترتعه. (6) س: أساء. (7) م: فمثل. (8) م: والمهلكين.

وقالوا أيضاً: قد وجدنا (1) موجبتين لا تنتج وهي: ممتنع أن يكون الإنسان حجراً، وممتنع أن يكون الحجر حياً فهاتان صادقتان، النتيجة: ممتنع أن يكون الإنسان حياً، وهذا كذب، فافهم أيضاً موضع المغالطة هاهنا وهي: أن هاتين المقدمتين نافيتان نفياً مجرداً ليس فيه شيء من الإيجاب أصلاً، وقد قلنا إن نافيتين لا تنتج، وقد ذكرنا لك قبل أن المراعى إنما هو حقيقة المعنى المفهوم من اللفظ لا صيغة اللفظ وحدها، وهاتان المقدمتان وإن كانتا بلفظ الإيجاب فمعناها النفي المجرد المحض لأنهما نفتا عن [66ظ] الإنسان الحجرية وعن الحجر الحياة ولم توجبا للحجر ولا للإنسان معنى أصلاً غي ما أوجبه لهما (2) اسماهما فقط. وقد غالطوا أيضاً فقالوا: كل نهاق حي، ولا واحد من الناس نهاق (3) ، فهاتان صادقتان، النتيجة: فلا واحد من الناس حي، وهو كذب. وإنما أتت المغالطة من أجل أن (4) الصفة التي وصف بها النهاق تعم النهاق وتعم أيضاً معه الشيء الذي نفي عنه النهاق، فهذا سوء نظم. وإنما ينبغي له أن تصفه (5) بما لا يشركه فيه الذي نفى عنه مشاركته جملة في المقدمة الثانية. ومن هذا الباب أن نقول: ليس كل آخذ مال بغير حقه سارقاً، وكل آخذ مال بغير حقه وهو عالم به فاسق، فهاتان صادقتان، النتيجة: فليس كل آخذ مال بغير حقه وهو عالم به فاسقاً، وهذا كذب، وإنما أتت المغالطة لأنك وصفت آخذ المال بغير حقه في المقدمة الموجبة بصفة تعمه وتعم كل سارق معه، وإنما كان ينبغي أن تصفه بما لا يشترك معه فيه من نفيت عنه (6) في الأخرى مشاركته إياه. وقد غالطوا أيضاً من قبل إسقاط شيء من الموصوف فقالوا: الشعر غير (7) موجود

_ (1) م: وجد. (2) م: له. (3) زاد في س: حي. (4) أن: سقطت من س. (5) س: تشركه. (6) عنه: سقطت من م. (7) س: غير شي.

في شيء من العظام، والعظام موجودة في كل إنسان فهاتان صادقتان، النتيجة: فالشعر غير موجود في شيء من الإنسان، وهذا كذب، وهذه مغالطة قبيحة، لأن الموضوع وهو المخبر عنه المقصود بالوصف في المقدمة الأولى إنما هي العظام، لأنه عنها نفى الشعر ثم أثبت ذكر العظام في المقدمة الثانية في أن وصف مكانها فقط، وقد قدمنا أن الشبه بالإيجاب لا يكون إلا في ذاتي المخبر عنهما وفي الصفات الملازمة لهما لا في مواضعهما؛ إلا أنك لو صححت لقلت: فالشعر ليس في شيء من عظام الإنسان، وأيضاً فإن قوة هاتين المقدمتين قوة جزئية لأن العظام بعض من أبعاض الإنسان وليست (1) كل الإنسان، والشعر إنما هو في بعض الإنسان (1) لا في كله، وجزئيتان لا تنتج، فتذكر على ما قلنا لك قبل من ان الحد المشترك لا بد من أن يكون مخبراً عنه في إحدى المقدمتين وخبراً في الأخرى أو مخبراً عنه في كلتيهما أو خبراً في كلتيهما. فإن كان مخبراً عنه في الواحدة وخبراً في الثانية فانظر، فإن كانتا موجبتين فلا بد من أن يكون الوصف به لما وصف به ذاتياً عاماً له كله، ويكون أيضاً المخبر عنه معموماً في المقدمة الأخرى بما صار وصفاً له فيها، فإن كانت إحداهما نافية فليكن النفي الذي وصفت به المنفي عنه في إحدى المقدمتين منتفياً في الحقيقة عنه وعن الموصوف في (2) الأخرى بذلك الموصوف في هذه [67و] لأن الشيء الموصوف في إحدى المقدمتين هو صفة في الأخرى، فإن كان موصوفاً به في كلتا المقدمتين فلا بد من أن تكون إحدى المقدمتين نافية، فليكن حينئذ الذي نفيت في الواحدة عاماً لما نفيته عنه ومنتفياً عن الموصوف في الثانية، على حسب ما تنصه (3) فيها. فإن كان موصوفاً في كلتيهما فافعل في الموجبتين ما قلنا لك (4) في الشكل الأول، وافعل في التي إحداهما نافية ما قلنا لك في الشكل الثاني، والله الموفق للصواب.

_ (1) سقط من س. (1) سقط من س. (2) الموصوف في: سقط من س. (3) س: ينصه. (4) لك: سقطت من س.

11 - باب من أحكام البرهان (1) في الشرائع على الرتب التي (2) قدمنا الألفاظ الواردة في الشرائع اللازم الانقياد لها بعد ثبوتها التي إليها يرجع فيما اختلف فيه منها، إما قول عام كلي ذو سور، أو ما يجري مجرى ذي السور من المهمل الذي قوته في اللغة قوة ذي السور، أو من الخبر الذي يفهم منه ما يفهم من الأمر، والأمر أيضاً هو على عموم المعنى، إلا حيث نبين (3) بعد هذا إن شاء الله عز وجل. وذلك نحو قوله، عليه السلام، " كل مسكر حرام " فهذا كلي ذو سور، أو كقوله عز وجل: {وأحل الله البيع} (البقرة:275) فهذا مهمل قوته قوة كلي ذي سور، وكقوله عز وجل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} (المائدة: 90) فهذا أمر عام، ومثله قوله عز وجل: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (النساء: 58) . ثم هذه الوجوه الثلاثة ينقسم كل واحد منها أربعة أقسام: أحدهما كلي اللفظ كلي المعنى، والثاني جزئي اللفظ جزئي المعنى وهو ما حكم به في بعض النوع دون بعض. وهذا النوع أيضاً فتنبه لما أقول لك هو أيضاً عموم لما اقتضاه لفظة، وهذا النوع والذي قبله معلومان بأنفسهما جاريان على حسب موضوعهما في اللغة لا يحتاجان إلى دليل على أنهما يقتضيان ما يفهم منهما (4) ، ولو احتاجا إلى دليل لما كان ذلك الدليل إلا لفظاً يعبر عن معناه، فما كان يكون هذا (5) المدلول عليه بأفقر إلى دليل من الذي هو عليه دليل، وهذا يقتضي ألا يثبت شيء أبداً، وفي هذا بطلان الحقائق كلها، ووجود أدلة موجودات لا أوائل لها، وهذا محال فاسد، والمعلوم بأول العقل أن اللفظ يفهم (6) منه معناه لا بعض معناه ولا شيء ليس (7) من معناه. ولذلك وضعت اللغات ليفهم من الألفاظ معانيها (8) .

_ (1) م: البراهين. (2) م: الذي. (3) س: يتبين. (4) س: عنهما. (5) هذا: سقط من س. (6) يفهم: سقطت من س. (7) ليس: لم ترد في س. (8) س: معناها.

والقسم الثالث جزئي اللفظ كلي المعنى، وهو ما جاء اللفظ به في بعض النوع دون بعضه إلا أن ذلك الحكم شامل لسائر ذلك النوع، وهذا لا يعلم [67ظ] من ذلك اللفظ الجزئي لكن من لفظ آخر وارد بنقل حكم هذا الجزئي إلى سائر النوع. والقسم الرابع كلي اللفظ جزئي المعنى وهو ما جاء بلفظ عام والمراد به بعض ما اقتضاه ذلك اللفظ، إلا أن هذا القسم والذي قبله لا يفهم معنياهما من ألفاظهما أصلاً لكن ببرهان من لفظ آخر أو بديهة عقل أو حس يبين كل ذلك أنه إنما أريد به بعض ما يقتضيه لفظة دون ما يقتضيه (1) ذلك اللفظ. ولولا البرهان الذي ذكرنا لما جاز أصلاً أن ينقل عن موضوعه (2) في اللغة ولا أن يخص به بعض ما هو مسمى به دون سائر كل ما هو مسمى بذلك اللفظ. فأما النوع الذي هو كلي اللفظ جزئي المعنى فهو كقول الناس في معهود خطابهم " فسد الناس " وإنما المراد بعضهم، وهذا يعلم ببديهة العقل، لأن الناس لا يفسدون كلهم إلا بذهاب الفضائل جملة، والفضائل أجناس وأنواع مرتبة في بنية العالم، ولا سبيل إلى عدم نوع بأسرة جملة حتى لا يوجد في العالم أصلاً. وكقول القائل " الماء للعطشان حياة " إنما يريد بعض المياه، وهذا يعلم بالحس لأن ماء البحور (3) والمياه المرة ليست حياة للعطشان. ومن هذا النحو قول الله عز وجل: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} (آل عمران:173) وهذا معلوم بالعقل أنه تعالى إنما عنى بعض الناس لأنه ممتنع لقاء جميع الناس لهم مخبرين؛ ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (المائدة: 6) وإنما المراد به (4) بعض أحوال القيام إلى الصلاة دون بعض، وهي حال كون المرء محدثاً، وهذا إنما علم ببيان آخر. وأعلم أن المراد بهذا اللفظ ما ذكرنا، وهذا مستعمل كثيراً في الكلام، إلا أنه (5) لا بد من برهان يعدله عما وضع عبارة عنه في اللغة، وإلا فهو تحكم من مدعيه وإفساد للبيان الذي يقع به التفاهم. وليت شعري هل إذا لم يكن

_ (1) لفظه ... يقتضيه: سقط من س. (2) س: موضعه. (3) م: البحر. (4) به: من ذلك في س. (5) م: لأنه.

اللفظ عبارة عن المعنى ولم يكن لكل معنى عبارة (1) معلومة له فكيف يريد أن يصنع المساوي بين هذه الألفاظ الذي لا يحملها على أنها كلية بهيئتها، أو يقول بالتوقف حتى يلوح له المراد، وبأي شيء يريد يفرق بين المعاني بزعمه هل يجد شيئاً غير لفظ آخر وهل ذلك اللفظ الآخر في احتمال التشكك (2) في المراد به في (3) معناه إلا كهذا اللفظ الأول، ولا فرق وهكذا أبداً. ولو صح هذا لبطلت فضيلتنا على البهائم، إذا (4) لم يقع لنا التفاهم بالأسماء الواقعة على المسميات، وينبغي للعاقل أن لا يرضى لنفسه [68و] بكل كلام أداه إلى إبطال التفاهم، فإن ذلك خروج عن ثقاف العقل وهزء بنعم الأول الواحد المتفضل علينا بهذه القوى العظيمة التي بها استحققنا أن يخاطبنا. ومما خرج بالأدلة الصحاح عن بعض ما يقتضيه ظاهر لفظه قوله تعالى في آية التحريم (5) : {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} (النساء:23) وقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (النور:2) {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً} (المائدة:38) وكثير من مثل هذا، فلولا براهين مقبولة من ألفاظ أخر بينت لنا أن المراد بالتحريم بعض المرضعات والمرضعات، وبعض (6) الزواني والزناة دون بعض، وبعض السراق دون بعض، لوجب حمل هذه الألفاظ على كل ماهو (7) مسمى بها، وإن كان البعض أيضاً من هذه المعاني يقع عليه الأسم الذي يقع على الكل. وأما اللفظ الجزئي الذي يدخل فيه معنى كلي فقوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا} (النساء: 19) في أول آيات من سورة النساء، ثم اتصل الخطاب إلى قوله تعالى {حرمت

_ (1) م: معهودة. (2) س: التشكيك. (3) س: وفي. (4) س: إذ. (5) زاد بعده في س: " قوله تعالى " (وهو مكرر) . (6) وبعض: سقطت من م. (7) هو: سقطت من م.

عليكم أمهاتكم} (النساء:23) الآية، وكل ما ذكر فيها (1) فمحرم على غير الذين آمنوا كتحريمه على الذين آمنوا (2) ولكن ليس بهذا اللفظ لكن بدلائل أخر من ألفاظ أخر (3) أوقعت أيضاً هذا الحكم على غير من سمي في هذا المكان، ولولا تلك الألفاظ الأخر لما دخل في هذا الحكم من ليس مسمى باسم من خوطب به أصلاً. وإنما ذكرنا هذا القسم لئلا يظن جاهل أن هذا الحكم إنما انتقل من هذا اللفظ إلى غير من يقتضيه. فإذا أردت أن تقدم مقدمات من الأنواع التي ذكرنا في أول هذا الباب، وقلنا إن إليها يرجع في ما أختلف فيه، قلت: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، النتيجة: فكل مسكر حرام؛ فهذه قرينة من النحو الأول من الشكل الأول. وإن شئت قلت: كل سارق ما سوى أقل من ربع دينار فعليه قطع يده، وزيد (4) سرق شيئاً ليس أقل من ربع دينار، فزيد عليه قطع يده (4) . وهكذا يفعل في جميع الأوامر وهو أن يخرج الأمر بلفظ خبر كلي يعم ما اقتضاه اللفظ الذي يجب الأئتمار له. واعلم أن اللفظ إن كان من الألفاظ المشتركة كان ذلك جارياً على جميع الأنواع التي اقتضاها ذلك اللفظ، إن قدر على ذلك، حيث ما وجدت مجتمعات أو أفراداً. وليس لأحد أن يقول: لا أجري الحكم إلا على اجتماع جميع المعاني التي يقتضيها الاسم، لأنه حينئذ يصير مخالفاً لحكم الاسم من حيث قدر أنه موافق له، لن كل بعض منه يقع (68ظ) عليه ذلك الاسم، فإذا لم يجره على ذلك البعض إذا وجده منفرداً فقد منع من إجراء الاسم على عمومه وما يقتضيه، وهذا إبطال موضوع الاسم، فإن كان ذلك ممتنعاً في الطبيعة أو كان لفظاً عاماً إلا أنه لا يقوم منه بيان يفهم أو كان لفظاً يقع على نوع واحد أو صفة واحدة إلا ان عمومها ممتنع في الطبع لا سبيل إليه ولا إلى إخراج شيء محدود منه، أو كان الإتيان بكل الوجوه التي يقتضيها ذلك الاسم غير واجب بحكم الشرع بيقين، لم يلزم منه إلا أقل ما يقتضيه ذلك اللفظ، لأن

_ (1) س: فيه. (2) كتحريمه ... آمنوا: سقط من س. (3) من ألفاظ آخر: سقط من م. (4) سقط من م. (4) سقط من م.

ما عدا هذا المقدار لا يقدر على استيفائه، والعجز علة مانعة، وغاية في البيان بأن ذلك اللفظ لم يقصد به العموم الذي لا يطاق أصلاً؛ وذلك كقول قائل: ادع لي الناس أطعمهم، فلا سبيل إلى عموم الناس كلهم، فإنما هذا على جماعة يقع عليهم اسم ناس. وكذلك حيث ذكر الله عز وجل المساكين أو الفقراء إذ لا يطاق غير هذا أصلاً، ومن كلف غيره الممتنع فقد خرج عن حد من يكلم. فمن القسم الذي قلنا إنه يكون لفظاً يعم ذوي صفات شتى قوله عز وجل حيث ذكر المحصنات، فإنه لا يجوز أن يخص بذلك بعض من يقع عليه هذا (1) الاسم دون بعض، ولا يجوز أيضاً أن نمتنع من إجراء الحكم حتى تجتمع جميع الصفات التي كل صفة منها تسمى (2) إحصاناً. لكن إذا وجدت منها صفة واحدة فأكثر وجب لها حكم الاسم المعبر عنها، وهو اسم يقع على العفائف والحرائر والمتزوجات، إلا أن يأتي لفظ مانع من عمومه كل من ذكرنا فيوقف عنده على ما قدمنا. وكذلك قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} (النساء:22) والنكاح يقع على العقد الصحيح وعلى الوطء صحيحاً كان أو فاسداً، فكل من وطئها الأب بزنا أو غيره حرام على الأبن، فتقول في مقدمة من هذا الباب: كل ما نكح الأب من النساء على الابن حرام، وهند (3) نكحها أبو زيد، فهند على زيد حرام (3) ؛ فالحد المشترك ههنا النكاح والأب، والحدان المقتسمان: أما في المقدمة الكبرى فالنساء والابن والحرام، وأما في الصغرى فزيد وهند وهما الخارجان في النتيجة. واعلم ما قلت لك إن اللفظ المشترك (4) الواقع على أنواع شتى في (5) عمومه لكل ما تحته من الأنواع، لأنه جنس لها، كاللفظ الواقع على النوع الواحد في عمومه لكل ما تحته (6) من الأشخاص ولا فرق، إلا أن يقوم برهان [69و] كما قدمنا على أن المراد بعض تلك الأنواع لا كلها، وبعض تلك الأشخاص لا كلها، فيؤخذ

_ (1) م: ذلك. (2) س: ليس. (3) سقط من م. (3) سقط من م. (4) المشترك: سقطت من س. (5) في: هو على في س. (6) لكل ما تحته: سقط من س.

به في ذلك المكان خاصة لا حيث وجد ذلك اللفظ. لكنه إن وجد ذلك اللفظ في مكان آخر فهو محمول على عمومه لكل ما تحته أبداً، لأن ذلك البرهان الذي نقله عن عمومه في المكان الأول لم يدل (1) على أنه قد نقل عن موضوعه (2) في اللغة قطعاً، لكنه دل على أن المراد به في هذا المكان خاصة بعض ما يقتضيه موضوعه (2) في اللغة فقط. وأما قول القائل: فلان لا يظلم في حبة خردل (3) ، فلا يفهم من ذلك عند التحقيق وترك المسامحة إلا ما اقتضاه اللفظ خاصة من أنه لا يظلم في الخردل خاصة، وهذا الذي وضع له اللفظ في اللغة، ولا يفهم من ذلك أنه لا يظلم في الآطام (4) والضياع والدور، لأن الضياع والدور (5) لا تسمى خردلاً أصلاً. لكن إن قال: فلان (6) لا يظلم الناس شيئاً أو قال لا يظلم في شيء فحينئذ يعم بالنفي كل ما وقع عليه اسم ظلم. فإن لم يكن هذا فلأي معنى علقت (7) في اللغة الأسماء على المسميات وثبت في العقول أنه لا بيان إلا بالألفاظ المعبرة عن المعاني التي أوقعت عليها في اللغة، وهذا ما لا يعلم أحد سواه إلا مغالط لنفسه مكابر لحسه، مسامح حيث لا تنبغي المسامحة. وكذلك قوله تعالى: {فلا تقل لهما أفً} (الإسراء:23) فإنه لا يفهم من هذا (8) اللفظ إلا منع أفً فقط، وأما القتل والضرب وغير ذلك فلا منع منه في هذا اللفظ أصلاً، لأن كل ذلك لا يسمى " أف " ولا يعبر عنه بأف، ولو أن إنساناً قتل آخر وأخبرنا عنه مخبر وشهد شاهد أنه قال له أف لكان كاذباً وشاهد زور وآتياً كبيرة من الكبائر، بحكم المختار للوسائط (9) بيننا وبين الواحد الأول،

_ (1) س: يدخل. (2) س: موضعه. (2) س: موضعه. (3) م: خردلة. (4) م: اللطام. (5) م: لأن الدور والضياع واللطام. (6) س: قائل. (7) س: علقته. (8) هذا: سقطت من س. (9) م: للوساطة.

صلى الله عليه وسلم، وعز باعثه وجل، إذ قضى أن شهادة الزور من الكبائر، فمن لم يردعه قبح الخروج عن المعقول فليردعه خوف النكال الشديد يوم الجزاء، نعوذ بالله من ذلك. ولو أن حالفاً حلف على القاتل أنه قال للمقتول " أف " لكانت يمينه غموساً، فكيف استجاز من يصف نفسه بالفهم أن يقضي قضاءً يقر به (1) على نفسه أنه كاذب إذا حقق الحكم ولعمري إن كثيراً منهم لأفاضل فهماء أخيار صالحون معظمون باستحقاقهم، ولكن النقص لم يعر منه بشر إلا المعصومين بالقوى الإلهية من الأنبياء عليهم السلام [69ظ] خاصة، وزلة العالم مؤذية جداً ولو لم تعده إلى غيره لقل ضررها، لكن لما قال الله عز وجل {وبالوالدين إحساناً} اقتضت هذه اللفظة إتيان كل ما يسمى إحساتاً، ودفع كل ما يسمى إساءة، لأن الإساءة ضد الإحسان، والإحسان واجب فالإساءة ممنوعة، لأن قولك: أحسن إلى فلان يقوم مقام قولك (2) لا تسيء إليه، وذلك معنى مقتضاه فقط (3) وزائد معنى هو أيضاً شيء هو غير ترك الإساءة فقط (4) . وأما قولك: لا تسيء إليه (5) ، فليس فيه الإحسان إليه، وكذلك إذا قلت: لا تحسن إليه، فليس فيه أن تسيء إليه أصلاً، لأن هذا من الأضداد التي بينها وسائط، والوسيطة (6) هاهنا التي (7) بين الإساءة والإحسان: المتاركة. وأما إذا قلت أسيء إلى فلان ففيه رفع الإحسان عنه (8) لأن الضد يدفع الضد، إذا وقع أحدهما بطل الآخر. فتدبر هذه المعاني تستضيء في جميع مطلوباتك بالنور الذي منحك خالقك تعالى وقرب به شبهك من الملائكة وأبانك عن البهائم، وإلا كنت كخابط عشواء حيران لا تدري ما تقدم عليه بالحقيقة ولا ماتترك باليقين، لكن بالجسر (9) والهجم اللذين لعلهما يوردانك (10) المتالف ويقذفانك في المهالك، هدانا الله وإياك

_ (1) م: فيه. (2) م: ملائم لقولك. (3) وذلك ... فقط: لم يرد في م. (4) وزائد ... فقط: سقط من س. (5) م: إلى فلان. (6) م: والوسيلة. (7) س: هي التي. (8) م: إليه. (9) س: بالحس. (10) م: يردان بك.

بمنه. وإذا وصلت إلى هذا الفصل فقف عنده وارم بفكرك (1) إلى ما تكلمنا لك فيه آنفاً من المتلائمات التي عبرنا عنها بعبارات لعل بعض (2) أهل الغفلة الذين نرغب من صلاحهم أكثر مما يرغبون من صلاح أنفسهم يقول عند نظره فيها: لقد تعنى هذا المؤلف في شيء يساوبه في المعرفة به كل أحد، فليعلم أننا إنما ننظر المعاني بألفاظ متفق عليها لتكون قاضية على ما يغمض فهمه مما ليس من نوعها (3) ، فهاهنا يلوح لك فضل كلامنا آنفاً في المتلائمات وترتاح لفهمه جداً. وإذ قد قدمنا في أول كتابنا أنه لا سبيل إلى معرفة حقائق الأشياء إلا بتوسط اللفظ فلا سبيل إلى نقل موجب العقل عن موضعه من كون الأشياء على مراتبها التي رتبها عليها بارئها جل وعز، ولا سبيل إلى نقل مقتضى اللفظ عن موضعه الذي رتب للعبارة عنه، وإلا ركبت الباطل وتركت الحق وجميع الدلائل تبطل نقل اللفظ عن موضوعه في اللغة ولا دليل يصححه أصلاً. فإن قال قائل: قد وجدنا لفظاً منقولاً، قيل له: ذلك الذي وجدت قد تبين (4) لنا أنه هو موضوعه في ذلك المكان ولم تجد ذلك فيما تريد (5) إلحاقه به بلا دليل، وليس كل مسمى (6) وجدته منقولاً عن رتبته بدليل موجباً (7) أن تنقله أنت إلى غيره (8) برأيك بلا دليل، فإن كان حكمك في إيجاب نقل ما لم تجد دليلاً ينقله لأنك قد وجدت لفظاً آخر [70و] منقولاً حكماً صحيحاً، فقد وجدت أيضاً في

_ (1) س: تفكرك. (2) بعض: سقطت من س. (3) م وأصل س: فهمه من نوعها. (4) م: بين. (5) س: نجد ... نريد. (6) م: شيء. (7) م: بموجب. (8) م: أن تنقل أنت غيره.

الأوامر منسوخاً كثيراً بدليل صحيح، فاحكم على كل أمر بأنه منسوخ لأنك قد وجدت أموراً كثيرة منسوخة، وقد وجدت أيضاً في كلام الناس كذباً كثيراً (1) فاحكم على كل كلام بأنه كذب لأنك وجدت كذباً كثيراً (1) وهذا هو إبطال الحقائق فارغب عنه كما ينبغي، وبالله تعالى التوفيق. 12 - باب أقسام المعارف وهي العلوم اعلم ان معرفة كل عارف منا بما يعرفه، وهو علمه بما يعلم، ينقسم قسمين: أحدهما أول والثاني تال، فالأول ينقسم قسمين: أحدهما ما عرفه الإنسان بفطرته وموجب خلقته المفضلة بالنطق الذي هو التمييز والتصرف والفرق بين المشاهدات، فعرف هذا الباب بأول عقله، مثل معرفته أن الكل أكثر من الجزء، وأن من لم يولد قبلك فليس أكبر منك، ومن لم تتقدمه فلم توجد (2) قبله، وأن نصفي العدد مساويان لجميعه، وأن كون الجسم الواحد في مكانين مختلفين في وقت واحد محال، وأن كل شيء صدق في نفيه فإثباته كذب، وإن كذب في نفيه فإثباته حق، وأن الحق لا يكون في الشيء وضده، وأن كل أقسام أخرجها العقل بكليتها تامة إخراجاً صحيحاً ولم يكن بد من أحدها فكذبت كلها حاشا واحداً أن ذلك الواحد حق وضرورة. والقسم (3) الثاني من هذا القسم الأول هو ما عرفه الإنسان بحسه المؤدي إلى النفس بتوسط العقل كمعرفته أن النار حارة، والثلج (4) بارد، والصبر مر، والتمر حلو، والثلج الجديد أبيض، والقار أسود، وأن جلد القنفذ (5) خشن والحرير لين وأن صوت الرعد أشد من صوت الدجاجة وما أشبه ذلك. وهذان القسمان (6) فلا

_ (1) سقط من س. (1) سقط من س. (2) فلم توجد: ليس في س. (3) س: فالقسم. (4) س: وأن الثلج. (5) س: القندفد. (6) القسمان: سقطت من س.

يدري أحد كيف وقعت له صحة معرفته (1) بذلك ولا كان بين أول أوقات فهمه وتمييزه وعود (2) نفسه إلى ابتداء ذكرها وبين معرفته بصحة ما ذكرنا زمان أصلاً، لا طويل ولا قصير ولا قليل ولا كثير ولا مهلة البتة (3) ، وإنما هو فعل الله عز وجل في النفس، وهي مضطرة إلى فعل (4) ذلك ضرورة ولا تجد عنها محيداً البتة، وليس ذلك في بعض النفوس دون بعض بل في نفس كل ذي تمييز لم تصبه آفة. وكل نفس تعلم أن سائر النفوس تعلم ذلك ضرورة. فلو أن إنساناً رام أن يوهم نفسه خلاف ما ذكرنا لما قدر، فإن قدر على ذلك يوماً ما فليعلم أن بعقله آفة شديدة لا يجوز غير ذلك. وفي القسم الثاني من هذين القسمين تدخل صحة المعرفة بما صححه (5) النقل عند المخبر تحقيق ضرورة، كعلمنا أن الفيل موجود ولم نره، [70ظ] وأن مصر ومكة في الدنيا، وأنه قد كان موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وقد كان (6) أرسطاطاليس وجالينوس موجودين، وكواقعة صفين والجمل وككون أهل القسطنطينية (7) مملكين لملك الروم النصراني (8) ، وأن النصرانية دينهم الغالب عندهم وكالأخبار تتظاهر عندنا كل يوم مما لا يجد المرء للشك فيه مساغاً عنده أصلاً، وكذلك أن (9) في رأس الإنسان دماغاً وفي بطنه مصراناً (10) وفي جوفه قلباً وفي عروقه دماً، وإنما يرجع في ذلك إلى قول (11) المشرحين وقول من رأى رؤوس القتلى مشدوخة وأجوافهم

_ (1) س: معرفة. (2) م: وعوده. (3) البتة: سقطت من س. (4) م: معرفة. (5) م: حققه. (6) م: وكان. (7) م: قسطنطينية. (8) س: والنصارى؛ م: للملك الرومي. (9) أن: سقطت من س. (10) م: مصيراً. (11) وإنما يرجع ... قول: هذه أقوال في م.

مخروقة، فصح ذلك أيضاً (1) صحة ضرورية، وهذان القسمان لا يجوز أن يطلب على صحتهما دليل ولا يكلف ذلك غيره إلا عديم عقل وافر (2) جهل أو مشتبه بهما، فهو أقل عذراً (3) . بل من هذين القسمين تقوم الدلائل كلها وإليهما (4) ترجع جميع البراهين وإن بعدت طرقها (5) على ما قدمنا لك من (6) إنتاج نتائج عن مقدمات تؤخذ تلك المقدمات أيضاً من (6) نتائج مأخوذة من مقدمات وهكذا أبداً، وإن كثرت القرائن والنتائج واختلفت أنواعها، حتى تقف راجعاً عند هذين العلمين الموهوبين بمن الأول الواحد وتطوله (7) وإفاضة فضله علينا دون استحقاق منا لذلك، إذ لم يتقدم منا فعل يوجب أن يعطينا هذه العطية العظيمة التي أوجدنا بها السبيل إلى التشبه (8) بالملائكة الذين هم أفضل خلق خلق والذين أفاض عليهم الفضائل إفاضة عامة (9) تامة نزههم بها عن كل نقص قل أو جل (10) . وبهذه السبيل التي ذكرنا عرفنا أن لنا خالقاً واحداً أولاً (11) حقاً لم يزل، وأن ما عداه محدث كثير مخلوق لم يكن ثم كان، وبها عرفنا صدق المرسلين الداعين إليه تعالى وصحة بعث محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة. ولولا العقل والبراهين المذكورة ما عرفنا صحة شيء من كل ما ذكرنا كما لا يعرفه (12) المجنون. فمن كذب شهادة العقل والتمييز فقد كذب كل ما أوجبت، وأنتج له ذلك تكذيب الربوبية والتوحيد والنبوة

_ (1) أيضاً: سقطت من م. (2) س: ووافر. (3) س: فهم أقل عدداً. (4) س: وإليه. (5) س: بعد طرفها. (6) سقط من س. (6) سقط من س. (7) س: وبطوله. (8) س: النسبة. (9) عامة: سقطت من س. (10) س: نقص أو حل. (11) تكررت لفظة " خالقاً " بعد " أولاً " في س. (12) م وأصل س: يعلمه.

والشرائع. فإما يدخل في ذلك وإما يتناقض تناقض المجنون (1) بلسانه، نعوذ بالله من الخذلان. وبقدر قرب (2) هذه النتائج من هذه المعارف الأوائل يسهل بيانها، وبقدر بعدها يتعذر (3) بيانها، إلا أن كل ما صح من هذه الطرائق (4) من قريب أو من بعيد فمستو في أنه حق استواءً واحداً وإن كان بعضه أغمض من بعض (5) . ولا يجوز أن يكون حق أحق من حق آخر، ولا باطل أبطل من باطل آخر، إذ ما ثبت ووجد فقد ثبت ووجد، وما بطل فقد بطل، وما خرج عن يقين الوجود والثبوت ولم يدخل [71و] في يقين البطلان فهو مشكوك فيه عند الشاك، وهو في ذاته بعد إما حق وإما باطل لا يجوز غير ذلك، ولا يبطله إن كان حقاً جهل من جهله أو تشكك من تشكك فيه، كما لا يحق الباطل غلط من توهمه حقاً أو تشكك من تشكك فيه، فهذا جملة الكلام في القسم الأول. وأما الثاني فهو الذي ذكرت لك آنفاً أنه يعرف بالمقدمات المنتجة على الصفات التي حددنا من أنها راجعة إلى العقل والحس إما من قرب وإما من بعد، وفي هذا القسم تدخل صحة العلم بالتوحيد والربوبية والأزلية والاختراع والنبوة وما أتت به من الشرائع والأحكام والعبادات، على ما قدمنا في سائر كتبنا، لأنه إذا صح التوحيد وصحت النبوة وصح وجوب الائتمار لها وصحت الأوامر والنواهي عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب اعتقاد صحتها والائتمار لها. وفي هذا القسم أيضاً تدخل صحة الكلام (6) في الطبيعيات وفي قوانين الطب ووجوه المعاناة والقوى والمزاج وأكثر مراتب العدد والهندسة. واعلم أنه لا يعلم شيء أصلاً بوجه من الوجوه من غير هذين الطريقين، فمن لم يصل منهما فهو مقلد مدع علماً (7) وليس عالماً، وإن وافق اعتقاده الحق، لكنه

_ (1) م: المخبول. (2) قرب: سقطت من س. (3) س: يبعد. (4) من هذه الطرائق: بهذه الطريق في م. (5) من بعض: سقطت من س. (6) س: يدخل الكلام. (7) م: مدعي علم.

هاهنا مبخوت، وسلامة الغرر قد (1) وجدنا أهل الحزم لا يحمدونها، وانتظار وجود اللقطة وترك الطلب والاكتساب خلق ذميم مرذول ساقط (2) جداً، وفي هذا المقلد مشابه (3) قوية ومناسبة صحيحة لمن هذه صفته، بل المقلد أسوأ حالاً لأن تضييعه أقبح وأوخم عاقبة. إلا أن توجب الشريعة أن يسمى عالماً وإن لم يعلم ذلك ببرهان فيوقف عند ما أوجبته الشريعة في ذلك (4) . إلا أن هاهنا وجهاً ينبغي لك استعماله في المناظرة خاصة على سبيل كف شغب الخصم الجاهل وليس مما يصح به قول ولا يلزم في الحقيقة أحداً ولا يثبت به برهان، وهو أن قوماً قد اعتادوا عادة (5) سوء أفسدت فضيلة التمييز فيهم بالجملة، وذلك أنهم لا يلتفتون إلى البرهان وإن أقروا أنه برهان وقد ألفوا الإقناع والشغب إلفاً شديداً، وهم (6) ينقدعون إذا عورضوا به، فهؤلاء إن عارضتهم ببرهان (7) لم ينجع فيهم، وربما آذوك بألسنتهم، وإن عارضتهم بإقناع ذلوا له ذلة اليتيم (8) وكفوك شرهم واشتد خزيهم (9) وغيظهم وربما أثر ذلك في بعضهم؛ فأذكرني أمر هذه الطائفة على كثرتهم في الناس ما قاله بعض قدماء الأطباء: إن ذا الطبع الشديد الذي لا تخدره (10) الأدوية القوية [71ظ] فإن قرص بنفسج يخدره. ومثال ذلك أقوام تراهم (11) إذا نصرت عندهم القول الصحيح بالمقدمات الصحاح التي هي منصوصة في القرآن والحديث الذي يقرون بصحته لم يؤثر ذلك فيهم أصلاً، وكذلك لو وقفتهم عليه حساً وعقلاً، حتى إذا قلت لهم فلان يقول هذا القول وذكرت لهم رجلاً من عرض الناس موسوماً بخير انقادوا له

_ (1) قد: سقطت من م. (2) م: ساقط مرذول. (3) س: مشابهة. (4) إلا أن توجب ... ذلك: سقط من م. (5) م: عادات. (6) إلفاً شديدياً وهم: بدا لهم في س (دون إعجام الباء) . (7) ببرهان: سقطت من س. (8) م: اللئيم. (9) م: حزنهم. (10) م: تحدره ... يحدره (مع علامة إهمال الحاء) ؛ وكذلك في س (دون علامة) . (11) م: أقوام كثير.

وتوقفوا جداً وسهل جانبهم، ولا سيما إن ذكرت لهم جماعة يقولون بذلك فقد كفيت التعب معهم، فمثل هؤلاء ينبغي أن يردعوا بما يؤثر فيهم، فالطبيب الحاذق لا يعطي الدواء إلا على قدر احتمال بنية المتداوي (1) ، ومداواة النفوس أولى بالتلطف لإصلاحها من مداواة الأجسام. وأما ما طلب بتقديم (2) المقدمات فإما أن يطلب على وجهه الذي وصفنا (3) فيكون الطالب على يقين وثلج، وإما أن يتفق هو وخصمه على مقدمات لم تثبت بالعمل الذي قدمنا لكن بتراض منهما؛ وهذا ينقسم قسمين: أحدهما أن يوفقا لمقدمات (4) حق فيدخلان في القسم الذي قدمنا ببختهما لا ببحثهما وبجدهما لا بحدهما (5) ، وبحظهما لا بتفتيشهما؛ والثاني أن يتفقا على مقدمة فاسدة أو مقدمتين كذلك (6) ، وهذا ينقسم قسمين: أحدهما أن يتراضيا على ذلك معاً فهما ظالمان لأنفسهما، وما أنتجت تلك البلايا التي التطخا فيها فلازم لهما في قوانين المناظرة لا في الحقيقة، والحقيقة باقية بحسبها لا يضرها تراضي الجهال بالباطل، وذلك كثير جداً في الملل والآراء الطبيعية والنحل والفتيا (7) كاتفاق المنانية على قدم الأصلين والنصارى على التثليث وقوم من المعتزلة على أن أشياء في العالم محدثة غير مخلوقة، وهذا نسميه نحن " عكس الخطأ على الخطأ " ومما حضرنا من ذلك على كثرته رد إخواننا الحكم في جنين الأمة على خطائهم في تقويم الغرة في جنين الحرة. والقسم الثاني أن يوافق الخصم العالم المحق خصمه على مقدمة فاسدة يقدمها لا راض (8) بها ولكن (9) ليريه فساد إنتاجها وأنها تؤديه إلى محال أو إلى فساد

_ (1) م: المداوى. (2) س: وأما طلب تقديم. (3) س: وضعه. (4) س: أن توفق المقدمات. (5) س: وبحدهما لا يجدهما. (6) س: فذلك. (7) والفتيا: من م وحدها. (8) م: رضى. (9) م: لكن.

أصله (1) . واعلم أن هذا الحكم ينبغي أن يلزم الراضي به إن يلزم الراضي به إن التزمه وليس يلزم المسامح (2) فيها بشرط تبيين (3) فسادها كالذي ألزم أذرباذ بن مارا كسفند (4) الموبذماني بن حماني (5) في نفس قوله تحسين قتله وهو ضد ما حقق ماني أولاً (6) . وكثيراً ما نلزم نحن في الشرائع أهل القياس المتحكمين أشياء من مقدماتهم تقودهم (7) إلى التناقض أو إلى ما لا يلتزمونه، فيلوح بذلك فساد [72و] مقالتهم كالذي قدمه عظيم من (8) أسلافنا (9) نحبه لفضله، ولكن الحق أحب إلينا منه وأفضل، فإنه قال: من بلغ الحلم من رجل أو امرأة ولم يعلم الله عز وجل في أول أوقات (10) بلوغه بجميع صفاته علم استدلال ونظر وبحث فهو كافر حلال دمه وماله (11) ؛ ونحن نقسم بالله خالقنا قسماً لا نستثني فيه أن هذا الرئيس قد أنتج حكمه هذا عليه أن يكون كافراً حلال الدم والمال؛ ونعيد القسم بالله تعالى ثانية أنه ما دخل قبره إلا جاهلاً بتمام صحة ما ضيق في علمه هذا التضييق، على أنه قد تجاوز في عمره خمسة وثمانين عاماً، يرحمنا الله وإياه ويغفر لنا وله. ولولا أن مقدمته هذه فاسدة

_ (1) س: أصل. (2) س: المتسامح. (3) س: تبين. (4) س: مارا سعيد؛ م: مارسفند، والتصحيح عن الفصل. (5) م: خماني. وفي الشهرستاني 2: 81 أنه ماني بن فاتك. (6) يشير ابن حزم إلى مناظرة جرت بين ماني والموبذ في مسألة قطع النسل وتعجيل فراغ العالم. قال الموبذ: أنت الذي تقول بتحريم النكاح ليستعجل فناء العالم ورجوع كل شكل إلى شكله، وأن ذلك حق واجب فقال له ماني: واجب أن يعان النور على خلاصه بقطع النسل مما هو فيه من الامتزاج. فقال له اذرباذ: فمن الحق الواجب أن يعجل لك هذا الخلاص الذي تدعو إليه وتعان على إبطال هذا الامتزاج المذموم. فانقطع ماني، فأمر بهرام بقتل ماني. (الفصل 1: 36) . (7) س: يفودهم. (8) من: سقطت من س. (9) يعني محمد بن جرير الطبري؛ وقد وضح ابن حزم في الفصل (4: 35) : أن محمد بن جرير الطبري والأشعرية كلها حاشا السمناني ذهبوا إلى أنه لا يكون مسلماً إلا من استدل، وإلا فليس مسلماً، وقال الطبري: من بلغ الاحتلام أو الإشعار من الرجال والنساء أو بلغ المحيض من النساء ولم يعرف الله عز وجل بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر حلال الدم والمال، وقال: إنه إذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمهما وتدريبهما على الاستدلال على ذلك. (10) أوقات: سقطت من س. (11) وما له: سقطت من س.

لوجب عليه ما أوجب على من هو محدود بحده ومرسوم برسمه، ولكنها ولله الحمد قضية باطل فلا يجب ما أنتجت لا عليه ولا على غيره، وقد ذكرنا هذا الباب في النوع الخامس من البرهان. واعلم أن من وافقنا في هذه الأوائل ثم كذب موجباتها أو خالفنا في هذه الأوائل فلم يثبتها تركناه وكنا إن كلمناه كمن كلم السكران، إلا في حالين: أحدهما أن يضطرنا (1) إلى الكلام معه خوف أذى (2) ما إن تركنا الكلام معه. والثانية الرجاء في أوبته وأوبة غيره من حاضر أو غائب يبلغه كلامنا، أو تثبت حاضر أو غائب يبلغه كلامنا، فأي ذلك كان فواجب علينا الكلام حينئذ بما نرجو به (3) المنفعة إما لأنفسنا وإما لمن يلزمنا تبصيره من أهل نوعنا، فقد قال الأول الواحد الخالق خالق الصدق والآمر به في عهوده إلينا: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} (النساء:135) وقال تعالى أيضاً (4) : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النمل:125) وقال لنا رسوله المتوسط بيننا وبينه تعالى، صلى الله عليه وسلم، في وصاياه لنا " لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً أحب إليك من حمر النعم " (5) . حتى إذا ارتفع خوفنا أو رجاؤنا لزمنا حينئذ أن نفعل ما أمرنا به الواحد الأول عز وجل في عهوده إلينا إذ يقول (6) {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة:105) فنقول لمن لزمنا أن نقول له من هذه الطائفة، ولعمري إنهم لكثير كما وصف الواحد الأول تعالى إذ يقول مخبراً لنا عمن تاه في الأباطيل: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} (الكهف:104) وقال تعالى أيضاً (7) {أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها} (الأعراف:195) فنقول لمن هذه صفته: إن كنتم

_ (1) س: يضطر. (2) س: إذا. (3) س: له. (4) أيضاً: سقطت من س. (5) الحديث في الجامع الصغير 2: 122 وروايته: " خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ". (6) إذ يقول: في م وحدها. (7) أيضاً: سقطت من س.

تنكرون الحقائق [72ظ] وما شهد به الحس والعقل وأدياه إلى النفس ولا (1) تستحيون من قبيح هذه الصفة فدعوا التعب في أكل الطعام والسعي فيه وانتظروا كما أنتم واخرجوا أفذاذاً إلى مضارب العدو من أطراف الثغور والشعاري الموحشة رافلين في ثيابكم وابقوا هنالك (2) مطمئنين ظاهرين حتى تروا صحة ما نحدثكم به مما تشهد (3) النفس أنه يحل بكم، واقذفوا بأنفسكم على أمهات رؤوسكم من أعلى المنار وزموا (4) السكاكين الحادة (5) على لحومكم ثم جروا أيديكم بها، فإن امتنعوا من كل هذا فقد حققوا الأوائل الدالة على عواقب الأمور، وإن تمادوا أعرضنا عنهم وانصرفنا (6) إلى ما هو أجدى علينا وأولى بنا مما نرجو به التقرب من خالقنا يوم جمعنا للقضاء في عالم الجزاء، نسأله ضارعين أن يمن (7) علينا وأن يثبتنا في عداد العقلاء الأبرار في هذه الدار وأن يدخلنا في عداد الفائزين هنالك، ونعوذ به من ضد ما سألناه آمين. وأتم من هؤلاء الذين ذكرنا رقاعة وأوقح وجوهاً المدعون للإلهام، وما يعجز صفيق الوجه عن (8) أن يدعي أنه ألهم بطلان قولهم بلا دليل، ومثل هؤلاء يرحمون لذهابهم عن الحق، وبالله تعالى نستعين. وقد شغب منهم (9) قوم فقالوا: بأي شيء ثبتت عندكم صحة (10) هذه الأمور التي صحت بالعقل وبماذا علمتم صحة العقل وهذا فساد في القول وقد قلنا إن صحة

_ (1) س: فلا. (2) س: هناك. (3) مما تشهد: تستبين في س. (4) س: وارمو. (5) س: والحجارة. (6) وانصرفنا: سقطت من س. (7) م: يمتن. (8) عن: لم ترد في س. (9) منهم: سقطت من س. (10) صحة: من م وحدها.

ذلك ثابتة ضرورة في النفس لا بدليل (1) دل على صحة ذلك أصلاً. وكفانا ما عارضناهم به إن أنصفوا أنفسهم وإلا فلا كلام لنا مع من أقر أنه لا يصحح العقل وأنه لا عقل له. 13 - باب ذكر أشياء تلتبس على قوم في طريق البرهان واعلم أن قوماً قدروا أن (2) البرهان يقوم مما ذكرنا في باب الإضافة من كون أحد الشيئين يقتضي الآخر فلم يفرقوا بين الواجب من ذلك وغير الواجب (3) ، ونحن نفرق إن شاء الله عز وجل بين الصحيح من ذلك والفاسد فنقول، وبالله تعالى التوفيق وبه نتأيد (4) : إن هذا شيء (5) يسميه المتقدمون " برهان الدور "، مثال ذلك: أن يقول القائل: الدليل على أن كون القصد في الأمور موجود أن الإفراط موجود. فيقال له: وما الدليل على أن كون الإفراط موجود فيقول: لما كان القصد موجوداً وجب أن الإفراط موجود، فقام من هذا الكلام: لما كان الإفراط موجوداً كان الإفراط موجوداً، وهذا فساد (6) في الرتبة، وهو أن يستشهد على الشيء بنفسه، وإنما الصواب [73و] أن يستشهد على مجهول (7) بمتيقن، فإذا كان الشيء مجهولاً فليس متيقناً عند الذي هو عنده مجهول، وأنت هاهنا (8) تروم أن تبين المجهول (9) بنفسه التي هي ذلك المجهول بعينه. وإذا كان الشيء متيقناً فالمتيقن لا يحتاج فيه إلى برهان، فهذا الاستدلال (10) فاسد كما ترى. وكل شيء فإما معلوم وإما مجهول، فالمعلوم يصحح غيره من المجهولات، والمجهول يصحح بغيره من المعلومات، وكون كل واحد من المضافين مقتضياً وجود صاحبه أمر معلوم بأول العقل، فطلب الاستدلال

_ (1) س: بلا دليل. (2) أن: سقطت من م. (3) وغير الواجب: وغير في س. (4) م: وبالله تعالى نتأيد. (5) س: الشيء. (6) فساد: باطل فاسد في س. (7) وإنما الصواب ... مجهول: سقط من م. (8) ها هنا: وقعت بعد " تبين " في س. (9) المجهول: سقطت من س. (10) س: استدلال.

عليه خطأ. وأما الخطأ في بيان المجهول بالمجهول فكنحو إنسان قال لآخر (1) : ما صفة الفيل فيقول له (2) : صفة الخنزير، والسائل لا يعرف صفة الخنزير فيقول له وما صفة الخنزير فيقول له (2) : صفة الفيل. فهذا فساد شديد وهو راجع إلى أن صفة الفيل هي (3) صفة الفيل. ويدخل في هذا الخبال من رام أن يثبت القياس بالقياس والخبر بالخبر وما أشبه ذلك. وأما كون الشيء مستدلاً به على بطلانه فلا يجوز ذلك أيضاً إلا من وجه واحد، وهو أن يكون مؤدياً إلى فساد أو تناقض فالعقل أبطله حينئذ وليس (4) هو أبطل نفسه ولو صحح (5) إبطاله لنفسه لكان صحيحاً، ولو كان صحيحاً لم يكن باطلاً، وقد قدمنا أن صحة موجب العقل لم يعلم لها سبب أكثر من ثباتها في النفس ضرورة لا محيد عنها، ولم يثبت العقل بالعقل لكن بالضرورة التي لا وقت للتمييز بتقدمها (6) البتة. وقد يدخل (7) أيضاً في الاستدلال شيء (8) يسمى " الاستدلال بالمعلول على العلة " كمن أراد أن يقيم البرهان على وجود النار بالدخان الذي هو متولد عن النار وعن فعلها، والعلة أظهر في العقول من المعلول، إلا أنه إذا كان السائل جاهلاً بكون العلة علة، وكان عالماً بأن المعلول متولد عن العلة فواجب حينئذ أن يحقق عنده أن هذا الشيء علة لهذا الآخر بارتباط المعلول بها وكونه موجوداأ بوجودها. ولو أن أمرأ رأى دخاناً على بعد فقال: في ذلك المكان نار ولا بد لأني أرى هنالك دخاناً قد سطع، لكان مستدلاً بحقيقة الاستدلال. وهذا لم يستدل على أن كلية النار موجودة من أجل الدخان لكن علم أن المعلول لا يوجد إلا وعلته موجودة، فلما رأى الدخان وهو المعلول علم أن العلة هناك وهي النار، وبالله تعالى التوفيق [73ظ] .

_ (1) آخر: له إنسان في س. (2) له: سقطت من م. (2) له: سقطت من م. (3) هي: سقطت من س. (4) س: فليس. (5) م: صح. (6) س: لاقت التمييز التي بتقدمها. (7) م: يذم. (8) س: شيئاً.

14 - باب ذكر أشياء عدها قوم براهين وهي فاسدة وبيان خطأ من عدها برهاناً فمن ذلك شيء سماه الأوائل " الاستقراء " وسماه أهل ملتنا " القياس " فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن معنى هذا اللفظ هو أن تتبع بفكرك أشياء موجودات يجمعها نوع واحد أو جنس واحد، أو يحكم فيها بحكم واحد، فتجد في كل شخص من أشخاص ذلك النوع أو في كل نوع من أنواع ذلك الجنس صفة قد لازمت كل شخص مما تحت النوع أو كل نوع تحت الجنس أو كل واحد من المحكوم فيهم، إلا أنه ليس وجود تلك الصفة مما يقتضي العقل وجودها في كل ما وجدت فيه، ولا تقتضيه طبيعة ذلك الموصوف فيكون حكمه لو اقتضته طبيعته أن تكون تلك الصفة فيه ولا بد، بل قد يتوهم وجود شيء من ذلك النوع خالياً من تلك الصفة. وكذلك أيضاً لم يأت لفظ في الحكم بأنه ملازم لكل شيء مما فيه تلك الصفة فيقطع قوم من أجل ما ذكرنا على أن كل أشخاص ذلك النوع، وإن غابت عنهم، ففيها تلك الصفة وأن كل ما فيه تلك الصفة من الأشياء فمحكوم (1) فيه بذلك الحكم. ولعمري لو قدرنا على تقصي جميع (2) الأشخاص أولها عن آخرها حتى نحيط علماً بأنه لم يشذ عنا منها واحد، فوجدنا هذه (3) الصفة عامة لجميعها، لوجب أن نقضي بعمومها لها، وكذلك لو وجدنا الأحكام منصوصة على كل شيء فيه تلك الصفة لقطعنا أنها لازمة (4) لكل ما فيه تلك الصفة، فأما ونحن لا نقدر على استيعاب ذلك ولا نجده أيضاً في الحكم منصوصاً على كل ما فيه تلك الصفة، فهذا تكهن من المتحكم به وتخرص وتسهل في الكذب وقضاء بغير علم وغرور للناس ولنفسه أولاً التي نصيحتها عليه أوجب. ونمثل لذلك مثالاً عيانياً فنقول، وبالله تعالى التوفيق (5) : وصف الموصوف بالصفة ينقسم قسمين: أحدهما صفة لا بد للموصوف منها (6)

_ (1) س: فمحكوماً. (2) جميع: تلك في س. (3) م: تلك. (4) م: ملازمة. (5) م: نتأيد. (6) م: بها.

ضرورة كعلمنا يقيناً أن كل ذي روح فمتنفس، وكل متنفس فذو آلة يتنفس بها إما يقبض بها الهواء ويدفعه وإما يقبض بها الماء ويدفعه (1) إن كان من سكان الماء، فهذا قسم قائم في العقل معلوم ضرورة ولا (2) محيد عنه، ولو عدمت النفس تلك الآلة لفارقت الجسد. والقسم الثاني صفة (3) قد توجد ملازمة للموصوف بها ولو عدمت لم تضره كالمرارة فإنك إن تقريت أكثر أصناف الحيوان وجدتها فيه إلا الجمل فلا مرارة له، وقد ذكر قوم أن الفرس لا [74و] طحال له. وكالعلم الفاشي بين الناس أننا لم نشاهد قط بغلة تلد ولا بغلاً (4) يولد، وككوننا لم نر (5) قط كبشاً من الضأن ذا لحية. وقد أخبرني مخبر في مجلس بعض الرؤساء أنه شاهد بغلة ولدت في بلد ذكره وشهد له بصحة ذلك قوم كانوا في تلك الناحية. وأخبرني من أثق به أنه رأى كباشاً بلحى وتيوساً بلا لحى، وأنا رأيت سنينيراً صغيراً ولد ذا جسدين متميزين منحازين تامين لا ينقص منهما عضو أصلاً، في كل جسد ذنب ويدان ورجلان يجمعهما رأس واحد ليس فيه إلا عينان وأذنان وفم واحد؛ ورأيت أيضاً فروجاً وفرخ إوزة تفقست البيضتان عنهما ولكل واحد منهما أربعة أرجل وأريت الفروج جماعة كانوا معي. فالقطع على أن هذا لا يكون هو التحكم المذموم الذي قد يخون. وقد غلط في هذا الباب جماعة من أهل ملتنا وطوائف من أهل نحلتنا، فأما المخالفون لنا في النحلة وهم موافقون لنا في الملة فإنهم تتبعوا الفاعلين فلم يجدوا فاعلاً البتة مختاراً، إلا جسماً، فقطعوا على (6) أن الفاعل الأول عز وجل جسم لأنهم لم يشاهدوا فاعلاً إلا جسماً. فتحفظ من مثل هذا الشغب الذي عظم فيه غلط كثير من الناس. فقد أريتك الطريق التي أغتروا (7) بها فاجتنبها، وهذا (8) القول مع قيام

_ (1) س: إما بقبض ... أو بدفعه ... فيدفعه. (2) م: لا. (3) صفة: سقطت من م. (4) س: بغل. (5) س: نجد. (6) على: سقطت من م. (7) س: أغروا. (8) س: وهو.

البرهان على بطلانه ومع أنه دعوى مجردة فعلى كل ذلك قد ناقضوا (1) فيه، وذلك أنهم لم يغالطوا أنفسهم ويغروها وتتبعوا ما وجدوا تتبعاً صحيحاً فلم يجدوا قط فاعلاً مختاراً غير محدث وغير مركب إما من ولادة وإما من رطوبات مستحيلة، (2) فلازم لهم إن كان حكمهم صحيحاً إذ لم يشاهدوا قط فاعلاً مختاراً إلا مركباً من ولادة أو من رطوبات مستحيلة أن يقطعوا في الواحد الأول تعالى أنه محدث مركب من ولادة أو من رطوبات مستحيلة (2) تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وإلا (3) فقد ناقضوا وأبطلوا دليلهم. وليعلموا أنهم في بلية شنعاء وهم يقرون بلا خلاف منهم أن من اعتقد هذا فمفارق للملة مباح دمه متبريء من خالقه تعالى، أفلا يستحيي من له أدنى فهم وعقل من أن يشهد على نفسه بأنه ثابت على شيء باطل وأما الذي غلط فيه بعض الموافقين لنا في النحلة من أصحابنا الإخباريين فإنهم تتبعوا كل موصوف في العالم فرأوه إنما استحق ذلك الاسم بصفة فيه اشتق له [74ظ] منها ذلك الاسم، فقطعوا من أجل ذلك على أن الواحد الأول عز وجل ذو سمع وبصر وحياة وإرادة وأنه متكلم لا يسكت، لأنه (4) تعالى موصوف بأنه سميع بصير حي مريد وله كلام، ولو أنهم أنصفوا أنفسهم ولم يقتحموا فيما يعيرون به خصومهم لكانوا إذ (5) فتشوا هذا التفتيش قد وجدوا يقيناً أنهم لا يرون أبداً ولا يشاهدون موصوفاً بشيء إلا وتلك الصفة عرض في الموصوف محمول وأن الصفة لا يحملها إلا جوهر، على أن هذا الذي نذكر لا يتوهم متوهم في العالم رتبة سواها؛ فلازم لهم إذ لم يشاهدوا قط موصوفاً بصفة إلا وهو جوهر يحمل عرضاً في ذاته أن يقولوا: إن الأول الذي ليس كمثله شيء جوهر يحمل الأعراض ولم يفارقها قط، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. لكنهم قد خجلوا من هذا الخطأ وشردوا عنه، ولم يختلفوا في أن قائل ذلك معتقداً له جاحدٌ للخالق تعالى مباح دمه، لخروجه من الملة.

_ (1) س: نوقضوا. (2) سقط من س في هذا الموضع ووقع بعد لفظة " خالقه ". (2) سقط من س في هذا الموضع ووقع بعد لفظة " خالقه ". (3) وإلا: سقطت من س. (4) س: بأنه. (5) س: إذا.

والعجب واقع على هؤلاء كوقوعه على المذكورين قبل ولا فرق. فينبغي لكل طالب حقيقة أن يقر بما أوجبه العقل، ويقر بما شاهد وأحس وبما قام عليه برهان راجع إلى البابين (1) المذكورين، وأن لا يسكن إلى الاستقراء أصلاً إلا أن يحيط علماً بجميع الجزئيات التي تحت الكل الذي حكم فيه. فإن لم يقدر فلا يقطع بالحكم على ما لم يشاهد ولا يحكم إلا على ما أدرك دون ما لم يدرك. وهذا إذا تدبرته في الأحكام الشريعية (2) نفعك جداً ومنعك من القياس الذي غر كثيراً من الناس ومن الأئمة الفضلاء الذين غلط بغلطهم ألوف ألوف من الناس، وأنت إذا فعلت ذلك كنت على يقين من الصواب لأنك لم تقطع بتحليل ولا بتحريم ولا إيجاب إلا على كل ما أتاك عن الله تعالى الحكم عليه، وأما ما لم تجد فيه نصاً فأمسك عنه ولا تقطع عليه بأنه (3) داخل في حكم ما وجدت فيه نصاً بتكهنك (4) . واعلم أن قوماً غلطوا أيضاً (5) في هذا النوع غلطاً لم يخرجوا به من هذا المنتشب (6) إلا أنهم بسوء النظر ظنوا انفسهم خارجين منه فسموا فعلهم في هذا الباب باسم آخر، وهو أن سموه " الاستدلال بالشاهد على الغائب " وبالحقيقة لو حصلوا البحث لعلموا أن الغائب عن الحواس من الأشياء المعلومة ليس بغائب عن العقل بل هو شاهد فيه كشهود ما أدرك بالحواس ولا فرق. وإذا أيقن المرء أن الحواس موصلات إلى النفس وأن النفس إنما [75و] يصح حكمها في المحسوسات (7) ، إذا صح عقلها من الآفات، وبأن تتفرغ من كل ما يشغل عقلها، وانفردت بأن تستبين (8) به وتفكر فيما دلها عليه، لم يجد المرء حينئذ لما يشاهد بحواسه فضلاً على ما شاهد بعقله دون حواسه، فلا غائب من المعلومات أصلاً، إذ ما غاب عن العقل لم يجز أن يعلم البتة،

_ (1) س: الناس. (2) س: الشرعية. (3) س: فإنه (وفوقها علامة خطأ) . (4) بتكهنك: فأمسك عنه في س. (5) أيضاً: سقطت من س. (6) س: المنتسب. (7) س: بالمحسوسات. (8) م: تستنير.

ونحن نجد الأعمى الذي ولد أكمه موقنا بأن (1) الألوان موجودة، كإيقان المبصر لها ولا فرق؛ وكذلك يقيننا (2) بوجود الفيل وإن كنا لم نره قط كيقين من رآه ولا فرق. وإنما افترق الأعمى والبصير في كيفية الألوان فقط، وأما في أن اللون صحيح موجود فلا فرق بينهما في يقين العلم بذلك. وكذلك نحن إنما يفضلنا من رأى الفيل بالكيفية فقط، وإنما صحة وجوده فلا فضل له علينا في المعرفة بأنه حق. ونحن وإن كنا لم نشاهد ولا اخبرنا من شاهد ولا بلغنا أن في الناس اليوم إنسانا يرفع من الأرض ستمائة رطل، فلسنا ننكر وجوده، إن وجد، كإنكارنا وجود إنسان يرفع ستة آلاف رطل من الأرض، وكلاهما لم نشاهده ولم نشاهد مثله. فليس وجودنا أشياء كثيرة مشتركة في بعض صفاتها اشتراكا صحيحا، ثم وجودنا بعض تلك الأشياء، ينفرد بحكم ما نتيقنه فيها بموجب أن نحكم على سائر تلك الأشياء باستوائها في هذا الحكم الثاني من قبيل استوائها (3) في الحكم الأول. وهذه دعوى (4) سمجة وتحكم فاحش، وإنما يلزم هذا إذا اقتضت طبيعة ما وجود (5) شيء فيما هي (6) فيه وعلمنا وجوب ذلك بعقولنا، فإذا كان ذلك، حكمنا ضرورة على ما لم نشاهد من أجزاء ذلك الشيء كحكمنا على ما شاهدناه منها، كاقتضاء طبيعة ذرع كل جسم متحرك أن يكون متناهي الأقطار، فهذا معلوم بأولية العقل وموجب حكم الكمية، وكاقتضاء طبيعة مني الإنسان أن لا يتولد منه بغل ولا جمل، لكن جسم بشكل ما، فيه نفس ناطقة تقبل التعليم والتصرف في الصناعات (7) ، فليست معرفتنا بأن أجسامنا متناهية لأن طبيعة العقل توجب ذلك بأقوى من معرفتنا بأن جسم الفلك متناه إنما صح عندنا لأن أجسامنا متناهية، لكن الوجه الذي صح أن أجسامنا متناهية به صح أن جسم

_ (1) م: أن. (2) س: تيقنا. (3) س: استوائهما. (4) س: الدعوى. (5) س: يوجد. (6) س: هو. (7) س: والصناعة.

الفلك متناه (1) . وكذلك أيضا علمنا بأن كل شيء رخو لاقى شيئا صلبا ملاقاة شديدة (2) صدم، فإن الصلب يؤثر في الرخو ضرورة، إما بتفريق أجزائه وإما بإحالته عن شكله، ليس من أجل أنا شاهدنا ذلك في أجسام معدودة، لكن طبيعة العقل تقتضي ذلك [75ظ] ومثل هذا كثير. وأما ما لا تقتضيه طبيعة العقل ولا تنفيه، فإنا إن وجدناه صدقناه، وأن لم نجده لم نمنع منه. فإنا قد شاهدناه في الناس من لا يأكل اللبن أصلا، ولو أكله لقذف قذفا شديدا، وآخر لا يأكل الشحم أصلا، فليس من أجل وجودنا ذلك يجب أن نقطع قطعا على أن في الناس أيضا من لا يأكل التمر أصلا، ولا يجب أيضا أن نمنع من وجود ذلك أصلا. وكذلك إذا وجدنا حجرا يجذب الحديد فليس يجب (3) أن نقطع على أنه لا يوجد، ولابد، حجر يجذب النحاس، ولا أن (4) نقطع أيضا على أنه لا يوجد. ومثل ذلك كثير. وأشد من هذا كله التحكم على الخالق الأول بأنه قد حرم هذا وحلل هذا، بلا حكم وارد عنه تعالى بذلك، لكن بشهوات النفوس، لأنه قد حرم شيئا آخر يشبه هذا الذي تحرم أنت في بعض صفاته. بلى، ولقد لعن الله تعالى أناسا عصاة معتدين، افتراه يلعن (5) كل إنسان لأنهم مثل أولئك الملعونين في أنهم ناس وأنهم عصاة معتدون وأحرق قوما لأنهم خانوا المكيال، وأحرق معهم أطفالهم ونساءهم افترى كل خائن للمكيال والميزان (6) يحرق هو وولده وامرأته إن هذا لهو الضلال البعيد. ومن بديع ما يقع للمغرورين بهذا النوع الفاسد أنهم إذا أحبوا أن يبدو لهم في هذا الحكم الذي حكموا به لم يصعب عليهم تركه، فيخرجون أشياء من المشتبهات

_ (1) اضطربت هذه الجملة في م. (2) م: شدة. (3) م: يلزم. (4) أن: سقطت من م. (5) يلعن: سقطت من م. (6) والميزان: لم ترد في م.

عن حكم وجد في بعضها ويقولون: هذا خرج عن أصله وشذ، والشاذ لا يقاس عليه. ونحن نقول: لو كان هذا الحكم المشذوذ عنه (1) أصلا للشاذ لما شذ عنه ما شذ، ولا يجوز أن ينبعث فرع من غير أصله. ولو كان ذلك، لما كان الأصل أصلا للمتأصل به، ولا كان المتأصل من الأصل متأصلا منه. ولا تظن أن ما خالف صورة نوعه الجامعة له أنه شاذ عن نوعه وأصله فتخطئ. لأنك إذا عملت علل التركيب علمت (2) أنه لم يشذ عن أصله البتة، وأن تلك الزوائد إنما هي من زيادة في مادة العنصر على مقدار ما يقوم منه الشخص التام وكذلك النقص أيضا هو نقص من مادة العنصر. فهكذا تكون الأصول الصحاح. ومثل هذا ما يستعمله النحويون في عللهم فإنها كلها فاسدة لا يرجع منها شيء إلى الحقيقة البتة (3) . وإنما الحق من ذلك أن هكذا (4) سمع من أهل اللغة الذين يرجع إليهم في ضبطها ونقلها، وما عداها (5) فهو، مع أنه [76ظ] تحكم وفاسد متناقض، هو (6) أيضا كذب، لأن قولهم كان الأصل كذا، فاستثقل فنقل إلى كذا، شيء يعلم كل ذي حس أنه كذب لم يكن قط، ولا كانت العرب عليه مدة، ثم انتقلت إلى ما سمع منها بعد ذلك. وقد قال الخالق الأول قولا كفى كل تعب إذ يقول تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (البقرة: 111) ثم زاد بيانا فقال تعالى: {فإن شهدوا فلا تشهد معهم} (الأنعام: 150) ثم زادنا (7) بيانا فقال تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (الأنبياء: 23) والذي (8) قلنا من تمييز العقل والحواس هو فعل الله عز وجل فلا يسأل لم كان ذلك، وما عداه ففعل لنا، لابد

_ (1) عنه: سقطت من س. (2) علمت علل التركيب: سقطت من س. (3) م: إلى حقيقة أصلاً. (4) س: هذا. (5) س: وما عدا هذا. (6) س: وهو. (7) س: زاد. (8) س: فالذي.

فيه من السؤال. بلم، فإن صح به برهان قبل وإلا رفض. وقد سمي بعضهم هذا الباب: " إجراء العلة في المعلول " ولعمري لو صح أن ذلك علة ككون القتل علة للموت القسري (1) ، والجوع علة لإرادة الغذاء، والعطش علة لإرادة الماء العذب، إن ذلك لواجب إجراؤها في معلولاتها حتى لا سبيل إلى أن يوجد أبدا قط في الدهر علة إلا ومعلولها موجود. وأما إن لم تكن هكذا فاعلم أنها ليست علة. وأما ما ادعى متحكم أنها علة دون برهان فغير واجب اجراؤها فيما (2) ليس معلولا بها. وبالجملة فليس في الشرائع علة أصلا بوجه من الوجوه ولا شيء يوجبها إلا الأوامر الواردة من الله عز وجل فقط، إذ ليس في العقل ما يوجب تحريم شيء مما في العالم وتحليل آخر، ولا إيجاب عمل وترك إيجاب آخر. فالأوامر أسباب موجبة لما وردت به. فإذا لم ترد فلا سبب يوجب شيئا أصلا ولا يمنعه. وإذا لم تكن العلة إلا التي لم توجد قط إلا وموجبها معها فليس ذلك إلا في الطبيعيات (3) فقط؛ وإذا كان ذلك فلا يجوز أن يوقع اسم علة على غير هذا المعنى فيقع التلبيس بإيقاع اسم واحد على معنيين مختلفين؛ وهذه (4) أقوى سبيل لأهل المخرقة. واعلم وتنبه لما أنا مورده عليك، إن شاء الله عز وجل: إن هذا الشيء الذي سموه استدلالا بالشاهد على الغائب وإجراء للعلة في المعلول إنما يصح به إبطال التساوي (5) في الحكم لا إثباته، لأنك متى وجدت أشياء مستوية في صفات ما وهي مختلفة الأحكام فلا تشك في اختلافها، بل معرفتنا باختلافها علم ضروري. وكذلك نكون حينئذ غير قاطعين على أن حكم ما غاب عن حواسنا من سائر تلك الأشياء الغائبة التي تساوي هذه الحاضرة في الصفة التي استوت هذه الحاضرة كلها فيها لا على أنه موافق لحكم هذه [76ظ] الحاضرة ولا على أنه مخالف. وهذا ما لا يخالفنا فيه

_ (1) القسري: سقطت من س. (2) س: مما. (3) س: الطبيعيات. (4) س: وهذا. (5) س: المتساوي.

خصومنا لأنه ضروري. فثبت أن المنفعة عظيمة صحيحة باختلاف المشاهدات في إبطال القطع بتساوي الغائبات عن الحواس معها، وإننا لا ننتفع باستواء المشاهدات فيما لم توجبه طبيعة العقل لها في معرفة حكم الغائبات. ألا ترى أننا إذا لم نجد حمارا يجتر لا نقطع على أنه لا يوجد، بل إن وجد لم ننكره؛ ولقد أخبرني مخبر (1) أنه صح عنده وجود فرس يجتر، ولم يوجد قط ذو قرن إلا وهو مشقوق الحافر حاشا الحمار الهندي (2) فهو ذو قرن وهو غير (3) مشقوق الحافر؛ ومثل هذه الأمور التي لا توجبها الطبيعة فهي في حد الممكن إلا أنها على قدر قلة وجودها وكثرته تدخل في الممكن البعيد أو المتساوي أو (4) القريب. ونجد النار مضيئة حمراء حارة، فمن قال إن (5) الضياء علة الإحراق أريناه أشياء مضيئة كالمرايا وغيرها وهي غير محرقة، ومن قال الحمرة علة الإحراق أريناه الدم غير محرق، ومن قال الحرارة علة الإحراق أريناه أشياء تحر الجسم ولا تحرق. فوجب ضرورة أن لا يكون شيء مما ذكرناه علة وهي صفات مطردة كما ترى؛ لكن كل عنصر بسيط حار يلبس صعاد مضيء مصعد للرطوبات قد (6) يسفل بالقهر ويستحيل هواء فهو محرق بلا شك، لأن طبيعة العقل تقتضي ذلك. ومن سلك الطريق التي نهينا عنها لم يسلم من حيرة أو تناقض أو تحكم بلا دليل. ومما قاد إليه أيضا هذا الاستدلال الفاسد قوما أن قالوا: لما كنا أحياء ناطقين وكانت الكواكب أعلى منها وفي أصفى مكان، وكان (7) تأثيرها ضاهرا فينا كانت أولى بالحياة والنطق منا، فهي أحياء ناطقة عاقلة. فيلزمهم على هذا البرهان الفاسد أنهم لما وجدوا كل عاقل مميز ناطق حي فيما بيننا إنما هو لحم ودم

_ (1) مخبر: سقطت من س. (2) الهندي: الوحشي في س. (3) وهو: سقطت من س. (4) أو: سقطت من س. (5) إن: سقطت من م. (6) قد: سقط من س. (7) س: كان.

وذو دماغ وقلب لا يجوز غير ذلك ولا شاهدوا قط حيا ناطقا إلا هكذا، أن (1) يقطعوا أن الكواكب والملائكة مركبون من لحم ودم وذوو أدمغة وقلوب لأنها أحياء ناطقة. وكل هذا خطأ لأنه ليس من أجل شرفنا على الحجارة وأننا نؤثر فيها وجب لنا النطق والحياة، ولا من أجل أننا ناطقون أحياء وجب أن نكون لحما ودما. ولكنا (2) لما كنا مميزين متصرفين مختارين حساسين وجب [77و] لنا اسم النطق والحياة عبارة عن حالنا تلك فقط وتسمية لها. وموه أيضا بعضهم فقال مثبتا لسكنى النفس في الدماغ أن الملك إنما يسكن أبدا (3) في القصاب العالية، والنفس ملك البدن، والدماغ أعلى البدن، فالنفس فيه. وكم رأينا ملكا لا يسكن إلا الحضيض من عمله ويدع القصاب. فعارضه محير مثله فقال مثبتا لأنها في القلب: إن الملك أبدا إنما يسكن أبدا وسط عمله، والقلب وسط البدن، فوجب (4) أن تكون النفس فيه. وكم ملك سكن (5) طرف عمله أو قرب طرفه (6) وترك الوسط. وهذا كله تحكم ضعيف. وكمن قال: وجدت الكلب طويل الذنب يصلح (7) لحراسة الغنم، والسبع طويل الذنب فيصلح أيضا لحراسة (8) الماشية. وهذا يكثر جدا وفيما ذكرنا كفاية. ومثل هذا استعمله قوم كثير فحرموا به وأحلوا وتحكموا في دين الله تعالى. وذلك مثل حكمهم بأن الكيل علة التحريم في الربا، وحكم آخرين أن (9) الادخار علة التحريم في الربا، وقال آخرون: الأكل هو علة التحريم في الربا (10) ، فهل

_ (1) س: إلا أن. (2) م: لكنا. (3) أبداً، وقعت بعد لفظة " الملك " في س. (4) س: وجب. (5) م: يسكن. (6) س: قرب عمله. (7) س: فيصلح أيضاً. (8) الغنم ... لحراسة: سقط من م. (9) س: وتحكم ... بأن. (10) وقال آخرون ... الربا: مكرر في س.

هذا إلا (1) كالذي ذكرنا قبل سواء سواء. وكذلك إن وجدنا صفة في موصوف ولذلك الموصوف حكم ما، فإذا ارتفعت تلك الصفة ارتفع ذلك الحكم، فإنه ليس واجبا من أجل هذا فقط أن يكون ذلك الموصوف متى وجدت له تلك الصفة وجد له ذلك الحكم بل لعله قد توجد له تلك الصفة ولا يوجد له ذلك الحكم. مثال ذلك: ان الحياة إذا لم تكن موجودة قط في جسم ما فواجب ضرورة أن ذلك الجسم ليس إنسانا بلا شك؛ فإن أراد امرؤ أن يجري على الطريق التي ذممنا له (2) لزمه أن يقول: فالحياة متى وجدت في جسم ما وجب أن يكون إنسانا وهذا كذب بحت. ومثال ذلك في الشريعة: أن ملكك إذا ارتفع عن شيء فقد صح ملكه إلى غيرك، أو صح أنه لا ملك لمخلوق عليه، فهذا حق (3) ؛ فإذا ارتفع ملك غيرك عنه لم يلزم أن يصح ملكه لك أو أنه لا ملك لمخلوق عليه، بل لعله يملكه ثالث غيركما. واعلم الآن أن المسامحة في طلب الحقائق لا تجوز البتة، وإنما هو حق أو باطل ولا (4) يجوز أن يكون الشيء حقا باطلا، ولا باطلا حقا، ولا باطلا لا حقا. فإذا بطل (5) هذا القسمان ببديهة العقل ضرورة ثبت القسم الثالث إذ لم يبق قسم سواه وهو إما حق وإما باطل. ولذلك قال لنا الأول الواحد عز وجل في عهوده إلينا: {فما [77ظ] ذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس: 32) . ولعل جاهلا يعترض علينا ها هنا في شيئين فيقول: أنتم تقولون بإباحة أشياء كالغناء (6) وغير ذلك فحق هي أم باطل فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن كل ما أبحناه إذا فعله الفاعل ترويحا لنفسه وعونا على الصحة والنشاط ليقوى على إنفاذ أوامر خالقه عز وجل فهذا (7) كله حق؛ وإذا فعله عبئا وأشرا فكل ذلك ضلال. إلا أن من الضلال ما هو لغو أي غير معدود علينا رفقا بنا. ومنه ما هو معدود علينا

_ (1) إلا: سقطت من س. (2) ذممنا له: ذممته في س. (3) س: فهو أحق. (4) س: لا. (5) م: أبطل. (6) في إباحة ابن حزم للغناء انظر رسالته في الغناء الملهي (رسائل ابن حزم 1: 419 - 439) . (7) م: فهو.

عدلا فينا. وقد قال لنا الخيرة المرسل إلينا (1) من قبل الواحد الأول، صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى " (2) . والشيء الثاني أن يقول الناقد (3) : قلتم لاشيء إلا حق أو باطل، فالحق برهاني: إما أولي وإما منتج عن أولي، إما بقرب وإما ببعد، وما عدا هذين الطريقين فباطل. وأنتم تحكمون بخبر الواحد في الأحكام وبشهادة الشاهدين، وتقرون أن حكمكم ذلك لعله باطل. فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن الحكم بخبر الواحد في الأحكام وبشهادة الشاهدين حق برهاني ضروري (4) نقطع على غيبه؛ وأما الجزئيات من ذلك، يعني من الشهادة، فلا ندري أموافقة هي للذي (5) تيقنا أنه حق أو (6) لا وهذا من تقصيرنا عن علم الغيب. إلا أننا متحققون (7) بلا شك في الحكم بذلك ثم (8) كل قضية منها فإما حق وإما باطل في ذاتها لابد من ذلك، ولم ندع علم كل حق وعلم كل باطل، بل كثير من الأمور يخفى علينا الحكم فيها إلا أنها (9) في ذواتها إما حق وإما باطل. ومن بديع ما غلط فيه إخواننا الموافقون لنا في النحلة (10) والملة المخالفون لنا في الفتيا (11) أن حكمين وردا في الشعير والتمر فنقلوا أحدهما إلى الزيتون والتين، ومنعوا من نقل الآخر إلى الزيتون والتين: وهو أن التحريم جاء في الشعير بالشعير والتمر بالتمر في البيع إلا مثله بمثل كيلا بكيل يدا بيد، وأمرنا بإخراج الشعير أو التمر في زكاة الفطر. فقالوا قول من تحكم: أما التحريم في البيع إلا مثلا بمثل (12)

_ (1) إلينا: سقطت من س. (2) متفق عليه عن عمر، انظر كشف الخفا 1: 166 والمقاصد الحسنة: 68. (3) م: يقول لنا قد. (4) ضرورة. (5) س: للتي. (6) م: أم. (7) م: محقون. (8) في الحكم بذلك ثم: سقط من س. (9) إلا أنها: قراءة م، وهي بهامش س. (10) س: الخلة. (11) س: الفتى. (12) م: إلا بالتماثل.

ويدا بيد فمنقول إلى الزيتون والتين، وأما الإعطاء في الزكاة فغير منقول إلى الزيتون والتين. ولهم من مثل هذا وأشنع آلاف قضايا مما نبينه في (1) كتبنا في أحكام الديانة، إن شاء الله عز وجل. والتحكم باللسان لا يعجز عنه من رضيه لنفسه [78و] والباطل كثير. وأما الذي يحمد الواهب المنعم عز وجل عليه أهله فالحق، والذي يجب أن يفرح به الحاصل عليه فما أوجبه البرهان. واعلم أنه لا فرق فيما تصح به الأحكام الشريعية وبين ما تصح به القضايا الطبيعية في مراتب البرهان الذي قدمنا؛ بل الخطأ في الشرائع أضر وأشد فسادا في الدنيا، وأردى عاقبة في الأخرى، وأحق بالنظر فيه والاهتبال (2) بتصحيحه، وأولى بترك المسامحة وأحضى بتحري الصواب، وأن لا يقدم فيها إلا على ما أوجبته مقدمات مقبولة (3) عن مثلها إلى أن تبلغ أوائل العقل والحس، وبالله تعالى التوفيق، وله الحمد ومنه الاستزادة من جميل مواهبه. والخطأ في كل (4) ذلك يشمله اسم (5) الباطل وتنفرد هذه الجهة (6) بالنكال في الدار الآخرة لمن عاند وترك البحث هو قادر عليه. واعلم أن المتقدمين سموا المقدمات " قياسا "، فتحيل إخواننا القياسيون حيلة ضعيفة سوفسطانية بأن أوقعوا اسم القياس على التحكم والسفسطة، فسموا تحكمهم بالاستقراء المذموم قياسا، وسموا حكمهم فيما لم يرد فيه نص بحكم شيء آخر مما ورد فيه نص لاشتباههما في بعض أوصافهما قياسا واستدلالا وإجراء للعلة في المعلول. فأرادوا تصحيح الباطل بأن سموه باسم أوقعه غيرهم على الحق الواضح كالذي بلغنا عن بعض جهال البربر أنه أراد استحلال أكل خنوص صاده بأن سماه باسم ولد الأيل. وقد جاء عن الرسول، عليه السلام، أنه أنذر بقوم يستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها. وهذه حيلة مموهة لا تثبت على التخليص. وقد قلنا قبل إنه ليس في العالم شيئان

_ (1) م: من. (2) س: والاحتيال. (3) س: موجودة. (4) كل: سقطت من س. (5) اسم: سقطت من س. (6) س: الحملة.

إلا وبينهما شبه ما وافتراق ما ضرورة لابد من ذلك. فإن كان الشبه يوجب استواء الحكم فليحكموا (1) لكل ما في العالم بحكم واحد في كل حال من أجل اشتباهه في صفة ما، ولم كان الاجتماع في الشبه يوجب استواء الحكم ولم يكن الافتراق في الشبه يوجب اختلاف الحكم فينبغي على هذا أن لا نحكم لشيئين أصلا بحكم واحد لأجل اختلافهما في صفة ما. وكل هذا خطأ وحيرة ومؤد إلى التناقض والضلال، ونعوذ بالله من ذلك كله، ولا حول ولا قوة إلا بالله (2) . 15 - باب زيادة من الكلام بيان السفسطة وسمت الأوائل ما أخذ من مقدمات فاسدة " سفسطة ". ونحن نبين منها وجوها كافية بحول الله الواهب (3) للعلم وقوته، لا اله إلا هو. واعلم أن المشغب الناصر للباطل أعظم سلاحه التلبيس، وذلك يكون إما بإيجاب ما لا يجب، وإما بإسقاط قسم من الأقسام (4) أو أكثر من قسم، وإما بزيادة قسم فاسد [78ظ] ، أو بأن يأتي بأقسام كلها فاسدة (5) ، وإما أن يتعلق بلفظ مشترك متفق على صحته يعطي أشياء كثيرة مختلفة الأحكام والصفات ومتفقة أيضا في أشياء؛ فيريد (6) أن يخص بما (7) اتفقت فيه بعض ما يعطي الاسم دون جميعه (8) ، أو يريد أن يعم جميع ما يقع عليه ذلك الاسم بما (9) يخص بعض ما يقع عليه ذلك الاسم، أو يأتي هو به (10) ابتداء. فإيجاب ما لا يجب هو نحو أن يقول: لو كان الباري تعالى غير جسم لكان عرضا

_ (1) س: فليحكم (دون إعجام) . (2) م: والضلال نعوذ بالله منه. (وسقط ما بعدها) . (3) م: بحول الواهب. (4) م: أقسام. (5) م: فواسد. (6) س: ويريد. (7) س: ما. (8) س: جميعها. (9) س: مما. (10) س: به هو.

فلما ثبت أن الباري تعالى ليس عرضا صح أنه جسم. فهذا علق كونه (1) تعالى غير جسم بكونه عرضا وهذا لا يجب، ولو علق ذلك بما يوجب قضيته لكان صادقا، وذلك لو قال: لو كان الباري تعالى محدثا أو كان غير جسم لكان عرضا. فهذا تقديم (2) صحيح، لكن الباري تعالى ليس محدثا فليس جسما ولا عرضا. وإنما نحن الآن في بيان صحة عمل القرائن لا في بيان الجزيئات، ولذلك مكانه. وأما إسقاط قسم فكقول القائل: لا يخلوا هذا اللون من أن يكون أحمر أو أخضر أو أصفر أو أسود فقط أسقط (3) الأبيض واللازوردي وغير ذلك. وأما زيادة قسم فاسد فكقول القائل: لا يخلو هذا الشيء من أن يكون هو هذا الشيء أو هو غيره أو لا هو هو ولا غيره. فهذا قسم فاسد زائد. وأما المجيء بأقسام كلها فاسدة فكقول القائل: لا يخلوا الباري تعالى من أن يكون فعل الأشياء كلها (4) لدفع مضرة أو لاجتلاب منفعة أو لطبيعة أو لآفة (5) أو لجوده وكرمه. فهذه كلها أقسام فاسدة. والصحيح أنه فعل (6) لا لعلة ولا لسبب أصلا. فمن ادعى على خصمه أنه أتاه بشيء من هذه الوجوه فعليه أن يبين ذلك. وأما الغلط الواقع من اشتباه الأسماء فيكون من جاهل ومن عامد، فأما الجاهل فمعذور وأما العامد فملوم (7) . فالجاهل غلطه في ذلك نحو غلط عدي بن حاتم إذ سمع الآية: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} (البقرة: 187) فطنها من الخيوط المعهودة. وأما العامد فنحو الذين قيل لهم " راعنا " من المراعاة فقالوا راعنا من الرعونة؛ ومثل ما قال بعض الأكابر وقد سئل عن اللفظ بالقرآن فقال: هذا السؤال محال واللفظ بالقرآن لا يجوز لأنه لا يلفظ،

_ (1) س: أنه. (2) م: تقرين (دون إعجام الياء) . (3) س: بعد إسقاط. (4) كلها: سقطت من س. (5) م: لأنه. (6) س: فعلها. (7) س: فمذموم.

فأضرب عن اللفظ الذي هو القول والكلام وتعدى إلى اللفظ (1) الذي هو القذف كلفظ الرجل لقمة من فيه. فهذا ونحوه شعاوذ مضمحلة. وكذلك ينبغي لك (2) أن تتحفظ من اشتباه الخط ولا سيما في الخط العربي فأن ذلك فيه فاش لأن لأكثر حروفه (3) لا يفرق بينها في الصور إلا بالنقط كزبد [79و] وزيد (4) وزند وربد ورند (5) وما أشبه ذلك. وقد كتب بعض الخلفاء إلى عامله: احص المخنثين قبلك، يريد إحصاء العدد، فقرأها الكاتب " اخص " فخصى كل من كان قبله منه. ولهذا صار طالب الحقائق مضطرا إلى قراءة (6) النحو. ألا ترى أن قارئا لو قرأ: إنما يخشى الله من عباده العلماء، فرفع الهاء من الله ونصب الهمزة من العلماء قاصدا إلى ذلك، وهو عالم، لكان ذلك خروجا عن الملة وكذلك لو قرأ: إن الله بريء من المشركين ورسوله - بكسر اللام من رسوله - فتحفظ من مثل هذا تحفظا شديدا على ما نصف لك بعد هذا، إن شاء الله عز وجل. ومن ذلك أشياء تقع في العطوف محيرة، كنحو ما غلط فيه جماعة من العلماء في قول الله عز وجل: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} (آل عمران: 7) فظنوا أن " الراسخون في العلم " معطوفون على الله عز وجل؛ وليس كذلك وإنما هو ابتداء كلام وقضية، وعطف جملة على جملة، لبرهان ضروري قد ذكرناه في موضعه. ومن السفسطة أيضا تصحيح شيء آخر، وبطلانه ببطلان شيء آخر، بلا برهان يوجب إضافتهما. فلذلك فاسد جدا، كقول من قال: لو جاز أن يكون الباري عز وجل مرئيا رؤية غير المعهودة لجاز أن يشم شما غير المعهود (7) ؛

_ (1) اللفظ: سقطت من س. (2) لك: أيضاً في م. (3) م: لأن كثيراً من حروفه. (4) م: كزيد وزبد. (5) م: ورثد ورند وربد. (6) قراءة: سقطت من س. (7) لجاز ... المعهود: سقط من س.

وكقول القائل: لما صح التحريم في البر بالبر متفاضلا صح التحريم في الأرز بالأرز متفضلا. وهذا كله تحكم دعوى. وليس يعجز أحد عن ربط شيء بشيء لا رباط بينهما بلسانه إذا استجاز القطع بما اشتهى. وكقول من قال من العميان: لو كان اللون مرئيا لكان العقل مرئيا، فلما كان العقل غير مرئي وجب أن اللون غير مرئي، فتأمل هذا كله تجده بهتانا وجهلا ودالة في (1) غير موضعها كدالة الصبيان على آبائهم ولا فرق. فلذلك (2) قد أتينا على ما يحتاج إليه من بيان البرهان الصحيح وذكر جمل الجدليات الفاسدة والشغبيات الساقطة وبيان كثير منها بمقدار ما يميزها به الطالب إذا رآها؛ وقلنا إن كل ما عدا البرهان على الطريق (3) التي قدمنا فواجب اجتنابه. ولعمري لقد أكثرنا من البيان وكررنا لأن خطاء أصحابنا كثر في ذلك وفحش جدا فاحتجنا إلى المبالغة في البيان، فلنقتصر على ذلك، ولنأخذ في الزيادة في فضل ما أدركنا (4) بالعقل. وبالله تعالى نعتصم ونتأيد لا إله إلا هو (5) . 16 - باب الكلام في فضل قوة إدراك العقل على إدراك الحواس واعلم أن الحواس السليمة قد تقصر على كثير من مدركاتها وقد تضعف عنها وقد تخطىء ثم لا يلبث أن يستبين للنفس [79ظ] غلطها وتقصيرها وما خفي عنها وتدركه إدراكا تاما على حقيقته. وإدراك العقل في كل ذلك إدراك واحد، وبالجملة فالعقل قوة أفرد الباري تعالى به النفس ولم يجعل فيه شركة لشيء من الجسد. وإدراك النفس من قبل الحواس فيه للجسد شركة، والجسد كدر ثقيل فإدراكها بالعقل إذا نظرت به ولم تغب عليه الشهوات الجسدية أو سائر أخلاقها المذمومة إدراك صاف تام غير مشوب. ومن أقرب ما نمثل لك به كدر النفس بمشاركتها الجسد وصفائها بانفرادها عنه وخفة الجسد بمشاركة النفس وثقله بانفراده عنها ما ترى من حال النائم

_ (1) س: على. (2) م: فإذ. (3) س: غير الطريق. (4) م: أدرك. (5) وبالله ... هو: إن شاء الله عز وجل في م.

فإن جسده حينئذ أثقل وزناً (1) ويعلم ذلك من اكترى من الحمالين (2) فإنهم يكثرون نهيه عن النوم حتى إذا استيقظ خف وزنه واستقل. وترى النفس في حال النوم قد تشاهد جزءا من النبوة بالرؤيا الصحيحة مما لا سبيل إلى مشاهدته في حال اليقظة. وهكذا كلما انفردت وتخلت عن الجسد أدركت غوامض الأشياء وصحيح العواقب في الآراء حتى إن المرء في تلك الحال لا يسمع كلام من معه ولا يرى كثيرا مما بحضرته (3) . ثم نعود إلى ما بدأنا به فنقول، وبالله تعالى التوفيق: إنك ترى الإنسان من بعيد صغير الجرم جدا كأنه صبي، وأنت لا تشك بعقلك أنه أكبر مما تراه، ثم لا يلبث أن يقرب منك فتراه على قدره الذي هو عليه الذي لم يشك العقل قط في أنه عليه. وكذلك يعرض لك في الصوت. وأيضا فإن الشيء إذا بعد عن الحاسة جدا بطل إدراكها جملة، فإن الإنسان إذا كان منك على خمسة أميال أو نحوها رأيت (4) شبحه ولم تستبن عينيه ولا سمعت صوته أصلا، حتى إذا قرب استبنت كل ذلك وميزت لون عينيه وسمعت كلامه. وكهدم رأيته من بعيد ولم تسمع صوته ولم يشك العقل أن (5) له صوتا مرعبا لو قربت منه لسمعته. فالعقل في كل ما ذكرنا لا يخون. وأما في حس الجسم فكخردلة تزاد في حمل الإنسان فلا يحس بها البتة، حتى إذا كثر صب الخردل لم يلبث أن يعجز عن الاستقلال به ولو أنه صب على ظهر فيل أو سفينة بحرية. والعقل يعلمك أن تلك الخردلة المصبوبة أولا (6) لها نصيب من الثقل ضرورة، إلا أن الحس قصر عن إدراكه لتأخر إدراك الحس عن إدراك العقل وأنه لا يدرك إلا ما ظهر ظهورا قويا وقد يخفى عليه كثير من الحقائق كما ترى. والعقل، كما بينت لك، يدرك حصة الخردلة من الثقل إدراكا لا فرق بينه وبين إدراكه حصة ما (7) ظهر إلى الحس من

_ (1) وزناً: مكررة في س. (2) م: الجمالين. (3) س: يحضره. (4) س: نظرت. (5) م: والعقل لا يشك فيه أن. (6) أولاً: سقطت من س. (7) س: إدراك ما.

ثقل القناطير المجتمعة. وهكذا الشم (1) فإن مقدار فلس من حلتيت يكون معك في البيت فلا تشمه أصلا [80و] حتى إذا كثرت أجزاء الحلتيت لم يلبث الشم أن يجده ويضجر منه؛ والعقل موقن أن لذلك الفلس جزءا من النتن، وهكذا (2) القول في المسك. والعقل أيضا يعلمك أن قوة الرائحة في القليل والكثير واحدة، ولكن الكثير إذا اجتمع كثر افتراق ما ينحل (3) منه في الهواء فشغل مكانا واسعا. وكذلك السماء، لا نراها متحركة والعقل يوقن أنها متحركة بما نرى من اختلاف حركتي الأجرام التي فيها من شرق إلى غرب بحركة السماء لها، ومن غرب إلى شرق، وبانتقالها في الدرج وحركتها بذاتها (4) . وكذلك العين لا تستبين حركة الشمس أصلا، حتى إذا بقيت مدة لاحت لها حركتها يقينا بأن تراها في كبد السماء بعد أن تراها (5) في أفق المشرق. وكنماء الأجسام من الحيوان والنبات فإنك لا تستبين نموه على أنه بين يديك ونصب عينيك حتى إذا مضت مدة رأيت النماء بعينيك (6) ظاهرا وعلمت نسبة زيادته على ما كان، والعقل يشهد أن لكل ساعة مرت (7) حظا من نمو ذلك الشجر (8) لم تتبينه (9) ببصرك. وهذا إذا تدبرته كثير جدا. وقد بينا في باب الكلام في الكيفية من هذا الديوان مشاركة العقل للحواس في جميع مدركاتها وانفراده دونها بأشياء كثيرة؛ فلولا العقل ما عرفنا الغائب (10) عن الحواس ولا عرفنا الله عز وجل. ومن كذب عقله فقد كذب شهادة (11) الذي لولاه لم يعرف ربه، وحصل في حالة المجنون، ولم يحصل على حقيقة. وبالفكر والذكر

_ (1) م: النسيم. (2) م: وكذلك. (3) س: إذا كثر افترق ما يتحلل (دون إعجام يتحلل) . (4) م: بذواتها. (5) م: رأتها. (6) م: بعينك. (7) مرت: سقطت من س. (8) م: الشيء. (9) م: تستبنه. (10) س: الغائبة. (11) م: شاهده.

تؤخذ المقدمات أخذا صحيحا بأن تنظر النفس في ضم طباع الأشياء بعضها إلى بعض حتى يقوم مرادها فيما تريد علمه وهذا الذكر مبثوث (1) في الحيوان. والحيوان قد يتفاضل فيه: فمن الحيوان ما يميز ربه ويذكر عليه (2) وإن غاب عنه، ويهش إليه إذا قدم عليه؛ وأقواها في ذلك الفيل والكلب والقرد والدب ثم السنور؛ ومن الحيوان ما يذكر ذكرا دون ذلك كالفرس والبعير؛ ومن الحيوان سائر ما ذكرنا لا يذكر شيئا من ذلك كالديك وغيره. واعلم أن العقل والحس والظن والتخيل قوى من قوى النفس. وأما الفكر فهو حكم النفس فيما أدت إليها هذه القوى وأما الذكر فهو تمثل النفس لما أدته إليها هذه القوى فتجد النفس إذا افتقدت بالنسيان شيئا مما اختزنته تتطلبه وتفتشه في مذكوراتها بالفكر كما يفتش رب المتاع متاعه إذا أتلفه أو اختلط له بين أمتعة شتى، فيبحث عنه في وجه وجه ومكان مكان حتى يجده فيؤوب (3) إليه، أولا يجده أصلا. وهكذا النفس سواء سواء، فسبحانه مدبر كل ذلك ومخترعه لا إله إلا هو. وليس في القوى التي (4) ذكرنا شيء [80ظ] يوثق به أبدا على كل حال غير العقل فبه تميز مدركات الحواس السليمة والمدخولة (5) بالمرض وشبهه، كوجود العليل طعم العسل مرا كالعلقم، والعقل يشهد بالشهادة الصحيحة الصادقة أنه حلو، وكما ترى الشيء في الماء بخلاف شكله الذي يشهد العقل أنه شكله على الحقيقة. وأما الظن فأكذب دليل لأنه يصور لك الرجل الضخم المتسلح شجاعا ولعله غاية في الجبن، ويصور لك المتفاوت الطلعة بليدا ولعله غاية في الذكاء. وقد نبه الله تعالى على هذا فقال: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج: 46) . فأخبر عز وجل أن الحواس تبع للعقل، وأن ذا العقل الذي يغلب هواه عليه لا ينتفع بما أدركت حواسه؛ وقال تعالى {إن بعض

_ (1) س: مثبوت. (2) م: ويذكره. (3) م: فيثوب؛ س: فيؤب. (4) م: الذي. (5) س: والمخذلة.

الظن إثم} (الحجرات: 12) ؛ وروي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " الظن أكذب الحديث " (1) . وأما التخيل فقد يسمعك صوتا حيث لا صوت، ويريك شخصا ولا شخص، وقد قال تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} (طه: 66) فأخبر تعالى بكذب التخيل. والعقل صادق أبدا، قال تعالى مصدقا لاعتراف من فضل شواهد عقله بالخطأ: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} (الملك: 10 - 11) . وقال تعالى ذاما لمن أعرض عن استعمال عقله: {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} (يوسف: 105) . وقال تعالى مبطلا (2) لكل ما لم يقم عليه برهان: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} . (البقرة: 111) . وقال تعالى (3) ذاما لمن تكلم بغير علم وحامدا لمن حاج بعلم (4) : {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} (آل عمران: 66) . وقال تعالى في مثل ذلك: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} (يونس: 39) . فهذه وصايا الواحد الأول (5) التي أتانا بها رسوله، صلى الله عليه وسلم، وهذه موجبات العقول، فأين المذهب عن الخالق تعالى وعن العقل المؤدي إلى معرفته إلا إلى الشيطان الرجيم والجنون المؤدي إلى الضلال (6) المبين، نسأل الممتن بالنعمة أن يزيدنا من المعرفة الفاضلة، وأن لا يسلبنا ما منحنا من العقل ومحبة استعماله (7) وتصديق شهاداته (8) ؛ وإلى العقل نرجع في معرفة صحة الديانة وصحة العمل

_ (1) أوله: إياكم والظن فإن الظن ... الخ. وقد ورد في عدة مواطن من صحيح البخاري (مثلاً وصايا: 8) . وصحيح مسلم (بر: 28) ومسند أحمد 2: 245، 287 وانظر الجامع الصغير 1:116 وكشف الخفا 1: 214. (2) مبطلاً: في م وحدها. (3) تعالى: في م وحدها. (4) وحامداً ... بعلم: سقط من س. (5) م: الأول الواحد. (6) س: المودي والضلال. (7) ومحبة استعماله: ومحبته في م. (8) م: شهادته.

الموصلين إلى فوز الآخرة والسلامة الأبدية، وبه نعرف حقيقة العلم، ونخرج (1) من ظلمة الجهل، ونصلح تدبير المعاش والعالم والجسد (2) . ومن الناس من يستشهد بالعقل على تصحيح شيء ليس في العقل إلا إبطاله، كمتطلب في العقل عللا موجبة لجزئيات الشرائع، فإنه ليس في العقل إلا وجوب الائتمار للأول الخالق فقط في أي شيء أمر به، ولو [81و] أنه (3) قتل أنفسنا فمن دونها بأنواع المثل (4) ؛ وأما علة موجبة لتحريم لحم الخنزير وإباحة لحم التيس، أو لإيجاب الصلاة بعد زوال الشمس والمنع منها حين طلوعها، أو لأن تكون صلاة أربع ركعات وأخرى ثلاثا، أو صيام شهر رمضان دون ذي الحجة، أو الحج إلى مكة في ذي الحجة دون الحج إلى غيرها في شهر آخر، وقتل من زنا وهو محصن عفا عنه زوج المزني بها أو أبوها أو لم (5) يعفوا، أو تحريم قتل من قتل النفس المحرمة إذا عفا عنه الولي. ولا تحريم المشقوق البطن أو المخنوق (6) وتحليل المذبوح أو المنحور، فليس ابتداء هذا كله في العقل أصلا. وهكذا جميع الشرائع (7) ، وهكذا جميع أفعال الخالق تعالى فإنه خلق الحمار خلقا مهين للسخرة، وخلق الفرس للركوب، وحبا صورة الإنسان بالعقل، وسلط الكلب على الظبي، وأباح ذبح بعض الحيوان دون بعض للأكل، وخلق بعض الحيوان طيارا وبعضه مائيا، وبعضه طعاما لبعض، وبعضه ناطقا وبعضه جاهلا، وبعضه ذا رجلين وبعضه ذا أربع أرجل وبعضه ذا ست أرجل وبعضه ذا أكثر من ذلك وبعضه بلا أرجل أصلا، وخلق الأسد شجاعا جريئا والقرد جبانا هلوعا، وخلق أشياء حادة الإبصار وخلق الخلد أعمى، وخلق ذوات السموم المؤذية للحيوان. وهكذا رتب الخالق الكريم الأشياء كلها (8) . ويلزم من فر عن

_ (1) م: يعرف ... ويخرج. (2) م: العالم والجسد والمعاش. (3) س: بأنواع. (4) س: فمن دونها السل. (5) س: لا. (6) س: المخبون. (7) جميع: سقطت من س. (8) م: رتب الخلق كله.

هذا إلى أن النفس فعلت ذلك (1) إيجاب العجز أو المسامحة في العبث على أصله للباري، تعالى عن ذلك. وقد بينا هذا (2) في كتاب (3) " الفصل " بيانا كافيا. وإنما العقل قوة تميز بها النفس جميع الموجودات على مراتبها وتشاهد بها ما هي عليه من صفاتها الحقيقية لها فقط وتنفي بها عنها ما ليس فيها. فهذه حقيقة حد العقل ويتلوه في ذلك الحواس سواء سواء، وهذا التميز هو حد إدراك العقل الذي لا إدراك له غيره. وأما حد منفعة العقل فهي استعمال الطاعات والفضائل، وهذا الحد ينطوي فيه اجتناب المعاصي والرذائل، والكلام في هذا وغيره مما هو متصل به (4) مستوعب، إن شاء الله تعالى، في كتابنا " في أخلاق النفس " (5) . واعلم أن الأكثر في الناس جدا فالغالب عليهم الحمق وضعف العقول، والعاقل الفاضل نادر جدا وقليل البتة، وهذا يوجد حسا. وقد ورد النص بذلك عن الخالق الأول وعن خيرته المبتعث إلينا صلى الله عليه وسلم،. قال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} (الأنعام: 116) . وقال رسول الله [81ظ] صلى الله عليه وسلم: " الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة " (6) . وأما ما (7) يظنه أهل ضعف العقول من أنه عقل وليس عقلا ولا مدخل للعقل فيه فقد غلطوا في ذلك كثيرا، فإنهم يظنون العقل إنما هو ما حيطت به السلامة في الدنيا ووصل به إلى الوجاهة والمال (8) ؛ وهذا إذا

_ (1) س: ذلك في. (2) س: ذلك. (3) كتاب: سقطت من س. (4) به: سقطت من س. (5) هي رسالته في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق، انظر الجزء الأول من رسائله: 323 - 414. وقد تحدث فيها عن حد العقل فقال: " وأما إحكام أمر الدنيا والتودد إلى الناس بما وافقهم وصلحت عليه حال المتودد من باطل وغيره أو عيب أو ما عداه، والتحيل في إنماء المال وبعد الصوت وتمشية الجاه بكل ما أمكن من معصية ورذيلة، فليس عقلاً ... لكن هذا الخلق يسمى الدهاء (الرسائل 1: 379) ، وقال أيضاً: " حد العقل استعمال الطاعات والفضائل، وهذا الحد ينطوي فيه اجتناب المعاصي والرذائل (رسائل 1: 378) . (6) صحيح مسلم (فضائل الصحابة) : 232 ومسند أحمد 2: 7، 44، 70 ... (7) ما: سقطت من س. (8) انظر التعليق السابق رقم: 5 المنقول عن رسالته في مداواة النفوس.

كان بطرق محمودة مما لا معصية فيه ولا رذيلة (1) فهو عقل، وأما إذا كان بما أمكن من كذب ومنافقة وتضييع فرض وظلم إنسان ومساعدة على باطل فهو ضد العقل، لأن العقل (2) بعد نهي الله تعالى الوارد علينا بذم هذه الخلال يذمها (3) ذما صحيحا. فكيف يكون (4) عقلا ما يذمه العقل ويفسده وينهى عنه ولم يوجد العقل إلا ذاما لهذه الرذائل ولا ورد الأمر من الله عز وجل قط إلا بذمها. وكذلك ما ظنه آخرون من (5) أن من العقل المحمود الذي لا ينبغي خلافه التزام أزياء معهودة لا معنى لها فليس هذا إذا حصلته إلا حمقا وجهلا وليس هذا من العقل في شيء. وبيان ذلك مذكور في كتابنا في " أخلاق النفس والسيرة الفاضلة " (6) وفي كتابنا في " السياسة " (7) إن شاء الله عز وجل، والله تعالى الموفق (8) لكل فضيلة. واعلم أنه لا يدرك الأشياء على حقائقها إلا من جرد نفسه عن الأهواء كلها ونظر في (9) الأراء كلها نظرا واحدا مستويا لا يميل إلى شيء منها، وفتش أخلاق نفسه بعقله تفتيشا لا يترك فيها من الهوى والتقليد شيئا البتة، ثم سلك بعقله الطريق التي وصفنا في هذا الديوان واجتنب ما عداها مما قد رأينا أعلام كل ذلك، فإنه من فعل ما قلنا فضمان له إدراك الحقائق على وجودها في كل مطلوب وقد نبه الله عز وجل على ذلك في عهوده إلينا فقال: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} (النجم: 23) وقال تعالى (10) : {إن يتبعون إلا الظن وإن

_ (1) س: زيادة. (2) لأن العقل: سقطت من س. (3) الخلال يذمها: الحال في س. (4) م: يدعو. (5) من: سقطت من م. (6) قد سبقت الإشارة إليه. (7) أظن أن هذا الكتاب شيء مختلف عما سمي " كتاب الإمامة والسياسة في قسم سير الخلفاء، ومراتبها والندب إلى الواجب منها " (الرسائل 1: 9) وإنما هذا المذكور هنا ربما كان ما ذكره ابن عباد الرندي في الرسائل الصغرى: 51. ونقل منه شيئاً في بعض أحوال النفس الإنسانية وقد نص هنالك أن النفس قد تقدم على الأعمال الشاقة من غير تصور غرض ولا تحصيل عوض. (8) م: وبالله تعالى التوفيق. (9) م: من. (10) أن يتبعون ... تعالى: سقط من م.

الظن لا يغني من الحق شيئا} (النجم: 28) وقال تعالى: {فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} (الزمر: 18) . واعلم أن الناس إلا من عصم الله تعالى، وقليل ما هم، يقبحون فعل من حكم بالهوى ويضللون من قلد ويبطلون التقليد، وهم لا ينطقون بكلمة بعد هذا إلا وهي راجعة إلى أحد هذين الوجهين الخبيثين اللذين قد شهدوا بقبحهما وخطاء من اتبعهما؛ فتأمل هذا تجده كثيرا، وكفى بذم الله تعالى هؤلاء إذ يقول: {لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن [82و] تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 2 - 3) نعوذ بالله من مقته. إلا أننا نقول إن (1) من أحسن في وجه وأساء في آخر أفضل ممن أساء في كل وجه فهؤلاء ممقوتون لفعلهم خلاف قولهم، فلو أنهم مع إساءتهم في فعلهم يذمون الحقائق لتضاعف مقتهم لتضاعف إساءتهم، نعوذ بالله من الخذلان. وإذ قد أتينا في هذا الغرض بجمل كافية على أن الكلام في ذلك يطول جدا ويتسع - فلنقطع، على مذهبنا في هذا الديوان في الاختصار والبيان (2) إن شاء الله عز وجل، ولنأخذ بحول خالقنا تعالى في كيفية المناظرة ووجوهها المحمودة والمذمومة ومراتبها فهي متعلقة بما تقدم أن شاء الله تعالى. 17 - باب أقسام السؤال عما تريد معرفة حقيقته (3) مما يرتقى (4) إليه بالدلائل الراجعة إلى الأوائل التي قدمنا اعلم أنه لا يوصل إلى معرفة حقيقة بالاستدلال إلا بالبحث، والبحث يكون عن فكر واحد، ويكون عن تذكر من اثنين، فإما من معلم إلى متعلم وإما من متناظرين مختلفين باحثين؛ وهذا الوجه هو آخر ما نتوصل به إلى بيان الحقائق لكثرة التقصي فيه وأنه لا يبقى بعد توفيته حقه بقية أصلا. فنقول وبالله تعالى التوفيق وبه نتأيد (5) :

_ (1) إن: سقطت من س. (2) والبيان: سقطت من م وفوقها علامة خطأ في س وحذفها أولى. (3) م: عما تريد حقيقة. (4) م: يترقى. (5) م: وبالله تعالى نتأيد ونستعين.

اعلم أنه لابد في (1) أول السؤال عن كل مسؤول عنه مما يترقى إليه بالدلائل الراجعة إلى الأوائل التي قدمنا من سؤالات أربعة (2) ولكل واحد (3) منها نوع من الجواب: فأولها السؤال " بهل " فنقول: هل هذا الشيء موجود أم لا وهل أمر كذا حق أم لا فلابد للمسؤل حينئذ من جواب (4) ضرورة بلا أو نعم؛ فإن قال لا أو قال لا أدري سقط السؤال عنه، على كل حال، لأن الشيء المسؤول عنه لا يخلو من أن يكون مما يدرك بأول العقل (5) وبالحواس أو مما يدرك بالتوالي من المقدمات التي وصفنا، فإن كان مما يدرك بالحواس أو أول (6) العقل فالكلام مع منكر ذلك عناء وكذلك مع من شك فيه. وإن كان مما يدرك بالتوالي فالسؤال أيضا عنه ساقط لأنه مغلوب ولكن لم يثبت شيئا فيتمادى معه في البحث عنه ولأنه قد صدق عن نفسه إذ قال لا أدري؛ ولا سبيل إلى أن يقال لأحد فيما ليس مدركا بأول العقل والحواس لم لم تدر هذا لكن حتى يثبت عنده بالدلائل ثم حينئذ يلزمه الإقرار بموجبها؛ فعلى من أراد إلزامه الإقرار بأمر ما أن يبينه (7) له ويثبته (8) لديه، إذ (9) الواجب أن لا يصدق أحد بشيء لم يقم عليه دليل [82ظ] وأن يصدق به إذا قام عليه الدليل. وإما إبطال المرء بالبراهين ما أثبته مثبت بلا برهان فهو تبرع منه وقوة، وذلك غير لازم له، إذ المثبت للشيء بلا برهان مدع والدعوى ساقطة إذا لم يؤيدها دليل. والأصل في البنية أن المرء ولد وهو لا يعلم شيئا ثم سمع الأقوال، وكل أحد يحسن عنده رأيه فلا سبيل إلزامه الإقرار بشيء منها أصلا إلا بأن يوجب برهان صحة شيء منها فيلزمه حينئذ، وإلا فليس بعضها أولى بالتصديق من بعض، ولا سبيل إلى أن

_ (1) في: سقطت من س. (2) س: أربع. (3) واحد: سقطت من س. (4) م: الجواب. (5) بأول العقل: بالعقل في س. (6) أول: سقطت من س. (7) أن يبينه: تبيينه في س. (8) س: وتثبيته (دون إعجام) . (9) س: فإذ.

تكون كلها حقا فتصدق (1) بجميعها. ونفيها كلها والشك فيها ممكن حتى يقوم البرهان على صحة الصحيح منها. فإن أجاب بنعم وصحح ما سئل عنه، سئل (2) حينئذ بالمرتبة الثانية وهي السؤال " بما هو (3) " وهو تال للسؤال بهل فيقال له إذا حققه (4) فما هو أي أخبرنا بجوهره أو حده أو رسمه أو ما يمكن أن تخبرنا به عنه من صفات ذاته الملازمة له، (5) أو بما يخبر به عنه مما قام به البرهان إن كان لا يدخل تحت حد، وهذا للباري وحده تعالى (5) . فإذا أخبر بما أخبر به من ذلك سئل بالمرتبة الثالثة وهو السؤال " بكيف " أي هذا الذي حققت كيف حاله (6) وكيف هيئته وكيف وجود ما أثبت له فيه، (7) وهذا لا يدخل فيه الباري تعالى ولا في الرتبة الرابعة أصلا (7) . فإذا أخبر (8) بما أخبر به من ذلك (9) سئل بالمرتبة الرابعة وهي " لم " فيقال له لم كان ما أثبت كما وصفت وما برهانك على صحة ما ادعيت مما ذكرت ولا سؤال عليه فيما لم يذكر أخل أو لم (10) يخل إلا بأن يدعى عليه تناقض أو نقص (11) . فعلى من أثبت عليه ذلك أن يقيم البرهان على ما نسب إليه من صحة تناقضه أو نقصه (12) وفي هذه المرتبة الرابعة يقع الاعتراض وطلب الدلائل وإزافتها؛ ومثال ذلك أن

_ (1) م: فيصدق. (2) سئل: سقطت من م. (3) بما هو: بما في س. (4) م: إذ حققته. (5) - (5) : سقط من س. (5) - (5) : سقط من س. (6) س: حققت حاله وأي شيء. (7) - (7) : سقط من س. (7) - (7) : سقط من س. (8) س: أخبرنا. (9) من ذلك: في م وحدها. (10) لم: سقطت من س. (11) س: يدعي ... تناقضاً أو نقضاً. (12) س: مناقضة أو نقض.

تقول (1) . هل يوجد كسوف قمري أم لا، فيقول المجيب: نعم هو موجود، فلو قال لا قيل له: فهذا السواد (2) الذي يعرض فيه (3) ليلة النصف من الشهر ما هو فإن أنكره (4) أنكر العيان وصار في نصاب من لا يكلم، وإن أقر به قيل له: هو الذي نريد بقولنا " كسوف "، فإذا حققت المعنى لم ننازعك في الاسم، وسألناك بعبارة ترضاها، وهي أن نقول لك: هل يوجد سواد في القمر ليلة النصف من الشهر أم لا فإذا حقق قيل له ما هو فيقول: هو ذهاب النور عن القمر لدخول الأرض بينه وبين الشمس والقمر التي منها يقبل النور؛ فيقول السائل: كيف تدخل الأرض بين الشمس والقمر فيقول المجيب: بأن تكون الشمس في درجة مقابلة للدرجة التي فيها القمر مع تقاطع فلكيهما. فيقول السائل: لم كان ذلك فيصف (5) له المجيب حينئذ هيئة الفلك وانتقال الشمس وقطعها ومدة قطعها [83و] وانتقال القمر ومدة قطعه وما يتم به هذا (6) المعنى، وهكذا (7) القول في كل مسؤول عنه من كل علم. واعلم أنه لا يجوز أن يقدم مؤخر من هذه المراتب الأربع (8) على ما رتبنا قبله لأنه كلام على غير معهود. واعلم أن المسؤول بما وبكيف وبلم مخير في الجواب يجيب بما أمكنه مما لا يخرج به عن مقتضى سؤال السائل، إلا أن اللازم في السؤال بما (9) أن يخبر السائل بحد الشيء المسؤول عنه أو رسمه، وإذا سئل بكيف هو: أن يجيب بأحوال الشيء العامة له ولغيره أو الخاصة له الشائعة في نوعه أو ما يخصه به من غيره إن كان المسؤول عنه

_ (1) أن تقول: مكررة في س. (2) م: السؤال. (3) س: في. (4) أنكره: سقطت من س. (5) س: فيقول. (6) س: من هذا. (7) س: وهذا. (8) م: الأربعة. (9) بما: سقطت من س.

شخصا. وإن (1) سئل بلم: أن يجيب بالعلة الموجبة لكون ما أخبر بكونه، ويرسم العلة برسمها الذي لا يشاركها فيه غيرها. وينبغي أن تكون العلة لازمة لما يستدل بها عليه كالقتل فإنه علة الموت القتلي إذ لا يجوز أن يكون قتل ولا يكون موت، والموت القتلي معلول للقتل، ولكن ليس كل موت معلولا للقتل، إذ قد (2) يكون موت بلا قتل وكذلك أيضا ليس الموت علة للقتل. والحد مأخوذ من صفة الشيء التي هي (3) صفة عنصره ومأخوذ (4) من تمامه أيضا، كقولك إذا سئلت عن حد الطب أن تقول: صناعة، فهذا عنصر الطب، ثم تقول: مبرئة لأبدان الناس وبهذا يتم الطب ويكون طبا. وإذا سئلت عن المرض أن تقول: ضعف يكون في الجسم بتعادي أخلاطه وخروجها عن (5) الاعتدال، فالضعف عنصر المرض وتعادي الأخلاط تمامه وبه يسمى مرضا (6) . وكذلك قولك في حد المتنفس: انه حيوان يجذب الهواء بآلة طبيعية ويخرجه بها. وينبغي أن يكون الحد والرسم في كل ما ذكرنا وفي كل ما تسأل (7) عنه فتجيب بما يدور (8) على محدوده ومرسومه كقولك: كل خط إما مستقيم وإما معوج، وكل ما هو إما مستقيم وإما معوج خط، وكل جسم طويل عريض عميق، وكل طويل عريض عميق جسم، فهذا واجب (9) لكل ما وصف به (10) في كل زمان وكل مكان وعلى كل حال. فإذا أردت أن تحقق فليكن ذلك بلفظ الإيجاب ومعناه، فإنك إذا قلت حار أو قلت بارد فقد أثبت معنى واجبا، وإذا أردت أن تنفي فليكن ذلك بلفظ النفي ومعناه، فإنك إذا قلت: لا حار، فلم تثبت معنى أصلا بوجه من الوجوه، وكذلك إذا قلت: لا جسم لا عرض؛ وقد يكون

_ (1) س: وإن كان. (2) قد: سقطت من س. (3) س: الذي هو. (4) م: ومأخوذة. (5) م: من. (6) م: ويسمى. (7) س: يسأل. (8) س: بما يدل. (9) م: لازم. (10) س: وصفته.

غير الحار باردا وقد يكون معتدلا وقد يكون طبيعة علوية لا يدخل فيها شيء من هذه الصفات. وإذا (1) أردت أن تقسم فينبغي لك [83ظ] التحفظ من مثل هذا بأن لا تدع قسما إلا حققته، إما بحرف النفي فتكفى المؤونة، أو بتفتيش الأقسام كلها قسما قسما والنظر هل فيها فاسد أو زائد (2) أو نفي محتمل، ومن ما ذكرنا في شروط وضع حرف النفي في مواضعه (3) ، وتهمم بالأسماء والمسميات والكلية (4) والجزئية وبالموصوف والصفة والكيفية والكمية (5) والزمان وسائر الشروط، فإنك إن نظرت نظرا صحيحا لم تخف عنك الحقائق ولا جازت (6) عليك المخارق، وملاك ذلك عون الله عز وجل إياك وتوفيقه لك. وكمال العلم ليس إلا لخالق العلم والمعلوم، لا إله إلا هو (7) . 18 - باب الكلام في رتب (8) الجدال وكيفية المناظرة المؤديين إلى معرفة الحقائق من حكم الجدال أن لا يكون إلا بين اثنين (9) طالبي حقيقة ومريدي بيان، أما أن يكون أحدهما على يقين من أمره ببرهان قاطع لا بإيهام نفسه ولا بأمر أقنعها به، ويكون الآخر متوهما أنه على حق متمنيا (10) لنفسه ما لم يحصل له، وكالعامهِ (11) في الظلمة خادعا لنفسه مغالطا لعقله، أو مغرورا كالحالم لا يدري أنه نائم حتى ينتبه. فهذا الذي ذكرنا أنه على يقين من أمره ببرهان قاطع يريد أن يوصل إلى مناظره من الحقيقة مثل ما عنده منها، ويحاول أن يحل شك هذا الغالط المخالف له أو المغالط ويفضح سره

_ (1) م: وإن. (2) س: فاسداً أو زائداً. (3) س: موضعه. (4) م: والكلي. (5) م: والكمية والكيفية. (6) س: تجاوزت. (7) م: وكمال العلم ليس إلا مبثوثاً في العالم لا مجتمعاً لأحد، وذلك تدبير خالق العلوم والمعلومات، لا إله إلا هو. (8) س: رتبة. (9) س: يكون الاثنين. (10) س: مثبتاً. (11) م: وكالغامر.

في المغالطة ويدفع شره. أو يكون أحدهما موقنا كما قدمنا، والثاني لم يقف على بيان الحقيقة فهو يطلب الحقيقة والوقوف عليها. فإذا اتفق أن يكون المتناظران هكذا فتلك مناظرة فاضلة حميدة العاقبة يوشك أن تنجلي (1) عن خير مضمون وأجر (2) موفور وهي التي أمر الله تعالى بها إذ يقول: {وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل:125) وإذ يقول تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (النحل: 125) وإذ يقول تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (البقرة: 111النمل: 64) . ولم يذم قط هذه المناظرة إلا سخيف جاهل مذموم الطبع مفسد على الناس قد جعل هذا النفار ستارة دون جهله فلم يقنع بأن حرم نفسه الخير حتى سعى في أن يحرمه سواه. وأما إذا كان المتناظران معا غالطين أو مغالطين أو كان أحدهما جاهلا [84و] طالبا والثاني غالطا أو مغالطا فتلك مناظرة يكثر فيها الشغب ويعظم النصب ويكثر الصخب ويشتد الغضب، ويوشك أن تشتد (3) مضرتها، وأما المنفعة فلا منفعة؛ وربما كان الجاهل فيها مسارعا إلى قبول ما قرع سمعه دون برهان صحيح فيهلك باعتقاد الباطل وقبوله. وأما إن كان عالما موقنا فالمضمون له انتقاض البنية بالأسف والغيض إلا أنه محمود في نصرة الحق مأجور بذلك ولعله أن ينفع سامعا منه. وملاك ذلك أن لا ينطق بينهما ثالث بكلمة إلا أن يرى حيفا ظاهرا فيشهد به، وألا يقطع أحدهما كلام صاحبه حتى يتمه، وأن لا يطول المتكلم (4) منهما بما لا فائدة فيه، وأن يفضيا (5) إلى الاختصار الذي لا يقصر عن البيان الموعب. فإن أخطأ أحدهما ثم أراد الإقالة فذلك له، وواجب على الآخر أن يقيله لأن المرء ليس قوله جزءا منه، لكنه واجب عليه ترك الخطأ إذا عرف أنه خطأ، فالمانع من الإقالة ظالم مشغب جاهل. وكذلك إن رأى حجته فاسدة فأراد (6) تركها وأخذ غيرها فذلك له، وهو محسن

_ (1) س: تخل. (2) س: أخر. (3) م: تعظم. (4) س: الكلام. (5) م: يقصد. (6) م: فإذا.

في ذلك، وليس ذلك (1) انقطاعا في القول المناظر عنه؛ والمانع من ذلك جاهل ضيق الباع في العلم متغفل (2) لخصمه، وذلك قبيح جدا. فإن تنازعا الكلام أو تنازعا التكليم مثل أن يقول كل واحد منهما: أنا أسأل أو يقول كل واحد منهما للآخر: كن (3) أنت السائل، فهذا عجز من كليهما وقلة ثقة، إما بالقوة على نصر القول الذي يريد بيانه وإما بصحة القول نفسه (4) ؛ فإن كان من قلة ثقة بقوة نصره فليتسع في العلم (5) ولا يتعرض للمناظرة حتى يقوى، وهو كالجبان لا يجب أن (6) يحضر القتال فيوهن طائفته؛ وإن (7) كان من قلة ثقة بصحة القول فهذا ملوم جدا في الإقامة على قول لا يثق بصحته، وواجب عليهما بالجملة (8) الاتفاق على أمر يفتتحان به الكلام. وأما نحن فطريقتنا في ذلك تخيير الخصم أن يكون سائلا أو مسؤولا فأيهما تخير أجبناه إليه (9) ، فإن رد الخيار ألينا اخترنا أن يكون هو السائل، لأن هذا العمل هو أكثر قصد الضعفاء وعمدة مرغوبهم، وهم يضعفون إذا سئلوا، فنختار حسم أعذارهم وتوفيتهم أقصى مطالبهم التي يظنون أنهم فيها أقوى ليكون ذلك أبلغ (10) في قطع معالقهم. ثم إنه إن بدا له في ذلك واختار أن نسأله أجبناه إلى ذلك أيضا (11) ، إلا أننا لا نقضي بذلك على غيرنا لأنه ليس واجبا، فمن تخير أن يكون سائلا وأذن له خصمه من ذلك فله أن يسأل وليس له أن يتحكم فيترك ذلك [84ظ] وينتقل إلى أن يكون مسؤولا؛ فإن فعل فهذا عجز أو خرق (12) في حكم المناظرة، ونحن نختار

_ (1) س: في ذلك. (2) م: متفعل. (3) كن: سقطت من س. (4) س: بنفسه. (5) م: التعلم. (6) يجب أن: في م وحدها. (7) س: فإن. (8) م: بالجملة عليهما. (9) إليه: سقطت من س. (10) س: أقوى. (11) أيضاً: سقطت من م. (12) م: هذا في.

للفاضل أن لا يضايق في ذلك رغبة منا في إظهار الحق، وقلة سرور بالغلبة الظاهرة (1) . وهكذا نحب لكل من اتبع طريقتنا (2) . ومن أذن لخصمه في أن يكون السائل فواجب عليه في حكم المناظرة أن يجيب، فإن لم يفعل فعن ظلم أو عجز (3) ، إلا أن يكون هناك أمر مخوف يمنع من البوح بالجواب فلسنا نتكلم مع المخاوف، وإنما المناظرة مع الأمن، إلا من بذل نفسه لله تعالى وعرف ما يطلب وما يبذل في ذلك فله الفوز إن أراد نصر الإسلام أو الحق فيما اختلف فيه المسلمون فقط. ولا أرى (4) أن ينزل المسلم العاقل عن نفسه (5) التي (6) لا شيء موجود في وقته من الخلق أعز عليه منها ولا أوجب حرمة إلا فيما فيه فوزها الأبدي فقط، فالعاقل لا يرى لنفسه ثمنا إلا الجنة (7) . ومن سأل فأجابه خصمه فسكت عن المعارضة فإما أن يكون صدق الجواب وإما أن يكون عجز عن المعارضة (8) وهذا مكان قد انقطعت فيه المناظرة التي ابتدآها إلا أن يستأنفا أخرى، اللهم إلا من خوف كما قدمنا (9) ، إلا أن يكون المجيب يأتي بما لا يعقل أو بقحة ومباهتة أو بما هو من غير ما سئل عنه، جهلا أو مكابرة، فمن هذه صفته فسكوت الخصم عن معارضته واجب (10) ، إلا بإخباره بأن الذي أتى به ليس مما هما فيه ويبين الدليل على ذلك فقط، إلا ما كان من ذلك لا يحتاج إلى

_ (1) الظاهرة: سقطت من س. (2) س: طريقنا. (3) س: جهل. (4) م: نرى. (5) م: يبذل ... نفسه. (6) التي: سقطت من س. (7) كرر ابن حزم رأيه هذا في " مداواة النفوس " (رسائل ابن حزم 1: 338) فقال: لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل، في دعاء الحق، وفي حماية الحريم، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى، وفي نصر مظلوم، وباذل نفسه في عرض دنيا كبائع الياقوت بالحصى ... وقال: العاقل لا يرى لنفسه ثمناً إلا الجنة. (8) فإما أن يكون ... المعارضة: سقط من س. (9) كما قدمنا: سقط من س. (10) س: جواب.

دليل لوضوحه واستواء السامعين في علمه. والفلج (1) في المناظرة هو ظهور البرهان الحقيقي فقط، وليس انقطاع الخصم فلجا (2) ، فقد ينقطع جهلا أو خوفا أو لشغل بال طرقه، وكل ذلك ليس قطعا للحق إن كان بيده. وليست شهادة الحاضرين بالغلبة لأحدهما شيئا إذ قد يكونون موافقين في رأيهم لرأي الذي شهدوا له فسبيلهم وسبيله واحدة (3) ، والإنصاف في الناس قليل. وقد يكونون غير محصلين لما (4) يقولون ولا فهماء ما (5) يسمعون وهذا كثير جدا. وأما من انقطع عن معارضة خصمه عجزا عن الجواب لا لخوف مانع فهو المغلوب لا قوله، وإن كان ذلك عن حقيقة برهان فهو مغلوب وقوله معا، ولا يضر ما صح بالبرهان عجز معتقده عن نصره، ولا يقوى ما لم يصح ببرهان لتمويه من مموه (6) في نصره بالسفطسة. والبرهان لا يتعارض أبدا فما صح ببرهان فلا يبطله برهان آخر أبدا إلا أن يكون مما يستحيل، كبرهان صح بحياة زيد أمس ثم صح آخر بموته اليوم. وهكذا كل ما يمكن تنقله ولا ينتقل شيء مما ذكرنا مما صح [85و] ببرهان إلا برهان آخر، وإلا فحكم البرهان الأول باق. ولا ينتقل الشيء عن الإمكان إلى الوجوب إلا ببرهان، ولا ينتقل بعد الوجوب إلى الإمكان إلا ببرهان، والمعاندة والمكابرة عار وإثم وسخف. واعلم أن السائل إذا قال لخصمه: ما قولك في كذا فالجواب مفوض إلى المسؤول يجيب بما شاء. وأما إذا قال له: أمر كذا أحق هو فلابد من أن يجيب إما بنعم أو بلا كما قدمنا - (7) ، كسائل سأل فقال: ما تقول في الأرض أكرية أم لا، فلابد له من نعم أو لا. أو لو قال له: ما تقول في لحوم الحمر الأهلية (8) أحلال أم لا فكذلك أيضا، أو قال له هل الخلاء موجود أو لا فلابد من نعم

_ (1) س: والفلح. (2) س: فلحاً. (3) س: واحد. (4) س: ما. (5) س: بما. (6) م: بتمويه من موه. (7) كما قدمنا: سقط من س. (8) لحوم الحمر الأهلية: الخمر في س.

أو لا. وكذلك إذا سأل السائل بتقسيم فقال: ما قولك في كذا وكذا: أكذا أو كذا (1) ، مثل قوله: ما تقول في الورد أبارد أم حار أم معتدل أو ما تقول في كسب الحجام أمستحب أم حرام أم مكروه فإن كانت الأقسام مستوفاة فلا بد للمسؤول من التزام أحد تلك الأقسام، فإن لم يفعل فهو منقطع بالحقيقة، وإن كانت غير مستوفاة فالسائل جاهل أو معاند، فإن ظهر انقطاع الخصم فالمتقدمون يقولون: ليس على السائل بيان الحقيقة، وأما نحن فنقول: إن ذلك عليه، ومن أبطل حكما ما فعليه أن يبين قوله، فإما أن يدخل في مثل ما أبطل وإما أن يجلي الحيرة. وبيان الحقائق فرض وقد أخذ الله تعالى ميثاق العلماء أن يبينوا ما علموا ولا يكتمونه (2) . وإذا استوفى الخصم الأقسام وزاد فيها قسما فاسدا فليس للآخر أن يدع ما هما فيه ويأخذ في الاحتجاج في بيان القسم الزائد الذي زاد لكن يقول له: زدت قسما فاسدا وهو كذا، وإنما ذكرته لك لئلا تجوزه (3) علي فيكون سكوتي عنه عند من لا ينصف مثل إقراري به ولكني لا (4) أستضر بذلك وألتزم من الأقسام التي ذكرت قسما كذا، وهو الصحيح. واعلم أن من ترك ما هو فيه مع خصمه من المناضرة وخرج إلى مسألة أخرى فجاهل مشغب منقطع (5) كمثل ما شاهدنا كثيرا ممن ترك ما هما بسبيله وجعل يتعقب (6) لحن خصمه (7) في كلامه، ولسنا نقول هذا نصرا للحن ولكن نصرا للحق (8) وتركا للاشتغال بغير ما شرعا فيه، وليس على الخصم (9) أكثر من أن يعبر عن مراده بما يفهم به خصمه ولا مزيد بأي لفظ كان وبأي لغة كان، إلا أننا نختار الاختصار الجامع

_ (1) أكذا أو كذا: سقط من م. (2) م: أو. (3) س: تحور. (4) لا: سقطت من س. (5) س: مقنع. (6) س: يتبع؛ م: يترك ... ويجعل. (7) س: صاحبه. (8) ولكن ... للحق: سقط من س هنا، ووقع بعد قليل في غير موضعه. (9) س: للخصم.

[85ظ] لكثير المعاني في (1) قليل الألفاظ وسبطها وفصيحها لمن قدر على ذلك، وإلا فلا (2) لوم عليه إلا في مكان واحد، وهو أن يسأله السائل والمسؤول يدري أن السائل يقول بقول يؤول (3) به إلى التزام قول الخصم أو إلى التناقض، فجوابه ها هنا بأن يقول له: ما تقول (4) أنت في كذا وكذا أي فإني أقول بقولك (5) فإن قال له الذي عورض بهذا: لست أقول ما تظن ولا أقول شيئا ولا أنصر ها هنا (6) جوابا وإنما أنا طالب برهان ولاعليك من خطائي إن أخطأت أنا، فانصر قولك أو أقر بالخطاء، فواجب حينئذ أن لا يعارضه بسؤال أصلا لكن ببرهان يبين به صحة قوله فقط. وقد يكون الخصم يسامح خصمه في أن يريه الإقرار بفساد قوله ثم يقول له: فدع قولي وهات قولك وبين (7) وجه الصواب. وهذا الفعل خطاء إلا من (8) وجهين: أحدهما أن يكون صادقا في إقراره ببطلان قوله ورجوعه عنه وطلبه معرفة الحق، فهذا فضل عظيم وفاعله محمود جدا. والثاني: أن يكون قد علم أن خصمه يأتي بمثل ذلك فيريد يلزمه مثل ما ألزمه هو ليكف عن (9) نفسه شغبه وهذا إنصاف. ومثال ذلك أن يقول أحد الخصمين: الجدال مكروه، فيقول الآخر: فإذا هو مكروه فبأي شيء يوصل عندك إلى معرفة الحق مما اختلف فيه من هو عندك رضا من أهل ملتك هات ما (10) عندك ودع الجدال الآن جانبا. وهذا يرجع إلى ما قلناه قبل من وجود (11) أقسام تبطل كلها إلا واحدا، فيصح ذلك الواحد، فإن الخصم حينئذ لابد له من أن يذكر

_ (1) س: من. (2) س: لا. (3) يؤول: يعود بهامش س. (4) ما تقول: سقطت من م. (5) م: أي قولي كقولك. (6) س: طامعاً. (7) م: فبين. (8) م: في. (9) س: من. (10) ما: سقطت من س. (11) س: وجوه.

التقليد أو الإيهام (1) أو ترك طلب الحق. وكل هذه الوجوه باطل فاسد فإذا بطلت صح الجدال. فهذا الذي قلنا حصر للخصم إلى هذا الوجه من وجوه البرهان فيراجع الحق أو ينقطع إما بسكوت أو بهتان يأتي به. وقد ذكرنا في باب أقسام المعارف ما يعارض به الخصم الجاهل من أشياء يعدها الجاهل حجة وليس حجة (2) أصلا فوجب أن يكف ضرر جهلهم بها على كل حال. واعلم أن من الخطاء معارضة الخطاء بالخطاء في المناظرة مثل أن يقول السائل للمسؤول: أنت تقول كذا أو لم تقل كذا، فيقول المجيب: وأنت تقول أيضا (3) كذا أو لأنك أنت أيضا تقول كذا (4) ، فيأتيه بمثل ما أنكر هو عليه أو أشنع، فهذا كله خطاء فاحش وعار عظيم واقتداء بالخطاء اللهم إلا في [86و] مكانين: أحدهما أن يكون القول الذي اعترض به المجيب قولا صحيحا ينتج ما يقول هو، فهذا وجه فاضل وقطع للسائل. وذلك كمعتزلي قال لآخر: لم قلت إن الله تعالى خالق (5) الشر فقال لأنك تقول معي إن الله تعالى خلق (6) جميع العالم من جواهره وأعراضه، والشر عرض، فالله تعالى خالق الشر. فهذه معارضة صحيحة إلا أن ظاهر لفطها غير محكم لأنه في الظاهر إنما جعل علة قوله بما يقول قول خصمه بما يقول، فلزمه (7) أنه لولا قول خصمه بذلك لم يقل هو بما قال. وهذا خطاء وإنما الصواب أن يقول: لقيام البرهان على أن الله تعالى خالق الجوهر والعرض ثم يمضي في مسألته. والوجه الثاني هو أن يكون السائل مشغبا يقصد التشنيع والإغراء والتوبيخ

_ (1) م: الإلهام. (2) الخصم الجاهل ... حجة: سقط من م. (3) م: أيضاً تقول. (4) أو لأنك ... كذا: سقط من م. (5) م: خلق. (6) م: خالق. (7) م: فيلزمه.

ولا يقصد طلب حقيقة، فهذا واجب أن يكسر غربه ويردع عيبه (1) بمثل هذا فقط ولا يناضر بأكثر من ذلك، إذ الغرض كف ضرره فقط، ولا يكف ضرره بمناظرة (2) صحيحة أصلا فلا شيء أكف لضرره مما ذكرنا. واعلم أنه لا يجوز أن يصحح الشيء بنفسه البتة، وجائز أن يبطل بنفسه، ولا تظن أن الأوائل التي منها يؤخذ البرهان صححت بأنفسها فتخطىء، بل تلك أشياء قد ذكرنا أن الخلقة صححتها وأنه لم يخل ذو الفهم قط من معرفة صحتها. ولا تظن أيضا أن إبطال الشيء بنفسه تصحيح له فتخطئ ولم يبطل بنفسه من أجل أنه صحح إبطاله به فكان حينئذ يكون مصححا مبطلا وذلك محال، لكن لما أبطل نفسه أيقنا أنه باطل لأن الحق الصحيح لا يبطل أصلا، ولأنه نقض حكمه، فكل (3) ما انتقض فباطل. وليس قول من قال مبطلا للنظر: إن النظر لا يصحح (4) بالنظر، قولا صحيحا، لأن النظر الذي به تصحح (5) الأشياء هو ردها إلى المقدمات الأوائل التي قد (6) قضى الطبع بصحتها، فما رجع (7) إليها فشهدت له فهو صحيح، وما لم يرجع إليها فهو فاسد، فهذا النظر هو النظر الذي به تصح الأشياء لا أن (8) النظر إنما صح (9) بنظر آخر (10) . وإذا انقطع الخصم (11) فقد انقطعت المناظرة فلهما حينئذ أن يبتدئا سؤالا ثانيا. وللمنقطع حينئذ أن يقول: أنا أسألك سؤالا يتصل بمسألتنا وألزمك أنك قائل كقولي الذي أنكرت عليّ. وليس للآخر أن يمتنع من ذلك، فإن امتنع فهو متسلل ضعيف، فإن وفى الآخر بشرطه فكلاهما ملوم إن لم يرجعا إلى الحق إذا عجز المسؤول

_ (1) م: حمقه؛ س: حيبه. (2) م: بمناقضة. (3) م: وكل. (4) س: يصح. (5) س: تصح. (6) قد: سقطت من م. (7) س: رجعت. (8) س: لأن. (9) س: يصح. (10) آخر: سقطت من م. (11) س: الحكم.

عن التفريق بين القولين، وكما نلوم من ظهر إليه برهان فتمادى على الباطل ولم يرجع [86ظ] إلى موجب البرهان، فكذلك نلوم من سارع إلى القبول لما سمع بلا برهان، وكما نحمد من رجع إلى موجب البرهان فكذلك نحمد من ثبت على موجبه ولم يرجع لاقناع سمعه أو سفسطة؛ وإن (1) عجز عن كسرهما، فحصل لنا من (2) هذه المقدمات حمد من لم يعتقد إلا ما أوجبه البرهان فقط. والتكثير من الأدلة قوة وليس يعده عجزا إلا جاهل منقطع. وحقق كل ما تسمعه من خصمك ولا تتغفله (3) وأقله إن أخطأ ولا تدع مشكلا إلا وقفته عليه، فإذا استقر البيان سليما من النقص والإشكال فأجب حينئذ. وكما (4) تطالب خصمك بذلك فالتزم له سواء سواء. وبين سؤالك سليماً من النقص والإشكال. وإياك وإدخال ما ليس من المناظرة فهذا من فعل أهل المجون (5) أو من يريد أن يطيل الكلام حتى ينسي آخره أوله لينسى غلطه وسقطه. وتأمل مقدماته ومقدماتك وعكسك وعكسه (6) ونتائجه فلا ترض لنفسك من خصمك ولا من نفسك لخصمك (7) إلا بالحق الواضح. واعلم أنه ليس على المرء أكثر من نصر الحق وتبيينه، ثم ليس عليه أن يصور للحواس أو في النفوس ما لا سبيل إلى تصويره وما لا صوره له أصلا، كمن أثبت أن الواحد الأول لا جوهر ولا عرض ولا جسم ولا في زمان ولا في مكان ولا حاملا ولا محمولا، فأراد الخصم منه أن يشكل له ذلك، فهذا لا يلزم؛ وهذا كأعمى كلف بصيرا أن يصور له الألوان، فهذا ما لا سبيل إليه، وهذا تكليف فاسد لا نقص في العجز عنه على المكلف (8) . وأما ما دام ذلك ممكنا فواجب على المكلف بيانه

_ (1) س: فإن. (2) لنا من: لنا طرين في س. (3) س: تغفله. (4) س: وكلما. (5) س: الجنون. (6) م: وعكسه وعكسك. (7) م: من نفسك لخصمك ولا من خصمك لنفسك. (8) س: التكليف.

بأقصى ما يقدر عليه. ولقد أخبرني مؤدبي أحمد بن محمد بن عبد الوارث (1) رحمه الله أن أباه صور لمولود (2) كان له أعمى ولد أكمه حروف الهجاء أجراما من قير ثم ألمسه إياها حتى وقف على صورها بعقله وحسه، ثم ألمسه تراكيبها (3) وقيام الأشياء (4) منها حتى تشكل الخط وكيف يستبان الكتاب ويقرأ في نفسه ورفع بذلك عنه غمة عظيمة. وأما الألوان فلا سبيل إلى ذلك فيها وليس إلا الإقرار بما قام به البرهان وإن لم يتشكل في النفس أصلا. ولقد امتحنت مرة ببعض أصدقائنا فإنه سامنا أن نريه العرض منخزلا عن الجوهر قائما بنفسه، وقال لي: إن لم ترني ذلك فإني لا أصدق بالعرض. فلست أحصي كم مثلث له تربيع الطين ثم تدويره وذهاب [87و] التربيع وبقاء الطين بحسبه، وحركات المرء من قيامه وقعوده (5) وحمرة الثوب بعد بياضه، فأبى في (6) كل ذلك إلا أن أريه العرض مزالا عن الجوهر باقيا بحسبه يراه في غير جوهر، فلا أحصي كم قلت له: إن العرض لو قام بنفسه وكان كما تريد مني لم يكن عرضا وإنما هو عرض لأنه بخلاف ما تريد أن تراه عليه، فلج (7) وتمادى (8) فعدت إلى أن قلت له مهازلا: لو أمكنك إخراجي عن كرة العالم فربما كان يمكن حينئذ لو أمكن انخزال العرض عن الجوهر ولا سبيل إلى كل ذلك أن تراه في غير (9) جوهر؛ فأما والعالم كله (10) كرة مصمتة وجوهرة متصلة متجاورة الأجزاء لا تخلخل فيها ولا خلاء (11) ، فحتى لو انفصل العرض من جوهر ما وجاز أن يبقى بعد انفصاله عنه لما صار إلا في جوهر آخر، لا

_ (1) أحمد بن عبد الوارث أبو عمر يعرف بابن أخي الزاهد وهو مؤدب ابن حزم في النحو (انظر التكملة: 790 والجذوة: 99) . (2) م: لمؤدب. (3) س: تراكبها. (4) م: الأسماء. (5) م: ثم قعوده. (6) في: سقطت من س. (7) س: فلح. (8) وتمادى: سقطت من س. (9) م: كل. (10) كله: سقطت من م. (11) س: حلل.

بد من ذلك (1) . فما ردعه هذا الهزء عما هجس في نفسه وفارقته آبيا فما أدري أوفق بعدي لرفض هذا المرار (2) الهائج أم لا. فليس مثل هذا التكليف الفاسد وكون المرء لا تتشكل له الحقائق بقادح (3) في البرهان ولا بملتفت إليه. وكفانا من ذلك كله (4) وحسبنا قيام صحة ذلك في النفس بدلالة العقل على أنه حق فقط. ولو جاز لكل من لا يتشكل في نفسه شيء أن ينكره لجاز للأخشم أن ينكر الروائح، وللذي ولد أعمى أن ينكر الألوان، ولنا أن ننكر الفيل والزرافة، وكل هذا باطل. وإنما يجب على العاقل أن يثبت ما أثبت البرهان ويبطل ما أبطل البرهان، ويقف فيما لم يثبته ولا أبطله البرهان (5) حتى يلوح له الحق. وكذلك ليس علينا قسر الألسنة إلى الإقرار بالحق لكن علينا قسر النفوس إلى الإقرار به وقطع الألسنة عن المعارضة الصحيحة لعدم وجودها، إذ لا يتعارض البرهان، وإذا أقمناه فقد أمنا أن يقيمه خصمنا، وكذلك أيضا إن قصر مقصر عن إقامة البرهان على حق يعتقده فذلك لا يضر الحق شيئا. ولا يفرح بهذا من خصمه إلا الذي يفرح بالأماني وهو الأحمق المضروب به المثل. ولا تقنع بغفلة خصمك بل انظر (6) في كل ما يمكن أن يصح به قوله، فإن وجدت حقا ببرهان فارجع إليه ولا تتردد، ولا ترض لنفسك ببقاء ساعة آبيا من قبول الحق. وإن وجدت تمويها فبينه ولا تغتر بذهاب خصمك عنه فلعل غيره من أهل مقالته يتفطن لما غاب عنه. هذا ولا تقنع إلا بحقيقة الظفر ولا تبال أن قيل عنك إنك مبطل، فلك فيمن نسب إليه ذلك من المحققين أكرم أسوة من الأنبياء عليهم السلام فمن (7) دونهم. نعم حتى إن كثيرا منهم قتل دفعا [87ظ] لحقه ونسبة (8) للباطل إليه. ولا تستوحش مع الحق إلى أحد، فمن كان معه الحق فالخالق تعالى معه (9) . ولا تبال بكثرة خصومك ولا بقدم أزمانهم ولا بتعظيم الناس إياهم ولا

_ (1) لا بد من ذلك: سقط من س. (2) س: المراء. (3) س: قادح؛ م: بكادح. (4) كله. سقطت من س. (5) س: برهان. (6) بل انظر: سقط من س. (7) س: ومن. (8) س: ونسباً. (9) م: معه تعالى.

بعزتهم (1) فالحق أكثر منهم وأقدم وأعز وأعظم عند كل أحد وأولى بالتعظيم. وإذا شئت أن تتيقن فساد مراعاة ما ذكرنا فتأمل أهل كل ملة وكل أمة، فإنك تجدهم مطبقين على تعظيم أسلافهم وصفتهم بكل فضيلة وبكل خير وذم أسلاف من خالفهم. وتأمل كل قول يقال، فقد كان القائلون به في أول أمره (2) قليلا، وأكثر ذلك يرجع إلى واحد ثم كثر أتباعه. وفتش كل قول قديم تجده قد كان ابن ساعة بعد أن لم يكن، ثم مرت عليه الأيام والشهور والسنون والدهور. فاعلم أن مراعاة هذه الأمور من ضعف العقل وقلة العلم. ولا تبال (3) أيضا وان (4) كانوا فضلاء على الحقيقة (5) فقد يخطئ الفاضل ما لم يكن معصوما. ولو أن ذلك الفاضل لاح له ما لاح لك لرجع إليك ولو لم يفعل لكان غير فاضل. وأخبرك بحكاية لولا رجاؤنا في أن يسهل بها الإنصاف على من لعله ينافره (6) ما ذكرناه، وهي: أني ناظرت رجلا من أصحابنا في مسألة فعلوته فيها لبكوء كان في لسانه، وانفصل المجلس على أني ظاهر، فلما أتيت منزلي حاك في نفسي منها شيء، فتطلبتها في بعض الكتب فوجدت برهانا صحيحا يبين بطلان قولي وصحة قول خصمي، وكان معي أحد (7) أصحابنا ممن (8) شهد ذلك المجلس فعرفته بذلك، ثم رآني (9) قد علمت على المكان من الكتاب، فقال لي (10) ما تريد فقلت: أريد (11) حمل هذا الكتاب وعرضه على فلان وإعلامه بأنه المحق وأني كنت المبطل وأني راجع (12) إلى قوله. فهجم عليه من ذلك أمر مبهت وقال لي: وتسمح

_ (1) س: بعدتهم. (2) م: مرة. (3) س: تبالي. (4) م: وإن. (5) على الحقيقة: سقطت من م. (6) س: ينافر. (7) م: معي آخر من. (8) م: قد. (9) س: ثم إني. (10) لي: سقطت من م. (11) أريد: سقطت من س. (12) س: راجعاً.

نفسك بهذا! فقلت له: نعم، ولو أمكنني ذلك في وقتي هذا لما (1) أخرته إلى غد. واعلم أن مثل (2) هذا الفعل يكسبك أجمل الذكر مع تحليك بالإنصاف الذي لا شيء يعدله. ولا يكن غرضك أن توهم نفسك أنك غالب، أو توهم من حضرك ممن يغتر بك ويثق بحكمك أنك غالب، وأنت بالحقيقة مغلوب، فتكون خسيسا وضيعا جدا وسخيفا البتة وساقط الهمة وبمنزلة (3) من يوهم نفسه أنه ملك مطاع وهو شقي منحوس، أو في نصاب من يقال له إنك أبيض مليح وهو أسود مشوه، فيحصل مسخرة ومهزأة عند أهل العقول الذين قضاؤهم هو الحق. واعلم أن من رضي بهذا فهو مغرور (4) وسبيله سبيل صاحب الأماني فإنها (5) بضائع النوكى؛ والمغرى بها يلتذ بها (6) [88ظ] حتى إذا ثاب إليه عقله ونظر في حاله علم أنه في أضاليل وأنه ليس في يده شيء. وإياك والالتفات إلى من يتبجح بقدرته في (7) الجدل فيبلغ به الجهل والنوك (8) إلى أن يقول: إني قادر على أن أجعل الحق باطلا والباطل حقا، فلا تصدق مثل هؤلاء الكذابين فإنهم سفلة أرذال (9) أهل كذب وشر ومخرقة. واعلم أنه لا سبيل إلى ذلك لأحد ولا هو في قوة مخلوق أصلا، والتمويهات كلها قد بينتها لك، وهي مضمحلة، إذا حصلت وفتشت لم توجد إلا دعاوى (10) وحماقات. ومن فاحش ما يعرض في هذه السبل أن يلوح البرهان للمرء فيحدوه الالف

_ (1) س: ما. (2) مثل: سقطت من س. (3) س: بمنزلة. (4) س: معذور؛ م: فمغرور. (5) س: وإنها. (6) س: فيها. (7) م: على. (8) والنوك: سقطت من س. (9) م: أنذال. (10) س: دعاو.

بما قد ألفه من المذاهب (1) إلى أن يقول: لابد أن (2) ها هنا حجة (3) تعارض هذا البرهان وإن خفيت عني. واعلم أن هذا مغرور شقي جدا لأنه غلب ظنه على يقينه، وصدق ما لم يصح عنده، وكذب ما صح عنده، وأثبت ما لعله أن لا يكون، وترك حاصلا قد كان؛ وهذا غاية الخذلان، ومثله من ترك برهانا قد صح عنده لتمويه لم يتدبره فحمله التهور على اعتقاده. وبالجملة فالجهل لا خير فيه، والعلم إذا لم يستعمله صاحبه فهو أسوأ حالا من الجاهل، وعلمه حجة زائدة عليه. وإياك وتقليد الآباء فقد ذم الله عز وجل ذلك، ولو كان محمودا لعذر من وجد آباءه زناة أو سراقا أو على بعض الخلال التي هي أخبث مما ذكرنا في أن يقتدي بهم. وإياك والاغترار بكثرة صواب الواحد فتقبل له قولة واحدة بلا برهان، فقد يخطئ في خلال صوابه في ما (4) هو أبين وأوضح من كثير مما أصاب فيه. واقنع من خصمك بالعجز عن (5) أن ينصر قوله، ولا تطالبه بالإقرار بالغلبة، فليس ذلك من فعال (6) أهل القوة. وهذا باب لا ينتج شيئا (7) إلا العداوة وأن توصف بلؤم الظفر، ولتكن رغبتك في أن تكون محقا عالما عاقلا (8) غالبا في الحقيقة، وإن سميت مبطلا جاهلا أحمق مغلوبا، أكثر من رغبتك في أن تسمى محقا عالما عاقلا غالبا وأنت في الحقيقة مبطل جاهل أحمق (9) مغلوب؛ بل لا ترغب في هذا (10) أصلا وعاده (11) واكرهه جدا ولك فيمن وصفه الجهال بذلك (12)

_ (1) بما قد ... المذاهب: سقط من م. (2) ان: سقطت من س. (3) س: حجة برهان. (4) س: بما. (5) س: على. (6) م: فعل. (7) شيئاً: سقطت من س. (8) عاقلاً: سقطت من س. (9) أحمق: سقطت من س. (10) م: في غير هذا. (11) وعده: سقطت من س. (12) م: بذلك الجهال.

قبلك من المرسلين عليهم السلام والأفاضل المتقدمين (1) أفضل أسوة وأكرم (2) قدوة، وكذلك أن توصف بالفسق وأنت فاضل خير من أن توصف بالفضل وأنت فاسق. وتحفظ من الخروج من مسألة إلى مسألة قبل تمام الأولى وبيانها (3) فهذا من أفعال أهل الجهل. واحذر مكالمة من ليس مذهبة إلا [88ظ] المضادة والمخالفة أو الصياح (4) والمغالبة، فلا تتعن به ولو أمكنك (5) صرفه عن ضلاله بالوعظ لكان حسنا. فإن لم يكن فبالزجر والقدع (6) فإن كان ممتنع الجانب فليجتنب كما يجتنب المجنون فأذاه أكثر (7) من أذى كثير من (8) المجانين. وتحفظ من الكلام بحيث يتعصب عليك ظلما، واحذر (9) من أن تجيب نفسك عن خصمك مثل أن تقول له: إن قلت كذا ألزمك كذا (10) ، فلعله لا يقول ذلك فتخزى، إلا أن تكون مؤلفا (11) ، فلا بد لك من ذلك (12) ومن إنصاف خصمك وتقصي حججه وإلا كنت ظالما. وتحفظ أن تقول خصمك ما لم يقل (13) فتكذب. وتحفظ من أن تجيب من (14) لم يسألك فتحصل على الخزي (15) ؛ وأقل ذلك أن يعرض عنك، فكيف إن قال لك: لم

_ (1) م: المقدسين. (2) م: أكرم ... وأفضل. (3) س: وبيانه؛ م: قبل تمام بيان الأولى. (4) م: والصياح. (5) م: أمكن. (6) س: والقذع. (7) م: أعظم. (8) كثير من: سقط من س. (9) س: وتحفظ. (10) م: لزمك. (11) م: إن كنت. (12) من ذلك و: سقطت من س. (13) م: يكذب. (14) م: ما. (15) م: الخزية.

أسألك. ولا تتكلم على لسان مناظر (1) غيرك حتى يدع الكلام ويبيح لك مناظره أن تكلمه، فأقل ما في هذا أن يقول لك: أنا غني عن نصرك، ويقول له خصمه: أنا أقويك به مباركا لك (2) فيه فتخزى جدا (3) . وإياك والكلام في علم من العلوم حتى تتبحر فيه إلا على سبيل (4) الاستفهام والتزيد إلا ما أحسنت منه فقط. واعترف لمن هو أعلم منك فهو أزين (5) لك، ولا تبخسه حقه فلن ينقصه تنقصك (6) إياه بل هو نقص فيك. وإياك والامتداح بما تحسن، واترك ذلك فهو من غيرك فيك أحسن، ولا تحقر أحدا حتى تعرف ما عنده فربما فجأك منه ما لم تحتسب، وليس ذلك إلا من فعل أهل النوك الذين لا يحصلون. واحذر كل من لا ينصف وكل من لا يفهم، ولا تكلم إلا من ترجو إنصافه وفهمه، وأنفق الزمان الذي يمضي ضياعا في مكالمة من لا يفهم ولا ينصف فيما هو أعود عليك تعش غانما للفضائل (7) سالما من المغالط (8) وهذا حظان جليلان جدا. واجعل بدل كلامه (9) حمد الله عز وجل على السلامة من مثل حاله، ولا تتكلم إلا في إبانة حق أو استبانتة. واعلم أنه لا يقدر أحد على هذه الشروط إلا بخصلة واحدة وهي أن يروض نفسه على قلة المبالاة بمدح الناس له أو ذمهم إياه، ولكن يجعل وكده طلب الحق لنفسه فقط (10) . وقد ذكرت الأوائل في صفة المنقطع الذي لا ينصف (11) وجوها نذكرها وهي:

_ (1) م: حاضر. (2) م: له. (3) جداً: مكررة في م. (4) م: معنى. (5) س: فهذا زين. (6) س: نقصك؛ م: فلن ينقصك إياه. (7) م: من الفضائل. (8) م: المغايظ. (9) س: كلامك. (10) هذه الفقرة سقطت من م. (11) الذي لا ينصف: سقط من س.

منها أن يقصد إبطال الحق أو التشكيك (1) فيه ومن هذا النوع أن يحيل في جواب ما يسأل عنه على أنه ممتنع غير ممكن. والثاني: أن يستعمل البهت والرقاعة والمجاهرة بالباطل ولا يبالي بتناقض قوله ولا بفساد ما ذهب إليه (2) ومن ذلك أن يحكم بحكم ثم ينقضه. والثالث: الانتقال من قول إلى قول وسؤال إلى [89و] سؤال على سبيل التخليط لا على سبيل الترك والإنابة (3) . والرابع أن يستعمل كلاما مستغلقا يظن الجاهل أنه مملوء حكمة وهو مملوء هذرا. ومن أقرب ما حضرني ذكره حين كتابي هذا على كثرة (4) هذا الشأن في كتب الناس فكتاب أبي الفرج القاضي المسمى " باللمع " (5) فإنه مملوء كلاما مغلقا لا معنى له إلا التناقض والهدم لما بنى (6) . وفي زماننا هذا من سلك هذه الطريق في كلامه فلعمري لقد أوهم خلقا كثيرا أنه ينطق بالحكمة ولعمري إن أكثر كلامه ما يفهمه هو فكيف غيره. والخامس أن يحرج خصمه ويلجئه إلى تكرار الكلام بلا زيادة فائدة لأنه يرجع إلى الموضوع الذي طرد عنه ويلوذ حواليه بلا حياء ولا تقوى ولا مزيد أكثر من وصف قوله بلا حجة. والسادس الإيهام بالتضاحك والصياح والمحاكاة والتطييب (7) والاستجهال والجفاء وربما بالسب (8) والتكفير واللعن والسفه والقذف للأمهات (9) والآباء وبالحرى إن لم يكن لطام وركاض. وأكثر هذه المعاني ليست تكاد تجد في أكثر أهل زماننا غيرها، والله المستعان. والناس في كلامهم الذي فضلوا به على البهائم والذي لولاه لكانوا (10) من أشباه

_ (1) س: التشكك. (2) م: بفساد ما يأتي به. (3) س: والإنابة. (4) هذا على كثرة: سقط من س. (5) اللمع لأبي الفرج القاضي: هو كتاب اللمع في أصول الفقه لأبي الفرج المالكي عمر بن محمد المتوفى سنة 331 هـ (انظر الفهرست) . (6) م: بني. (7) س: والتطبيب. (8) م: السب. (9) س: بالأمهات. (10) س: كانوا.

الحمير والبقر، على ثلاثة أصناف (1) : فصنف لا يبالي فيما صرف كلامه مبادرا إلى الإنكار أو التصديق أو المكابرة دون تحقيق، فإن سألته إثر انقضاء كلامه عن القول الذي نصر دون تحقيق لم يدر ولا عرف من نصر ولا قوله، وهذا هو الأغلب في الناس، وتجد من هذه صفته يضن على أخيه وجاره بزبل منتن عند رجلي حماره فلا يبذله لمن ينتفع به، وهو أسمح الناس بالنطق الذي بان به عن التيوس والكلاب في غير أجر ولا بر لكن في الباطل والوزر والإفساد، وإن لم يحصل من ذلك ظاهرا إلا على تخشين (2) أنابيب صدره وتصديع رأسه واحتدام طبعه وإن سفه وسفه عليه. وصنف آخر ينصر ما عقد عليه نيته واعتقده بغير برهان، فلا يبالي بما نصره من حق أو باطل أو محال أو مكابرة أو أذى، وكذلك لا تجده اعتقد ما اعتقد إلا إلفا أو تقليدا أو شهوة، دون تحري حق ولا مجانبة باطل، وهؤلاء كثير وهم دون الأولين. وصنف ثالث لا يقصدون إلا إلى (3) نصر الحق وقمع الباطل وهؤلاء قليل جدا، ولا أعلم في الموجودات شيئا أقل [89ظ] منه البتة، نسأل الله تعالى أن يثبتنا في عدادهم (4) وأن لا يحيلنا (5) عن هذه الصفة الكريمة بمنة آمين، فإن العاقل ينبغي له أن يبغض نفقة حياته ونطقه (6) اللذين بهما أبانه خالقه تعالى عن الجمادات وسائر الحيوانات في غير ما ينتفع به لمعاده أكثر مما يبغض إنفاق ماله الذي هو غاد عنه ورائح. واعلم أن ما ذكرنا من الوقوف على الحقائق لا يكون إلا بشدة البحث، وشدة البحث لا تكون إلا بكثرة (7) المطالعة لجميع الآراء والأقوال (8) والنظر في طبائع

_ (1) عرض ابن حزم لهذه الفكرة في رسالته في مداواة النفوس (رسائل 1: 381 ف: 147) فقال: رأيت الناس في كلامهم الذي هو فصل [ما] بينهم وبين الحمير والكلاب والحشرات ينقسمون أقساماً ثلاثة: أحدها لا يبالي فيما أنفق كلامه، فيتكلم بكل ما سبق على لسانه غير محقق نصر حق ولا إنكار باطل، وهذا هو الأغلب في الناس. والثاني أن يتكلم ناصراً لما وقع بنفسه أنه حق ودافعاً لما توهم أنه باطل، غير محقق لطلب الحقيقة لكن لجاجاً فيما التزم، وهذا كثير وهو دون الأول. والثالث: واضع الكلام في موضعه وهذا أعز من الكبريت الأحمر. (2) س: تحسين. (3) إلى: سقطت من م. (4) س: عددهم. (5) وأن لا يحيلنا: ولا يخلينا في س. (6) م: وموته. (7) م: بكثير. (8) م: الأقوال والآراء.

الأشياء وسماع حجة كل محتج والنظر فيها وتفتيشها، والإشراف على الديانات والآراء (1) والنحل والمذاهب والاختيارات واختلاف الناس وقراءة كتبهم، فمن ذم من الجهال ما ذكرنا فليعلم أنه (2) خالف ربه تعالى، فقد أعلمنا (3) عز وجل في كتابه المنزل أقوال المختلفين من أهل الجحد القائلين بأن العالم لم يزل، ومن أهل الثنوية (4) ، ومن أهل التثليث ومن الملحدين (5) في صفة كل ذلك ليرينا تعالى تناقضهم وفساد أقولهم. ثم نرجع فنقول: ولابد لطالب الحقائق من الاطلاع على القرآن ومعانيه ورتب (6) ألفاظه وأحكامه وحديث النبي صلى الله عليه وسلم وسيره الجامعة لجميع الفضائل المحمودة في الدنيا والموصلة إلى خير (7) الآخرة. ولابد له مع ذلك من مطالعة الأخبار القديمة والحديثة والإشراف على أقسام (8) البلاد ومعرفة الهيئة والوقوف على اللغة التي تقرأ الكتب المترجمة بها والتبحر في وجوه المستعمل منها، ولابد له مع ذلك من مطالعة النحو ويكفيه منه ما يصل به إلى اختلاف المعاني بما يقف عليه من اختلاف الحركات في الألفاظ ومواضع الإعراب منها فقط، وهذا مجموع في كتاب " الجمل " لأبي القاسم عبد الرحمن ابن إسحاق الزجاجي الدمشقي (9) . وأما كل ما تقدم فليستكثر منه ما أمكنه، ولذلك حدان: حد هو الغاية وحد هو الذي لا ينبغي أن يقتصر على أقل منه. فالحد الأكبر

_ (1) والآراء: في م وحدها. (2) فليعلم أنه: سقط من س. (3) م: علمنا. (4) م: التثنية. (5) س: والملحدين. (6) س: وروية. (7) خير: سقطت من س. (8) س: قسم. (9) توفي عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي سنة 340 بطبرية وكانت طريقته في النحو متوسطة وتصانيفه يقصد بها الإفادة (انظر ترجمته في إنباه الرواة رقم: 376 وفي الحاشية ثبت بأسماء المراجع) . أما كتاب " الجمل " فمنه اليوم نسخ كثيرة. وقد كتبت عليه شروح متعددة كذلك. واهتم به الأندلسيون فشرحوه وشرحوا أبياته، من ذلك شرح أبيات الجمل للشنتمري؛ وصنف فيه البطليوسي كتاباً سماه " الحلل في إصلاح الخلل الواقع في كتاب الجمل " ولابن خروف شرح له ولابن حريق شرح لأبياته، وكذلك لابن عصفور ولأحمد بن يوسف الفهري اللبلي شرح لأبياته " وشي الحلل في شرح أبيات الجمل " (انظر بروكلمان - الذيل 1: 177) .

هو ألا تخلو (1) من النظر في العلوم التي قدمنا إلا في أوقات (2) أداء الفرائض والنظر فيما لابد لك منه من المعاش وترك كل ما يمكن أن تستغني عنه من أمور الدنيا. واعلم أن نظرك في العلوم على نية إدراك الحقائق في إنكار الباطل ونصر الحق وتعليمه للناس وهدي الجاهل ومعرفة ما تدين به خالقك عز وجل لئلا تعبده (3) على جهل فتخطئ أكثر مما تصيب من (4) ملة الله تعالى ونحلة الحق والمذهب المصيب في أداء ما تعبدك به تعالى [90و] ونفعك الناس في أديانهم وأبدانهم وتدبير أمورهم وإنفاذ أحكامهم وسياستهم، وتبصير من يتولى شيئا من ذلك وتعديل طبعة ونصيحته في ذلك، بالحق وتفهيمه وتقبيح القبيح لديه، أفضل عند الله من كل نافلة تتقرب بها (5) إلى الله عز وجل وأعظم أجرا وأعود عليك من كل مال تتكسبه (6) بعد ما لا قوام لجسمك وعيالك إلا به مما لعلك تتركه لمن لو شاهدت فعله فيه (7) بعدك لغاظك، ومن كل جاه لعله لا يكسبك إلا الإثم والخوف والتعب والغيظ. واعلم أن ذلك أعظم ثوابا وأفضل عاقبة وأكثر منفعة من صلتك الناس بالدنانير والدراهم؛ وضرر الجهل والخطاء أشد وأعظم من ضرر الفقر والخمول. واعلم أنك لا تورث العلم إلا من يكسبك الحسنات وأنت ميت، والذكر الطيب وأنت رميم، ولا يذكرك إلا بكل جميل. ولا تورثه بعدك ولا تصحب في حياتك في طريقه إلا كل فاضل بر (8) ، ولست تصحب في طلب المال والجاه إلا أشباه الثعالب والذئاب. وأحدثك في ذلك بما نرجو (9) أن ينتفع به قارئه إن شاء الله تعالى، وذلك (10)

_ (1) م: الذي لا تخلو. (2) أوقات: سقطت من م. (3) م: تعبد. (4) م: في. (5) نافلة تتقرب بها: ما يتقرب به في س. (6) مال تتكسبه: ما تكسبه في س. (7) م: فيه فعله. (8) بر: سقطت من س. (9) م: أرجو. (10) وذلك: هو في م.

أني كنت معتقلا في يد (1) الملقب بالمستكفي (2) وهو محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر (3) في مطبق (4) وكنت لا آمن قتلته لأنه كان سلطانا جائرا ظالما عاديا قليل الدين كثير الجهل غير مأمون ولا متثبت، وكان ذنبنا عنده صحبتنا للمستظهر (5) رضي الله عنه، وكان العيارون (6) قد انتزوا (7) بهذا الخاسر على المستظهر فقتله، واستولى على الأمر واعتقلنا حيث ذكرنا. وكنت مفكرا في مسألة عويصة من كليات الجمل التي تقع تحتها معان عظيمة كثر فيها الشغب قديما وحديثا في أحكام الديانة، وهي متصرفة الفروع في جميع أبواب الفقه، فطالت فكرتي فيها أياما وليالي إلى أن لاح لي وجه البيان فيها وصح لي وحق لي الحق يقينا في حكمها وانبلج، وأنا في الحال الذي وصفت (8) فبالله الذي لا إله إلا هو الخالق الأول (9) مدبر الأمور كلها أقسم، الذي لا يجوز القسم بسواه، لقد كان سروري يومئذ وأنا في تلك الحال بظفري بالحق فيما كنت مشغول البال به وإشراق الصواب لي أشد من سروري بإطلاقي (10) مما كنت فيه، وما ألفنا كتابنا هذا وكثيرا من كتبنا إلا ونحن مغربون مبعدون عن الوطن والأهل والولد، مخافون مع ذلك في أنفسنا ظلما وعدوانا،

_ (1) م: يدي. (2) وهو: في م وحدها. (3) تعرض ابن حزم لذكر المستكفي في كثير من مؤلفاته، ووصفه بأنه كان في نهاية الضعة والسقوط والضعف والتأخر؛ وأن أتباعه من السفلة هم الذين قاموا على المستظهر عبد الرحمن، وقارن بين المستكفي المرواني والمستكفي العباسي (انظر الجمهرة: 101 ونقط العروس في الجزء الثاني من الرسائل: 47، 202) . (4) م: مطبق ضيق. (5) بويع المستظهر وهو عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار في رمضان سنة 414هـ فاستوزر ابن حزم وابن شهيد، ثم ثار عليه محمد بن عبد الرحمن الناصري فس شهر ذي القعدة من العام نفسه وقتله وبويع بالخلافة وتلقب بالمستكفي، وقد سجن ابن حزم وابن عمه أبا المغيرة، وأقام في الخلافة ستة عشر شهراً عاد بعدها أمر قرطبة إلى بني حمود وفر المستكفي إلى ناحية الثغر ومات في مقره. (6) س: العبادون. (7) س: ابتزوا. (8) م: التي وصفنا. (9) م: الواحد الأول الخالق. (10) م: بانطلاقي.

لا نسر (1) هذا بل نعلنه، ولا يمكن الطالب (2) إبطال قولنا في ذلك، إلى الله تعالى نشكو، وإياه نستحكم لا سواه، لا إله إلا هو. وأما الحد الأصغر الذي لا (3) ينبغي للعاقل أن [90ظ] يقصر دونه فلينظر الوقت الذي ينفرد فيه (4) للفضول من الحديث الذي لا يجدي (5) مع جيرانه أو القعود متبطلا بلا شغل لا من عمل أخرى ولا من عمل دنيا، أو حين مشيه في الأرض مرحا، وقد نهاه خالقه تعالى عن ذلك، فليجعل هذه الأوقات (6) للتعلم والنظر في العلوم التي قدمنا ورياضة طبعه على العدل الذي هو أس كل فضيلة، فإن العدل يقتضي أن لا يميل لقول على قول إلا ببرهان واضح، ويقتضي له أيضا أن لا يشتغل بالأدنى ويترك الأفضل، فإنه إن فعل هكذا أوشك أن يظفر بما فيه الفوز في الدارين. وأما الأوقات التي يشتغل فيها أهل الجهل إما باللذات بالمعاصي، وإما بظلم الناس في أموالهم، والسعي بالفساد في سياستهم، والنيل من أعراضهم، والجور عليهم، فإن اشتغالهم بالأمراض المؤلمة لأنفسهم المؤذية لأبدانهم أعود عليهم من ذلك وأفضل، فكيف الاشتغال بالعلوم المؤدية إلى خير الدنيا وفوز الآخرة وقد قال الواحد الأول: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر:28) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " (7) ولا فقه إلا بمعرفة ما ذكرنا والإشراف عليه. فمن حرم ما ذكرنا (8) فما أخوفنا عليه أن يكون الله عز وجل لم يرد به خيرا، نعوذ بالله من ذلك لأنفسنا ولأبنائنا ولإخواننا ولكل أهل (9) الخير والفضل، وما توفيقنا إلا بالله عز وجل.

_ (1) س: نستر. (2) م: الطالب. (3) لا: سقطت من س. (4) س: به. (5) س: يجري. (6) م: الأقوات. (7) الجامع الصغير 2: 183. (8) س: ذكرت. (9) س: وأهل.

واعلم أن من فضل العلم والإكباب على طلبه والعمل بموجبه أنك تحصل على طرد الهم (1) الذي هو الغرض الجامع لجميع المقاصد من كل قاصد أولها عن آخرها وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل لا إله إلا هو. 19 - باب كيفية أخذ المقدمات من (2) العلوم الظاهرة عند الناس بإيجاز (3) العلوم الدائرة بين الناس اليوم المقصودة بالطلب اثنا عشر علما، وينتج منها علمان زائدان، وهذه الرتبة هي غير الرتبة التي كانت عند المتقدمين، ولكن إنما نتكلم على ما ينتفع به الناس في كل زمان مما يتوصلون به إلى مطلوبهم من إدراك العلوم بحول الله تعالى وقوته. فالعلوم التي ذكرنا: علم القرآن. وعلم الحديث. وعلم المذاهب. وعلم الفتيا. وعلم المنطق. وعلم النحو (4) . وعلم اللغة. وعلم الشعر. وعلم الخبر. وعلم الطب. وعلم العدد والهندسة (5) . وعلم النجوم. وينتج من هذه علم العبارة وعلم البلاغة. فأما علم القرآن فينقسم أقساما [91و] وهي علم قراءاته وإعرابه وغريبه وتفسيره وأحكامه؛ فالمرجوع إليه من علم قراءته مقدمات مقبولة راجعة إلى قراء مرضيين معلومين، راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي قد قامت البراهين على صحة نقلها عنه وعلى صحة ثبوته. وأما إعرابه فهو مقدمة صحيحة فيه إذا أخذ (6) اللفظ فيه على حركات ما وهيئة ما فهو أصل مرجوع إليه. وأما لغته فإلى المعهود منها في اللغة العربية. وأما أحكامه فإلى مفهوم ألفاظها وإلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم لها.

_ (1) عقد ابن حزم فصلاً مطولاً حول " طرد الهم " في رسالته في مداواة النفوس، انظر الرسائل 1: 336 - 338. (2) م: في. (3) قارن بين هذا الفصل وما تقدم في رسالة مراتب العلوم. (4) وعلم النحو: سقط من م. (5) س: وعلم الهندسة. (6) م: وجد.

وأما الحديث فينقسم على (1) قسمين: علم رواته (2) وعلم أحكامه. فأما رواته فالمرجوع إليه فيهم مقدمات منقولة عن ثقات شهدوا عليهم بالعدالة أو الجرحة والشهادة مأخوذة من نص القرآن الذي ذكرنا صحته. وأما أحكامه فإلى مفهوم ألفاظها وإلى بناء (3) بعضها على بعض، على ما قد شرحنا في غير هذا المكان. وأما علم المذاهب فما كان منها خارجا عن الملة الإسلامية فإلى القرآن وإلى مقدمات راجعة إلى أوائل العقل والحس على ما ذكرنا (4) في كتاب " الفصل ". وأما علم المنطق فقد بيناه في هذا الديوان وهو المعيار (5) على كل علم. وأما علم الفتيا فإلى مقدمات مأخوذة من القرآن والحديث اللذين صحا بالبراهين، وإلى إجماع العلماء الأفاضل الذي صح بالقرآن على ما بينا في سائر كتبنا. وأما علم النحو فإلى مقدمات محفوظة عن العرب الذين نريد (6) معرفة تفاهمهم للمعاني بلغتهم (7) ؛ وأما العلل فيه ففاسدة جدا. وأما علم اللغة فإلى ما سمع أيضا من العرب بنقل الثقات المقبولين أن هذه هي (8) لغتهم. وأما علم الشعر فإلى ما سمع أيضا من استعمالهم في الأوزان خاصة دون كل وزن يستعمل عند غيرهم، إذ إنما يسمى الناس شعرا ما ضمته الأعاريض فقط التي ذكر النديم في كتابه. وأما في مستحسنه ومستقبحه فإلى أشياء اصطلح عليها أهل الإكثار من روايته والإكباب على تفتيش معانيه من لفظ عذب وسهل ومعنى جامع حسن

_ (1) على: سقطت من س. (2) م: رجاله. (3) م: وبناء؛ (سقطت بناء من س) . (4) م: شرحنا. (5) س: العبارة. (6) نريد: غير معجمة في س. (7) بلغتهم: سقطت من م. (8) هي: سقطت من س.

وإصابة تشبيه وكناية ملحية ونظم بديع. وأما علم الخبر فإلى مقدمات قد اضطر تواتر النقل إلى الإقرار بصحتها من كون البلاد المشهورة والممالك المعروفة (1) والملوك المعلومين ووقائعهم وسائر أخبارهم مما لا شك فيه. وأما علم الطب فإلى مقدمات صححتها التجربة أو ما بدا وظهر من قوى الأمراض وما يولدها عن اضطراب المزاج ومقابلة ذلك بقوى الأدوية [91ظ] وذلك كله راجع إلى أوائل العقل والحس. وأما علم العدد والهندسة فمقدماته من أوائل العقل كلها. وأما علم النجوم فينقسم قسمين: أحدهما على هيئة الأفلاك وقطع الكواكب والشمس والقمر والسماوات وأقسام الفلك ومراكزها. فهذا القسم مقدماته راجعة إلى مقدمات (2) العدد والهندسة وأوائل العقل والحس. والقسم الثاني القضايا الكائنة بنصب انتقال الكواكب والشمس والقمر في البروج ومقابلة بعضها بعضا، فإن صححت التجربة شيئا من ذلك صدق به، وإلا فليس هنالك إلا أقوال عن قوم متقدمين فقط. وأما علم البلاغة فعلى ما نذكره في بابها بعد هذا (3) إن شاء الله عز وجل. وأما علم العبارة فإلى أشياء رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أفاضل أهل هذا العلم. وملاك هذين العلمين التوسع في جميع العلوم مع الطبع والموافقة في أصل الخلقة. وقد انتهينا إلى ما أردنا من إحكام القول في البرهان وتوابعه وما تشبه (4) به مما ليس ببرهان. والحمد لله رب العالمين كثيرا لا شريك له وحسبنا الله ونعم الوكيل (5) .

_ (1) والممالك المعروفة: سقط من س. (2) مقدمات: سقطت من س. (3) بعد هذا: سقط من س. (4) م: يشبه. (5) كثيراً ... الوكيل: سقط من م.

كتاب البلاغة

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله كتاب البلاغة (1) قد تكلم أرسطاطاليس في هذا الباب وتكلم الناس فيه كثيرا، وقد أحكم فيه قدامة بن جعفر الكاتب (2) كتابا حسنا، وبلغنا حين تأليفنا هذا أن صديقنا أحمد بن عبد الملك بن شهيد (3) ألف في ذلك كتابا، وهو من المتمكنين من علم البلاغة الأقوياء فيه جدا، وقد كتب إلينا يخبرنا بذلك، إلا أننا لم نر الكتاب بعد فغنينا بالكتب التي ذكرنا عن الإيغال في الكلام في هذا الشأن، ولكنا نتكلم فيه بإيجاز جامع، ونحيل على ما قد بينه غيرنا ممن سمينا وممن نسمي، إن شاء الله عز وجل فنقول وبالله تعالى نتأيد: البلاغة قد تختلف في اللغات على قدر ما يستحسن أهل كل لغة من مواقع ألفاظها على المعاني التي تتفق في كل لغة. وقد تكون معدودة في البلاغة الفاظ مستغربة فإذا كثر

_ (1) هذا يقابل كتاب " ريطوريقا " بين كتب أرسطاطاليس. (2) قدامة بن جعفر أبو الفرج صاحب كتاب الخراج ونقد الشعر، ولست أظن أن ابن حزم يشير إلى هذا الثاني على أنه في البلاغة فإنه يلحق بالبويطيقا؛ وقد ذكر أبو حيان التوحيدي (الامتاع 2: 145) أن المرتبة الثالثة في كتاب الخراج تدور حول النثر، فلعل هذا هو المعني هنا. (3) أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد (382 - 426) ربيب الدولة العامرية. أثر في نفسه زوال المجد العامري في قرطبة، ولكنه لم يهاجر من بلده كما فعل ابن دراج أو صديقه ابن حزم. شارك في الحياة السياسية عندما جاء المستظهر مع ابن حزم ثم مدح بني حمود المتغلبين على قرطبة، وأصيب في آخر أيامه بفالج أقعده. وكان مسرفاً في كرمه شديد الذهاب بالنفس مائلاً إلى الفكاهة والهزل معجباً بشعره زارياً على بني قومه وخاصة طبقة المؤدبين. وقد شهر بين المشارقة برسالة التوابع والزوابع. أما كتابه الذي يذكره ابن حزم في البلاغة فقد أورد ابن بسام بعض فقر منه في الذخيرة، (راجع ترجمته في الذخيرة 1/1: 61 والجذوة: 124 والمغرب 1: 78 والمطمح: 16 والخريدة 3: 555 واليتيمة 1: 382 وإعتاب الكتاب: 74؛ وقد كتبت عنه دراسة في كتابي " تاريخ الأدب الأندلسي ") .

استعمالهم لها (1) لم تعد في البلاغة ولا استحسنت. ونقول: البلاغة ما فهمه العامي كفهم الخاصي وكان بلفظ ينتبه له العامي لأنه لا عهد له (2) بمثله، ويتنبه له الخاصي لأنه لا عهد له بمثله، ويتنبه له الخاصي لأنه لا عهد له بمثل نظمه ومعناه واستوعب المراد كله ولم يزد فيه ما ليس منه ولا حذف مما يحتاج من ذلك المطلوب شيئا، وقرب على المخاطب به فهمه، ولوضوحه وتقريبه ما بعد، وكثر من المعاني [92و] وسهل عليه حفظه لقصره وسهولة ألفاضه. وملاك ذلك الاختصار لمن يفهم، والشرح لمن لا يفهم، وترك التكرار لمن قبل ولم يغفل وإدمان التكرار لمن لم يقبل أو غفل. وهذا الذي ذكرنا ينقسم قسمين: أحدهما مائل إلى الألفاظ المعهودة عند العامة كبلاغة عمرو بن بحر الجاحظ، وقسم مائل إلى الألفاظ غير المعهودة عند العامة كبلاغة الحسن البصري وسهل بن هرون. ثم يحدث بينهما قسم ثالث أخذ من كلا الوجهين كبلاغة صاحب ترجمة كليلة ودمنة، ابن المقفع كان أو غيره (3) . ثم بلاغة الناس تحت هذه الطرائق التي ذكرنا. وأما نظم القرآن فإن منزله تعالى منع من القدرة على مثله وحال بين البلغاء وبين المجيء بما يشبهه (4) . وقد كان أحدث ابن دراج (5) عندنا نوعا من البلاغة ما بين الخطب والرسائل. وأما المتأخرون فإنا نقول: إنهم مبعدون عن البلاغة ومقربون من الصلف والتزيد، حاشا الحاتمي وبديع الزمان فهما مائلان نحو طريقه سهل بن هرون. فهذه حقيقة البلاغة ومعناها قد جمعناه والحمد لله رب العالمين. ولابد لمن أراد علم البلاغة من أن يضرب في جميع العلوم التي قدمنا قبل هذا

_ (1) م: فإذا كثرت استعمالها. (2) - (2) : سقط من س. (3) إن عدم الجزم هنا له دلالته، فكأن ابن حزم لا يقطع بأن ابن المقفع هو مترجم كليلة ودمنة. (4) هذه هي نظرية الصرفة، فابن حزم يوافق المعتزلة في هذه المسألة، وانظر الفصل 3: 15 وما بعدها. فهو ينكر أنه معجز لكونه في أعلى درجات البلاغة ويقول: فلو كان إعجاز القرآن لأنه في أعلى درج البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن وسهل بن هارون والجاحظ وشعر امرئ القيس، ومعاذ الله من هذا. (5) أبو عمر أحمد بن دراج القسطلي من كبار الأدباء في عصره، كان يجمع إلى الشعر قدرة على الترسل، انظر ترجمته في الذخيرة 1/1: 59 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى كثيرة.

بنصيب، وأكثر هذا (1) القرآن والحديث والأخبار وكتب عمرو بن بحر ويكون مع ذلك مطبوعا فيه وإلا لم يكن بليغا؛ والطبع لا ينفع مع عدم التوسع في العلوم. تم كتاب البلاغة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله

_ (1) م: ذلك.

- 8 - بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الشعر

- 8 - بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الشعر هذه صناعة قال فيها بعض الحكماء: كل شيء يزينه الصدق إلا الساعي والشاعر، فإن الصدق يشينهما فحسبك بما تسمع. وقال المتقدمون: الشعر كذب ولهذا (1) منعه الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} (يس: 69) وأخبر تعالى أنهم يقولون ما لا يفعلون. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإكثار منه، وإنما ذلك لأنه كذب إلا ما خرج عن حد الشعر فجاء مجيء الحكم والمواعظ ومدح النبي صلى الله عليه وسلم. وأما ما عدا ذلك فإن قائله إن تحرى الصدق فقال (2) : الليل ليل والنهار نهار ... والبغل بغل والحمار حمار والديك ديك والحمامة مثله ... وكلاهما طير له منقار صار في نصاب من يهزأ به ويسخر منه ويدخل في المضاحك، حتى إذا كذب وأغرق فقال: [92ظ] ألف السقم جسمه والأنين ... وبراه الهوى فيما يستبين لا تراه الظنون إلا ظنونا ... وهو أخفى من أن تراه الظنون قد سمعنا أنينه من قريب ... فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين لم يعش أنه جليد ولكن ... ذاب سقما (3) فلم تجده المنون

_ (1) ولهذا: ولأمر ما في م. (2) ذكر ابن سعيد (المغرب 2: 92) أن ابن هانئ الأندلسي حين قصد جعفر بن علي صاحب الزاب الأوسط وجد بابه معموراً من الشعراء، فخاف أن يحولوا بينه وبين الوصول إليه فتزيا بزي بربري وكتب على كتف شاة هذين البيتين، ووقف للوزير وقال له: أنا شاعر مفلق أريد أنشد الملك هذا الشعر فضحك الوزير، وأراد أن يطرف به الملك، فأدخل عليه ليضحك منه، فأنشده قصيدته: " أليتنا إذ أرسلت وارداً وحفا ... " فقام إليه جعفر وعانقه أنه ابن هانئ، وخلع عليه. (3) م: وجداً.

حسن (1) وملح، ولكنا نتكلم فيه بمقدار (2) ما يحسن فنقول: الشعر ينقسم ثلاثة أقسام: صناعة وطبع وبراعة: فالصناعة هي التأليف الجامع للاستعارة والإشارة (4) ، والتحليق على المعاني والكناية عنها، ورب هذا الباب من المتقدمين زهير بن أبي سلمى ومن المحدثين حبيب ابن أوس (5) . والطبع هو ما لم يقع فيه تكلف، وكان لفظه عاميا لا فضل فيه عن معناه، حتى لو أردت التعبير عن ذلك المعنى بمنثور لم تأت بأسهل ولا أخصر (6) من ذلك اللفظ، ورب هذا الباب من المتقدمين جرير ومن المحدثين الحسن (7) . والبراعة هي التصرف في دقيق المعاني وبعيدها، والإكثار فيما لا عهد للناس بالقول فيه، وإصابة التشبيه، وتحسين المعنى اللطيف، ورب هذا الباب من المتقدمين امرؤ القيس ومن المتأخرين عليّ بن العباس (8) الرومي. وأشعار سائر الناس راجعة إلى الأقسام التي ذكرنا ومركبة منها. وأما من أراد التمهر في أقسام الشعر ومختاره وأفانين التصرف في محاسنه فلينظر في كتاب قدامة ابن جعفر في نقد الشعر وفي كتب أبي عليّ الحاتمي (9) ففيها كفاية الكفاية (10) والتوسع (11) والإيعاب لهذا المعنى. وكون المرء شاعرا ليس مكتسبا لكنها جبلة (12) ،

_ (1) س: حمق. (2) س: مقدار. (4) س: بالأشياء. (5) بن أوس: سقطت من م. (6) س: أذعر. (7) هو أبو نواس الحسن بن هانئ. (8) س: عباس. (9) من كتبه الهامة: حلية المحاضرة، طبعت بتحقيق د. جعفر الكتاني (بغداد 1979) وكتاب الحالي العاطل في صنعة الشعر وكتاب الهلباجة وغيرها (انظر تاريخ النقد الأدبي عند العرب: 254) . (10) م: ففيها الكفاية. (11) والتوسع: سقطت من س. (12) س: حيلة.

إلا أنه يقوى (1) صاحبها بالتوسع في قراءة (2) الأشعار وتدبرها. وإذ قد تكلمنا في الشعر بكلام جامع لأقسامه وانقضى أربنا فنقول: هذا هو (3) حد المنطق الذي يحذر (4) منه من اتبع (5) الظنون وترك اليقين، قد كشفنا غامضه مسهلنا مطلبه، وكفينا صاحبه تشنيع الجاهلين وشعوذة الممخرقين وحيرة المتوهمين، ولله الشكر خالق الأولين والآخرين، فلنختم كتابنا بما بدأنا به (6) فنقول: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم أنبيائه ورسله وسلم تسليما كثيرا. تم كتاب التقريب لحد المنطق تأليف الإمام الأوحد البارع أبي محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح ابن خلف بن معدان بن يزيد رضوان الله عليه (7)

_ (1) س: اننا نقوي. (2) قراءة: سقطت من س. (3) هو: سقطت من م. (4) س: تحذر. (5) من اتبع: سقط من س. (6) م: به بدأناه. (7) تم ... عليه: خاتمة النسخة س، ولم ترد في م.

3 - رسالة في ألم الموت وإبطاله

3 - رسالة في ألم الموت وإبطاله

فراغ

رسالة في ألم الموت وإبطاله فصل هل للموت ألم أم لا

- 3 - رسالة في ألم الموت وإبطاله فصل هل للموت ألم أم لا قال أبو محمد رحمه الله: اختلف المتقدمون من أصحاب الطبائع في الموت: هل له ألم أم لا ألم له، فقالت طائفة إنه لا ألم له أصلا وبهذا نقول، لبرهانين: أحدهما حسي والآخر ضروري عقلي راجع إلى الحس أيضا. فأما الأول فهو أنه كل من رأينا يموت، وهو في عقله، إذا سئل عما يجد فإنه يقول: لا شيء إلا الانحلال فقط، وأن كل من يحس عند ذلك ألما فإنه ألم المرض الذي كان فيه، كالوجع المختص بمكان واحد، وما أشبه ذلك، حتى إنه لابد من شيء يسميه الناس راحة الموت، ثم لا يكون بين حكايتهم وبين زهوق أنفسهم إلا لمحة يسيرة جدا. وأما البرهان الضروري فإنه لا يكون ألم للشيء المألوم البتة في حين وقوعه ولا يكون إلا في ثاني وقوعه، وليس للنفس بعد الموت بقاء بحيث يصل إليها الألم الجسدي أصلا، لأنها قد فارقت الجسد، وأكثر ما يكون القلق الشديد، والشوق المرعب، لمن فارق عقله. وقد يعرض مثل ذلك القلق لمن يبرأ من مرضه، فإذا برئوا وسئلوا (1) عن ذلك أخبروا أنهم لم يكونوا يجدون شيئا. وقد نجد من تخرج النفس من بعض أعضائه فيموت ذلك العضو خاصة من المفلوجين، ومن عفن بعض أعضائه لبعض القروح والعلل، لا بالموت، لخروج النفس عن ذلك الموضع، حين خروجها، لا (2) بعده. وإنما الألم ما دامت النفس

_ (1) ص: سئلوا. (2) ص: ولا لا.

في ذلك الموضع قوية التشبث. وأما الطائفة التي قالت إن للموت ألما، فلم تأت ببرهان يصحح قولها، وقد يمكن أن تشغب من شدائد المرض (1) ومقدمات الموت التي عنها يكون، ومن الشريعة بقول النبي صلى الله عليه وسلم (2) " إن للموت لسكرات " وهذا لا حجة فيه لقولهم، لأن هذه الآلام التي تظهر من المريض إنما هي ما دامت النفس متشبثة بالجسد مقترنة به، لا بعد الموت. إنما هو حال الفراق، وحال الفراق [أليم] . وقوله إن للموت سكرات حق وصدق لا شك فيه، لأنه قد يمكن أنه عليه السلام يصف ما يكون سببا للموت، من فساد الجسم واضطراب حاله الموجب للألم للموت، فهي من سكراته؛ وقد يكون ذلك لعناء في (3) النوم، فلم يعن عليه السلام قط إلا من له سكرات متقدمة، وقد يكون عليه السلام [يصف] حاله، وما كان مثلها، أو يكون عنى ما كان ما يتخوف بعده، وما يفكر العاقل حينئذ فيما يقدم (4) عليه، فتكون سكرات معلقة بنفسه ولا سبيل إلا ما يكون إلا ما في قلبه أو فيما بعده حين لقائه لها، ولم ينص عليه السلام على أن حال الموت ذات ألم فيكون معارضا للمذكور، وحاشا له عليه السلام أن يأتي بخلاف ما تقتضيه العقول وتدركه المشاهدات، إنما يصفه بهذا من يريد إطفاء نوره، وإبطال كلمته، وتوهين أمره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وبالله تعالى التوفيق. تمت الرسالة في ألم الموت وإبطاله والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد

_ (1) أي تؤيد رأيها بشغب وسفسطة مستشهدة بشدائد المرض، وبقول الرسول: إن للموت سكرات. (2) انظر هذا الحديث في البخاري (رقاق: 42) وباب الجنائز في ابن ماجة والترمذي (64، 7) ومسند أحمد 6: 64، 70، 77، 151. (3) ص: وفي. (4) ص: فما تقدم.

4 - الرد على الكندي الفيلسوف

4 - الرد على الكندي الفيلسوف

فراغ

- 4

- 4 - الرد على الكندي الفيلسوف بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وعترته 1 -[قال الكندي] : اعلم، أسعدك الله (1) ، أن أعلى الصناعات الإنسانية درجة (2) ، وأشرفها مرتبة، صناعة الفلسفة، التي حدها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان. ولا نجد (3) مطلوبا من الحق من غير علة، وعلة كل شيء وثباته الحق، لأن كل ماله إنية له حقيقة، فالحق اضطرارا (4) موجود، إذ الإنيات (5) موجودة. 2 - قال: وإنما نعلم كل معلوم إذا [نحن] أحطنا بعلم علته، لأن كل علة إما أن تكون عنصرا، وإما صورة، وإما فاعلة، أعني ما منه مبدأ الحركة، وإما متممة، أعني ما من أجله كان الشيء. والمطالب العامة (6) أربعة: هل، وما، [وأي] ، [ولم] ، فهل باحثة عن الانية، وما فبحث عن الجنس في كل ما له جنس؛ وأي فبحث عن الفصل، وما وأي جميعا عن النوع؛ ولم عن العلة التمامية. وبين أنا متى أحطنا بعلم عنصرها فقد أحطنا بعلم نوعها، وفي علم النوع علم الفصل، فإذا أحطنا بعلم العنصر والصورة والعلة التمامية (7) ، فقد أحطنا بعلم حدها؛ وكل محدود فحقيقته في حده.

_ (1) أسعدك الله: غير موجودة في ر. (2) ر: منزلة. (3) ر: ولسنا نجد. (4) ص: اضطرار. (5) ر: إذن. (6) ر: العلمية. (7) ر: عنصرها وصورتها وعلتها التمامية.

ما في الفن الثاني

3 - قال محمد: اختصار هذا، أنا متى أحطنا بعلم الأصل أحطنا بعلم ما بعده. 4 - وذكر أهل الرياسة فقال: نصبوا كراسيهم المزورة التي نصبوها عن غير استحقاق بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لأن من تجر بشيء باعه، ومن باع شيئا لم يكن له، ومن تجر بالدين لم يكن له دين، وحق (1) أن يتعرى من الدين من عاند قنية علم الأشياء بحقائقها وسماها وكفرا، لأن في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة (2) ، [وجملة] علم كل نافع والسبيل إليه، والبعد عن كل ضار والاحتراس منه، واقتناء هذه جميعا هو الدين (3) الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جل ثناؤه، فإن الرسل صلوات الله عليهم إنما أتت بالإقرار بربوبية الله تعالى وحده، ولزوم القضايا المرتضاة عنده، ورفض الرذائل المضادة للفضائل في ذاتها وعواقبها. ما في الفن الثاني 5 - الوجود الإنساني وجودان: أحدهما: وجود الحواس الذي هو لجميع الحيوان معنا منذ نشوئه، وهذا الوجود الذي ثبتت صورته في المصور (4) فأداها (5) الحس إلى الحفظ، فتصور وتمثل في النفس، والحس يباشرها بلا زمان ولا مؤونة، والمحسوس كله (6) ذو هيولى فكله ذو جرم. والوجود الثاني أقرب من الطبيعة وأبعد عنا، وهو وجود العقل. وبحق كان الوجود وجودين، إذ الأشياء كلية وجزئية، أعني بالكلية الأجناس (7) [93ظ] لكل الأنواع والأنواع لكل الأجناس، والجزئية للأشخاص أجزاء من النوع، والأنواع أجزاء من الجنس. فالأشخاص الجزئية الهيولانية واقعة تحت الحواس، والأجناس والأنواع لا توجد إلا بقوة من قوى النفس التامة، وتلك القوة هي العقل.

_ (1) ر: ويحق. (2) ر: الفضيلة. (3) الدين: سقطت من ر. (4) ر: المصورة. (5) ص: فوادها وفي ر: فتؤديها؛ مع سقوط كلمة " الحس ". (6) ص: والحسوس كلها. (7) ر: الأشخاص.

6 - قال محمد: اختصار هذا أن الحواس تجد (1) الأشخاص وأن العقل يجد المعاني. 7 - قال: وكل متمثل نوعي جزئي، وما فوق النوعي لا يتمثل للنفوس، لأن المثل كلها [محسوسة] ، ولكنه مصدق ومحقق، متيقن اضطرارا، كقولك (2) هو لا هو غير صادقتين (3) في شيء بعينه. وهذا وجود للنفس لا يحتاج إلى متوسط ولا مثال له في النفس، لأنه لا لون ولا صوت ولا رائحة ولا طعم ولا ملموس. ومثله لو قال لنا: إن جسم الكل ليس خارجا منه لا خلاء ولا ملاء، وهذا لا يتمثل لأن " لا خلاء ولا ملاء " لم يدركه الحس ولا لحقته النفس (4) ، فيكون له فيها مثال، وإنما هو شيء يجده العقل اضطرارا. فاحفظ، حفظ الله عليك جميع الفضائل، وصانك من جميع الرذائل، هذه المقدمة لتكون لك دليلا قاصدا إلى الحقائق (5) ، فإن بهاتين السبيلين كان الحق من جهة سهلا، ومن جهة عسرا، لأن من طلب تمثيل ما لا يتمثل عشي عنه، كعشا أعين الوطاوط عن درك (6) الأشخاص الواضحة لنا في شعاع الشمس. 8 - قال: والهيولى موضوعة الانفعال فهي متحركة، والطبيعة علة أولية لكل متحرك وساكن. 9 - قال محمد: يقول فالطبيعة فوق الهيولى، والهيولى هو حد التمثيل والإدراك بالحس، فكيف يدرك ما فوقها بالتمثيل لا يدرك إلا بعلته وفي الطبيعة. 10 -[قال] : وعلم الطبيعة (7) علم كل متحرك، فما فوق الطبيعة من المحدثات أيضا [هو] لا متحرك لأنه [ليس] يمكن أن يكون الشيء علة كونه (8) ،

_ (1) ص: تحد. (2) ص: لا كقولك؛ وفي ر ساقطة. (3) ر: صادقتين. (4) ر: ولا الحق الحس. (5) ر: سواء الحقائق. (6) ر: عين الوطواط عن نيل. (7) ر: فإذن علم الطبيعيات. (8) ر: كونه ذاته.

فليس علة الحركة حركة، ولا علة المتحرك متحركا، فما فوق الطبيعة (1) ليس متحركا. وهذا القول صواب، إن شاء الله، لأنه ليس فوق الطبيعة من المحدثات إلا العدم، والله عز وجل فوق الحركات والسكون، لا تأخذه صفة حركة ولا سكون. فهذا صواب من الوجهين. 11 - قال: وقد ينبغي أن لا يطلب في إدراك كل مطلوب الوجود البرهاني، لأنه ليس كل مطلوب عقلي موجودا بالبرهان، لأنه ليس لكل شيء برهان، إذ البرهان بعض الأشياء (2) ، ولو كان للبرهان برهان لكان هذا بلا نهاية (3) ولم يكن لشيء وجود بتة، لأن ما لا ينتهي إلى علم أوائله فليس بمعلوم، فلا يكون علم بتة [94و] . 12 -[قال] محمد: هذا كقوله لا ينبغي أن يطلب ما فوق الهيولي بالتمثيل. ونعم ما قال إن شاء الله، لأن البرهان هو النور في نفس اللفظة، فإدراك هو كإدراك البصر نور واضح لا يحتاج إلى برهان. فلو قال قائل: ما البرهان أن هذه السماء وهذه الأرض قيل له: لو أجبناك على ذلك ببرهان طلبت على البرهان برهانا إلى ما لا نهاية له، ولكن هذا برهانه، لأن ما ذهب في إدراك البرهان إلى إدراك الطبيعة وإدراك الحواس نسميه إقناعا. 13 - قال الكندي: فلا ينبغي أن يطلب الإقناع في العلوم الرياضية، بل البرهان، لأنا إن استعملنا الإقناع في العلم الرياضي كانت إحاطتنا به ظنية (4) . 14 -[قال] محمد: ثم خلط أنواع المطلوبات خلطا ما هو بمحصل لأنه قال: فلا يطلب في العلم الرياضي إقناع، ولا في العلم الالإهي حس ولا تمثيل، ولا في أوائل العلم الطبيعي الجوامع الفكرية ولا في الإقناعية (5) برهان، ولا في أوائل البرهان

_ (1) ر: الطبيعيات. (2) إذ البرهان بعض الأشياء: هكذا أيضاً في أصل ر. وزاد المحقق كلمة (في) بعد كلمة البهان، وإسقاطها أصح. (3) ر: وليس للبرهان برهان لأن هذا يكون بلا نهاية. (4) ر: ظنية لا علمية. (5) ر: البلاغة.

برهانا. 15 - أوائل العلم الطبيعي هو الهيولاني عنده الآن. والجوامع الفكرية عنده البرهان. وأوائل البرهان ما فوق الطبيعة والفطرة من أوائل الأمر بلا تعريف. وكيف يكون هذا محصلا والعلم الالإهي وأوائل الطبيعة واحد في الإدراك لا يتمثل، فهلا جمعهما وقال: حسا ولا تمثيلا؛ وفي الآخر الجوامع الفكرية، والجوامع الفكرية هي المتمثلات، وهو قد قال: كهو لا هو لا يدرك إلا اضطرارا. 16 - قال محمد: صحته عندي أن لا يطلب في العلم الرياضي علم الربوبية؛ وما كان فوق الهيولى إقناعا، ولكن اضطرارا، ولا يطلب في أوائل البرهان، وهو علم الحس، برهان، كما ذكرنا في أمر السماء والأرض. 17 - ثم ذكر (1) حقيقة معنى الأزلية فقال: ينبغي أن نقدم القرائن (2) التي نحتاج إلى استعمالها. فنقول: إن الأزلي هو الذي لم يجب لشيء (3) هو مطلق، أي بل هو مطلق، فالأزلي لا قبل (4) لهويته، فالأزلي هو لا قوامة هو [من] غيره (5) ، [هو] ولا علة له ولا موضوع ولا محمول ولا فاعل له ولا سبب، أعني ما من أجله كان، فلا جنس له، لأنه إن كان له جنس فهو نوع، والنوع مركب من جنسه العام له ولغيره، ومن فصل ليس في غيره، فله موضوع هو الجنس القابل لصورته وصورة غيره، ومحمول هو الصورة الخاصية له دون غيره، فالنوع كله موضوع ومحمول. فالأزلي لا يفسد، لأن الفساد (6) إنما هو تبدل المحمول لا الحامل الأول، فأما الحامل الأول الذي هو

_ (1) ص: بذكر. (2) ر: الفوائد وعلق المحقق بأنها قد تكون مصحفة وما في هذا الكتاب أصح. (3) لشيء: ليس في ر. (4) ر: لا قبل كونياً. (5) هو غير في ص والصواب من ر. (6) ص: الفاسد.

الأيس (1) فليس يتبدل، لأن الفاسد ليس تتباين إنيته بتباين إبنيته (2) ، وكل متبدل فإنما يتبدل (3) بضده الأقرب معه (4) في جنس واحد كالحرارة (94ظ) إلى البرودة، لا بالأبعد (5) من المقابلة كالحرارة باليبس أو بالحلاوة أو بالطول، والأضداد المتقاربة هي في جنس (6) واحد، فالفاسد جنس، والأزلي لا جنس له، فهو لا يتبدل ولا ينتقل من نقص إلى تمام، لأن الانتقال استحالة، وهو لا يستحيل. والتام هو الذي ليست له حاله ثانية يكون بها فاضلا، والأزلي لا يمكن أن يكون ناقصا، لأنه لا يمكن أن ينتقل إلى حال يكون بها فاضلا، لأنه لا يمكن أن يستحيل بتة، فالأزلي تام اضطرارا، وإذا كان الأزلي لا جنس له، فما له جنس وأنواع غير أزلي، فالجرم لا أزلي.

_ (1) الأيس: غير منقوطة في ص. (2) ر: لأن الفاسد ليس فساده بقأييس أيسيته. (3) ر: تبدله. (4) ر: الأقرب أعني الذي معه. (5) ر: لأنا لا نعد. (6) ر: هي جنس.

بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم 18 - قال الموحد: هذا قولنا والرد على من جهل ربه وسماه بغير أسمائه التي سمى بها نفسه، ووصفه بغير صفاته، سبحانه وتعالى عن ذلك، لا نقول في الباري عز وجل كما قال يعقوب بن إسحاق: إنه علة، فنقض (1) توحيده وهدم بناءه وكذب نفسه في المقدمات التي برهنها في بدء أقاويله، وزلت قدمه فهوى، فلا نقول في الباري عز وجل إنه علة لما بعده إذا نحن أردنا كشف العلل والبلوغ إلى حقائقها في ذواتها والإبانة عنها، لأنا نوهم السامع أنه من جهة المعلول وجب أن نسميه بعلة، إذ ليست العلة علة معقولة إلا لمعلول، ولا المعلول معلول إلا لعلة بالقول إلى مضاف اضطرارا، فتوهم إذن السامع أن خالقه مضاف إلى كل معلول بغير إطلاق، تعالى ربنا عن ذلك وتقدس. 19 - والكندي يقولنا بما قلنا بلسانه وينطق به كتابه عنه ويشهد به عليه، فقد كرر القول وبرهنه أنه عز وجل لا يلحقه المضاف ولا ما شاكل المضاف، وإن رام أحد بعد أن يخطئ على نفسه فيسميه بعلة [على] ألا يكون حينئذ من المضاف في عقله بكل جهده، لم يجد ذلك ولم يقدر أن ينفي عنه الإضافة من بعد أبدا، بل أوجب بذلك التبعيض والنهاية، وكل ما نفى عنه الكندي وغيره إذ سماه علة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فلذلك لا نقول نحن إنه علة أفعال المعلولات، ولا علة المعلولات، ولا علة العلة، في مطلبنا هذا الذي نريد به قصد الواحد الصمد جل ثناؤه، بل نقول: هو الأحد الأول الصمد مبدع العلل، وهو الذي (95و) ابتدع المعلولات لأجل تلك العلل التي سبقت منه، فوجب أن يكون الإبداع من أجلها كائنا تاما متقنا على ما هو عليه من التنضيد والإتقان.

_ (1) ص: فنقص.

20 - فإن سأل سائل عن تلك العلل الأول: هل هي غيره بذواتها وغير الإبداع الكائن منها قيل له: نعم، ومن أجل تلك العلل الأول البسيطة الانهمال كانت المهويات المركبة في أنفسها حقائق؛ والعلل الأول هي التي تسمى بالحقيقة عللا، لأنها وضعت لتكون معلولاتها المتهوية منها بفعال فاعلها عز وجل، ولا نقول إن العلل كانت لأجل واضعها المخرج لها من عدم، لأنه الغني عن ذلك والمتعالي عنه عز وجل {ليس كمثله شيء} (الشورى:11) فهو لا من أجله وجب أن يكون شيء، لأنه هو لا موضوع لشيء يجب، فيقال لذلك الشيء إنه من أجله كان، كما (1) يقال ذلك في العلل الموضوعة، سبحانه وتعالى عن ذلك. 21 - فإن قال قائل: فلولاه لم تكن العلل ولا المعلولات. قيل له: نعم، لولاه لم تكن، ولكن ليس علة لذلك، لأن اسم العلة فيه معنى الضرورة إلى معلولها، وفي المعلول معنى الضرورة إلى علته، لأن العلة موضوعة للمعلول، والمعلول محمول على العلة، فهما مضافان مضطران متصلان غير مفترقين ولا غنيين، لحاجة كل واحد منهما إلى صاحبه. وليست هذه صفة الخالق الأول الذي كان قبل أن يبدع شيئا غنيا عن كل شيء، ثم لم يحل به حال لأنه لا لتأخذه الاستحالة فيعود من غني إلى احتياج، أو من انفراد (2) إلى اتصال، أو من وحدانية (3) إلى تكثر. وفرقان صفته من صفة العلة، أن العلة منساقة إلى معلولها، كما ذكرنا، وهو عز وجل ليس بأولى أن يكون واضعا لها منه بأن لا يكون، سبحانه وتعالى عن أن يكون أولى بالترك، لا بإيجاد معرفته منه لإيجادها. كمثل ما يلزم العلل من ضد هذا القول، بل هو المختار الذي لا يلزمه في أحد المعنيين ولا في شيء منها اضطرار، لا يلزمه فعل شيء ولا يلزمه ترك شيء، كلتا الحالتين معدلتان في اختياره. والعلل الموضوعة ليست بأولى بالترك لمعلولاتها وإعدامها منها إلا بترك ما قد جعل لها في قوتها أن تفعله ويوجد منها، لأنها مضطرة إلى فعل ما جعل فيها فعله.

_ (1) ص: فما. (2) ص: انفراده. (3) ص: وحدانيته.

22 - فالأول الغني المتعال جل جلاله بريء مما يلزم الموضوعات من الضرورة لإيجاد ما لها في القوة إيجاد {ليس كمثله شيء} هو الخالق وما سواه مخلوق (95ظ) ، وهو المختار وما سواه مضطر، ولذلك لا تلحقه الأسماء المجازية ولا الخفية لحوق اللزوم والتطرد في العقول العالمة به عز وجل، إنما الأسماء والصفات موضوعة على معنى هي له بدائع، لا لتلحقه، كما هي لاحقة الذي هو مركب منها معار جوهرها، لأنا نقول في الصفات: إنها لاحقة المركبات بجوهرها، وإن المركبات مركبات من جوهرها مكسبة إياه، وهذا اللحاق اللاحق الذي لا يلحق بارينا تعالى من صفاته وأسمائه، وإنما هي دلالات دالة للعقول، دالة عليه سبحانه وبحمده الواحد الصمد. ونقول إنها ليست بخالقة ولا نقول مخلوقة، بل هي صفات مجعولة موضوعة، والخلق مركب منها، أعني من جوهرها البسيط. وأقول في الأسماء الصوتية: إنها للصفات مثالات باتفاق المعارف، كائنة ما كانت تلك الأصوات، كانت من صنع الله تعالى أو من صنع الآدميين، وأقول ذلك في الأسماء المرقومة كائنة ما كانت من لون مداد أو غير ذلك. 23 - فإن سأل سائل عن تلك العلل الموصوفة البسيطة السابقة (1) لتهوية المهويات، قيل له: الاسطقصات الأربع الخارجة من عنده التي هي للخلق موضوعة منفعلة، بعد إذ هي لا كائنة ولا موجودة، فهي الاسطقصات الأربع المتهوية المتأيسة (2) في المكان الجامع لها، وهي الطبائع الأربع المتأيسة (3) السابقة للخلق من ربها عز وجل: الأرض والماء والنار والهواء، هي العلل الموضوعات لتهوية جميع المهويات في المكان الجامع. 24 - فإن قال قائل: فهل من علة أوجبت هذه العلل، فكانت العلل لأجلها قيل له: العلل ليست بلا نهاية، لأن هذا (4) الاسم الذي هو لها جامع يحصرها في الحال للذي له صارت عللا، فتقصر إليه ضرورة بلا زيادة دائمة. فإن وجد واجد

_ (1) ص: البسيط والسبق. (2) ص: المهوية المتباينة. (3) ص: المتباينة. (4) ص: بهذا.

علة داخلة في الحال سوى ما ذكرنا فليأت على ذلك بسلطان بين: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا} (الأنعام: 144، الأعراف: 37، يونس: 17، الكهف: 15) بأن سماه علة فأدخله بزعمه في حال العلل التي هو عنها متعال في وجود كل ذي عقل، وهو محدث العلل وواضعها ومدخلها بالاسم والحال، بلا تبديل لها ما دامت كائنة، كما وضعها عليه في البدء، إقامة لدلائل الضرورة فيها، وإبانة لنفسه عنها بالارتفاع عليها سبحانه وبحمده {تعالى} عما يقول المبطلون علوا كبيرا. 25 - ثم يقال له: هل هي علل إلا لأنها بحال هي بد للمعلولات علل (96و) موضوعة بذلك البتة، وأن ذلك حال الفاضل لها من كل معلول خرج منها ويكون من أجلها، وأنها ليست بأولى بأنفسها منها بإخراج المعلول بتة فهذا بيان الضرورة فيها إن أقررت، وإن أنكرت جحدت العلل والمعلولات والمتعارف المعقول منها. 26 - فإن قال: سماه علة، عز وجل، لأنه للعل بحالها [ما] هي لغيرها على مثل سواء، فهذا الكذب الصراح، فليأت عليه بسلطان بين، لأن الحال لا تلزمه ولا تستطيع أن تلحقه صفتها من جهة من الجهات أبدا. 27 - فإن قال: فهل هي للعلل ببعض ما هي لغيرها. قيل له: سبحان الله عن التبعيض والتجزئة، أو أن يكون نفسه لغيره لا لنفسه، فإن ظهر له نفي جميع ذلك عنه، كما هو أهله عز وجل، بالحقيقة الظاهر (1) نورها لكل ذي هدى وإنصاف. فما سبيله إذن إلى أن يسميه علة يجب لإيجابه شيء سواه، كما وجبت أن تكون المعلولات لأجل العلل، وأن تكون العلل لأجل المعلولات الواجبة منها ضرورة، وانعطف بعض الخلق على بعض وانحصر في نفسه بما حده له خالقه، ولم يكن له أن يجاوز الحادث إلى القدم، ولا المحصور إلى المطلق، ولا المخلوق إلى الخالق، إنما نفع اسم من كتب نبوة أو حجة فطرة، فإن أقر بالنبوة فليس هذا الاسم منها، وإن ذهب إلى حجة العقول، فقد ظهر به نفي ذلك عنه سبحانه. 28 - وإن سأل السائل عن حال العلل فقال: وما الحال التي من أجلها صارت عللا، فلا يجب لتلك الحال أن يكون الباري علة المعلول قيل له: الاشتراك في

_ (1) ص: الظاهرة.

حال العلل، لأن تلك الحال جامعها معا لكون كل معلول يكون من أجلها، كالاشتراك بحالها الجامع لها. فالباري تعالى لا علة، إذ ليس مشتركا معها في الاسم ولا في المعنى، وإذ هي بالفصل بائنه عنه، لأن الفصل غاية لها، وهو لا غاية له عز وجل. 29 - فإن قال: فلم صارت هي عللا سابقة دون أن تكون هي المعلولات المسبوقة قيل له: لأنها بالفصل الأكبر في بسطها أحق من المعلولات، وإذ هي بالفصل الأكبر أحق، وجب لها السبق قبل كل معلول، لأنه محال أن تكون هي في بسطها وعظم أقدارها في الفصل الأصغر الذي هو أحق المعلولات من بعدها، فلأجل [96ظ] صغر الفصل صارت معلولات من غير اضطرارا، ولأجل عظم الفصول العظام صارت عللا لغيرها واستحقت السبق لها، وهو أصغر قدرا منها. ثم هي لا تعود بتلك الفصول العظام إلى أن تكون معلولات لغيرها أبدا إلا أن يكون قبلها ذو فصل أعظم منها. ولو كان قبل كل عظيم أعظم منه، كان هذا بلا غاية. والباري جل وعز لا يقال فيه إنه ذو فصل، أي يناله بذاته، على معنى أن تكون المنفصلات فيه كما هي في العلل، لأن الموضوع في المحدود محدود، والفاصل لذي الغاية ذو غاية، والمحيط بذي النهاية إحاطة الاتصال ذو نهاية، وهو الذي لا غاية له، عز وجل عن ذلك. 30 - فإن قال قائل: ولم كان هذا كذا قيل له: لأنه لم يكن بد من أن يكون صغير وكبير، ليعقل الصغير والكبير، ولا يعقل الصغير إلا بالكبير، ولا الكبير إلا بالصغير، فلما لم يكن بد من أن يعقل وضع على المعنى الذي به يعقل، فكان الكبير أحق بالسبق لكبره وفضله عن الصغير وحمله له، فكان علة له، وتأخر الصغير لصغره إذ حق ذلك له، إذ لا يقوم إلا في حامل قبله يسعه، فالكبير مكان، والصغير متمكن. 31 - فإن قال: ولم لم يكن المعلول بالفصل الأكبر أحق من العلة قيل له: فهذا تكرير بعد الفصل، ولكنا نقول له: لأن الفصل الأكبر فاصل عنه، فالكبير يفصل الصغير، لا الصغير يحيط بالكبير، ولا يعقل المعقول إلا بفصله الأحق به، فالصغير معقول بفصله الأصغر إذا أضيف إلى ما هو أكبر منه، فإن لم يضف إلى ما هو أكبر منه لم يعقل أن فصله صغير أو كبير بتة، وإذا لم يعقل دثر بلا زمان عن

المعقول، لأن ما لا يعقل فصله دائر غير قائم، لأن الفصل هو الحق المبين له في العقول، فإن لم يكن الحق فقد بطل ما قارنه الحق، لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال. 32 - واعلم أن الحق الأول الرب الأعلى المحقق للحق، الفاصل لكل شيء مرتفع عن أن يقال بالحق حق، كما حق بالحق غيره، لأنه المحقق للحق الذي حقت به الأشياء، ولو وجب أن يكون المحقق للحق بالحق حق أعني قبل الحق - لوجب أن يكون المكون للكون بالكون تكون، وهذا رأس المحال، وهو الذي أحق الحق الأكبر وأحق به الأشياء، فأثبتها وأبانها به، فمحال أن تكون حقت بالحق حقيقته، بل (97و) ويحق عندنا بالحق على معنى الدلالة عليه أنه الحق المبين، لأن كل ما حقت إنيته بشيء، فذلك الشيء قبل إنيته، فافهم. 33 - ومن الزيادة في إيضاح قولنا في العلة والمعلول أنا نقول: إن الباري عز وجل خلق المعلولات على ما هي عليه من الإتقان والإحكام والثبات باضطراره للعلل التي وجبت المعلولات من أجلها واضطراره إياها. وهذا قول صحيح جدا. ألا ترى المركب المعلول المنضد ذا أجزاء لا محالة بعضها مخالف في الطبع لبعض: حار وبارد، ورطب ويابس، وثقيل راسب، وخفيف طاف، ومتوسط بينهما شبيه بالطرفين كليهما، وشديد غاية ضعيف بتة، ومتوسط بينهما قد توسط بين طرفيهما مما يلي الشديد شديد ليس كشدة الأشد، ومما يلي الضعيف ضعيف ليس كضعف الأضعف، فأنت لو طلبت سوى الأربعة بجهدك وجهد غيرك لم تجده بتة في شيء من العالم. فيحق ما قلنا على المعلولات إنها فعل الله تعالى باضطرار العلل لبعضها، لأنا نرى الأربعة في المعلول المركب مبنية بوزن العدل، قائمة بالإتقان لما يجب على ما يجب عند دفع العلل من أماكنها في الفصل المراد للمعلول. فالأثقل الراسب منها تجده في المعلول قد نزل في الحضيض الأسفل حاملا لسواها، كالماء الذي هو في الأسفل من العالم الأكبر، وكذلك هو في العالم الأصغر، وكذلك هو في النبات والحيوان الكلي. والأخف الطافي تجده لا محالة في الأعلى من العالم الأكبر وفي كل شيء سواه. والمتوسط بين الطرفين قائم لا محالة باعتدال موزون، فإن نزل فيه الجزء حامت (1) الأطراف عليه

_ (1) ص: وحامت.

ليعتدل ويسكن، ذلك تقدير العزيز العليم. 34 - فالمعلول فرع لعلته بوصفنا هذا، والعلة أصل لمعلولها، وحركة التأليف لا يمكن أن يكون منها التضاد القائم بينهما، فهي من محرك غيرهما ليس مثلهما لا محالة. فالمعلولات، كما فسرنا، كناية لأجل العلل الأول التي اضطرت إلى فعل معلولها، والعلل الأول الباعثة بما جعل في طبعها لكون كل معلول موضوعات لمنفعلاتها، وليست العلل بعد، إذ هي النهاية من [كل] شيء، سوى العدم الذي هو اسم ناف لكل شيء من وهم أو لفظ. ومن قال كقول يعقوب بن إسحاق إنها من أجل (97ظ) الباري، تعالى عن ذلك، فالباري عز وجل ليس شيء أولى به من شيء، إلا أن الأول لا يكون إلا عن سبب معلوم أنه لا موضوع هو لشيء يكون من أجله انفعال ذلك الشيء، فقد نقض قوله إنه لا موضوع إذن، والباري عز وجل ليس شيء أولى به من شيء، لأن الأولى لا يكون إلا عن سبب متقدم يوجب له أن يكون أولى، فهو مطلق الاختيار عز وجل تام الغنى. 35 - فرأس العلم وقطبه وذروته العليا أن تعلم أنه ليس شيء من المعلولات كائنا إلا لعلة موضوعة، وضعها من تعالى عن أن يكون علة أو معلولها، ولكن كل شيء كان فلعلة موضوعة كان، وجب عند الله عز وجل أن يكون المعلول من أجلها كائنا لأن الله عز وجل تعالى وتقدس وتنزه وارتفع عن أن يضع نفسه ليكون من أجله شيء، لأن الخالق لا يعود مخلوقا والموضوع مخلوق، ولكنه القادر على أن وضع ما من أجله كان كل شيء، فتعالى ذو الكبرياء والعزة والعظمة والجلال عما يقول الملحدون في أسمائه، خطأ وعمدا، علوا كبيرا. 36 - وإنما دخل الغلط على الكندي على ما قال، لأنه نزه الباري زعم - أن يكون خلق الخلق من أجل غيره، فظن أنه إن أوجب ذلك وجب أن ذلك الغير سابق له ومستحق للقبل قبله، فاعجب كيف طمس عليه عقله، فإذا لم يجد صحيحا أن يكون فعل من أجل إنيته ولا من أجل غير قبله، أن يقول فعل من أجل شيء بعده فيصيب، فنعوذ بالله من العمى عن الهدى والضلال عن الحق والزيغ عن الطريق المستقيم.

37 - أرأيت لو قال له قائل قولا مختصرا: يا أيها الكندي المنكشف المبهوت، نحن نقول: إن الباري جل جلاله فعل ما فعل من أجل المفعول، إذ لا يجوز أن يكون مفعوله مفعولا تاما كائنا ذا أفعال وانطلاق وانتفاع إلا بفعل التمام له الذي من أجله كان المفعول وتم، وكان هو من أجل المفعول، إذ لا يكون علة إلا لمعلول، ولا معلول إلا لعلة متشاكلان. وإذ لا يجوز أن يعلمه المفعول إلا وهو منفعل وإرادته أن تعلمه هي علة انفعاله، فللإرادة كان المفعول، وللمفعول كانت الإرادة، ليس لواحد منهما عن صاحبه مخرج. فإن قال: هو إذن من [أجل] أن يعلمه فعله، قيل له: نعم، من أجل أن يعلمه، وأن يعلمه هي إرادته التي من أجلها فعل، لأن علم المفعول هي الإرادة التي من أجلها قام، فافهم. 38 - وقوله إن الإنية فعلت من أجل إنيتها فباطل محض، لأنه لا يجوز أن يقال على الإنية الواحدة بقول متوسط، إذ لا غاية لها فيدخلها توسط، لأنه لو دخلها توسط كان لها إذن بعض يفعل من أجله هذا قول لا يحمله العقل عن الله عز وجل، تعالى الله عنه، لأنه إن كان فاعلا من أجل [98و] ذاته، والذات وحده لا غيرية فيها، فهو لذاته فاعل ما فعل، وذاته قبل ذلك وحدة لا علة فيها، هذا من أشنع المحال والتناقض لمن عقله. وأيضا إن كان فعل من إجل إنيته، فالفعل لازمه ضرورة بما كانت الإنية علة للفعل، لأن العلة والمعلول من المضاف، لأن العلة علة المعلول، والمعلول معلول العلة، لا يجد العقل سوى هذا. 39 - وأيضا إن كانت الإنية فعلت من أجل ذاتها، إذ الفعل ليس ضرورة، فهي فاعلة لبعضها وما سواها معدوم، لأن بعضها علة فعل، وبعضها علة إيجاب فعل، فهذا كله يدخل على الكندي. 40 - وأيضا إن كان الفعل من أجل الإنية، فالفعل لازمه ضرورة، فالفعل إذن لم يزل والإنية متقدمة للفعل، فهي إذن قبل الفعل، فهي إذن أزلية والفعل حادث، والفعل من أجل الإنية، فالفعل إذن لم يزل، فالفعل إذن حادث والفعل لم يزل، هذا خلف، أراد شيئا فكانت الإرادة السابقة علة موضوعة لما يكون، ولا علة لها هي لأنه ليس قبلها مثلها، والعلة والمعلول متشاكلان، فمحال أن يكون لها علة، إذ ليس

قبلها شيء يشاكلها فيكون علة لها، فالله تعالى محدثها وباعثها، وهي علة بأن سبقت كل معلول بعدها. هذا عندي أصح من أن يكون من أجل المعلول. 41 - تفسير الإرادة: الإرادة في الفصل الأكبر وهي الحد الأول وهي النهاية القصوى وهي العلة الأولى، فليس للفصل فصل، ولا للحد حد، ولا للنهاية نهاية، ولا للعلة علة. الفصل هو بنفسه فصل، والحد هو بنفسه حد، والنهاية هي بنفسها نهاية، والعلة هي بنفسها علة. 42 - العلة والمعلول من المضاف الذي لا يكون بعضه إلا لبعض، وهو يتسابق بالفعل ليس هو كالمكان والمتمكن؛ المكان والمتمكن والحد والمحدود والفصل والمفصول لا يتسابق بتة، وأما العلة والمعلول فيتسابق بالفصل، وأظن القائلين إنه لا يتسابق هم الدهرية، لأن هذا اللفظ يعضد ضلالهم فيزيدهم ضلالا. والناقص والتام يتسابقان أيضا، فاحفظ إن شاء الله ما يتسابق مما لا يتسابق وتحفظ منه. وإنما يعنون بقولهم في العلة والمعلول: مضاف لا يتسابق، لأن العلة فيها معنى المعلول مضمر في لفظها، إذ لا يكون علة إلا لمعلول فيها معنى المعلول قائم لا تسبقه، كما المعلول فيه معنى العلة لا يسبقها، لأنه إذا ذكر فذكرها قائم فيه، فهو لا يسبقها بزمان، لغنى في ذكره إذا ذكر ومعناه وصف، وهي تسبق معلولها بالذات كالأب يسبق الابن، والمالك يسبق المملوك [98ظ] . 43 - تفسير الفصل الأول: الفصل الأول فصل العدم من الوجود، فهل فصل للمفصول وحد للمحدود، فالمحدود فيه عن العدم، والمفصول فيه من العدم، هو العلم. هي المقادير الأول التي عنها كان الكون كله، هي مثال الكون كله، ولا يمكن أن يكون هذا الفصل الأكبر إلا العدم، والعدم لا يكون علة ولا معلولا. فمن زعم أن العلة التي هي العدم علة، قيل له: مشاكلة لها أو غير مشاكلة فإن قال: مشاكلة، قيل له: فهي إذن العلة الأولى حتى تنتهي إلى علة ليس بعدها علة مشاكلة، فإذا لم يجد أن الخالق والعدم، قيل له: فالخالق ليس مشاكلا للمعلول فيكون علة، والعدم لا يكون علة ولا معلولا، فإلى العلة إذن، فهي إذن ضرورة بنفسها علة لا علة لها، ولغيرها كانت علة، وذلك الغير هو المحدث لها، والأول الذي ليس كمثله

شيء. 44 - مسألة الإمكان: نقول قولا لابد للكندي وأهل مذهبه وأشباههم من القول به ضرورة، نقول: إن الفاعل الأول فعل فعلا كان ممكنا أن يكون قبل كونه، فليس يقدر أن ينكر الإمكان لله تعالى في ذلك أحد، لأن الإمكان واجب قبل الفعل لا محالة، فلإمكان الذي ظهر ضرورة بين الفاعل والفعل هو البون الأكبر بين البون بين الفاعل والمفعول، ثم بينه بون آخر دونه في القدر والعظم هو تحته حاجز أيضا للمفعول أن يضاف إلى البون الأعلى، فضلا عن الفاعل الأول، جل وعز، وهذا البون الثاني هو الانفعال الخارج من جهة البون الأعلى الذي هو الإمكان، ولا يجوز أن يكون الإمكان هو الانفعال، كما لا يجوز أن يكون الانفعال هو المفعول التام المقدر المفروغ منه، لأن الانفعال عن إمكان يكون ضرورة، والمفعول القائم عن انفعال يكون ضرورة أيضا متتابعا. هكذا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بجميع ذلك لمن لقنه، والحمد لله، وليس لأحد من الملحدين عن هذا بحجة العقل مخرج أبدا ولا محيص. 45 - تفسير الإمكان: فقل الآن للمتشاغل عن نور النبوة التي أبانت الألفاظ مع المعاني بوحي الله تعالى ونوره: فلإمكان هي الإرادة، هي الملك، هي العرش، وهو الغاية القصوى والنهاية العظمى والفصل الأكبر، وهو الحق المحيط بالكل، وهو الأمر الأعلى، والنور الأعظم، والحجاب الأرفع المضروب بين الخالق وخلقه، ثم دونه إلى الخلق حجاب آخر، وهو مكان الانفعال، وهو المثال الكائن [99و] من بعد الأمر الأول الجامع لأقدار المكونات كلها، قدر كل ما يكون، وزمام ما قد كان؛ وهو العلم والكرسي القائم تحت عرش الرحمن، فسبحان رب العالمين رب العرش العظيم. 46 - فقل الآن على ترجمة ما قالت حكماء الفترة (1) ولم يفصحوا بالتسمية إذ عدموا نور النبوة: الإمكان هي الإرادة الجامعة لكل مراد من المنفعل والمفعول،

_ (1) ص: العترة.

والانفعال هو الطبيعة المتحركة تحت الإمكان، فهو مدة خروج الأقدار المفعولة عنه، فهو الزمان، ونهاية حركة الانفعال إلى حد؛ الإمكان الإرادة الجامعة لانفعال المنفعلات، والإمكان نهاية للزمان [أي] الطبيعة المتحركة للانفعال؛ فالإمكان [هو] العرش والذي تحته حركة انفعال الزمان، والذي تحت الزمان حركة المفعولات المكونات التامة هي الأوقات والسنون والأيام، والزمان نهاية السنين والأيام، والدهر نهاية الزمان، فالدهر جامع للزمان القائم بحركات الصور التي هي ذات الأقدار الثلاث طول وعرض وعمق - التي هي للجرم، وتلك الحركات التي هي حركات الأجرام هي المفصلة أوقات الانفصال أقدارها أجساما تامة، والدهر الجامع لذلك كله هو البون الأكبر والحد الأعظم والإرادة الدائمة الأبدية لخلود أهل الجنة والنار، وربنا المحمود ذو العرش المجيد الفعال لما يريد، وصلى الله على سيدنا محمد الذي لم يدعنا في ضلال أهل الفترة ولا حيرة أهل الفتنة وسلم. 47 - وقوله: اعلم أن الدهر هو بقاء غاية الإمكان التي يقوم الإمكان بها دائما ما بقيت تلك الغاية ساكنة في حال واحدة أو حركة واحدة لا ضد لها، واعلم أنهما غايتان: إحداهما ساكنة والأخرى متحركة، فالمتحركة تحمل الساكنة، لأنا لا نجوز أن يكون ساكن قبل حركته، لأنه لا يكون قبل حركة إبداعه وكونه ولا قبل حركة انفعاله، فالساكن من حركة فصل، ولم تفصل الحركة من ساكن كأنه يفسر الإرادة الأولى والحادثة هذا الكلام مدخول لأن الذي قال فيه بإمكان (1) لا بد أن يجعله قديما أو محدثا. فإن جعله محدثا زعم أنه لم يكن ممكنا له أن يفعل قبل، فأوجب عارضا فنفى الوحدة. وإن جعله قديما أوجب الدهر قديما شيء آخر، فنفى الوحدة. 48 - فإن تبلد ذهن سامع فازداد بيانا فقال: بين لي كيف امتنع ذلك بوجوب الإمكان والانفعال فصلان عظيمان [99ظ] والإضافة لا تقال إلا على اثنين لا بون بينهما بمكان ولا بزمان، بإجماع من الفلاسفة الذين خطوا لكم الطريق، فالوجود الضروري للفصلين العظيمين قطع الإضافة بين الخالق والمخلوق، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ومن جهة مائية الإضافة هلكت النصارى

_ (1) ص: إمكان.

بديا، وعن إيجاب الإضافة هلكت الدهرية أيضا والديصانية والمجوس كلها، وعن جهل ذلك هلكت المنانية والمشبهة أيضا، وبجهل الكندي بها هلك في كتابه، فلم يجد علة للخلق إلا الخالق، فسماه غير اسمه، إذ لم يجد إلا الخالق والخلق ولم يعرف الأمر. فوجود الإمكان والانفعال بحجة العقل وضرورته، قيل: كون المعقول الخارج عنها من عدم، وهما الدهر والزمان الكائنان بتعديهما بين المفعول والفاعل الأول، جل ثناؤه، فصل الإضافة، لأنهما ليسا فعلا تاما، بل الفعل التام أعني المفعول كائن لأجلهما (1) ، ولذلك لا يمكن أن يقال: الانفعال والإمكان فعل، إذ الفعل المفعول غيرهما لا محالة، وهما الدهر والزمان المدبران لذلك الفصل بين الفاعل الأول والفعل الكائن القائم المحسوس في مستقره. 49 - فإن قال: وما الذي منع أن يكون الدهر والزمان من المضاف إلى ربهما دون المفعول قيل له: منع من ذلك أنهما مضافان إلى مفعولهما الكائن عنهما، لأن الدهر هو غاية الزمان، أعني غاية مدة حركة الانفعال والمفعول، والزمان مدة انفعال المفعول، فلا يمكن أن يكون الزمان بلا غاية، لأنه لا يكون شيء بلا غاية، ولا يكون مفعول بلا مدة، فالانفعال مدة المفعول، فهما لا يصلان إلى غير ما هما مضافان إليه، بل هما بائنان بالمفعول وزائلان به، والمفعول ثابت بهما وزائل فيهما، دون الوصول منه أو منهما إلى الفاعل الذي لا غاية له. والإضافة أيضا لا تكون إلا لذوي الغايات المتساوية الأبعاد والأوساط، وإلا لم تكن الإضافة بينهما حقيقة أصلا ولا واجبة لهما أبدا. ألا ترى أنه يمتنع أن يكون المفعول مضافا إلى الزمان كله من قبل حدوث كلية المفعول المستقر في الدهر بعد زمانه، المقضي الذي هو انفعاله المخرج له من عدم إلى وجود. والمفعول إنما يكون مضافا إلى الانفعال بأول دقيقة منه، يكون إذن مضافا، والإرادة الأولى المحيطة بالانفعال هي الفصل الجامع الفاصل في الانفعال إلى مثلها من الانفعال في الصغر من الزمان ضرورة، وهكذا تقال الإضافة بينهما قولا صادقا بالتكافؤ بالدقائق، فكيف تجب الإضافة لما لا أبعاد له [100و] ولا أوساط إذن 50 - فإن قال: فما منع أن يكون المفعول بدهره وزمانه مضافا إلى الفاعل الأول

_ (1) ص: كامن.

فلا يتسابق قيل له: الزمان الذي هو انفعال المفعول إلى أن يستقر في دهر لا يتخلق به فيه بعد لتمام انفعاله؛ قد أريناك فصل المفعول من فاعله، لأنه مخرج من عدم إلى وجود، وموجب عليه الحدث، ووجوب الحدث عليه موجب لقدمه خالقه قبله، فإذا وجب التسابق بطلت الإضافة بطل التسابق، فافهمه. 51 - فإن تبلد فقال: فإن كان الانفعال قديما ثم ظهر المفعول حديثا قيل له: الانفعال حركة ما، والحركة بدء ما، وما كان له بدء فله قبل، وما كان له قبل فهو حادث.

بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} وهذه زيادة تبين على من ألحد في أسماء الله فسمى ربه علة 52 - قال الموحد: نحن نقول أن الواحد الأول الذي لا مثل له يقول لأجل إرادته، فيفعل بقوله الذي لا خلف فيه، وهو جل وعز أبدا، إن أراد شيئا قال له: كن فيكون، قوله الحق وله الملك، فقوله الحق وأرادته الحكم الفاصل، جل ربنا وتقدس. فإن أراد ربنا شيئا كان بقوله: كن فيكون كائنا، وإن لم يرد شيئا لم يكن. فنقول: إن الله عز وجل فاعل بالقول، لأجل الإرادة التي سبقت منه قبل الفعل، وهذا بين في القرآن [مثل] قوله تعالى: {فعال لما يريد} (سورة البروج: 16) ، وهو بالقول فعال، قال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (سورة النحل: 40) . ونقول: إنه لو لم يشأ أن تكون منه الإرادة لم تكن، لأنه غير مضطر إلى الإرادة، غير مضطر إلى أن يريد، كيف وهو الأول قبل الإرادة سبحانه الواحد الصمد الفرد الأحد فنقول: لا كائن إلا بقوله، ولا قول يسبق منه إلا بإرادته، وهما يحدثان منه متى ما شاء قضاءهما بلا مانع له عنهما، فإن أراد قولا قال، وإن لم يرد لم يقل، فإذن لا قول يكون منه ولا إرادة إن لم يرد، هو مالك الإرادة ومالك القول، ومالك كل شيء سواه. فلأجل هاتين الصفتين كان المفعول مفعولا بعد أن لم يكن، وهما علتان لكل مفعول، لا علة قبلهما من الله لكون الكائنات سواهما. فلا يقال في الباري جل جلاله إنه علة الأكوان (100ظ) بهذا الاسم الذي لا يحسن ولا يحق أن يسمى به إن أراد مريد قصد الصمد بذلك دون الصفات، أعني دون القول والإرادة، لأن الصفات علل الكائنات جميعا، وهو بوحدانيته غيرهما لا محالة، وهي محضة صمدة كما سمى نفسه، متعال، ووحدانيته قديمة بلا غاية

لها، ولكل شيء من القول والإرادة غاية، فليس الله تعالى يسمى علة كما ظن الجاهلون الملحدون في أسمائه، {سيجزون ما كانوا يعملون} (الأعراف: 180) لأنه ليست العلة علة معقوله إلا لمعلول يكون المعلول من أجلها ضرورة، أعني بلا أختيار وبلا رجعة عما لها في القوة أن يكون منها، أعني كون معلولها منها كالقول الذي هو للإرادة بالقوة قبل خروجه منها بالفعل لكون الكائنات، وكالكائنات التي هي للقول في القوة مكونة قبل الفعل، وذلك من شأن العلل معقول أبدا عند أهل العلم، أعني لا شيء لها في القوة إلا ولابد أن يكون كائنا بالفعل ضرورة يلزمها طبع العلة مقدور على ذلك اضطرارا. 53 - فالأول المبدع للعلل الذي لا مثل له ليس هو لشيء علة تعالى عن ذلك وارتفع، إذ العلة في العقول الصحيحة هي السبب المطبوع لكون المسبب لا محالة، فالأول جل وعز لا سبب، تعالى عن ذلك، فأنى يكون سببا وهو محدث الأسباب وفاعلها، وأنى يكون علة وهو محدث العلل وواضعها، لا من سبب ولا من علة. 54 - والذين قالوا إنه ليس علة الخلق شيء سوى القول والإرادة والقدرة، وأنه إن كان جميع ذلك لم يزل بلا غاية، فالخلق لم يزل بلا غاية، فهو كما قالوا في كلامهم؛ غير أنهم ضلوا عن المبدع الأول، لأنه ليس علة الخلق إلا الإرادة والقول والقدرة، فأما محدث ذلك فليس علة، ولا لأنه لو لم تزل هذه الصفات لم نزل الكائنات واجبة، لأن العلة فيها إيجاب معلولها، ولكن من لهم بدعواهم أن العلل لم تزل مع الأول الموصوف، وأنها أزلية بلا غاية، وهم لا يأتون عليه بسلطان أبدا، وإذا لم يجدوا به سلطانا ولا برهانا، أليس القول به كفرا وشرا وطغيانا وهذا موضع خلاف النصارى والدهريين، فسبحان الفرد الصمد الذي {ليس كمثله شيء} وهو الأول وحده، وكل شيء سواه حادث بعده، بائن منه، مملوك له {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} . 55 - ومن فقه الصفات أن الصفات علل بادية، وهي قبل أن يكون الفعل التام لانفعالات بتركيب المفعول [101هـ] المفعول منها، ولذلك لا يجب أن يقال: هي مفعولة، أعني العلل التي هي الاسطقصات الأربع، لأن المفعول هو المركب، وهي

بسيطة لا مركبة. ولا يقال في العلل إنها أفعال الله ما دامت متحركة لا مستقرة، بل هي انفعالات لله تعالى واجبة، ولا يقال في المعلولات إنها انفعالات إذا هي تمت مستقرة. وهكذا تنفصل في الوهم الهوية من لا هوية، لأن الموجب يبعث السالب.

بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم 56 - كتب محمد - رحمه الله - في جانب كتاب الكندي صاحب هذا الكتاب لمن فهمه عنه: لاشك فيه أنه غير صحيح الإيمان، غير عالم بربه، غير ذي بصيرة في شيء، لأنه تناقض في كلامه واضطرب اضطرابا يخبر أنه لم يحصل ما يقول. 57 - أول ذلك العلة والمعلول التي كفر فيهما في كتابه في التوحيد هو ما قد جاء بهما كما هنا، فبعد أن أوجب الإيجاب التام الجيد ونفى عن التوحيد كل ما ينغصه من المضاف والنوع والجنس وسائر المقولات، زعم أن الواحد علة ما خلق، والعلة لا تكون إلا جنسا، والعلة لا تكون إلا مضافة، والعلة من كل جهة لا تكون مع الوحدة الصحيحة في قوله وبما أوجب بلسانه، فحسبه بهذا عيا وكفرا وضلالا. 58 - ثم جعل تناقص النبوة في هذا الكتاب بما يدخل عليه، أن جعل ربه علة، دخولا كدخوله عليهم أو أشد، وكذلك الكفر ما نقص ضربا منه نقص أجناسه كلها، وإنما هلك المسكين لأنه بعد أن نفى عن الخالق شبه المخلوق في شيء من صفاته، جعل يطلب خالقه بما يتمثل لعقله كطلب المخلوق سواء سواء. ولو لم يعرف إذا بلغ الحد الذي وقفت الغايات إليه كيف ينفذ إلى إيجاب وجود الخالق بما يخالف وجود المخلوق، وأراد أن يسلك فيها سبيلا واحدا بعد أن أوجب في مبادي كلامه أن سبيل وجودهما مختلف، فلعمري ما أرى الكلام الصحيح الذي قدمه في كتاب " التوحيد "، والذي يجري في داخل كلامه في هذا الكتاب، إلا ما حفظ من كلام غيره من الأوائل الموحدين: أرسطاطاليس وأفلاطون وأبقراط ومن وحد منهم، حتى إذا رجع إلى محصول نفسه جاء حينئذ بالاختلاط والضلال، فليتق عبد على نفسه، فإن النظر في مثل [101ظ] هذه الكتب لمن يعرف الله معرفة تامة تهلكه وتكفزه وتخسره آخرته وتوجب عليه عذاب الأبد السرمد، وأين من يعرف ربه كانوا إذ كانوا، وقد والله

ذهبوا، فإن كان قد بقي منهم في الدنيا واحد أو اثنان فعلمه مخزون في صدورهم مقصور على أنفسهم أو على خاصة يسلك بهم مثل سبيله في طيه عن أهل زمانه، إذ لا يرى مستحقا ولا أمينا ولا لقنا ولا صديقا ولا مريدا صادقا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. 59 - قال الموحد: من المسائل التي هي محالية السؤال، فلا أجوبة لها بالمقابلة (1) لأنك إن قابلت المحال كنت محيلا: لو سأل سائل عن الله عز وجل بإيقاع صفة التمام والكمال مثل ما هو تام كامل، قيل له: أتسأل بصفة المخلوق عن الخالق، تعالى الله عن هذه الصفة كما تعالى عن ضدها، هو فوق ما يأخذه التمام والنقص، عال علوا كبيرا، وهذا المحال من السؤال موجود مثاله في المخلوقات وجودا قريبا ظاهرا، لو قال قائل: الأمير حاجب أو وزير قيل له: منزلته فوق منزلة الحاجب والوزير. فلو قال القائل: اللؤلؤ أخضر هو أو أحمر قيل له: لا ذا ولا ذا. ومثل هذا يرد كثيرا في مواضع مشبهة لا يظهر محالها إلا بالكشف. وكذلك لو سأل سائل، وهي أغمض من التي قبلها: هل يحيط علم الله بذاته أم لا يحيط قيل له: لا تسل عما لا يتناهى بصفة الإحاطة فليس لك جواب، أرأيت لو قلت: أيحيط المحيط بما لا يحاط به ألم يكن محالا كما لو قلت: هل لما لا حد له حد، وهل لما لا نهاية له نهاية، وهل يخلوا الذهب أن يكون أسود أو أخضر قلنا: لا يقع عليه واحدة من هاتين الحالتين، فكذلك بمن سأل عن متقابلين في المخلوقات ليس واحد منهما فيه، نفيا جميعا. ومن سأل عن الخالق تعالى عز وجل بما يقع على المخلوقات من الصفة، ومن جهة الضد والند، ومن جهة الكم والكيف، كل هذا لا يجاب فيه حتى يسأل غير سؤال المخلوق، كما لا يشبه خلقه في صفة من صفاته، كذلك لا يمكن أن يسأل عنه بصفة من صفات خلقه، فافهم ولا يستخفنك الذين لا يوقنون {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} (سورة البقرة: 42) ، الذين قالوا بالكمون جهلوا المكان والمتمكن، فحسبوا أن المتمكن يكون في المتمكن ولا يكون المتمكن إلا في مكان، والمكان لا يأخذ منه الجسم إلا قدره وحده، فلا يمكن أن يكون جسم آخر معه في مكان لا فضل فيه، والمكان [102و] الهواء والأجسام المتمكنات فيه، فبؤسا

_ (1) ص: بالمقالة.

لهم ما أبلدهم. 60 - قال: أخشى أن يكون هذا الكندي الشقي كان زنديقا، فعمل على أن يوقع غيره فيما وقع هو فيه، ويرى مثله ممن أراد الله تعالى هلاكه أن البراهين تتناقض في إثبات التوحيد، كيف هي وكيف تثبت، وأنها لا تصح إلا بهذه الشرائط. ثم أتبع ذلك بأنه لابد للعالم من علة، وأنه لا علة إلا خالقه، لينقض بذلك الصفة التي هي التوحيد، فيرى أن الوحدة غير موجودة وغير قائمة. فإن كانت هذه بصيرته وإياها قصد، فما أرى في جهنم أسفل درجة منه. وإن لم يكن قصدها، فالشيخ (1) دبرها على لسانه، فهو معه في أسفل السافلين، إذ مكنه الله تعالى من أن أجرى على لسانه الكفر بهذا اللبس من حيله، ليصد عن سبيل الله. وربما ظننت أن طويته قول الدهرية لأنه رجع قوله إلى أن كل شيء معلول وعلة فأثبت العالم ونفى غير ذلك. فلعمري إذ خشيت هذا من كيده إنه ليجب أن يوضع شيء يبين به عليه، ويقابل به ضلاله، لتمحى ظلمته بنور الهدى إن شاء الله. ألا ترى كلامه كله كلام الحيران معرفته بأزمة الكلام من جهة صناعة المنطق، فهو يرد على المنانية والدهرية ويخلط القول صحيحا بمريض، كما كان في قلبه سواء، والله أعلم. 61 - قال: إن الكندي وإن ناظر هؤلاء المبطلين، فقوله ظنين غير مأمون لنقضه على نفسه التوحيد جهارا، إذ أقر أن العلة والمعلول من المضاف، وأن الوحدانية لا يقال عليها بالمضاف، ثم زعم أن ربه علة، فأوجب المضاف، فكأنه تعمد النقض، فنقول: إن رده على المنانية ومناقضته إياهم صحيحة، كما ناقض، إلا مواضع زل فيها. وأصل مناظرته صحيحة (2) ، غير أنه كثر فيما يستغنى فيه بالقليل، إنما هي عقدة واحدة، فلينظر إليها من أراد الحق ويجعلها لنفسه أصلا يغنيه عمن زال عن قوله: {ليس كمثله شيء} . فكل مناظرة تلحقه، وكل مناقضة تدخل عليه من شبه إلهه بشيء من المخلوقات من جهة من الجهات، فجعله جرما أو محدودا أو متناهيا أو أي صفة من صفات المخلوق كانت، دقت أو جلت، دخل عليه سائر الصفات

_ (1) الشيخ: يعني إبليس. (2) كذا والأصوب أن يكون " صحيح ".

كلها، وناقضته المعاني كلها في السموات والأرض حتى تخرجه عن المثل بكل جهة مقولة ومتوهمة، وإلا فهو مبطل ملحد في الدنيا والآخرة، وصلى الله على سيدنا محمد. كما أن الكندي إذ سمى ربه علة، يدخل عليه كل ما أدخله على المنانية [102ظ] فيسأله عما كان خطأ أو عمدا. تم الكتاب بحمد الله وعونه

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم 62 - من المقلوب قياس أمور خالقنا على قياس أنفسنا فنخر ولا نشعر، وإنما منع الإضافة عدم المشاكلة، هي فصل، لا فصل مسافة مانعة من الإضافة، وإن زاغ المعنى عن هذا إلى توهم المسافة ووضع الكلام عليه، دخل الباطل والزيغ لا محالة، فاشعر إن كنت تشعر. 63 - الإنية والذات: الشيء بعينه. 64 - الأشخاص الجزئية: كل ما تدركه بالحواس الخمس. 65 - والأجناس والأنواع: كل ما يدركه الوهم - وهو العقل وإنما يدرك العقل المعاني والجواهر البسيطة التي هي الأمر. 66 - المركبات: المخلوقات. 67 - والصفات: العلل. 68 - " الحكمة ": هي الفصل الأكبر؛ " رب احكم " أي افصل؛ " حاكم ": فاصل، {وهو خير الفاصلين} أي خير الحاكمين. 69 - العلل التي هي رؤوس بادية أربع: العنصر والصورة والفاعلة والمتممة. فأما العنصر فمثل الذهب والنحاس والفضة؛ وأما الصورة فما صور منها مثل: الأباريق والكؤوس والحلي؛ وأما الفاعلة فمثل الصانع الذي منه ابتدأت الحركة لفعل هذه الأشياء من العنصر؛ وأما المتممة فإنها التي من أجلها فعل الفاعل مفعوله من العنصر، مثل أن يقال: لم عمل الكأس فقيل: عمل لأجل الشرب به، ومثل البيت الذي بناه البناء، فيقال: لم بني البيت قيل: للسكنى فيه، فكأن علة بنيان البيت السكنى الذي لأجله بني البيت، فهذه العلة التمامية التي تم بها المفعول. 70 - ومما يحق على من أراد أن يقضي بالحق ألا يكون معاديا لمن خالفه، بل

يجب عليه أن يكون رفيقا محسنا منصفا، ومن إحسانه أن يجيز له مثل الذي يجيز لنفسه من الصواب، والوقوف عند حدود البراهين، وكل حجة بلا برهان خرافة. 71 - العلة العنصرية تنقسم ضربين: روحاني وجسماني، فأما الروحاني فمثل إرادة الباري جل ثناؤه، والجسماني مثل الاسطقصات الأربع. والعلة الصورية تنقسم قسمين: روحاني وجسماني، فأما الروحاني فمثل الأرواح والملائكة التي قامت من العلة الروحانية العنصرية وهي إرادة الباري، وأما الجسمانية فمثل أجسام بني آدم وأجسام البهائم والنبات التي قامت من العلة العنصرية الجسمانية وهي [103و] الأسطقصات الأربع. والعلة الفاعلة تنقسم قسمين: روحاني وجسماني، فأما الروحاني فمثل كلمة الباريالتي فصلت الأرواح والملائكة من إرادة الباري، وأما الجسمانية فمثل الطبيعة المتحركة لفعل أجسامنا وأجسام البهائم والنبات من العلة العنصرية التي هي الاسطقصات (1) الأربع. وأما العلة المتممة فتنقسم قسمين: روحانية وجسمانية، فالجسمانية مثل تحرك الأجسام أجمع، وأما الروحانية فمثل علوم الإلهية وأفراد الوحدة. 72 - قال أفلاطون: الأفعال ثلاثة: فعل اختراعي وطبيعي وصناعي. فأما الاختراعي فهو المخصوص بفعل الباري، وهو تأسيس أيس من ليس. وأما الطبيعي فهو تأسيس أيس من أيس. مع فساد صورة ذلك الشيء وطبيعته إلى صورة أخرى وطبيعة أخرى (2) ، المخصوص بفعل العلل بإذن الله تعالى. وأما الصناعي فهو أيس من أيس بغير فساد صورة ذلك الأيس، وهذا المخصوص بفعل المعلولات بإرادة الباري ومشيئته تعالى. 73 - الجوهر ينقسم قسمين: روحاني وجسماني، فأما الروحاني مثل العقل والنفس، والجسماني مثل الطويل والعريض والعميق. والعرض ينقسم قسمين: روحاني وجسماني، فالروحاني مثل الحلم والعلم والأدب

_ (1) ص: الاستقصات. (2) إلى ... أخرى: مكررة في ص.

المحمولة في (1) النفس، وأما الجسماني فمثل السواد والبياض المحمولة على الجسم، فافهم. 74 - قال محمد: قال أفلاطون: كل ما وقعت حركته تحت الزمان محدود معدود، وكل محدود معدود فأوله التفريق، ثم ألفه بعد التفريق، لأن كل شيء له طرفان، والزمان والمكان معا معا، فإذا فني المكان فني معه الزمان لا محالة، والحمد لله رب العالمين. 75 - صفة الله تعالى: الله تعالى نفى صفات البشر عنه، وقد جعل لذلك اعتبارا، وهو المريد المحدد، فإن صفته عدم صفته، فنقول: هو خير مجرد لم ير قبله مثله، كذلك نقول: هو رب {ليس كمثله شيء} . 76 - قال: سألتني أكرمك الله عن قول داود القياسي في الله تعالى: إنه لم يزل متكلما، وأن أكتب إليك بما يوجبه عليه مذهبه فيه، فمذهبه أعزك الله مدخول، ولا أدري من أين أخذه، ولا على أي شيء حمله، ولا معنى له في القرآن، ولا في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكون الكلام إلا عن سبب وعلة توجب الكلام [103ظ] ، ولولا العلة لم يكن كلام، ولكن نقول: إنه لم يزل متكلما منذ خلق القلم، ولا يزال إلى يوم القيامة لقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (سورة يس: 82) . وإنما كان هذا من حيث ابتدأ خلق ما خلق، فلم يتكون شيء من ملكوته كله إلا بهذه الكلمة، وفيها زم قدرته على كل ما خلق، فإنما أوجب كلمته هذه خلق الأشياء كلها لما أراده من المحنة عز وجل. 77 - محمد رحمه الله قال: كلمت رجلا على قول الدهرية فقلت له: هل تعرف شيئا إلا ما يعرفه عقلك، أو عندك شيء آخر تعرف به وتنكر قال: ما أعرف إلا ما عرفه عقلي. قلت: فما عرفه العقل فهو المعروف المقر به قال: نعم.

_ (1) ص: على.

قلت: فما لم يعرفه العقل إذن فهو المنكر، والمنكر أصل الذي لا برهان عليه قال: نعم. قلت: والمنكر باطل قال: نعم. قلت له: فهل يعرف العقل شيئا لا نهاية له قال: لا يعرف العقل إلا ما له نهاية في جسمه. قلت: فإني أجمع لك كل ما مضى: لا يخلو قولك وقول أصحابك من أن نقول: إن الفلك هو الغاية أو أن فوقه غاية، فإن قلت: هو الغاية قلت لك: فهو متحرك، والحركة لا تكون إلا في مكان، والمكان لا يكون إلا في مكان إلى ما لا نهاية له؛ فالعقل ينكر هذا، وإن قلت: هو في متحرك، فإنه جسم، والجسم لا يكون إلا في جسم إلى ما لا نهاية له. وإن قلت: فوقه غاية، قلت لك: ما تلك الغاية التي فوقه أتشبهه أم لا تشبهه فإن قلت: تشبهه. قلت لك: فهي جسم، فهي إذن في جسم، فرجعت إلى سيرتك الأولى. وإن قلت: لا تشبهه. قلت لك: فإن العقل لا يجد مثالا إلا ما يشاهده، ولم يشاهد إلا الأجسام. فإذا أجبت بشيء تزعم أنك تجد مثاله وهو خلاف المثال أنكره العقل، وما أنكر العقل فهو باطل (1) . قال: أقول: فوقه شيء يشبهه في الجسم، وليس يدور عليه زمان، لأنه فوق الزمان. قلت له: فهو جسم أو غير جسم قال: جسم. قلت له: قد رجعت إلى الجسم، ولا يكون الجسم إلا في جسم إلى غير نهاية، وهذا باطل. قال: ليس بجسم ولكنه الدهر. قلت: وما هو قال: لا هو الدهر.

_ (1) ص: الباطل.

قلت: اسم بلا معنى. قال: اسم له معنى. [قلت] : فإني أسمعك تأتي بالاسم فردا. قال: اسم أشار إلى معنى. قلت: فصف لي المعنى. قال: هو الذي تنتهي إليه الحركات [104و] . قلت: وما ذلك الذي تنتهي إليه الحركات ما مائيته عن ذلك أسألك. قال: هو الدهر. قلت: إن الاسم لا يتوهمه العقل إنما يتوهم المعنى، فما معناه أهو مكان قال: لا. قلت: فكيف يكون جسم الفلك في غير مكان ثم قلت: ويحك إنه ينكر عليك هذا القول من جهات كثيرة أن الذي يقول فوق الزمان إن كان متوهما فهو جسم، وإن كان غير متوهم أنكره العقل على أصلك. ولا يخلو شيء من أن يكون زمانا أو مكانا، لأن الزمان لا يكون إلا مع المكان، والمكان لا يسبق الزمان. فإذا كان زمانا أو مكانا فهو مؤلف متحرك، والمتحرك ذو آخر لأنه ذو نقلة. فإن كان ذا أجزاء فهو مؤلف من تفرقة، والتفرقة نهايته الأولى. قال: فأقول: إن له نهاية أولى من التفرقة تأتلف. قلت: وقبل أن تأتلف، ما كان قال: مفرقا. قلت: عدما قال: لا. قلت: فكان أجزاء متفرقة إذن، والأجزاء أمكنة، فمعها زمان بلا نهاية تأليف. قال: بل للتأليف نهاية أولى. قلت: فمن عدم إذن قال: من عدم.

قلت: في العدم لا شيء، فلا شيء يؤلف شيئا إذن، وهذا ما يحده العقل، لأن الشيء لا يؤلف نفسه، لأنه قبل أن يؤلف نفسه عدم، والعدم لا شيء، ولا شيء لا يكون منه شيء من ذاته، لأنه لا ذات له، إلا أن يكون منشئ ينشئ شيئا من لا شيء، وهو الله رب العالمين. قال: فلو سامحني أولا في النهاية الأولى، كيف كنت تصنع في آخر الأمر قلت له: إذا كان لشيء طرف أول لم يكن له بد من طرف ثان، وإلا لم يكن بذي نهاية، والعقل لا يحد ما لا نهاية له ممثلا، ولا يحد ما ليس له طرف ممثلا. فإن كان له طرف، فطرفه الفناء، لأنه منه بدأ وإليه يعود، كما أن كل شيء له طرفان من ضده لا محالة؛ هكذا نجد ونرى في الممتثلات كلها. قال: فما أراني أجد إلا أحد أمرين: إما مكانا فوق الممثلات يكون جسما فيلزمني فقد النهاية، أو أقول: ليس جسما فينكره العقل. قلت له: كذلك تجد في قولك. قال: فما تقول أنت قلت: أقول: فوق الزمان والمكان خالقهما ومؤلفهما وهو خلافهما وغيرهما من كل جهة، فلا يحيط به العقل من جهة التمثيل ويدركه من جهة الدليل، ومن قولك آخذه، لأنك أنت وكل من يفهم من أصحابك وغيرهم لا يحدون في البدء إلا الزمان والمكان معا، لا يسبق بعضه بعضا، ولا يكون المكان إلا من [104ظ] تأليف، ولا يقوم التأليف إلا من عدم، فمخرجه من عدم هو الله الذي لا إله إلا هو، تعالى [الله] الأول الخالق. ولا يكون المكان أيضا إلا لمتمسك، فلو كان مثله كان بلا نهاية، غير محدود لا محالة، ولكنه ممسك خلافه من كل جهة، فلذلك الله رب العالمين. قال: والله ما أجد بعقلي إلا ما تقول، غير أن قوما قالوا: جوهر بسيط. قلت: يلزمهم في الجوهر البسيط ما لزمك، لأن الجوهر البسيط شيء قالوه لا يتمثل. فإن قالوا إنه لا يتمثل وهو جسم كذبوا وجاءوا بما لا يعرفه العقل. وإن قالوا: هو غير جسم، قلت لهم: هو مقيم الأجسام ومدبر الكل، وليس يشبهه شيء، تعالى

الله رب العالمين. قال: كذلك لعمري يلزمهم ولابد من هذا. قلت: فاعلم أنه لما نظروا وجدوا بعد المكان والزمان غيرهما، فلما قالوا مثل، بطل عليهم في فكرهم، ولما قالوا خلافه لم يحسنوا الصفة، لأنهم حسبوا أن العقل لا يجد خالقا مرتفعا فوق العقل يدركه بالدليل بلا تمثيل، لأنه لا شبه له ولا ند، ويوجد مخلوقا يتمثل، لأنهم وجدوا له أمثلة وأشباها. فلما أرادوا أن يرفعوه فوق العقل لم يهتدوا إلى الدليل عليه فأنكره. ولما أرادوا أن يتمثلوه وجدوه من المخلوقات بلا نهاية، فأنكروه فوقعوا بين الحيرتين على ثالثة لا يعرفونها، وجعلوها حيلة يختصمون بها في المناظرة، اسما بلا معنى، صفة بلا كيفية، فقالوا: جوهر بسيط، ففروا من الحيرة إلى الضلال، ومن العشى إلى العمى، ومن الحر إلى النار، فنعوذ بالله من العمى ونحمده على الهدى، ونصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. فاعلم الآن بما هداك الله موقع الكفر وفظاعته وعظم خطره في الشر والخسران من كل من ألحد في توحيد الله تعالى، وأنه إذا أخذ توحيده ممن ليس يقر بربه ولا خالقه، بأن تعلم أن كل من لم يصح توحيده ويخلص لله فيه حق إخلاصه، وزعم أن ربه غير واحد بوحدانيته الحقيقية من كل جهة، فهو كعابد وثن، لأن العباد إنما يتوجهون إلى عبادة ربهم، ويصفون خالقهم بتصحيح الصفة في العقل، فإذا لم يصب وصف صفة الخالق، فإنما يصيب صفة المخلوق، لأنه ليس إلا الله تعالى خالقا، فمن زال عن صفة خالقه ربه زال إلى صفة خلقه [105و] . فإذا قصد بعبادته صفة الخلق، فهو كعابد الوثن، قد تبرأ من الله عز وجل وكفر وجحد نعمته كلها من الدنيا والآخرة، ونسبها إلى غيره، وتعبد ورجا وخاف غير الله، فلم يوجه إلى الله تعالى بشيء من حقوقه، ولا أقر له بشيء من نعمته، ولا أعلق به شيئا من رجائه ولا خوفه، ولا أسند إليه شيئا من دنياه وآخرته، ولا أقر بخالق، ولا أثبت ربا ولا إلها، تعالى الله علوا كبيرا، والحمد لله على الهدى كثيرا حمدا يرضاه ويتقبله، ويوجب الثبات به حتى نلقاه عليه، ويوجب الزلفى لديه والكون في جواره وظل

فصل

عرشه، برحمته آمين. فصل 78 - قال محمد رحمه الله: كل مكون معلول، وكل كائن فله علة، وما لا علة له فلا كون له، فالعلة العليا علة العلل وجنس الأجناس وطبيعة كل طبيعة وجنس كل نوع. فالعلة العليا لكل شيء هي مشيئة الله تعالى لكون الأشياء كلها، فهي شاملة عامة، ثم انفصل منها لكل شيء علة خاصة لاصقة بالشيء قريبة منه، والعلة الكبرى فوقها أم لها، لا مقصر لشيء من العلل دونها، لأن منها فصلها، ولا أم لها بعدها لأنها غايتها، فالعلم معرفة العلل، والرسوخ فيه بقدر الرسوخ فيها. 79 - وإن الله عز وجل لما خلق الدنيا دار محنة وبلوى، خلقها أضدادا وأزواجا، لتقع المحنة وتتم الدلالة، فتمام الدلالة بذلك لأنه لا يعرف الشيء بحقيقته إلا من قبل ضده، فبالظلمة يعرف النور، وبالمكروه يعرف المحبوب، وبالشر يعرف الخير، وبالبرد يعرف الحر، وبالتحت يعرف الفوق، وبالظاهر يعرف الباطن، كل واحد منها يعرف بصاحبه، ويهتدى إليه بزوجه وضده، ويهتدى بالأضداد كلها إلى وحدانية الخالق لها. وأما وقوع المحنة من جهة الأزواج، فإن الله عز وجل جعل الدنيا امتزاجا وانفصالا زوجين أيضا ضدين، ليعرف هذا بهذا. فما فصله الله تعالى بأمره ولم يكن إلى المخلوق لعله قامت حقيقته، وارتفعت الشبهة عنه، كانفصال الأرض من السماء، والماء من الثرى، والنار من الرطوبة، والأجسام بعضها من بعض، وما مرجه وامتحن المخلوق بفصله جعل بين حديه البينين، وهما معظم الشيئين، شبهة مشبهة بالشك واليقين، فالشبهة واقعة بين الحق [105ظ] والباطل، كالغبش بين الظلمة والنور، وكالدكنة بين البياض والسواد، وكالحامض بين الحلو والمر، والسنة بين النوم واليقظة، فكل شيء في الدنيا من المتصل والمنفصل زوجان، والشبه واقع بين حدي المتصل عند وقت

الانفصال. فانفرد الله تعالى بالوحدانية وحده، وجعل الأشياء كلها زوجين بعده، والعلم هو معرفة العلل، ومعرفة العلل هي معرفة الحدود، والحدود زوجان: حد إحاطة وحد مقاربة، والشبهة زوجان: أحدهما يقع في حد الإحاطة بأن يشابه أعيان الشيئين، كاشتباه الشبه بالذهب والقزدير بالفضة ونحو ذلك. والثاني في حد المقاربة حيث تقع الشبهة بين المنفصلين، كحد ما بين الجبل والسهل والحلو والمر والقوة والوهن. فالأزواج والأضداد الجارية في كل موضوع ومخلوق من أمور الدنيا والدين هي علة الاختلاف الكبرى التي من جهتها وجب النظر، ووقعت كلفة التدبر والتثبت والاشتباه. وكل خطأ وقع في بني آدم فمن هذه الجهة يقع، ومن هذا الأصل ينبعث. 80 - وأمثلة العلم أمثلة باطنة مفصولة من الذكر الباطن في الذكر المفصول للإنسان في الباطن، فهي لا ترى إلا بالبصر الباطن، وهو العقل، فتمييز الناظر فيها على قدر حدة بصره، وقوة نور باطن عقله، كما يتميز الناظر في دقائق الأشخاص بحسب قوة بصر عينه وحدة حاسة حدقته ونوره، وقوة البصر الباطن ونوره بحسب بعده من الشهوات التي هي تكدره وتطمس عليه وتحجبه عن الاتصال بمادته، ومادته علم الله الأعلى الذي يمد به من يشاء، فافهم. ومن ارتفع بنظره إلى العلل العليا فأصاب وجه ما طلب، جرى صوابه في كل ما تحت ذلك من العلل، فعظم صوابه. ومن أخطأ في تلك المنزلة العليا، جرى خطأه فيما تحت ذلك فعظم خطأه. ومن أخطأ فيما دون ذلك، فخطأه بقدر درجته من النظر، فافهم. 81 - تكلمت النصارى في الله فأخطأت الوحدانية فكفروا، وتكلمت اليهود في النبوة فأخطأوا فيها فكفروا، لأن الكلام في النبوة هو من الكلام في الصفات العلى. وتكلم الفقهاء في فروع الأحكام، فلم يكن خطأهم كفرا، لبعد الكلام من الأصل. وتكلمت الفرق المبتدعة في الأصول العليا بعد أن اعتصموا بالإقرار بالوحدانية والنبوة، فمنعهم أن يكون كلامهم كفرا اعتصامهم بجملة الإقرار، وارتفعوا (1) في القدر عن

_ (1) ص: وارتفع.

الخطأ في فروع الأحكام، ولم يبلغ بهم الخروجعن حد الإسلام [106و] لاعتصامهم بعقدة الإقرار، وكان خطأهم كأنه خطأ تأويل، وهو بين الحدين في موقف الشبهة لأنه يقول: أنا مؤمن بما جاء به النبي على ما جاء به، لا أنكر شيئا منه، ولا أخرج نفسي عنه. ثم يتأول فيخرج عنه، وهو يرى أنه يوافقه، وكأنه إنما يطلب موضع الحق منه، فهو خارج من جهة النظر، معتصم من جهة النية والإقرار، فبيان الحكم فيهم غيب، ولله عليهم حجة إن عذب، ولهم وسيلة إلى العفو إن عفا، ونستعصم الله من الخطأ والزيغ في رفيع الأمور وقريبها برحمته. 82 - جملة المختلفين من أمتنا: المرجئة والخوارج والجهمية، من هذه الثلاث طوائف انفصلت الفرق بأجمعها، وأعظم فرقة انفصلت منها حتى صارت كأنها رابعة معها فرقة الشيعة، ولكنها منفصلة من الخوارج، ثم تليها فرقة القدرية الذين جملتهم المعتزلة، وهي منفصلة من الجهمية، وانفصلت المرجئة على كل فرقة فرقة منها، لم يغلب عليها اسم يمحو عنها اسمها الأعظم، كلهم يسمون مرجئة. فأما المرجئة والخوارج فإنهم يختلفون أن الإيمان روحاني كشيء له طرفان، ابتداء وغاية، ونشوء وكمال، وأنه في ذاته درجات منفصلات ومراتب متفاوتات. فقالت المرجئة: الإيمان هو الإقرار بالله تعالى، فكل من أقر بالله فهو مؤمن في الجنة، فحكموا في الإيمان بأحد طرفيه، وهو أوله ومدخله، فضاهوا اليهود. وقالت الخوارج بالطرف الآخر فقالت: المؤمن من لا ذنب له بتة، وما دون ذلك فكافر في النار فحكموا في الإيمان بأحد الطرفين، وهو طرف الكمال وأعلاه وغايته، وتركوا الحق وسطا، ومشت الطائفتان من جانبيه تعسفا، وركبت الجماعة الوسط، فأصابوا الجادة ولزموا القصد وأم الطريق، والحمد لله. وأما الجهنمية فإنهم تكلموا فيما لم يبح الكلام فيه للعامة، وأرادوا أن يكيفوا علم الله تعالى، فضاهوا النصارى. ونحن لا نتمكن من صفة العلة التي من جهتها أخطأت الجهمية، لأنه من الكلام في الصفات العلي التي لم يبح لنا نبينا صلى الله عليه وسلم الكلام فيها ولا يتجاوزها علم القلوب، ولكنا نقصد من ذلك إلى ما نرى أنه يجوز لنا الكلام فيه، فمن لقنه انتفع به، ومن لم يلقنه فقد قدمنا إليه العذر المانع من التفصيل

فصل

أصل الخطأ في القدر [106ظ] والعلم أن المتكلف له أراد أن يقترن القدر بالعدل، فتنافرا في نظره، وقصر عن كيفية اقترانهما فهمه. فقال قوم فأثبتوا العدل ونفوا القدر، وهم المعتزلة، فضاهوا المجوس، وقال قوم فارتفعوا فوقهم وانحرفوا إلى الكلام في العلم، وهم الجهمية، فضاهوا ضروبا من الكفر كثيرا. وقوم أقروا بعدل الله وقدره مذعنين لما ذكر في كتابه، واقفين عند ما لم يستبين لهم علمه، وهم الجماعة، فثبتوا على إيمانهم ولم ينقضوا عقدة إقرارهم. ومن تكلم من كلا الفريقين في ذلك غوى وهوى، ونعوذ بالله من الضلال بعد الهدى. وأما المعتزلة فإنهم كالجهنمية، اتقوا في أمر ضاهوا به الدهرية، وذلك أنهم أرادوا أن لا يقروا إلا بما يتمثل في عقولهم وما قصر عنه فهمهم ردوه، وزعموا أن الله لم ينزله، وأن الرسول عليه السلام لم يقله، فحسبوا أن الدين وضع، وأن القضايا قضيت على مقدار الأفهام الخسيسة وفطر القلوب القاسية التي نشأت في عصر الفتنة، والتبست برين الظلمة، وأصغت إلى كدر الشهوات المعشية، فكذبوا من ذلك بفتنة القبر، وحياة الأرواح في البرزخ، وبخلق الجنة والنار، وبحقيقة العرش والكرسي، وغير ذلك من أنباء النبوة. فنعوذ بالله من الجرأة على الله والرد لأمر الله تعالى، ومن جهل المخلوق بقدرته وتخطيه إلى غير حده، وصلى الله على جميع أنبيائه ورسله. فصل 83 - رسالة اتفاق العدل بالقدر. قال محمد رحمه الله عليه: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله فإن العاقبة للتقوى، وأوصيك فيما أردت علمه من جهة القدر والعدل وتصاحبهما بأن تقف حيث وقفت منه، وتؤمن بما عليك أن تؤمن به، وتنتهي إلى ما انتهى سلفك إليه. فأما قولك: قد نزلت البلية فيه، والتبس بالقلوب داء مخامر منه لا غنى به عن الدواء، وصدى ولابد له من الجلاء، فإني واعظك بمثالك الذي مثلت، وعاطف

بك إلى أصلك الذي أصلت: فاعلم أن من الدواء نفعا عاجلا، ومنه سم قاتل، ومهما قصر عن الحتف بقي له دواء ومداخل، وكذلك الكلام في القدر إذا وقف به على حده ولم يتعد به إلى ما لا يجوز، فهو دواء غير داء. وإذا جووز (1) به الكفاية، وابتغي فيه التطلع من الغاية، فهو داء لا دواء. وسألقي إليك إن شاء الله في ذلك مقدارا (2) يسعني ويسعك وينفعني وينفعك إن وفقت، وبقدر إليك إن جمحت. فمهما شككت فيه أو [107و] اشتبه عليك منه، فاعلم أن الله تعالى خلق جميع خلقه على ما سبق في علمه المخطوط في أم الكتاب الذي لا تبديل له، فمضى عليه خلقهم وجرت عليه سائر أمورهم دقيقتها وجليلها، وخيرها وشرها، وعامها وخاصها، وباطنها وظاهرها، ومكروها ومحبوبها، لا يزيغ أحد عما سبق في مقاديره ونفذ من مشيئته، وقضي في أم الكتاب عنده، ولا يعيدوه في لفظة ولا لحظة ولا أصغر من ذلك ولا أكبر في دنيا ولا آخرة، بل جارون على ما علم وكتب وقضى وقدر وشاء وأراد قبل أن يخلق السماوات والأرض، إن ذلك في كتاب، إن ذلك على الله يسير. ومن قضائه في أم الكتاب أن كتب على نفسه الرحمة، ومن الرحمة العدل والفضل، ومن العدل الفضل أنه لا يظلم الناس شيئا، ولا يكلف فوق طاقته أحدا، وأن له الحجة البالغة، وأن له الحمد في الأولى والآخرة، ولكن الناس أنفسهم يظلمون فمن زعم أنه يخرج من قدر الله في شيء من أمره كائنا ما كان: عمل أو أجل، أو سراء أو ضراء، فقد نقص توحيده وأشرك بربه. ومن ادعى على الله ما لا برهان له به، فزعم أن الضرورة لزمته من قبل ربه، وأنه معذور بذنبه، مكلف فوق وسعه، غير محجوج في معصية الله، فقد كفر وجحد عدله وفضله، ورد كتابه وكذب رسله. وكلا الفريقين قد جاءته (3) الفتنة المتخوفة التي أنذرها سلفنا خلفهم: أن المرء يسلب إيمانه وهو لا يشعر، ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا، ونعوذ بالله من الزيغ بعد الهدى

_ (1) ص: جوز. (2) ص: مقدار. (3) جاءته: غير واضحة في س.

والضلال بعد البيان (1) . ومن سلك الواعظة ولزم الجادة واتبع آثار السلف الراشدين، فآمن بالقدر كله خيره وشره، موقنا بعدل الله تعالى وصدق وعده، وأنه أهل العفو والفضل، وأن ابن أدم أهل الخطأ والذنب، وأن لله الحجة البالغة، ثم لم يكذب بما آمن به من ذلك بلفظ غيره نصا، ولا تعريضا، فقد نجا إن شاء الله ولم يسأله الله عما وراء ذلك. فقد رأينا من يقر بهذا الإقرار، ثم يعود عليه بلفظ آخر فينقضه نقضا وهو لا يشعر، فأخشى أن يكون سلب إيمانه وهو لا يشعر. فاجعل - وفقك الله - مع الإيمان بالقدر الإيمان بالعدل غير زائغ عنه بلفظة ولا لحظة، وداو وساوس الشيطان الباطنة بما تشاهده من أحكام الله الظاهرة التي تشهد أن عدله فيها أرفع العدل، وفضله فيها أعظم الفضل، فاستشهد الظاهر على الباطن، والمحكم على المتشابه، وما اتضح لك على ما خفي عليك [107ظ] ، ليقويك على ذلك ثبات علمك بأن الله ذو القدرة التامة والحكمة البالغة قادر على كل شيء، مالك لكل شيء، لم تلزمه ضرورة في أول تدبيره ولا آخره، ولا لحقه ضيق ولا حرج في عدله وقدره وفي نظامهما ووضعهما وإمضائهما، وأن أحكامه كلها لمن عقل موقعها، وعاين بعين عقله حكمة تطلبها، قائمة على غاية الإتقان والإحسان، لا جور فيها يضاد العدل والخير، ظاهرها كباطنها، وواضحها كغامضها، ومجهولها كمعلومها، لا دخل (2) فيه ولا غاية، وإنما النقص في درك ذلك من بعضها على نظر المخلوق وقصر فهمه لا عليها. من ظن غير ذلك فقد ظن عجزا، وأضمر إلحادا وكفرا. واعلم فيما تعلم من ذلك أن كل قدرة لمخلوق أو مشيئة أو إرادة فالله مالكها، كما هو خالقها، لم ينفرد المخلوق بحال يملكه، ولا أمر يقدره، ولا قوة يبطش بها، ولا مشيئة ينفذها، أمر الله عز وجل فوق أمره، ويد الله فوق يده، ومشيئته ماضية عليه ولازمة له نافذة فيه: {قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله} (سورة يونس: 49) ، وما كسب ابن آدم من خير وشر فهو عاملة وكاسبه، له

_ (1) البيان: كذا في ص ولعلها الثبات. (2) ص: دحل.

النية فيه والمباشرة بفعله. فاجعل مع الإقرار بلزوم مشيئة الله تعالى لك وفيك، الإقرار بأن الذنب لك ومنك، وانسب إلى الله عز وجل العدل والفضل والإحسان الذي هو أهله، والذي لست ترى عندك من الله غيره، وبؤ على نفسك بالخطأ والزلل واللوم والذنب الذي أنت أهله وجانيه، والذي لست ترى مع نفسك شريكا فيه، ونزه الله تعالى وبرئه مما يعمل الظالمون، سبحانه وتعالى عما يصفون. ثم اعلم مع ذلك أنه قضي عليك ولك إن عملت خيرا أصبت خيرا، وإن عملت شرا أصبت شرا، وتركك للخير هو من عملك للشر، وعملك للشر هو من تركك للخير، ذلك كله عمل، ولا ينال شيء من الثواب إلا بالعمل، ولا يدرك إلا بالسعي، كالثمرة لا تجتنى إلا من غراس الشجرة. وهكذا قضى الله تعالى أمر الدنيا ودبرها، وأن الاجتهاد وسيلتك، والعمل مبلغك، وأن الله معين المريدين ومؤيد الصالحين ومثبت الصابرين، {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (سورة النحل: 128) . ثم اعلم أن مما قد نزل من فتنة هذا الأمر أن لا أزال أسمع موعوضا يوعظ أو غافلا يذكر، فيلجأ إلى الاعتذار بالقدر، فيتخذه عذرا مانعا، ومخطئاً يخطئ، وآثما [108و] يأثم، فيعتذر بالقدر، فيجعله لنفسه براءة من الذنب، كالمقيم لنفسه الحجة والعذر. أفلا تتقي الله يا ابن آدم فتعلم من خاصمت ومن حاددت وعلى من احتججت أما إنك إذا قصدت وطر شهوتك التي سخطها الله تعالى منك راكبا لبعض محارم ربك، فإنك تنهض إليه بأيد أيد وبطش شديد، غير متوهم حينئذ لمانع يمنعك منه، أو حاجز يحجزك عنه، حتى إذا أنت هممت بالخير الذي رضيه الله تعالى منك، تلكأت وتثاقلت وأخلدت إلى الأرض وتربصت، ثم افتعلت الحجج وألقيت: {بل الإنسان على نفسه بصيرة. ولو ألقى معاذيره} (سورة القيامة: 14) . أحين نهضت إلى الشيء فعلمت أن الله خاذلك ومعرض عنك وواكلك إلى نفسك، لم تخف عجزا عنه حتى بلغت غاية ما تريد منه، فلما هممت بالخير فعلمت

فصل

أن الله تعالى معك ولك ومؤيدك ومثبتك، خفت العجز والنكول وافتعلت المعاذير كذلك لما أخطأت زعمت أن القدر قواك، فإذا هممت بالخير تزعم أن القدر خذلك لم لا تعدل وقد عدل الله عليك ولكنك تتخير على القدر بهواك، فتزعم أن القدر ينهضك إلى الخطأ، وأن القدر يثبطك عن الصواب، فلم لا إذ تكلفت ما ليس عليك وازنت ببصيرتك فقلت: وبالقدر أيضا أثبطك عن الخطأ. وبالقدر أنهض إلى الصواب أو لعلك تزعم أن القدر معك إذا أردت الشر، وليس معك إذا أردت الخير كلا، لئن قلت ذلك، لقد ضللت وكفرت، وما فارقك القدر في حال من حالاتك، ولقد عدل ربك عليك في جميع أوقاتك، وفي قدر الله كنت، وفي قدر الله عز وجل أنت، وفي قدر الله تكون، وإنما عليك أن تعمل ولا تطالب ربك بما تعمل، فاكلف بما كلفت، ودع عنك أن تحاج الله عز وجل، فإنك متى خاصمته خصمت. فلا تكون أخي ممن يتخذ الإقرار بالقدر سببا للكسل والوهن في العمل، ولا تحسب أن عملك مخرجك من قدر الله الذي قدر لك، ولا أن القدر، كيف تصرفت بك الحال، يزايلك. بل اعلم أن عملك من قدرك، وأن عجزك إن عجزت من قدرك، وأنك في القدر كنت وفي القدر تكون وإليه تصير، كيف تصرفت بك الحال، فمن قدر الله إلى قدر الله، لا زائغا عنه ولا خارجا منه. فارغب وارهب وجد واعمل، فليس تسأل عما قضي عليك، ولكن عما عهد إليك، ولن تجازى إلا بعملك، ولن تحاسب إلا بسعيك، ولن تجد محضرا إلا ما قدمت، ولن ترد إحدى المنزلتين إلا بما كسبت [108ظ] ، ولا تلزم الشر إذا تركته وفررت إلى الله تعالىمنه، {ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين. ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين} (سورة الذاريات: 51) ، والسلام عليك، وصلى الله على سيدنا محمد. فصل 84 - قال محمد: أما الروح فليس يخلو من إحدى منزلتين عند القبض: أن يكون يقبض، ثم يرد إلى فناء المضجع، ويكون متصلا إلى أعلى منزلته بقدر ما يجعل

فصل

له في الأولى والثانية أو حيث كان. فإن جاوز السماء وفتحت له، فهو إن شاء الله ممن يرى الجنة من موضعه ذلك من أعلاه، وكلما قرب إليها كان أبين له وأروح حتى [يبلغ] إلى منزلة الشهداء الذين يشاهدون الملكوت رؤية مشاهدة ومداخلة في الروضة والفناء والساحة. وتذكر أن الله لا يسمى ما كان من ابن آدم روحا، وإنما يسمي الروح الملائكة والقرآن ونحو ذلك، لأن الروح الذي في ابن آدم لا يستحق أظن - الثناء حتى يختم له بالسعادة وتسميته روحا فهو ثناء، فإن لم يكن من أهل السعادة سمي نفسا، قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} (سورة الزمر: 42) فهذا يجمع أنفس المؤمنين والكافرين، " والتي لم تمت في منامها ". أيضا يجمع الطائفتين. وقال في الكفار: {أخرجوا أنفسكم} (سورة الأنعام: 93) ، ومن العجب أنه لم يقل في الشهداء أرواحا، قال: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} (سورة آل عمران: 169) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما نسمة المؤمن ولم يقل روحه؛ فلعل هذا الفصل بين أرواح الملائكة صلى الله عليهم وبين هذه الأرواح الأرضية، أو لما الله به أعلم أن الروح تحفظ كل ما فعل ابن آدم، وإنما النسيان آفات من آفات النفس أو الجسد، فإذا كشفت الآفات ذكر الروح كل ما شاهد في الدنيا، ذكره في الآخرة ألا تراه في الدنيا ينسى، ثم يذكر، وهذا دليل بين. فصل وأما الروح المرسل إلى مريم، و {يوم يقوم الروح} (سورة النبأ: 28) هذا جبريل. وقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} (سورة الشورى: 52) هذا هو العلم، {وروح منه} (سورة النساء: 171) هو الروح المنفوخ في عيسى، كالذي نفخ في آدم، وهو قدس لم تتناتجه الأصلاب. كل هذا أصله من الروح الأعلى، إن ألقي في القلوب فهو علم، وإن كان نسيما فهو روح، وإن كان شديد

الحركة فهو ريح، وإن كان قويا في القلب مفصلا راسخا فهو يقين، وإن كان حياة للجسم فهو روح للجسم، وأصله كله الروح الأعلى، ثم تختلف أسماؤه باختلاف صفاته وحركاته. تم الكتاب بعون الله وتوفيقه وصلى الله على سيد الأولين والآخرين محمد وعلى آل محمد وصحابته والتابعين

فراغ

فراغ

فراغ

تفسير ألفاظ تجري بين المتكلمين في الأصول

- 5 - تفسير ألفاظ تجري بين المتكلمين في الأصول بسم الله الرحمن الرحيم تفسير ألفاظ تجري بين المتكلمين في الأصول (1) 1 - اللفظ: هو كل ما حرك به اللسان يراد به الكلام قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق: 18) وحده على الحقيقة هواء مندفع من الشفتين والأضراس والحنك والحلق والرئة. 2 - الخلاف: في أي شيء كان هو أن يأخذ الإنسان مسلكا من القول أو الفعل ويأخذ غيره مسلكا آخر وهو التنازع، قال الله عز وجل: {ولا تنازعوا فتفشلوا} (الأنفال: 46) وقال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء: 82) وهو التفرق، قال تعالى: {ولا تفرقوا} (آل عمران: 103) . 3 - الإجماع: في اللغة هو ما اتفق عليه اثنان فصاعدا، وهو الاتفاق، وهو حينئذ مضاف إلى من أجمع عليه. وأما الذي تقوم به الحجة في الشريعة فهو ما نتيقن أن جميع الصحابة رضي الله عنهم دانوا به عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وأما [ما] لم يكن إجماعا في الشريعة فهو ما اختلفوا فيه باجتهادهم وسكت بعضهم عن الكلام فيه. 4 - السنة: هي الشريعة نفسها، وهي في أصل اللغة وجه الشيء، وأقسامها في الشريعة فرض أو ندب أو تحريم أو كراهة أو إباحة، كل ذلك قد سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى.

_ (1) هذا الفصل قد ورد لاحقاً لكتاب التقريب في مخطوطة ازمير، وقد رأيت أن ألحقه بهذه المجموعة لفائدته، وهو كما نص ناسخه مأخوذ من كتاب " النبذ الكافية في أصول أحكام الدين "، وهذه التعريفات موجودة في كتاب الإحكام 1: 35 - 51 وعنوان الفصل هنالك " في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر ". وهناك بعض اختلافات يسيرة بين ما ورد هنا وما ورد في الأحكام.

5 - البدعة: كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل في ما نسب إليه، وهو في الدين كل ما لم يأت [في القرآن ولا] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا منها ما يؤجر عليه صاحبه ويعذر فيما قصد به الخير، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه جملة ويكون حسنا كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " نعمت البدعة هذه "، ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى عليه القائل به. 6 - الكناية: هو لفظ يقام مقام الاسم كالضمائر المعهودة في اللغات وكالتعريض بما يفهم منه المراد وإن لم يصرح بالاسم ومنه قيل للكنية كنية. 7 - الإشارة: تكون باللفظ وتكون ببعض الجوارح، وهي تنبيه على المشار إليه أو تنبيه له. 8 - المجاز: في اللغة هو ما سلكت عليه من مكان إلى آخر، كما يقال هذا المجاز من مكان كذا إلى مكان كذا، ثم استعمل فيما نقل عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر، وذلك لا يعلم إلا بدليل من اتفاق أو مشاهدة؛ وهو في الدين كل ما نقله الله تعالى أو رسوله عليه السلام عن موضوعه في اللغة، ولا يقبل من أحد في شيء من النصوص أنها مجاز إلا ببرهان يأتي به من نص آخر أو إجماع متيقن أو ضرورة حس، وهو حينئذ حقيقة لأن التسمية لله تعالى فإذا سمى شيئا ما باسم ما فهو اسم ذلك الشيء على الحقيقة في ذلك المكان، وليس ذلك لغيره تعالى في الدين، قال تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} (النجم: 23) . 9 - التشبيه: هو أن يشبه شيء بشيء في بعض صفاته، وهذا لا يوجب حكما في الدين أصلا، وهو أصل القياس، لأن كل ما في العالم دون الله عز وجل فمشبه بعضه لبعض من وجه أو وجوه ومخالف له أيضا من وجه من الوجوه وهو التمثيل. 10 - والمتشابه في القرآن هو الذي نهينا عن اتباع تأويله وعن طلبه وأمرنا بالإيمان به جملة وليس هو شيئا غير الأقسام التي في السور والحروف المقطعة التي في أوائلها وكل ما عدا هذا من القرآن فمحكم.

11 - المفصل: هو ما بينت أقسامه، وهو في أصل اللغة ما فرق بعضه عن بعض، تقول فصلت اللحم ونحو ذلك. 12 - دليل الخطاب: معناه ضد القياس وهو أن يحكم للمسكوت بخلاف حكم المنصوص عليه. 13 - الشريعة: هو ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في الديانات أو على ألسنة أنبيائه عليهم السلام، والحكم منها للناسخ، وأصلها في اللغة الموضع الذي يتمكن فيه ورود الماء للراكب الشارب من النهر، قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} (الشورى: 13) . وقال امرؤ القيس: ولما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دامي تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي 14 - اللغة: ألفاظ يعبر بها عن المسميات والمعاني المراد إفهامها، ولكل أمة لغتهم، قال عز وجل: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (إبراهيم: 4) ولا خلاف في أنه أراد اللغة. 15 - الاستنباط: إخراج الشيء المغيب من شيء آخر كان فيه، وهو في الدين إن كان منصوصا على معناه فهو حق، وإن كان غير منصوص على معناه فهو باطل. 16 - الحكم: هو إمضاء قضية في شيء ما، وهو في الدين تحريم أو إيجاب أو إباحة على ما قدمنا. 17 - الإيمان: أصله في اللغة التصديق بالقلب بكل ما أمر الله تعالى أن نصدق به، والنطق بذلك باللسان واستعمل الجوارح في جميع الطاعات، برهان ذلك أن جميع أهل الإيمان مكذبون بأشياء مصدقون بأشياء، وقد أطلق عليهم في الدين اسم الإيمان، وهكذا مطلقا دون إضافة، ولا خلاف في أنه لا يحل أن يطلق عليهم اسم التكذيب بلا إضافة. 18 - الكفر: أصله في اللغة التغطية، قال تعالى: {أعجب الكفار نباته}

(الحديد: 20) . وقال الشاعر: ألقت ذكاء يمينها في كافر ... يريد الليل لأنه يغطي كل شيء. وهو في الدين [صفة] من جحد ما افترض الله عز وجل الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق نحوه بقلبه أو بلسانه أو عمل عملا جاء النص بأنه مخرج له عن اسم الإيمان على ما قد بينا في غير هذا الموضع، وبرهان ذلك أن جميع من يطلق عليه اسم الكفر فإنه مصدق بأشياء مكذب بأشياء ولا يجوز بلا خلاف أن يطلق عليهم اسم الإيمان بلا إضافة. 19 - الشرك: هو في اللغة أن تجمع شيئا إلى شيء فتشرك بينهما، وهو في الدين معنى الكفر سواء سواء لما قد بيناه في غير هذا المكان، والتسمية لله تعالى لا لغيره. 20 - الإلزام: هو أن يحكم على الإنسان بحكم ما فإما واجب وإما غير واجب. 21 - العقل: هو استعمال الطاعات والفضائل، وهو غير التمييز، لأنه استعمال ما أوجب التمييز فضله، فكل عاقل فهو مميز، وليس كل مميز عاقلا، وهو في اللغة المنع تقول: عقلت البعير أعقله عقلا، وقد يستعمل أيضا في اللغة بمعنى الفهم، تقول: عقلت عنك أعقل عقلا، وأهل الزمان يستعملونه في من وافق أهواءهم، والحق من ذلك هو ما قاله الله عز وجل، قال تعالى: {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} (يونس: 100) يريد الذين يعصونه ولا يطيعونه. وأما فقد التمييز فهو الجهل أو الجنون على حسب الحال. 22 - الفوز: هو ما استعمل بلا مهلة. 23 - والتراخي: هو ما أخر وترك تعجيله، وحكم أوامر الله تعالى كلها الفور، إلا أن يأتي نص أو إجماع بإباحة التراخي في شيء منها فيوقف عنده. 24 - الاحتياط: هو التورع نفسه، وهو اجتناب ما تتقي أنه لا يجوز، وإن لم يصح ذلك، أو اتقاء ما غيره خير منه عند ذلك المحتاط، وليس بواجب في شيء من الدين ولكنه حسن ولا يحل أن يقضى به على أحد ولا أن يلزم أحد ولكن يندب إليه فقط.

25 - والحد (1) : هو ذكر صفات المحدود الذاتية الجوهرية، وهي تنبىء عن طبيعته وتميزه. 26 - والرسم (2) : ذكر صفاته الغيرية العرضية، وهي تميزه فقط. 27 - والعلم: تيقن الشيء على ما هو عليه عن برهان أولي، أو راجع إلى أولي، أو عن اتباع صادق قام البرهان على صدقه، وعلم الباري تعالى ليس محدودا إذ ليس [هو] غيره تعالى (3) . 28 - والاعتقاد: استقرار حكم ما في النفس، وقد يكون حقا ويكون باطلا، والعلم لا يكون إلا حقا أبدا. 29 - والبرهان: كل قضية أو قضايا دلت على حقيقة حكم ما. 30 - والدليل: ما استدل به، وقد يكون برهانا، وقد يقع اسما لكل شيء دلك على معنى كرجل دلك على طريق ونحو ذلك. 31 - والحجة: هي الدليل نفسه، وقد تكون برهانا أو إقناعا أو شغبا. 32 - والدال: هو المعرف بحقيقة الشيء، وقد يكون إنسانا معلما، وقد يعبر به عن الباري تعالى الذي علمنا كل ما نعلم؛ وقد يسمى الدليل دالا والدال دليلا في لغة العرب. 33 - والاستدلال: طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه، أو من قبل معلم. 34 - والدلالة: وقد تضاف إلى الدليل أيضا. 35 - والإقناع: قضية أو قضايا أنست النفس بحكم شيء ما دون أن توقفها على

_ (1) في الأحكام 1: 35 الحد هو لفظ وجيز يدل على طبيعة الشيء المخبر عنه ... (2) في الأحكام 1: 36 الرسم هو لفظ وجيز يميز المخبر عنه مما سواه فقط دون أن ينبئ عن طبيعته. (3) جاء في الأصل: تعالى الله عن ذلك؛ وهو خطأ؛ وإنما يعني ابن حزم أن علم الله ليس شيئاً غير الله، قال: ونحن لم نقر بعلم الباري تعالى على معنى أنه صفة كصفاتنا ولكن اتباعاً منا للنص الوارد في أن له علماً فقط (الأحكام 1: 38) .

حقيقة حجة ولم يقم برهان بابطاله. 36 - والشغب: تمويه بحجة باطل. 37 - والتقليد: قبول قول كل من لم يقم على قبول قوله برهان. 38 - والإلهام: شيء يقع في النفوس بلا دليل ولا استدلال ولا إقناع ولا تقليد. 39 - والنبوة: اختصاص الله عز وجل من شاء من الناس بالانباء بما ليس في قوة نوعه أن يعرفوه حتى يعرفوا به، وليس ذلك لأحد بعد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم أنبيائه عليهم السلام. 40 - والرسالة: زيادة معنى على النبوة، وهو أن يأمر الله تعالى النبي بانذار غيره والتبليغ إليهم. 41 - والبيان: كون الشيء في ذاته ممكنا أن يعرف بحقيقة من أراد علمه. 42 - والتبين والإبانة: فعل المبين وهو إخراجه للمعنى من الاشكال إلى إمكان الفهم بحقيقة، والتبين فعل نفس المتبين للشيء في فهمها إياه، وهو الاستبانة أيضا، والمبين هو الدال نفسه. 43 - والصدق: هو الإخبار عن الشيء بما هو عليه أو بما يكون عليه إذا كان شيئا. 44 - والحق: هو كون الشيء صحيح الوجود وكون الخبر صدقا. 45 - والباطل: ما ليس حق. 46 - والكذب: هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، أو ما يكون عليه، إذا كان شيئا. 47 - والأصل: ما أدرك بأول العقل والحواس. 48 - والفرع: كل ما عرف بمقدمة راجعة إلى ذلك من قرب أو بعد، وقد يكون ذلك الفرع أصلا لما انتج منه.

49 - والنص: هو اللفظ الوارد في القرآن والسنة مبينا لأحكام الأشياء ومراتبها، وهو الظاهر، وهو ما يقتضيه اللفظ في اللغة المنطوق بها، وقد يسمى ما يتكلم به المتكلم نصا إذ هو نص على مراده وإخبار عنه. 50 - والتأويل: إخراج اللفظ عن مقتضاه في اللغة، فإن كان بدليل قبل وإلا فلا. 51 - والعموم: حمل اللفظ على كل ما اقتضاه في اللغة، والفرق بين العموم والظاهر أن العموم لا يقع إلا على معنيين أو شخصين فصاعدا، والظاهر قد يقع على واحد، فكل عموم ظاهر وليس كل ظاهر عموما. 52 - والخصوص: حمل اللفظ على بعض ما يقتضيه اللفظ في اللغة، فإن كان بدليل قبل وإلا فلا. 53 - والمجمل: لفظ يقتضي تفسيرا يؤخذ من لفظ آخر. 54 - والمفسر: لفظ يفهم منه معنى المجمل. 55 - والأمر: إلزام المأمور عملا ما. 56 - والنهي: إلزام المنهي ترك عمل ما. 57 - والفرض والواجب واللازم والحتم: أسماء مترادفة تقع بمعنى واحد على كل ما استحق تاركه اللوم، واسم المعصية والحرام والمحضور والذي لا يجوز والممنوع عبارات مترادفة أيضا تقع بمعنى واحد على ما استحق فاعله اللوم. 58 - واسم المعصية والطاعة: التزام المأمور لما أمر به والانتهاء عما نهي عنه. 59 - والندب: حض على فعل شيء ما وترغيب فيه من غير إيجاب للفعل، ومن المستحسن والمستحب والاختيار والائتساء، وذلك في أفعال الخير كلها. 60 - والكراهة: حض على ترك شيء ما من غير إيجاب للترك. 61 - والإباحة: وهي الحلال واسطة بين هذين، وهو ما ليس محضوضا على تركه ولا على فعله كسائر الحركات كلها.

62 - والقياس: عندهم حكم لشيءٍ ما بحكم شيءٍ آخر، لاجتماعه معه واشتباهه به في صفةٍ ما لم ينص عليها. 63 - والنية: قصدٌ إلى العمل بإرادة النفس له واعتقاد النفس ما استيقن فيها. 64 - والشرط: تعليق حكم ما بوجود حكم آخر ورفعه برفعه. 65 - والتفسير والشرح: هما التبيين. 66 - والنسخ: ورود أمرٍ بخلاف أمرٍ كان قبله ينقضي به أمد الأول. 67 - والاستثناء: ورود لفظ أو بيان بفعل يقتضي إخراج بعض ما اقتضاه لفظ آخر. 68 - والجدل والجدال: إخبار كل واحد من المختلفين بحجته أو بما يقدر أنه حُجته. 69 - والاجتهاد: بلوغ الجهد في طلب الحق وإجهاد النفس في تفتيشه في مواضع طلبه. 70 - والرأي: ما طنته النفس صواباً دون برهان. 71 - والاستحسان: ما اشتهته النفس ووافقها. 72 - والصواب: إصابة الحق. 73 - والخطأ: العدول عنه بغير قصد إلى ذلك. 74 - والعناد: القصد إلى مخالفة الحق. 75 - والجهل: مغيب [حقيقة] العلم عن النفس. 76 - والطبيعة: صفات في الشيء موجودةٌ يوجد بها على ما هو عليه ولا تعدم منه إلا بفساده وسقوط ذلك الاسم عنه. تم تفسير الألفاظ بحمد الله تعالى وعونه

§1/1