رد شبهات حول عصمة النبى صلى الله عليه وسلم
عماد السيد محمد إسماعيل الشربينى
هذا الكتاب
رد شبهات حول عصمة النبى صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب يتناول فيه المؤلف الرد علي الطاعنين في عصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعداء الإسلام من المستشرقين , وأذيالهم ممن يسمون أنفسهم (القرآنيون) وذلك من خلال عدة قضايا: - التأكيد علي عصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كل ما يمس عقله، وعقيدته بسوء , من التمسح بالأصنام، أو الحلف بها، أو أكل ما ذبح على النصب.... الخ، والجواب عما ورد في ظاهر القرآن والسنة مما يتعارض مع تلك العصمة. - التأكيد علي عصمته صلى الله عليه وسلم من تسلط الشيطان عليه، وكفايته منه، والجواب عما ورد فى القرآن الكريم، والسنة النبوية من تعرض الشيطان له صلى الله عليه وسلم بالأذى فى جسمه، أو على خاطره بالوسوسة. - التأكيد علي عصمته صلى الله عليه وسلم فى فكره واجتهاده , وفي خلقه وهديه , وفيمايبلغ عن ربه - عز وجل -. والجواب عما ورد في ظاهر القرآن والسنة مما يتعارض مع تلك العصمة. - بيان إن شبهات أعداء الإسلام من المستشرقين حول عصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمة على إنكار نبوته صلى الله عليه وسلم، إذ لم تكن لدى معظمهم القناعة العلمية، ولا الإيمان الراسخ بهذه النبوة، وبخاصة أولئك الذين جمعوا بين الإستشراق والتبشير، وألبسوا أفكارهم أردية كنسية متطرفة. - بيان إن شبهات أعداء السنة المطهرة - ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا - حول عصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمة على إعلان الكفر صراحة بالشطر الثانى من الوحي الإلهى وهو سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم , وسيرته العطرة الواردة فيها. - بيان أن الآيات المتشابهات التى استدل بها أعداء الإسلام، وأعداء السنة، على عدم عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واردة فى مقام المنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها بيان عظيم مكانته وفضله عند ربه - عز وجل - فى الدنيا والآخرة، بأعظم ما يكون البيان!! . - بيان أن ما استدل به أعداء الإسلام من أحاديث على عدم عصمته صلى الله عليه وسلم لا حجة لهم فيها، لأن ما استدلوا به أحاديث مكذوبة، وضعيفة، وأخرى صحيحة؛ مع ضعف دلالتها على ما احتجوا به. - ودار اليقين , وقد سبق لها أن طبعت للمؤلف كتابه ((السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام مناقشتها والرد عليها)) فإنه يسعدها اليوم أن تطبع كتابه هذا ((رد شبهات حول عصمة النبيصلى الله عليه وسلم في ضوء القرآن والسنة)) . ونسأل الله - عز وجل - التوفيق والسداد ...
العنوان الإهداء الشكر
جامعة الأزهر كلية أصول الدين بالقاهرة قسم الحديث وعلومه رسالة دكتواره وموضوعها رد شبهات حول عصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى ضوء السنة النبوية الشريفة مقدمة من الباحث عماد السيد محمد إسماعيل الشربينى المدرس المساعد بقسم الحديث وعلومه بالكلية إشراف فضيلة الأستاذ الدكتور/ عبد المهدى عبد القادر عبد الهادى أستاذ الحديث وعلومه بكلية أصول الدين بالقاهرة 1423هـ - 2002م
الإهداء
قال الله عز وجل {أَوَلَمْ يَتَفَكَرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِن جِنَّةٍ إِن هُو إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (1) {وَمَا كَانَ لَكُم أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ} (2) ويرحم الله القائل هو النعمة العظمى هو الرحمة التى ... *** ... تجلى بها الرحمن فى السر والجهر أيروم مخلوق ثناءك بعدما ... *** ... أثنى على أخلاقك الخلاق؟ (3) . الإهداء إلى النور الخالد. إلى من أرجو الله تعالى شفاعته يوم الدين. بأبى أنت وأمى يا سيدى يا رسول الله! هل لى أن أستأذن فى أن أطرق باب خدمتك بإهدائك هذه الرسالة؟ عماد الشربينى
كلمة شكر وتقدير
كلمة شكر وتقدير ... انطلاقاً من قول الله عز وجل: {أن اشكر لى ولوالديك إلىَّ المصير} (4) ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَشْكُرُ اللهَ منْ لاَ يَشكُرُ الناسَ" (5) . أحمد الله عز وجل؛ أن جعلنى تلميذاً من تلاميذ هذه المدرسة المباركة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، وأن منَّ علىَّ بالبحث فى هذا الموضوع الجليل، والحمد لله أولاً وآخراً على عونه وتوفيقه لإتمام هذا البحث، وأسأله عز وجل أن يتقبله خالصاً لوجهه الكريم. وأتقدم بجزيل الشكر وعرفان الجميل لوالدىَّ، اللذين شملانى برعايتهما وعطفهما حتى تمكنت من إتمام هذا العمل، أدعو الله عز وجل أن يغفر لهما ويرحمهما، وأن يبارك فى دينهما، وبدنهما، وأموالهما، وأن يجعل ذلك فى ميزان حسناتهما يوم القيامة. كما أتقدم بجزيل الشكر وعرفان الجميل، لأستاذى وشيخى الجليل، فضيلة الأستاذ الدكتور/ عبد المهدى عبد القادر، على الرعاية والعناية التى شملنى بها، ما أعجزنى عن أداء شكره. وهذا البحث مدين لفضيلته منذ أن كان أطروحة وحتى تمت الموافقة عليه، والبحث وصاحبه ثمرة من ثمرات غرسه المبارك. وأخيراً: لا أملك إلا أن أدعو الله عز وجل أن يبارك فى دينه، وبدنه، وأهله، وولده، وماله، وأن يجزيه عنى وعن الإسلام خير الجزاء. ثم إن أجمل الشكر وأحسنه لمشايخى وأساتذتى الأجلاء، بكلية أصول الدين المباركة، على ما قدموا لى من عون على الموافقة على اختيار هذا الموضوع، وعلى ما قدموا لى من توجيهات وإرشادات، وتشجيع دائم، حتى تمكنت من إتمام هذا العمل. وإن استطردت لذكر أسمائهم لطال بى المقام ولكن مالا يدرك كله، لا يترك جله، فأخص بالذكر منهم؛ فضيلة الأستاذ الدكتور/ عزت عطية أستاذ ورئيس قسم الحديث بالكلية، والأستاذ الدكتور/ مروان شاهين، والأستاذ الدكتور/ بهاء الشاهد، الأساتذة بقسم الحديث بالكلية، فلهم ولسائر مشايخى وأساتذتى منى جزيل الشكر، وصالح الدعاء، وجزاهم الله عن العلم وأهله خير الجزاء. ولا يفوتنى أن أتقدم بجزيل الشكر، وعرفان الجميل، لكل من كانت له يد عون أو نصح أو إرشاد، أو توجيه، أو غير ذلك حتى أنجزت هذه الرسالة. الله عز وجل أسأل أن يجزي الجميع عني، وعن الإسلام خير الجزاء وأن يوفقهم لما يحبه ويرضاه.
المقدمة
المقدمة ... الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير، الحمد لله رب العالمين الذي هدانا وعلَّمنا، ومنَّ علينا، وتفضل ببلوغ المراد من خدمة سنة سيد المرسلين، التي فسرت الكتاب الكريم،، وبينته للناس، وحياً بوحي، ونوراً بنور، فاكتمل بهما الدين القويم، والصراط المستقيم. ... اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب العالمين، سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت علي نفسك. ... وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وعصمه في دينه وخلقه، ليكون أميناً علي وحيه، مبيناً لكتابه، خاتماً لأنبيائه ورسله، ولتقوم به الحجة والقدوة علي هذه الأمة إلي يوم الدين. ... اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلي آله، وصحبه البررة الأوفياء، أئمة الدين، وصفوة الخلق بعد الأنبياء والمرسلين. ... ورضي الله عمن تبع سنتهم، وسلك طريقتهم، واقتفيَ أثرهم، ونصرهم إلي يوم الدين. ثم أما بعد ... فإن الله تعالي يقول في كتابه العزيز: {قل الحمد الله وسلام علي عباده الذين اصطفي} (1) ويقول سبحانه: {وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} (2) . ... إن رب العزة في هاتين الآيتين ونحوهما، يبين لكافة عباده أنه اختار واصطفي من خلقه أناساً أخياراً، عصمهم في ظاهرهم وباطنهم، ورضاهم وغضبهم قبل النبوة وبعدها، لما علمَه عز وجل فيهم من أنهم سيكونون هداة للخلق يخرجونهم من الظلمات إلي النور، ويهدونهم إلي صراط العزيز الحميد. ... وهذا الاصطفاء الذي يتحدث عنه رب العزة، هو اصطفاء وهم لا يزالون في عالم الغيب لم يخلقوا بعد.
.. وهو ما يُظهر أن عصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر الأنبياء والمرسلين – عليهم الصلاة والسلام – مبنية على إرادة إلهية يمتنع معها وقوع المعصية منهم. ... ويقول عز وجل: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءَنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم. قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون} (1) . ... ففى قوله: {فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله} يقدم رب العزة حياة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيرته الطاهرة قبل بعثته، دليلاً على عصمته ونبوته. والمعنى فى الآيتين: إنى جئتكم بالقرآن عن إذن الله لى فى ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على أنى لست أتقوله من عندى ولا افتريته؛ أنكم عاجزون عن معارضته، وأنكم تعلمون صدقى وأمانتى منذ نشأت بينكم إلى حين بعثنى الله عز وجل، لا تنتقدون علىَّ شيئاً تُعِّيرونى به. ولهذا قال: {فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون} أى: أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل! ... والقارئ لسيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يشك فى عصمته فقد كانت نشأته صلى الله عليه وسلم، منذ ولدته أمه إلى أن بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين، أكمل نشأة، تولاه الله تعالى فأدبه، ورباه فكمِله، ورعاه فحفظه مما كان يشين حياة قومه من وثنية، وعادات مستقبحة، حتى غدا أكمل إنسان فى بشريته، فلم تعرف له فى سيرته هفوة، ولم تحص عليه فيها زلة، بل إنه امتاز بسمو الخلق، ورجاحة العقل، وعظمة النفس، وحسن الأحدوثة بين الناس، ثم نبأه الله تعالى وبعثه، فنمت فيه هذه الفضائل وترعرعت حتى أصبحت حياته فريدة فى تاريخ هذه الحياة الدنيا.
.. فمن أين له هذا؟ وهو اليتيم الذي تعرض منذ طفولته لمحنة اليتم والفقر! وهو الأمي الذي لم يجلس طيلة حياته إلي معلم يثقف عقله! وهو الذي نشأ في بيئة سيطرت عليها الجاهلية سيطرة كاملة في مجال العقيدة والفكر، وفي مجال الأخلاق والسلوك، وطبعت الناس بطابعها البغيض حتي لا تكاد تجد إنساناً يسلم من وراثة البيئة، وعدوي التقاليد الجاهلية الموروثة عن الآباء والأجداد. فكيف نجا سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم من تلك المؤثرات القوية؟. ... إنك لا تستطيع أن تدرك سر كمال عقله وعقيدته وأخلاقه، وبراءته من كل نقائص ومثالب بيئته التي نشأ فيها إلا أن تقول: إنه الإعداد الإلهي للنبوة و {الله أعلم حيث يجعل رسالته} (1) إنها العصمة الربانية التي حفظته صلي الله عليه وسلم من بيئة الجاهلية أربعين عاماً لم يصبه أذي من غبارها، فشب أكمل الناس خَلْقاً وخُلُقاً. ... وشهد له صلي الله عليه وسلم بتلك العصمة ربه عز وجل في عشرات الآيات القرآنية منها إجمالاً قوله تعالي: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثني وفرادي ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} (2) . ... وقوله سبحانه: {ما ضل صاحبكم وما غوي} (3) ففي هاتين الآيتين ونحوهما كان التعبير فيها بـ "صاحبكم" تذكيراً وتقريراً بأن كفار مكة أعرف الناس به، فرسول الله صلي الله عليه وسلم لم يفارقهم، وهم لم يفارقوه، بل صحبهم وصحبوه، ولازمهم ولازموه، وهذا يفيد أن كفار مكة في اتهامهم لرسول الله صلي الله عليه وسلم بعدم العصمة ووصفه بالضلال والجنون والسحر مكابرون، والدليل حاله قبل نبوته حيث صحبتهم له منذ نشأته بينهم، واعترافهم له بالأمانة والصدق، ورجاحة العقل، والخلق القويم.
.. وإذا طعن كفار قريش قديماً فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعهم من لا يعتد بخلافهم من الفضيلية والأزارقة من الخوارج والكرامية وغيرهم، فقد ظهر حديثاً أذيالهم من المنكرين للسنة النبوية، الزاعمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معصوم، ويجوز عليه ما يجوز على سائر البشر من الذنوب؛ كما زعموا أن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة فى السنة المطهرة تختلف عنها فى سيرته فى القرآن الكريم، وأن فى الأحاديث المتعلقة بسيرته صلى الله عليه وسلم ما يطعن فى عصمته، ويشوه شخصيته. ... وقد استند هؤلاء المشاغبون فى عصمة النبى صلى الله عليه وسلم إلى بعض النصوص القرآنية التى قد يُتوهم من ظاهرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان فى ضلال أو غفلة أو شك، وكذلك نصوص ورد فيها بعض التنبيهات الموجهة مباشرة إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم. ... كما استندوا أيضاً إلى بعض الأحاديث التى قد يتوهم من ظاهرها عدم عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عقيدته وقلبه، وبلاغه للوحى، واجتهاده، وسلوكه وهديه. ... وهذا ما دفعنى إلى اختيار موضوع هذه الرسالة: "رد شبهات حول عصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى ضوء السنة النبوية الشريفة" وقد هدفت من تسجيله إلى عدة أهداف منها: أولاً: بيان أن عصمة الأنبياء وعلى رأسهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرورة دينية، وأنها سبيل حجية وحى الله تعالى من القرآن والسنة. ثانياً: أن يكون هذا البحث هادياً لمن تأثر من أبناء الإسلام بشبهات أعداء السنة حول عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يوجب على من عرف الحق أن يأخذ بأيديهم إلى بر الأمان.
ثالثاً: إرادة توطيد إيمان المؤمنين، وتقوية محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفتهم بمكانته العليا، وحفاوة الله تعالى به فى تربيته حتى فى الآيات المتشابهات التى يتعلق بها أعداء الإسلام ومقلدوهم من المسلمين، مما يظهر أن ما ورد من ظاهر تلك الآيات مما يمس عصمته غير مراد. رابعاً: بيان أن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة فى صحيح السنة المطهرة تعتبر فى ميزان العقل البشرى والعلمى معجزة، لا تستطيع الأمم جميعها فى الحاضر والمستقبل أن تفعل مثلها، إذ لم يحفظ لنا التاريخ من بين جميع الأمم، حياة رجل منذ طفولته إلى وفاته، مثلما حفظه المسلمون عن رسولهم صلى الله عليه وسلم بكل دقة، وبكل حب وإخلاص. خامساً: بيان أن أئمة السيرة ورواتها لم تكن وظيفتهم بصدد أحداث السيرة إلا تثبيت ما هو ثابت منها بمقياس علمى دقيق، يتمثل فى قواعد مصطلح الحديث المتعلقة بكل من السند والمتن، وفى قواعد علم الجرح والتعديل المتعلقة بالرواة وتراجمهم؛ ولا تستطيع أى أمة من الأمم فى السابق واللاحق أن تأتى بمثل هذا الميزان العلمى، أو حتى تلتزمه فى ميدان التطبيق العمِلى. سادساً: بيان أن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها أهميتها فى فهم الإسلام قرآناً، وسنةً، وحضارةً0 سابعاً: بيان أن حملة التشكيك فى السيرة العطرة الواردة فى السنة النبوية مرض عقلى، ووباء فكرى، يصيب الحاقدين، وهو مذهب الذين فى قلوبهم مرض، الذين يستهدفون أن يفقد المسلمون الصورة التطبيقية لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يفقد الإسلام أكبر عناصر قوته، فأحببت أن تكون لى مشاركة فى رد تلك الحملة، وإيقاف زحفها، مع من بذلوا جهوداً فى الدفاع عن السيرة، لحماية حصنها من التهديم والتخريب، راجياً بذلك المثوبة من الله تعالى.
خطة البحث:
ثامناً: بيان أن الباطل مهما لمع بريقه، وتكاتف من ورائه أناس على تقويته، إلا أنه سرعان ما يخفت هذا اللمعان، ولا يجنى أصحاب هذا الباطل من وراء باطلهم إلا الخيبة والخسران. وما شأن شراذم البغى قديماً وحديثاً، ومحاولاتهم النيل من سيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم، وسنته المطهرة، إلا كشأن من قال عنه الأعشى بن قيس: كناطح صخرة يوماً ليوهنها … فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل. خطة البحث: ... تتكون خطة البحث فى الموضوع إلى مقدمة، وتمهيد، وأربعة أبواب، وخاتمة. أما المقدمة فقد ضمنتها: سبب اختيار الموضوع، وأهميته، وخطة البحث ومنهج البحث فيه. ... أما التمهيد فيشتمل على مبحثين: المبحث الأول: التعريف بالعصمة، وبيان دلالتها على حجية القرآن الكريم، والسنة النبوية، والاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم. المبحث الثانى: أهمية السيرة النبوية فى فهم الإسلام قرآناً وسنةً، وحضارةً0 ... أما الأبواب فهى: الباب الأول: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه ودفع الشبهات ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: عصمته صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه كما يصورها القرآن الكريم والسنة النبوية، ويشتمل على تمهيد ومبحثين: المبحث الأول: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى عقله من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية. المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى بدنه من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية. الفصل الثانى: شبه الطاعنين فى سلامة عقله وبدنه والرد عليها ويشتمل على تمهيد ومبحثين: المبحث الأول: شبهاتهم من القرآن الكريم على عدم عصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه والرد عليها، ويشتمل على تمهيد وخمسة مطالب: ... المطلب الأول: شبهتهم حول آيات ورد فيها إسناد "الضلال" و"الغفلة" إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم والجواب عنها.
المطلب الثانى: شبهتهم حول آيات ورد فيها إسناد "الذنب" و"الوزر" إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم والجواب عنها. المطلب الثالث: شبهتهم حول آيات ورد فيها مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل، ونهيه عن طاعة الكافرين، ونهيه عن الشرك، والجواب عنها. المطلب الرابع: شبهتهم حول آيات ورد فيها مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعرض الشيطان له والجواب عنها. المطلب الخامس: شبهتهم حول آيات ورد فيها معاتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والجواب عنها. المبحث الثانى: شبهاتهم من السنة النبوية على عدم عصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه والرد عليها ويشتمل على تمهيد وخمسة مطالب: المطلب الأول: شبهة الطاعنين فى حديث "شق صدره صلى الله عليه وسلم" والرد عليها. المطلب الثانى: شبهة الطاعنين فى حديث "فترة الوحي" والرد عليها. المطلب الثالث: شبهة الطاعنين فى حديث "نحن أحق بالشك من إبراهيم" والرد عليها. المطلب الرابع: شبهة الطاعنين فى حديث "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم" والرد عليها. المطلب الخامس: شبهة الطاعنين فى حديث "أهجر" والرد عليها. الباب الثانى: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي ودفع الشبهات ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي كما يصورها القرآن الكريم والسنة النبوية، ويشتمل على تمهيد ومبحثين: ... ... المبحث الأول: التعريف بالوحي، وكيفياته. المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية. ... الفصل الثانى: شبه الطاعنين فى الوحي الإلهى والرد عليها ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: شبهات أعداء الإسلام من المستشرقين حول الوحي الإلهى والرد عليها، ويشتمل على تمهيد وأربعة مطالب:
.. ... ... المطلب الأول: شبهة الوحي النفسى والرد عليها. المطلب الثانى: شبهة أن الوحي عبارة عن أمراض نفسية وعقلية والرد عليها. المطلب الثالث: شبهة أن الوحي مقتبس من اليهودية والنصرانية والرد عليها. المطلب الرابع: فرية الغرانيق والرد عليها. المبحث الثانى: شبهات أعداء السنة النبوية حول الوحي الإلهى والرد عليها ويشتمل على تمهيد وأربعة مطالب: ... المطلب الأول: شبهة أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصرة على بلاغ القرآن فقط والرد عليها. المطلب الثانى: شبهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست له سنة نبوية والرد عليها. المطلب الثالث: شبهة أنه لا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى القرآن فقط والرد عليها. المطلب الرابع: شبهة أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليه وشرك والرد عليها. الباب الثالث: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده ودفع الشبهات ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده كما يصورها القرآن الكريم والسنة النبوية ويشتمل على مبحثين: ... ... المبحث الأول: التعريف بالاجتهاد، وحكمته فى حقه صلى الله عليه وسلم. المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية. الفصل الثانى: شبهة أن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤيد أن السنة المطهرة ليست كلها وحى والرد عليها. الباب الرابع: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلوكه وهديه ودفع الشبهات ويشتمل على تمهيد وسبعة فصول: الفصل الأول: شبهة اختلاف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتب السنة والتاريخ عنها فى القرآن الكريم والرد عليها. الفصل الثانى: شبهة الطاعنين فى حديث "خلوة النبى صلى الله عليه وسلم بامرأة من الأنصار" والرد عليها.
الفصل الثالث: شبهة الطاعنين فى حديثى "نوم النبى صلى الله عليه وسلم عند أم سليم وأم حرام" والرد عليها. الفصل الرابع: شبهة الطاعنين فى حديث "طوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه فى ساعة واحدة" والرد عليها. الفصل الخامس: شبهة الطاعنين فى حديث "مباشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نسائه فى المحيض" والرد عليها. الفصل السادس: شبهة الطاعنين فى حديث "دعوته صلى الله عليه وسلم لعائشة رضى الله عنها استماع الغناء والضرب بالدف" والرد عليها. الفصل السابع: شبهة الطاعنين فى حديث "اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة" والرد عليها. الخاتمة: وفيها نتائج هذه الدراسة، ومقترحات، وتوصيات، والفهارس العلمية للبحث. ... هذا ولم أتعرض لتحرير مبحث أو مطلب إلا بعد أن رجعت إلى ما أمكننى الاطلاع عليه من الكتب المؤلفة فيه كبيرها وصغيرها، فقد يوجد فى الصغير مالا يوجد فى الكبير. ... ولم أكتب شيئاً إلا بعد أن أعتقد صحته وأطمئن إليه، غير متأثر برأى أحد ممن كتب فيه كائناً من كان، معاصراً أو غير معاصر، ولم أتردد فى مخالفته متى تبين لى أنه قد أخطأ، مع بيان وجهة نظرى فى ذلك، ومع احترامى له، واعترافى بفضله، وتقديرى لعلمه، واعتقادى أنه "صاحب آيات، وسباق غايات". ... وقد يؤخذ علىَّ: أنى قد أطلت فى بعض المباحث، أو كررت بعض العبارات، أو أظهرت فى محل إضمار، أو غير ذلك. ولكنى قصدت بهذا كله توفية البحث حقه، وإتمام الفائدة، وزيادة الإيضاح، وعدم وقوع الناظر فى اللبس. ... وإذا كانت الدراسة الموضوعية الصادقة هى تلك التى تعتمد على النصوص والوثائق؛ فقد التزمت هذه الرسالة - إلى حد كبير - بإيرادها كشواهد ودلائل على ما عالجته من مسائل وقضايا.
منهجى فى البحث:
منهجى فى البحث: كل ما عرضته فى الرسالة من شبه ومطاعن أهل الزيغ والهوى قديماً وحديثاً، المتضمنة الطعن فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنى قرنت ذلك بالرد الحاسم الذى يبين بطلان وزيف تلك الشبه والمطاعن معتمداً فى ذلك على القرآن الكريم والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، وكلام أهل السنة قديماً وحديثاً. فإن كان من جهد فى هذه الرسالة فإنما هو ثمرة الوقوف على أكتاف العلماء، ونتاج المربين الذين ربونا صغاراً، وحملونا كباراً، والمنة لله وحده، وهو ولى الجزاء، وشكر الله للعلماء بذلهم. بينت مواضع الايات التى وردت فى الرسالة بذكر اسم السورة، ورقم الآية فى الهامش، مع وضع الآية بين قوسين. عزوت الأحاديث التى أوردتها فى الرسالة إلى مصادرها الأصلية من كتب السنة المعتمدة، فإن كان الحديث فى الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بالعزو إليهما، بذكر اسم الكتاب، واسم الباب، وذكر الجزء والصفحة ورقم الحديث، وأقدم فى التخريج من ذكرت لفظه، مع البيان غالباً لدرجة الحديث من خلال أقوال أهل العلم بالحديث، أو دراستى للسند، إن كان الحديث فى غير الصحيحين، وفيما عدا ذلك اقتصر على ما يفيد ثبوت الحديث أو رده. اعتمدت فى التخريج من الصحيحين على طبعتى البخارى "بشرح فتح البارى" لابن حجر، والمنهاج "شرح صحيح مسلم" للنووى، لصحة متون الأحاديث فى الشرحين، ولصحة عرضهما على أصول الصحيحين، وتسهيلاً للقارئ لكثرة تداول تلك الشروح، وإتماماً للفائدة بالاطلاع على فقه الحديث المخرَّج. التزمت عند النقل من أى مرجع، أو الاستفادة منه الإشارة إلى رقم جزئه وصفحته بالإضافة إلى ذكر طبعات المراجع فى الفهرست. عند النقل من فتح البارى، أو المنهاج شرح مسلم للنووى، أذكر رقم الجزء والصفحة ورقم الحديث الوارد فيه الكلام المنقول، تيسيراً للوصول إلى الكلام المنقول، نظراً لاختلاف رقم الصفحات تبعاً للطبعات المتعددة.
اكتفيت فى تراجم الأعلام من الصحابة بذكر مصادر تراجمهم بذكر رقم الجزء والصفحة ورقم الترجمة، ولم أترجم لهم لعدالتهم جميعاً، ولم أخالف فى ذلك إلا فى القليل عندما تقتضى الترجمة الدفاع عن شبهة. ترجمت لكثير من الأعلام الذين جرى نقل شئ من كلامهم، مع ذكر مصادر تراجمهم، بذكر رقم الجزء والصفحة ورقم الترجمة. شرحت المفردات الغريبة التى وردت فى بعض الأحاديث مستعيناً فى ذلك بكتب غريب الحديث، ومعاجم اللغة، وشروح الحديث. ثم ختمت الرسالة بفهارس سبعة هى: فهرس الآيات القرآنية. فهرس الأحاديث والآثار. فهرس الأعلام المترجم لهم. فهرس الأشعار. فهرس القبائل والبلدان والفرق. فهرس المصادر والمراجع. فهرس الموضوعات التى اشتملت عليها الرسالة. هذا وإنى – يعلم الله – ما فرطت ولا توانيت، ولا كان منى ميل إلى كسل أو ركون إلى راحة، فإن فاتنى شئ فى أثناء الكتابة، أو لم أذكر أمراً كان ينبغى ذكره، أو طرأ على سهو أو نسيان، فهذا لأن عمل الإنسان لا يخلو من نقص مهما كانت عنايته. وعذرى فى ذلك ان الكمال المطلق لله عز وجل. ولا أدعى، وليس لى أن أدعى أنى جئت فى هذه الرسالة بشئ كان خافياً على العلماء والباحثين، وإنما حاولت بعون الله تعالى، جمع كلام الأئمة بين دفتى رسالة واحدة، حيث تتبعت الدرر المنثورة لشريعتنا الغراء فى بطون الكتب، ونظمتها فى سلك واحد، ولم أجد على قلة إطلاعى مَن عالج هذا الموضوع بهذه الصورة. فما كان فى البحث من صواب، فهو من الله عز وجل وبتوفيقه، وما كان من خطأ فمن نفسى، ومن الشيطان، والله برئ منه ورسوله، ولله وحده الكمال والعزة والجلال. وفى الختام: الحمد لله رب العالمين؛ على عونه وتوفيقه لإتمام هذا البحث حيث سهل لى صعبه وذلل أمامى عقباته.
.. وإنى لأرى لزاماً على أن أسجل هنا وافر شكرى وعظيم تقديرى، وصادق دعواتى لشيخى وأستاذى الجليل فضيلة الأستاذ الدكتور/ عبد المهدى عبد القادر عبد الهادى، إذ كان أول من أشار علىَّ بالكتابة فى هذا الموضوع، ثم أحاطه بدقيق ملاحظاته، وكامل متابعاته، وجليل تصحيحاته، فى مدة جمعه وتحريره، يقرأه المرة تلو الأخرى، ويضفى عليه كمالاً وجمالاً فى الحين بعد الآخر، حتى جاء على هذا النحو الذى هو عليه، والذى أرجو أن يسر قارئيه، ويفيد طالبيه ومبتغيه؛ فلفضيلته منى جزيل الشكر وصالح الدعاء، وجزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء. ولا يفوتنى فى هذا المقام أن أقدم شكرى أيضاً: لكل من أفادنى من مشايخى وزملائى بكتاب، أو إرشاد، أو أى نوع من المساعدة. اللهم تقبل هذا العمل خالصاً لوجهك الكريم، اللهم اجعلنى جنداً من جنود كتابك، جنداً من جنود سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم لا تجعلنى شقياً ولا محروماً، اللهم لا تعذب لساناً يخبر عنك، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدماً تمشى إلى طاعتك، ولا يداً تكتب حديث رسولك وصفيك صلى الله عليه وسلم. اللهم لا تدخلنى النار، ولا تفضحنى فيها، فقد علم أهلها أنى كنت أذب عن دينك، وأدافع عن شرعك، وأظهر مكانة وحيك، وأبين عظمة وعصمة نبيك وخليلك وصفيك صلى الله عليه وسلم. اللهم اجعلنى وما عملت من عمل صالح فى ميزان أبوىَّ، واغفر لهما، وأكرمهما، وارحمهما كما ربيانى صغيراً، وألبسهما حلة الكرامة، وشفع فيهما كتابك ونبيك. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم الراجى عفو ربه الغفور عماد الشربينى
التمهيد
التمهيد ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: التعريف بالعصمة، وبيان دلالتها على حجية القرآن الكريم والسنة النبوية، والاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم وينقسم إلى ما يلى: أولاً: التعريف بالعصمة لغة وشرعاً، وبيان مواضعها من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ثانياً: العصمة سبيل حجية القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة. ثالثاً: العصمة سبيل الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم. المبحث الثانى: أهمية السيرة النبوية فى فهم الإسلام قرآناً وسنة وحضارة. وينقسم إلى ما يلى: ... أولاً: أهمية السيرة النبوية العطرة فى فهم القرآن الكريم. ... ثانياً: أهمية السيرة النبوية فى فهم السنة النبوية. ... ثالثاً: أهمية السيرة النبوية فى إثبات أن للمسلمين تاريخاً وحضارةً. المبحث الأول: التعريف بالعصمة، وبيان دلالتها على حجية القرآن الكريم والسنة النبوية، والاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم ... وينقسم إلى ما يلى: أولاً: التعريف بالعصمة لغة وشرعاً، وبيان مواضعها من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ثانياً: العصمة سبيل حجية القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة. ثالثاً: العصمة سبيل الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم. أولاً: التعريف بالعصمة لغة وشرعاً وبيان مواضعها من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: أ- المعنى اللغوى: ... العصمة وردت فى اللغة لعدة معان منها: 1- المنع. ... ... 2- الحفظ. 3- القلادة. ... ... 4- الحبل. ... قال صاحب اللسان: "العصمة فى كلام العرب المنع، وعصمة الله عبده: أن يعصمه مما يوبقه، يقال عصمه، يعصمه، عصماً: منعه ووقاه. ... وبهذا المعنى جاءت الكلمة فى القرآن الكريم والسنة المطهرة.
قال تعالى على لسان سيدنا نوح عليه السلام وابنه: {يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين. قال سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين} (1) وقال تعالى على لسان امرأة العزيز: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} (2) وقال سبحانه فى حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (3) وقال تعالى: {قل من ذا الذى يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة} (4) وفى الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بى وبما جئت به. فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحقها. وحسابهم على الله" (5) والعصمة القلادة، وفى اللسان أيضاً أصل العصمة: الحبل وكل ما أمسك شيئاً فقد عصمه" (6) . ... وبالإمعان فى هذه المعانى جميعها ترى أنها ترجع إلى المعنى الأول الذى هو "المنع" فالحفظ منع للشئ من الوقوع فى المكروه أو المحظور، والقلادة تمنع سقوط الخرز منها، والحبل يمنع من السقوط والتردى.
.. وعلى المعنى الأول دار كلام حُذَاق المفسرين والأثريين، قال الإمام الطبرى (1) فى تفسيره لقوله تعالى: {ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم} (2) قال: "وأصل العصم: المنع، فكل مانع شيئاً فهو عاصمه. والممتنع به معتصم به" (3) وقال تفسيراً لقوله تعالى: {قال سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله} (4) : يقول سأصير إلى جبل أتحصن به من الماء فيمنعنى منه أن يغرقنى. ويعنى بقوله (يعصمنى) يمنعنى، مثل عصام القربة الذى يشد به رأسهما فيمنع الماء أن يسيل منها (5) وفى قوله تعالى: {قل من ذا الذى يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة} (6) قال: من ذا الذى يمنعكم من الله إن هو أراد بكم سوءاً فى أنفسكم (7) .
ب- المعنى الشرعى:
.. فكلام هذا الإمام - رحمه الله تعالى - يدل على أن مادة (عصم) فى القرآن الكريم حيثما وردت بشتى تصريفاتها تدور على المنع والامتناع، وهو أصلها فى الوضع اللغوى. وقال ابن الأثير (1) : العصمة: المنعة، والعاصم: المانع الحامى، والاعتصام الامتساك بالشئ افتعال منه. ومنه شعر أبى طالب (2) يمدح النبى صلى الله عليه وسلم: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... *** ... ثمال (3) اليتامى عصمة للأرامل أى يمنعهم من الضياع والحاجة (4) . ب- المعنى الشرعى: ... عرَّف المتكلمون والمحدثون من أهل السنة العصمة فى الشرع بتعريفات بعضها يختلف عن بعض لفظاً إلا أن المعنى واحد، وقد يختلف بعضها لفظاً ومعنى، والاختلاف فى المعنى يعود إلى من سلب اختيار المعصوم فى أفعاله، ومن أوجبه.
.. وهذه التعريفات وإن اختلفت مناحيها فى التعبير، وتنوعت جوانب تناولها لمعنى عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنها جميعها تنتهى إلى حفظ الله تعالى إياهم من مواقعة الذنوب والمخالفات بعد البعثة باتفاق المحققين المحقين، وقبل البعثة على التحقيق. ... ولعل من أحسن التعريفات للعصمة وأسلمها ما ذكره صاحب كتاب نسيم الرياض فى شرح الشفا للقاضى عياض بأنها: "لطف من الله تعالى يحمل النبى على فعل الخير، ويزجره عن الشر مع بقاء الاختيار تحقيقاً للابتلاء" (1) ومن المستحسن فى تعريفها أيضاً من قال: "هى حفظ الله عز وجل للأنبياء بواطنهم وظواهرهم من التلبس بمنهى عنه، ولو نهى كراهة ولو فى حال الصغر مع بقاء الاختيار تحقيقاً للابتلاء (2) . ... إن العصمة تعنى حفظ الله تعالى لأنبيائه عن مواقعة الذنوب الظاهرة والباطنة، وأن العناية الإلهية لم تنفك عنهم فى كل أطوار حياتهم قبل النبوة وبعدها، على ما هو المعتمد كما سيأتى تحقيقه، فهى محيطة بهم تحرسهم من الوقوع فى منهى عنه شرعاً أو عقلاً، وصدق القائل حين قال: وإذا العناية لاحظتك عيونها ... *** ... نم فالمخاوف كلهن أمان
وهذا ما ظهر أثره فى الخارج، فقد كان أنبياء الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام محفوظى الظواهر والبواطن من التلبس بمنهى عنه ولو نهى كراهة أو خلاف الأولى. ... فهم محفوظون ظاهراً من الزنا وشرب الخمر والكذب والسرقة، وغير ذلك من المنهيات المستقبحات فى الخارج، ومحفوظون فى الباطن من الحسد والكبر والرياء وغير ذلك من منهيات الباطن (1) . ... فلم تُعرف لهم زَلة، ولا سُجلت عليهم هفوة فى مجتمعاتهم المليئة بالشحناء والعداوة والبغضاء لهم، ولو أن أعدائهم علموا من ذلك شيئاً لطاروا به فرحاً، ليدفنوا ما زاع لهم من مكارم الأخلاق، وصالح القول والعمل، كشأن الغوغائيين الذين قال فيهم الشاعر: إن يسمعوا زلة طاروا بها فرحاً ... *** ... منى وما علموا من صالح دفنوا صُمُ إذا سمعوا خيراً ذكرت به ... *** ... وإن ذكرت بسوء عندهم أُذن فقد كانوا فى غاية التربص لتصيد عثراتهم إن وجدوها، فلما أعياهم البحث والانتظار، ويئسوا من العثور على شئ من ذلك، طفقوا يفترون الكذب، ويقولون الزور، فيرمونهم بالسحر تارة، والكهانة أخرى، والجنون حيناً، والافتراء حيناً آخر، وغير ذلك بما طاب لهم التفوه به مما سجله عليهم القرآن الكريم، وحفظه التاريخ، ولكن سرعان ما كان يكذبهم الواقع، فتبور أقوالهم، وترجع عليهم بالخزى والعار، ويبقى جانب الأنبياء مصوناً بالعصمة الإلهية، والعناية الربانية، ليكونوا أطهاراً أتقياء قادة الخلق إلى مكارم الأخلاق. وما كان لهم بذلك من يد لولا العصمة الربانية التى أحاطت بهم قبل نبوتهم وبعدها فمنعتهم من الوقوع فيما لا يحمد مما يكون منفرداً للناس عن أتباعهم إلى ما يدعونهم إليهم من الدين والأخلاق الفاضلة (2) .
ج- مواضع العصمة:
هذا وللعلماء كلام طويل، وتفصيل مستطيل حول العصمة التى رعى الله تعالى بها رسله أوجزها فى الآتى: ج- مواضع العصمة: العصمة التى أوجبها الله تعالى لرسله – عليهم الصلاة والسلام – تتعلق بالاعتقادات، والتبليغ، والأقوال والأفعال، وخُص نبينا صلى الله عليه وسلم بعصمة بدنه الشريف من القتل. فقد عصم الله عز وجل أنبياءه ورسله من الوقوع فى محظور فى الأمور السابقة حتى أدوا رسالتهم ولحقوا ببارئهم عز وجل. وعصمة الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – فى الأمور السابقة ثابتة لهم قبل النبوة وبعدها فى الكبائر والصغائر، عمدها وسرها على الأصح، فى ظاهرهم وباطنهم ورضاهم وغضبهم، وهو ما أَدين لله تعالى به، لأن حال الأنبياء قبل النبوة يؤثر على مستقبل دعوتهم بعد النبوة سلباً وإيجاباً.
وهذا هو الصحيح عندى ويطمئن إليه القلب، وتستريح إليه النفس وهو مذهب كثير من العلماء المحققين المحقين من أهل الكلام والحديث (1) . قال تعالى: {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون} (2) . فهذه الآية الكريمة كانت جواباً من النبى صلى الله عليه وسلم على ما طلبه مشركوا مكة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بقرآن غير الذى أتاهم به، لا يكون فيه عيب آلهتهم، أو يبدله من تلقاء نفسه على ذلك الشرط، ليقبلوا منه بعد ذلك دعوته للإسلام.
قال تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون} (1) . فكانت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، أنه عبد مأمور، ورسول مبلغ عن ربه عز وجل وليس إليه تبديل القرآن أو يتقوله من عنده {قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم} ثم قال محتجاً عليهم فى صحة ما جاءهم به "قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به" أى هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لى فى ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على أنى لست أتقوله من عندى ولا افتريته؛ أنكم عاجزون عن معارضته، وأنكم تعلمون صدقى وأمانتى منذ نشأت بينكم إلى حين بعثنى الله عزوجل لا تنتقدون على شيئاً تُعيِّرونى به. ولهذا قال: {فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون} أى: أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل.
ولهذا لما سَأَل هرقل (1) ملك الروم أبا سفيان (2) ومن معه، فيما سأله من صفة النبى صلى الله عليه وسلم قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: لا. وقد كان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ومع هذا اعترف بالحق: والفضل ما شهدت به الأعداء فقال له هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله!! (3) .
وإذا كان الوحي الإلهى فى آية يونس السابقة يقدم حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته الطاهرة قبل البعثة دليلاً على نبوته صلى الله عليه وسلم (1) وهو ما استدل به هرقل على صدقه صلى الله عليه وسلم فى نبوته، دل ذلك كله وأكد ما سبق ذكره أن حال الأنبياء قبل النبوة يؤثر على مستقبل دعوتهم بعد النبوة سلباً وإيجاباً. فكيف والحال هكذا يختلف فى العصمة لهم قبل النبوة؟!! قال سبحانه: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين} (2) . وقال تعالى: {ما ضل صاحبكم وما غوى} (3) . وقال تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} (4) . وقال عز وجل: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدى عذاب شديد} (5) . ففى هذه الآيات الكريمات كان التعبير فيها "بصاحبكم" تذكيراً بأن كفار مكة أعرف الناس به، فمحمد صلى الله عليه وسلم لم يفارقهم، وهم لم يفارقوه، بل صحبهم وصحبوه، ولازمهم ولازموه، وهذا يفيد أن كفار مكة فى اتهامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالضلال والجنون، مكابرون، والدليل حاله قبل نبوته حيث صحبتهم له منذ نشأته بينهم، واعترافهم له بالأمانة والصدق ورجاحة العقل، والخلق القويم (6) .
وما كان كذلك إلا بعصمة الله عز وجل له قبل نبوته (1) تلك العصمة التى استدل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاله فيها على نبوته لما أمر بالبلاغ فى قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (2) . 6- فعن ابن عباس رضى الله عنهما (3) قال: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً!!، قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد". ... وفى رواية قال لهم: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقى؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً!!، قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد" (4) . ... فالشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "أكنتم مصدقى؟ " وقولهم جواباً: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً: ما جربنا عليك كذباً!!.
.. حيث استدل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاله قبل نبوته من صدقه، وعصمة الله عز وجل له من الكذب، استدل بذلك على صدقه فيما يخبرهم به بعد نبوته، فكانت منهم هذه الشهادة الجماعية بصدقه وانتفاء الكذب عنه لعلمه صلى الله عليه وسلم بما قد سيقع من تكذيبهم له عند إخبارهم بأمر الرسالة وصدق رب العزة: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} (1) . ... وصفوة القول أنه يمتنع وقوع صورة المعصية من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل بعثتهم، لا لكونها معصية حقيقية تترتب عليها المؤاخذة والعقاب، بل لأن الله تعالى خلقهم مجبولين على مجانبتها والمنافرة لها، لما علمه جل شأنه من أنهم سيكونون مصابيح الظلام، وهداة الأنام، يخرجونهم من الظلمات إلى النور، ويرشدونهم إلى صراط العزيز الحميد. فلا تمر بهم طرفة عين إلا وهم مراقبون لحضرته، مشاهدون لعظمته كما تشهد بذلك سوابقهم الحميدة، وتواريخهم المجيدة. ... وإذا اتضح هنا صحة ثبوت عصمة الله عز وجل للأنبياء وحفظ بواطنهم وظواهرهم من التلبس بمنهى عنه، ولو نهى كراهة قبل النبوة وبعدها، فإلى بيان أن تلك العصمة هى سبيل الإيمان بحجية كل ما يبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه من الوحي قرآناً وسنةً.
ثانيا: العصمة سبيل حجية القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة:
ثانياً: العصمة سبيل حجية القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة: ... إن عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى التبليغ لها دلالتها وأهميتها فى حجية كل ما يبلغ عن ربه عز وجل من الوحي سواء كان متلواً من القرآن الكريم، أو غير متلواً من السنة النبوية المطهرة، ومن هنا ترى علماء الأصول تناولوا العصمة فى مباحث السنة الشريفة، نظراً لشدة التصاقها بها، حيث تتوقف حجية السنة المطهرة، بل والقرآن الكريم أيضاً على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) لأن القرآن الكريم والسنة الشريفة، كليهما دليل شرعى يجب العمل به، ولا شك أن وجوب العمل به ناتج عن وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذى صدر عنه ذلك الوحي بنوعيه (القرآن الكريم، والسنة النبوية) ووجوب طاعته صلى الله عليه وسلم متوقف على صدقه، وعصمته صلى الله عليه وسلم من الكذب (2) وهذا ما أجمعت عليه الأمة، فقد أجمعوا على عصمته عن أى شئ يخل بالتبليغ، فلا يجوز عليه كتمان الرسالة، والكذب فى دعواها لا بالعمد ولا بالسهو، وإلا لم يبق الاعتماد على شئ من الشرائع (3) إذ عمدة النبوة البلاغ والإعلام والتبيين، وتصديق ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم، وتجويز شئ من الكذب قادح فى ذلك، ومشكك فيه، ومناقض للمعجزة التى أيد الله عز وجل بها رسله تصديقاً له فى رسالته، وفى كل ما يبلغه عنه سبحانه، تلك المعجزة القائمة مقام قول الله عز وجل: صدق رسولى فيما يذكر عنى،
وهو يقول: إنى رسول الله إليكم لأبلغكم ما أرسلت به إليكم، وأبين لكم ما نزل عليكم. ... وذلك يستلزم أن كل خبر بلاغى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق مطابق لما عند الله إجماعاً: فيجب التمسك به. ... يدل على ذلك قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى} (1) فكلمة "ينطق" فى لسان العرب تشمل كل ما يخرج من الشفتين قولاً أو لفظاً (2) أى ما يخرج نطقه صلى الله عليه وسلم عن رأيه، إنما هو بوحى من الله عز وجل (3) . ... ولقد جاءت الآيتان بأسلوب القصر عن طريق النفى والاستثناء، والفعل إذا وقع فى سياق النفى دل على العموم، وهذا واضح فى إثبات أن كلامه صلى الله عليه وسلم محصور فى كونه وحى لا يتكلم إلا به، وليس بغيره (4) . ... وفى هذا دليل واضح على عصمته صلى الله عليه وسلم فى كل أمر بلغه عن ربه عز وجل، فعن طلحة بن عبيد الله رضى الله عنه (5) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم! "إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله عز وجل" (6) .
.. وتبليغ وحى الله عز وجل كما يكون بالخبر القولى يكون بالفعل والتقرير، وبالأمر والنهى، فإن ذلك كله نوع من البلاغ يستلزم مع حجية جميع أقواله، حجية جميع أفعاله وتقريراته، وأوامره ونواهيه. ... فيثبت بذلك حجية قوله صلى الله عليه وسلم فى حق القرآن: "هذا كلام الله عز وجل" (1) وقوله فى الأحاديث القدسية: قال رب العزة كذا، أو نحو هذه العبارة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إنى أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلى، ولا كل ذى ناب من السباع، ولا كل ذى مخلب من الطير، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغنى عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعاقبهم بمثل قراه".
.. وفى رواية قال: "ألا هل عيسى رجل يبلُغه الحديث عنى وهو متكئ على أريكته فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله عز وجل" (1) وقوله صلى الله عليه وسلم بعد البيان القولى والعملى للصلاة: "صلوا كما رأيتمونى أصلى" (2) وقوله صلى الله عليه وسلم بعد البيان القولى والعملى للحج: "لتأخذوا عنى مناسككم فإنى لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتى هذه" (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم" (4) فهذه كلها أخبار معصوم عن
الكذب أخذ منها العلماء أن الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمان: القسم الأول: الكتاب المعجز المتعبد بتلاوته. والقسم الثانى: ما ليس بكتاب وهو قسمان: أ- حديث قدسى: وهو ما نزل لفظه (1) . ب- وحديث نبوى: وهو ما نزل معناه، وعبر عنه النبى صلى الله عليه وسلم بلفظ من عنده. ... فأنت ترى من هذا كله أن عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب فى الخبر البلاغى لها دلالتها وأهميتها فى إثبات حجية القرآن الكريم، وجميع أنواع السنة على الوجه المتقدم (2) .
ثالثا: العصمة سبيل الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم:
ثالثاً: العصمة سبيل الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم: ... إذا كانت العصمة فى التبليغ للنبى صلى الله عليه وسلم لها دلالتها على حجية كل ما يبلغ من الوحي سواء كان متلواً من القرآن الكريم، أو غير متلواً من السنة المطهرة، فالعصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وأوامره ونواهيه، مما هو ليس من باب البلاغ، مما كان فى أمور الدنيا، وأحوال نفسه الشريفة، لها أيضاً دلالتها على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم 0 ... ومن هنا جرت عادة علماء الأصول قبل كلامهم عن أفعاله صلى الله عليه وسلم أن يقدموا عليها الكلام على العصمة؛ لأجل أنه ينبنى عليها وجوب التأسى بأفعاله صلى الله عليه وسلم (1) . ... وعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر والصغائر فى أقواله وأفعاله مما ليس سبيله البلاغ دل عليها القرآن الكريم، والسيرة العطرة، والسنة المطهرة، وإجماع الأمة. أ- ففى القرآن الكريم تجد شهادة رب العزة لأنبيائه ورسله - عليهم الصلاة والسلام بعصمتهم من الصغائر فى سلوكهم. 1- قال تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (2) فما كان عز وجل أن يحث نبيه صلى الله عليه وسلم على الاقتداء والأسوة بأنبيائه ورسله إلا وهم معصومون من الصغائر.
2- وقال سبحانه: {لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (1) ففى تلك الآية الكريمة جعل المولى عز وجل التأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم من لوازم رجائه تعالى واليوم الآخر، وما كان سبحانه يجعل الاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم من لوازم رجاءه تعالى واليوم الآخر، إلا وهو صلى الله عليه وسلم معصوم فى سلوكه من الصغائر. 3- وقال عز وجل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله} (2) . 4- وقال سبحانه: {فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (3) فقوله: "فاتبعونى"، "واتبعوه" أى اسلكوا مسلكه، واحذوا حذره صلى الله عليه وسلم فى جميع أموره من قول وفعل. ووجه الاستدلال فى الآيتين أنه تعالى جعل الاقتداء والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم لازمة من محبته عز وجل الواجبة، ولازمة للهداية والفلاح فى الدنيا والآخرة. وما تلك الملازمة وسابقتها إلا شهادة من رب العزة لرسوله صلى الله عليه وسلم على عصمته من الصغائر فى كل أقواله وأفعاله.
ب- أما السيرة العطرة: فتشهد أيضاً بعصمته صلى الله عليه وسلم من الصغائر فى أحواله كلها حيث لم يعلم عنه صلى الله عليه وسلم الوقوع فى صغيرة ولا الدنو من شئ منها، مع أن سبل النقل عنه صلى الله عليه وسلم أحصت كل حركة من حركاته، وكل قول من أقواله، فما ترك الصحابة رضى الله عنهم فعلاً من أفعاله، ولا قولاً من أقوله، دق أو جلَّ إلا نقلوه إلينا عنه، حتى أنهم وصفوا يقظته، ونومه، كما وصفوا حديثه وصمته، وقيامه وجلوسه، وسيره وركوبه وترجله وجميع شمائله، إلى غير ذلك مما هو مدون فى كتب الحديث والمشائل والمغازى والسير، لأنهم كانوا يرون ذلك تبليغاً عنه، وقد أمرهم صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه بقوله صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع: "ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه" (1) .
.. وقولهم صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً؛ فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" (1) فلو رأى الصحابة – رضى الله عنهم – أو سمعوا منه شيئاً مما أجازه عليه بعض أهل العلم من قربه الصغائر – وحاشاه من ذلك – لما فاتهم نقل ذلك عنه ضمن ما نقلوه من أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته. ... ولكنهم رضى الله عنهم لم ينقلوا عنه شيئاً من ذلك – فيما علمنا – ولو رأوا منه شيئاً من ذلك أو علموه عنه لنقلوه إلينا، وعُلم عنهم لتوافر دواعى النقل عنه.
.. فالقول بعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع الذنوب كبيرها وصغيرها، سرها، وجهرها، عمدها وسهوها هو ما أَدين لله تعالى به؛ فقد كانت أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم وأحواله كلها تشريعاً تقتضى المتابعة والاقتداء، إلا ما ورد الدليل فيها على أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم (1) أو ما ورد الدليل فيه أنه ليس من جنس ما يشرع لهم التأسى به فيه إلا عند وجود السبب (2) .
.. ولا يكون لأقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم ذلك الوصف التشريعى إلا بالقول بوجوب العصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الصغائر خلافاً لمن أجازها من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين (1) تمسكاً منهم بظواهر من القرآن الكريم، وبعض الأحاديث الصحاح التى ذكر فيها ما يشعر بوقوع الخطيئة من بعضهم، وسيأتى الجواب عن ذلك تفصيلاً (2) ويكفى فى الرد عليهم هنا إجمالاً ما سبق من شهادة القرآن الكريم والسيرة العطرة على عصمته صلى الله عليه وسلم من الصغائر، فضلاً عن إجماع الأمة. ج- إجماع الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم من الصغائر:
.. حكى القاضى عياض (1) اتفاق السلف وإجماعهم على أنه لا يصدر عنه صلى الله عليه وسلم خبر بخلاف إخباره عنه فقال: "أما ما ليس سبيله البلاغ من الأخبار التى لا مستند لها إلى الأحكام، ولا أخبار المعاد، ولا تضاف إلى وحى، بل فى أمور الدنيا، وأحوال نفسه الشريفة؛ فالذى يجب تنزيه النبى صلى الله عليه وسلم عن أن يقع خبره فى شئ من ذلك بخلاف مخبره لا عمداً، ولا سهواً، ولا غلطاً، وأنه معصوم من ذلك فى حال رضاه، وفى حال سخطه، وجده مزحه، وصحته ومرضه، ودليل ذلك اتفاق السلف وإجماعهم عليه، وذلك أنى نعلم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله، والثقة بجميع أخباره فى أى باب كانت، وعن أى شئ وقعت، وأنه لم يكن لهم توقف ولا تردد فى شئ منها، ولا إستثبات عن حاله عند ذلك هل وقع فيها سهو أم لا" (2) .
.. واستدل على ذلك بما جرى لسيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه (1) مع ابن أبى الحقيق اليهودى حين إجلاهم من خيبر، حيث احتج عليه عمر رضى الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: "كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك (2) ليلة بعد ليلة؟ ! " فقال اليهودى: كانت هزيلة (3) من أبى القاسم صلى الله عليه وسلم فقال له عمر: كذبت يا عدو الله! فأجلاهم عمر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك" (4) . ... قال القاضى: "وأيضاً فإن أخباره وآثاره وسيره وشمائله معتنى بها مستقصى تفاصيلها، ولم يرد فى شئ منها استدراكه صلى الله عليه وسلم لغلط فى قول قاله، أو اعترافه بوهم فى شئ أخبر به.
.. قال: ولو كان ذلك لنقل كما نقل من قصته صلى الله عليه وسلم عما أشار به على الأنصار فى تلقيح النخل (1) وكان ذلك رأياً لا خبراً" يعنى فلا يدخله الصدق والكذب إلى أن قال: "فانقطع عن يقين بأنه لا يجوز على الأنبياء خلف فى قول أو فعل فى وجه من الوجوه لا بقصد، ولا بغير قصد، ولا تسامح فى تجويز ذلك عليهم حال السهو فيما ليس طريقه البلاغ" (2) . ... قلت وما قاله القاضى عياض هو الذى أَدين لله تعالى به فى أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها؛ فقد كانت جميع أقواله وأفعاله المتعلقة بأمور الدنيا، وأحوال نفسه الشريفة تشريعاً تقتضى المتابعة والاقتداء، وعلى ذلك سلفنا الصالح من الإيمان بعصمته فى أحواله كلها، ولهذا كانوا يسارعون إلى التأسى به. والأمثلة على ذلك كثيرة ومعلومة منها ما يلى: 1- حرصهم على مضاهاته صلى الله عليه وسلم فى العبادة، كما فى قصة وصاله صلى الله عليه وسلم ورغبة بعض الصحابة الوصال نحوه، على ما بين وصاله صلى الله عليه وسلم، ووصالهم من الفرق؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم إذا واصل يطعمه ربه ويسقيه بخلافهم، ومع ذلك فحرصوا على التأسى به فيه.
فعن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنهما (1) قالت: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل. قال: إنى لست كهيئتكم، إنى يطعمنى ربى ويسقينى" (2) . 2- ومنها قصة اتخاذه صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب حيث اتخذ الناس خواتيم كذلك، فطرحه النبى صلى الله عليه وسلم، فطرح الناس خواتيمهم. فعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما (3) قال: "اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "إنى اتخذت خاتماً من ذهب، فنبذه، وقال: "إنى لن ألبسه أبداً" فنبذ الناس خواتيمهم" (4) .
3- وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه (1) قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ " قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال: صلى الله عليه وسلم إن جبريل عليه السلام أتانى فأخبرنى أن فيهما قذراً، وقال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر: فإن رأى فى نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما" (2) ويلاحظ هنا فى الحديث مسارعة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى متابعته صلى الله عليه وسلم فى خلع نعليه، وهو فعل من أفعال العادة، وفى ذلك أقوى دليل على فهمهم واعتقادهم بعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصغائر حتى فى أفعاله الجبلية.
4- ولقد كان من كمال تأسى الصحابة رضى الله عنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقادهم بعصمته صلى الله عليه وسلم من الصغائر فى كل أحواله، شدة حرصهم على تأسهم به صلى الله عليه وسلم حتى فى أمور بيته، وذلك كاختلافهم فى جواز القبلة للصائم (1) ، وفى طلوع الفجر على الجنب وهو صائم (2) فسألوا أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها فأخبرتهم أن ذلك وقع من النبى صلى الله عليه وسلم فرجعوا إلى ذلك، وعلموا أنه لا حرج على فاعله لعصمته. 5- وعن أبى بكر الصديق رضى الله عنه (3) قال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعمل به إلا عملت به، فإنى أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ" (4) .
6- ولما وقف عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمام الحجر الأسود يقبله خاطبه بقوله: "لولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك" (1) . 7- وجاء رجل يجادل ابن عمر فى شأن تقبيل الحجر من أجل الزحمة قائلاً له: أرأيت إن زحمت، أرأيت إن غلبت؟ فقال له ابن عمر "اجعل "أرأيت" باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله" (2) . 8- ولقد بلغ من كمال امتثال ابن عمر رضى الله عنه لهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتأسى به حتى فى حركاته وسكناته العادية التى هى من أفعال الجبلية، حيث كان يتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل مكان حتى أنه كان يأتى شجرة بين مكة والمدينة فَيُقِيل تحتها، ويخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك (3) . 9- ولما حج فأفاض وانتهى إلى المضيق دون المأزمين، أناخ، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذلك المكان قضى حاجته، فهو يحب أن يقضى حاجته (4) . 10- وكان مرة فى سفر فمر بمكان فحاد عنه، فسئل: لما فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا ففعلت (5) .
وكل ذلك له دلالته على عصمته صلى الله عليه وسلم من الصغائر، ومن ثمَّ فالعصمة سبيل الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم 0 والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
المبحث الثانى: أهمية السيرة النبوية فى فهم الإسلام
المبحث الثانى: أهمية السيرة النبوية فى فهم الإسلام قرآناً وسنةً وحضارةً ... وينقسم إلى ما يلى: أولاً: أهمية السيرة العطرة فى فهم القرآن الكريم. ثانياً: أهمية السيرة الشريفة فى فهم السنة النبوية. ثالثاً: أهمية السيرة النبوية فى إثبات أن للمسلمين تاريخاً وحضارةً. أولاً: أهمية السيرة العطرة فى فهم القرآن الكريم: ... إن فى دراسة السيرة النبوية الشريفة ما يعين كل مسلم على فهم قوى ودقيق لكتاب الله عز وجل، إذ أن كثيراً من آيات القرآن الكريم إنما تفسرها وتجليها الأحداث التى مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومواقفه منها فهناك من الآيات القرآنية ما نزلت إثر حوادث طرأت أو مشاكل وقعت أو أسئلة وجهت إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فجاءت هذه الآيات تحمل الحل أو تبين الحكم، أو تجيب على الأسئلة. ... ومما لا يخفى مدى أهمية الوقوف على هذه الأسباب فى التعرف على المعنى الأصوب والأدق للآية، هذا إن لم يتوقف فهم مثل هذه الآيات على معرفة أسبابها، الأمر الذى يترتب على غياب هذه المعرفة وقوع فى الإشكال والتعارض مع غيرها، وقد حصل هذا بالفعل مع بعض الصحابة والتابعين وسواهم كثيراً ممن جاء بعدهم، ومن أمثلة ذلك ما يلى: ما أشكل على عروة بن الزبير رضى الله عنه (1) أن يفهم فرضية السعى بين الصفا والمروة مع قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} (2) .
ففى الصحيح عن عروة قال: سألت عائشة رضى الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} قال: فوالله ما على أحد جناح ألا يطوف بالصفا والمروة. قالت: بئسما قلت يا ابن أختى؛ إن هذه الآية لو كانت كما أولتها عليه كانت: لا جناح عليه ألا يتطوف بهما. ولكنها أنزلت فى الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون (1) لمناة الطاغية (2) التى كانوا يعبدونها عند المُشَلَّل (3) فكان من أَهلَّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} قالت عائشة: "وقد سن (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما؛ فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما" (5) .
وهذه الرواية – كما ترى – تدل على أن عروة مع جلالة قدره وفهمه، فهم من جملة {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} أن الجناح منفى أيضاً عن عدم الطواف بهما، وعلى ذلك تنتفى الفريضة، وكأنه اعتمد فى فهمه هذا على أن نفى الجناح، أكثر ما يستعمل فى الأمر المباح. أما عائشة رضى الله عنها فقد فهمت أن فريضة السعى بين الصفا والمروة، مستفادة من السنة المطهرة، ومن سيرته صلى الله عليه وسلم العملية، وأن جملة: {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما} لا تنافى تلك الفريضة كما فهم عروة، إنما الذى ينفيها أن يقال: "فلا جناح عليه ألا يتطوف بهما". وإنما توجه نفى الحرج فى الآية عن الطواف بين الصفا والمروة، لأن هذا الحرج هو الذى كان وافراً فى أذهان الأنصار، كما يدل عليه سبب نزول الآية الذى ذكرته السيدة عائشة رضى الله عنها، فتدبر (1) .
ومن ذلك أيضاً ما تأوله قدامه بن مظعون رضى الله عنه (1) وأشكل عليه أنه لا حرج على كل من آمن واتقى وأحسن إذا ما شرب الخمر، وكان والى عمر بن الخطاب على البحرين، وبعد أن استقدمه عمر رضى الله عنه ليقيم عليه الحد لسكره، قال له: يا قدامه إنى جالدك، فقال: يا أمير المؤمنين، لئن كان الأمر كما يقولون ما كان لك أن تجلدنى. فقال: لم؟ قال: لأن الله تعالى يقول: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا} (2) فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً والخندق والمشاهد. فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هذه الآيات أنزلت عذراً للماضين، وحجة على الباقين، لأن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} (3) قال عمر: صدقت (4) .
ويلاحظ هنا أن الوقوف على سبب النزول هو الذى جلى الموقف لابن عباس، ورفع الإشكال عنها، وسبب نزولها على ما روى عن البراء بن عازب رضى الله عنه (1) أنه قال: "مات رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن تحرم الخمر، فلما حرمت الخمر، قال رجال كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر؟ فنزلت: {ليس على الذين آمنوا وعلموا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا} (2) فالآية ترفع الجناح عمن شربها قبل التحريم. فلا إشكال ولا تعارض. من أجل ذلك فقد أكد العلماء على الأهمية البالغة لسبب النزول وأنه طريق قوى فى فهم معانى القرآن الكريم (3) . وإذا رجعت إلى السيرة النبوية لتفهم منها التجسيد الحى للقضية الأولى التى ابتدأ بها أمر الدين، وهى الوحي الإلهى، لرأيت أن السيرة العطرة كانت أقرب وأقوى فى تفسير آيات الوحي من بعض التفاسير التى اتخذت الجانب اللغوى، أو التصوير البيانى، أو التأويل التكليفى. قال تعالى: {إن سنلقى عليك قولاً ثقيلاً} (4) وقال سبحانه: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} (5) .
فإن الذى يخلو ذهنه من السيرة النبوية التى تصور الواقع الذى عاشه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى التنزيل القرآنى لا يستطيع أن يتصور واقع ما تشير إليه تلك الآيات وغيرها المتكلمة عن الوحي وما فيه، وما يتطلبه تصور ذلك من صفاء وطهر واستعداد وأهلية تجعله على مستوى ما لدى هذه الآيات ليتفاعل معها، وتتفاعل معه فى إطار ما تضمنته من هبات ربانية. ومما روته كتب السنة النبوية كاشفة عن أحواله صلى الله عليه وسلم فى التنزيل القرآنى ما يلى: عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة" (1) . وعن عبادة بن الصامت رضى الله عنه (2) قال: "كان نبى الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي كُرِبَ لذلك وَتَرَبَّدَ له وَجْهُهُ…" (3) .
وعن يعلى بن أمية رضى الله عنه (1) قال: "وددت أنى قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي؟ فقال عمر: تعال أيسرك أن تنظر إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عليه الوحي؟ قلت: نعم. فرفع طرف الثوب، فنظرت إليه له غطيط (2) وأحسبه قال: كغطيط البكر…" (3) . وعن عائشة رضى الله عنها قالت: "ولقد رأيته "أى النبى صلى الله عليه وسلم" ينزل عليه الوحي فى اليوم الشديد البرد، فيفصم "أى يقلع" عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً" (4) . وفى رواية عنها قالت: "إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها" (5) .
وعن زيد بن ثابت رضى الله عنه (1) قال: "كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا نزل عليه أخذته بُرَحاء (2) شديدة، وعرق عرقاً شديداً مثل الجُمان (3) ثم سرى عنه. وكنت أكتب وهو يملى على، فما أفرغ حتى تكاد رجلى تنكسر من ثقل الوحي، حتى أقول: لا أمشى على رجلى أبداً" (4) . وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: "كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدوى (5) النحل، فأنزل عليه يوماً فمكثنا ساعة فسرى عنه فاستقبل القبلة، ورفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وأرض عنا" (6) .
وعن عائشة رضى الله عنها أن الحارث بن هشام رضى الله عنهما (1) سُأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحياناً يأتينى مثل صلصلة (2) الجرس، وهو أشده على فيفصم عنى، وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لى الملك رجلاً فيكلمنى فأعى ما يقول" (3) وهذه الصلصلة أو الدوى هو صوت الملك بالوحي، ولا تعارض بينهما. قال ابن حجر (4) : "فدوى النحل لا يعارض صلصلة الجرس، لأن سماع الدوى بالنسبة إلى الحاضرين، كما قال عمر: يسمع عنده كدوى النحل، والصلصلة بالنسبة للنبى صلى الله عليه وسلم، فشبهه عمر بدوى النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه" (5) .
9- وعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما (1) قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هل تحس بالوحي؟ فقال: أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إلىَّ إلا ظننت أن نفسى تقبض" (2) . ... فهذه الروايات تبين لك إلى أى مدى يستلزم الوحي الإلهى من استعداد خاص، وتجرد عن عالم البشر، وإلى ما لاقى النبى صلى الله عليه وسلم من معاناة أثناء تنزيل الوحي عليه، حتى أن الملامس لجسده الشريف، كان يشعر به كما مر من حديث زيد بن ثابت رضى الله عنه. ... فإذا رجعت للآيات الكريمة والتى تتكلم عن الوحي، تستطيع الآن أن تتفقهها؛ لا فى إعجازها المجرد، وإنما فى هيئة وقعها الحى على صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، ومن عايشه بها من صاحبته رضوان الله عليهم أجمعين. ... ولتنظر الان كيف تتناول كتب التفسير للقرآن الكريم آية من تلك الآيات وهى قوله تعالى: {إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلا} (3) بالتفسير والشرح لنرى أى التفاسير أقرب فى تيسير فهم الآية؛ التفسير اللغوى، أو التصوير البيانى، أو التأويل التكليفى، أو التفسير بالمأثور من السنة النبوية، والسيرة العطرة؟. ... جاء فى تفسير الألوسى: "قولاً ثقيلاً": هو القرآن العظيم، فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة، ثقيل على المكلفين، سيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه مأمور بتحملها وتحميلها للأمة. ونحو هذا جاء فى تفسير الكشاف (4) . وقيل: ثقيل فى الميزان، وهو اختيار ابن جرير الطبرى (5) .
وقيل: ثقله على الكافرين والمنافقين بإعجازه ووعيده، وقيل غير ذلك (1) . ... وفى تفسير القرطبى: قولاً ثقيلاً: صلاة الليل! أى سنلقى عليك بافتراض صلاة الليل قولاً ثقيلاً يثقل حمله، لأن الليل للمنام، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل شديد على النفس، ومجاهدة للشيطان فهو أمر يثقل على العبد" (2) . ... وفى تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ثقيلاً: أى ثقيل وقت نزوله من عظمته، ثم ساق الروايات السابقة التى تبين أحوال النبى صلى الله عليه وسلم وقت نزول الوحي عليه" (3) . ... ومن كل ما سبق من أوجه التفسير، يتبين لك كيف أن التفسير الذى اعتمد على المأثور من سنة النبى صلى الله عليه وسلم، وسيرته العطرة، كان من أقرب وأقوى التفاسير فى تيسير فهم الآية، مع صحة بقية الأوجه الأخرى فى تفسيرها. وتبدو أهمية السيرة العطرة فى فهم القرآن الكريم من خلال الاستعانة بها فى تقييد مطلق الآيات القرآنية، أو تخصيص عامها؛ وهذه ناحية هامة جداً يترتب عليها كثير من الأحكام الشرعية. أ- فمثال تخصيص السيرة العطرة لعام القرآن الكريم: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (4) فالظاهر من قوله تعالى: "وأرجلكم" الأمر بغسل الرجلين على قراءة النصب عطفاً على قوله تعالى "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم" وهو الواجب أيضاً على قراءة الخفض عطفاً على قوله {وامسحوا برؤسكم} فالمراد بمسح الرجلين غسلهما (5) .
.. وقد توهم بعض السلف (1) كما توهم الخوارج والروافض أن هذه الآية ناسخة لرخصة المسح على الخفين، وقد روى ذلك عن على بن أبى طالب رضى الله عنه (2) ولكنه لم يصح إسناده، ثم الثابت عنه خلافه (3) . ... ودعوى النسخ مردودة بما ورد فى السيرة العطرة من فعله صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين بعد نزول آية المائدة، ويدل على ذلك ما روى عن جرير بن عبد الله البجلى رضى الله عنه (4) حيث بال ثم توطأ، ومسح على خفيه. فقيل: أتفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ، ومسح على خفيه. قال: إبراهيم (5)
: فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة" (1) وهو ما صرح به جرير رضى الله عنه رداً على من تأول أن مسح النبى صلى الله عليه وسلم على الخفين قبل نزول المائدة، فأجاب قائلاً: "ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة" (2) .
.. فإذا كانت آية المائدة نزلت فى غزو المريسيع سنة خمس، وقيل سنة ست هجرية، ومسحه صلى الله عليه وسلم كان فى غزوة تبوك سنة تسع هجرية على ما جاء فى رواية المغيرة بن شعبة (1) فإن هذا يدل على أن فعله صلى الله عليه وسلم محكم وأنه مع الآية الكريمة يخصص عمومها. ... قال الإمام النووى (2) : "فلو كان إسلام جرير متقدماً على نزول المائدة لاحتمل كون حديثه فى مسح الخفين منسوخاً بآية المائدة، فلما كان إسلامه متأخراً علمنا أن حديثه يعمل به، وهو مبين أن المراد بآية المائدة غير صاحب الخف، فتكون السنة المطهرة مخصصة لعموم الآية" (3) .
.. على أنه قد يقال: قد ثبت فى آية المائدة القراءة بالجر "وأرجلكم" عطفاً على الممسوح وهو الرأس، فيحمل على مسح الخفين كما بينته السيرة النبوية، ويتم ثبوت المسح بالكتاب والسيرة، وهو أحسن الوجوه التى توجه بها قراءة الجر. ... وعلى جواز المسح على الخفين فى السفر والحضر، سواء كان لحاجة أو لغيرها إجماع من يعتد به فى الإجماع، ولا يعتد بإنكار الشيعة والخوارج لتلك الرخصة، ولا بخلافهم فى ذلك (1) .
.. قال الحافظ ابن كثير (1) : "وقد ثبت بالتواتر (2) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية المسح على الخفين قولاً منه وعملاً (3) وقد خالفت الروافض ذلك كله بلا مستند، بل بجهل وضلال، مع أنه ثابت فى صحيح مسلم من رواية أمير المؤمنين علىَّ بن أبى طالب رضى الله عنه (4)
مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق ما دلت عليه آية المائدة، وهم مخالفون لذلك كله، وليس لهم دليل صحيح فى نفس الأمر" (1) . فتأمل كيف كانت أهمية السيرة العطرة فى فهم القرآن الكريم من خلال الاستعانة بها فى تخصيص عام غسل الرجلين فى قوله تعالى "وأرجلكم" بما ورد فى السيرة العطرة من فعله صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين، ورد دعوى نسخ آية المائدة لتلك الرخصة النبوية. ب- ومثال تقييد السيرة العطرة لمطلق القرآن الكريم قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم} (2) وهذه الآية الكريمة مطلقة لم تقيد قطع اليد بموضع محدد، لأن اليد تطلق على الأصابع، والكف، والرسغ، والساعد، والمرفق، والعضد. ولكن السيرة العطرة بينت ذلك، وقيدت القطع بمقدار الكف فقط من يد واحدة. وذلك حينما أتى بسارق إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقطع يده من مفصل الكف (3) . ... فلولا السيرة العطرة لما استطعنا فهم المراد من الآية الكريمة، ولما استطعنا إقامة الحد على وجهه الصحيح. ... والذى أخلص إليه من كل ما تقدم، التأكيد على أن أهمية السيرة النبوية فى تفسير القرآن الكريم، والوقوف من خلالها على فهم أدق وأقرب لآيات القرآن هو أمر فى غاية الجلاء. ... وهو وإن كان لا يخلو من الاعتماد عليه كتاب تفسير، إلا أن المطلوب إنما هو التركيز عليه، بحيث لا يطغى الاهتمام بالشكل، والأمور الجانبية على هذا الفحوى والمضمون؛ وهو ما يشاهد فى غالبية كتب التفسير، الأمر الذى أصبح يشكل عبئاً ظاهراً فى تناول أمر هداية القرآن حتى على طلبة العلم والمتخصصين منهم.
ثانيا: أهمية السيرة العطرة فى فهم السنة الشريفة:
فإن هذه العلوم مِنْ لغوية - نحوية، وبلاغية - وغيرها وإن كانت وسائل يستعان بها على فهم القرآن، والوقوف على أسرار بيانه، إلا أنه لا ينبغى أن تكون هى الشغل الشاغل عن الهداية العملية للقرآن، هذه التى سرت روحها فى الرعيل الأول، فتفجرت منها ينابيع العلم والمعارف، ودانت لهم الدنيا بأسرها. ... فكيف إذا جاوز الأمر الوقوف على الوسائل إلى قضايا جانبية من القضايا الفلسفية، والأهواء الشخصية، فإنه عند ذلك يبعد كثيراً عن القصد ولا يحقق المطلوب (1) . أهـ ثانياً: أهمية السيرة العطرة فى فهم السنة الشريفة: ... لا تقف أهمية السيرة النبوية فى فهم القرآن الكريم فقط، بل تتعدى تلك الأهمية إلى السنة المطهرة. ... فدراسة السيرة تفيدنا فى معرفة حقيقة الأوامر والنواهى فى السنة النبوية، فقد يرد الأمر أو النهى فى السنة النبوية، ولا نعلم هل هذا الأمر على الوجوب، أو على الإرشاد، أو هو منسوخ! ولا نعلم النهى أيضاً هل على التحريم، أو التنزيه، أو هو منسوخ! فتأتى السيرة العطرة لتبين لنا الحكم الدقيق فى المسألة. أ- مثال الأمر: ما ورد فى الوضوء مما مسته النار: ... فعن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضأوا مما مست النار" (2) وفى الباب عن أبى هريرة، وزيد بن ثابت (3) وغيرهم.
.. فالظاهر هنا من قوله صلى الله عليه وسلم: "توضأوا" أن الوضوء مما مسته النار واجب، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين (1) ، ولكن ما ورد فى السيرة العطرة من فعله صلى الله عليه وسلم يبين حقيقة هذا الأمر، وأنه منسوخ على وجه، ومحمول على الاستحباب لا على الوجوب على وجه آخر؛ يدل على ذلك ما يلى: عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى، ولم يتوضأ" (2) ونحوه عن عمرو بن أمية الضمرى رضى الله عنه (3) . وعن ميمونة زوج النبى صلى الله عليه وسلم (4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ" (5) .
وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه (1) قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار" (2) وأصل هذا الحديث رواه البخارى فى صحيحه أن جابر بن عبد الله رضى الله عنه سأل عن الوضوء مما مست النار، فقال: لا، قد كنا زمان النبى صلى الله عليه وسلم لا نجد مثل ذلك من الطعام إلا قليلا، فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفَّنا وسواعدنا وأقدامنا، ثم نصلى ولا نتوضأ" (3) .
وللحديث شاهد من حديث محمد بن مسلمة رضى الله عنه (1) قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل آخر أمره لحماً، ثم صلى، ولم يتوضأ" (2) . وعلى ذلك جمهور الصحابة، ففى الموطأ روى موقوفاً، مفرقاً ومجمعاً عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، وعامر بن ربيعة العنزى، وابن عباس، رضوان الله عليهم أجمعين – أنهم كانوا لا يتوضئون مما مست النار" (3) .
4- وروى أن أنس بن مالك رضى الله عنه قدم من العراق، فدخل عليه أبو طلحة، وأبى بن كعب، فقرب لهما طعاماً قد مسته النار، فأكلوا منه. فقام أنس فتوضأ، فقال أبو طلحة، وأبى بن كعب: ما هذا يا أنس؟ أعراقية؟ (1) فقال أنس: ليتنى لم أفعل. وقام أبو طلحة، وأبى بن كعب، فصليا ولم يتوضآ" (2) . ... ففى هذه الروايات ما يدل على أن الأمر فى قوله صلى الله عليه وسلم: "توضأوا مما مست النار" محمول على الاستحباب، لا على الوجوب، وهذا قول بعض العلماء الذين ذهبوا إلى الجمع بين الروايات (3) . ... أما الجمهور من العلماء فعلى أن أحاديث الوضوء مما مست النار منسوخة برواية جابر بن عبد الله، ومحمد بن مسلمة، وغيرها من الروايات السابقة المرفوعة والموقوفة (4) . ... فتأمل كيف كانت أهمية السيرة العطرة فى فهم حقيقة الأمر الوارد فى السنة النبوية، وأنه ليس مراداً، إذ هو محمول على الاستحباب على وجه الجمع بين الروايات – على رأى بعض العلماء – ومنسوخ على رأى الجمهور. ب- ومثال النهى: ما ورد فى النهى عن الشرب قائماً:
.. فعن أنس بن مالك رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم، أنه نهى أن يشرب الرجل قائماً: قال: قتادة: فقلنا: فالأكل؟ فقال: ذاك أشر أو أخبث" (1) ونحوه عن أبى سعيد الخدرى، وأبى هريرة بزيادة "فمن نسي فليستقئ" (2) . ... فالظاهر هنا من أن هذا النهى النبوى، أن الشرب من قيام حرام، ولاسيما بعد قوله فى رواية أبى هريرة السابقة "فمن نسى فليستقئ" فإن ذلك يدل على التشديد فى المنع، والمبالغة فى التحريم. ... ولكن روى فى السيرة العطرة من فعله صلى الله عليه وسلم ما يبين حقيقة هذا النهى، وأنه ليس للتحريم: فعن أبى عباس رضى الله عنهما قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب قائماً (3) .
وروى أن على بن أبى طالب رضى الله عنه أتى باب الرحبة (1) بماء فشرب قائماً. فقال: إن ناساً يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتمونى فعلت" (2) . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل على أم سليم، وفى البيت قربة معلقة فشرب من فيها وهو قائم، قال: فقطعت أم سليم فم القربة (3) فهو عندنا (4) . وروى أن كبشة بنت ثابت الأنصارى – وهى أخت حسان بن ثابت رضى الله عنهما لما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها قربة معلقة، فشرب منها وهو قائم، فقطعت فم القربة تبتغى بركة موضع فىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم" (5) .
ثالثا: أهمية السيرة العطرة فى إثبات أن للمسلمين تاريخا وحضارة:
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائماً وقاعداً" (1) . فهذه الروايات وغيرها تدل دلالة قاطعة على أن أحاديث النهى عن الشرب قائماً تحمل على الاستحباب، والحث على ما هو أولى وأكمل، وليس النهى للتحريم على ما جزم به ابن حزم، ولا الكراهة (2) على ما ذهب إليه البعض (3) . وللحافظ ابن حجر: إذا رمت تشرب فاقعد تفز ... *** ... بسنة صفوة أهل الحجاز وقد صححوا شربه قائماً ... *** ... ولكنه لبيان الجواز (4) . ... فتأمل كيف كانت أهمية السيرة العطرة فى حل ما ظاهره التعارض والتناقض من الأحاديث، ببيان حقيقة المراد بالنهى النبوى عن الشرب قائماً، وأنه محمول على الاستحباب، والحث على ما هو أولى وأكمل حال الشرب. وليس النهى للتحريم ولا الكراهة. ودليل ذلك كله سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشرب قائماً أهـ والله أعلم. ثالثا: أهمية السيرة العطرة فى إثبات أن للمسلمين تاريخاً وحضارةً: ... السيرة النبوية هى مصدر لكل معرفة، وهى مفتاح نهضة المسلمين وحضارتهم، وهى فوق كل هذا الهيكل الحديدى الذى قام عليه صرح الإسلام، والعمل بها حفظ لكيان الإسلام وتقدمه، وتركها هدم لدين الإسلام، وتأخر المسلمين.
.. فها هو ذا مشرك ينطق بشمول السيرة النبوية العطرة لكل أمور الحياة، معترفاً على نفسه، ومن كل شاكلته؛ بأنهم يحرصون على معرفة تعاليم السيرة. فعن سلمان رضى الله عنه (1) أنه قيل له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شئ حتى الخراءة؟ قال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجى باليمين، أو أن نستنجى بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجى برجيع أو بعظم" (2) . ... وانظر إلى قول السائل: "لقد علمكم نبيكم كل شئ" تجد أنها تدل على تتبع هؤلاء لأمور السنة النبوية والسيرة العطرة، واعترافهم – مع أهلها – بشمولها لكل أمور الحياة (3) . ... ويقول العلامة المجرى المسلم: محمد أسد (ليوبولدفايس) فى بيان أهمية السيرة العطرة فى تاريخ المسلمين وحضارتهم قال: "لقد كانت السيرة النبوية مفتاحاً لفهم النهضة الإسلامية منذ أكثر من خمسة عشر قرناً، فلماذا لا تكون مفتاحاً لفهم انحلال الحاضر؟ ... إن العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة هو عمل على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدمه، وإن ترك السنة والسيرة هو انحلال الإسلام، لقد كانت السنة والسيرة الهيكل الحديدى الذى قام عليه صرح الإسلام، وإنك إذا أزلت هيكل بناء ما! أفيدهشك بعد أن يتقوض ذلك البناء كأنه بيت من ورق؟ " (4) . ... إن الطعن فى السيرة العطرة والسنة المطهرة طعن فى حقيقة الإسلام قرآناً وسنة، وتاريخاً، وحضارةً!!
.. لأنه مما لا يخفى أن القرآن الكريم إنما نزل لهداية البشر إلى مصالحهم الدينية والدنيوية، ولهذا بين لهم طريق العمل، وسبل النجاح، وأعلن أن الأمة التى تعمل بهذا القانون تكون لها الخلافة فى الأرض، وتنال من السعادة، والسيادة مالا يزيد عليه، وتكون خير أمة أخرجت للناس. وكل من لم يعمل بهذا القانون يكون ذليلاً مهاناً فى الأرض، وشقياً فى الدنيا والآخرة. ... فإذا سألنا أحد: هل وجدت أمة فى زمن من الأزمان عملت بهذا القانون؟ وهل نالت به ما وعدت؟ ومتى كانت هذه الأمة؟ وكيف كانت طريقة عملها بهذا القانون؟ وأين التاريخ الصحيح لأعمالها؟. ... نقول له: نعم. وجدت أمة عظيمة عملت بهذا الكتاب الحكيم، واتخذته قانوناً أساسياً لها مدة كبيرة، فصدقها الله وعده، وأنعم عليها بالخلافة، والسيادة فى الأرض، وامتد سلطانها إلى مشارق الأرض ومغاربها، وكانت أمة لا نظير لها فى تاريخ العالم، وتاريخ أعمالهم المجيدة، وطريقة تنفيذهم لأحكام القرآن، وكيفية عملهم بها، كل ذلك ثابت محفوظ بصورة عديمة المثال، فإنه لا يوجد تاريخ لأمة من الأمم يبين عملها وتمسكها فى كل شئونها بقانونها مثل تاريخ هذه الأمة. ... هذه الأمة هى: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، وهذا التاريخ هو السنة النبوية، والسيرة العطرة، فبهما يعلم كيف عمل الرسول وأصحابه بالقرآن، وبهما يعرف أن القرآن قانون قد عمل به، ونجحت أصوله الإدارية، والسياسية، والمدنية، والأخلاقية… الخ وليس هو مجموعة نظريات محتاجة للإثبات بالتجربة والتطبيق!!. ... وأما إذا عملنا برأى المنكرين للحديث والسيرة العطرة الواردة فى السنة، يضيع تاريخ الإسلام الذهبى ولا يقدر أحد أن يثبت أن القرآن قد عملت به أمة من الأمم، ونجحت فى تأسيس حكومة إسلامية مطبقة لتعليماته. فهل يرضى المسلمون بهذا؟.
.. لا والله، لا المسلمون يرضون بهذا، ولا العلم، ولا التاريخ يرضيان بهذا! {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً} (1) أهـ. والله تعالى أعلى وأعلم.
الباب الأول:عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه ودفع الشبهات
الباب الأول:عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه ودفع الشبهات ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: عصمته صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه كما يصورها القرآن الكريم والسنة النبوية ويشتمل على تمهيد ومبحثين: ... المبحث الأول: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى عقله من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية. ... المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى بدنه من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية. الفصل الثانى: شبه الطاعنين فى سلامة عقله وبدنه والرد عليها ويشتمل على تمهيد ومبحثين: ... المبحث الأول: شبهاتهم من القرآن الكريم والرد عليها. ... المبحث الثانى: شبهاتهم من السنة النبوية والرد عليها. الفصل الأول: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه كما يصورها القرآن الكريم والسنة النبوية ... ويشتمل على تمهيد ومبحثين: المبحث الأول: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى عقله من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة. المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى بدنه من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة. تمهيد ... عصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فى عقيدتنا أصل من أصول الإيمان والإسلام، وهى عقيدة لا تنفك عن شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. والطعن فى هذه العصمة طعن فى هذه الشهادة، ولم لا وهى دليلنا على حجية الوحي الإلهى (قرآناً وسنةً) وهى دليلنا على الاقتداء الشامل برسول الله صلى الله عليه وسلم على ما سبق تفصيله (1) .
.. ومرادى فى هذا الفصل، بيان عصمته صلى الله عليه وسلم فى بدنه من القتل، وفى قلبه، وعقيدته من الكفر والشرك، والضلال، والغفلة، والشك، وعصمته من تسلط الشيطان عليه، مع بيان كمال عقله، وخلقه صلى الله عليه وسلم، وأنه كما قال فيه ربه عز وجل: {والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى إن هو إلى وحى يوحى} (1) وقال سبحانه: {ما كذب الفؤاد ما رأى} (2) وقال عز وجل: {ما زاغ البصر وما طغى} (3) . ... إن كمال العقل وعصمته من الكفر والشرك والشك، ومن تسلط الشيطان عليه؛ صفة أساسية فى رسل الله عز وجل، وشرط ضرورى من شروط رسالة جميع الرسل؛ وهى جزء من الكمال البشرى الذى كملهم الله عز وجل به، وهو عامل مهم، وسبب قوى من أسباب تبليغ رسالة ربهم إلى أقوامهم. ... وإذا كان الكمال العقلى صفة أساسية فى رسل الله عز وجل، فإمامهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. والقارئ لسيرته صلى الله عليه وسلم لا يشك فى أنه صلى الله عليه وسلم كان أعقل الناس وأذكاهم (4) . ... ولم لا وقد كانت نشأته صلى الله عليه وسلم، منذ ولدته أمه إلى أن بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين، أكمل نشأة، تولاه الله تعالى فأدبه ورباه فكمله، ورعاه فحفظه مما كان يشين حياة قومه من وثنية، وعادات مسترذلة، حتى غدا أكمل إنسان فى بشريته، لم يستطع أحد أن يريبه فى حياته، أو يزن شبابه بغميزه أو ريبة على كثرة الخصوم، والأعداء المتربصين، فضلاً من الله ونعمة، والله ذو الفضل العظيم (5) .
.. وبذلك الفضل العظيم تحدث المصطفى صلى الله عليه وسلم بنعمة ربه عز وجل قائلاً "أدبنى ربى فأحسن تأديبى" (1) . ... وقد أجمعت الأمة على هذا الأدب الربانى، وأن حياة نبيها صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وبعدها أمثل حياة وأكرمها وأشرفها، فلم تعرف له فيها هفوة، ولم تحص عليه فيها زلة، بل إنه امتاز بسمو الخلق، ورجاحة العقل، وعظمة النفس، وحسن الأحدوثة بين الناس، ثم نبأه الله وبعثه، فنمت فيه هذه الفضائل وترعرعت حتى أضحت حياته فريدة فى تاريخ هذه الحياة الدنيا. ... فمن أين له هذا؟ وهو اليتيم الذى تعرض منذ طفولته لمحنة اليتم، والفقر! وهو الأمى الذى لم يجلس طيلة حياته إلى معلم يثقف عقله! وهو الذى نشأ فى بيئة سيطرت عليها الجاهلية، سيطرة كاملة فى مجال العقيدة والفكر، وفى مجال الأخلاق والسلوك، وطبعت الناس بطابعها البغيض حتى لا تكاد تجد إنساناً يسلم من وراثة البيئة، وعدوى التقاليد الجاهلية الموروثة عن الآباء والأجداد.
.. فكيف نجا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك المؤثرات القوية؟ ... إن الإنسان العادى قد يستطيع أن تعاف نفسه شيئاً يكرهه ولا يستسيغه بحكم الفطرة السليمة لكن من المحال عقلاً أن يعيش فى عزلة روحية كاملة، وهجرة نفسية تامة لقومه، فيسلم له عقلة من الخرافات، وتسلم روحه من الجهالات، ويسلم وجدانه من التلون بشئ يغضب الله عزوجل. ... نعم لقد كان فى المجتمع العربى حنيفيون وحدوا الله ودعوا إلى توحيده، وكان هناك كرماء، وكان هناك أوفياء، وكان هناك أناس عرفوا بالعفة والتنزه عن الفواحش، ولكن كان عزيزاً جداً أن تجد فى هذه البيئة إنساناً جمع الله فيه كل هذه الصفات وغيرها مثل ما جمع الله ذلك فى النبى محمد صلى الله عليه وسلم 0 ... إنك لا تستطيع أن تدرك سر كمال عقله وعقيدته وأخلاقه، وبراءته من كل نقائص ومثالب بيئته التى نشأ فيها إلا أن تقول: إنه الإعداد الإلهى للنبوة و {الله أعلم حيث يجعل رسالته} (1) . ... إنها العصمة الربانية! تلك التى حفظته صلى الله عليه وسلم، من بيئة الجاهلية أربعين عاماً، لم يصبه أذى من غبارها، فشب أكمل الناس خَلقاً وخُلقاً، ودلائل تلك العصمة الإلهية متوافرة فى كتاب الله عزوجل، وسيرته العطرة، فإلى بيانها فى المبحث التالى:
المبحث الأول: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى عقله
المبحث الأول: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى عقله من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية ... تجلت رعاية الله عز وجل وعصمته لرسوله صلى الله عليه وسلم فى قلبه، وعقيدته من الكفر والشرك، والضلال، والغفلة، والشك، وعصمته من تسلط الشيطان عليه، وهو فى عالم الذر، وتحدث الوحي الإلهى (قرآناً وسنةً) بذلك بياناً لمنَّة الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً} (1) . ... ووجه الاستدلال بالآية أنه إذا عهد إلى الأنبياء جميعاً وهم فى عالم الذر بتبليغ دينه، وتوحيده. دل ذلك على عصمتهم فى عقولهم وعقيدتهم، فلا يصدر عنهم ما يخالف ذلك لا قبل النبوة ولا بعدها، ولا يقول بغير ذلك إلا من يرد على الله عز وجل كلامه باصطفائهم وعصمتهم!. ... وقال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذالكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} (2) .
.. وهذا غاية التكريم من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم بأخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا به، وينصروه إن ظهر فى زمانهم، وفى ذلك إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم نبى الأنبياء (1) وفى السنة المطهرة ما يؤكد الآية الكريمة، فعن ميسرة الفجر رضى الله عنه (2) قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم متى كنت نبياً؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" (3) .
.. وعن العرباض بن سارية رضى الله عنه (1) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنى عبد الله وخاتم النبين، وأبى منجدل فى طينته، وسأخبركم عن ذلك، أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمى آمنة التى رأت، وكذلك أمهات المؤمنين يرين، وأن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته له نوراً أضاءت لها قصور الشام، ثم تلا: {يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا. وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} (2) . ... والشاهد مما سبق أن الله عز وجل اصطفى أنبياءه ورسله وهم فى عالم الذر بتبليغ دينه وتوحيده، وفضل بعض النبيين على بعض، فجعل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم إمامهم، وأخذ منهم الميثاق فى عالم الأزل بالإيمان بنبوته ونصرته. ... وبعيد أن يأخذ منه الميثاق قبل خلقه، ثم يأخذ ميثاق النبيين بالإيمان به ونصره قبل مولده بدهور، ويجوز عليه ما يناقض عصمته فى عقله وعقيدته من الشرك، أو الشك، أو غيره من الذنوب صغائر كانت أم كبائر فهذا مالا يجوزه إلا ملحد (3) .
أ- عصمته صلى الله عليه وسلم من كيد إبليس وجنوده:
.. وعليه فلا معنى لإثارة الخلاف حول عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قبل نبوتهم من المعاصى كبائرها وصغائرها من حيث الوقوع أو عدمه، أو من حيث امتناعه سمعاً أوعقلاً!. ... فعصمة الرسل والأنبياء مبنية على إرادة إلهية، وهى اصطفاء الله عز وجل لهم، وعصمتهم من كل ما يخل بهذا الاصطفاء، قبل نبوتهم وبعدها، وهم فى عالم الغيب لم يخلقوا بعد! ... وإليك نماذج من دلائل عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أ- عصمته صلى الله عليه وسلم من كيد إبليس وجنوده: ... حفظ الله عز وجل عباده المخلصين من كيد إبليس وجنوده فلا سبيل له عليهم كما قال عزوجل: {إن عبادى ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا} (1) واعترف إبليس بعجزه عن الكيد لهم فحكى عنه رب العزة قوله: {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين} (2) . ... ولا شك أن أنبياء الله عز وجل ورسله، وعلى رأسهم خاتمهم صلى الله عليه وسلم على قمة عباد الله المخلصين الذين عصمهم رب العزة من كيد إبليس وجنوده. ... والمراد بعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيطان قال فيها القاضى عياض: "واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبى صلى الله عليه وسلم من الشيطان وكفايته منه، لا فى جسمه بأنواع الأذى - كالجنون والإغماء - ولا على خاطره بالوساوس" (3) . ... ولا عبرة بمن خرج عن المفهوم السابق لعصمة رسول صلى الله عليه وسلم من أعداء الإسلام وأعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة. ... وقد دل على المفهوم السابق القرآن الكريم والسنة المطهرة.
.. أما القرآن الكريم: فقد ورد فيه تعرض الشيطان لبعض الأنبياء فى أجسامهم ببعض الأذى، وعلى خاطرهم بالوسوسة، مع عصمة الله عز وجل لهم بعدم تمكن الشيطان من إغوائهم، أو إلحاق ضرر بهم يضر بالدين. قال تعالى: {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب} (1) وقال سبحانه: {فأذلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه} (2) وقال عز وجل: {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين} (3) وقال جل جلاله: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} (4) . ... وليس فى هذه الآيات الكريمات ونحوها ما يتعارض مع قوله تعالى: {إن عبادى ليس لك عليهم سلطان} (5) . ... أما السنة المطهرة: فقد ورد فيها ما يؤكد ما ورد فى القرآن الكريم من تعرض الشياطين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى غير موطن رغبة فى إطفاء نوره، وإماتة نفسه، وإدخال شغل عليه، ولكن كانت عصمة الله عز وجل له حائلة دون تمكن الشياطين من إغواءه، أو إلحاق ضرر به. ومن هذه الأحاديث التى تدل على ما سبق، وأنكرها أعداء السيرة العطرة (6) ما يلى:
عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وإياى. إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم. فلا يأمرنى إلا بخير" (2) . وقوله: "فأسلم" برفع الميم وفتحها، روايتان مشهورتان، فمن رفع قال: معناه: أَسْلَم أنا من شره وفتنته. ومن فتح قال: إن القرين أسلم من الإسلام، وصار مؤمناً لا يأمرنى إلا بخير. وصحح الخطابى وغيره رواية الرفع، ورجح عياض والنووى والزرقانى الفتح، لأنه ظاهر الحديث فى قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا يأمرنى إلا بخير" ولقوله صلى الله عليه وسلم: "فضلت على الأنبياء بخصلتين. كان شيطانى كافراً فأعاننى الله عليه حتى أسلم، قال أبو هريرة راوى الحديث، ونسيت الخصلة الأخرى" (3) .
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عفريتاً من الجن جعل يفتك (1) علىَّ البارحة ليقطع على الصلاة. وإن الله أمكننى منه فذعته (2) . فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سوارى المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون، أو كلكم، ثم ذكرت قول أخى سليمان: رب اغفر لى وهب لى ملكاً لا ينبغى لأحد من بعدى. فرده الله خاسئاً" (3) . وعن أبى الدرداء رضى الله عنه (4) قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك" ثم قال: "ألعنك بلعنة الله" ثلاثاً. وبسط يده كأنه يتناول شيئاً. فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله! قد سمعناك تقول فى الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك. ورأيناك بسطت يدك. قال: "إن عدو الله، إبليس، جاء بشهاب من نار، ليجعله فى وجهى، فقلت: أعوذ بالله منك. ثلاث مرات. ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر. ثلاث مرات. ثم أردت أخذه، والله! لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة" (5) .
وعن عبد الرحمن بن خنبش رضى الله عنه (1) لما سئل كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كادته الشياطين. قال: تحدرت عليه الشياطين من الجبال والأودية، يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وفيهم شيطان وبيده شعلة من نار، يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فزع منهم، فجاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد قل، فقال: ما أقول؟ قال: قل: "أعوذ بكلمات الله التامات، التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق، وذرأ وبرأ، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن" قال: فقالهن، فطفئت نار الشياطين، وهزمهم الله عز وجل" (2) . بالتأمل فى الروايات السابقة تجد أن الله عز وجل عصم رسوله صلى الله عليه وسلم من قرينه الجنى بإسلامه، فلا يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بخير.
وكذلك عصمه الله عز وجل من سائر شياطين الجن عندما تعرضوا له فى غير موطن. منها فى الصلاة عندما تعرض له عفريت من الجن، وفى رواية إبليس، وأراد إدخال شغل عليه فى الصلاة، فتمكن منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخنقه، وهمَّ بربطة فى ساريه من سوارى المسجد، حتى يراه أهل المدينة إلا أنه صلى الله عليه وسلم تركه، ودفعه دفعاً شديداً، وترك ما هَّم به عندما تذكر دعوة سيدنا سليمان {رب هب لى ملكاً لا ينبغى لأحد من بعدى} (1) والنتيجة كما جاء فى روايات الحديث: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا العاتى المارد من الجن أو إبليس كما جاء فى رواية أبى الدرداء، ورده الله خاسئاً. وكذلك تبين رواية عبد الرحمن بن خنبش عصمة رب العزة لرسوله صلى الله عليه وسلم من الشياطين لما تحدرت عليه من الجبال والأودية، يريدون حرقه وقتله، حيث نزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه كلمات إذا قالهن نجا من كيدهم، فقالهن صلى الله عليه وسلم، فطفئت نار الشياطين، وهزمهم الله عز وجل.
ب- عصمته صلى الله عليه وسلم من الجهالات:
وهكذا كانت عصمة المولى عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم من الشياطين حتى مرض وفاته الذى لده فيه (1) بعض الحاضرين عنده بغير إذنه، ولما سألهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالوا: خشينا أن يكون بك ذات الجنب (2) فبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذات الجنب من الشيطان وهو معصوم منه. قائلاً: "إنها من الشيطان، ولم يكن الله عز وجل ليسلطه علىَّ" (3) . ب- عصمته صلى الله عليه وسلم من الجهالات:
.. شب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحفظه الله عز وجل، ويعصمه من أقذار الجاهلية ومعائبها، ويتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مظاهر عصمة الله عز وجل له فى صغره، وقبل النبوة قائلاً: 1- "ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون بها إلا مرتين الدهر، كلتاهما يعصمنى الله عز وجل منها، قلت ليلة لفتى من قريش بأعلى مكة فى أغنام لأهلنا نرعاها: انظر غنمى حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم فخرجت، فجئت أدنى دار من دور مكة، سمعت غناء وضرب دفوف وزمراً، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانة، لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء، وبذلك الصوت حتى غلبتنى عينى، فما أيقظنى إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبى فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ففعل، فخرجت، فسمعت مثل ذلك، فقيل لى مثل ما قيل لى، فلهوت بما سمعت حتى غلبتنى عينى، فما أيقظنى إلا مس الشمس، ثم رجعت إلى صاحبى، فقال لى! ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمنى الله عز وجل بنبوته" (1)
جـ- عصمته صلى الله عليه وسلم من التعرى
.. وفيما قصه النبى صلى الله عليه وسلم عن نفسه من خبر حفظ الله إياه من كل سوء منذ صغره وصدر شبابه، ما يوضح لنا حقيقتين كل منهما على جانب كبير من الأهمية: الأولى: أن النبى صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً بخصائص البشرية كلها، وكان يجد فى نفسه ما يجده كل شاب من مختلف الميولات الفطرية التى اقتضت حكمة الله أن يجبل الناس عليها. فكان يحس بمعنى السمر واللهو، ويشعر بما فى ذلك من متعة، وتحدثه نفسه لو تمتع بشئ من ذلك كما يتمتع الآخرون. الثانية: أن الله عز وجل قد عصمه مع ذلك عن جميع مظاهر الانحراف، وعن كل مالا يتفق مع مقتضيات الدعوة التى هيأه الله لها، فهو حتى عندما لا يجد لديه الوحي أو الشريعة التى تعصمه من الاستجابة لكثير من رغائب النفس، يجد عاصماً آخر خفياً يحول بينه وبين ما قد تتطلع إليه نفسه مما لا يليق بمن هيأته الأقدار لتتميم مكارم الأخلاق، وإرساء شريعة الإسلام (1) . جـ- عصمته صلى الله عليه وسلم من التعرى ودفع ما يتوهم عكس ذلك: ... عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: "لما بنيت الكعبة ذهب النبى صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان حجارة، فقال العباس للنبى صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة. ففعل فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم قام فقال: "إزارى إزارى" فشد عليه إزاره، وفى رواية: فما رؤى بعد ذلك اليوم عرياناً" (2) .
.. وهذه القصة وما فيها من حفظه صلى الله عليه وسلم من التعرى قبل النبوة، وردت فى غير الصحيح عن ابن إسحاق عن أبيه عمن حدثه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لقد رأيتنى فى غلمان من قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإنى لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمنى لاكم ما أراه، لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك قال: فأخذته وشددته علىَّ ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتى وإزارى علىَّ من بين أصحابى" (1) . ... قال الحافظ ابن كثير: "هذه القصة شبيهة بما فى الصحيح عند بناء الكعبة حين كان ينقل هو وعمه العباس، فإن لم تكن فهى متقدمة عليها كالتوطئة" (2) . ... وقال الإمام السهيلى: "وهذه القصة إنما وردت فى الحديث الصحيح فى حين بنيان الكعبة، فإن صح أنه كان فى صغره، إذ كان يلعب مع الغلمان: فمحمله على أن هذا الأمر كان مرتين: مره فى صغره، ومره فى أول اكتهاله عند بنيان الكعبة" (3) .
.. قلت: هذه القصة فى حالة صغره لم تصح سنداً، وإنما هى نفس قصة بنيان الكعبة، وإلى هذا مال الحافظ فى الفتح، فبعد أن ذكر روايات بنيان الكعبة، وهو صلى الله عليه وسلم فى حالة كبره، والمؤيدة لما فى الصحيحين ذكر رواية الحاكم عن ابن عباس رضى الله عنهما (1) وهو صلى الله عليه وسلم فى حالة صغره، وقال فيها: "النضر أبو عمر الخزاز" ضعيف، وقد خبط فى إسناده، وفى متنه، فإنه جعل القصة فى معالجة زمزم بأمر أبى طالب وهو غلام، وكذا روى ابن إسحاق – إشارة إلى الرواية السابق ذكرها – ثم قال الحافظ: فكأن هذه قصة أخرى، واغتر بذلك الأزرقى فحكى قولاً: أن النبى صلى الله عليه وسلم لما بنيت الكعبة كان غلاماً". ... ثم أكد الحافظ أن القصة واحدة فى موضع آخر إذ يقول معقباً على كلام السهيلى السابق على رواية ابن إسحاق قائلاً: "قلت: وقد يطلق على الكبير غلام إذا فعل فعل العلماء، فلا يستحيل اتحاد القصة اعتماداً على التصريح بالأولية فى حديث أبى الطفيل رضى الله عنه قال: "فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة معهم إذ انكشفت عورته، فنودى يا محمد غط عورتك، فذلك فى أول ما نودى، فما رؤيت له عورة قبل ولا بعد" (2) .
فرية على عصمته صلى الله عليه وسلم من التعرى والرد عليها: ... رغم ما فى هذه القصة الصحيحة من عناية الله عز وجل بحفظ رسوله صلى الله عليه وسلم من التعرى؛ إلا أننا نجد بعض أعداء السيرة العطرة الواردة فى السنة المطهرة من يرى فى إثبات هذا الأمر فى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم: "خرافة، وأكذوبة مفضوحة، وشناعة، ليس الهدف منها إلا الحط من كرامة النبى صلى الله عليه وسلم والإساءة لمقامه الأقدس" (1) . ... ولست أدرى أى خرافة، أو كذب، أو شناعة أو…الخ فى عصمة الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم من التعرى عند بناء الكعبة المشرفة؟ ... إن الشناعة فى نظر الرافضى هى فى تعرى رسول الله صلى الله عليه وسلم! دون التفات منه لكيفية تعرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصمة الله عز وجل منه! إنه يتكلم عن تعرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الرواية، وكأنه صلى الله عليه وسلم تعمد ذلك أمام الناس. ... إذ يقول بعد أن ذكر بعض النصوص فى حياء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان مصوناً من رؤية عورته، حتى بالنسبة لأزواجه، وأن المشركين كانوا يستقبحون التعرى أمام الناس. ... يقول متسائلاً: "فكيف إذن يكشف النبى الأعظم عورته أمام الناس يا تُرى؟ " (2) وأقول له: من أين لك من روايات عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعرى عند بناء الكعبة، أنه صلى الله عليه وسلم تعمد التعرى أمام الناس (وحاشاه من ذلك) من أين لك هذا التعمد حتى ولو فى رواية ضعيفة؟!! وأنى لك هذا، وفى الصحيح ما يبطل افتراءك.
.. فعن أبى الطفيل رضى الله عنه قال: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أَجْياد (1) ، وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة، فذهب يضع النمرة على عاتقه، فيرى عورته من صغر النمرة، فنودى يا محمد خمر عورتك، فلم ير عرياناً بعد ذلك" (2) . ... فواضح من هذه الرواية، وما فيها معناها من الروايات التى فى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحمل الحجارة كان يستر عورته بنمرة، ولكنه وهو يحاول أن يتقى أذى الحجارة على عاتقه، حاول أن يضع طرفاً من النمرة على عاتقه، سواء من قبل نفسه أو بنصح عمه العباس له كما جاء فى الصحيح، لا تعارض. إذ النتيجة واحدة وهى: لصغر النمرة، بدت عورته، فسقط مغشياً عليه، وفى الصحيح أيضاً فخر إلى الأرض، وكلها بمعنى واحد، ولا تعارض ولا تناقض كما زعم الرافضى مستدلاً بذلك على وضع الحديث (3) . ... وفى هذا الغشيان أو السقوط على الأرض، عصمة من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم إذ الجلوس أستر للعورة، ومعه أى هذا (السقوط) تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من شد إزاره على عورته التى انكشفت بلا تعمد منه، ومع كل ذلك كانت عناية وعصمة ربه عز وجل له إذ نودى: "يا محمد خمر عورتك، فلم ير عرياناً بعد ذلك" وكل الروايات فى الصحيح وغيره على هذا المعنى!.
د- عصمته صلى الله عليه وسلم من أكل ما ذبح على النصب
.. فأين إذن ما يزعمه الرافضى بأن فى روايات عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من التعرى حط من كرامته صلى الله عليه وسلم، وإساءة لمقامه الأقدس؟ وأين ما يزعمه بأن هذه الروايات تظهره بتعمد كشف عورته أمام الناس؟ وأين أيضاً ما يزعمه بأن محاولة علماء أهل السنة للجمع بين هذه الروايات محاولة فاشلة، تأتى على حساب القرآن الذى لا نقدسه - على حد كذبه - ونزعم أن فيه تحريف، ونسخ لتلاوته، أما البخارى فنقدسه ونجله عن ذلك؟! (1) أهـ. د- عصمته صلى الله عليه وسلم من أكل ما ذبح على النصب، ودفع ما يتوهم عكس ذلك:
1- عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، أن النبى صلى الله عليه وسلم، لقى زيد بن عمرو بن نفيل (1) بأسفل بلدح (2) قبل أن ينزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبى صلى الله عليه وسلم سفرة (3) فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إنى لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه" (4) ، ففى الحديث تصريح بعدم أكله صلى الله عليه وسلم، مما ذبح على النصب.
- أما ما جاء فى حديث سعيد بن زيد بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزيد بن حارثة (1) مر بهما زيد بن عمرو، فدعوه إلى سفرة لهما، فقال: يا ابن أخى إنى لا آكل مما ذبح على النصب، فما رؤى النبى صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أكل شيئاً مما ذبح على النصب" (2) . - وفى حديث زيد بن حارثة رضى الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مردفى إلى نصب من الأنصاب، فذبحنا له شاة، ووضعناها فى التنور (3) حتى إذا نضجت، استخرجناها فجعلناها فى سفرتنا، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير، وهو مردفى فى أيام الحر، من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادى لقى فيه زيد بن عمرو – فذكر الحديث مطولاً – وفيه: ثم قدّمنا إليه يعنى زيد بن عمرو – السفرة التى كان فيها الشواء، فقال: ما هذه؟ فقلنا: هذه شاة ذبحناها لنصب كذا وكذا، فقال: إنى لا آكل ما ذبح لغير الله" (4) .
وفى رواية قال: "ما كنت لآكل مما لم يذكر اسم الله عليه" (1) فليس فى الروايتين ما يتعارض مع رواية البخارى السابقة من عصمته صلى الله عليه وسلم من أكل ما ذبح للأصنام، لأن قول زيد: "هذه شاة ذبحناها لنُصب كذا وكذا" تعنى الحجر الذى ذبحت عليه الشاة، وليس هذا الحجر بصنم ولا معبود، وإنما هو من آلات الجزار التى يذبح عليها، لأن النُصب فى الأصل حجر كبير. فمنها ما يكون عندهم من جملة الأصنام، فيذبحون له وعلى اسمه! ومنها مالا يعبد، بل يكون من آلات الذبح، فيذبح الذابح عليه لا للصنم!. وهذا أكثر ما تحمله العبارة السابقة: أن يكون زيد بن حارثة ذبح شاة، واتفق ذلك الذبح عند صنم، كانت قريش تذبح عنده، لا أنه ذبحها للصنم!. فظن زيد بن عمرو أن ذلك اللحم مما ذبح لصنم، فامتنع لذلك حسماً للمادة، ولم يكن الأمر كما ظن زيد (2) . ويكون امتناع النبى صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن أكل شئ ذبح على النصب أى الحجر مثل امتناع زيد بن عمرو حسماً للمادة.
هذا ولا يعنى قول زيد بن حارثة: "فما رؤى النبى صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أكل شيئاً مما ذبح على النصب" أنه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك كان يأكل مما ذبح لصنم! كلا! وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، ويؤكده ما جاء فى نفس الرواية السابقة من حديث زيد بن حارثة قال: "وكان صنماً من نحاس يقال له أساف أو نائلة يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمسه" قال زيد: فطفنا. فقلت فى نفسى لأمسنه حتى أنظر ما يقول، فمسحته! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تنه؟ " (1) . فكيف يعقل إذن أن ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استلام الأصنام ثم يذبح لها؟! (2) . أما ما يستشكل من قول زيد بن عمرو: "إنى لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه" وهو ما يعنى أنه علم أن الشاة المذبوحة، إنما ذبحت على النصب الذى هو من آلات الذبح، ولم تذبح لصنم، ولكنه مع ذلك امتنع عن الأكل منها، لأنها لم يذكر عليها اسم الله عز وجل، وهو ما يعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أولى بهذه الفضيلة من زيد بن عمرو. فالجواب: أنه ليس فى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أكل منها، وعلى تقدير أن يكون أكل، فزيد إنما كان يفعل ذلك برأى يراه، لا بشرع بلغه، ولاسيما وزيد يصرح عن نفسه بأنه لم يتبع أحداً من أهل الكتابين (3) .
هـ عصمته صلى الله عليه وسلم من الحلف بأسماء الأصنام
وهو وإن كان على دين سيدنا إبراهيم، فشرعه على تحريم الميتة، لا تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، واستمر ذلك حتى جاء الإسلام (1) . أما قول بعض خصوم السيرة العطرة: "بأن هذا جواب بارد، لأن فيه إدراك زيد لهذا الأمر الذى وافق فيه نظر الشرع" (2) . فأقول له: وأين نظر الشرع هنا فى إدراكه، وقد جاء النهى عن أكل ما ذبح إلى غير اسم الله عز وجل، بعد المبعث بمدة طويلة، ولم ينقل أن أحداً بعد المبعث كف عن الذبائح حتى نزل قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} (3) . أما زعمه بان إدراك زيد لذلك دونه صلى الله عليه وسلم مما لا يمكن قبوله، أو الالتزام به، لأنه يعنى أن زيداً كان أعقل من النبى صلى الله عليه وسلم وأعرف به (4) . فالجواب: أنه ليس فى إسناد فضيلة لزيد بن عمرو أو لغيره، ما يعود بالنقض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ما يثبت تفضيله عليه. إذ من المسلم أنه قد يكون فى المفضول من الخصائص ما ليس للأفضل، ولا يؤثر هذا فى أفضليته، لأن له من الخصائص ما يؤهله لاستحقاق الأفضلية. وهذا بديهى. وإلا فليخبرنا الرافضى، هل الفضائل والمناقب الصحيحة، بل وحتى الضعيفة والموضوعة التى تنسب لسيدنا على بن أبى طالب، أو غيره من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين تعنى أنه أو أنهم أعقل من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرف منه، وأفضل منه؟!! أهـ. هـ عصمته صلى الله عليه وسلم من الحلف بأسماء الأصنام التى كان يعبدها قومه، ويحلفون بها تعظيماً لها:
.. جاء فى قصة بحيرا الراهب أنه استحلف النبى صلى الله عليه وسلم باللات والعزى حينما لقيه بالشام فى سفرته مع عمه أبى طالب وهو صبى، لما رأى فيه علامات النبوة، فقال بحيرا للنبى صلى الله عليه وسلم يا غلام أسألك باللات والعزى إلا أخبرتنى عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما. فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: "لا تسألنى باللات والعزى شيئاً، فوالله ما أبغضت بغضها شيئاً قط" (1) . وعن عروة بن الزبير رضى الله عنه قال: حدثنى جار لخديجة بنت خويلد رضى الله عنها قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول لخديجة: أى خديجة والله لا أعبد اللات أبداً، والله لا أعبد العزى أبداً، قال: فتقول خديجة خل العزى، قال: كانت صنمهم الذى يعبدون، ثم يضطجعون" (2) .
و عصمته صلى الله عليه وسلم من استلام الأصنام
و عصمته صلى الله عليه وسلم من استلام الأصنام، وبيان مراد ما يفيد ظاهره عكس ذلك: ... عن زيد بن حارثة رضى الله عنه قال: "وكان صنماً من نحاس يقال له أساف أو نائلة يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمسه" قال زيد: فطفنا. فقلت فى نفسى لأمسنه؛ حتى أنظر ما يقول! فمسحته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تنه؟ " قال زيد: فوالذى أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلمت صنماً حتى أكرمه الله بالذى أكرمه، وأنزل عليه الكتاب…الحديث" (1) . ... أما ما روى ما يفيد ظاهره من استلامه صلى الله عليه وسلم الأصنام، فليس ظاهره مراداً على فرض صحة الرواية، كيف والرواية فى ذلك لم تصح. ... فعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: "كان النبى صلى الله عليه وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم، قال: فسمع مَلَكين خلفه، وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الأصنام قبيل؟ قال: فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم" (2) أى لم يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم التى فيها شئ من الوثنية، وإلا فقد كان يشهد مشاهد الحلف ونحوه، لا مشاهد استلام الأصنام.
.. قال الحافظ ابن حجر فى المطالب العالية: "هذا الحديث أنكره الناس على عثمان ابن أبى شيبة فبالغوا، والمنكر منه قوله عن الَملَك "عهده باستلام الأصنام" فإن ظاهره أنه باشر الاستلام، وليس ذلك مراداً، بل المراد أنه شهد مباشرة المشركين استلام أصنامهم" (1) . ... وهذا الرأى ذهب إليه الأئمة: السيوطى فى الخصائص الكبرى (2) وابن كثير فى البداية والنهاية (3) والبيهقى فى دلائل النبوة (4) والهيثمى فى مجمع الزوائد (5) قائلاً: "رواه أبو يعلى وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، ولا يحتمل هذا من مثله، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشهد تلك المشاهد قبل النبوة للإنكار وهذا يتجه، ويفسره ويؤكده رواية زيد بن حارثة السابقة" أهـ بتصرف. ... قلت: وأنا مع الأئمة فيما ذهبوا إليه من إنكارهم للحديث، وتفسيرهم لظاهر استلامه صلى الله عليه وسلم للأصنام بأن المراد به شهوده صلى الله عليه وسلم مشاهد المشركين واستلامهم لأصنامهم، ويؤكد هذا التفسير سيرته العطرة قبل النبوة والتى عصمه ربه عز وجل فيها مما كان عليه المشركون، من أكل ما ذبح على النصب، أو الحلف بأسماء الأصنام، وكذلك عصمته من مظاهر لهو الجاهلية، ولو كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ من ذلك لاحتجوا به فى رد دعوته بعد البعثة، ولكن ذلك لم يرد، فدل على عصمته صلى الله عليه وسلم منه.
ز- من مظاهر عصمته صلى الله عليه وسلم شق صدره الشريف:
.. "وأياً كان الأمر فإن حديث جابر منكر، أنكره أحمد بن حنبل جداً، وقال هو موضوع، أو شبيه بالموضوع، وقال الدارقطنى: يقال إن عثمان بن أبى شيبة وَهِمَ فى إسناده ... وقال القاضى عياض: والحديث بالجملة منكر غير متفق على إسناده فلا يلتفت إليه" (1) ورغم حكم أئمة السنة على رواية جابر بالنكارة، إلا أنك تجد بعض الشيعة يحاول أن يوهم قارئه أن علماء السنة يصححونها (2) . ... أما ما زعمه "در منغم" من تقربه صلى الله عليه وسلم إلى العزى بشاة بيضاء (3) وما ذكره الدكتور هيكل تبعاً له، من أنه صلى الله عليه وسلم تمسح بالصفراء (4) فكلاهما ادعاء باطل؛ واختلاق من نسج خيال مريض، حيث لم يرد لم زعموا ذكر البتة، فى أى من كتب السنة أو السير أو التاريخ أو غيرها. وأنى لهما أن يثبتا ذلك؟ ! ولماذا اختيار الشاة البيضاء؟ أو صنم الصفراء بأعيانهما؟ وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصون لسانه عن مجرد ذكر الأصنام؛ فكيف يقرب القرابين إليها ويتعبدها؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. ز- من مظاهر عصمته صلى الله عليه وسلم شق صدره الشريف: ... قال تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} (5) فى هذه الآية الكريمة يبين رب العزة منته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشرح صدره الشريف لإعداده للقيام بعبء الدعوة، وحمل الرسالة، وعصمته من الشيطان الرجيم (6) .
.. والاستفهام فى الآية (ألم) للتقرير: أى قد شرحنا لك صدرك والشرح هنا فى حقه صلى الله عليه وسلم، شرح معنوى وحسى معاً. ... أما الشرح المعنوى: فهو بالنور الإلهى كما فى قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد فى السماء} (1) وقوله سبحانه: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} (2) . ... أما الشرح الحسى: فقد حدث له صلى الله عليه وسلم أربع مرات (3) وبه قال كثير من الأئمة: وكانت المرة الأولى: عندما كان ابن أربع سنين من عمره المبارك، وكان القصد منها كما جاء فى الرواية – نزع العلقة السوداء من قلبه، كرامة له من عند ربه عز وجل، تلك العلقة التى ولد بها تكملة للخلق الإنسانى، لأنها حظ الشيطان من كل البشر، وقد تم بنزعها من قلبه صلى الله عليه وسلم، أن نشأ مبرءاً من كل عيب، فنشأ على أكمل أحوال البشر من العصمة من الشيطان، والاتصاف بالمحامد العليا منذ نعومة أظفاره، والتى لا يفوقه فيها غيره (4) .
وقد أخرج الإمام مسلم فى صحيحه هذه المرة الأولى لشق صدره الشريف مجملة عن أنس بن مالك رضى الله عنه (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده فى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه – يعنى ظئره (2) فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط فى صدره" (3) فالحديث نص صريح على الشق الحسى لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم (4)
، وإخراج جبريل لحظ الشيطان منه، وتطهير لقلبه، فلا يقدر الشيطان على إغوائه إذ لا سبيل له عليه، وهذا دليل على عصمته من كل ما يمس قلبه، وعقيدته، وخلقه، منذ صغره صلى الله عليه وسلم. وقد تكرر شق صدره الشريف للمرة الثانية، وهو ابن عشر سنين وأشهر من عمره الطيب المبارك، وهو سن بداية الكمال، وذلك لقربه من سن التكليف، من أجل أن لا يلتبس بشئ مما يعاب على الرجال، وحتى لا يكون فى قلبه شئ إلا التوحيد، كما كان أيضاً شق صدره الشريف هذه المرة توطئة لما بعده عند البعثة الشريفة (1) .
فقد أخرج عبد الله بن أحمد فى زوائده على المسند عن أبى بن كعب رضى الله عنه (1) أن أبا هريرة رضى الله عنه كان جريئاً على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله ما أول ما رأيت فى أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً. وقال: لقد سألت أبا هريرة إنى لفى صحراء ابن عشر سنين وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسى، وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو؟ قال: نعم، فاستقبلانى بوجوه لم أراها لخلق قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلىَّ يمشيان حتى أخذ كل واحد منهم بعضدى، لا أجد لأحدهما مساً، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه؛ فأضجعانى بلا قصر ولا حصر، وقال أحدهما لصاحبه: أفلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدرى، ففلقها فيما أرى بلا دم، ولا وجع، فقال له: أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئاً كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذى أخرج يشبه الفضة، ثم هز إبهام رجلى اليمنى، فقال: اغد وأسلم، فرجعت بها أغدو رقة على الصغير، ورحمة للكبير" (2) .
وكان المرة الثالثة لشق صدره الشريف عند المبعث، وذلك لإعداد قلبه لتحمل عبء الوحي والرسالة، بقلب قوى فى أكمل الأحوال من التطهير (1) فعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نذر أن يعتكف شهراً هو وخديجة بحراء، فوافق ذلك شهر رمضان، فخرج النبى صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فسمع: السلام عليك، فقال: فظننتها فجأة الجن، فجئت مسرعاً حتى دخلت على خديجة، فسجتنى ثوباً، وقالت: ما شأنك يا ابن عبد الله؟ فقلت سمعت: السلام عليك، فظننتها فجأة الجن، فقالت: أبشر يا ابن عبد الله، فإن السلام خير، قال: ثم خرجت مرة فإذا بجبريل على الشمس، جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، قال فهلت (2) منه، فجئت مسرعاً، فإذا هو بينى وبين الباب، فكلمنى حتى أنست به، ثم وعدنى موعداً، فجئت له فأبطأ علىَّ، فأردت أن أرجع، فإذا أنا به وميكائيل قد سدا الأفق، فهبط جبريل وبقى ميكائيل بين السماء والأرض، فأخذنى جبريل، فاستلقانى لحلاوة القفا، ثم شق عن قلبى، فاستخرجه، ثم استخرج منه ما شاء الله أن يستخرج، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده مكانه، ثم لأمه، ثم أكفأنى كما يكفأ الأديم، ثم ختم فى ظهرى حتى وجدت مس الخاتم فى قلبى، ثم قال: اقرأ، ولم أك قرأت كتاباً قط، فلم أجد ما أقرأ، ثم قال: اقرأ، قلت ما أقرأ قال {اقرأ باسم ربك الذى خلق} (3) حتى انتهى إلى خمس آيات منها، فما نسيت شيئاً بعد، ثم وزننى برجل، فوزنته، ثم وزننى بآخر فوزنته، حتى وزننى بمائة رجل، فقال ميكائيل: تبعته أمته ورب الكعبة، فجعلت لا يلقانى حجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، حتى دخلت على خديجة قالت: السلام عليك يا رسول الله" (4)
0 أما المرة الرابعة التى شق فيها صدر النبى صلى الله عليه وسلم فكانت ليلة الإسراء والمعراج وذلك تأهباً لمناجاة ربه عز وجل، والمثول بين يديه، واستعداداً لما يلقى إليه من سائر أنواع الفيوضات الإلهية، وما يراه من عظيم الآيات الربانية (1) . فعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: كان أبو ذر رضى الله عنه (2) يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فرج عن سقف بيتى وأنا بمكة، فنزل جبريل عليه السلام، ففرج صدرى، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً. فأفرغها فى صدرى، ثم أطبقه. ثم أخذ بيدى، فعرج بى إلى السماء … الحديث (3) . والحكمة هنا فى شق صدره الشريف، مع القدرة على أن يمتلئ قلبه إيماناً وحكمة بغير شق؛ الزيادة فى قوة اليقين، لأنه أعطى برؤية شق بطنه، وعدم تأثره بذلك، ما أمن معه من جميع المخاوف العادية المهلكة، فكمل له صلى الله عليه وسلم بذلك ما أريد منه من قوة الإيمان بالله عز وجل وعدم الخوف مما سواه، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وأعلاهم حالاً ومقالاً، ولذلك وصف بقوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى} (4) وقوله سبحانه: {ما زاغ البصر ما طغى} (5) .
ح- من مظاهر عصمته صلى الله عليه وسلم تكافؤ أخلاقه:
والشاهد فى الروايات السابقة على عصمته صلى الله عليه وسلم، أنه قد أُفرغ فى صدره الشريف طست ممتلئ حكمة وإيماناً؛ وتجسيد المعنويات فى قدرة الله عز وجل هين… وهذا يوضح عصمته، إنه الذى نزعت عقله من صدره، هى حظ الشيطان منه، وأفرغ فى صدره طست الإيمان والحكمة، فكيف يكون عقل هذا شأنه؟ إنه يكون عقله أسمى من كل عقل، وأزكى من كل فهم، ولم لا: وقد نزع منه حظ الشيطان، وملئ قلبه بالحكمة والإيمان والحكمة جامعة لعموم العلوم والمعارف، والإيمان كلمة جامعة لكل ما يرضى الله تبارك وتعالى (1) . ح- من مظاهر عصمته صلى الله عليه وسلم تكافؤ أخلاقه: ... وهكذا نشأ المصطفى صلى الله عليه وسلم، محفوظاً ومعصوماً قبل النبوة وبعدها من الشيطان الرجيم، ومعصوماً من كل ما يمس عقيدته بسوء، بل ومن كل ما يمس خلقه، حتى كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأعظمهم حلماً وأمانة، وأصدقهم حديثاً حتى سماه قومه "الأمين" (2) . ... وهذا الاسم العظيم "الأمين" يمثل أصدق تمثيل مدح رب العزة له بقوله سبحانه: {وإنك لعلى خلق عظيم} (3) .
.. وهو اسم يمثل التكافؤ الخلقى فى شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أصدق تمثيل؛ وأعنى بالتكافؤ الخلقى: أن أخلاقه صلى الله عليه وسلم كلها قبل النبوة وبعدها تنبع من عصمة المولى عز وجل له، فهو الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه، ومن هنا كانت أخلاقه كلها نِسَبِها متفقة، فصهره مثل شجاعته، وشجاعته مثل كرمه، وكرمه مثل حلمه… وهكذا لا تجد له خلقاً فى موضعه من الحياة يزيد أو ينقص على خلق آخر فى موضعه منها، وهذا التكافؤ الخلقى فى وجوده الواقعى فى شخصيته صلى الله عليه وسلم معجزة فى الحياة، لأن الإنسان معترك الغرائز، والتكافؤ الخلقى فى الشباب ضرب من المحالات فى متعارف الحياة، فإذا حققه الوجود الواقعى فى شباب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان وجوده معجزة، ودليل على عصمة رب العزة له، وعنايته به وحفظه من مظاهر الجاهلية، على ما سبق تفصيله. ... وكذلك التكافؤ الخلقى فى شخصيته صلى الله عليه وسلم بعد النبوة يعد معجزة ودليل على عصمته. لأن التاريخ لم يذكر من النماذج العليا للبشرية من كان هذا التكافؤ الخلقى خليقته العامة سوى المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكر التاريخ غيره من النماذج العليا ذكره عنواناً لتبرير جزئى فى بعض الفضائل والأخلاق. فهذا مثل مضروب فى الصبر، وذاك فى الحلم، وثالث فى الكرم، ورابع فى الشجاعة. وهكذا تتفرق النهايات فى الأخلاق والفضائل فى نماذج متعددة، ولكنها تجتمع متكافئة فى شخصيته صلى الله عليه وسلم، وهذا من الإعجاز والعصمة. ... وإذا أردت مثلاً على هذا التكافؤ الخلقى فى شخصيته صلى الله عليه وسلم فتأمل حاله قبل زواجه من خديجة رضى الله عنها من شظف العيش، وقلة ذات يده، وتأمل حاله بعد زواجه منها، حيث أصبح صلى الله عليه وسلم بين عشية وضحاها من أغنياء قريش، وذوى ثرواتها، حيث أصبح عُرفاً مالها ماله، وثراؤها ثراءه. فهل غير ذلك تكافؤه الخلقى؟!.
ط- من مظاهر عصمته صلى الله عليه وسلم كمال عقله:
.. كلا! إن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ظل بعد هذا الثراء الغامر، كما كان من ولد ونهد وشب، يعيش فى شظف عيشه؛ لا من قلة المال فى يده، بل لأن خصيصة التكافؤ الخلقى عنده طبعته على الزهادة فى الحياة المادية المترهلة التى كانت تحياها قريش، وطبعته على التسامى بنفسه عن مطامع الماديين، إذا هبط عليهم الثراء من غير كد ولا تعب. ... فحياته صلى الله عليه وسلم قبل زواجه من خديجة كانت تقلل من الدنيا، وكذلك كانت حياته بعد زواج خديجة، حياة تقلل من الدنيا وهى ملء يده وهكذا كان آخر حياة شبابه، صورة من أولها (1) . ... ولا غرو فى أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المثابة من التكافؤ الخلقى، فقد عصمه ربه عز وجل، واصطنعه لنفسه، وأراد منه أن يكون خاتم أنبيائه ورسله إلى الخلق كافة، ولا يقوم بذلك إلا أمين صاحب خلق عظيم، ينال ثقة الناس فيستجيبون له ويؤمنون به. ط- من مظاهر عصمته صلى الله عليه وسلم كمال عقله: ... إن كمال العقل وفطنته من أبرز صفات الرسل الذاتية التى منحهم الله تعالى إياها، وهى من لوازم الرسالة الإلهية، والاصطفاء الربانى لها، كما أنها عامل مهم، وسبب قوى من أسباب تبليغ رسالة الرسل إلى أقوامهم، ومعالجتهم بالتربية الحكيمة، والقيادة السليمة وفق طبائعهم وأخلاقهم. قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن} (2) وواضح من هذه الآية الكريمة التى تبين سبيل الدعوة أنها تعتمد على رجاحة العقل وفطنته.
.. فلابد أن يكون الرسول أكمل الناس عقلاً وفطنة حتى يقيم الحجة على قومه على خير وجه، بحيث تكون ملزمة للخصم كل الإلزام، فإن آمن، وإلا جادله فاستعمل معه أسلوب المعارضة، والمناقضة، وهو فى كل ذلك يسلك مسالك الكرام لا يسئ ولا يغضب (1) وقد قص الله عز وجل لنا من أحوال فطنة الرسل مالا ينقض منه العجب، من سرعة البديهة، وإقامة الحجة الصادقة، وذلك كنوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، ويونس، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ... وإذا ذهبنا لذكر نماذج من فطن الأنبياء فى القرآن الكريم، فإن ذلك يفضى بنا إلى الإطالة، ولكن بحسبنا أن نأتى ببعض النماذج من واقع حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لتكون كافية للدلالة على باقى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذ ما يجوز فى حق نبى يجوز فى حق غيره من الأنبياء. ... قال القاضى عياض: بعد أن قرر أنه لا مرية فى أنه صلى الله عليه وسلم أعقل الناس وأذكاهم وفى ذروة الذرى فى الفطنة، ورجاحة العقل قال: "ومن تأمل تدبيره أمر بواطن الخلق وظواهرهم، وسياسة العامة والخاصة، مع عجيب شمائله، وبديع سيره، فضلاً عما أفاضه من العلم، وقرره من الشرع، دون تعلم سبق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة للكتب فيه، لم يمتر فى رجحان عقله، وثقوب فهمه لأول بديهة" (2) . ... وإليك بعض الأمثلة على كمال عقله وفطنته من سيرته العطرة: أ- سرعة حله للمشاكل المستعصية التى تحار فى حلها العقول الكبيرة الشهيرة وصور ذلك كثيرة منها:
حله لمشكلة قريش فى وضع الحجر الأسود الذى تنافست فيه قبائلها، وأرادت كل قبيلة أن تحوز شرف وضعه، وتستأثر به على غيرها، حتى وصل بها الحال إلى شفا الحرب، حيث قربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً، ثم تعاقدوا هم وبنو عدى على الموت، وأدخلوا أديهم فى ذلك الدم فى تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً ثم إنهم اجتمعوا فى المسجد فتشاوروا وتناصفوا، وأشار عليهم أبو أمية بن المغيرة، وكان يومئذ أسن قريش كلها على أن يجعلوا بينهم فيما يختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد – يعنى باب بنى شيبة – فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد! فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر فقال صلى الله عليه وسلم: "هلم إلى ثوباً، فأتى به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً. ففعلوه حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ثم بنى عليه" (1) .
وبذلك رفع ما بينهم من ذلك الخلاف الذى كاد يؤدى برجالهم، والذى حارت فيه عقولهم، وفيهم المشهورون بالعقل والحنكة والتجربة والسؤود، ومع ذلك بارت فى هذه المشكلة العويصة، حتى خلصهم منها ذو الفطنة النبوية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ فى سن الخامسة والثلاثين من عمره صلى الله عليه وسلم (1) على الرغم من وجود الكبار والكبار جداً، وعلى الرغم من وجود العقلاء والنبلاء جداً، إلا أنه صلى الله عليه وسلم هو الذى حل المشكلة، إنه صلى الله عليه وسلم الذى ارتضاه الجميع لمكانته، فلما حكم ارتضوا حكمه لعدالته. لم يعترض أحد على شخصه، ولم يعترض أحد على فكره، حتى قال من لا يعرفه! يا عجبا لقوم أهل شرف وعقول، وسن وأموال، عمدوا إلى أصغرهم سناً، وأقلهم مالاً، فرأسوه فى مكرمتهم وحرزهم، كأنهم خدم له!! (2) .
ومثل هذا الحل السريع الحاسم حله صلى الله عليه وسلم لمشكلة المهاجرين {الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله} (1) فوفدوا إلى المدينة لا يملكون شيئاً، فكانوا بذلك فى خطر المجاعة والغربة، مما اقتضى إيجاد حل سريع لهذه المشكلة، وكان رجلها وواحدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار على المواساة والحق، والتوارث، واستمروا على ذلك الحال إلى أن أنزل الله تعالى: {وأولوا الرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله} (2) فنسخت حكم التوارث بين المهاجرين والأنصار (3) وبذلك حل النبى صلى الله عليه وسلم مشكلة من أكبر المشاكل استعصاءً فى الحل. كما حل فى نفس الوقت مشكلة أخرى هى بمثابة المشكلة الأولى فى الأهمية، وهى مشكلة التعايش فى المدينة بين طوائف مختلفة: الأوس والخزرج الذى كان بينهما من العداء بسبب ما كان يجرى بينهما من الحروب مالا يكاد ينسى والمهاجرين الذين تركوا أوطانهم وأموالهم، وأتوا لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجموع يهود التى كانت تسيطر على الحركة الاقتصادية فى المدينة باحتكارها التجارة فيها، وتشكيلهم خطراً عظيماً على الدولة الإسلامية الفتية، وهم أيضاً منقسمون على أنفسهم، فبعضهم يوالى الأوس، والبعض الآخر يوالى الخزرج. فكان لابد من إيجاد ثقة كاملة، بين هذه الأطراف المختلفة للتعايش السلمى، والدفاع العام عن عدو مشترك يقدم عليهم من الخارج، يريد المساس بأحد من هذه الطوائف، فكان ذلك بما أجراه النبى صلى الله عليه وسلم من عهد موادعة بين هذه الطوائف يرضى جميعها.
وبهذا العهد (1) قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على النعرات الجاهلية، والدسائس اليهودية، وأوجب للجميع الود والإخاء، والتراحم، وإقامة العدل، وما كان لذلك أن يتم لولا هذا العلاج الناجح، من ذى الفطنة العظيمة، والسياسة الحكيمة – صلوات الله وسلامه عليه. وكم كانت فطنته الكاملة تحل من مشاكل عديدة فى أسرع وقت وأقصره، فيتحقق بذلك له ولأمته ما يصبون إليه من نصر وسعادة وعز وسيادة، وليس أدل على ذلك من صلح الحديبية! الذى كان آية من الآيات العظيمة، فبه فتح الله عليه مكة دون حرب أو قتل… ومن كان يتصور فتح مكة بهذا السلام العظيم؟!! والأمثلة غير ذلك ينوء عنها الحصر فى مثل هذا المقام المقتضى للإيجاز، والإتيان من كل بحر قطرة كالأنموذج لغيره، والدليل على ما سواه. ب- ومن مظاهر كمال عقله صلى الله عليه وسلم وفطنته، سرعة إقامة الحجة على المعارضين وقطع شغبهم وجدالهم بالباطل، فلا يستطيعون مجاراته أو مكابرته، بل لا يسعهم إلا الإذعان والتسليم، أو النكوص على أعقابهم خاسئين خاسرين، وصور ذلك كثيرة منها:
1- ما جاء عن سعيد بن أبى راشد (1) – رحمه الله – قال: رأيت التنوخى رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (بحمص) وكان جاراً لى شيخاً كبيراً، قد بلغ الفناء أو قرب، فقلت: ألا تخبرنى عن رسالة هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل؟ قال: بلى… وذكر الحديث وفيه: "فانطلقت بكتابه (أى كتاب هرقل) حتى جئت "بتبوك" فإذا هو جالس بين أصحابه على الماء، فقلت: أين صاحبكم؟، قيل: ها هو ذا، قال: فأقبلت أمشى حتى جلست بين يديه، فناولته كتابى فوضعه فى حجره، إلى أن قال: ثم إنه ناول الصحيفة رجلاً عن يساره، فقلت: من صاحب كتابكم الذى يقرأ لكم؟ فقالوا: معاوية. فإذا فى كتاب صاحبى: يدعونى إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين! فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار؟! …" (2) .
2- وجاءت قريش إلى حصين بن عبيد (1) وهو من عظماء قريش، فقالوا له: كلم لنا هذا الرجل، يقصدون: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يذكر آلهتنا ويسبهم، فجاءوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: أوسعوا للشيخ، وعمران (2) وأصحابه متوافرون.
.. فقال حصين: ما هذا الذى بلغنا عنك، إنك تشتم آلهتنا، وتذكرهم، وقد كان أبوك حصينة وخيراً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا حصين، إن أبى وأباك فى النار. يا حصين! كم تعبد من إله؟ قال: سبعاً فى الأرض، وواحداً فى السماء. قال: فإذا أصابك الضر من تدعوا؟ قال: الذى فى السماء. قال: فإذا هلك المال من تدعوا؟ قال: الذى فى السماء. قال: فيستجيب لك وحده، وتشركهم معه؟! أرضيته فى الشكر أم تخاف أن يغلب عليك؟ قال: لا واحدة من هاتين. قال: "وعلمت أنى لم أكلم مثله" قال: يا حصين! أسلم تسلم. قال: إن لى قوماً وعشيرة فماذا أقول؟ قال: قل: اللهم إنى أستهديك لأرشد أمرى، وزدنى علماً ينفعنى. فقالها حصين، فلم يقم حتى أسلم. فقام إليه عمران فقبل رأسه، ويديه، ورجليه، فلما رأى ذلك النبى صلى الله عليه وسلم بكى، وقال: بكيت من صنيع عمران، دخل حصين، وهو كافر، فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلم أسلم قضى حقه، فدخلنى من ذلك الرقة، فلما أراد حصين أن يخرج قال لأصحابه: قوموا فشيعوه إلى منزله، فلما خرج من سدة الباب رأته قريش فقالوا: صبأ (1) وتفرقوا عنه (2) . ... فنتأمل كلمة "حصين" الذى تعظمه قريش: "وعلمت أنى لم أكلم مثله" إن هذه الكلمة من هذا الرجل تبين مدى كمال عقله صلى الله عليه وسلم، وأنه يفوق عقل المعظمين من البشر، إنه عقل نبى مصطفى معصوم! (3) .
3- وعن أبى أمامة رضى الله عنه (1) قال: إن فتى شاباً أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لى بالزنا!! فأقبل القوم عليه، فزجروه، وقالوا: مهٍ مهٍ (2) فقال صلى الله عليه وسلم: أدنه، فدنا منه قريباً. قال: فجلس فقال صلى الله عليه وسلم: أتحبه لأمك؟ قال: لا! والله، جعلنى الله فداك فقال صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. ثم قال صلى الله عليه وسلم: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا!، والله يا رسول الله، جعلنى الله فداك. قال صلى الله عليه وسلم ولا الناس يحبونه لبناتهم. ثم قال صلى الله عليه وسلم: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلنى الله فداك. قال صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلنى الله فداك. قال صلى الله عليه وسلم ولا الناس يحبونه لعماتهم. ثم قال صلى الله عليه وسلم: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلنى الله فداك. قال صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شئ" (3) .
.. انتهى الفتى عن هذه الفاحشة، وأصبح لا يلتفت إليها، فقد أقنعه صلى الله عليه وسلم إقناعاً تاماً، وردد، وكرر، حتى قبح هذا الفعل فى نظر الرجل، فأبغضه وابتعد عنه، وهو صلى الله عليه وسلم بدعائه له زاد الأمر حسناً فلم يقف عند حد الإقناع، وإنما دعا له – وهو مستجاب الدعوة – فاقتناع الرجل، وهداه الله، وهكذا النبوة (1) . ... والشاهد مما سبق أنه صلى الله عليه وسلم لم يغضب، ولم يثر، وإنما كلمه كلاماً سهلاً غاية السهولة، أقنعه كل الإقناع. وهذا من كمال العقل وفطنته. 4- وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن امرأتى ولدت غلاماً أسود، وإنى أنكرته (2) فقال له النبى صلى الله عليه وسلم هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال صلى الله عليه وسلم ما ألوانها؟ قال: حمر. قال صلى الله عليه وسلم: فهل فيها من أورق (3) قال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنى هو؟ (4) قال: لعله يا رسول الله يكون نزعه عرق له (5) فقال له النبى صلى الله عليه وسلم وهذا لعله يكون نزعه عرق له (6) .
.. إنه صلى الله عليه وسلم فى هذا الموقف جعل السائل ينطق بالجواب، وضرب له صلى الله عليه وسلم مثلاً من بيئته، وأقنعه أيما إقناع، ولقد كان الرجل منصفاً، فما أن ضرب له صلى الله عليه وسلم المثل إلا اقتنع. لقد سلم الرجل واعترف أن العرق نزاع، وعليه فلعل عرقاً نزع ابنه هذا، كما أن إبله التى فيها جمل يختلف لونه عن بقية الإبل لعله نزعه عرق (1) . جـ- ومن مظاهر كمال عقله وفطنته صلى الله عليه وسلم براهينه الساطعة القاطعة التى كان يقيمها على مجادليه ومناظريه من مشركين، وأهل كتاب وغيرهم، وصور ذلك كثيرة أكتفى منها بما يلى:
مجادلته لكفار قريش، وهو ما كان من ابن الزبعرى (1) الذى سمع بقول الله تعالى {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون. لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون. لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون} (2) فقال: أما والله لو وجدت محمداً لخصمته، فسلوا محمداً! أكل ما يعبد من دون الله فى جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة! واليهود تعبد عزيزاً! والنصارى تعبد عيسى ابن مريم! فعجب الحاضرون مما قاله ابن الزبعرى، ورأوا أنه قد خصم رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلبه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "إن كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته" فأنزل الله تعالى تصديقاً لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها وهم فى ما اشتهت أنفسهم خالدون. لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذى كنتم توعدون} (3) . فانظر إلى هذا الجواب المفحم الذى لم يترك للمجادل مجالاً للتمادى بالباطل، حيث أعلمه أن من ذكر لم يأمروهم بعبادتهم، وأنهم إنما يعبدون الشياطين، وأنهم لو أمروهم بذلك أو حبذوا ذلك منهم لكان الحكم عاماً فيهم.
على هذا النحو كانت مجادلة النبى صلى الله عليه وسلم للمشركين فى مكة، وأهل الكتاب فى المدينة (1) والوفود الواردة من كل نواحى الجزيرة، يجادلوه فيأيده الله، ويقيم الحجة عليهم، وأذكر من ذلك مثالاً ما يلى: وفد بنى تميم: فلقد قدم عليه أشرافهم، منهم الأقرع بن حابس، وهو من سادات العرب وحكامها (2) والزبرقان بن بدر التميمى– أحد بنى سعد – وعمرو بن الأهتم. وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئنا نفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا، وتمت المفاخرة، وفى نهايتها قال الأقرع بن حابس: إن هذا الرجل لموتى له (3) لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا (4) . لقد اعترف الرجل بكمال عقله وفطنته صلى الله عليه وسلم، وأنه اختار من أتباعه خطيباً يناسب هذه القبيلة من العرب، ففاق خطيبهم، واختار شاعراً فاق شاعرهم، وما ذلك إلا لكمال عقله وفطنته، وفهمه الدقيق للوافدين عليه، وفهمه الدقيق لأتباعه. لقد أسلم الوفد (5) ، وهكذا كل من ورد عليه، يعترف بنبوته، وعصمة المولى عز وجل له، وتأييده فى كل أموره (6) .
وبعد: فقد اتضح لك فيما سبق من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، عصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل ما يمس قلبه وعقيدته بسوء، من التمسح بالأصنام، أو الحلف بها، أو أكل ما ذبح على النصب، ونحو ذلك من مظاهر الكفر والشرك والضلال، والغفلة، والشك، وكذا عصمته من تسلط الشيطان عليه، وعصمته من كل ما يمس أخلاقه بسوء حتى استحقت أن توصف بالعظمة قال تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} (1) وبلغ من عظمة أخلاقه تكافؤها بنسب متفقة، فحلمه مثل رحمته، ورحمته مثل مروءته، الخ، وهو فى كل ذلك فى أول شبابه كآخر حياته. وكذلك اتضح عصمته صلى الله عليه وسلم من كل ما يمس عقله بسوء، حتى كان قبل النبوة وبعدها أكمل الناس عقلاً وفطنة، كما كان صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيماناً وخلقاً. وكذا عصم رب العزة رسوله صلى الله عليه وسلم وخصه دون سائر الأنبياء بعصمة بدنه الشريف من القتل، وقد دل على ذلك الكتاب الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، فإلى تفصيل ذلك فى المبحث التالى.
المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى بدنه
المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى بدنه من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية ... المراد بعصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى بدنه هنا، عصمته من القتل، أما الأمراض والآفات الغير منفرة فلا. لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والرسل، من البشر. وهم بحسب ظواهرهم يطرأ عليها ما يطرأ على سائر البشر من الآفات والتغييرات والآلام والأسقام. ... وهذا كله ليس بنقيصه فيهم لأن الشئ إنما يسمى ناقصاً بالإضافة إلى ما هو أتم منه، وأكمل من نوعه، وقد كتب الله عز وجل على أهل هذه الدار كلها، بأنهم فيها يحيون، وفيها يموتون، ومنها يخرجون. فالمرض والشكوى منه والتداوى، والإحساس بالحر والبرد، وإدراك الجوع والعطش، والغضب والضجر، والتعب والضعف والموت. كل ذلك سمات البشر كلها، والتى لا محيص عنها، وقد جرى على خير خلق الله عز وجل من أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام السمات السابقة، كما ابتلاهم الله عز وجل بضروب من المحن، وذلك من تمام حكمته عزوجل لحكم منها ما يلى: ليتحقق بامتحانهم بشريتهم، ويرتفع الالتباس من أهل الضعف فيهم لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب على أيديهم، ضلال النصارى بعيسى ابن مريم، وضلال اليهود بعزيز. ليظهر شرفهم، ورفعة درجاتهم، كما قال عز وجل: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} (1) . تسلية لأممهم، وتذكرة لهم ليتأسوا بهم فى البلاء، ويستخرجوا حالات الصبر، والرضى، والشكر، والتسليم، والتوكل ونحو ذلك مما وقع منهم. فى امتحانهم محو لهنات فرطت منهم أو غفلات سلفت لهم - إن صح التعبير - ليلقوا الله عزوجل طيبين مهذبين، وليكون أجرهم أكمل، وثوابهم أوفر وأجزل (2) .
وكل ذلك تحقيقاً لما أجمله القرآن الكريم {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} (1) وقوله سبحانه {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} (2) وهذا ما فصله وبينه النبى صلى الله عليه وسلم فى أحاديث عدة منها ما يلى: 1- عن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه (3) قال: قلت: يا رسول الله! أى الناس أشد بلاءً قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبلتى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان فى دينه رقة ابتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة" (4) . وقوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك" (5) . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة فى نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة" (6) .
وعن أبى سعيد الخدرى وعن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم – حتى الشوكة يشاكها – إلا كفر الله بها من خطاياه" (1) . ومن أجل كل ما سبق كانت شدة المرض والوجع بالنبى صلى الله عليه وسلم بدليل: عن عائشة رضى الله عنها قال: ما رأيت أحداً أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم" (2) . وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكاً شديداً. قال: "أجل إنى أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذلك بأن لك أجرين. قال: أجل، ذلك كذلك" (3) .
خصوصية عصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى بدنه من القتل:
وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك، عليه قطيفة، ووضعت يدى عليها، فوجدت حرارتها فوق القطيفة، فقلت: ما أشد حر حماك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا كذلك يشدد علينا البلاء، ويضاعف لنا الأجر" قال أبو سعيد: يا رسول الله، من أشد الناس بلاء؟ قال: الأنبياء قال: ثم من؟ قال: العلماء، قال: ثم من؟ قال: "ثم الصالحون، كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ويبتلى بالقمل حتى تقتله، ولأحدهم كان أشد فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء" (1) . خصوصية عصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى بدنه من القتل: ... إذا كانت الأحاديث النبوية السابقة تؤكد على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرى عليه ما جرى على غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من سمات البشر التى لا ميحص عنها، وابتلى كما ابتلى غيره من الأنبياء بضروب المحن، إلا أنه صلى الله عليه وسلم اختص بعصمة بدنه الشريف من القتل بدليل قوله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} (2) . وقال سبحانه: {الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين} (3) .
فتأمل قوله تعالى: {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل} وقوله سبحانه: {قد جاءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم فلم قتلتموهم} إن الخطاب فى هاتين الآيتين موجه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أمره ربه عز وجل إلى قتلة الأنبياء والمرسلين من بنى إسرائيل، وتحدى لهم بأوضح بيان، بأنهم وإن وقع منهم قتل الأنبياء من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله تعالى، فهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما حاولوا قتله، فلم ولن يفلحوا، لأن الله عز وجل عصم بدنه الشريف من القتل، كما عصم قلبه وعقله وَخُلُقَه من كل ما يمسهم بسوء، وخصوصية عصمة بدنه الشريف من القتل مستفادة من الآيتين السابقتين فى تكرار قوله: "من قبل" و"من قبلى" فتأمل. وقال عز وجل: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (1) . روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: "كان النبى صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية: {والله يعصمك من الناس} فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال لهم: "يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمنى ربى عز وجل" (2) وهذه الآية الكريمة، وإن كانت مدنية النزول على قول الأكثرين من المفسرين، إلا أنها لا تعنى أن خصوصية عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بدنه من القتل لم تكن إلا بعد الهجرة النبوية، كلا! لما يلى:
أولاً: لاحتمال تكرار نزول الآية مرة بمكة، وبمرة بالمدينة: ... ومن تمسك برواية أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها السابقة، فلا حجة له فيها لاحتمال أن السيدة عائشة لم تخبر عن أمر شهدته، وإنما حدثت عن من شهد الحادثة، وقت نزول الآية فى مكة من الصحابة رضى الله عنهم ويؤيد هذا الاحتمال، الاختلاف فى رفع الحديث ووقفه كما قال الحافظ ابن حجر (1) وأيضاً: اختلاف ألفاظ روايات حديث عائشة تشير إلى أنها حدثت أولاً عن أمر سمعته من غيرها، كما فى حديث الترمذى – وهذا هو ما ذكرت فيه نزول الآية، وهو محتمل احتمالاً قوياً أن يكون فى مكة، فلا حجة فيه لمن يتمسك بمدنية الآية لأنه كما "لا يخفى ليس بنص فى المقصود" كما قال الإمام الألوسى فى تفسيره (2) . ... وهى رضى الله عنها تحدثت مرة أخرى عما رأته وشاهدته، وكانت فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدليل رواية الإمام أحمد "وهى إلى جنبه" (3) . ثانياً: يحتمل أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق فى حديث عائشة – على فرض أن هذا القول كان بالمدينة، إخبار عن حال ثابتة له صلى الله عليه وسلم منذ كان بمكة، ولما رأى حرص أصحابه على حمايته، وانتدابهم لحراسته فى بلد نزل فيه مهاجراً قبل أن يستقر؛ ذكرهم بأنه لا حاجة له بحراستهم فى المدينة أيضاً، لأن الله تعالى قد عصمه منذ كان فى شدة الأزمات والشدائد بمكة (4) .
.. ويؤيد ذلك ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يحرس، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالاً من بنى هاشم حتى نزلت هذه الآية: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (1) فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه فقال: يا عم إن الله قد عصمنى من الجن والإنس" (2) وللحديث شاهد من رواية جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه حتى نزلت: {والله يعصمك من الناس} فذهب ليبعث معه فقال: "يا عم إن الله قد عصمنى لا حاجة لى إلى من تبعث" (3) .
.. وللحديث شاهد ثانى من رواية أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: "كان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه، فلما نزلت هذه الآية: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} … الآية، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس" (1) فهذه الروايات السابقة مع معنى الآية الواردة فيها يقتضى أنها نزلت بمكة أيام الشدائد والأزمات التى كانت تعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو قومه، فقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} أى بلغ أنت رسالتى، وأنا حافظك وناصرك، ومؤيدك على أعدائك، ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك (2) والعباس فى حراسته لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما جاء فى رواية أبى سعيد الخدرى، هو بلا شك أحد فتيان بنى هاشم الذين كان يبعثهم أبو طالب كل يوم لحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
.. وذهاب الحافظ ابن حجر فى الفتح (1) إلى أن ملازمة العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت بعد فتح مكة عدول منه – رحمه الله تعالى – عما تلهمه الآية، ويقتضيه حال الدعوة فى مستهلها من حاجة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العصمة من الناس ليتمكن من إبلاغهم ما أمره الله بتبليغهم إياه، واستدلاله على ما ذهب إليه بما ورد فى الأخبار من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرس فى بدر، وفى أحد، وفى الخندق، وفى رجوعه من خيبر، وفى وادى القرى، وفى عمرة القضاء، وفى حنين، وهذا يقتضى عنده نزول الآية متراخية عن وقعة حنين (2) غير مسلم به من وجهين:
الوجه الأول: أن ملازمة العباس للرسول صلى الله عليه وسلم ومداومته عليها كانت معلومة للناس بمكة قبل الهجرة، فقد كان من لا يعرف شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب، ولم يسبق له أن رآه، ويعرف عمه العباس، فإنه يدل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه الرجل الذى يجلس مع العباس بن عبد المطلب (1) ومما يؤكد ملازمة العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة أيضاً – وهى بلا ريب ذات هدف سام أهم ما فيها حراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أعدائه – أن العباس لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فى بيعة العقبة الكبرى التى تمت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الأنصار، وكان أول متكلم فى تلك الليلة، وفيما قاله دليل على أنه كان يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمنعه من أذى قومه قال: "يا معشر الخزرج… إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو فى عز من قومه، ومنعة فى بلده… فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه، وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه فإنه فى عز ومنعة من قومه وبلده" (2) .
.. فحراسات رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة من قبل أهله وعشيرته، كانت لأسباب عامة، الغرض منها حماية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو منهم فى الذروة لرد اعتداء قريش عنه، ومنع طغيانها عليه. الوجه الثانى: أن حراسته صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة كانت جميعها لأسباب خاصة. وباستقصاء الأسباب الخاصة لحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المدينة، تراها: إما فى أول مقدمة المدينة كما فى حديث عائشة رضى الله عنها عند البخارى أنها قالت: "كان النبى صلى الله عليه وسلم سهر، فلما قدم المدينة قال: ليت رجلاً من أصحابى صالحاً يحرسنى الليلة، إذ سمعنا صوت سلاح، فقال: من هذا؟ فقال: أنا سعد بن أبى وقاص جئت لأحرسك، فنام النبى صلى الله عليه وسلم" (1) .
أو أن تكون أسباب حراسته صلى الله عليه وسلمأموراً داخلية خاصة به، كما فى حراسة أبى أيوب رضى الله عنه (1) لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بنائة صلى الله عليه وسلمبصفية بنت حى بن أخطب رضى الله عنها (2) وهو عائد من خيبر، فقد بين أبو أيوب سبب حراسته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله عن حراسته له صلى الله عليه وسلم فقال أبو أيوب: "خفت عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها، وزوجها، وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر، فخفتها عليك" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظنى" (3) . أو أن تكون وقائع حربية كما فى حراسته صلى الله عليه وسلم فى بدر وأحد والخندق وحنين (4) وغيرها من المشاهد الحربية.
وهذه جميعها أمور يجب أن يحرس فيها الإمام والقائد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم قطعاً فى هذه الحراسات الخاصة أنه معصوم، ولكنه طلبها أو أقرها تشريعاً لأمته لتقتدى به فى ذلك، ولتتعلم الأخذ بالحذر، والاحتراس من العدو، وحراسة السلطان أو القائد خشية القتل، وفى هذا يقول الحافظ ابن حجر: "وإنما عانى النبى صلى الله عليه وسلم ذلك مع قوة توكله، للاستنان به فى ذلك، وقد ظاهر بين درعين مع أنهم كانوا إذا اشتد البأس كان أمام الكل. وأيضاً فالتوكل لا ينافى تعاطى الأسباب، لأن التوكل عمل القلب، وهى عمل البدن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اعقلها وتوكل" (1) . وقال القرطبى: "ليس فى الآية – يعنى {والله يعصمك من الناس} ما ينافى الحراسة، كما أنه ليس فى أعلام الله نصر دينه وأظهاره، ما يمنع الأمر بالقتال، وإعداد العدد" (2) .
وبهذين الاحتمالين السابقين تبقى مكية الآية قائمة، ومما يؤكد القول بمكيتها ما قاله صلى الله عليه وسلم لابنته زينب رضى الله عنها (1) لما قامت تغسل عنه التراب الذى نثره أحد سفهاء قريش، وهى تبكى؛ خاطبها صلى الله عليه وسلم: بقوله: "لا تبكى يا بنية، فإن الله مانع أباك" (2) فهذا يدل بما لا مجال للريب فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان على يقين من عصمة الله عز وجل له من جميع ما يكيدون ويدبرون. وأيضاً فإن القول بمدنية هذه الآية مع ما فى أسلوبها من شدة الأمر بالتبليغ، والتحريض عليه، والتوعد على التقصير فيه، يتنافى مع ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المدينة من عزة ومنعة، مكنته من التبليغ ونشر الدعوة بقوة، ونقلها إلى خارج المدينة التى هو فيها سيد الموقف وبيده المبادأة متى أرادها. بل كيف يتأتى القول أن تنزل عليه آية العصمة من الناس فى المدينة، وهو للعصمة أحوج فى مطلع الرسالة منه عليها فى آخرها؛ وسورة المائدة من آخر القرآن تنزيلاً" (3) .
هذا فى الوقت الذى تأييده صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين ظاهر فى قوله تعالى: {هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين} (1) فلا معنى لأخباره على القول بمدنية آية العصمة – بعصمته من الناس – وقد عَرَفَه قبلاً أنه مؤيد بنصره تعالى، وبالمؤمنين. وتعليل ابن كثير نكارة حديث جابر بن عبد الله فى بعث أبى طالب حُراساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن "هذه الآية مدنية، وهذا الحديث يقتضى أنها مكية" (2) غير مسلم به لأن دعواه مدنية هذه الآية لم يقم عليها دليلاً سوى ما يظهر من أنها موجودة فى نظم التلاوة فى سورة مدنية. ووجود الآية فى سورة مدنية، لا يستلزم كونها مدنية، لأن كثيراً من الآيات المكية، وضعت توقيفاً منه صلى الله عليه وسلم فى سورة مدنية، وكثيراً من الآيات المدنية وضعت توقيفاً فى سورة مكية. وبهذا أيضاً يُردَّ على الإمام القرطبى فيما ذهب إليه، من أن حديث ابن عباس – الذى سبق أن سقناه – يقتضى مكية هذه الآية، والسورة مدنية بإجماع (3) . فمدنية السورة لا يمنع من وجود آية أو آيات مكيات فيها. ودعوى أبى حيان فى البحر: "أن مكية هذه الآية يجعلها أجنبية بالنسبة لما قبلها وما بعدها لأنها فى قصة اليهود والنصارى" (4) غير مسلمة أيضاً لأن وجود آية بين آيات منسجمة معها فى المعنى منسقة فى الربط والتناسب، لا يلزمه اتحاد زمن نزول هذه الآيات، إذ كثيراً ما تكون الآية مكية، لكنها مناسبة لمعانى آيات مدنية اقتضت وضعها بينها توقيفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) .
"لأن المدار فى سمو نظم القرآن الكريم لم يقم على أساس التوافق الزمنى أو المكانى فى نزول الآيات، وإنما المدار فيه على انسجام المعنى، واتساقه فى نظم التلاوة، ولو تباعد زمن النزول واختلف مكانه، وهذا هو سر التوقيف فى ترتيب الآيات ونظمها فى وضع التلاوة. فلا بدع أن تكون آية أو آيات نزلت فى مطلع الرسالة وشدائدها، ثم وضعت توقيفاً بين آيات نزلت فى أواخر ما نزل من القرآن مادام المعنى فى الآيات منسجماً متسقاً، يأخذ بعضه بحجز بعض، وهذا كثير فى القرآن الحكيم، وهو من دلائل الإعجاز" (1) . قلت: ويؤكد مكية الآية، أو تكرار نزولها، وبالتالى خصوصية عصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى بدنه الشريف من القتل، ما ورد فى القرآن الكريم من آيات كلها مكية تخاطبه صلى الله عليه وسلم بأنه محفوظ بعناية الله عز وجل، وسيكفيه المستهزئين من قومه، ومن هذه الكفاية عصمة بدنه الشريف من القتل. قال تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيينا} (2) وقال سبحانه: {أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه} (3) وقال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} (4) وهذه الآيات الكريمات السابقة كلها مكية، وهى واضحة الدلالة على بيان اختصاص النبى صلى الله عليه وسلم بعصمته من القتل.
ولم لا! ورب العزة يخاطبه فى شدة المحن والابتلاء فى مكة المكرمة بقوله تعالى: {فاصبر لحكم ربك} أى اصبر على أذاهم، ولا تبالهم {فإنك بأعيينا} أى بمرأى منا، وتحت كلاءتنا. وما تلك العناية الإلهية إلا خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، بأنه معصوم من ربه عز وجل من الناس" (1) وجاء التأكيد لعصمته صلى الله عليه وسلم من الناس، بالأمر الربانى بالمضى فى دعوتة، وعدم المبالاة بأعداءه من المشركين، حيث سيكفيهم إياه سبحانه القائل {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزءين} (2) وهذه الآية المكية نظير الآية المدنية على ما ذهب إليه بعض المفسرين: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (3) .
ففى الآيتين {والله يعصمك من الناس} و {إنا كفيناك المستهزءين} خطاب من رب العزة لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم بالعصمة من الناس. فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال فى قوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزءين} قال: "المستهزءين: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب أبو زمعة من بنى أسد بنى عبد العزى، والحارث بن غيطل السهمى، والعاص بن وائل السهمى. فأتاه جبريل – عليه السلام فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراه أبا عمرو الوليد بن المغيرة، فأومأ جبريل إلى أبجله (1) فقال: ما صنعت شيئاً، فقال: كفيتكه، ثم أراه الحارث بن غيطل السهمى، فأومأ إلى بطنه، فقال: ما صنعت شيئاً، فقال: كفيتكه، ثم أراه العاص بن وائل السهمى، فأومأ إلى أخمصه (2) ، فقال: ما صنعت شيئاً، فقال: كفيتكه، فأما الوليد بن المغيرة فمر برجل من خزاعة، وهو يرش نبلاً له (3) فأصاب أبجله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فعمى، فمنهم من يقول: عمى كذا، ومنهم من يقول: نزل تحت شجرة، فجعل يقول: يا بنى لا تدفعون عنى، قد هلكت أطعن بشوك فى عينى، فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً، فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث، فخرج فى رأسه قروح فمات منها، وأما الحارث بن غيطل، فأخذه الماء الأصفر فى بطنه حتى خرج خرؤه (4) مِنْ فِيه، فمات منها، وأما العاص بن وائل فبينما هو كذلك
يوماً حتى دخل فى رجله شبرقه (1) حتى امتلأت منها فمات" (2) . وللحديث شاهد عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: مر النبى صلى الله عليه وسلم على أناس بمكة، فجعلوا يغمزون فى قفاه، ويقولون: هذا الذى يزعم أنه نبى، ومعه جبريل، فَغَمَزَ جبريل بإصبعه، فوقع مثل الظفر فى أجسادهم، فصارت قروحاً، حتى نَتُنُوا، فلم يستطيع أحدٌ أن يدنو منهم، فأنزل الله: {إنا كفيناك المستهزءين} (3) . وصدق رب العزة: {أليس الله بكاف عبده} (4) بلى كاف عبده!! وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرنى أن أُحَرِّقَ قريشاً، فقلت رب إذاً يَثْلَغُوا (5) رأسى! فَيَدعُوهُ خُبْزَةً، قال: استخرجهم كما
استجرجوك واغزهم نغزك (1) ، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله…" (2) . وسياق هذا الحديث فى صحيح مسلم يشعر على طوله بأن التحديث به كان بعد الهجرة النبوية، وقد تنبه الإمام القرطبى إلى ذلك، فنزع هذه الجملة من سياق مسلم، ووضعها فى موضعها عند كلامه على آية: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (3) باعتبارها مكية (4) وهذا هو الصواب عندى، وعند غيرى (5) والله أعلم. وتأكيداً لخصوصية عصمته صلى الله عليه وسلم من القتل فى مكة، حتى على فرض مدنية آية {والله يعصمك من الناس} إليك هذه النماذج:
1- ما نزل فى قوله تعالى: {أرأيت الذى ينهى عبداً إلى صلى. أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى. أرأيت إن كذب وتولى. ألم يعلم بأن الله يرى. كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة. فليدع ناديه. سندع الزبانية. كلا لا تطعه واسجد واقترب} (1) فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال أبو جهل: هل يعفر (2) محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأعفرن وجهه فى التراب، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقى بيديه، قال: فقيل له: مالك؟ فقال: إن بينى وبينه لخندقاً من نار وهولا، وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا لاختطفته الملائكة عضواً عضواً" قال: فأنزل الله عز وجل – لا ندرى فى حديث أبى هريرة أو شئ بلغه - {كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى} … الآيات (3) .
2- وفى رواية عن أبى عباس رضى الله عنهما قال فى قوله تعالى: {سندع الزبانية} قال: قال: أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلى، لأطأن عنقه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم "لو فعل لأخذته الملائكة عياناً" (1) لقد ظن أبو جهل فرعون هذه الأمة أنه يستطيع أن ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ظن أنه يستطيع أن يقتله، لكنه ما إن اقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سلط الله عليه ما أخافه كل الخوف، وأفزعه كل الفزع، مما جعله يعود خاسئاً، يجرى إلى الخلف صاغراً، وهكذا يعصم الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، ويهين أعداءه (2) .
.. قال الحافظ ابن حجر: "وإنما شدد الأمر فى أبى جهل، ولم يقع مثل ذلك لعقبة بن أبى معيط، حيث طرح سلى الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو يصلى" (1) لأنهما وإن اشتركا فى مطلق الأذية حالة صلاته، لكن زاد أبو جهل بالتهديد، وبإرادة وطء العنق الشريف، وفى ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة لو فعل ذلك، ولأن سلى الجزور لم يتحقق نجاستها، وقد عوقب عقبه بدعائه صلى الله عليه وسلم عليه وعلى من شاركه فى فعله فقتلوا يوم بدر" (2) .
3- ما نزل فى قوله تعالى: {تبت يدا أبى لهب وتب} (1) فعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: لما نزلت: {تبت يدا أبى لهب} جاءت امرأة أبى لهب (2) ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، ومعه أبو بكر، فقال له أبو بكر: لو تنحيت لا تؤذيك بشئ (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيحال بينى وبينها" فأقبلت حتى وقفت على أبى بكر، فقالت: يا أبا بكر، هجانا صاحبك. فقال أبو بكر: لا، ورب هذه البنية ما نطق بالشعر، ولا يتفوه به، فقالت: إنك لمصدق، فلما ولت، قال أبو بكر رضى الله عنه: ما رأتك؟ قال: "لا، مازال ملك يسترنى حتى ولت" (4) .
وروى عنه أيضاً قال: "إن الملأ من قريش اجتمعوا فى الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ونائلة وإساف، لو قد رأينا محمداً لقمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة (1) تبكى، حتى دخلت على النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قومك قد تعاقدوا عليك، لو قد رأوك لقاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من ديتك، فقال: يا بنيه ائتنى بوضوئى، فتوضأ، ثم دخل المسجد، فلما رأوه قالوا: هاهو ذا، وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم فى صدورهم، وعقروا فى مجالسهم، ولم يرفعوا إليه أبصارهم، ولم يقم إليه منهم رجل، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم، فأخذ حفنة من تراب، فقال: شاهت الوجوه، ثم حصبهم، فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر" (2) .
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: فى قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} (1) قال: "تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فاثبتوه بالوثاق – يريدون النبى صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل اخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات على بن أبى طالب رضى الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليَّاً يحسبونه النبى صلى الله عليه وسلم: فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا علياًّ رد الله تعالى مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدرى. فاقتفوا أثره، فلما بلغوا الجبل خلط عليهم، فصعدوا فى الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال" (2) .
فتأمل ما فى الروايات السابقة من عصمة المولى عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم من محاولات قتله التى همَّ بها كفار قريش، فرادى تارة، وجماعات تارة أخرى، والتى كان آخرها جماعة فى مكة، ليلة هجرته إلى المدينة المنورة، حيث رد كيدهم إلى نحورهم، وعادوا إلى ديارهم، كحالهم فى كل مرة يجرون أذيال خزى الله عز وجل لهم. هذا ولم تكن عصمة المولى عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم فى ليلة الهجرة قاصرة على نجاته من بين أيدى صناديد الكفر فى مكة، وإنما امتدت عنايته عز وجل ورعايته لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو فى طريقه إلى المدينة، وفى غار ثور، كما جاء فى الحديث السابق، من نسج العنكبوت على باب الغار، فكان قولهم: "لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه". ولم تكن عصمة الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم فى غار ثور، قاصرة على العنكبوت، وإنما امتدت إلى الشجرة التى أنبتها الله عز وجل على فهم الغار، تستر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه رضى الله عنه، وإلى حمامتين وحشيتين وقفتا على فم الغار.
فعن أبى مصعب المكى (1) قال: أدركت أنس بن مالك، وزيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة، رضى الله عنهم، فسمعتهم يحدثون: أن النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله سبحانه، شجرة فنبتت على وجه الغار فسترته، وأمر حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار، وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل، بعصيَّهم وحرْباتهم وسيوفهم، حتى إذا كانوا من النبى صلى الله عليه وسلم، قدر أربعين ذراعاً جعل بعضهم ينظر فى الغار، فقال: رأيت حمامتين بفم الغار، فعرفت أنه ليس فيه أحد، فسمع النبى صلى الله عليه وسلم ما قال؛ فعرف أن الله عز وجل قد درأ بهما، فدعا لهن وسمَتَ (2) عليهن، وفرض جزاءَهن، ونزلن بالحرم" (3) .
وهذا الحديث على غرابة سنده، فلا غرابة فى متنه، وما فيه قليل فى كرامته صلى الله عليه وسلم، وجائز فى العقل، مؤيد بمطلق قوله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم} (1) فتأمل ما فى الآية الكريمة من نسبة نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل، وتأييده صلى الله عليه وسلم بجنود لا يراها أحد، تجد أنه لا يوجد ما يمنع أن يكون ما ورد فى الحديث الغريب السند من الحمامتين الوحشيتين، والشجرة، والعنكبوت من جنود الله تعالى!! وامتدت عصمة الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم فى غار ثور إلى أمره عز وجل ملائكته أن تستر نبيه وصاحبه عن أعين المشركين، فكان صلى الله عليه وسلم وصحابه يريان المشركين، والمشركون لا يرونهما. فعن أبى بكر رضى الله عنه قال: "كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم فى الغار، فرأيت آثار المشركين، قلت يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا، قال صلى الله عليه وسلم: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" (2) "لا تحزن إن الله معنا" (3) وهذا اليقين من النبى صلى الله عليه وسلم بعصمة الله عز وجل له، تجلى فى ملائكة الله عز وجل التى سترتهم وهم فى الغار.
فعن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنها (1) : "وطافوا فى جبال مكة حتى انتهوا إلى الجبل الذى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذا الرجل يرانا – وكان مواجهة– فقال: كلا! إن ملائكة تسترنا بأجنحتها، فجلس ذلك الرجل يبول مواجهة الغار، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "لو كان يرانا ما فعل هذا" (2) .
وتمتد عناية الله عز وجل وعصمته لنبيه صلى الله عليه وسلممن محاولة سراقة بن مالك (1) النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالقتل أو الأسر للحصول على الدية التى رصدها كفار قريش (مائة ناقة لمن يأتى برسول الله صلى الله عليه وسلم" قتيلاً أو أسيراً وكما جاء على لسان سراقة بعد أن تتبع أثرهم قال: "حتى إذا دنوت منهم، (أى اقترب من رَكْبِه صلى الله عليه وسلم) فعثرت بى فرسى، فخررت عنها، فقمت فأهويت يدى إلى كنانتى فاستخرجت منها الأزلام (2) فاستقسمت بها: أضرهم أم لا؟ فخرج الذى أكره، فركبت فرسى – وعصيت الأزلام – تقربِّ بى، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسى فى الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم
زجرتها، فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان (1) ساطع فى السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذى أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا فركبت فرسى حتى جئتهم، ووقع فى نفسى حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية. وأخبرتهم أخباراً ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآنى (2) ولم يسألانى إلا أن قال: أخف عنا. فسألته أن يكتب لى كتاب أمن (3) ، فأمر عامر بن فهيرة رضى الله عنه (4) فكتب فى رقعة من آدم (5) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم" (6)
0 فتأمل كيف عصم رب العزة رسوله صلى الله عليه وسلم من محاولة سراقة قتله أو أسره، ليفوز بالدية التى رصدت من كفار قريش، إذ ما اقترب من ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عثرت به فرسه، مرة تلو الأخرى بعد إصراره على تتبع ركبه صلى الله عليه وسلم، حتى إذا ما سمع دعاءه صلى الله عليه وسلم بأن يصرعه، أو يكفيه إياه بما شاء، إلا وتتعثر به فرسه للمرة الثالثة، حتى أن يدا فرسه فى هذه المرة غاصت فى الأرض حتى بلغتا الركبتين، وبعد محاولات منه لاستنهاضها، إذ به يرى على يديها أثر دخان من غير نار ساطع فى السماء، وهنا أيقن سراقة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظ، ومعصوم منه، كما أيقن فى نفس الوقت، أنه نبى الله حقاً، وأن دينه سيظهر، فما كان منه إلا أن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاب أمان، فأعطاه إياه، ولم يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى أن يقف فى مكانه، ولا يترك أحداً يلحق برَكْبِهِ صلى الله عليه وسلم، ففعل سراقة، وهنا تتجلى إرادة المولى عز وجل ومشيئته فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغير حال سراقة "إذ كان فى أول النهار جاهداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر النهار مسلحة له" (1) أى حارساً له بسلاحه، بل وبلسانه أيضاً كما جاء فى رواية ابن سعد: "أنه لما رجع، قال لقريش: قد عرفتم بصرى بالطريق وبالأثر، وقد استبرأت لكم، فلم أر شيئاً، فرجعوا" (2) وقال أيضاً رضى الله عنه رداً على أبى جهل لما بلغه موقفه هذا، ولامه فى تركهم أنشده: أبا حكم والله لو كنت شاهداً ... *** ... لأمر جوادى إذ تسيخ قوائمه
نماذج من كفاية الله عز وجل وعصمته لرسوله صلى الله عليه وسلم
عجبت ولم تشكك بأن محمداً ... *** ... نبى وبرهان فمن ذا يقاومه؟ ! عليك بكف الناس عنه فإننى ... *** ... أرى أمره يوماً ستبدو معالمه (1) . ... وبعد: فهل فى كل ما سبق من دلائل حفظ الله عز وجل وعصمته لرسوله صلى الله عليه وسلم من محاولات كفار قريش قتله، شك فى عصمته صلى الله عليه وسلم من القتل فى فترة مكة، حتى على فرض مدنية الآية الكريمة: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (2) ؟!!. ... إن خصوصية عصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى بدنه الشريف من القتل، دلت عليها نصوص القرآن الكريم والسنة فى مكة على ما سبق، وفى المدينة أيضاً. ... وإليك نماذج من كفاية الله عز وجل وعصمته لرسوله صلى الله عليه وسلم من مؤامرات أعدائه لقتله أو النيل منه، فى المدينة المنورة:
1- ما حدث بعد غزوة بدر الكبرى من محاولة عمير بن وهب (1) قتل النبى صلى الله عليه وسلم، وكتمه ذلك سراً بينه وبين صفوان بن أمية (2) على أن يؤدى عنه صفوان دينه، ويعوله فى أهله وعياله، ولا ينقسهم شيئاً ما بقوا، فلما قدم عمير المدينة، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابنه "وهب" وقع أسيراً يوم بدر، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه فى عنقه قال: أرسله يا عمر، أدن يا عمير، فدنا، ثم قال: انعموا صباحاً – وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير بالسلام تحية أهل الجنة" فقال: أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد، قال: "فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذى فى أيديكم فأحسنوا فيه، قال: "فما بال السيف فى عنقك" قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال: "أصدقنى ما الذى جئت له؟ " قال: ما جئت إلا لذلك، قال: "بلى قعدت أنت وصفوان بن أمية فى الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين على، وعيال عندى، لخرجت حتى أقتل محمداً: فتحمل لك صفوان بن أمية، بدينك، وعيالك، على أن تقتلنى له، والله حائل بينك وبين ذلك" قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إنى لأعلم أن ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذى هدانى للإسلام، وساقنى هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "فقهوا أخاكم فى دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره" ففعلوا" (1) . فتدبر ما فى القصة السابقة، من يقين رسول اللهصلى الله عليه وسلم بعصمته من القتل، بعد أن أخبر عمير بما كان بينه وبين صفران من اتفاق على قتلهصلى الله عليه وسلم، وإعلامه بأن الله عز وجل حائل بينه، وبين ما جاء من أجله.
2- وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه أن رجلاً من محارب يقال له غورث بن الحارث قال لقومه: اقتل لكم محمداً، فقالوا: كيف تقتله؟ قال: أفتك به، فأقبل إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم وهو جالس، وسيفه فى حجره، فقال: يا محمد انظر إلى سيفك هذا، قال: نعم، فأخذه واستله وجعل يهزه ويهم، فيكبته الله، فقال: يا محمد أما تخافنى؟ قال: لا، وما أخاف منك؟ قال: أما تخافنى، وفى يدى السيف؟ قال: لا، يمنعنى الله منك، ثم أغمد السيف، ورده إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم} (1) .
3- وقيل فى سبب نزول هذه الآية، ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إن عمرو بن أمية الضمرى (1) حين انصرف من بئر معونة (2) لقى رجلين كلابيين معهما أمان من رسول اللهصلى الله عليه وسلم، فقتلهما ولم يعلم أن معهما أماناً من النبىصلى الله عليه وسلم، ففداهما رسول اللهصلى الله عليه وسلم ومضى إلى بنى النضير، ومعه أبو بكر وعمر وعلى، فتلقوه بنو النضير فقالوا: مرحباً يا أبا القاسم؛ ماذا جئت له؟ قال: رجل من أصحابى قتل رجلين من كلاب معهما أمان منى، طلب منى ديتهما، فأريد أن تعينونى، قالوا: نعم والحب لك والكرامة يا أبا القاسم، اقعد حتى نجمع لك، فقعد رسول اللهصلى الله عليه وسلم تحت الحصن، وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وعلى بين يديه، وقد توامر بنو النضير أن يطرحوا عليه حجراً (3) ، وقال بعض أهل العلم: بل ألقوه، فأخذه جبرئيل عليه السلام، وأخبر النبى بما توامر الفسقة، وما هموا به، فقام رسول اللهصلى الله عليه وسلم واتبعه أبو بكر وعمر وعلى رضى الله عنهم، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم} (4)
، وفى رواية عن عروة بن الزبير زاد: "وأمر رسول اللهصلى الله عليه وسلم بإجلائهم، لما أرادوا برسول اللهصلى الله عليه وسلم، فلما أخذهم بأمر الله وأمرهم أن يخرجوا من ديارهم، فيسيروا حيث شاؤوا، قالوا: أين تخرجنا، قال صلى الله عليه وسلم: إلى الحشر" (1) . فتأمل ما فى حديث جابر من عصمة المولى عز وجل لنبيهصلى الله عليه وسلم من الإعراب حيث أغمد السيف ورده هو بنفسه إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم بعد أن أخذ يراجع رسول اللهصلى الله عليه وسلم فى قتله، فما الذى أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الحظوة عند قومه بقتله؟! إن مراجعة الأعرابى لرسول اللهصلى الله عليه وسلم فى الكلام، دليل على أن الله عز وجل منعه، بدليل ما ورد فى الحديث من تلويحه بالسيف، فيكبته الله. وفى جوابهصلى الله عليه وسلم "يمنعنى الله منك" إشارة إلى ذلك، ولذلك لما أعاد الأعرابى كلامه، لم يزدهصلى الله عليه وسلم على ذلك الجواب، وفى ذلك غاية التهكم، وعدم المبالاة به، وفى ذلك دليل على قوة صبره وشجاعته، ويقينه بعصمة المولى عز وجل له.
وفى حديث ابن عباس بيان لعصمة رسول اللهصلى الله عليه وسلم من محاولة يهود بنو النضير قتلهصلى الله عليه وسلم، كما فعل أسلافهم مع أنبيائهم سابقاً، ولكن عصمة رب العزة، سواء بتلقى جبريل الحجر قبل أن يقع عليهصلى الله عليه وسلم، أو بإخباره بمؤامرتهم، وبما هموا به، وقيامهصلى الله عليه وسلم قبل أن يلقوا الحجر. ففى تلك القصة تأكيد لخصوصية عصمتهصلى الله عليه وسلم فى بدنه الشريف من القتل، كما قال عز وجل: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} (1) فقوله "من قبل" بيان لخصوصية عصمته فى بدنه من القتل لأن اليهود وإن وقع منهم قبلهصلى الله عليه وسلم قتل أنبياءهم بإذن الله تعالى، إلا أنهم مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم، لم ولن يفلحوا فى قتله مهما حاولوا، بدليل الآية الكريمة، وهو ما أكدته السنة المطهرة كما فى هذه القصة، وكما فى الحديث التالى.
4- عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن امرأة يهودية (1) أتت رسول اللهصلى الله عليه وسلم بشاه مسمومة، فأكل منها. فجئ بها إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت لأقتلك. قال: "ما كان الله عزوجل ليسلطك على ذاك" قال: أو قالصلى الله عليه وسلم: "علىَّ" قال قالوا ألا نقتلها؟ قال: لا (2) ، قال: فما زلت أعرفها فى لهوات (3) رسول اللهصلى الله عليه وسلم (4) .
ففى قولهصلى الله عليه وسلم "ما كان الله ليسلطك على ذاك أو قال: علىَّ" فيه بيان عصمتهصلى الله عليه وسلم من الناس كلهم، كما قال الله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (1) وهى معجزة لرسول اللهصلى الله عليه وسلم فى سلامته من السم المهلك لغيره، وفى إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة، وكلام الشاة له، فقد جاء فى غير مسلم، أنهصلى الله عليه وسلم قال: "ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتنى أنها مسمومة" (2) .
5- وعن سلمة بن الأكوع رضى الله عنه (1) أنه كان مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل بفرس له يقودها عقوق (2) ومعها مهرة لها يتبعها فقال: من أنت؟ فقال: "أنا نبى" قال: ما نبى؟ قال "رسول الله" قال: متى تقوم الساعة؟ فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله" قال: أرنى سيفك، فأعطاه النبىصلى الله عليه وسلم سيفه، فهزه الرجل ثم رده عليه، فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم "أما أنك لم تكن تستطيع الذى أردت" (3) زاد الطبرانى فى روايته، ثم قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "إن هذا أقبل، فقال آتية فاسأله، ثم أخذ السيف، فأقتله، ثم أغمد السيف" (4) . فتأمل يقين رسول اللهصلى الله عليه وسلم بعصمته من القتل، إذ أخبره ربه عز وجل بحال الرجل القادم عليه، وأنه سيسأل رؤية سيفهصلى الله عليه وسلم ليقتله به، ومع ذلك عندما يأتى الرجل يعطيه النبىصلى الله عليه وسلم السيف عندما سأله، ويهز الرجل السيف محاولاً قتل رسول اللهصلى الله عليه وسلم، ولكن يكبته الله ويمنعه، فلا يملك إلا رد السيف إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم ويخبره بما كان فى نفسه من نية قتلهصلى الله عليه وسلم، وأنه لم يكن يستطيع ذلك، لعصمة الله لهصلى الله عليه وسلم.
6- وعن جعدة بن خالد بن الصَّمة رضى الله عنه (1) قال: شهدت النبى صلى الله عليه وسلم وأتى برجل، فقيل يا رسول الله، هذا أراد أن يقتلك، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: لم تراع، لم تراع (2) لو أردت ذلك لم يسلطك الله على قتلى" (3) . 7- وعن فضالة بن عمير الليثى رضى الله عنه (4) قال: أردت قتل النبىصلى الله عليه وسلم، وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنوت منه، قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم "أفضالة"؟ قلت: نعم! فضالة يا رسول الله، قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قلت: لا شئ، كنت أذكر الله عز وجل، فضحك النبىصلى الله عليه وسلم ثم قال: "استغفر الله" ثم وضع يده على صدرى، فسكن قلبى، فوالله ما رفع يده عن صدرى حتى ما من خلق الله شئ أحب إلىَّ منه" (5) نعم: هكذا النبوة يقين بعصمة الله تعالى وحفظه، وعلم بالغيب، ورحمة وسكن، وهداية للعصاة.
8- وعن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه (1) قال: كنت آخذاً بخطام ناقة رسول اللهصلى الله عليه وسلم أقود به، وعمار (2) يسوقه، أو أنا أسوقه، وعمار يقوده، حتى إذا كنا بالعقبة (3) ، فإذا أنا باثنى عشر راكباً، قد اعترضوه فيها، قال: فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، فصرخ بهم فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل عرفتم القوم؟ قلنا: لا، يا رسول الله، كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب، قال: هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟ قلنا: لا، قال: أرادوا أن يزحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى العقبة، فليقوه منها. قلنا: يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال: لا، أكره أن تحدث العرب بينها: أن محمداً قاتل بقوم، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم، ثم قال: اللهم ارمهم بالدبيلة (4) . قلنا: يا رسول الله! وما الدبيلة؟ قال: شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك" (5) .
وللحديث شاهد صحيح أخرجه أحمد فى مسنده عن أبى الطفيل رضى الله عنه (1) . وأصل هذه القصة أخرجها الإمام مسلم فى صحيحه مختصرة عن حذيفة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "فى أمتى اثنا عشر منافقاً، لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها، حتى يلج الجمل فى سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة. سراج من النار يظهر فى أكتافهم حتى ينجم من صدورهم" (2) وكان حذيفة رضى الله عنه على علم بأسمائهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من الصحابة (3) ، ولما سئل رضى الله عنه: "كيف عرفت المنافقين، ولم يعرفهم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ولا عمر؟ قال: إنى كنت أسير خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنام على راحلته، فسمعت ناساً منهم يقولون: لو طرحناه عن راحلته، فاندقت عنقه فاسترحنا منه، فسرت بينه وبينهم، وجعلت أقرأ وأرفع صوتى، فانتبه النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: من هذا؟ فقلت حذيفة، قال: من هؤلاء خلفك؟ قلت: فلان وفلان حتى عددت أسماءهم، قال: وسمعت ما قالوا؟ قلت: نعم، ولذلك سرت بينك وبينهم، فقال: إن هؤلاء فلاناً وفلاناً، حتى عدد أسماءهم، منافقون، لا تخبرن أحداً" (4) ، وفيهم أنزل
قوله تعالى: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا} (1) . إن فى تلك الآية الكريمة يمتن رب العزة على نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم بعصمته من مؤامرة نفراً من المنافقين هموا بقتله صلى الله عليه وسلم، وهو عائد من تبوك فى طريقه إلى المدينة، بطرحه من فوق عقبة فى الطريق، وقد جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر منافقاً، وأخبرهم بقولهم، وبما هموا به من قتله، ولكنهم حلفوا بالله ما قالوا، وتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجاوز عنهم، حتى لا يقال إن محمداً يقتل أصحابه، بعد أن أظهره الله عز وجل على أعداءه، ولكن مع ذلك لحقتهم لعنة الله فى الدنيا، وموتهم شر ميتة بالدبيلة، وفى الآخرة لهم عذاب جهنم، جزاء نفاقهم وما همو به من قتله صلى الله عليه وسلم، ولم ينالوا ذلك لعصمة رب العزة له صلى الله عليه وسلم. وبعد: فما ذكر من هذه النماذج الصحيحة فى عصمته صلى الله عليه وسلم من القتل، غنىٌ عن غيره مما لم يذكر من الصحيح، أو ورد ضعيفاً. وإذا تقرر هنا فى هذا الفصل تفصيل دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه من خلال القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، فقد حان الآن بيان شبهات الطاعنين فى سلامة عقله وبدنه والرد عليها، فإلى تفصيل ذلك فى الفصل التالى.
الفصل الثانى: شبه الطاعنين فى سلامة عقله وبدنه والرد عليها
الفصل الثانى: شبه الطاعنين فى سلامة عقله وبدنه والرد عليها ويشتمل على تمهيد ومبحثين: المبحث الأول: شبهاتهم من القرآن الكريم والرد عليها: ... ويشتمل على تمهيد وخمسة مطالب: المطلب الأول: شبهتهم حول آيات ورد فيها إسناد "الضلال" و"الغفلة" إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم والجواب عنها. المطلب الثانى: شبهتهم حول آيات ورد فيها إسناد "الذنب" و"الوزر" إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم والجواب عنها. المطلب الثالث: شبهتهم حول آيات ورد فيها مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عزوجل، ونهيه عن طاعة الكافرين، ونهيه عن الشرك والجواب عنها. المطلب الرابع: شبهتهم حول آيات ورد فيها مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعرض الشيطان له والجواب عنها. المطلب الخامس: شبهتهم حول آيات ورد فيها معاتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والجواب عنها. المبحث الثانى: شبهاتهم من السنة النبوية والرد عليها: ... ويشتمل على تمهيد وخمسة مطالب: المطلب الأول: شبهة الطاعنين فى حديث "شق صدره صلى الله عليه وسلم" والرد عليها. المطلب الثانى: شبهة الطاعنين فى حديث "فترة الوحي" والرد عليها. المطلب الثالث: شبهة الطاعنين فى حديث "نحن أحق بالشك من إبراهيم" والرد عليها. المطلب الرابع: شبهة الطاعنين فى حديث "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم" والرد عليها. المطلب الخامس: شبهة الطاعنين فى حديث "أَهَجَرَ" والرد عليها.
تمهيد
تمهيد ... ثبت فيما سبق ثبوتاً قطعياً من خلال القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، عصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها من كل ما يمس قلبه وعقيدته بسوء، من التمسح بالأصنام، أو الحلف بها، أو أكل ما ذبح على النصب أو نحو ذلك من مظاهر الكفر، والشرك، والشك، والضلال والغفلة، وكذا عصمته صلى الله عليه وسلم من تسلط الشيطان عليه، وعصمته من كل ما يمس عقله وخلقه بسوء؛ ومن ظن بأن الله تعالى يمكن أن يُقدِّر على نبيه صلى الله عليه وسلم، عكس ذلك بعد اصطفائه فقد ظن السوء بربه. أعوذ بالله تعالى من الخزى والخذلان، وسوء الخاتمة والمنقلب.
.. وكما ظهر قديماً من يطعن فى عصمة الأنبياء ممن لا يعتد بخلافهم من الأزرقة، والكرامية، والرافضة وغيرهم فقد ظهر حديثاً أذيالهم من المنكرين لسنة المعصوم صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة الواردة فيها، ومن عجيب أمر هؤلاء الأذيال تحمسهم لفكرة أن الأنبياء غير معصومين، أكثر من أسلافهم، إذ تجرأوا على أنبياء الله عز وجل بجعلهم أقل مرتبة من سائر البشر، وحال لسانهم يقول: الأنبياء أناس يخطئون كما يخطئ عامة الناس، بل إن الله قد يتوب على عامة الناس، ولا يتوب عليهم، وليس أدل على ذلك من زعم بعضهم أن "وصف الأنبياء بالعصمة المطلقة تأليه لهم، وأنهم معرضون للوقوع فى أعظم الذنوب وهو الشرك الأكبر، وأنهم سيحاسبون أمام الله يوم القيامة" (1) ومن هنا زعموا أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليه وشرك" (2) وتجرأ بعضهم على كتاب الله عز وجل زاعماً: "أن القرآن الكريم لم يعتبر النبى صلى الله عليه وسلم معصوماً" (3) بل ويذهب إلى أن الاعتقاد بعصمة الأنبياء فى الإسلام دخيل عليه من النصرانية إذ يقول: "دخلت فكرة عصمة الأنبياء، إلى الفكر الإسلامى نقلاً عن الفكر المسيحى الذى يؤمن بأن المسيح اقنوم "صورة" لله، وأنه لذلك لا يمكن أن يخطئ، لأنه معصوم بطبيعته من الوقوع فى الخطأ" (4) متجاهلاً أن حقوق الأنبياء واحدة لا تختلف أبداً، فما يجب فى حق واحد منهم يجب كذلك فى حق الجميع، وما يستحيل فى حق واحد منهم يستحيل كذلك فى حق الجميع، لأنهم متساوون فيما يجب
لهم، وما يستحيل عليهم بمقتضى قوله تعالى: {لا نفرق بين أحد من رسله} (1) وقوله سبحانه: {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يأتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيماً} (2) وقوله عز وجل: {قل ما كنت بدعاً من الرسل} (3) ومن هنا كان الدفاع عن عصمة نبينا صلى الله عليه وسلم دفاع عن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ... والمتتبع للمروجين لفرية عدم عصمة الأنبياء، يهون عليه أنه يجدهم جميعاً من أصحاب المنافع والشهوات، أو من أصحاب الأغراض، وأرباب الهوى. ... وقد استند هؤلاء المشاغبون فى عصمة النبى صلى الله عليه وسلم إلى بعض النصوص القرآنية والنبوية التى قد يتوهم من ظاهرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى ضلال أو غفلة قبل نبوته، أو فى شك، وتأثير للشيطان، عليه بعد البعثة، وكلك نصوص وردت فيها بعض التنبيهات الموجهة مباشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى القرآن الكريم (4) وهذه التنبيهات قد تبدو فى الظاهر وكأنها تمس عصمته صلى الله عليه وسلم، فأخذوا يلوون تلك النصوص، ويحملونها من المعانى مالا تحتمل، إلا أنهم لن يستطيعوا بهذه الحيلة أن يضللوا الأمة. ... وسوف أعرض لهذه النصوص والتنبيهات، وأبين التوجيه الصحيح لها بما يبين الحق، ويصحح الفهم، ويزيل ما يقع من الوهم إن شاء الله تعالى، آملاً منه عز وجل التوفيق والهداية إلى ما فيه السداد، وحسن الأدب فى بيان المراد. فإلى بيان ذلك فى المبحثين التاليين.
المبحث الأول: شبهاتهم من القرآن الكريم على عدم عصمة النبى صلى الله عليه وسلم
المبحث الأول: شبهاتهم من القرآن الكريم على عدم عصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه والرد عليها تمهيد: ... إن الذى يتتبع القرآن الكريم، ويتقصى آياته العظيمة، ويمعن النظر فيه، ينتهى منه إلى رصيد ضخم، وثروة لا حدود لها، من الثناء الحلو، والمديح الطيب، والتنويه الذى ليس قبله ولا بعده، برسول هذه الإنسانية، وسيد هذا الكون، حتى لكأنه بلغ قمة الثناء، وغاية المديح، وكل ذلك تجده حتى فى الآيات المتشابهات التى استدل بها خصوم السنة المطهرة والسيرة العطرة. ... إن مما يشرح الصدر، ويبهج النفس أن المتتبع للآيات المتشابهات التى استدلوا بها على عدم عصمتهم صلى الله عليه وسلم، يرى أنها ورادة فى مقام المنَّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان عظيم مكانته وفضله عند ربه عز وجل فى الدنيا والآخرة، بأعظم ما يكون البيان. ... ويرى بوضوح وجلاء أن كل آية من تلك الآيات تأتى بنوع من الترفق برسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخطاب طمأنة لقلبه الطاهر، وتنادى بأن ما ورد من ظاهر تلك الآيات مما يمس عصمته صلى الله عليه وسلم غير مراد، وتنادى بأن ما صدر منه من خطأ فى الاجتهاد، ووجه إلى الأخذ بالأصوب منه فيما يستقبل من حوادث، لم تؤثر على شئ من عصمته، ولا مما ناله من شرف القرب، والرضا عليه من الله عز وجل، مما يمكن أن يقال فيه: إنه مسح بيد الرحمة على القلب الطاهر الرحيم، الذى جعله رب العزة هدى ورحمة للعالمين. ... ومن هنا من يتأمل ما استدل به أعداء الإسلام من آيات قرآنية على عدم عصمته صلى الله عليه وسلم، لا يستطيع إلا أن يقرر بأنها افتراءات أطلقوا عليها اسم أدلة وبراهين… وقد لا يصل القارئ إلى هذا التقرير، إلا بعد أن يتأمل جيداً، ويرجع إلى النصوص، ويمحصها بدقة فيخرج بنتيجة حاسمة، وحكم نهائى، بأن ما زعموه أدلة وحججاً وبراهين، إنما هى من نفخ الشيطان وهمزه ونفثه، سولها لهم الشيطان، وحسنها فى قلوبهم، ودفعهم بأن يقولوا أنها حجج قرآنية.
المطلب الأول: شبهتهم حول آيات ورد فيها إسناد "الضلال" و"الغفلة" إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم
.. وسوف نناقشها فقرة فقرة، وننقضها لبنة لبنة، حتى يقتنعوا أن ما زعموه من أدلة هى السراب الباطل الذى يحسبه الظمآن ماءً. ... إنى أقول ذلك ومعى تأكيداً له شواهد من التاريخ، والنقل الثابت من الكتاب والسنة، وإجماع الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم من الكبائر والصغائر قبل النبوة وبعدها من كل ما يمس قلبه وعقيدته وخلقه وعقله بسوء، ومبرهناً فى نفس الوقت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل وأعلى، وأرفع وأقدس من أن تناله الشبه. ... فإلى بيان ذلك من خلال استعراض شبهاتهم والرد عليها فى المطالب التالية. المطلب الأول: شبهتهم حول آيات ورد فيها إسناد "الضلال" و"الغفلة" إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم والجواب عنها ... احتج المشاغبون الذاهبون إلى نفى العصمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قلبه وعقيدته قبل البعثة وبعدها، بما ورد من آيات أسند فيها "الضلال" و"الغفلة" إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم، وحملوها على الكفر فى حقه صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسى وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربى إنه سميع قريب} (1) وقوله عز وجل: {ووجدك ضالاً فهدى} (2) وقوله سبحانه: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (3) . ... ويجاب عن ما سبق بما يلى:
أولاً: حمل أعداء الإسلام، وأعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة كلمتى "الضلال" والغفلة، فى الآيات على الكفر والغى والفساد! وهذا تعسف باطل فى تأويل الآيات، ومرفوض من وجوه: الأول: أنه قبل النبوة لم يكن هناك شرعاً قائماً حتى يوصف المنحرف عنه بالضلال. الثانى: ما ثبت بإجماع الأمة قاطبة من عصمة الأنبياء قبل النبوة وبعدها من الكبائر والصغائر (1) . الثالث: ما ثبت بالتواتر عن حال النبى صلى الله عليه وسلم فى نشأته قبل النبوة من عصمة ربه عز وجل له من كل ما يمس عقيدته وخلقه بسوء على ما سبق تفصيله (2) . ثانياً: إن تأويل أعداء الإسلام للآيات يرفضه القرآن الكريم، حيث وردت فيه كلمة "الضلال" مراداً بها أكثر من معنى، منها ما يلى: ضلال بمعنى الكفر فى نحو قوله تعالى: {ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون} (3) . ضلال بمعنى النسيان فى نحو قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} (4) أى أن تنسى إحدى المرأتين، فتذكر إحداهما الأخرى. ضلال بمعنى الغفلة فى نحو قوله سبحانه على لسان سيدنا موسى عليه السلام لفرعون: {قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين} (5) .
ضلال بمعنى المحبة فى نحو قوله عز وجل على لسان أولاد سيدنا يعقوب: {إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفى ضلال مبين} (1) أى فى حب مبين ليوسف، وهو المشار إليه فى قوله تعالى على لسانهم أيضاً: {قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم} (2) وكذلك قوله سبحانه على لسان نسوة المدينة: {وقال نسوة فى المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً إنا لنراها فى ضلال مبين} (3) أى حب مبين ليوسف عليه السلام. ولما كان الضلال فى لسان أهل اللغة: العدول عن الطريق المستقيم، وضده الهداية، كان كل عدول ضلال، سواء كان عمداً أو سهواً، يسيراً كان أو كثيراً، ومن هنا صح أن يستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما، ولذلك نسب الضلال إلى الأنبياء، وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بون بعيد (4) . وعلى الوجهين الثالث والرابع تفسر آية: {ووجدك ضالاً فهدى} ونحوها، ويكون المعنى على الوجه الرابع: ووجدك محباً للهداية فهداك إليها، ويشهد لصحة هذا الوجه والتأويل ما يلى: أ- ما صح من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، وتحنثه فى غار حراء طلباً للهداية، حتى نزل عليه جبريل عليه السلام بالوحي (5) . ب- أن من أسماء المحبة عند العرب "الضلال" قال الشاعر: هذا الضلال أشاب منى المفرقا ... *** ... والعارضين ولم أكن متحققا عجباً لعزة فى اختيار قطيعتى ... *** ... بعد الضلال فحبلها قد أخلفا (6) .
قال الإمام الزرقانى (1) : وهذا أى الوجه الرابع، وتأويل الضلال بمعنى المحبة منقول عن قتادة، وسفيان الثورى، فلا يضر عدم وجوده فى الصحاح وأتباعه، فاللغة واسعة (2) ، وقال الدكتور عبد الغنى عبد الخالق: وهذا قول حسن جداً (3) ويكون المعنى على الوجه الثالث: {ووجدك ضالاً فهدى} أى وجدك غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة، فهداك أى فأرشدك. ... والضلال هنا: بمعنى الغفلة كقوله تعالى: {لا يضل ربى ولا ينسى} (4) أى لا يغفل ولا يسهو جل جلاله عن شئ فى السماوات والأرض وما فيهن (5) وقال تعالى فى حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (6) أى لم تكن تدرى القرآن، والشرائع وما فيها من قصص الأنبياء، فهداك الله عز وجل إلى ذلك، وهو معنى قوله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدى به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم} (7) .
.. والغفلة فى حق الأنبياء لا جهل فيها، لأن الجاهل لا يسمى غافلاً حقيقة لقيام الجهل به، فصح أن ضلال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غفلة لا جهل (1) وقد روى هذا التأويل والوجه بعينه عن ابن عباس، وجماعة من المفسرين، وجماعة من أهل التأويل (2) . ... وقيل: الضلال فى الآيات بمعنى التحير، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يخلو بغار حراء فى طلب ما يتوجه به إلى ربه، ويتشرع به؛ حتى هداه الله إلى الإسلام (3) وهذا التأويل قريب من الوجه السابق. ... وبقيت وجوه أخرى من التأويل ذكرها أهل العلم (4) وأقواها ما اكتفيت بذكره.
.. أما ما استدلوا به من قوله صلى الله عليه وسلم على ما حكاه عنه القرآن الكريم: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسى وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربى إنه سميع قريب} (1) وزعمهم بأن نسبة الضلال إلى نفسه صلى الله عليه وسلم يعنى أنه غير معصوم منه حتى بعد النبوة، فلا حجة لهم فى التعلق بظاهر هذه النسبة! لأن نسبة الضلال إلى نفسه صلى الله عليه وسلم جاءت منه على جهة الأدب مع ربه عز وجل، وهكذا الأنبياء جميعاً إذا مسهم ضر نسبوه إلى الشيطان على جهة الأدب مع الحق جل جلاله، لئلا ينسبوا له فعلاً يكره، مع علمهم أن كلا من عند الله تعالى، قال الخليل عليه السلام: {وإذا مرضت فهو يشفين} (2) وقال الخضر عليه السلام: {فأردت أن أعيبها} (3) أى السفينة، مع أن فعله كان بأمره عز وجل كما قال عز وجل على لسانه: {وما فعلته عن أمرى} (4) وقال موسى عليه السلام: {هذا من عمل الشيطان} (5) وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: "والخير كله فى يديك، والشر ليس إليك" (6) يعنى: ليس إليك يضاف الشر وصفاً لا فعلاً، وإن كان الفعل كله من عند الله عز وجل كما قال: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} (7) .
.. أما الشرط فى الآية {إن ضللت} فلا يقتضى الوقوع ولا الجواز، فالضلال لا يقع منه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يقع منه، لا قبل النبوة ولا بعدها، بمقتضى عصمة الله عز وجل له، ألا ترى كيف قال الله تعالى: {لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم} (1) والمعنى: لولا ما عصمناه ورحمناه، لأتى ما يذم عليه، على فرض الإمكان، لا على فرض الوقوع. ... وكذلك قوله تعالى: {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ} (2) والمعنى: لولا فضل الله عليك يا رسول الله، بالعصمة ورحمته إياك، لهمت طائفة منهم أن يضلوك، على فرض الإمكان، لا على فرض الوقوع، بدليل بقية الآية: {وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ} (3) وقال تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً} فهذه الآية كسابقتها من جملة الآيات المادحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أنها من المتشابهات. ... ومعناها: "لولا وجود تثبيتنا إياك، لقد قاربت أن تميل إليهم شيئاً يسيراً من أدنى الميل، لكن امتنع قرب ميلك وهواك لوجود عصمتنا وتثبيتنا إياك" (4) . ... فتأمل كيف بدأ بثباته وسلامته بالعصمة، قبل ذكر ما عتبه عليه، وخيف أن يركن إليه، على فرض الإمكان لا على فرض الوقوع. وتأمل كيف جاء فى أثناء عتبه – إن كان ثم عتب – براءته صلى الله عليه وسلم، وفى طى تخويفه تأمينه وكرامته صلوات الله وتسليمه عليه (5) .
.. وصفوة القول: أن ما استدل به من آيات على عدم عصمته صلى الله عليه وسلم لا حجة لهم فيها لأن تلك الآيات الكريمات هى فى حقيقة الأمر واردة فى مقام المنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع تلك المنَّة يستحيل ما استدلوا به على عدم عصمته صلى الله عليه وسلم وتأمل معى آية سبأ: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسى وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربى إنه سميع قريب} (1) فهل مع منَّة النبوة، ونزول وحى الله تعالى إليه يكون ضلال؟ هل يعقل هذا؟ وكذلك آية يوسف: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (2) فهل مع منة الوحي، ونزول القرآن عليه يجوز فى حقه صلى الله عليه وسلم غفلة جهل، سواء قبل النبوة أو بعدها؟! وكذلك ما استدلوا به من آية الضحى: {ووجدك ضالاً فهدى} تجدها آية كريمة وردت فى سورة عظيمة أقسم رب العزة فى أولها بالضحى، والليل إذا أقبل بظلامه، على أنه ما ترك نبيه صلى الله عليه وسلم، وما أبغضه، وهذا من كمال عنايته عز وجل فى رد ما قال المشركون للنبى صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ رب العزة يعدد فى ضمن نفى التوديع والقلى: {ما ودعك ربك وما قلى} (3) نعمه على حبيبه ومصطفاه فى الدنيا والآخرة، وآمراً له بأن يحدث بها قال تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى. ولسوف يعطيك ربك فترضى. ألم يجدك يتيماً فأوى. ووجدك ضالاً فهدى. ووجدك عائلاً فأغنى. فأما اليتيم فلا تقهر. وأما السائل فلا تنهر. وأما بنعمة ربك فحدث} (4) فتأمل كيف وردت آية {ووجدك ضالاً فهدى} فى معرض الثناء والمدح، والمنَّة عليه صلى الله عليه وسلم بنعم لا تعد ولا تحصى. فهل يعقل أن يكون مراداً بالضلال فى هذا المقام ضلال الكفر والفساد؟!! كيف وقد عصمه رب العزة من ذلك قبل نبوته، وهو ما تشهد
به سيرته العطرة، على ما سبق تفصيله فى مبحثى الفصل الأول دلائل عصمته فى عقله وبدنه من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ كما شهد رب العزة بعصمته من الضلال بعد نبوته فى قوله تعالى: {ما ضل صاحبكم وما غوى} (1) مع تأكيد النفى بالقسم بقوله عز وجل: {والنجم إذا هوى} (2) . ... وتأمل دلالة كلمة "صاحبكم" فى قوله {ما ضل صاحبكم وما غوى} ولم يقل: محمد، أو رسول الله، أو نحو ذلك. تأكيداً لإقامة الحجة على المشركين بأنه صاحبهم، وهم أعلم الخلق به، وبحاله، وأقواله، وأعماله، منذ نشأته بينهم بالأمانة، والصدق ورجاحة العقل، والخلق القويم، وأنهم لا يعرفونه بكذب، ولا غى، ولا ضلال فى العقيدة أو الأخلاق، وبالجملة: لا ينقمون عليه أمراً واحداً قط، وقد نبه الله تعالى على هذا المعنى بقوله عز وجل: {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون} (3) وقال سبحانه: {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون} (4) . ... هذا وفى القسم بالنجم، إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم يهتدى به كما يهتدى بالنجم، ومن يهتدى به، وحث رب العزة على الاقتداء به، يستحيل فى حقه الضلال. ... إن الآية الكريمة {ما ضل صاحبكم وما غوى} مسوقة لتبرئته صلى الله عليه وسلم مما رماه به المشركون قديماً من الضلال والغى، وهى أيضاً مسوقة لتبرئته صلى الله عليه وسلم مما رماه به أذيالهم حديثاً من تفسير الضلال والغفلة، بالكفر والفساد. فوجب أن يكون النفى عاماً فى الضلال والغى قبل النبوة وبعدها. ... وهو ما يدل عليه اللفظ العربى، ويقتضيه سياق الآية، إذ من المعلوم فى اللفظ العربى أن الفعل إذا ما وقع فى سياق النفى أو الشرط، دل على العموم وضعاً بلا نزاع.
المطلب الثانى: شبهتهم حول آيات ورد فيها إسناد "الذنب" و"الوزر" إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم
.. زد على هذا أن الأفعال بمنزلة النكرات، والنكرة تعم، فكأنه قال: ما صدر منه صلى الله عليه وسلم ضلال لا فى عقيدة ولا فى خلق لا قبل النبوة ولا بعدها (1) . ... والمفسرون حين عمموا الآية فى جميع الضلال قبل النبوة وبعدها، قالوا بما يدل عليه اللفظ العربى دلالة وضعية لغوية، وبما يقتضيه سياق الآية، وبما تشهد به سيرته صلى الله عليه وسلم من كمال عقله وخلقه قبل النبوة وبعدها، وعصمته فى قلبه وعقيدته من الكفر والشرك، والشك، والضلال، والغفلة، على ما سبق تفصيله (2) أهـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم المطلب الثانى: شبهتهم حول آيات ورد فيها إسناد "الذنب" و"الوزر" إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم والجواب عنها ... مما استدل به الطاعنون فى عصمة النبى صلى الله عليه وسلم، وزعموه أدلة على جواز الكبائر والصغائر عنه صلى الله عليه وسلم، قبل النبوة وبعدها، ما ورد فى القرآن الكريم من آيات أسند فيها "الذنب" و"الوزر" إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك} (3) وقوله سبحانه: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} (4) وقوله عز وجل: {ووضعنا عنك وزرك الذى أنقض ظهرك} (5) . ويجاب عن ما زعموا بما يلى: أولاً: إن ظاهر ما استدلوا به على عدم عصمته صلى الله عليه وسلم، لا حجة لهم فيه، لأن ظاهره غير مراد، لمن تفكر فى سياق الآيات التى ورد فيها كلمتى: "الذنب، والوزر"!.
.. وهو سياق يظهر منَّة الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيان عظيم مكانته وفضله عند ربه عز وجل فى الدنيا والآخرة، مما يؤكد أن ظاهر ما يطعن فى عصمته غير مراد، وإنما هو فى حقيقة الأمر من جملة ما يمدح به صلى الله عليه وسلم. وتأمل معى قوله تعالى: {ووضعنا عنك وزرك الذى أنقض ظهرك} إنها آية كريمة وردت بين منتين: الأولى: شرح الصدر فى قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} (1) شرحاً حسياً ومعنوياً، ليسع مناجاة الحق، ودعوة الخلق جميعاً، وليكون موضع التجليات ومهبط الرحمات (2) . والثانية: رفع ذكره فى قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} (3) رفعاً بلغت قمته فى الشهادة التى لا يكون الشخص مسلماً إلا إذا نطق بها، فضلاً عن قرن اسمه صلى الله عليه وسلم باسمه عز وجل فى الآذان، والإقامة، والتشهد فى الصلاة، وفى خطب الجمعة، والعيدين، وفى خطبة النكاح، وجعل الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم عبادة على المسلمين (4) . ... وتأمل معى أيضاً ما استدلوا به من قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} إن سياق الآية مع ما قبلها وما بعدها تجدها لا تحتمل إلا وجهاً واحداً، وهو تشريف النبى صلى الله عليه وسلم، من غير أن يكون هناك ذنب، ولكنه أريد أن يستوعب فى الآية جميع أنواع النعم الأخروية والدنيوية: أما الأخروية فشيئان: سلبية وهى غفران الذنوب، وإن لم يكن للمخاطب صلى الله عليه وسلم ذنب، ولو لم يذكر غفرانها لكان فى ذلك ترك استيعاب جميع أنواع النعم.
وثبوتية وهى لا تتناهى أشار إليها رب العزة بقوله تعالى: {ويتم نعمته عليك} (1) وجميع النعم الدنيوية شيئان أيضاً: دينية أشار إليها بقوله تعالى: {ويهديك صراطاً مستقيماً} (2) أى يثبتك على دين الإسلام. ودنيوية وهى قوله تعالى: {وينصرك الله نصراً عزيزاً} (3) أى نصراً لا ذل معه وقدم النعم الأخروية على الدنيوية، وقدم فى الدنيوية الدينية على غيرها تقديماً للأهم فالأهم فانتظم بذلك تعظيم قدر النبى صلى الله عليه وسلم بإتمام أنواع نعم الله عليه المتفرقة فى غيره، ولهذا جعل ذلك غاية للفتح المبين الذى عظمه وفخمه بإسناده إليه بنون العظمة، وجعله خاصاً بالنبى صلى الله عليه وسلم بقوله "لك" (4) فهل يعقل فى مقام المنَّة هذا، أن يكون المراد بالذنب والوزر ظاهرهما؟! ثانياً: إن هذه الألفاظ التى يتعارض ظاهرها مع العصمة تحتمل وجوهاً من التأويل: تخريجها على مقتضى اللغة بما يناسب سياقها فى الآيات، فالوزر فى أصل اللغة الحمل والثقل (5) قال تعالى: {حتى تضع الحرب أوزارها} (6) أى أثقالها، وإنما سميت الذنوب بأنها أوزاراً لأنها تثقل كاسبها وحاملها، وإذا كان الوزر ما ذكرناه، فكل شئ أثقل الإنسان وغمه وكده، وجهده، جاز أن يسمى وزراً، تشبيهاً بالوزر الذى هو الثقل الحقيقى.
وليس يمتنع أن يكون الوزر فى الآية ثقل الوحي، كما قال عز وجل: {إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلاً} (1) وعبء التبليغ، وثقل الدعوة، حيث كان الاهتمام بهما يقض مضجعه، حتى سهلهما الله تعالى عليه، ويسرهما له، ويقوى هذا التأويل، سياق الآية الواردة فى مقام الامتنان عليه صلى الله عليه وسلم وقوله عز وجل: {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً} (2) والعسر بالشدائد والغموم أشبه، وكذلك اليسر بتفريج الكرب، وإزالة الغموم والهموم أشبه (3) . فإطلاق الوزر من باب الاستعارة التصريحية كما هو معلوم. وفى قراءة ابن مسعود وحللنا عنك وقرك (4) والوقر الحمل، وهذه القراءة تؤيد ما قررناه (5) . أن "الوزر" و"الغفران" فى الآيتين مجازاً عن العصمة، والمعنى: عصمناك عن الوزر الذى أنقض ظهرك، لو كان ذلك الذنب حاصلاً، كما قال عز وجل: {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ} (6) وقوله عز وجل: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً} (7) والمعنى: لولا عصمتنا ورحمتنا لأتيت ما تذم عليه، على فرض الإمكان، لا على فرض الوقوع على ما سبق شرحه (8) .
"فسمى رب العزة العصمة "وضعاً" على سبيل المجاز، وإنما عبر عنها به، لأن الذنب يثقل الظهر بعقابه، وبالندم عليه فى حالة التوبة منه. والعصمة لكونها تمنع وقوع الذنب، تريح صاحبها من ثقل عقابه، ومن ثقل الندم عليه، فعبر عنها بالوضع لذلك" (1) . ويشهد لصحة هذا القول: سيرة النبى صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، من عصمة رب العزة له صلى الله عليه وسلم من كل ما يمس قلبه وعقيدته بسوء، من أكل ما ذبح على النصب، والحلف بأسماء الأصنام التى كان يعبدها قومه، واستلامها، وكذا عصمته من كل ما يمس خلقه بسوء، من أقذار الجاهلية ومعائبها، من اللهو، والتعرى، وكذا تشهد سيرته صلى الله عليه وسلم بعد النبوة، من عصمة رب العزة له صلى الله عليه وسلم مما عصمه به قبل النبوة، ومن أن يضله أهل الكفر، وأنى لهم ذلك وقد نفاه الله تعالى: {وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ} (2) كما عصمه ربه عز وجل من أن يفتنوه عن الوحي أو التقول عليه، ولو حدث شئ من ذلك، لوقع عقاب ذلك، الوارد فى قوله سبحانه: {إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً} (3) وقوله عز وجل: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين} (4) . فهل نقل إلينا ولو بطريق ضعيف أن رب العزة عاجله بالعقوبة فى الدنيا مضاعفة؟ أو تخلى عن نصرته؟ الإجابة بالقطع لا، لم ينقل إلينا، وهو ما يؤكد أن الخطاب فى آيات الشرط {ولولا أن ثبتناك} و {ولو تقول علينا بعض الأقاويل} ونحو ذلك، على فرض الإمكان، لا على فرض الوقوع، وبتعبير آخر الشرط فى تلك الآيات لا يقتضى الوقوع ولا الجواز.
وإذا صح تسمية العصمة "وضعاً" فى قوله تعالى: {ووضعنا عنك وزرك} (1) مجازاً، صحح أيضاً إطلاق المغفرة كناية عن العصمة فى قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} (2) إذ الغفر الستر والغطاء (3) والمعنى فى الآية: ليعصمك الله فيما تقدم من عمرك، وفيما أخر منه. قال الإمام السيوطى (4) : "وهذا القول فى غاية الحسن، وقد عد البلغاء من أساليب البلاغة فى القرآن؛ أنه يكنى عن التخفيفات بلفظ المغفرة، والعفو، والتوبة، كقوله تعالى عند نسخ قيام الليل: {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءُوا ما تيسر من القرآن} (5) وعند نسخ تقديم الصدقة بين يدى النجوى قال سبحانه: {فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم} (6) وعند نسخ تحريم الجماع ليلة الصيام قال عز وجل: {فتاب عليكم وعفا عنكم} (7) .
ووجه إطلاق المغفرة كناية عن العصمة: أن العصمة تحول بين الشخص وبين وقوع الذنب منه، والمغفرة تحول بين الشخص وبين وقوع العقاب عليه، فكنى عن العصمة بالمغفرة بجامع الحيلولة؛ لأن من لا يقع منه ذنب، لا يقع عليه عقاب. واختيرت هذه الكناية – أعنى الاستعارة – لأن المقام مقام امتنان عليه صلى الله عليه وسلم. ثم المعنى بعد هذا: ليظهر الله عصمتك للناس، فيروا فيك حقيقة الإنسان الكامل، ويلمسوا منك معنى الرحمة العامة، لا تبطرك عزة الفتح، ونشوة النصر، فلا تنتقم، ولا تتشفى، ولكن تعفوا وتغفر (1) .
ولهذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح مطاطئاً رأسه حتى كاد يمس مقدمة رحله، وهو راكب على بعيره تواضعاً لله عز وجل (1) .وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على رحله متخشعاً" (2) وفى نفس الوقت كان يرجع (3) فى تلاوته، وهو على مشارف مكة سورة الفتح (4) وهذا يعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان مندمجاً فى حالة من العبودية التامة لله تعالى، شكراً له عز وجل، على هذه النعم التى لا تعد ولا تحصى، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار والعبادة شكراً لله سبحانه على ذلك، وليس كما يفهم أعداء الإسلام، وخصوم السنة المطهرة أنه استغفار لذنبه (5) لأن الاستغفار ليس خاصاً بالذنوب، بل له حِكَمٌ كثيرة، على رأسها: شكر الله عز وجل على نعمه، ولذا جاء الأمر به للنبى صلى الله عليه وسلم شكراً لله عز وجل بنصره على أعدائه، وفتح مكة له، قال تعالى: {إذا
جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجاً. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} (1) وامتثل النبى صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الإلهى كما جاء فى حديث عائشة رضى الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه" قالت: فقلت: يا رسول الله! أراك تكثر من قول: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه؟ " فقال: خبرنى ربى أنى سأرى علامة فى أمتى، فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه. فقد رأيتها "إذا جاء نصر الله والفتح – فتح مكة – ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجاً. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً" (2) . وعصمته صلى الله عليه وسلم من الذنب فيما تقدم من عمره، وفيما أخر منه، من أعظم النعم التى قام النبى صلى الله عليه وسلم بشكرها، بالاستغفار، والقيام بين يدى الله عز وجل حتى تورمت قدماه. فعن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا صلى، قام حتى تفطر رجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله! أتصنع هذا، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً" (3) والمعنى: "أن المغفرة سبب لكون التهجد شكراً فكيف أتركه؟ " (4) .
وعلى ما تقدم فقوله تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} ونحوها من الآيات مراداً بها الحث على دوام الاستغفار والشكر لله عز وجل، على ما أنعم عليه من العصمة. وأقول: إذا لم يسلم الخصم بما سبق من تأويل آيات الذنب والوزر الواردة فى حقه صلى الله عليه وسلم، وأخذ بها على ظاهرها، فليبين لنا حقيقة الذنب والوزر الذى ارتكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء قبل النبوة أو بعدها؟!. إنه إن كان ثمَّ ذنب فلن يَخْرُج عن ترك الأَوْلَى، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين (1) وترك الأولى ليس بذنب، لأن الأولى وما يقابله مشتركان فى إباحة الفعل، والمباحات جائز وقوعها من الأنبياء، وليس فيها قدح فى عصمتهم ومنزلتهم، لأنهم لا يأخذون من المباحات إلا الضرورات (2) مما يتقوون به على صلاح دينهم، وضرورة دنياهم، وما أخذ على هذه السبيل التحق طاعة، وصار قربة (3) .
قلت: وكيف يتخيل صدور الذنب فى حقه صلى الله عليه وسلم، وقد عصمه ربه عز وجل فى قوله وفعله وخاطبه بقوله سبحانه: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى} (1) وقال عز وجل: {لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} (2) . "ومن تأمل إجماع الصحابة على اتباعه صلى الله عليه وسلم والتاسى به فى كل ما يقوله ويفعله من قليل أو كثير، أو صغير أو كبير، ولم يكن عندهم فى ذلك توقف ولا بحث، حتى أعماله فى السر والخلوة، يحرصون على العلم بها، وعلى اتباعها، عَلِمَ بهم صلى الله عليه وسلم أو لم يعلم، ومن تأمل أحوال الصحابة معه صلى الله عليه وسلم استحى من الله تعالى أن يخطر بباله خلاف ذلك" (3) . ثم إن حقيقة الذنب فى اللغة ترجع إلى كل فعل يُسْتَوخَمُ عُقباَهُ كما فسره الراغب فى مفرداته (4) . وشرعاً: يرجع الذنب إلى مخالفة أمر الله تعالى أو نهيه. وهو أمر نسبى يختلف باختلاف الفعل والفاعل، وقصد الفاعل، فليست المخالفة من العَالم كالمخالفة من الجاهل، وليست المخالفة الواقعة عن اجتهاد، كالمخالفة التى لا تقع عن اجتهاد، وليست المخالفة الواقعة بالقصد والتعمد، كالمخالفة الواقعة بالنسيان. ومن هنا تختلف الذنوب ومسئولياتها بالنسبة للفاعل، والحوادث. وعلى ضوء ذلك نفهم معانى الآيات التى ورد فيها إسناد الذنب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مضافاً إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم (5) .
وصفوة القول، أن يقال: إما أن يكون صدر من رسول صلى الله عليه وسلم ذنب أم لا! فإن قلنا: لا، امتنع أن تكون هذه الآيات إنكاراً عليه، وقدحاً فى عصمته. وإن قلنا: إنه صدر عنه ذنب – وحاشاه الله من ذلك – فقوله تعالى: {ووضعنا عنك وزرك} وقوله سبحانه: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} يدل على حصول العفو (1) وبعد حصول العفو يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه! فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال: إن قوله تعالى {واستغفر لذنبك} وقوله سبحانه: {ووضعنا عنك وزرك} ، يدل على كون رسول الله صلى الله عليه وسلم مذنباً، أو غير معصوم!. وهذا جواب شاف كاف قاطع. وما فوق مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام أهـ.
المطلب الثالث: شبهتهم حول آيات ورد فيها مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل
المطلب الثالث: شبهتهم حول آيات ورد فيها مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل ونهيه عن طاعة الكافرين، ونهيه عن الشرك والجواب عنها ... زعم أعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معصوم من الذنوب كبائرها وصغائرها، قبل النبوة وبعدها، ودليلهم ما ورد فى القرآن الكريم من آيات تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل، وتنهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين والكاذبين، كما تنهاه عن التكذيب بآيات الله عز وجل، وتحذره من الشك فيما أنزل عليه، ومن الوقوع فى الشرك؛ ومن الآيات التى استشهدوا بها على ما زعموا ما يلى: قوله تعالى: {يا أيها النبى اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} (1) . وقوله سبحانه: {فلا تطع المكذبين. ودو لو تدهن فيدهنون. ولا تطع كل حلاف مهين} (2) . وقوله عز وجل: {فإن كنت فى شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} (3) . وقوله: {ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} (4) . وقوله: {ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين} (5) . ويجاب عن ما سبق بما يلى:
أولاً: لا حجة للخصوم فى التعلق بظاهر الآيات التى استشهدوا بها على عدم عصمته صلى الله عليه وسلم لِمَ صح من سيرته صلى الله عليه وسلم - أنه كان أتقى وأخشى خلق الله عز وجل، وما كذب بآيات ربه تعالى، ولا شك فيما أنزل عليه، ولا أشرك بالله طرفة عين أو أقل منها، ولا أطاع أحداً من الكافرين، أو المنافقين، أو الكاذبين. ومن زعم خلاف ذلك فليبينه لنا، فالأصل براءة الذمة حتى يثبت العكس، وهذه قاعدة أصولية، تحدد الأصل فى كل شئ، وهى تعنى أن كل منهم برئ حتى تثبت إدانته… فالمتهم بالشرك أو الشك، أو بأى ذنب آخر هو برئ منه، حتى تثبت إدانته بما اتهم به بالدليل الشرعى!. ... فهل من دليل شرعى على ما افتروه على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم عصمته؟! ولكن أنى لأعداء الإسلام، وخصوم السنة المطهرة بدليل شرعى بعد شهادة القرآن الكريم له بالخشية والخوف من الله تعالى فى غير ما آية. منها: قوله تعالى: {قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم} (1) . وقوله سبحانه: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم} (2) . وهذا وإن كان أمراً من الله عز وجل أن يقول ذلك، فهو أيضاً تقرير لحقيقة حاله صلى الله عليه وسلم، ووصف له فى المعنى بتلك الصفة الإيمانية العليا. وفى الآية أيضاً شهادة له صلى الله عليه وسلم بأنه ما أطاع أهل الكفر فى أهوائهم؛ وقد كان أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام كلهم بمحل الخشية والخوف من الله تعالى، كما وصفهم بذلك بقوله: {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً} (3) وخوفهم ليس خوف معصية وإساءة، وإنما هو خوف إعظام وتبجيل.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد الأنبياء وخاتمهم وأفضلهم، فهو معهم على ذلك الخُلُق، وتشمله هذه الآية شمولاً أولياً، لأنها فى صدر الحديث عنه، فهى شهادة قرآنية إلهية له صلى الله عليه وسلم بهذا الخُلُق العظيم (1) . وقد دعم هذه الشهادة، الشواهد الكثيرة من الأحاديث الشريفة من واقع حياته صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الشواهد قوله صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشئ أصنعه؟ فوالله إنى لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية" (2) وفى رواية قال: "أما والله إنى لأتقاكم لله وأخشاكم له" (3) .
وفى الإخلاص لله عز وجل، شهد له بذلك القرآن الكريم حيث قص قوله صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب أهل الكتاب: {قل أتحاجوننا فى الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون} (1) فهو صلى الله عليه وسلم يخبر عن نفسه بأنه مخلص لله تعالى فى دينه وعبادته، وهو الصادق الأمين، وقد أقره القرآن الكريم على ذلك، فحكى مقالته على سبيل الإقرار والاعتماد والإشادة، مما يدل على أن هذا الخلق العظيم قد كان مستحكماً فيه صلى الله عليه وسلم فى كل أحواله، كما هو شأنه فى كل خُلُق عظيم، وما جاء فى قوله تعالى: {فإن كنت فى شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} (2) فالشرط فى الآية لا يقتضى الوقوع ولا الجواز على ما سيأتى تفصيله بعد قليل. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال فى تفسير الآية: "لم يشك النبى صلى الله عليه وسلم ولم يسأل" وعامة المفسرين على هذا، وقالوا: وفى السورة نفسها ما دل على هذا التأويل، قال تعالى: {قل يا أيها الناس إن كنتم فى شك من دينى فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذى يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين} (3) فهذا تقرير لحقيقة حاله صلى الله عليه وسلم، وشهادة له بأنه ما شك فيما أنزل إليه، ولا سأل أهل الكتاب، وكان من عباد الله المؤمنين المخلصين. وفى إخلاصه فى عبادته لله تعالى يقول عز وجل: {قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (4) فهذا القرآن الكريم يلقن النبى صلى الله عليه وسلم أن يعلن للملأ هذه الحقيقة الكامنة فيه لما علمها الله تعالى منه.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يطبق هذا التوجيه القرآنى، فكان يقول عند قيامه إلى الصلاة "وجهت وجهى للذى فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين إن صلاتى ونسكى ومحياى وممات لله رب العالمين. لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" (1) . فهل بعد كل هذه الشهادات، يصح قول أعداء الإسلام، وخصوم السيرة العطرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معصوم من الشرك والشك؟! ثانياً: الأوامر والنواهى الواردة فى القرآن الكريم فى حق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، هى أوامر ونواهى إرشاد وإعلام على جهة الوصية والنصيحة، وهى أحد دلائل العصمة، فوجودها لا يخل بالعصمة بناء على ما تقدم فى تعريف العصمة، فى بقاء الاختيار فى أفعالهم تحقيقاً للابتلاء (2) . ثالثاً: لله عز وجل أن يؤدب أنبياءه وأصفياءه، ويطلبهم بالنقير والقطمير من غير أن يلحقهم فى ذلك نقص من كمالهم، ولا غض من أقدارهم، حتى يتمحصوا للعبودية لله عز وجل. ... ألا ترى كيف نهى الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظر لبعض المباحات فقال: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين. وقل إنى أنا النذير المبين} (3) مع قوله تعالى فى مقام آخر: {قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق} (4) .
.. فتأمل كيف أن الله عز وجل لم يحرم التمتع بالزينة، وأكل الطيبات إذا كانت من كسب الحلال، ومع ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظر إلى زينة الحياة الدنيا، وهى من المباحات، فكيف يحرم النظر إليها؟! "إن ذلك ما هو إلا لأن الله تعالى أخذ الأنبياء بمثاقيل الذر لقربهم عنده، وحضورهم، وتجاوز عن العامة أمثال ذلك، فإن الزلة على بساط الآداب، ليست كالذنب على الباب، كما لا يخفى على أولى الألباب، ممن قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين" (1) . ... وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إنه لا ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الأعين" (2) يعنى: الإشارة بالعين فى الأوامر حتى يفصح بها، والإشارة بالعين فى الأوامر مباحة لغير الأنبياء، لكن نهى عنها الأنبياء تنزهاً وتأكيداً لرفع الالتباس" (3) .
.. إن رب العزة يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بما يشاء، وإن استحال تركه، نحو قوله تعالى: {يا أيها النبى اتق الله} (1) وقوله سبحانه: {فأما اليتيم فلا تقهر. وأما السائل فلا تنهر} (2) وقوله عز وجل: {واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله} (3) وقد كان صلى الله عليه وسلم من أتقى وأخشى خلق الله عز وجل (4) وما قهر يتيماً، وما نهر سائلاً، وإنما كان مثالاً أعلى للبذل والعطاء حتى شهد له ربه عز وجل بذلك بقوله: {فلا أقسم بما تبصرون. ومالا تبصرون. إنه لقول رسول كريم} (5) وهو ما شهدت به سيرته العطرة قبل أن يأتيه وحى الله تعالى وبعده.
.. فقد وصفته خديجة رضى الله عنها بقولها: "إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل (1) وتُكسب (2) المعدوم، وتقرى الضيق، وتعين على نوائب الحق" (3) فهى تصفه بهذه الصفات البالغة عظمة وخطورة، التى كان عليها قبل بعثته ورسالته، ولم يكن قد تحمل أعباء أمته، ولا قد أضفت عليه النبوة زيادة كمال وعظمة، فكيف به بعد ذلك كله؟! لا جرم أن كرمه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك سيكون بالغاً ذروة الذرى فى كرم الأنبياء وسائر البشر، وهو ما دلت عليه الدلائل النقلية الكثيرة منها ما روى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: "ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا" (4) وهو ما يؤكد ما سبق من أن رب العزة يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بما شاء، وإن استحال عليه تركه، وَمَنْ عِنْدَهُ خلاف ذلك فليأتنا به؟!
.. كما أن رب العزة ينهى رسوله صلى الله عليه وسلم عما يشاء، وإن لم يكن وقوعه منه كما قال تعالى: {ولا تمنن تستكثر} (1) أى لا تعط شيئاً لتطلب أكثر منه، لأنه طمع لا يليق بك، بل اعط لربك، واقصد به وجهه (2) وهكذا كان خلقه صلى الله عليه وسلم. ... وقال سبحانه: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه} (3) وما كان طردهم صلى الله عليه وسلم من مجلسه، وما كان من الظالمين أى ممن ظلمهم بطردهم، لأنه لم يقع منه ذلك. ... فعن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال: كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبى صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل، وبلال ورجلان لست أسميهما. فوقع فى نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع. فحدث نفسه. فأنزل الله عز وجل: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه} (4) . ... وهذا أصح ما روى فى سبب نزولها. وعند الحاكم فى مستدركه جاء هذا الحديث عن سعد أيضاً ولم يذكر فيه ما جاء فى رواية مسلم من قول سعد "فوقع فى نفس النبى صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع. فحدث نفسه، فنزلت الآية".
.. وإنما الذى جاء فى حديث الحاكم أن سعداً قال: "نزلت هذه الآية فى خمس من قريش أنا وابن مسعود فيهم، فقالت قريش للنبى صلى الله عليه وسلم: لو طردت هؤلاء عنك جالسناك! تدنى هؤلاء دوننا، فنزلت {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه} … إلى قوله… {أليس الله بأعلم بالشاكرين} (1) ولا يخلو هذا من الإشعار الذى أشعر به حديث مسلم فى كلام سعد، وإن كان حديث مسلم أصرح فى الإشعار من حديث الحاكم. ... ولعل حديث الحاكم دخله شئ من الاختصار، أو أن حديث مسلم روى بالمعنى فدخله شئ من التفصيل. ... وحديث سعد – عند مسلم – صريح فى أن العتاب فى الآية وقع على ما حدث به النبى صلى الله عليه وسلم نفسه. وهذا على فرض التسليم به لا يقدح فى عصمته صلى الله عليه وسلم، لأن همه صلى الله عليه وسلم بذلك كان ابتغاء مرضاة الله تعالى، برجاء إسلام قومه، وذلك لا يضر فى نفس الوقت أصحابه رضى الله عنهم لعلمه صلى الله عليه وسلم بأحوالهم ورضاهم بما يرضاه (2) وإلا فما ورد على لسان سعد من همه صلى الله عليه وسلم بالاستجابة لاقتراحهم لا حجة فيه، فقد أخبر بحسب ظنه، وأخبر عن أمر لا يعلمه إلا علام الغيوب المطلع على أسرار قلوب خلقه. ... ويؤكد أن الإخبار عن هذا الهم بحسب ظن الراوى، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان ليطردهم، ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من قبل آية الأنعام، مما جاء على لسان نوح عليه السلام جواباً على مثل اقتراح كفار قريش. قال تعالى: {وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكنى آراكم قوماً تجهلون. ويا قوم من ينصرنى من الله إن طردتهم أفلا تذكرون} (3) .
.. وهذا ما تؤكده الروايات السابقة، وشواهدها من حديث ابن مسعود رضى الله عنه (1) وخباب رضى الله عنه (2) حيث لم يرد فى شئ منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرد أحداً من أصحابه فى مجلسه. ... بل الروايات جميعها على أنه بمجرد اقتراح أهل الشرك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم يوماً يجلسون معه دون الفقراء والعبيد، نزلت الآية جواباً على اقتراحهم أو سؤالهم، بنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه} (3) . ... وهذه مِنَّة من الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث عاتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد العثرات الصورية، وأدب نبيه صلى الله عليه وسلم بأشرف الآداب، وأجل الأخلاق، وعاتبه إن كان ثمَّ عتاب – قبل وقوعه ليكون بذلك أشد انتهاء عن المخالفة، ومحافظة لشرائط المحبة، وهذه غاية العناية والرعاية فى العصمة (4) . ... وإذا تقرر أن الله عز وجل ينهى رسوله صلى الله عليه وسلم عما يشاء وإن لم يكن وقوعه منه، علمت الجواب الرابع عن هذه الشبهة وهو:
رابعاً: الأوامر والنوهى السابقة فى حقه صلى الله عليه وسلم لا تقتضى الوقوع ولا الجواز فقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (1) كقوله عز وجل: {ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك} (2) وقوله سبحانه: {أم يقولون افترى على الله كذباً فإن يشأِ الله يختم على قلبك} (3) وقوله: {فإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (4) وقوله: {وإن تطع أكثر من فى الأرض يضلوك عن سبيل الله} (5) وقوله: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} (6) وقوله: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين} (7) وقوله: {فإن كنت فى شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} (8) فكل هذا شرط، والشرط لا يقتضى الوقوع ولا الجواز، إذ لا يصح ولا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يشرك، ولا أن يدعو من دون الله أحداً، ولا أن يخالف أمر ربه عز وجل، ولا أن يتقول على الله مالم يقل، أو يفترى على الله شيئاً، أو يضل، أو يختم على قلبه، أو يشك. ... فمثال هذه الآيات إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين (9) أى أن الشرط فى الآيات السابقة فى حقه عز وجل، وفى حقه صلى الله عليه وسلم، وحق غيره، معلق بمستحيل، فكما لا تنقسم الخمسة على متساويين، فكذلك الشرط فى الآيات السابقة لا يكون منه صلى الله عليه وسلم، لا وقوعاً ولا جوازاً.
المطلب الرابع: شبهتهم حول آيات ورد فيها مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
خامساً: وقيل فى الجواب عن الآيات التى معنا، أن الخطاب فى الظاهر فيها للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد بها غيره، إذ هو معصوم من مخالفة الأوامر، وارتكاب النواهى الواردة فى الآيات، ومستحيل عليه فعلها، لعصمة الله عز وجل له، وإنما هذا إفهام لغيره من المسلمين، أن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو رسول رب العالمين، ذو المنزلة الرفيعة، والمقام الأسمى عند الله عزوجل، إن افترض وقوع ذلك منه، فإن الله تعالى يجازيه على ما فرط، فكيف إذا فعل ذلك أحد من المؤمنين؟! فسيلقى عقابه من باب أولى، وذلك أيضاً إيضاح لقدرة الله عزوجل، وأنه عدل، ولا يحابى أحداً من خلقه فليس أحد من المشركين بمأمن من عذابه تعالى حتى ولو كان نبياً، وهنا يفهم المؤمنون عامة، هذه الحقائق، فيرتدعون عن المعاصى والذنوب والآثام، خوفاً منه تعالى وخشية، مادام سبحانه لا يستثنى أحداً من عذابه، إن أشرك.. حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - ولكنهم لا يشركون لعصمة الله عز وجل لهم (1) . ... ومن ظن بأن الله تعالى يمكن أن يُقدِّر على الأنبياء، وعلى خاتمهم صلى الله عليه وسلم ارتكاب الكبائر من الكفر والشرك والشك أو نحو ذلك، فقد ظن السوء بربه، أعوذ بالله تعالى من الخزى والخذلان، وسوء الخاتمة والمنقلب أهـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم المطلب الرابع: شبهتهم حول آيات ورد فيها مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعرض الشيطان له والجواب عنها
.. زعم أعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معصوم من الشيطان، واستدلوا على ذلك بآيات ورد فيها مخاطبة النبى صلى الله عليه وسلم بتعرض الشيطان له بالوسوسة، وتسببه فى سهوه، نحو قوله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} (1) وقوله عز وجل: {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} (2) وقوله سبحانه: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته} (3) . ويجاب عن ما سبق بما يلى: أولاً: التعلق بظاهر الآيات السابقة على عدم عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيطان لا حجة فيه لهم، إذ لم يسلط الشيطان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بأكثر من التعرض لهم، دون أن يكون له قدرة على إلحاق أى ضرر يضر بالدين.
.. وعصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كيد إبليس وجنوده هو وسائر الأنبياء، ثابتة لهم بكتاب الله عز وجل، فهم على رأس عباد الله المخلصين الذين لا سلطان للشيطان عليهم لقوله: {إن عبادى ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلاً} (1) وقد تقدم تفصيل عصمته صلى الله عليه وسلم من الشيطان الرجيم فى قلبه وعقيدته وخلقه منذ الصغر بنزع العلقة السوداء – حظ الشيطان - من قلبه صلى الله عليه وسلم وعلى هذا إجماع الأمة، كما قال القاضى عياض: "واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبى صلى الله عليه وسلم من الشيطان وكفايته منه، لا فى جسمه بأنواع الأذى، ولا على خاطره بالوساوس" (2) . ... وهو بذلك يبين حقيقة العصمة من الشيطان، وأنها لا تتعارض مع تعرض الشيطان لخاطره صلى الله عليه وسلم بالوساوس. ... واستدل القاضى على ذلك بحديث ابن مسعود مرفوعاً: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياى، إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم. فلا يأمرنى إلا بخير" (3) .
.. وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بتصدى الشياطين له فى غير موطن رغبة فى إطفاء نوره، وإماتة نفسه الشريفة، وإدخال شغل عليه، إذ يئسو من إغوائه فانقلبوا خاسرين، كتعرضه له فى صلاته فأخذه النبى صلى الله عليه وسلم وأسره (1) وقد سبق ذكر نماذج من هذه الأحاديث (2) التى تتفق فى ظاهرها مع الآيات التى استدل بها خصوم السيرة العطرة على عدم عصمته صلى الله عليه وسلم من الشيطان، دون أن يفهموا حقيقة ظاهر هذه الآيات، وهو: أن المراد بقوله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} (3) أى يتعرض لك الشيطان بأدنى وسوسة – إذ النزغ أدنى الوسوسة، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، يكفى أمرك، ويكون سبب تمام عصمتك (4) ، إذ لم يسلط عليه بأكثر من التعرض له، ولم يجعل له قدرة عليه (5) وهو ما أكدته الأحاديث المشار إليها. ثانياً: ما يتوهم من قدرة الشيطان على النبى صلى الله عليه وسلم حيث أسند النسيان بسبب الشيطان إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} (6) .
.. فليس فى الآية دليل على تسلط الشيطان على النبى صلى الله عليه وسلم، لأن فعل الشيطان فى هذا النسيان، لا يعدو أكثر من شغل خاطره صلى الله عليه وسلم وتذكيره أكثر فأكثر بحرصه على إسلام قومه، مع شدة كفرهم وعنادهم، وطعنهم فى آيات الله عز وجل، فيكون شغله وتذكيره بهذا الحرص، سبباً فى نسيان الإعراض عنهم حتى يخوضوا فى حديث غير حديث القرآن الكريم، وهذا ما يقتضيه سياق الآية الكريمة: {وإذا رأيت الذين يخوضون فى آياتنا فأعرض عنهم حتى يخضوا فى حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} (1) كما أن هذا المعنى هو ما يقتضيه واقع حال النبى صلى الله عليه وسلم فى دعوته. ... والنسيان فى هذه الحالة لا طلب عليه فى الشرع، ولا ذم بالإجماع، كما أنه لا يتعارض مع عصمته صلى الله عليه وسلم. ... فالسهو والنسيان من الأنبياء فى الأفعال البلاغية، والأحكام الشرعية جائز فى حقهم، وهو ظاهر القرآن الكريم، والسنة النبوية، وهو مذهب جمهور العلماء من الفقهاء والمتكلمين (2) . ... وفرقوا بين ذلك، وبين السهو فى الأقوال البلاغية: فأجمعوا على منعه، كما أجمعوا على امتناع تعمده، لقيام المعجزة على الصدق فى القول، ومخالفة ذلك تناقضها.
.. أما السهو فى الأفعال البلاغية، فغير مناقض لها ولا قادح فى النبوة، بل غلطات الفعل، وغفلات القلب من سمات البشر، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكرونى" (1) وحالة النسيان والسهو هنا – فى الأفعال البلاغية – فى حقه صلى الله عليه وسلم سبب إفادة علم، وتقرير شرع، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنى لأَنسْىَ، أو أُنسَىَ لأَسُن" (2) أى: إنما أدفع إلى النسيان لسوق الناس بالهداية إلى طريق مستقيم، وأبين لهم ما يحتاجون أن يفعلوا إذا عرض لهم النسيان (3) . ... وهذه الحالة زيادة له فى التبليغ، وتمام عليه فى النعمة، بعيدة عن سمات النقص، وأغراض الطعن، فإن القائلين بتجويز ذلك يشترطون أن الرسل لا تقر على السهو والغلط، بل ينبهون عليه، ويعرفون حكمه بالفور على قول بعضهم وهو الصحيح، وقبل انقراضهم على قول الآخرين.
.. وأما ما ليس طريقه البلاغ، ولا بيان الأحكام من أفعاله صلى الله عليه وسلم، وما يختص به من أمور دينه، وأذكار قلبه مما لم يفعله ليتبع فيه. فالأكثر من طبقات علماء الأمة على جواز السهو والغلط عليه فيها، ولحوق الفترات، والغفلات بقلبه، وذلك مما كلفه من مقاساة الخلق، وسياسات الأمة، ومعاناة الأهل، وملاحظة الأعداء، ولكن ليس على سبيل التكرار، ولا الاتصال، بل على سبيل الندور (1) كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنه ليغان على قلبى، وإنى لأستغفر الله، فى اليوم مائة مرة" (2) وفى رواية: "فى اليوم أكثر من سبعين مرة" (3) . ... "والغين" بالغين المعجمة الغيم، والمراد هنا ما يتغشى القلب من السهو الذى لا يخلوا منه البشر (4) وذكر العلماء عدة أقوال فى المراد بالحديث منها ما يلى: قال القاضى عياض: المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذى كان شأنه الدوام عليه، فإذا افتر عنه أو غفل عد ذلك ذنباً، واستغفر منه.
أن الغين همه بسبب أمته وما اطلع عليه من أحوالها بعده، فيستغفر لهم، وسببه اشتغاله بالنظر فى مصالح أمته وأمورهم، ومحاربة العدو ومداراته، وتأليف المؤلفة، ونحو ذلك فيشتغل بذلك عن عظيم مقامه، فيراه ذنباً بالنسبة إلى عظيم منزلته. وإن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات، وأفضل الأعمال، فهى نزول عن عالى درجته، ورفيع مقامه من حضوره مع الله تعالى ومشاهدته ومراقبته وفراغه مما سواه، فيستغفر لذلك. أن الغين هو السكينة التى تغشى قلبه، لقوله تعالى: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله} (1) ويكون استغفاره إظهاراً للعبودية والافتقار، وملازمة الخشوع وشكراً لما أولاه (2) . أن الغين حاله خشية وإعظام، والاستغفار شكرها، ومن ثمَّ قيل: خوف الأنبياء والملائكة خوف إجلال وإعظام، وإن كانوا آمنين عذاب الله تعالى. أن الغين ليست حالة نقص فى حاله صلى الله عليه وسلم، بل هو كمال أو تتمة كمال ومثال ذلك: بجفن العين حين يسبل ليدفع القذى عن العين مثلاً، فإنه يمنع العين من الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفى الحقيقة هو كمال. فهكذا بصيرة النبى صلى الله عليه وسلم متعرضة للأغيرة الثائرة من أنفاس الأغيار، فدعت الحاجة إلى الستر على حدقة بصيرته صيانة لها، ووقاية عن ذلك (3) . قلت: والأقوال السابقة معناها محتمل، وجائزة فى حقه صلى الله عليه وسلم، ولا تناقض عصمته. أهـ. والله أعلم.
وأما قوله حين نام عن الصلاة يوم الوادى لما عاد من خيبر أو من الحديبية وبطريق تبوك روايات (1) : "فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان" (2) وفى رواية قال صلى الله عليه وسلم: "إن هذا واد به شيطان" (3) .
فهذا الحديث ليس فيه ذكر لتسلط الشيطان عليه صلى الله عليه وسلم، ولا وسوسته له، ولا يصح الطعن فى عصمة النبى صلى الله عليه وسلم بمقتضى ظاهر هذا الحديث، لأنه صلى الله عليه وسلم بين على من تسلط الشيطان بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان أتى بلالاً، وهو قائم يصلى، فأضجعه، فلم يزل يهدئه (1) كما يهدأ الصبى حتى نام" (2) ، فظهر من ذلك أن تسلط الشيطان فى ذلك الوادى، إنما كان على بلال الموكل بمراقبة طلوع الفجر ليوقظهم، كما جاء فى حديث أبى هريرة السابق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر، سار ليلة، حتى إذا أدركه الكرى (3) عرس (4) وقال لبلال: "اكلأ (5) لنا الليل" فصلى بلال ما قدر له، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فلما تقارب الفجر، استند بلال إلى راحلته مواجهة الفجر، فغلبت بلالاً عيناه، وهو مستند إلى راحلته. فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بلال، ولا أحد من أصحابه، حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظاً" (6) .
فإن قيل: كيف نام النبى صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إن عينى تنامان، ولا ينام قلبى" (1) فجوابه من وجهين: 1- أصحهما وأشهرهما: أنه لا منافاة بينهما، لأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك طلوع الفجر وغيره مما يتعلق بالعين، وإنما يدرك ذلك بالعين، والعين نائمة، وإن كان القلب يقظان. 2- أنه صلى الله عليه وسلم كان له حالان: أحدهما ينام فيه القلب، وصادف هذا الموضع. والثانى: لا ينام، وهذا هو الغالب من أحواله. وهذا التأويل ضعيف، والصحيح المعتمد هو الأول (2) .
وقريب من الأول، من قال: إن القلب قد يحصل له السهو فى اليقظة لمصلحة التشريع، ففى النوم بطريق الأولى، أو على السواء (1) ويؤيد ذلك ما جاء فى رواية أبى قتادة رضى الله عنه (2) قال: "فجعل بعضنا يهمس إلى بعض! ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا فى صلاتنا؟ ثم قال: أما لكم فِىَّ أُسوَةٌ؟ ثم قال: أما إنه ليس فى النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة، حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى. فمن فعل ذلك فليصلها حتى ينتبه لها. فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها" (3) . والكلام فيما سبق من ظاهر تسلط الشيطان على بلال، موجه إلى أن جملة: "إن هذا وادٍ به شيطان" تنبيهاً على سبب النوم عن الصلاة، وهو تنويم الموكل بحراسة الوقت. أما إن جعلنا جملة: "إن هذا واد به شيطان" تنبيهاً عن سبب الرحيل عن الوادى، وعلة لترك الصلاة به، على ما جاء فى رواية مالك فى الموطأ (4) فلا اعتراض بهذا الحديث على عدم عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيطان (5) أهـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
المطلب الخامس: شبهتهم حول آيات ورد فيها معاتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
المطلب الخامس: شبهتهم حول آيات ورد فيها معاتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والجواب عنها ... مما استدل به الطاعنون فى عصمة النبى صلى الله عليه وسلم وزعموه أدلة على صدور وجواز الكبائر والصغائر من الذنوب عنه صلى الله عليه وسلم. ما ورد فى القرآن الكريم من آيات ظاهرها عتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو قوله تعالى: {عبس وتولى، أن جاءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكى. أو يذكر فتنفعه الذكرى. أما من استغنى. فأنت له تصدى. وما عليك ألا يزكى. وأما من جاءك يسعى وهو يغشى. فأنت عنه تلهى} (1) وقوله سبحانه: {ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض. تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} (2) وقوله عز وجل: {وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} (3) وقوله: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم} (4) وقوله: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} (5)
0 ... ويجاب عن ما سبق إجمالاً بما يلى: أولاً: إن عتاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الوارد فى القرآن الكريم، هو فى الظاهر عتاب، وفى الحقيقة كرامة وقربة لله عز وجل، وتنبيه لغيرهم ممن ليس فى درجتهم من البشر، بمؤاخذتهم بذلك، فيستشعروا الحذر، ويلتزموا الشكر على النعم، والصبر على المحن، والتوبة عند الزلة (1) . ثانياً: أن لله تعالى أن يعتب أنبياءه وأصفياءه، ويؤدبهم، ويطلبهم بالنقير والقطمير من غير أن يلحقهم فى ذلك نقص من كمالهم، ولا غض من أقدارهم، حتى يتمحصوا للعبودية لله عزوجل (2) . ثالثاً: أن غاية أقوال الأنبياء وأفعالهم التى وقع فيها العتاب من الله عز وجل لمن عاتبه منهم، أن تكون على فعل مباح، كان غيره من المباحات أولى منه فى حق مناصبهم السنية. رابعاً: المباحات جائز وقوعها من الأنبياء، وليس فيها قدح فى عصمتهم ومنزلتهم، فهم لا يأخذون من المباحات إلا الضرورات، مما يتقون به على صلاح دينهم، وضرورة دنياهم، وما أخذ على هذه السبيل التحق طاعة، وصار قربة (3) . خامساً: أنه ليس كل من أتى ما يلام عليه يقع لومة، فاللوم قد يكون عتاباً، وقد يكون ذماً، فإن صح وقوع لومه، كان من الله عتاباً له لا ذماً، إذ المعاتب محبور (4) والمذموم مدحور، فاعلم – رحمك الله – صحة التفرقة بين اللوم والذم قال الشاعر: لعل عتبك محمود عواقبه ... *** ... فربما صحت الأجسام بالعلل (5) . إذا ذهب العتاب فليس ود ... *** ... ويبقى الود ما بقى العتاب (6) .
عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين
سادساً: أن العتاب فيما قيل أنه عوتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما كان على ما حَكَمَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد، والاجتهاد محتمل الخطأ، فكان تصحيح الخطأ فى اجتهاده من الله عز وجل، بتوجيهه صلى الله عليه وسلم إلى الأخذ بالصوب فعاد الحكم بذلك إلى الوحي. سابعاً: عدم ورود نهى عما عوتب فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حتى يكون عتابهم ثمَّ ذم. ثامناً: إنه ما من آية ظاهرها عتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهى واردة فى مقام المنَّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان عظيم فضله ومكانته عند ربه عز وجل بأعظم ما يكون البيان. ... وإليك التفصيل: ما استدلوا به من قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} (1) . هذه الآية بحسب الأسلوب العربى، تفيد تكريم النبى صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، خلافاً لمن وهم، ففهم منها عتابه أو تأنيبه، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يخالف أمراً ولا نهياً، فيستوجب ما فهمه ذلك الواهم. فرسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزم على الخروج إلى تبوك، استأذنه بعض المنافقين فى التخلف، لأعذار أبدوها، فأذن لهم فيه لسببين: أحدهما: أن الله لم يتقدم إليه فى ذلك بأمر ولا نهى. ثانيهما: أنه لم يرد أن يجبرهم على الخروج معه، فقد يكون فى خروجهم على غير إرادتهم ضرر.
.. فأنزل الله تعالى: يبين له أن ترك الإذن لهم كان أولى، لما يترتب عليه من انكشاف الصادق من الكاذب، فيما أبدوه من الأعذار، واستفتح رب العزة ما أنزله بجملة دعائية. هى قوله: {عفا الله عنك} على عادة العرب فى استفتاح كلامهم بهذه الجملة، أو بقولهم: غفر الله لك، أو جعلت فداك، أو نحوها يقصدون تكريم المخاطب؛ إذا كان عظيم القدر، ولا يقصدون المعنى الوصفى للجملة (1) . ... ولو بدأ رب العزة حبيبه ومصطفاه بقوله: {لم أذنت لهم} لخيف عليه أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام، لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه، ثم قال له: لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق فى عذره من الكاذب؟ ... وفى هذا من عظيم منزلته عند الله مالا يخفى على ذى لب، ومن إكرامه إياه وبره به، ما ينقطع دون معرفة غايته نياط القلب. ... فليتأمل كل مسلم! هذه الملاطفة العجيبة فى السؤال من رب الأرباب، المنعم على الكل، المستغنى عن الجميع، ويستثير ما فيها من الفوائد.
.. وكيف ابتدأ بالإكرام قبل العتب (وهل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا إن كان ثمَّ عتب) وأنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان ثمَّ ذنب، وهكذا فى أثناء عتبه براءته، وفى طى تخويفه تأمينه وكرامته (1) . إن قوله تعالى: {لم أذنت لهم} غاية ما يمكن أن يدعى فيها أن تكون دالة على أنه صلى الله عليه وسلم ترك الأولى والأفضل، وقد بينت أن ترك الأولى ليس بذنب، وقد يقول أحدنا لغيره إذا ترك الندب، لم تركت الأفضل، ولم عدلت عن الأولى، ولا يقتضى ذلك إنكاراً، ولا ذنباً (2) . ... أما قول بعضهم: إن هذه الآية تدل على أنه وقع من الرسول ذنب، لأنه تعالى قال: {عفا الله عنك} والعفو يستدعى سابقة ذنب، وأن الاستفهام فى قوله تعالى: {لم أذنت لهم} استفهام بمعنى الإنكار (3) . فهذا قول من يجهل لغة العرب فى استفتاح كلامهم بهذه الجملة ونحوها يقصدون بها تكريم المخاطب، إذا كان عظيم القدر، وتحاشياً عن جعل الاستفهام أول كلام للمعظم. وليس "عفا" هنا فى الآية بمعنى "غفر" أى ستر، وترك المؤاخذة بل بمعنى: لم يلزمك شيئاً فى الأذن، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنى قد عفوت عنك عن صدقة الخيل والرقيق، ولكن هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهماً، درهماً" (4) .
ولم تجب عليهم زكاة فى خيل ورقيق قط، أى: لم يلزمكم ذلك، فليس معناه: إسقاط ما كان واجباً، ولا ترك عقوبة هنا فتأمل (1) . وصفوة القول: أن يقال: إما أن يكون صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذنب أم لا؟ فإن قلنا: لا! امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله "لم أذنت لهم" إنكاراً عليه. وإن قلنا: إنه صدر عنه ذنب – وحاشاه الله من ذلك – فقوله عز وجل: {عفا الله عنك} يدل على حصول العفو، وبعد حصول العفو يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه. فثبت أنه على التقديرين المذكورين، يمتنع أن يقال: إن قوله: {لم أذنت لهم} يدل على كون الرسول مذنباً، وهذا جواب شاف كاف قاطع. وعند هذا يحمل قوله: {لم أذنت لهم} على ترك الأولى والأكمل، بل لم يعد هذا أهل العلم معاتبة، وغلطوا من ذهب إلى ذلك (2) كالإمام الزمخشرى (3) فقد أساء الأدب فى التعبير – مع جلالة علمه – عن بيان العتاب – فى زعمه – فقال: إن قوله تعالى: {عفا الله عنك} كناية عن الجناية، لأن العفو رادف لها، ومعناه: أخطأت وبئس ما فعلت (4) .
وقد استغواه فى هذا التعبير السئ سلفه الجبائى (1) الذى يرى أن أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمستأذنين من المنافقين بالقعود عن الخروج معه إلى غزوة تبوك "كان قبيحاً، ووقع صغيراً" (2) فالزمخشرى – رحمه الله – مقلد فى سوء الأدب لشيخ شيوخ المعتزلة، وقد تابع البيضاوى (3) الزمخشرى فى جفوة التعبير فى هذا الموضع من تفسيره (4) .
ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض
وقد علق أبو حيان (1) - رحمه الله تعالى فى البحر، على هذا المسلك من التفكير والتعبير فقال: "وكلام الزمخشرى فى تفسير قوله {عفا الله عنك لم أذنت لهم} مما يجب إطراحه، فضلاً عن أن يذكر فيرد عليه" (2) قال الألوسى (3) : "وكم لهذه السقطة فى الكشاف من نظائر" (4) . وأما قوله تعالى: فى أسارى بدر: {ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم} (5) فليس فى هذه الآية الكريمة وما بعدها إلزام ذنب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لتصديرها بجملة "ما كان لنبى" وهذا الأسلوب المكون من "كان" المنفية بـ "ما" الآتى بعدها لام الجحود، تأكيداً لتقوية النفى فيها قد ورد فى القرآن الكريم، وكلام العرب على وجهين، كما قال المفسرون، وأهل المعانى (6) .
الوجه الأول: النفى كما هو ظاهر أسلوبها كقوله تعالى {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} (1) وقوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (2) وهذا هو الأصل فى معنى هذا الأسلوب، لأن توكيد فعل الكون بلام الجحود هو "أبلغ لفظ يستعمل فى النفى" (3) ومعناه انصباب النفى على ما قبل اللام وما بعدها نفياً مطلقاً "يشمل جميع الحالات المعنوية التى يتضمنها الكلام" (4) . ... ويفيد هذا التركيب معنى زائداً على نفى مجرد الفعل، وهو نفى التهيؤ للفعل المنفى عنه وإرادته والصلاحية له، كما أوضح ذلك أبو حيان وغيره (5) . ... ولا شك أن نفى التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفى الفعل، لأن نفى الفعل لا يستلزم نفى إرادته، ونفى التهيئة والصلاح والإرادة للفعل تستلزم نفى الفعل، فلذلك كان النفى مع لام الجحود أبلغ" (6) . ... أما الوجه الثانى: من وجهى استعمال هذا الأسلوب فى القرآن الكريم، فهو النهى الضمنى عن أن يقع متعلق الخبر، كقوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} (7) . ... وقد جعل منه بعض العلماء آية بحثنا هذا {ما كان لنبى أن يكون له أسرى} (8) ومعنى الآية على الوجه الأول: أن الله عز وجل يبرئ نبيه صلى الله عليه وسلم، وينزه ساحته عن أن يكون له تهيئة وقصد فى أخذ الأسرى، وإنهاء المعركة قبل الإثخان فى الأرض.
.. والمعنى على الوجه الثانى: نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون له أسرى قبل الإثخان فى الأرض، والمبالغة فى إضعاف قوة العدو، ولا يستلزم هذا النهى وقوع المنهى عنه من المخاطب، لجواز أن يكون وقوع المنهى عنه، كان ممن له صلة تبعية بالمخاطب، ويؤيد هذا أن "التنكير – أى تنكير نبى فى قوله "ما كان لنبى" إبهاماً فى كون النفى لم يتوجه عليه معيناً" (1) تلطفاً به صلى الله عليه وسلم، وإشارة إلى أن هذا سنة من سنن الله تعالى مع أنبيائه وبياناً لأنه لم يكن صلى الله عليه وسلم متوجه القصد، إلى أن يكون له أسرى قبل الإثخان فى العدو، وإكثار القتل، والجراح فيه، وعلى ذلك يكون الخطاب – فى ظاهره – موجهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا التلطف الذى يبرئ سماحته صلى الله عليه وسلم مما يوجب العتاب، ويكون الخطاب - فى حقيقته - موجهاً إلى الذين أسرعوا فى إنهاء المعركة، وأخذ الغنائم والأسرى بمجرد ظهور طلائع النصر، ولم يصبروا حتى يكثروا القتل فى العدو كسراً لشوكته. وقد نزه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن إرادة شئ من الدنيا بتوجيه الكلام بطريق الإفراد فى أول الكلام فى قوله "ما كان لنبى" الذى أخرج مخرج الغيبة، مع أن المقصود به هو النبى صلى الله عليه وسلم، إلى الجمع فى قوله: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} الذى قصد به بعض الصحابة، ممن تجرد غرضه لعرض الدنيا وحده، والاستكثار منها، وليس المراد بهذا النبى صلى الله عليه وسلم ولا علية أصحابه رضى الله عنهم (2) .
.. وهذا يدل على أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يدر بخلده، أن ينهى المعركة قبل الإثخان فى العدو ليأخذ الأسرى، ويغنم أصحابه المغانم، ويؤكده ما رواه ابن إسحاق فى سيرته: "ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى العريش (1) وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوحشاً السيف فى نفر من الأنصار، يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كرة العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ قال: أجل، والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان فى القتل أحب إلى من استبقاء الرجال" (2) .
.. وهذا يدل على أن النبى صلى الله عليه وسلم لم ينكر على سعد بن معاذ ما رأى فى وجهه من كراهية ما يصنع القوم، فاستفسره عن ذلك، فقال له: "والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ " فقال سعد: أجل يا رسول الله، وعلل سعد ذلك بأن هذه أول وقعة فى الإسلام نصر الله فيها المسلمين على أعدائهم من المشركين، فكان الإثخان فى القتل أحب إليه من استبقاء الرجال. وفيه دلالة على أن المعاتب عليه عدم الإثخان فى القتل، والإسراع إلى الغنيمة، لا أخذ الفداء، لأن سعداً أبان عن رأيه قبل الاستشارة فى أخذ الفداء، وهذا كالصريح فى أن أخذ الفداء من الأسرى لا عتاب عليه، وقد بين الله تعالى هذا بقوله {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} (1) فإنه تعالى لعظيم فضله، وبالغ رحمته، منع عذابه العظيم عن المؤمنين المجاهدين يوم بدر، الذى استحقوه بما مالت إليه أنفسهم من الإسراع فى جميع الغنائم، قبل إكثار القتل فى عدوهم. ... وهذه الآية الكريمة: {ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض} (2) كما هو ظاهر منها لا تمنع الأسر، وأخذ الفداء نهائياً، ولكنها تقرر أنهما لا يكونان إلا بعد الإثخان فى الأرض بظهور المسلمين على أعدائهم. ... وهى لا تتنافى مع آية سورة محمد {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء} (3) فلا زيادة فى حكم هذه الآية، على آية الأنفال، لأن كلتا الآيتين متوافقتان "فإن كلتيهما تدلان على أنه لابد من تقديم الإثخان ثم بعده أخذ الفداء" (4) فلا نسخ إذن كما يزعم البعض. ... ولكن بعض الصحابة رضى الله عنهم حين اشتغلوا بجمع الغنائم قدموا عرض الدنيا على الآخرة فخالفوا ما أراده الله تعالى لهم من عظيم الظهور وقوة الشوكة.
.. أما الكتاب المذكور فى قوله تعالى: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} فقد أدى إبهامه إلى اختلاف العلماء فيه على أقوال كثيرة أوصلها الشوكانى (1) إلى ستة أقوال، لعل أرجحها وأقربها إلى المعقول، وأولاها بالقبول هو: ألا يعذب الله أحداً إلا بعد أن يقدم إليه أمراً أو نهياً فيخالف ما قدمه الله إليه (2) . ... والمعنى: لولا أنه سبق منى أن لا أعذب أحداً إلا بعد النهى لعذبتكم على ما أخذتم من الفداء. إذ لو كان منهياً عنه محرماً لاستحقوا بمخالفته العذاب، فالمراد بالكتاب: حكم الله الذى كتبه وقدره، وهذا التفسير ينفى أن يكون أمر فداء الأسارى معصية لعدم النهى (3) .
.. وفى الآية بيان لما كان مسطوراً فى غيبه تعالى من إحلال الغنيمة، وتطييبها لعبادة المؤمنين من هذه الأمة، وهذا كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء فكأنه قال: "ما كان أخذ الفداء لنبى غيرك" وهو ما أكده صلى الله عليه وسلم بقوله: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلى، أحلت لى الغنائم، ولم تحل لأحد قبلى – الحديث" (1) . ... فقال الله تعالى تطيباً لنفوس أولئك المجاهدين {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم} (2) وهذا كله ينفى الذنب والمعصية، لأن من فعل ما أحل الله لم يعص (3) .
.. أما ما روى فى أسباب نزول آيات بحثنا، من مشاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فى أمر أسرى بدر، واختياره صلى الله عليه وسلم لرأى أبى بكر ومن معه القائلين بقبول الفداء، من الأسرى تقوية لجيش المسلمين على الكفار بالفداء، ورجاء أن يهديهم الله تعالى للإسلام أو أن يخرج من أصلابهم بعد وقعة بدر من يؤمن بالله، ويهتدى بهداه، ثم بكاءه صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبى بكر شفقة لأجل ما عرض عليه صلى الله عليه وسلم من عذاب أصحابه لأخذهم الفداء، ونزول الآيات بذلك (1) فليس فى ذلك ما يفيد أصلاً بأن النبى صلى الله عليه وسلم أشار بأخذ الفداء، وإنما شاور أصحابه، فأشارت الكثرة منهم بأخذ الفداء، وهم الذين عوتبوا بقوله تعالى: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (2) فلما خرج إليهم بعد المشاورة قال لهم: {أنتم عالة، فلا يبقين أحد إلا بفداء أو ضربة عنق} (3) .
.. وهذه المشاورة مأمور بها النبى صلى الله عليه وسلم كما يدل على ذلك صريح حديث على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: جاء جبريل عليه السلام يوم بدر إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: "خير أصحابك فى الأسرى إن شاءوا فى القتل، وإن شاءوا فى الفداء، على أن يقتل منهم فى العام المقبل مثلهم، فقالوا: الفداء ويقتل منا" (1) .
.. ومن هنا يظهر جلياً أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يختر أخذ الفداء ولا حبذه، بدليل ما رواه البخارى من قوله صلى الله عليه وسلم فى أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدى (1) حياً، ثم كلمنى فى هؤلاء النتنى (2) لتركتهم له" (3) . ... وهذا يدل على أن لا عتاب على أخذ الفداء لعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك الأسرى، وإطلاقهم بدون فداء، فيما لو كان المطعم بن عدى حياً، وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم.
.. كما يؤخذ أيضاً من حديث تخيير جبريل فى أمر الأسرى، أن أخذ الفداء، لا عتاب عليه، إذ لو كان أخذ الفداء موضع مؤاخذة، ما جاء جبريل عليه السلام بالتخيير بينه، وبين القتل، لأنه لا يخير بين جائز مطلق، وبين مؤاخذ عليه. وبالتالى فهم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه، لكن بعض الصحابة مال إلى أضعف الوجهين، فى حين كان الأصلح غيره من الإثخان فى القتل، فعوتبوا على ذلك، وتبين لهم ضعف اختيارهم، وتصويب اختيار غيرهم، وكلهم غير عصاة ولا مذنبين (1) .
.. ويؤيد أنه لا عتاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أخذ الفداء، أنه صلى الله عليه وسلم سبق أن فادى الحكم بن كيسان (1) وعثمان بن عبد الله بن المغيرة (2) اللذين أسرتهما سرية عبد الله بن جحش الأسدى رضى الله عنه (3) حين أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثمانية من المهاجرين – إلى وادى نخلة بين مكة والطائف لرصد عير قريش – وذلك قبل غزوة بدر الكبرى بأكثر من شهرين، فالتقوا بهم فى آخر يوم من رجب، من السنة الثانية من الهجرة، فغنموا العير، واقتادوا معهم الأسيرين إلى المدينة، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وقال أهل الكفر: استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وأكثروا فى ذلك، فرد الله عليهم قولهم فأنزل: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهوكافر فأولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" (4) .
فقبل رسول اللهصلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وأخذ الغنيمة، وهى أول غنيمة غنمها أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم فى الإسلام" (1) ولم يعاتب الله تعالى أحداً على شئ من ذلك، فلو كان الفداء ممنوعاً لعتب (2) . وعلى ذلك فلا عتاب لسيدنا رسول اللهصلى الله عليه وسلم فى فداء الأسرى يوم بدر لعدم العتاب على أخذه، وأخذ الغنيمة، فيما سبق هذه الغزوة أولاً، هذا بالإضافة إلى أن اختيار أخذ الفداء يوم بدر، وقع من الصحابة رضى الله عنهم كما فى حديث تخيير جبريل عليه السلام. على أن بعض الأئمة من الذين يرون أن فى الآية عتاباً، أخذاً بظاهر رواية مسلم المشار إليها (3) رجحوا رأى الصديق رضى الله عنه بأخذ الفداء. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وقد اختلف السلف فى أى الرأيين كان أصوب؟ فقال بعضهم: كان رأى أبى بكر لأنه وافق ما قدر الله فى نفس الأمر، ولم استقر الأمر عليه، ولدخول كثير منهم فى الإسلام، إما بنفسه، وإما بذريته التى ولدت له بعد الوقعة، ولأنه وافق غلبة الرحمة على الغضب، كما ثبت ذلك عن الله تعالى فى حق من كتب له الرحمة" (4) قالوا: وأما بكاء النبىصلى الله عليه وسلم، فإنما كان شفقة لنزول العذاب، لمن أراد بذلك عرض الدنيا، ولم يرد ذلك رسول اللهصلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر، وغيره من عليَّة أصحابه (5) أ. هـ. والله أعلم.
عبس وتولى. أن جاءه الأعمى
3- وأما قوله تعالى: {عبس وتولى. أن جاءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى. فأنت له تصدى. وما عليك ألا يزكى. وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى. فأنت عنه تلهى} (1) . أولاً: هذه الآيات نزلت فى ابن أم مكتوم الأعمى (2) أتى رسول اللهصلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: يا رسول الله أرشدنى، وعند رسول اللهصلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول اللهصلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: أترى بما أقول: بأساً؟ فيقول: لا، ففى هذا أنزلت "عبس وتولى" (3) . فهذا أصح ما روى فى سبب نزول الآيات، والزعم بأن هذا السبب لا يصح، والقصة مفتعلة، لأن عائشة الراوية لها لم تدركها (4) ، قول مردود بما يلى: أ-أن مرسل الصحابى مما يعلم أنه لم يحضره لصغر سنه أو تأخر إسلامه، حكمه على المذهب الصحيح، الوصل المقتضى للاحتجاج به، لأن غالب رواية الصغار من الصحابة عن صحابة مثلهم، وكلهم عدول، ورواية صغار الصحابة عن غيرهم نادرة، فإذا رووها بينوها، وحيث أطلقوا فالظاهر أنها عن الصحابة وأكثر ما رواه الصحابة عن التابعين ليس أحاديث مرفوعة بل إسرائيليات أو حكايات أو موقوفات، والقول بأنه لا يحتج بمرسل الصحابى قول ضعيف.
ب-اتفاق أهل الحديث على أن الصحابى الذى شاهد الوحي والتنزيل إذا فسر شيئاً من آى القرآن، أو أخبر عن آية نزلت فى كذا، كان له حكم المرفوع المسند، وقيده بعضهم بما إذا كان التفسير مما لا مجال فيه للاجتهاد، ولا يقال من قبل الرأى (1) . جـ- اتفاق السلف، وجمهور المفسرين على أن فاعل "عبس وتولى" هو رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) كما أجمعوا على أن هذه الآيات نزلت فى ابن أم مكتوم (3) . ثانياً: مع صحة سبب نزول الآيات، فليس فيها إثبات ذنب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الآيات إعلام من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، بأن ذلك المتصدى له ممن لا يتزكى، وأن الصواب والأولى، كان لو كشف له حال الرجلين، لاختار الإقبال على الأعمى لأنه {جاءك يسعى. وهو يخشى} والإعراض عن الكافر، وتوهين أمره لأنه استغنى عن الإسلام بكفره، {وما عليك ألا يزكى} أى ليس عليك بأس فى أن لا يتزكى بالإسلام، والمراد: لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم أن تعرض عمن أسلم، بالاشتغال بدعوتهم، إن عليك إلا البلاغ. ... ... وفعل النبى صلى الله عليه وسلم لما فعل من العبوس والإعراض، وتصديه لذلك الكافر، كان طاعة لله عزوجل، وتبليغاً عنه، واستمالة للكافر، رجاء إسلامه، كما شرعه الله له بالتبليغ، ومن لين الجانب لمن يدعوه، وبالتالى لا معصية ولا مخالفة لله عز وجل (4) .
.. وقد كان ابن أم مكتوم يستحق التأديب والزجر، لأنه وإن فقد بصره، كان يسمع مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأولئك الكفار، وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمامه صلى الله عليه وسلم بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلامه صلى الله عليه وسلم بعد سماعه، إيذاء له صلى الله عليه وسلم وذلك معصية عظيمة. ... فثبت أن فعل ابن أم مكتوم كان ذنباً ومعصية، وأن الذى فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الواجب المتعين، سواء كان ابن أم مكتوم مسلماً فى ذلك الوقت، كما هو رأى الجمهور، أو لم يكن أسلم بعد، على ما ذهب إليه السهيلى (1) فى الروض الأنف ورجحه قائلاً: "مع أنه – أى الأعمى – لم يكن آمن بعد، ألا تراه يقول: {وما يدريك لعله يزكى} (2) ولو كان قد صح إيمانه وعلم ذلك منه لم يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم يكن ليخبر عنه ويسميه بالاسم المشتق من العمى، دون الاسم المشتق من الإيمان والإسلام، ولو كان دخل فى الإيمان من قبل – والله أعلم – وإنما دخل فى الإسلام بعد نزول الآية ويدل على ذلك قوله للنبى صلى الله عليه وسلم: "يا محمد استدننى" (3)
، ولم يقل "يا رسول الله استدننى" مع أن ظاهر الكلام يدل على أن الهاء فى لعله يزكى، عائدة على الأعمى لا على الكافر، لأنه لم يتقدم له ذكر بعد، و (لعل) تعطى الترجى والانتظار، ولو كان إيمانه قد تقدم قبل هذا لخرج عن حد الترجى والانتظار للتزكى والله أعلم" (1) . ... أما قوله تعالى: {أو يذكر فتنفعه الذكرى} (2) فهو معطوف على قوله "يزكى" الواقع خبراً لحرف الرجاء "لعل" فهو من مدخول الرجاء معه على معنى: أن قوله: "لعله يزكى" يدل على أنه يراد منه التطهر بالإيمان (3) ولعل هذا القول هو مستقى كلام السهيلى فى اختياره عدم إيمانه حين مجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
.. قلت: فى كلا الحالتين إسلامه وعدمه وقتئذ، فليس فى الآيات إثبات ذنب له صلى الله عليه وسلم، وإنما الذنب والمعصية ما فعله ابن أم مكتوم على ما سبق شرحه. وإن كان ثمَّ عتاب موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو بسبب عمى ابن أم مكتوم حيث استحق مزيداً من الرفق به، ولذا ذكره الله فى كتابه بوصفه المشتق من العمى، بيان لعذره فيما واجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكرير القول عليه، وسبب فى أحقية التلطف به والعطف عليه، وأنه جاءه يسعى، أى يمشى مع عجزه، إشارة لذلك، وللصفح عنه (1) وبيان أن عجزه هذا مما له مدخل فى العتاب، الذى جاء بأحسن ما يكون بعدم التصريح بذكر الفاعل للفعلين الماضيين (عبس وتولى) تلطفاً برسول الله صلى الله عليه وسلم عن المفاجأة بهذا الخطاب المشعر بالشدة. ... وذهب البعض إلى أن المقصود بالآيات شخص آخر غير النبى صلى الله عليه وسلم، وهذا يرده ما فى الآيات من قوله تعالى: {فأنت له تصدى} (2) وقوله: {فأنت عنه تلهى} (3) فإن ظاهره أن هذا التصدى والتلهى من قبل من يهمه هذا الدين، فيتصدى لهذا، ويتلهى عن ذلك!
.. والقول بأن التصدى كان لأهداف أخرى دنيوية، أو أن التصدى للدعوة كان من غيره صلى الله عليه وسلم (1) قول ضعيف يرده ما فى الآيات من كاف الخطاب التى للتعظيم فى قوله تعالى: {وما يدريك لعله يزكى} (2) وقوله سبحانه: {وما عليك ألا يزكى} (3) وقوله عز وجل: {وأما من جاءك يسعى} (4) فهل جاء مثل هذا الخطاب لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. ... وهل فيمن يتصدى للدعوة أو غيرها أيام النبوة من يسعى إليه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. وقالا شارحا الشفا، الشهاب الخفاجى، وعلى القارى فى شرحيهما رداً على من قال، إن فاعل "عبس" هو الكافر. قال الخفاجى: "وهو قول فى غاية الضعف، بعيد عن السياق الذى عليه المفسرون أنه النبى صلى الله عليه وسلم" (5) وقال على القارى: "وهذا التأويل مخالف لظاهر التنزيل، بل كاد فى مقام النزاع أن يكون مخالفاً للإجماع" (6) .
وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه
.. وبالجملة: ففى هذه القصة ما يشعر بأن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديثه مع الكافر ليستميله إلى الإيمان، رجاء أن يؤمن بإيمانه عدد ممن يتبعه، كان غير متمش مع طبيعة. الهداية الإلهية، التى عليه صلى الله عليه وسلم أن يعرضها على الناس دون أن يبخع نفسه حرصاً على إيمانهم فجاءت الآية الكريمة تصحح هذا الاجتهاد، وتبين الطريق للدعاة إلى الله تعالى الذن يرثون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبليغ رسالته ونهجه فى إيصالها إلى جميع الناس، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وبتصحيح هذا الاجتهاد، يعود حكم اجتهاده صلى الله عليه وسلم إلى وحى الله تعالى، وإن كان ثمَّ عتاب فهو على أمر اجتهادى وقع على خلاف الأولى، لا على ذنب، كما أن المعاتب محبور كما سبق (1) أهـ. والله أعلم. 4- وأما قوله تعالى فى قصة زيد عن حارثة رضى الله عنه: {وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً} (2) . ... إن هذه الآية الكريمة ذكر فيها كلاماً من بعض الذين تصدوا لتفسير القرآن الكريم، وتحملوا أمانة تجلية معانيه، وهو كلام لا يليق بمنصب النبوة، ولا بالعصمة، اتخذ فيما بعد منطلقاً لضجيج أهوج، وصيحات هستيرية تطعن فى السنة النبوية وأهلها من أعدائها (3) وترمى بالنقيصة، وعدم العصمة أكمل الناس خلقاً، وأحمدهم سيرة.
.. من ذلك أقوال وآراء تضمنتها تفاسير الطبرى، والزمخشرى، والنسفى، ومن نحا نحوهم حول الآية الكريمة. ... فقد ذكرت هذه التفاسير: أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى زينب بنت جحش رضى الله عنها (1) وهى تحت زيد بن حارثه، على حالة جعلت قلبه يتعلق بها، ويود لو فارقها زيد فيتزوجها، وخشى أن يقول الناس، أمر ابنه بطلاق امرأته، ونكحها حين طلقها، والله أحق أن يخشاه من الناس (2) وفى هذا طعن على نبينا صلى الله عليه وسلم، فتح الباب لأعداء الإسلام قديماً وحديثاً من المبشرين والمستشرقين الذين أطلقوا العنان لخيالهم، وهم يتحدثون عن تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذا الموضوع، والذى اتخذوا منه دعامة للطعن فى نبوته، وعصمته صلى الله عليه وسلم (3) . والجواب: ... لا حجة لهم فى التعلق بظاهر الآية، ولا بالآراء التى قيلت فى تأويلها ولا سند لها بل هى باطلة لوجوه:
الوجه الأول: أنه ليس فى الآية ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر منه فى هذه الواقعة مذمة، ولا عاتبه الله على شئ منه، ولا ذكر أنه عصى أو أخطأ، ولا ذكر استغفار النبى صلى الله عليه وسلم منه، ولا أنه اعترف على نفسه مخطئاً، وأنه لو صدر عنه زلة لوجد من ذلك شئ، كما فى سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت عنهم زلة – إن صح التعبير – أو ترك مندوب. الوجه الثانى: أنه ذكر فى القصة بصريح القرآن الكريم: {ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له} (1) ونفى الحرج عن النبى صلى الله عليه وسلم تصريح بأنه لم يصدر منه ذنب البتة، كما أن نفى الحرج رد على من توهم من المنافقين نقصاً فى تزويجه صلى الله عليه وسلم إمرأة زيد مولاه، ودعيه الذى كان قد تبناه (2) . الوجه الثالث: أنه تعالى ذكر الحكمة والعلة من زواجه صلى الله عليه وسلم من زينب رضى الله عنها بقوله: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها كيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهم وطراً} (3) ولم يقل: إنى فعلت ذلك لأجل عشقك! أو نحو ذلك. الوجه الرابع: قوله تعالى: {زوجناكها} ولو حصل فى ذلك سوء لكان قدحاً فى الله تعالى، وهو ما يؤكد أنه لم يصدر منه صلى الله عليه وسلم ذنب البتة فى هذه القصة. الوجه الخامس: أنه لو كان ما زعموه صحيحاً، لكان قوله صلى الله عليه وسلم لزيد كما حكى القرآن الكريم {أمسك عليك زوجك} نفاقاً، لأنه أظهر بلسانه خلاف ما يضمره فى نفسه! لكن الله عز وجل عصم نبيه صلى الله عليه وسلم من ذلك.
الوجه السادس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يرى زينب للمرة الأولى، فهى بنت عمته، ولقد شاهدها منذ ولدت، وحتى أصبحت شابة، أى شاهدها مرات عديدة، فلم تكن رؤيته لها مفاجأة، كما تصور القصة الكاذبة! ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل أى ميل نحو زينب رضى الله عنها لتقدم بزواجها، وقد كان هذا أملها، وأمل أخيها حين جاء صلى الله عليه وسلم يخطبها منه، فلما صرح لهما بزيد، أبيا، فأنزل الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} (1) فقالا: رضينا بأمر الله ورسوله (2) وكانت هذه الآية توطئة وتمهيداً لما ستقرره الآيات التالية لها من حكم شرعى يجب على المؤمنين الانصياع له، وامتثاله والعمل به، وتقبله بنفس راضية، وقلب مطمئن، وتسليم كامل.
الوجه السابع: أن ما أخفاه النبى صلى الله عليه وسلم، وأبداه الله تعالى هو: أمره بزواج زينب ليبطل حكم التبنى، هذا ما صرحت به الآية، لا شئ آخر غيره، قال تعالى: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً} (1) . ... فكيف يعدلون عن صريح القرآن الكريم إلى روايات لا زمام لها ولا خطام؟! (2) وليس فى هذا الإخفاء ما يعاب عليه صلى الله عليه وسلم أصلاً، وإلا لكان ذنباً تجب منه التوبة، وليس فى الآية الكريمة ما يشعر بشئ من ذلك. ... وعليه فالإخفاء هو غاية العقل، وعين الكمال، لأن ذلك إنما كان سراً بينه وبين خالقه عزوجل، لم يأمره بإذاعته قبل أوانه، فكتمانه فى الحقيقة، قبل مجئ وقته هو الكمال الذى لا ينبغى غيره.
.. ويوضح هذا ويبينه ما وقع منه صلى الله عليه وسلم فى قصة عائشة رضى الله عنها، حين أتاه جبريل عليه السلام، قبل أن يتزوجها بأمد بعيد، بصورتها على ثوب من حرير، وقال له: "هذه امرأتك"، وقد عرفها رسول صلى الله عليه وسلم يقيناً، ولم يشك فى أنها ستكون من أزواجه الطاهرات، ومع ذلك فقد ترك هذا الأمر سراً مكتوماً بينه وبين ربه، وقال: "إن يك هذا من عند الله يمضه" (1) أى أنه من الله ولابد، فلأتركه إلى أن يجئ وقته الموعود، فلما جاء هذا الوقت أظهره الله تعالى، وتم ما أراد عزوجل. إذن ليس فى الإخفاء المذكور منقصة، ولا خيانة للوحى، كلا، بل لو أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أذاع هذا السر المكنون، والأمر المصون، لكان ذلك هو الخروج عن دائرة الحزم والكمال.
وهنا نصل إلى أصح المحامل فى قصة زينب رضى الله عنها، وهو: أن الله تعالى قد أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنها ستكون من أزواجه، فلما شكاها له زيد، وشاوره فى طلاقها، ومفارقتها، قال له على سبيل النصيحة والموعظة الخالصة "أمسك عليك زوجك واتق الله" أى واتق الله فى شكواك منها (1) واتهامك لها بسوء الخلق، والترفع عليك، لأنه شكا منها ذلك، وأخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفسه ما كان أعلمه الله به من أنه سيتزوجها، مما الله مبديه، ومظهره بتمام التزويج، وطلاق زيد لها (2) .
ويصحح هذا قول المفسرين فى قوله تعالى بعد هذا {وكان أمر الله مفعولاً} (1) أى لابد لك أن تتزوجها، ويوضح هذا أيضاً أن الله عز وجل لم يبد من أمره صلى الله عليه وسلم معها غير زواجه لها، فدل أنه الذى أخفاه صلى الله عليه وسلم مما كان أعلمه به ربه عز وجل. وبهذا القول: الذى تعطيه التلاوة من أن الذى أخفاه النبى صلى الله عليه وسلم هو إعلام الله له أنها ستكون زوجة له بعد طلاقها من زيد، قال به جمهور السلف، والمحققون من أهل التفسير، والعلماء الراسخون كابن العربى والقرطبى (2) والقاضى عياض (3) والقسطلانى فى المواهب والزرقانى فى شرحها (4) وغيرهم (5) ممن يعنون بفهم الآيات القرآنية وفقهها، وتنزيه الرسل عما لا يليق بهم من الروايات البعيدة عن منطق الحق والواقع.
بقى فى القصة: قوله تعالى: {وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} (1) فليس مرد هذه الخشية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رهبة شئ يحول بينه وبين تبليغ رسالته من قريب أو بعيد، ولا يصح أن يفهم منها أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يخشى الله تعالى، بدليل ما ورد فى القرآن الكريم فى أكثر من آية الشهادة له صلى الله عليه وسلم بالخشية والخوف قال تعالى: {قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم} (2) وقوله عز وجل: {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا} (3) وهذه الآية الكريمة تشمله صلى الله عليه وسلم شمولاً أولياً لأنها فى صدر الحديث عنه (4) ومن هنا فالخشية فى آية بحثنا {وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} مردها إلى شدة حياءه صلى الله عليه وسلم، فقد كان يتحرج حياء من بيان ما قد اطلعه الله عليه، مما سيؤول إليه أمر زينب رضى الله عنها، لأن الناس كانوا يعدون ذلك أمراً كبيراً، ولكن لما كان شرعاً محكماً، كان لابد من بيانه.
أما ما ارتضاه كثير من المفسرين فى معنى الخشية بأنها: مجرد خوفه من قالة المنافقين، وطعنهم فى ذاته الكريمة بقولهم: تزوج زوجة ابنه، أى من تبناه (1) . فهذا التأويل ترده سيرته العطرة مما تعالم وعرف فى تاريخ تبليغه الرسالة على مدى مدة الإقامة فى مكة – ثلاثة عشر عاماً – وما مضى من مدة قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة إلى حين وقوع قصة زيد وزينب، وهى قد وقعت فى السنة الثالثة أو الرابعة من الهجرة، من مناهضة الكفر والشرك والوثنية، وطغيان ملأ قريش وعتوهم وفجور سفهائهم من مواقف حفظها تاريخ السيرة النبوية العطرة من صبر على البلاء، ومجابهة الأعداء فى وقائع وأحداث كثيرة تدل قطعاً على أن النبى صلى الله عليه وسلم ما كان فى حياته المباركة يخشى أحداً غير الله تعالى، ولا يقيم وزناً لأقوال الناس فيه، وأفعالهم معه، وفى مهاجره صلى الله عليه وسلم لقى من أعداء الإسلام اليهود والمنافقين وبقايا المشركين مالا يقل فى عنفونه وعتوه، عن فجور مشركى مكة، فلم يحفل به، ولا خشى أحداً من الناس، ولو لم يكن من صور صبره صلى الله عليه وسلم على سفاهة السفهاء، وقالة السوء من أعدى أعداء الإسلام المنافقين واليهود إلا صبره فى قصة الإفك (2)
وعدم المبالاة بتقول المتقولين، وافتراء المفترين، لكفاه صلى الله عليه وسلم ذلك فى مواقف الفخر بالاعتصام بالله، وأفراده وحده بالخشية منه دون خشية أحد من خلقه. والذى أرتضيه فى المراد بالخشية فى قوله تعالى: {وتخشى الناس} هو ما أشار إليه ابن حزم (1) فى كتابه الفصل فى الملل والنحل:"أنه صلى الله عليه وسلم خشى ضرر الناس، ووقوعهم فى الهلاك
بسبب إساءة ظنهم به، وبسط ألسنتهم فيه بالسوء" (1) كما وقع له صلى الله عليه وسلم، أنه كان واقفاً مرة مع زوجته صفية بنت حى بن أخطب رضى الله عنها، ليلاً، فمر عليه رجلان من أصحابه، فلما أبصراه واقفاً معها أسرعا فى المشى، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، "على رسلكما، إنها صفية بنت حى" فقالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما ذلك (2) فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم، وقد خشيت (3) أن يقذف فى قلوبكما شيئاً" (4) فالخشية كانت من سوء الظن، والإشاعات الكاذبة التى قد تؤثر على بعض ضعفاء الإيمان، أو تقف عقبة فى سبيل تبليغ الرسالة، فيستغلها الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهذا هو المعقول اللائق بعظيم منزلته صلى الله عليه وسلم، وإلا فمجرد الخوف من قالة الناس، وخشية الطعن منهم، مما يجب أن ينزه عنه مقام النبوة
الأسمى، فإنه أى خوف الناس، لا ينشأ إلا من حب المحمدة والثناء، والحرص على الجاه عند الناس، وحسن الأحدوثة بينهم، وهذا مما يترفع عنه آحاد الأتقياء، فضلاً عن سيد الأنبياء، وعلى ذلك فليست قصة زينب المذكورة، مسوقة مساق العتاب له صلى الله عليه وسلم، كما توهمه المفسرون، وإنما سيقت فى الحقيقة لبيان كماله وحزمه صلى الله عليه وسلم، وشدة شفقته على الناس، وحرصه على سلامتهم من الأذى، كما يومئ إليه قوله تعالى قبل هذه القصة {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} (1) فإن إعطاء النبى صلى الله عليه وسلم هذا المنصب العظيم، وإحلاله هذه المنزلة الرفيعة، التى جعلت رأيه فوق رأى الجميع، بحيث لا يكون لمؤمن ولا مؤمنة الخيرة فى شئ ما، بعد قضائه ورأيه صلى الله عليه وسلم، يدل على دلالة ظاهرة على أن هذه القصة، وهى قصة زينب المذكورة، إنما ذكرت هنا كالتعليل لاستحقاقه صلى الله عليه وسلم ما ذكر، فلابد حينئذ أن يكون مضمونها مدحاً له صلى الله عليه وسلم، وتنزيهاً له عن جميع الأغراض والحظوظ النفسية، فما قيل من أنه صلى الله عليه وسلمأبصرها فتعلق قلبه بها وأخفاه، فهو قول باطل كما قال بعض العلماء، لا يلتفت إليه، وإن جل ناقلوه، فإن أدنى الأولياء لا يصدر عنه مثل هذا، وكذلك لا يجدى فيه الاعتذار، بأن ميل القلب غير مقدور، فإنه هنا أيضاً مما يجب صيانة النبى صلى الله عليه وسلم وعصمته عنه، ويرد هذا القيل: أن الله سبحانه وتعالى لم يبده، أى لم يبد الميل القلبى كما زعمتم، وإنما أبدى نكاحه إياها نسخاً لما كان عليه الجاهلية من تحريم أزواج الأدعياء (2) .
فإن قيل: فما تصنع بقوله تعالى: {والله أحق أن تخشاه} فإنه يدل على معاتبة النبى صلى الله عليه وسلم، بأنه خشى الناس، ولم يخش الله الأحق بالخشية؟. فالجواب: بأن ظاهر الآية غير مراد، وإنما المعنى: والله أحق أن تخشاه، أى: جدير بأن تخشاه كما فعلت يا رسول الله، وذلك لأن خشية ضرر الناس، وتوقى هلاكهم على ما وقع منه صلى الله عليه وسلم فى قصة صفية بنت حى السابقة، إنما نشأت من مراقبته لله تعالى، وقيامه بحق الرعاية التى جعلها الله تعالى له عليهم، فهو فى الواقع إنما خشى الله فى الناس، فجاء قوله عز وجل: {والله أحق أن تخشاه} تعزيزاً له صلى الله عليه وسلم على ما فعل، وإخباراً بأن الله تعالى جدير بأن يخشاه مثلك يا رسول الله فى عباده، بأن يقيهم أسباب الضرر والهلاك، ويحرص على هدايتهم وسعادتهم فى الدارين. قلت: وهذا الوجه الأخير من أحسن ما تنزل عليه الآية الكريمة، لأنه اللائق بما جبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة، وبما كان فى المسلمين من حدثاء الإسلام، الذين لم تتعمق جذور الإيمان فى قلوبهم بعد، فخشى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك (1) . أهـ ... ...
يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك
5- أما قوله تعالى: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم} (1) ففهم البعض من هذه الآية، أن تحريمه صلى الله عليه وسلم على نفسه ما أحله الله له ابتغاء مرضاة أزواجه، أنه ارتكب ذنباً، وبالتالى فهو غير معصوم! . قال أحمد صبحى منصور (2) : "إن تحريم الحلال، اعتداء على حق الله تعالى فى التشريع، والله تعالى يقول فى ذلك: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (3) .
وأحمد صبحى منصور فيما أطلقه فى حق رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول وافتراء، والنبى صلى الله عليه وسلم منه براء، وتعليله بما علل به، تصيد لزلة من زلات أحد المفسرين الأعلام هو الزمخشرى؛ إذ قال فى تفسيره: "كان هذا ما حرمه الرسول على نفسه من ملك اليمين أو العسل زلة منه، لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله، لأن الله عز وجل، إنما أحل ما أحل لحكمة ومصلحة عرفها فى إحلاله، فإذا حرم كان ذلك قلب المصلحة مفسدة" (1) . قلت: وعد الزمخشرى رحمه الله، ظاهر التحريم فى الآية زلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعليله بما علل به، زلة من الزمخشرى نفسه. وإليك تفصيل ذلك فى الجواب: أولاً: قبل دفع هذه الشبهة، وما قاله الزمخشرى، وتبعه فيه خصوم السنة المطهرة، والسيرة العطرة، أذكر سبب نزول هذه الآية، حيث يوضح سبب النزول حقيقة ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه مما كان حلاله. فأقول: وردت روايات فى صحيحى البخارى ومسلم، وتفيد أن ما حرمه صلى الله عليه وسلم على نفسه هو العسل، كذلك وردت روايات أخرى تفيد أن ما حرمه صلى الله عليه وسلم على نفسه هو وطء جاريته مارية رضى الله عنها (2) . فلنذكر كلا منهما، لنعرف من الموازنة بينهما أيهما أصح، ولنعرف أيضاً أيهما أكثر توافقاً وانسجاماً مع ألفاظ هذه الآية، والآيات بعدها. أ- حديث العسل:
.. روى مسلم فى صحيحه بسنده عن عائشة رضى الله عنها قالت: إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً. قالت: فتواطئت أنا وحفصة (1) أن أيتنا ما دخل عليها النبى صلى الله عليه وسلم، فلتقل: إنى أجد منك ريح مغافير (2) أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما، فقالت ذلك له. فقال: "بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود له" فنزل: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك} … إلى قوله: "إن تتوبا (لعائشة وحفصة) وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثاً، لقوله: بل شربت عسلاً" (3) . ... وفى رواية للبخارى: "فلن أعود له، وقد حلفت، لا تخبرى بذلك أحداً" (4) وقد روى مسلم فى صحيحه روايتين، أحدهما السابقة، والتى تفيد أن التى سقت الرسول صلى الله عليه وسلم العسل، زينب بنت جحش، وأن المتظاهرتين عليه هما عائشة وحفصة رضى الله عنهما.
.. والرواية الثانية تفيد أن التى سقته العسل هى حفصة، وأن المتظاهرات عليه من نسائه، سودة وعائشة وصفية رضى الله عنهن (1) والحديث الأول الذى فيه أن المتظاهرتين عائشة وحفصة رضى الله عنهما أرجح (2) لما يلى: لأنه يتوافق مع لفظ الآية: {وإن تظاهرا عليه} (3) فإنه بالتثنية. ولأنه يتفق مع الحديث الذى رواه البخارى ومسلم فى صحيحهما بسندهما عن ابن عباس رضى الله عنهما، أنه سأل عمر رضى الله عنه عن المرأتين اللتين نزلت فيهما الآية: {وإن تظاهرا عليه} فما أتم سؤاله حتى قال عمر: هما عائشة وحفصة رضى الله عنهما (4) . ب- حديث مارية رضى الله عنهما:
.. عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة، وحفصة حتى حرمها فأنزل الله عز وجل: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} (1) . ... وعن عمر رضى الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية فى بيت حفصة، فوجدته حفصة معها، فقالت له: تدخلها بيتى، ما صنعت بى هذا من بين نسائك إلا من هوانى عليك، فقال: لا تذكرى هذا لعائشة، فهى علىَّ حرام إن قربتها"، قالت حفصة: وكيف تحرم عليك وهى جاريتك، فحلف لها لا يقربها، فقال النبى صلى الله عليه وسلم، لا تذكريه لأحد، فذكرته لعائشة، فآلى لا يدخل على نسائه شهراً، فاعتزلهن تسعاً وعشرين ليلة: فأنزل الله تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك} (2) .
.. وللحديث شواهد أخرى (1) بمجموعها يتبين أن للقصة أصلاً، كما قال الحافظ ابن حجر، وزاد أحسب لا كما زعم القاضى عياض أن هذه القصة لم تأت من طريق صحيح (2) وغفل – رحمه الله – عن طريق النسائى التى سلفت، فكفى بها صحة (3) . ... وهناك أقوال أخرى غير ما سبق فى أسباب نزول آية التحريم، ولكن ضعفها العلماء لإرسالها وشذوذها (4) ولهذا استبعدت ذكرها.
.. ويبقى معنا قولان: الأول: وهو تحريم العسل، والثانى: وهو تحريم مارية أما القول الأول: فهو إن كان أقوى من جهة رواية الشيخين له، ورجحه بعض الأئمة على ما سبق قريباً، إلا أن القول الثانى: أكثر موافقة لألفاظ الآيات، ومال إلى ترجيحه ابن الجوزى (1) فى تفسيره، وأسنده إلى بعض أئمة السلف والأكثرين من المفسرين، وإلى هذا الترجيح مال جمال الدين القاسمى فى تفسيره حيث قال: "والذى يظهر لى هو ترجيح روايات تحريم الجارية فى سبب نزولها وذلك لوجوه: منها: أن مثله يبتغى به مرضاة الضرات (2) ويهتم به لهن. ومنها: أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفة من ريحه (3) . ... ولا مانع من القول بعد كل هذا بأن الآية نزلت بعد القصتين، فاقتصر بعض الرواة على إحداهما، والبعض الأخرى على نقل الأخرى. قال الحافظ فى فتح البارى: "وطريقة الجمع بين هذا الاختلاف، الحمل على التعدد، فلا يمتنع أن تكون الآية نزلت فى السببين معاً" (4) .
.. قلت: وأياً كان السبب، فإن ما أطلقه الزمخشرى، وتابعه فيه خصوم السنة النبوية، والسيرة العطرة، فى حق النبى صلى الله عليه وسلم تقول وافتراء، والنبى صلى الله عليه وسلم مما أطلقوه براء، وذلك أن تحريم ما أحله الله على وجهين: الوجه الأول: اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه، فهذا بمثابة اعتقاد حكم التحليل فيما حرمه الله عز وجل، وكلاهما محظور لا يصدر من المتسمين بسمة الإيمان، وإن صدر! سلب المؤمن حكم الإيمان. ... والزمخشرى كلامه محمول على هذا المحمل، ومعاذ أن يعتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم ما أحله الله له… وما هذه من الزمخشرى إلا جراءة على الله ورسوله؛ تابعه فيها بعض أدعياء العلم على ما سبق. الوجه الثانى: الامتناع عما أحله الله عز وجل، وهو المعنى الأصلى لمادة "حرم" فى اللغة (1) وقد ورد التحريم بهذا المعنى فى القرآن الكريم فى آيات منها: قوله تعالى: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} (2) أى منعنا موسى المراضع، أن يرتضع منهن إلا من قِبَلِ أمه (3) . وقوله عز وجل: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة} (4) أى منعه من دخولها. وقوله سبحانه: {كل الطعام كان حلاً لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} (5) أى إلا ما امتنع عنه سيدنا يعقوب عليه السلام عنه من قبل نفسه. والامتناع عما أحله الله قد يكون مؤكداً باليمين مع اعتقاد حله، وهذا مباح صرف، وحلال محض.
وعلى هذا الوجه الثانى تحمل آية التحريم، والتفسير الصحيح، والحديث الصحيح يعضده فإن النبى صلى الله عليه وسلم فى العسل قال: "فلن أعود له، وقد حلفت". وفى مارية عندما قالت حفصة، كيف تحرم عليك وهى جاريتك حلف لها لا يقربها. فالتحريم منه صلى الله عليه وسلم كان امتناعاً عن العسل أو مارية، وهو امتناع أكده باليمين، مع اعتقاد حله، ولذا نزلت الآيات وفيها الحث على التحلل من يمينه، والتكفير عنه، قال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (1) وهذا المقدار مباح، والمباحات جائز وقوعها من الأنبياء، وليس فيها قدح فى عصمتهم (2) . وإنما قيل له صلى الله عليه وسلم: {لم تحرم ما أحل الله لك} (3) رفقاً به، وشفقه عليه، وتنويهاً لقدره بحيث لا يجب له أن يضيق على نفسه فى سبيل إرضاء أى شخص، فيكون معنى الآية على هذا، وقد صدرت بندائه بوصف النبوة تشريفاً لمكانه، وتعظيماً لمقامه، يا أيها النبى لم تمنع نفسك وتحرمها من الاستمتاع بما أحله الله لك، مما لك فيه رغبة ومتعة وسرور، تبتغى بذلك مرضاة أزواجك؟ وهن أحق أن يسعين فى رضاك ليسعدن!. وهذا القيد {تبتغى مرضاة أزواجك} هو محط العتاب فى الحقيقة، وليس مجرد منعه صلى الله عليه وسلم نفسه من المتعة بالمباح، محلاً للعتاب، لأنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما منع نفسه من بعض المباحات، التى ينعم بها الناس، ولاسيما فى مجال المتعة الجسدية، زهداً فى الدنيا وبعداً عنها، ولم يحظر عليه ذلك، ولم يعاتبه الله تعالى على شئ من ذلك كله.
إذن فى قوله تعالى: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك} منَّة وتعظيم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم برفع الحرج عليه، فى الامتناع عن شئ ليرضى أزواجه، إذ هنَّ وسائر المؤمنين أحق أن يسعوا فى مرضاته ليسعدن، قال تعالى: {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى} (1) . فتأمل كيف أن صلاته صلى الله عليه وسلم مأمورا بها ليرضى هو، لا ليكفر الله عنه سيئاته، ولا ليرضى عليه، وحينئذ فلا كلفة عليه فيها، لأن فيها شهوده لربه الذى هو قرة عينه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عينى فى الصلاة" (2) فانظر: إلى هذا الخطاب اللطيف المشعر بأنه صلى الله عليه وسلم حبيب رب العالمين، وأفضل الخلق أجمعين، حيث قال له ربه: {لعلك ترضى} ولم يقل: لعلى أرضى عنك، ونحو ذلك (3) .
ومن هنا جعل رب العزة رضاه عن خلقه، مقترناً برضا حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم عنهم، حيث أتبع رضا نبيه لرضاه سبحانه مباشرة، كما دل عليه قوله تعالى: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسول أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} (1) فوحد عز وجل الضمير فى "يرضوه" مع أن الظاهر بعد العطف بالواو التثنية؛ لأن إرضاء الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفك عن إرضاء الله تعالى، كما قال عز وجل: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (2) فلتلازمهما جعلاً كشئ واحد، فعاد إليهما الضمير المفرد (3) وإذا كان الله تعالى قد جعل إرضاء رسوله صلى الله عليه وسلم إرضاءً له، وطاعته طاعة له، فذلك دليل على كمال رضاه عنه فى الدنيا قبل الآخرة، وليس أدل على ذلك من مسارعة ربه لمرضاته صلى الله عليه وسلم كما قال: {قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها} (4) وقوله سبحانه: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (5) . فتأمل هذا الخطاب، وقارنه بخطاب موسى عليه السلام لربه {وعجلت إليك ربى لترضى} (6) .
وهذه المسارعة فى مرضاته صلى الله عليه وسلم لاحظتها أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، لما أنزل الله تعالى: {ترجى (1) من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} (2) قال عائشة قلت: "ما أرى ربك إلا يسارع فى هواك" (3) أى ما أرى الله إلا موجوداً لما تريد بلا تأخير، منزلاً لما تحب وتختار وترضى (4) وإنما جاء التعبير بالهوى هنا، بدافع الغيرة، وحاشاها رضى الله عنها أن تعنى حقيقة اللفظ!.
وبعد: أليس فيما سبق تأكيد لما فى آية التحريم من منَّة وتكريم وتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشفقة عليه، ورفقاً به، بحيث لا يجب عليه أن يمتنع عن شئ مباح له من أجل مرضاة أزواجه، إذ هن وسائر الأمة كافة أحق أن يسعوا فى مرضاته ليسعدن فى الدنيا والآخرة؟! وإذا افترض أن فى الآية إنكاراً عليه، ودليل على أنه صدر منه ذنب – عصمه الله من ذلك - فقوله تعالى فى ختام الآية {والله غفور رحيم} يدل على حصول الغفران، وبعد حصول الغفران، يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه!. بمعنى: أنه يمتنع أن يقال أن قوله {لم تحرم ما أحل الله لك} دليل على كون الرسول مذنباً! وإذا صح أن فى الآية عتاب، فهو وارد بأحسن ما يكون العتاب من تعظيم المولى عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، حيث ناداه وخاطبه فى هذا المقام بوصف النبوة فى أكثر من موطن فى القصة بدأً من أولها، قال تعالى: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك} (1) وقوله سبحانه: {وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثا} (2) ولكن أنى يكون العتاب؟ وأنى يصح افتراضه، مع ما ورد فى القصة من قوله عز وجل: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} (3) إن فى الآية بيان لمن أذنب، ولمن يستحق العتاب والتأديب، من نسائه اللائى تظاهرن عليه صلى الله عليه وسلم، وأفشين سره، إنهن بالتظاهر، وإفشاء السر، آذين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوبة من ذلك واجبة فى حقهن، لأن قلوبهن قد مالت عن الحق، كما تدل عليه قراءة ابن مسعود رضى الله عنه {زاغت قلوبكما} (4) وعلى هذا فإن قوله {فقد صغت قلوبكما} ليس جواب الشرط، وإنما هو دليله وتعليله.
والمعنى على هذا: إن تتوبا إلى الله، وترجعا عن مغاضبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيذائه بالتظاهر عليه، وإفشاء سره، فالتوبة حق واجب عليكما، لأن قلوبكما قد زاغت ومالت عن الحق فى مغاضبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذائه. ويمكن أن تحمل الآية على فهم آخر، يأتى من حمل قوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} على معنى أنها مالت إلى الحق، وهو ما وجب من مجانبة ما يسخط رسول الله (1) وندمت على ما كان منها، من مغاضبة النبى صلى الله عليه وسلم، وإيذائه. والمعنى على هذا: إن تتوبا إلى الله، وترجعا عن مغاضبة النبى صلى الله عليه وسلم، وتندماً على ما كان منكما، فقد مالت قلوبكما إلى الحق، ومصالحة النبى صلى الله عليه وسلم ومرضاته، وأن ما كان منكما من مغاضبة، وإيذاء لم يكن صادراً عن قلوبكما، وإنما هو فورة غضب، ونار غيرة. ويؤكد هذا قوله تعالى: {وإن تظاهرا عليه} (2) أى إن استمررتما على المغاضبة، والإيذاء، وتعاونتما عليه صلى الله عليه وسلم، فإن الله ناصره بقوته القاهرة، وخواص ملائكته، وعامتهم، وصالح المؤمنين، وهذا كالمقابل لقوله: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} 0
ثم تلطف الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم إظهاراً لحفاوته به، وإعلاء لمقامه، بما زاد فى تأديب الزوجات الطاهرات، متمشياً مع أسلوب الزجر والتهديد فقال: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً} (1) أى جامعات للكمال فى إسعاده صلى الله عليه وسلم حساً ومعنى، فلا يعصين له أمراً، ولا يخالفن له نهياً، يعملن على إسعاده، وإدخال السرور عليه، بما يفرغ قلبه من حمل أثقال الزوجية إلى القيام بواجبه الأعظم، وهو تبليغ رسالته، وتعليم أمته، وإعطاؤها الأسوة الحسنة به، لتكون كما أرادها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس (2) . وكل ما سبق تأكيد على أن قوله تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك} ليس إنكاراً عليه، ولا عتاباً له على ذنب، بل تكريمه وتعظيمه على نحو ما سبق فى قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} (3) ونحو ما يقول الإنسان منا لعزيز عليه، ضيق على نفسه فى شئ، والله حرام عليك فعل كذا، والمراد: إظهار مكانته، وفضله، وشرفه، إذ كيف يفعل هذا الأمر الذى فيه مشقة عليه، مع عظم مكانته، والمراد "حرام عليك ظلم نفسك" وليس المراد تأثيم المخاطب المعظم بنحو هذه العبارة، وهذا غاية ما يمكن أن يدعى فى قوله {لم تحرم ما أحل الله لك} أن تكون دالة على أنه صلى الله عليه وسلم ترك الأولى والأفضل بالنسبة لمقامه العظيم، وترك الأولى فى المباح ليس بذنب فى حقه صلى الله عليه وسلم.
وبعد: فقد تضمن الكتاب العزيز من التصريح بجليل رتبته صلى الله عليه وسلم، وتعظيم قدره، وعلو منصبه، ورفعة ذكره، ما يقضى بأنه جمع أقصى درجات التكريم، ويكفى أن تجد هذا التصريح بعظيم مكانته وفضله عند ربه عز وجل فى الدنيا والآخرة، حتى فى الآيات المتشابهات التى استدل بها أعداء الإسلام، وخصوم السنة المطهرة، والسيرة العطرة، على نحو ما سبق تفصيله فى هذا المبحث الذى وصلنا إلى نهايته الآن، وسوف أنتقل بإذن الله تعالى، إلى شبهاتهم على عدم عصمته فى عقله من السنة المطهرة والرد عليها فى المبحث التالى، فإلى بيان ذلك.
المبحث الثانى: شبهاتهم من السنة النبوية على عدم عصمة النبى صلى الله عليه وسلم
المبحث الثانى: شبهاتهم من السنة النبوية على عدم عصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه والرد عليها ... ويشتمل على تمهيد وخمسة مطالب: المطلب الأول: شبهة الطاعنين فى حديث "شق صدره صلى الله عليه وسلم" والرد عليها. المطلب الثانى: شبهة الطاعنين فى حديث "فترة الوحي" والرد عليها. المطلب الثالث: شبهة الطاعنين فى حديث "نحن أحق بالشك من إبراهيم" والرد عليها. المطلب الرابع: شبهة الطاعنين فى حديث "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم" والرد عليها. المطلب الخامس: شبهة الطاعنين فى حديث "أَهَجَرَ" والرد عليها. تمهيد ... بعد أن تحايل أعداء الإسلام، وأعداء السنة والسيرة العطرة، على بعض آيات من القرآن الكريم، ليحوروا معانيها، ويستدلوا بهذا التحوير على عدم عصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قلبه، وعقيدته، وخلقه، تجدهم هنا باسم السنة ونصوصها يستشهدون بها أيضاً على إنكار حجتها، وإنكار مصدريتها التشريعية، فى تحديد شخصية وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بزعم أن فيها أحاديث صحيحة يفيد ظاهرها - فى نظرهم - عدم عصمته صلى الله عليه وسلم ويشوه سيرته، وهذا رأى الشيعة ممن تغالوا فى فهم العصمة. ... وفريق آخر يشترك مع سابقه فى إنكار حجية السنة، وإنكار مصدريتها التشريعية فى فهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه فى نفس الوقت يستشهد من ظاهر نصوص السنة والسيرة ما يفيده فى زعمه ودعواه بعدم عصمته صلى الله عليه وسلم فى قلبه وعقيدته. ... وهكذا عكس المشاغبون القضية، ونظروا فى السنة المطهرة والسيرة العطرة فما وافق دعواهم منها قبلوه، واعترضوا به على منازعيهم، واحتجوا به مع وضعه أو ضعف دلالته على ما يزعمون. ... وهذا العمل مع جهالته، أخطر منطق عكسى فى التدليل على فساد الشئ بمادته، نصاً وأسلوباً.
.. لأنه إذا كان من الخطأ والخطر قبول الأحاديث الباطلة والموضوعة، وعزوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثله فى البطلان رد الأحاديث الصحيحة الثابتة، بالهوى، والعجب، والتعالم على الله ورسوله، وسوء الظن بالأمة، وعلمائها، وأئمتها، فى أفضل أجيالها وخير قرونها. ... إن قبول الأحاديث المكذوبة يدخل فى الدين، وفى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس منها. ... أما رد الأحاديث الصحيحة، فيخرج من الدين، ومن سيرة النبى صلى الله عليه وسلم ما هو منها. ولا ريب أن كليهما مرفوض مذموم، قبول الباطل، ورد الحق. ... ولأعداء الإسلام، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، شبهات على عدم عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قلبه وعقيدته، بنوها على أحاديث مكذوبة، وضعيفة، وأخرى صحيحة مع ضعف دلالتها على ما احتجوا به. ... وسوف أذكر تلك الشبهات مع الرد عليها فى المطالب التالية، فإلى بيان ذلك، سائلاً المولى عز وجل التوفيق والسداد.
المطلب الأول: شبهة الطاعنين فى حديث "شق صدره صلى الله عليه وسلم"
المطلب الأول: شبهة الطاعنين فى حديث "شق صدره صلى الله عليه وسلم" والرد عليها ... يذهب أعداء الإسلام من المستشرقين، وأذيالهم من أعداء السنة المطهرة إلى إنكار الشق الحسى لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) فبعض المستشرقين مثل "نيكولوسون" يرجعه إلى حالة عصبية كانت تنتابه صلى الله عليه وسلم فى فترات متقطعة (2) بينما تجد "موير" يوافقه ويزيد عليه أنها لم تؤثر فى شخصيته، معللاً ذلك بحسن تكوينه وسلامة أعضائه، ونجد أن "شبرنجر" يؤيدهما أيضاً ويتلمس مخرجاً لظهور هذه الحالة عنده، فيعللها بأنها موروثة له عن أمه بسبب الرؤيا التى كانت تراه أثناء حمله… وما هى إلى من قبيل الخرافات (3) وهو يقصد أن أمه آمنة كانت مصابة بداء الصرع، يدلنا على وجوده عندها تلك الرؤيا المتكررة لها أثناء حملها له، وليس لها نصيب من الحق، وقد ورث هذا الصرع منها. ... أما "درمنغم" فإنه يعزو شرح الصدر إلى أمر معنوى يشير إلى مغزى فلسفى نبهت إليه سورة "الشرح" فيقول: "إنها نشأت من قول الله تعالى {ألم نشرح لك صدرك} (4) وأن هذه العملية أمر باطنى قام على تطهير ذلك القلب وتوسيعه ليتلقى رسالة الله عن حسن نية، ويبلغها بإخلاص تام، ويحتمل عبئها الثقيل، وأن أسطورة شق الصدر ذات مغزى فلسفى لما تشير إليه تلك الدرنة السوداء من الخطيئة الأولى التى لم يعف منها غير مريم وعيسى، ولما يدل عليه تطهير القلب من معنى الورع الصوفى" (5) . ... وقد تأثر بهذا الفكر الاستشراقى أعداء السنة المطهرة والسيرة العطرة من القرآنيين، والرافضة.
.. يقول محمود أبو ريه (1) مصرحاً بهذا التأثير قائلاً: "من شاء أن يستزيد من معرفة الإسرائيليات، والمسيحيات وغيرها فى الدين الإسلامى، فليرجع إلى كتب التفسير والحديث والتاريخ، وإلى كتب المستشرقين أمثال جلدتسيهر" وفون كريمر وغيرهما، فقد نقلت فيهما من هذه الإسرائيليات والمسيحيات أشياء كثيرة" (2) . ... ويقول طاعناً فى حديث شق الصدر قائلاً: "إن حديث شق الصدر يأتى مؤيداً لحديث البخارى: "ما من بنى آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان، غير مريم وابنها، ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم {وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} (3) .
.. ويقول: "وبذلك لم يسلم من طعن الشيطان أحد غيرهما من بنى آدم أجمعين، حتى الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم فانظر واعجب! ولم يقفوا عند ذلك بل كان من رواياتهم أن النبى صلى الله عليه وسلم لم ينج من نخسة الشيطان إلا بعد أن نقذت الطعنة إلى قلبه، وكان ذلك بعملية جراحية تولتها الملائكة بآلات جراحية مصنوعة من الذهب! ونصت هذه الروايات أن صدره صلوات الله عليه قد شق وأخرجت منه العلقة السوداء! وحظ الشيطان كما يقولون، وكأن هذه العملية لم تنجح فأعيد شق صدره… وإن هذه العملية الجراحية لتشبه من بعض الوجوه عملية صلب السيد المسيح عليه السلام، وإنما ذكروا ذلك لكى يغفر الله خطيئة آدم التى احتملها هو وذريته من بعده إلى يوم القيامة، وأصبحت فى أعناقهم جميعاً، وتنص العقيدة المسيحية أنه لا يظفر بهذا الغفران إلا من يؤمن بعقيدة الصلب.
.. ولئن قال المسلمون لإخوانهم المسيحيين: ولم لا يغفر الله لآدم خطيئته بغير هذه الوسيلة القاسية التى أزهقت فيها روح طاهرة بريئة، هى روح عيسى عليه السلام بغير ذنب؟ قيل لهم: ولم لم يخلق الله قلب رسوله الذى اصطفاه كما خلق قلوب إخوانه من الأنبياء والمرسلين – نقياً من العلقة السوداء، وحظ الشيطان بغير هذه العملية الجراحية التى تمزق فيها صدره وقلبه مراراً عديدة! " (1) ومما يؤسف له تأثر بعض كتاب المسلمين بهذا الفكر الاستشراقى ومنهم الدكتور محمد حسين هيكل (2) حيث يقول فى كتابه حياة محمد: "لا يطمئن المستشرقون، ولا يطمئن جماعة من المسلمين كذلك إلى قصة الملكين هذه، ويرونها ضعيفة السند، فالذى رأى الرجلين فى رواية كُتَّاب السيرة إنما هو طفل لا يزيد على سنتين إلا قليلاً، وكذلك كانت سن محمد يومئذ" (3) .
ويجاب عن الشبهات السابقة بما يلى: أولاً: رواية شق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة صحيحة رويت فى مصادر عدة بطرق صحيحة لا يسع العقل المدرك إنكارها. ثانياً: المستشرقون ومن تابعهم فى إنكارهم لشق الصدر لا يستندون إلى علم أو منطق سليم. وإليك التفصيل. ... أما مستند إنكار "موير" و"نيكولسون" و"شبرنجر" فيكمن فى: أن ما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان ضرباً من نوبات الصرع التى كانت تتعاوده بين الحين والحين، وهو ما زعموه أيضاً فى حالات نزول الوحي عليه (1) بهدف إنكار نبوته! لكن المتأمل فى معجزة شق الصدر يجد أن هناك بوناً شاسعاً بينه وبين الصرع، فإن نوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أى ذكر لما مر به أثناءها، بل هو ينسى هذه الفترة من حياته بعد إفاقته من نوبته نسياناً تاماً، ولا يذكر شيئاً مما صنع أو حل به خلالها، ذلك أن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام التعطيل. ... هذه أعراض الصرع كما يثبتها العلم، ولم يكن ذلك ليصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانت تنتبه حواسه المدركة فى تلك الأثناء تنبهاً لا عهد للناس به، وكان يذكر كل ما يطرأ عليه بدقة فائقة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن كيفية إتيانه الوحي قال: أحياناً يأتينى مثل صلصلة الجرس، وهو أشده على، فيفصم عنى، وقد وعيت عنه ما قال…" (2) .
.. هذا بالإضافة إلى أن قصة شق صدره الشريف تحدث به الأطفال الذين كانوا فى صحبته إبان حدوثها، ومن البعيد، بل ومن المستحيل أن يتفق الأطفال على اختراع حادثة لا أساس لها، وذلك لطهرهم وصفاء سريرتهم ونقائها على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث بها أيضاً بعد الرسالة على ما جاء فى رواية مسلم عن أنس بن مالك، وتصريحه بأنه كان يرى أثر المخيط فى صدره صلى الله عليه وسلم!. ... وكذلك جاء التصريح بقصة شق الصدر صريحاً على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما جاء فى رواية عبد الله بن أحمد عن أبى هريرة رضى الله عنه، وكذلك جاء التصريح بالشق ليلة الإسراء والمعراج على ما جاء فى الصحيحين عن أبى ذر رضى الله عنه. ... أما ما زعمه "موير" من عدم تأثير النوبة فيه لحسن تكوينه فإنه دس خبيث، وطعن مردود، مؤداه إنكار شق صدره لإنكار نبوته، متذرعاً بما هو مقرر عند المسلمين من كمال هيئته وحسن تكوينه صلى الله عليه وسلم، وليس فى الروايات ما يساعد على زعمه وافتراءاته. ... إذ كيف يجتمع حسن التكوين، وحدوث الصرع؟ إنها قضية من المضحكات المبكيات على عقله الكليل المتناقض!. ... وأما ما زعمه "شبرنجر" من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له حالات عصبية تنتابه، وأنه ورثها عن أمه بسبب الرؤيا التى كانت تراها أثناء حمله، وما هى إلا من قبيل الخرافات! يكذبه ما سبق من أن أعراض الصرع ما كان ليصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شئ. ... وحمله سبب الصرع، على رؤيا آمنة يكذبه أيضاً ما ثبت فى الصحيح من تأكيده صلى الله عليه وسلم لرؤيا أمه، فى قوله صلى الله عليه وسلم: "إنى عبد الله وخاتم النبيين وأبى منجدل فى طينته، وسأخبركم عن ذلك، أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمى آمنة التى رأت، وكذلك أمهات المؤمنين يرين…" (1) .
.. وإذا كان "شبرنجر" يعتبر رؤيا أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قبيل الخرافات، فهل يعتبر أيضاً رؤيا أم موسى من قبيل الخرافات؟ والواردة فى قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم ولا تخافى ولا تحزنى إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} (1) . ... إن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة، كان من أعقل الناس، وأصحهم بدناً، ومن زعم خلاف ذلك من المستشرقين فعليه الدليل، ولا دليل! لأن الحق المؤيد بالأدلة القاطعة. أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مؤمنة بعصمة ابنها (محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم) من الشيطان، وأنه سيكون له شأن، وكان هذا بناءاً على أمارات تحدثت بها لحليمة السعدية عندما تخوفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغها قصة شق صدره الشريف مع الغلمان. ... قالت لها: "أفتخوفت عليه الشيطان؟ قالت حليمة: قلت نعم، قالت آمنة: كلا! والله ما للشيطان عليه من سبيل (2) وإن لابنى شأناً! أفلا أخبرك خبره، قالت: قلت: بلى، قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج منى نور أضاء لى به قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به، فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف، ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته، وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك، وانطلقى راشدة" (3) .
.. أما ما ادعاه "درمنغم" من أن قصة شق الصدر لا تستند إلا إلى الآية الكريمة وأنه عمل روحى خالص، فإن الدليل ليس هو الآية فقط، وإنما الدليل على وقوع شق الصدر على جهة الحس، إنما هو الروايات المتواترة والمتكاثرة، التى ذخرت بها كتب السنة كما أسلفنا، وحسبك بمصدرها أحد الصحيحين (مسلم) فلا سبيل إلى التشكيك فى وقوع القصة بعدها، وخاصة أنها جاءت مؤكدة ومفسرة للآية الكريمة {ألم نشرح لك صدرك} (1) . ... وإن كانت دعوى المفكرين من المستشرقين، ومن لف لفهم من المسلمين، بأن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم حياة إنسانية رفيعة، فلا معنى لمثل هذا الحادث بالنسبة له!! فإننا نقول لهم: إن الحياة الإنسانية الرفيعة لا تتعارض والمعجزات الحسية للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولماذا ينكر هذا على سيد ولد آدم، ولا ينكر على غيره ممن سبقه من الأنبياء ممن ظهرت على أيديهم خوارق العادات كموسى وعيسى عليهما السلام، ولم يقل أحد من أهل العلم إن ذلك كان مجافياً لحياتهما الإنسانية الرفيعة؟. ... وقصة شق الصدر لا تخالف العقل أيضاً من جهة كونها تمت دون إراقة دم، والتأمت دون آلات طبية، فإن العلم الحديث يؤيد ذلك ويصدقه، فقد اخترعت آلات للجراحة تجعل الجرح يلتئم بدون سيلان دم من جسم المريض، كما وجد بعض الأودية تمنع سيلان الدم بمجرد بثها على الجرح، والطبيب لا يدعى أنه يفعل الأشياء الخارقة، وإنما يعتقد أن ذلك قد تم بعلم مدروس له قواعده وأصوله. كيف وقد تم زرع بعض الأجسام المنقولة من ميت أو صحيح إلى آخر مريض، ويزاول حياته الطبيعية بعد أن برأ وعافاه الله وزال عنه المرض؟ وإذا جاز ذلك فى حق البشر وهو من جملة ما خلق الله عز وجل، أيستبعد ذلك على الخالق جل جلاله؟.
.. أما ما ادعاه الدكتور هيكل وغيره: بأن قصة شق الصدر ضعيفة السند، ولم يقم عليها دليل قطعى من الكتاب أو السنة (1) أو أن هذه القصة مأخوذة عن أهل الجاهلية، ومفتعلة ومختلقة (2) . ... فهو نقد هزيل، لأنه نقد عام دون بيان الضعف من جهة السند، كيف وقد وردت قصة شق الصدر فى صحيح مسلم وغيره من كتب السنة كما بينا (3) حتى قال الحافظ فى الفتح عن شق الصدر ليلة الإسراء إنه تواترت الروايات به (4) .
.. وهؤلاء الطاعنون بذلك أدخلوا أنفسهم فى ميدان هم ليسوا من فرسانه فحالفهم الخطأ، وخالفهم الصواب، لأن رواية قصة شق الصدر – كما عرفت آنفاً – رواها أئمة الحديث، وجهابذته العارفون بكل دقائقه، وما يتصل به من تمحيص المرويات، ودراسة أحوال رجالها، وما يتصل بذلك من قواعد علم الجرح والتعديل وغيرها. وأهل كل فن هم أعلم به من غيرهم! وقد ثبت صحة هذه القصة سنداً ومتناً، وأنها خالية من كل مطعن حسب قواعد علم الحديث وأصوله، مما يضطر العقل إلى قبولها والتسليم بها، وأحاديث شق الصدر رواها الخلف عن السلف فى كل الطبقات منذ حدوثها إلى الآن، وهذا هو المعول عليه فى قبول الحديث أو رده (1) وليس اتباع الهوى والغرض دون دليل أو برهان، وإذا ثبت ذلك فاعلم أنه لا يشذ عن الإقرار بحدوثها إلا كل مكابر يجافى الحق وأهله، وطرائق البحث الجاد المستقيم فى صادق الأخبار. ... أما قول الدكتور هيكل: إن الذى رأى الرجلين فى رواية كتاب السيرة إنما هو طفل لا يزيد على سنتين إلا قليلاً، وكذلك كانت سن محمد يومئذ.
.. فهو ادعاء ينقصه الدليل، والأرجح والأصح عند العلماء أنها كانت بعد إتمامه الأربع من السنين، وهو سن أجاز علماء الحديث فيه صحة تحمل الطالب للحديث مادام مرتفعاً عن حال من لا يعقل فهماً للخطاب، ورداً للجواب ونحو ذلك طبقاً لمعايير خاصة حول الإدراك والتمييز والضبط تتفق مع ما هو ملاحظ فى واقع الأطفال من النباهة، وقوة الحافظة (1) . ... وإذا كان مقبولاً ممن سوى المصطفى صلى الله عليه وسلم فى مثل سنه، وهم بلا ريب فى أدنى درجات التعقل بالنسبة له، أفلا يجوز ذلك لمن لو وزن بأمته كلها لرجحها صلى الله عليه وسلم؟. ... وحتى لو كان سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الغلمان ممن شهدوا قصة شق الصدر لا يزيد على سنتين إلا قليلاً كما يزعم الدكتور هيكل؛ أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم صرح بالتحديث بها بعد البعثة؟! أليس فى هذا التصريح بعد البعثة دليل على أن ذلك وحى من الله عز وجل إليه بما حدث له فى صغره من عناية الله عز وجل به وعصمته؟!. أليس فى التحديث بها بعد وحى الله عز وجل إليه دليل على صحة القصة ووجوب قبولها، حتى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شهدها فى الصغر دون سن التمييز؟!. ... وأختم الرد على الدكتور هيكل ومن شايعه بما قاله فضيلة الشيخ محمد عرجون: قال: "ولا عبرة بعدم اطمئنان المستشرقين، وجماعة "العقلانيين" من الباحثين المعاصرين إلى القصة ووقوعها، فلو لم يكن فى رواياتها إلا رواية الشيخين البخارى ومسلم لكانت فى أعلى مرات الصحة من ناحية السند. ... وأما غمز القصة بطفولية النبى صلى الله عليه وسلم، واستعظام ما حدث به على سنه فى الرواية، فهذا من قبيل الإيهام المضلل، لأن تحديد السن لم تتفق عليه الروايات!.
.. على أننا نسأل عبيد الاستشراق والمستشرقين، ما قولكم فى رواية البخارى وهى صريحة فى أن القصة وقعت بعد النبوة ليلة الإسراء؟ والحديث معكم فى وقوع القصة لا فى زمانها ومكانها، لأن ذلك تحقيق تاريخى لا يضير البحث ألا تؤمنوا به، وكيف يستعظم تحدثه صلى الله عليه وسلم على سنه، والأمر كله من قبيل الإعجاز؟ على أن تحدثه كان وهو نبى رسول، إذ سئل من بعض أصحابه فأجاب بما جاء فى الرواية. ... والذى يعنى البحث أن قصة شق الصدر حادث كونى، ومعجزة عجيبة وقعت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وجاءتنا بها الروايات الصحيحة الثابتة، ولا يردها تشكيك مستشرق، ولا مستغرب، ولا متعوقل ولا متعالم" (1) . ... أما من حمل شرح الصدر على الأمور المعنوية من المستشرقين فظاهر من جحدهم وإنكارهم، أما من حمله على ذلك من المسلمين، فإن صاحب السيرة الهاشمية يقول رداً عليهم: "وما وقع من بعض جهلة العصر من إنكار ذلك وحمله على الأمر المعنوى، وإلزام قائله القول بقلب الحقائق، فهو جهل صريح، وخطأ قبيح، نشأ من خذلان الله تعالى لهم وعكوفهم على العلوم الفلسفية، وبعدهم عن دقائق السنة" (2) . أهـ. ... ولا شك أن ذلك ينسحب على كل منكر له فى القديم والحديث. عصمنا الله من ذلك. ... أما مقارنة محمود أبو ريه بين قصة شق الصدر، وحديث نخس الشيطان كل مولود. فلا وجه لهذه المقارنة، لأن شق الصدر لم يكن لإزالة أثر النخسة كما زعم، وإنما كانت لتطهير القلب من شئ يخلق لكل إنسان بمقتضى أنه خلق ليبتلى.
.. أما تكراره فذلك كان لمقصود مناسب لوقت وقوعه، فالمقصود أولاً، غير المقصود ثانياً، وثالثاً، ورابعاً. على نحو ما فصل سابقاً (1) وبالتالى لا وجه لسؤال أعداء السيرة العطرة، لماذا تكررت هذه العملية أربع أو خمس مرات فى أوقات متباعدة؟!!. ... كما أنه لا وجه للمقارنة بين شق الصدر والصلب لما يلى: أولاً: لأن شق الصدر أمر حق وممكن، وثابت بالأسانيد الصحيحة المؤكدة للآية الكريمة {ألم نشرح لك صدرك} (2) والصلب أمر باطل، وفيه مخالفة للعقل والنقل، وقد نفاه القرآن نفياً باتاً، قال تعالى: {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً} (3) . ثانياً: شق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤلمه البتة على ما زعمه أعداء السنة والسيرة (4) وإنما شق صدره الشريف على ما جاء فى الحديث: "أخذ كل واحد من الملكين بعضده، ولا يجد صلى الله عليه وسلم لأحدهما مساً، واضجعاه بلا قصر ولا حصر، وهوى أحدهما إلى صدره الشريف ففلقها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى دماً، ولا وجعاً" (5) وهذا كله بخلاف الصلب!. ثالثاً: شق صدره صلى الله عليه وسلم على ما جاء فى الروايات الصحيحة ليس لتكفير ذنبه ولا ذنب غيره، وهذا بخلاف خرافة صلب المسيح!.
.. أما قول محمود أبو ريه تبعاً لأسياده من المبشرين والمستشرقين قال: "ولئن قال المسلمون… ولم لا يغفر الله لآدم خطيئته بغير هذه الوسيلة القاسية… قيل لهم: ولم لم يخلق الله قلب رسوله الذى اصطفاه كما خلق قلوب إخوانه المرسلين؟ ". ... قيل له: أما المسلمون فلا يقولون ما زعمت، وإنما يقولون: كيف يذنب آدم عليه السلام وهو عبد من عبيد الله، فيعاقب الله عيسى عليه السلام! وهو عند زاعمى ذلك "ابن الله الوحيد" بتلك العقوبة القاسية التى تألم لها عيسى بزعمهم أبلغ الألم، وصرخ بأعلى صوته "إيلى ايلى، لم شبقتنى" أى إلهى إلهى لم تركتنى؟ وقد قال الله عز وجل: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً إن وعد الله حق} (1) وقال سبحانه: {ألا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى} (2) وغير ذلك من الآيات التى تبطل الأساس الذى قامت عليه خرافة صلب المسيح!. ... ثم أين العلم: أن قلوب سائر المرسلين لم تُخْلَق كما خُلِقَ قلب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقد تكون خلقت سواء، وخص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا التطهير، أو طهرت أيضاً بهذه الوسيلة أو غيرها، {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (3) . ... أما ما ادعاه محمود أبو ريه من أن بعض القساوسة المسيحيين: "اتكأوا على حديث نخس الشيطان كل مولود حين يولد، وقصة شق الصدر فى إثبات عقيدة من عقائدهم الزائفة، وهذا فى زعمه دليل على بطلان الحديث وقصة شق الصدر وردهما (4) . ... فهذا ادعاء واتكاء باطل، والتبعة فى هذا الادعاء والاتكاء على من حرف الحديث عن موضعه، وحمله على غير محامله الصحيحة.
.. فالحديث صحيح رواية، ودراية، وليس فى معناه ما يدعو إلى رده عند المحققين، لأنه لا يخالف عقلاً ولا نقلاً. بل الحديث استجابة لدعاء أم السيدة مريم حيث قالت كما حكى القرآن عنها: {وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} (1) وبالتالى فالحديث جاء تأكيداً وبياناً للآية الكريمة، كما جاء على لسان راوى الحديث أبو هريرة رضى الله عنه. ... كما أن الحديث ليس كما توهم مخالفاً لقوله تعالى: {قل رب بما أغويتنى لأزينن لهم فى الأرض ولأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين. قال هذا صراط على مستقيم إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} (2) . ... ولا مخالفاً أيضاً لما ثبت من عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الشيطان الرجيم لأن الذى يقتضيه ظاهر الحديث. أن إبليس – عليه لعنة الله – مُمَكَنْ من مس كل مولود عند ولادته، لكن عباد الله المخلصين لا يضرهم ذلك المس أصلاً، واستثنى من المخلصين مريم وابنها، فإنه ذهب يمس على عادته، فحيل بينه وبين ذلك، فهذا وجه الاختصاص (3) ، ولا يلزم منه تسلطه على غيرهما من المخلصين من أنبياء الله عليهم جميعاً الصلاة والسلام. ... وليس فى إسناد خصوصية لعيسى عليه السلام، أو لغيره من الأنبياء، ما يعود بالنقص على إخوانه الأنبياء، ولا ما يثبت تفضيله عليهم، إذ من المسلم به أنه قد يكون فى المفضول من الخصائص ما ليس للأفضل، ولا يؤثر هذا فى أفضليته، لأن له من الخصائص ما يؤهله لاستحقاق الأفضلية (4) .
.. هذا ولا يلزم من وقوع المس إضلال الممسوس وإغواءه، فإن ذلك ظن فاسد، فكم تعرض الشيطان للأنبياء بأنواع الإفساد والإغواء، ومع ذلك عصمهم الله عز وجل، بعدم تمكنه من إغوائهم، أو إلحاق ضرر بهم يضر بالدين؛ وتأمل قوله تعالى فى حق سيدنا أيوب عليه السلام: {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب} (1) وقوله سبحانه فى حق سيدنا آدم وزوجته: {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه} (2) وقوله عز وجل فى حق سيدنا موسى عليه السلام: {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين} (3) وقوله تعالى لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} (4) وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن عفريتاً (5) من الجن جعل يفتك (6) على البارحة ليقطع على الصلاة. وإن الله أمكننى منه فذعته (7) … الحديث" (8) . ... فكل هذا لا يتعارض مع حديث (نخس الشيطان كل مولود) ولا مع قوله تعالى {إن عبادى ليس لك عليهم سلطان} لأن معناه والله أعلم: "لن تسلط على إغوائهم الإغواء اللازم، لأن الكلام فيه لتقدم قوله: {لأغوينهم أجمعين} . وهذا لا ينافى أن يسلط على بعضهم لإغواء عارض، أو لإلحاق ضرر لا يضر بالدين (9) .
.. هذا ولا يلزم من ظاهر حديث (نخس الشيطان كل مولود) أن تمتلئ الدنيا صراخاً وعياطاً كما توهم الزمخشرى (1) لأن الحديث إنما جعل ذلك عند الولادة فحسب، وأما بعدها فلا! ولو حكمنا المشاهدة، فما من مولود إلا ويستهل صارخاً أو باكياً، وإنكار ذلك مكابرة (2) . ... أما زعم محمود أبو ريه: أن ذلك النخس أو المس لو وجد لبقى أثره، ولو بقى أثره لزم الصراخ والبكاء. فنقول: أرأيتم إذا ختن الطفل فتألم وبكى، أيستمر الألم والبكاء؟!!. ... أما ما ذكره محمود أبو ريه: عن الرازى وغيره (3) أن الخبر على خلاف الدليل لأن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخيروالشر، والصبى ليس كذلك، كما أنه يلزم منه تمكن الشيطان من إهلاكهم… فأقول: ومن قال إن النخسة دعاء إلى الشر؟ بل إن كانت للإيلام فقط، فذلك من خبث الشيطان، مُكِّن منها، كما مُكِّن مما أصاب به سيدنا أيوب عليه السلام، وكما يمكن الكفار من قتل المسلمين حتى الأنبياء، وذبح أطفالهم. وإن كانت النخسة لإحداث أمر من شأنه أن يورث القلب قبولاً ما للوسوسة بعد الكِبَرْ، فهذا لا يستدعى معرفة الخير والشر فى الحال. والتمكين من هذا كالتمكين من الوسوسة والتزيين، وذلك من تمام أصل البلاء. ولا يلزم من تمكنه من هذا النخس أن يفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين، وإفساد أحوالهم كما زعم أعداء السنة والسيرة العطرة، لأنه لا يتمكن إلا إن مكنَّه الله تعالى، فإذا مكنَّه الله تعالى من أمر خاص، فمن أين يلزم تمكنه من غيره؟!! (4) .
.. ولعله بعد هذا العرض، ومناقشة المستشرقين وأضرابهم قد تبين لك الثقة الكاملة فى ثبوت الشق الحسى لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المرة الأولى مدعماً بالدليل الصحيح، وأيضاً فيما تبعه من تكرره فى سن العاشرة وأشهر، وعند البعثة، وفى ليلة الإسراء والمعراج، مدعماً بالأدلة فى أصح كتب الصحيح كما بينا فى موضعه مما سبق. ... هذا وقد أنكر صحة وقوع شق الصدر ليلة الإسراء ابن حزم وعياض، وادعيا أنها تخليط من "شريك" وليس كذلك فقد ثبت هذا أيضاً فى الصحيحين من غير طريق "شريك" (1) . ... قال الحافظ ابن حجر: "جميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يحبب التسليم له، دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شئ من ذلك (2) ويؤيده الحديث الصحيح. أنهم كانوا يرون أثر المخيط فى صدره صلى الله عليه وسلم" (3) أهـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
المطلب الثانى: شبهة الطاعنين فى حديث "فترة الوحي"
المطلب الثانى: شبهة الطاعنين فى حديث "فترة الوحي" والرد عليها ... روى البخارى ومسلم وغيرهما عن عائشة رضى الله عنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالى ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة (1) فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو فى غار حراء، فجاءه الملك،، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذنى فغطنى (2) حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثالثة، ثم أرسلنى فقال: {اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم} (3) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله عنها فقال: زملونى زملونى فزملوه (4) حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسى. فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله
أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل (1) وتكسب المعدوم (2) وتقرى الضيف، وتعين على نوائب (3) الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى – ابن عم خديجة – وكان امرءاً تنصر فى الجاهلية، فيكتب بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمى (4) فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخى، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذى نزل الله على موسى، يا ليتنى فيها جذعاً (5) ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجى هم؟ قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك، أنصرك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفتر الوحي" (6)
0 وفى هذا الحديث الموصول زيادة فى آخره رواها الإمام عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى بلاغاً قال: "وفتر الوحي فترة حتى حزن النبى صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً، كى يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل، لكى يلقى منه نفسه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له: مثل ذلك" (1) . ... بهذه الرواية وزيادتها، طعن أعداء السنة والسيرة العطرة قديماً وحديثاً فى المحدثين زاعمين أن فى هذه الرواية طعن فى نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصمته. فقديماً قالوا: "كيف يجوز للنبى أن يرتاب فى نبوته حتى يرجع إلى ورقة، ويشكوا لخديجة ما يخشاه، وحتى يوفى بذروة جبل ليلقى منها نفسه على ما جاء فى رواية معمر؟ " (2) .
.. وحديثاً: لم يخرج أعداء السنة والسيرة عن طعون أسلافهم قديماً. إذ يقول: عبد الحسين شرف الدين الموسوى (1) "تراه – يعنى حديث بدء الوحي – نصاً فى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان – والعياذ بالله – مرتاباً فى نبوته بعد تمامها، وفى المَلَكْ بعد مجيئه إليه، وفى القرآن بعد نزوله عليه، وأنه كان من الخوف على نفسه فى حاجة إلى زوجته تشجعه، وإلى ورقة الأعمى الجاهلى…" (2) . ... ويقول جعفر مرتضى العاملى (3) "كيف يجوز إرسال نبى يجهل نبوة نفسه، ويحتاج فى تحقيقها إلى الاستعانة بامرأة، أو نصرانى؟ ألم تكن هى فضلاً عن ذلك النصرانى أجدر بمقام النبوة من ذلك الخائف المرعوب الشاك؟ ثم كيف يتناسب ذلك مع كونه أراد أن يلقى نفسه من شواهق الجبال" (4) .
.. ويجاب عن الشبهات السابقة بما يلى: أولاً: الحديث الذى طعنوا فيه - بدون الزيادة - صحيح سنداً ومتناً، وفى أعلى درجات الصحة، باتفاق البخارى ومسلم وغيرهما على إخراجه من رواية عائشة رضى الله عنها، ولا يقدح فى سند الحديث، وصحة متنه، أن عائشة رضى الله عنها لم تدرك القصة، لما يلى: أ- لأن مرسل الصحابى حكمه على المذهب الصحيح، الوصل المقتضى للاحتجاج به (1) . ب- السيدة عائشة رضى الله عنها لم تنفرد برواية حديث بدء الوحي، فللحديث شاهد من حديث جابر بن جابر عبد الله رضى الله عنه، وهو أيضاً لم يشهد هذه القصة، ولكنه فى روايته يصرح بالتحديث عن بدء الوحي وفترته سماعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) مما يؤكد صحة مرسل عائشة، حيث لا يبعد سماعها تلك القصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعها منه صلى الله عليه وسلم، وهو يحدث بها، كما سمعها جابر وصرح بذلك. ومما يؤكد صحة سماعها رضى الله عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث بحثنا، ما ورد فى الحديث من قوله (فغطنى حتى بلغ منى الجهد) فهنا فى الكلام التفات، حيث انتقل الكلام من حكاية عائشة، إلى حكاية رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن نفسه، مما يؤيد صحة إرسالها، وأنه موصول من أوله إلى آخره. ثانياً: الزيادة الواردة فى سند حديث عائشة رضى الله عنها غير ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئاً منها، ولا فعلها، فهى لا تصح سنداً ولا متناً لما يلى:
أ- فأما الدليل على عدم صحة هذه الرواية سنداً فهو ما ورد فى الرواية ذاتها إذ فيها "حزن النبى صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا…" والقائل "فيما بلغنا" هو الإمام الزهرى (1) وهو أعلم الحفاظ، ولكن لا يقبل ما رواه من غير سند! فعن يحيى بن سعيد القطان (2) قال: مرسل الزهرى شر من مرسل غيره، لأنه حافظ، وكلما قدر أن يسمى سمى! وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه (3) وهذه الزيادة من هذه القبيل، حيث أنها منقطعة قد رواها الزهرى بلاغاً، وهو من صغار التابعين، وجل روايته عن كبار التابعين، وأقلها عن صغار الصحابة (4) فكيف بالكبار منهم، لاسيما من شهدوا بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (5)
وعلى ذلك فلا سند يعتمد عليه، ولعل الإمام البخارى وغيره ممن أخرج هذه الزيادة أرادوا بذلك التنبيه إلى مخالفتها لما صح من حديث بدء الوحي الذى لم تذكر فيه هذه الزيادة، وخصوصاً أن البخارى لم يذكر هذه الزيادة فى بدء الوحي، ولا التفسير، وإنما ذكرها فى التعبير على ما سبق فى التخريج. ... ويؤيد ما سبق، أن الأئمة الحفاظ يذكرون عقب هذه الزيادة حديث جابر الصحيح فى فترة الوحي إلى الزهرى بنفس السند الذى يروونه عنه فى حديث عائشة الأول، ويفهم من صنيعهم ذلك: أن الزهرى نفسه كان يحدث بحديث جابر عقب حديث عائشة. ... ففى مصنف الإمام عبد الرزاق بعد فراغه من حديث عائشة: قال معمر، قال الزهرى، فأخبرنى – حرف الفاء هذا يفيد العطف على رواية سابقة، والتعقيب بأخرى لاحقة، وذلك فى مجلس واحد - أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال فى حديثه: "بينما أنا أمشى سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسى، فإذا الذى جاءنى بحراء جالساً على كرسى بين السماء والأرض، فجُئِثْتُ (1) منه رعباً، ثم رجعت، فقلت: زملونى، زملونى، ودثرونى، فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر} إلى {والرجز فاهجر} (2) .
.. وكذلك الإمام البخارى ذكر حديث عائشة المتقدم فى بدء الوحي عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضى الله عنها إلى قولها: ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفتر الوحي، ثم قال عقبة: قال ابن شهاب: وأخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصارى قال… فذكر الحديث بنحو رواية عبد الرزاق، غير أنه زاد فى آخره: "فحمى الوحي وتتابع" (1) . ... قال الحافظ ابن حجر: قوله: (قال ابن شهاب: وأخبرنى أبو سلمة) إنما أتى بحرق العطف، ليعلم أنه معطوف على ما سبق، كأنه قال: أخبرنى عروة بكذا، وأخبرنى أبو سلمة بكذا، وأخطأ من زعم أن هذا معلق، وإن كانت صورته صورة التعليق، ولو لم يكن فى ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة، فإنها دالة على تقديم شئ عطفته – وهو حديث عائشة المتقدم – ثم قال ابن شهاب – أى بالسند المذكور – وأخبرنى أبو سلمة بخبر آخر، وهو حديث جابر عن فترة الوحي) (2) . ... وكذلك فعل الإمام أحمد فى مسنده، مع أنه قد جمع فى مسنده مرويات كل صحابى على حده، دون الالتزام بالوحدة الموضوعية للأحاديث، لكنه لما روى حديث عائشة المتقدم عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى، قال: فذكر حديثاً (3) لعله يشير إلى حديث جابر الذى أخرجه قبل ذلك فى المسند (4) .
.. وكذلك صنعا مسلم، وابن حبان فى صحيحيهما عقب إخراجهما لحديث عائشة رضى الله عنها (1) فدل هذا كله، على أن ابن شهاب الزهرى كان يحدث بالحديثين معاً، كما روى عنه غير واحد مما سبق بيانه، وأن الصواب فى رواية حديث عائشة بدون تلك الزيادة، كما أخرجه مسلم، والبخارى فى بعض مواضعه، وغيرهما (2) . ب- أما الدليل على عدم صحة هذه الزيادة متناً فهو ما يلى:
معارضتها لأصل من أصول الإسلام، وهو عصمة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بمعنى: حفظ الله ظواهرهم وبواطنهم، وتفكيرهم وخواطرهم، وسائراً أعمالهم، حفظاً كاملاً، فلا يقع منهم قط ما يشكك فى نبوتهم ورسالاتهم، وهذا البلاغ المعمرى أو الزهرى، لم يبق لعصمة النبى صلى الله عليه وسلم مكاناً فى مدة الحزن اليائس التى تقول أقصوصة هذا البلاغ إنه صلى الله عليه وسلم مكثها وهو يغدو مراراً كى يتردى من شواهق الجبال، ولاسيما على مذهب من يرى أن مدة فترة الوحي – وهى مدة الحزن اليائس – قد طالت إلى ثلاث سنوات، أو سنتين ونصف سنة، أو ستة أشهر، وفى هذا البلاغ الضعيف تصريح بأن صاحبه يذهب مذهب من يرى طول مدة فترة الوحي (1) لأن ما ذكر فيه من الغدو مراراً لكى يلقى بنفسه من ذرا الشواهق يقتضى طول المدة، ولاسيما مع تمثل جبريل له وقوله: أنا جبريل، وأنت رسول الله حقاً، أكثر من مرة.
يتعارض هذا البلاغ مع ما يجب أن يكون عليه النبى صلى الله عليه وسلم من رسوخ الإيمان بنبوته، وكمال اليقين برسالته، ولا شك أن ما جاء فى هذا البلاغ، من تبدى جبريل عليه السلام للنبى صلى الله عليه وسلم كلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى منها نفسه، وقوله له: يا محمد: أنت رسول الله حقاً، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل عليه السلام، فقال مثل ذلك – يصور مدى ما بلغه ذلك الحزن اليائس – فى زعم قائليه – من نفس النبى صلى الله عليه وسلم حتى جعله يتشكك فى تبدى جبريل له، وفى إخباره أنه رسول الله حقاً، فالنبى صلى الله عليه وسلم - كما تصرح به عبارة هذا البلاغ – لم يكد يسكن جأشه لتبدى جبريل له وإخباره أنه رسول الله حقاً حتى يعود إلى عزيمته فى إلقاء نفسه من ذرا شواهق الجبال، فيتبدى له جبريل مرة أخرى، ويقول له: يا محمد، أنت رسول الله حقاً. فأين سكون جأشه الذى أحدثه فى نفسه تبدى جبريل له، وإخباره أنه رسول الله حقاً؟. وأين رسوخ إيمانه برسالة ربه التى شرفه بها قبل فترة الوحي، وأنزل عليه فى أول مراتب وحيها فى غار حراء قرآناً يتلى، حتى يعود عن عزيمته لإلقاء نفسه من ذرا شواهق الجبال إذا طالت عليه فترة الوحي؟!. إن ما تضمنه هذا البلاغ الضعيف يشمل أمرين: أحدهما: ظاهر محسوس، يمكن مشاهدته، والحكم بوجوده أو عدم وجوده بمقتضى إمكان مشاهدته حساً.
ثانيهما: باطن محجوب فى داخل النفس، لا يمكن معرفته إلا بإخبار صاحبه الذى دار فى نفسه، أو إخبار من أظهرهم عليه بنقل ثابت عنه. فذهاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى أعالى الجبال وشواهقها التى ألف الصعود إليها فى أزمان خلواته وتطلعاته للتفكر فى عجائب آيات الله الكونية، وبدائع ملكوته، أمر محسوس، يمكن الحكم عليه برؤيته ومشاهدته، ولا حرج فى أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم قد حزن فى فترة الوحي اشتياقاً لأنوار الشهود الروحانى الأعلى الذى كان يغمره فى أوقات نزول الوحي، ونزول آيات القرآن المبين، حزناً كان يغدو منه إلى ذرا الجبال التى كانت مأنس روحه، تطلعاً إلى آفاق أشواقه لشهود تجليات أمين الوحي جبريل عليه السلام الذى سبق له أن تجلى فى آفاقها بصورته الملائكية الروحانية العالية. ... وكون هذا الذهاب إلى ذرا شواهق الجبال لقصد التردى منها ليقتل نفسه – كما هو نص عبارة البلاغ الضعيف – أمر باطن محجوب بأستار الضمير فى حنايا النفس، لا يعلمه، ولا يطلع عليه إلا الله علام الغيوب، وإلا صاحبه الذى دار فى حنايا نفسه، وعزم على تحقيقه عملياً، وإلا من يظهره عليه صاحبه العليم به، بأخبار منه إليه، وكل ذلك لم يثبت!. ... وما روى عن ابن عباس من قوله: "مكث النبى صلى الله عليه وسلم أياماً بعد مجئ الوحي لا يرى جبريل، فحزن حزناً شديداً حتى كان يغدو إلى ثبير (1) مرة، وإلى حراء أخرى، يريد أن يلقى نفسه" (2) غير مسلم من وجوه.
أ- أن حديث ابن عباس من رواية الواقدى (1) ، وهو معروف بالضعف، لا يقبل الجهابذة من المحدثين روايته إلا إذا اعتضدت بروايات الثقات. ب- إذا صح سند الحديث إلى ابن عباس رضى الله عنهما، فهو اجتهاد لا يعلم معتمده، فى أمر لا سبيل إلى معرفته إلا بإخبار من النبى صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت هذا الإخبار، فالحديث موقوف على ابن عباس، فيكون فى منزلة بلاغ الزهرى، كما يؤخذ من كلام ابن حجر (2) يجب رفضه كرفض بلاغ الزهرى، وإبطاله كإبطاله، ولعل هذا الحديث الضعيف فى سنده، الباطل فى متنه ونصه، هو مستند بلاغ الزهرى، والزهرى إمام موثق، فلا حرج على البخارى فى إلحاق بلاغة بجامعه من جهة توثيق السند، على أن البخارى لم يلحقه بجامعه إلا فى موضع واحد فقط من مواضع حديث بدء الوحي، وهى متعددة فيه بالإسناد نفسه مقروناً بإسناد آخر تارة، وغير مقرون تارة أخرى، ولم يرد فى تلك المواضع ذكر لهذا البلاغ الضعيف إلا فى كتاب (التعبير) بلاغاً لا تأصيلاً. ثالثاً: ثبت فى الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث عن فترة الوحي، ولم يرد فى كلامه صلى الله عليه وسلم كلمة واحدة، تشعر بما جاء فى هذا البلاغ الضعيف، حتى ولو مجرد حزن لحق به تأسفاً على هذه الفترة.
.. هذا مع أنه لا نرى حرجاً فى أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم قد اعتراه شئ من الحزن فى مدة فترة الوحي، لانقطاع أنوار الشهود الروحى، ولا نرى حرجاً فى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يغدو إلى ذرا الجبال تطلعاً لتجليات أمين الوحي الذى عهد لقاءه فى هذه الذرا، وهذا أمر فطرى وطبيعى، فالإنسان إذا حصل له خير أو نعمة فى مكان ما، فإنه يحب هذا المكان، ويلتمس فيه ما افتقده، فلما فتر الوحي: صار صلى الله عليه وسلم يكثر من ارتياد قمم الجبال، ولاسيما حراء، رجاء أنه إن لم يجد جبريل فى حراء، فليجده فى غيره، فرآه راوى هذه الزيادة وهو يرتاد قمم الجبال، فظن أنه يريد أن يلقى بنفسه، وقد أخطأ الراوى المجهول فى ظنه قطعاً. ... وليس أدل على ضعف هذه الزيادة وتهافتها من أن جبريل عليه السلام كان يقول للنبى صلى الله عليه وسلم كلما أوفى بذروة جبل: "يا محمد إنك رسول الله حقاً" وأنه كرر ذلك مراراً، ولو صح هذا لكانت مرة واحدة تكفى فى تثبيت النبى صلى الله عليه وسلم وصرفه عما حدثته به نفسه كما زعموا (1) .
رابعاً: ما يشكل ظاهره فى الحديث الموصول – لعائشة رضى الله عنها – من ارتياب وشك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نبوته – كما زعموا – مستشهدين على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لخديجة "لقد خشيت على نفسى" وزعمهم شكواه صلى الله عليه وسلم لخديجة، ورجوعه إلى ورقة بن نوفل… هذا الإشكال لا وجه لهم فيه، كما أن هذه الكلمة: "لقد خشيت على نفسى" فى ذاتها لا تضير عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نبوته شيئاً. ... والذين ذكروا هذه الكلمة فى رواياتهم قد أدوا أمانة العلم، ولا سبيل عليهم، إنما السبيل على الذين تقحموا متخرصين فى تفسير المراد من الخشية، حتى زعم بعضهم فى تفسيرها، وبيان المراد منها، بما كان ويكون أمضى سلاح فى يد أعداء الإسلام، وأعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة. ... وما قيل فى تفسير الخشية من كلام لا يليق، ولا ينبغى أن يدون فى سيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم قد أبطله بعض حذاق الأئمة، وحق له أن يبطل (1) . ... أما ما زعمه أعداء السنة المطهرة من أن ظاهر هذه العبارة "لقد خشيت على نفسى يفيد ارتياب وشك رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نبوته، فهذا من تخرصاتهم، ويرده سياق الحديث الذى وردت فيه هذه العبارة، وقبل بيان ذلك أقول: إن الله عز وجل إذا اصطفى أحداً لنبوته أو رسالته يخلق فيه علماً ضرورياً بنبوته بحيث لا يبقى له قلق ولا اضطراب، كما يظهر من قصة سيدنا موسى عليه السلام، حين توجه إلى جبل الطور بسيناء ليأتى بقبساً أو يجد على النار هدى.
.. ومعلوم أنه لم يكن مراقباً عما يصنع به، ولا منتظراً بما يكلف به، إذ ناداه ربه عز وجل من شاطئ الوادى الأيمن: {إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى} (1) وأمره أن يذهب إلى فرعون إنه طغى، فلما سمعه موسى عليه السلام، ألقى عليه فى ساعته تلك من اليقين، والإذعان بنبوته، ما هون عليه الدعوة لمثل فرعون الباغى الطاغى، ولم يشك فى نبوته كجناح بعوضة، إلا أنه كان بشراً، خلق من ضعف، ولذا خاف من عصاه حين صار جاناً – حية عظيمة – لما أمره ربه عز وجل، بإلقاءها من يده، قال تعالى: {وما تلك بيمينك يا موسى. قال هى عصاى أتوكؤ عليها وأهش بها على غنمى ولى فيها مآرب أخرى. قال ألقها يا موسى. فألقاها فإذا هى حية تسعى. قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} (2) . ... وقال سبحانه: {وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب يا موسى لا تخف إنى لا يخاف لدى المرسلون. إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإنى غفور رحيم} (3) . ... وبمقتضى بشريته أيضاً خاف من القتل، كما حكى القرآن الكريم على لسانه: {ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون} (4) ومن هنا شكى إلى ربه عن ضعفه، وسأله أن يجعل أخيه ردئاً يصدقه، ويكون عوناً له فإنه كان أفصح لساناً، قال تعالى: {قال رب إنى قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون. وأخى هارون هو أفصح منى لساناً فأرسله معى ردءاً يصدقنى إنى أخاف أن يكذبون} (5) . ... ولم يكن هذا الخوف شكاً منه أو إعراضاً عما أمره الله عز وجل به – والعياذ بالله – بل إظهاراً لضعف جبل عليه الإنسان. ... فإذا لم يشك من كان نبى بدون تمهيد، ولا سابقة خبر، فكيف بمن مهد له تمهيداً، ومرن تمريناً فى النوم واليقظة؟.
.. فالتمهيد كان منذ صغره وشبابه، من شق صدره، ونهيه عن التعرى، وعصمته من كل مظاهر الجاهلية التى سبق تفصيلها (1) والتمرين فى النوم بالرؤيا التى كان لا يراها إلا وتجئ مثل فلق الصبح الذى لا شك فيه، وفى اليقظة كان التمرين على الوحي والنبوة بسلام الحجر عليه، وسماع الصوت، ورؤية الضوء. ... فعن جابر بن سمرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنى لأعرف حجراً بمكة كان يسلم على، قبل أن أبعث، إنى لأعرفه الآن" (2) .
.. وجاء التصريح بصيغة التسليم برسول الله فى حديث عائشة رضى الله عنها (1) وحديث على بن أبى طالب رضى الله عنه إذ يقول: "كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا فى بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر، إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله" (2) وعنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا خديجة إنى أسمع صوتاً، وأرى ضوءاً، وإنى أخشى أن يكون بى جنن، فقالت: لم يكن الله ليفعل بك ذلك يا عبد الله…" (3) . ... وكل هذا التمهيد والتمرين على النبوة قبل التنبؤ يستحيل معه أن يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نبوته ورسالته بعد التنبؤ – حتى لو فتر الوحي – وهنا نصل إلى تفسير الخشية. تفسير الخشية فى قوله (لقد خشيت على نفسى) : ... ورد فى سياق حديث (بدء الوحي) ما يعين على فهم صحيح ودقيق لقوله صلى الله عليه وسلم: "لقد خشيت على نفسى" ويرد تخرصات أعداء الإسلام، وأعداء السيرة العطرة، فى أن ظاهر هذه العبارة يفيد ارتياب وشك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نبوته ورسالته.
1- وأول ما يعين على بيان حقيقة المراد من الخشية فى سياق الحديث قوله: "حتى فجئه الحق" (1) بكسر الجيم أى بغتة الأمر الحق، وهو الملك جبريل عليه السلام بالوحي. ... وهذه الجملة فى الحديث، تفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض وهو فى غار حراء للمفاجأة، وتحققت ثلاثة مرات متواليات: الأولى: فى دخول الملك عليه صلى الله عليه وسلم مختلاه ومتعبده، دون تمهيد يشعر النبى صلى الله عليه وسلم بأن أحداً سيدخل عليه فى الغار. الثانية: فى رؤيته للملك جبريل عليه السلام على صورته الملائكية، وقد سد الأفق. الثالثة: فى أمره بالقراءة عقب دخوله عليه مباشرة، وهو أمى لا يقرأ ولا يكتب!. ... وفى كل ذلك نوع من المفاجأة الباغتة المؤثرة على الطبيعة البشرية بما يهز كيانها هزاً يقحم عليها الرعب والفزع. ... ومن هنا كان خوف وفزع النبى صلى الله عليه وسلم خوفاً وفزعاً بشرياً رجف منه فؤاده، وسائر جسده، وظهرت على بشريته آثاره، حتى هدأت نفسه، فتلقى رسالة ربه متثبتاً، مغموراً بأنوار شهود العزة الإلهية فى يقين لا يداخله أدنى شك فى اصطفائه رسولاً بعد اجتبائه نبياً من الصالحين. 2- وثانى ما يعين على تفسير الخشية قوله: "فغطى حتى بلغ منى الجهد" فهذه العبارة تبين مدى الشدائد التى صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذا اللقاء المفاجئ.
.. إذ صحب مع دخول الملك عليه فى متعبده، دون تمهيد، ورؤيته للملك فى صورته الملائكية، وأمره بالقراءة، صحب كل ذلك مع ما فيه من شدة شدائد أخرى، إذ غطه الملك ثلاث مرات، والغط: العصر الشديد، وحبس النفس، وكأنه أراد ضمنى وعصرنى، أو أراد غمنى، ومنه الخنق، ويدل عليه رواية أبو داود الطيالسى "فأخذ بحلقى" (1) . وفى كل مرة من هذا الغط بلغ من رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجهد" مبلغه وغايته حتى ظن بنفسه الموت (2) . 3- وثالث ما يعين على فهم قوله "لقد خشيت على نفسى" نزول الوحي عليه بأوائل سورة "العلق" وحالات النبى صلى الله عليه وسلم وقت نزول الوحي عليه كلها شدة، فهى حالات خاصة تتغلب فيها روحانيته على بشريته، ليتصف بصفة الملك، ليقع بينهما التناسب والتجانس، ويتم التلقى على أكمل وجه وأثبته. ... يقول الإمام ابن حجر: "وهى حالة يؤخذ فيها النبى صلى الله عليه وسلم عن حال الدنيا من غير موت، فهو مقام برزخى، يحصل له عند تلقى الوحي، ولما كان الرزخ العام ينكشف فيه للميت كثير من الأحوال، خص الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم ببرزخ فى الحياة، يلقى إليه فيه وحيه المشتمل على كثير من الأسرار" (3) . ... ويدل على شدة الوحي أثناء نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة منها: حديث زيد بن ثابت رضى الله عنه قال: "كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقاً شديداً مثل الجمان ثم سرى عنه. وكنت أكتب وهو يملى على، فما أفرغ حتى تكاد رجلى تنكسر من ثقل الوحي، حتى أقول: لا أمشى على رجلى أبداً".
وعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل تحس بالوحي؟ فقال: أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسى تقبض" وغير ذلك من الروايات السابق ذكرها (1) وهى روايات تبين لنا إلى أى مدى لاقى النبى صلى الله عليه وسلم من شدة أثناء تنزيل الوحي عليه حتى أن الملامس لجسده الشريف، كان يشعر به كما مر من حديث زيد بن ثابت رضى الله عنه، وحتى أنه صلى الله عليه وسلم يصرح بأنه ما من مرة يوحى إليه إلا ظن أن نفسه تقبض!. فإذا كانت الروايات السابقة تبين لنا حاله صلى الله عليه وسلم بعد مزاولات ومعاهدات بالوحي، فما ظنك بحاله إذا نزل عليه الوحي لأول مرة، وهو غير ممارس لتلك الأهوال ولا حامل لهذه الأثقال؟!. إن كل ما سبق من دخول الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى متعبده دون تمهيد، وتجلى الملك له، وقد سد الأفق، وغطه صلى الله عليه وسلم حتى بلغ منه الجهد، وأمره بالقراءة مع أميته، ونزل الوحي عليه، وهو ما لو أنزل على الجبال لتصدعت من خشية الله. كل ذلك جعله يرجف فؤاده، ويخشى على نفسه، لا لريب عرضه، أو هول هاله، بل لضعف فطر عليه الإنسان. نعم وحق لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجف ويخشى، كيف وقد كان هذا أول معاملة اعترته! وفكر فى نفسك لو اعتراك ما اعتراه صلى الله عليه وسلم كيف يكون حالك؟!.
ومما يؤكد ما سبق من تفسير الخشية قوله صلى الله عليه وسلم: "بينما أنا أمشى، إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصرى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت، فقلت: زملونى" (1) وهذا الحديث وإن كان فى واقعة أخرى، لكن ما جاء فيه من قوله: "فرعبت منه" قرينه قوية على أن خشيته صلى الله عليه وسلم على نفسه كانت مما رأى من المفاجآت السابق ذكرها، فضلاً عن شدة الوحي التى اعترته لأول مرة، وهو فى غار حراء، وكلها أمور تضعف عن حملها فطرة البشر. فالخوف والخشية، لا يصادم الإذعان والإتقان بشئ أصلاً، لأنه فى بنية البشر، قال تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} (2) . وكما جاز لموسى عليه السلام أن يخاف من عصاه حين صار ثعباناً، ولم يصادم ذلك إيمانه، جاز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً أن يخشى عند رؤية الملك بهيئته الملائكية، وغطه، وشدة الوحي، فكل ذلك ليس بأقل من عصا موسى عليه السلام (3) .
وكما هو معلوم فإن النبوة لا تمنع الأعراض البشرية التى لا تنافى العصمة، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت له النبوة قطعاً قبل مفاجأة الغار، وقبل فترة الوحي (1) . فإذا روى أنه فزع من هول المفاجأة، وما حف بها، فلا يجوز قط أن يقال: إنه فزع فزعاً أذهله عن مقام نبوته فلم يتمكن من التأمل، وخشى على نفسه أن يكون كاهناً أو أن يكون به جنن. كما لا يجوز قط أن يقال عنه: إنه حزن على فتور الوحي حزناً أخرجه عن عصمة النبوة والرسالة، وحمله على محاولة قتل نفسه.
ففترة الوحي طالت أو قصرت (1) شأن من شئون الله تعالى التى ينفرد بحكمتها فهى كانت لطفاً من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ورحمة به، ليستجم من عناء ما لاقى من روع المفاجأة، وشدة الغط، وشدة الوحي، لاستفراغ بشريته ليزداد تشوفاً وتشوقاً إلى تتابع الوحي، وتقوية لروحانيته على احتمال ما يتوالى من الله عز وجل إليه، حتى يتم استعداده لتبليغ رسالته إلى الخلق كافة بصبر وقوة، ويقين لا يدانيه يقين فى أن الله عز وجل، سيتم عليه نعمته. ويشهد لصحة تفسير الخشية بما سبق ذكره، رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى مكان تحنثه فى غار حراء (2) ، بعد ما لاقاه من الشدائد السابق ذكرها. فهل فى منطق العقل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خشى على نفسه ما تخرص به المتخرصون، ثم يسرع إلى العودة إلى المكان الذى لقى فيه ما خشيه على نفسه فى زعم المتخرصين؟!.
إن بداهة العقل تأبى أن تقبل ذلك، وتنادى بأن أى إنسان توجس خفية من شر حادث وقع له فى مكان لا يمكن أن يعود إليه، وفى سرعة، وهو يملك الاختيار والإرادة، وبالتالى فعودة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفس المكان الذى لقى فيه ما خشيه على نفسه، دليل قاطع على ثباته صلى الله عليه وسلم، ورباطة جأشه، واطمئنانه ويقينه بفوزه برسالة ربه وأنه لم يشك قط ولو للحظة واحدة فى نبوته، ولا فى أن ما جاءه هو جبريل عليه السلام، ومعه وحى الله تعالى. فكل ذلك يؤكد أن الخشية من الموت من شدة الرعب (من المفاجآت التى توالت عليه صلى الله عليه وسلم فى هذا اللقاء على ما سبق تفصيله) هو أدنى الأقوال بالصواب فى تفسير الخشية، وأسلمها من الارتياب كما قال الحافظ ابن حجر (1) وهو ما أقول به وأرجحه، بدليل سياق الحديث على ما سبق شرحه، وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم يعد تتابع نزول الوحي عليه: "فما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسى تقبض" (2) فهو نص صريح فى خشيته على نفسه من الموت، من شدة الوحي، وهو أحد المفاجآت التى توالت عليه فى هذا اللقاء. كما لا يمنع أن تكون خشيته صلى الله عليه وسلم على نفسه من الموت على أيدى كفار قريش، إذا بلغهم رسالة ربه عز وجل، ويشهد لصحة هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "…وإن الله أمرنى أن أحرق قريشاً. فقلت رب! إذا يثلغوا رأسى فيدعوه خبزه. قال: استخرجهم كما استخرجوك" (3) .
إن خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه من الموت من شدة الرعب، وشدة نزول الوحي عليه، ومن أن يقتله قومه، جعله يرجع بما حملت نفسه الكريمة من آثار ذلك كله، إلى بيته، وزوجته الأمينة، وزيرة الصدق، ومأنس الوفاء، يبدى لها ما تعرض له فى غار حراء، من محن وشدائد تذيب رواسى الجبال، فكان من فراستها ورجاحة عقلها، أن أقسمت على أن الله تعالى لن يخزيه، وأكدت ذلك بلفظ التأبيد (كلا والله ما يخزيك الله أبداً) واستدلت على ما أقسمت عليه بأمر استقرائى، فوصفته بأصول مكارم الأخلاق (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق) . خامساً: بقى الجواب عن ما يزعمه أعداء السنة المطهرة من استنكار لتخفيف الزوجة على زوجها، إذا ألمت به محنة وشدة، وكذلك استنكار لطلب عين اليقين. ... إذ زعموا أن فى إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجته ما حدث له، ثم ذهابهم إلى ورقة بن نوفل، منقصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل فى زعمهم على ارتيابه فى نبوته، ومنقبة لزوجته خديجة وورقة وأنهما أحق بالنبوة منه (1) وهذا لعمرى لمنطق معكوس إذ كيف ينكر عاقل دور الزوجة عامة فى تخفيف الآلام عن زوجها، وخاصة دور خديجة العظيم فى تخفيف آلام رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أول يوم أرسل إليه فيه، حتى تتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بموتها وموت عمه أبو طالب، ونالت قريش من أذيته صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تطمع به فى حياتهما (2) وما ذلك إلا لأن مواقفها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أشرف المواقف التى تحمد لامرأة فى الأولين والآخرين.
ويدل على ذلك ما روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام، فأدركتنى الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً، فقد أبدلك الله خيرا منها، فغضب، حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: "لا والله ما أبدلنى الله خيراً منها، آمنت بى إذ كفر الناس، وصدقتنى إذ كذبنى الناس، وواستنى بمالها إذ حرمنى الناس، ورزقنى الله منها أولاداً إذ حرمنى أولاد النساء" قالت عائشة: فقلت فى نفسى، لا أذكرها بسيئة أبداً" (1) . وأصل الحديث فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت: "ما غرت على أحد من نساء النبى صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبى صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها فى صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن فى الدنيا امرأة إلا خديجة؟! فيقول: "إنها كانت وكانت، وكان لى منها ولد" وفى رواية مسلم: "إنى قد رزقت حبها" (2) . فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا والله ما أبدلنى الله خيراً منها، آمنت بى إذ كفر الناس.. إلخ إنها كلمات من جوامع الكلم تبين عظيم دورها فى تخفيف آلام الدعوة وشدائدها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن فى الحديث بيان لعظم فضلها، وإلى أى مدى عرف لها النبى صلى الله عليه وسلم قدرها ومنزلتها فى حياتها، وحفظ لها ودها وعهدها بعد وفاتها، فرضى الله عنها وأرضاها، وجزاها بفضله وكرمه عن دينه ونبيه، خير وأوفر الجزاء.
وإذا كان دورها فى الدعوة الإسلامية لا ينكره عاقل، فلا وجه لاستنكار أعداء السنة المطهرة، تخفيفها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته من غار حراء ولاسيما ورسول الله صلى الله عليه وسلم، عاد إليها وعليه آثار الروع والمشقة، رأتها على وجهه وجسده الشريف، كما كان يراها فيما بعد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما ورد فى حالات نزول الوحي عليه. وليس فى روايات الحديث ما يحاول زعمه أعداء السنة والسيرة العطرة، من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى لخديجة (شكوى من يرتاب فى نبوته ورسالته والعياذ بالله) . وإنما إذا صح التعبير أن يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوى، فهى شكوى من زوج لزوجته، يريد أن يخفف عنه ما لاقاه من رعب وفزع وشدة فى هذا اللقاء الذى عاد منه إلى بيته، ولا تزال آثاره على سائر جسده الذى يرجف مما جعله يقول: "زملونى، زملونى" أو "دثرونى، دثرونى" والمعنى واحد، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: غطونى بما أدفأ به حتى يذهب عنى أثر الرعب والرجفة عن سائر جسدى (1) تقول أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها "فزملوه حتى ذهب عنه الروع" وهو بفتح الراء أى الفزع، وأما الذى بضم الراء فهو موضع الفزع من القلب (2) . وتأمل ما جاء فى الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: "يا خديجة مالى؟ " وهو استفهام تعجبى، أى: أى شئ ثبت لى، حتى حصل ما حصل، وأخبرها الخبر، وما عانى فيه، حتى ظن أن نفسه تقبض من شدة الفزع والرعب، من هول المفاجأة، ومن معاناة نزول الوحي عليه، وهو ما عبر عنه بقوله: "لقد خشيت على نفسى".
فأين الشكوى التى يزعمها أعداء السيرة العطرة؟ وإذا كانت شكوى فأين ما فيها مما يفيد فى زعمهم أنه شك وارتاب فى نبوته؟ إنه مجرد "إخبار من زوج لزوجته لموقف شديد حدث له يريد أن تخفف عنه آثاره! فأى استنكار فى ذلك؟!. وقد أدت الزوجة خديجة رضى الله عنها دورها باطمئنان زوجها والتخفيف عنه بأعظم الكلمات على ما سبق شرحه قريباً. وأرادت أن تزداد يقيناً فانطلقت به إلى ورقة بن نوفل ابن عمها وكان امرءاً تنصر فى الجاهلية، واشتهر عنه فى مكة من العلم بما فى التوراة والإنجيل، وتباشير الأحبار والرهبان، بما جاء فى الكتابين من أوصاف نبى آخر الزمان، وأن وقته قد أظل، فلما أخبره صلى الله عليه وسلم بما رأى، قال ورقة (هذا الناموس الذى أنزل على موسى) وتمنى ورقة أن يعيش حتى يدرك انتشار الإسلام، ليكون جندياً من جنود الله، يجاهد فى ظل لواء النبى صلى الله عليه وسلم فى سبيل إعلاء كلمة الله ولكنه أدركته منيته، فلم يلبث بعد بعث النبى صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً، ثم توفى، وفتر الوحي، هذا كل ما تفيده قصة ذهابه صلى الله عليه وسلم وزوجته إلى ورقة بن نوفل. فهل فيها ما يزعمه الخصوم من ارتياب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نبوته؟!. وأنى لهم هذا الزعم، وكل ما فى الحديث أن ورقة، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عما رأى قائلاً: "يا ابن أخى ماذا ترى؟ " فأخبره صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى" إذن لم يسأله ورقة عما يشك فيه؛ ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنى أشك فى كذا، وإنما كل ما فى الأمر، سؤال عما حدث له، وإخبار منه صلى الله عليه وسلم لهذا الحدث.
وما كان من جواب ورقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بيان بأن ما رآه هو أمين وحى الله تعالى الذى أنزل على موسى عليه السلام، وهنا ازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم نوراً إلى نور يقينه، لما يعلمه من مكانه ورقة فى العلم والمعرفة بما فى التوراة والإنجيل من المبشرات ببعث رسول الله قد أظل الحياة مخرجه. فهل فى طلب عين اليقين استنكار؟! لاسيما وأن النبوة، من المغيبات تبقى فيها أمور تتردد النفس فى تفاصيلها، ولا يكون هذا التردد فى المتعلقات التى لا تدخل فى الإيمان، ألا ترى إلى قوله تعالى فى سؤال إبراهيم عليه السلام عن كيفية إحيائه عز وجل للموتى {أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى} (1) أى الإيمان حاصل بالمرة، ولكن إحيائك غيب، فأريد أن أرى الغائب شاهداً لأزيل به ما يبقى فى الغيب، وسماه طمأنينة، وبالتالى سؤاله عليه السلام لم يخالف إيمانه، بل أكده.
وكذلك الحال مع ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ورقة، كل ما فيه طلب عين اليقين؛ ولا يعنى ذهابه أنه شك فى نبوته عما يزعم الرافضة، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعقب على كلام ورقة إلا بقوله: "أو مخرجى هم؟ " ولم يعقب صلى الله عليه وسلم على قوله "هذا الناموس الذى أنزل على موسى" لأنه صلى الله عليه وسلم كان على يقين بأنه مَلَك من عند ربه عز وجل، نزل عليه بوحى الله تعالى، فلم يزده صلى الله عليه وسلم هذا الجواب إلا يقيناً على يقينه، وإلا لو كان فى شك – لجاء – ما يشير إلى ذلك، تعقيباً واستفسار منه صلى الله عليه وسلم لورقة، وإنما لم يعقب ولم يستفسر صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليقينه بذلك، وإنما جاء التعقيب والاستفسار على قول ورقة "ليتنى أكون حياً إذ يخرجك قومك" ففى هذا الكلام شئ جديد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستفسر "أو مخرجى هم" وكأنه عليه الصلاة والسلام يقول: كيف يخرجونى، وأنا جئت لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وكيف يخرجونى من حرم الله، وجوار بيته، وبلدة آبائى من عهد إسماعيل عليه السلام؟. فيأتى الجواب من ورقة: نعم! أى هم مخرجوك، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ولعل حكمة المولى عز وجل اقتضت أن تكون ما أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم من المخافة، وما غشيته من الخشية والرهبة كلها ألقيت عليه تكويناً، ليرجع إلى من جعلها الله عز وجل سكناً، وترجع به إلى ورقة، فيشيع خبر نبوته من قبلهم… ويصير بهذا الطريق دليلاً محكماً على أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبى صادق، حتى شهد به شاهد من أهله، (خديجة) وشهد به ورقة الذى كان يعرف حال الأنبياء، ليكون حجة على أهل الكتاب، وعلى المشركين الذين يقدرون علم ومكانه ورقة بالمبشرات.
وهكذا يقدر المولى عز وجل لأنبيائه ورسله أموراً، ويلقيها عليهم تكويناً لمصالح لا يعلمها إلا هو (1) أهـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
المطلب الثالث: شبهة الطاعنين فى حديث "نحن أحق بالشك من إبراهيم"
المطلب الثالث: شبهة الطاعنين فى حديث "نحن أحق بالشك من إبراهيم" والرد عليها ... روى البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رب أرنى كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى} (1) . ... هذا الحديث طعن فيه أعداء السنة والسيرة قديماً من أهل الأهواء والبدع، وزعموا أن فيه طعناً فى عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (2) وتابعهم حديثاً أذيالهم إذا يقول عبد الحسين شرف الدين الموسوى: "إن الظاهر من قوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" ثبوت الشك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسائر الأنبياء، وأنهم جميعاً أولى به من إبراهيم، ولو فرض عدم إرادة الأنبياء جميعاً فإرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لابد منها…، والحديث نص صريح فى أنه أولى بالشك" (3) . ... ويجاب عن ما سبق بما يلى:
أولاً: إجماع الأمة على عصمة أنبياء الله عز وجل ورسله، من الكفر والشرك، والشك، ومن تسلط الشيطان عليهم، وأن تلك العصمة صفة أساسية فيهم، وشرطاً ضرورياً من شروط الرسالة، كما أنها جزء من الكمال البشرى الذى كملهم الله عز وجل به، حتى يبلغوا رسالة ربهم إلى أقوامهم، وقد سبق تفصيل ذلك فى حقه صلى الله عليه وسلم من خلال القرآن والسنة (1) . ثانياً: اتفاق علماء المسلمين على أن ظاهر الشك فى قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" ليس مراداً، كما أنه ليس فى ظاهر هذا القول اعتراف بالشك، بل نفيه عن نفسه صلى الله عليه وسلم، وعن إبراهيم وسائر أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، إذ ما يجوز فى حق واحد منهم يجور فى حق الجميع. ... يقول الحافظ ابن كثير: قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" ليس المراد هاهنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده، بلا خلاف (2) . وقال الإمام على القارى (3) : "ليس فى قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" اعترافاً منه بالشك لهما، بل نفى لأن يكون إبراهيم عليه السلام شك" (4) .
ثالثاً: إن سبب قوله صلى الله عليه وسلم "نحن أحق بالشك من إبراهيم" على ما جاء فى الحديث ما ذكره صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: {رب أرنى كيف تحى الموت قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى} (1) وهذه الآية وما بعدها قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة منها احتمال الشك، فأراد صلى الله عليه وسلم نفى هذا الشك عن سيدنا إبراهيم، وإبعاد للخواطر الضعيفة أن تظن هذا به عليه السلام. ... ويؤكد ذلك أنه ليس فى سؤال سيدنا إبراهيم عليه السلام ما يدل على أنه شك، إذ السؤال وقع بـ "كيف" الدالة على حال شئ موجود مقرر عند السائل والمسئول، كما تقول: كيف علم فلان؟ فكيف فى الآية، سؤال عن هيئة الإحياء، لا عن نفس الإحياء، فإنه ثابت مقرر لدى سيدنا إبراهيم عليه السلام (2) وهو ما شهد به رب العزة لسيدنا إبراهيم رداً على سؤاله، بقوله عز وجل: "أولم تؤمن" والاستفهام هنا تقريرى للمنفى، وهو الشك، كأنه قال له: ألست مؤمناً بالبعث؟ فكان جوابه عليه السلام بـ "بلى" لإثبات المنفى وهو الشك، والمعنى: أنا مؤمن بالبعث كما علمت ما فى قلبى، لكننى أريد أن يطمئن قلبى برؤية الكيفية فقط، واعتبر بذلك. ... فما شك إبراهيم عليه السلام، ولم يكن لديه أى شبهة فى قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، إذ لم يقل لله تعالى: أتستطيع أن تحى الموتى؟ وإنما أراد أن يرى الهيئة، كما أننا لا نشك فى وجود الفيل، والتمساح، والكسوف، وزيادة النهر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرغب من لم يرى ذلك منا، فى أن يرى كل ذلك، ولا يشك فى أنه حق، لكن ليرى العجب الذى يتمثله فى نفسه، ولم تقع عليه حاسة بصره قط (3) .
.. فواضح فى السؤال والجواب، أنه عليه السلام، لم يسأل لشك أو شبهة أو تردد وهذا ظاهر من سؤاله، إذ لم يقل لله تعالى: "هل تقدر أن تحى الموتى، أم لا تقدر؟. ... وهذا يشبه قولك لرسام كبير: دعنى أنظر إليك وأنت ترسم لوحة، أو لخطاط فنان: خط أمامى لكى أرى كيف تخط مثل هذه الخطوط الجميلة. ... فليس فى مثل هذا الطلب أى ناحية تعجيزية، بل هو تعبير عن الافتنان بفنه الجميل، واعتراف به، ولهفة على رؤية دقائق فنه، وسعادة كبيرة فى تأمل كيفية ظهور لوحة رائعة، مرحلة مرحلة. أجل: فالسؤال كان حول كيفية الإحياء، وليس حول إمكانيته أو عدم إمكانيته" (1) . ... قلت: وكيف يشك من وصفه ربه عز وجل فى كتابه بقوله تعالى: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين} (2) وقوله سبحانه: {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} (3) والرشد، والإيقان، اسمى مراتب العلم الذى لا يصح معه شك أو حتى شبهة!. ... وكيف يصح الشك، وقد وصفه ربه تعالى بقوله: {وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم} (4) فبين رب العزة كما ترى أنه جاء ربه بقلب سليم، وإنما أراد به، أنه كان سليماً من الشك، وخالصاً للمعرفة واليقين، ثم ذكر المولى عز وجل، أنه عاب قومه على عبادة الأصنام فقال تعالى: {ماذا تعبدون. أإفكاً آلهة دون الله تريدون} (5) فسمى عبادتهم بأنها إفك وباطل، ثم قال سبحانه: {فما ظنكم برب العالمين} (6) وهذا قول عارف بالله تعالى غير شاك!. ... فكيف يكون قوله {رب أرنى كيف تحى الموتى} (7) شك فى البعث وإحياء الموتى؟!. الحديث حجة لنا لا علينا:
.. ومن هنا كان قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" حجة لنا إذ فيه نفى للشك عن سيدنا إبراهيم عليه السلام، وعن نفسه صلى الله عليه وسلم، وهذا من أحسن الأقوال وأصحها وأرجحها عندى فى معنى قوله صلى الله عليه وسلم، "نحن أحق بالشك من إبراهيم" فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشك مستحيل فى حق إبراهيم عليه السلام، فإن الشك فى إحياء الموتى لو كان متطرقاً إلى الأنبياء، لكنت أنا أحق به من إبراهيم، لأن ما يجوز فى حق واحد من الأنبياء يجوز فى حقهم جميعهم، وقد علمتم أنى لم أشك، فاعلموا أن إبراهيم عليه السلام لم يشك!. أو أراد صلى الله عليه وسلم بقوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" أن يقول: إن هذا الذى تظنونه شكاً، أنا أولى به، ولكنه ليس بشك، وإنما هو طلب لمزيد اليقين. ... وهذا الكلام مما جرت به العادة فى المخاطبة، لمن أراد أن يدفع عن آخر شيئاً، قال: مهما أردت أن تقوله لفلان فقله لى، ومقصوده صلى الله عليه وسلم لا تقل ذلك. ... وإنما خص إبراهيم عليه السلام، لكون الآية قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة، منها احتمال الشك، وإنما رجح إبراهيم عليه السلام على نفسه صلى الله عليه وسلم، تواضعاً وأدباً، أو قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم أنه خير وسيد ولد آدم عليه السلام (1) . ... هذا: وقيل غير ذلك من الأقوال فى توجيه قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" لكنها أقوال ضعيفة (2) ومن هنا اقتصرت على ذكر ما سبق منها، لكونها أصحها، وأوضحها، وأرجحها أهـ. والله تعالى أعلى وأعلم
المطلب الرابع: شبهة الطاعنين فى حديث "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم"
المطلب الرابع: شبهة الطاعنين فى حديث "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم" والرد عليها ... روى البخارى ومسلم: عن عائشة رضى الله عنها قالت: "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودى من يهود بنى زُريق، يقال له: لبيد بن الأعصم (1) قالت: حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا. ثم دعا. ثم قال: يا عائشة! أَشَعَرْتِ أن الله أفتانى فيما استفتيته فيه؟ جاءنى رجلان (2) فقعد أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى، فقال الذى عند رأسى، للذى عند رجلى، أو الذى عند رجلى، للذى عند رأسى: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب (3) قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم قال فى أى شئ؟ قال فى مشط (4) ومشاطة (5) قال: وجب (6) طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: فى بئر ذى أروان (7) قالت: فأتاها رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فى أناس من أصحابه، ثم قال: يا عائشة! والله! لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين، قالت: فقلت: يا رسول الله! أفلا أحرقته؟ (1) قال: لا. أما أنا فقد عافانى الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً، فأمرت بها فدفنت (2) . ... أنكر هذا الحديث بعض المبتدعة قديماً على ما حكاه عنهم غير واحد من الأئمة قال الإمام النووى: "وقد أنكر بعد المبتدعة هذا الحديث بسبب أنه يحط من مقام النبوة وشرفها، ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع" (3) وتابع المبتدعة طعناً فى الحديث أذيالهم من الرافضة، ودعاة اللادينية.
.. يقول أحمد صبحى منصور: "اتهام الرسول بالسحر أو بأن بعضهم سحره فيه تشكيك فى الرسالة، وطعن فى الدين (1) ويفقد المصداقية فى أى قول أو فعل يصدر منه، ومنه يدخل باب الشك فى الإسلام جملة وتفصيلاً، ويتعارض مع قوله تعالى: {وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} (2) .
.. ويقول صالح الوردانى (1) : "وتأتى قضية السحر لتؤكد لنا مدى هامشية شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم فى نظر أهل السنة، ومدى إهمال الوحي له، حتى أن بعض السحرة يسحرونه ويسيطرون عليه، فيفعل الشئ ولا يفعله، أو يتخيل فعل الشئ، وهذا يعنى أن الساحر قد هيمن على الرسول نفسياً، ومن الممكن أن يقول على لسانه ما يشاء. ومرة أخرى يطرح السؤال: أين دور الوحي…" (2) .
.. وتأثر بتلك الطعون من علماء المسلمين الإمام محمد عبده (1) وتابعه على ذلك من سار على طريقته من علماء المسلمين، وقال بقولهم بعض أدعياء العلم.
.. قال الإمام محمد عبده رحمه الله: "نعلم أن البخارى أصدق كتاب بعد كتاب الله، وأنا لا أشك أن البخارى سمع هذا من أساتذته، والبخارى يشترط فى أحاديثه المعاصرة واللقاء، إلا أننى أرى أن هذا لم يحدث مع النبى صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد دس من الإسرائيليات إلى مشايخ البخارى الذين أخذ منهم، وإلا فإننا إن قد صدقنا أن النبى صلى الله عليه وسلم، قد سحر فقد صدقنا كلام الظالمين الذى حكاه القرآن عنهم، {وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحورا} (1) وإن صدقنا أن النبى صلى الله عليه وسلم قد سحر، فقد كذبنا الله سبحانه وتعالى القائل فى كتابه الحكيم: {إنهم عن السمع لمعزولون} (2) وقال عز وجل: {فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصدا} (3) ثم قال: وأما الحديث على فرض صحته فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد، وعصمة النبى من تأثير السحر فى عقله عقيدة من العقائد، لا يؤخذ فى نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن المظنون على أى حال، فلنا بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث، ولا نحكمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل، فإنه إذا خولط النبى صلى الله عليه وسلم فى عقله – كما زعموا – جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئاً، وهو لم يبلغه، أو أن شيئاً نزل عليه، وهو لم ينزل عليه، والأمر هنا ظاهر لا يحتاج إلى بيان. ثم ختم كلامه قائلاً: أحب أن أكذب البخارى، من أن أنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه سحر" (4) . ويجاب عن الشبه السابقة بما يلى:
أولاً: إن الحديث صحيح، وثابت بأصح الأسانيد فى أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل فقد رواه الشيخان فى صحيحهما، ولا يصح لنا أن نقول بصدق البخارى ثم نكذب شيوخه، فإن ما يجرى على شيوخه، يجرى عليه، ولا يصح لنا أن نكذب البخارى وروايته، اعتماداً على رأى ليس له من حظ فى توثيق الأخبار، وإقرار الحقائق من قريب أو بعيد، ولو أننا سلمنا جدلاً بصدق معطيات العقل، لأتينا على كثير من السنة، بل وعلى كثير من آيات القرآن الكريم نفسه (1) . ثانياً: قول الإسناد الإمام: بأن الحديث على فرض صحته فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد، لأنها لا تفيد إلا الظن، قول غير صحيح، لأن الحق الذى ترجحه الأدلة الصحيحة، أن الحديث الصحيح، مقطوع بصحته، ويفيد العلم اليقينى النظرى، سواء كان فى أحد الصحيحين أم فى غيرهما، وهذا العلم اليقينى نظرى برهانى، لا يحصل إلا للعالم المتجر فى الحديث العارف بأحوال الرواة والعلل، المميز بين صحيحه وسقيمه، وغثه وثمينه، وأصيله ودخيله، أما من ليس من أهل هذا الشأن، فإن هذه القرائن ولو كثرت، لا تفيدهم علماً، فمثلهم لا يعتد به فى هذا المقام، ولا تبنى عليه هنا الأحكام (2) . ... هذا مع العلم بأن التفرقة بين العقائد والأحكام فى العمل بخبر الواحد، لا تعرف عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من التابعين، ولا من تابعهم، ولا عن أحد من أئمة الإسلام، وإنما تعرف عن رءوس أهل البدع ومن تبعهم.
.. يقول الإمام ابن دحية (1) : "وعلى قبول خبر الواحد الصحابة والتابعون وفقهاء المسلمين، وجماعة أهل السنة، يؤمنون بخبر الواحد، ويدينون به فى الاعتقادات" (2) .
ثالثاً: قول الأستاذ الإمام عن حديث السحر: وعلى أى حال، فلنا بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث، ولا نحكمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل. فهذا كلام خطير جداً يفتح ثغرة ضد الثابت الصحيح من السنة، كما يفتح مجالاً لقالة السوء فى الصدام بين الكتاب والسنة، والأمر ليس كذلك، بينما حدد لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديثه الصحيح: "إنى قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم" (1) كما أن الأستاذ الإمام بجعله الأخذ بالكتاب، وبدليل العقل فقط، ترك فرصة للهجوم عليه، مما دفع تلميذه محمد رشيد رضا (2)
إلى القول: بأن الأستاذ الإمام كان ضعيفاً فى الحديث، كما أنه وحتى الآن محل نقد من رجال السنة، مما جرهم إلى التهجم عليه، وعلى أفكاره، بينما أبان هو عن هدفه من ذلك وجعله محدداً فى قوله: "وقد قال الكثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هى النبوة، ولا ما يجب لها، أن الخبر بتأثير السحر فى النفس الشريفة قد صح فليزم الاعتقاد به". ... ويبدو أن الأستاذ الإمام قد أبدى بعض التراجع عن هذه الفكرة عندما قال: "ثم إن نفى السحر عنه لا يستلزم نفى السحر مطلقاً" مع أنه قد أقر سابقاً بأن السحر إما حيلة وشعوذة، وإما صناعة علمية خفية، يعرفها بعض الناس، ويجهلها الأكثرون… إلى أن قال: أن السحر يتلقى بالتعليم، ويتكرر بالعمل فهو أمر عادى قطعاً بخلاف المعجزة، ثم يجعل بعد ذلك نفى السحر بالمرة ليس بدعة، لأن الله تعالى لم يذكره ضمن آية {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (1) ويجعل سحر سحرة فرعون ضرباً من الحيلة ويستدل بقوله تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} (2) وما قال أنها تسعى بسحرهم. ... مع أن أقوى دليل يمكن أن ترد به على الأستاذ الإمام قوله تعالى: {قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم} (3) فكيف غاب عن الأستاذ الإمام النظر فى هذه الآية، وكيف كان يمكن له أن يفسرها على خلاف ما هى عليه من إثبات حقيقة السحر لا كونه تخييلاً أو وهماً. ... وهل يأمر رب العزة بالاستعاذة من وهم وتخيل فى قوله: {ومن شر النفاثات فى العقد} ؟ (4) وهو يعنى بالنفاثات السواحر إذا رقين ونفثن فى العقد؟ (5) .
.. أما الحديث فقد ثبت فى صحيح البخارى، وهو مرجع أساسى للسنة، فلو شككنا فى حجية الثابت فى البخارى، فكيف يقبل الناس بعد ذلك حديثاً ورد فى كتب الصحاح أو فى رواية عن غير البخارى؟!. ... وما دفع الأستاذ الإمام من عاطفة تنزيه مقام النبوة أو محاولة إظهار الإسلام بمظهر لا يكون فيه موضع اتهام من أعداء الإسلام، أو محاربة السحر كخرافة، بعد أن توسع الناس فى عمل أشياء تتنافى مع عظمة الإسلام، وإنكاره لمظاهر الكهانة والسحر والشعوذة. ... وهذه إن جاز أن تكون دوافع الأستاذ الإمام فلا يجوز أن تكون بحيث تصادم الثابت الصحيح، وهو الذى كثيراً ما وقف عند الثابت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم لا يتعداه، ولا يحاول تأويله، ويسلم به تسليم معتقد لما جاء به، حيث لا مجال للعقل فيه. ... ثم ما هو الدافع؛ لأن يتأثر الأستاذ الإمام بالمعتزلة فى ذلك، ويحاكى رأيهم، وهو الذى كثيراً ما نعى على التقليد والمقلدين، وكان أولى به أن يأخذ برأى الإمام ابن قيم الجوزية، عندما قال فى هذا الشأن: "وأما قولكم أن سحر الأنبياء ينافى حماية الله لهم، قيل لكم: إنه سبحانه كما يحميهم، ويصونهم، ويحفظهم، ويتولاهم، يبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم، ليستوجبوا كمال كرامته، وليتأسى بهم من بعدهم من أممهم، إذا أوذوا من الناس، فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء، صبروا، ورضوا، وتأسوا بهم" (1) . ... ومن أجل ذلك أثبت علماء الإسلام هذا الحديث، وأوجدوا له مخرجاً يتفق مع سلامة النسبة إليه، ومع مكانة النبوة، وعصمته صلى الله عليه وسلم، فقالوا:
أولاً: الزعم بأن الحديث يحط من منصب النبوة، ويشكك فيها، وفى عصمة الأنبياء، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، هذا الذى ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل؛ لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته، وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ، والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل (1) . ثانياً: أن سحر الرسول صلى الله عليه وسلم، يرفع من مقام النبوة وشرفها، ولا يحط من شأنها، ولا يتعارض مع عصمته صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معصوماً من الأمراض، فلقد كان يأكل، ويشرب، ويمرض، كما قالت عائشة رضى الله عنها "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجلاً مسقاماً، وكان أطباء العرب يأتونه فأتعلم منهم" (2) وكانت تجرى عليه كل النواميس المعتادة التى أودعها الله فى ولد آدم، وليس فى السحر على الهيئة الواردة ما ينقص من قدره وعصمته كإمام لسائر الأنبياء والمرسلين، مادام السحر على قواه البدنية (3) . ... قال القاضى عياض: "وقد جاءت راويات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده، وظواهر جوارحه، لا على عقله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى قوله فى الحديث: "حتى يظن أنه يأتى أهله ولا يأتيهن" ويروى: "يخيل إليه" بالمضارع كلها: أى يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن، ولم يتمكن من ذلك كما يعترى المسحور.
.. قلت: وهذا مثل ما يعترى الرجل السليم قوى البدن، المحطم للأرقام القياسية فى رفع الأثقال، يظن تحطيم رقم قياسى أعلى، وعند محاولة الرفع لا يستطيع، ومثل ذلك أيضاً الإنسان فى حالة النقاهة من المرض، يظن أن به قدرة على الحركة، وعندما يهم بذلك لا تحتمله قدماه. ... قال القاضى عياض: وكل ما جاء فى الروايات من أنه يخيل إليه فعل الشئ ولم يفعله ونحوه، فمحمول على التخيل بالبصر، لا لخلل تطرق إلى العقل، وليس فى ذلك ما يدخل لبساً على تبليغه أو شريعته، أو يقدح فى صدقه لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا (1) فلا مطعن لأهل الضلالة" (2) ثم إنه لم يثبت، بل ولم يرد أنه صلى الله عليه وسلم تكلم بكلمة واحدة فى أثناء مدة السحر تدل على اختلال عقله صلى الله عليه وسلم، ولا أنه قال قولاً فكان بخلاف ما أخبر به، ومن نفى فعليه بالدليل ولا دليل (3) وكل هذا يوضح كيف أخطأ خصوم السنة والسيرة العطرة فى تفسير السحر، وأنه أثر على عقله صلى الله عليه وسلم - عصمه الله من ذلك.
ثالثاً: أن عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم الواردة فى قوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (1) العصمة هنا المراد بها عصمته صلى الله عليه وسلم من القتل، والاغتيال، والمكائد المهلكة، فضلاً عن عصمته من الغواية، والهوى، والضلال، وعدم الوقوع فى المعاصى والمنكرات، ولا يدخل فى العصمة هنا عصمته من الأمراض كما سبق أن ذكرت، بل الأنبياء جميعاً غير معصومين من المرض غير المنفر، فهم جميعاً تجرى عليهم كل النواميس المعتادة التى أودعها الله فى ولد آدم، وعلى ذلك فالآية ليست على عمومها، ولو كانت على عمومها ما استطاع أحد أن يخطئ فى حقه صلى الله عليه وسلم، ولا أن يناله بأذى، وهاهم يخطئون فى حقه صلى الله عليه وسلم كثيراً، بوصفه بالجنون والكهانة، والسحر، وينالون منه فى المعارك بكسر رباعيته، وشج رأسه، وهذا يدل على أن الآية فى عصمته من القتل، والغواية، والضلال، ولا تعارض بينهما وبين شخص يسحره (2) . رابعاً: أن القول بأن الحديث معارض للقرآن الكريم، ويصدق المشركين فى قولهم: {إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} (3) مردود بأن المشركين كانوا يقولون إن محمداً بشر، وأنه فقير، وأنه لا يعلم الغيب، فهل نكذبهم فى ذلك؟!. ...
ثم إننا نعلم يقيناً، أن الكفار لا يريدون بقولهم هذا، أن يثبتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أثبته هذا الحديث، وهو أن فلاناً من اليهود سحره بضعة أيام، فأدركه شئ من التغير، وخيل إليه أنه يفعل بعض الشئ، وهو لا يفعله، ثم أن الله شفاه من ذلك، هم لا يريدون هذا، بل يريدون أن ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما يصدر عن خيال وجنون، وأنه لم يوح إليه شئ، فإذا آمنا بما دل عليه الحديث لم نكن مصدقين للمشركين فى دعواهم، فمفهوم الحديث شئ، ودعواهم شئ آخر. خامساً: زعمهم أن السحر من عمل الشياطين، وصنع النفوس الشريرة الخبيثة، أما من تحصن بعبادة الله كالأنبياء، فليس للشيطان، ولا للشريرين عليهم من سلطان، قال تعالى: {إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} (1) .
.. هذا الزعم مردود عليهم بما ورد فى القرآن الكريم من آيات تثبت تعرض الشيطان للأنبياء بأنواع الإفساد والإغواء، ومع ذلك عصمهم الله عز وجل بعدم تمكنه من إغوائهم، أو إلحاق ضرر بهم يضر بالدين، وتأمل قوله تعالى: فى حق سيدنا أيوب عليه السلام {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب} (1) وقوله سبحانه فى حق سيدنا آدم وزوجته: {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه} (2) ومن هنا لا يلزم من وقوع السحر فى حق الأنبياء، إضلالهم وإغوائهم، فإن ذلك ظن فاسد، وتأمل قوله تعالى: {قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى. قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. فأوجس فى نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى. وألقى ما فى يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى} (3) فقد صرحت الآيات بأن سحر أولئك السحار، قد أوقع نبى الله موسى فى التخييل، حتى تغيرت أمامه الحقائق، فحسب الحبال حيات، والساكنات متحركات، وعندما أوجس فى نفسه من ذلك خيفة، كانت عصمة ربه له بالوحي إليه بعدم الخوف لأنه رسول الله حقاً، وعليه إلقاء ما فى يمينه يعنى عصاه فإذا هى {تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى} فتأمل ما فى الآيات من إثبات السحر للأنبياء مع عصمتهم من آثاره المضرة بدعوتهم.
.. وهكذا يتضح أن الحديث لا يتعارض مع أى آية من القرآن الكريم، بل آيات القرآن الكريم تؤيده نحو قوله تعالى: {قل أعوذ برب الفلق. من شر ما خلق. ومن شر غاسق إذا وقب. ومن شر النفاثات فى العقد. ومن شر حاسد إذا حسد} (1) فهذه السورة وسورة الناس، واللتين تسميان بالمعوذتين، نزلتا فى قصة سحره صلى الله عليه وسلم، كما جاء من حديث ابن عباس (2) ومن حديث عائشة أيضاً ففيه من الزيادة أنه "وجد فى الطلعة تمثالاً من شمع، تمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألماً، ثم يجد بعدها راحة" (3) حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما نشط من عقال، أى من حبل كان مربوطاً به. ... وهنا قد يرد سؤال: إذا كانت عصمة الله وعنايته أحاطت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أثر فيه السحر؟. ... والجواب: لتتعلم الأمة كيف تعالج نفسها من السحر، إذا وقع لواحد من أبنائها شئ من السحر، وهو علاج من أربعة أمور وردت فى الحديث:
الأول: الصبر على البلاء، ابتغاء الأجر والمثوبة الواردة فى قوله صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة فى نفسه، وولده، وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة" (1) وكذلك الأنبياء يبتلون ابتغاء أجر البلاء وهو فى حقهم لرفعة درجاتهم، وإظهاراً لشرفهم، كما قال عز وجل: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} (2) وفى الحديث عن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أى الناس أشد بلاءاً قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان فى دينه رقة ابتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئة" (3) ومن هنا صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على سحره يحتسب أجر ذلك عند الله تعالى. الثانى: كثرة الدعاء، ففى الحديث الذى معنا صبر صلى الله عليه وسلم فترة، ثم دعا، ودعا، ودعا. وفى هذا تعليم للأمة، أنه للمبتلى منها عليه بكثرة الدعاء، فإنه ببركة الدعاء، يفرج الله عنه ما هو فيه، قال تعالى: {وقال ربكم ادعونى أستجب لكم} (4) وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يرد القضاء إلا الدعاء" (5) .
الثالث: الرقية، وذلك بقراءة سورتى {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} (1) ففى بعض روايات هذا الحديث على ما سبق قريباً أنه صلى الله عليه وسلم، رقى بهاتين السورتين، وكلما رقى بآية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها، وشفى بفضل الله تماماً. ... وفى سورتى الفلق والناس واللتين تسميان بالمعوذتين، فيهما يقول صلى الله عليه وسلم: "ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما" (2) . الرابع: النشرة (3) وهى مباحة، وهذه الإباحة مستفادة من قول عائشة رضى الله عنها: "هلا تنشرت" ولم ينكر عليها صلى الله عليه وسلم قولها. ... وذكر الإمام البخارى عن سعيد بن المسيب (4) بأنه سئل عن النشرة للذى يؤخذ عن أهله، فقال: لا بأس! لم ينه عن الصلاح، إنما نهى عن الفساد، ومن استطاع ان ينفع أخاه فليفعل (5) .
.. ومن الناس من كره النشرة على العموم، ونزع بحديث خرجه أبو داود مرفوعاً "هو من عمل الشيطان" (1) . ... قال الحافظ ابن حجر: "ويجاب عن الحديث، بأنه إشارة إلى أصلها، ويختلف الحكم بالقصد، فمن قصد بها خيراً كان خيراً، وإلا فهو شر" (2) وقال الإمام السهيلى: النشرة من عمل الشيطان، هذا والله أعلم فى النشرة التى فيها الخواتم والعزائم، وما لا يفهم من الأسماء العجمية (3) . ... وبعد: فإن حديث سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يتعارض مع عصمته صلى الله عليه وسلم ولا يشكك فى النبوة، كما أنه لا يمثل ثغره فى السنة والسيرة العطرة، وإنما يمثل نقطة مشرقة، إنه سحر، لكنه لم يخرج عن دائرة الصواب، بل كان فى أعلى درجات الاستقامة والهداية، وهذا يدل على أن السحر لم يؤثر فى قواه صلى الله عليه وسلم العقلية، ولا فى درجته الإيمانية، وإنما كان مؤثراً فى أداء الجسم، وهذا لا علاقة له بالرسالة والوحي، والعصمة، ومع أنه أمر جسدى، فإن الرعاية الإلهية قد شملته، وتولاه الله بالحفظ، وسلمه سبحانه وشفاه، بعد أن أطلعه عز وجل على المكيدة التى صنعها له لبيد بن الأعصم فى السحر، فذهب إلى حيث قد طوى الرجل أمشاطه، وأسباب سحره، فأبطل صلى الله عليه وسلم كل ذلك.
.. وهكذا فأنت ترى أن هذا الحديث دليل إكرام وعصمة من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من كونه دليل أذى قد أصابه فى جسمه، أو أى جانب يتعلق ببشريته (1) أهـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
المطلب الخامس: شبهة الطاعنين فى حديث "أهجر"
المطلب الخامس: شبهة الطاعنين فى حديث "أَهَجَرَ" والرد عليها" ... روى البخارى ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال: "لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده" فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول: ما قال عمر. فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: قوموا، وكان ابن عباس يقول: إنا الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، من اختلافهم ولغطهم" (1)
0 ... هذا الحديث طعن فيه الرافضة، بما جاء فى بعض رواياته من قول بعض الحاضرين "أهجر" وزعموا كذباً نسبة هذه اللفظة إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وأنه بقوله "أهجر" ورفعه شعار "حسبنا كتاب الله" تجاوز حد الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعن فى شخصه الكريم، واتهامه بالتخريف والهذيان، كما زعموا أن تبرير الفقهاء لموقف عمر تشويه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحط من قدره وشخصه، ومكانته العالية، ومساس بعصمته ورسالته (1) .
.. يقول: أحمد حسين يعقوب (1) : "أول من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجر، ورفع بوجهه شعار "حسبنا كتاب الله" هو عمر بن الخطاب، حيث حضر هو وثلة من حزبه ليطمئنوا على الوضع الصحى لرسول الله، ومن المؤكد أن شخصاً ما أخبر عمر بأن الرسول سوف يكتب وصية تلك الليلة، فأحضر عمر عدداً كبيراً من حزبه ليحول بين الرسول، وبين كتابة وصيته كما أقر عمر بذلك. وما أن قال الرسول: "قربوا كتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً" حتى تصدى له عمر بن الخطاب، فقال فوراً دون أن يسأل عن مضمون الكتاب: "حسبنا كتاب الله، إن رسول الله قد هجر" وبدون تروى صاح الحاضرون من حزب عمر فقالوا: القول ما قاله عمر!! إن رسول الله يهجر، واستغرب الحاضرون من غير حزب عمر، وصعقوا من هول ما سمعوا، فقال عفوياً: قربوا يكتب لكم رسول الله، وكان الحاضرون من حزب عمر يشكلون الأكثرية، لأنهم أعدوا للأمر عدته فصاح عمر وأعوانه: "حسبنا كتاب الله إن الرسول يهجر" واختلف الفريقان وتنازعوا، وصدم عمر وحزبه خاطر النبى، فقال النبى للجميع: "قوموا عنى، ولا ينبغى عندى التنازع، وما أنا فيه خير مما تدعونى إليه" ولقد أصاب ابن عباس عندما سمى ذلك اليوم بيوم الرزية!!! " (2)
0 ... ويجاب عن الشبهات السابقة بما يلى: أولاً: نسبة القول بـ "أَهَجَر" إلى الفاروق عمر بن الخطاب، لا دليل عليه، إذ جميع روايات هذا الحديث تنفى هذه الكلمة إلى عمر رضى الله عنه. وإنما الذى جاء على لسان عمر فى جميع الروايات: قال ابن عباس: "فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله" (1) . ... أما لفظ "أَهَجَر" فجاءت جميع الروايات بنسبتها إلى بعض الحاضرين فى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تحديد لأشخاصهم، قال ابن عباس: "فقالوا ما شأنه؟ أهجر! استفهموه" (2) . ... فأين إذن ما يزعمه الرافضة من نسبة هذه الكلمة إلى سيدنا عمر رضى الله عنه؟. إنه لا وجود لهذه النسبة إلا فى أذهانهم المريضة، وقلوبهم الممتلئة حقداً على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم!!. ثانياً: ليس فى كلمة "أهجر" ما يعارض عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عقله، وفى الوحي وتبليغ الرسالة، حال صحته، وحال مرضه يبين ذلك ضبط الكلمة المبين حقيقة المراد منها وهو سلب الهجر لا إثباته، وحاصل هذا الضبط فيما يلى:
أ- إثبات همزة الاستفهام، وبفتحات عليها، "أَهَجَرَ" على أنه فعل ماض، والكلمة فى هذه الحالة، على سبيل الاستفهام الإنكارى على من توقف فى امتثال أمره صلى الله عليه وسلم، بإحضار الكتف والدواة. فكأن قائلها قال: كيف تتوقف فى امتثال أمره صلى الله عليه وسلم، أتظن أنه صلى الله عليه وسلم كغيره يقول الهذيان فى مرضه، امتثل أمره، وأحضره ما طلب فإنه لا يقول إلا الحق. ... وهذا الضبط والمراد به، هو أحسن الأجوبة، وأرجحها عند الحافظ ابن حجر، والقرطبى فى توجيه هذه الكلمة (1) وهو ما أرجحه أيضاً. ب- وضبطها بعضهم: "أهُجْراً" بضم الهاء، وسكون الجيم، والتنوين والكلمة فى هذه الحالة راجعة إلى المختلفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقائلها خاطبهم بها، والمراد: جئتم باختلافكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين يديه هجراً ومنكراً من القول (2) . ... وهذا الضبط الثانى والمراد به، تثبته الروايات، وما جاء فيها من كثرة لغطهم ولغوهم.
ثالثاً: اتفق العلماء على أنه لا يصح أن تكون هذه الكلمة "أهجر" إخباراً، لأن الهجر بالضم، ثم السكون، من الفحش أو الهذيان، والمراد به هنا: ما يقع من كلام المريض الذى لا ينتظم، ولا يعتد به لعدم فائدته (1) . ووقوع ذلك من النبى صلى الله عليه وسلم مستحيل فى حقه، لأنه معصوم فى صحته ومرضه، لقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} (2) ولقوله صلى الله عليه وسلم: "فوالذى نفسى بيده ما يخرج منه (أى من فمه الشريف فى حال غضبه، ورضاه، وكذا صحته ومرضه) ، إلا حق" (3) . ... وعلى هذا لا يصح ظاهر رواية من روى فى الحديث "هجر" أو "يهجر" (4) وهى محمولة عند أهل العلم على وجهين: الوجه الأول: حذف ألف الاستفهام، والتقدير أهجر؟. ... ويؤيد صحة هذا الحمل، أنه لو احتمل من بعض الصحابة أنه قال تلك الكلمة، إخباراً عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن شك عرض له فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مرضه، لوجد من ينكره عليه من كبار الصحابة، بل من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه رداً عن عصمته، ولو ثبت الإنكار من الصحابة أو الرسول، لنقل إلينا، ولا نقل! وهو ما يؤكد صحة هذا المحمل.
الوجه الثانى: فى المراد بظاهر رواية "هجر" و"يهجر" هو حملها على ما جاء فى الرواية الثانية من قول الفاروق عمر: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع" ويكون قائل "هجر" أو "يهجر" لم يضبط لفظه، وأجرى الهجر، مجرى شدة الوجع، لأنه ينشأ منه، لا أنه اعتقد أنه صلى الله عليه وسلم يجوز عليه الهجر، وإلا وجد من ينكر عليه كما سبق. هذا وقيل غير ذلك من الأقوال فى توجيه كلمة "هجر" و"يهجر" فاقتصرت على ما سبق لكونه أرجح عندى من غيره (1) . ... وعلى ما سبق فليس فى قول القائل "أَهَجَر" أياً كان قائلها، كما أنه ليس فى قول عمر رضى الله عنه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع" ما يتعارض مع عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ما يشوه شخصيته، ويحط من قدره كما يزعم الرافضة! لأن قائل "أهجر" أو "أهجراً" كان القول منه سلباً للهجر لا إثباته، وإنكاراً منه على من توقف فى امتثال أمره صلى الله عليه وسلم، وإنكاراً أيضاً على المختلفين بين يديه صلى الله عليه وسلم، وما أحدثوه بحضرته من لغط ولغو. ولو حملت الكلمة من قائلها، على الإخبار بحاله عليه الصلاة والسلام لوجد من ينكر على قائلها، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكر ذلك، ولنقل إلينا، ولا نقل! مما يؤكد أن قائل "أهجر" قصد بها سلب الهجر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا إثباته كما يزعم الرافضة!. رابعاً: اتفق قول العلماء – سوى الرافضة – على أن قول عمر "إن رسول الله، قد غلبه الوجع، عندكم القرآن، حسبنا كتاب الله" رد على من نازعه، لا على أمر النبى صلى الله عليه وسلم.
.. كما أن العلماء عدو قوله: من قوة فقهه، ودقيق نظره، ومن موافقاته للوحى، قصد منه التخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين رآه قد غلب عليه الوجع، وشدة الكرب، وقامت عنده قرينه بأن الذى أراد كتابته، ليس مما لا يستغنون عنه، إذ لو كان من هذا القبيل، لم يتركه عليه الصلاة والسلام، لأجل اختلافهم ولغطهم، لقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (1) . ... كما لم يترك صلى الله عليه وسلم تبليغ غيره بمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه، وفى تركه عليه الصلاة والسلام، الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه صلى الله عليه وسلم رأيه (2) . ... قلت: وهذا عندى من أقوى ما يتمسك به فى الرد على الرافضة ومن قال بقولهم، لأن ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر، هو إقرار منه صلى الله عليه وسلم بتصويب رأيه، ويأخذ هذا الإقرار حكم المرفوع المسند. ... ويؤيد صحة ما سبق، من صحة رأى عمر، وأن أمره صلى الله عليه وسلم بالكتابة لم يكن على سبيل الوجوب، ما جاء فى نفس الحديث من وصيته عليه الصلاة والسلام بثلاث قال: "اخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم (3) وسكت عن الثالثة أو قال الراوى: فنسيتها" (4) .
.. فهذا يدل على أن الذى أراد أن يكتبه صلى الله عليه وسلم، لم يكن أمراً متحتماً، لأنه لو كان مما أمر بتبليغه، لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم، ولعاقب الله عز وجل، من حال بينه وبين تبليغه، ولبلغه لهم لفظاً، كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك. ... وقد عاش عليه الصلاة والسلام بعد هذه المقالة أياماً، وحفظوا عنه أشياء لفظاً، فيحتمل أن مجموعها ما أراد أن يكتبه ويبعد مع كل هذا أن يكون أمره صلى الله عليه وسلم بالكتابة على الوجوب ويتركه!. كما يبعد كل البعد، بدليل ما سبق، ما يزعمه الرافضة من الوصية لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه، بالخلافة من بعده عليه الصلاة والسلام، وزعمهم أن عمر رضى الله عنه، حال بين رسول الله، وبين كتابة تلك الوصية (1) .
.. قال الإمام المازرى (1) : "وإنما جاز للصاحبة الاختلاف فى هذا الكتاب، مع صريح أمره صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه عليه الصلاة والسلام قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر رضى الله عنه، على الامتناع، لما قام عنده من القرائن، بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك من غير قصد جازم، وعزمه صلى الله عليه وسلم على الكتابة كان إما بالوحي، وإما بالاجتهاد، وكذلك تركه صلى الله عليه وسلم الكتابة إن كان بالوحي فبالوحي، وإلا فبالاجتهاد أيضاً، وفيه حجة لمن قال بالرجوع إلى الاجتهاد فى الشرعيات" (2) وهو ما ينكره الرافضة على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) .
.. قلت: وفى كلا الحالتين العزم على الكتابة وتركها، سواء كان بالوحي، أو بالاجتهاد، فيه إقرار من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأى عمر رضى الله عنه، فيأخذ حكم المرفوع المسند، وهو دليل على صحة موقف الصحابة رضى الله عنهم من اختلافهم فى الكتاب، مع صريح أمره صلى الله عليه وسلم. ... قال الإمام القرطبى (1) : "واختلاف الصحابة رضى الله عنهم، فى هذا الكتاب كاختلافهم فى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة" (2) فتخوف ناس فوات الوقت فصلوا، وتمسك آخرون بظاهر الأمر فلم يصلوا، فما عنف صلى الله عليه وسلم أحد منهم، من أجل الاجتهاد المسوغ، والمقصد الصالح" (3) . ... وعلى ما سبق من اختلاف الصحابة رضى الله عنهم، فى فهم أمره صلى الله عليه وسلم، ثم إقراره صلى الله عليه وسلم لهذا الاختلاف فى فهمهم لأمره، يرد على زعم الرافضة، ومن قال بقولهم، فى أن اختلاف الصحابة، فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتابة، سوء أدب منهم، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم!!.
.. لأنهم رضوان الله عليهم أجمعين، كانوا يراجعونه صلى الله عليه وسلم فى بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم، كما راجعوه يوم الحديبية، فى كتاب الصلح بينه وبين قريش (1) . فأما إذا أمر عليه الصلاة والسلام بالشئ أمر عزيمة، ولا قرينة تصرفه عن ذلك، فلا يراجع فيه أحد منهم (2) . خامساً: زعم الرافضة أن فى قول عمر: "حسبنا كتاب الله" دعوى منه للاكتفاء به عن بيان السنة، زعم لا دليل عليه، لأن سيدنا عمر رضى الله عنه لم يرد بقوله هذا، الاكتفاء به عن بيان السنة المطهرة، بل قال ما قاله لما قام عنده من القرينة، على أن الذى أراد صلى الله عليه وسلم كتابته مما يستغنى عنه، بما فى كتاب الله عز وجل، لقوله تعالى: {ما فرطنا فى الكتاب من شئ} (3) حيث لا تقع واقعة إلى يوم القيامة، إلا وفى الكتاب، أو السنة بيانها نصاً أو دلالة.
.. وفى تكلف النبى صلى الله عليه وسلم فى مرضه من شدة وجعه، كتابة ذلك مشقة ومن هنا رأى عمر، الاقتصار على ما سبق بيانه إياه نصاً أو دلالة تخفيفاً عليه صلى الله عليه وسلم، ولئلا ينسد باب الاجتهاد على أهل العلم والاستنباط، وإلحاق الفروع بالأصول، وقد كان سبق قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر" (1) . ... وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم وكل بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء، وجعل لهم الأجر على الاجتهاد، فرأى عمر رضى الله عنه الصواب تركهم على هذه الجملة، لما فيه من فضيلة العلماء بالاجتهاد، مع التخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى تركه عليه الصلاة والسلام الإنكار على عمر، دليل على استصوابه رضى الله عنه رغم أنف الرافضة (2) . ... ولا يعارض ذلك قول ابن عباس رضى الله عنهما: إن الرزية كل الرزية … الخ لأن عمر كان أفقه منه قطعاً، هذا مع اعترافنا بأنه حبر الأمة، وترجمان القرآن، وأعلم الناس بتفسير كتاب الله وتأويله، ولكنه أسف على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه، لكونه أولى من الاستنباط، لاسيما وقد بقى ابن عباس حتى شاهد الفتن (3) . أهـ. وبعد:
.. فقد استبان لك أيها الناظر بما سبق؛ عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى بدنه من الصرع (1) وفى عقله وقلبه من الكفر (2) والشرك والضلال والغفلة (3) والشك، والفحش، ومن تسلط الشيطان عليه (4) واستحالة ذلك ونحوه عليه شرعاً وإجماعاً، ونظراً وبرهاناً وعصمته فيما سبق قبل النبوة وبعدها، وفى كل حالاته من رضى وغضب، وجد ومزح. ... وما استدل به أعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة من أحاديث يفيد ظاهرها عدم عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه لا تفيدهم فى دعواهم، لأن ما استدلوا به من أحاديث، منها ما هو ضعيف، وموضوع لا يحتج به، ومنهما ما هو صحيح ولكن تضعف دلالته على ما احتجوا به، على ما سبق تفصيله فى المطالب السابقة أهـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
الباب الثانى: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي ودفع الشبهات
الباب الثانى: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي ودفع الشبهات ... ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي كما يصورها القرآن الكريم والسنة النبوية. ويشتمل على تمهيد ومبحثين: المبحث الأول: التعريف بالوحي، وكيفياته. المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية. الفصل الثانى: شبه الطاعنين فى الوحي الإلهى والرد عليها ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: شبهات أعداء الإسلام من المستشرقين حول الوحي الإلهى والرد عليها ويشتمل على تمهيد وأربعة مطالب: ... ... المطلب الأول: شبهة الوحي النفسى والرد عليها. ... ... المطلب الثانى: شبهة أن الوحي عبارة عن أمراض عقلية ونفسية والرد عليها. ... ... المطلب الثالث: شبهة أن الوحي مقتبس من اليهودية والنصرانية والرد عليها. ... ... المطلب الرابع: فرية الغرانيق والرد عليها. المبحث الثانى: شبهات أعداء السنة المطهرة حول الوحي الإلهى والرد عليها ويشتمل على تمهيد وأربعة مطالب: المطلب الأول: شبهة أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاصرة على بلاغ القرآن فقط والرد عليها. ... ... المطلب الثانى: شبهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليست له سنة نبوية والرد عليها. المطلب الثالث: شبهة أنه لا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى القرآن فقط والرد عليها. ... ... المطلب الرابع: شبهة أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأليه وشرك والرد عليها.
الفصل الأول: عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي
الفصل الأول: عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي كما يصورها القرآن الكريم والسنة المطهرة ... ويشتمل على تمهيد ومبحثين: المبحث الأول: التعريف بالوحي، وكيفياته. المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية. تمهيد ... الوحي الإلهى: هو كلمة الله عز وجل إلى عباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور وهو أصل الدين، إذ يتعلق بكتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والوحي فى الإسلام ثابت محفوظ بحفظ الله تعالى، والأمة مهيأة لخدمة نصوصه كما تقتضيه ظروف الحياة العلمية لها. والوحي: أهم عنصر يميز شخصية النبى أو الرسول، وأكبر الدعائم التى ترتكز عليها حقيقة النبوة. ... وقد دلت نصوص الكتاب الكريم، والسنة الشريفة، والسيرة العطرة على عصمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فى تبليغ وحى الله تعالى إلى الأمة، وانعقد إجماع علماء الأمة على ذلك. إلا أنه يوجد فى كل أمة، وفى كل زمان ومكان، من يطعن فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تبليغ وحى الله تعالى؛ من أعداء الإسلام من المستشرقين والمبشرين، ومن أذيالهم المتسترين بعباءة القرآن الكريم ممن يسمون أنفسهم (القرآنيون) . ... أما المستشرقون: فشبهاتهم حول الوحي الإلهى قائمة على إنكار نبوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم تكن لدى معظمهم القناعة العلمية ولا الإيمان الراسخ بهذه النبوة، وبخاصة أولئك الذين جمعوا بين الاستشراق والتبشير، وألبسوا أفكارهم أردية كنسية متطرفة، فقد نشأوا على أديان أخرى، ونفذوا بشئ من العداء لهذه الشخصية النبوية الكريمة، ودفعوا دفعاً مقصوداً للإيقاع بنبوته، وحملوا حملاً مغرضاً لتجريده من صفاتها، وعلى رأسها صفة العصمة. فزعموا تارة، أن الوحي الذى جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ذاتى من داخل نفسه الصافية، وعقله العبقرى. ...
وتارة ثانية، يزعمون أنه عبارة عن أمراض عقلية ونفسية، وهم بذلك يتناقضون مع أنفسهم؛ إذ كيف يجتمع الضدان، صفاء النفس، والعقل العبقرى، مع الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية؟! وتارة ثالثة، يزعمون أن الوحي الذى جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتبس من اليهودية والنصرانية، أو أنه وحى شيطانى بناءاً على فرية الغرانيق، وهذه الطعون فى الوحي الإلهى، هى رأى معظم المستشرقين الذين يدرسون ظاهرة الوحي والنبوة، ويخلطون عن عمد بين النبوة والعبقرية، ومعانى البطولة، ومعانى الرسالة، إذا استثنينا أولئك المستشرقين الذين ينحون بتفكيرهم نحو المادية والعلمانية، وينكرون الوحي كله جملة وتفصيلاً ويهاجمون النبوات كلها بما فيها نبوة موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام. أما أعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة، ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ففاقت شبهاتهم حول الوحي الإلهى، شبهات أعداء الإسلام، إذ أعلنوا صراحة الكفر بالشطر الثانى من الوحي الإلهى وهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرته العطرة الواردة فى سنته الشريفة. ... وهم فيما يزعمون يتسترون بعباءة القرآن الكريم، وفاق تسترهم كل حد، إذ تجرأوا على كتاب ربهم عز وجل، ففسروه وأولوه بما يأتى فى النهاية صراحة بردهم على الله عز وجل كلامه، وتطاولهم عليه عز وجل من حيث يشعرون أو لا يشعرون. ... إذ رسموا من خيالهم المريض صورة لدور رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته - وهو أمر لا يملك منه أحد شئ سوى الخالق - تساعدهم فيما يكفرون به من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم 0
المبحث الأول: التعريف بالوحي لغة، وشرعا، وكيفياته
.. فزعموا أن دور النبى صلى الله عليه وسلم فى رسالته قاصراً على بلاغ كتاب الله عز وجل فقط، وأنه ليست له سنة نبوية، وأن طاعته صلى الله عليه وسلم الواردة فى القرآن الكريم، تعنى الطاعة لكتاب الله عز وجل، وتنحصر فيها، ولم يقف إفكهم عند هذا الحد، إذ زعموا أن القول بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم شرك وتأليه له صلى الله عليه وسلم، وأن من يقول بطاعته فقد كفر وأشرك بربه!. ... وقبل تفصيل تلك الشبهات والرد عليها، أرى لزاماً على تأصيل المسألة أولاً: وذلك بالتعريف بالوحي، وكيفياته، ثم تفصيل دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي الإلهى من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة. فإلى تفصيل ذلك فى المبحثين التاليين: المبحث الأول: التعريف بالوحي لغة، وشرعاً، وكيفياته أولاً: التعريف بالوحي: أ- من حيث اللغة: ... ذكر غير واحد من علماء هذا الشأن أن أصل الوحي فى الأسلوب العربى، معناه: الخفاء، والسرعة، والإشارة. ... فالواو والحاء والحرف المعتل أصل يدل على إلقاء علم فى خفاء إلى غيرك، فكل ما ألقيته إلى غيرك حتى علمه، فهو وحى كيف كان. وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة بعض الجوارح، وبالكتابة، والرسالة والإلهام. ... وأوحى ووحى لغتان يقال: وحيث إليه الكلام، وأوحيت، ووحى، وحياً وأوحى. لكن أوحى بالهمزة أفصح من - وحى - بدونها. ولذلك جرى استعمال القرآن على ما هو الأفصح فى الفعلين أهـ بتصرف (1) .
.. وقد استعمل القرآن الكريم الوحي بمعناه اللغوى، وهو: الإعلام الخفى السريع، ويتناول الوحي بهذا المعنى عدة أنواع كما جاءت فى القرآن الكريم: الإشارة السريعة على سبيل الرمز كما فى قوله تعالى: {فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً} (1) وكما فى قوله تعالى: {قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً} (2) . الإلهام الغريزى للإنسان (3) ومنه ما يطلق عليه إلهام الخواطر، وهو ما يلقيه الله تعالى فى روع الإنسان
ب- معناه الشرعى:
السليم الفطرة، الطاهر الروح، كما فى قوله تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولى قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} (1) . الإلهام الغريزى للحيوان أو ما يطلق عليه بعض العلماء الأمر الكونى كالوحي إلى النحل، وذلك كما فى قوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون} (2) . ومما يشير إلى هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات فى يومين وأوحى فى كل سماء أمرها} (3) ويدخل تحت ذلك كل الأوامر الكونية للجمادات وغيرها. وسوسة الشياطين كما فى قوله تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} (4) . وهذه الأقسام كلها ليست هى المرادة من اصطلاح الوحي فى علوم القرآن والسنة إذ المراد: الوحي الشرعى الذى جاء إلى أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام. ب- معناه الشرعى: قال الحافظ ابن حجر: هو الإعلام بالشرع (5) . وعرفه الأستاذ الإمام محمد عبده بقوله: هو عرفان يجده الشخص (6) من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة (7) .
وعرفه البعض بأنه كلام الله المنزل على النبى الموحى إليه (1) . وبالنظر فى هذه التعريفات تلاحظ أنها جاءت متنوعة تبعاً لتنوع الاعتبارات، فمن نظر إلى المعنى المصدرى عرفه بالتعريف الأول، ومن نظر إلى المعنى الحاصل بالمصدر، عرفه بالثانى، ومن نظر إلى الموحى به، عرفه بالثالث، وهو المختار عندى. والله أعلم. ثانياً: كيفيات الوحي: ... هذه الكيفيات ذكرها غير واحد من العلماء (2) وهى بتصرف واختصار، على النحو التالى:
إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضى الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح – الحديث (1) وواضح من قولها رضى الله عنها: "أول ما بدئ به … من الوحي الرؤيا الصالحة" أن الرؤيا الصالحة، كيفية من كيفيات الوحي، وقد جاء ذلك مصرحاً به، عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رؤيا الأنبياء وحى" (2) . ... ويبدوا هذا واضحاً فى رؤيا سيدنا إبراهيم عليه السلام فى المنام ذبح ولده إسماعيل عليه السلام، قال تعالى: {قال يا بنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى} (3) . ... وتجده أيضاً فى رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام، والتى تحققت بعد سنوات، قال تعالى: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إنى رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين} (4) وتحققها قصة القرآن الكريم فى قوله عز وجل: {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقاً} (5) .
.. وفى حق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قص القرآن الكريم نماذج من الرؤى وقعت بعد النبوة منها على سبيل المثال: قوله تعالى: {إذ يريكهم الله فى منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم فى الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور} (1) ففى غزوة بدر الكبرى واجه المسلمون المشركين فى أول واقعة حربية حاسمة، وكان المشركون ضعف عدد المسلمين، وقد وقعت رؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد فيها المشركين قلة قليلة فأخبر أصحابه يومئذ بذلك، فكان تثبيتاً لهم، وكانت تلك الرؤيا مناماً كما صرح بذلك القرآن، فلا حاجة إلى تأويل بعضهم أنه رآهم بعينه التى ينام بها (2) . وقال عز وجل: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون} (3) . فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته فى العام السادس للهجرة برؤيا حق شاهد فيها المسلمين داخلين المسجد الحرام فى أمن تام مؤدين المناسك ولما سار المسلمون، ووصلوا إلى الحديبية (4) لم يشك جماعة منهم أن الرؤيا النبوية تتحقق عامهم هذا… وحين وقع ما وقع من صلح الحديبية تساءل عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به" (5) .
وفعلاً ففى العام السابع، وفى ذى القعدة أدى الرسول والمسلمون عمرة القضاء، ودخلوا مكة معتمرين ملبين بعد سبع سنين طوال حرموا خلالها من رؤية الكعبة المشرفة. ثانيها: الإلهام والقذف فى القلب من غير رؤية، بأن يلقى الله أو الملك الموكل بالوحي فى قلب نبيه ما يريد، مع تيقنه أن ما ألقى إليه من قبل الله تعالى. ... وهذه الكيفية هى المرادة من قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً} (1) إذ يقابلها إجمال بقية الكيفيات فى قوله سبحانه: {أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحى بإذنه ما يشاء} (2) وبهذا قال أكثر المفسرين (3) . ... ومن هذه الكيفية حديث ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، ولا يستبطئن أحد منكم رزقه، إن جبريل عليه السلام ألقى فى روعى أن أحداً منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله أيها الناس، واجملوا فى الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا ينال فضله بمعصية" (4) . ثالثها: تكليم الله نبيه بما يريد من وراء حجاب، ولذلك صورتان:
الأولى: إما فى اليقظة: وذلك مثل ما حدث لسيدنا موسى عليه الصلاة قال تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} (1) ومثل ما حدث لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج، وهو ما عبر عنه العلماء بقولهم: أن يكلمه الله كفاحاً – أى مواجهة، حيث فرض الله عليه هناك الصلاة، وهو ما يدل عليه قوله تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} (2) . الثانية: وإما فى المنام: كما فى حديث معاذ رضى الله عنه (3) أن النبى صلى الله عليه وسلم تأخر عنهم ذات غداة فخرج عليهم وصلى وتجاوز فى صلاته، فلما سلم قال: "كما أنتم على مصافكم"، ثم أقبل إلينا فقال: إنى سأحدثكم ما حبسنى عنكم الغداة (4) إنى قمت من الليل فصليت ما قدر لى، فنعست فى صلاتى حتى استيقظت فإذا أنا بربى عز وجل فى أحسن صورة، فقال: يا محمد أتدرى فيم يختصم الملأ الأعلى، قلت: لا أدرى يا رب… الحديث" (5) . رابعها: إرسال الملك، ولذلك ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يتمثل له الملك فى صورة رجل، والأصل فى ذلك نزول الملائكة على سيدنا إبراهيم عليه السلام ضيفاً مكرمين، وقدم لهم عجلاً حنيذاً، ولم يعرف أنهم ملائكة إلا حين أفصحوا له عن حقيقة أمرهم، قال تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم} (1) وأتى الملائكة لوطاً عليه السلام فى صورة شباب بهى جميل المنظر قال سبحانه: {ولما جاءت رسلنا لوطاً سئ بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه} (2) . ... وبعث الله إلى مريم البتول جبريل عليه السلام فى صورة بشر سوى يبشرها باصطفائها واصطفاء وليدها، قال عز وجل: {فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً} (3) . ... وانطلاقاً من هذه الحقيقة كان جبريل عليه السلام يتنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويتمثل لى فى صورة رجل، بحيث يراه النبى صلى الله عليه وسلم وحده ويكلمه بما أراد فيعى عنه ما يقول، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم، لما سئل كيف يأتيك الوحي؟ قال: "وأحياناً يتمثل لى الملك رجلاً فيكلمنى فأعى ما يقول" (4) .
.. وقد يظهر الملك المتشكل فى صورة رجل للعيان، فيراه الناس ويسمعون كلامه للنبى صلى الله عليه وسلم، كما فى حديث جبريل المشهور الذى سأل فيه النبى صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة، ففى نهايته قال صلى الله عليه وسلم: يا عمر! أتدرى من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" (1) . وعن ابن عمر قال: "وكان جبريل عليه السلام يأتى النبى صلى الله عليه وسلم فى صورة دحية" (2) . الحالة الثانية: أن يأتى جبريل فى صورته التى خلقه الله عليها، وهذه الصورة نادرة وقليلة، ولا يراها إلا النبى صلى الله عليه وسلم وحده، لأن غيره لا يطيق ذلك بل ربما النبى صلى الله عليه وسلم كان لا يطيق ذلك، ولاسيما فى أول مرة وقد رأى النبى صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته الملائكية التى خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، كل جناح قد سد الأفق. مرتين:
المرة الأولى: كانت فى الأرض، يشير إلى ذلك ما أخرجه الشيخان عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أى وهو يحدث عن فترة الوحي، بينما أنا أمشى إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصرى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت، فقلت دثرونى، وصبوا على ماء بارد، وأنزل الله على {يا أيها المدثر قم فأنذر} … الآيات (1) . وأشار إلى هذه الصورة أيضاً قوله تعالى: {ولقد رآه بالأفق المبين} (2) . المرة الثانية: كانت فى السماء عند سدرة المنتهى ليلة المعراج. وإليها أشار قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى} (3) .
.. وعن ابن مسعود رضى الله عنه فى تفسير قوله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى} قال: أى ابن مسعود، إنه أى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح" (1) وفى رواية أخرى عن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى} قال صلى الله عليه وسلم: رأيت جبريل عليه السلام عند السدرة له ستمائة جناح يتناثر منها تهاويل الدر" (2) ، وكون النبى صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته الملائكية مرتين، ذلك ما أشار إليه ما ثبت فى الصحيحين عن عائشة مرفوعاً: "لم أره على صورته التى خلق عليها إلا مرتين" (3) وفى رواية "مرة عند سدرة المنتهى، ومرة فى أجياد (4) له ستمائة جناح قد سد الأفق" (5) وهى رواية مبينة لما روى مختصراً فى الصحيحين.
والحالة الثالثة: من حالات إرسال الملك: أن يأتى جبريل على صورته الملائكية لكنه فى هذه الحال لا يرى، أى أنه يأتى خفية فيتلبس بالنبى صلى الله عليه وسلم ويتغشاه. لكن يصحب مجيئه شدة يراها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك فى نحو مجئ الملك بصوت صلصلة الجرس، فيوحى إليه بما شاء الله وحيه، وقد دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل كيف يأتيك الوحي؟ قال: "أحياناً يأتينى مثل صلصلة الجرس، وهو أشده على فيفصم عنى، وقد وعيت عنه ما قال" وفى رواية سئل صلى الله عليه وسلم هل تحس بالوحي؟ فقال: "أسمع صلاصل، ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسى تقبض". ... وعن عائشة رضى الله عنها قالت: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي فى اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً" (1) . ... وبالجملة: الوجى بجميع هذه الكيفيات يصحبه علم يقينى ضرورى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن ما ألقى إليه حق من عند الله تعالى، وليس من خطرات النفس، ولا نزغات الشيطان، وهذا العلم اليقينى لا يحتاج إلى مقدمات، وإنما هو من قبيل إدراك الأمور الوجدانية كالجوع والعطش ونحوهما. وحى الله إلى أنبياءه قرآن وسنة:
.. الوحي المنزل على النبى الموحى إليه بناء على التعريف الثالث للوحى، بأنه كلام الله المنزل على النبى الموحى إليه. نوعان: كتاب، وسنة. قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذالكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} (1) ويقول رب العزة فى حق آل إبراهيم عليهم السلام {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً} (2) ويقول عز وجل فى حق عيسى عليه السلام: {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس فى المهد وكهلاً وإذا علمتك الكتاب والحكمة} (3) وقال تعالى فى حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين} (4) وقال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شئ عليم} (5) . ... وهذا يدل على أن الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمان: القسم الأول: الكتاب المعجز المتعبد بتلاوته، وكيفية الوحي فى هذا القسم تكون يقظة بواسطة جبريل عليه السلام.
القسم الثانى: الحكمة (1) والمراد بها هنا السنة المطهرة قال تعالى: {واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من آيات الله والحكمة} (2) فالتلاوة هنا المرة بعد المرة، والمتلو هنا شيئان، أولهما: آيات الله فى كتابه، وثانيهما: الحكمة وهى: صنف آخر من الوحي المتلو، ولا يكون ذلك إلا السنة النبوية المطهرة (3) وكيفية الوحي فى هذا القسم ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: توقيفى، أوحى الله تعالى بمعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بألفاظ من عنده، وهذا القسم هو الأعم الأغلب من السنة النبوية، ويدخل فى هذا القسم الحديث القدسى (4) .
أما القسم الثانى: توفيقى، وهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاده مما يعلم أنه من شرع الله تعالى، فإن وافق قوله أو فعله مراد الله تعالى، فالأمر كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الأمر يحتاج إلى تصحيح أو توضيح. أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك (1) كما فى حديث أبى قتاة رضى الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرأيت إن قتلت فى سبيل الله؛ تكفر عنى خطاياى؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن قتلت فى سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت فى سبيل الله، أتكفر عنى خطاياى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لى ذلك" (2) . ... فتأمل استدراك الوحي من خلال جبريل، لم اجتهد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بزيادة الدين فى جوابه صلى الله عليه وسلم. ... وهذا القسم الاجتهادى التوفيقى هو الأقل فى السنة الشريفة، ويدخل فى هذا القسم ما صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة والطبيعة وأقره الله تعالى عليها، كشؤونه فى طعامه وشرابه ولباسه، وجلوسه ونومه، وما ماثل ذلك، فإن ذلك كله بعد تقرير الله عز وجل له، يكون بمنزلة الوحي حجة على العباد ما لم يقم دليل على خصوصيته بالنبى صلى الله عليه وسلم (3) .
.. "وذلك يدل على أن كل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبر فهو كما أخبر، وهو حق وصدق مطابق لما عند الله إجماعاً، فيجب التمسك به، لأنه من وحى الله تعالى إليه، وسواء علينا انبنى على هذا الوحي فى التكليف حكم أم لا، لا يفرق فى ذلك بين ما أخبر به الملك عن الله تعالى، وبين ما نفث فى روعة وألقى فى نفسه، أو رآه رؤية كشف واطلاع على مغيب على وجه خارق للعادة، أو اجتهد فى أمر أو نهى أو حكم وأقر عليه، فذلك معتبر يحتج به، ويبنى عليه فى الاعتقادات والأعمال جميعاً، لأنه صلى الله عليه وسلم، مؤيد بالعصمة فيما نقل إلينا من وحى الله تعالى" (1) . وقد قامت دلائل الكتاب والسنة على عصمته صلى الله عليه وسلم فى نقل هذا الوحي وتبليغه إلى الناس، وهذا هو مضمون المبحث الثانى فإلى بيان ذلك.
المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي
المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة ... إن مهمة الرسل الأولى التى كلفهم الله عز وجل بها إلى الأمم ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، هى التبليغ الذى أوجبه الله تعالى عليهم بمقتضى اصطفائهم للرسالة التى حملهم إياها، فيجب عليهم التبليغ، ويستحيل عليهم أى شئ يخل به ككتمان الرسالة، والكذب فى دعواها، وتصور الشيطان لهم فى صورة الملك وتلبيسه عليهم فى أول الرسالة وفيما بعدها، وسلطه على خواطرهم بالوساوس، لا على وجه العمد، ولا على وجه السهو، ولا فى حال الرضى أو السخط، والصحة أو المرض، ويجب على المسلمين اعتقاد ذلك فيهم. ... ولقد دلت نصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة على عصمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فى هذا الجانب، وانعقد إجماع الأمة على ذلك وقبل تفصيل ذلك، أرى لزاماً علىَّ بيان مجالات البلاغ الذى أمر الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم، وشهادة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بأداء واجب البلاغ على أكمل وجه. مجالات البلاغ الذى أمر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم: ... والبلاغ الذى أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم عام وشامل لكل ما تحتاج إليه البشرية فى عاجلها وآجلها، ودنياها وأخراها، سواء كان ذلك بوحى القرآن، أو وحى السنة، فشمل ذلك إبلاغ القرآن، وإبلاغ السنة، إذ كل ذلك مما أنزله الله عليه من أمر الدين، كما أفاد ذلك عموم الاسم الموصول (ما) فى الآية الكريمة: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (1) كما عمم من أراد تبليغهم حيث حذف المفعول الأول لبلغ، ليعم الخلق المرسل إليهم، والتقدير: بلغ جميع ما أنزل إليك من يحتاج إلى معرفته من أمر الدين الموحى به إليك" (2) .
.. وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك البلاغ كله على وجه الكمال والتمام من يوم أن أنزل الله تعالى الرسالة، وكلفه بالبلاغ، بصدر سورة المدثر، {يا أيها المدثر. قم فأنذر} (1) فإنه من حينئذ قام بإبلاغ القرآن، وإبلاغ السنة على حد سواء، لا يألو فى ذلك جهداً ولا يدخر وسعاً، حتى أتم الله له الدين وقمع به المشركين والمبطلين. تبليغه القرآن الكريم: ... أما تبليغه صلى الله عليه وسلم القرآن فقد قام بذلك استجابة لقوله تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً} (2) أى: لتبلغه الناس وتتلوه على مهل لتكون ألفاظه ومعانيه أثبت فى نفوس السامعين (3) . ... فقام بذلك حق القيام، فكانت له به عناية خاصة فى تعليمه وإذاعته ونشره، فهو يقرؤه لهم على مكث لو عده العاد لأحصاه، ترتيلاً كما أمر الله، ويسمعهم إياه فى الخطب، والصلاة، وفى الدروس والعظات والدعوة والإرشاد، وفى الفتوى والقضاء، ويدارسهم إياه فيسمع منهم ويسمعون منه، ومن لم يكن حاضراً لديه كأهل البلاد المختلفة، أرسل إليهم بعثات القراء ليعلموهم إياه ويفقهونهم به، كما هو معلوم من رسالته وسيرته وسننه (4) .
.. وقبل ذلك كله كان لا يكاد ينفك عنه الوحي حتى يقرأه على الناس ويدعو كتبة الوحي فيكتبوه ثم يحفظ فى بيته ليكون وثيقة لحفظه، وحفظ أصحابه كما هو مبين فى مظانه من كتب السنة والسيرة المشرفتين (1) . تبليغه صلى الله عليه وسلم للسنة الشريفة: ... وأما تبليغه صلى الله عليه وسلم للسنة، فما كان أقل شأناً من إبلاغ القرآن، بل كان مسايراً له فى كل أطوار البلاغ على حد سواء، لأن السنة هى: من الوحي الذى أنزل على النبى صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى} (2) وقال عز وجل: {وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} (3) . ... ولذلك كانت سنته صلى الله عليه وسلم واجبة الطاعة والامتثال ككلام الله تبارك وتعالى، كما ألزم الله تعالى بقوله: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (4) إلى غير من الآيات الكثيرة التى توجب طاعته صلى الله عليه وسلم كما توجب طاعة الله تبارك وتعالى (5) .
.. فلهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يعنى بإبلاغ السنة كما يعنى بإبلاغ القرآن، بل إن إبلاغه السنة كان أوسع دائرة من حيث إنه لا يمضى عليه حال من الأحوال، إلا وهو محتاج إلى أن يبين ما يستجد فيه من حكم أو موعظة أو قصة أو مثل، إذ القرآن يعنى بجوامع الأمور، وأصول التشريع، وقواعد الأحكام، ويتولى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان دقائق الأخبار وتفاصيل الأحوال فى كل الأحيان والأحوال، بل غالبه مجمل أوكل الله بيانه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (1) وقد كان عليه الصلاة والسلام يبين القرآن الكريم على الدوام، والدليل على هذا محسوس ملموس؛ إذ هذه سنته صلى الله عليه وسلم التى بلغت مئات الآلاف من الأحاديث، والمدونة فى دواوين السنة، لم تترك صغيرة ولا كبيرة من أمر الدين إلا وتناولتها بالتفصيل والبيان، حتى بلغ من بيانه صلى الله عليه وسلم، أن أخبر أصحابه بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. ... فعن عمرو بن أخطب الأنصارى رضى الله عنه (2) قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الفجر، وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان، وبما هو كائن إلى يوم القيامة، قال: فأعلمنا أحفظنا" (3) .
.. ومن هذا الحديث تعلم مدى تبليغه صلى الله عليه وسلم للسنة، حيث كان ذلك البيان كله فى مجلس واحد، فما بالك ببقية المجالس فى سائر الأيام؟!. ... ثم إنه صلى الله عليه وسلم لم يكتف بذلك، بل كلف كل من يسمع عنه شيئاً أن يبلغه إلى من وراءه ليعم بلاغه الأمة فى كل زمان ومكان، ليعملوا بما بلغهم من سنته فى كل ما كلف به بنو الإنسان من أمور الدين والدنيا. ... فقال عليه الصلاة والسلام: "بلغوا عنى ولو آية، وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج، ومن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (1) ورغبهم عليه الصلاة والسلام فى ذلك وشجعهم عليه بقوله: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" (2) . ... وهكذا أدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجب التبليغ تارة بالعبارة، وتارة بالكتابة، وتارة بالحث على إبلاغ من لم يبلغه، لا يألو جهداً، ولا يدخر وسعاً فى إيصال رسالة الله التى حملها إلى كل من يستطيع إيصالها إليه، تنفيذاً لواجب البلاغ الذى تحمله بمقتضى رسالته، وتنفيذاً لأوامر الله تعالى فى ذلك، كقوله سبحانه: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (3) فبلغ البلاغ المبين منذ أن بعثه الله تعالى إلى أن أتاه اليقين، وقد شهد له بالعصمة فى هذا البلاغ القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وإجماع الأمة، وإليك تفصيل تلك الشهادات.
أولا: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي
أولاً: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي من القرآن الكريم والعقل: ... جاءت آيات فى القرآن الكريم تثبت عصمته صلى الله عليه وسلم وصدقه فى كل ما يبلغ عن الله تعالى، وهذه الآيات تتضمن أيضاً أدلة عقلية على صدقه صلى الله عليه وسلم. من هذه الآيات ما يلى: أ- قول الله تعالى: {وصدق الله ورسوله} (1) وقوله سبحاه: {والذى جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} (2) والذى جاء بالصدق كما يدل عليه سياق هذه الآية هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد شهد لما جاء به من عنده سبحانه (قرآناً وسنة) سماه صدقاً، ويلزم من صدق ما أتى به، صدقه هو فى نفسه، إذ لا يأتى بالصدق إلا كامل الصدق، وذلك مما لا جدال فيه حيث كان صدقه معلوماً منذ حداثة سنه، وشهد له بذلك أعداؤه قبل أصدقائه، فإن الأعداء من الكفرة والمشركين لم يكونوا يشكون يوماً فى صدقه، كما قال عز وجل {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} (3) وكما كانوا يشهدون له بذلك فى مواقف مختلفة، تقدم ذكر بعضها (4) .
.. وإذا كانت الآيات السابقة شهادات حسية على صدقه فى كل ما يبلغ عن ربه، فهناك شهادات معنوية على صدقه صلى الله عليه وسلم تتمثل فى تأييد الله عز وجل له صلى الله عليه وسلم بالمعجزات المنزلة منزلة قوله عز وجل: "صدق عبدى فيما يبلغ عنى" ومن هذه المعجزات: القرآن الكريم، وانشقاق القمر، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، وتكثير الطعام، والإخبار بمغيبات كثيرة (1) وتأييده له بالنصر على الأعداء، على قلة جنده وضعف عدته فى معركة إثر معركة، ولقاء بعد لقاء، وكل ذلك منزل منزلة قول مرسله تبارك وتعالى: "صدق عبدى فيما يبلغ عنى". ... إذ أن تأييده بذلك كله، وهو يدعى أنه مرسل من عند ربه، وهو على مسمع من ربه سبحانه ومرأى، وهو جل شأنه لا يزال يؤيده بكل ذلك: دليل على كمال صدقه، وعصمته فى كل ما يبلغه من قرآن وسنة، إذ لو كان بخلاف ذلك لما أيده، ولفضح أمره للملأ، كما هى سنته سبحانه فيمن حاولوا الكذب عليه. ب- وقال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين} (2) . فهذه الآيات دليل صدقه وعصمته فى تبليغه الوحي (قرآناً وسنة) بدليل التمانع، فقد امتنع أخذه سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بتلك الصفة، لامتناع تقوله عليه، وامتناع التقول عليه يعنى الصدق والعصمة فيما يقول ويبلغ عن ربه. ... قلت: وفى الآيات دلالة على أن القرآن الكريم، والسنة المطهرة من عند الله تعالى وهو استدلال بما هو مقرر فى الأذهان، من أن الله عز وجل لا يقرر أحداً على أن يقول عنه كلاماً لم يقله.
.. أى: لو لم يكن القرآن والسنة منزلين من عندنا، ومحمد ادعى أنهما منا، لما أقررناه على ذلك، ولعجلنا بإهلاكه. فعدم هلاكه صلى الله عليه وسلم دال على أنه لم يقل على الله ما لم يقله عزوجل، لأن "لو" حرف امتناع، لامتناع، فامتنع ذلك من الله عز وجل، لامتناع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الأشياء. قال الحافظ ابن كثير: بعد أن فسر هذه الآيات: "والمعنى فى هذا بل هو صادق بار راشد، لأن الله عز وجل مقرر له ما يبلغه عنه، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات، والدلالات القاطعات" (1) . ... وبالجملة: فالآيات من جملة مدحه، ودليل عصمته فى البلاغ لوحى الله تعالى، إذ فيها القسم على تصديقه بجميع الموجودات، وأنه لا يمكنه الافتراء عليه (2) قال تعالى: {فلا أقسم بما تبصرون. ومالا تبصرون. إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون. ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون. تنزيل من رب العالمين} (3) . جـ- وقال سبحانه: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى} (4) فكلمة "ينطق" فى لسان العرب، تشمل كل ما يخرج من الشفتين قول أو لفظ (5) أى: ما يخرج نطقه صلى الله عليه وسلم عن رأيه، إنما هو بوحى من الله عز وجل (6) .
.. ولقد جاءت الآيتان بأسلوب القصر عن طريق النفى والاستثناء، والفعل إذا وقع فى سياق النفى دل على العموم، وهذا واضح فى إثبات أن كلامه صلى الله عليه وسلم محصور فى كونه وحياً لا يتكلم إلا به وليس بغيره (1) وفى هذا دليل واضح على عصمته صلى الله عليه وسلم، فى كل أمر بلغه عن ربه من كتاب وسنة، فهو لا ينطق إلا بما يوحى إليه من ربه، ولا يقول إلا ما أمر به فبلغه إلى الناس كاملاً من غير زيادة ولا نقصان، وهذه شهادة وتزكية من الله عز وجل لنبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم فى كل ما بلغه للناس من شرعه تعالى. د- وقال عز وجل: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً} (2) فهذه الآيات من جملة الآيات المادحة للمصطفى صلى الله عليه وسلم، والشهادة بعصمته فى كل ما يبلغ عن ربه عز وجل. وحكم "كاد" فى الآيات حكم سائر الأفعال، فمعناها: منفى إذا صحبها حرف نفى، وثابت إذا لم يصحبها، فإذا قيل كاد زيد يبكى، فمعناه: قارب البكاء، فمقاربة البكاء ثابتة، وإذا قيل: لم يكد يبكى، فمعناه: لم يقارب البكاء، فمقاربته منفية، ونفسه منتف انتفاء أبعد من انتفائه عند ثبوت المقاربة" (3) والشرط فى الآيات على فرض الإمكان، لا على فرض الوقوع، والمعنى: لولا ثبوت تثبيتنا إياك، لقد قاربت أن تميل إليهم شيئاً يسيراً من أدنى الميل، لكن امتنع قرب ميلك وهواك لوجود تثبيتنا إياك.
.. فتأمل كيف بدأ بثباته وسلامته بالعصمة، قبل ذكر ما عتبه عليه، وخيف أن يركن إليهم، على فرض الإمكان، لا على فرض الوقوع. وتأمل كيف جاء فى أثناء عتبه – إن كان ثم عتب – براءته، وفى طى تخويفه تأمينه وكرامته. ... وبالجملة: فسياق الآيات بين واضح فى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يركن إليهم أبداً، وإلا لأنزل الله به من العقوبة ما ذكره فى هذه الآيات، وحيث إن رسول الله لم يقع له شئ من ذلك، فلم يعذبه ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات، ولم يتخلى عنه طرفة عين، كما تشهد بذلك سيرته العطرة، دل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم، لم يتقول على ربه مالم يقله، ولم يفتر شيئاً من عند نفسه، وبهذا تثبت عصمته فى كل ما بلغه عن ربه من وحى الله تعالى قرآناً وسنة. قال القاضى عياض: "فى الآية دليل على أن الله تعالى امتن على رسوله بعصمته وتثبيته بما كاده به الكفار، وراموه من فتنته، ومرادنا من ذلك تنزيهه وعصمته صلى الله عليه وسلم وهو مفهوم الآية" (1) . هـ- وقال سبحانه: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً} (2) .
.. قال الإمام القسطلانى (1) : "يعنى: من أطاع الرسول لكونه رسولاً مبلغاً إلى الخلق أحكام الله فهو فى الحقيقة ما أطاع إلا الله… وهذه الآية من أقوى الأدلة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم فى جميع الأوامر والنواهى، وفى كل ما يبلغه عن الله، لأنه لو أخطأ فى شئ منها لم تكن طاعته طاعة لله، وأيضاً وجب أن يكون معصوماً فى جميع أحواله، لأنه تعالى أمر بمتابعته فى قوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (2) والمتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير، فثبت أن الانقياد له فى جميع أقواله وأفعاله، إلا ما خصه الدليل، طاعة له، وانقياد لحكم الله تعالى" (3) .
و ليس أدل على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تبليغ وحى ربه، من تبليغه حتى ما يمس جنابه العظيم، من العتاب الذى كان يوجهه الله تعالى إليه، كما هو مقتضى تأديب الله تعالى له صلى الله عليه وسلم الدال عليه ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود رضى الله يرفعه: "أدبنى ربى فأحسن تأديبى" (1) وذلك كما فى قوله جل شأنه: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم} (2) وقوله سبحانه: {وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} (3) إلى غير ذلك من آيات العتاب التى سبق ذكرها والجواب عما يشكل من ظاهرها فى عدم عصمته صلى الله عليه وسلم (4) .
.. فآيات العتاب فى القرآن الكريم ما كان ليتفوه النبى صلى الله عليه وسلم بها لولا كمال عصمته فى البلاغ وكمال أمانته فيه، لأن كتمان ذلك فى نظر العقول البشرية ستر على النفس الشريفة، واستيفاء لحرمة آرائه، ولكنه الوحي لا يستطيع كتمانه، ولذلك قال أنس بن مالك رضى الله عنه: "لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً، لكتم هذه الآية {وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} (1) وعن عائشة رضى الله عنها قالت: "من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل عليه فقد كذب، والله يقول: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (2) ولقد صدق أنس، وصدقت عائشة رضى الله عنهما، وبرا، فما أدق استنباطهما فى الدلالة على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بلاغه وحى الله إلى الناس!.
ز- وقال تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} (1) ففى هذه الآية الكريمة يزكى رب العزة نبيه، ويشهد له بالعصمة فى بلاغ الوحي، فقوله "بضنين" قرأت بالظاء، أى: ما هو على ما يخبر به من الوحي إليه، وغيره من الغيوب، بمتهم، وقرأت بالضاد "بضنين" من الضن: وهو البخل، أى: لا يبخل بالتعليم والتبليغ (2) بل يبذله لكل أحد، كما قال قتادة: كان القرآن غيباً، فأنزله الله تعالى على محمد، فما ضن به على الناس، بل نشره وبلغه، وبذله لكل من أراده، قال الحفاظ ابن كثير: وكلاهما متواتر، ومعناه صحيح (3) . ح- وقال سبحانه: {فتول عنهم فما أنت بملوم} (4) فهذه شهادة من رب العزة لنبيه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ المبين وعصمته فيه، حيث أباح لنبيه الإعراض عن المشركين، وأخبر أنه غير ملوم فى إعراضه عنهم، وما ذاك إلا لأنه أدى لهم الرسالة، وبذل معهم غاية الجهد، بحيث إنهم اعترفوا بذلك فى قولهم كما حكاه رب العزة عنهم: {أهذا الذى بعث الله رسولا إن كان ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} (5) . ... قال الإمام الزمخشرى: "قولهم إن كاد ليضلنا دليل على فرض مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى دعوتهم، وبذل قصارى الوسع والطاقة فى استعطافهم، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم، حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم، واستمساكهم بعبادة آلهتهم" (6) .
.. وبعد: فهذه شهادات من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بعصمته فى أداء واجب البلاغ على أكمل وجه (وكفى بالله شهيداً) ولم يكتف عز وجل لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الشهادات، بل لقد أضاف إليها شهادة أخرى بأسلوب آخر، حيث قال جل شأنه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً} (1) فإن كمال الدين لا يكون إلا بالتبليغ لجميع أحكامه، وما أوحى الله إليه من كتاب وسنة، وعصمته فى هذا البلاغ.
.. ومع ما شهد الله له بالعصمة فى بلاغ الوحي، فإنه عليه الصلاة والسلام أحب أن تشهد له أمته بذلك فاستنطقها بذلك فى أعظم المحافل، وذلك فى يوم عرفه فى حجة الوداع، حيث قال لهم فى خطبته العظيمة ذلك اليوم: "وأنتم تسالون عنى، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات" (1) فشهد له خير قرون هذه الأمة وهم صحابته رضوان الله عليهم (2) وفى حديث سمرة بن جندب رضى الله عنه (3) فى قصة الكسوف قال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، إنما أنا بشر، ورسول الله، فأذكركم الله إن كنتم تعلمون إنى قصرت عن شئ من تبليغ رسالات ربى لما أخبرتمونى! قال: فقام الناس فقالوا: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، وقضيت الذى عليك" (4) . ... فهكذا كانت سناء أخلاقه صلى الله عليه وسلم العظيمة تحمله على أن يتحسس من أصحابه أن يخبروه إن وجدوا منه صلى الله عليه وسلم تقصيراً فى واجب البلاغ، وذلك لكمال خشيته لله عز وجل وأمانته فيما اؤتمن عليه، وإلا فإنه يعلم أنه المعصوم عن ذلك، فإن كان جانب البشرية منه يجوز له التقصير، فإن واجب العصمة تمنعه منه، ويدفعه إلى كمال البلاغ.
ثانيا: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي
ثانياً: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي من خلال السنة المطهرة والسيرة العطرة: ... الدلائل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل ما يخبر به عن الله تعالى من الوحي وعصمته فيه من خلال السنة والسيرة كثيرة منها: أ- حاله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، فصدقه عليه الصلاة والسلام مع الناس دليل على صدقه فيما يخبر به عن ربه؛ إذ لا يترك إنسان الكذب على الناس ثم يكذب على الله تعالى. ... وهذا القياس العقلى قد استخدمه هرقل، وهو يسأل أبا سفيان بن حرب أثناء رحلة تجارية بالشام، عن أحوال النبى صلى الله عليه وسلم وصفاته فكان مما سأل عنه: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان، قلت: لا. (فاستخلص هرقل النتيجة المنطقية لهذا، وهى أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق فى دعواه الرسالة، وفى كل ما يخبر به عن الله تعالى) قائلاً: إنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله (1) . وقد شهد له صلى الله عليه وسلم بالصدق، الأعداء والأصدقاء على السواء. ... فمن شهادات الأعداء ما يلى: عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (2) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً!! وفى رواية: ما جربنا عليك كذباً!! قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد" (3) .
هكذا يعترف له قومه أجمعون بالصدق، وعدم عثورهم على ما يناقض هذا الخلق منه، وهم وإن لم يكونوا قد ناصبوه العداء آنذاك، إلا أن هذه الشهادة وغيرها ظلت قائمة لا ينازعون فيها، ولم يسحبوها حينما جاهرهم بالدعوة وناصبوه العداء، وقد حرصوا بعد ذلك على صد الناس عن الإيمان كل الحرص، وبذلوا كل جهد، غير أنهم لم يقدروا أن ينالوا من صدقه وأمانته وعفافه.. حتى قال أبو طالب فى لاميته المشهورة التى قالها إبان المقاطعة التى ضربوها عليه وعلى قومه بنى هاشم، لعدم كفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعوته، أو تخليهم عنه، قال لهم مذكراً بحاله وأخلاقه: لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... *** ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل (1) . ... فهم يعلمون هذه الحقيقة حقا، ولكن تعاموا عنها، وأعماهم الباطل والكبر والعناد، كما قال الله تعالى: {وجحدوا بها واستيقانتها أنفسهم ظلماً وعلوّاً} (2) وكما قال عز وجل: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} (3) ومما روى فى ذلك تفسيراً للآية الأخيرة. أن الأخنس بن شريف سأل أبو جهل، وقد خلا كل منهما بالآخر يوم بدر، فقال: يا أبا الحكم، أخبرنى عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش أحد غيرى وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك، والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذ ذهب بنو قصى باللواء، والحجابة، والسقاية، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله تعالى: {فإنم يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} : قال: "فآيات الله يا محمد: محمد صلى الله عليه وسلم" (4) .
وعن على بن أبى طالب قال: قال أبو جهل للنبى صلى الله عليه وسلم، قد نعلم يا محمد أنك تصل الرحم وتصدق الحديث، ولا نكذبك ولكن نكذب الذى جئت به، فأنزل الله عز وجل: {قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} (1) . ومن شهادات الأعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق، شهادة أمية بن خلف عندما قال له سعد بن معاذ، إنى سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك قال: إياى؟ قال: نعم. قال: والله ما يكذب محمد إذا حدث، وقد تحقق ذلك يوم بدر حيث اشترك فى الغزوة، ورآه المسلمون فقتلوه شر قتلة (2) .
ومن ذلك أيضاً شهادة النضر بن الحارث فى قوله: "يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، ولقد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم عقلاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغيه (1) الشيب، وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحراً! لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن! لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وحالهم، وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر! لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه وقريضه، وقلتم: مجنون! لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، ثم قال لهم، يا معشر قريش، انظروا فى شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم" (2) فهذا كلام النضر بن الحارث الذى كان من شيطاناً من شياطين قريش، وممن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة. وكذا قال غيره كلاماً نحو ذلك من إثبات صدق النبى صلى الله عليه وسلم، وكماله الخلقى والخلقى، كالوليد بن المغيرة (3) وعتبة بن ربيعة (4) وغيرهما. ومن شهادات الصحابة رضى الله عنهم بصدقه صلى الله عليه وسلم ما يلى: 1- قول خديجة رضى الله عنها فى قصة بدء الوحي، حيث قالت له صلى الله عليه وسلم وهى الخبيرة به: "كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق" (5) .
.. فهذه شهادة من خبر أخلاقه وسبر أحواله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبئك مثل خبير، ولذلك كانت مثل هذه الشهادات على صدقه صلى الله عليه وسلم من أقرب الناس إليه تعد من أبلغ الدلائل على صدق دعواه صلى الله عليه وسلم الرسالة، وعصمته فى بلاغ الوحي، وكانت تلك الشهادات محل ثقة أعدائه. ... قال الكتاب المستشرق الإنجليزى (هـ جى ويلز) : "إن من أرفع الأدلة على صدق محمد كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكوا فى صدقه لما آمنوا به" (1) . 2- ومن أقوال الصحابة رضى الله عنهم عن صدقه صلى الله عليه وسلم وعصمته فى بلاغ الوحي، ما كان يعبر عنه ابن مسعود رضى الله عنه بقوله: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك… الحديث" (2) . 3- وكذا كان يقول أبو هريرة رضى الله عنه، كقوله: "سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، صاحب هذه الحجرة يقول: "لا تنزع الرحمة إلا من شقى" (3) .
4- وكذلك ما كان من أبى بكر رضى الله عنه من التصديق الكامل بكل ما يقوله النبى صلى الله عليه وسلم منذ أول دعوته، حتى شهد له بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن الله بعثنى إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواسانى بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لى صاحبى؟ مرتين…" (1) . ... وبالجملة: فقد كانت هيئته صلى الله عليه وسلم تدل على مبلغ مكانته من الصدق، ودليلاً كافياً على صدق دعواه الرسالة، وعصمته فى كل ما يبلغه من وحى الله عز وجل، يعرفه بذلك كل من صفت فكرته، وتجرد عن الأنانية كما كان من الحبر عبد الله بن سلام رضى الله عنه (2) فإنه ما إن رآه عند مقدمة المدينة حتى استيقن صدقه كما قال: "لما قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل (3) الناس إليه، وقيل قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت فى الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شئ تكلم
به أن قال: "أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام" (1) . ... فلم يسعه بعد ذلك غير أن يعلن إسلامه، ويتبرأ من كيد يهود وعنادهم ففعل ذلك مقتنعاً مختاراً، ولقد أجاد عبد الله بن رواحة رضى الله عنه حيث قال: لو لم تكن فيه آيات مبينة ... *** ... لكان منظره ينبيك بالخبر (2) . ... فانظر إلى حكاية الصحابة رضى الله عنهم عن صدقه صلى الله عليه وسلم حيث يسمونه بالصادق المصدوق، أى الصادق فى نفسه، المصدوق أى المعصوم فيما يجئ به عن ربه عز وجل، ويرون صدقه وعصمته ينبئ عنه مظهره وجواره، قبل أن تنبئ عنه أقواله. ب- من دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى نقل الوحي، ما ثبت من أخباره وآثاره، وسيره وشمائله، المعتنى بها، المستوفاة تفاصيلها، ولم يرد فى شئ منها تداركه صلى الله عليه وسلم لخبر صدر عنه، رجوعاً عن كذبة كذبها أو اعترافاً بخلف فى خبر أخبر به، ولو وقع منه شئ من ذلك لنقل إلينا. وإن الصحابة رضوان الله عليهم قد اتفقوا على أنه لم يصدر عن النبى خبر بخلاف الواقع فى أى أمر من الأمور، ولم يتثبتوا عن حاله عند ذلك، هل وقع فيها سهواً أم لا، ولم يتوقفوا حتى يتأكدوا إن كان ذلك جداً أو هزلاً، لأنه عليه الصلاة والسلام صادق معصوم فى كل ذلك عندهم، كل الصدق، وكل العصمة.
.. قال القاضى عياض: "ودليل ذلك اتفاق السلف، وإجماعهم عليه، وذلك أنا نعلم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أقواله، والثقة بجميع أخباره فى أى باب كانت، وعن أى شئ وقعت، وأنه لم يكن لهم توقف، ولا تردد فى شئ منها ولا استثبات عن حاله عند ذلك، هل وقع فيها سهو أم لا" (1) وقد استدل على ذلك بما جرى لسيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، مع ابن أبى الحقيق اليهودى، حين أجلاهم من خيبر، حيث احتج عليه عمر رضى الله عنه، بقوله صلى الله عليه وسلم: "كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة؟! " فقال اليهودى: كانت هذه هزيلة من أبى القاسم صلى الله عليه وسلم فقال له عمر: كذبت يا عدو الله! فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك" (2) . ... قلت: فثبت عن يقين عصمته صلى الله عليه وسلم فى بلاغ وحى الله من كتاب وسنة إلى الناس، ولا يجوز عليه خلف فيما أخبر به من الوحي، لا بقصد، ولا بغير قصد، ولا فى حال الجد والهزل، ولا فى حال الصحة والمرض أو أى حال كان. جـ- ومما يشهد بعصمته صلى الله عليه وسلم فى بلاغ الوحي، وأنه لا يقول إلا حقاً سواء فى الرضى والغضب، والصحة والمرض "فترة الوحي فى قصة الإفك" لقد كانت تنزل برسول الله صلى الله عليه وسلم نوازل من شأنها أن تحفزه إلى القول، وكانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم بحيث لو كان الأمر إليه، لوجد له مقالاً ومجالاً، ولكنه كانت تمضى الليالى والأيام تتبعها الليالى والأيام، ولا يجد فى شأنها وحياً من قرآن أو سنة يقرؤه على الناس.
.. ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة رضى الله عنها، وأبطأ الوحي، وطال الأمر والناس يخوضون، حتى بلغت القلوب الحناجر، وهو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس: "إنى لا أعلم عنها إلا خيراً" ثم إنه بعد أن بذل جهده فى التحرى والسؤال، واستشارة الأصحاب، ومضى شهر بأكمله، والكل يقولون ما علمنا عليها من سوء، لم يزد على أن قال آخر الأمر: "يا عائشة، أما إنه بلغنى كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله" (1) . ... هذا كلامه صلى الله عليه وسلم بوحى ضميره، وهو كما ترى كلام البشر الذى لا يعلم الغيب إلا بوحى ربه، وكلام الصديق المتثبت الذى لا يتبع الظن، ولا يقول ما ليس له به علم. ... على أنه صلى الله عليه وسلم، لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلناً براءتها، ومصدراً الحكم المبرم بشرفها وطهارتها. فماذا كان يمنعه، لو أن أمر الوحي إليه، أن يتقول هذه الكلمة الحاسمة من قبل، ليحمى بها عرضه، ويذب بها عن عرينه، وينسبها إلى الوحي الإلهى لتنقطع ألسنة المتخرصين؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، قال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين} (2) .
د- هذا حاله صلى الله عليه وسلم فى أفعاله يشهد بصدقه وعصمته فى كل ما يبلغ عن ربه عز وجل، ومن أقواله صلى الله عليه وسلم على عصمته فى بلاغ وحى الله عز وجل من كتاب وسنة ما يلى: حديث طلحة بن عبيد الله رضى الله عنه وجاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله" (1) والحديث نص على عصمته صلى الله عليه وسلم من الكذب فيما يخبر به عن الله تعالى. حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال: كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتنى قريش وقالوا: أتكتب كل شئ تسمعه؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم فى الغضب والرضى؟! قال: فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: "أكتب فواللذى نفسى بيده ما يخرج منه إلا الحق" (2) . حديث أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنى لا أقول إلا حقاً" قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله. قال: "إنى لا أقول إلا حقاً" (3) .
ثالثا: من دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي، إجماع الأمة:
ثالثاً: من دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي، إجماع الأمة: ... أجمع أهل الملل والشرائع كلها على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أى شئ يخل بالتبليغ، فلا يجوز عليهم التحريف، ولا الكذب قليلة وكثيرة، سهوه وعمده، فكل هذا مما ينزه عنه منصب النبوة، وإلا لم يبق الاعتماد على شئ من الشرائع، ولما تميز لنا الغلط والسهو من غيره، ولاختلط الحق بالباطل، واستدلوا لذلك بأنه لو جاز عليهم التقول والافتراء فى ذلك عقلاً، لأدى إلى إبطال المعجزة القاطعة بصدقهم؛ وإبطال المعجزة محال، فالكذب فى التبليغ وعدم العصمة فيه، محال أيضاً (1) . ... يقول القاضى عياض: "قامت الدلائل الواضحة بصحة المعجزة على صدقه صلى الله عليه وسلم وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار بشئ منها بخلاف ما هو به (2) والكلام هنا ليس خاصاً بالنبى صلى الله عليه وسلم، بل وغيره من الأنبياء كذلك، إذ لا فرق بينهم فى واجب التبليغ.
.. واستدل القاضى على ذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص السابق ذكره قريباً، ثم قال: فإذا قامت المعجزة على صدقه وأنه لا يقول إلا حقاً، ولا يبلغ عن الله تعالى إلا صدقاً، وأن المعجزة قائمة مقام قول الله له: صدقت فيما تذكر عنى، وهو يقول: إنى رسول الله إليكم، لأبلغكم ما أرسلت به إليكم، وأبين لكم ما نزل عليكم، فلا يصح أن يوجد منه فى هذا الباب خبر بخلاف مخبره على أى وجه كان، قال: فلو جوزنا عليه الغلط والسهو فى بلاغ الوحي، لما تميز لنا الغلط والسهو من غيره، ولاختلط الحق بالباطل، فالمعجزة مشتملة على تصديقه جملة واحدة من غير خصوص، فتنزيه النبى صلى الله عليه وسلم، عن ذلك كله واجب برهاناً وإجماعاً" (1) . ... وبعد: إذا تقرر لك هنا فى هذا الفصل، عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي، من خلال القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، وإجماع الأمة، فقد حان الوقت لبيان شبه الطاعنين فى الوحي الإلهى من أعداء الإسلام، وأعداء السنة المطهرة والرد عليها، فإلى بيان ذلك فى الفصل التالى.
الفصل الثانى: شبه الطاعنين فى الوحي الإلهى والرد عليها
الفصل الثانى: شبه الطاعنين فى الوحي الإلهى والرد عليها ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: شبهات أعداء الإسلام من المستشرقين حول الوحي الإلهى والرد عليها ويشتمل على تمهيد وأربعة مطالب: ... المطلب الأول: شبهة الوحي النفسى والرد عليها. ... المطلب الثانى: شبهة أن الوحي عبارة عن أمراض نفسية وعقلية والرد عليها. ... المطلب الثالث: شبهة أن الوحي مقتبس من اليهودية والنصرانية والرد عليها. ... المطلب الرابع: فرية الغرانيق والرد عليها. المبحث الثانى: شبهات أعداء السنة المطهرة حول الوحي الإلهى والرد عليها ويشتمل على تمهيد وأربعة مطالب: المطلب الأول: شبهة أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاصرة على بلاغ القرآن فقط والرد عليها. ... المطلب الثانى: شبهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليست له سنة نبوية والرد عليها. المطلب الثالث: شبهة أنه لا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا فى القرآن فقط والرد عليها. ... المطلب الرابع: شبهة أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليه وشرك والرد عليها. المبحث الأول: شبهات أعداء الإسلام من المستشرقين حول الوحي الإلهى والرد عليها تمهيد: ... إن من أهم الأمور، بل من أعظمها خطراً أمر الوحي والنبوة، الذى أطلق المستشرقون لعقولهم الأعنة بالخوض والطعن فيه مستهدفين بذلك الإسلام كله، لأنهم يعلمون أن القدح فى نبوته صلى الله عليه وسلم، والنيل منها يؤدى إلى انهيار صرح الإسلام، إذ الوحي هو الأساس الذى ينبنى عليه الدين، فإذا فقد، فقد الدين. ... ومن هنا كثفوا حملاتهم، وزادوا هجماتهم، يحملهم الحقد، وتدفعهم البغضاء، والعداء السافر، يصدرون عن أحكام مغرضة، وأقوال جائرة، مجافين طرق البحث العلمى النزيه: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} (1) .
.. لقد كان عدم التصدى بنبوته صلى الله عليه وسلم هو القاعدة التى انطلقوا منها فى بث كل شكوكهم ومطاعنهم فى بقية جوانب الإسلام. ولقد ركز المستشرقون جل جهودهم فى التشكيك فى الوحي إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فى الوقت الذى يوقنون فيه بصدق وقوعه لغيره من الأنبياء السابقين، وهم بذلك لا يدرون أنهم يخربون بيوتهم، قبل أن يخربوا بيوت غيرهم، إذ الوحي إلى النبى محمد صلى الله عليه وسلم، لا يختلف فى شئ عن الوحي إلى غيره من الأنبياء السابقين من حيث الوقوع!. ... والمستشرقون فى بذلهم قصارى جهدهم لنفى الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحاولون نفى العصمة وسلبها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزعمون بأن ما جاء به نتاج بشرى، وليس من عند الله تعالى، ولذا حاولوا أن يفسروا الوحي وكيفياته، تفسيراً يؤدى بهم إلى هذا الزعم الجائر، والضلال المبين؛ ولكن الباطل مهما لمع بريقه، وتكاتف من ورائه أناس على تقويته، إلا أنه سرعان ما يخفت هذا اللمعان، ولا يجنى أصحاب هذا الباطل، من وراء باطلهم إلا الخيبة والخسران، علماً بأن ما أثاروه من شبه لا يعدو فى حقيقته، كونه فتات موائد الجاهلية الأولى، فهم لم يستحدثوا هذه الشبه، وليس لهم فيها من عمل إلا إثارتها مجدداً، وصدق رب العزة: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} (1) وقال عز وجل: {أتواصوا به بل هم قوم طاغون} (2) . ورغم أن شبهات أعداء الإسلام من المستشرقين حول الوحي الإلهى، مردود عليها فى القديم والحديث، من علماء أجلاء - جزاهم الله خيراً إلا أنى لم أر بأساً بذكر عمدة هذه الشبهات، التى طعنوا بها فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أنزل عليه من الوحي، وإظاهر الردود عليها. ... فإلى بيان ذلك فى المطالب التالية.
المطلب الأول: شبهة الوحي النفسى والرد عليه
المطلب الأول: شبهة الوحي النفسى والرد عليه ... زعم بعض المستشرقين أن الوحي الذى جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر ذاتى من داخل نفسه الصافية، وخياله الواسع، وعقله المتوقد الذى أدرك به الحق من الباطل، والحسن من القبيح، والخير من الشر. هذا فى الوقت الذى يصف فيه بعضهم على ما سيأتى فى الشبهة التالية الحالة التى كانت تعترى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تلقى الوحي بحالة الصرع. فكيف يجتمع الصرع مع النفس الصافية، والخيال الواسع، والعقل المتوقد ذكاءً؟!.
.. يقول المستشرق بروكلمان (1) مصوراً لنا الوحي النفسى الذى يزعمه هو ومن قال بقوله: "بينما كان بعض معاصرى النبى، كأمية بن أبى الصلت (2) ، شاعر الطائف، وهى بلدة بحذاء مكة، يكتفون بوحدانية عامة، كان محمد يأخذ بأسباب التحنث (3) والتنسك (4) ويسترسل فى تأملاته حول خلاصة الروحى، ليالى بطولها فى غار حراء (5) قرب مكة لقد تحقق عنده أن عقيدة مواطنيه الوثنية فاسدة فارغة، فكان يضج فى نفسه هذا السؤال، إلى متى يمدهم الله فى ضلالهم، مادام هو عز وجل قد تجلى، آخر الأمر، للشعوب الأخرى بواسطة أنبيائه؟ وهكذا نضجت فى نفسه الفكرة أنه مدعو إلى أداء هذه الرسالة، رسالة النبوة،
ولكن حياءه الفطرى حال بينه وبين إعلان نبوته فترة غير قصيرة، ولم تتبد شكوكه إلا بعد أن خضع لإحدى الخبرات الخارقة فى غار حراء. ذلك بأن طائفاً تجلى له هنالك يوماً، هو الملك جبريل، على ما تمثله محمد فى ما بعد، فأوحى إليه أن الله قد اختاره لهداية الأمة، وآمنت زوجه فى الحال برسالته المقدسة، وتحرر هو نفسه من آخر شكوكه بعد أن تكررت الحالات التى ناداه فيها الصوت الإلهى وتكاثرت. ولم تكد هذه الحالات تنقضى حتى أعلن ما ظن أنه قد سمعه كوحى من عند الله" (1) . ... وبالتأمل فى هذه المزاعم، ترى أنها مع طعنها فى الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تطعن فى عصمته فيما بلغه من الوحي عن ربه عز وجل. ... ويجاب عن هذه المزاعم بما يلى: أولاً: هذا الذى يروجه الملحدون اليوم باسم – الوحي النفسى – زاعمين أنهم بهذه التسمية، قد جاءونا برأى علمى جديد، وما هو بجديد، وإنما هو الرأى الجاهلى القديم، لا يختلف فى جملته ولا فى تفصيله، فقد صور أهل الجاهلية من قبل، النبى صلى الله عليه وسلم، رجلاً ذا خيال واسع وإحساس عميق، فهو إذن شاعر، ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيراً على حواسه، حتى يخيل إليه أنه يرى ويسمع شخصاً يكلمه؛ وما ذاك الذى يراه ويسمعه إلا صورة أخليته ووجد آناته، فهو إذن الجنون أو أضغاث الأحلام؛ فأى جديد ترى فى هذا كله؟ أليس كله حديثاً معاداً يضاهئون به قول جهال قريش؟! وهكذا كان الإحاد فى ثوبه الجديد صورة منسوخة بل ممسوخة منه فى قديمه (2) .
ثانياً: إن صورة الوحي النفسى كما صوروه مبنية على وجود معلومات وأفكار مدخرة فى العقل الباطن، وأنها تظهر فى صورة رؤى ثم تقوى فيخيل لصاحبها أنها حقائق خارجية. ... وإنى أتساءل: هل كان الدين الذى جاء به خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام بعقائده وتشريعاته فى العبادات والمعاملات، والحدود، والجنايات، والاقتصاد، والسياسة، والأخلاق والآداب، وأحوال السلم والحرب، مركوزاً أو مدخراً فى نفسه صلى الله عليه وسلم؟!. ... هذا ما تنكره العقول بداهة، لأن ما جاء به صلى الله عليه وسلم وما بلغه من وحى الله فى العقائد: يعتبر مناقضاً لكل ما كان سائداً فى العالم حينئذ، من عقائد، كالوثنية، والمجوسية، والتأليه، والتثليث، والصلب، وإنكار البعث، واليوم الآخر، وكذلك جاء النبى صلى الله عليه وسلم بتشريعات ما عرفت فى الشرائع السابقة سماوية، وغير سماوية. ... واشتمل الوحي الإلهى الذى بلغه المصطفى صلى الله عليه وسلم سواء قرآناً أو سنة، على أسرار فى الكون والأنفس والآفات، ما كانت تخطر على بال بشر قط ولم يظهر تأويلها إلا بعد تقدم العلوم والمعارف فى العصر الأخير، فكيف تكون هذه الأسرار من داخل نفس النبى صلى الله عليه وسلم، وهى لم تخطر له على بال (1) . ثالثاً: ليس كل ما فى الوحي الإلهى (قرآناً وسنة) مما يستنبطه العقل والتفكير ومما يدركه الوجدان والشعور. ... ففى الوحي جانب كبير من المعانى النقلية البحتة التى لا مجال فيها للذكاء والاستنباط، ولا سبيل إلى علمها لمن غاب عنها إلا بالدراسة والتلقى والتعليم، أو المعاصرة. ... ومن هذه الجوانب. ما جاء فى الكتاب والسنة، من أنباء ما قد سبق، وما فصله من تلك الأنباء، على وجهه الصحيح كما وقع؟.
.. أيقولون إن التاريخ يمكن وضعه – أيضاً – بإعمال الفكر، ودقة الفراسة؟ أم يخرجون إلى المكابرة العظمى فيقولون: إن محمداً قد عاصر تلك الأمم الخالية، وتنقل فيها قرناً قرناً، فشهد هذه الوقائع مع أهلها شهادة عيان أو أنه ورث كتب الأولين، فعكف على دراستها حتى أصبح من الراسخين فى علم دقائقها؟. ... إنهم لا يسعهم أن يقولوا هذا ولا ذاك، لأنهم معترفون مع العالم كله بأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من أولئك ولا هؤلاء. قال تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} (1) . وقال سبحانه: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} (2) . ... فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كان رجلاً أمياً، نشأ بين قوم أميين أربعين سنة من عمره، لم تظهر عليه فيها أمارات من علوم ومعارف تقارب ما جاء به القرآن والسنة، ثم يطلع علينا بين عشية وضحها فيكلمنا بما لا عهد له به، ويبدى لنا من أخبار تلك القرون الأولى ما أخفاه أهل العلم فى كتبهم، وحجبوه عن الناس. أفى مثل هذا يقول الجاهلون إنه استوحى عقله واستلهم ضميره؟. رابعاً: لقد بين الله تعالى، أن الوحي أمر خارج عن نفس النبى صلى الله عليه وسلم وليس نابعاً من داخلها، بل حمله جبريل عليه السلام من عند الله إليه، كما قال سبحانه: {وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربى مبين} (3) .
.. فحامل الوحي ملك منفصل عن ذات محمد صلى الله عليه وسلم، ليس خيالاً فيها، وله من الصفات ما بينها الله فى قوله: {إنه لقول رسول كريم. ذى قوة عند ذى العرش مكين. مطاع ثم أمين. وما صاحبكم بمجنون. ولقد رآه بالأفق المبين. وما هو على الغيب بضنين. وما هو بقول شيطان رجيم} (1) . خامساً: إن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن يستشرف النبوة، وما كان يرجوها، ولم يطمع فى حصولها له، بل لم يرد فى الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم، يرجو أن يكون هو النبى المنتظر الذى يتحدث عنه علماء اليهود والنصارى قبل البعثة، ولو ثبت ذلك عنه لما ترك المحدثون تدوينه، وقد دونوا ذلك عن أمية بن أبى الصلت، لما كان يتوقع أن يكون نبياً. ... وقد جاء فى القرآن نفى ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، فى قوله تعالى: {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك} (2) فما كان صلى الله عليه وسلم يظن أن الوحي قبل إنزاله عليه، ينزل عليه، وإنما أنزله الله رحمة به وبالعباد، فهو نعمة من الله وفضل (3) . ... وأما اختلاؤه صلى الله عليه وسلم وتعبده فى الغار عام الوحي، فلا شك فى أنه كان بقدر الله تعالى ومقويا مقوياً لذلك الاستعداد الوهبى، وعصمة ربه له بالعزلة وعدم مشاركة المشركين فى شئ من عباداتهم ولا عاداتهم، ولكنه لم يكن يقصد به الاستعداد للنبوة، لأنه لو كان لأجلها لاعتقد حين رأى الملك أو عقب رؤيته حصول مأموله، وتحقق رجائه، ولم يخف منه على نفسه!.
.. وإنما كان الباعث لهذا الاختلاء والتحنث، اشتداد الوحشة من سوء حال الناس فى عقائدهم وأخلاقهم، والهرب منها، إلى الإنس بالله تعالى والرجاء فى هدايته إلى المخرج منها (1) . سادساً: إن الوحي الذى حدث للنبى صلى الله عليه وسلم هو حدث إلزامى فجائى طارئ لا يمكن إحضاره واجتلابه، وبالتالى لا يمكن دفعه ورده. ... ومن أوضح الأدلة على ذلك، ما يعتريه من أعراض جسدية لا سيطرة له عليها، كاحمرار وجهه، وتتابع أنفاسه، وسماع غطيط منه، وما يتقاطر منه من عرق فى اليوم الشديد البرد، وثقل جسمه، وما يسمعه الصحابة عند وجهه من صوت كدوى النحل، وقد سبق ذكر الأحاديث الدالة على ذلك (2) . ... ومما يدل على ذلك أيضاً، ما انتابه صلى الله عليه وسلم من أحوال نفسية تمثلت فى خوفه من ملك الوحي فى مبدأ أمره، كما جاء فى قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد خشيت على نفسى" وقوله: "زملونى زملونى، حتى ذهب عنه الروع" (3) وفى رواية قال: "فإذا الذى جاءنى بحراء جالساً على كرسى بين السماء والأرض، فجئثت منه رعباً" (4) . ... وهذه الأعراض والشدائد كانت لا تعتريه صلى الله عليه وسلم إلا فى فترات وجيزة وبرهات متقطعة، وذلك عند نزول الوحي عليه. ... والدليل على أنه صلى الله عليه وسلم، لا قدرة له على إحضار الوحي وجلبه، فتور الوحي، وانقطاعه عنه، فترة من الزمن حتى شق ذلك عليه وأحزنه، وأقض مضجعه، ثم جاءه جبريل بعد ذلك بقوله تعالى: {والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى} (5) .
.. ومن ذلك ما روى عندما أبطأ جبريل عليه السلام، فى النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نزل (1) فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا جبريل! ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزرنا؟ فنزلت: {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا} (2) ومن ذلك أيضاً، فترة الوحي فى قصة الإفك، على ما سبق شرحه فى عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي (3) . سابعاً: النبوة ليست أمراً كسبياً يناله المرء بسعيه وكسبه، ولا تخضع لجهد فكرى، أو ترقى روحى وأخلاقى، ولا تنال بالقيم الدنيوية، ولا الاعتبارات المادية، فليست باباً مفتوحاً يلج من خلاله من سمت نفسه، أو عظم إشراقه، بل هى اصطفاء إلهى يختص به من يشاء من عباده. قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} (4) وقال سبحانه: {والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} (5) وقد حكى الله عن المشركين عندما قالوا: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} (6) أجابهم رب العزة بقوله: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون} (7) .
.. وقد جعل الله تعالى النبوة فى محمد صلى الله عليه وسلم، كما جعلها فى الرسل قبله، واصطفاه لذلك؛ فأى غرابة وعجب فى ذلك؟. إن قدح بروكلمان ومن شايعه فى إثبات الوحي لمحمد صلى الله عليه وسلم، وعصمته فيما بلغ، هو قدح فى ديانته وفى رسوله الذى يؤمن به، فما قاله هنالك فى إثبات الوحي، يلزمه أن يقوله هنا، إذ لا فارق بين الوحيين (1) ولكن لعل بروكلمان يرى كما يرى غيره من أهل ملته، أن الوحي هو حلول روح الله فى روح الموحى إليه. ولأجل ذلك ألهوا رسولهم، وهذا تعريف خاطئ للوحى، وقول فاسد، بل هو كفر وإلحاد، فالله لا يحل فى غيره، ولا يحل فيه غيره (2) . وهكذا ترى أن ما زعموه من فرية الوحي النفسى، إن هذا إلا اختلاق كان مبعثه الحقد على الإسلام والمسلمين وإرادة إبطال عصمته صلى الله عليه وسلم فيما بلغ من الوحي ولكن {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} (3) أهـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
المطلب الثانى: شبهة أن الوحي عبارة عن أمراض نفسية وعقلية
المطلب الثانى: شبهة أن الوحي عبارة عن أمراض نفسية وعقلية والرد عليها ... زعم بعض المستشرقين أن النبى صلى الله عليه وسلم، كان مصاباً ببعض الأمراض العقلية النفسية التى أثرت عليه تأثيراً بالغاً ونتج من ذلك ما ادعى أنه وحى من الله. ... قال جولد تسيهر (1) : "وفى خلال النصف الأول من حياته اضطرته مشاغله إلى الاتصال بأوساط استقى منها أفكاراً أخذ يجتريها فى قرارة نفسه، وهو منطو فى تأملاته أثناء عزلته، ولميل إدراكه وشعوره للتأملات المجردة، والتى يلمح فيها أثر حالته المرضية، نراه ينساق ضد العقلية الدينية والأخلاقية لقومه الأقربين والأبعدين" (2) ولكن ما حقيقة هذه الأمراض، وما نوعيتها؟ يجيب على ذلك عدد من المستشرقين مع تباين تشخيصاتهم.
.. زعم شبرنجر (1) وجوستاف فايل (2) وغيرهم أنه كان مصاباً بحالات من الصرع يغيب فيها عن الناس وعما حوله، ويظل ملقى على أثرها بين الجبال لمدة طويلة، يسمع له على إثرها غطيط كغطيط النائم، ويتصبب عرقاً، ويثقل جسمه (3) وتعتريه التشنجات، وتخرج منه الرغوة، فإذا أفاق ذكر أنه أوحى إليه، وتلا على أتباعه ما يزعم أنه وحى من الله (4) . ... وبعضهم اعتبرها حالة هستيريا، وتهيجاً عصبياً، يظهر عليه أثرها فى مزاجه العصبى القلق، ونفسه كثيرة العواصف بشكل غامض، حتى كان يصل به الأمر أن لا يفرق بين تعاقب الليل والنهار، وقد هزل على إثرها جسمه، وشحب لونه، وخارت قواه (5) .
.. ويذهب بعضهم إلى أنه نوع من الهوس (1) قائلاً: "ونرى محمداً الثاقب النظر من الناحية العلمية من ذوى الهوس، كما هو شأن أكثر مؤسسى الديانات" (2) وبالتأمل فى هذه الافتراءات ترى أنها مع طعنها فى الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطعن فى عصمته فى عقله وبدنه. ... ويجاب عن هذه الافتراءات من عدة وجوه: أولها: أن المستشرقين هنا فيما يزعمون كالببغاوات يرددون شبهة إخوانهم أعداء الأنبياء والرسل الذين جعلوا ما يحصل لأنبياء الله مثل الذى يحصل للمجانين والسحرة، كما قال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم قوم طاغون} (3) وهى عين الفرية التى رمت بها قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبرأه الله مما قالوا، بقوله سبحانه: {فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون} (4) أرأيت كيف يردد المستشرقون شبهة عفا عنها الدهر، وطوتها السنون، وبين الله فسادها قبل خمسة عشر قرناً من الزمن، ثم جاءوا يلو كونها ويدندنون بها تشويهاً للإسلام، وتشكيكاً فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه. ثانيها: إجماع الأمة على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر الأنبياء قبله من سائر الأمراض المنفرة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكافة الرسل قبله، قد اشتهروا بالتعقل والنباهة والفطنة قبل النبوة وبعدها.
.. لقد كان صلى الله عليه وسلم، أكمل الرجال عقلاً، وأشدهم فطنة، وأصوبهم قولاً، وأحكمهم فعلاً. وقد تحدى الله المشركين الذين عرفوه وعايشوه وخبروا حاله أن يثبتوا عليه جنوناً أو اختلال عقل، وذلك فى قوله تعالى: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدى عذاب شديد} (1) . ... ففى قوله {ما بصاحبكم من جنة} أى جنون. مستأنف منبه لهم على أن ما عرفوه من رجاحة عقله كاف فى ترجيح صدقه؛ والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم بـ (صاحبهم) للإيماء أن حاله معروف مشهور بينهم، لأنه نشأ بين أظهرهم معروفاً بقوة العقل، ورزانة الحلم، وسداد القول والفعل (2) . ... فالآية الكريمة تقول لهم: "ها هو ذا تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم وأحاديثه، وسننه، وآدابه، وأخلاقه، وشريعته، تحت أنظاركم فانظروا وتفكروا من غير هوى ولا عصبية فى جوانب ذلك كله، واستخرجوا منه – ولن تستطيعوا – ما يقيم عوج دعاواكم، وأفك أباطيلكم، ولكنكم علمتم أن محمداً صلى الله عليه وسلم معصوم بعصمة الله عز وجل، الذى أرسله ليقوض بنيان الكفر والنفاق، ويهدم صرح الإلحاد. ... وبالجملة: فإن دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه، يشهد بها كتاب الله والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، على ما سبق تفصيله (3) . ثالثها: أن ثمة فرقاً واضحاً بين صور الوحي الذى كان يتلقاه النبى صلى الله عليه وسلم وبين أعراض مرض الصرع الذى زعمه هؤلاء المستشرقون غير المنصفين فصور الوحي قد وقفت عليها من قبل عند الحديث عن كيفياته بما لم أر بك حاجة إلى إعادة الحديث عنها هنا.
.. وأما أعراض مرض الصرع، فهو كما جاء فى كتاب "الموسوعة العربية الميسرة" أن يرى المريض شبحاً، ويسمع صوتاً أو يشم رائحة ويعقب ذلك وقوع المريض صارخاً على الأرض، وفاقداً وعيه ثم تتملكه رعدة تشنجية تتصلب فيها العضلات، وقد يتوقف فيها التنفس مؤقتاً… ويعقب النوبة خور فى القوى، واستغراق فى النوم يصحو منه المريض خالى الذهن من تذكر ما حدث له… الخ (1) . ... فإذا كان هذا هو الثابت علمياً، فهو بخلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يظهر عليه شئ مما ذكر من أعراض هذا المرض عند نزول الوحي عليه، بل يظل فى تمام وعيه، وكامل قوته العقلية، قبل وأثناء وبعد الوحي، كما قال صلى الله عليه وسلم، لما سأل: كيف يأتيك الوحي؟ قال: "أحياناً يأتينى مثل صلصلة الجرس، وهو أشده على، فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال" (2) . ... وقد كان جبريل عليه السلام يأتى إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى صورة الرجل فيحادثه أمام جمع من الحضور وهم يشاهدون ذلك كما ثبت فى حديث جبريل المشهور الذى سأل فيه النبى صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان… (3) . وكما جاء فى حديث ابن عمر من إتيان جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فى صورة الصحابى الجليل دحية الكلبى (4) . ... لقد عاش النبى صلى الله عليه وسلم طيلة حياته فى صحة نفسية وعصبية وعقلية دائمة، لم يطرأ عليه أى خلل فى عقله أو أعصابه فى يوم من الآيام، بل كان عليه الصلاة والسلام بشهادة القرآن والسنة والتاريخ، وديعاً صبوراً حليماً، بل كان عظيم الصبر، واسع الحلم، فيسح الصدر حتى أنه صلى الله عليه وسلم، وسع الناس جميعاً ببسطه وخلقه.
.. وكان شجاعاً مقداماً، سليم الجسم، صحيح البدن، حتى إنه صارع ركانة (1) المشهور بشجاعته فصرعه (2) . ... وكان يثبت فى الميدان حتى يفر الشجعان، ويفزع الخلق، ويشتد الأمر ويقول كما حدث فى غزوة حنين، وقد انقشع عنه أصحابه: "أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" (3) ويقول "إلى أيها الناس، هلم إلى، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله" (4) ولا يزال كذلك حتى ينصره الله فى المعركة.
.. وبالجملة: كان كمال عقله وخلقه صلى الله عليه وسلم، مضرب الأمثال لعصمة الله له على ما سبق تفصيله (1) . ... ولكل منصق أن يتساءل: هل يتفق هذا المرض وما هو معروف عن النبى صلى الله عليه وسلم من أنه كان أمة وحده، فى أخلاقه، وثباته، وحلمه، وسلامة جسمه وقوة بنائه؟. ... ثم كيف يتفق ذلك الداء العضال الذى أعيا الأطباء، وما انتدب له رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكوين شموس أبيه، وتربيتها على أسمى نواميس الهداية وقوانين الأخلاق، وقواعد النهضة والرقى، مع أنها أمة صحراوية النفوس، صخرية الطباع؟!. ... أضف إلى ذلك أنه نجح فى هذه المحاولة المعجزة، إلى درجة جعلت تلك الأمة، بعد قرن واحد من الزمان، هى أمة الأمم، وصاحبة العلم، وربة السيف والقلم. ... فهل المريض المتهوس الذى لا يصلح لقيادة نفسه يتسنى له أن يقوم بهذه القيادة العالمية الفائقة، ثم ينجح فيها هذا النجاح المعجز المدهش؟. قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد … وينكر الفم طعم الماء من سقم (2) .
.. يقول المستشرق ماكس مايرهوف (1) : "أراد بعضهم أن يرى فى محمد رجلاً مصاباً بمرض عصبى أو بداء الصرع، ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره، ليس فيه شئ يدل على هذا، كما أن ما قام به فيما بعد من التشريع والإدارة يناقض هذا القول" (2) . رابعها: لو كان النبى صلى الله عليه وسلم مصاباً بمرض الصرع، لذكر ذلك أصحابه الذين لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا نقلوها عنه، أو ذكره أعداؤه فى ذلك العصر، هؤلاء الذين كانوا يتربصون بالنبى صلى الله عليه وسلم الدوائر، ويودون أن يظفروا منه ولو بشئ نذر يسير يعيرونه به. ... أليس هم القائلون: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} (3) فأقصى ما عابوه فيه – كما ترى – أنه فقير ومثله فى نظرهم لا يحق أن يكون نبياً.
.. فلو كان صلى الله عليه وسلم مريضاً بالصرع كما زعم هؤلاء الحاقدون، لوجد أعداؤه فى ذلك فرصة سانحة للطعن عليه، لكن ما حدث ممن خلصت ضمائرهم بعض الوقت، وكانوا مع أنفسهم صادقين قبل ما يطرأ عليهم من إرهاب فكرى من أمثال الوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث الذى نفى فى إشارة بليغة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به، السحر، والكهانة، والشعر، والجنون، حيث أنهم يعلمون علم اليقين حقيقة هذه الألفاظ، واعترف النضر بن الحارث بإقرار صناديد قريش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به، بعيدان كل البعد عن حقيقة الألفاظ السابقة (1) . ... وهنا يحق لنا أن نتساءل: إذا لم يذكر لنا التاريخ أن النبى صلى الله عليه وسلم أصيب بهذا النوع من الأمراض المنفرة؛ فليأتنا أعداء الإسلام بما يكذب ذلك؟ ولكن أنى لهم ذلك! اللهم إلا ما كان من هؤلاء المأفونين من المستشرقين الذين زعموا هذا الزعم بناءً على تصورهم للحالة التى كانت تعتريه عند نزول الوحي عليه، وهى حالة واحدة من حالات متعددة كان يأتيه عليها الوحي كما علمت، وبينها وبين ما تصوروه عنها بعد المشرقين. ... وأتساءل أيضاً: هل الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم منذ خمسة عشر قرناً، واتبعوا الدين الذى جاء به من قادة الفكر على امتداد العصور؛ كلهم أغبياء مغرورون، لم يميزوا بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والصحة والمرض، والكمال والنقص؟!. خامسها: ثم ما رأى هؤلاء الطاعنين وفيهم من ينتمى إلى بعض الأديان فى أنهم لا ينالون من نبوة وعصمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وحده؛ وإنما ينالون من جميع أنبياء الله ورسله الذين كانت لهم كتب أو صحف، أوحى بها من عند الله سبحانه.
.. فهل تطيب نفوس المقرين بالأديان منهم أن يخربوا بيوتهم قبل أن يخربوا بيوت غيرهم؟ فما رأيهم فيما جاء فى كتب العهد القديم والجديد، من إيحاءات ونبوءات؟. ... وهل يقولون فى وحى نبى الله موسى وعيسى عليهما السلام ما يقولون فى وحى نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. ... إن الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس بدعاً من الرسل فى باب الوحي، إنه أوحى إليه كما أوحى إليهم، وصدق الحق تبارك وتعالى حيث يقول: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} (1) . ... اللهم إن هذا الطعن لا يقول به إلا أحد رجلين: إما رجل مخرف، وإما رجل مخرب مدمر يريد هدم الأديان (2) . ... قلت: فلا نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من إخوانه من الأنبياء أصيب بمثل هذه الأمراض المنفرة، لعصمة ربهم لهم (3) وإنما المرضى – حقيقة – هم أعداؤهم من كل أمة. أهـ. والله تعالى أعلى وأعلم
المطلب الثالث: شبهة أن الوحي مقتبس من اليهودية والنصرانية
المطلب الثالث: شبهة أن الوحي مقتبس من اليهودية والنصرانية والرد عليها ... لقد زعم المستشرقون أن الوحي انبثق فى الدرجة الأولى عن اليهودية والنصرانية ولكن محمد كيفه تكيفاً بارعاً وفقاً لمتطلبات شعبه الدينية (1) ويرشح لنا جولد تسيهر كيف تم له ذلك، وكيف أصبحت تعاليم اليهودية والنصرانية، وحياً تبناه محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: "فتبشير النبى العباس ليس إلا مزيجاً منتخباً من معارف وآراء دينية، عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها، التى تأثر بها تأثراً عميقاً، لقد تأثر بهذه الأفكار تأثراً وصل إلى أعماق نفسه، وأدركها بإيحاء قوة التأثيرات الخارجية، فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يعتبر هذه التعاليم وحياً إلهياً، فأصبح بإخلاص على يقين بأنه أداة لهذا الوحي" (2) . ... وقد وصل الأمر ببعضهم وهو ما حكاه فيليب حتى، أن زعموا أن الإسلام برمته بدعة نصرانية أكثر منه ديناً جديداً (3) .
.. ولم يخف جولد تسيهر قوله فى أن النبى صلى الله عليه وسلم قد تتلمذ على رهبان النصارى مثل ورقة بن نوفل، وبحيرا، ونسطورا، وصهيب الرومى، وسلمان الفارسى، المسيحى الأصل، وأحبار اليهود مثل عبد الله بن سلام، الذين كانوا أساتذة له (1) وكيف تم الاتصال بأولئك؟. ... يرى بروكلمان أن ذلك تم من خلال رحلاته، والذين عاشوا معه بعد إسلامهم (2) . ... وقد حاول المستشرقون الرجوع فى كثير من شعائر الإسلام إلى اليهودية أو النصرانية أو الاثنين معاً (3) . ... قال بروكلمان: "وتأثرت اتجاهات النبى الدينية فى الأيام الأولى من مقامه فى المدينة، بالصلة التى كانت بينه وبين اليهود… فشرع صوم العاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم، على غرار الصوم اليهودى فى يوم الكفار الذى يقع عندهم فى العاشر من شهر تشرى، وبينما كان المؤمنون فى مكة لا يصلون إلا مرتين فى اليوم، أدخل فى المدينة على غرار اليهودية أيضاً، صلاة ثالثة عند الظهر… كذلك جعل يوم الجمعة يوم صلاة عامة على غرار "السبت" اليهودى… (4) . ... ويجاب عن هذه الافتراءات بما يلى:
أولاً: الناظر فى شبهتهم تلك يلاحظ أنها تقوم على أنقاض الشبهتين السابقتين، إذ لما لم يكن لقولهم بهما قدم يثبت عليها، أو لك أن تقول: ساقان تحملانه عندما اصطدم مع الحق الذى لا يسمع منصفاً مخالفته، حسبما مر بك عند نقض هاتين الشبهتين، وهنا لم يجدوا بداً من أن يقولوا هذا القول الوارد فى هذه الشبهة (أعنى فى هذا المطلب) ويلاحظ أيضاً، أن زعمهم هذا لا يعدو كونه عين ما ردده جهال قريش من قبل حين قالوا كما أخبر القرآن: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر} (1) . وبذلك يتضح لك أن الكفر ملة واحدة، مهما تباعدت أزمانه واختلفت أوطانه. ... إن ما زعمه هؤلاء الملحدون هنا، هو باطل من القول سودوا به صفحات التاريخ إذ الحق الذى لا مناص عنه، ثبوت العصمة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فى دعواه النبوة، وفى كل ما يخبر به من الوحي عن ربه عز وجل، على ما مر سابقاً فى دلائل عصمته فى تبليغ الوحي من خلال القرآن والسنة (2) كما أنه لم يكن لأحد عليه فضل فيما جاء به، غير الله تعالى؛ فأنى لأحد من البشر كائناً من كان أن يكون له قبل بما جاء به صلى الله عليه وسلم فينصبونه معلماً له؟. ثانياً: أين هذه الرحلات التى يتكلم عنها جولدستيهر، وبروكلمان، ومن شايعهما، والتى التقى فيها النبى صلى الله عليه وسلم بأحبار اليهود، ورهبان النصارى، وأخذ عنهم؟ ومتى كانت؟ وأين تم هذا اللقاء؟ وكم مدة قضاها ليتلقى تلك الدروس حتى يهضمها ويستوعبها؟ ومن هم الذين أخذ عنهم؟ وماذا أخذ؟. ... أسئلة يعجز المستشرقون عن إجابتها، لأنها لا إجابة لها البتة، إذ الإجابة عنها من صنع الخيال، وترهات الأفكار.
.. إن ما زعموه بأنه من الممكن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقف هذا الذى جاء به من بحيرا (1) ونسطورا (2) الراهبين، زعم باطل. وذلك لأن المعروف الثابت تاريخياً أن النبى صلى الله عليه وسلم، لم يلق "بحيراً" هذا إلا مرة واحدة، وهى المرة الأولى التى سافر فيها إلى الشام، وكان معه عمه أبى طالب، وكان عمره صلى الله عليه وسلم، إذ ذاك لا يتعدى اثنتى عشر عاماً (3)
ولا يعقل أن يكون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد أخذ عنه، وهو فى هذه السن شيئاً. ... وأنى "لبحيرا" وما حواه الوحي الإلهى قرآناً وسنة، من علوم وأخبار ماضية ومستقبلة؟ هذا لو فرضنا أنه يمكن أن يكون قد أخذ عنه شيئاً. ... إن الباحث المصنف لو استنطق التاريخ، ما زاد على أن يقول له: إن الراهب "بحيراً" لما رآه تظله سحابة من الشمس، ورأى فيه بعض أمارات النبوة ذكر لعمه، أنه سيكون له شأن، وحذره أن تناله اليهود بأذى. ... وكذلك الحال عندما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالراهب نسطور، وهو فى طريقه إلى الشام، يعمل فى تجارة خديجة بنت خويلد رضى الله عنها، وكانت هذه هى المرة الثانية والأخيرة فى رحلاته خارج مكة، وكان صلى الله عليه وسلم إذ ذاك شاب فى الخامسة والعشرين من عمره، وفى صحبته غلام خديجة ميسرة (1) والذى تحدث به الراهب نسطورا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع مسيرة، ولما تحقق الراهب من صفات النبوة فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما زاد على أن جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل رأسه وقدميه، وقال: آمنت بك، وأنا أشهد أنك الذى ذكره الله فى التوراة، ثم قال لميسرة بعد أن خلا به: يا ميسرة! هذا نبى هذه الأمة، والذى نفسى بيده إنه لهو تجده أحبارنا منعوتاً فى كتبهم (2) .
.. ولم تذكر الأخبار أنه كان حتى هناك مجرد حديث بين الغلام الصغير محمد وبين "بحيرا" و"نسطورا" وإنما الذى ذكرته الأخبار أن كل الحديث الذى تحدث به الراهب بحيرا عنه، كان مع عمه أبى طالب (1) والذى تحدث به الراهب نسطورا عنه كان مع غلام خديجة ميسرة! فماذا – يا ترى – سمع الشهود – عمه أبى طالب، وميسرة – من علوم هذا الأستاذ؟ هلا نبأنا التاريخ بنبأ ما جرى خلال هذا الحديث المزعوم الذى جمع فى تلك اللحظة القصيرة علوم القرآن والسنة كاملة؟!. ... إن تلك الروايات التاريخية التى تتحدث عن اللقاء العابر بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين بحيرا ونسطورا تحيل أن يقف كل من بحيرا ونسطورا موقف المعلم المرشد لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن كلا منهما بشر عمه وميسرة، بنبوته، وليس بمعقول أن يؤمن رجل بهذه البشارة التى يزفها، ثم ينصب نفسه أستاذاً لصاحبها الذى سيأخذ عن الله، ويتلقى عن جبريل، ويكون هو أستاذ الأستاذين، وهادى الهداة المرشدين! وإلا كان هذا الراهب متناقضاً مع نفسه!!. ... إن هذه التهمة لو كان لها نصيب من الصحة، لفرح بها قومه وقاموا لها وقعدوا، لأنهم كانوا أعرف الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أحرص الناس على تبهيته وتكذيبه وإحباط دعوته بأية وسيلة (2) .
ثالثاً: ما زعموه من أن محمداً صلى الله عليه وسلم، أخذ ما زعمه أنه وحى من الله تعالى، من ورقة ابن نوفل. هو – أيضاً – باطل كسابقه، وفى الرواية نفسها التى التقى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بورقة (1) ما يبين بطلان مزاعم المستشرقين، وتهافت أقوالهم، وفسادها. وذلك فى النقاط التالية: أ- تبين الرواية أن ورقة قد تنصر فى الجاهلية، ولكن المحدثين والمؤرخين استقصوا كل ما عرف عنه مم صح سنده، ومما لم يصح، فلم يعثروا على رواية تبين أنه كان داعية إلى النصرانية. ب- لم ينقل أن النبى صلى الله عليه وسلم قد لقى ورقة قبل هذا اللقاء أو رآه. جـ- لقد تم هذا اللقاء بعد مجئ ملك الوحي فى الغار، ونزول صدر سورة "اقرأ" وقد حضرت هذا اللقاء خديجة رضى الله عنها، وشهدته، وقد آمنت بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فلو كان هنالك تعلم وتلقى ما غاب ذلك عن بالها أبداً، ولكان صارفاً لها عن الإيمان به صلى الله عليه وسلم. د- إن موقف ورقة على ما جاء فى هذا اللقاء، كان موقف المستطلع المستخبر لا موقف المعلم، فلما أخبره النبى صلى الله عليه وسلم، خبر ما رأى، كان موقفه موقف المبشر المصدق المؤمن، المتطوع لمناصرة الحق، المؤيد للنبى صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الوحي "هذا الناموس الذى نزل على موسى، ليتنى فيها جذعاً، ليتنى أكون حياً إذ يخرجك قومك…، وإن يدركنى يومك حياً، أنصرك نصراً مؤزرا".
هـ- لم تذكر الروايات أنه ألقى إلى النبى صلى الله عليه وسلم درساً أو عظة فى أى جزء من جزئيات الإسلام، كما لم يثبت أنه كان صلى الله عليه وسلم، يتردد عليه لتلقى تلك الدروس، والذى يفهم من كلمته المختصرة السابقة، أنه كان يتمنى أن يبقى حتى يصبح ناصراً لدين الله، وجندياً مخلصاً، وتلميذاً ناجحاً للنبى صلى الله عليه وسلم، لا أستاذاً مربياً، ولا عالماً معلماً. و ثم إن ورقة لم يلبث بعد هذا اللقاء، إلا أن توفى وفتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف تكون هذه المقابلة الخاطفة ينبوعاً لما جاء به عليه الصلاة والسلام من الوحي؟ . ز- لو ثبت أنه صلى الله عليه وسلم، أخذ ذلك من ورقة لما سكت أعداؤه أبداً، ولروجوا ذلك، وساروا به فى الناس جميعاً، وهم الذين تشبثوا بما هو أوهى من ذلك (1) .
رابعاً: إنما زعموه من أنه صلى الله عليه وسلم، أخذ ما جاء به من صهيب الرومى (1) لهو من أبطل الباطل. إذ أن صهيباً هذا كان حداداً يصنع السيوف، أعجمى اللسان، لا يعدو كلامه أن يكون رطانة (2) ولا يكاد يبين (3) ولذا قال القرآن الكريم: {لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مبين} (4) .
.. والمعنى: كيف يتعلم من جاء بهذا القرآن، فى فصاحته وبلاغته، ومعانيه التامة الشاملة، التى هى أكمل من معانى كل كتاب نزل على نبى أرسل؛ كيف يتعلم من رجل أعجمى؟ ! لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل (1) وليت شعرى: لو كان لصهيب أن يكون مرجعاً علمياً كما أرادوا أن يصفوه، فما الذى منع كفار مكة أن يأخذوا عنه، كما أخذ صاحبهم؟ وبذلك كانوا يستريحون من عنائه، ويداوونه من جنس دائه، بل ما منع صهيب أن يبدى للعالم صفحته، فينال فى التاريخ شرف الأستاذية، أو يتولى بنفسه تلك القيادة العالمية؟ بل ما منعه أن يدعى النبوة، فينسب لنفسه هذا المجد والفخار؟ (2) إن فى عدم ادعاء صهيب شئ مما سبق، وعدم ثبوته عنه، مع صحة إيمانه برسول الله صلى الله عليه وسلم، دليل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى دعواه النبوة، وفى عصمته صلى الله عليه وسلم فى كل ما بلغ من وحى ربه. خامساً: ما زعموه من أنه صلى الله عليه وسلم، تلقى الوحي من علماء أهل الكتاب فى عصره محض افتراء يرده القرآن الكريم الذى حفل بجدالهم ومحاوراتهم فى العقائد والتواريخ والأحكام. ... فالناظر فى محاورات القرآن لهم يرى بأى لسان يتكلم عنهم القرآن الكريم. إنه يصور علومهم بأنها الجهالات، وعقائدهم بأنها الضلالات، ومعارفهم بأنها الخرافات، وأعمالهم بأنها المنكرات.
.. نعم. لا يعقل أن يصفهم القرآن بذلك ثم يقفون من صاحب هذه النبوة موقف المرشد والناصح! اقرأ إن شئت قول الله تعالى: {وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يأفكون. اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} (1) وقال تعالى: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} إلى أن قال عز وجل: {وبصدهم عن سبيل الله كثيراً. وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل} (2) . ... وغير ذلك كثير مما هو منثور فى ثنايا سور القرآن الكريم، وهو سهل المنال لمن طلبه. مما يفيدك بأن قوماً أمثال هؤلاء لا يعقل – وحالهم هكذا – أن يتلقى عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنك ترى فيه معلماً يصحح لهم أغلاطهم، وينعى عليهم سوء حالهم. ... فلو كانوا معلمين له صلى الله عليه وسلم، لمدحهم، وجاملهم، وتودد إليهم، وتقرب منهم، ولم يقف منهم هذا الموقف العدائى، حتى لا يفضحوا أمره، ويكشفوا حاله.
.. ثم إن كثيراً من هؤلاء الذين يزعمون أنهم كانوا مصدر الوحي، قد أسلموا، وإسلامهم حجة قائمة على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصمته فيما بلغ من الوحي الإلهى، ولو كان هؤلاء أعانوا النبى صلى الله عليه وسلم على الوحي، وأنه ليس من عند الله، لكانوا أدرى الناس حينئذ بحقيقة الإسلام، وبالتالى كانوا سيكونون أبعد الناس عنه، لأنهم يعرفون أنه دين ليس صحيحاً، ولكن أما وقد أسلموا وأخلصوا لله تعالى، لاسيما وأنه كانت هناك منافسة كبيرة بين أصحاب الأديان المختلفة فى ذلك الوقت، فإن ذلك كان لاستئصال ألسنة الخراصين، حتى يصابوا بالخرس رحمة بالتاريخ الذى كم لوثوه بألسنتهم هذه. وصدق رب العزة: {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيد بينى وبينكم ومن عنده علم الكتاب} (1) وقال عز وجل: {قل أرءيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدى القوم الظالمين} (2) . سادساً: من أقوى ما يدل على أن الإسلام لم يكن مقتبساً من اليهودية أو النصرانية، وجود الخلاف فى كثير من العقائد والأحكام؛ بل جعل الشارع الحكيم جنس مخالفتهم أمراً مقصوداً له، ومن متطلبات الشرع، وهناك كثير من الأحكام جعلت العلة فيها هى مخالفة اليهود أو النصارى من ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم" (3) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون فى نعالهم ولا خفافهم" (1) . عن أنس بن مالك رضى الله عنه، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها، ولم يجامعهن فى البيوت. فسأل أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، النبى صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شئ إلا النكاح" فبلغ ذلك اليهود فقالوا: "ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه" (3) قال الإمام ابن تيميه (4) : "فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود، بل على أنه خالفهم فى عامة أمورهم، حتى قالوا: "ما يريد أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه" (5) .
فهذا إقرار من اليهود عليهم لعائن الله، بمخالفة النبى صلى الله عليه وسلم لما كانوا عليه من شعائر حتى اشتهر ذلك بينهم، ألا يكفى ذلك برهاناً ساطعاً على بطلان قول المستشرقين: أنه كيف شعائر الإسلام لتتفق مع شعائر اليهود؟ (1) . أولم يكفهم أنه صلى الله عليه وسلم، أخرج اليهود أذلاء حقيرين من المدينة، وأجلاهم عنها لما نقضوا عهودهم معه، وأبى عليهم أن يساكنوه فى بلد واحد؟ (2) وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: {هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} (3) أما وقف المستشرقون على الآيات والأحاديث العديدة الذامة لليهود الهاتكة لستورهم؟ أفى ذلك أيضاً دلالة على أن النبى كان يتقرب منهم ويتزلف لهم لكسبهم وإرضائهم؟.
إن النبى صلى الله عليه وسلم، منذ أن بعث وحمل رسالة الإسلام، نسخ الأديان السابقة، وأبطل شرعيتها، فلا نجاة لأحد من الخلق يهودياً كان أو نصرانياً إلا بالتزام شرعه، والسير على نهجه، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: "والذى نفس محمد بيده، لا يسمع بى أحد من هذه الأمة يهودى ولا نصرانى، ثم يموت ولم يؤمن بالذى أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار" (1) . والحديث هنا بياناً وتأكيداً لقوله تعالى: {قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعاً الذى له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيى ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (2) . فلا بقاء لدين مع دينه صلى الله عليه وسلم، ولا شريعة مع شريعته، بل دينه هو الحاكم والمهيمن على كل الأديان. قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} (3) . سابعاً: ما زعموه من إرجاع كثير من شعائر الإسلام إلى اليهودية أو النصرانية، أو الاثنين معاً، زعم باطل لما يلى:
أ- لأن استدلالهم بصوم عاشوراء على موافقة اليهود فيه، بناء على ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بنى إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم فصامه، وأمر بصيامه" (1) . فعلة الموافقة الواردة فى الحديث هى التى بنى عليها المستشرقون شبهتهم السابقة، ويجاب بالآتى: 1- لقد ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم، كان يصوم عاشوراء فى الجاهلية قبل قدومه المدينة، ويدل على ذلك قول عائشة رضى الله عنها: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش فى الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصومه، فلما قدم المدينة، صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه" (2) .
وفى رواية: "وكان يوم تستر فيه الكعبة" (1) فدل بهذا على أنه صلى الله عليه وسلم، لم يصمه موافقة لليهود واقتداء بهم، وإنما صامه وأمر بصيامه تقريراً لتعظيمه وتأكيداً، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه وأمته أحق بموسى من اليهود، فإذا صامه موسى شكراً لله، كنا أحق أن نقتدى به من اليهود، لاسيما إذا قلنا: شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخالفه شرعنا (2) . 2- إن النبى صلى الله عليه وسلم، بين نوع مخالفة لليهود فى صيام عاشوراء، عندما شرع صيام يوم قبله، أو بعده، فعن ابن عباس قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله. إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل، إن شاء الله، صمنا اليوم التاسع" قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم" (3) وعنه أيضاً مرفوعاً: "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً" (4) فدل ذلك على مخالفته لهم فى صيامه.
ب- وأما زعمهم أن المؤمنين كانوا لا يصلون فى مكة إلا مرتين فى اليوم، ثم أدخلت صلاة ثالثة عندما ذهبوا إلى المدينة على غرار اليهودية، فهو زعم فى وهن خيط العنكبوت، إذ الصلوات الخمس فرضت بمكة ليلة الإسراء، حين عرج بالنبى صلى الله عليه وسلم، إلى السماء، ولا خلاف بين أهل العلم، وأهل السير فى ذلك (1) . ... وهذا الذى دلت عليه الأحاديث الصحيحة، التى وردت فى صفة الإسراء والمعراج فى الصحيحين وغيرهما، من أحاديث جماعة من الصحابة رضى الله عنهم (2) وفى أحدها قوله صلى الله عليه وسلم: "فلم أزل أرجع بين ربى تبارك وتعالى، وبين موسى عليه السلام، حتى قال: يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة" (3) . جـ- وأما زعمهم أنه جعل الجمعة، يوم صلاة عامة، على غرار السبت عند اليهود، فهو أيضاً قول مخالف للصواب، لأن الله سبحانه شرع لعباده المؤمنين الاجتماع لعبادته يوم الجمعة، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون} (4) .
.. وقد ثبت أن الله أمر الأمم السابقة بتعظيمه، فضلوا عنه، واختار اليهود السبت، والنصارى الأحد، وفضل الله هذه الأمة بيوم الجمعة لفضيلته (1) فعن أبى هريرة وحذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة. نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضى لهم قبل الخلائق (2) ففى الحديث ذم لأهل الكتابين، على تفريطهم فى يوم الجمعة، ثم شرع صلى الله عليه وسلم، صيام يوم السبت ويوم الأحد مخالفة لهما، كما جاء فى حديث أم سلمة رضى الله عنها، قالت: "كان رسول صلى الله عليه وسلم، يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر مما يصوم من الأيام، ويقول: إنهما عيد المشركين، فأنا أحب أن أخالفهم" (3) . ... قال الحافظ ابن حجر:: "يوم السبت عيد عند اليهود، والأحد عيد عند النصارى، وأيام العيد لا تصام، فخالفهم بصيامها" (4) .
المطلب الرابع: فرية الغرانيق والرد عليها
.. بعد هذا يتضح لك، أن وحى الله تعالى (كتاباً وسنة) والذى بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعصمة الله له، لم يكن مأخوذاً من اليهودية أو النصرانية، وإنما هو وحى مستقل، لم يتأثر بغيره، وبالتالى دين الإسلام، دين قائم بذاته، متميز عن غيره، وإذا وجد تشابه بين نسك إسلامى، وبين عمل سابق منسوب إلى شريعة اليهود أو النصارى. دل ذلك على أن أصل الدين الذى جاء به رسل الله واحد. لقوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (1) وبياناً لذلك وتأكيداً له، قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم فى الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد" (2) والمراد بـ (إخوة لعلات) الذين أمهاتهم مختلفة، وأبوهم واحد. أراد أن إيمانهم واحد، وشرائعهم مختلفة (3) أهـ. والله تعالى أعلى وأعلم المطلب الرابع: فرية الغرانيق والرد عليها ... تشبث بعض المستشرقين وأبواقهم المقلدون لهم بما ذكره بعض كتاب السيرة النبوية، وجماعة من المفسرين، وطوائف من المحدثين فى كتبهم، بأقصوصة "الغرانيق" وألصقوها بهجرة الحبشة، وجعلوها سبباً لعودة المهاجرين الأولين إلى مكة. ... وهى أقصوصة مختلقة، باطلة فى أصلها وفصلها، وأكذوبة خبيثة فى جذورها وأغصانها، واتخذ أعداء الإسلام منها سلاحاً للطعن فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من تسلط الشيطان عليه، وعصمته فى بلاغه لوحى الله تعالى.
.. ورغم أن علماء المسلمين قديماً وحديثاً بينوا بأوضح ما يكون البيان زيفها وبطلانها؛ إلا أنك تجد من ينتصر لهذه الفرية، ويطبل لها ويزمر من المستشرقين والمبشرين (1) وكذا أبواقهم المقلدون لهم الذين زادوا على أعداء الإسلام الطعن فى رواة السنة الشريفة والكذب عليهم بأنهم يصححون هذه الأكذوبة. ... يقول نيازى عز الدين (2) : "بعد نزول الآية: {أفرأيتم اللات والعزى} (3) ألقى الشيطان نتيجة لتمنى الرسول صلى الله عليه وسلم، ألا ينزل الله تعالى ما يغضب قومه من قريش، لأنه كان يطمع بإسلام بعض وجهائهم، فألقى الشيطان فى أمنية الرسول وفى ذهنه بعض الكلمات، فاعتقد أنها من الوحي، فطلب من كتبه الوحي تسجيله وكتابته فى نص القرآن الكريم (4) وكانت كما يلى: "أفرأيتم اللات والعزى، تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى" فسر القرشيون من المشركين بذلك، وسجدوا مع الرسول فى الصلاة، ولكن بعد فترة نزل جبريل، وعاتب الرسول، وصحح الآية، ناسخاً ما ألقى الشيطان" (5) .
.. ويكرر فى موضع آخر الطعن فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى البلاغ، وفى عصمته من الشرك، ومن تسلط الشيطان عليه، بتفسير آيات النهى عن الشرك، والنهى عن اتخاذ إله آخر مع الله عز وجل، بأنها خطاب من الله عز وجل لرسوله مرة ثانية عن قصة الغرانيق، وكأن حال لسانه يقول: قصة الغرانيق صحيحة، وبصحتها أشرك رسول الله، واتخذ إلهاً آخر، وتأمل كلامه بعد أن سبقه بذكر الآيات التالية قوله تعالى: {ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين} (1) وقوله سبحانه: {ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون} (2) يقول: "فمن معانى الآيات … يتبين أن الله تعالى يكلم الرسول مرة أخرى عن قصة الغرانيق، وأن شفاعتهن لترجى، ويوضح له كيف ألقاها الشيطان إلى لسانه، فأدخلها الرسول خطأ فى القرآن، إلى أن أتى جبريل، ونبهه على الموضوع، فنسخ تلك الآيات وأتى بدلاً عنها بخير منها: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثلاثة الأخرى. ألكم الذكر وله الآنثى} (3) وبين الله تعالى أسباب ذلك فى الآية: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم} (4) .
أولا: إن هذه الأقصوصة المختلقة تنافى ما هو مقطوع به
.. ويحاول بعض الشيعة الطعن فى السنة النبوية وأهلها، وعلى رأسهم الإمام البخارى وصحيحه بإيهام القارئ أن فرية الغرانيق موجودة فى صحيح البخارى. إذ يقول جعفر مرتضى العاملى بعد أن ذكر فرية الغرانيق قال: "وأضاف البخارى سجود الإنس والجن إلى مجموع المسلمين والمشركين…" (1) ويكذب أحمد حجازى السقا (2) قائلاً: "فما تقول فى قصة الغرانيق المروية فى كتب الصحاح" (3) ولم يبين لنا ما هى كتب الصحاح التى روت تلك الفرية؟!. ... ويجاب عن هذه الفرية، وما اشتملت عليه من افتراءات أخرى بما يلى: أولاً: إن هذه الأقصوصة المختلقة تنافى ما هو مقطوع به من عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى عقيدته من الشرك والشك والضلال والغفلة، وعصمته من تسلط الشيطان عليه، وكذا عصمته من الخطأ والسهو فى أمر التبليغ، وهو ما قام عليه إجماع الأمة، والأدلة القطعية من الكتاب والسنة، والسيرة العطرة، على ما سبق تفصيله (4) . ثانياً: قيام الأدلة القطعية من القرآن الكريم على بطلانها، وأقرب دليل يشير إلى فساد هذه القصة ما يلى:
1- ما ذكره رب العزة فى أول سورة النجم، مؤكداً بالقسم على عصمة نبيه صلى الله عليه وسلم، فى تبليغ وحيه، وأنه لا يخرج كلامه عن الحق، قال تعالى: {والنجم إلى هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى} (1) فكيف ينتظم هذا مع ذكر فى نفس السورة من نطقيه صلى الله عليه وسلم عن الهوى؟ بل وترديده ما يلقيه إليه الشيطان، على أنه آيات قرآنية إلهية؟! هذا مع قوله تعالى: {ولو تقول عليه بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين} (2) . فها هو يتقول عليه، ولا يفعل به شيئاً؟ هل يعقل هذا؟!. ... وإذا كانت هذه الآيات من سورة الحاقة، قد نزلت بعد سورة النجم، فإن ذلك لا يضر؛ مادامت الآية تعطى قاعدة كلية، ولا تشير إلى قضية خارجية خاصة، والقاعدة الكلية هنا: عصمته صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن ربه عز وجل. 2- ما جاء فى نفس السورة بعد الموضع الذى زعموا أنه ذكرت فيه الفرية من ذم أصنام المشركين "مناة، واللات، والعزى" والإنكار على عابديها، وجعلها أسماء لا مسمى لها، وأن التمسك بعبادتها أوهام وظنون. قال تعالى: {إن هى إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} (3) . ... فلو أن القصة صحيحة لما كان هناك تناسب بينها، وبين ما قبلها وما بعدها، ولكان النظم مفككاً، والكلام متناقضاً. وكيف يطمئن إلى هذا التناقض السامعون، وهم أهل اللسان والفصاحة، وأصحاب عقول لا يخفى عليها مثل هذا، ولاسيما أعداؤه الذين يلتمسون له العثرات والزلات.
.. فلو أن ما روى كان واقعاً لشغب عليه المعادون له، ولارتد الضعفاء من المؤمنين، ولثارت ثائرة مكة، ولاتخذ منه اليهود بعد الهجرة متكئاً يستندون إليه فى الطعن على النبى صلى الله عليه وسلم، والتشكيك فى عصمته، ولكن شيئاً من ذلك لم يكن. 3- إن بعض الروايات الواردة فى القصة ذكرت أن فيها نزل قوله تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً} (1) . ... وهاتان الآيتان، حتى لو لم تكونا سبب النزول، فهما تردان القصة؛ لأن الله ذكر أنهم كادوا يفتنونه، ولولا أن ثبته لكاد أن يركن إليهم، ومفاداه أن الفتنة لم تقع، وأن الله عصمه وثبته حتى لم يكن يركن إليهم، فقد انتفى قرب الركون فضلاً عن الركون. فالأسلوب القرآنى جاء على أبلغ ما يكون فى تنزيه ساحته صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهم يرون فى أخبارهم الواهية، أنه زاد على الركون، بل افترى بمدح آلهتهم، وهذا ينافى ما تدل عليه الآية، وهو توهين للخبر لو صح، فكيف ولا صحة له؟ (2) . 4- وقال تعالى: {قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين. وأمرت لأن أكون أول المسلمين. قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم. قل الله أعبد مخلصاً له دينى. فاعبدوا ما شئتم من دونه} (3) . وتأمل الأسلوب الإنكارى التوبيخى فى قوله {فاعبدوا ما شئتم} وهى أشد من مجرد مدح الأصنام.
ثالثا: مخالفة القصة لحقائق تاريخ السيرة العطرة
.. فكل هذه الآيات وغيرها مما سبق ذكره فى مواضع عصمته صلى الله عليه وسلم (1) مما يكذب هذه القصة، ويظهر زيفها ووضعها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: مخالفة القصة لحقائق تاريخ السيرة العطرة، إذ أن سورة النجم تحمل الحديث عن المعراج، وكان المعراج بعد السنة العاشرة من البعثة باتفاق، أما قصة الغرانيق هذه فإن رواياتها تبين أنها كانت فى السنة الخامسة للبعثة، إبان الهجرة الأولى للحبشة، فى رمضان منها؛ وهذا مما يؤكد بطلان تلك المرويات، ويحقق كذبها ووضعها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يضاف إلى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل إسلام عمر رضى الله عنه، ما كان يصلى عند الكعبة جهاراً نهاراً آمناً أذى المشركين له، حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه، وإنما كان يصلى إذا خلا المسجد منهم، وعمر رضى الله عنه قد أسلم فى السنة السادسة، وهذه فى الخامسة، وبذلك يبطل هذا القول، وهو صلاته بحضورهم على هذه الهيئة. ومن المعلوم أن معاداتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت أعظم من يقروا بهذا القدر من القراءة، دون أن يقفوا على حقيقة الأمر؛ فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجداً دون أن يتحققوا ذلك منه صلى الله عليه وسلم (2) .
رابعا: ذهب جماهير علماء الأمة من المحدثين
رابعاً: ذهب جماهير علماء الأمة من المحدثين، ومن المحققين الذين جمعوا بين المعقول والمنقول إلى إنكار القصة، والجزم بوضعها واختلاقها (1) وإليك نماذج من أقوالهم:
قال القاضى عياض: "إن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون، المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم… ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين التابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها، ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث ابن عباس (1) وضعفه الأئمة أيضاً. ثم نقل القاضى عن الحافظ البزار قوله: "هذا الحديث – أى فرية الغرانيق – لا نعلمه يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم، بإسناد متصل يجوز ذكره إلا بهذا الإسناد وهو: "يوسف بن حماد، عن أمية بن خالد، عن شعبة، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال ابن جبير: فيما أحسبه". وضعفه الإمام البزار بما يلى: تفرد أمية بن خالد بنقل هذا الحديث مسنداً عن شعبة عن أبى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وغير أمية بن خالد يرويه مرسلاً عن سعيد بن جبير عن النبى صلى الله عليه وسلم، ومن غير ذكر ابن عباس. وقوع الشك فى حديث شعبة، فسعيد بن جبير، وإن كان معتمداً لكن تردد أن النبى صلى الله عليه وسلم، كان بمكة فى هذه القضية، أو بغيرها. رواية الكلبى لهذا الحديث عن أبى صالح عن ابن عباس، مضعفة أيضاً بأن الكلبى غير ثقة، وأن أبا صالح لم يسمع من ابن عباس، ففيها انقطاع، والمنقطع من أقسام الضعيف (2) فلا يحتج به (3) .
قال القاضى عياض: "فقد بين لك أبو بكر البزار رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوزه ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه، مع وقوع الشك فيه الذى لا يوثق به ولا حقيقة معه" (1) . قلت: وفى ذلك رد على قول الإمام السيوطى فى رواية ابن عباس الموصولة، بأن إسنادها جيد (2) زد على ذلك ما نقله القاضى عن القاضى بكر بن العلاء المالكى فى بيانه لضعف القصة من حديث ضعف سندها واضطراب متنها بقوله: "لقد بلى الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون، مع ضعف نقلته واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته: فقائل يقول إنه فى الصلاة، وآخر يقول: قالها فى نادى قومه، حيث أنزلت عليه السورة؛ وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة، وآخر يقول: بل حدث نفسه فسها، وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وأن النبى صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل، قال: ما هكذا أقرأتك؛ وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأها؛ فلما بلغ النبى صلى الله عليه وسلم ذلك قال: والله ما هكذا نزلت؛ إلى غير ذلك من اختلاف الرواة" (3) . وقال الإمام الرازى: "أهل التحقيق قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، ونقل عن الحافظ ابن خزيمة، أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة، وصنف فيه كتاباً، كما حكى عن الإمام البيهقى قوله: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم فى أن رواة هذه القصة مطعون فيهم" (4) .
خامسا: القصة لم يخرجها أصحاب الكتب الصحاح:
وقال الإمام ابن حزم: "وأما الحديث الذى فيه "وإنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى" فكذب بحت موضوع، لأنه لم يصح قط من طريق النقل، فلا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد" (1) . وقال فضيلة الشيخ محمد الصادق عرجون بعد أن فند الروايات التى ذكرها الإمام السيوطى فى تفسيره، وأجاد فى الرد عليها بما يغنى عن ذكره قال: "ليس فى روايات فرية الغرانيق، رواية قط متصلة الإسناد على وجه الصحة، ولم يذكر فى جميع الروايات صحابى قط على وجه موثق، وما ذكر فيه باسم ابن عباس، فكلها ضعيفة واهية خلا رواية سعيد بن جبير على الشك فى إسنادها إلى الحبر ابن عباس، والشك يوهيها" (2) . خامساً: القصة لم يخرجها أصحاب الكتب الصحاح: ... فرية الغرانيق لم يخرجها أحد من أصحاب الصحاح، ولا أحد من أصحاب الكتب المعتمدة كالسنن الأربعة، ومسند الإمام أحمد، كما زعم كذباً بعض أعداء السنة المطهرة والسيرة العطرة (3) والذى رواه البخارى فى صحيحه عن ابن عباس: "أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأن النجم وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون، والجن، والإنس" وفى رواية للبخارى أيضاً عن ابن مسعود قال: "أول سورة أنزلت فيها سجدة "والنجم" قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد من خلفه، إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً، وهو أمية بن خلف" (4) .
سادسا: سؤال بعضهم:
.. فأنت ترى هنا أن البخارى اقتصر على هذا الجزء الصحيح من القصة، وليس فيه البتة فرية الغرانيق! فأين هذا مما يزعمه بعض الرافضة من إيهام القارئ أن فرية الغرانيق ذكرها الإمام البخارى فى صحيحه؟! (1) . سادساً: سؤال بعضهم: "كيف سجد المشركون عند نهاية السورة لقوله تعالى: {فاسجدوا لله واعبدوا} (2) مع أنهم يرفضون السجود لله؟ قال تعالى: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً} (3) . فالجواب: ... إن سجود أهل الشرك كان لما سمعوه من أسرار البلاغة الفائقة، والفصاحة البالغة، وعيون الكلم، الجوامع لأنواع من الوعيد والإنكار، والتهديد والإنذار، وقد كان العربى يسمع القرآن فيخر له ساجداً (4) . ... يقول الأستاذ سيد قطب: "سجود المشركين كان لاعتبارين: الاعتبار الأول: كامن فى ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن. ولهذه الإيقاعات المزلزلة فى سياق هذه السورة… خصوصاً إذا كان القارئ هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذى تلقى هذا القرآن مباشرة من مصدره، وعاشه وعاش به، وأحبه حتى لكان يثقل خطاه إذا سمع، من يرتله داخل داره، ويقف إلى جانب الباب يسمع له حتى ينتهى. ... وفى هذه السورة بالذات كان يعيش لحظات عاشها فى الملأ الأعلى، وعاشها مع الروح الأمين، وهو يراه على صورته الأولى. والاعتبار الثانى: أن أولئك المشركين لم تكن قلوبهم ناجية من الرعشة والرجفة، وهم يستمعون إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. إنما كان العناد المصطنع هو الذى يحول بينهم وبين الإذعان.
سابعا: الرد على المثبتين للقصة:
.. ومثل هؤلاء إذا استمعوا إلى سورة النجم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرب ما يحتمل أن تصادف قلوبهم لحظة الاستجابة التى لا يملكون أنفسهم إذاءها، وأن يأخذوا بسلطان هذا القرآن؛ فيسجدوا مع الساجدين بلا غرانيق ولا غيرها من روايات المفترين" (1) . ... قلت: فسجودهم كان معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بقهر المشركين، وإجبارهم على السجود، كما قال عز وجل: {إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} (2) وكما ألقى سحرة فرعون ساجدين لما رأوا معجزة سيدنا موسى عليه السلام، تلقف ما يأفكون، ألقى كفار قريش سجداً لمعجزة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهى معجزة سيخر لها أهل الكفر إلى يوم الدين أهـ. سابعاً: الرد على المثبتين للقصة: ... سبق التنويه على أن بعض المفسرين، والمحدثين، ذكروا قصة الغرانيق فى كتبهم، وقرروا قبول سندها، مع ردهم لما جاء فيها من مدح الأصنام "تلك الغرانيق العلا…الخ" وتأويلهم لها.
.. والجدير بالذكر هنا ما قاله الإمام ابن حجر، لأنه عالم متبحر محقق تابعه فى كلامه أئمة أعلام أيضاً (1) وكذلك لأن كلام الإمام اعتمد على الصناعة الحديثية، فاستحق التنويه والتعقيب بخلاف غيره (2) قال الإمام ابن حجر بعد تصريحه القاطع فى الحكم على روايات القصة بالضعف والانقطاع قال: "لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً، مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين، أحدهما: ما أخرجه الطبرى عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والثانى: عن أبى العالية (3) .
.. قال الحافظ: وقد تجرأ أبو بكر بن العربى كعادته فقال: ذكر الطبرى فى ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها (1) وهو إطلاق مردود عليه، وكذا رد الحافظ كلام القاضى السابق ذكره، ثم قال: وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلاً، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهى مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله: "ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى" فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم، أن يزيد فى القرآن عمداً ما ليس منه، وكذا سهواً، إذا كان مغايراً لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته" (2) . ... والكلام مع الإمام الحافظ ابن حجر فيما قاله يجرى على وجوه: الوجه الأول: يتعلق بروايات القصة والتى ساقها الحافظ ثم عقب عليها بقوله: "وكلها سوى طريق سعيد بن جبير، إما ضعيف، وإما منقطع" (3) أى فلا تقوم به حجة، وهذا نص قاطع من ابن حجر يضاف إلى نصوص الأئمة السابق ذكرها، فى أن روايات هذه القصة ضعيفة السند، واهية المخرج، لا تصلح للاحتجاج بها، بما فى ذلك طريق ابن جبير على ما سبق.
الوجه الثانى: يتعلق بعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى بلاغ وحى الله تعالى، وعدم الخطأ فيه، لا عمداً ولا سهواً، وكذا عصمته من تسلط الشيطان عليه، وهى عصمة ثابتة له صلى الله عليه وسلم، بشهادة القرآن والسنة والتاريخ، وإجماع الأمة على ما سبق شرحه (1) وهو ما يتعارض مع ما جاء فى هذه القصة من تسلط الشيطان عليه، وإلقائه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى ثنايا تلاوته آيات الله المنزلة بالوحي، أخبث كلمات الكفر التى تشيد بالأوثان مدحاً وتعظيماً، وهو ما ينقض بنيان العصمة من أساسه؟. الوجه الثالث: يتعلق بالثقة بوحى الله تعالى إلى رسله، فإذا فتح للشيطان أدنى منفذ للتسلط على رسل الله تعالى، وتلقينهم أخبث الكفر، دون أن ينتبهوا إلى ما يلقى إليهم من ذلك، ويبلغوه إلى أممهم فيما يبلغونه عن الله تعالى، لم يبق للأمة ثقة فيما تسمع من رسولها، وهذا بلا شك، هدم لدعوات الرسل، وإبطال لرسالاتهم. الوجه الرابع: يتعلق بالثقة بنبينا سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم فى معرفته بأسلوب القرآن ومعانيه، معرفة لا تسمو عليها معرفة أحد، لأنه القيم على تمييز أسلوبه وروعة بيانه، والمثل الأعلى فى العلم بحقائقه الإيمانية، فإذا جاز أن يلقى إليه الشطان كلمات أخبث الكفر، فى أثناء تلاوته لآيات الله تعالى، الموطدة لدعائم التوحيد، وهدم الوثنية والشرك – كما تزعم أقصوصة الغرانيق – على سمع جموع المسلمين، والمشركين، ثم لا يتنبه لذلك، ولا يميز بين ما هو قرآن كريم من عند الله تعالى؛ وما هو كفر خبيث من إلقاء الشيطان، فماذا بقى لهذا الرسول الكريم من ثقة فى نفوس المؤمنين به؟.
.. فقول الحافظ ابن حجر بعد سوقه كلام القاضيين أبى بكر بن العربى، وعياض: وجمع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها، دل ذلك على أن لها أصلاً. من أغرب قضايا العلم فى منهج الإسلام؛ فالأمر يتعلق بأقصوصة إذا سلمت كانت معولاً هداماً لأصل أصول الإسلام، بل أصل أصول الدين كله فى جميع رسالات الله تعالى إلى جميع أنبياءه ورسله، لأنها تطعن فى عصمة الأنبياء، وتقرر أن الشيطان صاحب سلطان عليهم، وهذه مزلقة لا ينتهى من يقع فيها إلا إلى هاويه لا قرار لها. الوجه الخامس: أن قاعدة الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دلت على أن موضوع الروايات له أصل ليست على عمومها، ففى باب العقائد لا يقبل إلا النص الصحيح المقطوع بصحته، وفى غير أبواب العقائد من الأحكام الفرعية، فإن هذه القاعدة مقيدة، كما قال المحدثون. بالضعف الذى يزيله ما يجبره، وذلك إذا كان الضعف ناشئاً عن ضعف حفظ الراوى، أما الضعف الذى لا يزول لقوته، وتقاعد الجابر عن جبره ومقاومته فلا وزن له، ولو جاء من سبعين طريقاً متباينة المخارج، وذلك كالضعف الذى ينشأ من كون الراوى متهماً بالكذب – كما فى بعض روايات أقصوصة الغرانيق التى جاءت من طريق الكلبى (1) وهو كذوب ولا تجوز الرواية عنه، ومثل ذلك كون الحديث شاذاً (2) .
.. ثم قال الحافظ ابن حجر: وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها – أى من روايات قصة الغرانيق – على شرط الصحيح، وهى مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض. ... قلت: إن هذا التعميم فى الاحتجاج بالمرسل عند من يقول به، ومن لا يقول به غير مسلم، لأن الخلاف فى الاحتجاج بالمرسل إنما هو فى أحكام الفروع، ولا يمكن أن يكون جارياً فى أصول العقائد، لأنها لا تثبت إلا بدليل صحيح، والمرسل ضعيف عند جمهور المحدثين كما قال الإمام مسلم: "إن المرسل من الروايات فى أصل قولنا، وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة" (1) وقال ابن الصلاح: "ثم اعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف، إلا أن يصح مخرجه من وجه آخر، وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل، والحكم بضعفه هو المذهب الذى استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث، ونقاد الأثر" (2) . الوجه السادس: أن الأمام ابن حجر يرى فى القصة ما هو محال أن يقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الزيادة فى القرآن عمداً أو سهواً، بيد أنه لم يشأ أن يقف عند هذه النتيجة التى كانت أمراً طبيعياً يسوق إليها البحث العلمى، وينتهى بها إلى أن هذه الأقصوصة أكذوبة باطلة، ما كانت تستحق أن تجول ساحبة ذيولها فى ساحة سيرة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه خضع لقواعد الصنعة فى غير محلها – حيث يمس الأمر العقائد – وراح يتشبث بالتأويل فيما رآه محالاً، وحكى من ضروب هذا التأويل أقوالاً كلها بعيدة عن نص روايات القصة. وحتى التأويل الذى استحسنه ورجحه بعض الأئمة، بالتأمل فيه ترى أنه غير مقبول، وترده نص روايات القصة (3) .
.. انظر مثلاً: قول القاضى: "والذى يظهر ويترجح عند ابن العربى (1) وعند غيره من المحققين على تسليمه، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلاً، ويفصل الآى تفصيلاً فى قراءته، كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات، ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكياً نغمة النبى صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار فظنوها من قول النبى صلى الله عليه وسلم وأشاعوها" (2) . ... قلت: وهذا التأويل الراجح عند ابن العربى، وارتضاه الحافظ (3) وغيره ممن تابعه قديماً وحديثاً، ما أضعفه عند النظر والتأمل، فهو يوقع القائل به فيما فر منه، وهو تسلط الشيطان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم عصمته فيما يبلغ عن ربه عز وجل، حيث أن التسلط بالمحاكاة كالتسلط عليه بالإجراء على لسانه، كلاهما لا يجوز، وفتح هذا الباب خطر على الرسالات الإلهية. ... وإذا سلمنا أن الشيطان هو الذى نطق بهذا المنكر من القول فى أثناء سكوت النبى صلى الله عليه وسلم؛ فكيف لم يسمع ما حكاه الشيطان؟! وإذا كان سمعه فلم لم يبادر إلى الإنكار، والبيان فى مثل هذا واجب على الفور؟!. ... وإذا لم يسمع النبى! ألم يسمع أصحابه؟ وإذا سمعوا فلم لم يبادروا إلى تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم؟!. وأهون من هذا فى الإبطال وأشد فى الاستغراب ما ذكره موسى بن عقبة فى مغازيه، من أن المسلمين ما سمعوها، وإنما ألقى الشيطان بهذه المقالة فى أسماع المشركين!!.
معنى آية التمنى:
.. فهل كان الشيطان يسر بها فى آذان المشركين دون المسلمين؟ ثم كيف يتفق هذا الذى اختاروه، وما روى من أن النبى صلى الله عليه وسلم حزن حزناً شديداً، وأن جبريل قال له: ما جئتك بهذا؟! (1) . ... فإذا كان هذا المستحسن عن بعض الأئمة ترده نفس الروايات الضعيفة، فمن باب أولى باقى التأويلات التى ذكر معظمها الإمام ابن حجر وردها كما ردها من سبقه من الأئمة (2) . معنى آية التمنى: ... وإذ قد انتهينا إلى هذه النتيجة الممحصة، فآية التمنى فى قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم} (3) لا صلة لها بفرية الغرانيق لما يلى: آية التمنى فى سورة الحج، وهى مدنية بالاتفاق، ولاسيما وأنه قد ورد فيها الأمر بالأذان فى الناس بالحج، والأمر بالقتال، والأمر بالجهاد، وذكر فيها الصد عن المسجدالحرام، وكل ذلك إنما كان بعد الهجرة، وبعضه أتى بعدها بعدة سنوات، وهذا يعنى أن هذه الآية قد نزلت بعد الغرانيق بسنوات عديدة، لأن قصة الغرانيق قد حصلت فى السنة الخامسة من البعثة، فكيف أخر الله تسلية وتهدئة خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه السنين الطويلة؟!.
إن آية التمنى ليس فيها دلالة على شئ من فرية الغرانيق من قريب أو بعيد، لولا ما افتراه الزنادقة من مراسيل واهية فى أسباب نزولها! وقد فسر آية التمنى كثير من جهابذة علماء الإسلام فى تفاسيرهم المتداولة بين الأمة، ولم يظهر لهم قط حاجة إلى إلصاق القصة بتفسير الآية، ومن هؤلاء المفسرين الجهابذة، أبو حيان فى تفسيره (البحر المحيط) (1) والشوكانى فى تفسيره (فتح القدير) (2) وأبو بكر بن العربى فى (أحكام القرآن) (3) على أن معنى الآية لا ينسجم مع مفاد الرواية، فإن التمنى هو: تشهى حصول أمر محبوب ومرغوب فيه (4) فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما يتشهى ويتمنى ما يتناسب مع وظيفته كرسول، وأعظم أمنية لإنسان كهذا، هى ظهور الحق والهدى، وطمس الباطل، وكلمة الهوى، فيلقى الشيطان بغوايته للناس ما يشوش هذه الأمنية، ويكون فتنة للذين فى قلوبهم مرض، كما ألقى فيما بين أمة موسى من الغواية ما ألقى، فينسخ الله بنور الهدى غواية الشيطان، ويظهر الحق للعقول السليمة. أما لو أردنا تطبيق الآية على ما يقولون: فإن المراد بالتمنى يكون هو القراءة والتلاوة، وهو معنى شاذ غريب، يخالف الوضع اللغوى، وظاهر اللفظ، أما الشعر المنقول عن حسان بن ثابت، كشاهد على ذلك، فمشكوك فى نسبته إليه (5) .
وحتى لو قبلنا أن المراد بالتمنى هو التلاوة، فإن من الممكن أن يكون المراد من الآية هو: إعلام المولى عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، بأن من أرسل قبله من الرسل كان إذا تلا ما يؤديه إلى قومه، حرفوا عليه، وزادوا فيما يقوله ونقصوا، كما فعلت اليهود والنصارى فى الكذب على أنبيائهم قال تعالى: {ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه} (1) وقال سبحانه: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه} (2) وقال عز وجل: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} (3) وقال تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} (4) فأضاف ذلك إلى الشيطان لأنه يقع بوسوسته وغروره، ثم بين الله عز وجل أنه يزيل ذلك ويدحضه بظهور حجته وينسخه بشريعة نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، تلك الشريعة التى تعهد رب العزة بحفظها فى قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (5) .
وفى هذه المعانى قال أبو حيان: "ذكر الله تعالى مسلاة لنبيه، باعتبار من مضى من الرسل والأنبياء، وهو أنهم كانوا حريصين على إيمان قومهم، متمنين لذلك، مثابرين عليه، وأنه ما منهم أحد إلا وكان الشيطان يراغمه بتزيين الكفر لقومه، وبث ذلك إليهم، وإلقائه فى نفوسهم، كما أنه صلى الله عليه وسلم كان من أحرص الناس على هدى قومه، وكان فيهم شياطين كالنضر بن الحارث، يلقون لقومه، وللوافدين عليه شبهات يثبطون بها عن الإسلام، ولذلك جاء قبل هذه الآية: {والذين سعوا فى آياتنا معاجزين} (1) وسعيهم بإلقاء الشبه فى قلوب من استمالوه، ونسب ذلك إلى الشيطان؛ لأنه هو المغوى والمحرك شياطين الإنس للإغواء لما قال "لأغوينهم" ومعنى: {فينسخ الله ما يلقى الشيطان} يزيل تلك الشبه شيئاً فشيئاً حتى يسلم الناس كما قال: {ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا} (2) {ثم يحكم الله آياته} معجزاته يظهرها محكمة لا لبس فيها {ليجعل ما يلقى الشيطان} من تلك الشبه وزخارف القول "فتنة" لمريض القلب ولقاسية، وليعلم من أوتى العلم أن ما تمنى الرسول والنبى من هداية قومه، وإيمانهم هو الحق. وهذه الآية ليس فيها إسناد شئ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما تضمنت حالة من كان قبله من الرسل والأنبياء إذا تمنوا" (3) . وصفوة القول: أن الذين أثبتوا القصة أجمعوا على رد معناها حيث جمعت بين ضعف السند والمتن، وقوة المعارض من القرآن الكريم، وتاريخ سيرته صلى الله عليه وسلم العطرة، وإجماع الأمة على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل ما يخل بالتبليغ، وهذا كله يدعونا إلى أن نصدع بأن قصة الغرانيق مكذوبة، اختلقها الزنادقة الذين يريدون إفساد الدين، والطعن فى عصمة سيد الأنبياء وإمام المخلصين صلى الله عليه وسلم. وبعد:
.. فإن الناظر فيما ساقه القوم من شبهه – يلاحظ مدى تحير القوم، وترددهم واضطرابهم، فى تحديد المصدر الذى صدر عنه الوحي الذى جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ... فانظر كم قلبوا من وجوه الرأى فى هذه المسالة؟ فمرة يقولون كذا، ومرة يقولون كذا، كما علمت فى المطالب السابقة. فإن شئت أن تطلع على هذه الصورة المضحكة من البلبلة الجدلية فاقرأ وصفها فى قوله تعالى: {بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر} (1) . ... فهذه الجملة القصيرة تمثل لك بما فيها من توالى حروف الإضراب مقدار ما أصابهم من الاضطراب فى رأسهم، وتريك صورة شاهد الزور إذا أحس بحرج موقفه، كيف ينقلب ذات اليمين وذات الشمال. ... وإذا كان أعداء الإسلام من المستشرقين يتحيرون ويضطربون فى تحديد مصدر الوحي، فأذيالهم وأبواقهم من أعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة هم كذلك يتحيرون ويتناقضون؛ وهم يطعنون فى الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإلى بيان ذلك فى المبحث التالى.
المبحث الثانى: شبهات أعداء السنة المطهرة حول الوحي الإلهى
المبحث الثانى: شبهات أعداء السنة المطهرة حول الوحي الإلهى والرد عليها تمهيد: ... إذا كان أعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة يتظاهرون بإسلامهم وإيمانهم بكتاب الله عز وجل، فإنك تجدهم يعلنون فى صراحة الكفر بالشطر الثانى من الوحي الإلهى المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سنته المطهرة، وسيرته العطرة الواردة فيها. ... وهذا يبدوا واضحاً حين رسموا من خيالهم المريض صورة مزيفة لدور رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته؛ وهى صورة إجمالية لا تخرج عن دور "ساعى البريد" إن صح التعبير فى جناب مقامه صلى الله عليه وسلم الجليل. ... إنهم يرون أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته، قاصرة على بلاغ القرآن فقط، ومن هنا أنكروا سنته المطهرة، وسيرته العطرة الواردة فيها. وزعموا أن طاعته صلى الله عليه وسلم، محصورة فى كتاب الله عز وجل فقط!. ... ولأنهم يتمسحون بظاهر الآيات القرآنية وجدوا أنفسهم فى مأزق من خلال عشرات الآيات التى تحض على طاعته صلى الله عليه وسلم، وتجعل طاعته من طاعة الله تعالى؛ فلم يعدموا لها تأويلاً، بزعمهم أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى القرآن تعنى الطاعة لكتاب الله عز وجل، ولم يكتفوا بهذا إذ زعموا أن القول بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم شرك وتأليه له، ومن يقول بها فقد كفر وأشرك بربه. ... وهم فى كل ما يأفكون يتسترون بعباءة القرآن الكريم حتى يقبل المسلمون كلامهم، ولكن أنى لهم هذا! وهم يفسرون آيات الله عز وجل، تفسيراً يخرجها عن معناها تماماً، وهو نتيجة طبيعية لعدم التزامهم بقواعد التفسير، وأصول الفكر الإسلامى. ... فإلى تفصيل شبهاتهم والرد عليها فى المطالب التالية.
المطلب الأول: شبهة أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصرة على بلاغ القرآن فقط
المطلب الأول: شبهة أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصرة على بلاغ القرآن فقط والرد عليها ... طعن أعداء السنة المطهرة، فى دور رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي، وحصروا بلاغه فى الرسالة، على تبليغ القرآن الكريم فقط، وقالوا هى مهمته الوحيدة، وعدوا القول بخلاف قولهم اتهام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه فرط فى تبليغ الوحي. ... وجاءت أقوالهم فيما يفترون صريحة، وإليك نماذج منها: قال رشاد خليفة (1) : "إن مهمة الرسول الوحيدة: هى تبليغ القرآن بدون أى تغيير، أو إضافة، أو اختزال، أو شرح" (2) . وقال فى موضع آخر: "أمر محمد بتبليغ القرآن فقط بدون أى تغيير، وألا يختلق أى شئ آخر" ويقول: "محمد ممنوع من التفوه بأى تعاليم دينية سوى القرآن" (3) . ويقول محمد نجيب (4) : "نسبة أى شئ للرسول غير القرآن طعن فى أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم" (5) .
ويقول أحمد صبحى منصور: "إن إسناد قول ما للنبى وجعله حقيقة دينية هو اتهام للنبى بأنه فرط فى تبليغ الرسالة… بإيجاز كانت مهمة النبى مقتصرة على التبليغ دون الإفتاء والتشريع" (1) . ويقول إسماعيل منصور (2) : "إنه ليس لجبريل عليه السلام فى القرآن الكريم دور إلا النقل الأمين فحسب، كما أنه ليس لمحمد فيه دور كذلك إلا البلاغ الصادق وحده. قال تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} (3) وقال سبحانه: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (4) .
ويقول جمال البنا (1) : "ونصوص القرآن الكريم واضحة، وصريحة، ومتعددة، وهى تحصر دور الرسول فى البلاغ، وكثيراً ما تأتى الإشارة إلى البلاغ بصيغة الحصر، ولكنها فى حالات أخرى تضيف إلى البلاغ صفة "المبين" قال تعالى: {وإن تولوا فإنما عليك البلاغ} (2) وقال سبحانه: {فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين} (3) . ويجاب عن هذه الشبهة بما يلى: أولاً: لكل مسلم أن يعجب من جراءة هؤلاء الأدعياء الذين يتسترون بعباءة القرآن الكريم، فى جرأتهم وتطاولهم على الذات العليا من حيث يشعرون أو لا يشعرون. ... إذ بعثة الرسول أو النبى، وتحديد دوره فى رسالته أمر لا يملك منه أحد شئ سوى الخالق عز وجل؛ وتلك بديهة لا يخالفها عاقل. ... فإذا جاء أعداء السنة المطهرة، وزعموا أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصرة على بلاغ القرآن فقط، وأن نسبة أى شئ إليه سوى القرآن يعنى الطعن فى أمانته، وأنه فرط فى تبليغ الرسالة، فقد تجرءوا وتطاولوا على ربهم. حاسبهم سبحانه بما يستحقون.
ثانياً: إذا كان أعداء السنة المطهرة والسيرة العطرة اتخذوا لأنفسهم شعار "القرآنيون" يستدلون به وحده على ما يزعمون؛ فهم يحرصون دائماً على الإيمان ببعض القرآن، والكفر ببعضه الآخر؛ حيث أنهم هنا فى افتراءاتهم يستدلون بظاهر وعموم بعض الآيات القرآنية التى تحث رسول الله صلى الله عليه وسلم، على البلاغ، وتركوا باقى نصوص القرآن الكريم التى تفصل حقيقة هذا البلاغ، وتفصل أيضاً باقى أدوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى رسالته. ... وإليك شواهد من الآيات القرآنية ترد على افتراءاتهم، وتبين فى وضوح وجلاء أن دور رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته ليس قاصراً على بلاغ القرآن الكريم فقط، وإنما بيان هذا الكتاب الكريم، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتزكيتهم، والحكم بينهم فى كل شأن من شئون حياتهم، وما كل ذلك إلا بالسنة المطهرة، والسيرة العطرة التى ينكرونها. قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (1) والبلاغ الذى أمر المولى عز وجل به رسوله، هو الوظيفة الأولى له صلى الله عليه وسلم وهو بلاغ عام وشامل لكل ما تحتاج إليه البشرية فى عاجلها وآجلها، ودنياها وأخراها، وقد وصل إلينا هذا البلاغ فى وحيين: أحدهما: متلو وهو القرآن الكريم. وثانيهما: غير متلو وهو السنة المطهرة. ... ويدل على عموم البلاغ، عموم الاسم الموصول "ما" فى الآية الكريمة، كما عمم من أراد تبليغهم، حيث حذف المفعول الأول لـ "بلغ" ليعم الخلق المرسل إليهم؛ والتقدير: بلغ جميع ما أنزل إليك من كتاب وسنة، من يحتاج إلى معرفته من أمر الدين الموحى به إليك (2) .
.. أما كون رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نص القرآن، ما عليه إلا البلاغ، والاستدلال بظاهر ذلك على حصر مهمته فى بلاغ القرآن فقط، فإن ذلك فهم غير مراد؛ لأن قوله تعالى: {ما على الرسول إلا البلاغ} (1) معناه نفى الإكراه على الاعتقاد والإيمان، نحو قوله تعالى: {قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل} (2) وقال سبحانه: {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ} (3) والمعنى: نفى الإكراه على الاعتقاد والإيمان، ففى العقيدة والتصديق القلبى، لا إكراه، أى ليس هناك إلا البلاغ، أما فى شريعة الدولة والسياسة والاجتماع والمعاملات، فهناك السلطان والثواب والعقاب، وليس هناك أدنى تناقض بين وقوف سلطان الرسول صلى الله عليه وسلم، فى العقيدة عند البلاغ؛ {لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى} (4) وبين وجود ووجوب الطاعة المتميزة له، فى إطار بيان وتطبيق الوحي الإلهى… بل إن القرآن الكريم يجمع بين الأمرين فى الآية الواحدة. وتأمل قوله تعالى: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (5) فالرسول الله صلى الله عليه وسلم، طاعة متميزة وسلطان وتشريع لإقامة الدين، والإقامة تطبيق وتجسيد، يزيد على مجرد البلاغ والتبليغ بدليل ما يلى: قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (6) و"التبيين" هنا غير "التبليغ" الذى هو الوظيفة الأولى للنبى صلى الله عليه وسلم، {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (7) .
و"التبيين" و"التبليغ" وظيفتان موضوعهما واحد هو "القرآن الكريم" عبر عنه فى آية "التبليغ" بهذا اللفظ: {ما أنزل إليك} وعبر عنه فى آية التبيين بلفظ مختلف: {ما نزل إليهم} وبينهما فروق لها دلالتها. مردها إلى الفرق بين الوظيفتين. "فالتبليغ": تأدية النص، تأدية "ما أنزل" كما "أنزل" دون تغيير ما على الإطلاق، لا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير. و"التبيين": إيضاح، وتفسير، وكشف لمراد الله من خطابه لعباده، كى يتسنى لهم إدراكه، وتطبيقه، والعمل به على وجه صحيح. "والتبليغ": مسئولية "المبلغ" وهو المؤتمن عليها، وهذا سر التعبير: {وأنزلنا إليك} حيث عدى الفعل "أنزل" بـ "إلى" إلى ضمير النبى صلى الله عليه وسلم المخاطب. و"التبيين": مهمة، فرضتها حاجة الناس لفهم ما خوطبوا به وبلغوه، وإدراك دلالته الصحيحة، ليطبقوه تطبيقاً صحيحاً. ومن هنا كانت المخالفة فى العبارة … "نزل إليهم" حيث عدى الفعل "نزل" بـ "إلى" مضافاً إلى الضمير "هم" أى الناس، وعدى الفعل: "لتبين" إلى الناس بـ "اللام" أن كانت حاجتهم إلى "التبيين" هى السبب والحكمة من ورائه، وهى توحى بقوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بحاجة إلى ما احتاج إليه الناس من هذا التبيين، ولعمرى إنه لكذلك، فقد أوحى إليه بيانه وألهمه، فالتقى فى نفسه "البيان" و"المبين" معاً وأصبح مؤهلاً لأن يقوم بالوظيفتين: وظيفة البلاغ، ووظيفة التبيين على سواء!. وكما أن محالاً أن يكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، شيئاً مما أمر بتبليغه، فمحال أن يترك شيئاً مما أمر بتبليغه دون أن يبينه، فكلا الأمرين: التبليغ والتبيين من صميم رسالته: {بلغ ما أنزل إليك} … {لتبين للناس ما نزل إليهم} 0
واختلاف الناس فى فهم القرآن ما بين مصيب ومخطئ… واختلافهم فى درجات الإصابة، ودرجات الخطأ… برهان بين على حاجتهم إلى "تبيين" لكتاب ربهم، ينهض به إمام الموقعين عن رب العالمين … رسول الله الذى أنزل عليه هذا الكتاب. هنا يقع قول الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (1) موقعاً يسد كل ثغرة، يحاول النفاذ منها من يرفض "سنة رسول الله" أو يهون من شأنها، أو يسعى للتشكيك فيها، وإسقاط حجيتها وإلزامها. ويقع نفس الموقع قول النبى صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدرى؟ ما وجدنا فى كتاب الله اتبعناه" (2) . وهنا لى أن أقرر: أن إنكار مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، البيانية، أو رفضها أو التشكيك فيها ينطوى على رفض وتكذيب للقرآن نفسه؟ {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} (3) . كما ينطوى على الطعن فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى بلاغ وحى الله تعالى، إليه، لأن ترك تبيين كلمة واحدة فى القرآن الكريم، تحتاج إلى تبيين دون أن يبينها تقصير، ككتمان حرف واحد مما أمر بتبليغه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مبرأ من أن يخون فى التبليغ، أو يقصر فى التبيين.
فمن المتهم إذن: باتهام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه فرط فى تبليغ رسالته؟ من يؤمن بأن من مهمته فى رسالته البيان أم من ينكر ذلك؟!. إن إنكار أعداء السنة المطهرة، لهذه المهمة، بحجة أن المولى عز وجل تكفل بهذا البيان والتفصيل فى قوله: {ثم إن علينا بيانه} (1) وقوله سبحانه: {وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلاً} (2) وقوله: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ} (3) لا حجة لهم فى ذلك لما يلى: أ- أن مجئ لفظ البيان فى جانب الله تعالى: {ثم إن علينا بيانه} ، ومجئ لفظ "التبيين" فى جانب رسول الله، {لتبين للناس ما نزل إليهم} لا يفسر بأنه تنويع فى اللفظ، أو تفنن فى العبارة، وإنما هو قصد مقصود، وراءه دلالات يبحث عنها وهى: أن "بيان" الله للقرآن إنما هو لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومصدره هو الله تعالى، ومستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطريقه: الوحي فى صورة ما من صورة. أما "التبيين" فهو من رسول الله للناس، ومصدره رسول الله، ومستقبله المخاطبون بهذا القرآن، وطريقه إنما هو "اللغة" وليس "الوحي".
.. والخلاصة: رسول الله يتلقى بيان القرآن عن ربه "وحياً" والناس يتلقون تبيينه عن رسول الله "لغة وكلاماً"، إذن: هناك اختلاف بين "البيان" و"التبيين" من ثلاث جهات: من جهة المصدر، ومن جهة المستقبل، ومن جهة الطريق أو الأداة، أو الوسيلة، التى يعبر خلالها "البيان" أو "التبيين" إلى مستقبله هل يكفى هذا لبيان السبب فى اختصاص كل لفظ بموضعه؟. وهل يزعم زاعم بعد هذا أن بالإمكان التعبير عن كلا "البيانين" "بيان الله" و"تبيين رسوله" للقرآن بلفظ واحد. ... إن الفرق من السعة والوضوح والعمق، بحيث يفرض اختلاف التعبير فى هذين المقامين المختلفين (1) . ب- إن المراد بتفصيل وتبيان الكتاب لكل شئ يعنى: تفصيل وتبيان القرآن لكل شئ من أحكام هذا الدين كقواعد كلية مجمله. أما تفاصيل تلك القواعد، وما أشكل منها، فالبيان فيها راجع إلى تبيين رسول الله صلى الله عليه وسلم. ... ويدل على ذلك قول ابن مسعود فى قوله تعالى: {تبياناً لكل شئ} قال: قد بين لنا فى هذا القرآن، كل علم، وكل شئ. وقال مجاهد: كل حلال وحرام، وقول ابن مسعود أعم وأشمل؛ فإن القرآن اشتمل على كل نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتى، وكل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون فى أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم ومعادهم. وقال الأوزاعى "تبياناً لكل شئ" أى بالسنة (2) .
.. ولا تعارض بين القولين – ابن مسعود والأوزاعى – فابن مسعود يقصد العلم الإجمالى الشامل، والأوزاعى يقصد تفصيل وبيان السنة لهذا العلم الإجمالى. ومن هنا؛ فالقول بأن القرآن الكريم تبيان لكل شئ قول صحيح فى ذاته بالمعنى الإجمالى السابق، ولكن الفساد فيما بنوه عليه من قصر مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على بلاغ القرآن فقط، وإنكار مهمته البيانية (السنة المطهرة) والاكتفاء بالقرآن ليؤولوه حسب أهوائهم، وإلا فرب العزة هو القائل فى نفس سورة النحل، وقبل هذه الآية قال: {ليبين لهم الذى اختلفوا فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} (1) وقال سبحانه: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (2) وقال عز وجل: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه} (3) فتلك ثلاث آيات كريمات فى نفس سورة النحل، وسابقة لآية {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ} والثلاث آيات تسند صراحة مهمة التبيين إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فهل يعقل بعد ذلك أن يسلب الله عز وجل هذه المهمة – التبيين – التى هى من مهام الرسل جميعاً كما قال: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (4) ويوقع التناقض بقوله: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ} وقوله: {وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلاً} ؟!. إن كل الرافضين لمهمة رسول الله البيانية، لابد أن يلتزموا بهذه النتيجة التى تعود بالنقض على الإيمان بالكتاب، وبمن أنزل الكتاب جل جلاله، سواء أقروا بلسانهم بهذا النقض أم لا، وتنبهوا إلى ذلك أم لا؟!!.
.. ويجدر بى هنا أن أشير إلى ما قاله الحافظ ابن حجر مبيناً المراد من الأحاديث والآثار المؤذنة بالاقتصار على كتاب الله عز وجل. نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله" (1) وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده" فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله" (2) وأشباه هذا مما روى مرفوعاً وموقوفاً، بالاقتصار على القرآن فقط. ... يقول الحافظ: "الاقتصار على الوصية بكتاب الله؛ لكونه أعظم وأهم، ولأن فيه تبيان كل شئ، إما بطريق النص، وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب، عملوا بكل ما أمرهم النبى صلى الله عليه وسلم، به لقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (3) وهذا الذى قاله الحافظ رحمه الله، يؤكد ما سبق ذكره. ... ومما هو جدير بالذكر هنا. أن الكلام السابق للحافظ، نقله مبتوراً جمال البنا حيث قال: "التمسك بالقرآن والعمل بمقتضاه، إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله" وترك جمال البنا، بيان أن العمل بالقرآن الكريم يقتضى العمل بالسنة كما صرح ابن حجر (4) .
.. وهذا ما فعله أيضاً أحمد صبحى منصور. حيث نقل كلام الحافظ ابن حجر الذى نقلته، وبتر منه لفظه (النبى صلى الله عليه وسلم) فصارت العبارة: "فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به" (1) وإذا تقرر لك هناك أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فى رسالته مهمة غير التبليغ وهى تبيين القرآن الكريم، الملازم للمهمة الأولى وهى تبليغه. فاعلم أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حكم فى رسالته، جعله ربه من مهام رسالته. 3- قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} (2) فبين ربنا سبحانه أنه أنزل الكتاب إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ليحكم بين الناس بما ألهمه الله وأرشده، وإذا كان الحكم بالقانون، غير سن القانون فإن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما جاء فى القرآن من تشريعات، فضلاً عن تبيينه بالسنة، هو أمر زائد على مجرد البلاغ لهذه التشريعات.
.. وتحكيمه صلى الله عليه وسلم فى كل شئون حياتنا، والرضى بحكمه، والتسليم به، جعله رب العزة علامة الإيمان كما قال: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسيلما} (1) وما ذلك إلا لأن حكمه صلى الله عليه وسلم، وحى من الله واجب الاتباع لقوله {بما أراك الله} وعلى هذا الفهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم، يدل على ذلك قول عمر رضى الله عنه وهو على المنبر: "يا أيها الناس إن الرأى إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مصيباً لأن الله عز وجل كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف" (2) لقد قال عمر ذلك على المنبر، ولم يعترض عليه أحد من الحاضرين، لا من الصحابة، ولا من التابعين، مما يدل على أنهم جميعاً يعلمون أن لرسول الله حكم فى رسالته هو من ربه، وهو أمر زائد على مجرد البلاغ!. وقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين} (3) إن الله عز وجل فى هذه الآية الكريمة، يمتن على هذه الأمة، ببعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أنفسهم، وأنه جاء ليس لمجرد بلاغ وتلاوة القرآن الكريم فقط – كما يزعم أعداء الإسلام؛ وإنما جاء مع بلاغ القرآن وتلاوته؛ جاء بتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والحكمة.
وهذه التزكية والتعليم من مهامه صلى الله عليه وسلم فى دعوته، مع بلاغه للقرآن وبيانه لما فيه، وحكمه به. وبهذه المهمة (التزكية والتعليم) تكون هداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور. 5- قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} (1) أى من ظلمات الكفر والجهل والضلالة، إلى نور الإيمان والعلم والهداية (2) وقال سبحانه: {وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم} (3) فأسند الهداية إليه صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام بكل ما جاء به من عند الله عز وجل، يهدى إلى صراط مسقيم. ... وتأمل قوله "لتخرج" وقوله "تهدى" إنه سبحانه اسند الفعلين إليه صلى الله عليه وسلم وفى ذلك دلالة على أن ذلك من مهام رسالته التى كلفه بها، مع بلاغه للقرآن وتبيينه لما فيه، وحكمه بين الناس وتزكيته وتعليمه لأمته؛ وكل ذلك ينكره أعداء هذه الأمة. إن زعم أعداء السيرة العطرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهمته الوحيدة، تبليغ القرآن فقط، وإنكارهم مهمته البيانية للقرآن الكريم، يعد هذا الزعم منهم طعناً فى عصمته صلى الله عليه وسلم فيما بلغه من وحى السنة المطهرة، وطعناً منهم أيضاً فى عصمته فى رجاحة عقله وكماله، لأنهم فى كتاباتهم المفتراه، يقدمون رؤيتهم القرآنية بياناً، وتفسيراً، ومفهوماً لآيات القرآن الكريم. ... فكيف ينكرون أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيانه، وتفسيره وشرحه لآيات القرآن الكريم؟ وهو أعلم الناس به؛ حيث عليه أنزل.
.. ومن هنا لما قال رجل لمطرف بن عبد الله (1) : لا تحدثونا إلا بما فى القرآن قال مطرف: إن والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا" (2) . ... ويقول جابر بن عبد الله يصف حج النبى صلى الله عليه وسلم،: "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى المسجد ثم ركب القصواء (3) حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصرى بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شئ عملنا به.." الحديث (4) . ... فتأمل قول الصحابى: "ورسول الله بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله" إنه صلى الله عليه وسلم، هو الذى علمه الله القرآن، وكل ما من شأنه أن ييسر العمل به، فعلمه تأويله، وأراه ما به يتم الدين.
.. إن مقتضى إيمانهم برسالته صلى الله عليه وسلم، أن يسألوه ويحكموه عن كل ما بدا لهم؛ إنهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتيه الوحي فى أى وقت بالقرآن وتأويله، وبكل ما يتصل ببيان الدين، ومن هنا سألوا واستفسروا وأجابهم صلى الله عليه وسلم، بما به بين، ووضح، وأفاد وأجاد (1) حتى قال صلى الله عليه وسلم: "قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيع عنها بعدى إلا هالك" (2) . ... إن تأويل وتفسير، رسول الله صلى الله عليه وسلم، للقرآن الكريم، هو فريضة قرآنية، وتكليف إلهى للنبى صلى الله عليه وسلم - زائد على مجرد بلاغه – وليس فضولاً ولا تزايداً، ولا إضافة يمكن الاستغناء عنها لقوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (3) فكيف ينكرون هذا التبيان النبوى للبلاغ القرآنى، بينما يمارسون هم شرح وتفسير آيات القرآن؟ أهذا معقول؟ فضلاً عن أن يكون مقبولاً؟ !!. ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنص الآيات الكريمات السابق ذكرها، مبلغ، ومبين، وحاكم، ومزكى، ومعلم، وهادى إلى صراط مستقيم، وليس مجرد ساعى بريد؟!.
المطلب الثانى: شبهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست له سنة نبوية
.. وبعد: إذا تقرر أن من مهام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى رسالته بيان القرآن الكريم، والمسلمون جميعاً يعلمون ذلك، ويسلمون به، يبقى توضيح أن البيان النبوى هو الحكمة، وهى السنة المطهرة التى ينكرها أعداء الإسلام، ويزعمون أن سنته الحقيقية هى القرآن فقط. فإلى بيان شبهتهم فى المطلب التالى والرد عليها المطلب الثانى: شبهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست له سنة نبوية والرد عليها ... زعم أعداء السنة النبوية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليست له سنة، وأن سنته الحقيقية هى القرآن الكريم فقط، وزعموا أن القول بأن له سنة نبوية، تشويه لسيرته، وتجعله مشرعاً. ... يقول إسماعيل منصور: "إن السنة الحقة، هى سنة واحدة، سنة الله عز وجل، وليست هناك سنة أخرى غيرها، وإنما للرسول، بيان نبوى للقرآن، نرفعه على العين والرأس، متى ثبت تحقيقاً، لا يخالف بأى حال أحكام ومدلولات القرآن الكريم، فنقبله كبيان فحسب، وليس تشريعاً مستقلاً" (1) . ... ويقول أحمد صبحى منصور: "إن تلك الأحاديث المذكورة فى كتب التراث ليست من الوحي، الذى نزل على النبى، وليس هناك فى الإسلام حديث إلا حديث الله تعالى فى القرآن، أما تلك الأحاديث التراثية، وأسفارها، فلا أول لها ولا آخر، وهى تتناقض حتى فى الكتاب الواحد، وربما فى الصفحة الواحدة وتخالف القرآن مثل الرجم وحد الردة" (2) .
.. ويقول صالح الوردانى: "وإذا ما تبين لنا أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، هى تبليغ ما يوحى إليه من ربه، فلا يجوز للرسول أن يضيف أحكاماً فوق أحكام القرآن، فمهمته تنحصر فى تبليغ القرآن وتبيينه للناس، وتنتهى هذه المهمة بوفاته" (1) ويقول أيضاً: "الروايات المنسوبة للرسول، والتى تضيف على لسانه أحكاماً جديدة، وتخترع أحكاماً لا وجود لها فى القرآن تضع الرسول فى دائرة المشرع" (2) . ... ويجاب عن ما سبق بما يلى: أولاً: سبق فى المطلب السابق تفصيل أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته مهمة ووظيفة، زائدة على مجرد البلاغ، وهى مهمة تبيان القرآن الكريم، وهذه المهمة تضاربت فيها أقوال من يسمون أنفسهم "القرآنيون". فبينما تجد بعضهم فيما سبق يجحد هذه المهمة من أصلها، ترى هنا بعضهم يؤمن بها، وبمفهومه الخاص، القائم على إنكار أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته، وحى غير متلو - السنة المطهرة.
ثانياً: إذا تقرر لك بالدليل القاطع أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم تبياناً للقرآن الكريم، فاعلم أن لهذا التبيان صفة المبين، من حيث وجوب قبوله، ووجوب العمل به، وصلاحيته لكل زمان ومكان؛ ويستلزم هذا ضرورة أن هذا التبيان النبوى، هو الحكمة وهى السنة النبوية التى عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "ألا إنى أوتيت القرآن ومثله معه" (1) . ... وبناء الفعل للمجهول "أوتيت" يدل على أن الله تعالى، أعطى لرسوله صلى الله عليه وسلم، القرآن ومثله معه، فما هو المماثل الذى تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه؟ يصرح القرآن الكريم بأن هذا المماثل هو "الحكمة" التى قرنها رب العزة فى كتابه مع القرآن الكريم فى آيات عدة منها: قوله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً} (2) فالآية والحديث يفيدان أن الله تعالى، أنزل عليه صلى الله عليه وسلم، الكتاب والحكمة، مثل القرآن، وهى معه، آتاهما الله له صلى الله عليه وسلم، بل إن إحدى روايات هذا الحديث تتواءم مع الآية أكثر من هذه الرواية، ونصها: "أتانى الله عز وجل القرآن، ومن الحكمة مثليه" (3) . وقال تعالى: {واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من آيات الله والحكمة} (4) فعطف الحكمة على آيات الله، لتندرج تحت ما أضيف إليها وهو "التلاوة" وهذا يضفى على الحكمة – وهى السنة – أنها فى حجيتها، ووجوب تبليغها، كالقرآن سواء بسواء (5) .
وقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذا بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} (1) قال الإمام الشافعى (2) : "فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة (3) سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وهذا يشبه ما قال، والله أعلم؛ لأن القرآن ذكر واتبعته الحكمة، وذكر الله منه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز – والله أعلم – أن يقال الحكمة ههنا إلا سنة رسول الله، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله" (4) .
أ- الأدلة من القرآن الكريم على أن السنة وحى من الله تعالى:
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "الكتاب والحكمة" الكتاب والسنة (1) وعن قتادة قال: والحكمة أى السنة (2) ونفس القول قال به غيرهما (3) وعلى هذا الفهم سلفنا الصالح من أئمة المسلمين (4) . ثالثاً: إذا تقرر أن تبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم هو الحكمة، وأن هذه الحكمة هى السنة النبوية، وأنها متماثلة للقرآن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا يعنى أنها مثل القرآن فى وجوب قبولها، والعمل بها، سواء بسواء؛ لأنها مثل القرآن وحى من عنده تعالى، وإليك تفصيل أدلة ذلك: أ- الأدلة من القرآن الكريم على أن السنة وحى من الله تعالى: قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى} (5) فأعلمنا ربنا سبحانه وتعالى، أن رسوله صلى الله عليه وسلم، لا ينطق عن هوى وغرض، وإنما ينطق حسبما جاءه الوحي من الله تعالى. فكلمة "ينطق" فى لسان العرب تشتمل كل ما يخرج من الشفتين من قول أو لفظ (6) أى ما يخرج نطقه صلى الله عليه وسلم عن رأيه، إنما هو بوحى من الله عز وجل (7) .
ب- الأدلة من السنة النبوية على أنها وحى من الله تعالى:
ولقد جاءت الآيتان بأسلوب القصر عن طريق النفى والاستثناء، والفعل إذا وقع فى سياق النفى دل على العموم، وهذا واضح فى إثبات أن كلامه صلى الله عليه وسلم، محصور فى كونه وحياً لا يتكلم إلا به، وليس بغيره. وقال سبحانه: {ثم إن علينا بيانه} (1) إنه وعد قاطع بأن بيان القرآن، سوف يتولاه الله تعالى، كما تولى {إن علينا جمعه وقرآنه} (2) على حد سواء، ولا معنى لهذا سوى أن يوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا البيان، بصورة ما من صور الوحي. وقال عز وجل: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك مالم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} (3) . وقال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} (4) إن هاتين الآيتين تفيدان - أن الله تبارك وتعالى - أنزل على رسوله شيئين: الكتاب: وهو القرآن، والحكمة: وهى سنته صلى الله عليه وسلم. السنة المطهرة إذن "وحى من الله تعالى" أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أنزل القرآن الكريم، سواء بسواء (5) بشهادة القرآن البينة، وهى أيضاً وحى بشهادة السنة نفسها، وإليك شواهد ذلك: ب- الأدلة من السنة النبوية على أنها وحى من الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إنى أوتيت القرآن ومثله معه" وقد سبق قريباً بيان دلالته على أن السنة وحى.
قوله صلى الله عليه وسلم: لما سئل فى عام جدب: سعر لنا يا رسول الله. قال: "لا يسألنى الله عن سنة أحدثتها فيكم لم يأمرنى بها، ولكن اسألوا الله من فضله" (1) إن فى الحديث دلالته الصريحة فى أنه صلى الله عليه وسلم، لا يحدث أى سنة، وإنما يبلغ عن الله تعالى، ما أمره به عز وجل. مما يدل على أن السنة المطهرة، إنما تأتيه بوحى الله سبحانه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ما تعمل أمتى بعدى فاخترت لهم الشفاعة يوم القيامة" (2) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "قمت على باب الجنة، فإذا عامة من دخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد (3) محبوسون، إلا أصحاب النار، فقد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار، فإذا عامة من دخلها النساء" (4) .
إن هذين الحديثين، وما فى معناهما، مما يفيد أن الله تعالى أرى نبيه صلى الله عليه وسلم، كذا وكذا، يأتى تأكيداً لقوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} (1) . فتأمل قوله تعالى: {بما أراك الله} وكل الأحاديث الصحيحة التى جاء فيها أن الله أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم، وأراه ما أراه، تعلم أن السنة النبوية وحى من الله تعالى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 0 حديث جبريل المشهور الذى سأل فيه النبى صلى الله عليه وسلم، عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، والساعة، ففى نهايته قال صلى الله عليه وسلم: يا عمر! أتدرى من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" (2) . عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن جبريل عليه السلام أتانى فأخبرنى أن فيها قذراً" وقال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى فى نعليه قذراً أو أذى فليمسحه، وليصل فيهما" (3) وهكذا يراقبه الوحي، فإذا أصاب نعله شئ من النجاسة نبهه.
وبالجملة: فالأحاديث التى قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحققت وفق ما أخبر، هذه يعترف العقل أنها لابد من وحى الله إليه صلى الله عليه وسلم (1) والأحاديث التى تحدث فيها عن أخبار السابقين، وهو الصادق المصدوق ناطقة بأنها من وحى الله إليه، فما الذى أعلمه أخبار الأمم السابقة، وأنبيائها، إلا الوحي من الله تعالى إليه؟ (2) . والأحاديث التى تحدث فيها عن سنن الله الكونية، وأسرار الخليقة، كتحدثة عن تكوين الجنين فى بطن أمه، وأنه كيف يشبه أخواله أو أعمامه، وتحدثه عن الكثير من أسباب الصحة، فيحذر من امتلاء البطن، ويحث على النظافة، هذه مما يسلم العقل أنها من وحى الله تعالى إليه صلى الله عليه وسلم (3) .
جـ- السلف يؤمنون بأن السنة وحى:
ومن أقوى الأدلة على أن السنة من وحى الله الخالق سبحانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن السنة على كثرة أحاديثها، وذيوعها وانتشارها، لا يجد فيها العقلاء إلا الحق الذى يسعد البشرية فى كل ناحية من نواحى الحياة، فى صحتها، فى اجتماعيتها، فى اقتصادها، فى نسلها، فى عقلها، فى كل شئون حياتها. إن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ أن قالها إلى الآن تنهل البشرية من خيرها وصوابها، يعترف بذلك المسلون، والمنصفون من غير المسلمين وهذا دليل قوى على أنها وحى الله سبحانه وتعالى، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) . جـ- السلف يؤمنون بأن السنة وحى: ... وإنى قد ذكرت الأدلة من كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، على أن السنة وحى من الله إلى رسوله، فإنى أزيد ذلك توضيحاً ورسوخاً بإيراد أقوال بعض السلف، بما يفيد أن السنة النبوية وحى من الله عز وجل، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن حسان بن عطية (1) قال: كان جبريل ينزل على النبى صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن (2) ونحو هذا القول روى عن الأوزعى (3) . وعن عبد الله بن المبارك (4) قال: كان جبريل إذا نزل بالقرآن على النبى صلى الله عليه وسلم يأخذه كالغشوة، فيلقيه على قلبه، فيسرى عنه وقد حفظه فيقرؤه، وأما السنن فكان يعلمه جبريل ويشافهه بها (5) .
وعن عمر بن عبد العزيز (1) قال فى إحدى خطبه: "يا أيها الناس، إن الله لم يبعث بعد نبيكم نبياً، ولم ينزل بعد هذا الكتاب الذى أنزله عليه كتاباً، فما أحل الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو حرام إلى يوم القيامة…" (2) . وقال أيضاً: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولاة الأمر من بعده سنناً، الأخذ بها اتباع لكتاب الله عز وجل، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد من الخلق تغييرها، ولا تبديلها، ولا النظر فى شئ خالفها، من اهتدى بها فهو المهتد، ومن انتصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولاه، وأصلاه جهنم، وساءت مصيراً" (3) .
فتأمل ما قاله خامس الخلفاء الراشدين على ملأ من الحاضرين لخطبته: "فما أحل الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم… الخ، وقوله: "الأخذ بما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم… اتباع لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله…الخ. تأمل ذلك تعلم عن يقين إيمان السلف جميعاً، بأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحى من عند الله عز وجل، واجبة الاتباع إلى يوم الدين. وهكذا توضح الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وأقوال السلف أن السنة النبوية وحى من الله تعالى، إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وهى صالحة لكل زمان ومكان، وواجبه الاتباع كالقرآن سواء بسواء، وعلى ذلك إجماع الأمة (1) منذ عهد نبيها صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، دون اعتبار لقول من شذ، من المرجفين فى دين الله، العاملين على هدم كيان السنة المطهرة، والسيرة العطرة. رابعاً: إذا تقرر لك أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سنة، هى وحى من ربه عز وجل، واجب قبولها واتباعها، فقد حان الوقت لبيان حقيقة وهدف تمسح أعداء السنة، بإيمانهم ببيان نبوى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته. ...
إن من يتسترون بعباءة القرآن، ويستدلون بظاهره، على أن مهمة الرسول الوحيدة هى تبليغ القرآن فقط، وجدوا أنفسهم فى مأزق من القرآن الكريم، حيث يصرح بتبيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته زائد على مجرد البلاغ، فاعترف بعضهم بهذا التبيان، إلا أنهم لا يعترفون بأن هذا التبيان، المراد به الحكمة، والتى فسرت بأنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها بوحى من الله تعالى على ما سبق قريباً ومن هنا كان إيمانهم بهذا التبيان النبوى إيماناً كاذباً من وجهين: الوجه الأول: أنهم يشترطون لهذا البيان النبوى أن يوافق القرآن الكريم بمفهومهم هم، القائم على إنكار السنة المطهرة؛ بدليل أنهم ينكرون جميع أنواع بيان السنة للقرآن؛ من تأكيد السنة لما جاء فى القرآن الكريم، وتفصيل لمجمله، وتقييد لمطلقه، وتخصيص لعامه، وتوضيح لمشكله، سواء كان هذا البيان فى العبادات من طهارة، وصلاة، وزكاة، وحج، أو فى المعاملات من بيع وشراء، ورهن، وسلم… الخ أو فى الحدود من قطع، ورجم،… الخ، أو فى الأحوال الشخصية من نكاح، وطلاق، ورضاع، وميراث. وغير ذلك (1) . ... وبالجملة: ينكرون جميع أنواع بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما اشتمل عليه القرآن الكريم، من عقائد وأحكام فى الدين والدنيا (2) .
والوجه الثانى: أنهم حتى مع تظاهرهم بالإيمان بالبيان النبوى؛ فقيمة هذا الإيمان كعدمه. وتأمل كلام إسماعيل منصور بعد قوله السابق: "أن لرسول الله، بيان نبوى للقرآن، نرفعه على العين والرأس، متى ثبت تحقيقاً، لا يخالف بأى حال، أحكام ومدلولات القرآن الكريم…الخ (1) قال فى وصف قيمة هذه السنة البيانية: "إنها للاستئناس لا للاستدلال، وللبيان لا للإثبات، الأمر الذى يجعل الآخذين بها والرافضين لها، أمام الشرع على حد سواء. فلا إلزام لأى طرف منهما على قبول رأى الآخر، فالأخذ بها فعله مقبول، والرافض لها فعله مقبول كذلك" (2) . ... قلت: فإذا كان هذا البيان لكتاب الله، الآخذ به والرافض له سواء! فأى قيمة لهذا البيان، حتى لو اعترفوا بأن هذا البيان هو السنة؟!.
وتأمل أيضاً ما قاله عبد العزيز الخولى: "وأما ما ورد فى السنة من أحكام، فإن كان مخالفاً لظاهر القرآن، فالقرآن مقدم عليه، ويعتبر ذلك طعناً فى الحديث من جهة متنه ولفظه، وإن صح سنده، فإن الحديث لا يكون حجة إلا إذا سلم سنده ومتنه من الطعن، ولذلك أجاز بعض المسلمين (1) نكاح المرأة على عمتها أو خالتها… إلى أن قال: "وإن كل ما فى السنة لا يخالف ظاهر القرآن، فهو اجتهاد من الرسول، يرجع إلى أصل قرآنى عرفه الرسول، وجهلناه نحن أو عرفناه" (2) فتأمل قوله فى البيان النبوى: "وجهلناه نحن أو عرفناه" إذ العبرة عنده فى أول الأمر وآخره، هى: ظاهر القرآن، سواء عرف السنة البيانية أم جهلها، فهى فى حالة معرفته بها، لم تضف جديداً، وفى هذه الحالة العبرة بالقرآن، وفى حالة استقلالها بتشريع أحكام جديدة، تكون السنة مخالفة لظاهر القرآن؛ فلا حجة فيها. هكذا حال لسانه! ولا أدرى من أين فهموا قيمة هذا البيان النبوى للقرآن الكريم؟ حيث أن آيات القرآن الكريم السابق ذكرها، والتى تسند مهمة البيان، تصرح بأن هذا البيان وحى من الله عز وجل: {ثم إن علينا بيانه} (3) {إن أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} (4) وغير ذلك من الآيات (5) . ... فهل فى الإسلام، وحى واجب الاتباع؛ ووحى الآخذ به، فعله مقبول والرافض له، فعله مقبول أيضاً؟!!.
.. وإذا كان هذا البيان النبوى يحل مشاكل الاختلاف التى يمكن أن تحدث بين العباد، فى فهم وتطبيق، المراد من مجمل القرآن، وعامة، ومطلقة، ومشكلة… الخ كما صرح بذلك القرآن الكريم فى قوله تعالى: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (1) . ... فهل يعقل أو يقبل بعد ذلك أن يكون هذا البيان النبوى غير ملزم؛ ولا واجب الاتباع؟! وما فائدة تنويه القرآن إلى هذا البيان النبوى حينئذ؟! وما قيمة المبين (القرآن) مع عدم حجية البيان (السنة) ؟ إن البيان النبوى (السنة المطهرة) متى صح تكون منزلته، ومنزلته القرآن، سواء بسواء فى حجيته، ووجوب العمل به؛ وعلى هذا انعقد إجماع من يعتد به من علماء الأمة قديماً وحديثاً (2) . خامساً: زعم بعضهم أن ما استقلت به السنة المطهرة من أحكام، مرفوض بحجة مخالفته للقرآن الكريم، وفيه تشويه لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجعله مشرعاً (3) ويضربون أمثلة بحد المحصن "الرجم" وحد الردة "القتل". ... وهذه المزاعم يجاب عنها بما يلى:
يتفق العلماء أجمع على وجود أحكام، لم ترد فى القرآن، لا نصاً ولا صراحة، ولكنهم يختلفون خلافاً لفظياً، حول تسمية تلك الأحكام الواردة فى السنة. فالجمهور من العلماء يقولون: إن هذا هو الاستقلال فى التشريع بعينه؛ لأنه إثبات لأحكام لم ترد فى القرآن، وأن هذه الأحكام واجبة الاتباع، عملاً بعشرات الآيات التى تأمر بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعه، وتحذر من مخالفته، وهذه الآيات جميعها (1) تستلزم أن يكون هناك أمور من الدين تأتى بها السنة، وهى حجة، وإلا فلا معنى للأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم. أما الإمام الشاطبى (2) ومن نحا نحوه: فإنهم مع إقرارهم بوجود أحكام لم ترد فى القرآن إلا أنهم يقولون: إنها ليست زيادة على شئ ليس فى القرآن، وإنما هى زيادة الشرح، المستنبط من المشروح بإلهام إلهى، ووحى ربانى وتأييد سماوى، وبعبارة أخرى: هى داخلة تحت أى نوع من أنواع السنة البيانية، أو داخلة تحت قاعدة من قواعد القرآن الكريم. وهم بذلك يرون أن تلك الأحكام لا تخالف القرآن الكريم.
وفى ذلك يقول الإمام الشاطبى رداً على دعوى مخالفة الرجم للقرآن الكريم يقول: "قولهم (1) هذا مخالف لكتاب الله عز وجل، لأنه قضى صلى الله عليه وسلم بالرجم والتغريب (2) وليس للرجم ولا للتغريب فى كتاب الله ذكر، فإن كان الحديث باطلاً فهو ما أردنا، وإن كان حقاً فقد ناقض كتاب الله بزيادة الرجم والتغريب. يقول الشاطبى: فهذا اتباع للمتشابه، لأن الكتاب فى كلام العرب، وفى الشرع يتصرف على وجوه منها: الحكم والفرض كقوله تعالى: {كتاب الله عليكم} (3) أى فرض الله عليكم وقوله: {كتب عليكم الصيام} (4) أى فرض عليكم، وكذا قوله {وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال} (5) فكان المعنى: "لأقضين بينكما بكتاب الله" أى بحكم الله وفرضه الذى شرع لنا، ولا يلزم أن يوجد هذا الحكم فى القرآن، كما أن الكتاب يطلق على القرآن، فتخصيصهم الكتاب بأحد المحامل من غير دليل اتباع لما تشابه من الأدلة" (6) .
ثم قال الإمام الشاطبى: "وقول من زعم (1) أن قوله تعالى فى الإماء: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} (2) لا يعقل مع ما جاء فى الحديث: أن النبى صلى الله عليه وسلم رجم، ورجمت الأئمة بعده (3) ؛ لأنه يقتضى أن الرجم ينتصف، وهذا غير معقول، فكيف يكون نصفه على الإماء؟ هذا ذهاباً منهم إلى أن المحصنات هن ذوات الأزواج، وليس كذلك، بل المحصنات هنا المراد بهن الحرائر، بدليل قوله أول الآية: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} (4) وليس المراد هنا إلا الحرائر؛ لأن ذوات الأزواج لا تنكح" (5) .
قلت: وكذلك حد الردة الذى يزعمون أنه يناقض القرآن الكريم تجد أصله فى كتاب الله عز وجل، وتأمل قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فساداً أن يقتلوا} (1) والمحاربة والإفساد يكون باليد وباللسان، بل إن محاربة الله ورسوله باللسان أشد، والسعى فى الأرض لفساد الدين باللسان أوكد، ومن هنا كان المرتد عن دين الإسلام، المحارب لله ورسوله، أولى باسم المحارب المفسد من قاطع الطريق. ويؤيد أن المحارب لله ورسوله باللسان قد يفسر بالمحارب قاطع الطريق، ما رواه أبو داود فى سننه مفسراً لقوله صلى الله عليه وسلم: "التارك لدينه المفارق للجماعة" (2) عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، إلا بإحدى ثلاث، رجل زنى بعد إحصان، فإنه يرجم، ورجل خرج محارباً لله ورسوله، فإنه يقتل أو يصلب، أو ينفى من الأرض، أو يقتل نفساً فيقتل بها" (3) . ويؤيد أن المرتد عن دين الإسلام، المشكك والطاعن فى كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، محارب لله ورسوله، وتشمله الآية الكريمة ما روى عن أنس، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم. أن آية المحاربة نزلت فى قوم عرينة: سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله.
فعن ابن عمر: أن ناساً أغروا على إبل النبى صلى الله عليه وسلم، فاستقوها، وارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤمناً، فبعث فى آثارهم، فأخذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسَمَلَ أعينهم، قال: ونزلت فيهم آية المحاربة (1) . ويدل أيضاً على قتل المرتد قوله تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين فى قلوبهم مرض والمرجفون فى المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً} (2) . قال الحسن البصرى (3) : أراد المنافقون أن يظهروا ما فى قلوبهم من النفاق، فأوعدهم الله فى هذه الآية، فكتموه وأسروه (4) وهذا يعنى: أن المنافق حين يظهر كفره، ويطعن فى دين الله عز وجل؛ يأخذ ويقتل عقاباً له.
والسؤال هنا: هل هناك شك فى أن المرتد عن دين الإسلام منافق؟ يسعى إلى تفريق جماعة المسلمين، وإفساد دينهم عليهم!. إن المرتد، إن كانت ردته بينه وبين نفسه، دون أن ينشر ذلك بين الناس، ويثير الشكوك فى قلوبهم، فلا يستطيع أحد أن يتعرض له بسوء، فالله وحده هو المطلع على ما تخفى الصدور. أما إذا أظهر المرتد عن دين الإسلام ردته، وأثار الشكوك فى نفوس المسلمين بالنطق بكلمة الكفر، وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كان حاله حينئذ، حال المنافق الذى يظهر ما فى قلبه من الكفر والنفاق، وجهاده واجب عملاً بقوله تعالى: {يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير. يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً فى الدنيا والآخرة وما لهم فى الأرض من ولى ولا نصير} (1) . ووجه الدليل فى الآيتين: أن الله عز وجل، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بجهاد المنافقين كما أمره بجهاد الكافرين، وأن جهادهم إنما يمكن إذا ظهر منهم، من القول أو الفعل ما يوجب العقوبة، فإنه ما لم يظهر منهم شئ ألبتة لم يكن لنا سبيل عليهم. فإذا ظهر منهم كلمة الكفر. كما قال عز وجل: {وكفروا بعد إسلامهم} فجهادهم بالقتل؛ وهو العذاب الأليم الذى توعدهم به رب العزة فى الدنيا بقوله: {وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً فى الدنيا والآخرة} 0
وهذه الآية نظير قوله تعالى: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} (1) قال أهل التفسير: "أو بأيدينا" بالقتل؛ إن أظهرتم ما فى قلوبكم قتلناكم، وهو كما قالوا؛ لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لا يكون إلا بالقتل لكفرهم (2) . فهل بعد كل هذه الآيات الكريمات شك فى أن المرتد عن الإسلام إذا أظهر كلمة الكفر مثل المنافق جزاؤه القتل بصريح القرآن الكريم؟! وهل بعد ذلك شك فى أن حد الردة الوارد فى السنة المطهرة لا يناقض القرآن الكريم؟!. إن ما زعمه أدعياء العلم، من مخالفة حد الرجم، وحد الردة، لكتاب الله عز وجل، زعم باطل، فتلك الأحكام الجديدة التى جاءت بها السنة المطهرة، هى تبيان لكتاب الله عز وجل، ولا تخالفه على ما سبق، وهذا على رأى من لا يسمى الأحكام الزائدة أو الجديدة فى السنة استقلالاً. أما من يسميها استقلالاً، فيقر بها، ويرى أنها واجبة الاتباع، عملاً بنص القرآن على وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوب قبول كل ما أخبر به أو قضى به. وأنت ترى هنا أن الخلاف بين العلماء فى الأحكام الجديدة الواردة فى السنة المطهرة، الخلاف بينهم لفظى، فالكل يعترف بوجود أحكام فى السنة المطهرة، لم تثبت فى القرآن الكريم، ولكن بعضهم لا يسمى ذلك استقلالاً، والبعض الآخر يسميه. والنتيجة واحدة؛ وهى حجية تلك الأحكام الزائدة، ووجوب العمل بها.
ب- ليس فى الأحكام الزائدة على كتاب الله عز وجل، ما يشوه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بجعله مشرعاً؛ كما يزعم أعداء السنة المطهرة! لأن الله تعالى قد جعل من جملة صفات رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن مهامه الكبار، أنه يحلل ويحرم، وهكذا جاء وصفه صلى الله عليه وسلم فى الكتب السماوية السابقة، وهو عليه الصلاة والسلام، لا يشرع من عند نفسه، إنما يشرع حسب ما يريه الله تعالى ويوحيه إليه، لأنه لا ينطق عن الهوى، وتأمل قوله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوباً عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون} (1) . ... فقوله تعالى: "يحل، يحرم، يضع" هذه من خصائص المشرع الحقيقى، ولكنه صلى الله عليه وسلم، لا يفعل من عند نفسه كما قلت، إنما يوحى الله تعالى إليه. فأطايب اللحم، كان محرماً على بنى إسرائيل: {إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} (2) فقد أباحه النبى صلى الله عليه وسلم، كلحم الإبل، وشحم البقر، والغنم، على التفصيل المذكور فى قوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} (3) .
.. وقوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} كالميتة، والخنزير، والخمر، والربا… الخ وقوله تعالى: {ويضع عنهم إصرهم} أى ثقلهم {والأغلال} أى القيود التى كانت عليهم، كوجوب قتل النفس فى التوبة، بينما فى ديننا هو الاستغفار والندم، وغسل النجاسة بالماء، بينما كانت تقرض بالمقراض، فهذا كله تخفيف من الله تعالى ورحمة، أوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلينا السمع والطاعة والامتثال. ... وبالجملة: إذا قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، له حق التشريع، فمرد هذا التشريع عند من يقول بذلك إلى الله عز وجل. لأن ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تبيانه لكتاب الله، لا يخلو عن أن يكون هذا البيان النبوى – حتى ولو كان بأحكام زائدة – أوحى الله تعالى بمعناه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه رسول الله، بألفاظ من عنده، وهذا هو الأعم الأغلب فى السنة النبوية، فيجب قبوله، لما تقرر من عصمته صلى الله عليه وسلم فى بلاغه لوحى الله تعالى – قرآناً وسنة – وإما أن يقول رسول الله تبياناً أو حكماً باجتهاده مما يعلم أنه من شرع الله تعالى، فإن وافق قوله أو فعله أو حكمه مراد الله عز وجل، فالأمر كما أخبر به عليه الصلاة والسلام. وإن كان الأمر يحتاج إلى صحيح أو توضيح؛ أوحى الله تعالى إلى نبيه بالتصحيح. وهذا هو الأقل النادر فى السنة النبوية. ... وبهذا التصحيح تصبح السنة فى هذه الحالة؛ حكم الله فى النهاية، حجة على العباد إلى يوم الدين، وتجب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فى هذه السنة، بيانية كانت، أو زائدة على كتاب الله عزوجل. يدل على ذلك عشرات الآيات القرآنية التى تحض على طاعته صلى الله عليه وسلم وتحذر من مخالفته. ... وإذا كان أعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة، ينكرون ذلك. ويزعمون أن طاعته صلى الله عليه وسلم تنحصر فى القرآن فقط. فإلى بيان شبهتهم فى المطلب التالى والرد عليها
المطلب الثالث: شبهة أنه لا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى القرآن فقط
المطلب الثالث: شبهة أنه لا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى القرآن فقط والرد عليها ... فى الوقت الذى يتمسح فيه من يسمون أنفسهم (القرآنيون) بظاهر القرآن ويستدلون به على أن مهمة الرسول الوحيدة فى رسالته هى تبليغ القرآن فقط؛ إذ بهم يجدون أنفسهم فى مأزق من كتاب الله عز وجل الذى يصرح بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بياناً للقرآن الكريم، وهو بيان حجة، وواجب الاتباع، بنص عشرات الآيات القرآنية، التى تحض على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، طاعة مطلقة؛ فى كل ما يأمر به، وينهى عنه، وتحذر من مخالفته. ... ولأن هذه الآيات تفضح إفكهم وتبطل شبهاتهم من جذورها، فقد تعسفوا فى تأويل تلك الآيات، بما يتفق وإنكارهم لأن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سنة مطهرة، واجبة الاتباع. فزعموا: أن كلمة (الرسول) فى القرآن تعنى القرآن، وأن طاعة الرسول الواردة فى القرآن إنما تعنى: طاعة القرآن فقط، أو بعبارة أخرى طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغه من القرآن فقط. ... يقول أحمد صبحى منصور: "كلمة الرسول فى بعض الآيات القرآنية تعنى القرآن بوضوح شديد كقوله تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} (1) .
.. يقول أحمد صبحى: فالآية تقرر حكماً عاماً مستمراً إلى قيام الساعة بعد وفاة محمد. فالهجرة فى سبيل الله وفى سبيل رسوله أى القرآن، قائمة ومستمرة بعد وفاة النبى محمد وبقاء القرآن أو الرسالة، وأحياناً – ولازال الكلام له – تعنى كلمة "الرسول" القرآن فقط، وبالتحديد دون معنى آخر كقوله تعالى: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً} (1) فكلمة "ورسوله" هنا: تدل على كلام الله فقط، ولا تدل مطلقاً على معنى الرسول محمد. والدليل أن الضمير فى كلمة "ورسوله" جاء مفرداً، فقال تعالى: {وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً} والضمير المفرد يعنى: أن الله ورسوله أو كلامه، ليسا اثنين، وإنما واحد، فلم يقل: "وتعزروهما وتوقروهما وتسبحوهما بكرة وأصيلا"، ويقول تعالى: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه} (2) ولو كان الرسول فى الآية يعنى: شخص النبى محمد لقال تعالى: "أحق أن يرضوهما" ولكن الرسول هنا يعنى فقط كلام الله، لذا جاء التعبير بالمفرد، الذى يدل على الله تعالى وكلامه" (3) . ويقول فى موضع آخر: "أما أقوال الرسول، فهى القرآن دين الله، وقد أبلغه الرسول دون زيادة ولا نقصان، وفيه الكفاية، وفيه التفصيل، وفيه البيان، إن طاعة الرسول هى طاعة القرآن الذى أنزله الله على الرسول، ولا يزال الرسول أو القرآن بيننا" (4) .
أولا: تعسف أعداء رسول الله، فى تأويل كلمة "الرسول"
وقال قاسم أحمد (1) : "يبدو جلياً أن طاعة الرسول تعنى طاعة الله، لأن الرسول ليس سلطة مستقلة، فهو كرسول له حق التبليغ، تبليغ الرسالة، وطاعته من طاعة الله، وكما ذكر فى القرآن فى مرات عديدة {ما على الرسول إلا البلاغ} (2) يعنى: ملاحظة أن القرآن استخدم كلمة الرسول، ولم يقل "محمد" إذن فالطاعة للرسول أى الرسالة التى أرسل بها من قبل الله … فمثل هذه الآيات التى تتضمن أن طاعة الله مقترن بها طاعة الرسول، تفسرها آيات أخرى تتضمن أن الطاعة واجبة فقط لله" (3) . ويجاب عن ما سبق بما يلى: أولاً: تعسف أعداء رسول الله، فى تأويل كلمة "الرسول" فى كتاب الله عز وجل بأنها القرآن الكريم، دون شخص النبى محمد صلى الله عليه وسلم، أمر برفضه القرآن الكريم، وتأمل معى الآيات التالية: 1- قال تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} (4) فهل يصح من عاقل؛ أن يفسر كلمة الرسول فى الآية بأنها القرآن؟! ويكون المعنى: وما محمد إلا قرآن قد خلت من قبله القرآن أو الرسل؟!.
2- وقال عز وجل {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً} (1) فهل يصح من أعداء الإسلام تأويل "ورسوله" بمعنى "وقرآنه" وبالتالى ينكرون ما هو ثابت بالتواتر من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة؟! تلك الهجرة التى كانت واجبة قبل فتح مكة، حتى أن الله سبحانه وتعالى نهى عن اتخاذ من لم يهاجر ولياً حتى يهاجر، كما قال عز وجل: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا} (2) فهل حديث القرآن عن الهجرة فى هذه الاية وغيرها، يعنى: الهجرة إلى القرآن؟!. ... كيف وقوله تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجراً} صريح فى أنها هجرة حقيقية، من مكان إلى مكان، وهو الثابت تاريخياً؛ من هجرة رسول الله من مكة إلى المدينة، وهجرة الصحابة بعد ذلك إليه صلى الله عليه وسلم وهو ما يؤكد أن قوله "ورسوله" تعنى شخص النبى محمد صلى الله عليه وسلم. 3- وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل} (3) فهل يصح أو يعقل أن يكون المراد بالآية: آمنوا بالله وكتابه – والكتاب الذى نزل على قرآنه؟!.
4- وقال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوباً عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون. قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعاً الذى له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيى ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (1) . ... إن هاتين الآيتين تفيدان مع سابقتهما، أن كلمة "الرسول" مراداً بها شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصح بحال أن تفسر كلمة "الرسول، بأنها القرآن، كما يزعم الأدعياء. فتكون الآية هكذا: "الذين يتبعون القرآن النبى الأمى" و"قل يا أيها الناس إنى قرآن الله إليكم جميعاً" و"فآمنوا بالله وقرآنه النبى الأمى" (2) . إن الآيات السابقة كلها تصرح فى وضوح وجلاء لمن عنده عقل، أن كلمة "الرسول" إنما تعنى شخص النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وفى الآيات أيضاً الدلالة الواضحة على وجوب اتباعه وطاعته صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة فى كل ما يأمر به، وينهى عنه، حتى ولو كان خارجاً عن القرآن الكريم بدلالة (ويحل، ويحرم، ويضع) فى قوله: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم} وتصرح الآيات بأن فى هذا الاتباع والطاعة له صلى الله عليه وسلم، الفلاح والهداية إلى طريق مستقيم: {واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون} {واتبعوه لعلكم تهتدون} 0
ثانيا: زعم أدعياء العلم والفتنة؛ بأنه لا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى القرآن فقط
كما تصرح الآيات بأن الإيمان بشخص النبى محمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته، جزء لا يتجزأ من الإيمان بوجود الله تعالى، وبإفراده بالعبودية والألوهية {فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى} وبدلالة هذا الإيمان كانت طاعته صلى الله عليه وسلم، طاعة لله عز وجل {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (1) وتأمل إفراد الضمير فى قوله: "واتبعوه" بعد أن فرق وغاير بواو العطف بين الإيمان به تعالى، والإيمان به صلى الله عليه وسلم، ليدل على أن اتباعه وطاعته صلى الله عليه وسلم، اتباع وطاعة له عز وجل. لأن المشكاة واحدة - فى القرآن والسنة - وهى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى} (2) . وبالتالى: فإفراد الضمير فى قوله: "واتبعوه" لا يعنى كما يزعم أعداء عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه اتباع وطاعة للقرآن فقط. لأن زعمهم هذا بنوه على تفسير كلمة "الرسول" فى الآيات بمعنى القرآن، وقد تبين لك فساد وبطلان هذا التفسير. ثانياً: زعم أدعياء العلم والفتنة؛ بأنه لا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى القرآن فقط، أمر يرفضه ويبطله القرآن الكريم الذى بين فى مواضع عدة أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أوامر ونواهى، وأحكام، خارج القرآن الكريم، وهى واجبة الاتباع مثل القرآن الكريم سواء بسواء، من ذلك ما يلى:
1- قوله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم} (1) فهذه الآية الكريمة تدلنا على أن التوجه إلى بيت المقدس، كان مشروعاً من قبل، وكان ذلك التوجه حقاً وصواباً واجباً عليهم قبل التحول إلى الكعبة. فأين ذلك كله فى القرآن الكريم؟ ألا يدلك ذلك على أن النبى صلى الله عليه وسلم، وأصحابه كانوا عاملين بحكم وأمر، لم ينزل بوحى القرآن، وأن عملهم هذا كان حقاً وواجباً عليهم الطاعة فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولا يصح أن يقال: إن عملهم هذا كان بمحض عقولهم واجتهادهم. إذ العقل لا يهتدى إلى وجوب التوجه إلى قبلة "ما" فى الصلاة، فضلاً عن التوجه إلى قبلة معينة، وفضلاً عن أن النبى صلى الله عليه وسلم، كان أثناء صلاته إلى بيت المقدس راغباً كل الرغبة فى التوجه إلى الكعبة المشرفة: {قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام} (2) إذن: كان التوجه إلى بيت المقدس بوحى غير القرآن وهو وحى السنة المطهرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مطاعاً فى ذلك الوحي. بل: {وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} (3) فتدبر.
2- وقال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} (1) أفادت هذه الآية أن أمر النبى هو أمر الله، ولو كان خارج القرآن، لأن النبى صلى الله عليه وسلم، رأى أن يزوج زينب لزيد، على ما رواه الطبرانى بسند صحيح عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم، خطب زينب وهو يريدها لزيد، فظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد أبت، واستنكفت، وقالت: أنا خير منه حسباً. فأنزل الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} فرضيت وسلمت" (2) . ... فتأمل: كيف أن المولى عز وجل، جعل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمره تعالى وأتى بصيغة عامة تشمل جمع أوامره صلى الله عليه وسلم. فالآية تصفع أولئك المبتدعة الذين يقصرون طاعة النبى صلى الله عليه وسلم على ما كان فى القرآن، ومتعلقاً بالدين! وزواج زينب بزيد لم يأمر به القرآن، ولا علاقة له بالدين. فإن تمسكوا بقول النبى صلى الله عليه وسلم فى مسألة تأبير النخل! "أنتم أعلم بأمور دنياكم" (3) فلا حجة لهم فيه؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأمر بترك التأبير، وإنما قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً" فأبدى رأياً مجرداً (4) وليس كلامنا فيه، إنما كلامنا فيما أفادته الآية من وجوب اتباع أمره صلى الله عليه وسلم دينياً كان أو دنيوياً، مع تذييلها بقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} (5) .
وقال تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم فى الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم} (1) أفادت هذه الآية أن أمر النبى صلى الله عليه وسلم، هو أمر الله عز وجل، ولو كان خارج القرآن، لأن النبى صلى الله عليه وسلم يوم أحد، أخبر أصحابه بنصر الله لهم فى المعركة، وأمر الرماة يومئذ بألا يتحركوا من مكانهم بأى حال من الأحوال سواء هزموا أو انتصروا، وذلك فى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا" (2) وفى رواية: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا" (3) ولكن الرماة ما إن رأوا هزيمة أهل الشرك وجمع المسلمين الغنائم إلا تركوا مكانهم وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً للغنيمة، فكانت نتيجة مخالفة الأمر الهزيمة بعد النصر. وتأمل قوله تعالى: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم فى الأمر وعصيتم} يتبين لك أن عدم طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سنته المطهرة، ومخالفته فى أوامره ونواهيه، عصيان، عاقبته الفشل فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة.
وقال تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين} (1) فالآية الكريمة تصرح بأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل بنى النضير وتحريقها، إنما هو بإذن الله تعالى. فأين هذا الإذن والأمر فى كتاب الله عز وجل؟!. أليس فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وأن تلك السنة يجب طاعته صلى الله عليه وسلم فيها، حيث وصفت بأنها بإذن الله تعالى؟ على ما روى فى سبب نزول هذه الآية عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: "حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم، نخل بنى النضير وقطع، وهى: البويرة (2) فنزلت: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} (3) فهل بقى للمتنطعين القاصرين طاعته صلى الله عليه وسلم على القرآن فقط من حجة؟!.
وقال عز وجل: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} (1) فتأمل كاف الخطاب المراد بها شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل يفسرها الأدعياء هنا بالقرآن؟ وتأمل كيف أن بيعة الرضوان، وكل ما حدث فيها من أوامر ونواهى، من رسول الله صلى الله عليه وسلم، خارج القرآن، وطاعة الصحابة رضى الله عنهم لتلك الأوامر والنواهى! (2) وكيف وصفت تلك البيعة البيعة بأنها مبايعة لله تعالى، وأن يده فوق أيدى أصحاب البيعة! مما يفيد أن مبايعة رسول الله، مبايعة لله، وطاعته طاعته، وأن كل ما يصدر عن النبى صلى الله عليه وسلم، خارج القرآن، هو بإذن الله؛ بوحى غير متلو فى السنة المطهرة، مما يجب الامتثال له، حيث يرضاه الله تعالى وتأمل: {لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (3) فإنها تؤيد ما سبق، حيث أن رضاه عز وجل عم الأشخاص الذين أطاعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى البيعة، كما عم رضاه سبحانه مكان مبايعتهم. وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما آراك الله} (4) فالآية صريحة فى توجيه الخطاب إلى شخص النبى محمد صلى الله عليه وسلم، "إليك" "لتحكم" "أراك" فهل يزعم أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الخطاب فى الآية للقرآن وليس لشخصه الكريم؟!.
ثم تأمل ما فى الآية من التصريح بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حكماً بين الناس، والحكم أمر زائد على مجرد القانون الذى يحكم به! وهذا الحكم النبوى وصف بأنه وحى إلهى {بما أراك الله} أليس فى الآية تصريح بأن لهذا النبى الكريم طاعة واجبة خارج القرآن، فيما يحكم به مما جاء فى سنته؟!. وقال سبحانه: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم} (1) فهذه الآية الكريمة تصرح فى وضوح وجلاء، بوجوب الإيمان بكل ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه شيئان (الكتاب والحكمة) كما صرح رب العزة بقوله: {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} (2) وقال: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} (3) وقد سبق قريباً تفسير الكتاب والحكمة، وتفصيل الأدلة على أن الحكمة فى الآيتين وغيرهما بأنها السنة النبوية. إذن بصريح الآية الثانية من سورة محمد فإن له صلى الله عليه وسلم طاعة خارج القرآن، وذلك فيما أنزل عليه من السنة المطهرة. وتأمل: ذكر اسمه (محمد) مجرداً وصريحاً ليكون أبلغ رد على المتنطعين المتأولين كلمة "الرسول" بمعنى القرآن!. وقال تعالى: {ثم إن علينا بيانه} (4) وقال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (5) فهاتان الآيتان تصرحان بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تبياناً لكتاب الله عز وجل، وهو تبيان إلهى بنص آية القيامة، وهذا البيان إنما جاء على لسانه صلى الله عليه وسلم فتجب طاعته فيه، لأنه أمر زائد على مجرد بلاغ المبين وهو القرآن الكريم على ما سبق تفصيله فى المطلب السابق.
ثالثا: الأدلة من القرآن الكريم على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم:
وبعد: فإذا ثبت لك بصريح القرآن الكريم، أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أوامر ونواهى وأحكام، خارج كتاب الله عز وجل، وأن هذه الأوامر والنواهى والأحكام هى بيانه للقرآن، وهو بيان منزل من عند الله عز وجل دل ذلك على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، طاعة واجبة لهذا البيان مع طاعته لكتاب الله تعالى. كما دل ذلك على أن عشرات الآيات القرآنية التى تتحدث عن طاعته صلى الله عليه وسلم إنما تعنى إطاعة شخصه الكريم فيما يبلغ من وحى الله تعالى قرآناً وسنة؛ وليس كما يزعم أعداء عصمته صلى الله عليه وسلم، طاعته فى القرآن فقط. وإليك نماذج من تلك الآيات. ثالثاً: الأدلة من القرآن الكريم على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم: ... اشتدت عناية القرآن الكريم بتلك المسألة، فوجه إليها آيات كثيرة، تنوعت بين آيات تأمر فى وضوح بوجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم، وبين آيات أخرى تأمر بوجوب طاعته صلى الله عليه وسلم، طاعة مطلقة، فيما يأمر به وينهى عنه، وبين آيات أخرى، تنهى عن مخالفته صلى الله عليه وسلم، وتحذر من ذلك. ... واستعراض تلك الآيات أمر يطول، ولذا سوف أكتفى ببعض هذه الآيات فقط، مع بيان دلالتها على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل} (1) . وقال سبحانه: {فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (2) .
قال الإمام الشافعى: "فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذى ما سواه تبع له، الإيمان بالله ثم برسوله، فلو آمن عبد به تعالى ولم يؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم: لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبداً، حتى يؤمن برسوله معه (1) ، وبمقتضى هذا الإيمان وجبت طاعته صلى الله عليه وسلم، فى كل ما يبلغه عن ربه، سواء ورد ذكره فى القرآن أم لا. وتأمل كيف جاء الأمر باتباعه {واتبعوه لعلكم تهتدون} عقب الأمر بالإيمان به صلى الله عليه وسلم، تأكيداً على وجوب اتباعه. وإلا فإن الاتباع داخل فى الإيمان، ولكن أفرد بالذكر هنا: تنبيهاً على أهميته وعظم منزلته؛ وإذا كانت المتابعة بالإتيان بمثل فعل الغير، ثبت أن الانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى جميع أقواله وأفعاله إلا ما خصه الدليل، طاعة له وانقياد لحكم الله تعالى (2) . ومن أهم الآيات دلالة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما} (3) يقول ابن قيم الجوزية: "أقسم سبحانه بنفسه، وأكده بالنفى قبله على نفى الإيمان عن العباد، حتى يحكموا رسوله فى كل ما شجر بينهم، من الدقيق والجليل، ولم يكتف فى إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده، حتى ينتفى عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه، ولم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلموا تسليماً، وينقادوا انقياداً" (4) ويقول أيضاً: "وفرض تحكيمه، لم يسقط بموته، بل ثابت بعد موته، كما كان ثابتاً فى حياته، وليس تحكيمه مختصاً بالعمليات دون العلميات كما يقوله أهل الزيغ والإلحاد" (5) .
وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} (1) ودلالة الآية على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم من عدة وجوه: الوجه الأول: النداء بوصف الإيمان فى مستهل الآية: {يا أيها الذين آمنوا} ومعنى ذلك: أن المؤمنين لا يستحقون أن ينادوا بصفة الإيمان، إلا إذا نفذوا ما بعد النداء، وهو طاعة الله تعالى، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولى الأمر. الوجه الثانى: تكرار الفعل "أطيعوا" مع الله تعالى، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، وتكرار ذلك فى آيات كثيرة كقوله: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا} (2) وقوله: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} (3) . ... يقول الإمام الشاطبى: "تكراره الفعل "وأطيعوا" يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما فى الكتاب، ومما ليس فيه مما هو من سنته" (4) وقال العلامة الألوسى: "وأعاد الفعل: و"أطيعوا" وإن كان طاعة الرسول مقرونة بطاعة الله تعالى، واعتناء بشأنه صلى الله عليه وسلم، وقطعاً لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس فى القرآن، وإيذاناً بأن له صلى الله عليه وسلم، استقلالاً بالطاعة لم يثبت لغيره، ومن ثم لم يعد فى قوله: {وأولى الأمر منكم} إيذاناً بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم (5) بل طاعتنا لهم مرتبطة بطاعتهم هم لله ورسوله، فإن هم أطاعوا الله ورسوله فلهم علينا حق السمع والطاعة، وإلا فلا. لأنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق" (6) .
.. ومما هو جدير بالذكر هنا: أن فرض الله تعالى، طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليست له وحده، بل هى حق الأنبياء جميعاً. قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} (1) فرب العزة يقرر هنا قاعدة: أن كل رسول جاء من عنده تعالى يجب أن يطاع. ... وقال سبحانه على لسان كثير من رسله أنهم طلبوا من أممهم أن يطيعوهم: فقال سبحانه على لسان نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وعيسى، أن كل واحد منهم قال لقومه: {فاتقوا الله وأطيعون} (2) إنهم رسل الله إلى خلقه، كلفهم بالتبليغ وعصمهم فيه، فوجب على الخلق أن يطيعوهم؛ ولماذا لا يطاع هذا الرسول، الذى جاء بالمنهج الذى يصلح الخلل فى تلك البيئة التى أرسل إليها؟ إن عدم الطاعة حينئذ؛ هو نوع من العناد والجحود والتكبر. ... كما أن فى عدم الطاعة اتهاماً للرسالة بالقصور، واتهاماً للرسول فى عصمته من الكذب فى كل ما يبلغه عن ربه من كتاب وسنة.
الوجه الثالث: فى آية النساء، دلالة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى: {فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول} فالرد إلى الله تعالى، هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، هو الرد إليه نفسه فى حياته، وإلى سنته بعد وفاته (1) وعلى هذا المعنى إجماع الناس كما قال ابن قيم الجوزية (2) وتعليق الرد إلى الله ورسوله على الإيمان {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} يعنى: أن الذين يردون التنازع فى مسائل دينهم وحياتهم، دقها وجلها، جليها وخفيها؛ إلى كتاب الله عز وجل، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هم فقط المؤمنون حقاً؛ كما وصفتهم بذلك الآية الكريمة، أما غيرهم فلا ينطبق هذا الوصف عليهم. ... ثم يحدثنا الله تعالى بعد هذه الآية مباشرة، عن أناس يزعمون أنهم يؤمنون بالله ورسوله، ومقتضى هذا الإيمان أن يحكموا كتاب الله، وسنة رسوله فى كل شئون حياتهم، ولكنهم لا يفعلون ذلك، وإنما يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، مع أنهم قد أمورا أن يكفروا به. ... قال تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} (3) ففى نهاية الأمر، حكم الله تعالى على من يعرض عن حكمه، وحكم رسوله، ويتحاكم إلى الطواغيت بأنهم منافقون (4) .
قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً} (1) فقد عبر بالمضارع "يطع" وهو الذى يقتضى الحال والمستقبل، وعبر بالماضى "أطاع" الذى يدل على الوقوع والتحقق. فمن أطاع رسوله صلى الله عليه وسلم حالاً، فقد وقعت طاعته قبل ذلك طاعة لله تعالى، لأن الله تعالى هو الذى أرسله، وأمر بطاعته، لذا فمن أطاعه صلى الله عليه وسلم، كان فى الحقيقة مطيعاً لمرسله قبل أن يطيعه صلى الله عليه وسلم، ومن عصاه صلى الله عليه وسلم، كان فى الحقيقة عاصياً لمرسله قبل أن يعصيه صلى الله عليه وسلم، لأنه عز وجل مرسله، وأوجب طاعته، وحرم معصيته (2) . وهذه الآية من أقوى الأدلة على أن الرسول معصوم فى جميع الأوامر والنواهى، وفى كل ما يبلغه عن الله تعالى، لأنه لو أخطأ فى شئ منها لم تكن طاعته طاعة لله عز وجل (3) .
وأختم المطاف من الآيات الدالة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة فيما يأمر به، وينهى عنه، بقوله عز وجل: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (1) وهناك آيات كثيرة لم أتعرض لذكرها خشية الإطالة. فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الآيات التى تحذر من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنهى عن مخالفته تجدها كثيرة، وأشير إلى بعضها فيما يلى: قال سبحانه: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} (2) فهذا التحذير الشديد من رب العزة: "واحذروا" "فإن توليتم" يدل على خطورة الإعراض والمخالفة، وأن النبى صلى الله عليه وسلم، لن يتضرر هو نفسه بإعراض من أعرض، لأنه صلى الله عليه وسلم ما عليه إلا البلاغ المبين، وقد أبلغ، وقد بين، وأشهدعلى ذلك، وإنما الذى يتضرر هو المعرض المخالف العاصى وإذا عرف العاقل المدرك، أن الذى يتوعد ويحذر هو ربه عز وجل، فكيف يكون تمسكه بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؟!.
وقال سبحانه: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (1) وفى تفسير هذه الآية يسوق ابن العربى بإسناده عن سفيان بن عيينة قال: سمعت مالك بن أنس – وأتاه رجل – فقال: يا أبا عبد الله، من أين أحرم؟ قال: من ذى الحليفة (2) من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنى أريد أن أحرم من المسجد، فقال: لا تفعل. قال: إنى أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإنى أخشى عليك الفتنة. قال: وأى فتنة فى هذا؟ إنما هى أميال أزيدها. قال: وأى فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنى سمعت الله يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (3) . هذا وفى الآية دلالتها الصريحة على وجود طاعة استقلالية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سنه، مما لم يرد فى القرآن الكريم؛ لأنه لو كان الأمر قاصراً على ما جاء به من القرآن فقط، كما يزعم أعداء عصمته صلى الله عليه وسلم، لما كان للتحذير من مخالفته فى أمره أى جديد!. وقال تعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين} (4) . وقال سبحانه: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا. يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا} (5) . وقال عز وجل: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم} (6) .
رابعا: الأدلة من السنة المطهرة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم:
وقال تعالى: {إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين} (1) . وقال سبحانه: {إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك فى الأذلين} (2) . إن الآيات السابقة تصرح بأن مخالفة كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم طاعته، والطعن والتشكيك فى تلك الطاعة، يدخل النار، ويورث الذل، والخزى، والفتنة، والكبت، ويحبط العمل. فليختر المرء لنفسه ما يشاء. وبعد: فهذه نماذج من الآيات القرآنية التى تأمر فى وضوح وجلاء بوجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سنته المطهرة، وتحذر من مخالفته وهناك آيات أخرى كثيرة تنوعت فى أسلوبها فى الحض على اتباعه وطاعته صلى الله عليه وسلم، لم أتعرض لها خشية الإطالة (3) فما ذكر فيه الكفاية لكل عاقل أهـ. رابعاً: الأدلة من السنة المطهرة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم: ... حث النبى صلى الله عليه وسلم أمته على طاعته، وامتثال أمره، واتباع ما جاء به، والسير على سنته المطهرة، والاقتداء به فى كل ما جاء به عن ربه عز وجل. ... وأحاديثه صلى الله عليه وسلم فى هذا المجال أعطت للأمة توجيهات عظيمة متى ساروا عليها وامتثلوا ما فيها، واستناروا بها، تحققت لهم سعادة الدارين وفازوا وأفلحوا بإذن الله تعالى.
.. وقد امتازت الأحاديث فى هذا الشأن بكثرتها وتنوع عبارتها، وتعدد أساليبها، واشتمال بعضها على الأمثلة التى ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته فى هذا الشأن، ومما لا شك فيه أن هذه المميزات زادت الأمر توكيداً وتوضيحاً وبياناً، بحيث أنها لم تدع مجالاً لمتأول يأولها، أو محرف يغير معناها بهواه، ورأيه الفاسد. ... وهذه الأحاديث على تنوع عبارتها وتعدد أساليبها، اتحدت جميعها فى مضمون واحد: هو التأكيد على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم واتباع ما جاء به، والترغيب فى ذلك، إضافة إلى التحذير من مخالفته، وتحريم معصيته، وبيان الوعيد الشديد فى ذلك. ... والخطاب فى تلك الأحاديث شامل لكل من كان فى عصره صلى الله عليه وسلم، ومن سيأتى بعده إلى يوم القيامة. ... وسأشير هنا إلى طرف من تلك الأحاديث مع بيان ما فيها من توجيهات وإرشادات تنير الطريق للسالكين الراغبين بالفوز برضى الله وجنات النعيم (1) .
قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إنى أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان، متكئ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلى، ولا كل ذى ناب من السباع، ولا كل ذى مخلب من الطير، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغنى عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله ان يعقبهم بمثل قراه" وفى رواية: "ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عنى وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله" (1) . فقوله: "يوشك رجل شبعان… الخ" يحذر بهذا القول من عدم طاعته صلى الله عليه وسلم، مما جاء به وليس له فى القرآن ذكر، وهو مما يؤكد ما سبق ذكره من الآيات، من أن له صلى الله عليه وسلم، طاعة استقلالية. وفى الحديث: معجزة ظاهرة للنبى صلى الله عليه وسلم، فقد ظهرت فئة فى القديم والحديث، تدعوا إلى هذه الدعوة الخبيثة، وهى الاكتفاء بما جاء فى القرآن الكريم، دون ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سنته المطهرة، وعدم طاعته فيه. وهدفهم من ذلك هدم نصف الدين، وإن شئت فقل هدم الدين كله. حاسبهم الله بما يستحقون.
وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، أنه كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع نفر من أصحابه، فأقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا هؤلاء ألستم تعلمون أنى رسول الله إليكم؟ " قالوا: بلى، نشهد أنك رسول الله. قال: "ألستم تعلمون أن الله أنزل فى كتابه: من أطاعنى فقد أطاع الله؟ " قالوا: بلى، نشهد أن من أطاعك فقد أطاع الله، وأن من طاعة الله طاعتك، قال: "فإن من طاعة الله أن تطيعونى، وإن من طاعتى أن تطيعوا أئمتكم، أطيعوا أئمتكم، فإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً" (1) . وعن أبى هريرة رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: "من أطاعنى فقد أطاع الله، ومن عصانى فقد عصى الله، ومن أطاع أميرى فقد أطاعنى، ومن عصى أميرى فقد عصانى" (2) .
وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: جاءت ملائكة إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلاً، قال: فاضربوا له مثلاً. فقال: بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مأدبة، وبعث داعياً، فمن أجاب الداعى دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعى لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا: أولوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعى محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمد صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومن عصى محمد صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس" (1) . وعن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثلى ومثل ما بعثنى الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال: يا قوم إنى رأيت الجيش بعينى، وإنى أن النذير العريان، فالنجاء. فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا (2) فانطلقوا على مهلهم فنجوا. وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعنى فاتبع ما جئت به، ومثل من عصانى وكذب بما جئت به من الحق" (3) .
وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "والذى نفسى بيده لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى وشرد على الله كشراد (1) البعير" قال: يا رسول الله ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ قال: من أطاعنى دخل الجنة، ومن عصانى فقد أبى" (2) . إن هذه الأحاديث السابقة تؤكد وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتثال كل ما جاء به فى سنته المطهرة. إنها تؤكد ما ورد فى كتاب الله عز وجل، من أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من طاعة ربه عز وجل، وصرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما جاء فى حديث ابن عمر وغيره، وأشهد على ذلك أصحابه الكرام فأقروا!.
كما تؤكد هذه الأحاديث أن هذه الطاعة هى مفتاح الجنة، وسبيل النجاة الوحيد التى متى سلكها الإنسان، فاز برضى الله، وجنته، ونجى من سخطه وعذابه. أما من أبى اتباعه وطاعته صلى الله عليه وسلم فى سنته المطهرة فهو الذى شرد شرود الجمل على أهله، وهو الذى ضيع نفسه، وأوقعها فى جهنم؛ بل هو بعدم امتثاله لهدى النبى صلى الله عليه وسلم فى سنته كأنه يقتحم بنفسه نار جهنم، كما قال عليه الصلاة والسلام: "مثلى كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها، جعل الفراش وهذه الدواب التى تقع فى النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها" قال: "فذلكم مثلى ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبونى، تقحمون فيها" (1) . فعلى المسلم أن يسلك طريق طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم فى سنته المطهرة، وألا يحيد عنها يميناً أو شمالاً، فهذه الطاعة هى صراط الله المستقيم الذى أمر الله باتباعه لقوله تعالى: {وأن هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} (2) .
وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبى بعثه الله فى أمة قبلى إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، ومن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" (1) فهذا الحديث يؤكد قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} (2) فطاعة رسل الله جميعاً واجبة على أقوامهم على مر الزمان والمكان. وهذا الحديث يبين صفة اتباع الأنبياء؛ فهم يطيعون أنبيائهم، ويأخذون بسنتهم، ويأتمرون بأمرهم، ولا يحيدون عن ذلك ولا يخالفونه إلى ما سواه. وأما المخالفون لهم: فهم الذين يتحدثون عن الطاعة والاتباع، ولكن بالقول دون العمل، فهم الذين يقولون مالا يفعلون، وهذا الوصف ينطبق تماماً على أهل البدع المحاربين لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سنته المطهرة، ومن هنا فهم أكثر الناس بعداً عن هدى المصطفى وما جاء به عن ربه، ومع ذلك كله فهم كثيراً ما يتمسحون بظاهر القرآن، وكلامهم عنه لا يضبطونه ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لذا فكلامهم لا يتجاوز ألسنتهم، فهم أبعد الناس عن القرآن الكريم، فصدق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم: "يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يأمرون".
وعن العرباض بن سارية قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول! كأن هذه موعظة مودع. فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (1) وواضح من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم، يأمرنا بطاعته واتباع سنته، ويؤكد ويشدد على اتباعها، ويحذر من البعد عنها بالابتداع فى الدين، لما فى ذلك من الضلال والانحراف عن الطريق المستقيم الذى رسمه صلى الله عليه وسلم. ... وفى الحديث بيان واضح أن من واظب على سنته صلى الله عليه وسلم وقال بها، ولم يعرج على غيرها من الآراء هو من الفرقة الناجية يوم القيامة؛ جعلنا الله منهم بمنه (2) .
وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "دعونى ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم" (1) . والشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم" لقد أضاف الأمر والنهى إلى نفسه صلى الله عليه وسلم: "نهيتكم" و"أمرتكم" وهو موافق لكتاب الله عز وجل فى قوله: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم} (2) وقوله: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (3) وفى ذلك دليل على وجوب طاعته وامتثال أوامره ونواهيه فى سنته المطهرة؛ حتى ولو كانت أمراً زائداً على كتاب الله عز وجل، لأن ما يحله ويحرمه، ويأمر به وينهى عنه، هو بوحى الله عز وجل على ما سبق تفصيله.
وعن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستة لعنتهم، ولعنهم الله، وكل نبى مجاب: المكذب بقدر الله، والزائد فى كتاب الله، والمتسلط بالجبروت يذل من أعز الله، ويعز من أذل الله، والمستحيل لحرم الله، والمستحيل من عترتى ما حرم الله، والتارك لسنتى" (1) أنه صلى الله عليه وسلم، يبين فى هذا الحديث أن التارك لطاعته فى سنته المطهرة المنكر لتلك الطاعة ملعون. أى: مطرود من رحمة الله تعالى، وفى ذلك من الزجر ما فيه. إنه صلى الله عليه وسلم، جعل تارك طاعته فى سنته، مع المكذب بالقدر، وهو كافر، ومع خصال هى فى الكفر موغلة، مما يرهب كل الترهيب؛ من ترك سنته صلى الله عليه وسلم، والتحذير من عدم طاعته فيها. وبعد: فهذه نماذج من الأحاديث النبوية، التى تأمر فى وضوح وجلاء بوجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى سنته المطهرة، وتحذر أشد التحذير من مخالفته، وهناك أحاديث أخرى كثيرة، تنوعت فى أسلوبها فى الحض على اتباعه وطاعته صلى الله عليه وسلم، لم أتعرض لها خشية الإطالة (2) فما ذكر فيه الكفاية عند من له سمع يسمع وعقل يدرك.
المطلب الرابع: شبهة أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليه وشرك
وإذا كانت طاعته صلى الله عليه وسلم، الاستقلالية، ثابتة له بنص كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة (1) فتلك الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هى عين الطاعة والتوحيد الخالص لله عز وجل، إلا أن أعداء عصمته صلى الله عليه وسلم يرون أن فى تلك الطاعة تأليه لرسول الله وشرك بربه. فإلى بيان شبهتهم فى ذلك والرد عليها المطلب الرابع: شبهة أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليه وشرك والرد عليها ... بلغت جراءة أعداء السنة النبوية على القرآن الكريم، وعلى نبى الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بإفكهم أن الآيات والأحاديث التى تربط بين طاعة الله، وطاعة رسوله، هى صورة من صور تأليه الرسول، وهذا هو الكفر بعينه فى نظرهم.
.. يقول صالح الوردانى: "ومن أقوى الأدلة التى يستند عليها الفقهاء فى ربط الكتاب بالسنة، وربط السنة بالكتاب، قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (1) وقوله: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (2) وقوله: {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً بعيدا} (3) ثم يقول معقباً: "إن مثل هذه النصوص وغيرها إن كانت تؤكد شراكة الرسول لله فى أمر الحكم والأمر والنهى، وهو ما يريد تأكيده الفقهاء، فهذا هو الكفر بعينه، إذ معنى هذا الكلام أن الرسول يشارك الله فى خاصية الألوهية. وهذا يعنى: أن الرسول قد منح صفة من صفات الله، وأخذ خاصية من خصائصه سبحانه، وهذا ما قالته اليهود فى عزير، والنصارى فى عيسى" (4) . ... ولم يقف إفكهم عند هذا الحد، إذ زعموا أن الإيمان بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى البداية لتأليهه.
.. يقول أحمد صبحى منصور: "أولى حقائق الإسلام، أنه ليس فيه إيمان بشخص وإنما الإيمان بالوحي الذى نزل على شخص النبى، وليس بشخص النبى البشرى يقول تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد} (1) لم يقل آمنوا بمحمد، وإنما آمنوا بما نزل على محمد، أى: الإيمان بالوحي أى: بالقرآن الذى يكون فيه محمد نفسه أول المؤمنين به، أما الإيمان بشخص محمد فذلك يعنى البداية لتأليهه" (2) . ... ولأن أعداء النبوة ينكرون الإيمان بشخصه الكريم صلى الله عليه وسلم، زعموا أن تكرار شهادة أن محمداً رسول الله، بجانب شهادة أن لا إله إلا الله، يعد شركاً صارخاً على حد زعم رشاد خليفة فى قوله: "لقد أغوى الشيطان المسلمين بترديد بدعة "التشهد" حيث يمطرون محمداً وإبراهيم بالحمد والتمجيد. أليس هذا شركاً صارخاً" (3) ويذهب محمد نجيب إلى أن فى تكرار الشهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فيه تفريق بين رسل الله (4) ولو قلنا بهذا على ما حدثنى بذلك بعضهم: لوجب علينا أن نشهد أيضاً بأن إبراهيم رسول الله، وموسى رسول الله، وعيسى رسول الله… وهكذا وهو أمر يطول أهـ. ... ويجاب عن ما سبق بما يلى:
إجمالاً أقول: زعمهم أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أوامره ونواهيه، وما يحله وما يحرمه فى سنته، تأليه له، بمنحه صفة من صفات الله عز وجل، وهى التشريع. هذا الزعم رد على رب العزة كلامه. ... فالله عز وجل: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (1) فإذا أمرنا ربنا فى كتابه بطاعة واتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، وربط بين طاعته وطاعة نبيه تارة، وأفردها أخرى، وجعل طاعته صلى الله عليه وسلم من طاعته عز وجل، وإذا أقامه مقام نفسه المقدسة فى بيعة المسلمين وإذا أمرنا باتباعه فى كل ما آتانا به، ونهانا عنه، من حلال وحرام. فلا يصح من مخلوق أن يرد كلامه عز وجل، أو أن يقول: هذا إشراك لرسول الله مع ربه فى التشريع! ... وكذلك إذا أمرنا المولى عز وجل بالإيمان بشخص نبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره ونصرته، والإيمان بما أنزل عليه من وحى الله تعالى كتاباً وسنة. فلا يصح أن نرد على الله كلامه ونقول هذا شرك! ... وهذا إجمال وإليك التفصيل:
أولاً: أمر رب العزة عباده بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة مستقلة، بمقتضى عصمته له، وربط تلك الطاعة بطاعته عز وجل تارة، وأفردها تارة أخرى، ليدل على أن طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة له سبحانه فقال: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (1) وقال: {وإن تطيعوه تهتدوا} (2) وقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (3) وطاعته صلى الله عليه وسلم فى الآيات السابقة طاعة مطلقة فى سنته المطهرة، حتى ولو كانت السنة زائدة على ما فى كتاب الله عز وجل، لأنه عليه الصلاة والسلام له حق التشريع بدلالة الآيات السابقة، وبقوله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوباً عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم} (4) فقوله: "يحل، ويحرم، ويضع" من خصائص المشرع الحقيقى الواجب طاعته؛ ولكن مرد هذا التشريع فى حقيقة الأمر إلى الله عز وجل. ... فرسول الله لا يشرع من عند نفسه، وإنما يشرع حسب ما يريه الله تعالى ويوحيه إليه على ما سبق تفصيله فى نهاية المطلب الثانى (5) فهل نسلم بكلام الله تعالى؛ أم نرده ونقول هذا شرك؟. ... وإذا كانت طاعته صلى الله عليه وسلم مستقلة عن طاعة الله عز وجل، كما فى الآيات السابقة وغيرها من الآيات التى تكرر فيها الفعل "أطيعوا" مع الرسول فمن الذى أعطاه هذه المنزلة والمكانة؛ أليس ربه عز وجل؟ فهل نرد هذه المكانة والمنزلة ونقول هذا شرك؟.
.. وإذا قال ربنا عز وجل مراراً {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} فهل يصح من مخلوق بعد ذلك أن يزعم أن الربط بين طاعته عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم تأليه له عليه الصلاة والسلام، فيرد على رب العزة كلامه؟!! وإذا قال ربنا عز وجل: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} (1) وإذا قال سبحانه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} (2) . ... فهل يصح من مخلوق بعد ذلك أن يزعم أن الربط بين مبايعته عز وجل، ومبايعة رسوله صلى الله عليه وسلم شرك؟ أو أن الربط بين محبته سبحانه ومحبة نبيه ومصطفاه شرك؟!. ... إن قائل الآيات السابقة فى وجوب محبته صلى الله عليه وسلم هو القائل: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله} (3) فهل جعل محبة نبيه صلى الله عليه وسلم ومتابعته نداً؟ أم جعلها شرطاً لمحبة الله، وعلامة على صدق من يزعم محبته عز وجل؟.
.. قال الحسن البصرى وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله} فتأمل كيف أوقع طاعته ومتابعته صلى الله عليه وسلم بين قطرى محبة العباد، ومحبة الله للعباد، وجعل تلك المتابعة شرطاً لمحبة الله لهم، مما يستحيل حينئذ ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم، بدون طاعتهم ومتابعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه الآية الكريمة: حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس على الطريقة النبوية، فإنه كاذب فى دعواه فى نفس الأمر، حتى يتبع شرع الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فى جميع أقواله وأفعاله وأحواله، ويعلم أن هذا الاتباع عين التوحيد الخالص لله عز وجل، كما دل على ذلك ما روى أنه لما نزلت هذه الآية قال بعض الكفار: "إن محمداً يريد أن نتخذه حناناً (1) كما اتخذت النصارى عيسى" فأنزل الله تعالى: {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} (2)
فقرن طاعته عز وجل بطاعته صلى الله عليه وسلم رغماً لهم (1) والمعنى إلصاقاً لأنوفهم بالتراب جزاءاً لأنفتهم من متابعته صلى الله عليه وسلم، وجزاءاً لإفكهم بأن طاعته صلى الله عليه وسلم شرك {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} (2) وأقول لهم: الربط بين طاعة الله وطاعة رسوله هو عين التوحيد الخالص: {فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} (3) . ثانياً: إنكار أعداء النبوة الإيمان بشخص النبى صلى الله عليه وسلم واستدلالهم على ذلك بقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم} (4) هذه الآية الكريمة حجة عليهم، وتفضحهم فى كل ما يأفكون. لأن مما أنزل على محمد وهو الحق من ربنا قوله: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} (5) وقوله سبحانه: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} (6) وقوله: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (7) . ... وهم بهذه الآيات يكفرون؛ إذ ينكرون على ما سبق أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم تبياناً للقرآن، وهو الحكمة، وهى السنة كما قال علماء الأمة، وينكرون أن يكون له صلى الله عليه وسلم طاعة فى هذه السنة. ... وإذا كانوا هنا يزعمون بأنه لا يوجد فى الإسلام إيمان بشخص النبى محمد صلى الله عليه وسلم فالآية التى استدلوا بها على زعمهم ترد عليهم حيث أطلقت {وآمنوا بما نزل على محمد} وما أنزل على محمد آيات كريمات تصرح بالإيمان بشخصه الكريم، منها ما يلى:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله} (1) . وقوله سبحانه: {فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته} (2) . وقوله عز وجل: {ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا} (3) . ومعلوم أن الإيمان بالله عز وجل يعنى: الإيمان بذاته المقدسة، وبكتابه العزيز، وطاعته عز وجل فى كل ما أمرنا به فى كتابه. وكذلك الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم: يعنى: الإيمان بشخصه الكريم وبكل ما جاء به من عند ربه عز وجل من كتاب وسنة وطاعته فى ذلك.
ويؤيد أن الإيمان فى الآيات السابقة مراداً به شخصه صلى الله عليه وسلم ما جاء فى القرآن الكريم من الأمر بتعظيمه وتوقيره صلى الله عليه وسلم نحو قوله تعالى: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه} (1) وقوله سبحانه: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه} (2) فقوله: "وتعزروه" أى: تعظموه وتجلوه (3) والتعظيم والإجلال والتوقير والنصرة، تشمل فى المقدمة شخصه الكريم. بدليل ما جاء فى القرآن الكريم أيضاً من تعظيم رب العزة لنبيه بنداءه وخطابه باللقب المشعر بالتعظيم بالنبوة والرسالة دون غيره من الأنبياء (4) وكذلك أمره عباده بالأدب مع رسوله بعدم التقديم بين يديه أو رفع صوتهم على صوته (5) وتحذيرهم من الانصراف من مجلسه قبل استئذانه، أو ندائه باسمه (محمد) كما ينادى بعضهم بعضاً (6)
وتحريم إيذائه (1) . أليس فى كل هذه الآداب الربانية دليل على أن الإيمان بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه وتوقيره من حقائق الإسلام؟ أليس فى هذه الآداب الربانية ما يصفع المتنبئ الكذاب رشاد خليفة فى زعمه إن تعظيمه وتوقيره… صلى الله عليه وسلم شركاً صارخاً؟ (2) . إن الإيمان بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وإجلاله، والتأدب معه بالآداب الربانية السابقة، كان عليه سلفنا الصالح، وقد شهد بذلك عروة بن مسعود الثقفى (3) وهو يومئذ لم يسلم بعد، وكان مندوب قريش للتفاوض فى شأن دخول النبى صلى الله عليه وسلم مكة فى غزوة الحديبية، فرأى من تعظيم وتوقير للنبى صلى الله عليه وسلم فى قلوب الصحابة وجوارحهم ما أذهله، حتى عاد إلى قريش وقال لهم: "أى قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشى، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له…" (4) .
فهكذا صور هذا الرجل تعظيم الصحابة الكرام رضى الله عنهم لنبيهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذه الألفاظ الجزلة النابعة من بالغ تأثره بذلك المظهر العظيم من مظاهر التعظيم والتبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم وقد برهن على مدلول هذا الخبر أيضاً، ما قاله عمرو بن العاص رضى الله عنه (1) قال: "ما كان أحد أحب إلى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل فى عينى منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينى منه إجلالاً له، ولو شئت أن أصفه ما أطقت؛ لأنى لم أكن أملأ عينى منه" (2) وهكذا كان الصحابة الكرام رضى الله عنهم يعبرون عن تعظيمهم وإجلالهم وتوقيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بأعمالهم وأقوالهم. ثالثاً: وأخيراً زعمهم أن تكرار شهادة أن محمداً رسول الله بجانب شهادة أن لا إله إلا الله، فيه تفريق بين رسل الله عز وجل، ولو قلنا بهذه الشهادة لوجب علينا أن نشهد أيضاً بأن إبراهيم رسول الله، وموسى رسول الله… الخ وهو أمر يطول. ... فهذا من جهلهم بكتاب الله عز وجل الذى يتسترون نفاقاً بعباءته. فالقرآن الكريم يصرح بأن الله عز وجل أخذ العهد والميثاق على الأنبياء السابقين بأن يؤمنوا بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا بنبوته وينصروه إن خرج وهم أحياء، فلما أقروا بذلك أشهدهم عليه، والله خير الشاهدين. قال تعالى: {وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به. ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} (3) .
قال على بن أبى طالب، وابن عمه عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: "ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث محمداً وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه" (1) . وهذا يعنى أنه صلى الله عليه وسلم نبى الأنبياء، ولو قدر لواحد من هؤلاء الأنبياء جميعاً من لدن آدم إلى عيسى عليهم جميعاً الصلاة والسلام، الحياة، وبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم، لما وسعه إلا اتباعه، يدل على ذلك حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه، أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أتى رسول الله بنسخة من التوراة، فقال يا رسول الله، هذه نسخة من التوراة، فسكت فجعل يقرأ ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير فقال: أبو بكر: ثكلتك الثواكل، ما ترى بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعوذ بالله، من غضب الله، ومن غضب رسوله، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذى نفس محمد بيده، لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتمونى لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حياً وأدرك نبوتى لاتبعنى" (2)
ومن هنا كان سلام الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ليلة الإسراء والمعراج، بقولهم: مرحباً بالنبى الصالح، والأخ الصالح (1) وهو اعتراف منهم بنبوته صلى الله عليه وسلم، ولذا كان إمامهم فى الصلاة ببيت المقدس كما قال صلى الله عليه وسلم: "ثم دخلت بيت المقدس، فجمع لى الأنبياء عليهم السلام فقدمنى جبريل حتى أممتهم" (2) وكل هذا يوضح أن إعلان وتكرار شهادة أن محمداً رسول الله بجانب شهادة أن لا إله إلا الله، هو إيمان بكل الأنبياء، وأنه لو وجد واحد من الأنبياء السابقين لوجب عليه أن يشهد بتلك الشهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) وذلك تنفيذا للعهد والميثاق الذى أخذه الله على سائر أنبياءه ورسله، وهذا يعنى أن ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم فى الشهادة هو ذكر لكل الأنبياء، وشهادة فى نفس الوقت بأنهم رسل الله تعالى، بما يغنى عن تكرار ذكرهم أهـ. والله تعالى أعلى وأعلم
الباب الثالث: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده ودفع الشبهات
الباب الثالث: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده ودفع الشبهات ... ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده كما يصورها القرآن الكريم والسنة النبوية. ويشتمل على مبحثين: ... المبحث الأول: التعريف بالاجتهاد، وحكمته فى حقه صلى الله عليه وسلم. ... المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة. الفصل الثانى: شبهة أن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤيد أن السنة ليست كلها وحى والرد عليها. الفصل الأول: عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده كما يصورها القرآن الكريم والسنة النبوية ... ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: التعريف بالاجتهاد، وحكمته فى حقه صلى الله عليه وسلم. المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية. المبحث الأول: التعريف بالاجتهاد، وحكمته فى حقه صلى الله عليه وسلم أولاً: التعريف بالاجتهاد: أ- من حيث اللغة: ... مأخوذ من الجهد، وهو المشقة والطاقة، فيختص بما فيه مشقة ليخرج عنه مالا مشقة فيه.
.. قال الرازى (1) هو فى اللغة عبارة عن استفراغ الوسع فى أى فعل كان، يقال: استفرغ وسعه فى حمل الثقيل، ولا يقال: استفرغ وسعه فى حمل النواة (2) ومنه حديث معاذ رضى الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وقال له صلى الله عليه وسلم: "كيف تقضى إذا عرض لك قضاء" قال: أقضى بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد فى كتاب الله" قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "فإن لم تجد فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فى كتاب الله؟ " قال: اجتهد رأى ولا آلوا، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد الذى وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضى رسول الله" (3)
ب- معناه الاصطلاحى: ... اختلفت عبارات الأصوليين فى تعريف الاجتهاد اصطلاحاً، اختلافاً يرجع إلى معنى واحد، وهو: بذل الفقيه الوسع، فى تحصيل الأحكام الشرعية الظنية من أدلتها التفصيلية (1) وبهذا تظهر العلاقة بين المعنى اللغوى والاصطلاحى وهى: استفراغ الوسع فى تحصيل شئ. ... قال ابن الأثير: والمراد به رد القضية التى تعرض للحاكم من طريق القياس إلى الكتاب والسنة، ولم يرد الرأى الذى يراه من قبل نفسه، من غير حمل على كتاب أو سنة (2) . ... وإذا نظرنا فى المعنى الاصطلاحى رأيناه ينصب على اجتهادات فقهاء الأمة بجميع مداركها من النظر فى النصوص كتاباً وسنة، وفى القياس والإجماع وغيرهما من مدارك الاجتهاد. ... واجتهاده صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى النظر فى النصوص من الجهات التى احتاج إليها علماء أمته، لأن النصوص جميعها بينة له صلى الله عليه وسلم من جميع هذه الجهات وغيرها. ... وأما ما يظهر فى بعض اجتهاداته صلى الله عليه وسلم أنه من قبيل القياس، فالحمل فيه لتقريب فهم الحادثة المسئول عنها أو المخبر بها، ولفتح باب الاجتهاد لعلماء أمته صلى الله عليه وسلم المؤهلين له، لا لاستنباط الحكم بالنظر فى النصوص (3) .
ثانيا: الحكمة فى اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
.. وبالجملة: فالقسم الثانى من الوحي الإلهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (الوحي التوفيقى) أو (الوحي الباطنى) على حد تعبير الأحناف (1) وهو: ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتهاده مما يعلم أنه من شرع الله تعالى، فإن وافق قوله أو فعله مراد الله تعالى، فالأمر كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الأمر يحتاج إلى تصحيح أو توضيح، أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك (2) . ... وهذا أهم ما يفرق به بين اجتهاد النبى صلى الله عليه وسلم، واجتهاد علماء أمته أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم محروس بوحى الله تعالى، فلا يقر على خطأ ومن هنا فهو حجة فى الدين ويحرم مخالفته، وليس كذلك اجتهاد علماء أمته. اللهم إذا كان اجتهاد علماء الأمة فى عصر من العصور وأجمعوا عليه فيحرم مخالفته. ... قال الإمام الغزالى (3) : "دل الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده صلى الله عليه وسلم، كما دل على تحريم مخالفة الأمة كافة، وكما دل على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم، لأن صلاح الخلق فى اتباع رأى الإمام والحاكم وكافة الأمة، فكذلك النبى صلى الله عليه وسلم" (4) . ثانياً: الحكمة فى اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
.. أمر المولى عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم، بالاجتهاد فى قوله تعالى: {وشاورهم فى الأمر} (1) ووجه الاستدلال بالآية: أن المشاورة إنما تكون فيما حكم فيه بطريق الاجتهاد، إذ لا مشاورة فيما نزل به وحى (2) . ... ولا ريب أن الأمر بالمشاورة أمر له بالاجتهاد لاستظهار آراء من معه من المؤمنين ليختار منها باجتهاده ما يراه صلى الله عليه وسلم موافقاً للمصلحة، وهذا هو الاجتهاد المطلوب. ... وقول من قال أن الآية واردة فى الحروب؛ لا يمنع من ثبوت الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم بها (3) إذ الحروب جهاد فى سبيل الله، وهى أحكام شرعية فالاجتهاد فيها يقتضى جواز الاجتهاد فى غيرها إذ لا فارق. ... وهنا يرد سؤال: ... إذا كان أى نبى عندما يجتهد عرضة لأن يصيب وأن يخطئ، فلماذا يكلهم الله عز وجل إلى الاجتهاد الذى قد يخطئون فيه؟ ولماذا لا يسعفهم بالوحي الذى يفصل فى الأمور والقضايا ولا يحوجهم إلى الاجتهاد؟. والجواب: ... أن الله عز وجل حكماً فى أن يترك الرسل يجتهدون، ثم ينبههم ويعاتبهم إذا أخطأوا؛ أبين بعضها بالنسبة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم على النحو التالى: الحكمة الأولى: ... إقامة الدليل على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم وعبوديته، وأنه مع كونه رسولاً، لم يتجاوز أن يكون عبداً يصيب ويخطئ، كما يصيب البشر ويخطئون؛ ولكنه لا يقر على خطأ.
.. ويدل على هذه الحكمة ويشهد لها قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، وإنه يأتينى الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق فأقضى له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم؛ فإنما هى قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها" (1) . الحكمة الثانية: ... البرهنة على أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم فى إبلاغ الرسالة، وعدم كتمانه شيئاً مما أنزل عليه من ربه، إذ لو كتم شيئاً لكتم آيات العتاب ما خالف فيه الأولى؛ يدل على ذلك ما روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: "لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً، لكتم هذه الآية: {وإذا تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} (2) . الحكمة الثالثة: ... تشجيع الأمة على الاجتهاد وإعمال الفكر فيما يعرض لها من قضايا وأحداث لا يجدون فيها نصوصاً، فإن الأحداث تتجدد، ولا تنتهى عند حد، فكيف يواجهها المسلمون ولا نصوص فيها؛ إذا لم يجتهدو ليتعرفوا على أحكامها؟ . الحكمة الرابعة:
.. رحمة للأمة بتأسيس أعظم قاعدة للحكم الإسلامى، وهى التزام الشورى، وترك الاستبداد. ويؤيد هذا ما جاء عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "لما نزلت {وشاورهم فى الأمر} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمتى فمن استشار منهم لم يعدم راشداً، ومن تركها لم يعدم غياً" (1) . ... قال الإمام ابن جرير: "إن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه، ومكايد حربه، تألفاً منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام؛ البصيرة التى يؤمن عليها معها فتنة الشيطان، وتعريفاً منه أمته فى الأمور التى تقع بهم من بعده وحلها، ليقتدوا به فى ذلك عند النوازل التى تنزل بهم فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه فى حياته صلى الله عليه وسلم يفعله، فأما النبى صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه وإلهامه إياه صواب ذلك، وأما أمته فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله صلى الله عليه وسلم فى ذلك على تصادق وتآخ للحق، وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى، فالله مسددهم وموفقهم" (2) . ... ويؤيد ما سبق ما روى عن الحسن البصرى قال: "قد علم أنه ليس به إليهم حاجة، وربما قال: ليس له إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده" (3) .
.. وقد غرس رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ "الشورى" فى نفوس أصحابه حتى كان يشاورهم فى أمور الدين والدنيا (1) قال أبو هريرة رضى الله عنه: "ما رأيت أحداً قط أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم" (2) وقد اقتفى أثره صلى الله عليه وسلم الخلفاء الراشدون رضى الله عنهم وغيرهم ممن ولى أمر المسلمين بعده من صحابته الكرام وولاة المسلمين الأخيار، فكانوا لا يعدلون بالاستشارة فى أمور المسلمين النازلة بهم، كما قال الإمام البخارى: "وكانت الأئمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم فى الأمور المباحة، ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم، ثم ضرب البخارى أمثلة لذلك (3) وهى كثيرة معلومة، لا مجال لذكرها هنا (4)
المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده
.. وبعد أن فرغت من تعريف الاجتهاد، وحكمته فى حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد حان الوقت لبيان دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده، فإلى بيان ذلك فى المبحث التالى. المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية ... اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشريعة الإسلامية، جوازه وعدمه فى حقه، موضوع قديم أعطاه العلماء حقه فى البحث، وجمهور المحققين من العلماء؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهد فعلاً (1) . واجتهاده صلى الله عليه وسلم فى الدين والدنيا، إن وافق مراد الله تعالى، فالأمر كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الأمر يحتاج إلى تصحيح أو توضيح أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك. ... قال الإمام الشاطبى: "فاعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة، معضود بالمعجزة الدالة على صدق ما قال وصحة ما بين، وأنت ترى الاجتهاد الصادر منه معصوماً بلا خلاف، إما بأنه لا يخطئ البتة، وإما بأنه لا يقر على خطأ إن فرض، فما ظنك بغير ذلك؟ " (2) والأدلة على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده كثيرة يشهد بها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة.
أولا: الأدلة من القرآن الكريم على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده:
أولاً: الأدلة من القرآن الكريم على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} (1) ووجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة فى موضعين: الأول: أن الله تعالى أمر فيها بطاعته سبحانه وطاعة رسوله، وطاعة الله تعالى إنما تكون بامتثال جميع ما نزل به وحيه تعالى على الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما تكون بامتثال كل حكم يخبر به سواء كان عن وحى أو عن اجتهاد، وإلا لم يكن لتخصيص طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد طاعة الله فائدة فى الذكر. وبالتالى فالأمر بطاعته دليل على عصمته فى اجتهاده. الثانى: أن الله تعالى أمر فى هذه الآية الكريمة المتنازعين فى شئ بالرد إلى الله وإلى الرسول. والرد إلى الله رد إلى وحيه المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم سواء أكان متلو وهو القرآن، أم غير متلو وهو السنة. والرد إلى الرسول يقتضى أن يكون الأمر المردود إليه غير داخل فى الوحي وإلا لزم التكرار، والذى لا يدخل فى الوحي وتجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه هو ما أمر به باجتهاده بدليل قوله تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (2) ووجه الاستدلال به أن الله تعالى قد سوى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أولى الأمر - وهم العلماء - فى الاستنباط. فلو لم يكن الاجتهاد جائزاً للرسول صلى الله عليه وسلم، وتجب طاعته فيه لعصمته؛ لما كان الأمر بالرد أى فائدة!!. وقوله تعالى: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} (3) ووجه الاستدلال بالآية من ناحيتين:
الأولى: أن الله تعالى جعل الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيار فى الحكم بينهم، فإن شاء حكم، وإن شاء أعرض ولم يحكم، أى أن الأمر مفوض إليه صلى الله عليه وسلم، فإن رأى – باجتهاده – مصلحة وحسن قبول منهم لحكمه حكم بينهم وإلا أعرض عنهم ولا ضرر عليه منهم. الثانية: أن تقييد أمره بالحكم بينهم (بالقسط) يشعر بزيادة تنبيهه صلى الله عليه وسلم على تحرى الصواب فيما يحكم به، وهو دليل على أن الله تعالى أذن له أن يحكم بينهم باجتهاده، لأنه لو كان الحكم بالوحي لم يكن لهذا القيد فائدة بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لا يحكم إلا بالقسط فدل ذلك على عصمته فى اجتهاده فيما يحكم فيه. وقوله سبحانه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} (1) . ووجه الاستدلال بالآية: أمر رب العزة عباده بتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل شأن من شئون حياتهم، وينقادوا لحكمه انقياداً مطلقاً لا معارضة فيه، وإلا فلا يستحقوا وصف الإيمان. وإذا كان حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما سبق – من الآيات السابقة – يكون بوحى وباجتهاده؛ دل ذلك على عصمته فى اجتهاده، وإلا لما وجب التسليم لحكمه صلى الله عليه وسلم تسليماً مطلقاً. والآية ترد قول الذين شذوا بتجويز الخطأ عليه صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده، وقد أشار التاج السبكى إلى رد هذا القول الشاذ بقوله: "والصواب أن اجتهاده عليه الصلاة والسلام لا يخطئ" (2) . وقوله عز وجل: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما آراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} (3) .
فهذه الآية الكريمة احتج بها العلماء على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتهاده؛ وأن هذا الحكم معصوم فيه، بدلالة قوله تعالى: {بما أراك الله} فإذا أقره رب العزة على اجتهاده فى حكمه فهو حكم الله فى النهاية. وفى الصحيحين وغيرهما عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مواريث بينهما قد درست، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلى، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن (1) بحجته من بعض، وإنما أقضى بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتى بها إسطاماً (2) فى عنقه يوم القيامة. فبكى الرجلان، وقال كل منهما: حقى لأخى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما (3) ثم ليحلل لك واحد منكما صاحبه" (4) وفى رواية: "إنى إنما أقضى بينكم برأيى فيما لم ينزل على فيه" (5) .
فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "أقضى بينكم برأيى… الخ" مع وصف رب العزة هذا الرأى بأنه من عنده فى قوله تعالى: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} وتأمل مع ذلك قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو على المنبر: "يا أيها الناس، إن الرأى إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً، لأن الله كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف" (1) وهذا الكلام صريح فيما قررته من أنه صلى الله عليه وسلم يحكم باجتهاده، وهو فى هذا الاجتهاد معصوم لا يخطئ فيه. وقوله تعالى: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} (2) وأفرد الضمير فى قوله "ليحكم" لإفادة أن حكم الله ورسوله واحد. قال الأستاذ عبد الله الغمارى: "وفى الآية دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم فى أحكامه الاجتهادية لا يخطئ فيها، لأن الله تعالى جعل حكم نبيه حكمه، والخطأ فى حقه تعالى محال. فما زعمه بعض مبتدعة هذا العصر من نسبة الخطأ إليه صلى الله عليه وسلم فى بعض أحكامه الاجتهادية ضلال مبنى على جهل، لأن الخطأ الاجتهادى لا يقر عليه صلى الله عليه وسلم، إذ ينزل التنبيه وبعد التنبيه والتصحيح لا خطأ، وزاد بعضهم جهلاً وضلالة، فجوز مخالفة بعض قضاياه صلى الله عليه وسلم الاجتهادية، إذا اقتضت المصلحة ذلك، ولا أدرى كيف خفيت عليه هذه الآية؟ وآية سورة النساء؟ (3) وأى مصلحة تقتضى مخالفة حكمه؟ والقرآن ينفى الإيمان عمن لم يسلم له تسليماً" (4) .
وقوله عز وجل {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستئذنوه إن الذين يستئذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استئذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم} (1) . والشاهد فى الآية فى قوله: {فأذن لمن شئت منهم} حيث فوض رب العزة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الأمر لمشيئته وإذنه صلى الله عليه وسلم بعد وجوب استئذانهم قبل الانصراف عنه فى كل أمر يجتمعون عليه. وفى هذا التفويض من المولى عزوجل لرسوله صلى الله عليه وسلم دليل على اجتهاده وعصمته فيه! ولو خالف الأولى فى اجتهاده ينزل التصحيح والتنبيه. وهو دليل عصمته فى اجتهاده. بدليل قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} (2) . فظاهر الآية الكريمة يفيد: أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد بالأذن لبعض المنافقين فى التخلف عن الخروج إلى تبوك، وكان إذنه على خلاف الأولى فجاء التصحيح والتنبيه على ذلك؛ وهو دليل عصمته فى اجتهاده. وليس فى هذا الإذن ذنب ولا جريمة لسببين: أولهما: أن الله تعالى لم يتقدم إليه صلى الله عليه وسلم فى ذلك بأمر ولا نهى.
ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم أذن لهم اجتهاداً منه بناء على عموم آية النور من تفويضه بالإذن لمن شاء، فكيف ينسب إليه ذنب أو جريمة؟! بل لو فرض أنه أخطأ لكان مثاباً على اجتهاده غير مؤاخذ بخطئه، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يخطئ، لأنه سلك ما هو الأوفق بخلقه العظيم من التيسير على أصحابه، والميل إلى ستر حالهم، وتفويض أمرهم إلى الله تعالى، ولكن الله تعالى أراد منه صلى الله عليه وسلم أن يكون شديداً على المنافقين فهو كقوله تعالى: {يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} (1) فالإذن للمنافقين كان جائزاً بحسب عموم آية النور، ثم نسخ بهذه الآية. كما كان الاستغفار لهم والصلاة عليهم جائزين، ثم نسخا بقوله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} (2) وفاعل الحكم المنسوخ قبل نسخه لا يكون عاصياً، بل هو مثاب مبرور. ... ويؤيد ما سبق استفتاح الكلام بالعفو، {عفا الله عنك} والآية بحسب الأسلوب العربى، تفيد تكريم النبى وتعظيمه خلافاً لمن وهم ففهم منها عتابه أو تأنيبه، فيستوجب ما فهمه ذلك الواهم (3) . وقوله سبحانه: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور رحيم} (4) إن هذه الآية تتحدث عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم للرماة يوم أحد الوارد فى قوله صلى الله عليه وسلم: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتنمونا قد غنمنا فلا تشركونا" (5) .
إن هذا الأمر النبوى للرماة يوم أحد أمر اجتهادى منه صلى الله عليه وسلم تقتضيه طبيعة المعركة يومها، وهو اجتهاد عصم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافق مراد الله تعالى بدليل عتاب المولى عز وجل للرماة فى الآية السابقة، ووصفهم بالعصاة فى قوله عز وجل: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم فى الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين} (1) . وتأمل: {وتنازعتم فى الأمر وعصيتم} إنه تقرير لعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أمره الاجتهادى للرماة يوم أحد، ووصف المخالفين له صلى الله عليه وسلم يومئذ بالعصيان، ولكن عفا الله عنهم: {والله ذو فضل على المؤمنين} 0
8- وقوله عز وجل: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين} (1) . ووجه الاستدلال بالآية على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده أنها تصرح على ما ورد فى الصحيح من أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرق نخيل بنى النضير وقطعه كان باجتهاده، وهو اجتهاد أقره رب العزة حيث وصفه بإذنه فى وحى متلو، وأنزله جواباً لسؤال بعض الصحابة كما حاك فى صدورهم وأثر فيها؛ من حيث صواب وخطأ بعضهم فى قطع بعض النخيل وترك بعضه. فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "اللينة النخلة، وليخزى الفاسقين قال: استنزلوهم من حصونهم قال: أمروا بقطع النخل فحاك فى صدورهم. فقال المسلمون: قد قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله عز وجل: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين} (2) فهل بعد ذلك شك فى اجتهاده صلى الله عليه وسلم فى الشريعة الإسلامية وعصمته فيه؟!.
.. نعم أقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن له بالاجتهاد فى الشريعة الإسلامية واجتهد فعلاً، وأن اجتهاده فى بعض الأحيان القليلة كان خلاف حكم الله، فجاء الوحي بتصحيح الحكم والإرشاد إلى ما ينبغى. كما فى قوله تعالى: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم. قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم} (1) . ... أو جاء الوحي بإمضاء حكم اجتهاده صلى الله عليه وسلم مع التنبيه بما ينبغى كما فى قوله تعالى: {ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم} (2) . أو جاء الوحي بإمضاء حكم اجتهاده صلى الله عليه وسلم وإقراره على ما سبق تفصيله قريباً فى الآيات السابقة. ... أما زعم الشيعة أن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز، فهو زعم مردود عليهم بما سبق من الأدلة القرآنية على اجتهاده صلى الله عليه وسلم فى الدين والدنيا وعصمته فيه. ...
أما زعمهم بأن ما استدل به من الآيات التى تدل على اجتهاده تنسب إليه الخطأ والذنب وهو يخل بعصمته (1) فقد سبق الجواب عن هذه الآيات تفصيلياً بما لا يخل بعصمته صلى الله عليه وسلم (2) .
وأزيد هنا جواباً إجمالياً ما قاله الأستاذ محمد عزة دروزة قال: "ولسنا نرى مساساً بالعصمة النبوية من ناحية تلك الاجتهادات التى عوتب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى القرآن، فالاجتهادات التى عوتب عليها فى القرآن ليست ذنوباً يمكن أن يكون صدورها من النبى صلى الله عليه وسلم، مناقضاً للعصمة التى يجب الإيمان بها فيه، وإنما هى خلاف لما هو الأولى فى علم الله المغيب عنه فيما لا وحى فيه. والعصمة الواجب الإيمان بها ليست هى التى تجعل النبى صلى الله عليه وسلم يمتنع عليه أن يصدر منه أى فعل أو قول أو اجتهاد فى مختلف شئون الحياة والناس، قد يكون فيه الخطأ والصواب، وخلاف الأولى الذى فى علم الله تعالى؛ والذى لا ينكشف له إلا بوحى، مما لا يمكن أن ينتفى عن الطبيعة البشرية النبوية المقررة فى القرآن ولكنها التى تجعله يمتنع عن أى إثم أو جريمة أو فاحشة، أو مخالفة للقرآن قولاً وفعلاً، وعن كتم أى شئ أوحى به إليه، أو تحريفه وتبديله نتيجة لما وصل إليه بنعمة الله وفضله من كمال الخلق والروح والعقل والإيمان والاستغراق فى الله الذى جعله أهلاً للاصطفاء الربانى" (1) أهـ.
ثانيا: الأدلة من السنة النبوية على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده:
ثانياً: الأدلة من السنة النبوية على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده: ... اعتبر العلماء ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتهاده مما يعلم أنه من شرع الله تعالى؛ من وحى السنة المطهرة، وسماه الأحناف بالوحي الباطنى (1) وعللوا ذلك بأنه ما كان الله عز وجل ليترك خطأ يصدر من رسوله المبلغ عنه، مما يترتب عليه وقوع الأمة فيه اتباعاً. وإذا كانت الحكمة من إرسال الرسل أن لا تكون للناس على الله حجة {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلاً يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (2) فإن ذلك يتم بعصمة المرسل من الوقوع فى أى خطأ، فإن كان اجتهاده صواباً أقره الوحي، وإن كان غير صواب نبهه الوحي. يدل على ذلك ما يلى: 1- عن أبى قتادة رضى الله عنه، أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرأيت إن قتلت فى سبيل الله، تكفر عنى خطاياى؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. إن قتلت فى سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت فى سبيل الله، أتكفر عنى خطاياى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال له ذلك" (3) . ... فتأمل كيف اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الجواب عن سؤال فى الإسلام! وكيف أقره وحى الله؛ مع الاستدراك فى الجواب زيادة "الدين" على ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم! وفى ذلك دلالته على جواز الاجتهاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى الإسلام وعصمته فيه.
2- وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: اختصم إلى النبى صلى الله عليه وسلم رجلان. فوقعت اليمين على أحدهما، فحلف بالله الذى لا إله إلا هو، ماله عنده شئ. فنزل جبريل على النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه كاذب إن له عنده حقه، فأمره أن يعطيه حقه، وكفارة يمينه معرفته أن لا إله إلا الله أو شهادته" (1) . ... فتأمل دلالة الحديث على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتهاده فى أموال الناس، وتأمل كيف أن الحكم فى المسألة الواردة فى الحديث لا بينة فيه، ويتوقف حكمها على يمين أحدهما، فحلف وكان كاذباً فى حقيقة الأمر، فحكم له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقة – التى سرقها – إذ لا بينة مع المدعى ملكيتها.
.. وحكمه صلى الله عليه وسلم للحالف – كاذباً فى حقيقة الأمر – لا حرج عليه صلى الله عليه وسلم فى ذلك؛ بناء على الأصل فى الفصل فى الأحكام (البينة على المدعى، واليمين على من أنكر) كما قال صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم، لا دعى ناس دماء رجال وأموالهم. ولكن اليمين على المدعى عليه" (1) ولكن تأمل كيف أن الله عز وجل لا يرضى لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون حكمه الاجتهادى مطابقاً للواقع، ونفس الأمر، ظاهراً وباطناً؛ فنبهه جبريل عليه السلام قبل صدور الحكم. فبان بذلك بطلان ما زعمه بعض الشذاذ أن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخل بعصمته. 3- ومن اجتهاداته صلى الله عليه وسلم المعصوم فيها اجتهاده فى غزوة بدر الكبرى، وكان ذلك فى ثلاثة مواضع: أحدها: فى الإقدام على المعركة، وثانيها: فى موضع نزول جيشه فى بدر، وثالثها: فى شأن الأسرى.
أما الموضع الأول: الاستشارة فى القتال، فكانت عندما "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد" (1) عندئذ استشار أصحابه فى مواجهتهم فعن أنس بن مالك؛ أن رسول الله شاور حين بلغه إقبال أبى سفيان. قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه. ثم تكلم عمر فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد؟ يا رسول الله! والذى نفسى بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد (2) لفعلنا" (3) فسر النبى صلى الله عليه وسلم بذلك ودعى له بخير، غير أنه عليه الصلاة والسلام لم يقنعه قول المهاجرين، لأن قتالهم معه أمر لا يشك فيه، فقد باعوا أنفسهم لله وخرجوا من ديارهم وأموالهم فراراً بعقيدتهم ونصرة نبيهم.
.. لكن الأنصار لم يكونوا كذلك، إذ إنما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نصرته فى مدينتهم وديارهم، أما وهو فى بدر فذلك ما لم تقتضه نصوص المعاهدة، فأراد صلى الله عليه وسلم استشارتهم فيما هو محدق به وبهم من الخطر، ليكتشف رأيهم فيما يعد خارجاً عن بنود المعاهدة، فكرر طلب الاستشارة قائلاً: "أشيروا على أيها الناس" ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال: أجل. فقال: لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذى بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر فى الحرب، صدق فى اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. ... فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال: "سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين. والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم" (1) . ... وهكذا تمخضت المشاورة هذه برأى صائب سديد، وافقت ما قدره الله تعالى، لنبيه وعباده المؤمنين، واراه إياه، حتى كأنه يرى نتيجة ما هو قادم عليه رأى العين.
.. ويشهد بصحة هذه المشاورة، وأنها وافقت ما قدره الله تعالى قوله تعالى: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون. يجادلونك فى الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} (1) . الموضع الثانى: الاستشارة فى المنزل، فعندما نزل النبى صلى الله عليه وسلم على أقرب ماء من بدر وعرض الأمر على الصحابة، فجاء الحباب بن المنذر (2) وقال: يا رسول الله! أرأيت هذا المنزل؛ أمنزلاً انزلكه الله تعالى ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال: "بل هو الرأى والحرب والمكيدة" فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نتأتى أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبنى عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل فنشرب ولا يشربون، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "لقد أشرت بالرأى" (3) .
.. وهذه المشاورة وافقت ما قدره الله تعالى، بدليل ما جاء فى مغازى الأموى، أن حباب بن المنذر لما أشار على النبى صلى الله عليه وسلم بتغير مكان نزوله يوم بدر؛ ورجع النبى صلى الله عليه وسلم إلى رأيه، نزل ملك من السماء، وجبريل جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ذلك الملك: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك: إن الرأى ما أشار به الحباب بن المنذر" (1) أليس فى ذلك أعظم دليل على أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم معصوم فيه، بدلاله مراقبة الوحي لهذا الاجتهاد، حيث وافق مراد الله تعالى فجاء الإقرار؟!. الموضع الثالث: الاستشارة فى شأن الأسرى، فقد انجلت المعركة عن قتل سبعين وأسر سبعين، فضلاً عن الغنائم الكثيرة، وكانت الأسرى أمراً ذى بال، استدعى أن يجمع له الرأى ويفكر فى أمره، لعددهم الكبير، وما يترتب على الإقدام فى شأنهم من نفع للإسلام والمسلمين. ...
وذلك ما جعل النبى صلى الله عليه وسلم يستشير ذوى الرأى والحجا من أصحابه فى الأمر الذى يصنعه بهم من قتل أو من أو فداء، فقال صلى الله عليه وسلم: لأبى بكر وعمر: "ما ترون فى هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا نبى الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قال: فقلت: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذى رأى أبو بكر، ولكنى أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنى من فلان (نسيب لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، قال: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، قال: فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر قاعدين يبكيان، فقلت يا رسول الله! أخبرنى من أى شئ تبكى أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابكى للذى عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجر" شجرة قريبة من نبى الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل: {ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم} (1) فأحل الله الغنيمة لهم" (2) .
.. وفى نزول هذه الآيات دليل على مراقبة الوحي لما يجتهد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى ذلك شاهد على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده؛ حيث جاء الوحي بإمضاء حكم اجتهاده صلى الله عليه وسلم مع التنبيه على ما ينبغى (1) . 4- ومن اجتهاداته صلى الله عليه وسلم التى عصم فيها وجاء الوحي بإقرارها ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن امرأة جاءت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: أن أمى نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: نعم حجى عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت نعم. قال: فاقضوا الذى له فإن الله أحق بالوفاء" (2) . ... ووجه الاستدلال بالحديث أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد فى إجابة السائلة واعتبر دين الله بدين العباد، وذلك بيان بطريق القياس، ولم يأت ما يخالف ذلك مما يدل على أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم وافق مراد الله عز وجل فصار إقراراً. ... وبهذا الإقرار صار اجتهاده صلى الله عليه وسلم حجة على العباد لعصمة الله له فيه، وبحكمه صلى الله عليه وسلم (قضاء الدين عن الميت) قالت الأمة، وأجمعت عليه (3) . 5- ومن هذا النوع أيضاً أجابته صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب حين قبل عمر امرأته وهو صائم؛ فظن أنه فعل أمراً عظيماً.
.. فعن عمر رضى الله عنه قال: "هششت (1) فقبلت وأنا صائم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنى صنعت اليوم أمراً عظيماً، قبلت وأنا صائم. قال: "أرأيت لو مضمضت من الماء؟ قلت: إذاً لا يضر. قال: ففيم! " (2) أى: ففيم تسأل (3) قال الخطابى: "فإذا كان أحد الأمرين منهما غير مفطر للصائم فالآخر بمثابته (4) ووجه الاستدلال بالحديث اجتهاده صلى الله عليه وسلم فى قياس القبلة على المضمضة فى عدم الأثر على الصوم، ولم يأت ما يخالف ذلك، فصار إقراراً من الوحي بعصمته صلى الله عليه وسلم فيما اجتهد فيه. 6- وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة فى المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: قد رأيت الذى صنعتم، ولم يمنعنى من الخروج إليكم إلا إنى خشيت أن تفرض عليكم، وذلك فى رمضان" (5) .
.. ووجه الاستدلال منه على عصمته فى اجتهاده صلى الله عليه وسلم أنه توقع أن يترتب على المواظبة على صلاة الليل جماعة فرضها عليهم، كما هى واجبة عليه صلى الله عليه وسلم، لأن الأصل فى الشرع المساواة بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أمته فى العبادة مالم يدل دليل على الخصوصية، فأداه اجتهاده عليه الصلاة والسلام بسبب رحمته بهم إلى عدم الخروج إليهم والصلاة بهم خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها (1) وبما أنه لم يرد دليل على الفرضية، فهو بمنزلة الإقرار من رب العزة لما اجتهد فيه صلى الله عليه وسلم؛ حيث وافق مراد الله بعدم الفرضية، وهو دليلنا على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده. 7- وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعث فقال: "إن وجدتم فلاناً وفلاناً فاحرقوهما بالنار" ثم قال صلى الله عليه وسلم: حين أردنا الخروج: إنى أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً وأن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما" (2) . ... إن قوله: "إن وجدتم فلاناً وفلاناً فاحرقوهما" كان هذا الأمر منه أولاً اجتهاداً، ثم عدل عنه باجتهاد آخر؛ وعلله صلى الله عليه وسلم بقوله: "النار لا يعذب بها إلا الله". ... وقد استدل بالحديث الحافظ ابن حجر على: "جواز الحكم بالشئ اجتهاداً ثم الرجوع عنه" (3) وفى الرجوع واستمرار الحكم على ذلك، وعدم ورود ما يخالفه عنه صلى الله عليه وسلم هو بمنزلة الإقرار من الله تعالى على هذا الحكم النهائى الذى رجع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو دليل عصمته فى اجتهاده.
.. وبعد: فهذه نماذج من الأحاديث التى تدل على اجتهاده صلى الله عليه وسلم فى الشريعة الإسلامية، وعصمة الله تعالى له فيها؛ إما بالإقرار إذا وافق اجتهاده مراده عز وجل، وإما بالتصويب والإرشاد إذا خالف اجتهاده مراده تعالى. ... وفى كلا الأمرين (الإقرار والتصويب) هو بمنزلة الوحي الإلهى يصير حجة على العباد إلى يوم الدين؛ ويحرم مخالفته خلافاً لمن أجاز ذلك، وزعم أن خطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده دليل على أنه يجوز الاجتهاد فى نفس الأحكام التى اجتهد فيها ومخالفته! (1) . ... ونعم أقول: إن بعض اجتهاداته صلى الله عليه وسلم لم تصادف الصواب؛ ولكن أين حكم الله تعالى فى الأمر الذى اجتهد فيه صلى الله عليه وسلم ولم يصب؟! إن ما يصدر عن النبى صلى الله عليه وسلم من اجتهاد - على ما تقرر سابقاً فى أكثر من موضع، إما أن يوافق حكم الله أولاً. ... فإن وافق حكم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو كما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وإن لم يوافق حكم الله عدله إلى حكمه جلا جلاله. وإذن تصبح الأحكام الدينية التى حكم بها رسول الله اجتهاداً أحكام الله فى النهاية، وقبل لقائه الرفيق الأعلى، وتصير تلك الأحكام حجة إجماعاً بلا شك (2) ويشهد لصحة ما سبق إجماع الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده، فإلى بيان ذلك.
ثالثا: إجماع الأمة على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده:
ثالثاً: إجماع الأمة على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده: ... لقد كان معلوماً لدى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الوحي قريب جداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم، وأنه لن يترك أمراً مخالفاً يمر، فما قاله عليه الصلاة والسلام باجتهاده دون وحى، فإنما هو من الإسلام وإلا جاء الوحي. يشهد لذلك ما روى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل" قال سفيان – أحد رجال إسناد هذا الحديث – موضحاً كلام جابر: لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن" (1) .
قال فضيلة الدكتور عبد المهدى عبد القادر: "ويظهر لى من كلام جابر هذا أن جابراً استدل على شرعية العزل بتقرير الله سبحانه وتعالى (1) وعليه فجابر يرى أن الوحي لا يقتصر على مراقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يراقب الأمة كلها، فأيما فعل فعلوه مخالفاً الإسلام نبه الوحي عليه، وأيما فعل فعلوه زمن الوحي وأقرهم عليه الوحي فهو من الإسلام" (2) وهذا هو الذى يفيده أيضاً ما رواه ابن سعد فى الطبقات عن الواقدى عن شيوخه قال: قد قتل مجذر بن ذياد، سويد بن الصامت، فى وقعة التقيا فيها فى الجاهلية. فظفر المجذر بسويد فقتله، وذلك قبل الإسلام. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم الحارث بن سويد (3) ومجذر بن زياد (4) وشهدا بدراً. فجعل الحارث يطلب مجذراً ليقتله بأبيه، فلا يقدر عليه. ... فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة، أتاه الحارث من خلفه، فضرب عنقه. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمراء الأسد، أتاه جبريل، فأخبره أن الحارث بن سويد قتل مجذر بن زياد غيلة، وأمره أن يقتله… الحديث" (5) . ... قال ابن الأثير: اتفق أهل النقل على أن الحارث بن سويد هو الذى قتل المجذر بن زياد. فقتله النبى صلى الله عليه وسلم (6) .
.. وهذا الاتفاق الذى نقله ابن الأثير، يقتضى الحكم بصحة الحديث وإن لم يكن إسناده على شرط الصحة، كما تقرر فى علم الحديث (1) وهو ما ذكره السيوطى فى حكمه على هذا الحديث فى كتابه الباهر فى حكم النبى صلى الله عليه وسلم بالباطن والظاهر (2) . ... هذا ودلالة الحديث على مراقبة الوحي للأمة واضحة بإخبار جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الحارث قتل مجذر غيلة، وأمره أن يقتله وهذه المراقبة للأمة كانوا على يقين بها، وهذا هو الذى يفيده حديث ابن عمر رضى الله عنه قال: "كنا نتقى الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد النبى صلى الله عليه وسلم هيبة أن ينزل فينا شئ، فلما توفى النبى صلى الله عليه وسلم تكلمنا وانبسطنا" (3) ومنه حديث عمر حينما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يجبه. فقال – أى عمر – ثكلتك أمك يا عمر، ثم قال: وخشيت أن ينزل فى قرآن" (4) .
.. ومنه حديث سلمة بن صخر البياضى (1) إذ أتى زوجته فى رمضان فقال لقومه: امشوا معى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا والله لا نمشى معك، ما نأمن أن ينزل فيك القرآن، أو أن يكون فيك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يلزمنا عارها … الحديث (2) . ... ومن إنكار الوحي عليهم حديث زيد بن خالد الجهنى (3) قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الصبح بالحديبية فى إثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بى، كافر بالكواكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بى، مؤمن بالكواكب" (4) .
.. وهكذا يتضح أن الوحي كان يراقب تصرفاته صلى الله عليه وسلم، ويراقب الأمة أيضاً. وفى كل ذلك دلالته على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده. وعلى ذلك اتفاق السلف وإجماعهم عليه؛ وذلك أنا نعلم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله، والثقة بجميع أخباره فى أى باب كانت، وعن أى شئ وقعت، وأنه لم يكن لهم توقف، ولا تردد فى شئ منها، ولا استثبات عن حاله عند ذلك هل وقع فيها سهو أم لا، وهل وقع عن وحى أو اجتهاد، وأيضاً فإن أخباره وآثاره وسيره وشمائله صلى الله عليه وسلم معتنى بها مستقصى تفاصيلها، ولم يرو فى شئ منها استدراكه صلى الله عليه وسلم لغلط فى قول قاله، أو اعترافه بوهم فى شئ أخبر به، ولو كان ذلك لنقل كما نقل من قصته صلى الله عليه وسلم عما أشار به على الأنصار فى تلقيح النخل (1) وكان ذلك رأياً لا خبراً يعنى: فلا يدخله الصدق والكذب (2) . قلت: وهذا الذى أدين الله تعالى به فى أخبار النبى صلى الله عليه وسلم، فقد كانت أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله كلها تشريعاً تقتضى المتابعة والاقتداء سواء كانت بوحى أو اجتهاد لعصمة رب العزة له فى أحواله صلى الله عليه وسلم كلها.
.. أما زعم أعداء السنة المطهرة بأن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤيد أن السنة المطهرة ليست كلها وحى، وذهاب بعض المسلمين إلى تقسيم السنة إلى قسمين سنة تشريعية ملزمة عامة ودائمة، وسنة غير تشريعية ولا ملزمة واستدلالهم على ذلك باجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عموماً، وحديث تأبير النخل خصوصاً. فذلك منهم طعن فى عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده. فإلى تفصيل شبهتهم فى ذلك والرد عليها…
الفصل الثانى: شبهة أن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤيد أن السنة المطهرة ليست كلها وحى
الفصل الثانى: شبهة أن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤيد أن السنة المطهرة ليست كلها وحى والرد عليها ... سبق أن تقرر لك أن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشريعة الإسلامية لا يخل بعصمته فى أقواله وأفعاله وتقريراته، لأن وحى الله تعالى يراقبه؛ فإن أصاب فى اجتهاده لم يأت تنبيه، فدل على إقرار رب العزة له، وإن خالف اجتهاد الأولى نزل وحى الله تعالى بالتنبيه والتصويب لما هو أولى، وفى الإقرار والتنبيه؛ يصبح اجتهاده صلى الله عليه وسلم، وحى وحكم الله النهائى، حجة على العباد واجب الاتباع ويحرم مخالفته بالآيات والأحاديث السابقة الدالة على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده وبإجماع الأمة. إلا أن بعض دعاة الفتنة وأدعياء العلم زعموا أن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من الوحي الإلهى. ويستدلون على ذلك بحديث المعصوم صلى الله عليه وسلم، الوارد فى قصة تأبير النخل بمختلف رواياته عن طلحة بن عبيد الله رضى الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل. فقال: ما صنع هؤلاء؟ فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر فى الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أظن يغنى ذلك شئ" قال فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنى إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذونى بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً، فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله عز وجل". ... وفى حديث رافع بن خديج رضى الله عنه (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشئ من رأى فإنما أنا بشر" قال عكرمة: أو نحو هذا.
.. وفى حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (1) وهذا الحديث من زمن طويل كان المشجب الذى يعلق عليه من شاء، ما شاء من أمور الشرع التى يراد التحلل منها، فقد أراد بعضهم أن يحذف النظام السياسى كله من الإسلام بهذا الحديث وحده، لأن أمر السياسة أصولاً وفروعاً من أمر دنيانا، فنحن أعلم به، فليس من شأن الوحي أن يكون له فيها تشريع أو توجيه، فالإسلام عند هؤلاء دين بلا دولة، وعقيدة بلا شريعة؛ وأراد آخرون أن يحذفوا النظام الاقتصادى كله من الإسلام كذلك، بسبب هذا الحديث الواحد. ... المهم: أن بعض الناس أراد أن يهدم بهذا الحديث الفرد كل ما حوت دواوين السنة الزاخرة، من أحاديث البيوع، والمعاملات، والعلاقات الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية. ... وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث لينسخ به جميع أقواله وأعماله وتقريراته التى تكون السنة النبوية.
.. وهذا الغلو من بعض الناس، هو الذى جعل عالماً كبيراً مثل المحدث الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر – رحمه الله – يعلق على هذا الحديث فى مسند الإمام أحمد فيقول: "هذا الحديث مما طنطن به ملحدوا مصر، وصنائع أوروبة فيها، من عبيد المستشرقين، وتلامذة المبشرين، فجعلوه أصلاً يطعنون به فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده، وأخذوا يحجون به أهل السنة وأنصارها، وخدام الشريعة وحماتها، إذا أرادوا أن ينفوا شيئاً من السنة، وأن ينكروا شريعة من شرائع الإسلام، فى المعاملات، وشئون الاجتماع وغيرها، يزعمون أن هذه من شئون الدنيا، ويتمسكون برواية أنس: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (1) والله يعلم أنهم لا يؤمنون بأصل الدين، ولا بالألوهية، ولا بالرسالة، ولا يصدقون القرآن فى قرارة نفوسهم. ومن آمن منهم فإنما يؤمن لسانه ظاهراً، ويؤمن قلبه فيما يخيل إليه، لا عن ثقة وطمأنينة، ولكن تقليداً وخشية، فإذا ما جد الجد، وتعارضت الشريعة، الكتاب والسنة، مع ما درسوا فى مصر أو فى أوروبا، لم يترددوا فى المفاضلة، ولم يحجموا عن
ذهب بعض علماء المسلمين الأجلاء إلى عدم عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده
الاختيار، وفضلوا ما أخذوه عن سادتهم، واختاروا ما أشربت قلوبهم، ثم ينسبون نفوسهم بعد ذلك أو ينسبهم الناس إلى الإسلام. ... والحديث واضح صريح، لا يعارض نصاً، ولا يعارض عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده، ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنة فى كل شأن، كما لا يدل على ما يزعمون أن السنة النبوية ليست كلها وحى. ... وإنما الحديث فى قصة تلقيح النخل أن قال لهم: "ما أظن ذلك يغنى شيئاً، فهو لم يأمر ولم ينه، ولم يخبر عن الله، ولم يسن فى ذلك سنة حتى يتوسع فى هذا المعنى إلى ما يهدم به أصل التشريع" (1) أهـ. ... ومن اجتهاد النبى صلى الله عليه وسلم، وقوله: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" ذهب بعض علماء المسلمين الأجلاء إلى عدم عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده؛ حيث ذهبوا إلى تقسيم السنة النبوية إلى قسمين: أ- سنة تشريعية ملزمة ودائمة. ب- وسنة غير تشريعية غير ملزمة ولا دائمة. ... وقصدوا بغير التشريع ثلاثة أنواع: ما سبيله سبيل الحاجة البشرية، كالأكل والشرب والنوم والمشى والتزاور… الخ. ما سبيله سبيل التجاوب والعادة الشخصية أو الاجتماعية، كالذى ورد فى شئون الزراعة والطب، وطول اللباس وقصره. ما سبيله سبيل التدبير الإنسانى كتوزيع الجيوش على المواقع الحربية ونحو ذلك. فهذه الأنواع الثلاثة ليس شرعاً يتعلق به طلب الفعل أو الترك، وإنما هو من الشئون البشرية التى ليس مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم فيها تشريعاً ولا مصدر تشريع (2) .
وبهذا التقسيم قال غير واحد من علماء المسلمين (1) وبالغ بعضهم حتى كاد يخرج قضايا المعاملات، والأحوال المدينة كلها من دائرة السنة التشريعية. حيث كان يرى أن كثيراً من أوامر الرسول ونواهيه فى المعاملات كان أساسها الاجتهاد لا الوحي (2) حتى انتهى به هذا الاتجاه إلى أن حرم برأيه ما أحلته السنة النبوية؛ وما أجمع المسلمون – من جميع المذاهب والمدارس الفقهية – على حله. وذلك هو (بيع السلم) الذى رخص فيه النبى - صلى الله عليه
وسلم - لحاجة الناس إليه، بعد أن وضع له الضوابط اللازمة لمنع الغرر والنزاع ويسميه بعضهم (السلف) أيضاً وبه جاء الحديث، ومضى عليه عمل الأمة أكثر من خمسة عشر قرناً. فعن الصحيحين عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يسلفون فى الثمار السنة والسنتين، فقال: "من أسلف فى تمر، فليسلف فى كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم" (1) بل قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجله قد أحله الله فى كتابه، وأذن فيه، ثم قرأ: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} (2) وكلمة "أشهد" بمثابة القسم، فهذا رأى ترجمان القرآن. ولكن الدكتور عبد المنعم النمر قال عن السلم: "وهو بيع معدوم موصوف فى الذمة، ويسير عليه كثير من الناس فى الأرياف، مستغلين حاجات الزراع استغلالاً سيئاً، مما يجعلنا نميل إلى تحريمه. من أجل هذا الاستغلال الكريه المحرم فى الإسلام" (3) . يقول الدكتور القرضاوى: "وكان أولى بالشيخ هنا أن يقتصر على تحريم الظلم والاستغلال، ولا يتعدى ذلك إلى تحريم التعامل الثابت بالسنة والإجماع" (4) .
الجواب
والجواب: ... أقول كما قال فضيلة الدكتور موسى شاهين: "غفر الله للقائلين بأن السنة تشريع وغير تشريع، وللقائلين بالمصلحة. غفر الله لهم وسامحهم، لقد فتح هؤلاء وهؤلاء باباً لم يخطر لهم على بال. ... القائلون بأن السنة تشريع وغير تشريع؛ قصدوا بغير التشريع ما ورد منها خاصاً بالصناعات، والخبرات كالزراعة والطب، ولم يخطر ببالهم أن من سيأتى بعدهم سيستدل بتقسيمهم ليدخل المعاملات، وأحاديث البيع، والشراء، والإجارة، ويدخل ما قاله النبى صلى الله عليه وسلم من أحاديث فى العادات، وشئون الاقتصاد، والسياسة، والإدارة والحرب، وغير ذلك فى السنة غير التشريعية، وهم من هذا القول برءاء!. ... أما ما جعلوه مما سبيله الحاجة البشرية، كالأكل والشرب والنوم… الخ من السنة غير التشريعية، فهذا الكلام على عمومه مرفوض، وفى حاجة إلى تحقيق فهل بيان المأكول والمشروب المحرم، والمكروه، والمباح، من السنة غير التشريعية؟.
.. هل حديث: "أحلت لكم ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال" (1) ، وحديث:"أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم" (2) سنة غير تشريعية؟ اللهم لا. ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى عصمته، أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، فالمأكول والمشروب سنة تشريعية من حيث الحل والحرمة، أما أنه أكل نوعاً من الحلال، وترك غيره يأكل نوعاً آخر، فالتشريع فيها الإباحة، إباحة ما أكل وما لم يأكل مما له ينه عنه.
.. وأما الأوانى: فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الأكل والشرب فى صحائف الذهب والفضة (1) وهذا تشريع قطعاً. أما أنه صلى الله عليه وسلم أكل فى قصعة من الفخار، ونحن نأكل فى الأوانى الفاخرة غير الذهبية والفضية، فهذا من المباحات والإباحة تشريع (2) . ... وأما الهيئة: فهناك هيئات مأمور بها، وهيئات منهى عنها، وهيئات أخرى كثيرة مباحة، والكل تشريع. ... فقوله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام سم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك" (3) هيئة أكل مشروعة (4) . و"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتنفس فى الإناء" (5) هيئة ممنوعة شرعاً فى نفس الإناء، ومستحبة خارج الإناء (6) .
.. أما أنه صلى الله عليه وسلم أكل بأصابعه ويده؛ ونحن نأكل بالملاعق والشوك، والسكاكين، فهو من المباحات المشروعة. فماذا فى الأكل والشرب من السنة غير التشريعية؟!!. ... إن قصدوا بالسنة غير التشريعية فى ذلك السنة غير الملزمة، وهى المباحات كان الخلاف بيننا لفظياً. وإن قصدوا ما هو مطلوب على وجه الوجوب أو الندب، وما هو منهى عنه على وجه الحرمة أو الكراهة فهو غير مسلم. ... ومثال ذلك يقال فى الأفعال الجبلية التى وقعت منه صلى الله عليه وسلم مما لا يخلو البشر عنه من حركة وسكون، على اختلاف أنواع الحركة المحتاج إليها بحكم العادة من قيام، وقعود، ونوم، وركوب، وسفر، وإقامة، وقيلولة تحت شجرة، أو فى بيت، وتناول مأكول ومشروب معلوم حله. ومن أمثلته: تتبعه صلى الله عليه وسلم الأكل من جوانب الصحفة (1) . وأكله القثاء بالرطب (2) وأنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلو البارد (3)
وكان يحب الحلوى والعسل (1) وسائر ما روى عنه فى هيئة لباسه، وطعامه، وشرابه، ونومه، وكيفية مشيه، وجميع ما نقل عنه من شمائله صلى الله عليه وسلم، مما لم يظهر فيه قصد القربة. ... ومن ذلك ما كرهه عيافة لا شريعة، كتركه أكل الضب (2) بخلاف تركه أكل الثوم والبصل والكراث، فيستحب التنزه عنه ما أمكن (3) . ... ويلتحق بالجبلى: كل فعل فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مما علمت إباحته شرعاً، إباحة مطلقة له ولأمته.
.. كما روى أنه صلى الله عليه وسلم: أكل التمر (1) وشرب العسل (2) واللبن (3) ولبس جبة شامية ضيقة الكمين (4) ودخل مكة وعليه عمامة سوداء (5) . ... فهذا ونحوه لا دليل يدل على أنه يستحب للناس كافة أن يفعلوا مثله، بل إن فعلوا فلا بأس، وإن تركوا فلا بأس، ما لم يكن تركهم رغبة عما فعله صلى الله عليه وسلم واستنكافاً، فمن رغب عن سنته وطريقته فليس منه.
.. والتحقيق: أنه من الخطأ أن نطلق هذا الإطلاق "السنة غير التشريعية" على ما سموه الحاجة البشرية أو الأفعال الجبلية، أو ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم، بوصفه إماماً ورئيساً للدولة المسلمة، أو بوصفه قاضياً فكل هذه الأمور التى أطلقوا عليها، سنة غير تشريعية، منها الواجب شرعاً، ومنها المحرم شرعاً، ومنها المكروه، ومنها المندوب، ومنها المباح، وحتى إذا أردنا كيفية هذه الأمور نجد منها الممنوع شرعاً، كما سبقت الإشارة إليه قريباً. ... أما القائلون بالمصلحة كمصدر من مصادر التشريع فقد اشترطوا لها ألا تصادم نصاً من الكتاب أو السنة الصحيحة، فهم أخذوا بمراعاة المصالح فيما لم يرد فيه قرآن أو حديث صحيح، أما ما ورد فيه قرآن أو حديث صحيح فالمصلحة فيما جاء به النص (1) . ... واعتقد كما قال الدكتور فتحى عبد الكريم. "أن القائلين بالسنة التشريعية، والسنة غير التشريعية قد فاتهم المعنى الدقيق للتشريع الإسلامى، حيث قصر بعضهم وصف التشريع على الواجب، والحرام، ونفاه عن المندوب والمكروه، والمباح، وأدخل بعضهم المندوب والمكروه فى التشريع، ونفاه عن المباح وحده" (2) . ... وفى ذلك يقول العلامة الدكتور عبد الغنى عبد الخالق – رحمه الله: "هذا وإخراج الأمور الطبيعية من السنة أمر عجيب، وأعجب منه: أن يدعى بعضهم ظهوره، مع إجماع الأمة المعتبرين على السكوت عنها، وعدم إخراجها. ولست أدرى: لم أخرجها هؤلاء؟! أأخرجوها: لأنها لا يتعلق بها حكم شرعى؟.
.. وكيف يصح هذا مع أنها من الأفعال الاختيارية المكتسبة، وكل فعل اختيارى من المكلف لابد أن يتعلق به حكم شرعى: من وجوب أو ندب أو إباحة أو كراهة أو حرمة. ... وفعل النبى صلى الله عليه وسلم الطبيعى مثل الفعل الطبيعى من غيره، فالأبد أن يكون قد تعلق به واحد من هذه الأحكام؟ وليس هذا الحكم الكراهة، ولا الحرمة، لعصمته صلى الله عليه وسلم فى أحواله كلها، وليس الحكم الوجوب ولا الندب: لعدم القربة فيه. ... فلم يبق إلا الإباحة وهى حكم شرعى؛ فقد دل الفعل الطبيعى منه صلى الله عليه وسلم على حكم شرعى، وهو الإباحة فى حقه، بل وفى حقنا أيضاً {لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة} (1) . ... ولقد أجمع الأصوليون فى باب أفعاله صلى الله عليه وسلم على أن أفعاله الطبيعية تدل على الإباحة فى حقه صلى الله عليه وسلم، وفى حق أمته، وكل يحكى الاتفاق على ذلك عن الأئمة السابقين (2) . أم أخرجوها: لأنهم ظنوا أن الإباحة ليست حكماً شرعياً؟ وهذا لا يصح أيضاً: فإن الأصوليين مجمعون على شرعيتها – أى الإباحة – اللهم إلا فريقاً من المعتزلة ذهب إلى عدم شرعيتها؛ فهما منهم: أن الإباحة انتفاء الحرج عن الفعل والترك (3) وذلك ثابت قبل ورود الشرع، وهو مستمر بعده، فلا يكون حكماً شرعياً.
.. والجمهور ينكرون أن هذا المعنى ثابت قبل ورود الشرع، وأنه لا يسمى حكماً شرعياً. ولكنهم يقولون: ليس هذا هو معنى الإباحة الشرعية، إنما هى خطاب الشارع بالتخيير بين الفعل والترك من غير بدل. ولا شك أن هذا حكم شرعى؛ وأنه غير ثابت قبل ورود الشرع. ولو التفت هذا الفريق إلى هذا المعنى لم ينازع فيه؛ فليس هناك خلاف حقيقى بينهما. ... فالإباحة حكم شرعى يحتاج إلى دليل؛ والفعل الطبيعى منه صلى الله عليه وسلم يدل عليه. ونظرة واحدة فى باب أفعاله صلى الله عليه وسلم فى أى كتاب من كتب أصول الفقه، ترشدك إلى الحق فى هذا الموضوع (1) . ... ويقول الإمام الشاطبى فى رده على من قال: "ترك المباح طاعة على كل حال". قال: "بل فعل المباح طاعة بإطلاق؛ لأن كل مباح ترك حرام. ألا ترى أنه ترك المحرمات كلها عند فعل المباح، فقد شغل النفس به عن جميعها. وهذا الثانى أولى؛ لأن الكلية هنا تصح، ولا يصح أن يقال كل مباح وسيلة إلى محرم أو منهى عنه بإطلاق، فظهر أن ما اعترض به لا ينهض دليلاً على أن ترك المباح طاعة" (2) . قلت: ويشهد لهذا قول الإمام السرخسى فى أصوله: "ترك العمل بالحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام، كما أن العمل بخلافه حرام" (3) .
ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفعال لم تحصل منه على وجه القرب
.. ومن هنا فكل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفعال لم تحصل منه على وجه القرب، يستحب التأسى به فيها رجاء بركته مثل: أكله، وشربه، ولبسه، ومعاشرته نسائه، وجميع أفعاله المتعلقة بأمور الدنيا، يستحب التأسى به فى جميع ذلك. لأن هذه الأفعال وإن لم تصدر من الرسول صلى الله عليه وسلم قربه – إن صح التعبير – فهى فى نفسها قربة؛ نرجوا بفعلها التقرب إلى الله تعالى لما انطوى عليه فعلنا لها عن محبته التى حملنا عليها بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله، وماله، والناس أجمعين" (1) .
.. قال أبو شامة (1) : "ولهذا اعتنى الرواة بنقل تفاصيل أحواله فى ذلك كله، واقتدى أهل الدين والعلم من السلف، بسلوك طريقته فى ذلك، وترك التكلف فيما ينوبهم من حاجاتهم، حتى أنه لو قيل لأحدهم لا تركب الحمار، ولا تحلب الشاة، ولا تسلخها، ولا ترقع الثوب، ولا تخصف النعل، ولا تهنأ (2) البعير، لقال: كيف لا أفعل ذلك وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، أو جاء عنه أنه فعله!! (3) وقال أيضاً: "إن التأسى به صلى الله عليه وسلم فى فعله المباح هو أدنى الدرجات فى استحباب المتابعة فيها، ولهذا أكثر المصنفين من الأصوليين لا يذكرون التأسى به فيها، وما ذكرناه أولى وأصح، وله سر. وهو: أن أصل الفعل وإن كان الإنسان مضطراً إليه، فمن حيث الحاجة لا يفعله تأسياً بالنبى صلى الله عليه وسلم، بل من حيث إيقاعه على هيئة مخصوصة نقلت عن النبى صلى الله عليه وسلم، أو استعمال شئ مخصوص، مع أنه يمكنه استعمال غيره.
.. والفقهاء أرباب المذاهب يستحبون من هذا النوع أشياء، وهو ما إذا أراد الإنسان أن يفعل شيئاً، ذلك الشئ يقع على هيئات مختلفة وقد نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه أوقعه على بعض تلك الهيئات، فأهل العلم يستحبون أن يوقع على تلك الهيئة، نحو استحبابهم سلوك طريق المأزمين (1) والمبيت بذى طوى (2) ودخول مكة من الثنية العليا، والخروج من الثنية السفلى (3) ونزوله بالمحصب (4) وكهيئة الأصابع فى التشهد (5) .
.. وقالوا: يستحب أن لا ينقص فى الغسل من صاع، ولا فى الوضوء من مد، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم (1) إلى أحكام كثيرة لا تحصى لمن تتبعها. ... فمتابعته صلى الله عليه وسلم فى تلك الأفعال التى يكاد يقطع فيها بخلوها من القربة، كهيئة وضع أصابع اليد اليمنى فى التشهد، يستحب المحافظة عليها والأخذ بها ما أمكن، تدريباً للنفس على الجموح، وتمريناً لها على أخلاق صاحب الشرع، لتعتاد ذلك؛ فلا تخل بعده بشئ مما فيه قربة وإن خفيت. ... فإن النفس مهما سومحت فى اليسير تشوقت إلى المسامحة فيما فوقه. فهذا ونحوه هو الذى يظهر لى أن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما كان يلاحظه ويراقبه، فأخذ نفسه بالمحافظة على جميع آثاره صلى الله عليه وسلم قال نافع (2) : "لو رأيت ابن عمر يتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم لقلت هذا مجنون" (3) .
استحباب التأسى بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبلية
.. قلت: واستحباب التأسى بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبلية هو المختار والراجح عندى. ... ومستند هذا الاختيار علمنا بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لو اختلفوا فى حكم أمر حرام أو مباح، فنقل الناقل فى موضع اختلافهم فعلاً عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهموا منه أنه لا حرج على الأمة فى فعل مثله (1) وجاحد هذا جاهل بمسالك المنقل على المعنى واللفظ (2) .
.. وجميع المذاهب المنقولة فى هذه المسألة من الوجوب (1) والإباحة (2) ضعيفة، وأشدها ضعفاً من ذهب إلى الحظر (3) والوقف (4) . ويؤيد هذا الضعف النص والإجماع. أما النص: فقد سبق ذكر الأدلة القرآنية التى حثت على التأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعه فى فعله على الوجه الذى كان عليه صلى الله عليه وسلم، من أجل الهداية والفلاح فى الدارين (5) .
أما الإجماع: فهو ما علمناه من سيرة الصحابة رضى الله عنهم فى رجوعهم إلى أفعاله صلى الله عليه وسلم وتقربهم وتأسيهم بها، والمحافظة عليها، وإن لم تلح فيها قربة، ولم يكن لهم توقف ولا تردد فى شئ منها. ... فعن سهل بن الربيع بن الحنظلية رضى الله عنه (1) قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم الرجل خريم الأسدى (2) لولا طول جمته (3) وإسبال إزاره (4) فبلغ ذلك خريماً، فعجل فأخذ شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه" (5) . ... فتأمل كيف أسرع خريم فامتثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يقل: وماذا فى طول الشعر؟ ولم يقل: ماذا فى طول الإزار؟ لم يقل: سنة عادة أو سنة عبادة شأن الذين قى قلوبهم مرض، إنما عجل سريعاً فقصر شعره، ورفع إزاره (6) .
.. فبطل بذلك قول الحظر والوقف، وثبت أنهم فهموا؛ أنهم شرع لهم مثل ذلك القول والفعل قربة، فبطل قول الإباحة، وترجح الندب. ويبطل قول الوجوب ما سبق فى حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه من خلع الصحابة رضى الله عنهم نعالهم لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه (1) فكان من كمال تأسيهم برسول الله أنهم فهموا من خلعه نعليه القربة فبادروا إلى متابعته، أو لم يفهموا قربه، واتبعوه على جارى عادتهم فى اتباعه والتأسى به، مع أنهم لم يعلموا أن ذلك صدر منه وجوباً أو ندباً أو إباحة، وهو عين مسألة النزاع مع من يشترط فى شرعية التأسى به صلى الله عليه وسلم معرفة صفة فعله؛ فبطل قول الوقف. ... وأيضاً: لو كان الاقتداء به صلى الله عليه وسلم فى فعله واجباً ما سألهم "ما حملكم إلقائكم نعالكم؟ " لعلمه بأنه يجب عليهم متابعة فعله، فبطل قول الوجوب. ... ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما سألهم لم فعلوا ذلك، ذكروا أن مستند فعلهم متابعته فى فعله، ولم ينكر عليهم الاستدلال به، فدل ذلك كله على ما سبق من ترجيح استحباب متابعته صلى الله عليه وسلم فى فعله.
.. وإنه لدرس لأهل زماننا، ولمن بعدنا أن نتبع هديه صلى الله عليه وسلم كما اتبعوا، وأن نسير على نهجه، كما أمرنا ربنا سبحانه وتعالى فقال: {فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (1) وصور اتباع السلف هديه صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على الاقتداء به كثيرة وكثيرة (2) ودلالاتها متعددة؛ فهم يؤمنون بعصمته فى أحواله كلها، وهم يحبون هديه، ويحرصون على الاقتداء به كل الحرص، لا يفرقون بين الواجب والمندوب، ولا بين الفعل الشرعى والفعل الجبلى، وإنما يفعلون ما فعل، ويتركون ما ترك، يمتثلون أمره، وإن دلت القرائن على أقل من الواجب، ويجتنبون ما نهى عنه، وإن دلت القرائن على أنه دون الحرام. ... إنهم يرون المعصوم صلى الله عليه وسلم رسم خطاً، جاء به من عند الله، فالتزموه حباً وطاعة، ولم يؤولوا، ولم يسوفوا، ولم يهونوا، وإنما امتثلوا على خير وجه، فإنه الدين الذى أمرنا الله به، ورتب السعادة عليه، وأمرنا بالاستقامة التى لا تتفق مع أدنى ميل عنه فقال سبحانه: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعمون بصير} (3) . ... وبعد: هذا المعصوم نبيكم صلى الله عليه وسلم، وخيار أمتكم رضى الله عنهم، فكيف أنتم؟ (4) .
نقض دليل أن السنة المطهرة ليست كلها وحى:
وإذا كان عمدة الأدلة عند من يذهبون إلى أن السنة المطهرة ليست كلها وحى، أو يذهبون إلى تقسيم السنة إلى سنة تشريعية، وسنة غير تشريعية، إذا كان عمدة أدلتهم جميعاً، اجتهاده صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" فلنحرر القول فى المراد من قوله: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" بعد أن سبق تحرير القول فى اجتهاده صلى الله عليه وسلم وعصمته فيه. فإلى نقض دليلهم فى أن السنة المطهرة ليست كلها وحى. نقض دليل أن السنة المطهرة ليست كلها وحى: ... الدليل الأساسى الذى يستند إليه القائلون بأن السنة النبوية ليست كلها وحى؛ وبالتالى يقسمونها إلى سنة تشريعية، وغير تشريعية، هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوارد فى قصة تأبير النخل بمختلف رواياته ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" ففى رأى أنصار تقسيم السنة إلى سنة تشريعية وغير تشريعية أنه "لو لم يكن غير هذا الحديث الشريف فى تبيين أن سنته صلى الله عليه وسلم ليست كلها شرعاً لازماً، وقانوناً دائماً لكفى. ففى نص عبارة الحديث - بمختلف رواياته - تبين أن ما يلزم اتباعه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو ما كان مستنداً إلى الوحي فحسب" (1) . ... وبالتأمل فى قول بعضهم السابق ترى التصريح بأنهم يعتبرون أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم ليس من الوحي!. ... ولقد صرح بعضهم على ما سبق أن أفعاله الجبلية، وما سبيله الحاجة البشرية من الأكل والشرب والنوم والمشى… الخ وما صدر عنه فى المعاملات وشئون الاقتصاد والسياسة، والقضاء والإدارة والحرب… الخ من شئون الدنيا التى لا حى فيها (2) .
.. فهل يسندهم ذلك الحديث فى تلك الدعوى الخطيرة؟! أقول: الحديث لا يسندهم فى دعواهم ولا حجة لهم فيه؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: لما مر على قوم يلقحون النخل "ما أظن يغنى ذلك شيئاً" واضح منه أنه كان اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم، ولم يرد بذلك صرفهم عما هم فيه؛ بدليل أنهم لما تركوا التأبير، ووصل الخبر إليه صلى الله عليه وسلم بين لهم أنه ظن – أى اجتهد – وأنه ما يصح أن يصرفهم الظن – أى الاجتهاد – عن أمر يرونه صواباً. وتأمل قوله: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنى إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذونى بالظن" فهم غلطوا فى ظنهم أنه نهاهم بوحى، كما غلط من غلط فى ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود (1) . ... ثم بين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه إذا حدثهم بوحى عن الله تعالى فإنه لن يخطأ فى هذا الوحي.
هل هذا الاجتهاد فى قصة تأبير النخل معصوم فيه بوحى؟
.. وتأمل قوله: "إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله تعالى" فالكذب هنا بمعنى "الخطأ" (1) أى: فلن أخطأ فيما أبلغ من وحى الله تعالى؛ ولا يصح أن يكون المراد حقيقة الكذب، لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم منه، حتى ولو حدث عن غير الله تعالى! إذن فمراده صلى الله عليه وسلم، أنه اجتهد، وفى اجتهاده أخطأ؛ بدليل ما جاء فى رواية رافع بن خديج من قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأى فإنما أنا بشر". ... ولكن: هل هذا الاجتهاد فى قصة تأبير النخل معصوم فيه بوحى؟.
أقول: نعم بدليل قوله بعد ذلك: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه" وقوله: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" حيث صار هذا القول منه اجتهاد بعد اجتهاد (1) وأقره الوحي على اجتهاده الثانى (2) حيث لم يرد تنبيه أو تصويب ولا حتى عتاب، على هذا الاجتهاد فى القرآن الكريم ولا فى السنة المطهرة، وهو ما يعنى أن رب العزة أقره فى اجتهاده الثانى. أعنى: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه" وقوله: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" وبهذا الإقرار صار اجتهاده هنا فى هذه المسألة وحى من الله تعالى، ولا يجوز مخالفته؛ وهو ما يقر به هنا الخصم حيث استدل بهذا الاجتهاد الثانى على ما يزعم، مع اختلافنا معه فى دلالة الحديث على ما يستدل به. ... فالخصم يستدل بقوله صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بأمر دنياكم" على أن ما جاءت به السنة من شئون الدنيا يجوز مخالفته، حيث كل أمة فى زمانها أعلم بهذه الشئون من السنة؟. ... كما استدلوا بقوله السابق، على أن ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم بوصفه قاضياً، أو إماماً ورئيساً للدولة، سنة غير تشريعية ليست من الوحي؟ فهل هذه المعانى واردة ومرادة فيما استدلوا به؟. ... بالقطع لا. فهذه المعانى ونحوها مستبعدة ولا تصح؛ لأن ما أطلقوا عليه سنة غير تشريعية منه الواجب والمحرم والمكروه والمندوب والمباح شرعاً على ما سبق تفصيله (3) .
.. كما أن ما أطلقوا عليه سنة غير تشريعية وضع له الإسلام قرآنا وسنة، أرقى أنواع التشريع، لأن ما يصدر عن القاضى والحاكم ونحو ذلك مما يطلقون عليه سنة غير تشريعية، له علاقة بالأفراد والجماعات وهذه العلاقة تحكمها دائماً قواعد وضوابط لئلا يحيف بعض الأطراف على بعض؛ فهل يعقل أن الله عز وجل يترك المعاملات من بيع وشراء، وتفصيل الربا، والرهن، والشركة، وغيرها من المعاملات دون تشريع؟. ... وهل يعقل أن يترك القاضى ورئيس الدولة ونحوهم دون تشريع ينظم علاقة كل منهما بمن تحت سلطانهم وحكمهم؟!. وبالجملة: هل يعقل أن يترك البشرية هملاً فى شئون دنياهم يأكل بعضهم مال بعض، ويظلم بعضهم بعضاً تحت عنوان: "أنتم أعلم بشئون دنياكم"؟. ... هل يعقل أن يترك الله تعالى رسالة الإسلام (قرآناً وسنة) بما فيها من عقيدة وشريعة، ودين ودنيا، لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون رقابة أو تصحيح؟ فيخطئ، فتعمل الأمة مجتمعة بالخطأ أكثر من خمسة عشر قرناً حتى يبعث الله لها من يرعى مصالحها، أو يزعم أنه أعلم بمصالحها، ويخالف حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من تشريعات فى شئون الدنيا؟ أظن أن العقل المسلم السليم يستبعد ذلك كل الاستبعاد. ... ومن هنا فلا يصح أن يكون المعنى فى قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" أن كل فرد أو أمة أعلم من غيرها بشئون ومصالح نفسها فى الأمور الدنيوية؛ لأن هذا المعنى وإن صح فى المباحات، فلا يصح فى الواجبات والمحرمات، فالشرع وحده هو الذى حددها على أنها مصلحة بناء على سبق علمه الذى خلق.
.. ثم إن هذا المعنى لا يتناسب مع القصة؛ فكما قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهد فى عدم تأبير النخل، وخالف اجتهاده الصواب، فجاء التصحيح لما اجتهد فيه بقوله: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" والمراد: أنتم أيها الذين تلقحون النخل ومن على شاكلتكم من أهل الصناعات والمهارات والخبرات أعلم بصنائعكم منى. وممن ليس من أهل الصناعات، والكلام على التوزيع، على معنى: أن كل أهل صنعة أعلم بها ممن ليسوا من أهلها، كما يقال: أهل مكة أدرى بشعابها. ... ويصح أن يكون المعنى أيضاً: أنتم أيها الذين تلقحون النخل أعلم بما يصلح النخل منى وممن لا علم له بالزراعة، أى أنتم أعلم بشئون دنياكم هذه التى تباشرونها، والتى لم تنجح فيها مشاورتى الاجتهادية، أعلم منى ومن مثلى، فالحديث على هذا واقعة عين أو واقعة حال، لا يستدل بها على غيرها أصلاً. ... وعلى كل حال لا يصح الاستدلال بالحديث على إباحة التغيير فى المعاملات (1) أو غيرها من شئون الدنيا التى أطلقوا عليها سنة غير تشريعية. لأن الحديث – كما رأيت – تطرق إليه أكثر من احتمال فى معناه، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. ... بقى سؤال يطرح نفسه، وربما يثور فى نفوس البعض وهو: لماذا ألهم الله رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يشير عليهم بهذه الإشارة مع أنها لم تكن فى مصلحتهم؟. ... ولماذا جعلهم الله يستسلمون لمجرد الإشارة، وهم المعرفون بالمراجعة والنقاش وكثرة السؤال؟.
.. ولماذا لم يتدارك الله هذا الاجتهاد بالتصحيح قبل أن تنتج شيصاً للمسلمين يسخر منه اليهود، وأعداء الإسلام حين يصح نخلهم، ويسوء نخل المسلمين بسبب مشورة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟. ... الجواب: عن ذلك فى محاولة تلمس حكمة لهذه القصة، فإن حصلت بها قناعة واطمئنان فالحمد لله، وإلا فنحن مؤمنون أرسخ الإيمان بأن لله عز وجل فى ذلك حكمة، وهو الحكيم الخبير. ولعل الحكمة فى ذلك تدور حول ثلاث أمور: أولاً: صرف بلاء الأعداء عن المؤمنين الذين لم تقو شوكتهم بعد: ألم يكن هذا من الجائز أن يطمع الكافرون فى المدينة وتمرها، فيهاجموها من أجل نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؟ فخروج التمر شيصاً جعلها غير مطمع، وصرف الله بذلك هجوم الكافرين حتى يستعد المؤمنون؟ احتمال. ثانياً: تعليمهم الأخذ بأسباب الحياة بهذا الدرس العملى الذى كان قاسياً عليهم فتنافسوا بعده فى أسباب الحياة. ثالثاً: اختبارهم فى صدق إيمانهم، فهذه القصة حتى اليوم فى هذا البحث ابتلاء واختبار، وقد نجح الصحابة رضى الله عنهم فى هذا الاختبار القاسى، وهم فى أول الإيمان، نجاحاً باهراً، فقد استمروا فى طاعة أوامره صلى الله عليه وسلم، ولم يرد إلينا ردة أحد بسببها، بل لم يرد عتاب أحد منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليها رغم خسارتها، مما يشهد لهم بالإيمان الصادق المتين (1) ولعل تلك الحكمة الأخيرة هى أوجه الحكم فى هذه القصة. والله أعلم بحكمته أهـ. وصلى الله وسلم وبارك على المعصوم الهادى الأمين، ورزقنى الله حبه، ونصرته
واتباعه، وشفاعته
الباب الرابع: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلوكه وهديه ودفع الشبهات
الباب الرابع: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلوكه وهديه ودفع الشبهات ... ويشتمل على تمهيد وسبعة فصول: تمهيد: الفصل الأول: شبهة اختلاف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتب السنة والتاريخ عنها فى القرآن الكريم والرد عليها. الفصل الثانى: شبهة الطاعنين فى حديث "خلوة النبى صلى الله عليه وسلم بامرأة من الأنصار" والرد عليها. الفصل الثالث: شبهة الطاعنين فى حديثى"نوم النبى صلى الله عليه وسلم عند أم سليم وأم حرام" والرد عليها. الفصل الرابع: شبهة الطاعنين فى حديث "طوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه فى ساعة واحدة" والرد عليها. الفصل الخامس: شبهة الطاعنين فى حديث "مباشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نسائه فى المحيض" والرد عليها. الفصل السادس: شبهة الطاعنين فى حديث "دعوته صلى الله عليه وسلم لعائشة رضى الله عنه استماع الغناء والضرب بالدف" والرد عليها. الفصل السابع: شبهة الطاعنين فى حديث "اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة" والرد عليها. تمهيد: ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتصر مهمته على مجرد بلاغ الوحي قرآناً وسنة، وإنما فوق ذلك نموذج حى ومتحرك، يطبق عليه الشرع الذى جاء به بأوفى ما يكون من التطبيق، حتى يظهر هذا الشرع أمام أمته وقومه فى أجلى صورة عملية. ... وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذا التطبيق معصوماً فى أحواله كلها، وشهد له بتلك العصمة القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، على ما سبق تفصيله فى أكثر من موضع فى البحث (1) .
.. كما دل على عصمته صلى الله عليه وسلم فى سلوكه وهديه؛ اتفاق السلف وإجماعهم، وذلك أن نعلم من دين الصحابة رضى الله عنهم وعادتهم، مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله، والثقة بجميع أخباره صلى الله عليه وسلم فى أى باب كانت، وعن أى شئ وقعت، ولم يكن لهم توقف ولا تردد فى شئ منها، ولا استثبات عن حاله عند ذلك هل وقع فيها سهواً أو عمداً، أو رضا أو سخطاً، أو جداً أو مزحاً، أو صحة أو مرضاً أو … الخ. ... وقد سبق ذكر الأمثلة على مسارعة السلف الصالح رضى الله عنهم إلى التأسى به صلى الله عليه وسلم، والتبرك بآثاره فى جميع أفعاله المتعلقة بأمور الدنيا، وأحوال نفسه الشريفة (1) . ... إلا أن أعداء السنة المطهرة، يحرصون فى عصرنا على تناول الأحاديث الصحيحة التى تتناول سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتب السنة؛ وخاصة صحيحى البخارى ومسلم بالنقد والتجريح، المزور الباطل، وذلك كى يصلوا فى النهاية إلى التشكيك فى السنة والسيرة العطرة الواردة فيها، وصرف المسلمين عنها؛ بزعمهم أن كتب السنة ورواتها شوهوا سيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم. ... إن هؤلاء النابتة من أعداء ديننا وأمتنا، اتخذوا من تحكيم عقولهم الزائغة القاصرة، المقياس الأول والأخير فى نقدهم للأحاديث والحكم عليها، ويتخذون من ذلك ذريعة إلى إنكار الأحاديث التى تتناول سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتخطئة علماء السنة، وتخطئة الجمهرة من المسلمين الذين اهتدوا بهديهم وعلمهم، وساروا على دربهم، يدفعهم إلى ذلك عمى البصيرة، وحقد دفين على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يهدفون إلى أن يبتعد الناس عن نور النبوة المباركة وهديها المستقيم، وهم يطوون حقدهم وأهدافهم وراء تناول بعض الأحاديث التى تحتاج إلى فهم خاص، يتلاءم مع مبادئ الإسلام، والفهم الصحيح لتعاليمه وقيمه.
الفصل الأول: شبهة اختلاف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتب السنة
.. وسوف أذكر نماذج من تلك الأحاديث الصحيحة التى تتناول سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والتى طعنوا فيها بحجة أنها تطعن فى عصمته صلى الله عليه وسلم فى سلوكه وهديه. ... ولكن قبل ذكر تلك النماذج والجواب عنها؛ أرى الرد على زعمهم أن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتب السنة والتاريخ تختلف عنها فى القرآن الكريم، لما فى ذلك من صلة بالأحاديث التى تعمدوا الطعن فيها، وطبيعة نقدهم لها. فإلى بيان ذلك فى الفصل التالى الفصل الأول: شبهة اختلاف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتب السنة والتاريخ عنها فى القرآن الكريم والرد عليها ... حرص أعداء السنة المطهرة، وهم يطعنون فى صحيح الإمام البخارى، بل وفى سائر كتب السنة المطهرة، إيهام الناس أجمعين بأن سيرة النبى صلى الله عليه وسلم، وشخصيته كما رسمها القرآن الكريم، تختلف عن شخصيته وسيرته كما رسمها الإمام البخارى، وغيره من أصحاب كتب السنة المطهرة. ... والنتيجة كما يزعمون الإساءة المتعمدة، وتشويه سيرة النبى صلى الله عليه وسلم وشخصيته العطرة من الإمام البخارى، وسائر أئمة السنة (وعصمهم الله من ذلك) وهم قد لبسوا لهذه النتيجة لباس العلماء، لإيهام من يقرأ لهم أنهم على صواب، فساروا إلى أحاديث السيرة الشريفة فى الصحيحين، وعمدوا إلى بترها تارة، وإلى إعادة صيغتها بأسلوبهم، وتحميل ألفاظها مالا تحتمل من المعانى تارة ثانية، وعمدوا إلى الأمرين معاً تارة ثالثة، ووضعوا صياغتهم الخبيثة عناوين لأحاديث السيرة الصحيحة التى طعنوا فيها.
فتجد أحمد صبحى منصور فى كتابه "لماذا القرآن" (1) يخصص الفصل الثالث منه للطعن فى السيرة النبوية الواردة فى السنة المطهرة، ويبدو ذلك واضحاً فى العناوين التى وضعها؛ والتى منها ما يلى: "سيرة النبى عليه السلام بين حقائق القرآن وروايات البخارى"، "البخارى ينسب للنبى الأكاذيب والمتناقضات"، "القرآن يحرص على حرمة بيت النبى التى هتكتها كتب الأحاديث"، "هل كان النبى يباشر نساءه فى المحيض"، "هل كان لدى النبى متسع ليكون كما وصفته تلك الأحاديث" (2) . وفى كتابه "قراءة فى صحيح البخارى" يعنون للفصل الثانى منه بعنوان: "النبى والنساء من خلال أحاديث البخارى" وذكر تحته عناوين منها: "فى البخارى النبى يدور على نساء الآخرين ويخلو بهن"، "فى البخارى هوس النبى بالجماع". ويعنون للفصل الثالث: "البخارى يهدم شخصية النبى رسولاً وحاكما"، ويعنون للفصل الرابع: "منهج البخارى فى تصويره شخصية النبى" (3) . ويبين أحمد صبحى هدفه من كل ما سبق فى كتابيه: "لماذا القرآن" و"قراءة فى صحيح البخارى" قائلاً: "ومن واقع نظرتنا للبخارى كأحد علماء التراث؛ فإننا لا نقصد مطلقاً أن نعقد مقارنة بينه وبين القرآن الكريم – نعوذ بالله من ذلك – وإنما نقصد من هذا المبحث رصد تلك الفجوة الهائلة بين سيرة النبى فى القرآن، وبين سيرته المتناثرة بين سطور البخارى" (4) .
وتجد نيازى عز الدين يعقد فى كتابه "دين السلطان" فصولاً يطعن فيها هو الآخر فى السيرة النبوية الواردة فى السنة المطهرة، ويعنون لبعض فصوله هكذا. الفصل السادس: أسلوب الإساءة المتعمدة لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم. الفصل السابع: الأحاديث التى تناقض أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم. الفصل الثامن: لماذا شوهوا صورة الرسول الكريم من خلال الأحاديث.. الخ. ... ويبين هدفه مما سبق من عناوين فصوله، وما ذكره تحتها من أحاديث طعن فيها قائلاً: "ما هى الصورة التى صورها جنود السلطان عن الرسول صلى الله عليه وسلم وزوجاته؛ ليس فى كل الحديث، ولكن فقط فى صحيح البخارى ومسلم؟. ... فما هى الصورة من خلال ما اختاره الشيخان للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى تكون بالتالى صورة لدى كل المسلمين عن رسولهم وآله أجمعين؟ لقد استغل الرواة والمحدثين وأغلبهم من الحاقدين والموتورين، استخدام الأحاديث بشكل يكون ظاهرها تعليمياً، وباطنها الدس والإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم ونسائه أمهات المؤمنين أجمعين" (1) . وتجد صالح الوردانى، يخصص أحد مؤلفاته ليدافع بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد من ظلموه فى نظره من الفقهاء والمحدثين؛ ويزعم أن الروايات التى تتحدث عن سيرته "تمثل أكبر إهانة لشخص الرسول، وأن موقف أهل السنة منها لهو إهانة أكبر وهو إن دل على شئ، فإنما يدل على أن القوم ألغوا عقولهم، وطمسوا بصيرتهم حتى أنهم لم يعوا مدلول قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} (2) وأن هذا الخلق العظيم الذى وصفه به سبحانه ليتنافى مع ما هو أقل مما يلصقونه به عن طريق هذه الروايات" (3) .
وتجد هشام آل قطيط (1) يقول فى كتابه: "حوار ومناقشة كتاب عائشة أم المؤمنين" تحت عنوان "النبوة فى الصحيحين البخارى ومسلم" "أقول إنه من المؤسف حقاً أن نجد نفس الخرافات، والافتراءات النابية التى عجت بها التوراة والإنجيل بحق الأنبياء فى الصحيحين والأنكى من ذلك والأدهى والأمر، أن الصحيحين لم يكتفيا بلطخات العار السوداء هذه بحق الأنبياء، حتى ارتكبا ما هو أفظع وأمر، بالافتراء على النبى صلى الله عليه وسلم، تلك الافتراءات المشينة، والتى نربأ نحن بأنفسنا عن ذكرها، فكيف بفعله؟ وتشويه صورته المقدسة بما لا ينسجم مع أى حال، وما رسمه القرآن الكريم لها" (2) . ولم يكتف أعداء الإسلام من خصوم السنة والسيرة بما سبق، بل زعموا: "أن الربط بين كتاب الله عز وجل، والسنة النبوية، فى تحديد شخصية وسيرة النبى صلى الله عليه وسلم، صورة من صور تأليه الرسول، ومن يعتقد بها فقد وقع فى عبادة الرجال" (3) . يقول أحمد صبحى منصور: "والمؤكد أن الذى سيصمم على الانتصار للبخارى والتعصب له بعد قراءة هذا الكتاب، إنما هو فى الحقيقة عابد له لا يشرك فى عبادته أحد" (4) .
ويجاب عن ما سبق بما يلى:
ويجاب عن ما سبق بما يلى: أولاً: إذا كان أعداء الإسلام من خصوم السنة المطهرة، يتظاهرون هنا كذباً بأنهم يدافعون عن سيرة النبى صلى الله عليه وسلم الواردة فى السنة النبوية فقد سبق أن وجدت بعضهم يطعن صراحة فى سيرته صلى الله عليه وسلم مستشهداً بالقرآن الكريم، وزاعماً كذباً أنه صلى الله عليه وسلم غير معصوم، ويجوز عليه الشرك الأكبر، وأنه كان فى ضلال وغفلة قبل الرسالة، إلى غير ذلك من افتراءاتهم التى سبق الجواب عنها فى موضعها. ثانياً: من المقرر عند علماء المسلمين كافة أنه ليس لأحد أن يرسم من خياله صورة لنبى مرسل، ولا أن يحدد شخصيته ودوره، وسيرته فى أمته، سواء كان هذا النبى هو النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الأنبياء. ... فالأنبياء جميعاً – عليهم الصلاة والسلام – قد اصطنعهم الله عز وجل لنفسه، وهو قد صنعهم على عينه، كما قال عز وجل فى حق سيدنا موسى عليه السلام {وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عينى} (1) وقال سبحانه: {واصطنعتك لنفسى} (2) . ... وإثبات اصطناع الله عز وجل لواحد من الأنبياء، هو إثبات لاصطناع سائر الأنبياء، لأن حقوقهم واحدة من هذه الناحية لا تختلف أبداً، فما يجب فى حق واحد منهم يجب كذلك فى حق الجميع، وما يستحيل فى حق واحد منهم يستحيل كذلك فى حق الجميع. ... وعليه فالله عز وجل وحده الذى يستطيع أن يرسم لنا صورة لمن اصطنعه لنفسه، وصنعه على عينه، ويحدد لنا شخصيته ودوره، وسيرته.. الخ هذا كله لله عز وجل وحده، وليس لأحد أن يتدخل فى شئ منه.
ثالثاً: بناء على ما سبق فقد اعتبر العلماء أن سيرة النبى صلى الله عليه وسلم وشخصيته العطرة حددها رب العزة فى كتابه العزيز. واستدلوا على ذلك بما أخرجه الإمام مسلم وغيره من طريق سعد بن هشام بن عامر (1) أنه سأل عائشة رضى الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "يا أم المؤمنين أنبئينى عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: قلت: بلى، قالت: فإن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان القرآن، قال: فهممت أن أقوم ولا أسأل أحداً عن شئ حتى أموت" (2) .
.. وفى رواية عنها قالت: "كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن. ثم قالت أتقرءون سورة "المؤمنون"؟ قال: قلنا نعم، فقالت: اقرأ، قال: فقرأت: {قد أفلح المؤمنون. الذين هم فى صلاتهم خاشعون. والذين هم عن اللغو معرضون. والذين هم للزكاة فاعلون. والذين هم لفروجهم حافظون} (1) فقالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) وفى رواية ثالثة قالت: "كان خلقه القرآن يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه" (3) . ... وهذا الجواب الوجيز الجامع من أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها: "فإن خلق نبى الله القرآن" أجمع وصف يعرف به شخصيته صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة. ... فقد أفادت عائشة رضى الله عنها السائل أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل القرآن فى أقواله وأفعاله، وأوامره، ونواهيه "وأن كلامه كان مطابقاً للقرآن تفصيلاً وتبياناً، وعلومه علوم القرآن، وإرادته وأعماله: ما أوجبه وندب إليه القرآن، وإعراضه وتركه: لما منع منه القرآن، ورغبته: فيما رغب فيه القرآن، وزهده: فيما زهد فيه، وكراهيته لما كرهه، ومحبته لما أحبه، وسعيه فى تنفيذ أوامره. ... فترجمت أم المؤمنين رضى الله عنها لكمال معرفتها بالقرآن، وبالرسول صلى الله عليه وسلم، عن هذا كله بقولها: كان خلقه القرآن، وقد حسن تعبيرها وجمع من المعانى مالا يجمعه كثير الكلام.
.. وفهم السائل عنها هذا المعنى فاكتفى به واشتفى" (1) فهم أن يقوم ولا يسألها عن شئ كما جاء فى الحديث، وتأهب لأن يرجع إلى القرآن فيبحث عن مكنونات جواهره الأخلاقية، ويستدل بها على أخلاق النبى صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أوفى من يطبق آياته. ... ولا ريب أنه إن فعل ذلك فإنه سيجد بغيته كاملة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان متمسكاً بآداب القرآن وأوامره، ونواهيه، وجميع ما قصه الله تعالى! فى كتابه من مكارم الأخلاق عن نبى أو ولى، أو حث عليه أو ندب إليه، كان صلى الله عليه وسلم متخلقاً به. ... وكل ما نهى عنه ونزه عباده عنه، كان صلى الله عليه وسلم لا يحوم حوله، لأنه كان يبين القرآن بأقواله وأفعاله وأحواله، وتلك هى مهمته التى كلفه الله تعالى بها بمثل قوله عز وجل: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} (2) . ... ولأن الإحاطة بكل أخلاقه صلى الله عليه وسلم، والتعرض لحصر جزئياتها تعرض لما ليس من مقدور الإنسان، وأمر يطول، أرادت السيدة عائشة رضى الله عنها أن تقرب للسائل إدراك ما لابد من إدراكه من تلك الجزئيات الأخلاقية فأوقفته على مثال واحد، وهو ما تضمنته مقدمة سورة المؤمنون" ليذهب فيستضئ بذلك المثال، لاستنباط أخلاقه صلى الله عليه وسلم من القرآن على ذلك الغرار.
أو دلته على منهج يتبعه فى الوقوف على جزئيات أخلاقه صلى الله عليه وسلم من خلال القرآن، كما فى رواية: "كان خلقه القرآن يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه" (1) فدلته على المواطن التى فيها رضا لله تعالى من صنوف الطاعات والقربات، فيعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قد كان متخلقاً بها، ويرضيه انتهاجها من نفسه، ومن أمته، وعلى المواطن التى فيها إغضاب لله تعالى من صنوف الإشراك والمعاصى، فيعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان فى غاية البعد عنها، وأنه يغضب لاقترافها، والعمل بها من أحد من البشر، وإذا غضب لله فلا يقوم لغضبه أحد كما لا يخفى. ... إذن كلمة أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها: "فإن خلق نبى الله كان القرآن" تعنى: أنه صلى الله عليه وسلم هو والقرآن كيان واحد، يتمثل فى شخصه الكريم، كل ما فى القرآن الكريم من أخلاق، وآداب، وفضائل، ومكارم، يترجمه صلى الله عليه وسلم فى كل كلامه وأفعاله بما فيها حركاته وسكناته، حتى استحق من ربه عز وجل الثناء العظيم فى قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} (2) . ... وأستطيع أن أقول بدون تردد: إن القرآن الكريم هو شريعة الإسلام قولاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو شريعة الإسلام عملاً فحياته صلى الله عليه وسلم كلها، وما صدر عنه فيها من أقوال، وأفعال وتقديرات حتى الحركات والسكنات، هى تفصيل وبيان وترجمة حية لما اشتمل عليه القرآن الكريم من عقائد، أو عبادات، أو معاملات أو أخلاق، أو حدود، أو أحوال شخصية… الخ.
.. وإذن فلم تكن هذه المفتريات التى زعمها أعداء الإسلام من خصوم السنة على سيرة النبى صلى الله عليه وسلم الواردة فى صحيح السنة النبوية، لم يكن مقصوداً بها الرسول لذاته، وإنما كانت غايتها تدمير الشريعة وصاحب الشريعة جميعاً، ثم يتأتى من وراء ذلك تدمير المجتمع الإسلامى كله!. ... والنتيجة من كل ما سبق: أن القرآن الكريم خير مصدر لمعرفة شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرته الشريفة، معرفة واضحة دقيقة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. ... فالقرآن الكريم هو الباعث لتشخيص شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته منذ البعثة وما بعدها، وهو أيضاً المسيطر على دفع أو كبح أو تعديل حركة السيرة، والإشراف المتحكم بمفاهيم وقائعها (1) . رابعاً: إذا كان القرآن الكريم هو الباعث لتشخيص شخصية السيرة النبوية، وكانت تلك السيرة العطرة هى الترجمة الحية لذلك الكتاب العزيز عرفت هنا فقط: أن كتاب السيرة النبوية وعلماءها، لم تكن وظيفتهم بصدد أحداث السيرة، إلا تثبيت ما هو ثابت منها، بمقياس علمى، يتمثل فى قواعد مصطلح الحديث المتعلقة بكل من السند والمتن، وفى قواعد علم الجرح والتعديل المتعلقة بالرواة وتراجمهم وأحوالهم. ... فإن انتهت بهم هذه القواعد العلمية الدقيقة إلى أخبار ووقائع، وقفوا عندها ودونوها، دون أن يقحموا تصوراتهم الفكرية أو انطباعتهم النفسية، أو مألوفاتهم البيئية إلى شئ من تلك الوقائع بأى تلاعب أو تحوير. ... لقد كانوا يرون أن الحادثة التاريخية التى يتم الوصول إلى معرفتها، بالقواعد العلمية التى تتسم بمنتهى الدقة، حقيقة مقدسة، يجب أن تجلى أمام الأبصار والبصائر كما هى.
.. كما كانوا يرون أن من الخيانة العلمية والدينية التى لا تغتفر أن ينصب من التحليلات الشخصية؛ والرغبات النفسية، التى هى فى الغالب من انعكاسات البيئة، ومن ثمار العصبية، حاكم مسلط يستبعد منها ما يشاء، ويحور فيها كما يريد. ... ضمن هذه الوقاية من القواعد العلمية، وعلى ذلك الأساس من النظرة الموضوعية للتاريخ، وصلت إلينا سيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم بدءاً من نسبه، وولادته، إلى طفولته، فصبوته اليافعة، إلى الإرهاصات الخارقة التى صاحبت مراحل طفولته، وشبابه، إلى بعثته، وظاهرة الوحي التى تجلت فى حياته، إلى أخلاقه، وصدقه، وأمانته، إلى الخوارق والمعجزات التى أجراها الله تعالى على يده، إلى مراحل الدعوة التى سار فيها لتلبية أمر ربه، من سلم، فدفاع، فجهاد مطلق حيثما طاف بالدعوة إلى الله تعالى أى تهديد، إلى الأحكام والمبادئ الشرعية التى أوحى بها إليه، قرآناً معجزاً يتلى، وأحاديث نبوية تشرح وتبين. ... لقد كان العمل التاريخى إذن بالنسبة إلى هذه السلسلة من سيرته صلى الله عليه وسلم ينحصر فى نقلها إلينا محفوظة مكلوءة، ضمن تلك الوقاية العلمية التى من شأنها ضبط الرواية من حيث الإسناد واتصاله، ومن حيث الرجال وتراجمهم، ومن حيث المتن أو الحادثة، وما قد يطوف بها من شذوذ، وعلة. ... أما عملية استنباط النتائج والأحكام، والمبادئ، والمعانى، من هذه الأخبار (بعد القبول التام لها) فعمل علمى آخر يميز بعلم الحديث رواية، وهو عمل علمى متميز، ومستقل بذاته، ينهض بدوره على منهج وقواعد أخرى، من شأنها أن تضبط عملية استنباط النتائج والأحكام من تلك الأحداث، ضمن قالب علمى يقصيها عن سلطان الوهم، وشهوة الإرادة النفسية، والتى عبر عنها أعداء الإسلام من خصوم السيرة العطرة الواردة فى السنة المطهرة بصياغاتهم الخبيثة التى سبق ذكر بعضها فى أول هذا الفصل.
.. وهذا بخلاف أئمة الإسلام من الفقهاء والمحدثين فقد استنبطوا من أحداث السيرة النبوية طبقاً لقواعد علم الحديث رواية، أحكاماً كثيرة، منها ما يتعلق بالاعتقاد واليقين، ومنها ما يتعلق بالتشريع والسلوك (1) . ... إذن ليس للإمام البخارى، وغيره من أئمة السنة الشريفة، من أصحاب المصنفات الحديثية، والتاريخية، أن يرسموا شخصية النبى صلى الله عليه وسلم، ولا سيرته العطرة، لأن دورهم كما سبق، هو تسجيل تلك التراجم الحية التى اشتمل عليها القرآن الكريم، من عقائد، وعبادات، ومعاملات، وأخلاق، وحدود، وغزوات، وأحوال شخصية… الخ. خامساً: التأكد من صحة نقل السيرة النبوية الواردة فى السنة المطهرة، سهل ميسور من خلال دراسة السند والمتن، وهذا ما قام به أئمة أعلام من سلفنا الصالح، وأسفرت نتيجة جهودهم، إلى صحة أصول السيرة النبوية التى اشتملت عليها صحاح كتب السنة، وعلى رأسها الصحيحين للبخارى ومسلم، وهذان المصدران (القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة) أهم مصادر السيرة وأوثقها، وإليهما نرجع للاستيثاق مما يوجد فى المصادر الأخرى من كتب السيرة والتاريخ، والتى تتنوع بحسب موضوعاتها إلى كتب الشمائل، وكتب دلائل النبوة، وكتب المغازى، وكتب السيرة بوجه عام (2) . سادساً: إذا كان القرآن الكريم أوثق كتاب على وجه الأرض، وكان من الثبوت المتواتر بما لا يفكر إنسان عاقل فى التشكيك بنصوصه وثبوتها التاريخى. ... وإذا كانت السنة الشريفة نقلت لنا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسند الصحيح المتصل مما يجب أن نقبله كحقيقة تاريخية لا يخالجنا الشك فيها. ... فإنك تجد نفسك فى النهاية أمام أصح سيرة وأقواها ثبوتاً متواتراً هى سيرة المعصوم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
.. واتباع تلك السيرة المطهرة، والاهتداء بها، واعتمادها فى معرفة شخصية النبى صلى الله عليه وسلم. ليس فى ذلك عبادة للرجال الذين دونوها، كما يزعم أعداء الإسلام من خصوم السنة لأن الرجال الذين دونوها من الأئمة الأعلام، دورهم كما سبق هو تسجيل ذلك البيان النبوى للقرآن الكريم قولاً وعملاً، وتلك حقيقة علمية تاريخية لا ينكرها إلا جاحد!. ... فأين عبادة الرجال التى يزعمها عبدة أهواءهم وشياطينهم؟! قال تعالى: {افرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} (1) ، وقال سبحانه: {وكذلك جعلنا لكل نبى عدواً شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} (2) . سابعاً: ليس فى الربط بين القرآن الكريم، والسنة النبوية فى تحديد شخصية وسيرة النبى صلى الله عليه وسلم، شرك وتأليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يزعم أعداء السنة المطهرة (3) ، لأن الربط هنا ربط إلهى، وطاعة لله عز وجل.
.. فرب العزة هو الآمر لعباده بوجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم، وتصديقه فى كل ما يخبر به من الوحي الإلهى (متلو من القرآن، أو غير متلو من السنة) قال تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذى أنزلنا والله بما تعملون خبير} (1) وقال سبحانه: {فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (2) فالإيمان بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب متعين لا يتم إيمان إلا به، ولا يصح إسلام إلا معه لقوله تعالى: {ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً} (3) . ... فهل يصح من مخلوق بعد ذلك أن يزعم أن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، والربط بين الإيمان به، والإيمان بالله عز وجل شرك؟! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً. وإذا وجب الإيمان به صلى الله عليه وسلم، وجب تصديقه وطاعته فيما جاء به من الكتاب والسنة، لأن ذلك مما أمرنا به المولى عز وجل فى آيات عدة منها: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (4) وقال سبحانه: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً} (5) . ... فتأمل كيف جعل رب العزة طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعته، وقرن طاعته عز وجل بطاعته صلى الله عليه وسلم، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب، وأوجب امتثال أمره، واجتناب نهيه. ...
قال المفسرون والأئمة: طاعة الرسول فى التزام سنته، والتسليم لما جاء به، وقالوا: ما أرسل الله من رسول إلا فرض طاعته على من أرسله إليه قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} (1) فمن زعم بعد ذلك أن الربط بين طاعته عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ شرك وتأليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رد على ربه عز وجل كلامه! وقد سبق تفصيل ذلك فليراجع (2) . ... وجملة القول: أن منكرى السنة الذين يزعمون كذباً أن السيرة النبوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والتى نقلها أهل الحديث فى كتبهم مخالفة لسيرته فى القرآن الكريم، وأن المصادر الحديثية شوهت سيرته العطرة، كذبوا فى زعمهم وتظاهرهم هذا، فقد طعنوا أيضاً فى سيرته صلى الله عليه وسلم الواردة فى القرآن الكريم بزعمهم عدم عصمته وأنه كان فى ضلال وغفلة قبل البعثة… الخ كما سبق الإشارة إلى ذلك فى أول الجواب. ... وفى الحقيقة: فإن منكرى السنة، لا يريدون السنة، ولا يريدون أسانيد ولا يريدون نقله يصلون بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكيف يصلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يكرهون من يوصل إليه، ويحملونهم إلى عصره، وييسرون لهم سماعه ومشاهدة أفعاله، وأحواله، وصفاته… الخ. ... إنهم يكرهون الصحابة، ويكرهون التابعين، واتباع التابعين، وتبع الأتباع، واتباع التبع… إنهم يكرهون الدواوين التى جمعت كل هذه الطرق، وحفظت هذا الاتصال، ويكرهون من جمع هذه الدواوين. ... يكرهون القواعد التى وضعها العلماء لاستخلاص السنة والسيرة، من وضع الوضاعين، وخطأ المخطئين، ووهم الواهمين.. يكرهون مدرسة الحديث بكل ما فيها، ومن فيها.
الفصل الثاني: شبهة الطاعنين فى حديث "خلوة النبى صلى الله عليه وسلم بامرأة من الأنصار" والرد عليها
.. وهذه الكراهية فى الحقيقة كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحقد على بقاء رسالته، متمثلة فى سنته، وسيرته العطرة، ومحاولة للقضاء على ما ورثته الأمة عنه صلى الله عليه وسلم، من العلم الذى هو الميراث عن النبيين، وهو فى نفس الوقت حقد على هذه الأمة التى اختصها الله عز وجل بحفظ سنة وسيرة نبيها صلى الله عليه وسلم على أكمل ما يكون الحفظ والتوثيق. ... وإذا تقرر سابقاً أن سول الله صلى الله عليه وسلم، هو والقرآن الكريم كيان واحد، وأن سيرته الشريفة هى الترجمة الحية، لما اشتمل عليه القرآن الكريم، من تعاليم وأحكام؛ فسوف يتأكد ذلك بالأمثلة عند الجواب على الأحاديث التى طعنوا فيها، وزعموا أنها تشويه لسيرته العطرة، وأنها مخالفة للقرآن الكريم، وتطعن فى عصمته فى سلوكه وهديه. فإلى بيان ذلك فى الفصول التالية الفصل الثاني: شبهة الطاعنين فى حديث "خلوة النبى صلى الله عليه وسلم بامرأة من الأنصار" والرد عليها ... روى الإمام البخارى فى صحيحه بسنده عن أنس رضى الله عنه قال: "جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعها صبى لها، فكلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "والذى نفسى بيده، إنكم أحب الناس إلى مرتين" (1) .
.. بهذه الرواية طعن أعداء السيرة العطرة فى صحيح الإمام البخارى، وأوهموا القارئ بأن الحديث يطعن فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلوكه، وفى خلقه العظيم، حيث جاء فى الرواية أنه صلى الله عليه وسلم، خلا بامرأة، ثم قال: "إنكم أحب الناس إلى". ... يقول أحمد صبحى منصور: "والرواية تريد للقارئ أن يتخيل ما حدث فى تلك الخلوة التى انتهت بكلمات الحب تلك، وذلك ما يريده البخارى بالطبع" (1) . والجواب: أولاً: أقول لهؤلاء النابتة الضالة التى تريد الطعن والتشكيك فى صحيح الإمام البخارى، لتسقط مكانته كأصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، ولتسقط بسقوطه كل كتب السنة التى تليه، إذ هو بمثابة الرأس، لكتب السنة، وبسقوط الرأس يسقط كل الجسد. ... أقول لهم: إن كنتم صادقين فى دعواكم تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يشكك فى سيرته العطرة، وأخلاقه العظيمة، وعصمته فى سلوكه، وتزعمون أن البخارى بإخراجه لهذه الرواية فى صحيحه قد افترى كذباً على الرسول صلى الله عليه وسلم، وشكك فى أخلاقه وعصمته صلى الله عليه وسلم - وعصم الله عزوجل - البخارى وغيره من أئمة السنة من ذلك. ... وإن كنتم حقاً أهل علم، وبحث عن الحقيقة فلماذا تعمدتم عدم ذكر اسم عنوان الباب الذى ذكر تحته الإمام البخارى هذا الحديث؟ وهو باب "ما يجوز أن يخلوا الرجل بالمرأة عند الناس". ... ولماذا تجاهلتم ما قاله شراح الحديث فى بيانهم للمراد من الخلوة، وكيف كانت تلك الخلوة، ولماذا اختلى بها النبى صلى الله عليه وسلم؟.
نعم تعمدتم عدم ذكر ذلك تلبيساً منكم وتضليلاً للقارئ، ولأنكم تعلمون كما تعلم الدنيا بأسرها، أن فقه الإمام البخارى فى تراجم أبوابه، التى أعيا فحول العلماء حل ما أبداه فى هذه العناوين من أسرار! إنكم تعلمون أنكم بذكركم عنوان الباب، ينكشف سريعاً كذبكم وتضليلكم! كما أنكم تجاهلتم ما قاله شراح الحديث من أئمة المسلمين، والذين تحرصون على وصفهم بأنهم يقدسون البخارى، ويعبدونه من دون الله "وعصمهم الله من ذلك" تجاهلتم ما فسروه وبينوه من معنى "خلوة الرجل بالمرأة عند الناس" وكيف كانت تلك الخلوة؟. ... والنتيجة من تجاهلكم كل ذلك أنكم سفهتم عقول أئمة المسلمين، واستخففتم بعقل القارئ لكم. ثانياً: تعالوا بنا لنظهر للقارئ ما حرصتم على كتمانه؛ ولنترك له الحكم بعد ذلك؛ فيمن الصادق البخارى أم أنتم؟ ومن الطاعن والمشكك فى عصمة النبى صلى الله عليه وسلم البخارى أم أنتم؟ ومن المحترم لعقل القارئ البخارى أم أنتم؟. ... يقول الحافظ ابن حجر – رحمه الله – شارحاً المراد من عنوان الباب الذى ذكر الإمام البخارى تحته حديث أنس. قال: قوله: "باب ما يجوز أن يخلوا الرجل بالمرأة عند الناس" أى: لا يخلوا بها بحيث تحتجب أشخاصهما عنهم، بحيث لا يسمعون كلامهما، إذا كان مما يخافت به؛ كالشئ الذى تستحى المرأة من ذكره بين الناس، وأخذ المصنف قوله فى الترجمة: "عند الناس" من قوله فى بعض طرق الحديث "فخلا بها فى بعض الطرق أو فى بعض السكك" وهى: الطرق المسلوكة التى لا تنفك عن مرور الناس غالباً. ... وقوله: "فخلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أى: فى بعض الطرق، ولم يرد أنس أنه خلا بها بحيث غاب عن أنصار من كان معه، وإنما خلا بها، بحيث لا يسمع من حضر شكواها، ولا ما دار بينهما، من الكلام، ولهذا سمع أنس آخر الكلام فنقله، ولم ينقل ما دار بينهما، لأنه لم يسمعه.
.. وفى رواية مسلم عن أنس: "أن امرأة كان فى عقلها شئ، فقالت: يا رسول الله! إن لى إليك حاجة، فقال: يا أم فلان! أى السكك شئت، حتى أقضى لك حاجتك، فخلا معها فى بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها" (1) . ... قال الإمام النووى – رحمه الله – قوله: "خلا معها فى بعض الطرق" أى: وقف معها فى طريق مسلوك، ليقضى حاجتها، ويفتيها فى الخلوة، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية، فإن هذا كان فى ممر الناس، ومشاهدتهم إياه وإياها، لكن لا يسمعون كلامها، لأن مسألتها مما لا يظهره" (2) . ومن هنا استفاد الأئمة من هذه الرواية: "أن مفاوضة الأجنبية سراً لا يقدح فى الدين عند أمن الفتنة، ولكن الأمر كما قالت عائشة رضى الله عنها، "وأيكم يملك أربه كما كان صلى الله عليه وسلم يملك أربه" (3) قلت: وإيانا أيضاً معصوم كعصمته صلى الله عليه وسلم!. ثالثاً: ليس فى قوله: "إنكم أحب الناس إلى – مرتين – وفى رواية: ثلاث مرات" ما يطعن فى عصمته صلى الله عليه وسلم فى سلوكه وهديه، لأن هذه الكلمة قالها النبى صلى الله عليه وسلم جهاراً على ملأ من الناس لنساء وصبيان من الأنصار كانوا مقبلين من عرس.
.. يدل على ذلك ما أخرجه البخارى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أبصر النبى صلى الله عليه وسلم، نساءاً وصبياناً مقبلين من عرس فقام ممتناً فقال: "أنتم من أحب الناس إلى" (1) وهو على طريق الإجمال، أى: مجموعكم أحب إلى من مجموع غيركم. ... فالكلمة إذن لم يقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مغازلاً للمرأة الأنصارية التى اختلى بها ليقضى حاجتها؛ كما يحاول أن يزعم، ويستنتج أعداء الإسلام! وإنما قالها صلى الله عليه وسلم، خطاباً لمجموع الأنصار. وتأمل قوله: "إنكم" ولم يقل "إنك". ... وليس أدل على ما سبق أن الراوى للحديث أنس بن مالك، سمع هذه الجملة "إنكم أحب الناس إلى" وسمع كم مرة كررها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كانت الكلمة مقصوداً بها المغازلة؛ فلم جهر بها صلى الله عليه وسلم حتى سمعها أنس؟!. ... ولم لم يسر بها حتى لا يسمعها أنس إن كان مقصوداً بها ما يزعمه أعداء عصمته صلى الله عليه وسلم؟.
.. إن هذه الجملة: "إنكم أحب الناس إلى" قالها المعصوم صلى الله عليه وسلم: منقبة للأنصار، حيث جعل حبهم من علامات الإيمان، وبغضهم من علامات النفاق، فقال صلى الله عليه وسلم: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" (1) وفى رواية: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار" (2) . ... قال الحافظ ابن حجر: وخصموا بهذه المنقبة العظمى، لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبى صلى الله عليه وسلم، ومن معه، والقيام بأمرهم، ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم، وإيثارهم إياهم فى كثير من الأمور على أنفسهم، فكان صنيعهم لذلك موجباً لمعاداتهم، جميع الفرق الموجودين من عرب وعجم، والعداوة تجر البغض، ثم كان ما اختصوا به مما ذكر موجباً للحسد، والحسد يجر البغض، فلهذا جاء التحذير من بغضهم، والترغيب فى حبهم، حتى جعل ذلك آية الإيمان والنفاق، تنويهاً بعظيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم فى معنى ذلك مشاركاً لهم فى الفضل المذكور، كل بقسطه" (3) .
.. وبعد: فقد ظهر واضحاً جلياً لكل ذى عقل، وقلب سليم، أن الحديث صحيح رواية ودراية، وأن ما زعمه أهل الزيغ من أن لفظ الخلوة فى الحديث محمول على الخلوة المحرمة؛ مردود عليهم بما جاء فى بعض طرق الحديث "فخلا بها فى بعض الطرق أو بعض السكك" وهى الطرق التى لا يخلو منها المارة من الناس. ... كما اتضح جلياً أن تلك المرأة التى خلى بها النبى صلى الله عليه وسلم، كانت لها مسألة أرادت أن تستفتى فيها النبى صلى الله عليه وسلم، وتلك المسألة مما تستحى من ذكره النساء بحضرة الناس، وكانت إجابة النبى صلى الله عليه وسلم لها أن تلتمس بعض الطرق أى تلتمس أى جانب من الأماكن العامة التى لا تخلو من مرور الناس غالباً حتى يسمع حاجتها، ويقضيها لها، وكل هذا صرحت به رواية الإمام مسلم من حديث أنس، راوى الحديث الذى طعنوا فيها من رواية البخارى! ليقطع لسان كل فاجر، ويدفع افتراء كل آثم يطعن فى عصمته صلى الله عليه وسلم. ... وما ختم به النبى صلى الله عليه وسلم، حديثه مع المرأة من قوله: "والذى نفسى بيده إنكم أحب الناس إلى" هذا منه صلى الله عليه وسلم، تأكيداً لما قاله مراراً من جعله علامات الإيمان حب الأنصار، ومن علامات النفاق بغضهم، ثم إن هذه الكلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً على ملأ من الناس، لنساء وصبيان من الأنصار كانوا مقبلين من عرس، كما سبق من حديث أنس عند البخارى. ... فهل بقى بعد كل هذا حجة فى الحديث لمن أرادوا أن يشوشوا به على عصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلوكه، وفى خلقه العظيم؟! وهم يوهمون البسطاء أنهم من المحبين للنبى صلى الله عليه وسلم، المدافعين عنه، فى الوقت الذى يجحدون فيه سنته العطرة، ويطعنون فى عدالة الإمام البخارى، وفى صحيحه الجامع، ويسفهون عقول المسلمين القائلين بقول سلفهم الصالح رضى الله عنهم، ويستخفون بعقل من يقرئ لهم!.
.. وبالجملة: أيخشى عاقل، فضلاً عن مؤمن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، على زوجه، أو ابنته، أو أمه، وهو الذى لم يستطيع كافر أو جاحد، أن يلمس هذا الجانب فى حقه؟. ... وقد قال الله تعالى فى حقه: {النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (1) إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤتمن على الوحي، وحامل الرسالة، والأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، ولا يثير مؤمن فضلاً عن عاقل مثل ما أثاره أعداء السنة المطهرة فى حديثنا هذا، للإيمان بعصمته صلى الله عليه وسلم من الشيطان. وإن ما طنطن به أعداء عصمته صلى الله عليه وسلم، يشبه ما طنطنوا به فى قصة أخرى، وكذبوا البخارى فيها، لأنه رواها، وهى قصة أم سليم وأم حرام رضى الله عنهما. فإلى بيان شبهتهم فى ذلك والرد عليها فى الفصل التالى
الفصل الثالث: شبهة الطاعنين فى حديثى "نوم النبى صلى الله عليه وسلم عند أم سليم وأم حرام"
الفصل الثالث: شبهة الطاعنين فى حديثى "نوم النبى صلى الله عليه وسلم عند أم سليم وأم حرام" والرد عليها أولاً: حديث أم سليم - رضى الله عنها: ... روى البخارى ومسلم - رحمهما الله - عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: "إن أم سليم (1) كان تبسط للنبى صلى الله عليه وسلم، نطعاً فيقيل عندها على ذلك النطع، قال: فإذا نام النبى صلى الله عليه وسلم، أخذت من عرقه وشعره فجمعته فى قارورة، ثم جمعته فى سك (2) وهو نائم. قال: فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى إلى أن يجعل فى حنوطه من ذلك السك، قال فجعل فى حنوطه" (3) . ثانياً: حديث أم حرام - رضى الله عنها:
.. روى البخارى ومسلم – رحمهما الله – عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ذهب إلى قباء، يدخل على أم حرام بنت ملحان (1) ، فتطعمه، وكانت أم حرام – تحت عبادة بن الصامت – فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطعمته، وجعلت تفلى رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: وما يضحك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتى عرضوا على غزاة فى سبيل الله، يركبون ثبج (2) هذا البحر، ملوكاً على الأسرة، أو قال: مثل الملوك على الأسرة، يشك – إسحاق – قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك. فقلت: ما يضحك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتى عرضوا على غزاة فى سبيل الله – كما قال فى الأول – قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم، قال: أنت من الأولين. فركبت البحر فى زمن معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت" (3)
.. بالحديثان السابقان طعن أعداء السنة، فى عدالة الإمام البخارى، وفى صحيحه الجامع، وزعموا أن الروايات السابقة يلزم منها؛ الطعن فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلوكه، وفى خلقه العظيم. ... يقول أحمد صبحى منصور: "يريدنا البخارى أن نصدق أن بيوت النبى التى كانت مقصداً للضيوف، كانت لا تكفيه، وأنه كان يترك نسائه بعد الطواف عليهن، ليذهب للقيلولة عند امرأة أخرى، وأثناء نومه كانت تقوم تلك المرأة بجمع عرقه وشعره، وكيف كان يحدث ذلك… يريدنا البخارى أن نتخيل الإجابة.. ونعوذ بالله من هذا الإفك… ثم يؤكد البخارى على هذا الزعم الباطل بحديث أم حرام … الذى تضمن كثيراً من الإيحاءات والإشارات المقصودة، لتجعل القارئ يتشكك فى أخلاق النبى؛ فيفترى الراوى: كيف كانت تلك المرأة تطعمه، وتفلى رأسه، وينام عندها، ثم يستيقظ ضاحكاً ويتحادثان نعوذ بالله من الافتراء على رسول الله… ويتركنا البخارى بعد هذه الإيحاءات المكشوفة، نتخيل من معنى أن يخلو رجل بامرأة متزوجة فى بيتها، وفى غيبة زوجها، وأنها تطعمه، وتفلى له رأسه، أى أن الكلفة قد زالت بينهما تماماً، وأنها تعامله، كما تعامل زوجها.. ثم يقول: "وجعلت تفلى له رأسه، فنام رسول الله ثم استيقظ" ولابد أن القارئ سيسأل ببراءة … وأين نام النبى وكيف نام، وتلك المرأة تفلى له رأسه، وآلاف الأسئلة تدور حول هدف واحد هو ما قصده البخارى بالضبط" (1) . ... ويجاب عن ما سبق بما يلى:
أولاً: لنا أن نتساءل: لماذا كل هذا الحقد على الإمام البخارى؟ ولماذا الحمل على البخارى – رحمه الله – فى هذه الرواية، والتشنيع عليه، مع أن غيره من علماء الحديث شاركه فى رواية هذا الحديث؟ إنه لم يخترع، ولم يؤلف، ولم يشطح به الخيال!. ... لقد نقل ما سمعه من شيوخه الثقات، مما سمعوه من شيوخهم، إلى أن وصل النقل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إلى الصحابى الذى روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ... والناقل لا يطلب منه إلا التأكد من صحة ما نقل، واستيفاء شروط النقل ولا يكون مسئولاً عن ذات الشئ المنقول، لأن ناقل الكفر ليس بكافر بمجرد نقله لذلك. ... لقد أعماهم الحقد على كل ما يتصل بالسنة، ورواتها، فصبوه صباً عليهم، واختص البخارى بأشد أنواع الحقد؛ لأنه جمع أصح الروايات، وبذل أقصى الجهود. ... وذنب البخارى عندهم، أنه أخلص. وبذل حياته وماله فى جمع السنة، ونقد الحديث، واستخلص صحيحه من صفوة الصفوة من الحديث، ورسم المناهج، وقعد القواعد، وأصل الأصول. ... من أجل ذلك عابوه وشتموه، وحاولوا تشويه صورته، ونطحوه بقرون حقدهم، يريدون القضاء على جهوده، وإبادة عمله، ولو استطاعوا لأخرجوا رفاته، فصبوا عليه ويلاتهم. ولكن هيهات فهم كما قال القائل: كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... *** ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل ثانياً: وماذا فى قصة أم حرام: ... إن البخارى – رحمه الله – ذكرها فى صحيحه فى كتاب الاستئذان، باب "من زار قوماً فقال عندهم". ... والقوم يطلق فى الغالب على الجماعة، وكأن البخارى يرى أن ما يرويه من الحديث، فى زيارة واحد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، لجماعة وهم أهل البيت الذى فيه أم حرام. ... وهذا من فقهه فى تراجمه الذى رفع مكانته بين العلماء، وأثار إعجاب كل متابع له فى فهم معانى الحديث.
.. ثم روى البخارى الحديث عن أنس بن مالك، وأم سليم هى أم أنس، وأم حرام هى أخت أم سليم، وهنا يظهر جلياً أن البيت الذى كان يقيل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو بيت فيه أم سليم، وأختها أم حرام، وأنس بن أم سليم. ... وقد ورد فى المسند عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فى بيت أم سليم، وأم سليم، وأم حرام خلفنا، ولا أعلمه إلا قال: أقامنى عن يمينه" (1) فأى ضير فى أن يكرم الرسول صلى الله عليه وسلم، أنساً خادمه، فيدخل بيته يقيل فيه، ويأكل، وفى هذا البيت أمه، وخالته، وقد يكون فيه غيرهما زوج أم سليم، أو زوج أم حرام، أو زوجهما. ... وسبب آخر لإكرام الرسول صلى الله عليه وسلم، أهل هذا البيت بالزيارة، مع أن غيرهم كثير ممن يود أن يتشرف بالرسول صلى الله عليه وسلم فى مثل هذه الزيارة. لقد استشهد أخوهما فى سبيل الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواسيهما معاً بهذه الزيارة، حيث أنهما كانتا فى دار واحدة، كل واحدة منهما فى غرفة من تلك الدار (2) . ... فعن أنس بن مالك رضى الله عنه "أن النبى صلى الله عليه وسلم، لم يكن يدخل بيتاً بالمدينة، غير بيت أم سليم، إلا على أزواجه، فقيل له، فقال: إنى أرحمها؛ قتل أخوها معى" (3) يعنى حرام بن ملحان (4) وكان قد قتل يوم بئر معونة.
.. وفى تعليله صلى الله عليه وسلم "إنى أرحمهما" فيه أنه خلف حرام بن ملحان فى أهله بخير بعد وفاته، ولذا ذكر البخارى الحديث السابق فى كتاب الجهاد، باب فضل من جهز غازياً أو خلفه بخير، وهذا من فقهه ودقته – رحمه الله. ... فكانت زيارته صلى الله عليه وسلم لأم سليم وأختها أم حرام، عملاً بما قاله صلى الله عليه وسلم: "من جهز غازياً فى سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً فى سبيل الله بخير فقد غزا" (1) . ... وفضلاً عن ما سبق، فقد غنم المسلمون من هذه الزيارة علماً من أعلام النبوة، فى أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، عما سيكون قبل وقوعه، حيث أراه الله له، وإخباره أم حرام بأنها من الأولين ركاب السفن الغازية. وتحقق ما أخبر به من ركوبها وغزوها ثم استشهادها الذى حال بينها وبين أن تكون من أهل السنن الغازية التى تلت ذلك، ورآها الرسول صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: من أين جزم أحمد صبحى، ومن قال بقوله؛ بانفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أم حرام أو أم سليم؟ وكيف قطع بأن أحداً لم يكن معهما؟، وما الذى يمنع أنساً وهو خادمه من الدخول إلى بيت أمه، وهو نفسه بيت خالته؟ وأين أخوه اليتيم، ومن كان من الأزواج حاضراً؟ بل وأين من كان من الأقارب، وكل من حول قباء من الأنصار الذين لا يتركون الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يزور قباء، وهم من أخواله الذين نزل بينهم أول قدومه المدينة؟!. ... لقد كان الصحابة يحرصون على مرافقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسعدون بصحبته كلما خرج من بيته، وكانوا يلتمسون رؤيته وسماعه، ورؤية ما يصدر منه.
.. فكيف يزور أم حرام إذا ذهب إلى قباء فلا يجد أحداً يقابله، أو يصلى معه، أو يقابله فى الطريق فيسير معه حتى يسمح له بالانصراف؟! وكيف يدخل بيتاً، فلا يدخل إليه فيه من أراد، ممن له حاجة، أو مسألة، أو به رغبة للاستفادة من تجدد رؤيته له، وسعادته بمجالسته صلى الله عليه وسلم؟!. ... أمور كلها تعد من قبيل الشواهد التى لا تخطئ، والدلالات التى تورث اليقين، بأن النبى صلى الله عليه وسلم، حين زار قباء ودخل على أم حرام فى بيتها، كان معهم غيرهما، ولاسيما وجود أنس بن مالك على ما ورد فى روايات الحديث (1) . ... وهذه الشواهد هى التى جعلت الإمام البخارى يعنون لباب القصة بقوله: "باب من زار قوماً فقال عندهم" وتأمل جيداً "قوماً". رابعاً: المتأمل فى الحديث يجد قول الراوى: فأطعمته: أى قدمت له طعاماً، و"جعلت تفلى رأسى". ... فهل يناسب هذا القول: "وجعلت تفلى رأسه" حال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يأكل؟ أو حال أنس، وهو جالس إلى خالته حال قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتناول الطعام؟ وألا يمكن أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم، بادر إلى النوم قبل تناول الطعام، فأطعمت أم حرام أنساً، وجعلت تفلى رأسه، حتى استيقظ النبى صلى الله عليه وسلم يضحك، ويحكى ما رآه من الصحابة فى السفن كالملوك على الأسرة غزاة فى سبيل الله؟ يجوز. ... إلا أن الذين فى قلوبهم مرض، لا يفطنون لذلك، ولا يسمعون كلام الحافظ الدمياطى وهو يقول: ليس فى الحديث ما يدل على الخلوة مع أم حرام، ولعل ذلك كان مع ولد، أو خادم، أو زوج، أو تابع.
.. ولا يهمهم قول ابن الجوزى: سمعت بعض الحفاظ يقول: كانت أم سليم أخت آمنة بنت وهب، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، ولا يعبئون بقول ابن وهب: أم حرام إحدى خالات الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة (1) . ... لا يهمهم كل ذلك، ولا يرد على خاطرهم قول أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها "لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، غير أنه يبايعهن بالكلام" (2) . ... أمور كلها تعد من قبيل الشواهد التى لا تخطئ، والدلالات التى تورث اليقين بأن النبى صلى الله عليه وسلم، كان قريباً قرابة محرمة لأم سليم، وأختها أم حرام؛ وخصوصاً وأن بعض الروايات تقول: "كان النبى صلى الله عليه وسلم، يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها، وليست فيه" (3) . ... ورواية تقول: "نام النبى صلى الله عليه وسلم، فاستيقظ، وكانت تغسل رأسها، فاستيقظ وهو يضحك، فقالت: يا رسول الله أتضحك من رأسى، قال لا" (4) . ... ومن هنا: فلا إشكال فى تفلية أم حرام لرأس رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرض الأخذ بظاهر الحديث، لجواز ملامسة المحرم فى الرأس وغيره مما ليس بعورة، وجواز الخلوة بالمحرم والنوم عندها. وهذا كله مجمع عليه (5) .
.. وقد يقول قائل: قريبات النبى صلى الله عليه وسلم معروفات، وليس منهن أم سليم ولا أم حرام (1) والجواب: أننا نتحدث عن مجتمع لم يكن يمسك سجلات للقرابات، وخاصة إذا كانت القرابة فى النساء، فهناك قريبات كثيرات أغفلهن التاريخ فى هذا المجتمع، وأهملهن الرواة (2) . وإلا هل يعقل أن يترك أهل الكفر والنفاق – زمن النبوة – مثل هذا الموقف دون استغلاله فى الطعن فى النبى صلى الله عليه وسلم، وفى نبوته؟!. خامساً: ليس فى روايات القصة، ما يدل على ما زعمه أحمد صبحى، ومن قال بقوله: من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم حرام فى غيبة زوجها لأن أم حرام؛ كانت قد تزوجت مرتين، تزوجت مرة قبل عبادة بن الصامت، وأنجبت، ثم قتل ابنها شهيداً فى إحدى معارك الإسلام، وبقيت بغير زوج لكبر سنها، ثم شاء الله أن تتزوج بعبادة بن الصامت ويبقى معها بعد انتقال النبى صلى الله عليه وسلم، وقد وقع ذلك فى كلام أنس بن مالك نفسه، وهو يحدث عن خالته بالحديث الذى هو موضوع كلامنا الآن. ففى بعض روايات الحديث قال: ثم تزوجت بعد ذلك بعبادة بن الصامت رضى الله عنه. ... أما هذه الجملة التى وقع عليها – الذين فى قلوبهم مرض – والواردة فى بعض روايات هذا الحديث وهى: "كانت عبادة بن الصامت" فقد أجمع العلماء أن هذه الجملة معترضة، وهى من كلام الراوى يشرح بها حال أم حرام حين ذهبت إلى بلاد الشام، أو إلى جزيرة قبرص، وماتت بها.
فالمراد بقوله هنا: "وكانت تحت عبادة" الإخبار عما آل إليه الحال بعد ذلك، وهو الذى اعتمده النووى، وغيره تبعاً للقاضى عياض، ورجحه ابن حجر (1) . ... قلت: وحتى لو كان عبادة حينئذ تحتها، فلا شك أنه كان يسره، أكل النبى صلى الله عليه وسلم، مما قدمته له امرأته، ولو كان بغير إذن خاص منه. ... كما أن دخوله صلى الله عليه وسلم، على زوجته حينئذ فى غير وجوده، لا إشكال فيه، لقرابة أم حرام لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه لم يكن وحده صلى الله عليه وسلم، على ما تقرر سابقاً، على فرض عدم القرابة. ... ولعصمته صلى الله عليه وسلم، مع كل ما سبق أولاً وأخيراً (2) . سادساً: ما زعمه أعداء عصمته صلى الله عليه وسلم، وحاولوا إيهام القارئ لهم، بأن روايات الحديث فيها أن النبى صلى الله عليه وسلم، كان يبادل أم حرام كلمات غير مقبولة، عصمه الله من ذلك.
.. فهذا منهم من أفرى الفرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروايات القصة ترد عليهم، فكل ما فيها أنه صلى الله عليه وسلم، زار أم حرام، ونام عندها، واستيقظ يضحك، وسألته أم حرام عن الأمر الذى يضحك منه، فأخبرها أن ناساً من أمته سيركبون البحر، ظهره، ووسطه، ويكونون فيه، وهو أمر فيه أمثال الملوك على الأسرة، وهذا أمر يسعد النبى صلى الله عليه وسلم، ويرضيه، لما فيه من المخاطر ما فيه، إن فيه خطر ركوب البحر، وفيه الجهاد، وما فى الجهاد من أهوال، وفيه احتمال الموت والشهادة، وأم حرام تعرف ذلك وتدركه، ثم تطمع فيه وتبتغيه، وتسأل النبى صلى الله عليه وسلم الذى لا ترد دعوته، وتقول له: سل الله أن يجعلنى منهم، والنبى سأل ربه، واستجاب له ربه عز وجل، فسألته أم حرام بعد أن نام المرة الثانية فى الوقت نفسه، وقام يضحك، مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: كما قال فى الأولى: "إن ناساً من أمتى سيركبون البحر مثل الملوك على الأسرة، قالت: يا رسول الله! أأنا منهم، قال، لا، أنت من الأولين". ... ومرت الأيام، وركبت أم حرام مع زوجها، وعلى ساحل البحر، ركبت دابة، فسقطت من على دابتها فماتت، وقبرها على رأى البعض ما يزال ظاهراً، يعرفه الناس فى قبرص باسم قبر المرأة الصالحة. ... أى حديث هذا الذى جرى بين النبى صلى الله عليه وسلم، وبين أم حرام رضى الله عنها؟ إنه حديث عن المخاطر والأهوال، وهو حديث عن الموت والشهادة، وهو حديث عن استكمال الذات إلى ساعة الممات، وهو حديث فرح النبى صلى الله عليه وسلم بأمته حين ينتشرون بالدين ويحملون لواء الجهاد. ... إن مثل هذا الحديث: لهو حديث الرجولة والكمال، وهو حديث الطمع فى رحمة الله ورضوانه. ... فما علاقة مثل هذا الحديث الشاق بأحاديث الرضا، ومتابعة هوى النفس؟!.
وأين ما يزعمه أعداء الإسلام، إن فى القصة إيحاءات وإشارات مقصودة تجعل القارئ يتشكك فى أخلاق النبى صلى الله عليه وسلم وعصمته فى سلوكه؟!. وأين كانت أختها أم سليم، وابنها وابن أختها أنس راوى الحديث، من هذه الإيحاءات؟. ... ولم لم ينقلها الرواة، وهم الذين يحرصون على نقل كل صغيرة وكبيرة حتى الحركات والسكنات عن المعصوم صلى الله عليه وسلم؟!. ... إن المرء ليس ليسمع الحديث الصحيح، فيدركه على وجهه، إن كان سليم النفس، حسن الطوية، وهو ينحرف به إذا كان إنساناً مريض النفس معوجاً. ... وهل ينضح البئر إلا بما فيه؟ وهل يمكن أن نتطلب من الماء جذوة نار؟. أو نغترف من النار ماء؟ وقديماً قالوا: إن كل إناء بما فيه ينضح. ... أشهد أن الله عز وجل، عصم نبيه صلى الله عليه وسلم، من الشيطان الرجيم، وعصمه فى سلوكه وهديه، وصدق فيه قول ربه: {وإنك لعلى خلق عظيم} (1) أهـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
الفصل الرابع: شبهة الطاعنين فى حديث "طوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه فى ساعة واحدة"
الفصل الرابع: شبهة الطاعنين فى حديث "طوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه فى ساعة واحدة" والرد عليها ... روى البخارى وغيره عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه، فى الساعة الوحدة من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة (1) قال قتادة: قلت لأنس: أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين" (2) .
.. وفى رواية عن ابن عمر مرفوعاً: "أعطيت قوة أربعين فى البطش والجماع" (1) وله شاهد صحيح عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فضلت على الناس بأربع: بالسخاء، والشجاعة، وكثرة الجماع، وشدة البطش" (2) . ... هذا الحديث الذى يبين ما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون غيره من الناس، ويبين عدله صلى الله عليه وسلم بين أهل بيته، يطعن فيه أعداء السنة النبوية، بزعم أنه يسهم فى تشويه صورة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويطعن فى عصمته فى سلوكه، حيث يجعل الحديث بزعمهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مهووساً بالجماع؛ كما زعموا أن الحديث يتعارض مع القرآن الذى يبين أن النبى كان يقضى ليله فى قيام الليل، وقراءة القرآن والعبادة، ويقضى نهاره فى الجهاد ونشر الدعوة. ... يقول أحمد صبحى منصور: "البخارى يجعل من النبى مهووساً بالجماع إلى درجة لا يعرفها أشد الرجال فحوله، ولا أعرف من أين لهم ذلك القياس الذى جعلوا به مقدرة النبى – المزعومة – تبلغ قوة ثلاثين رجلاً؟. ... ولكن هل كان النبى فعلاً يقضى الليل والنهار فى جماع مستمر؟ وهل كان أصحابه خلفه يهتفون بقدرته الفذة فى النكاح؟ أو هل كانت سنة النبى هى فى الجماع؟.
.. إن النبى كان يقضى ليله فى قيام الليل، وقراءة القرآن والعبادة، ويقضى نهاره فى الجهاد، والسعى فى توطيد أركان دولته الجديدة، ولم يكن لديه متسع من الوقت ليقطعه فى جماع متصل لجميع النساء، وفى وقت واحد… ولم يكن أصحابه لديهم الفراغ ليشجعوه ويهتفوا لفحولته الخارقة. ... أمامنا نوعان من السنة، أى: طريقة الحياة اليومية للنبى… السنة التى ذكرها الرحمن فى القرآن: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين آمنوا معك} (1) والسنة التى ذكرها البخارى فى صحيحه، ولا يمكن أن نؤمن بالاثنين معاً" (2) . ... وبنحو قوله قال صالح الوردانى، وزاد: "إن الذين اختلقوا هذه الروايات إنما كانوا يهدفون من ورائها إلى تشويه شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم" (3) . ويجاب عن ما سبق بما يلى: أولاً: ليس فى رواية رواة السنة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى أئمة المحدثين كالبخارى ومسلم وغيرهما؛ ليس فى روايتهم الحياة الخاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يشوه سيرته العطرة.
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم فى سلوكه وهديه، وما ينقل عنه من حياته الخاصة دين، وللأمة فيه القدوة والأسوة الحسنة، وليس أدل على ذلك، ما سبق ذكره من اختلافهم فى جواز القبلة للصائم، وفى طلوع الصبح على الجنب وهو صائم، فسألوا أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، فأخبرتهم أن ذلك وقع من النبى صلى الله عليه وسلم، فرجعوا إلى ذلك، وعلموا أنه لا حرج على فاعله (1) . وهذا النقل لما يخصه صلى الله عليه وسلم فى حياته الخاصة، حث عليه، وكان بإذنه بدليل ما روى أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنى لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل" (2) . كما دل على أن هذا النقل من الدين قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} (3) فهذا نص قرآنى صريح يأمر بحسن صحبة الزوجة بكل ما تعنيه كلمة "المعروف" (4) . ومعلوم أن مراد الله فى كتابه، من مهامه صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} (5) . ومن هنا: كان نقل هذا البيان فى الحياة الخاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، دين واجب ذكره، لتتعلم الأمة المراد بخطاب ربها: {وعاشروهن بالمعروف} ولذا ذكر العلماء من حكم كثرة أزواجه صلى الله عليه وسلم: نقل الأحكام الشرعية التى لا يطلع عليها الرجال، لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفى مثله.
الاطلاع على محاسن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، الباطنة، فقد تزوج صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبى سفيان (1) وأبوها إذ ذاك يعاديه، وصفية بنت حى بن أخطب، بعد قتل أبيها وعمها وزوجها. فلو لم يكن صلى الله عليه وسلم، اكمل الخلق فى خلقه لنفرن منه! بل الذى وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن (2) . قلت: وفيما سبق من حكم كثرة أزواجه وغيرها، تأكيد لعصمته صلى الله عليه وسلم فى سلوكه وهديه مع أزواجه الأطهار. لأنه إذا كان ما يقع مع الزوجة، مما شأنه أن يختفى مثله عن الناس، لما فيه من نقص فى قول أو عمل، فهذا بخلاف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعصمة الله عز وجل له، فقوله وعمله مع أهل بيته كله كمال، ومما تقتضى به الأمة. وإليك بيان ذلك فى حديثنا. ثانياً: لا وجه على ما سبق لإنكار أعداء السنة، لما ينقل من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أهل بيته، وزعمهم أن فى ذلك تشويه لشخصيته وسيرته العطرة، لأن فى ذلك المنقول، بيان لعصمته، وعظمة شخصيته، ومحاسن أخلاقه الباطنة مع أهل بيته، وهذا ما دل عليه حديثنا، حيث فيه البيان العملى منه صلى الله عليه وسلم، لما حث عليه قولاً.
.. فعن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن من أكمل المؤمنين إيماناً، أحسنهم خلقاً؛ وألطفهم بأهله" (1) وعنها أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى" (2) وهذه الأقوال منه صلى الله عليه وسلم تأكيداً وبياناً لقول رب العزة: {وعاشروهن بالمعروف} وهى كلمة جامعة تعنى: التحلى بمكارم الأخلاق فى معاملة الزوجات، من صبر على ما قد يبدر منهن، أو تقصير فى أداء واجباتهن، ومن حلم عن إيذائهن فى القول أو الفعل، وعفو وصفح عن ذلك، ومن كرم فى القول والبذل، ولين فى الجانب، ورحمة فى المعاملة، إلى غير ذلك مما تعنيه المكارم الأخلاقية التعاملية الأسرية.
.. وذلك هو ما دل عليه حديثنا "عدله صلى الله عليه وسلم بين نسائه فى القسم" كما قالت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يفضل بعضنا على بعض فى القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم يأتى إلا وهو يطوف علينا جميعاً فيدنوا من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التى هو يومها فيبيت عندها" (1) . ... وهذا الحديث نص صريح يبين لنا حقيقة طوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه جميعاً فى الساعة الوحدة من الليل والنهار. ... إنه طواف حب، ومداعبة، بدون جماع، حتى يبلغ إلى التى هو يومها فيبيت عندها، كما هو ظاهر كلام عائشة رضى الله عنها. ... ولا يتعارض مع ظاهر حديث أنس رضى الله عنه، فى أن حقيقة طوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه جميعاً بجماع. ... إذ الجمع بينهما حينئذ يكون، بحمل المطلق فى كلام أنس على المقيد فى كلام عائشة ووجه آخر: بحمل كلام عائشة على الغالب، وكلام أنس على القليل النادر، فلا مانع من أنه صلى الله عليه وسلم إذا طاف على نسائه جميعاً فى بعض الأحيان يكون بجماعهن جميعاً، وتكون له صلى الله عليه وسلم القدرة على ذلك، لم اختصه الله به من القوة وكثرة الجماع، وهو صريح قوله صلى الله عليه وسلم: "فضلت على الناس بأربع: كثرة الجماع، وشدة البطش… الحديث (2) .
.. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت قوة أربعين (1) فى البطش والجماع" (2) وفى ذلك تصريح بأن الصحابة رضى الله عنهم، كانوا يتحدثون عن قوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى الجماع من خلال نحو هذه الأحاديث المرفوعة، ولا يتحدثون بالقياس والظن و… كما يزعم أعداء خصائصه وعصمته صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: ليس للناقل لخصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم، من رواة السنة والسيرة، أى دخل فيها سوى النقل، وأداء الأمانة، أمانة الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه" (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عنى ولو آية… الحديث (4) فإذا أدوا هذه الأمانة، كان لهم خير الجزاء من ربهم، والشكر الجميل منا، لم أدوا إلينا من الدين!. ... أما الافتراء عليهم والزعم بأنهم يتدخلون فيما ينقلون، ويجعلون من النبى صلى الله عليه وسلم قوة فى الجماع لا يعرفها أشد الرجال فحولة … الخ (5) فهذا محض كذب عليهم، لا دليل عليه، ونكران لجميلهم وفضلهم، واستخفاف بعقل القارئ!. رابعاً: إنكار أعداء العصمة، لم اختص به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديثنا هذا من قوة البدن، وكثرة الجماع، إنكار لكتاب الله عز وجل، ورد على رب العزة كلامه، القائل: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} (6) .
.. ومع أن كثرة أزواجه صلى الله عليه وسلم، يشترك فيها مع من سبقه من الأنبياء كما قال عز وجل: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} (1) . ... وكذلك طوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه فى الساعة الواحدة من الليل والنهار يشترك فيها مع من سبقه من الأنبياء، كما دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كان لسليمان ستون امرأة (2) فقال: لأطوفن عليهن الليلة. فتحمل كل واحدة منهن غلاماً فارساً يقاتل فى سبيل الله، فلم تحمل منهن إلا واحدة فولدت نصف إنسان. فقال رسول الله: "لو كان استثنى لولدت كل واحدة منهن غلاماً، فارساً، يقاتل فى سبيل الله" (3) .
.. إلا أنه صلى الله عليه وسلم، اختص فى طوافه بخرق العادة له فى كثرة الجماع، مع التقلل من المأكول والمشروب، وكثرة الصيام والوصال، وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم، وأشار إلى أن كثرة تكسر شهوته (1) فانخرقت هذه العادة فى حقه صلى الله عليه وسلم (2) . خامساً: ليس فى الحديث كما يزعم أعداء السنة، ما يتعارض مع كتاب الله عز وجل، ويشغله صلى الله عليه وسلم عن قيام الليل متهجداً لربه عز وجل: قال تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} (3) وقال سبحانه: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين آمنوا معك} (4) . ... لأن الحديث واضح وصريح فى طوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه فى ساعة واحدة من النهار أو الليل، والساعة هى قدر يسير من الزمان، لا ما اصطلح عليه أصحاب الهيئة (5) .
.. والساعة هنا: هى حق له، ولأهل بيته (1) ولا تشغله عن حق ربه عز وجل، ولا عن حق رسالته، ونشر دعوته فهو القائل صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما، لم أخبر عنه، أنه يصوم النهار أبداً، ويقوم الليل، ويقرأ القرآن كله ليلة، خاطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً" (2) . ... وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى سيرته يعطى كل ذى حق حقه، يدل على ذلك ما روى عن عائشة رضى الله عنها سألت، ما كان النبى صلى الله عليه وسلم، يصنع فى أهله؟ قالت: كان فى مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة، قام إلى الصلاة" (3) وفى رواية قالت: "كان بشراً من البشر، يفلى ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه" (4) .
.. وتلك هى سنته صلى الله عليه وسلم، العدل، وإعطاء كل ذى حق حقه، فمن كان عليها فقد اهتدى، ومن كان عمله على خلافها فقد ضل، وذلك ما صرح به المعصوم صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "كانت مولاة للنبى صلى الله عليه وسلم تصوم النهار، وتقوم الليل، فقيل له، إنها تصوم النهار، وتقوم الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل عمل شرة (1) والشرة إلى فترة (2) فمن كان فترته إلى سنتى فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل" (3) وما حث عليه صلى الله عليه وسلم فى أن يكون نشاط المسلم واستقراره على سنته المطهرة، وسيرته العطرة، لا يكون إلا بالعدل، وإعطاء كل ذى حق حقه، لربه، ولجسده، ولأهله… الخ ولأنه صلى الله عليه وسلم، لا يخالف قوله عمله، كان طوافه على نسائه جميعاً، سواء بمسيس أو بدونه، من العدل بإعطاء كل ذى حق حقه، بدون أن يشغله ذلك عن حق ربه عز وجل وإليك نماذج من قيامه الليل بما لا يتعارض مع طوافه على نسائه!.
فعن عائشة رضى الله عنها، قالت: "ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط فدخل على، إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات (1) ثم يأوى إلى فراشه فهذا تأكيد من زوجته عائشة، بأنه صلى الله عليه وسلم، ما ترك قيام الليل، منذ دخل عليها. وتحكى عائشة رضى الله عنها، أنها: "افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات ليلة تقول: فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتحسست، ثم رجعت، فإذا هو راكع، أو ساجد، يقول: سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت، تقول: فقلت: بأبى وأمى، إنك لفى شأن، وإنى لفى آخر" (2) تعنى: أنها غارت حيث افتقدته، وظنت أنه ذهب إلى بعض نسائه، ولكن إذ بها تجده قائماً بين يدى ربه عز وجل يناجيه. وتوضح عائشة رضى الله عنها، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجمع بين حق الله تعالى فى قيام الليل، وبين حق أهل بيته وحقه، فتقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينام أول الليل، ويحى آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم ينام، فإذا كان عند النداء الأول قالت: وثب (3) ولا والله: ما قالت قام، فأفاض عليه الماء، ولا والله: ما قالت: اغتسل. وأنا أعلم ما تريد، وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة. ثم صلى الركعتين" (4) .
فتأمل: كيف جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، الجماع تابعاً لقيام ليله، وبعد فراغه منه، ثم ينام، حتى إذا دخل وقت الفجر قام بسرعة، وبكل نشاط استعداداً لصلاة الفجر، بإفضاء الماء على جسده تطهيراً من الجنابة – إن كان جنباً – وتأمل دقة التعبير قالت: "وثب" يقول الأسود بن يزيد راوى الحديث "لا والله: ما قالت قام… إلخ وإن لم يكن جنباً، توضأ وضوء الرجل للصلاة، ثم صلى الركعتين أى سنة الصبح. وبنفس شهادة عائشة رضى الله عنها، شهد ابن عباس رضى الله عنهما، عندما بات عند خالته أم المؤمنين ميمونة رضى الله عنها. ففى الصحيحين عنه: أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين رضى الله عنها – وهى خالته – قال: فاضطجعت على عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله فى طولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس، فمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات خواتيم سورة آل عمران، ثم قام إلى شن (1) معلقة، فتوضأ منها فأحسن وضوءه، ثم قام يصلى. قال ابن عباس رضى الله عنهما: فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يده اليمنى على رأسى، وأخذ بأذنى اليمنى يفتلها بيده، فصلى ركعتين ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح" (2) .
وحتى عندما زار أم سليم، وأم حرام، وبات عندهما، لم يمنعه ذلك من قيام الليل على ما جاء فى رواية أنس بن مالك رضى الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيت أم سليم، وأم سليم، وأم حرام خلفنا، ولا أعلمه إلا قال: أقامنى عن يمينه" (1) . وبعد: فهل قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع طوافه على نسائه جميعاً فى ساعة واحدة من الليل أو النهار فى قيام الليل؟. أو هل تعارض حديث طوافه مع كتاب الله عز وجل، كما يزعم أعداء السيرة العطرة؟. إن حديث طوافه صلى الله عليه وسلم، على نسائه جميعاً، يبين بياناً عملياً على ما سبق؛ القرآن الكريم {وعاشروهن بالمعروف} ويبين البيان العملى لخيرية وكمال أخلاقه وعصمته مع أهل بيته، كما قال: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى" إنه يبين كمال رأفته، وحبه، وعدله مع أهل بيته، كما صرحت بذلك عائشة رضى الله عنها "لا يفضل بعضنا على بعض فى القسم، من مكثه عندنا، وكان قل يوم يأتى إلا وهو يطوف علينا جميعاً، فيدنوا من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التى هو يومها، فيبيت عندها". كما أن الحديث يبين ما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضل به على سائر الناس من "قوة أربعين رجلاً فى البطش والجماع" والأمر هنا: ليس من عند نفسه، ولا من عند رواة السنة – رحمهم الله – وإنما من عند ربه عز وجل، وهو ما يفيده مجئ لفظ "أعطيت" بالبناء للمجهول. فتأمل. كما أنه ليس فى كثرة جماعه دليل على (هوسه بالجماع) على حد زعم أعداءه وأعداء عصمته صلى الله عليه وسلم؟.
لأن الأمر فى ذلك راجع إلى قيامه بواجب العدل بين أهل بيته، كما أنه يرجع إلى طبيعته البشرية، وما اختصه به ربه عز وجل، ولم يكن فى ذلك كله ما يشغله عن حق ربه عز وجل، فهو مع ما طبعت عليه بشريته من كثرة الجماع، فهو بالإجماع أعبد الناس، ولم يخل بعبادته شيئاً، لأنه صلى الله عليه وسلم، لم يكن يأتيها إلا على مشروعيتها، وهذا هو غاية العصمة والكمال فى البشرية. وتأمل مع ما سبق من أحاديث قيامه الليل، حديث عائشة رضى الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى، قام حتى تتفطر رجلاه، فقالت: يا رسول الله: أتصنع هذا، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً" (1) . صلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وسلم ورزقنى قدوة به فى تعدده وفى عدله مع أهل بيته
الفصل الخامس: شبهة الطاعنين فى حديث "مباشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نسائه فى المحيض"
الفصل الخامس: شبهة الطاعنين فى حديث "مباشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نسائه فى المحيض" والرد عليها ... روى البخارى ومسلم - رحمهما الله - عن عائشة رضى الله عنها، قالت: "كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يباشرها، أمرها أن تتزر (1) فى فور حيضتها (2) ثم يباشرها. قالت: وأيكم يملك إربه (3) كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يملك إربه" (4) . ... هذا الحديث وما فى معناه، الذى يبين حدود علاقة الرجل بزوجته وهى حائض، والأحكام المتعلقة بحيضتها، طعن فيه أعداء السنة بحجة أنه يطعن فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلوكه، ويخالف بزعمهم القرآن الكريم.
.. يقول أحمد صبحى منصور: "فالبخارى هنا يسند تلك الروايات لأمهات المؤمنين ليجعلهن شهود على أن النبى كان يباشرهن وهن حائضات، ويجعل عائشة فى إحدى الروايات تشير إلى خصوصية النبى الجنسية – فى زعمه – بقولها: "وأيكم يملك إربه كما كان النبى يملك إربه". ... وفى روايات أخرى يجعل البخارى من النبى ملازماً لنسائه لا يفترق عنهن حتى فى المحيض. فيروى أن أم سلمة قالت: "بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعة فى خميصة (1) إذ حضت، فانسللت (2) فأخذت ثياب حيضتى، قال: أنفست؟ (3) قلت: نعم. فدعانى فاضطجعت معه فى الخميلة" (4) .
.. يقول أحمد صبحى: وهكذا لا عمل أمام النبى ولا مسؤوليات ملقاة على عاتقه إلا أن يجلس فى الخميلة مع إحدى زوجاته، ولا يمنعه من ذلك حيض أو غيره، بل هناك أكثر من ذلك. يفترى البخارى أن عائشة قالت: "كان النبى صلى الله عليه وسلم، يتكئ فى حجرى وأنا حائض ثم يقرأ القرآن" (1) هكذا ضاقت كل الأماكن واشتد الزحام بحيث يلجأ النبى إلى ذلك تلك هى سنة الرسول التى كتبها البخارى، فما هى سنته فى القرآن؟ يقول تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (2) لم يقل رب العزة "فاعتزلهن" فقط، وإنما أيضاً: "ولا تقربوهن". ... ونحن نؤمن بأن النبى طبق هذه السنة التى فرضها الله عليه، أما البخارى فيؤكد من خلال أحاديثه أن النبى لم يطبق شرع الله. ولكل إنسان أن يختار. هل ينتصر لله ورسوله، أم ينصر البخارى فى كذبه على الله ورسوله" (3) وبنفس كلامه قال غيره من أعداء السيرة العطرة (4) . ويجاب عن ما سبق بما يلى:
أولاً: الإمام البخارى – رحمه الله – لم يخترع، ولم يؤلف، الأحاديث السابقة وغيرها الواردة فى بيان حدود علاقة الرجل بزوجته أثناء حيضتها، والمبينة الأحكام الشرعية المتعلقة بفترة حيض المرأة. ... لقد نقل البخارى – كما نقل غيره من رواة السنة – ما سمعه من شيوخه الثقات مما سمعوه من شيوخهم إلى أن وصل النقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى الصحابى الذى روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ... ولنا أن نتساءل. لماذا كل هذا الحقد، والتشنيع على الإمام البخارى، مع أن غيره من علماء الحديث شاركه فى رواية هذه الأحاديث المتعلقة بأحكام الحيض؛ والتى أوردتها جميع كتب الجوامع والسنن تحت اسم كتاب "الحيض"؟. ... إن كل هذا الحقد الذى يظهروه فى حق الإمام البخارى، هو جزء يسير مما تخفيه صدورهم نحو عدائهم لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولرواتها من الأئمة الأعلام قديماً وحديثاً. ثانياً: ما نقله رواة السنة المطهرة، وعلى رأسهم الإمام البخارى، من الأحاديث المبينة الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة أثناء حيضتها، دين واجب ذكره لتتعلم الأمة المراد بخطاب ربها: {ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإن تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (1) . ... وفى البيان المنقول إلينا ما يبين عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلوكه وهديه ومحاسن أخلاقه الباطنة مع أهل بيته على ما سيأتى بعد قليل. ثالثاً: ليس فى حديث مباشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسائه فى المحيض ما يتعارض مع قوله تعالى: {فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن} بل فى هذا الحديث وغيره البيان العملى للآية الكريمة.
.. وهذا البيان كما هو معلوم؛ من مهامه صلى الله عليه وسلم فى رسالته، لقوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (1) فهل فى بيانه صلى الله عليه وسلم، للآية الكريمة، ونقل هذا البيان بالسند الصحيح، ما يشوه سيرته العطرة؟ أو يطعن فى عصمته فى سلوكه وهديه كما يزعم أعداء السنة؟. ... إن الآية الكريمة تتحدث عن وجوب اعتزال الرجل زوجته الحائض، وعدم الاقتراب منها، حتى تطهر من حيضتها. فهل الاعتزال وعدم الاقتراب هنا، كما هو مفهوم عند اليهود؟ من إهمال الزوجة الحائض، واعتبارها نجسة، فلا يأكل ولا يشرب معها، ولا يسكن معها فى بيت واحد؟. ... إن هذا السؤال ورد على لسان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو وارد على لسان كل مسلم إلى يوم الدين، كيف يتعامل مع زوجته الحائض؟ فجاءت الإجابة، وجاء البيان القولى والعملى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإباحة كل شئ من الزوجة الحائض إلا الجماع.
.. فعن أنس بن مالك رضى الله عنه، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لو يؤاكلوها، ولم يجامعوهن فى البيوت. فسأل أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، النبى صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} …الآية (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شئ إلا النكاح" فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر، فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول كذا وكذا. فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ظننا أن قد وجد عليهما (2) فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فأرسل فى آثارهما. فسقاهما. فعرفا أن لم يجد عليهما" (3) . فتأمل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شئ إلا النكاح" إنها كلمة جامعة جاءت جواباً عن موقف اليهود من المرأة الحائض، وجاءت تفسيراً وبياناً لقول رب العزة: {فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} فقوله: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} تفسير لقوله: {فاعتزلوا النساء فى المحيض} والمراد: اعتزالهن، وعدم قربانهن بالجماع مادام الحيض موجوداً (4) . ... وهذا يعنى أن المراد بالاعتزال وعدم القران، إنما المراد به الفرج فقط، وما عدا ذلك من مؤاكلة، ومشاربة، واجتماع معهن فى البيوت، ومباشرتهن، ونحو ذلك، فهو حلال كما قال المعصوم صلى الله عليه وسلم، "اصنعوا كل شئ إلا النكاح".
.. وتأمل: كيف تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلمة عباد بن بشر، وأسيد بن حضير، لما طلبا الرخصة فى الوطء أيضاً تتميماً لمخالفة الأعداء "إن اليهود تقول كذا وكذا. فلا نجامعهن؟ " فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن تلك الرخصة مخالفة لكتاب الله عز وجل باعتزال النساء فى المحيض، وعدم قربانهن بالجماع!. ... وعندما ظنا رضى الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غضب عليهما بعث فى آثارهما رسولاً ليحضرا عنده، فسقاهما من لبن جاء إليه هدية، فعرفا حينئذ أنه صلى الله عليه وسلم، لم يغضب عليهما. ... وفى هذا الحديث النبوى القولى: "اصنعوا كل شئ إلا النكاح" والذى جاء تفسيراً وبياناً للآية الكريمة، طبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عملياً، فجاء بيانه للآية الكريمة {فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن} بياناً قولياً وعملياً. ... وإليك نماذج من هذا البيان العملى: بيانه صلى الله عليه وسلم عملياً طهارة جسد المرأة الحائض، وجواز النوم معها فى ثيابها، والاضطجاع معها فى لحاف واحد، وذلك ما دل عليه حديث أم سلمة السابق، عندما حاضت، وذهبت فى خفية لتأخذ ثياب حيضتها، وظننت عدم جواز نومها وهى حائض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذ به عليه الصلاة والسلام، يقول لها: أنفست؟ فتقول: نعم. فيدعوها رسول الله صلى الله عليه وسلم، للنوم معه فى لحاف واحد كما قالت: "فدعانى فاضطجعت معه فى الخميلة" (1) .
فهذا الفعل وقع منه صلى الله عليه وسلم، للبيان التشريعى للآية الكريمة، ورداً على ما فهمته أم سلمة، من عدم طهارتها جسدياً عندما حاضت، وظنت عدم جواز نومها مع زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى لحاف واحد. وليس الأمر كما يزعم أعداء عصمته، بأن الأماكن ضاقت به صلى الله عليه وسلم، ولا مسئولية ملقاة على عاتقه، إلا أن يجلس فى الخميلة مع إحدى زوجاته، ولا يمنعه من ذلك حيض أو غيره!. وقد دل على ذلك البيان التشريعى أيضاً قول ميمونة زوج النبى صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يضطجع معى وأنا حائض، وبينى وبينه ثوب" (1) ودل عليه أيضاً قول عائشة رضى الله عنها "كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، نبيت فى الشعار (2) الواحد، وأنا طامث (3) أو حائض فإن أصابه منى شئ غسل مكانه ولم يعده (4) وصلى فيه، ثم يعود، فإن أصابه منى شئ فعل ذلك، ولم يعده، وصلى فيه" (5) .
وفى هذا الحديث الأخير: زيادة على حديث أم سلمة وميمونة رضى الله عنهما، وتلك الزيادة هى بيان الحكم للرجل إذا أصاب ثوبه شئ من حيض زوجته وهى نائمة معه فى لحاف واحد، فما عليه إلا بغسل مكان ما أصابه من دم الحيض فقط ولا يتجاوزه، وإذا صلى مع ذلك صحت صلاته. ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، عملياً صحة الصلاة فى المكان الذى توجد فيه المرأة الحائض، بل وصحة الصلاة فى ثوبها. فعن عائشة رضى الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلى بالليل، وأنا إلى جنبه، وأنا حائض، وعلى مرط (1) لى، وعليه بعضه" (2) . وعن ميمونة زوج النبى صلى الله عليه وسلم، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مرط بعضه عليه، وعليها بعضه، وهى حائض" (3) .
ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، عملياً جواز مؤاكلة الحائض، والشرب من فضلها فتقول عائشة رضى الله عنها: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبى صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع فى. فيشرب وأتعرق العرق (1) وأنا حائض، ثم أناوله النبى صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع فىَّ" (2) . ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، عملياً جواز تسريح وغسل الحائض رأس زوجها. فتقول عائشة رضى الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنى إلىَّ رأسه، وأنا فى حجرتى. فأرجله (3) وأغسله وأنا حائض" (4) . ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، عملياً طهارة ذات المرأة الحائض، وطهارة ثيابها ما لم يلحق شيئاً منها نجاسة، وذلك كله دل عليه عندما كان صلى الله عليه وسلم، معتكفاً فى المسجد، وطلب من زوجته عائشة رضى الله عنها أن تناوله ثوب من حجرته. فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد. فقال: يا عائشة! ناولينى الثوب" فقالت: إنى حائض. فقال: "إن حيضتك ليست فى يدك" فناولته" (5) . ففى قوله: "إن حيضتك ليست فى يدك" معناه: أن النجاسة التى يصان المسجد عنها – وهى دم الحيض – ليست فى يدها، فدل ذلك على أن ذات الحائض طاهرة.
وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ فى حجرى وأنا حائض. فيقرأ القرآن" (1) . ففى هذا الحديث دلالة واضحة على جواز ملامسة الحائض، وأن ذاتها وثيابها على الطهارة، ما لم يلحق شيئاً منها نجاسة، كما فى الحديث دلالة واضحة على جواز قراءة القرآن بقرب محل النجاسة (2) وكل هذا منه صلى الله عليه وسلم، للبيان التشريعى الذى هو من مهامه فى رسالته، وليس الأمر كما يزعم أعداء عصمته، بأن الأماكن ضاقت به حتى لجأ إلى حجر عائشة يقرأ فيه القرآن!. ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، عملياً ما للرجل من امرأة إذا كانت حائضاً فتأتى رواية عائشة السابقة، لتبين بأنه صلى الله عليه وسلم كان يباشر نسائه فوق الإزار (3) وتأتى رواية أنس السابقة "اصنعوا كل شئ إلا الجماع" (4) لتبين جواز المباشرة تحت الإزار دون الفرج، ويؤيده ما رواه أبو داود بإسناد قوى (5) . عن عكرمة عن بعض أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، أن النبى صلى الله عليه وسلم، كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً" (6) ولا تعارض فى ذلك فرواية عائشة محمولة على الاستحباب، لمن لا يضبط نفسه عند المباشرة من الفرج، أما من وثق من نفسه، جاز له المباشرة تحت الإزار دون الفرج (7) . ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم، كان أملك الناس لإربه، فهذا من خصائصه، كما صرحت عائشة رضى الله عنها، رغم أنف المنكرين لذلك (8) .
وبعد: ... فهذا بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قولاً وعملاً لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن} (1) وهو بيان يهم كل مسلم ومسلمة، وعنه سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قديماً ورجعوا إليه (2) وعنه يسأل كل مسلم ومسلمة إلى يوم الدين. ... فليختر كل إنسان لنفسه؛ إذا حاضت أخته، أو زوجته، أو أمه، أو خالته، أو… الخ هل يعتزلهن فلا يؤاكلهن ولا يشاربهن ولا يساكنهن فى بيت واحد – كما هو حال اليهود؟ أم يكون له قدوة وأسوة بسنة وسيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم؟!. ... إن سنة وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى معاملة المرأة الحائض تمثل قمة التكريم للمرأة، كما تمثل عظمة أخلاقه، وعصمته صلى الله عليه وسلم فى سلوكه مع أهل بيته، إذا أصابهن ما كتبه رب العزة على بنات آدم. ... فالمرأة فى فترة حيضتها، تكون شبه مريضة أو مريضة يصبها توعك وآلام تجعلها تشعر فى تلك الفترة بالهبوط والضيق.
.. كما أن أغلبية الرجال يشعرون بالاشمئزاز والنفور من الرائحة الشهرية المرافقة للطمث. وقليل منهم الذين يشعرون ببهجة وانجذاب. وشم هذه الرائحة الشهرية لا يقتصر على منطقة الأعضاء الجنسية، بل تمتد فى معظم النساء إلى إفرازات الجلد والنفس (1) وكل هذا ولا شك مما قد يفسد العلاقة بين الرجل وأهله فى تلك الفترة التى تعترى المرأة شهرياً. ... فهل تعتزل أخى المسلم: زوجتك الحائض فى تلك الفترة، فلا تؤاكلها، ولا تشاربها، ولا تساكنها، فى بيت واحد، مما قد يزيد الجفاء بينك وبين زوجتك؟. ... أم تمتثل لسنة وسيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم، مع أهل بيته فى تلك الفترة التى تحيض فيها المرأة؛ فيكون لذلك أطيب الأثر فى العلاقة بينك وبين أهل بيتك، ويكون لك الأجر والهداية، والفلاح، جزاء امتثالك وطاعتك لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم؟ اختر لنفسك ما شئت. اللهم ارزقنى القدوة بنبيك مع أهل بيتى
الفصل السادس: شبهة الطاعنين فى حديث "دعوته صلى الله عليه وسلم لعائشة استماع الغناء والضرب بالدف"
الفصل السادس: شبهة الطاعنين فى حديث "دعوته صلى الله عليه وسلم لعائشة استماع الغناء والضرب بالدف" والرد عليها ... روى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندى جاريتان تغنيان (1) بغناء بعاث (2) فاضطجع على الفراش (3) وحول وجهه. ودخل أبو بكر فانتهرنى وقال: مزمارة الشيطان (4) عند النبى صلى الله عليه وسلم! فأقبل عليه (5) فقال: دعهما. فلما غفل غمرتهما فخرجتا. وكان يوم عيد يلعب فيه السودان (6) بالدرق (7) والحراب، فإما سألت (8)
النبى صلى الله عليه وسلم، وإما قال: تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم. فأقامنى وراءه، خدى على خده، وهو يقول: دونكم يا بنى أرفدة (1) حتى إذا مللت قال: حسبك؟ (2) قلت: نعم. قال: فاذهبى" (3) . ... هذا الحديث الذى يبين محاسن ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته. طعن فيه بعض أدعياء العلم بحجة أنه يطعن فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلوكه، حيث أن الحديث فى نظرهم ينسب إليه صلى الله عليه وسلم، استماعه وفى عقر داره إلى الغوانى يتغنين، كما ينسب إليه فى نظرهم دعوته زوجته الشابة إلى مشاهدة حفلة راقصة فى المسجد… الخ. ... يقول عبد الحسين شرف الدين الموسوى: "إن رسول الله أبعد عن اللعب، وأرفع عن العبث، وأعرف بحرمات الله ورسوله من أن يوسع للجهال مجالاً إلى اللهو فى المسجد بمحضر منه، وإن أوقاته الشريفة المفعمة بالمهمات الأخروية والدنيوية، لا يتسع للهو منها شئ، وحاشا لله أن يشغل مسجده الشريف بعبث أو لهو أو لغو {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} (4) .
.. ويقول هشام آل قطيط: "كيف يتسنى لأم المؤمنين، بعد وقوفها وراء النبى أن تضع خدها على خده؟ هل كانت أطول قامة من النبى؟ أم أنها تشبثت بعنقه كما يتشبث الأطفال بعنق الكبار فى لعبة الـ (……) ؟. ... ولأن أم المؤمنين لم تتطرق لذلك، ولم نحضر المشهد، فالأفضل أن نقول: لا ندرى! وكيف للخليفة أبى بكر أن يمنع المغنيات فى بيت النبى وبحضوره والنبى ساكت لا يتكلم. ... هل أن أبا بكر أفضل من النبى؟ وأى نبى هذا الذى يسكت وأحد أصحابه يمنع المغنيات؟ وأى نبى هذا الذى يدعوا زوجته الشابة إلى مشاهدة هذه الحفلة الراقصة فى المسجد والنظر إلى الأجانب، وتضع خدها على خده، ثم يقوم حتى تملى هى من المشاهدة؟ بالله عليكم ألا ينطبق على هذه الأحاديث قول الشاعر: إذا كان رب البيت بالدف ضارباً ... *** ... فشيمة أهل البيت كلهم الرقص؟ (1) . ... ويجاب عن ما سبق بما يلى: أولاً: الحديث صحيح سنداً ومتناً ولا يتعارض مع عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى سلوكه وهديه، بل فيه البيان العملى مع أهل بيته، لما هو مباح للأمة فى أيام العيد. ... وهذا البيان فهمه أئمة السنة قديماً وحديثاً بما لا يتعارض مع عصمته صلى الله عليه وسلم، وتأمل مواضع إخراج هذا الحديث فى كتب السنة تجد صدق ما أقول؛ فالإمام البخارى أخرج الحديث فى عدة مواضع من صحيحه أولها كتاب العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد، ثم كرره فى باب سنة العيدين لأهل الإسلام.
.. وهو كما ترى صريح فى بيان أن حديث عائشة، يستفاد منه السنة والشرع لأهل الإسلام فى العيدين، من جواز اللعب واللهو والرقص والغناء، بما لا معصية فيه؛ وهذا ما تضمنه عنوان الباب الذى ذكر تحته الحديث من صحيح الإمام مسلم، فى كتاب العيدين. ... ومن هنا صرح العلماء؛ بأن إظهار السرور فى الأعياد من شعار الدين (1) وقولهم هذا مستفاد صراحة من هذا الحديث، على ما جاء فى رواية مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "دعهما يا أبا بكر فإنهما أيام عيد" (2) ففى ذلك تعليل الأمر بتركهما، بأنه يوم عيد، أى: هو وقت سرور. وهناك من العلماء من قاس على يوم العيد فى إظهار السرور، ما فى معناه كيوم العرس (3) والوليمة والعقيقة والختان، ويوم القدوم من السفر (4)
وسائر أسباب الفرح، وهو كل ما يجوز به الفرح شرعاً (1) . ... فمن أين نعرف مثل هذه الأحكام إلا من هذا الحديث وما فى معناه!. ثانياً: ليس فى إنكار الصديق رضى الله عنه على عائشة رضى الله عنها، وما معها من الجوارى وبحضوره صلى الله عليه وسلم، إفتئات على رسول الله، بل هو أدب من أبى بكر ورعاية منه لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلال لمنصبه، لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو فى بيته صلى الله عليه وسلم، فبادر إلى إنكار ذلك قياماً عن النبى صلى الله عليه وسلم، مستنداً بذلك إلى ما ظهر له، كما يحتمل أن يكون أبو بكر ظن ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نام فخشى أن يستيقظ فيغضب على ابنته، فبادر إلى سد هذه الذريعة، فأوضح له النبى صلى الله عليه وسلم الحال، وعرفه الحكم مقروناً ببيان الحكمة بأنه يوم عيد، أى يوم سرور شرعى، فلا ينكر فيه مثل هذا، كما لا ينكر فى الأعراس ونحوها مما يجوز به الفرح شرعاً على ما سبق.
.. وبهذا يرتفع الإشكال أيضاً عن إنكار عمر بحضرته صلى الله عليه وسلم فى نفس القصة، على ما روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: "رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يسترنى وأنا أنظر إلى الحبشة، وهم يلعبون فى المسجد، فزجرهم عمر (1) فقال النبى صلى الله عليه وسلم، دعهم. أمنا بنى أرفدة" يعنى من الأمن (2) يشير إلى أن المعنى: اتركهم من جهة إنا آمناهم أمناً. ... فإنكار عمر هنا مبنى على أن الأصل تنزيه المساجد عن اللعب فيها بالحراب، فبين له رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه الجواز. ... كما يحتمل أن يكون عمر لم يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلم أنه رآهم، كما يحتمل أن يكون إنكاره لهذا شبيه إنكاره على المغنيتين، وكان من شدته فى الدين ينكر خلاف الأولى، والجد فى الجملة أولى من اللعب المباح. وأما النبى صلى الله عليه وسلم، فكان بصدد بيان الجواز (3) . ثالثاً: ليس فى الحديث ما يزعمه دعاة الفتنة من استماع رسول الله صلى الله عليه وسلم، للباطل من الغناء على لسان المغنيات بدلالة ما يلى:
ما ورد فى الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم، تسجى بثوبه، أى: التف به حتى غطى وجهه وأذنه، ففى ذلك إعراض عن ذلك؛ لكون مقامه يقتضى أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك، لكن عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذى أقره إذ لا يقر على باطل!. كما أن فى إعراضه بتغطية وجهه وأذنه؛ بيان لكمال رأفته صلى الله عليه وسلم، وحلمه، وحسن خلقه، مع زوجته عائشة وصواحباتها، لئلا يستحيين فيقطعن ما هو مباح لهن (1) . وحتى على فرض استماعه صلى الله عليه وسلم، لغناء الجوارى، فالغناء هنا من نوع المباح وجاء على لسان ممن لم يتخذا الغناء عادة لهما. يدل على ذلك. ما ورد فى الحديث من قول عائشة رضى الله عنها: "وعندى جاريتان من جوارى الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين" (2) ففى قولها: "وليستا بمغنيتين" معناه: ليس الغناء عادة لهما، ولا هما معروفتان به، وإنما كان غناؤهما بما هو من أشعار الحرب، والمفاخرة بالشجاعة، والظهور والغلبة، وهذا لا يهيج الجوارى على شر، ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه، وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد، ولهذا قالت: "وليستا بمغنيتين" أى ليستا ممن يتغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى، والتعريض بالفواحش، والتشبيب بأهل الجمال، وما يحرك النفوس، ويبعث الهوى والغزل، وليستا أيضاً ممن اشتهر وعرف بإحسان الغناء الذى فيه تمطيط وتكسير، وعمل يحرك الساكن، ويبعث الكامن، ولا ممن اتخذ ذلك صنعة وكسباً، والعرب تسمى الإنشاد غناء وليس هو من الغناء المختلف فيه، بل هو مباح، وقد استجازت الصحابة غناء العرب الذى هو مجرد الإنشاد والترنم، وفعلوه بحضرة النبى صلى الله عليه وسلم، وفى هذا كله إباحة (3) .
فتأمل ما ورد فى الحديث: من أنه صلى الله عليه وسلم، تسجى بثوبه، واضطجع على الفراش وحول وجهه الشريف، وقول عائشة: "ليستا بمغنيتين" حيث نفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ، تحرزاً عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به. تأمل ذلك جيداً يظهر لك بطلان ما زعمه أدعياء العلم، ودعاة الفتنة، فى حق أئمة السنة، وفى حق صاحبها صلى الله عليه وسلم، كما يظهر لك سوء فهمهم لحديثنا؟ وإلا فليأتوا لنا بما يخالف ما ورد فى الحديث؛ من أنه صلى الله عليه وسلم، لم يتسجى بثوبه، ولم يحول وجهه، واستمع إلى مغنيات معروفات بالغناء، وتغنين بعادة المغنيات، مما يحرك النفوس، ويبعث الهوى والغزل، لا مجرد جوارى لا يعرفن بالغناء، ولا هو عادة لهما، وكل ما فعلنه أن رفعن أصواتهن بإنشاد ما هو من أشعار الحرب والمفاخرة بالشجاعة والظهور والغلبة يوم بعاث؟!.
رابعاً: إن حديثنا يبين عصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى سلوكه وهديه، ويبين ما كان عليه من الرأفة، والرحمة، وحسن الخلق، والمعاشرة بالمعروف مع أهل بيته امتثالاً لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} (1) وخصوصاً إذا كان أهل بيته صغار السن كعائشة القائلة على ما جاء فى رواية مسلم فى ختام حديثنا "فاقدروا قدر الجارية، الحديثة السن، حريصة على اللهو" (2) . ... ولذا لما رأت بعض الحبشة يرقصن فى المسجد، والصبيان حولهم يشاهدون، التمست من رسول الله صلى الله عليه وسلم، النظر إليهم، فأذن لهى، على ما جاء فى رواية مسلم فى حديثنا: "قالت: للعابين، وددت أنى أراهم قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقمت على الباب أنظر بين أذنيه وعاتقه. وهم يلعبون فى المسجد".
.. وتبين رواية النسائى فى سننه الكبرى، كيف تسنى لها بعد وقوفها وراء النبى صلى الله عليه وسلم، أن تضع خدها على خده، مع قصر قامتها إذ تقول: "لعبت الحبشة، فجئت من ورائه صلى الله عليه وسلم، فجعل يطأطئ ظهره، حتى أنظر" (1) . ... وفى تلك الرواية رد على تساؤل هشام آل قطيط: هل كانت أطول قامة من النبى؟ أم أنها تشبثت بعنقه… الخ (2) كما جاء فى رواية للنسائى فى سننه الكبرى أيضاً أنها قالت: "دخل الحبشة المسجد يلعبون، فقال لى: "يا حميراء! أتحبين أن تنظرى إليهم؟ " فقلت: نعم، فقام بالباب، وجئته، فوضعت ذقنى على عاتقه، فأسندت وجهى إلى خده، قالت: ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيباً، فقال صلى الله عليه وسلم: "حسبك" فقلت: يا رسول الله، لا تعجل، فقام لى، ثم قال: "حسبك" فقلت: لا تعجل يا رسول الله، قالت: ومالى حب النظر إليهم، ولكى أحببت أن يبلغ النساء مقامه لى، ومكانى منه" (3) .
.. ففى تلك الرواية تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم، ابتدأها بالنظر إلى لعب الحبشة فى المسجد، ولا تعارض بينها، وبين رواية مسلم السابقة، فالجمع بينهما على ما سبق أنها التمست من رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهم، فأذن لها. خامساً: إقرار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، للحبشة اللعب فى المسجد بالحراب، ليس لمجرد اللعب، بل لم فيه من تدريب الشجعان على مواقع الحروب، والاستعداد للعدو. ... واللعب بالسلاح ونحوه من آلات الحرب؛ وإن كان لا يناسب بيوت الله فى زماننا – إلا أنه يستفاد من إقراره صلى الله عليه وسلم للحبشة اللعب فى المسجد بالحراب، أن لعب الصبيان فى المسجد يوم العيد ليس فيه انتهاك لحرمة بيوت الله، ولا يعارضه حديث: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وشراركم، وبيعكم، وخصوماتكم؛ ورفع اصواتكم وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها فى الجمع" (1) لضعفه (2) . ... كما أن العلماء استفادوا من إقراره صلى الله عليه وسلم، جواز أى عمل فى المسجد يجمع بين منفعة الدين وأهله، لأن المسجد إنما وضع لأمر جماعة المسلمين (3) .
سادساً: إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم، لزوجته أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، النظر إلى لعب الحبشة، فيه بيان لحسن خلقه مع أهله وكرم معاشرته، وفضل عائشة، وعظيم محلها عنده صلى الله عليه وسلم، وليس فى نظرها إلى لعب الحبشة، ما يتعارض مع احتجابها من النظر إلى الأجانب، لأنه ليس فى الحديث أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم، وإنما نظرت لعبهم وحرابهم، ولا يلزم من ذلك تعمد النظر إلى البدن، وإن وقع النظر بلا قصد صرفته فى الحال. ... ومن هنا استفاد العلماء من ذلك، إباحة الرجل لزوجته النظر إلى اللعب واللهو المباح، إذ المكروه فى حق النساء النظر إلى محاسن الرجال، والاستلذاذ بذلك (1) . وبعد: ... فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عصمه ربه فى سلوكه وهديه، وجعله قدوة لأمته، ومبيناً لما أنزل عليه من آيات الله البينات وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهذا البيان قولاً وعملاً على أكمل وجه. ... فكان حديثنا بياناً عملياً لقول رب العزة: {وعاشروهن بالمعروف} (2) وبياناً عملياً لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله" (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى" (4) .
.. حيث بين حديثنا للأمة أن حسن الخلق فى تطييب قلوب النساء والصبيان بمشاهدة اللعب، أحسن من خشونة الزهد، والتقشف فى الامتناع والمنع منه؛ وخاصة فى أيام العيد، ويقاس على أيام العيد سائر أسباب الفرح، مما يجوز به الفرح شرعاً، شريطة أن يكون هذا اللعب واللهو مما لا معصية فيه، ففى الحديث: "كل شئ ليس فيه ذكر الله، فهو لهو ولعب، إلا أربع، ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشيه بين الغرضين (1) وتعليم الرجل السباحة" (2) . ... كما أن حديثنا بياناً عملياً لقوله تعالى: {فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} (3) حيث أفاد إقراره صلى الله عليه وسلم، للحبشة اللعب فى المسجد، أن كل ما فيه منفعة للدين وأهله، إذا وقع فى بيت الله عز جل، فلا يعارض الآية الكريمة، كما لا يعد انتهاك لحرمة المسجد. ... فهنيئاً لمن اقتدى به صلى الله عليه وسلم، وامتثل لهديه مع أهل بيته، فكان من أكمل المؤمنين إيماناً بحسن خلقه، ولطفه بأهل بيته أهـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
الفصل السابع: شبهة الطاعنين فى حديث "اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة"
الفصل السابع: شبهة الطاعنين فى حديث "اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة" والرد عليها ... روى البخارى ومسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "اللهم! إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته، أو جلدته، فاجعلها له زكاة ورحمة" (1) . ... هذا الحديث الذى يبين كمال شفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أمته، طعن فيه أعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة، وزعموا أنه موضوع، وفيه تشويه لصورة الرسول، وطعن فى عصمته فى سلوكه وهديه، إذ لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا لعاناً ولا سباباً.
.. يقول نيازى عز الدين بعد أن ذكر روايات الحديث السابق قال: "إن وراء هذه الأحاديث منافقين غايتهم تشويه صورة الرسول خدمة لسلطانهم (1) حتى إذا سب وشتم ولعن وجلد أحداً حتى لو كان بريئاً، استشهد جنوده عليه بأحاديث الرسول هذه، على أن السلطان قد تفضل عليه بذلك الجلد، وتلك الإهانة خيراً كثيراً" (2) . ... ويقول جعفر مرتضى العاملى: "نعم، ربما يلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعض المنافقين، وفراعنة الأمة… لكن أتباعهم وضعوا الحديث الذى صيروا فيه اللعنة زكاة، ليعموا على الناس أمرهم، ويجعلوا لعن النبى صلى الله عليه وسلم لغواً، ودعاءه على معاوية بأن لا يشبع الله بطنه باطلاً، فجزاهم الله تعالى عن نبيهم ما يحق بشأنهم" (3) .
.. ويقول عبد الحسين شرف الدين: "قد علم البر والفاجر، والمؤمن والكافر، أن إيذاء من لا يستحق من المؤمنين أو جلدهم أو سبهم أو لعنهم على الغضب ظلم قبيح، وفسق صريح، يربأ عنه عدول المؤمنين، فكيف يجوز على سيد النبيين، وخاتم المرسلين؟ وقد قال: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" (1) وعن أبى هريرة قال: قيل يا رسول الله! ادع على المشركين، قال: إنى لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة" (2) هذه حاله مع المشركين، فكيف به مع من لا يستحق من المؤمنين؟ " (3) . ... ويجاب عن ما سبق بما يلى: أولاً: الحديث صحيح سنداً ومتناً وثابت بأصح الأسانيد فى أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل فقد رواه الشيخان فى صحيحيهما، ولا يصح لنا أن نكذب البخارى ومسلم وروايتهما، اعتماداً على رأى ليس له من حظ فى توثيق الأخبار، وإقرار الحقائق من قريب أو بعيد.
ثانياً: لم ينفرد أبى هريرة رضى الله عنه برواية الحديث، وإنما شاركه فى روايته جماعة من الصحابة: عائشة (1) وجابر بن عبد الله (2) وأبى سعيد الخدرى (3) وأنس بن مالك (4) وأبى السوار عن خاله (5) . ثالثاً: ليس فى حديثنا ما يشوه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصمته فى أخلاقه، لأنه لا خلاف فى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمور بالغلظة على الكفار والمنافقين عملاً بقوله تعالى: {يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} (6) .
.. ولقد تكررت هذه الآية فى القرآن مرتين، فيهما "واغلظ عليهم" ولا مانع من أن يكون، من هذا الإغلاظ سبهم ولعنهم، بدليل ما ورد فى السنة المطهرة، من أنه صلى الله عليه وسلم، كان يدعو على رجال من المشركين، يسميهم بأسمائهم حتى أنزل الله تعالى: {ليس لك من الأمر شئ أو يتوب الله عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} (1) وليس فى الآية الكريمة نهى عن اللعن، وإنما النهى حسب سبب النزول، عن تعيين أسماء من يلعنهم، لعل الله أن يتوب عليهم (2) أو يعذبهم فى الدنيا بقتلهم، وفى الآخرة بالعذاب الأليم، فإنهم ظالمون. ... وتأمل ختام الآية: {فإنهم ظالمون} والظالمون لعنهم رب العزة بصفتهم دون أسمائهم فى أكثر من آية منها: قوله تعالى: {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} (3) . وقوله عز وجل: {ألا لعنة الله على الظالمين} (4) .
هذا فضلاً عن الآيات التى تلعن اليهود، وتلعن الكاذبين والكافرين، وتلعن بعض عصاة المؤمنين كالذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات وغيرهم. كقوله تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا} (1) وقوله سبحانه: {لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} (2) وقوله عز وجل: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} (3) . وقوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا فى الدنيا والآخرة} (4) وقوله سبحانه: {والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين} (5) .
وجاءت السنة المطهرة، وعلى لسان صاحبها المعصوم صلى الله عليه وسلم، تلعن من لعنهم الله فى كتابه، ومنهم عصاة المؤمنين بصفتهم دون تعيين أشخاصهم، حيث جاء لعن الله ولعن رسول الله للسارق (1) والواصلة والواشمة (2) ولعن من لعن والديه، ومن ذبح لغير الله، ومن آوى محدثاً، ومن غير منار الأرض (3) والشارب الخمر (4)
والراشى والمرتشى (1) ومن حلق أو سلق أو خرق (2) ومن مثل بالحيوان (3) وغيرهم ممن هو مشهور فى الأحاديث الصحيحة (4) . فهذه الآيات والأحاديث تبين فى صراحة ووضوح جواز لعن من لعنهم الله فى كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فى سنته المطهرة بصفتهم دون تحديد أشخاصهم، وهذا الجواز فى حق الأنبياء وأممهم على السواء، فهو من اللعن المباح (5) .
وتأمل الآية السابقة: {لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} (1) فداود وعيسى عليهما السلام، لعنوا الذين كفروا من بنى إسرائيل، فإذا لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كفروا من قومه لم يكن بدعاً من الرسل: وإذا لعن العصاة من هذه الأمة كما ورد فى القرآن الكريم، وكما أوحى إليه ربه بوحى غير متلو. كنحو الذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم بينة إلا أنفسهم، وكالذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، وكنحو الواصلة والواشمة، والسارق، ومن لعن والديه…الخ. إذا لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل هؤلاء بصفتهم دون أشخاصهم كما أوحى إليه ربه – بوحى متلو أو غير متلو – لم يكن فى ذلك ما يشوه سيرته العطرة، ولا ما يطعن فى عصمته فى سلوكه وهديه وخلقه. لأن المنهى عنه من اللعن تحديد أسماء من يلعن، دون صفة فعلهم، وقد جاء التوجيه الربانى لنبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، لعل الله أن يتوب عليهم، وهو ما حدث مع بعضهم على ما سبق فى حديث ابن عمر من رواية الترمذى. رابعاً: ليس فى حديثنا ما يعارض ما ورد فى أحاديث أخرى نحو حديث أبى هريرة قال: قيل يا رسول الله! ادع على المشركين قال: "إنى لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة" وحديث: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" لأن هذه الأحاديث مطلقة، وجاء ما يقيدها، وحمل المطلق على المقيد حينئذ واجب، جمعاً بين ما ظاهره التعارض.
.. أما حديث أبى هريرة: فقيده ما أخرجه الطبرانى فى الكبير من حديث كريز بن أسامة (1) قال: قيل للنبى صلى الله عليه وسلم، العن بنى عامر، قال: إنى لم أبعث لعاناً" (2) نعم! لم يبعث لعاناً لأناس بأشخاصهم، وإنما بعث رحمة، ولذا لما قالوا له صلى الله عليه وسلم: ادع على دوس، فقال: "اللهم اهد دوساً". ... فعن أبى هريرة قال: قدم الطفيل وأصحابه، فقالوا: يا رسول الله! إن دوساً قد كفرت وأبت. فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس فقال: "اللهم اهد دوساً، وائت بهم" (3) . ... أما حديث: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" فمقيد بما روى عن أبى ذر رضى الله عنه أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول: لا يرمى رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه (4) إن لم يكن صاحبه كذلك" (5) . ... ففى قوله: "إن لم يكن صاحبه كذلك" تقييد لابد منه، وهو يقرر ما سبق من جواز لعن العصاة بصفة فعلهم دون أشخاصهم، مع التحذير من هذا اللعن، خشية أن يكون صاحبه لا يستحقه بصفة فعله، فيعود اللعن إلى من نطق به.
.. والمعنى: من قال لآخر أنت فاسق، أو قال له أنت كافر، فإن كان ليس كما قال. كان هو المستحق للوصف المذكور، وأنه إذا كان كما قال، لم يرجع عليه شئ لكونه صدق فيما قال. ولكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك فاسقاً ولا كافراً، أن يكون آثماً فى صورة قوله له: أنت فاسق أو أنت كافر. بل فى هذه الصورة تفصيل: إن قصد نصحه أو نصح غيره، ببيان حاله جاز. وإن قصد تعييره وشهرته بذلك، ومحض أذاه لم يجز، لأنه مأمور بالستر عليه، وتعليمه وعظته بالحسنى، فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أن يفعله بالعنف، لأنه قد يكون سبباً لإغرائه وإصراره فى ذلك الفعل، كما فى طبع كثير من الناس من الأنفة، لاسيما إن كان الآمر دون المأمور فى المنزلة (1) . وكذلك من لعن آخر، فإن كان أهلاً لها، وإلا رجعت إلى قائلها يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن أبى الدرداء رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها؛ ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإذا لم تجد مساغاً، رجعت إلى الذى لعن، فإذا كان لذلك أهلاً، وإلا رجعت إلى قائلها" (2) .
خامساً: ليس فى حديثنا ما يعارض ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، أنه لم يكن فاحشاً، ولا لعاناً ولا سباباً" (1) لأن هذا الحديث مقيد أيضاً بما سبق من الآيات والأحاديث التى تبين مشروعية وجواز أن يعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أوحى إليه، لعنهم بصفتهم دون ذكر أسماءهم، سواء بوحى متلو أو غير متلو، على ما سبق، وقد جاء حديثنا مؤكداً لما سبق من الآيات والأحاديث، حيث جاء أيضاً مقيداً، بما رواه مسلم فى صحيحه من حديث أنس مرفوعاً: "فأيما أحد دعوت عليه من أمتى، بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهوراً، وزكاة، وقربة يقربه بها منه يوم القيامة" (2) . ... فقوله صلى الله عليه وسلم: "بدعوة ليس لها بأهل" تقييد يبين المراد بباقى الروايات المطلقة لحديثنا، وأنه إنما يكون دعاؤه رحمة، وكفارة، وزكاة ونحو ذلك، إذا لم يكن المدعو عليه، أهلاً للدعاء عليه، وكان مسلماً، وإلا فقد دعا على الكافرين والمنافقين، ولم يكن ذلك لهم رحمة (3) . ... وبالجملة: فكل ما سبق من الآيات والأحاديث – ومن بينها حديثنا – والتى تدل على مشروعية وجواز لعن عصاة الأمة. فيها رد على المخصيصين لعنه وسبه صلى الله عليه وسلم على الكافرين والمنافقين فقط (4) .
سادساً: فإن قيل: كيف يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم على من ليس هو بأهل للدعاء عليه أو يسبه أو يلعنه أو يجلده؟ فالجواب ما أجاب به العلماء من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى، وفى باطن الأمر، ولكنه فى الظاهر مستوجب له، فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية، ويكون فى باطن الأمر ليس أهلاً لذلك، وهو صلى الله عليه وسلم، مأمور بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، والأحاديث فى الدلالة على ذلك كثيرة، اكتفى منها بما روى عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: بعث على بن أبى طالب رضى الله عنه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من اليمن بذهيبة فقسمها بين أربعة، فقال رجل يا رسول الله، اتق الله. فقال: ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقى الله. ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد، يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا لعله أن يكون يصلى، فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس فى قلبه، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنى لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم" (1) . ... ففى قوله: "إنى لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" دلالة على ما أجمع عليه العلماء فى حقه صلى الله عليه وسلم، من الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر (2) .
والوجه الثانى: أنه أراد أن دعوته عليه، أو سبه، أو جلده، كان مما خير بين فعله له عقوبة للجانى، أو تركه والزجر له بما سوى ذلك فيكون الغضب لله تعالى، بعثه على لعنه وسبه، ولا يكون ذلك خارجاً عن شرعه. ويشهد لصحة هذا الوجه، ما رواه مسلم فى صحيحه بسنده عن عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلان فكلماه بشئ، لا أدرى ما هو، فأغضباه، فلعناهما وسبهما، فلما خرجا. قلت: يا رسول الله، ما أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هذان قال: وما ذاك؟ قالت: قلت لعنتهما وسببتهما. قال: أو ما علمت ما شرطت عليه ربى؟ قلت: اللهم! إنما أنا بشر. فأى المسلمين لعنته أو سببته، فاجعله له زكاة وأجراً" (1) . ... وفى المسند عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دفع إلى حفصة ابنة عمر رجلاً، فقال لها احتفظى به، قال: ففعلت حفصة، ومضى الرجل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا حفصة ما فعل الرجل؟ قالت: غفلت عنه يا رسول الله فخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قطع الله يدك، فرفعت يديها هكذا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما شأنك يا حفصة؟ فقالت: يا رسول الله! قلت قبل لى كذا وكذا، فقال لها: ضعى يديك. فإنى سألت الله عز وجل، أيما إنسان من أمتى دعوت الله عز وجل عليه أن يجعلها له مغفرة" (2) . ... فتأمل: كيف أن غضبه صلى الله عليه وسلم فى الحديثين السابقين، كان غضبة لله عز وجل، فكان دعاؤه فى تلك الغضبة، مما خير بين فعله عقوبة للجانى، أو تركه والزجر له بما سوى ذلك. ... وليس فى ذلك الغضب خروج عن شرعه، وعصمته فى سلوكه وخلقه، بل فى ذلك كمال خلقه، ودلالة على بشريته، كما صرح بذلك فى رواية مسلم عن أنس قال: "إنما أنا بشر. أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر".
.. ولا يفهم من قوله: "وأغضب كما يغضب البشر" أن الغضب حمله على مالا يجب، بل يجوز أن يكون المراد بهذا أن الغضب لله حمله على معاقبته بلعنه أو سبه، وأنه مما كان يحتمل، ويجوز عفوه عنه، أو كان مما خير بين المعاقبة فيه والعفو عنه (1) . ... ومع ذلك، فمن كمال شفقته، وخلقه على أمته، سأل ربه عز وجل، أن يجعل دعاءه مغفرة ورحمة لمن دعا عليه من أمته. والوجه الثالث: أن يكون اللعن والسب والجلد، وقع منه صلى الله عليه وسلم، من غير قصد إليه، فلا يكون فى ذلك، كاللعنة، والسبة، والجلدة، الواقعة بقصد ونية، ورغبة إلى الله، وطلباً للاستجابة، بل كل ذلك يجرى على عادة العرب فى وصل كلامها عند الحرج، والتأكيد للعتب، لا على نية وقوع ذلك نحو قولهم: عقرى حلقى، وتربت يمينك، فأشفق من موافقة أمثالها القدر، فعاهد ربه، ورغب إليه، أن يجعل ذلك القول رحمة وقربة (2) وأشار القاضى عياض إلى ترجيح هذا الوجه (3) وحسنه الحافظ ابن حجر؛ إلا أنه أخذ عليه أن قوله "جلدته" لا يتمشى فيه، إذ لا يقع الجلد عن غيره قصد… إلا أن يحمل على الجلدة الواحدة فيتجه (4) . ... قلت: هى محمولة على الجلدة الواحدة، وسيأتى من حديث أبى السوار عن خاله، وعن ابن عباس، أن الجلدة تقع منه صلى الله عليه وسلم، عن غير قصد، وهو ما يرجح عندى هذا الوجه الثالث مع الوجه الثانى ويشهد لرجحان الوجه الثالث ما يلى: ما روى عن أنس قال: "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحشاً، ولا لعاناً، ولا سباباً، كان يقول عن المعتبة: ماله ترب جبينه" (5) .
وعن المغيرة بن شعبة قال: "ضفت (1) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات ليلة، فأتى بجنب (2) مشوى، ثم أخذ السفرة (3) فجعل يحز، فحز لى بها منه. قال: فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فألقى الشفرة فقال: ماله؟ تربت يداه؟ قال: وكان شاربه قد وفى (4) فقال له: أقصه لك على سواك أو قصة على سواك" (5) "فترب جبينه" و"تربت يداه" فى الحديثين، أصلها من ترب الرجل، إذا افتقر، أى: لصق بالتراب، وهى كلمة جارية على ألسنة العرب، لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر به، كما يقولون قاتله الله (6) . وعن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله. آنؤاخذ بما نقول: قال: "ثكلتك أمك يا بن جبل، وهل يكب الناس فى النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"؟! (7) فقوله: "ثكلتك أمك" أى فقدتك. والثكل فقد الولد، هذا أصل الكلمة فهو دعاء عليه بالموت على ظاهره، ولا يراد وقوعه، بل تأديب وتنبيه من الغفلة، لسوء قوله (8) .
ومن ذلك حديث عائشة رضى الله عنها، لما قيل له صلى الله عليه وسلم، إن صفية زوجه – حائض – قال: عقرى حلقى" (1) فقوله: "عقرى" أى عقرها الله، وأصابها بجرح فى جسدها، وقيل جعلها عاقراً لا تلد، وقيل عقر قومها. ومعنى "حلقى" أى حلق شعرها، وهو زينة المرأة، أو أصابها وقوع فى حلقها، أو حلق قومها بشؤمها، أى أهلكهم (2) . فهذا أصل هاتين الكلمتين، ثم اتسع العرب فى قولهما، بغير إرادة حقيقتهما، ففى ذلك كله دلالة، على استعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جرت به العادة فى الخطاب، ولا يراد به حقيقته، فكثيراً ما ترد للعرب ألفاظ، ظاهرها الذم، وإنما يريدون بها المدح، كقولهم: لا أب لك، ولا أم لك، ونحو ذلك. فاشفق صلى الله عليه وسلم، على من دعا عليه، بمثل ما سبق، أن يوافق القدر، فسأل ربه عز وجل، أن يجعل ذلك القول رحمة وقربة، وهذا من جميل خلقه العظيم.
وفى المسند عن خال أبى السوار قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأناس يتبعونه، فأتبعته معه، قال: ففجئنى القوم يسعون، قال: وأبقى القوم، قال: فأتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربنى ضربة إما بعسيب أو قضيب أو سواك أو شئ كان معه، قال: فوالله ما أوجعنى قال: فبت بليلة، قال: وقلت ما ضربنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا لشئ علمه الله فى، قال: وحدثتنى نفسى أن آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أصبحت، قال: فنزل جبريل عليه السلام على النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: إنك راع، لا تكسرن قرون رعيتك، قال: فلما صلينا الغداة، أو قال أصبحنا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن إناساً يتبعونى، وإنى لا يعجبنى أن يتبعونى، اللهم فمن ضربت أو سببت، فاجعلها له كفارة وأجراً، أو قال مغفرة ورحمة، أو كما قال" (1) . فتأمل: كيف أن ضربه هنا كالجلدة، وقعت منه صلى الله عليه وسلم، من غير قصد ولا نية للإيذاء، حيث أقر المضروب؛ أنها لم توجعه، وقد دل الحديث على أن الجلدة، وقعت منه صلى الله عليه وسلم، عتاباً. على من تبعه، من قومه فى مقام، لم يعجبه صلى الله عليه وسلم، أن يتبعوه فيه. ومن هذا القبيل ما جاء فى ضربه صلى الله عليه وسلم، لعبد الله بن عباس رضى الله عنهما، ملاطفة وتأنيساً وحثاً له على سرعة إنجاز ما طلبه منه. فعن ابن عباس قال: "كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب، قال: فجاء فحطأنى – أى ضربنى باليد مبسوطة بين الكتفين – وقال: اذهب وادع لى معاوية… الحديث (2) .
7- ومن ذلك أيضاً، ما جاء فى حديث معاذ، وهل نؤاخذ بما تكلمت به ألسنتنا يا رسول الله؟ قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخذ معاذ، ثم قال: "يا معاذ ثكلتك أمك وما شاء الله أن يقول له من ذلك… الحديث" (1) . ... وفى الأحاديث السابقة رد على ما استدركه الحافظ على الوجه الثالث، بأن الجلد لا يقع عن غير قصد… الخ، فإن ذلك محمول كما هو ظاهر الأحاديث السابقة على الجلدة الواحدة، من غير قصد ولا نية للإيذاء إلا مجرد العادة الجارية أو التأكيد للعتب. وإذا حملت الجلدة فى الحديث على الواقعة بقصد ونية، وأكثر من جلدة، فيحمل الجلد حينئذ على الوجه الأول السابق، فيزول أيضاً اعتراض الحافظ على حسن الوجه الثالث. والله أعلم. 8- وعن أنس قال: كانت عند أم سليم يتيمة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة فقال: أنت هيه! لقد كبرت، لا كبر سنك. فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكى، فقالت أم سليم مالك يا بنية! قالت الجارية: دعى على نبى الله صلى الله عليه وسلم، أن لا يكبر سنى، فالآن لا يكبر سنى أبداً، أو قالت قرنى، فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها (2) حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: مالك يا أم سليم؟ فقالت: يا نبى الله! أدعوت على يتيمتى؟ قال: وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها، ولا يكبر قرنها، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أم سليم! أما تعلمين أن شرطى على ربى، أنى اشترطت على ربى فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر. وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه، من أمتى، بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهوراً وزكاة، وقربة يقربه بها منه يوم القيامة" (3) .
9- وعن ابن عباس رضى الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى معاوية ليكتب له فقال: إنه يأكل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أشبع الله بطنه"، زاد البيهقى فى الدلائل: فما شبع بطنه أبداً" (1) . ... فما ورد هنا فى حديث أنس من قوله: "لقد كبرت لا كبر سنك" وفى حديث ابن عباس "لا أشبع الله بطنه" الظاهر من هذا الدعاء، أنه وقع منه صلى الله عليه وسلم، بغير قصد ولا نية، بل هو مما جرت به عادة العرب فى وصل كلامها بلا نية؛ ومع ذلك أشفق نبى الرحمة من موافقة أمثالها إجابة، فعاهد ربه، كما فى روايات الحديث، أن يجعل ذلك للمقول له زكاة، ورحمة، وقربة، وهذا إنما يقع منه صلى الله عليه وسلم، فى النادر الشاذ من الزمان. ... وفيما سبق، فيه الكفاية للدلالة على ترجيح الوجه الثالث، فى معنى حديثنا كما أن فى كل ما سبق رد على استغلال بعض الفرق وأشياعهم حديث ابن عباس السابق للطعن فى معاوية رضى الله عنه (2) . ... وليس فى الحديث ما يساعدهم على ذلك؛ كيف وفى الحديث أنه كان كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
.. قال الإمام النووى: "وقد فهم مسلم – رحمه الله – من هذا الحديث، أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه، فلهذا أدخله فى هذا الباب يعنى باب (من لعنه النبى صلى الله عليه وسلم، أو سبه، أو دعاء عليه، وليس هو أهلاً لذلك كان له زكاة وأجراً ورحمة) وجعله غيره من مناقب معاوية، لأنه فى الحقيقة يصير دعاء له" (1) . ... وقال الحافظ ابن كثير: "وقد انتفع معاوية رضى الله عنه، بهذه الدعوة فى دنياه وأخراه، أما فى دنياه، فإنه لما صار إلى الشام أميراً، كان يأكل فى اليوم سبع مرات، يجاء بقصعة فيها لحم كثير، وبصل فيأكل منها، ويأكل فى اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً، ويقول: والله ما أشبع، وإنما أعيا – أى أتعب – وهذه نعمة، ومعدة يرغب فيها كل الملوك، وأما فى الآخرة فقد اتبع المسلمون هذا الحديث، بالحديث الذى رواه البخارى وغيرهما من غير وجه، عن جماعة من الصحابة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته، أو جلدته، أو دعوت عليه، وليس لذلك أهلاً فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة" (2) فركب مسلم من الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يورد له غير ذلك" (3) . ... وبالجملة: فحديثنا ليس فيه ما يعارض عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلوكه وهديه، وخلقه العظيم؛ بل فيه كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، وجميل خلقه، وكرم ذاته، حيث قصد مقابلة ما وقع منه، بالجبر والتكرم. ... وهذا كله فى حق معين فى زمنه واضح، وأما ما وقع منه صلى الله عليه وسلم بطريق التعميم لغير معين، حتى يتناول من لم يدرك زمنه صلى الله عليه وسلم فلا يشمله" (4) . وبعد:
.. فهذه نماذج من الأحاديث الصحيحة التى تتناول سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتى طعن فيها دعاة الفتنة وأدعياء العلم بحجة أنها تطعن فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلوكه وهديه، وتشوه سيرته العطرة؛ هذا فى الوقت الذى يطعن فيه بعضهم، بعدم عصمته صلى الله عليه وسلم؛ مستدلاً ببعض الآيات المتشابهات. ... والحق أن هؤلاء الأدعياء ومحاولة طعنهم فى السيرة العطرة الواردة فى السنة بحجة أنها تتعارض مع عقولهم الزائغة، أو مع كتاب الله عز وجل، أو مع العلم أو غير ذلك… يكشف عن أنهم لا يعرفون شيئاً أو يتجاهلون ليثبتوا كيدهم للسنة النبوية بل للإسلام! أهـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
الخاتمة
الخاتمة فى نتائج هذه الدراسة ومقترحات وتوصيات الخاتمة ... الحمد لله تعالى على فضله العظيم أن وفقنى لإتمام هذه الرسالة، التى ظهر لى من نتائج دراستى فيها التأكيد على ما يلى: عصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كل ما يمس قلبه، وعقيدته بسوء من التمسح بالأصنام، أو الحلف بها، أو أكل ما ذبح على النصب، ونحو ذلك من مظاهر الكفر والشرك، والضلال والغفلة، والشك، قبل النبوة وبعدها، وفى كل حالاته من رضى وغضب، وجد ومزح. عصمته صلى الله عليه وسلم من تسلط الشيطان عليه، وكفايته منه، وما ورد فى القرآن الكريم، والسنة النبوية من تعرض الشيطان له صلى الله عليه وسلم بالأذى فى جسمه، أو على خاطره بالوسوسة، لا يتعارض مع عصمته صلى الله عليه وسلم من الشيطان، حيث عصمه ربه عز وجل بعدم تمكن الشيطان من غوايته صلى الله عليه وسلم، أو إلحاق ضرر به يضر بالدين. عصمته صلى الله عليه وسلم من كل ما يمس عقله بسوء حتى كان قبل النبوة وبعدها أكمل الناس عقلاً وفطنة، كما كان صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيماناً وخلقاً. عصمته صلى الله عليه وسلم من كل ما يمس أخلاقه بسوء حتى استحقت أن توصف بالعظمة. قال تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} (1) وبلغ من عظمة أخلاقه تكافؤها بنسب متفقة، فحلمه مثل رحمته، ورحمته مثل مروءته… الخ وهو فى كل ذلك فى أول شبابه كآخر حياته صلى الله عليه وسلم.
اختصاصه صلى الله عليه وسلم بعصمة بدنه الشريف من القتل دون سائر الأنبياء. بدلالة قوله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} (1) فالآية تحدى واضح لقتلة الأنبياء والمرسلين من بنى إسرائيل، بأنهم مهما حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم، فلم ولن يفلحوا، كما سبق منهم مع أنبيائهم؛ لأن رب العزة خص رسوله صلى الله عليه وسلم بتلك العصمة فى بدنه الشريف من القتل بدلالة "من قبل" فتأمل. عصمته صلى الله عليه وسلم فى بدنه من القتل لا يتعارض مع ابتلائه بضروب من المحن والشدائد، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر الأنبياء والرسل من البشر. هم بحسب ظواهرهم يطرأ عليهم ما يطرأ على سائر البشر من الآفات والتغييرات والآلام والأسقام، وكل ذلك إظهاراً لبشريتهم، وإظهاراً لشرفهم، ورفعة لدرجاتهم، وتسلية لأممهم ليتأسوا بهم فى صبرهم وشكرهم على البلاء. عصمته صلى الله عليه وسلم فى نقل وحى الله تعالى وتبليغه للناس، وعلى ذلك دلائل الكتاب والسنة والسيرة العطرة، وإجماع الأمة فلا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم خلف فيما أخبر به من الوحي، لا بقصد، ولا بغير قصد، ولا فى حال الجد والهزل، ولا فى حال الصحة والمرض أو أى حال كان؛ والكلام هنا ليس خاصاً بالنبى صلى الله عليه وسلم، بل وغيره من الأنبياء كذلك، إذ لا فرق بينهم فى واجب التبليغ.
عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده فى الإسلام، لأنه اجتهاد محروس بوحى الله تعالى، فإن وافق قوله أو فعله مراد الله تعالى، فالأمر كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الأمر يحتاج إلى تصحيح أو توضيح أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك ويصير اجتهاده فى النهاية، وحى من الله تعالى، وحجة شرعية إلى يوم الدين. عصمته صلى الله عليه وسلم فى سلوكه وهديه، فقد كانت أقواله وأفعاله، وأحواله كلها؛ تشريعاً تقتضى المتابعة والاقتداء إلا ما قام به الدليل على أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك دلائل القرآن الكريم، والسنة المطهرة، واتفاق السلف وإجماعهم عليه. وذلك أننا نعلم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله، والثقة بجميع أخباره فى أى باب كانت، وعن أى شئ وقعت؛ وأنه لم يكن لهم توقف ولا تردد فى شئ منها، ولا استثبات عن حاله عند ذلك، هل وقع فيها عن وحى أو اجتهاد، وهل وقع فيها سهواً أو عمداً، أو رضاً أو سخطاً، أو جداً أو مزحاً، أو صحة أو مرضاً، أو أى حال كان. إن شبهات أعداء الإسلام من المستشرقين حول عصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمة على إنكار نبوته صلى الله عليه وسلم، إذ لم تكن لدى معظمهم القناعة العلمية، ولا الإيمان الراسخ بهذه النبوة، وبخاصة أولئك الذين جمعوا بين الاستشراق والتبشير، وألبسوا أفكارهم أردية كنسية متطرفة. فقد نشأوا على أديان أخرى، ونفذوا بشئ من العداء لهذه الشخصية النبوية الكريمة، ودفعوا دفعاً مقصوداً للطعن فى نبوته، وحملوا حملاً مغرضاً لتجريده من صفاتها، وعلى رأسها صفة العصمة.
إن شبهات أعداء السنة المطهرة – ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا – حول عصمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمة على إعلان الكفر صراحة بالشطر الثانى من الوحي الإلهى وهو سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة الواردة فيها، وزعمهم أن فى تلك الأحاديث المتعلقة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشويه لسيرته، وطعن فى عصمته. وهم فيما يزعمون يتسترون بعباءة القرآن الكريم، وفاق تسترهم كل حد، إذ تجرأوا على كتاب ربهم عز وجل، ففسروه وأولوه، بما يأتى فى النهاية صراحة بردهم على الله تعالى كلامه، وتطاولهم عليه عز وجل من حيث يشعرون أو لا يشعرون. إن القرآن الكريم هو شريعة الإسلام قولاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو شريعة الإسلام عملاً؛ فحياته صلى الله عليه وسلم كلها، وما صدر عنه فيها من أقوال وأفعال وتقريرات حتى الحركات والسكنات، هى تفصيل وبيان وترجمة حية لما اشتمل عليه القرآن الكريم من عقائد، أو عبادات، أو معاملات، أو أخلاق، أو حدود، أو أحوال شخصية… الخ. وإذن فلم تكن هذه المفتريات التى زعمها أعداء السنة على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الواردة فى صحيح السنة النبوية، لم يكن مقصوداً بها الرسول لذاته، وإنما كانت غايتها تدمير الشريعة وصاحب الشريعة، ثم يأتى من وراء ذلك تدمير المجتمع الإسلامى كله!. إن رواة السيرة العطرة وأئمتها، لم تكن وظيفتهم بصدد أحداث السيرة إلا تثبيت ما هو ثابت منها بمقياس علمى، يتمثل فى قواعد مصطلح الحديث المتعلقة بكل من السند والمتن، وفى قواعد علم الجرح والتعديل المتعلقة بالرواة وتراجمهم. فإذا انتهت بهم هذه القواعد العلمية الدقيقة إلى أخبار ووقائع، وقفوا عندها ودونوها، دون أن يقحموا تصوراتهم الفكرية أو انطباعاتهم النفسية، أو مألوفاتهم البيئية إلى شئ من تلك الوقائع بأى تلاعب أو تحوير.
ليس فى الربط بين القرآن الكريم، والسنة المطهرة فى تحديد شخصية وسيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم شرك وتأليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يزعم أعداء السنة، لأن الربط هنا ربط إلهى، وطاعة لله عز وجل وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم. وقد دل على هذا الربط عشرات الآيات القرآنية فى طاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة مستقلة وأنها من طاعته عز وجل. إن منكرى السنة النبوية فى دعواهم التعارض بين سيرته صلى الله عليه وسلم فى القرآن الكريم، وسيرته صلى الله عليه وسلم فى السنة المطهرة، مغرضون مفترون فى تكلف التعارض، ولو أرادوا الحق لسألوا، أو قرأوا، والأجوبة عن كل استشكالاتهم فى كتب الأئمة؛ وهم أدرى بالنص، وعلى غيرهم أن يحترم رأيهم. فهم رجال قيدهم رب العزة لحفظ دينه، وأمر عباده بالرجوع إليهم. قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (1) . إن المتتبع للآيات المتشابهات التى استدل بها أعداء الإسلام، وأعداء السنة، على عدم عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى أنها واردة فى مقام المنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان عظيم مكانته وفضله عند ربه عز وجل فى الدنيا والآخرة، بأعظم ما يكون البيان ويرى بوضوح وجلاء أن كل آية من تلك الآيات تأتى بنوع من الترفق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فى الخطاب طمأنة لقلبه الطاهر، وتنادى بأن ما ورد من ظاهر تلك الآيات مما يمس عصمته غير مراد، وتنادى بأن ما صدر منه صلى الله عليه وسلم من خطأ فى الاجتهاد، ووجه إلى الأخذ بالأصوب منه فيما يستقبل من حوادث لم يؤثر على شئ من عصمته، ولا مما ناله من شرف القرب، والرضا عليه من الله عز وجل، مما يمكن أن يقال فيه، إنه مسح بيد الرحمة على القلب الطاهر الرحيم، الذى جعله رب العزة هدى ورحمة للعالمين.
أقترح وأوصى بما يلى
إن ما استدل به أعداء الإسلام من أحاديث على عدم عصمته صلى الله عليه وسلم لا حجة لهم فيها، لأن ما استدلوا به أحاديث مكذوبة، وضعيفة، وأخرى صحيحة مع ضعف دلالتها على ما احتجوا به. إن عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام مبنية على إرادة إلهية، وهى اصطفاء الله عز وجل لهم، وعصمتهم من كل ما يخل بهذا الاصطفاء، قبل نبوتهم وبعدها، وهم فى عالم الغيب لم يخلقوا بعد. وعليه: فلا معنى لإثارة الخلاف حول عصمة الأنبياء قبل نبوتهم من المعاصى كبائرها وصغائرها من حيث الوقوع وعدمه، أو من حيث امتناعه سمعاً أو عقلاً. هذه هى أهم نتائج الدراسة فى موضوع: "رد شبهات حول عصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى ضوء السنة النبوية الشريفة" وإذا كان لى أن أقترح أو أوصى بشئ فى هذا المقام، فإنى أقترح وأوصى بما يلى: دراسة شبهات أعداء السنة قديماً وحديثاً، وبيان بطلانها من خلال تدريس تاريخ السنة وعلومها. إخضاع الكتابات المتعلقة بما يمس عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للتدقيق والتمحيص، وسد منافذ الاجتراء على السيرة النبوية بديار المسلمين، وتجريم ذلك فى جميع الوسائل. الحكم بالارتداد على منكرى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفيذ أحكام الله فيهم بمعرفة القضاء؛ لأن منكر العصمة منكر لوحى الله تعالى. العمل على أن يكون للمحدثين رابطة على مستوى العالم الإسلامى؛ تجمع شملهم، وتقنن أعمالهم، وتلم شعث جهودهم.
مواصلة العمل الجاد، وتضافر الجهود، وتشابك الأيدي، وإخلاص النية، كي نبين ما ينطوي عليه الغرض الخبيث الذي يلتقي عليه أعداء الله للنيل من سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم، وسيرته العطرة الواردة فيها، ومن أئمة السنة الأعلام، ومن ثم وقف هذه الحملة الشرسة المسعورة التي تستهدف الإسلام وهدم كل ما يتصل به من قرآن وسنة وسيرة، وتاريخ، وأمة تتداعي عليها الأمم كما تتداعي الأكلة علي قصعتها. وبعد: ... فهذا آخر ما فتح الله عليَّ به، ووفقني لكتابته في هذا البحث الجليل، الذي اعترف فيه بالعجز والتقصير. ... ولعلي أكون قد أصبت في بعض مسائله، وشفيت الغليل في شئ من مباحثه؛ فإن يكن ذلك حقاً: فبفضل الله، وهدايته، وحسن توفيقه، وعنايته. وإن كانت الأخري، فذلك من نقصي وتقصيري، وأتوب إلي الله وأستغفره، وأسأله عز وجل الصفح والغفران، فيما زلت فيه قدمي، وانحرف فيه عن جادة الحق قلمي. اللهم تقبل هذا الجهد الضئيل خالصاً لوجهك الكريم وانفع به المستفيدين وارزقني دعوة صالحة منهم، ينالني بها عفوك ورضاك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين وعلي آله، وصحبه والمتمسكين بسنته أجمعين.
فهارس الآيات والأحاديث والأعلام
الفهارس أولاً: فهرس الآيات القرآنية الكريمة. ثانياً: فهرس الأحاديث والآثار. ثالثاً: فهرس الأعلام المترجم لهم. رابعاً: فهرس الأشعار. خامساً: فهرس البلدان والقبائل والفرق. سادساً: فهرس المصادر والمراجع. سابعاً: فهرس الموضوعات. أولاً: فهرس الآيات القرآنية (1) الآية ... رقمها ... رقم الصفحة ... الآية ... رقمها ... رقم الصفحة سورة البقرة ... {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى} ... (31) ... 15 {فأزلهما الشيطان عنها} ... (36) ... 50 ... {وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك} ... (36) ... 185 {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} ... (75) ... 324 ... {قال رب اجعلى آية} ... (41) ... 248 {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله} ... (91) ... 83 ... {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} ... (66) ... 139 {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على} ... (102) ... 324 ... {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} ... (81) ... 47 {والله يختص برحمته من يشاء} ... (105) ... 287 ... {كل الطعام كان حلاً لبنى إسرائيل} ... (93) ... 176 {واذكروا نعمة الله عليكم} ... (113) ... 343 ... {ومن يعتصم بالله فقد هدى} ... (101) ... 4 {كذلك قال الذين من قبلهم} ... (118) ... 281 ... {ليس لك من الأمر شئ} ... (128) ... 494 {قل أتحاجوننا فى الله} ... (139) ... 131 ... {وما محمد إلا رسول قد خلت من} ... (144) ... 358 {سيقول السفهاء من الناس} ... (142) ... 360 ... {لقد صدقكم الله وعده} ... (152) ... 361 {وما كان الله ليضيع إيمانكم} ... (143) ... 360 ... {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان} ... (155) ... 399 {قد نرى تقلب وجهك فى السماء} ... (144) ... 360 ... {وشاورهم فى الأمر} ... (159) ... 390
{إن الصفا والمروة من شعائر الله} ... (158) ... 23 ... {لقد من الله على المؤمنين} ... (164) ... 257 {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار} ... (161) ... 495 ... {الذين قالوا إن الله عهد إلينا} ... (183) ... 180 {ومن الناس من يتخذ من دون الله} ... (165) ... 380 ... سورة النساء {كتب عليكم الصيام} ... (183) ... 350 ... {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار} ... (14) ... 369 {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم} ... (187) ... 125 ... {وعاشروهن بالمعروف} ... (19) ... 464 {يسألونك عن الشهر الحرام} ... (217) ... 157 ... {كتاب الله عليكم} ... (24) ... 350 {ويسألونك عن المحيض} ... (222) ... 204 ... {ومن لم يستطع منكم طولاً} ... (25) ... 351 {واذكروا نعمة الله عليكم} ... (231) ... 342 ... {يريد الله أن يخفف عنكم} ... (28) ... 211 {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} ... (253) ... 467 ... {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} ... (40-41) ... 370 {لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد} ... (256) ... 330 ... {من الذين هادوا يحرفون الكلم} ... (46) ... 324 {أولم تؤمن قال بلى} ... (260) ... 216 ... {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة} ... (54) ... 257 {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} ... (282) ... 114 ... {يا آيها الذين آمنوا أطيعوا الله} ... (59) ... 366 {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} ... (285) ... 110 ... {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله} ... (61) ... 368 سورة آل عمران ... {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} ... (64) ... 367 {فإن تولوا فإنما عليك البلاغ} ... (20 ( ... 328 ... {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك} ... (65) ... 335 الآية ... رقمها ... رقم الصفحة ... الآية ... رقمها ... رقم الصفحة
{ومن يطع الله والرسول} ... (69) ... 445 ... {ما على الرسول إلا البلاغ} ... (99) ... 329 {فمال هؤلاء القوم لا يكادون} ... (78) ... 41 ... {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم} ... (110) ... 257 {ومن يطع الرسول فقد أطاع الله} ... (80) ... 177 ... {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا} ... (111) ... 249 {ولو ردوه إلى الرسول وإلى} ... (83) ... 195 ... {يا أيها الذين آمنوا أمنوا بالله ورسوله} ... (136) ... 358 {لتؤمنوا بالله ورسوله} ... (100) ... 356 ... سورة الأنعام {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} ... (105) ... 335 ... {قل إنى أخاف إن عصيت ربى} ... (15) ... 130 {وأنزل عليك الكتاب والحكمة} ... (113) ... 117 ... {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين} ... (33) ... 10 {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله} ... (136) ... 365 ... {ما فرطنا فى الكتاب من شئ} ... (38) ... 241 {والذين آمنوا بالله ورسله} ... (152) ... 110 ... {ولا تطرد الذين يدعون ربهم} ... (52) ... 135 {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى} ... (157-158) ... 192 ... {وإذا رأيت الذين يخوضون فى آياتنا} ... (67-68) ... 141 {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح} ... (163) ... 295 ... {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد} ... (68) ... 139 {وكلم الله موسى تكليماً} ... (164) ... 253 ... {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات} ... (75) ... 220 سورة المائدة ... {أولئك الذين هدى الله} ... (90) ... 15 {اليوم أكملت لكم دينكم} ... (3) ... 269 ... {وكذلك جعلنا لكل نبى عدو} ... (112) ... 444 {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى} ... (6) ... 30 ... {وهو الذى أنزل إليك الكتاب} ... (114) ... 332 {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله} ... (11) ... 101 ... {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} ... (121) ... 60
{إنما جزاء الذين يحاربون الله} ... (33) ... 351 ... {الله أعلم حيث يجعل رسالته} ... (124) ... 46 {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ... (38) ... 33 ... {ومن يرد الله أن يضله يجعل صدره} ... (125) ... 64 {ومن الذين هادوا سماعون للكذب} ... (41) ... 324 ... {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى} ... (146) ... 354 {فإن جاؤك فاحكم بينهم} ... (42) ... 395 ... {وإن هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه} ... (153) ... 374 {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق} ... (48) ... 305 ... {قل إن صلاتى ونسكى ومحياى} ... (162-163) ... 132 {وقالت اليهود يد الله مغلولة} ... (64) ... 494 ... سورة الأعراف {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك} ... (67) ... 83 ... {قل من حرم زينة الله} ... (32) ... 133 {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله} ... (72) ... 75 ... {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله} ... (44) ... 494 {لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل} ... (78) ... 495 ... {قالوا ألقوا فلما ألقوا سحروا} ... (116) ... 228 {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا} ... (87) ... 171 ... {الذين يتبعون الرسول النبى الأمى} ... (157) ... 254 {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر} ... (90) ... 25 ... {فآمنوا بالله ورسوله} ... (158) ... 15 {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} ... (92) ... 366 ... {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} ... (184) ... 9 {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ... (93) ... 25 ... {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ} ... (200) ... 50 الآية ... رقمها ... رقم الصفحة ... الآية ... رقمها ... رقم الصفحة سورة الأنفال ... {ولما جاءت رسلنا لوط} ... (77-78) ... 254 {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} ... (5) ... 404 ... {فاستقم كما أمرت} ... (112) ... 426 {وإذ يمكر بك الذين كفروا} ... (30) ... 90 ... سورة يوسف
{إذ يريكهم الله فى منامك قليلاً} ... (43) ... 251 ... {نحن نقص عليك أحسن القصص} ... (3) ... 118 {ما كان لنبى أن يكون له أسرى} ... (67-69) ... 146 ... {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت} ... (4) ... 251 {وهو الذى أيدك بنصره} ... (71) ... 88 ... {إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب} ... (8) ... 114 {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا} ... (72) ... 358 ... {وقال نسوة فى المدينة} ... (30) ... 114 {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} ... (75) ... 72 ... {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} ... (32) ... 3 سورة التوبة ... {قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم ... (95) ... 114 {ثم أنزل الله سكينته على رسوله} ... (26) ... 143 ... {ورفع أبويه على العرش} ... (100) ... 251 {وقالت اليهود عزيز ابن الله} ... (30-31) ... 302 ... سورة الرعد {يريدون أن يطفئوا نور الله} ... (32) ... 288 ... {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك} ... (38) ... 467 {إلا تنصروه فقد نصره الله} ... (40) ... 97 ... {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً} ... (43) ... 303 {عفا الله عنك لم أذنت لهم} ... (43) ... 146 ... سورة إبراهيم {قل هل تربصون بنا إلا إحدى} ... (52) ... 353 ... {كتاب أنزلناه إليك} ... (1) ... 336 {يحلفون بالله لكم ليرضوكم} ... (62) ... 177 ... {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} ... (4) ... 334 {يا أيها النبى جاهد الكفار} ... (73-74) ... 353 ... سورة الحجر {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً} ... (84) ... 398 ... {إنا نحن نزلنا الذكر} ... (9) ... 324 سورة يونس ... {قال رب بما أغويتنى لأزينن لهم} ... (39-40) ... 194 {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا} ... (15-16) ... ب ... {إن عبادى ليس لك عليهم سلطان} ... (42) ... 50
{فإن كنت فى شك مما أنزلنا إليك} ... 94-95) ... 137 ... {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا} ... (88-89) ... 133 {قل يا أيها الناس إن كنتم فى شك من دينى} ... (104) ... 131 ... {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} ... (94-95) ... 90 {ولا تدع من دون الله مالا ينفعك} ... (106) ... 137 ... سورة النحل {قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق} ... (108) ... 303 ... {ليبين لهم الذى يختلفون فيه} ... (39) ... 333 {واتبع ما يوحى إليك واصبر} ... (109) ... 133 ... {فاسألوا أهل الذكر} ... (43) ... 510 سورة هود ... {وأنزلنا إليك الذكر لتبين} ... (44) ... 262 {ألا لعنة الله على الظالمين} ... (18) ... 494 ... {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا} ... (64) ... 333 {وما أنا بطارد الذين آمنوا} ... (29-30) ... 136 ... {وأوحى ربك إلى النحل} ... (68) ... 249 {يا بنى اركب معنا} ... (42-43) ... 3 ... {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً} ... (89) ... 332 {تلك من أنباء الغيب نوحيها} ... (49) ... 284 ... {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما} ... (103) ... 297 الآية ... رقمها ... رقم الصفحة ... الآية ... رقمها ... رقم الصفحة {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} ... (125) ... 70 ... {ولقد آتينا إبراهيم رشده} ... (51) ... 220 سورة الإسراء ... {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب} ... (98-100 ... 77 {إن عبادى ليس لك عليهم سلطان} ... (65) ... 49 ... {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} ... (101-103) ... 77 {وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا} ... (73-74) ... 312 ... سورة الحج {إذاً لأذقناك ضعف الحياة} ... (75) ... 124 ... {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا} ... (52) ... 322 {ومن الليل فتهجد به نافلة} ... (79) ... 468 ... سورة المؤمنون
{وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس} ... (106) ... 261 ... {قد أفلح المؤمنون} ... (1-5) ... 439 سورة الكهف ... {أم لم يعرفوا رسولهم} ... (69) ... 119 {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} ... (5) ... 332 ... سورة النور {فأردت أن أعيبها} ... (79) ... 117 ... {والخامسة أن لعنة الله عليه} ... (7) ... 495 {وما فعلته عن أمرى} ... (82) ... 117 ... {إن الذين يرمون المحصنات} ... (23) ... 495 سورة مريم ... {فى بيوت أذن الله أن ترفع} ... (36) ... 491 {فخرج على قومه من المحراب} ... (11) ... 248 ... {وإن تطيعوه تهتدوا} ... (54) ... 328 {فاتخذت من دونهم حجاباً} ... (17) ... 254 ... {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ... (56) ... 366 {وما نتنزل إلا بأمر ربك} ... (64) ... 287 ... {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله} ... (62) ... 383 سورة طه ... {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} ... (63) ... 369 {إنى أنا ربك فاخلع نعليك} ... (12) ... 206 ... سورة الفرقان {وما تلك بيمينك يا موسى} ... (17-12) ... 207 ... {وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً} ... (8) ... 223 {وألقيت عليك محبة منى} ... (39) ... 438 ... {أهذا الذى بعث الله رسولاً} ... (41-42) ... 269 {واصطنعتك لنفسى} ... (41) ... 438 ... {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن} ... (60) ... 316 {لا يضل ربى ولا ينسى} ... (52) ... 115 ... سورة الشعراء {قالوا يا موسى إما أن تلقى} ... (65) ... 231 ... {إن نشأن ننزل عليهم من السماء آية} ... (4) ... 317 {يخيل إليه من سحرهم أنها} ... (66) ... 227 ... {ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون} ... (14) ... 207 {وعجلت إليك ربى لترضى} ... (84) ... 178 ... {قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين} ... (20) ... 114 {فاصبر على ما يقولون} ... (130) ... 177 ... {وإذا مرضت فهو يشفين} ... (80) ... 116
سورة الأنبياء ... {وإنه لتنزيل رب العالمين} ... (192-195) ... 285 {بل قالوا أضغاث أحلام} ... (5) ... 325 ... {إنهم عن السمع لمعزولون} ... (212) ... 225 {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} ... (7) ... 510 ... {وأنذر عشيرتك الأقربين} ... (214) ... 10 {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} ... (23) ... 378 الآية ... رقمها ... رقم الصفحة ... الآية ... رقمها ... رقم الصفحة سورة النمل ... سورة سبأ {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} ... (14) ... 271 ... {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله} ... (46) ... 9 {وألق عصاك فلما رءاها تهتز} ... (10-11) ... 207 ... {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسى} ... (50) ... 113 {قل الحمد لله وسلام على عباده} ... (59) ... أ ... سورة يس {ما كان كما أن تنبتوا شجرها} ... (60) ... 152 ... {ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً} ... (62) ... 114 سورة القصص ... سورة الصافات {وأوحينا إلى أم موسى} ... (7) ... 188 ... {وإن من شيعته لإبراهيم} ... (83) ... 220 {وحرمنا عليه المراضع من قبل} ... (12) ... 175 ... {ماذا تعبدون} ... (85-87) ... 221 {قال هذا من عمل الشيطان} ... (15) ... 50 ... {قال يا بنى إنى أرى فى المنام} ... (102) ... 251 {قل ربى إنى قتلت منهم} ... (33-34) ... 207 ... سورة ص {وما كنت ترجوا أن يلقى إليك} ... (86) ... 285 ... {وإنهم عندنا لمن المصطفين} ... (17) ... أ {ولا يصدنك عن آيات الله} ... (87) ... 310 ... {رب هب لى ملكاً} ... (35) ... 52 {ولا تدع مع الله إلهاً آخر} ... (88) ... 310 ... {واذكر عبدنا أيوب} ... (41) ... 50 سورة العنكبوت ... {قال فبعزتك لأغوينهم} ... (82-83) ... 49 {وما كنت تتلو من قبله من كتاب} ... (48) ... 284 ... سورة الزمر سورة لقمان ... {قل إنى أمرت أن أعبد الله} ... (11-15) ... 312
{أن اشكر لى ولوالديك} ... (14) ... المقدمة ... {أفمن شرح الله صدره للإسلام} ... (22) ... 64 {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا} ... (33) ... 193 ... {والذى جاء بالصدق وصدق} ... (33) ... 264 سورة الأحزاب ... {أليس الله بكاف عبده} ... (36) ... 90 {يا أيها النبى اتق الله} ... (1) ... 129 ... {ولقد أوحى إليك وإلى الذين} ... (65) ... 129 {النبى أولى بالمؤمنين} ... (6) ... 451 ... (سورة غافر) {وإذا أخذنا من النبيين} ... (7) ... 47 ... {فاصبر إن وعد الله حق} ... (55) ... 121 {كل من ذا الذى يعصمك} ... (17) ... 3 ... {وقال ربكم ادعونى أستجب لكم} ... (60) ... 233 {لقد كان لكم فى رسول الله أسوة} ... (21) ... 15 ... سورة فصلت {وصدق الله ورسوله} ... (22) ... 264 ... {ثم استوى إلى السماء وهى دخان} ... (11-12) ... 249 {واذكرن ما يتلى فى بيوتكن} ... (34) ... 258 ... سورة الشورى {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا} ... (36-39) ... 130 ... {شرع لكم من الدين ما وصى به} ... (13) ... 308 {يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهداً} ... (45-46) ... 48 ... {أم يقولون افترى على الله} ... (24) ... 137 {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} ... (53) ... 152 ... {إن عليك إلا البلاغ} ... (48) ... 328 الآية ... رقمها ... رقم الصفحة ... الآية ... رقمها ... رقم الصفحة {أو من وراء حجاب أو يرسل} ... (51) ... 252 ... {والنجم إذا هوى…} ... (1-4) ... 311 {وإنك لتهدى إلى صراط} ... (52) ... 116 ... {فأوحى إلى عبده} ... (10-11) ... 119 سورة الزخرف ... {ولقد رآه نزلة أخرى} ... (13-14 ... 255 {وقولوا لولا نزل هذا القرآن} ... (31) ... 87 ... {ما زاغ البصر وما طغى} ... (17) ... 44 {أهم يقسمون رحمة ربك} ... (32) ... 287 ... {أفرأيتم اللات والعزى} ... (19) ... 309
{قل إن كان للرحمن ولداً} ... (81) ... 137 ... {إن هى إلا أسماء سميتموها} ... (23) ... 311 سورة الجاثية ... {ألا تزروا وازرة وزر أخرى} ... (38) ... 193 {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} ... (23) ... 444 ... {فاسجدوا لله واعبدوا} ... (62) ... 316 سورة الأحقاف ... سورة المجادلة {قل ما كنت بدعاً من الرسل} ... (9) ... 110 ... {إن الذين يحادون الله ورسوله} ... (5) ... 370 {قل أرأيتم إن كان من عند الله} ... (10) ... 303 ... {فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم} ... (13) ... 125 سورة محمد ... {إن الذين يحادون الله ورسوله} ... (20) ... 370 {والذين آمنوا وعلموا الصالحات} ... (2) ... 363 ... سورة الحشر {حتى تضع الحرب أوزارها} ... (4) ... 122 ... {هو الذى أخرج الذين كفروا} ... (2) ... 304 {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين} ... (31) ... 80 ... {ما قطعتم من لينة أو تركتموها} ... (5) ... 399 {إن الذين كفروا وصدوا} ... (32) ... 370 ... {وما آتاكم الرسول فخذوه} ... (7) ... 331 سورة الفتح ... {الذين أخرجوا من ديارهم} ... (8) ... 72 {ليغفر لك الله ما تقدم} ... (2-3) ... 125 ... {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} ... (21) ... 26 {لتؤمنوا بالله ورسوله} ... (9) ... 356 ... سورة الجمعة {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون} ... (10) ... 362 ... {يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة} ... (9) ... 307 {ومن لم يؤمن بالله ورسوله} ... (13) ... 382 ... سورة التغابن {لقد رضى الله عن المؤمنين} ... (18) ... 363 ... {فآمنوا بالله ورسوله} ... (8) ... 444 {لقد صدق الله رسوله الرؤيا} ... (27) ... 252 ... {فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ} ... (12) ... 328 سورة الذاريات ... سورة التحريم
{هل أتاك حديث ضيف إبراهيم} ... (24-28) ... 254 ... {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك} ... (1-5) ... 146 {أتواصوا به بل هم قوم طاغون} ... (48) ... 290 ... سورة الملك سورة الطور ... {ليبلونكم أيكم أحسن عملاً} ... (2) ... 80 {فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن} ... (29) ... 290 ... سورة القلم {واصبر لحكم ربك} ... (48) ... 90 ... {وإنك لعلى خلق عظيم} ... (4) ... 68 سورة النجم ... {فلا تطع المكذبين} ... (8-10) ... 129 الآية ... رقمها ... رقم الصفحة ... الآية ... رقمها ... رقم الصفحة {لولا أن تداركه نعمة من ربه} ... (49) ... 117 ... سورة الضحى سورة الحاقة ... {والضحى والليل إذا سجى} ... (1-3) ... 286 {فلا أقسم بما تبصرون} ... (38-40) ... 134 ... {ما ودعك ربك وما قلى} ... (3-11) ... 118 {ولو تقول علينا بعض الأقاويل} ... (44-46) ... 124 ... {ولسوف يعطيك ربك فترضى} ... (5) ... 178 سورة الجن ... {ووجدك ضالاً فهدى} ... (7) ... 113 {فمن يستمع الآن يجد له} ... (9) ... 225 ... {فأما اليتيم فلا تقهر} ... (9-10) ... 133 سورة المزمل ... سورة الشرح {إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلاً} ... (5) ... 26 ... {ألم نشرح لك صدرك} ... (1) ... 164 {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم} ... (20) ... 125 ... {ووضعنا عنك وزرك} ... (3) ... 121 سورة المدثر ... {ورفعنا لك ذكرك} ... (4) ... 121 {يا أيها المدثر} ... (1) ... 201 ... {فإن مع العسر يسرا} ... (5-6) ... 123 {ولا تمنن تستكثر} ... (6) ... 134 ... سورة العلق سورة القيامة ... {اقرأ باسم ربك الذى خلق} ... (1-3) ... 197 {إن علينا جمعه وقرآنه} ... (17) ... 342 ... {أرأيت الذى ينهى عبداً إلى صلى} ... (9-19) ... 92 {ثم إن علينا بيانه} ... (19) ... 332 ... سورة النصر
ثانيا: فهرس الأحاديث والآثار
سورة عبس ... {إذا جاء نصر الله والفتح} ... (1-3) ... 126 {عبس وتولى….} ... (1-10) ... 146 ... سورة المسد سورة التكوير ... {تبت يدا أبى لهب وتب} ... (1) ... 94 {إنه لقول رسول كريم} ... (19-25) ... 285 ... سورة الفلق {وما صاحبكم بمجنون} ... (22) ... 9 ... {قل أعوذ برب الفلق} ... (1-5) ... 228 {ولقد رآه بالأفق المبين} ... (23) ... 255 ... سورة الناس {وما هو على الغيب بضنين} ... (24) ... 268 ... {قل أعوذ برب الناس} ... (1-6) ... 233 ********************** **************** *********** ******* ثانياً: فهرس الأحاديث والآثار (1) الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة ... الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة (أ) ... أضل الله عن الجمعة من كان ... 404 أتانى الله عز وجل القرآن ومن الحكمة ... 340 ... أعطيت خمساً لم يعطهن أحد ... 155 أتى بسارق إلى رسول الله (أثر ... 33 ... أعطيت قوة أربعين فى ... 462 أتى جبريل رسول الله فأخبره أن الحارث (أثر) ... 409 ... أعقلها وتوكل ... 87 أتى رسول الله بضب مشوى (أثر) ... 418 ... أعوذ بالله منك ... 51 أتى رسول الله بلبن قد شيب (أثر) ... 419 ... أعوذ بكلمات الله التامات ... 52 اجعل أرأيت باليمن (أثر) ... 21 ... أفتخوفت عليه الشيطان (أثر) ... 188 أحياناً يأتينى مثل صلصلة الجرس… ... 28 ... افتقدت رسول الله ذات ليلة (أثر) ... 470 أحلت لكم ميتتان ودمان ... 416 ... أفضالة؟ ... 105 احملوا ظهورنا فإن رأيتمونا ... 361 ... اكتب فوالذى نفسى بيده ما يخرج ... 277 اخف عنا ... 98 ... أكل رسول الله آخر أمره لحماً (أثر) ... 36 أدبنى ربى فأحسن تأديبى ... 45 ... اكل رسول الله كتف شاة (أثر) ... 35 إدنه، فدنا منه قريباً ... 75 ... أكل الضب على مائدة رسول الله ... 416
اذهب وادع لى معاوية ... 503 ... إكلأ لنا الليل ... 144 إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به ... 12 ... ألست تقرأ القرآن (أثر) ... 439 إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب ... 242 ... اللهم احفظ أبا أيوب ... 87 أرأيت لو مضمضت من الماء ... 407 ... اللهم اصرعه ... 98 أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً ... 10 ... اللهم اكفناه بما شئت ... 98 أرسله يا عمر ... 101 ... اللهم العن أبا سفيان ... 494 ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتنى ... 104 ... اللهم إنا ناساً يتبعونى ... 503 إزارى. إزارى. ... 55 ... اللهم إنما أنا بشر فأيما رجل ... 492 اسمع صلاصل ثم اسكت ... 28 ... اللهم اهد دوساً ... 497 أشهد أن السلف المضمون (أثر) ... 415 ... إلى أيها الناس ... 293 أشيروا على أيها الناس ... 404 ... إلى الحشر ... 102 اصنعوا كل شئ إلا النكاح ... 204 ... إلى عباد الله ... 293 الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة ... الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة أما إن الله ورسوله لغنيان عنها (أثر) ... 292 ... أنا نبى ... 104 أما إنك لم تكن تستطيع الذى أردت ... 104 ... أنا النبى لا كذب ... 293 أما لكم فىَّ أسوة ... 145 ... الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ... 81 أما والله إنى لأتقاكم لله ... 131 ... إنا والله لا نريد بالقرآن بدلاً (أثر) ... 336 أمر الله ليلة الغار شجرة فنبتت (أثر) ... 96 ... أنت هيه لقد كبرت ... 504 أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ... 3 ... أنتم أعلم بأمر دنياكم ... 18 أمروا بقطع النخيل فحاك (أثر) ... 400 ... أنتم عالة ... 156 امشوا معى إلى رسول الله (أثر) ... 410 ... أنتم من أحب الناس إلىَّ ... 449 إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه ... 73 ... أنتما صاحبا رسول الله ومن أهل بدر (أثر) ... 485 إن حيضتك ليست فى يدك ... 480 ... انتهى رسول الله إلى المضيق دون (أثر) ... 21 إن رسول الله كانت له أمه (أثر) ... 173 ... الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ... 456
إن رؤيا الأنبياء وحى (أثر) ... 251 ... أنفست؟ ... 474 إن الشيطان أتى بلالاً وهو قائم ... 144 ... إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل (أثر) ... 134 إن الشيطان يبلغ من ابن آدم ... 169 ... إنكم تختصمون إلى ... 396 إن العبد إذا لعن شيئاً ... 498 ... إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ ... 412 إن عدو الله إبليس جاء بشهاب ... 51 ... إنما أنا بشر مثلكم أنسى ... 141 إن عفريتاً من الجن جعل يفتك ... 51 ... إنما أنا بشر، وإنه يأتينى الخصم ... 391 إن عينى تنامان ولا ينام قلبى ... 144 ... إنما بعثت لأبتليك وأبتلى بك ... 81 إن كل من أحب أن يعبد ... 78 ... إنما مثلى ومثل ما بعثنى الله به ... 373 إن الله أمرنى أن أحرق قريشاً ... 92 ... إنه سيحال بينى وبينها ... 94 إن الله بعثنى إليكم فقلتم ... 274 ... إنه كاذب إنه له عنده حقا ... 402 إن لكل عامل شره، ولكل شره ... 469 ... إنه ليغان على قلبى ... 142 إن من أكمل المؤمنين إيماناً ... 465 ... إنه لا ينبغى لنبى أن تكون له ... 133 إن ناساً يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم (أثر) ... 38 ... إنه يبعث يوم القيامة أمة ... 58 إن هذا الرجل أقبل فقال ... 104 ... إنها كانت وكانت ... 214 إن هذا واد به شيطان ... 143 ... إنها من الشيطان وما كان ... 53 إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما ... 407 ... إنهما عيد المشركين فأنا أحب أن أخالفهم ... 307 إن اليهود والنصارى لا يصبغون ... 303 ... إنى اتخذت خاتماً من ... 19 أنا أولى الناس بعيسى بن مريم ... 308 ... إنى أرحمها ... 456 إن كذلك يشدد علينا ... 82 ... إنى أوعك كما يوعك رجلان ... 82 الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة ... الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة إنى رزقت حبها ... 214 ... بلى أفأخبرتك أن نأتيه العام ... 252 إنى سمعت محمد (أثر) ... 272 ... بلغوا عنى ولو آية ... 263 إنى عبد الله وخاتم النبيين ... 48 ... بينما أنا أمشى سمعت صوتاً ... 201
إنى قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم ... 226 ... (ت) إنى قد عفوت عنكم عن صدقة ... 149 ... تشاورت قريش ليلة بمكة (أثر) ... 95 إنى لأعرف حجراً بمكة كان ... 208 ... توضأوا مما مست النار ... 34 إنى لأفعل ذلك أنا وهذه ... 464 ... (ث) إنى لأنسى أو أنسى لأسن ... 142 ... ثكلتك أمك يا عمر ... 410 إنى لست آكل مما تذبحون على ... 58 ... ثكلتك أمك يا معاذ ... 502 إنى لست كهيتكم ... 19 ... ثم دخلت بيت المقدس فجمع ... 385 إنى لم أبعث لعاناً ... 493 ... (ج) إنى لم أؤمر أن أنقب عن ... 499 ... جاء جبريل يوم بدر (أثر) ... 156 إنى لا أقول إلا حقاً ... 277 ... جاءت ملائكة إلى النبى وهو نائم (أثر) ... 372 أوصيكم بتقوى الله والسمع ... 375 ... جعل رسول الله ثلاثة أيام وليالهن (أثر) ... 32 أول سورة أنزلت فيها سجدة (أثر) ... 316 ... جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ... 489 أو ما علمت ما شرطت عليه ربى ... 500 ... (ح) ألا إنى أوتيت القرآن ومثله معه ... 13 ... حاربت النضير وقريظة (أثر) ... 204 ألا ليبلغ الشاهد الغائب ... 16 ... حرق رسول الله نخل بنى النضير (أثر) ... 362 ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عنى ... 13 ... (خ) أى خديجة والله لا أعبد اللات ... 61 ... خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون فى ... 303 أى قوم والله لقد وفدت على الملوك (أثر) ... 383 ... خبرنى ربى أنى سارى علامة ... 130 آية الإيمان حب الأنصار ... 450 ... خرج رسول الله يريد عير قريش ... 403 أيها الناس أفشوا السلام ... 274 ... خطب رسول الله زينب بنت عمته ... 165 (ب) ... خيركم خيركم لأهله ... 466 بات رسول الله بذى طوى (أثر) ... 423 ... (د) بت عند خالتى ميمونة (أثر) ... 471 ... دخل رسول الله يوم فتح مكة (أثر) ... 419 بئسما قلت يا ابن أختى (أثر) ... 24 ... دخل رسول الله مكة من الثنية العليا (أثر) ... 423
بل شربت عسلاً ... 172 ... دخل رسول الله مكة يوم الفتح (أثر) ... 126 بل قيدها وتوكل ... 87 ... دعهم. أمناً بنى أرفدة ... 486 بل هو الرأى والحرب والمكيدة ... 405 ... دعهما ... 483 الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة ... الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة دعونى ما تركتكم ... 375 ... صلى رسول الله يوماً الفجر وصعد (أثر) ... 263 دونكم يا بنى أرفدة ... 483 ... صلى رسول الله فى بيت أم سليم (أثر) ... 455 (ر) ... صلى رسول الله وعليه مرط بعضه (أثر) ... 479 رأى رسول الله جبريل له (أثر) ... 256 ... صلوا كما رأيتمونى أصلى ... 13 رأيت جبريل عند السدرة له ... 256 ... صوموا يوم عاشوراء وخالفوا ... 306 رأيت رسول الله بال ثم توضأ (أثر) ... 31 ... (ع) رأيت رسول الله فعل هذا (أثر) ... 21 ... عقرى حلقى ... 502 رأيت رسول الله مقعياً يأكل (أثر) ... 419 ... (ف) رأيت رسول الله يأكل الرطب (أثر) ... 418 ... فإن كان العام المقبل إن شاء الله صمنا ... 306 رأيت رسول الله يتتبع الدباء (أثر) ... 418 ... فإن لجسدك عليك حقاً ... 469 رأيت رسول الله يشرب قائماً (أثر) ... 38 ... فإن هذا منزل حضرنا فيه ... 143 رأيت ما تعمل أمتى بعدى ... 343 ... فرج عن سقف بيتى وأنا بمكة ... 68 رجل من أصحابى قتل رجلين ... 102 ... فضلت على الأنبياء بخصلتين ... 51 رجم رسول الله ورجم أبو بكر (اثر) ... 351 ... فضلت على الأنبياء بست ... 128 رؤيا الأنبياء وحى (أثر) ... 251 ... فضلت على الناس بأربع ... 462 (س) ... فلم أزل أرجع بين ربى تبارك وتعالى وبين (أثر) ... 307 سأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرا (أثر) ... 173 ... فنودى يا محمد خمر عورتك (أثر) ... 57 سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ... 493 ... فنودى يا محمد غط عورتك (أثر) ... 56 سبحان الله! فأين الليل ... 74 ... فهل كنتم تتهمونه بالكذب (أثر) ... 8
ستة لعنتهم ولعنهم الله ... 376 ... فوالذى نفسى بيده ما يخرج منه ... 238 سقيت رسول الله من زمزم (أثر) ... 37 ... فى أمتى اثنا عشر منافقاً ... 106 سمعت السلام عليك فظننتها فجأة ... 67 ... (ق) سن رسول الله وولاة الأمر من بعده (أثر) ... 346 ... قد تركتكم على البيضاء ... 337 (ش) ... قد تعلم يا محمد أنك تصل (أثر) ... 272 شاور رسول الله حين بلغه إقبال (أثر) ... 403 ... قد رأيت الذى صنعتم ... 407 شرب رسول الله من فم القربة وهو (أثر) ... 38 ... قطع الله يدك ... 500 (ص) ... قمت على باب الجنة فإذا ... 343 صارع رسول الله ركانة (أثر) ... 292 ... قئ ... 37 صلى رسول الله الظهر والعصر (أثر) ... 423 الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة ... الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة (ك) ... كان العباس عم الرسول فيمن يحرسه (أثر) ... 85 كان ابن عمر إذا رآه أحد ظن (أثر) ... 423 ... كان لسليمان ستون امرأة فقال ... 468 كان أحب الشراب إلى رسول الله الحلو (أثر) ... 418 ... كان يوم عاشوراء تصومه قريش (أثر) ... 306 كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما (أثر) ... 35 ... كانت إحدانا إذا كانت حائضاً (أثر) ... 473 كان بشراً من البشر يفلى (أثر) ... 469 ... كانت أم سليم تبسط للنبى (أثر) ... 452 كان جبريل إذا نزل بالقرآن (أثر) ... 345 ... كذب أبو السنابل ... 428 كان خلق رسول الله القرآن (أثر) ... 439 ... كذب من قال ذلك ... 428 كان خلقه القرآن يرضى لرضاه (أثر) ... 439 ... كلا إن ملائكة تسترنا ... 97 كان رسول الله إذا أراد من الحائض (أثر) ... 480 ... كل شئ ليس فيه ذكر الله فهو ... 491 كان رسول الله إذا أنزل عليه كرب (أثر) ... 26 ... كما أنت. وكما أنتن ... 488 كان رسول الله إذا أنزل عليه الوحي (أثر) ... 28 ... كما أنتم على مصافكم ... 253 كان رسول الله إذا جلس فى الصلاة (أثر) ... 423 ... كنا نتقى الكلام والانبساط (أثر) ... 410
كان رسول الله رجلاً مسقاماً (أثر) ... 229 ... كنا نعزل على عهد رسول الله (اثر) ... 409 كان رسول الله فى مهنة أهله (أثر) ... 469 ... كنت أشرب وأنا حائض (أثر) ... 479 كان رسول الله لا يفضل بعضاً (أثر) ... 466 ... كنت أغار على اللاتى وهبن (أثر) ... 178 كان رسول الله يتكئ فى حجرى (أثر) ... 474 ... كنت أكتب الوحي لرسول الله (أثر) ... 27 كان رسول الله يحب العسل (أثر) ... 418 ... كنت أنا ورسول الله نبيت فى (أثر) ... 478 كان رسول الله يدخل بيت أم سليم (أثر) ... 458 ... كنت مع النبى بمكة فخرجنا فى (أثر) ... 208 كان رسول الله يدركه الفجر وهو (اثر) ... 20 ... كيف بك إذا أخرجت من خيبر ... 18 كان رسول الله يدنى إلى رأسه (أثر) ... 479 ... كيف تقضى إذا عرض لك قضاء ... 388 كان رسول الله يدور على نسائه (أثر) ... 462 ... (ل) كان رسول الله يرجع فى تلاوته (أثر) ... 126 ... لتأخذوا عنى مناسككم ... 13 كان رسول الله يشهد مع المشركين (أثر) ... 62 ... لست تاركاً شيئاً كان (أثر) ... 20 كان رسول الله يصلى بالليل وأنا (أثر) ... 479 ... لعبت الحبشة فجئت من ورائه (أثر) ... 488 كان رسول الله يضطجع معى (أثر) ... 478 ... لعن الله الخمر وشاربها ... 495 كان رسول الله يعالج من التنزيل (أثر) ... 26 ... لعن الله الراشى ... 496 كان رسول الله يغتسل بالصاع (أثر) ... 423 ... لعن الله السارق ... 495 كان رسول الله يقبل وهو صائم (أثر) ... 20 ... لعن الله من حلق ... 496 كان رسول الله ينام أول الليل ... 471 ... لعن الله من لعن والديه ... 495 الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة ... الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة لعن الله من يمثل بالحيوان ... 496 ... ما سئل سائل بمثلها ولا استعاذ ... 233 لقد رأيتنى فى غلمان من ... 55 ... ما صلى رسول الله العشاء قط فدخل (أثر) ... 470
لقد سألت … إنى لفى الصحراء ... 66 ... ما صنعت شيئاً فقال كفيتكه ... 90 لم أره على صورته التى خلق ... 256 ... ما ظنك باثنين الله ثالثهما ... 97 لم تراع. لم تراع ... 104 ... ما كان أحداً أحب إلىَّ من (أثر) ... 384 لم يكن رسول الله فاحشاً (أثر) ... 498 ... ما كان الله ليسلطك علىَّ ... 103 لما تزوج رسول الله زينب قالوا (أثر) ... 168 ... ما كنت لآكل مما لم يذكر (أثر) ... 59 لما قدم رسول الله المدينة لعبت (أثر) ... 485 ... ما له تربت يداه ... 502 لو دنا لاختطفته الملائكة ... 93 ... ما من بنى آدم مولود إلا يمسه ... 185 لو رأيت ابن عمر يتبع آثار (أثر) ... 423 ... ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ... 13 لو فعل لأخذته الملائكة ... 93 ... ما هذا؟ قالوا هذا يوم ... 305 لو كان الدين بالرأى لكان (اثر) ... 32 ... ما هذا يا أنس أعراقية (أثر) ... 36 لو كان رسول الله كاتماً شيئاً (أثر) ... 268 ... ما هذه ... 59 لو كان المطعم بن عدى حياً ... 156 ... ما هممت بقبيح ... 54 لو لم تفعلوا لصلح ... 18 ... ما من نبى بعثه الله فى ... 374 لو يعطى الناس بدعواهم ... 403 ... ما منكم من أحد إلا وقد وكل به ... 50 لولا أنى رأيت رسول الله قبلك (اثر) ... 20 ... ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة ... 81 ليت رجلاً من اصحابى … يحرسنى ... 86 ... ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ... 81 ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا ... 253 ... مثلى كمثل رجل استوقد ناراً ... 374 (م) ... مات رجال من أصحاب النبى قبل أن تحرم (أثر) ... 25 ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم (أثر) ... 24 ... مر رسول الله بمكان فحاد عنه (أثر) ... 21 ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة (أثر) ... 31 ... مر رسول الله على أناس بمكة (اثر) ... 91 ما أنا بقارئ ... 197 ... معاذ الله أن أعبد غير الله ... 381 ما بال أقوام يتنزهون عن الشئ أصنعه ... 131 ... مكانكم ثم رجع فاغتسل ... 16
ما ترون فى هؤلاء الأسارى ... 405 ... من أسلف فى تمر فليسلف ... 415 ما حملكم على إلقائكم نعالكم ... 19 ... من أطاعنى فقد أطاع الله ... 379 ما رأيت أحداً أشد عليه الوجع (أثر) ... 81 ... من جهز غازياً فى سبيل الله ... 456 ما رأيت أحداً قط أكثر مشاورة (أثر) ... 392 ... من حدث أن محمداً كتم شهادة (أثر) ... 268 ما سئل رسول الله عن شيئاً قط (أثر) ... 470 ... من هذا فقلت حذيفة ... 106 الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة ... الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة (ن) ... والخير كله فى يديك ... 117 ناس من أمتى عرضوا علىَّ ... 453 ... وددت أنى قد رأيت رسول الله (أثر) ... 27 نام رسول الله حتى انتصف الليل (أثر) ... 471 ... وقد تركت فيكم ما لن تضلوا ... 334 نام رسول الله فاستيقظ وهو (أثر) ... 458 ... وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط (اثر) ... 65 نحن أحق بالشك من إبراهيم ... 218 ... وكان جبريل يأتى بالنبى فى صورة (أثر) ... 255 نزلت هذه الآية فى خمسة من (اثر) ... 135 ... ولقد رأيته ينزل عليه الوحي فى (أثر) ... 27 نضر الله امرءاً سمع منا ... 16 ... والذى نفس محمد بيده لا يسمع فى أحد من ... 305 نعم، إن قتلت فى سبيل الله ... 258 ... والذى نفسى بيده إنكم أحب الناس ... 447 نعم، حجى عنها ... 400 ... والذى نفسى بيده لأقضين بينكما ... 350 نعم الرجل خريم الأسدى ... 425 ... والذى نفسى بيده لتدخلن الجنة ... 373 نعم فأخذه واستله ... 101 ... والذى نفسى بيده لو بدا لكم موسى ... 385 نفسى نفسى ... 128 ... ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن ... 499 نهى رسول الله أن نستقبل القبلة لبول (أثر) ... 39 ... (لا) نهى رسول الله أن يتنفس فى الإناء ... 417 ... لا ... 458 نهى رسول الله أن يشرب الرجل ... 37 ... لا أشبع الله بطنه ... 504 نهى رسول الله عن الأكل فى صحائف ... 417 ... لا ألفين أحدكم متكئاً ... 331
نهى رسول الله عن الوصال (أثر) ... 19 ... لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا ... 361 (هـ) ... لا تبكى يا بنية، فإن الله مانع ... 88 هذا نبيكم وخيار أمتكم (أثر) ... 426 ... لا تحزن إن الله معنا ... 97 هل تدرون ماذا قال ربكم ... 410 ... لا تذكرى هذا لعائشة ... 173 هل عرفتم القوم ... 105 ... لا تسألنى بالات والعزى ... 61 هل لك من إبل ... 79 ... لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ... 417 هلم أكتب لكم كتاباً ... 235 ... لا تمسه ... 59 هلم إلى ثوباً ... 72 ... لا تنزع الرحمة إلا من ... 273 هو من عمل الشيطان ... 234 ... لا ولكنه لا يكون بأرض قومى ... 418 (و) ... لا والله ما أبدلنى الله خيراً منها ... 214 وآدم بين الروح والجسد ... 47 ... لا والله ما مست يد رسول الله يد امرأة (أثر) ... 458 وأنتم تسألون عنى ... 270 ... لا يحل دم امرئ مسلم ... 351 وجعلت قرة عينى فى الصلاة ... 177 ... لا يرد القضاء إلا الدعاء ... 233 وجهت وجهى للذى فطر ... 132 ... لا يرمى رجل رجلاً بالفسوق ... 497 الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة ... الحديث/ الأثر ... رقم الصفحة لا يسألنى الله عن سنة أحدثتها ... 343 ... يا عم. إن الله قد عصمنى لا حاجة ... 84 لا يصلين أحد العصر إلا فى ... 241 ... يا عمر أتدرى من السائل ... 255 لا يشكر الله من لا يشكر الناس ... المقدمة ... يا غلام سم الله ... 417 لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه ... 422 ... يا قدامة إنى جالدك (أثر) ... 25 (ى) ... يا هؤلاء ألستم تعلمون أنى رسول ... 372 يا أبا الحكم أخبرنى عن محمد ... 272 ... يا محمد استدننى (أثر) ... 160 يا ابن أخى إنى لا آكل مما ذبح على (أثر) ... 58 ... يا معشر الخزرع إن محمداً منا (أثر) ... 86 يا أم فلان. أى السكك شئت ... 449 ... يا معشر الشباب من استطاع الباءة ... 468
ثالثا: فهرس الأعلام المترجم لهم (
يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمنى ربى ... 83 ... يا معشر قريش إنه والله قد نزل (أثر) ... 272 يا أيها الناس إن الرأى إنما كان (أثر) ... 335 ... يا مغيرة خذ الإداوة ... 419 يا أيها الناس إن الله لم يبعث بعد (أثر) ... 346 يا أيها الناس إنما أنا بشر ... 270 يا بنيه ائتنى بوضوئى ... 95 يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا ... 287 يا حصين إن أبى وأباك فى النار ... 74 يا حميراء أتحبين أن تنظرى إليهم ... 489 يا خديجة إنى أسمع صوتاً ... 208 يا صباحاه ... 10 يا عائشة. أشعرت أن الله أفتانى ... 222 يا عائشة. أفلا أكون عبداً شكوراً ... 127 يا عائشة. أما إنه بلغنى كذا وكذا ... 276 يا عم. إن الله قد عصمنى من الجن ... 84 ***************************** ********************** ************** ********* ثالثاً: فهرس الأعلام المترجم لهم (1) العلم ... رقم الصفحة ... العلم ... رقم الصفحة (أ) ... البيضاوى = عبد الله بن عمر إبراهيم ابن موسى الشاطبى ... 349 ... (ج) إبراهيم بن سويد النخعى ... 31 ... جابر بن عبد الله ... 35 أبى بن كعب ... 66 ... الجبائى = محمد بن عبد الوهاب أبى مصعب المكى ... 96 ... جرير بن عبد الله البجلى ... 30 ابن الأثير = المبارك بن محمد ... جعده بن خالد بن الصمة ... 104 أحمد حسين يعقوب ... 236 ... جعفر مرتضى العاملى ... 199 أحمد حجازى السقا ... 310 ... جمال البنا ... 328 أحمد بن عبد الحليم بن تيميه ... 304 ... أم جميل ... 94 أحمد بن محمد القسطلانى ... 267 ... ابن الجوزى =عبد الرحمن بن على بن محمد أحمد بن على بن حجر ... 28 ... جوستاف فايل ... 289 أحمد صبحى منصور ... 171 ... جولد تسيهر ... 289 إسماعيل منصور ... 328 ... (ح) إسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير ... 166 ... الحارث بن سويد ... 409
إسماعيل بن عمر ابن كثير ... 32 ... الحارث بن هشام ... 28 أسماء بنت أبى بكر ... 97 ... الحارث بن ربعى أبو قتادة ... 145 الأقرع بن حابس ... 78 ... الحباب بن المنذر ... 404 الألوسى = محمود شكرى بن عبد الله ... أم حبيبة ... 465 أبو أمامه ... 75 ... ابن حجر = أحمد بن على أمية بن أبى الصلت ... 282 ... حذيفة بن اليمان ... 105 أنس بن مالك ... 65 ... أم حرام ... 452 أبو أيوب ... 86 ... حرام بن ملحان ... 456 (ب) ... ابن حزم = على بن أحمد بحيرى الراهب ... 298 ... حسان بن عطية ... 345 البراء بن عازب ... 25 ... الحسن البصرى ... 352 أبو بكر الصديق ... 20 ... حصين بن عبيد ... 74 العلم ... رقم الصفحة ... العلم ... رقم الصفحة حفصة بنت عمر ... 172 ... (س) الحكم بن كيسان ... 157 ... السدى الكبير = إسماعيل بن عبد الرحمن أبو حيان = محمد بن يوسف ... سراقة بن مالك ... 97 (خ) ... سعد بن أبى وقاص ... 81 خديجة بنت خويلد ... 197 ... سعد بن مالك أبو سعيد الخدرى ... 19 خريم الأسدى ... 425 ... سعد بن هشام بن عامر ... 439 (د) ... سعيد بن أبى راشد ... 73 أبو الدرداء ... 51 ... سعيد بن المسيب ... 233 دحية الكلبى ... 255 ... أبو سفيان = صخر بن حرب ابن دحية = عمر بن الحسن ... سلمة بن الأكوع ... 104 (ذ) ... سلمان الفارسى ... 39 أبو ذر الغفارى ... 67 ... سلمة بن صخر البياضى ... 410 (ر) ... أم سليم ... 452 الفخر الرازى = محمد بن عمر ... سمرة بن جندب ... 270 رافع بن خديج ... 412 ... سهل بن الربيع ... 425 رشاد خليفة ... 327 ... السهيلى = عبد الرحمن بن عبد الله ركانة بن يزيد ... 292 ... السيوطى = عبد الرحمن بن أبى بكر أبو ريه = محمود ... (ش) (ز) ... الشاطبى = إبراهيم بن موسى الزرقانى = محمد بن الشيخ ... الشافعى = محمد بن إدريس الزمخشرى = محمود بن عمر ... أبو شامة = عبد الرحمن بن إسماعيل
زينب بنت سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ... 88 ... شبر نجر ... 289 زينب بنت جحش ... 163 ... الشوكانى = محمد بن على زينب بنت الحارث ... 103 ... (ص) زيد بن ثابت ... 27 ... صالح الوردانى ... 223 زيد بن حارثة ... 58 ... صخر بن حرب أبو سفيان ... 8 زيد بن خالد الجهنى ... 410 ... صفوان بن أمية ... 100 زيد بن عمرو بن نفيل ... 58 ... صفية بنت حى بن أخطب ... 86 صهيب الرومى ... 301 العلم ... رقم الصفحة ... العلم ... رقم الصفحة (ط) ... على بن أحمد ابن حزم ... 168 أبو طالب = عبد مناف ... على بن محمد القارى ... 219 الطبرى = محمد بن جرير ... عمار بن ياسر ... 105 طلحة بن عبيد الله ... 12 ... عمران بن حصين ... 74 (ع) ... عمر بن أخطب الأنصارى ... 262 عائشة بنت أبى بكر الصديق ... 19 ... عمر بن الحسن بن دحيه ... 226 عامر بن فهيرة ... 98 ... عمر بن الخطاب ... 17 عبادة بن الصامت ... 26 ... عمر بن عبد العزيز ... 346 عبد الحسين شرف الدين ... 199 ... عمرو بن أمية الضمرى ... 101 عبد الرحمن بن إسماعيل ٍأبو شامة ... 422 ... عمرو بن العاص ... 384 عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى ... 125 ... عمير بن عبيد ... 101 عبد الرحمن بن خنبش ... 151 ... عمير بن قيس ... 158 عبد الرحمن بن عبد الله السهيلى ... 160 ... عمير بن وهب ... 100 عبد الرحمن بن على بن الجوزى ... 174 ... عياض بن موسى أبو الفضل ... 17 عبد الله بن جحش ... 157 ... (غ) عبد الله بن الزبعرى ... 77 ... الغزالى = محمد بن محمد عبد الله بن سلام ... 274 ... (ف) عبد الله بن عباس ... 10 ... فاطمة بنت سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ... 94 عبد الله بن عمر ... 19 ... فضالة بن عمير الليثى ... 105 عبد الله بن عمر البيضاوى ... 151 ... أبو الفضل = عياض بن موسى اليحصبى عبد الله بن عمرو بن العاص ... 28 ... (ق)
عبد الله بن المبارك ... 345 ... قاسم أحمد ... 357 عبد الله بن مسعود ... 50 ... أبو قتادة = الحارث بن ربعى عبد مناف أبو طالب ... 4 ... قدامة بن مظعون ... 24 عثمان بن عبد الله ... 157 ... القرطبى = محمد بن أحمد بن أبى بكر العرباض بن سارية ... 48 ... القسطلانى = أحمد بن محمد بن على عروة بن الزبير بن العوام ... 23 ... (ك) عروة بن مسعود الثقفى ... 383 ... كارل بروكلمان ... 282 على بن أبى طالب ... 30 ... ابن كثير = إسماعيل بن عمر العلم ... رقم الصفحة ... العلم ... رقم الصفحة كريز بن أسامة ... 497 ... محمد بن يوسف أبو حيان ... 151 الكلبى = محمد بن السائب ... محمود أبو ريه ... 185 (ل) ... محمود شكرى الألوسى ... 151 لبيد بن الأعصم ... 222 ... محمود بن عمر الزمخشرى ... 150 (م) ... أبو مصعب المكى ... 96 المازرى = محمد بن على بن عمر ... مطرف بن عبد الله بن الشخير ... 337 ماكس مايرهوف ... 294 ... المطعم بن عدى ... 156 مارية رضى الله عنها ... 171 ... معاذ بن جبل ... 253 المبارك بن محمد ابن الأثير ... 4 ... ميمونة بنت الحارث الهلالية ... 35 مجذر بن زياد ... 409 ... ميسرة الفجر ... 47 محمد بن أحمد بن أبى بكر القرطبى ... 241 ... (ن) محمد بن إدريس الشافعى ... 341 ... نافع مولى ابن عمر ... 423 محمد بن جرير الطبرى ... 4 ... نسطورا الراهب ... 298 محمد حسين هيكل ... 186 ... النووى = يحيى بن شرف الحورانى محمد رشيد رضا ... 227 ... نيازى عز الدين ... 309 محمد بن السائب الكلبى ... 320 ... (هـ) محمد بن الشيخ الزرقانى ... 315 ... هرقل "ملك الروم" ... 8 محمد بن عبد الوهاب الجبائى ... 150 ... هشام آل قطيط ... 437 محمد عبده ... 224 ... (و) محمد بن على الشوكانى ... 154 ... الواقدى = محمد بن عمر بن واقد محمد بن على بن عمر المازرى ... 240 ... ورقة بن نوفل ... 197
محمد بن عمر الواقدى ... 204 ... (ى) محمد بن عمر الفخر الرازى ... 288 ... يحيى بن سعيد القطان ... 200 محمد بن محمد الغزالى ... 390 ... يحيى بن شرف الحورانى النووى ... 31 محمد بن مسلمة ... 36 ... يعلى بن أمية ... 27 محمد نجيب ... 327 ***************************** ********************** ************** *********
رابعا: فهرس الأشعار
رابعاً: فهرس الأشعار (1) البيت ... رقم الصفحة (ر) هو النعمة العظمى هو الرحمة التى ... *** ... تجلى بها الرحمن فى السر والجهر ... المقدمة لو لم تكن فيه آيات مبينة ... *** ... لكان منظره ينبيك بالخبر ... 274 (ز) إذا رمت تشرب فاقعد تفز ... *** ... بسنة صفوة أهل الحجاز ... 39 وقد صححوا شربه قائماً ... *** ... ولكنه لبيان الجواز ... 39 (ف) عجباً لعزة فى اختيار قطيعتى ... *** ... بعد الضلال فحبلها قد أخلفا ... 115 (ق) هذا الضلال أشاب منى المفرقا ... *** ... والعارضين ولم أكن متحققا ... 115 أيروم مخلوق ثناءك بعدما ... *** ... أثنى على أخلاقك الخلاق؟ ... مقدمة (ل) كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... *** ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل ... هـ لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... *** ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل ... 271 وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... *** ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل ... 5 (ن) صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به ... *** ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذن ... 6 وإذا العناية لاحظتك عيونها ... *** ... نم فالمخاوف كلهن أمان ... 6 (هـ) أبا حكم والله لو كنت شاهداً ... *** ... لأمر جوادى إذ تسيخ قوائمه ... 99 عجبت ولم تشكك بأن محمداً ... *** ... نبى وبرهان فمن ذا يقاومه؟ ... 99 عليك بكف الناس عنه فإننى ... *** ... أرى أمره يوماً ستبدو معالمه ... 99 (و) إن يسمعوا زلة طاروا بها فرحاً ... *** ... منى وما علموا من صالح دفنوا ... 6 خامساً: فهرس البلدان والقبائل والفرق (2) رقم الصفحة ... رقم الصفحة (أ) ... (ش) أحد ... 86 ... الشام ... 48 الأزارقة ... د ... الشيعة ... 141 الأسكندرية ... 298 ... (ع) أمريكا ... 309 ... العراق ... 36 الأوس ... 483 ... عسقلان ... 28 (ب) ... (ف)
فهرس المصادر والمراجع
بدر ... 86 ... الفضيلية ... د بلدح ... 58 ... فلسطين ... 28 (ت) ... (ق) تيماء ... 298 ... قريش ... 8 (ح) ... قريظة ... 204 الحبشة ... 94 ... (ك) حمص ... 73 ... الكرامية ... د (خ) ... الكعبة ... 54 خزاعة ... 23 ... (م) الخزرج ... 86 ... المدينة ... 23 الخندق ... 86 ... مصر ... 289 الخوارج ... 86 ... معونة ... 101 خيبر ... 17 ... مكة ... 67 (ر) ... (هـ) الروافض ... 30 ... بنو هاشم ... 85 الروم ... 8 ... هزيل ... 23 (س) ... (ى) السودان ... 483 ... اليهود ... 298 سوريا ... 289 سادساً: فهرس المصادر والمراجع أهمل فى الترتيب الألف واللام، وأب، وابن، فى أول اسم الكتاب، وكذلك كلمة (كتاب) . 1- القرآن الكريم. (أ) 2- آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره، للدكتور عمر إبراهيم رضوان، دار طيبة بالسعودية، الطبعة الأولى 1413هـ - 1992م. 3- آيات عتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم فى ضوء العصمة والاجتهاد، للدكتور عويد بن عياد المطرفى، دار الفكر العربى بمصر، بدون تاريخ. 4- الابتهاج فى أحاديث المعراج، لعمر بن الحسن بن دحية، مكتبة الخانجى بمصر، الطبعة الأولى 1417هـ - 1996م. 5- الإبداعات الطبية لرسول الإنسانية، لمختار سالم، مؤسسة المعارف، بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ - 1995م. 6- الإبهاج فى شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول، "للقاضى البيضاوى" لعلى السبكى وولده عبد الوهاب، حققه جماعة من العلماء، دار الكتب العلمية بيروت، 1404هـ - 1984م. 7- إتحاف ذوى الفضائل المشتهرة، لعبد العزيز الغمارى، ضمن مجموعة الحديث الصديقية، مكتبة القاهرة بمصر، بدون تاريخ. 8- إتحاف المريد شرح جوهرة التوحيد، بهامش حاشية محمد الأمير على جوهرة التوحيد، مطبعة البابى الحلبى بمصر، 1368هـ.
9- الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، لبدر الدين الزركشى، تحقيق محمد سعيد الأفغانى، دار القلم بيروت، الطبعة الثانية 1390هـ - 1970م. 10- الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة، لمحمد عبد الحى اللكنوى، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، دار السلام بمصر، الطبعة الثالثة 1414هـ - 1993م. 11- الأحاديث المتواترة فى الأزهار المتناثرة فى الأخبار المتواترة، لعبد الرحمن السيوطى، تحقيق أحمد حسن رجب، هديه مجلة الأزهر الشريف، 1409هـ. 12- الأحكام فى أصول الأحكام، لابن حزم الظاهرى، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ - 1985م. 13- الأحكام فى أصول الأحكام، لعلى بن محمد الآمدى، مطبعة البابى الحلبى بمصر، 1387هـ - 1967م. 14- أحكام القرآن، لمحمد بن العربى، تحقيق على محمد البجاوى، مطبعة عيسى الحلبى بمصر، الطبعة الأولى 1376هـ. 15- أخلاق النبى صلى الله عليه وسلم فى القرآن والسنة، للدكتور أحمد عبد العزيز الحداد، دار الغرب الإسلامى بيروت، الطبعة الثانية 1419هـ - 1999م. 16- أخلاق النبى صلى الله عليه وسلم وآدابه، لعبد الله الأصبهانى، تحقيق عصام الدين الصبابطى الدار المصرية اللبنانية بمصر، الطبعة الأولى 1411هـ. 17- آداب الإملاء والاستملاء، للسمعانى، دار الكتب العلمية بيروت. 18- الأدب المفرد، لمحمد إسماعيل البخارى، تحقيق فضل الله الجيلانى، ومحب الدين الخطيب، المكتبة السلفية بمصر، الطبعة الثالثة 1407هـ. 19- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، لمحمد بن على الشوكانى، تحقيق الدكتور شعبان إسماعيل، دار الكتبى بمصر، بدون تاريخ. 20- الإرشاد إلى قواطع الأدلة فى أصول الاعتقاد، لعبد الملك الجوينى، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ.
21- الاستذكار لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معانى الرأى والآثار، لابن عبد البر، تحقيق على النجدى، طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية 1390هـ - 1971م. 22- الاستشراق فى السيرة النبوية، لعبد الله محمد الأمين، طبعة المعهد العالمى للفكر الإسلامى، الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م. 23- الاستشراق والمستشرقون وجهة نظر: لعدنان محمد وزان، طبعة رابطة العالم الإسلامى، العدد 24، السنة الثالثة. 24- الاستيعاب فى معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، تحقيق على محمد البجاوى، دار الجيل بيروت، الطبعة الأولى 1412هـ - 1992م. 25- أسد الغابة فى معرفة الصحابة، لابن الأثير، تحقيق على معوض، وعادل أحمد، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ - 1994م. 26- الإسلام بدون حجاب، بحث مستل من شبكة الإنترنت. 27- الإسلام السياسى، لمحمد سعيد العشماوى، طبعة القاهرة 1989م. 28-الإسلام على مفترق الطرق، لمحمد أسد (ليبولد فايس) ترجمة الدكتور عمر فروخ، دار العلم بيروت، 1987م. 29- الإسلام عقيدة وشريعة، لمحمود شلتوت، دار الشروق بمصر، الطبعة السابعة عشر 1417هـ - 1997م. 30- الإسلام والرسول فى نظر منصفى الشرق والغرب، لأحمد آل بوطامى، مطابع قطر الوطنية بالدوحة، الطبعة الثالثة 1398هـ. 31- الإسلام واستمرار المؤامرة، دفاع عن السنة، للدكتور طه حبيشى، مكتبة رشوان بمصر 1988م. 32- الإسلام والمستشرقون، لنخبة من علماء المسلمين، عالم المعرفة بجدة 1985م. 33- الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، لمحمد عبده، مطبعة محمد صبيح، 1373هـ - 1954م. 34- إشارة التعيين فى تراجم النحاة، لعبد الباقى اليمانى، تحقيق عبد المجيد دياب، شركة الطباعة بالرياض 1406هـ. 35- الأشباه والنظائر فى القرآن الكريم، لمقاتل بن سليمان البلخى، تحقيق الدكتور عبد الله شحاته، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1414هـ - 1994م.
36- الإصابة فى تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلانى، دار السعادة بمصر 1328هـ. 37- أصل الشيعة وأصولها، لمحمد آل كاشف، مؤسسة الأعلمى بيروت، الطبعة الرابعة 1413هـ. 38- أصول السرخسى، لمحمد بن أحمد السرخسى، تحقيق أبو الوفا الأفغانى، حيدر أباد الدكن بالهند، تصوير الكتب العلمية بيروت 1414هـ - 1993م. 39- اصول السيرة المحمدية، لعبد العزيز بن راشد النجدى، الطبعة الثانية، خال من مكان الطبع وتاريخه. 40- أصول الشريعة، لمحمد سعيد العشماوى، طبعة القاهرة 1979م. 41- أصول الفقه، لمحمد الخضرى، دار الحديث بمصر، بدون تاريخ. 42- الأصلان العظيمان - الكتاب والسنة - رؤية جديدة، لجمال البنا، مطبعة حسان بمصر. 43- أضواء على السنة المحمدية، لمحمود أبو ريه، دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ. 44- الأضواء القرآنية فى اكتساح الأحاديث الإسرائيلية، وتطهير البخارى منها، للسيد صالح أبو بكر، مطبعة محرم الصناعية 1974م. 45- إعادة تقييم الحديث، لقاسم أحمد، مكتبة مدبولى الصغير بمصر، الطبعة الأولى 1997م. 46- إعادة قراءة القرآن، لجاك بيرك، ترجمة وائل غالى شكرى، تقديم أحمد صبحى منصور، دار النديم للصحافة بمصر، الطبعة الأولى 1996م. 47- الاعتبار فى الناسخ والمنسوخ من الآثار، للحازمى، تحقيق الدكتور عبد المعطى قلعجى، دار الوفاء بالمنصورة، الطبعة الثانية 1410هـ - 1989م. 48- الاعتصام، للشاطبى، تحقيق محمود طعمة، دار المعرفة بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ - 1997م. 49- الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب، والمستعربين، والمستشرقين، للزركلى، دار العلم بيروت، الطبعة السادسة 1984م. 50- أعلام المسلمين بعصمة النبيين، لإسحاق بن عقيل المكى، دار ابن حزم بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ. 51- أعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الأولى 1374هـ.
52- أعلام النبوة، للماوردي، تحقيق خالد العك، دار النفائس بيروت 1414هـ - 1994م. 53- أفعال الرسول ودلالتها علي الأحكام الشرعية، للدكتور عمر سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة بيروت 1408هـ - 1998م. 54- الإفصاح في إمامة علي بن أبي طالب، لمحمد بن النعمان العكبري، دار المنتصر بيروت، الطبعة الثانية 1409هـ - 1989م. 55- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية، تحقيق صلاح عويضة، مكتبة الإيمان بالمنصورة، الطبعة الأولي 1417هـ - 1996م. 56- اكمال اكمال المعلم، شرح صحيح مسلم، لمحمد بن عمر الأبي، مطبعة السعادة بمصر 1327هـ. 57- اكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض، تحقيق الدكتور يحيي حبلوش، دار الوفاء بالمنصورة، الطبعة الأولي 1419هـ - 1998م. 58- الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطية، لنصر أبو زيد، مكتبة مدبولي الصغير بمصر، الطبعة الثانية 1996م. 59- إمتاع الأسماع بما للنبي صلي الله عليه وسلم من الأبناء والأموال والخدمة للمقريزي، تحقيق محمد القيسي، دار الثقافة 1401هـ. 60- إنباه الرواة علي أنباه النحاة، للقفطي الوزير، تحقيق محمد إبراهيم، دار الكتب المصرية، الطبعة الأولي 1955م. 61- الأنبياء في القرآن دراسة تحليلية، لأحمد صبحي منصور، مؤسسة الرسالة، 1405هـ - 1985م. 62- إنذار من السماء، لنيازي عز الدين، الأهالي للطباعة بيروت، الطبعة الأولي 1996م. 63- الأنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، لابن المنير، مطبعة مصطفي الحلبي بمصر 1385هـ. 64- أنوار التنزيل وأسرار التأويل، لعبد الله بن عمر البيضاوي، دار الفكر 1402هـ. 65- الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء علي السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، لعبد الرحمن بن يحيي المعلمي اليماني، المكتبة السلفية بمصر 1378هـ. 66- أهل السنة شعب الله المختار، لصالح الورداني، كنوته للطباعة، الطبعة الأولي 1417هـ - 1997م. (ب)
67- الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، لابن كثير، تأليف أحمد محمد شاكر، دار التراث بمصر، الطبعة الثالثة 1399هـ - 1989م. 68- الباهر فى حكم النبى صلى الله عليه وسلم بالباطن والظاهر، للسيوطى، تحقيق الدكتور محمد خيرى، دار السلام بمصر، الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م. 69- البحر المحيط فى أصول الفقه، للزركشى، تحقيق الدكتور عمر سليمان الأشقر وغيره، دار الصفوة بالغردقة، الطبعة الثانية 1413هـ - 1992م. 70- البحر المحيط فى تفسير القرآن الكريم، لأبى حيان الأندلسى، دار الفكر بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ. 71- البداية والنهاية فى التاريخ، لابن كثير، تحقيق الدكتور أحمد أبو ملحم وغيره، دار الريان للتراث، الطبعة الأولى 1408هـ - 1988م. 72- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، للشوكانى، دار المعرفة بيروت، بدون تاريخ. 73- البرهان فى أصول الفقه، للجوينى، تحقيق صلاح محمد عويضة، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ - 1997م. 74- البرهان فى علوم القرآن، للزركشى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابى الحلبى بمصر، الطبعة الأولى 1376هـ. 75- بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز، للفيروز آبادى، طبع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر. 76- بغية الوعاة، للسيوطى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى الحلبى بمصر، الطبعة الأولى 1384هـ - 1964م. 77- بلوغ اليقين بتصحيح مفهوم ملك اليمن، لإسماعيل منصور جودة، خال من مكان الطبع، بتاريخ 1418هـ - 1997م. 78- البيان بالقرآن، لمصطفى كمال المهدوى، دار الآفاق الجديدة بليبيا، الطبعة الأولى 1990م. (ت) 79- تاج العروس فى جواهر القاموس، للزبيدى، المطبعة الخيرية بمصر، الطبعة الأولى 1306هـ. 80- تاريخ الأدب العربى، لكارل بروكلمان، ترجمة عبد الحليم النجار، دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة.
81- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، للذهبى، تحقيق الدكتور عمر التدمرى، دار الكتاب العربى بيروت 1990م. 82- تاريخ الإسلام الثقافى والسياسى، لصائب عبد الحميد، مركز الغدير للدراسات بيروت، الطبعة الأولى 1997م. 83- تاريخ أسماء الثقات ممن نقل عنهم العلم، لابن شاهين، تحقيق الدكتور عبد المعطى أمين قلعجى، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ - 1986م. 84- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادى، مطبعة السعادة، الطبعة الأولى 1349هـ - 1930م. 85- تاريخ الثقات، للعجلى، بترتيب الحافظ الهيثمى، وتضمينات، الحافظ ابن حجر، تحقيق الدكتور عبد المعطى قلعجى، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ - 1984م. 86- تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده، لمحمد رشيد رضا، مطبعة المنار بمصر، الطبعة الأولى 1350هـ - 1931م. 87- تاريخ الشعوب الإسلامية، لكارل بروكلمان، دار العلم بيروت، الطبعة السادسة. 88- تاريخ الصحابة الذين روى عنهم الأخبار، لابن حبان، تحقيق بوران الضناوى، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ - 1988م. 89- تاريخ الطبرى، لمحمد بن جرير الطبرى، تحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر 1979م. 90- تاريخ العرب، لفيليب حتى، دار الكشاف، الطبعة الثالثة 1961م. 91- تأملات فى الحديث عند السنة والشيعة، لزكريا عباس داود، دار النخيل بيروت، الطبعة الأولى، 1416هـ - 1995م. 92- تأملات فى الصحيحين، لمحمد صادق النجمى، دار العلوم، الطبعة الأولى 1988م. 93- تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، تحقيق محمد عبد الرحيم، دار الفكر بيروت1415هـ - 1995م. 94- تبصير الأمة بحقيقة السنة، لإسماعيل منصور جودة، خال من مكان الطبع 1416هـ - 1995م. 95- تجريد أسماء الصحابة، للذهبى، دار المعرفة بيروت، بدون تاريخ.
96- تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها، لسليمان الندوى، ترجمها الشيخ عبد الوهاب الدهلوى، المطبعة السلفية بمصر، الطبعة الثالثة 1399هـ. 97- التحرير فى أصول الفقه، لمحمد بن الهمام، مطبعة مصطفى الحلبى بمصر 1350هـ. 98- تدريب الراوى شرح تقريب النواوى، للسيوطى، تحقيق الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الثالثة 1399هـ - 1979م. 99- تذكرة الحفاظ، للذهبى، تصحيح عبد الرحمن المعلمى اليمانى، حيدر آباد الدكن بالهند، الطبعة الأولى 1395هـ - 1975م. 100- تراث الإسلام، لجوزيف شاخت، ترجمة حسين مؤنس، مطبعة إحسان صدقى. 101- التعريفات، للجرجانى، تحقيق إبراهيم الإبيارى، دار الريان للتراث، بدون تاريخ. 102- التعليق المغنى على الدارقطنى، للعظيم آبادى، تحقيق السيد عبد الله هاشم يمانى، دار المحاسن للطباعة بمصر 1386هـ. 103- تفسير ابن أبى حاتم، تحقيق أسعد محمد الطيب، مطبعة نزار مصطفى الباز، الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م. 104- تفسير التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية 1984م. 105- تفسير جزء عم، لمحمد عبده، المطبعة الأميرية، الطبعة الأولى 1322هـ. 106- تفسير الجلالين، لجلال الدين المحلى، وجلال الدين السيوطى، مطبعة مصطفى البابى الحلبى. 107- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق عبد العزيز غنيم وغيره، مطبعة دار الشعب بمصر بدون تاريخ. 108- تفسير القيم، لابن قيم الجوزية، جمع محمد أويس الندوى، تحقيق محمد حامد الفقى، دار الكتب العلمية بيروت 1398هـ. 107- التفسير الكبير، (المسمى مفاتيح الغيب) للفخر الرازى، دار إحياء التراث العربى بيروت. 108- تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، دار المنار بمصر، الطبعة الثالثة 1967م. 109- التفسير والمفسرون، للدكتور محمد حسين الذهبى، دار الكتب الحديثة بمصر الطبعة الأولى 1361هـ. 110- تفسير الوسيط، للدكتور محمد سيد طنطاوى، دار المعارف بمصر.
111- تقرير الاستناد فى تفسير الاجتهاد، للسيوطى، تحقيق الدكتور فؤاد عبد المنعم، دار الدعوة بالإسكندرية، الطبعة الأولى 1403هـ - 1983م. 112- التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ - 1983م. 113- تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلانى، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1413هـ - 1993م. 114- تلخيص الحبير فى تخريج أحاديث الرافعى الكبير، لابن حجر العسقلانى، تحقيق عادل عبد الموجود، وعلى معوض، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1419هـ - 1998م. 115- تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء، لعلى بن أحمد السبتى، تحقيق الدكتور محمد رضوان الداية، دار الفكر بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ - 1990م. 116- تنزيه الأنبياء، لعلى بن الحسين الموسوى، قم، إيران، بدون تاريخ. 117- تهذيب الأسماء واللغات، للنووى، المطبعة المنيرية بمصر 1927م. 118- تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلانى، حيدر أباد الدكن بالهند 1907م. 119- تهذيب الكمال فى أسماء الرجال، للمزى، تحقيق شعيب الأرنؤوط، والدكتور بشار عواد، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الأولى 1412هـ - 1992م. 120- توضيح الأفكار لمعانى تنقيح الأنظار، للأمير الصنعانى، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، مكتبة الخانجى، الطبعة الأولى 1366هـ. 121- تيسير التحرير شرح كتاب التحرير، لابن الهمام، للأمير بادشاه الحنفى، مطبعة عيسى الحلبى بمصر، 1350هـ. 122- تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير، للدكتور مروان محمد شاهين، مكتب فوزى الشيمى للطباعة بطنطا، بيروت تاريخ. (ث) 123- الثقات، لابن حبان البستى، حيدر أباد الدكن بالهند، الطبعة الأولى 1404هـ - 1984م. (ج) 124- جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، المطبعة المنيرية 1978، تصوير دار الكتب العلمية.
125- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، مطبعة مصطفي البابي الحلبي بمصر، الطبعة الثالثة 1388هـ. 126- الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، للسيوطي، مطبعة مصطفي البابي الحلبي بمصر، الطبعة الخامسة. 127- الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، تصحيح أحمد عبد العليم، الطبعة الثانية 1952م. 128- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي، تحقيق محمد رأفت سعيد، مطبعة الفلاح بدون تاريخ. 129- الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم الرازي، حيدر آباد الدكن بالهند، الطبعة الأولي 1371هـ - 1951م، تصوير دار الكتب العلمية بيروت. 130- جمع الجوامع بحاشية البناني، للسبكي، مطبعة عيسي البابي الحلبي بمصر. 131- الجمع بين رجال الصحيحين، لابن طاهر المقدسي، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولي 1323هـ - 1905م. (ح) 132- حاشية البدر الساري إلي فيض الباري، لمحمد بدر، دار المعرفة بيروت. 133- حجية السنة، للدكتور عبد الغني عبد الخالق، دار الوفاء بالمنصورة، الطبعة الثانية 1413هـ - 1993م. 134- حد الردة دراسة أصولية تاريخية، لأحمد صبحي منصور، دار طيبة بمصر. 135- الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام، للألباني، مطعبة الدار السلفية، الطبعة الثالثة 1400هـ. 136- الحسبة دراسة أصولية تاريخية، لأحمد صبحي منصور، مركز المحروسة للنشر بمصر، الطبعة الأولي 1995م. 137- حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسي البابي الحلبي بمصر، الطبعة الأولي 1387هـ - 1968م. 138- حصاد العقل، لمحمد سعيد العشماوي، مكتبة مدبولي الصغير 1992م. 139- حضارة العرب، لجوستاف لبون، ترجمة محمد عادل زعيتر، مطبعة عيسي البابي الحلبي 1364هـ - 1945م. 140- حقائق ثابتة في الإسلام، لابن الخطيب، مطبعة الأفق بطهران 1394هـ - 1974م.
141- حقوق النبى صلى الله عليه وسلم على أمته، للدكتور محمد خليفة التميمى، دار الفتح بالشارقة، الطبعة الأولى 1418هـ - 1997م. 142- حقيقة الحجاب وحجية الحديث، لمحمد سعيد العشماوى، مكتبة مدبولى الصغير بمصر، الطبعة الثانية 1415هـ - 1995م. 143- حقيقة السنة النبوية، لأحمد حجازى السقا، مكتبة الكليات الأزهرية بمصر، الطبعة الأولى 1410هـ - 1990م. 144- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبى نعيم الأصفهانى، مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الأولى 1357هـ - 1938، تصوير دار الكتب العلمية. 145- حوار ومناقشة كتاب عائشة أم المؤمنين، لهشام آل قطيط، دار المحجة البيضاء، بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ - 1998م. 146- حياة محمد، لدر منغم، ترجمة عادل زعيتر، مطعبة عيسى البابى الحلبى، الطبعة الثانية 1368هـ - 1949م. 147- حياة محمد، للدكتور محمد حسين هيكل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثالثة 1996م. (خ) 148- الخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة، لصالح الوردانى، دار الخليج، الطبعة الثانية 1416هـ - 1996م. 149- الخصائص الكبرى، للسيوطى، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ - 1985م. 150- الخطوط الطويلة أو دفاع عن السنة المحمدية، لمحمد على الهاشمى، مراجعة وتعليق مرتضى الرضوى، دار الأمير بيروت، الطبعة الأولى 1997م. 151- خواطر دينية، لعبد الله محمد الصديق، مكتبة القاهرة بمصر، الطبعة الأولى 1388هـ - 1968م. 152- خلاصة تهذيب الكمال، للخزرجى، مطبعة بولاق بمصر 1301هـ. (د) 153- دائرة المعارف الإسلامية، نقلها للعربية أحمد الشنتناوى وغيره، دار المعرفة بيروت 1957م. 154- الدر المنثور فى التفسير بالمأثور، للسيوطى، طبعة القاهرة، تصوير دار المعرفة بيروت. 155- دراسات أصولية فى السنة النبوية، للدكتور محمد الحفناوى، دار الوفاء بالمنصورة، الطبعة الأولى 1412هـ - 1991م.
156- دراسات فى السنة، للدكتور محمد المنسى، مكتبة الشباب بالمنيرة مصر 1996م. 157- دراسات فى السيرة وعلوم السنة، للدكتور موسى لاشين، مطبعة الفجر الجديد. 158- دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف الحديثة، لموريس بوكاى، مكتبة مدبولى الكبير بمصر، الطبعة الأولى 1996م. 159- الدرر فى اختصار المغازى والسير، لابن عبد البر، تحقيق الدكتور شوقى ضيف، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية. 160- الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة، لابن حجر العسقلانى، حيدر أباد الدكن بالهند، الطبعة الأولى 1349هـ - 1930م. 161- دستور الأخلاق فى القرآن، للدكتور محمد دراز، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الرابعة 1402هـ. 162- دفاع عن الحديث والمحدثين وتفنيد شبهات خصومه، لجماعة من العلماء، تصحيح زكريا على يوسف، توزيع مكتبة المتنبى بمصر 1972م. 163- دفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين، لصالح الوردانى، الناشر تريدنكو بيروت 1997م. 164- دفاع عن السنة، للدكتور محمد أبو شهبة، مكتبة السنة بمصر، الطبعة الأولى 1989م. 165- دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى، لأحمد حجازى السقا، مكتبة الكليات الأزهرية بمصر، الطبعة الأولى 1410هـ - 1990م. 166- دليل المسلم الحزين إلى مقتضى السلوك فى القرن العشرين، لحسين أحمد أمين، دار الشروق بمصر، الطبعة الأولى 1403هـ - 1983م. 167- الدولة والمجتمع، لمحمد شحرور، مطبعة الأهالى بيروت، الطبعة الرابعة 1997م. 168- دلائل النبوة، لأبى نعيم الأصبهانى، تحقيق الدكتور محمد رواس قلعجى وغيره، دار النفائس بيروت، الطبعة الثالثة 1412هـ - 1991م. 169- دلائل النبوة ومعرفة صاحب الشريعة، للبيهقى، تحقيق الدكتور عبد المعطى قلعجى، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ - 1997م.
170- دلائل القرآن المبين على أن النبى صلى الله عليه وسلم أفضل العالمين، لعبد الله الصديق الغمارى، المكتبة المكية بالسعودية، الطبعة الأولى 1418هـ - 1997م. 171- الديباج المذهب فى معرفة أعيان علماء المذهب المالكى، لابن فرحون المالكى، تحقيق مأمون محيى الدين، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ - 1996م. 172- دين السلطان، لينازى عز الدين، دار الأهالى بيروت، الطبعة الأولى 1997م. 173- ديوان عبد الله بن رواحة، للدكتور وليد قصاب، دار العلوم، الطبعة الثانية 1408هـ. (ر) 174- الربا والفائدة فى الإسلام، للعشماوى، مكتبة مدبولى الصغير بمصر، الطبعة الأولى 1996م. 175- رجال صحيح البخارى، للكلاباذى، تحقيق عبد الله الليثى، دار المعرفة بيروت 1987م. 176- رجال صحيح مسلم، لابن منجويه، تحقيق عبد الله الليثى، دار المعرفة بيروت 1987م. 177- الرسل والرسالات، للدكتور عمر سليمان الأشقر، دار الفلاح، بالكويت. 178- الرسالة، للإمام الشافعى، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الفكر بيروت، 1309هـ. 179- الرسالة المحمدية، لسليمان الندوى، الدار السعودية، بجدة، الطبعة الثانية 1984م. 180- الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة، للكتانى، تحقيق محمد المنتصر، دار البشائر بيروت 1986م. 181- الرسول فى كتابات المستشرقين، لنذير حمدان، مطبوعات رابطة العالم الإسلامى بجدة. 182- رشاد خليفة صنيعة الصليبية العالمية، وأخطر من سلمان رشدى، للدكتور خالد نعيم، مطبعة المختار الإسلامية، بدون تاريخ. 183- روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى، للألوسى، دار إحياء التراث العربى بيروت. 184- الروض الأنف فى تفسير السيرة النبوية لابن هشام، للسهيلى، دارالمعرفة بيروت 1398هـ. 185- الروضة الندية شرح الدرر البهية، للقنوجى، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار التراث بمصر.
186- الرياض المستطابة فى جملة من روى فى الصحيحين من الصحابة، ليحيى العامرى اليمنى، تصحيح عمر أبو حجلة، مكتبة المعارف بيروت 1983م. (ز) 187- زاد المعاد فى هدى خير العباد، لابن قيم الجوزية، تحقيق شعيب الأرنؤوط وغيره، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الرابعة 1407هـ - 1986م. (س) 188- سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام، للأمير الصنعانى، تحقيق إبراهيم عصر، دار الحديث بمصر، بدون تاريخ. 189- سبل الهدى والرشاد فى سيرة خير العباد، لمحمد بن يوسف الصالحى الشامى، مطابع الأهرام التجارية 1404هـ. 190- السحر والسحرة والوقاية من الفجرة، لتاج الدين نوفل، مكتبة التراث الإسلامى بمصر. 191- السلطة فى الإسلام، لعبد الجواد ياسين، الدار البيضاء، بالمغرب، الطبعة الأولى 1998م. 192- سنن أبى داود، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية بيروت. 193- سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى، عيسى البابى الحلبى بمصر 1954م. 194- سنن الترمذى، تحقيق أحمد شاكر، ومحمد فؤاد عبد الباقى وغيرهما، عيسى البابى الحلبى بمصر 1385هـ نشر وتصوير دار الحديث. 195- سنن الدارقطنى، تحقيق السيد عبد الله هاشم يمانى، دار المحاسن بمصر، الطبعة الأولى 1386هـ - 1966م. 196- سنن الدارمى، تحقيق فواز أحمد زمرلى، وخالد العلمى، دار الريان بمصر، الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م. 197- السنن الكبرى، للبيهقى، دار المعارف العثمانية، الطبعة الأولى 1344هـ - 1925م. 198- السنن الكبرى، للنسائى، تحقيق الدكتور عبد الغفار سليمان البندارى وغيره، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ - 1991م. 199- سنن النسائى، (المجتبى) تحقيق الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ - 1986م. 200- السنة، لابن أبى عاصم، تحقيق ناصر الدين الألبانى، المكتب الإسلامى، بيروت، الطبعة الثالثة 1413هـ - 1993م.
201- السنة بياناً للقرآن، للدكتور إبراهيم الخولى، الشركة العربية للطباعة 1993م. 202- السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث، للشيخ محمد الغزالى، دار الشروق بمصر 1989م. 203- السنة بين دعاة الفتنة وأدعياء العلم، للدكتور عبد الموجود عبد اللطيف، دار الطباعة المحمدية بمصر، الطبعة الأولى 1410هـ - 1990م. 204- السنة تشريع لازم ودائم، للدكتور فتحى عبد الكريم، مكتبة وهبة بمصر 1985م. 205- السنة فى مواجهة أعدائها، للدكتور طه حبيشى، مكتبة رشوان بمصر، الطبعة الأولى 1416هـ - 1995م. 206- السنة مصدر للمعرفة والحضارة، للدكتور يوسف القرضاوى، دار الشروق بمصر، الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م. 207- السنة المفترى عليها، للمستشار سالم البهنساوى، دار الوفاء بالمنصورة 1992م. 208- السنة النبوية - مكانتها - عوامل بقائها - تدوينها، للدكتور عبد المهدى عبد القادر، دار الاعتصام بمصر. 209- السنة والتشريع، للدكتور موسى شاهين لاشين، هدية مجلة الأزهر الشريف 1411هـ. 210- السنة ودورها فى الفقه الجديد، لجمال البنا، دار الفكر بمصر، 1997. 211- سير أعلام النبلاء، للذهبى، تحقيق شعيب الأرنؤوط وغيره، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الثامنة، 1412هـ - 1992م. 212- سيرة المصطفى، نظرة جديدة، لهاشم معروف، دار التعارف بيروت 1996م. 213- السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق الدكتور فتحى أنور، ومجدى فتحى، دار الصحابة بطنطا، الطبعة الأولى 1416هـ - 1995م. 214- سيرة الرسول صورة مقتبسة من القرآن الكريم، للأستاذ محمد عزة دروزة، مطابع الدوحة الحديثة، الطبعة الثالثة، 1400هـ. 215- سيرة الرسول فى تصورات الغربيين، للدكتور محمد حمدى زقزوق، مكتبة وهبة بمصر، الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م. 216- السيرة النبوية فى ضوء الكتاب والسنة، للدكتور محمد أبو شهبة، دار القلم بيروت، الطبعة الثالثة 1417هـ - 1996م. س
217- السيرة النبوية فى ضوء الكتاب والسنة، للدكتور عبد المهدى عبد القادر، دار المجد للطباعة 1407هـ - 1987م. (ش) 218- شجرة النور الزكية فى طبقات المالكية، للشيخ محمد محمد مخلوف، دار الفكر. 219- شذرات الذهب فى أخبار من ذهب، لابن العماد، مكتبة القدسى بمصر، الطبعة الأولى 1371هـ - 1951م. 220- شرح الأصول الخمسة، للقاضى عبد الجبار، تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة بمصر، الطبعة الثالثة 1416هـ - 1996م. 221- شرح ألفية العراقى المسماة التبصرة والتذكرة، للعراقى، دار الكتب العلمية بيروت. 222- شرح الخريدة البهية، للدردير مع حاشية الصاوى على شرح الخريدة، مطبعة الاستقامة بمصر. 223- شرح الزرقانى على الموطأ، لمحمد الزرقانى، دار الفكر بيروت، الطبعة الأولى 1996م. 224- شرح الزرقانى على المواهب اللدنية، للقسطلانى، لمحمد الزرقانى، دار الكتب العلمية 1996م. 225- شرح السنة، للبغوى، تحقيق زهير الشاويش وغيره، المكتب الإسلامى بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ - 1983م. 226- شرح الشفا، لعلى القارى، مكتبة المشهد الحسينى، بمصر بدون تاريخ. 227- شرح المقاصد، لسعد الدين التفتازانى، طبعة تركيا 1277هـ. 228- شرح المواقف، للجرجانى، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1419هـ. 229- شعب الإيمان، للبيهقى، دار الكتب العلمية، بيروت 1410هـ. 230- الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم، للقاضى عياض، دار الكتب العلمية بيروت. 231- شفاء الصدر بنفى عذاب القبر، لإسماعيل منصور جودة، خال من مكان الطبع 1415هـ - 1994م. 232- الشمائل المحمدية، للترمذى، تعليق محمد عفيفى الزعبى، دار المطبوعات الحديثة بالسعودية، الطبعة الثالثة 1409هـ - 1988م. 233- شيخ المضيرة (أبو هريرة) ، لمحمود أبو ريه، مؤسسة الأعلمى بيروت 1413هـ. 234- الشيعة فى عقائدهم وأحكامهم، لأمير القزوينى، دار الزهراء بيروت 1397هـ.
235- الشيعة هم أهل السنة، للدكتور محمد السماوى، مؤسسة الفجر بلندن 1413هـ. (ص) 236- الصارم المسلول على شاتم الرسول، لابن تيمية، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، عالم الكتب بيروت، 1982م. 237- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، للجوهرى، تحقيق أحمد العطار، مصر، الطبعة الثانية 1402هـ - 1982م. 238- صحيح ابن حبان، بترتيب الأمير ابن بلبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الثانية 1414هـ - 1993م. 239- صحيح ابن خزيمة، تحقيق محمد مصطفى الأعظمى، المكتب الإسلامى بيروت، الطبعة الثانية 1412هـ - 1992م. 240- صحيح البخارى، مع (فتح البارى) تحقيق محب الدين الخطيب ومحمد فؤاد عبد الباقى، دار الريان بمصر، الطبعة الأولى 1407هـ - 1986م. 241- صحيح مسلم، مع (المنهاج شرح مسلم) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى، دار الحديث بمصر، الطبعة الأولى 1415هـ - 1994م. 242- الصمت وحفظ اللسان، لابن أبى الدنيا، تحقيق الدكتور محمد عاشور، دار الاعتصام، الطبعة الأولى 1406هـ - 1986م. 243- صواعق الحق المرسلة على الجنيين والكهان والسحرة، لفريق من العلماء، إعداد عبد المجيد صالح، مطبعة العمرانية بمصر. 244- الصلاة، لمحمد نجيب، دائرة المعارف العلمية بمصر، بدون تاريخ. 245- الصلاة فى القرآن، لأحمد صبحى منصور، مخطوط. (ض) 246- الضعفاء، لأبى نعيم، تحقيق الدكتور فاروق حمادة، دار الثقافة بالمغرب، الطبعة الأولى 1405هـ - 1984م. 247- الضعفاء الصغير، للبخارى، تحقيق إبراهيم زايد، دار الوعى بحلب 1976م. 248- الضعفاء والمتروكين، للنسائى، تحقيق كمال يوسف الحوت وغيره، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت، الطبعة الثانية 1407هـ - 1987م. 249- الضعفاء والمتروكين، لابن الجوزى، تحقيق عبد الله القاضى، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ - 1984م.
250- الضعفاء الكبير، للعقيلى، تحقيق الدكتور عبد المعطى قلعجى، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1404هـ - 1984م. 251- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، للسخاوى، مكتبة القدسى بمصر. 252- ضلالات منكرى السنة، للدكتور طه حبيشى، مكتبة رشوان بمصر 1996م. (ط) 253- الطب النبوى والعلم الحديث، للدكتور محمود النسيمى، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الرابعة 1417هـ. 254- طبقات الحفاظ، للسيوطى، دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى 1983م. 255- طبقات الشافعية، لابن هداية، تحقيق عادل نويهض، دار الآفاق بيروت، الطبعة الأولى 1391هـ - 1971م. 256- طبقات الشافعية الكبرى، للسبكى، تحقيق محمود الطناحى وغيره، مطبعة عيسى الحلبى بمصر، الطبعة الأولى 1383هـ - 1964م. 257- طبقات علماء الحديث، لمحمد بن عبد الهادى، تحقيق أكرم البوشى، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الأولى 1409هـ - 1989م. 258- طبقات الفقهاء، للشيرازى، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الرائد العربى بيروت، الطبعة الثانية 1401هـ - 1981م. 259- طبقات الفقهاء الشافعيين، لابن كثير، تحقيق الدكتور أحمد عمر هاشم، والدكتور زينهم عزب، المكتبة الثقافية بمصر 1413هـ - 1993م. 260- طبقات القراء، لمحمد بن الجزرى، مطبعة السعادة بمصر 1932م. 261- طبقات القراء، للحافظ الذهبى، تحقيق الدكتور بشار عواد وغيره، مؤسسة الرسالة بيروت 1982م. 262- الطبقات الكبرى، لابن سعد، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1410هـ - 1990م. 263- طبقات المعتزلة، لابن المرتضى، تحقيق سوسنة ديفلد، دار المنتظر بيروت، الطبعة الثانية 1409هـ - 1988م. 264- طبقات المفسرين، للداودى، دار الكتب العلمية بيروت، بدون تاريخ. 265- طبقات المفسرين، للسيوطى، دار الكتب العلمية بيروت، بدون تاريخ. 266- طبقات النحاة واللغويين، لابن قاضى شهبة، طبعة النجف 1974م.
267- طرح التثريب فى شرح التقريب، للعراقى وولده أبى زرعة، دار إحياء التراث العربى بيروت. (ظ) 268- الظاهرة القرآنية، لمالك بن نبى، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار المعرفة بمصر 1958م. 269- ظلمات أبى ريه أمام أضواء السنة، لمحمد عبد الرازق حمزة، المطبعة السلفية بمصر 1379هـ. (ع) 270- العبر فى خبر من غبر، للذهبى، تحقيق محمد السعيد بسيونى، زغلول دار الكتب العلمية بيروت. 271- عذاب القبر والثعبان الأقرع، لأحمد صبحى منصور، دار طيبة للدراسات بمصر. 272- العصريون معتزلة اليوم، ليوسف كمال، دار الوفاء بالمنصورة 1986م. 273- العصمة، بحث تحليلى فى ضوء المنهج القرآنى، لمحمد القاضى، مؤسسة الثقليين بيروت 1997م. 274- عصمة الأنبياء، لفخر الدين الرازى، مطبعة الشهيد، قم بإيران، 1406هـ. 275- عصمة الأنبياء فى الكتاب والسنة والرد على الشبهات الواردة عليها، لمحمد الخضر الناجى، خال من مكان الطبع وتاريخه. 276- عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، للدكتور محمد أبو النور الحديدى، مطبعة الأمانة بمصر، بدون تاريخ. 277- العقيدة والشريعة فى الإسلام، لجولدتسيهر، ترجمة على حسن عبد القادر وغيره، دار الكتب الحديثة بمصر. 278- علم الفقه، للدكتور عبد المنعم النمر، مطبعة الخلود بغداد 1990م. 279- عمدة القارى شرح صحيح البخارى، للعينى، مطبعة مصطفى الحلبى بمصر 1392هـ. 280- عون المعبود شرح سنن أبى داود، للعظيم آبادى، تحقيق عبد الرحمن عثمان، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة 1389هـ. 281- عيون الأثر فى فنون المغازى والشمائل والسير، لابن سيد الناس، دار المعرفة بيروت. (غ) 282- غريب الحديث، لأبى عبيد القاسم الهروى، دائرة المعارف العثمانية بالهند 1384هـ. (ف) 283- الفائق فى غريب الحديث، للزمخشرى، تحقيق على محمد البجاوى، مطبعة عيسى البابى الحلبى بمصر.
284- فتح القدير الجامع بين فنى الرواية والدراية من علم التفسير، للشوكانى، مطبعة عيسى البابى الحلبى 1963م. 285- فتح البارى بشرح صحيح البخارى، لابن حجر العسقلانى، تحقيق محب الدين الخطيب، ومحمد فؤاد عبد الباقى، دار الريان بمصر 1986م. 286- فتح المغيث بشرح ألفية الحديث، للعراقى، تحقيق أحمد محمد شاكر، مكتبة السنة بمصر 1988م. 287- فتح المغيث شرح ألفية الحديث، للعراقى، شرح السخاوى، تحقيق صلاح محمد عويضة، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ - 1993م. 288- الفرق بين الفرق، لعبد القادر البغدادى، تحقيق إبراهيم رمضان، دار المعرفة بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ - 1994م. 289- الفرقان، لابن الخطيب، الدار المصرية بمصر، الطبعة الأولى 1367هـ - 1948م. 290- الفصل فى الملل والأهواء والنحل، لابن حزم الظاهرى، مكتبة الخانجى، بمصر. 291- الفقه الإسلامى، مرونته وتطوره، لجاد الحق على جاد الحق، طبعة الأمانة العامة للدعوة بالأزهر الشريف. 292- فقه السنة، للشيخ السيد سابق، دار القبلة بجدة. 293- فقه السيرة النبوية، للدكتور محمد رمضان البوطى، دار السلام بمصر الطبعة الأولى 1414هـ - 1994م. 294- فقه السيرة النبوية، لمحمد الغزالى، دار الريان بمصر، الطبعة الأولى 1987م. 295- الفصول الزكية فى سيرة خير البرية، للدكتور عبد الموجود عبد اللطيف، دار ابن لقمان بمصر، الطبعة الأولى 1418هـ - 1998م. 296- الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادى، تحقيق عادل يوسف العزازى، دار ابن الجوزى بالرياض، الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م. 297- الفكر الإسلامى نقد واجتهاد، لمحمد أركون، ترجمة هاشم صالح، دار الساقى بيروت، 1998م. 298- فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، لعبد العلى محمد بن نظام، بهامش المستصفى، المطبعة الأميرية ببولاق 1322هـ. 299- فيض البارى على صحيح البخارى، للكشميرى، دار المعرفة بيروت، بدون تاريخ.
300- فيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف المناوى، دار المعرفة بيروت 1972م. 301- فى ظلال القرآن، للسيد قطب، دار الشروق بيروت، الطبعة العاشرة 1402هـ. (ق) 302- القاموس المحيط، للفيروز آبادى، المطبعة الأميرية، الطبعة الثالثة 1301هـ. 303- قراءة فى صحيح البخارى، لأحمد صبحى منصور، مخطوط. 304- القرآن والحديث والإسلام، لرشاد خليفة، مخطوط. 305- قرآن أم حديث، لرشاد خليفة، خال من مكان الطبع وتاريخه. 306- القرآنيون وشبهاتهم حول السنة، للدكتور خادم حسين إلهى بخش، مكتبة الصديق بجدة، الطبعة الأولى 1409هـ - 1989م. 307- قصة الحديث المحمدية، لمحمود أبو ريه، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986م. 308- قواعد فى علوم الحديث، للتهانوى، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، دار السلام بمصر. (ك) 309- الكاشف فى معرفة من له رواية فى الكتب الستة، للحافظ الذهبى، تحقيق محمد عوامة وغيره، دار القبلة بجدة، الطبعة الأولى 1413هـ - 1992م. 310- الكامل فى ضعفاء الرجال، للحافظ ابن عدى، تحقيق الدكتور سهيل زكار، دار الفكر بيروت 1988م. 311- الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، لمحمد شحرور، شركة المطبوعات بيروت، الطبعة الأولى 1412هـ - 1992م. 312- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل، للزمخشرى، المكتبة التجارية بمصر، الطبعة الأولى 1354هـ. 313- كشف الأستار عن زوائد البزار، للهيثمى، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمى، مؤسسة الرسالة 1979م. 314- كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لمحمد العجلونى، تحقيق محمد الخالدى، دار الكتب العلمية بيروت 1997م. 315- الكفاية فى علم الرواية، للخطيب البغدادى، تحقيق محمد الحافظ التيجانى وغيره، دار ابن تيميه بمصر 1990م. 316- كيف نتعامل مع السنة، للدكتور يوسف القرضاوى، دار الوفاء بالمنصورة، 1994م. (ل) 317- لسان العرب، لابن منظور، دار صادر بيروت، بدون تاريخ.
318- لسان الميزان، لابن حجر العسقلانى، تحقيق محمد المرعشلى، دار إحياء التراث العربى بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ - 1995م. 319- لماذا القرآن، لعبد الله الخليفة = أحمد صبحى منصور، خال من مكان الطبع وتاريخه. (م) 320- المجددون فى الإسلام، من القرن الأول إلى الرابع عشر، لعبد المتعال الصعيدى، مكتبة الآداب بمصر. 320- المجروحين من المحدثين والضعفاء المتروكين، لابن حبان، تحقيق محمود زايد، دار الوعى بحلب، الطبعة الأولى 1396هـ - 1976م. 321- مجلة أكتوبر، العدد 1242 بتاريخ 13/8/2000. 322- مجلة روز اليوسف، الأعداد 3559 - 3563 - 3564، مطابع الأهرام بمصر. 323- مجلة المسلم المعاصر، العدد الافتتاحى. 324- مجلة المنار، لمحمد رشيد رضا، مطبعة المنار. 325- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمى، دار الكتاب العربى بيروت 1402هـ - 1982م. 326- مجموع الفتاوى، لابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن النجدى، السعودية 1404هـ. 327- مجموعة الحديث الصديقية، لآل الصديق الغمارى، مكتبة القاهرة بمصر. 328- محاسن التأويل، لجمال الدين القاسمى، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى، دار إحياء الكتب العربية 1957م. 329- محبة النبى صلى الله عليه وسلم وطاعته بين الإنسان والجماد، للدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر، دار القلم بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ - 1996م. 330- محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، من العلماء والحكماء والمتكلمين، لفخر الدين الرازى، تحقيق طه عبد الرؤوف، مكتبة الكليات الأزهرية بمصر. 331- المحصول فى أصول الفقه، لفخر الدين الرازى، دار الكتب العلمية بيروت 1988م. 332- المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، لمحمد المقدسى، تحقيق أحمد الكويتى، مؤسسة قرطبة بمصر، الطبعة الثالثة 1990م. 333- محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، للشيخ محمد الصادق عرجون، دار القلم بيروت، الطبعة الثانية 1415هـ - 1995م.
334- محمد رسول الله، لاتيين دينيه، ترجمة الدكتور عبد الحليم محمود، دار المعارف، الطبعة الثالثة. 335- محمد عبده ومنهجه فى التفسير، للدكتور عبد الغفار عبد الحليم، دار الأنصار بمصر. 336- مختار الصحاح، لمحمد بن أبى بكر الرازى، بترتيب محمود خاطر، دار النهضة بمصر. 337- مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور، تحقيق روحية النحاس ومحمد مطيع، دار الفكر، الطبعة الأولى 1984م. 338- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزية، تحقيق سيد إبراهيم، دار الحديث بمصر، الطبعة الأولى 1412هـ - 1992م. 339- المدخل إلى السنة النبوية، بحوث فى القضايا الإسلامية عن السنة، للدكتور عبد المهدى عبد القادر، دار الاعتصام بمصر 1419هـ - 1998م. 340- المدخل إلى السنن الكبرى، للبيهقى، تحقيق الدكتور محمد الأعظمى، دار الخلفاء. 341- مذاهب التفسير الإسلامى، لجولدتسيهر، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار، مكتبة الخانجى بمصر 1955م. 342- المراجعات، لعبد الحسين شرف الدين الموسوى، دار الأندلس بيروت، بدون تاريخ. 342- المراسيل، لأبى داود السجستانى، تحقيق كمال يوسف الحوت، دار الجنان بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ - 1988م. 344- مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، لعبد المؤمن البغدادى، تحقيق على البجاوى، دار المعرفة بيروت، 1373هـ. 345- مروج الذهب ومعادن الجوهر، للمسعودى، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، دار المعرفة بيروت 1368هـ - 1948م. 346- مساحة للحوار من أجل الوفاق ومعرفة الحقيقة، لأحمد حسين يعقوب، الغدير بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ - 1997م. 347- المستدرك على الصحيحين، للحاكم، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ - 1990م. 348- المستشرقون الألمان - تراجمهم وما أسهموا به فى الدراسات العربية، جمع صلاح الدين منجد، دار الكتب الجديدة بيروت، الطبعة الثانية 1982م.
349- المستصفى من علم الأصول، للغزالى، المطبعة الأميرية بمصر 1322هـ. 350- المسلم العاصى، هل يخرج من النار ليدخل الجنة، لأحمد صبحى منصور، القاهرة 1407هـ - 1987م. 351- مسند أبى داود الطيالسى، لأبى داود، حيدر أباد الدكن بالهند 1321هـ - 1903م. 352- مسند أبى يعلى الموصلى، لأبى يعلى، تحقيق حسين أسد، ودار المأمون 1415هـ - 1990م. 353- مسند الإمام أحمد، لأحمد بن حنبل، المطبعة الميمنية بمصر 1313هـ - 1895م. 354- مسند الحميدى، للحميدى، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمى، عالم الكتب بيروت. 355- مسند الإمام الشافعى، للشافعى، تحقيق سعيد محمد اللحام وغيره، دار الفكر بيروت 1996م. 356- مسند الشاميين، للطبرانى، تحقيق حمدى عبد المجيد السلفى، مؤسسة الرسالة بيروت 1405هـ. 357- مسند الشهاب، للقضاعى، تحقيق حمدى عبد المجيد السلفى، مؤسسة الرسالة بيروت 1405هـ. 358-المسودة فى أصول الفقه، لآل تيميه، جمع شهاب الدين الحرانى، تحقيق محمد محيى الدين، دار الكتاب العربى بيروت. 359- مسيلمة فى مسجد توسان، للدكتور طه حبيشى، مكتبة رشوان بمصر. 360- مشاهير علماء الأمصار، لابن حبان، تحقيق مجدى الشورى، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الثانية 1416هـ - 1995م. 361- مشروع التعليم والتسامح، لأحمد صبحى منصور وغيره، نشر دار ابن خلدون للدراسات بالمقطم مصر. 362- مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها، لعبد الله النجدى القصيمى، دار القلم بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ. 363- مصادر الشريعة الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية، للمستشار على جريشة، مكتبة وهبة بمصر 1979م. 364- مصباح المنير فى غريب الشرح الكبير، للرافعى، لأحمد الفيومى، صححه مصطفى السقا، مطبعة مصطفى البابى الحلبى بمصر 1369هـ. 365- المصنف، لابن أبى شيبة، تصحيح عامر الأعظمى، حيدر أباد الدكن بالهند 1966م. 366- المصنف، لعبد الرزاق، تحقيق حبيب الأعظمى، المجلس العلمى بالهند 1970م.
367- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر، تحقيق حبيب الأعظمى، دار عباس أحمد الباز. 368- مع الدكتور موسى الموسوى، فى كتابه الشيعة والتصحيح، للدكتور علاء الدين القزوينى، مركز الغدير قم بإيران، الطبعة الثانية 1414هـ - 1994م. 369- مع المفسرين والمستشرقين فى زواج النبى صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، للدكتور زاهر الألمعى، مطبعة عيسى البابى الحلبى بمصر، الطبعة الثانية 1396هـ. 370- معالم الإسلام، لمحمد سعيد العشماوى، طبعة القاهرة 1989م. 371- معالم السنن، للخطابى، تحقيق محمد حامد الفقى، مطبعة السنة المحمدية 1368هـ. 372- معالم المدرستين، لمرتضى العسكرى، الدار العالمية بيروت، الطبعة الخامسة 1993م. 373- المعتمد فى أصول الفقه، لأبى الحسين البصرى، دار الكتب العلمية بيروت. 374- المعجم الأوسط، للطبرانى، تحقيق طارق عوض وغيره، دار الحرمين بمصر 1415هـ - 1995م. 375- معجم البلدان، لياقوت الحموى، دار إحياء التراث العربى بيروت. 376- المعجم الصغير، للطبرانى، تحقيق محمد سمارة، دار إحياء التراث العربى 1992م. 377- المعجم الكبير، للطبرانى، صدر منه 25 جزء، وناقص أجزاء 15، 16، 21، تحقيق حمدى عبد المجيد السلفى، الدار العربية للطباعة 1398هـ. 378- معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لصلاح الدين المنجد، دار القاضى عياض بمصر، بدون تاريخ. 379- معجم مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهانى، تصحيح إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1418هـ - 1997م. 380- معجم مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مطبعة مصطفى البابى الحلبى بمصر 1389هـ. 381- معجم المؤلفين، لعمر كحالة، دار إحياء التراث العربى بيروت. 382- المعين الرائق من سيرة سيد الخلائق، للدكتور سعيد صوابى مصر 1990م.
383- مفتاح السنة أو تاريخ فنون الحديث، لمحمد عبد العزيز الخولى، دار الكتب العلمية بيروت. 384- المقاصد الحسنة فى بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، للسخاوى، تحقيق عبد الله الصديق وغيره، مكتبة الخانجى بمصر 1991م. 385- الملل والنحل، لمحمد الشهرستانى، تحقيق أحمد فهمى، دار الكتب العلمية بيروت. 386- ملوك الطائف ونظرات فى تاريخ الإسلام، لدوزى، مطبعة عيسى البابى الحلبى بمصر 1933م. 387- المنار المنيف فى الصحيح والضعيف، لابن قيم الجوزية، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، المطبوعات الإسلامية بيروت 1403هـ - 1983م. 388- مناهج المستشرقين فى الدراسات العربية والإسلامية، لجماعة من العلماء مكتب التربية العربى بالرياض 1985م. 389- مناهل الصفا فى تخريج أحاديث الشفا، للسيوطى، تحقيق سمير القاضى، دار الجنان بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ - 1988م. 390- مناهل العرفان فى علوم القرآن، لمحمد عبد العظيم الزرقانى، دار الكتب العلمية بيروت 1416هـ - 1996م. 391- منزلة السنة من الكتاب وأثرها فى الفروع الفقهية، لمحمد سعيد منصور، مكتبة وهبة بمصر، الطبعة الأولى 1413هـ - 1993م. 392- منع تدوين الحديث أسباب ونتائج، لعلى الشهرستانى، مؤسسة الأعلمى بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ - 1997م. 393- منهاج السنة النبوية فى نقض كلام الشيعة والقدرية، لابن تيمية، المطبعة الأميرية ببولاق 1321هـ. 394- المنهاج شرح مسلم، للنووى، تحقيق عصام الصبابطى وغيره، دار الحديث بمصر، الطبعة الأولى 1415هـ - 1994م. 395- منهج المدرسة العقلية الحديثة فى التفسير، للدكتور فهد الرومى، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1407هـ. 396- المواجهة مع رسول الله وآله، لأحمد حسين يعقوب، مركز الغدير بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ - 1996م. 397- الموافقات فى أصول الشريعة، للشاطبى، تحقيق عبد الله دراز وغيره، دار المعرفة بيروت، الطبعة الثانية 1416هـ - 1996م.
398- المواقف فى علم الكلام، للإيجى، مكتبة المتنبى، بدون تاريخ. 399- موقف المدرسة العقلية من السنة، للأمين الصادق الأمين، دار الرشد بالرياض 1998م. 400- المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، لأحمد القسطلانى، دار الكتب العلمية بيروت، 1996م. 401- المؤتمر العالمى الرابع للسيرة والسنة، والمؤتمر العاشر لمجمع البحوث الإسلامية مصر 1985م. 402- الموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوى العالمية للشباب الإسلامى بالرياض، الطبعة الثانية 1409هـ - 1989م. 403- موطأ الإمام مالك، برواية يحيى الليثى، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى، دار الحديث بمصر 1993م. 404- ميزان الاعتدال فى نقد الرجال، للذهبى، تحقيق محمد البجاوى، مطبعة عيسى البابى الحلبى بمصر 1963م. (ن) 405- الناسخ والمنسوخ من الحديث، لابن شاهين، تحقيق الدكتور محمد الحفناوى، دار الوفاء بالمنصورة، الطبعة الأولى 1416هـ - 1995م. 406- النبأ العظيم: للدكتور محمد عبد الله دراز، تخريج وتعليق عبد الحميد الدخاخنى، دار المرابطين الأسكندرية، الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م. 407- النبوات، لابن تيمية، دار الكتب العلمية بيروت، 1405هـ - 1985م. 408- نبوة محمد فى القرآن الكريم، للدكتور حسن ضياء الدين عتر، دار البشائر بيروت 1410هـ. 409- نبى الإسلام بين الحقيقة والادعاء، للدكتور عبد الراضى محمد عبد المحسن، الدار العالمية للكتاب بالرياض، الطبعة الأولى 1419هـ - 1998م. 410- النبى محمد، لعبد الكريم الخطيب، دار المعرفة بيروت، الطبعة الثانية 1975م. 411- النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، لابن تغرى، دار الكتب المصرية 1930م. 412- نحو تطوير التشريع الإسلامى، لعبد الله أحمد النعيم، دار سينا بمصر 1994م. 413- نحو فقه جديد، لجمال البنا، دار الفكر بمصر، بدون تاريخ. 414- نسيم الرياض فى شرح شفاء، القاضى عياض، لشهاب الدين الخفاجى، دار الكتاب العربى بيروت0
415- النص والاجتهاد، لعبد الحسين شرف الدين الموسوى، مؤسسة الأعلمى بيروت 1966م. 416- نظرية عدالة الصحابة، والمرجعية السياسية فى الإسلام، لأحمد حسين يعقوب، مطبعة الخيام بالأردن، الطبعة الأولى بدون تاريخ. 417- نظم المتناثر من الحديث المتواتر، لمحمد بن جعفر الكتانى، دار الكتب العلمية بيروت 1400هـ - 1980م. 418- النفحات الشذية فيما يتعلق بالعصمة والسنة النبوية، لمحمد الطاهر الحامدى مكتبة الآداب بمصر، الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م. 419- نقد الخطاب الدينى، لنصر أبو زيد، دار سينا بمصر، الطبعة الثانية 1994م. 420- نهاية الاغتباط بمن رمى من الرواة بالاختلاط، لعلاء الدين على رضا، دار المعرفة بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ - 1988م. 421- النهاية فى غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، خرج أحاديثه وعلق عليه صلاح عويضة، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ - 1997م. 422- نوال المنى فى إثبات عصمة أمهات وأزواج الأنبياء من الزنى، لمحمد نسيب الرفاعى، خال من مكان الطبع بتاريخ 1418هـ - 1998م. 423- النور الخالد محمد مفخرة الإنسانية، لمحمد فتح الله كولن، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الأولى 1420هـ - 1999م. 424- نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار، لمحمد بن على الشوكانى، دار الجيل بيروت 1973م. (هـ) 425- هدى السارى مقدمة فتح البارى، بشرح صحيح البخارى، لابن حجر العسقلانى، تصحيح محب الدين الخطيب، دار الريان بمصر، الطبعة الأولى 1407هـ - 1986م. 426- أبو هريرة، لعبد الحسين شرف الدين الموسوى، دار الزهراء بيروت 1415هـ - 1995م. (و) 427- الوافى بالوفيات، للصفدى صلاح الدين، نشر المعهد الألمانى للأبحاث الشرقية بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ - 1985م. 428- الوحى القرآنى فى المنظور الاستشراقى ونقده، للدكتور محمود ماضى، دار الدعوة بالإسكندرية، الطبعة الأولى 1416هـ - 1996م.
429- الوحى المحمدى، لمحمد رشيد رضا، المكتب الإسلامى. 430- الوشيعة فى نقد عقائد الشيعة، لموسى جار الله العراقى، دار الكتب السلفية بمصر، الطبعة الأولى 1403هـ. 431- وركبت السفينة، لمرون خليفات، مركز الغدير للدراسات بيروت 1418هـ - 1997م. 432- وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، لعلى المسهودى، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية بيروت. 433- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لأحمد بن خلكان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الثقافة بيروت. (لا) 434- لا ناسخ ولا منسوخ فى القرآن، لأحمد صبحى منصور، مركز المحروسة للبحوث بمصر الطبعة الأولى 1997م. هذا وقد تركت ذكر بعض المصادر والمراجع، لقلة رجوعى إليها، وهى مبينة عند مواطن النقل منها، أو العزو إليها للاستفادة منها.