رد الجميل في الذب عن إرواء الغليل

عبد الله العبيلان

بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

رَدُّ الجَمِيلِ فِي الذَّبِّ عَن إرواء الغليل وَهُوَ رَدٌّ عَلَى كِتَابِ (مُسْتَدْرك التَّعْلِيل)

جَميع الحقُوق مَحفوظَة الطَّبعَةُ الأُولى 1431 هـ - 2010 م دار اللؤلؤة لِلطبَاعَةِ وَالنَّشْرِ لبنان - بيروت هاتف: 009611824194 جوال: 0096170587166 البريد الإلكتروني: [email protected] الدار الأثرية للطباعة والنشر والتوزيع عمان - الأردن - تلفاكس: 65658045/ 00962 حلوى: 795943456/ 00962 - ص ب: 925595 - الرمز البريدى: 11190 الرمز الإلكتروني: [email protected]

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الْمقَدِّمَة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. أما بعد: فقد أطلعني أحد طلبة العلم على كتاب بعنوان "مستدرك التعليل على إرواء الغليل" للدكتور أحمد الخليل، فرأيته جانب الصواب في معظم تعقباته على "إرواء الغليل"، وليس هذا الأهم؛ بل المنهج الذي سلكه في تعقُّباته منهج خلا من التحقيق العلمي الدقيق المبني على الدراسة الواسعة للحديث من حيث الصناعة الحديثية ومعرفة مقاصد الشريعة والفقه في معانيها، وهذه سمة كثير ممن يشتغلون بعلم الحديث في هذا العصر! واعتمد الدكتور أحمد على التقليد؛ وكأن أقوال أهل العلم في الرجال وعلل الحديث وَحْيٌ منزل من السماء لا تجوز مخالفته، وكأنهم لم يختلفوا في ذلك، ونتج من ذلك وغيره -كما سيتضح لك- تضعيف أحاديث هي عمدة أهل العلم وأصولهم في كثير من مسائل الفقه. ورحم الله ابن القيم حيث قال: "وقد احتَجَّ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ وَالْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً بصحيفة عَمْرِو بن شُعَيْبِ عن أبيه عن جَدِّهِ، وَلا يُعْرَفُ في أَئِمَّةِ الْفَتْوَى إلاَّ من احْتَاجَ إلَيْهَا وَاحْتَجَّ، بهَا وَإِنَّمَا طَعَنَ فيها من لم يَتَحَمَّلْ أَعْبَاءَ الْفِقْهِ وَالفَتْوَى".

وقبل الجواب على تعقُّبات الدكتور الخليل أنبِّه على قواعد ومسائل فى علوم الحديث، نصيحة لطلبة العلم الراغبين فى البحث والدراسة فى هذا العلم الشريف، وأُبَيِّنُ لجملة من طلبة العلم الذين يتقفّرون هذا الفن أنهم علموا أشياء وفاتهم الأكثر، وأن زمن الرواية انتهى، ولا ينبغى لأحد أن يتشبع بما لم يُعْطَ، وأن أقدر الناس فى الحكم على الأحاديث في هذا العصر -وخصوصًا المختلف فيها- هم أهل العلم بمعانيه والاطلاع الواسع على متونه وآثار الصحابة، فهم حملته الأوَّلون، فإن السنة يصدِّقُ بعضها بعضًا، وعمل الصحابة أعظم برهان على صدق الحديث أو كذبه وخطئه من صوابه، قال تعالى:- {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] الآية، فحديث لا يعرفه الصحابة -رضي الله عنه- ليس بحديتْ، ويأتي مؤيد بيان وتفصيل. فأقول وبالله التوفيق: أول هذه القواعد: أن أهل الحديث ليسوا على درجة واحدة في الفقه، كما قال عليه السلام "نضَّرَ اللهُ عبدًا سَمِعَ مقالتي فوعاها، ثم أدَّاها إلى من لم يسمعها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ لا فِقْهَ له، ورُبَّ حاملِ فِقْهٍ إلى من هو أفقهُ منه" وهو حديث متواتر. قال شيخ الإسلام: "وأهل العلم المأثور عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس قيامًا مًا بهذه الأصول، لا تأخذ أحدهم في الله لومة لائم، ولا يصدهم عن سبيل الله العظائم؛ بل يتكلم أحدهم بالحق الذي عليه، ويتكلم في أحب الناس إليه عملاً بقوله تعالى: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} [النساء: 135] وقوله تعالى: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

ولهم من التعديل والتجريح، والتضعيف والتصحيح، من السعي المشكور والعط المبرور؛ ما كان من أسباب حفظ الدين وصيانته عن إحداث المفترين، وهم في ذلك على درجات: منهم المقتصر على مجرد النقل والرواية، ومنهم أهل المعرفة الحديث والدراية، ومنهم أهل الفقه فيه والمعرفة بمعانيه" (¬1). وأعلى هذه الدرجات كما لا يخفى، وأقدرهم في الحكم على الأحاديث الدرجة الثالثة. ثانيها: ما قرَّره الأئمة في مصنفاتهم: أن الضعيف إذا تعدَّدت طرقه يصير حسنًا. قال شيخ الإسلام: "وذلك أن الحديث إنما يخاف فيه من شيئين: إما تعمُّد الكذب، وإما خطأ الراوي، فإذا كان من وجهين لم يأخذه أحدهما في الفقه عن الآخر، وليس مما جرت العادة بأن يتفق تساوي الكذب فيه؛ عُلِمَ أنه ليس بكذب، لا سيما إذا كان الرواة ليسوا من أهل الكذب. وأما الخطأ؛ فإنه مع التعدد يضعف؛ ولهذا كان أبو بكر وعمر - رضي الله عنها - يطلبان مع المحدث الواحد من يوافقه خشية الغلط، ولهذا قال تعالى في المرأتين: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282]. هذا لو كانا عن صاحب واحد، فكيف وهذا قد رواه عن صاحب وذلك عن آخر وفي لفظ أحدهما زيادة على لفظ الآخر؟ فهذا كله ونحوه مما يبين أن الحديث في الأصل معروف". وفي مسائل إسحاق بن منصور للإمام أحمد: "قُلْت: متى يتركُ حديث الرجلِ؟ قَالَ: إذا كان الغالب عليه الخطأ. قُلْتُ: الكذب من قليلٍ أو كثير؟ قَالَ: نعم" (¬2). وقال ابن الصلاح: "فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئًا من ¬

_ (¬1) انظر "مجموع الفتاوى" (1/ 10). (¬2) انظر "مسائل الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه" (2/ 562).

ضعف حفظ راويه، مع كونه من أهل الصدق والديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه، ولم يختل فيه ضبطه له" (¬1). وقال الحافظ ابن حجر: "ومتى توبع السيئ الحفظ بمعتبر كأن يكون فوقه أو مثله لا دونه، وكذا المستور والمرسل والمدلس؛ صار حديثهم حسنًا؛ لا لذاته؛ بل باعتبار المجموع من المُتابَع والمتابع" (¬2). وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله: "وهذه الروايات الواردة بذكر اليدين إلى المرفقين تدل على السنية، وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال، فإن بعضها يشدُّ بعضًا؛ لما تقرر في علوم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يقوى بعضها بعضًا حتى يصلح مجموعها للاحتجاج، لا تخاصم بواحد أهل بيت، فضعيفان يغلبان قويًّا، وتعتضد أيضًا بالموقوفات المذكورة" (¬3). وقال الحافظ ابن حجر في كلامه على ما سكت عليه أبو داود: "ومن هنا يتبين أن جميع ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي، بل هو على أقسام: 1 - منه ما هو في الصحيحين، أو على شرط الصحة. 2 - ومنه ما هو من قبيل الحسن لذاته. 3 - ومنه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد. وهذان القسمان كثير في كتابه جدًّا. 4 - ومنه ما هو ضعيف، لكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالبًا، وكل ¬

_ (¬1) انظر "مقدمة ابن الصلاح" (ص 34). (¬2) انظر "نخبة الفكر" (ص 230). (¬3) انظر "أضواء البيان" (1/ 363).

هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها، كما نقل ابن منده عنه أنه يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وأنه أقوى عنده من رأي الرجال" (¬1). وقال الحافظ شمس الدين الذهبي رحمه الله: "قلت: فقد وفي رحمه الله بذلك بحسب اجتهاده، وبيَّن ما ضعفه شديد ووهنه غير محتمل وكاسر (¬2) عن ما ضعفه خفيف محتمل، فلا يلزم من سكوته والحالة هذه عن الحديث أن يكون حسنًا عنده، ولا سيما إذا حكمنا على حد الحسن باصطلاحنا المولَّد الحادث، الذي هو في عرف السلف يعود إلى قسم من أقسام الصحيح الذي يجب العمل به عند جمهور العلماء، أو الذي يرغب عنه أبو عبد الله البخاري ويمشِّيه مسلم، وبالعكس؛ فهو داخل في أداني مراتب الصحة، فإنه لو انحطَّ عن ذلك لخرج عن الاحتجاج ولبقي متجاذبًا بين الضعف والحسن، فكتاب أبي داود أعلى ما فيه من الثابت ما أخرجه الشيخان، وذلك نحو من شطر الكتاب، ثم يليه ما أخرجه أحد الشيخين ورغب عنه الآخر، ثم يليه ما رَغِبَا عنه وكان إسناده جيِّدًا سالمًا من عِلّةٍ وشذوذٍ، ثم يليه ما كان إسناده صالحًا، وقَبِلَهُ العلماءُ لمجيئه من وجهين ليِّنين فصاعدًا؛ يعضد كل إسناد منهما الآخر، ثم يليه ما ضعف إسناده لنقص حفظ راويه، فمثل هذا يُمَشِّيه أبو داود ويسكت عنه غالبًا، ثم يليه ما كان بين الضعف من جهة راويه؛ فهذا لا يسكت عنه؛ بل يوهنه غالبًا، وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته، والله أعلم" (¬3). وقال العلامة المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله: "الأَصْلُ الرابع من أصول أحمد: الأَخْذُ بِالْمُرْسَلِ وَالْحَدِيثِ الضعيف إذَا ¬

_ (¬1) انظر "النكت على ابن الصلاح": (1/ 435). (¬2) أي: غضَّ الطرفَ والنظر. (¬3) انظر "سير أعلام النبلاء " (13/ 214).

لم يَكُنْ في الْبَابِ شَيْءّ يَدْفَعُهُ، وهو الذي رَجَّحَهُ على الْقِيَاسِ، وَلَيسَ المُرَادُ بالضَّعِيفِ عِنْدَهُ الْبَاطِل وَلا الْمُنْكَر، وَلاَ ما في رِوَايَتِهِ مُتَّهَمٌ بِحَيثُ لا يَسوغُ الذَّهَابُ إلَيْهِ فَالْعَمَلُ بِهِ؛ بَلْ الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ عنده قَسِيمُ الصَّحِيحِ، وقِسْمٌ من أَقْسَامِ الْحَسَنِ، ولم يَكُنْ يقسم الحديث إلَى صحِيحٍ وَحَسَنٍ وَضَعِيفٍ بَلْ إلَى صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ، وَلِلضعِيفِ عنده مَرَاتِبُ، فإذا لم يَجِدُ في الْبَابِ أَثَرًا يَدْفَعُهُ وَلا قَوْلَ صَاحِبٍ، وَلا إجماعًا على خِلاَفِه، كان الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَهُ أَوْلَى من الْقِيَاسِ. وَلَيْسَ أحدٌ من الأَئِمَّةِ إلاَّ وهو مُوَافِقة على هذا الأَصلِ من حَيْثُ الجملَة، فإنه ما منهم أَحَد إلاَّ وقد قَدَّمَ الحديث الضعِيفَ على الْقِيَاسِ" (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والضعيفُ عندهم نوعان: ضعيف ضعفًا لا يمتنعُ العملُ به؛ وهو يشبِهُ الحسن في اصطلاح الترمذي، وضعيف ضعفًا يُوجِبُ تركه؛ وهو الواهِ؛ وهذا بمنزلة مرض المريض قد يكون قاطعًا بصاحبه، فيجعل التبرع من الثلث، وقد لا يكون قاطعًا بصاحبه، وهذا موجود في كلام الإمام أحمد وغيره، ولهذا يقولون: هذا فيه لين، فيه ضعف، وهذا عندهم موجود في الحديث، ومن العلماء المحدِّثين أهل الإتقان، مثل: شعبة، ومالك، والثوري، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي؛ هم في غاية الإتقان والحفظ؛ بخلاف من هو دون هؤلاء. وقد يكون الرجل عندهم ضعيفًا لكثرة الغلط في حديثه، ويكون حديثه إذًا الغالب عليه الصحة لأجل الاعتبار به والاعتضاد به، فإن تعدُّدَ الطُّرقِ وكثرتَها يقوِّي بعضَها بعضًا، حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فُجَّارا فُسَّاقًا؛ فكيف إذا كانوا علماء عدولاً، ولكن كثر في حديثهم الغلط؟ ¬

_ (¬1) انظر "إعلام الموقعين" (1/ 31).

ومثل هذا: عبد الله بن لهيعة؛ فإنه من أكابر علماء المسلمين، وكان قاضيًا بمصر كثير الحديث، لكن احترقت كتبه، فصار يُحَدِّثُ من حِفْظِهِ، فوقع في حديثه غلطٌ كثيرٌ، مع أن الغالب على حديثه الصحة، قال أحمد: قد أكتبُ حديثَ الرجلِ للاعتبار به، مثل: ابن لهيعة. وأما مَن عُرِفَ منه أنه يتعمَّد الكذبَ؛ فمنهم من لا يروي عن هذا شيئًا، وهذه طريقة أحمد بن حنبل وغيره؛ لم يروِ في "مسنده" عمَّن يُعرَف أنه يتعمَّدُ الكذبَ، لكن يروي عمَّن عُرِفَ منه الغلط، للاعتبار به والاعتضاد. ومن العلماء من كان يسمعُ حديث من يكذبُ، ويقول: إنه يميِّزُ بين ما يكذبه وبين ما لا يكذبه، ويُذْكَر عن الثوريّ أنه كان يأخذُ عن الكلبي وينهى عن الأخذ عنه، ويذكر أنه يعرف. ومثل هذا قد يقع لمن كان خبيرًا بشخص إذا حدَّثه بأشياء يميِّزُ بين ما صَدَقَ فيه وما كذَبَ فيه؛ بقرائن لا يمكنُ ضبطُها. وخبر الواحد قد يقترن به قرائن تدل على أنه صدقٌ، أو تقترنُ به القرائن تدل على أنه كذب" (¬1). وقال ابن رجب: "وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثير بن عبد الله المزني: إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعف قوتها. وقال الشافعي في المرسل: إنه إذا استند من وجه آخر وأرسله من يأخذ العلم عن غير من يأخذ عنه المرسل الأول؛ فإنه يقبل. وقال الجوزجاني: إذا كان الحديث المسند من رجل غير مقنع -يعني لا يقنع برواياته- وشد أركانه المراسيل بالطرق المقبولة عند ذوي الاختيار استعمل واكتفي به. ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (18/ 25 - 27).

وهذا إذا لم يعارض بالمسند الذي هو أقوى منه، وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث، وقال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1). وقال أبو عمرو ابن الصلاح: هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوِّي الحديث ويحسِّنه، وقد تقبَّله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وقول أبي داود إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها؛ يشعر بكونه غير ضعيف، والله أعلم (¬2). وقيل: (¬3) ينبغي أن يجعل الحديث الضعيف في هذا الباب أربعة أقسام: 1 - الضعيف المنجبر الضعف بمتابعة أو شاهد، وهو ما يقال في أحد رواته: لين الحديث أو فيه لين، وهو الحديث الملقب بالمشبه؛ أي المشبه بالحسن من وجه، وبالضعيف من وجه آخر، وهو إلى الحسن أقرب. 2 - الضعيف المتوسط الضعف، وهو ما يقال في راويه: ضعيف الحديث، أو: مردود الحديث، أو: منكر الحديث ... 3 - الضعيف الشديد الضعف، وهو ما فيه مُتَّهَمٌ، أو متروك. 4 - الموضوع. - الأمثلة: قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريقين أنه لعن زوَّارات القبور، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لعن زائرات القبور" رواه الإمام أحمد (¬4)، وابن ماجة (¬5)، والترمذي (¬6)، وصححه. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (1/ 313)، وابن ماجه في "سننه": (2/ 784). (¬2) انظر: "جامع العلوم والحكم" (1/ 304). (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" (24/ 350). (¬4) في "مسنده" (2/ 337، 356). (¬5) في "سننه" (1576). (¬6) في "جامعه" (1056).

وعن ابن عباس - رضي الله عنها -:"أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لعن زائرات القبور والمتَّخذين عليها المساجد والسُّرج"، رواه الإمام أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2)، والنسائي (¬3)، والترمذي وحسنه (¬4)، وفي نسخ تصحيحه، ورواه بن ماجه (¬5) من دون ذكر الزيارة. فإن قيل: الحديث الأول رواه عمر بن أبي سلمة، وقد قال فيه علي بن المديني: تركه شعبة، وليس بذاك. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وليس يحتج بحديثه. وقال السَّعدي، والنسائي: ليس بقوي الحديث. والثاني: فيه أبو صالح باذام مولى أم هانئ، وقد ضعفوه، قال أحمد: كان ابن مهدي ترك حديث أبي صالح، وكان أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه تفسير، وما أقل ما له في "المسند"، ولم أعلم أحدًا من المتقدِّمين رَضِيَهُ. قلت: الجواب على هذا من وجوه: أحدها: أن يقال: كلٌّ من الرجلين قد عدَّله طائفة من العلماء كما جرَّحه آخرون، أما عمر؛ فقد قال فيه أحمد بن عبد الله العجلي: ليس به بأس. وكذلك قال يحيى بن معين: ليس به بأس. وابن معين وأبو حاتم من أصعب الناس تزكية. وأما قول من قال: تركه شعبة، فمعناه: أنه لم يرو عنه، كما قال أحمد ابن حنبل: لم يسمع شعبة من عمر بن أبي سلمة شيئًا. وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي ومالك ونحوهم، قد كانوا يتركون الحديث عن أناس لنوع شبهة بلغتهم لا توجب رد أخبارهم، فهم إذا رووا عن شخص كانت ¬

_ (¬1) في "مسنده" (1/ 229، 287، 4 32، 337). (¬2) في "السنن" (3236). (¬3) في "السنن الكبرى" (2170) وفي "المجتبى" (4/ 94 - 95). (¬4) في "جامعه" (320). (¬5) في "السنن" (1575).

روايتهم تعديلا له، وأما ترك الرواية فقد يكون لشبهة لا توجب الجرح، وهذا معروف في غير واحد قد خُرِّجَ له في الصحيح. وكذلك قول من قال: ليس بقوي في الحديث، عبارة لينة تقتضى أنه ربما كان في حفظه بعض التغير، ومثل هذه العبارة لا تقتضي عندهم تعمُّد الكذب ولا مبالغة في الغلط. وأما أبو صالح؛ فقد قال يحيى بن سعيد القطان: لم أر أحدًا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ، وما سمعتُ أحدًا من الناس يقول فيه شيئًا، ولم يتركه شعبة ولا زائدة (¬1). فهذه رواية شعبة عنه تعديل له كما عرف من عادة شعبة، وترك ابن مهدي له لا يعارض ذلك، فإن يحيى بن سعيد أعلم بالعلل والرجال من ابن مهدي، فإن أهل الحديث متفقون على أن شعبة ويحيى بن سعيد أعلم بالرجال من ابن مهدي وأمثاله. وأما قول أبي حاتم: يكتب حديثُه ولا يحتجُّ به. فأبو حاتم يقول مثل هذا في كثير من رجال الصحيحين، وذلك أن شرطه في التعديل صعب، والحجَّة في اصطلاحه ليس هو الحجة في جمهور أهل العلم. وهذا كقول من قال: لا أعلم أنهم رضوه. وهذا يقتضى أنه ليس عندهم من الطبقة العالية، ولهذا لم يخرج البخاري ومسلم له ولأمثاله، لكن مجرد عدم تخريجهما للشخص لا يوجب رد حديثه، وإذا كان كذلك، فيقال: إذا كان الجارح والمعدل من الأئمة لم يقبل الجرح إلا مفسَّرًا؛ فيكون التعديل مقدَّمًا على الجرح المطلق". وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزنى، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: "الصُّلحُ جائزٌ بين المسلمين ¬

_ (¬1) انظر "الكامل في ضعفاء الرجال" (2/ 69)، و"ميزان الاعتدال في نقد الرجال" (2/ 3).

إلا صُلحًا حرَّمَ حلالاً، أو أحلَّ حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرَّم حلالاً أو أحلَّ حرامًا" (¬1)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروى ابن ماجه منه اللفظ الأول، لكن كثير بن عمرو ضعَّفه الجماعة، وضرب أحمد على حديثه في "المسند"، فلم يحدِّث به (¬2)، فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه. وقد روى أبو بكر البزار أيضًا: عن محمد بن عبد الرحمن بن السلماني عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الناس على شروطهم، ما وافقت الحق" (¬3)، وهذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفًا؛ فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضًا" (¬4). "وقال الإمام أحمد: أحاديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" (¬5)، "لا نكاح إلا بولي" (¬6)، أحاديث يشد بعضها بعضًا، وأنا أذهب إليها" (¬7). وعن علي -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبرز فحْذك، ولا تنظر إلى ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (1352) وابن ماجه (2353) والحاكم (4/ 113) وغيرهم، وانظر: "إرواء الغليل" (5/ 250). (¬2) انظر: "المحرر" لابن عبد الهادي (1/ 495). (¬3) أخرج أيضًا ابن الجارود في "المنتقى" ج 1/ ص1 16، برقم 637 - حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ مَالِكِ ابن حمزة الأَسْلَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي سُفْيَانُ يَعنِي ابْنَ حَمْزَةَ عَمَّه عَن كَثِيرٍ يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ عَنِ الْوَلِيدِ بن رَبَاحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِم مَا وافق الْحَقَّ مِنْهَا"، وفي سنن الدارقطني: (3/ 28) وعن خصيف عن عطاء بن أبي رباح عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلمون على شروطهم ما وافق الحق من ذلك". وأورده الهيثمي عن ابن عمر في مجمع الزوائد: (4/ 86) من مسند البزار. (¬4) انظر "مجموع الفتاوى": (29/ 147). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه: ج 2/ ص 685: (وَيُروَى عن الْحَسَنِ عن غَيرِ وَاحِدٍ مَرْفُوعًا قال: أفطر الْحَاجِم والمَحْجُومُ). (¬6) وأخرجه البخاري في صحيحه: (5/ 1970) بَاب من قال: لا نِكَاحَ إلا بِوَلِيٍّ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَلا تَعْضُلوهنَّ). (¬7) انظر "تحفة الطالب" (ص/353).

فخذ حي ولا ميت" (¬1)، رواه أبو داود وابن ماجه. وعن ابن عباس قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل وفخذه خارجة فقال: "غط فخذك فإن فخذ الرجل من عورته" (¬2)، رواه أحمد، وروى الترمذي قوله: "الفخذ عورة"، وقال: حديث حسن غريب. وروي ذلك من وجوه أخرى يشد بعضها بعضًا (¬3). وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله عند تفسير قول الله عز وجل: (وَلِلَّهِ عَلَى الناس حِجُّ اَلبَيتِ مَنِ اَستَطَاعَ إِلَيةِ سَبِيلاً)، وذكر حديث: "السبيل: الزاد والراحلة" وطرقه، قال: "هذا هو حاصل روايات الأحاديث الواردة بتفسير السبيل في الآية: بالزاد، والراحلة. وقال غير واحد: إن هذا الحديث لا يثبت مسندًا، وأنه ليس له طريق صحيحة، إلا الطريق التي أرسلها الحسن. قال مقيدُه -عفا الله عنه وغفر له-: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن حديث الزاد والراحلة المذكور، ثابت لا يقل عن درجة الاحتجاج، لأن الطريقين اللتين أخرجهما به الحاكم في "المستدرك" عن أنس قال: كلتاهما صحيحة الإسناد، وأقرَّ تصحيحهما الحافظ الذهبي، ولم يتعقَّبْهُ بشيءٍ، والدعوى على سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة في روايتهما الحديث عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها غلط، وأن الصحيح: عن قتادة، عن الحسن مرسلاً، دعوى لا مُستند لها؛ بل هي تغليطٌ وتوهيم للعدول المشهورين من غير استناد إلى دليل. والصحيح عند المحقّقين من الأصوليين والمحدِّثينْ أن الحديثَ إذا جاء من طريق صحيحة، وجاء من طرق أخرى غير صحيحة، فلا تكون تلك الطرق ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده: (1/ 146) وأخرجه أبو داود في سننه: (3/ 196)، وأيضًا: (4/ 40)، وابن ماجه: (1/ 469) والحاكم (4/ 200). (¬2) أخرجه أحمد في مسنده: (1/ 275)، والترمذي في سننه: (5/ 111). (¬3) انظر "شرح العمدة" (4/ 262).

علة في الصحيحة، إذا كان رواتها لم يخالفوا جميع الحفاظ؛ بل انفراد الثقة العدل بما لم يخالف فيه غيره مقبول عند المحققين. فرواية سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة الحديث المذكور عن قتادة عن أنس مرفوعًا؛ لم يخالفوا فيها غيرهم؛ بل حفظوا ما لم يحفظه غيرهم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فادِّعاء الغلط عليهما بلا دليل؛ غلط، وقول النووي في "شرح المهذب": وروى الحاكم حديث أنس، وقال: وهو صحيح، ولكن الحاكم متساهل كما سبق بيانه مرات، والله أعلم. يجاب عنه: بأنا لو سلَّمنا أن الحاكم متساهل في التصحيح؛ لا يلزم من ذلك أنه لا يُقْبَلُ له تصحيح مطلقًا. ورُبَّ تصحيح للحاكم مطابق للواقع في نفس الأمر، وتصحيحه لحديث أنس المذكور لم يتساهل فيه، ولذا لم يُبْدِ النوويُّ وجهًا لتساهله فيه، ولم يتكلم في أحد من رواته؛ بل هو تصحيح مطابق. فإن قيل: متابعة حماد بن سلمة لسعيد بن أبي عروبة المذكورة راويها عن حماد، هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحرَّاني، وهو متروك، لا يحتجُّ بحديثه، كما جزم به غير واحد من العلماء بالرجال. وقال فيه ابن حجر في "التقريب": متروك. فقد تساهل الحاكم في قوله: إن هذه الطريق على شرط مسلم. مع أن في إسنادها أبا قتادة المذكور! فالجواب: أن أبا قتادة المذكور وإن ضعفه الأكثرون فقد وثقه الإمام أحمد وأثنى عليه، وناهيك بتوثيق الإمام أحمد وثنائه، وذكر ابن حجر والذهبي أن عبد الله بن أحمد قال لأبيه: إن يعقوب بن إسماعيل بن صبيح ذكر أن أبا قتادة المذكور كان يكذب، فعَظُمَ ذلك عنده جدًّا، وأثنى عليه، وقال: إنه يتحرَّى الصدق. قال: ولقد رأيته يشبه أصحاب الحديث. وقال أحمد في موضع آخر: ما به بأس، رجل صالح يشبه أهل النسك،

ربما أخطأ. وفي إحدى الروايتين عن ابن معين أنه قال: أبو قتادة الحراني ثقة. ذكرها عنه ابن حجر والذهبي. وقول من قال: لعله كبر فاختلط. تخمين وظن، لا يثبت به اختلاطه، ومعلوم أن المقرر في الأصول وعلوم الحديث: أن الصحيح أن التعديل يُقْبَلُ مُجُمَلاً، والتجريح لا يُقْبَلُ إلا مفصَّلاً، مع أن رواية سعيد بن أبي عروبة عن أنس ليس في أحد من رواتها كلام. ومما يؤيد ذلك: موافقة الحافظ النقادة الذهبي للحاكم على تصحيح متابعة حماد، مع أن حديث أنس الصحيح المذكور معتضد بمرسل الحسن، ولا سيِّما على قول من يقول إن مراسيله صحاح إذا روتها عنه الثقات؛ كابن المديني وغيره، كما قدمناه، ويؤيد ذلك: أن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد الاحتجاج بالمرسل، كما قدمناه مرارًا، ويؤيده أيضًا: الأحاديث المتعددة التي ذكرنا، وإن كانت ضعافًا لأنها تقوي غيرها، ولا سيما حديث ابن عباس فإنا قد ذكرنا سنده وبيَّنا أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج. وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": ولا يخفى أن هذه الطرق يقوِّي بعضها بعضًا، فتصلح للاحتجاج. ومما يؤيد الحديث المذكور: أن أكثر أهل العلم على العمل به كما قدمنا عن أبي عيسى الترمذي أنه قال في حديث الزاد والراحلة: والعمل عليه عند أهل العلم" (¬1). ومن المستقر عند علماء الحديث: أن التصحيحَ والتضعيف من الأمور الاجتهادية، ولا يلزم الأخذ بحكم فريق من العلماء دون آخر لأجل أنهم متقدّمون أو متأخّرون! بل لأجل الدليل وحجة الاجتهاد. قال الإمام الشنقيطي: " .... والحاصل أن لزوم الكفارة في نذر المعصية جاءت فيه أحاديث متعددة لا يخلو شيء منها من كلام، وقد يقوِّي بعضها بعضًا. ¬

_ (¬1) انظر "أضواء البيان" (4/ 317).

وقال الشوكاني: قال النووي في الروضة: حديث: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين" (¬1)، ضعيف باتفاق المحدثين. قال الحافظ: قلت: قد صححه الطحاوي وأبو علي ابن السكن، فأين الاتفاق؟! انتهى" (¬2). قال الحافظ ابن حجر: " ... عن جابر قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه" (¬3)، لكن إسناده ضعمف. وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء: "وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق" (¬4)، وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعًا: "ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه". فهذه الأحاديث يقوِّي بعضها بعضًا" (¬5). وقال الحافظ: "وروى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عثمان: "أنه أتم بمنى ثم خطب فقال: إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولكنه حدث طَغام -يعني بفتح الطاء والمعجمة- فخفتُ أن يستنوا" (¬6). وعن ابن جريج: "أن أعرابيًّا ناداه في مني: يا أمير المؤمنين؛ ما زلت ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 443) وأبو داود (3/ 232) والترمذي (4/ 103) وابن ما جه (1/ 686). (¬2) أضواء البيان ج 5/ ص240. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (1/ 56)، وأخرجه الدارقطني في سننه: (1/ 83). (¬4) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: (22/ 50). (¬5) "فتح الباري: (1/ 292). (¬6) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (3/ 144).

أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين" (¬1). وهذه طرق يقوِّي بعضُها بعضًا" (¬2). وقال ابن عبد الهادي: "قال الدارقطني: ثنا الحسين بن إسماعيل ثنا عبد الله بن منيب ثنا يحيى بن إبراهيم بن أبي قتيلة قال: ثنا الحارث بن محمد الفهري، عن يحيى بن سعيد، عن أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحلُّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه" (¬3). وهذا الإسناد ضعيف، لم يخرجه أحد من أهل السنن، ولا هو مخرج في الكتب الستة، وفي رجاله الحارث بن محمد الفهري: لا يعرف مجهول. وفيه أيضًا: عبد الله بن منيب الربعي، قال الرازي: يحل ضرب عنقه! لكنه مروي من وجوه عن ابن عمر بأسانيد يقوي بعضها بعضًا" (¬4). وقال الإمام ابن قيم الجوزية: "وأما جمهور العلماء: كمالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي وأصحابهم فقالوا: إن اضطرت إلى الكحل بالإثمد، تداويًا لا زينة، فلها أن تكتحل به ليلا، وتمسحه نهارًا، وحجتهم حديث أم سلمة المتقدم - رضي الله عنها -، فإنها قالت في كحل الجلاء: "لا تكتحل إلا لما لا بد منه، يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار". ومن حجتهم حديث أم سلمة - رضي الله عنها - الآخر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها، وقد جعلت عليها صبرًا، فقال: "ما هذا يا أم سلمة؟ " فقلت: صبرِّ يا رسول الله، ليس فيه طيب. فقال: "إنه يشب الوجه". فقال: "لا تجعليه إلا ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد لابن عبد البر: (16/ 303). (¬2) انظر "فتح الباري: (2/ 571). (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه: (3/ 26). (¬4) انظر تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (3/ 50).

بالليل، وتنزعيه بالنهار" (¬1). وهما حديث واحد فرَّقه الرُّواة، وأدخل مالك هذا القدر منه في "موطئه" بلاغًا، وذكر أبو عمر في "التمهيد" (¬2) له طرقًا يشدُّ بعضُها بعضًا، ويكفي احتجاج مالك به، وأدخله أهل السنن في كتبهم، واحتجَّ به الأئمة، وأقل درجاته أن يكون حسنًا" (¬3). وقال أيضًا: "وقد رويت أحاديث الامتحان في الآخرة من حديث الأسود بن سريع، صححه عبد الحق، والبيهقي، من حديث أبي هريرة، وأنس، ومعاذ، وأبي سعيد. فأما حديث الأسود؛ فرواه معاذ، عن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ... وقال معاذ: وحدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. ورواه أحمد وإسحاق عن معاذ، ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان، عن رافع، عن أبي هريرة. ورواه معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة موقوفًا عليه، وهذا لا يضرُّ الحديثَ؛ فإنه إن سلك طريق ترجيح الزائد لزيادته؛ فواضح، وإن سلك طريقَ المعارضة؛ فغايتها تحقق الوقف، ومثل هذا لا يقدم عليه بالرأي إذ لا مجال له، فيقبل بجزمٍ بأن هذا توقيف لا عن رأي. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (3/ 396) وأبو داود (4292)، وأخرجه البيهقى في السنن الكبرى: (7/ 440)، وانظر التمهيد لابن عبد البر: (24/ 363). (¬2) (24/ 362). (¬3) انظر: "زاد المعاد" (5/ 703).

وأما حديث أنس؛ فرواه جرير بن عبد الحميد، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الوارث، عن أنس، عن النبي- صلى الله عليه وسلم -: "يُؤتَى يومَ القيامةِ بأربعة: بالمولود، وبالمعتوه، وبمن مات في الفترة، وبالشيخ الفاني. كلهم يتكلَّمُ بحجَّتِهِ، فيقول الرب سبحانه لعنق من جهنم: ابرزي. ويقول لهم: إني كنتُ أبعثُ إلى عبادي رسولاً من أنفسهم وإني رسولُ نفسي إليكم. قال: ويقول لهم: ادخلوا هذه. ويقول من كتب عليه الشقاء: أَنَّى نَدْخُلُهَا ومنها كنَّا نفرُّ؟! فيقول الله: فأنتم لِرُسُلِي أشدُّ تكذيبًا. قال: وأما من كُتِبَ عليهم السعادة، فيمضي فيقتحم فيها، فيدخل هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار" (¬1). وهذا وإن لم يعتمد عليه بمجرده، لمكان ليث بن أبي سليم عن عبد الوارث عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما حديث معاذ؛ فتقدم الكلام عليه. وأما حديث أبي سعيد؛ فرواه محمد بن يحيى الذهلي: أخبرنا سعيد بن سليمان، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الهالك في الفترة، والمعتوه، والمولود؛ يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب. ويقول المعتوه: ربِّ لم تجعل لي عقلًا أعقلُ به خيرًا ولا شرًّا. ويقول المولود: ربِّ لم أُدرك العقل! فيرفعُ لهم نارًا، فيقول: رِدُّوها (¬2). قال: فيَرِدُّها من كان في علم الله سعيدًا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيًّا لو أدرك العمل. فيقول: إياي عصيتم فكيف لو رسلي أتتكم؟ " (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (4112)، وصححه الشيخ الألباني بطرقه في "الصحيحة" (2468). (¬2) أي: ادخلوها. (¬3) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (16989) وفي "الأوسط" (1646).

تابعه الحسن بن موسى عن فضيل، ورواه أبو نعيم عن فضيل بن مروزق فوقه، فهذا وإن كان فيه عطية؛ فهو ممن يُعْتَبر بحديثه ويُسْتَشْهَدُ به، وإن لم يكن حُجَّة. وأما الوقف؛ فقد تقدم نظيره من حديث أبي هريرة؛ فهذه الأحاديث يشدُّ بعضُها بعضًا، وتشهدُ لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة، نقله عنهم الأشعري رحمه اللهُ في "المقالات" وغيرها". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "مسألة: ولمس المرأة بشهوة: ظاهرُ المذهب: أن الرجل متى وقع شيء من بشرته على بشرة أنثى بشهوة انتقض وضوؤه. وإن كان لغير شهوة، مثل أن يقبلها رحمة لها، أو يعالجها وهي مريضة، أو تقع بشرته عليها سهوا وما أشبه ذلك؛ لم ينقض. وعنه: ينقض اللمس مطلقًا، لعموم قوله: (أَوْ لامَستُم النِّسَاءَ) وقراءة حمزة والكسائي: "أو لمستم النساء". وحقيقة الملامسة: التقاء البشرتين، لا سيما اللمس؛ فإنه باليد أغلب، كما قال: لمست بكفي كـ ـفه أطلب الغنى ولهذا قال عمر وابن مسعود - رضي الله عنها -: "القبلة من اللمس وفيها الوضوء". وقال عبد الله بن عمر: "قبلة الرجل امرأته وجسّها بيده من الملامسة". ولأنه مس ينقض، فلم تعتبر فيه الشهوة كمس الذكر، ولأن مس النساء في الجملة مظنَّة خروج الخارج، وأسباب الطهارة مما نيط الحكم فيها بالمظان بدليل الإيلاج والنوم ومس الذكر. وعنه: أن مس النساء لا ينقض بحال، لما روى حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُقَبِّلُ بعض نسائه ثم يصلِّي ولا

يتوضأ". رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه (¬1). ورواه إبراهيم التيمي عن عائشة؛ أخرجه أبو داود والنسائي. وقد احتجَّ به أحمد في رواية حنبل، وقد تكلَّم هو وغيره في الطريق الأولى؛ بأن عروة المذكور هو عروة المزني، كذلك قال سفيان الثوري: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني. وعروة هذا لم يدرك عائشة، وإن كان عروة بن الزبير؛ فإن حبيبًا لم يدركه، قال إسحاق بن راهويه: لا تظنوا أن حبيبًا لقي عروة. وفي الثاني: بأن إبراهيم التيمي لا يصح سماعه من عائشة. وجواب هذا: أن عامة ما في الإسناد نوع إرسال، وإذا أرسل الحديث من وجهين مختلفين، اعتضد أحدهما بالآخر، لا سيما وقد رواه البزار بإسناد جيد، عن عطاء عن عائشة - رضي الله عنها - مثله". وقال الحافظ في "الفتح" (1/ 292): "ويمكن أن يستدل لدخولهما بفعله - صلى الله عليه وسلم -، ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء: "فغسل يديه إلى المرفقين حتى مسَّ أطراف العضدين" (¬2)، وفيه عن جابر قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه"، لكن إسناده ضعيف، وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء: "وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق". وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعًا: "ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه". فهذه الأحاديث يقوِّي بعضها بعضًا". قال الحافظ: "روى سعيد بن منصور من حديث ابن عمر مرفوعًا: "سفر ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2382) والترمذي (727) وابن ماجه (811). (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه: (1/ 83).

ومن أمثلة اختلاف النقاد في الحكم على رواة الحديث

المرأة مع عبدها ضيعة" (¬1)، لكن في إسناده ضعف، وقد احتج به أحمد وغيره" (¬2). "وروى الإمام أحمد عن جرير عن قابوس عن أبيه: "أن عليًّا سئل، فقيل له: أحدنا يستعجل فيغسل شيئًا قبل شيء؟ قال: لا، حتى يكون كما أمره الله تعالى". احتج به أحمد في رواية الأثرم" (¬3). - ومن أمثلة اختلاف النقَّاد في الحكم على رواة الحديث: عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنها-: "أن غيلان بن سلمة أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخير أربعًا منهن" (¬4)، رواه الترمذي، وابن ماجه، وهذا وإن كان مرسلاً على الصحيح عند الأئمة -قاله الإمام أحمد والبخاري وغيرهما- إلا أنه قد عضده الذي قبله، فصار حجة بالاتفاق، ولهذا احتج به أحمد في رواية أبي الحارث" (¬5). قال الحافظ الهيثمي: "عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "من اشترى رقبة ليعتقها، فلا يشترط لأهلها العتق، فإن عقده من الرزق"، رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه سعيد بن الفضل القرشي؛ ضعفه أبو حاتم، وقوَّاه غيره" (¬6). وقال: "وعن سلمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وإن أهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في ¬

_ (¬1) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 214): "رواه البزار والطبراني في الأوسط، وفيه بزيع بن عبد الرحمن، ضعفه أبو حاتم، وبقية رجاله ثقات". (¬2) انظر "فتح الباري" (4/ 77). (¬3) انظر "تنقيح تحقيق أحاديث التعليق" (1/ 128). (¬4) أخرجه أحمد في مسنده: (2/ 83) والترمذي في سننه: (1128)، وابن ماجه (1953) والدارقطني في سننه: (3/ 269). (¬5) انظر "شرح الزركشي: (2/ 392). (¬6) انظر: "مجمع الزوائد" (4/ 86).

الآخرة"، رواه الطبراني، وفيه هشام بن لاحق؛ تركه أحمد، وقواه النسائي، وبقية رجاله ثقات" (¬1). قال الحافظ الذهبي: "عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الجنة لتزخرف لرمضان من رأس الحول إلى الحول المقبل، فإذا كان أول يوم من شهر رمضان هبت ريح من تحت العرش، فشققت ورق الجنة عن الحور العين، فقلن: يا رب؛ اجعل لنا من عبادك أزواجًا، وتقر بهم أعيننا وقر أعينهم بنا" (¬2)، قال الفقيه نصر: تفرد به الوليد بن الوليد العبسي وقد تركوه. قلت: وهَّاه الدارقطني، وقوَّاه أبو حاتم" (¬3). "حديث زياد بن الحارث الصدائي -رضي الله عنه - قال: "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن أؤذن في صلاة الفجر، فأذنت فأراد بلال أن يقيم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إن أخا صداء قد أذن، ومن أذن فهو يقيم"، رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، قال الترمذي: إنما نعرفه من حديث الإفريقي، وهو ضعيف عند أهل الحديث. وحسَّنه الحازمي، وقوَّاه العقيلي وابن الجوزي" (¬4). قال الزيلعي: "فحديث أبي هريرة أخرجه الترمذي عن عثمان بن محمد الأخنس عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" (¬5) انتهى، وقال: حديث حسن صحيح. وتكلم فيه أحمد وقواه البخاري" (¬6). وقال ابن عبد الهادي: "وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال ¬

_ (¬1) انظر: "مجمع الزوائد" (7/ 263). (¬2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه: (3/ 190)، وأخرجه الطبراني في المعجم الأوسط: (7/ 44)، وأبو يعلى في مسنده: (9/ 180). (¬3) انظر: "تذكرة الحفاظ" (3/ 1108). (¬4) نظر: "خلاصة البدر المنير": (1/ 105). (¬5) أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (2/ 96)، والترمذي (2/ 171) وابن ماجه (1/ 323). (¬6) انظر: "نصب الراية": (1/ 303).

حجية الحديث المرسل إذا اعتضد

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس للقاتل من الميراث شيء" (¬1)، رواه النسائي، والدارقطني، وقواه ابن عبد البر، وذكر له النسائي علة مؤثرة" (¬2). وقال ابن الملقن: "عن عائشة -رضي الله عنها - أنَّها قالت: "صَلاَةٌ عَلَى سِواكٍ أفضلُ مِن صَلاةٍ عَلَى غير سِوَاكٍ بِسَبْعين دَرَجَة"، رواه أبو نعيم من حديث هاشم بن القاسم الحَرَّاني ثنا عيسى بن يونس عن فرج به، وفرج ضعفه الدارقطني وغيره، وقَوَّاه أحمد" (¬3). "وقد روى أبو أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه - عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "الذي يعمل عمل قوم لوط فارجموه الأعلى والأسفل، ارجموهما جميعًا" (¬4)، لكنه ضعفه. وبالجملة هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا، إذ ليس فيها متهم بكذب وسوء الحفظ يزول بتتابعها، مع أن الجارحين لم يبينوا سبب الجرح، وقد قال يحيى بن سعيد: عباد بن منصور ثقة، لا ينبغي أن يُتْرَكَ حديثُه لرأي أخطأ فيه، وهذا يدل على أن تضعيفهم له كان بسبب خطئه في رأيه، ويقوي الحديث عمل راويه عليه" (¬5). - حجية الحديث المرسل إذا اعتضد: وقال ابن عبد البر: "وأصل مذهب مالك رحمه الله والذي عليه جماعة أصحابنا المالكيين: أن مرسل الثقة تجب به الحجة ويلزم به العمل، كما يجب بالمسند سواء" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى: (4/ 79)، والدارقطني في سننه: (4/ 96)، والطبراني في المعجم الأوسط: (1/ 271). (¬2) انظر: "المحرر في الحديث" (1/ 529). (¬3) انظر: "البدر المنير": (2/ 18). (¬4) أخرجه ابن ماجه في سننه: (2/ 856)، وأخرجه أبو يعلى في مسنده: (12/ 43). (¬5) انظر: "شرح الزركشي": (3/ 106). (¬6) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر: (1/ 2).

وقال شيخ الإسلام: "والمرسل نقول: إذا عمل به جماهير أهل العلم وأرسله من أخذ العلم عن غير رجال المرسل الأول، أو روي مثله عن الصحابة، أو وافقة ظاهر القرآن؛ فهو حجة". وقال: "والمرسل إذا عمل به الصحابة حجة وفاقًا" (¬1). وقال العلائي: "اعتبار المرسل بما يعضده من مرسل آخر، أو مسند من وجه آخر، أو قول بعض الصحابة أو غير ذلك -كما سنبينه- وهو اختيار الإمام الشافعي رحمه الله، فيما رويناه عنه، وهذا نصه: قال (¬2): المنقطع مختلف؛ فمن شاهد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فروى حديثًا منقطعًا اعتبر عليه بأمور: أحدها: أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث، فإن تركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على معنى ما روى، كانت هذه دلالة على صحة ما قيل عنه وحفظه، وإن انفرد به مرسلاً؛ قُبِلَ ما انفرد به من ذلك، ويعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مرسل آخر ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم؟ فإن وجد ذلك؛ قوي، وهي أضعف من الأول، وإن لم يوجد ذلك؛ نظر إلى بعض ما يروى عن بعض الصحابة قولاً له، فإن وجد يوافق ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله تعالى" (¬3). وقال ابن جرير: "أجمع التابعون بأسرهم على قبول المرسل، ولم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المئتين" (¬4). وقال أبو داود في "رسالته إلى أهل مكة": "وأما المراسيل؛ فقد كان يحتج ¬

_ (¬1) انظر: "شرح العمدة" (2/ 262). (¬2) الرسالة" للإمام الشافعي (ص 463). (¬3) انظر جامع التحصيل: (ص 39). (¬4) انظر: "تدريب الراوي" (1/ 198).

بها العلماء فيما مضى مثل سفيان الثوري، ومالك، والأوزاعي، حتى جاء الشافعي فتكلم فيها، وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره، فإذا لم يكن مسند غير المراسيل، ولم يوجد المسند؛ فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتصل في القوة". يعني: إذا لم يكن له شاهد. وقال الحافظ ابن حجر: "وأما الموطأ؛ فقال أبو بكر الأبهري: جملة ما فيه من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة والتابعين ألف وسبع مئة وعشرون حديثا المسند منها ست مئة حديث، والمرسل مئتان واثنان وعشرون حديثًا، والموقوف ست مئة وثلاثة عشر، ومن قول التابعين مئتان وخمسة وثمانون" (¬1). وهذا يدل على الاحتجاج بها. وقال البيهقي: "فالشافعي يقبل مراسيل كبار التابعين، إذا انضم إليها ما يؤكدها، ولا يقبلها إذا لم ينضم إليها ما يؤكدها، سواء أكان مرسل ابن المسيب، أو غيره، قال: وقد ذكرنا مراسيل لابن المسيب لم يقل بها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها، ومراسيل لغيره قال بها حين انضم إليها ما يؤكدها. قال: وزيادة ابن المسيب على غيره في هذا لأنه أصح التابعين إرسالاً" (¬2). ¬

_ * * * (¬1) انظر: "النكت على مقدمة ابن الصلاح" (1/ 192). (¬2) انظر: "المنهل الروي" (ص 44).

أمثلة على احتجاج الأئمة بالمرسل إذا اعتضد

- أمثلة على احتجاج الأئمة بالمرسل إذا اعتضد: قال عبد الله ابن الإمام أحمد -رحمهما الله-: "سألتُ أبي عن حديث الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: "رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة". فقال: أما سفيان، فكان أكثر ما يقول: عن الزهري عن سالم عن أبيه: أنه رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر. قال أبي: فقد رواه عقيل عن خالد عن الزهري عن لسالم عن ابن عمر: "أنه كان يمشي أمام الجنازة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة". وما هو إلا فعل ابن عمر والنبي - صلى الله عليه وسلم-؛ مرسل عن الزهري. قال أبي: كان هذا من قول الزهري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... حدثنا قال: سمعت أبي يقول: حدثناه حجاج عن ليث عن عقيل، قال أبي: ورواه ابن بريج أيضًا، فوافق عقيل كما قال أيضًا سواء، قال: ورأيت أبي إذا كان في جنازة يتقدم يمشي أمامها" (¬1). ومما رواه أبو داود في "المراسيل": حدثنا أبو توبة حدثنا الهيثم عن ثور عن سليمان بن موسى عن طاوس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشد بهما على صدره وهو في الصلاة" (¬2). ويشهد له: ما رواه ابن خزيمة قال: أخبرنا أبو طاهر، نا أبو بكر نا أبو موسى نا مؤمل نا سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله" (ص 143). (¬2) انظر: المراسيل لأبي داود: (ص 89). (¬3) صحيح ابن خزيمة: (1/ 24).

وما رواه أحمد في "المسند": حدثنا عبد اللَّهِ حدثني أَبِي ثنا يحيى بن سَعِيدٍ عن سُفْيَانَ حدثني سِمَاكٌ عن قَبِيصَةَ بن هُلْبٍ عن أبيه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يَنْصَرِفُ عن يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَرَأَيْتُهُ -قال: يَضَعُ هذه على صَدْرِهِ-، وصفَّ يحيى الْيُمْنَى على الْيُسْرَى فَوْقَ الْمِفْصَلِ" (¬1). قال شيخ الإسلام: "وعن الحسن قال: لما نزلت: (وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ اَستَطَاعَ إِليَه سَبِيلاً) [آل عمران: 97] قال: قيل: يا رسول الله؛ ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة"، رواه أحمد وأبو داود في "مراسيله" وغيرهما، وهو صحيح عن الحسن؛ وقد أفتى به، وهذا يدل على ثبوته عنده، واحتج به أحمد" (¬2). وقال أيضًا: "وروى محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين؛ أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما رجل مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه، فإن أعتق فعليه الحج" (¬3)، رواه سعيد، وأبو داود في "مراسيله"، واحتج به أحمد" (¬4). "حديث: "تصدقوا على أهل الأديان كلها"، ابن أبي شيبة من رواية سعيد بن جبير رفعه: "لا تصدقوا إلى على أهل دينكم، فنزلت: (لَيَسَ عَليكَ هُدَاهُم) [البقرة: 272] فقال: تصدقوا على أهل الأديان" (¬5)، ومن طريق محمد ابن الحنفية نحوه، ولابن زنجويه في "الأموال": عن سعيد بن المسيب: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم - تصدق على أهل بيت من اليهود"، وهذه مراسيل يشد بعضها بعضًا" (¬6). ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل: (5/ 226). (¬2) انظر: شرح العمدة: (2/ 128). (¬3) انظر: "البدر المنير: (6/ 15)، وانظر "المراسيل" لأبي داود: (1/ 144). (¬4) انظر: "شرح العمدة: (2/ 261). (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (2/ 401). (¬6) انظر الدراية في تخريج أحاديث الهداية: (1/ 266).

تقوية الحديث بالأثر

"حَدِيثُ: أنه - صلى الله عليه وسلم - أَرَادَ أَنْ يَجْلِدَ رَجُلاً، فأتي بِسَوْطٍ خَلقٍ فقال: فَوقَ هذا. فأتي بِسَوْطٍ جَدِيدٍ، فقال: بين هَذَيْنِ لم أَرَهُ هذا في الشَّارِبِ نعم" (¬1)، هو بهذا اللَّفْظِ عن عُمَرَ وَسَيَأتِي، وَوَقَعَ نَحْوُهُ مَرْفُوعًا في قِصَّةِ حَدِّ الزَّانِي، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" عن زَيْدِ بن أَسْلَمَ: "أَنَّ رَجُلاً اعْتَرَفَ على نَفْسِهِ بِالزِّنَا، فَدَعَا له رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ، فقال: فَوْقَ هذا. فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ، فقال: بين هَذَيْنِ. فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قد رُكِبَ بِهِ، وَلانَ، فَأَمَرَ بِهِ، فَجُلِدَ بِهِ" (¬2)، وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ عبد الرَّزَّاقِ: عن مَعْمَرٍ عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ نَحْوُهُ، وَآخَرُ عن ابن وَهْبِ من طَرِيقِ كُرَيْب مولى ابن عَبَّاسِ بمَعْنَاهُ، فَهَذِهِ الْمَرَاسِيلُ الثَّلاثَةُ يَشُدُّ بَعْضهَا بَعْضًا" (¬3). - تقوية الحديث بالأثر: قال الشافعي رحمه الله: "البدعة بدعتان: بدعة خالفت كتابًا، أو سنة، أو إجماعًا، أو أثرًا عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذه بدعة ضلالة، وبدعة لم تخالف شيئًا من ذلك، فهذه قد تكون حسنة، لقول عمر: نعمت البدعة هذه" (¬4). وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "فقال: فهل تقوم بالحديث المنقطع حجة على من علمه وهل يختلف المنقطع أو هو وغيره سواء؟ قال الشافعي: فقلت له: المنقطع مختلف. ¬

_ (¬1) انظر البدر المنير: (8/ 719). (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى": (8/ 326)، وأخرجه أيضًا البيهقي في "السنن الصغرى" (نسخة الأعظمي): (7/ 399)، وأخرجه مالك في الموطأ: (2/ 825). (¬3) انظر التلخيص الحبير: (4/ 77). (¬4) انظر درء التعارض: (1/ 249).

فمن شاهد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التابعين فحدَّث حديثًا منقطعًا عن النبي- صلى الله عليه وسلم -؛ اعتبر عليه بأمور: منها: أن ينظُرَ إلى ما أرسل من الحديث، فإن شرِكَهُ فيه الحفَّاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى ما روى؛ كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه. وإنِ انفردَ بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده؛ قُبِل ما يفرد به من ذلك، ويعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم؟ فإِنْ وُجِدَ ذلك؛ كانت دلالة يقوي له مرسله، وهي أضعف من الأولى. وإن لم يوجد ذلك؛ نظر إلى بعض ما يٌروى عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولاً له، فإن وُجِدَ يوافقُ ما رُوِيَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله" (¬1). وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: "وقد كان أحمد بن حنبل يختار الأحاديث الموقوفات عن الصحابة على المرسلات عن النبي -صلى الله عليه وسلم -، لذلك حُدِّثْتُ عن عبد العزيز بن جعفر قال: أنا أبو بكر الخلال قال: أخبرني محمد بن موسى أن إسحاق بن إبراهيم حدثهم قال: قلتُ لأبي عبد الله: حديث مرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - برجال ثبت؛ أحبُّ إليك، أو حديث عن بعض الصحابة والتابعين متَّصِل برجال ثبت؟ قال أبو عبد الله: عن الصحابة أعجب إليَّ" (¬2). قال الحافظ ابن عبد البر عند كلامه على أسانيد حديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته": "اختلف العلماء في هذا الإسناد؛ فقال محمد بن عيسى الترمذي: سألتُ ¬

_ (¬1) انظر الرسالة: (ص 461). (¬2) انظر الكفاية في علم الرواية: (1/ 393).

البخاريَّ عنه، فقال: حديث صحيح، فقلت له: إن هشيمًا يقول فيه: المغيرة بن أبي برزة. فقال: وهم فيه، إنما هو المغيرة بن بردة. وهشيم إنما وهم في الإسناد، وهو في المقطعات أحفظ. وقال غير البخاري: سعيد بن سلمة رجل مجهول، لم يرو عنه غير صفوان ابن سليم وحده. قال: ولم يرو عن المغيرة بن أبي بردة غير سعيد بن سلمة. قال أبو عمر: قد روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري رواه عنه سفيان بن عيينة وغيره. ذكر ابن أبي عمرو الحميدي والمخزومي عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن رجل من أهل المغرب يقال له المغيرة بن أبي عبد الله بن أبي بردة: أن ناسًا من بني مدلج أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله؛ إنا نركب البحر. وساق الحديث بمعنى حديث مالك قد ذكرناه في "التمهيد"، وهو مرسل لا يصح فيه الاتصال، ويحيى بن سعيد أحفظ من صفوان بن سليم وأثبت من سعيد بن سلمة. وليس إسناد هذا الحديث مما تقوم به حجة عند أهل العلم بالنقل، لأن فيه رجلين غير معروفين بحمل العلم". ثم قال: "وجماعة من أهل الحديث متَّفقون على أن ماء البحر طهور؛ بل هو أصل عندهم في طهارة المياه الغالبة على النجاسات المستهلكة لها، وهذا يدلك على أنه حديث صحيح المعنى يُتلقَّى بالقبول، والعمل الذي هو أقوى من الإسناد المنفرد" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر الاستذكار: (1/ 159).

وقال الإمام الترمذي: "والمقصود بالعمل: المنقول عن الصحابة رضوان الله عليهم. عن عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم -قال: "طَلاقُ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَان، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَان" (¬1)، قال محمد بن يحيى: وحدثنا أبو عَاصِمٍ أَنْبَأَنَا مُظَاهِرٌ بهذا. قال: وفي الْبَاب عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ. قال أبو عِيسَى: حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ غريبٌ، لا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إلا من حديث مُظَاهِرِ بن أَسْلَمَ، وَمُظَاهِرٌ لا نَعْرِفُ له في الْعِلْمِ غير هذا الحديث، وَالْعَمَلُ على هذا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ من أَصْحَابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ" (¬2). وقال شيخ الإسلام في الحديث المرسل: "نقول: إذا عمل به جماهير أهل العلم وأرسله من أخذ العلم عن غير رجال المرسل الأول، أو روي مثله عن الصحابة، أو وافقة ظاهر القرآن؛ فهو حجة" (¬3). وقال أيضًا: "والمرسل إذا عمل به الصحابة حجة" (¬4). وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "إنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا قال قَوْلاً، أو حكم بِحُكْمٍ أو أفتى بِفُتْيَا، فَلَهُ مَدَارِكُ يَنْفَرِدُ بها عَنَّا، وَمَدَارِكُ نُشَارِكُهُ فيها، فَأَمَّا ما يَخْتَصُّ بِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ من النبي - صلى الله عليه وسلم - شَفَاهًا، أو من صحَابِيِّ آخَرَ عن رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-، فإن ما انْفَرَدُوا بِهِ من الْعِلْم عنا أَكْثَرُ من أَنْ يُحَاطَ بِهِ، فلم يَرْوِ كُلٌّ منهم كُلَّ ما سمع، وَأَيْنَ ما سَمِعَهُ الصِّدَّيقُ -رضي الله عنه- وَالْفَارُوقُ وَغَيْرُهُمَا من كِبَارِ الصَّحَابَةِ -رضي الله عنه- إلَى ما رَوَوْهُ؟ فلم يَرْوِ عنه صِدِّيقُ الأُمَّةِ مِئَةَ حَدِيثٍ، وهو لم يَغِبْ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من مَشَاهِد"؛ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود: (2/ 257)، والترمذي: (3/ 488)، وابن ماجه (1/ 672). (¬2) انظر جامع الترمذي: (3/ 488). (¬3) انظر شرح العمدة: (1/ 172). (¬4) انظر شرح العمدة: (2/ 262).

بَلْ صَحِبَهُ من حِينِ بُعِثَ، بَلْ قبل الْبَعْثِ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وكان أَعْلَمَ الأمة به - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْلِهِ، وَفِعْلِهِ، وَهَدْيِهِ، وَسِيرَتِهِ، وَكَذَلِكَ أَجِلَّة الصَّحَابَةِ رِوَايَتُهُمْ قَلِيلَةِّ جِدَّا بالنِّسبَةِ إلَى ما سَمِعُوهُ من نبِيِّهِمْ وَشَاهَدُوهُ، ولَوْ رَوَوْا كُلَّ ما سَمِعُوهُ وَشَاهَدُوة لَزَادَ على رِوَايَةِ أبي هُرَيْرَةَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فإنه إنَّمَا صحِبَهُ نحو أَرْبَعَ سِنِينَ، وقد رَوَى عنه الْكَثِيرَ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: لو كان عِنْدَ الصَّحَابِيِّ في هذه الْوَاقِعَةِ شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَذَكَرَهُ! قَوْلُ من لم يَعْرِفْ سِيرَةَ الْقَوْم وَأَحْوَالَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهَابُونَ الرِّوَايَةَ عن رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيعَظِّمُونَهَا، وَيُقَلِّلُونَهَا خَوْفَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَيُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ الذي سَمِعُوهُ من النبي -صلى الله عليه وسلم- مِرَارًا، وَلا يُصَرِّحُونَ بالسَّمَاعِ، وَلا يَقُولُونَ: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). وقال رحمه الله: "فَتِلْكَ الْفَتْوَى التي يفتي بها أَحَدُهُمْ لا تَخْرُجُ عن سِتَّةٍ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ سَمِعَهَا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، الثَّاني: أَنْ يَكُونَ سَمِعَهَا مِمَّنْ سَمِعَهَا منه، الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فَهِمَهَا من آيَةٍ من كِتَابِ اللَّهِ، فَهْمًا خفي عَلَيْنَا، الرَّابعُ: أَنْ يَكُونَ قد اتَّفَقَ عليها مَلَؤُهُمْ، ولم يُنْقَلْ إلَيْنَا إلاَّ قَوْلَ المفتي بها وَحْدَهُ، الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ لِكَمَالِ عِلْمِهِ بِاللُّغَةِ وَدَلالَةِ اللَّفْظِ على الْوَجْهِ الذي انْفَرَدَ بِهِ عَنَّا أو لِقَرَائِنَ حَالِيَّةٍ، اقْتَرَنَتْ بِالْخِطَابِ، أو لمجموع أُمُورٍ فَهِمُوهَا على طُولِ الزَّمَانِ من رُؤْيَةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- وَمُشَاهَدَةِ أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَسِيرَتِهِ وَسَمَاعِ كَلامِهِ، وَالْعِلْمِ بِمَقَاصِدِهِ وَشُهُودِ تَنْزِيلِ الْوَحْي وَمُشَاهَدَةِ تَأْوِيلِهِ بِالْفِعْلِ، فَيَكُونُ فَهِمَ ما لا نَفْهَمُهُ نَحْنُ، وَعَلَى هذه التَّقَادِيرِ الخَمْسَةِ تَكُونُ فَتْوَاهُ حُجَّةً يجب اتباعها، السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ فَهِمَ ما لم يُرِدْهُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم -، وَأَخْطَأَ في فَهْمِهِ وَالْمُرَادُ غَيْرُ ما فَهِمَهُ" (¬2). وهذا السادس لا يمكن القطع به إلا بوجود المخالف من الصحابة. ¬

_ (¬1) انظر إعلام الموقعين: (4/ 147). (¬2) انظر إعلام الموقعين: (4/ 148).

قال ابن القيم: "فَلَوْ كان عِلْمُهُمْ أَنْ يفتي أَحَدُهُمْ بِفَتْوَى، وَتَكُونُ خَطَأً مخالفة لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلا يفتي غَيْرَهُ بِالْحَقِّ الذي هو حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إمَّا مع اشْتِهَارِ فَتْوَى الأَوَّلِ أو بدون اشتِهَارِهَا؛ كانت هذه الأُمَّةُ الْعَدْلُ الْخِيَارُ قد أَطْبَقَتْ على خِلافِ الحَقِّ، بَلْ انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ: قِسْمًا أَفتَى بِالْبَاطِلِ، وَقِسْمًا سَكَتَ عن الْحَقِّ، وَهَذَا من الْمُسْتَحِيلِ، فإن الْحَقَّ لا يَعْدُوهُمْ وَيَخْرُجُ عَنْهُمْ إلَى من بَعْدَهُمْ قَطْعًا، وَنَحْنُ نَقُولُ لِمَنْ خَالَفَ أَقْوَالَهُمْ: لو كان خَيْرًا ما سَبَقُونَا إلَيهِ" (¬1). وقال رحمه الله: "وَإِنْ لم يُخَالِف الصَّحَابِيُّ صَحَابِيًّا آخَرَ؛ فَإِمَّا أَنْ يَشْتَهِرَ قَوْلُهُ في الصَّحَابَةِ أو لا يَشْتَهِر، فَإِن اشْتَهَرَ؛ فَاَلَّذِي عليه جَمَاهِيرُ الطَّوَائِفِ من الْفُقَهَاءِ: أنه إجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ منهم: هو حُجَّةٌ، وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَقَالَتْ شِرْذِمَةٌ من الْمُتَكَلّمِينَ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ: لا يَكُونُ إجْمَاعًا وَلا حُجَّةً! وَإِنْ لم يَشْتَهِرْ قَوْلُهُ، أو لم يُعْلَمْ هل اُشْتُهِرَ، أم لا؛ فَاخْتَلَفَ الناس هل يَكُونُ حُجَّةً أم لا؟ فَاَلَّذِي عليه جُمْهور الأمة: أنه حُجَّةٌ. هذا قَوْلُ جُمْهُور الحَنَفِيَّةِ، صَرَّحَ بِهِ محمد بن الْحَسَنِ، وَذكر عن أبي حَنِيفَةَ نَصًّا، وهو مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَتَصَرُّفُهُ في "مُوَطَّئِهِ" دَلِيلٌ عليه، وهو قَوْلُ إِسْحَاقَ بن رَاهْوَيْه، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وهو مَنْصوصُ الإمام أحمد في غَيْرِ مَوْضِع عنه، وَاخْتِيَارُ جُمْهُورِ أصحابه وهو مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ في الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ" (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأيضًا فقد ينصر المتكلمون أقوال السلف تارة، وأقوال المتكلمين تارة، كما يفعله غير واحد؛ مثل أبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، والرازي وغيرهم، ولازم المذهب الذي ينصرونه تارة أنه هو المعتمد، فلا ¬

_ (¬1) انظر إعلام الموقعين: (4/ 133). (¬2) انظر إعلام الموقعين: (4/ 120).

يثبتون على دين واحد، وتغلب عليهم الشكوك، وهذا عادة الله فيمن أعرض عن الكتاب والسنة، وتارة يجعلون إخوانهم المتأخِّربن أحذق وأعلم من السلف، ويقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة هؤلاء أعلم وأحكم! فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان، والتحقيق، والعرفان، والسلف بالنقص في ذلك، والتقصير فيه أو الخطأ، والجهل! وغايتهم عندهم أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط. ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض؛ فإنه وإن لم يكن تكفيرا للسلف، كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج، ولا تفسيقًا لهم كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم، كان تجهيلاً لهم، وتخطئةً وتضليلاً" (¬1). وقال رحمه الله: "لكن قد تنفرد طائفة بالصواب عمن يناظرها من الطوائف، كأهل المذاهب الأربعة؛ قد يوجد لكل واحد منهم أقوال انفرد بها وكان الصواب الموافق للسنة معه دون الثلاثة، لكن يكون قوله قد قاله غيره من الصحابة والتابعين، وسائر علماء الأمة، بخلاف ما انفردوا به، ولم ينقل عن غيرهم، فهذا لا يكون إلا خطأ، وكذلك أهل الظاهر كل قول انفردوا به عن سائر الأمة فهو خطأ، وأما ما انفردوا به عن الأربعة وهو صواب فقد قاله غيرهم من السلف" (¬2). بل إن الإمام أحمد قد يُعَلِّلُ المرفوعَ بمخالفته للآثار عن الصحابة، ومن ذلك أنه قال: "أكثر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقولون إذا خلت -أي: المرأة- بالماء فلا يتوضأ منه، وهو أمر لا يقتضيه القياس، فالظاهر أنهم قالوه عن توقيف" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر مجموع الفتاوى: (4/ 157). (¬2) انظر منهاج السنة النبوية: (5/ 178). (¬3) انظر شرح الزركشي: (1/ 81).

اختلاف المحدثين في الحكم على الرجال

يشير إلى تضعيف حديث ابن عباس: "أن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسلت ... " الحديث. وطريقة الإمام أحمد: ما ذكره عنه ابنه عبد الله: "قال: قلت لأبي: إذا لم يكن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء مشروع يخبر فيه عن خصوص أو عموم؟ قال أبي. ينظر ما عمل به الصحابة؛ فيكون ذلك معنى الآية، فإن اختلفوا ينظر أي القولين أشبه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكون العمل عليه" (¬1). وقال ابن الملقن: "وإذا عمل الصحابي بحديث دلَّ على قوته" (¬2). - اختلاف المحدِّثين في الحُكْمِ على الرجال: قال الإمام أحمد: "مذهبي في الرجال: أني لا أترك حديث محدِّث حتى يجتمع أهل مصر على ترك حديثه" (¬3). قال الخطيب: "ثنا يعقوب بن سفيان قال: سمعت أحمد بن صالح -وذكر مسلمة بن علي- فقال: لا يُتْرَكُ حديث رجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه، قد يقال: فلان ضعيف فأما أن يُقَالَ: فلان متروك؛ فلا؛ إلا أن يجتمع الجميع على ترك حديثه" (¬4). وما أحسن مذهب النسائي -وغيره من أئمة الحديث وعمالقة النقد- في هذا الباب، وهو: أن لا يُتْرَكَ حديثُ الرجل حتى يجتمعَ الجميعُ على تركه. ولذا أرى من الواجب على المحقِّق أن لا يكتفي في حال الراوي على المختصرات في أسماء الرجال، بل يرجع إلى مطولاته التي تحكي أقوال ¬

_ (¬1) انظر مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله: (ص 443). (¬2) انظر البدر المنير: (4/ 241). (¬3) انظر تهذيب التهذيب: (5/ 330). (¬4) انظر الكفاية في علم الرواية: (1/ 110).

طبقات المحدثين وطريقتهم في الجرح والتعديل

الأئمة، فعسى أن لا يرى إجماعًا على تركه بل يرى كثرة فيمن عدله، فليتق الله الجارح، وليستبرئ لدينه، والله الموفق (¬1). - طبقات المحدِّثين وطريقتهم في الجرح والتعديل: "فقسم تكلموا في سائر الرواة: كابن معين وأبي حاتم. وقسم تكلموا في كثير من الرواة: كمالك وشعبة. وقسم تكلموا في الرجل بعد الرجل: كابن عيينه، والشافعي، والكل على ثلاثة أقسام أيضًا: قسم منهم متعنِّتٌ في الجرح، متثبت في التعديل، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، فهذا إذا وثَّق شخصًا فعض على قوله بنواجذك، وتمسك بتوثيقه، وإذا ضعَّف رجلاً؛ فانظر: هل وافقه غيره على تضعيفه؟ فإن وافقه ولم يوثق ذلك الرجل أحد من الحذاق؛ فهو ضعيف. وإن وثَّقه أحد؛ فهذا هو الذي قالوا فيه لا يقبل فيه الجرح إلا مفسَّرًا، يعني: لا يكفي فيه قول ابن معين -مثلاً-: ضعيف، ولم يبين سبب ضعفه، ثم يجيء البخاري وغيره يوثقه. ومثل هذا يختلف في تصحيح حديثه وتضعيفه. ومن ثم قال الذهبي -وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال-: لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف، ولا على تضعيف ثقة، ولهذا كان مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه. وقسم منهم: متسامح؛ كالترمذي، والحاكم. قلت: وكابن حزم؛ فإنه قال في كل من أبي عيسى الترمذي، وأبي القاسم البغوي، وإسماعيل بن محمد الصفار، وأبي العباس الأصم وغيرهم من المشهورين: إنه مجهول! ¬

_ (¬1) انظر قواعد التحديث: (ص 188).

وقسم معتدل: كأحمد، والدارقطني، وابن عدي. وقال السيوطي في "زهر الربى على المجتبى": قال ابن الصلاح: حكى أبو عبد الله بن منده: أنه سمع محمد بن سعد الباوردي بمصر يقول: كان مذهب النسائي: أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه، قال الحافظ أبو الفضل العراقي: هذا مذهب متسع. قال الحافظ ابن حجر في "نكتة على ابن الصلاح": ما حكاه عن البارودي أراد بذلك إجماعًا خاصًّا. وذلك أن كل طبقة من نقاد الرجال لا لّخلو من متشدد ومتوسط. فمن الأولى: شعبة، وسفيان الثوري، وشعبة أشد منه. ومن الثانية: يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى أشد منه. ومن الثالثة: يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، ويحيى: أشد من أحمد. ومن الرابعة: أبو حاتم، والبخاري، وأبو حاتم أشد من البخاري. قال النسائي: لا يترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه، فأما إذا وثقه ابن مهدي، وضعفه يحيى القطان -مثلاً- فلا يترك، لما عُرِفَ من تشديد يحيى، ومن هو مثله في النقد. قال الحافظ: وإذا تقرر ذلك؛ ظهر أن الذي يتبادر إلى الذهن من أن مذهب النسائي متَّسع ليس كذلك، فكم من رجل أخرج له أبو داود والترمذي وتجنب النسائي إخراج حديثه، بل تجنب إخراج حديث جماعة من رجال الصحيحين، انتهى" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر الرفع والتكميل: (ص 307).

قلت: وهذا دليل بيِّن واضح أن هذا العلم مبناه على الاجتهاد لا على التقليد، كما سيأتي. ومن أمثلة ذلك: ما قاله الحافظ ابن حجر: "عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاري المعروف بابن الغسيل، والغسيل هو حنظلة، قُتِلَ يوم أحد شهيدًا، وهو جنب، فغسَّلته الملائكة، وعبد الرحمن من صغار التابعين، وثقه بن معين والنسائي، وأبو زرعة، والدارقطني. وقال النسائي مرة: ليس به بأس، ومرة: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: كان يخطئ ويهم كثيراً، مرَّض القول فيه أحمد، ويحيى، وقالا: صالح، وقال الأزدي: ليس بالقوي عندهم، وقال ابن عدي: هو ممن يعتبر حديثه ويكتب. قلت: تضعيفهم له بالنسبة إلى غيره ممن هو أثبت منه من أقرانه، وقد احتج به الجماعة سوى النسائي" (¬1). وهذا يدل أن على تضعيف الراوي يكون بالنظر إلى من هو أقوى منه. وقال الإمام النووى رحمه الله: "عاب عائبون مسلمًا بروايته في "صحيحه" عن جماعة من الضعفاء، والمتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح، ولا عيب عليه في ذلك. بل جوابه من أوجه ذكرها الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده، ولا يقال: ¬

_ (¬1) انظر مقدمة فتح الباري = هدي الساري: (1/ 417).

الجرح مقدَّم على التعديل؛ لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتًا مفسر السبب، وإلا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذا. وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره: ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود به من جماعة عُلِمَ الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب. الثاني: أن يكون ذلك واقعًا في المتابعات والشواهد، لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولاً بإسناد نظيف رجاله ثقات، ويجعله أصلاً، ثم يتبعه بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة، أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه، وقد اعتذر الحاكم أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصحيح، منهم: مطر الوراق، وبقية بن الوليد، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وعبد الله بن عمر العمري، والنعمان بن راشد، وأخرج مسلم عنهم في الشواهد في أشباه لهم كثيرين. الثالث: أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه، فهو غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته، كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب، فذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومئتين بعد خروج مسلم من مصر، فهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة وعبد الرزاق وغيرهما ممن اختلط آخرًا، ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في "الصحيحين" بما أخذ عنهم قبل ذلك. الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل، فيقتصر على العالي، ولا يطول بإضافة النازل إليه؛ مكتفيًا بمعرفه أهل الشأن في ذلك، وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصًا، وهو خلاف حاله فيما رواه عن الثقات أولاً ثم أتبعه بمن دونهم متابعة، وكأن ذلك وقع منه على حسب حضور باعث النشاط وغيبته.

روينا عن سعيد بن عمرو البرذعي: أنه حضر أبا زرعة الرازي وذكر "صحيح مسلم" وإنكار أبي زرعة عليه روايته فيه عن أسباط بن نصر وقطن بن نسير وأحمد بن عيسى المصري، وأنه قال أيضًا: يطرق لأهل البدع علينا، فيجدون السبيل بأن يقولوا إذا احتج عليهم بحديث: ليس هذا في الصحيح! قال سعيد بن عمرو: فلما رجعت إلى نيسابور ذكرت لمسلم إنكار أبي زرعة، فقال لي مسلم: إنما قلت: صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إليَّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول، فأقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواة الثقات" (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "فإذا عُرِفَ وتقرَّرَ أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا عِلَّةَ له، أو له علَّة إلا أنها غير مؤثرة عندهما؛ فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضًا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما، فيندفع الاعتراض من حيث الجملة" (¬2). وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: "حدثنا عبد الرحمن قال: سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقه مما يقويه؟ قال: إذا كان معروفًا بالضعف لم تقوه روايته عنه، وإذا كان مجهولاً نفعه رواية الثقة عنه. حدثنا عبد الرحمن قال: سألتُ أبا زرعة عن رواية الثقات عن رجل مما ¬

_ (¬1) انظر شرح النووى على صحيح مسلم: (1/ 23 - 26). (¬2) انظر: "مقدمة فتح الباري" (1/ 347).

يقوي حديثه، قال: إي لَعَمري! قلت: الكلبي روى عنه الثوري؟! قال: إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء، وكان الكلبي يُتَكَلَّمُ فيه. قال أبو زرعه: حدثنا أبو نعيم نا سفيان نا محمد بن السائب الكلبي -وتبسم الثوري-. قال أبو محمد: قلت لأبي: ما معنى رواية الثوري عن الكلبي وهو غير ثقة عنده؟ فقال: كان الثوري يذكر الرواية عن الكلبي على الإنكار والتعجب، فتعلقوا عنه روايته عنه وإن لم تكن روايته عن الكلبي قبوله له" (¬1). وقال الحافظ ابن عدي في "الكامل" عند ترجمة عمر بن الوليد الشني: "حدثنا محمد بن أحمد بن حماد ثنا صالح ثنا علين: سألت يحيى بن سعيد عن عمر بن الوليد الشني؟ فقال بيده فحرَّكها، كأنه لا يقويه، فاسترجعتُ أنا، فقال: ما لك؟ قلت: إذا حركت يدك فقد أهلكت عندي، قال: ليس هو عندي ممن أعتمد عليه، ولكنه لا بأس به. قلت: فأبو مكين؟ قال: لا؛ أبو مكين فوقه. قال: وسألت يحيى بن سعيد عن الربيع بن حبيب؟ فقال: تعرف وتنكر؟! ومال بيده كما قلت هو نحو عمر بن الوليد، فقال: هو نحوه. كتب إلي محمد ابن الحسن، قال: سمعت عمرو بن علي يقول: لم يحدثنا يحيى عن عمر بن الوليد الشني، وعمر بن الوليد هذا هو قليل الحديث، ولم يحضرني له شيء فأذكره" (¬2). وقال الحافظ شمس الدين الذهبي في "الكاشف": "عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الشعباني الإفريقي قاضيها، عن أبيه ومسلم ابن يسار وأبي عبد الرحمن الحبلي، وعنه ابن وهب والمقرئ: ضعفوه، وقال ¬

_ (¬1) انظر: "الجرح والتعديل" (2/ 36). (¬2) انظر: "الكامل في ضعفاء الرجال" (5/ 42).

الترمذي: رأيت البخاري يقوِّي أمره، ويقول: هو مقارب الحديث" (¬1). وقال: "إبراهيم بن يزيد بن مردانبه الكوفي، عن ابن أبي خالد ورقبة بن مصقلة، وعنه أبو كريب وعدة، قال أبو حاتم: لا يحتج به، وقوَّاه غيره" (¬2). وقال: "بشر بن رافع أبو الأسباط عن يحيى بن أبي كثير وجماعة، وعنه عبد الرزاق، وجماعة: ضعَّفه أحمد، وقوَّاه ابن معين" (¬3). وقال رحمه الله: "حميد بن حماد بن أبي الخوار أبو الجهم الكوفي، عن سماك وحماد بن أبي سليمان، وعنه أبو كريب ومحمود بن غيلان: ضعَّفه أبو داود، وقوَاه ابن حبان" (¬4). "سعد بن أوس البصري عن أبي يحيى مصدع وزياد بن كسيب، وعنه حميد بن مهران وأبو عبيدة الحداد: ضُعِّفَ، وقوَّاه ابن حبان" (¬5). "سماك بن حرب أبو المغيرة الذهلي، أحد علماء الكوفة، عن جابر بن سمرة والنعمان بن بشير، وعنه شعبة وزائدة، له نحو مئتي حديث، قال: أدركتُ ثمانين صحابيًّا. قلت: هو ثقة، ساء حفظه. قال صالح جزرة: يُضَعَّفُ. وقال ابن المبارك: ضعيف الحديث. وكان شُعبة يضعِّفه، وقوَّاه جماعة" (¬6). "سنيد بن داود أبو علي المصيصي الحافظ، عن حماد بن زيد وشريك، وعنه أبو زرعة والأثرم: ضعَّفه أبو حاتم، وقواه غيره" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر الكاشف: (1/ 627). (¬2) انظر الكاشف: (1/ 227). (¬3) انظر الكاشف: (1/ 268). (¬4) انظر الكاشف: (1/ 352). (¬5) انظر الكاشف: (1/ 427). (¬6) انظر الكاشف: (1/ 465). (¬7) انظر الكاشف: (1/ 468).

"فرج بن فضالة التنوخي الحمصي، عن ربيعة بن يزيد ولقمان بن عامر، وعنه قتيبة ولوين وعلي بن حجر وخلق، ضعَّفه الدارقطني وغيره، وقواه أحمد" (¬1). "معروف بن خربوذ المكي، عن أبي الطفيل والباقر، وعنه أبو داود وأبو عاصم وعدة، ضعَّفه ابن معين، وقواه غيره، وقال أبو حاتم: يُكتبُ حديثهُ" (¬2). "محمد بن طلبة بن مصرف خ م، قال النسائي: ليس بالقوي، وقواه الدارقطني" (¬3). "إسماعيل بن زكريا الخلقاني، عن حصين وطبقته، ثقة منصف، وهو شيعي يقال عنه كلام في الغلو لا يصدر عن مسلم، وقد اختلف قول ابن معين فيه؛ فقواه مرة، وضعفه أخرى، وقال أحمد: حديثه مقارب" (¬4). "عبد السلام بن صالح بن سليمان أبو الصلت الهروي مولى قريش، نزل نيسابور، صدوق له مناكير، وكان يتشيع، وأفرط العقيلي فقال: كذاب! " (¬5). "محمد بن حاتم بن ميمون المروزي أبو عبد الله القطيعي -بفتح القاف- السمين، عن وكيع والقطان وابن عُلَيَّة وابن عُيينة وطبقتهم، وعنه م د وجماعة، وثَّقه الدارقطني وابن عدي، وأفرط ابن معين فكذبه! قال ابن سعد: مات سنة خمس وثلاثين ومئتين" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر الكاشف: (2/ 120). (¬2) انظر الكاشف: (2/ 280). (¬3) انظر ذكر من تكلم فيه وهو موثق: (ص 163). (¬4) انظر ذكر من تكلم فيه وهو موثق: (ص 45). (¬5) انظر تقريب التهذيب: (ص 355). (¬6) انظر خلاصة تذهيب تهذيب الكمال: (1/ 331).

"فضيل بن مرزوق: وثَّقه يحيى مرة، وضعفه أخرى" (¬1). "إسماعيل بن أبي أويس الإمام الحافظ محدث المدينة، أبو عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني، قرأ القرآن على نافع الإمام، فكان بقية أصحابه، وحمل عن خاله مالك بن أنس وعبد العزيز بن الماجشون وسليمان بن بلال وسلمة بن وردان وخلق سواهم، وحديثه في الدواوين الستة سوى كتاب النسائي، روى عنه الشيخان ومحمد بن نصر الصائغ وعلي بن جبلة الأصبهاني وأبو محمد الدارمي والحسن بن علي السري وخلق كثير، قال أحمد: لا بأس به. وقال أبو حاتم: محلُّه الصدق، مغفل. وضعَّفه النسائي، وقال الدارقطني: لا أختاره في الصحيح" (¬2). "إبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي خ د س، عن ابن أبي أوفى وغيره، ليَّنه شُعبة، وضعَّفه أحمد، حديثه حسن" (¬3). "إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي خ م، قليل الحديث لا بأس به، وضعفه أبو داود، وقال النسائي ليس بالقوي وله في الصحيحين أحاديث، ووثقه الدارقطني" (¬4). "زهير بن محمد التيمي المروزي ع، له غرائب، قال البخاري: روى أهل الشام عنه مناكير. وضعفه ابن معين، أخرجه مسلم في الشواهد، قال الحاكم: وهذا ممن خفي على مسلم بعض حاله، فإنه من العُبَّادِ المجاور بمكة، لين في الحديث. ¬

_ (¬1) انظر تاريخ أسماء الثقات: (ص 185). (¬2) انظر: تذكرة الحفاظ: (1/ 409). (¬3) انظر ذكر من تكلم فيه وهو موثق: (ص 32). (¬4) انظر ذكر من تكلم فيه وهو موثق: (ص 34).

زياد بن عبد الله البكائي خ م، صدوق مشهور ثبت في ابن إسحاق، قال ابن معين: لا بأس به في المغازي خاصة. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال الدارقطني: مختلف فيه، وعندي ليس به بأس. وقال النسائي: ليس بالقوي" (¬1). ¬

_ * * * (¬1) انظر ذكر من تكلم فيه وهو موثق: (ص 81).

علم الحديث مبناه على الاجتهاد لا على التقليد

علم الحديث مبناه على الاجتهاد لا على التقليد قال شيخ الإسلام عليه رحمة الله: "وأهل العلم المأثور عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس قيامًا بهذه الأصول، لا تأخذ أحدهم في الله لومة لائم، ولا يصدهم عن سبيل الله العظائم، بل يتكلم أحدهم بالحق الذي عليه ويتكلم في أحب الناس إليه، عملًا بقوله تعالى: (* {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} [النساء: 135] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] ولهم من التعديل، والتجريح، والتضعيف، والتصحيح من السعي المشكور، والعمل المبرور ما كان من أسباب حفظ الدين وصيانته عن إحداث المفترين، وهم في ذلك على درجات: منهم المقتصر على مجرد النقل والرواية، ومنهم أهل المعرفة بالحديث والدراية، ومنهم أهل الفقه فيه والمعرفة بمعانيه" (¬1). وقد أخرج البخاري أحاديث اعتقد صحتها تركها مسلم لما اعتقد فيها غير ذلك، وأخرج مسلم أحاديث اعتقد صحتها تركها البخاري، لما اعتقد فيها غير معتقده، وهو يدل على أن الأمر طريقه الاجتهاد لمن كان من أهل العلم بهذا الشأن، وقليل ما هم. ¬

_ (¬1) انظر مجموع الفتاوى: (1/ 10).

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكذلك التصحيح؛ لم يقلد أئمة الحديث فيه البخاري ومسلمًا؛ بل جمهور ما صححاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحًا متلقًّى بالقبول، وكذلك في عصرهما، وكذلك بعدهما، قد نظر أئمة هذا الفن في كتابيهما، ووافقوهما على تصحيح ما صححاه إلا مواضع يسيرة، نحو عشرين حديثًا، غالبها في مسلم، انتقدها عليهما طائفة من الحفاظ، وهذه المواد المنتقدة غالبها في مسلم، وقد انتصر طائفة لهما فيها، وطائف قررت قول المنتقدة. والصحيح: التفصيل، فإن فيها مواضع منتقدة بلا ريب، مثل حديث أم حبيبة، وحديث خلق الله التربة يوم السبت، وحديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر، وفيها مواضع لا انتقاد فيها في البخاري، فإنه أبعد الكتابين عن الانتقاد، ولا يكاد يروي لفظًا فيه انتقاد إلا ويروي اللفظ الآخر الذي يبين أنه منتقد فما في كتابه لفظ منتقد، إلا وفي كتابه ما يبين أنه منتقد. وفي الجملة: من نقد سبعة آلاف درهم فلم يرج عليه فيها إلا دراهم يسيرة، ومع هذا؛ فهي مغيرة ليست مغشوشة محضة، فهذا إمام في صنعته، والكتابان سبعة آلاف حديث وكسر. والمقصود: أن أحاديثهما انتقدها الأئمة الجهابذة قبلهم وبعدهم، ورواها خلائق لا يحيى عددهم إلا الله، فلم ينفردا لا برواية، ولا بتصحيح، والله سبحانه وتعالى هو الكفيل بحفظ هذا الدين، كما قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهٌ لَحافِظُونَ) [الحجر: 9] " (¬1). وقال الزركشي رحمه الله: "وأصحاب الصحيح: إذا رووا لمن تكلم فيه، وضُعِّفَ؛ فإنهم يثبَّتون من حديثه ما لم ينفرد به؛ بل وافق فيه الثقات، وقامت شواهد صدقه. ¬

_ (¬1) انظر منهاج السنة النبوية: (7/ 215).

قال: وفي هذا الموضع يعرض الغلط لطائفتين من الناس: إحداهما: يرون الرجل قد أخرج له في الصحيح فيحكمون بصحة كل ما رواه، حيث رأوه في حديث قالوا: هذا حديث صحيح على شرط الصحيح! وهو غلط؛ فإن ذلك الحديث قد يكون مما أُنْكِرَ عليه من حديثه، أو يكون شاذًّا أو معلَّلاً، فلا يكون من شرط أصحاب الصحيح، بل ولا يكون حسنًا، وقد أخرج البخاري حديث جماعة ونكب على بعضها خارج الصحيح. والثانية: يرون الرجل قد تُكُلِّمَ فيه وقد ضعِّفَ، فيجعلون ما قيل فيه من كلام الحفاظ موجبًا لترك جميع ما رواه، ويضعفون ما صح من حديثه لطعن من طعن فيه، كما يقول ابن حزم ذلك في إسرائيل وغيره من الثقات، وكذلك أين الأئمة وذوقهم؟ انتهى. ويلتحق بذلك أمر ثالث: وهو أنهم يرون الرجل ترك الشيخان حديثه فيجعلون ذلك قدحًا فيه، وهذا ظاهر تصرف البيهقي في كتابه "السنن" و"المعرفة"؛ كثيراً ما يُعَلِّل الأحاديثَ بأن رواتَها لم يخرج لهم الشيخان! والحقُّ: أنه لا يدل على ذلك كما لا يدل تركهما ما لم يخرجا من الأحاديث الصحيحة على ضعفها، وبه صرح الإسماعيلي في المدخل، وقال: تركه الرواية عن حماد بن سلمة ونحوه كتركه كثيراً من الأحاديث الصحيحة على شرطه، لا لضعفها وإسقاطها. وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه المدخل أيضًا: وعلى مصنفاتهم في العلل وسؤالاتهم يعتمد في الجرح والتعديل، لا على كتاب بنوا فيه على أصل وشرطوا لأنفسهم فيه شروطًا، انتهى" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "النكت على مقدمة ابن الصلاح" للزركشي (3/ 353).

أمثلة في اختلاف اجتهادهم في الوصل والانقطاع

- أمثلة في اختلاف اجتهادهم في الوصل والانقطاع: قال الحافظ ابن حجر في "هدي الساري": "موسى بن عقبة في "صحيح البخاري" روايته عن الزهري، وفي بعضها عنه: قال الزهري. قال الإمام أبو بكر الإسماعيلي: يقال: إنه لم يسمع من الزهري شيئًا. أبان بن عفان، له عن أبيه في "صحيح مسلم" حديث: "لا ينكح المحرم ولا ينكح" (¬1)، وذكر ابن أبي حاتم في كتاب "المراسيل" عن أبي بكر الأثرم أنه سأل أحمد بن حنبل: أبان سمع من أبيه؟ قال: لا، من أين سمع منه؟! زهرة بن معبد أبو عقيل، توقف ابن أبي حاتم في روايته عن ابن عمر، وقال: لا أدري؛ أسع منه؟ وروايته عن ابن عمر في "صحيح البخاري". سليم بن عامر الخبايري، قال أبو حاتم: لم يدرك عمرو بن عنبسة، ولا المقداد بن الأسود! وحديثه عن المقداد في "صحيح مسلم"، وكأنه على مذهبه، وذكر ابن أبي حاتم أنه لم يلقَ عون بن مالك، وروايته عنه مرسلة. عامر الشعبي، أنكر الإمام أحمد سماعه من أبي هريرة! وخرجا في "الصحيحين" حديثه عنه. وتوقف جماعة من الأئمة عن الاحتجاج بما لم يروه الليث عن أبي الزبير عن جابر، وفي "صحيح مسلم" عدة أحاديث مما قال فيه أبو الزبير عن جابر، وليست من طريق الليث، وكأن مسلمًا رحمه الله اطّلع على أنها مما رواه الليث عنه وإن لم يروها من طريقه. عبد الرحمن بن أبي الموالي المدني أبو محمد: وثقه ابن معين، والنسائي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: (2/ 1030).

اختلافهم في حد الجهالة

وأبو زرعة، وقال أحمد وأبو حاتم: لا بأس به، وقال ابن خراش: صدوق. وقال ابن عدي: مستقيم الحديث. وأنكر أحمد حديثه عن محمد بن المنكدر عن جابر في الاستخارة، وقد أخرجه البخاري". وقال رحمه الله: "ولا زلت متعجِّبًا من جزم الدارقطني: بأن الحسن لم يسمع من أبي بكرة! مع أن في هذا الحديث في البخاري قال الحسن: سمعت أبا بكرة يقول، إلى أن رأيت في رجال البخاري لأبي الوليد الباجي في أول حرف الحاء للحسن بن علي بن أبي طالب ترجمة، وقال فيها: أخرج البخاري قول مقدمة الحسن سمعت أبا بكرة، فتأول أبو الحسن الدارقطني وغيره على أنه الحسن بن علي، لأن الحسن عندهم لم يسمع من أبي بكرة، وحمله البخاري وابن المديني على أنه الحسن البصري، وبهذا صح عندهم سماعه منه. قال الباجي: وعندي أن الحسن الذي سمعه من أبي بكرة، إنما هو الحسن بن علي بن أبي طالب. قلت: أوردتُ هذا متعجِّبًا منه، لأني لم أره لغير الباجي، وهو حمل مخالف للظاهر بلا مستند، ثم إن راوي هذا الحديث عند البخاري عن الحسن لم يدرك الحسن بن علي، فيلزم الانقطاع فيه، فما فرَّ منه الباجي من الانقطاع بين الحسن البصري وأبي بكرة وقع فيه بين الحسن بن علي والراوي عنه، ومن تأمل سياقه عند البخاري تحقق ضعف هذا الحمل، والله أعلم" (¬1). - اختلافهم في حد الجهالة: قال الحافظ السيوطي رحمه الله: "جهل جماعة من الحفاظ قومًا من الرواة لعدم علمهم بهم، وهم معروفون بالعدالة عند غيرهم، وأنا أسرد ما في الصحيحين من ذلك: ¬

_ (¬1) انظر "هدي الساري" (ص 368).

فائدة عزيزة في تحرير حد الجهالة

أحمد بن عاصم البلخي: جهله أبو حاتم، لأنه لم يخبر بحاله، ووثقه ابن حبان، وقال: روى عنه أهل بلده. إبراهيم بن عبد الرحمن المخزومي: جهله ابن القطان، وعرفه غيره؛ فوثقه ابن حبان، وروى عنه جماعة. أسامة بن حفص المدني: جهله، الساجي وأبو القاسم اللالكائي، قال الذهبي: ليس بمجهول، روى عنه أربعة. أسباط أبو اليسع: جهله أبو حاتم، وعرفه البخاري. بيان بن عمر: جهله أبو حاتم، ووثَّقه ابن المديني وابن حبان وابن عدي، وروى عنه البخاري وأبو زرعة، وعبيد لله بن واصل. الحسين بن الحسن بن يسار: جهله أبو حاتم، ووثقه أحمد وغيره. الحكم بن عبد الله البصري: جهله أبو حاتم، ووثقه الذهلي، وروى عنه أربعة ثقات. عباس بن الحسين القنطري: جهله أبو حاتم، ووثقه أحمد، وابنه، وروى عنه البخاري والحسن بن علي المعمري وموسى بن هارون الحمال وغيرهم. محمد بن الحكم المروزي: جهله أبو حاتم ووثقه ابن حبان، وروى عنه البخاري" (¬1). - فائدة عزيزة في تحرير حد الجهالة: قال ابن القيم رحمه الله: "فأما تعليله (يعني ابن حزم) حديث ندبة بكونها مجهولة، فإنها مدنية روت عن مولاتها ميمونة، وروى عنها حبيب، ولم يعلم أحد جرحها، والراوي إذا كانت هذه حاله إنما يُخْشَى من تفرده بما لا يُتَابَعُ ¬

_ (¬1) انظر تدريب الراوي: (1/ 320).

لزوم التحري في فهم عبارات الأئمة

عليه، فأما إذا روى ما رواه الناس وكانت لروايته شواهد ومتابعات، فإن أئمة الحديث يقبلون حديث مثل هذا، ولا يردونه، ولا يعللونه بالجهالة، فإذا صاروا إلى معارضة ما رواه بما هو أثبت منه وأشهر، عللوه بمثل هذه الجهالة، وبالتفرد، ومن تأمل كلام الأئمة رأى فيه ذلك، فيظن أن ذلك تناقض منهم، وهو بمحض العلم والذوق والوزن المستقيم، فيجب التنبه لهذه النكتة، فكثيرًا ما تمر بك في الأحاديث ويقع الغلط بسببها" (¬1). * لزوم التحري في فهم عبارات الأئمة: قال شيخ الإسلام: "قال أبو إسحاق الجوزجاني: قال ابن أبي شيبة: ثبت لنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا وضوء لمن لم يسم"، وتضعيف أحمد لها محمول على أحد الوجهين: إما أنها لا تثبت عنده؛ أولاً: لعدم علمه بحال الراوي، ثم علمه، فبنى عليه مذهبه برواية الوجوب، ولهذا أشار إلى أنه لا يعرف رباحًا ولا أبا ثفال، وهكذا تجي عنه كثيرًا الإشارة إلى أنه لم يثبت عنده ثم زال ثبوتها، فإن النفي سابق على الإثبات. وإما أنه أشار إلى أنه لم يثبت على طريقه تصحيح المحدثين، فإن الأحاديث تنقسم إلى صحيح، وحسن، وضعيف، وأشار إلى أنه ليس بثابت، أي: ليس من جنس الصحيح الذي رواه الحافظ التقة عن مثله، وذلك لا ينفي أن يكون حسنًا -وهو حجة-، ومن تأمل كلام الحافظ الإمام علم أنه لم يوهن الحديث، وإنما بيَّن مرتبته في الجملة أنه دون الأحاديث الصحيحة الثابتة. وكذلك قال في موضع آخر: أحسنها حديث أبي سعيد، ولو لم يكن فيها حسن لم يقل فيها أحسنها، وهذا معنى احتجاج أحمد بالحديث الضعيف، ¬

_ (¬1) انظر: تهذيب السنن: (1/ 309).

وقوله: ربما أخذنا بالحديث الضعيف وغير ذلك من كلامه، يعني به الحسن، فأما ما رواه متهم أو مغفل فليس بحجة أصلاً. ويبين ذلك وجوه: أحدها: أن البخاري أشار في حديث أبي هريرة إلى أنه لا يعرف السماع في رجاله، وهذا غير واجب في العمل؛ بل العنعنة مع إمكان اللقاء ما لم يعلم أن الراوي مدلس. وثانيها: أنه قد تعددت طرقه وكثرت مخارجه، وهذا مما يشد بعضه بعضًا، ويغلب على الظن أن له أصلاً، وروي أيضًا مرسلاً؛ رواه سعيد عن مكحول عن النبى - صلى الله عليه وسلم -. إلى إن قال: وثالثها: أن تضعيفه إما من جهة إرسال أو جهل راو، وهذا غير قادح على إحدى الروايتين، وعلى الأخرى -وهي قول من لا يحتج بالمرسل- نقول: إذا عمل به جماهير أهل العلم، وأرسله من أخذ العلم عن غير رجال المرسل الأول، أو روي مثله عن الصحابة، أو وافقة ظاهر القرآن؛ فهو حجة، وهذا الحديث قد اعتضد بأكثر ذلك، فإن عامة أهل العلم عملوا به في شرع التسمية في الوضوء، ولولا هذا الحديث لم يكن لذلك، وإنما اختلفوا في صفة شرعها؛ هل هو إيجاب، أو ندب؟ وروي من وجوه متباينة مسندًا ومرسلاً، ولعلك تجد في كثير من المسائل ليس معهم أحاديث مثل هذه. ورابعها: أن الإمام أحمد قال: أحسنها -يعني أحاديث هذا الباب- حديث أبي سعيد. وكذلك قال إسحاق بن راهويه، وقد سئل: أي حديث أصح في التسمية؟ فذكر حديث أبي سعيد. وقال البخاري: أحسن حديث في هذا الباب حديث سعيد بن زيد. وهذه العبارة وإن كانوا إنما يقصدون بها بيان أن الأثر أقوى شيء في هذا الباب، فلولا أن أسانيدها متقاربة لما قالوا ذلك" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر شرح العمدة: (1/ 173).

علم صناعة الحديث لا ينفك عن الفقه لأنه الغاية

- علم صناعة الحديث لا ينفك عن الفقه لأنه الغاية: وعلى هذا جرى الأئمة الكبار، فمع كونهم يشترطون شروطًا للحديث الصحيح كما عُرِفَ من طريقة البخاري، إلا أنه يحتج بالحديث، وإن لم يكن على شرطه، بل ولا مقارب له، لاعتبارات لا يعلمها إلا الفقيه. قال الحافظ: "لأن كتاب البخاري -كما تقدم تقريره- لم يقصد به إيراد الأحاديث نقلاً صرفًا؛ بل ظاهر وضعه: أنه يجعل كتابًا جامعًا للأحكام وغيرها، وفقهه في تراجمه، فلذلك يورد فيه كثيرًا الاختلاف العالي، ويرجِّحُ أحيانًا، ويسكت أحيانًا؛ توقُّفًا عن الجزم بالحكم، ويورد كثيراً من التفاسير، ويشير فيه إلى كثير من العلل، وترجيح بعض الطرق على بعض، فإذا أورد فيه شيئًا من المباحث لم تستغرب" (¬1). وإليك بعض الأمثلة: قال رحمه الله: "باب كراهية الصلاة في المقابر". قال الحافظ في"الفتح": "وكأنه أشار إلى أن ما رواه أبو داود والترمذي في ذلك ليس على شرطه، وهو حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"، رجاله ثقات لكن اختلف في وصله وإرساله، وحكم مع ذلك بصحته الحاكم وابن حبان" (¬2). وقال الإمام البخاري رحمه الله: "ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا طرف من حديث أبي سعيد الخدري قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه". قال الحافظ: "أخرجه مسلم، وأصحاب السنن من رواية أبي نضرة عنه، قيل: وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض، لأن أبا نضرة ليس على شرطه لضعف فيه، وهذا عندي ليس بصواب؛ لأنه لا يلزم من كونه على غير شرطه أنه ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري: (12/ 325). (¬2) انظر فتح الباري: (1/ 529).

لا يصلح عنده للاحتجاج به؛ بل قد يكون صالحًا للاحتجاج به عنده، وليس هو على شرط صحيحه الذي هو أعلى شروط الصحة، والحق أن هذه الصيغة لا تختص بالضعيف؛ بل قد تستعمل في الصحيح أيضًا، بخلاف صيغة الجزم؛ فإنها لا تستعمل إلا في الصحيح" (¬1). وقال البخاري: "باب صيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة". قال الحافظ: "ليس في الحديث الذي أورده البخاري في هذا الباب ما يطابق الترجمة، لأن الحديث مطلق في ثلاثة أيام من كل شمهر والبيض مقيدة بما ذكر. وأُجيب: بأن البخاري جرى على عادته في الإيماء إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، وهو ما رواه أحمد والنسائي، وصححه ابن حبان، من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال: "جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - بأرنب قد شواها فأمرهم أن يأكلوا وأمسك الأعرابي، فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: إني أصوم ثلاثة أيام من كل شهر. قال: إن كنتَ صائمًا فصُم الغر -أي البيض-"، وهذا الحديث اختُلِفَ فيه على موسى بن طلحة اختلافًا كثيراً، بيَّنه الدارقطني" (¬2). قال البخاري رحمه الله: "باب الطواف بعد الصبح والعصر". قال الحافظ: "وكأنه أشار إلى ما رواه الشافعي، وأصحاب السنن، وصححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما، من حديث جبير بن مطعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا بني عبد مناف؛ من ولي منكم من أمر الناس شيئًا فلا يمنعنَّ أحدًا طافَ بهذا البيت وصلَّى أيّ ساعة شاء من ليلٍ أو نهارٍ"، وإنما لم يخرجه لأنه ليس على شرطه" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري: (2/ 205). (¬2) انظر فتح الباري: (4/ 226). (¬3) انظر فتح الباري: (3/ 488).

"باب الأرواح جنود مجندة". قال الحافظ: "فأورد البخاري هذا الحديث من الطريقين بلا إسناد، فصار أقوى مما لو ساقه بإسناده، وكان سبب ذلك أن الناظر في كتابه ربما اعتقد أن له عنده إسنادًا آخر، ولا سيما وقد ساقه بصيغة الجزم، فيعتقد أنه على شرطه وليس الأمر كذلك. قلت: وللمتن شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه مسلم" (¬1). "باب ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم - يسأل مما لم ينزل عليه الوحي فيقول: لا أدري. أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي". قال الحافظ: "والذي يظهر أنه أشار في الترجمة إلى ما ورد في ذلك، ولكنه لم يثبت عنده منه شيء على شرطه، وإن كان يصلح للحجة كعادته في أمثال ذلك" (¬2). وقال في موضع آخر: "واقتصر المصنف على الاحتجاج بفعل ابن عمر لأنه أشهر من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخول الكعبة، فلو كان دخولها عنده من المناسك لما أخل به مع كثرة أتباعه" (¬3). وقال أيضًا: "ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قضى بالدين قبل الوصية" (¬4)، هذا طرف من حديث أخرجه أحمد، والترمذي، وغيرهما من طريق الحارث -وهو الأعور- عن علي بن أبي طالب قال: "قضى محمد - صلى الله عليه وسلم - أن الدين قبل الوصية، وأنتم تقرؤون الوصية قبل الدَّين"، لفظ أحمد، وهو إسناد ضعيف، لكن قال الترمذي: إن العمل عليه عند أهل العلم. وكأن البخاري اعتمد عليه لاعتضاده ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري: (6/ 370). (¬2) انظر فتح الباري: (13/ 290). (¬3) انظر فتح الباري: (3/ 467). (¬4) أخرجه أحمد في مسنده: (1/ 131)، والترمذي: (4/ 416)، وابن ماجه في سننه: (2/ 906).

بالاتفاق على مقتضاه، وإلا فلم تجر عادته أن يورد الضعيف في مقام الاحتجاج به، وقد أورد في الباب ما يعضده أيضًا" (¬1). وقال رحمه الله: "وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون عند شروطهم" (¬2)، هذا أحد الأحاديث التي لم يوصلها المصنف في مكان آخر، وقد جاء من حديث عمرو ابن عوف المزني، فأخرجه إسحاق في "مسنده" من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعًا بلفظه، وزاد: "إلا شرطًا حرَّم حلالاً أو أحلَّ حرامًا"، وكثير بن عبد الله ضعيف عند الأكثر، لكن البخاري ومن تبعه كالترمذي وابن خزيمة يقوُّون أمره، وأما حديث أبي هريرة فوصله أحمد، وأبو داود، والحاكم، من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح -وهو بموحدة- عن أبي هريرة بلفظه أيضًا دون زيادة كثير، فزاد بدلها: "والصلح جائز بين المسلمين"، وهذه الزيادة أخرجها الدارقطني، والحاكم، من طريق أبي رافع عن أبي هريرة، ولابن أبي شيبة من طريق عطاء: بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمنون عند شروطهم"، وللدارقطني والحاكم من حديث عائشة مثله" (¬3). وقال: "هذه الترجمة مع ما سأبينه من زيادة في بعض طرق حديث الباب منتزعة من حديث أخرجه مسلم من رواية أبي مسعود الأنصاري مرفوعًا: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليومهم اكبرهم سنَّا" الحديث (¬4)، ومداره على إسماعيل ابن رجاء عن أوس بن ضمعج عنه، وليسا جميعًا من شرط البخاري، وقد نقل ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري: (5/ 377). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه: (2/ 794)، والحاكم: (2/ 57)، والطبراني في المعجم الكبير: (4/ 275). (¬3) انظر فتح الباري: (4/ 452). (¬4) أخرجه أحمد بن حنبل في المسند: (4/ 121)، ومسلم في صحيحه: (1/ 465)، وابن حبان في صحيحه: (5/ 516)، وأبو داود في سننه: (1/ 159)، وابن ماجه في سننه: (1/ 313).

ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه أن شعبة كان يتوقَّفُ في. صحة هذا الحديث، ولكن هو في الجملة يصلح للاحتجاج به عند البخاري، وقد علَّق منه طرفًا بصيغة الجزم" (¬1). "باب الدين يسر وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة". قال الحافظ: "رواه البخاري في كتابه "الأدب المفرد" "عن صدقة بن الفضل عن يزيد بن هارون، وهكذا رواه عبد الأعلى وعبد الرحمن بن مغراء وعلي بن مجاهد وغيرهم عن محمد بن إسحاق، ولم أره من حديثه إلا معنعنًا، وله شاهد من مرسل صحيح". (¬2) "الصعيد الطيب وضوء المسلم". قال الحافظ: "هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه البزار من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعًا، وصححه ابن القطان، لكن قال الدارقطني: إن الصواب إرساله. وروى أحمد وأصحاب السنن من طريق أبي قلابة عن عمرو بن بجدان -وهو بضم الموحدة وسكون الجيم- عن أبي ذر نحوه، ولفظه: "إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين" (¬3)، وصححه الترمذي وابن حبان والدارقطني" (¬4). "باب الجهاد ماض مع البر والفاجر". قال الحافظ: "هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه بنحوه أبو داود وأبو يعلى مرفوعًا وموقوفًا عن أبي هريرة، ولا بأس برواته، إلا أن مكحولاً لم يسمع من ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري: (2/ 170). (¬2) انظر تغليق التعليق: (2/ 41). (¬3) أخرجه الترمذي في سننه: (1/ 212)، والنسائي في سننه الكبرى: (1/ 136)، وابن حبان في صحيحه: (4/ 140)، والدارقطني في سننه: (1/ 186)، والبيهقي في سننه: (1/ 212). (¬4) انظر فتح الباري: (1/ 446).

أبي هريرة، وفي الباب عن أنس أخرجه سعيد بن منصور وأبو داود أيضًا، وفي إسناده ضعف" (¬1). وهكذا تلميذ البخاري أبو عيسى الترمذي يحسِّن الحديث، بل ربما صحَّحه لثبوت معناه عنده في أحاديث أخر، وإن كان ظاهر إسناده الضعف. وإليك بعض الأمثلة: قال رحمه الله في "جامعه" (2/ 408): "بَاب ما جاء في السِّوَاكِ وَالطِّيبِ يوم الْجُمُعَةِ. حدثنا عَلِيُّ بن الْحَسَنِ الْكُوفِيُّ حدثنا أبو يحيى إسماعيل بن إبراهيم التَّيْمِيُّ عن يَزِيدَ بن أبي زِيَادٍ عن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى عن الْبَرَاءِ بن عَازِبِ قال: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "حَقٌّ على الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْتَسِلُوا يوم الْجُمُعَةِ، وَلْيَمَسَّ أَحَدُهُمْ من طِيبِ أَهْلِهِ، فَإنْ لم يَجِدْ فَالْمَاءُ له طِيبٌ". قال: وفي الْبَاب عن أبي سَعِيدٍ وَشَيْخٍ من الأَنْصَارِ، قال أبو عِيسَى: حَدِيثُ الْبَرَاءِ حَدِيثٌ حَسَنٌ، ويزيد عيف". وقال رحمه الله (2/ 410): "بَاب ما جاء في الْمَشْيِ يوم الْعِيدِ. حدثنا إسماعيل بن مُوسَى الْفَزَارِيُّ حدثنا شَرِيكٌ عن أبي إسحاق عن الْحَارِثِ عن عَلِيِّ بن أبي طَالِبِ قال: "من السُّنَّةِ أَنْ تَخْرُجَ إلى الْعِيدِ مَاشِيًا، وأن تَأْكُلَ شيئًا قبل أَنْ تَخْرُجَ"، قالَ أبو عِيسَى: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالْعَمَلُ على هذا الحديث عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ". وشريك والحارث ضعيفان". قال رحمه الله: "بَاب ما جاء في التَّكْبِيرِ في الْعِيدَيْنِ. حدثنا مُسْلِمُ بن عَمْرِو أبو عَمْرٍ والْحَذَّاءُ الْمَدِينِيُّ حدثنا عبد اللَّهِ بن نَافِعٍ الصَّائِغُ عن كَثِيرِ بن عبد اللًّهِ عن أبيه عن جَدِّهِ: "أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَبَّرَ في الْعِيدَيْنِ في الأُولَى سَبْعًا قبل الْقِرَاءَةِ، وفي الآخِرَةِ خَمْسًا قبل الْقِرَاءَةِ"، قال: وفي الْبَاب عن ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري: (6/ 56).

عَائِشَةَ وابن عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرٍو، قال أبو عِيسَى: حَدِيثُ جَدِّ كثير حَدِيثٌ حَسَنٌ، وهو أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ في هذا الْبَابِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم " (¬1). "بَاب ما جاء في تَرْكِ الْجُمُعَةِ من غَيْرِ عُذْرٍ. حدثنا عَلِيُّ بن خَشْرَمٍ أخبرنا عِيسَى بن يُونُسَ عن مُحَمَّدِ بن عَمْرٍو عن عَبِيدَة بن سُفْيَانَ عن أبي الْجَعْدِ -يَعْنِي الضَّمْرِيَّ- وَكَانَتْ له صُحْبَة فِيمَا زَعَمَ محمد بن عَمْرٍو -قال: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "من تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ تَهَاوُنًا بها طَبَعَ الله على قَلْبِه"، قال: وفي الْبَاب عن ابن عُمَرَ وابن عَبَّاسِ وَسَمُرَةَ، قال أبو عِيسَى: حديث أبي الْجَعْدِ حَدِيثٌ حَسَنٌ" (¬2). قال الدارقطني في "العلل": "اختُلِفَ في حديث أبي الجعد على أبي سلمة، فقيل عنه هكذا، وهو الصحيح، وقيل: عن أبي هريرة، وهو وهم" انتهى. والأمثلة أكثر من أن تحصر، تفيد أن نظر الأئمة لا يقتصر على الإسناد فقط بمعزل عن الفقه، وإلا لأُهْدِرَتْ كثير من السنن، وهذا يستفاد أيضاً من قوله - صلى الله عليه وسلم -:"فرب حامل فقه، وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". * * * ¬

_ (¬1) انظر سنن الترمذي: (2/ 416). (¬2) انظر سنن الترمذي: (2/ 373).

أهل الحديث قد ينقلون الحديث من طريق صحيحة ثم من طريق ضعيفة فيطلقون عدم الصحة ويريدون ما نقل بالطريق الضعيف

أهل الحديث قد ينقلون الحديث من طريق صحيحة ثم من طريق ضعيفة فيطلقون عدم الصحة ويريدون ما نقل بالطريق الضعيف قال الحافظ ابن حجر: "وهذا الفن -يعني التعليل- أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكًا، ولا يقوم به إلا من منحه الله فهمًا عاليًا واطلاعًا حاويًا، وإدراكًا لمراتب الرواة، ومعرفة شافية، ولم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك؛ لما جعل الله عز وجل فيهم من معرفة ذلك والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك. انتهى" (¬1). وأصحاب الصحيح إذا رووا لمن تكلم فيه فإنهم يتوقفون عن حديثه ما لم ينفرد به بل وافق فيه الثقات وأتت شواهد صدقه (¬2). وقال الحافظ أيضًا: "وإطلاق الحكم على التفرد بالرد، أو النكارة، أو الشذوذ، موجود في كلام كثير من أهل الحديث. قلت: وهذا مما ينبغي التيقظ له، فقد أطلق الإمام أحمد والنسائي وغير واحد من النقاد لفظ المنكر على مجرد التفرد، لكن حيث لا يكون المتفرد في وزن من يحكم لحديثه بالصحة بغير عاضد يعضده" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر توضيح الأفكار: (2/ 29). (¬2) انظر تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (2/ 327). (¬3) انظر النكت على ابن الصلاح: (2/ 674).

فهاهنا شرطان للتعليل بالتفرد: 1 - أن لا يكون الراوي من الأثبات. 2 - أن لا يكون لروايته ما يشهد لها ويعضدها، وعليه فإن التعليل بالتفرد لا يكاد يطلقه إلا من أحاط بهذا العلم رواية ودراية وفقهًا. الأمثلة: 1 - حديث: "إذا التقى الختانان وغابت الحشفة وجب الغسل أنزل أم لم ينزل"، رواه ابن وهب في "مسنده" عن الحارث بن نبهان عن محمد بن عبيد الله عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله مرفوعًا بهذا، أورده عبد الحق، وقال: إسناده ضعيف جدًّا. وكأنه يشير إلى الحارث، لكن لم ينفرد به؛ فقد أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق أبي حنيفة عن عمرو بن شعيب به. وفي الباب عن أبي هريرة بلفظ: "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل"، متفى عليه (¬1)، زاد مسلم: "وإن لم ينزل" (¬2). 2 - قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد نا جرير بن حازم عن أيوب عن ابن مليكة عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية" (¬3). قال الحافظ ابن حجر: "أورده ابن الجوزي من طريق المسند، ومن طريق أخرى، وأعل طريق "المسند" بحسين بن محمد فقال: هو المروزي، قال أبو حاتم: رأيته ولم أسمع منه، وسئل أبو حاتم عن حديث يرويه حسين فقال: خطأ، فقيل له: الوهم ممَّن؟ قال: ينبغي أن يكون من حسين. قلت (¬4): حسين احتج به الشيخان ولم يترك أبو حاتم السماع منه باختيار ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه: (1/ 110)، ومسلم في صحيحه: (1/ 271). (¬2) انظر الدراية في تخريج أحاديث الهداية: (1/ 49). (¬3) أخرجه أحمد في مسنده: (5/ 225). (¬4) القائل هو الحافظ ابن حجر.

أبي حاتم، فقد نقل ابنه عنه أنه قال: أتيته مرات بعد فراغه من تفسير شيبان، وسألته أن يعيد عليَّ بعض المجلس، فقال تكرير ولم أسمع منه شيئًا. وقال معاوية بن صالح قال لي أحمد بن حنبل: اكتبوا عنه. ووثقه العجلي، وابن سعد، والنسائي، وابن قانع، ومحمد بن مسعود العجمي وآخرون. ثم لو كان كل من وهم في حديث سرى في جميع حديثه حتى يحكم على أحاديثه كلها بالوهم لم يسلم أحد، ثم ولو كان ذلك كذلك؛ لم يلزمه منه الحكم على حديثه بالوضع، ولا سيما مع كونه لم ينفرد، بل توبع، ووجدت للحديث شواهد، فقد أورده الدارقطني: عن البغوي عن هاشم بن الحارث عن عبد الله ابن عمرو الرقي عن ليث بن أبي سليم عن ابن أبي مليكة به، وليث -وإن كان ضعيفًا- فإنما ضُعِّفَ من قبل حفظه، فهو متابع قوي. وشاهده حديث ابن عباس، أخرجه ابن عدي من طريق علي بن الحسن بن شقيق أخبرني ليث عن مجاهد عن ابن عباس نحوه، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس في أثناء حديث، وأخرجه الطبراني أيضًا من طريق عطاء الخراساني عن عبد الله بن سلام مرفوعًا، وعطاء لم يسمع من ابن سلام، وهو شاهد قوي" (¬1). وهذا الذي قرَّره العلماء رحمهم الله، والذي عليه عامة أهل العلم بالحديث هو الذي عليه أمير المؤمنين في الحديث في عصرنا، فهو مع كونه مجدد علم الحديث والسُّنَّة في هذا الزمن -كما صرح بذلك أئمة العصر- إلا أنه لم يأت بجديد، ومع ذلك لم يقبل أن يكون مقلدًا لغيره في علم قضى فيه معظم عمره، وفتح الله عليه فيه ما لم يُفْتَحْ على غيره، وكانت غايته فيه الانتصار للسنة، فلم يشتغل فيه انتصارًا لمذهب، أو طلبًا للدنيا، بل فارق أباه لمَّا خيَّره: إما الموافقة على ما هو عليه من المخالفة في السنة، أو المفارقة؛ فاختار ¬

_ (¬1) انظر القول المسدد في الذب عن مسند أحمد: (ص 42).

المفارقة، وكان قد قال لأبيه: أمهلني ثلاثة أيام أستخير الله. وهو لم يكن يملك شيئًا من أمر الدنيا، بهذا حدثني الشيخ نفسه، أسكنه الله الفردوس الأعلى، ورفع درجته في المهديين. فالشيخ قضى حياته في جهاد، ولم يكن طلبه للعلم على سبيل التَّرف، وطلب الجاه والمحمدة عند الناس، بل كان همُّه نشر السُّنة، رَضِيَ مَنْ رَضِيَ، وسَخِطَ مَنْ سَخِطَ. وصدق شيخنا الزاهد العلامة الحافظ عبد الله بن محمد الدويش -عليه رحمة الله- حيث قال لي: "منذ قرون لم يأت في علم الحديث مثل الشيخ ناصر؛ كثرة في الإنتاج، ودقة في التحقيق". فلا يعرفُ الفضلَ لأهله إلا أهل الفضل، ونحن مع ذلك: لا ندَّعي عِصْمَةَ الشيخ من الخطأ في التصحيح، أو التضعيف، فهذا لم يكن ولا يكون لغيره، كما إننا لا نقبل ولا نرضى أن يُقَلَّلَ من شأنه، فالطعن فيه وأمثاله طعنٌ في السُّنة، والقول بأن منهجه يخالف منهج المتقدّمين! هذا جرح في الشيخ، لا يقوله من فطِنَ إلى عواقب هذه الكلمة على السُّنة وأهلها في هذا العصر وبعده، بل عليه هو إن لم يَتُبْ قبل أن يلقى ربه، فالناس في كل قرن يحتاجون إلى الأئمة ليقتدوا بهم، فإذا طُعِنَ فيهم، فقد الناس الثقة بدينهم، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ من الناس، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ العلماء، حتى إذا لم يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ الناس رؤوسًا جُهَّالاً؛ فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" (¬1) أخرجاه من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنها-. كما ينبغي أن يُعْلَمَ أن علم العلل، ومعرفة أحوال الرجال، وسيلة لا غاية، فلا ينبغي الإغراق معه من غير معرفة بمقاصد الشريعة، والنظر إلى فتاوى الصحابة، وما كان مقبولاً عند جماهير العلماء من الأحاديث، وما كان مردودًا، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: (1/ 50)، وأخرجه مسلم: (4/ 2058).

فإن الله قد تكفَّل بحفظ سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وكم من حديث لقي القبول عند جماهير المحدثين، فضلاً عن الفقهاء، ولم يكن رجاله من الأئمة الأثبات، بل كان لبعض أهل العلم فيه مقال، أو تعليل، كما تقدم في كلام أئمة الفن. والشيخ -عليه رحمة الله- جل الأحاديث التي حكم عليها لم ينفرد بتصحيحها، أو تضعيفها؛ بل وافق في ذلك أئمة هذا الشأن، أو بعضهم. أما القول بالفرق بين منهج المتقدمين والمتأخرين: فهو -وإن كان حقًّا من حيث أن المتقدمين يغلب عليهم الحفظ، والمعاصرين البحث، حتى الدين يردِّدون هذه المقولة- إلا أنه من حيث النتيجة لا يوجد إلا في أذهان بعض طلبة العلم، ولم يقل به أحد من الأئمة الحفاظ بعد القرون المفضَّلة، وقد قال الإمام أحمد: "لا تقل بمسأله ليس لك فيها إمام". وليس عندهم بعد النظر والتحقيق إلا أمثلة قليلة من الأحاديث لا يصح أن يؤسس عليها مثل هذا التأصيل، قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)} [الأعراف: 58] والله المستعان. وأما ملاحظاتي العامة على كتاب "مستدرك التعليل" ومؤلفه، فهي كما يلي: 1 - الضعف في ضبط الأصول من أمهات الكتب، وانظر الكلام على الحديث رقم: 16، 28، 62، 44. 2 - الإغراق في تعليل الأحاديث عن طريق التقليد، انظر الحديث رقم: 19 - 35. 3 - نقص الخبرة في فهم عبارات أهل العلم، انظر الحديث رقم: 5 - 7. 4 - الغفلة عن منهاج أهل العلم في تقوية الأحاديث.

5 - عدم المعرفة، والاعتداد بآثار الصحابة وما نقل عنهم من عمل في تقوية الحديث. 6 - الجرأة على الطعن في المتون مع قلة الاطلاع على تقريرات أهل العلم. ويتبَّين لك ذلك بوضوح في أثناء الجواب على تعليله لأحاديث "الإرواء"، وبالله التوفيق. وكتب أبو عبد الرحمن عبد الله بن صالح العُبيلان 28/ 5/ 1429 هـ

رأي مؤلف "مستدرك التعليل" في علم شيخ الإسلام بالحديث!!

رأي مؤلف "مستدرك التعليل" في علم شيخ الإسلام بالحديث!! يحسن بي قبل البدء بالرد على الدكتور الخليل أن أبيِّنَ مسألةً خطيرة، وأثرًا سيئًا من آثار هذا المنهج المبتدَع بالتفريق بين المتقدِّمين والمتأخِّرين! وما ينتج عنه من طعن في أئمة الإسلام وعلمائهم، وتفريقهم وتقسيمهم إلى قسمين: قسم يؤخذ حكمهم على الأحاديث ويُقْبَلُ دون تردُّدٍ ونظرٍ، وقسم لا يفقه علل الحديث، فنهدر جهودَهم، ولا نأخذ من أحكامهم، ولا عبرة باجتهادهم! وهذا من أعجب العجب! ولو عقل هؤلاء ما يقولون، وما يؤول إليه هذا المنهج الخطير لما استمرُّوا على ما هم عليه، ولرجعوا إلى جادَّة الصواب. ومن نتائج هذا المنهج الحادِث: الطَّعن في علم العلماء السابقين، أو التشكيك بعلمهم، وازدراء، أحكامهم، والتعامل معهم بعقول ضيِّقة بعيدة النظر ... ولكني لم أكن أتصوَّر أن يصل الحد إلى أن يُتطاول على شيخ الإسلام وعَلَم الأَعلام الإمام المجتهد: تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية -رحمه الله تعالى وقدَّس روحه-. فقد اتْحَفَنَا الدكتور الخليل بجُرأة عجيبة، وتسرُّع خطير، في اتّهام شيخ الإسلام بتهمة لم يجرؤ أن يتَّهِمَهُ بها أعداؤه، فقد قال -سامحه الله- في مقدمة تحقيقه لكتاب "بيان بطلان التحليل" الشيخ لإسلام ابن تيمية (ص 28 - 29) تحت عنوان: مؤاخذات على الكتاب: 1 - ذكر الشيخ أثر ذي الرقعتين الذي احتج به من يرى جواز التحليل،

وأجاب عنه من ستة أوجه: الأول منها أنه ضعيف منقطع ليس له إسناد، وهذا هو جواب الإمام أحمد عن هذا الحديث، لم ينقل عنه المؤلف جوابًا آخر، ثم ذكر الشيخ خمسة أجوبة على فرض أن للأثر أصلاً. والملحوظة التي رأيت أن الشيخ خالف فيها الصواب؛ أن هذه الأوجه الخمسة لا يخلو بعضها من تكلُّف، وتطويل يمكن الاستغناء عنه، ولو أن الشيخ اكتفى بتضعيف الأثر لكان هو الأولى. وهذا المبدأ -أي الاكتفاء بضعف الحديث- أخذ به الشيخ نفسه، فقد ذكر حديث موسى بن مطير وهو من حجج المبيحين للتحليل، وأجاب عنه بأنه ضعيف موضوع ثم قال: "ثم إن أصحابنا تكلموا على تقدير صحته، وإن كان ذلك ضربًا من التكلف، فإن مثل هذه العبارة يظهر عليها من التناقض ما لا يجوز نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ". 2 - حين يتكلم الشيخ عن بعض الأحاديث التي يحتج بها يحصل منه أحيانا عدم تحرير للحديث صحة وضعفًا، لا سيما في مسألة تقوية الحديث الضعيف بكثرة طرقه، وكذا في مسألة التفردات. وانظر على سبيل المثال ص 234، 320. ومما يدل على أن الشيخ لم يحالفه الصواب فيها؛ أن كلامه في هذه الأحاديث يخالف كلام الأئمة الحفاظ المتقدمين. وأيضًا مما يؤكد ما سبق أن الشيخ يحسّن أو يصحح بعض الأحاديث، ثم يستدرك على نفسه ويبين أنه حديث معلول، انظر على سبيل المثال ص 51 ... ". وله تعقُّبات على شيخ الإسلام رحمه الله في ثنايا تحقيقه للكتاب، تدلُّ على خطر هذا المنهج المُحْدَثِ، ولن أطيلَ في التعليق، وإنما أتركُ مثل هذا الكلام للنقاد والعلماء العارفين، والله المستعان. * * *

الحديث الأول

الحديث الأول قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول الله؛ كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمتَ؟ يعني: قد بليت! قال: إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليم السلام". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "وعلَّة الحديث: 1 - أن حسين بن علي الجعفي لم يسمع من عبد الرحمن بن يزيد الثقة بل سمع من عبد الرحمن بن يزيد التميم الضعيف، وإنما غلط حسين الجعفي في اسم الجد. 2 - تفرد حسين الجعفي عن ابن جابر بهذا الحديث، نقلاً عن أبي حاتم. 3 - في أحاديث أهل الكوفة عن ابن جابر مناكير كثيرة. 4 - كثرة الحفاظ الدين ذهبوا إلى ذلك. 5 - لم يذكر الدارقطني والعجلي ما يدل على صحة سماع حسين الجعفي من ابن جابر.

ثم قال: إن الحافظ الدارقطني والمزّي ذكرا أن حسينًا سمع من ابن جابر، ولم أقف لهما على دليل معين، وتصريح حسين الجعفي بالسماع من ابن جابر من قبيل الوهم". * الجواب: أولاً: لا بد من سوق روايات الحديث ليكون الأمر جليًّا عند القارئ الكريم: قال الإمام أحمد (¬1): حدثنا حسين بن علي الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأسود الصنعاني عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلِقَ آدم، وفيه قُبِضَ، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي". قالوا: يا رسول الله؛ كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمتَ؟ يعني: قد بليت. قال: "إن الله قد حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام". وهكذا رواه أبو داود (¬2) عن هارون بن عبد الله وعن الحسن بن علي، والنسائي (¬3) عن إسحاق بن منصور، ثلاثتهم عن حسين بن علي به. ورواه ابن ماجه (¬4) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن حسين بن علي عن جابر عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس فذكره. قال أبو الحجاج المزي: وذلك وهم من ابن ماجه، والصحيح: أوس بن أوس، وهو الثقفي - رضي الله عنه - (¬5). ¬

_ (¬1) في المسند: (8/ 4). (¬2) في "سننه" (1047) و (1531). (¬3) في "سننه الصغرى" "المجتبى" (3/ 91) (1374) وفي "السنن الكبرى" (1666). (¬4) في "سننه" (1085) و (1636). (¬5) انظر: "البداية والنهاية" 5/ 276، و"التهذيب الكمال" (17/ 485).

قال ابن خزيمة في "صحيحه" (3/ 118) رقم (1733، 1734): أنا أبو طاهر نا أبو بكر نا محمد بن العلاء بن كريب، نا حسين -يعني بن علي الجعفي، ثنا عبد الرحمن بن يزيد، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خُلِقَ آدم وفيه قُبِضَ، وفيه النَّفْخَةُ وفيه الصَّعْقَةُ، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ". قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمْتَ؟! فقال: "إن الله عز وجل حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". أخبرنا أبو طاهر نا أبو بكر نا محمد بن رافع ثنا حسين بن علي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بهذا الإسناد مثله، وقال: يعنون: قد بليتَ". ثانيًا: لم تبيِّن للقارئ من هو حسين الجعفي! وهذه ترجمته من كتب متعددة: "التقريب": الحسين بن علي بن الوليد الجعفي الكوفي المقرئ، ثقة عابد من التاسعة، مات سنة ثلاث أو أربع ومئتين، وله أربع أو خمس وثمانون سنة ع (¬1). "الكاشف": الحسين بن علي بن الوليد الجعفي، عن خاله الحسن بن الحر وجعفر بن برقان والأعمش، وعنه أحمد وعبد وابن الفرات قال أحمد: ما رأيتُ أفضل منه، ومن سعيد بن عامر. وقال يحيى بن يحيى: إن بقي أحد من الأبدال فحسين الجعفي، عاش أربعًا وثمانين سنة، توفي في ذي القعدة 203ع (¬2). "الخلاصة": الحسين بن علي بن الوليد الجعفي مولاهم أبو محمد أو أبو عبد الله الكوفي، أحد الأعلام والزهاد، عن الأعمش وجعفر بن برقان ¬

_ (¬1) انظر تقريب التهذيب: (1/ 167). (¬2) انظر الكاشف: (1/ 334).

وزائدة وفضيل بن مرزوق وخلق، وعنه أحمد وإسحاق وابن معين ومحمد بن رافع وإسحاق الكوسج وخلق، قال أحمد: ما رأيتُ أفضل منه (¬1). إذن فهو شيخ لأحمد، وكافة أصحاب الكتب الستة، وثِقَةٌ فاضل. ثالثًا: أما قولك: تفرد به حسين الجعفي! فهذا من الغرائب! فهو ثقة حافظ، ولا أدري على منهج المتقدِّمين أو المتأخرين يصح هذا التعليل؟! رابعًا: أما نقلك عن ابن أبي حاتم في كتاب "العلل": "قال: سمعت أبي يقول: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر؛ لا أعلم أحدًا من أهل العراق يحدث عنه، والذي عندي: أن الذي يروي عنه أبو أسامة وحسين الجعفي واحد، وهو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، لأن أبا أسامة روى عن عبد الرحمن بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة خمسة أحاديث، أو ستة أحاديث منكرة، لا يحتمل أن يحدث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر مثله، ولا أعلم أحدًا من أهل الشام روى عن ابن جابر من هذه الأحاديث شيئًا. وأما حسين الجعفي فإنه روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم الجمعة أنه قال: "أفضل الأيام يوم الجمعة فيه الصعقة وفيه النفخة وفيه كذا" وهو حديث منكر، لا أعلم أحدًا رواه غير حسين الجعفي، وأما عبد الرحمن بن يزيد بن تميم فهو ضعيف الحديث، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثقة". فالجواب عنه: ما قاله الحافظ أبو الحسن الدارقطني: قوله: حسين الجعفي روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم؛ خطأ. الذي يروي عنه حسين هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وأبو أسامة يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، فيقول ابن جابر ويغلط في اسم الجد! قال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": "وهذا الذي قاله الحافظ ¬

_ (¬1) انظر خلاصة تذهيب تهذيب الكمال: (1/ 84)، وطبقات الحفاظ: (1/ 133).

أبو الحسن هو أقرب وأشبه بالصواب، وهو أن الجعفي روى عن ابن جابر ولم يرو عن ابن تميم، والذي يروي عن ابن تميم ويغلط في اسم جده هو أبو أسامة كما قاله الأكثرون، فعلى هذا يكون الحديث الذي رواه حسين الجعفي عن ابن جابر عن أبي الأشعث عن أوس حديثًا صحيحًا، لأن رواته كلهم مشهورون بالصدق والأمانة والثقة والعدالة، ولذلك صححه جماعة من الحفاظ، ولم يأت من تكلم فيه وعلَّله بحُجَّةٍ بيِّنَةٍ، وما ذكره أبو حاتم الرازي في "العلل" لا يدل إلا على تضعيف رواية أبي أسامة عن ابن جابر لا على ضعف رواية الجعفي عنه، فإنه قال: والذي عندي أن الذي يروي عنه أبو أسامة وحسين الجعفي واحد. ثم ذكر ما يدل على أن الذي روى عنه أبو أسامة فقط هو ابن تميم، فذكر أمرًا عامًّا واستدل بدليل خاص. ثم قال ابن عبد الهادي: وقد قيل: إن أبا أسامة كان يعرف أن عبد الرحمن بن يزيد هو ابن تميم ويتغافل عن ذلك، قال يعقوب بن سفيان: قال محمد بن عبد الله بن نمير -وذكر أبا أسامة- فقال: الذي يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر يرى أنه ليس بابن جابر المعروف، وذكر لي أنه رجل يسمى باسم ابن جابر، قال يعقوب: صدق؛ هو عبد الرحمن بن فلان بن تميم، فدخل عليه أبو أسامة فكتب عنه هذه الأحاديث، فروى عنه، وإنما هو إنسان يسمى باسم ابن جابر. قال يعقوب: وكأني رأيت ابن نمير يتهم أبا أسامة أنه عَلِمَ ذلك وعرف ولكن تغافل عن ذلك! قال: وقال لي ابن نمير: أما ترى روايته لا تشبه سائر حديثه الصحاح الذي روى عنه أهل الشام وأصحابه؟! انتهى (¬1). وقال النسائي في كتاب الضعفاء: عبد الرحمن بن يزيد بن تميم: متروك الحديث شامي (¬2). ¬

_ (¬1) الصارم المنكي في الرد على السبكي: (ص 276). (¬2) انظر الضعفاء والمتروكين للنسائي: (ص 68).

وقال موسى بن هارون الحافظ: روى أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وكان ذلك وهمًا منه، هو لم يلقَ عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وإنما لقي عبد الرحمن بن يزيد بن تميم فظن أنه ابن جابر، وابن جابر ثقة وابن تميم ضعيف، فأنت ترى أن الحمل في كلام الحفاظ ليس على حسين الجعفي، فهو شيخ الجميع، وإنما على أبي أسامة (¬1). وهكذا قول البخاري؛ فليس فيه تصريح، فإنه لم يجزم؛ بل قال: ويقال إنه الذي روى عنه أهل الكوفة أبو أسامة وحسين، فقالوا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وغلِطَا في نسبه. ثم إنه لم ينص على الحديث بعينه كما فعل أبو حاتم. وهكذا الخطيب البغدادي؛ حمَّلْتَ كلامه ما لم يحتمل، فإنه قال: الكوفيون. ولم ينص على أحد. أما قولك: لم يذكر الدارقطني والعجلي ما يدل على صحة سماع حسين الجعفي من ابن جابر. فقد أجاب على هذا ابن عبد الهادي بما يقطع الشك ويفصل في الأمر، فقال: وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق (¬2): حدثنا علي بن عبد الله حدثنا حسين بن علي الجعفي حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر سمعته يذكر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ". قالوا: يا رسول الله؛ وكيف تُعرَضُ عليك صلاتنا، وقد أرِمْتَ، يقولون: قد بليت. قال: "إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". ¬

_ (¬1) وانظر الصارم المنكي في الرد على السبكي: (ص 274). (¬2) في "فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم " (22).

هكذا رواه عن علي بن المديني زين الحفاظ عن حسين الجعفي مجوّدًا بالتصريح بسماع الجعفي من ابن جابر، انتهى (¬1). أما ما نقلتَه عن أبي حاتم ابن حبان البستي من التعليل وهو في كتاب "المجروحين". فإنه لا يريد ما ذهبتَ إليه من أن الجعفي لا يروي عن ابن جابر الثقة، وذلك أنه أخرج الحديث في "صحيحه" (550): أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب قَالَ: حَدَّثَنَا حُسيْنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ الصنْعَانِيِّ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ به. أما شواهد الحديث: فقد قال ابن القيم في "جلاء الأفهام" (ص 85): "للحديث شواهد من حديث أبي هريرة، وأبي الدرداء، وأبي أمامة، وأبي مسعود الأنصاري، وأنس بن مالك، والحسن؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. فأما حديث أبي هريرة: فرواه مالك (¬2) عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة، من حين تطلع الشمس شفقًا من الساعة إلا الجن والإنس، وفيها ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلِّي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه". فهذا الحديث الصحيح مؤيد لحديث أوس بن أوس دال على مثل معناه. وأما حديث أبي الدرداء: ففي "الثقفيات": أخبرنا أبو بكر بن محمد بن إبراهيم بن علي بن المقرئ، أخبرنا أبو العباس محمد بن الحسن بن قتيبة ¬

_ (¬1) انظر الصارم المنكي في الرد على السبكي: (ص 278). (¬2) في "الموطأ" (1/ 108 - 110).

العسقلاني، حدثنا حرملة، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن سعيد، عن أبي هلال، عن زيد بن أيمن، عن عبادة بن نسي، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدًا لا يصلي عليَّ إلا عرضت عليَّ صلاته حتى يفرغ منها، قال: قلت: وبعد الموت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فنبي الله حي يرزق". وسيأتي في حديث أبي الدرداء بإسناد آخر من الطبراني، ورواه ابن ماجه أيضًا (¬1). وأما حديث أبي أمامة، فقال البيهقي (¬2): حدثنا علي بن أحمد بن عبدان أنبأنا أحمد بن عبيد حدثنا الحسين بن سعيد حدثنا إبراهيم بن الحجاج حدثنا حماد بن سلمة عن برد بن سنان عن مكحول الشامي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكثروا عليَّ من الصلاة في كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتي تعرض عليَّ في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة". لكن لهذا الحديث علتان: إحداهما: أن برد بن سنان قد تكلم فيه وقد وثقه يحيى بن معين وغيره. العلة الثانية: أن مكحولاً قد قيل: إنه لم يسمع من أبي أمامة، والله أعلم. وأما حديث أنس، فقال الطبراني: حدثنا محمد بن علي الأحمر حدثنا نصر بن علي حدثنا النعمان بن عبد السلام حدثنا أبو ظلال عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة، فإنه أتاني جبريل آنفًا عن ¬

_ (¬1) في "سننه" (1637). (¬2) في "حياة الأنبياء" (13) وفي "شعب الإيمان" (6/ 285) بإسناد ضعيف.

ربه عز وجل فقال: ما على الأرض من مسلم يصلي عليك مرة واحدة إلا صليتُ أنا وملائكتي عليه عشرًا" (¬1). وقال محمد بن إسماعيل الوراق: حدثنا جبارة بن مغلس حدثنا أبو إسحاق خازم عن يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة فإن صلاتكم تعرض علي" (¬2). وهذان وإن كانا ضعيفين، فيصلحان للاستشهاد. ورواه ابن أبي السري (¬3): حدثنا داود بن الجراح حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة"، وكان الصحابة - رضي الله عنه - يستحبون إكثار الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة. قال محمد بن يوسف العابد (¬4) عن الأعمش عن زيد بن وهب قال لي ابن مسعود - رضي الله عنه -: "يا زيد بن وهب؛ لا تدع إذا كان يوم الجمعة أن تصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ألف مرة، تقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم -". وأما حديث الحسن بن علي - رضي الله عنه- فقال أبو يعلى في "مسنده" (¬5): حدثنا موسى بن محمد بن حيان حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا عبد الله بن نافع أخبرنا العلاء بن عبد الرحمن قال: سمعت الحسن بن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا، ولا تتخذوا بيتي عيدًا، صلُّوا عليَّ وسلِّموا، فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني أينما كنتم". وعلة هذا الحديث: أن مسلم بن عمرو رواه عن عبد الله بن نافع عن ابن ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (8115). (¬2) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (3/ 944) ينفس الإسناد، وهو ضعيف. (¬3) أخرجه عنه ابن السُّني في "عمل اليوم والليلة" (379). (¬4) انظر: "الترغيب" للتيمي الأصبهاني (1681). (¬5) (12/ 131) رقم (6761).

أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تجعلوا قبري عيدًا وصلَّوا عليَّ، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" (¬1)، وهذا أشبه. وقال الطبراني في "المعجم الكبير" (¬2): حدثنا أحمد بن رشدين المصري حدثنا سعيد بن إبراهيم حدثنا محمد بن جعفر أخبرنا حميد بن أبي زينب عن حسين بن حسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حيثما كنتم فصلُّوا عليَّ، فإن صلاتكم تبلغني". وأما حديث الحسين أخيه - رضي الله عنه -، فمال الطبراني في "المعجم الكبير" (¬3): حدثنا يوسف بن الحكم الضبي حدثنا محمد بن بشير الكندي حدثنا عبيد بن حميد حدثني فطر بن خليفة عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين عن أبيه عن جده حسين بن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -رضي الله عنه -:"من ذكرت عنده فخطئ الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة". وعلته: أن ابن أبي عاصم رواه عن أبي بكر هو ابن أبي شيبة حدثنا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً (¬4). ورواه عمرو بن حفص بن غياث عن أبيه عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -عن النبي - صلى الله عليه وسلم. ورواه إسماعيل بن إسحاق عن إبراهيم بن الحجاج حدثنا وهيب عن جعفر ابن محمد عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. ورواه علي بن المديني حدثنا سفيان قال: قال عمرو عن محمد بن علي بن حسين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود (2042) وغيرهما. (¬2) (3/ 82) رقم (2729). (¬3) (3/ 28 1) رقم (2887). (¬4) أخرجه ابن أبي عاصم في "الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -" (83) وابن أبي شيبة في "مصنفه " (31793).

ثم قال: قال سفيان: قال رجل بعد عمرو: سمعت محمد بن علي يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم سمى سفيان الرجل، فقال: هو بسام وهو الصيرفي. ذكره إسماعيل عن علي، وقال حدثنا سليمان بن حرب وعارم قالا: حدثنا حماد بن زيد عن عمرو عن محمد بن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً" انتهى. والحكمة -والله أعلم- في تخصيص يوم الجمعة بكثرة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ما جاء في الأحاديث الصحيحة وهي ما يلي: 1 - حديث أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:"خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عليه الشَّمْس يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فيه خُلِقَ آدَم، وفيه أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ منها" (¬1). 2 - حديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه -: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ يوم الْجُمُعَةِ فقال: "فيه سَاعَةٌ لا يُوَافِقُهَا عبدٌ مُسْلِمٌ وهو قَائِم يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شيئًا إلا أَعْطَاهُ إياه" وَأَشَارَ بيده يُقَلِّلُهَا" (¬2). 3 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "عُرِضَتِ الجمعةُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاء جبريل في كفه كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك، لتكون لك عيدًا، ولقومك من بعدك، ولكم فيها خير، تكون أنت الأول ويكون اليهود والنصارى من بعدك، وفيها ساعة لا يدعو أحد ربه بخير هو له قسم إلا أعطاه، أو يتعوذ من شر إلا دفع عنه ما هو أعظم منه، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (854). (¬2) أخرجه البخاري (935) ومسلم (852).

الحديث رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 477) والطبراني في "الأوسط" (2/ 314) وابن حبان في "صحيحه" (7/ 7) والضياء في "المختارة" (6/ 272). وقد ثبت في صحيح مسلم (4/ 1845) (2/ 314): "مَرَرتُ على مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ وهو قَائِمٌ يُصَلِّي في قَبْرِهِ". وفيه ما يدل على أن حياة الأنبياء البرزخية في قبورهم أكمل من سائر الخلق، فيصلون وتعرض عليهم أعمال أممهم. وقد صحح الحديث جمع من العلماء منهم: ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، وابن عبد البر، والنووي، واحتج به شيخ الإسلام في الرد على أهل البدع في مواضع متعددة من كتبه، وصححه ابن القيم، والذهبي وابن كثير، وابن عبد الهادي، والحافظ ابن حجر، والحمد لله رب العالمين. * * *

الحديث الثاني

الحديث الثاني حديث الحكم بن عمرو الغفاري - رضي الله عنه -: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "وله علل كما يلي: 1 - الوقف. 2 - مخالفة الأحاديث الصحيحة. 3 - الحديث يدور على أبي حاجب، وقد ضعفه بعضهم. ثم قال: وقال الإمام أحمد: "حديث الحكم قد روي أيضًا غير مرفوع". * قلت: أما الحديث السابق فقد ظننتُ معه أن لك خبرة بهذا الفن! ثم لما رأيتُ، تعليقك على هذا الحديث تبيَّن لي غير ذلك، وأيضاً تنقل من كتب وتقول بعدها انتهى، ولا تبين من أين نقلتها، وهذا من قبيل التدليس. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في سننه: (1/ 92 - 93)، وابن أبي شيبة في مصنفه: (1/ 38)، وفي مسنده أيضًا: (2/ 414)، نحوه.

فقولُكَ -لمَّا أقررتَ أن الذين رووه مرفوعًا: عاصم الأحول، وسليمان التيمي أوثق من الذين وقفوه-: "أن هذا صحيح، إلا أنه اعتراه ما يضعفه، وهو ما يدل على أن الرافعين لم يضبطوا الحديث، للقرائن التي دلَّت على ذلك، وهي العلل المذكورة". فهذا ليس من أساليب أهل العلم بالحديث أن ترمي بالكلام على عواهنه، وليس لديك إلا التقليد! فلم تذكر في كلامك شيئًا يدل على علمك بصناعة الحديث، بدليل أنك نقلتَ عن ابن حبان أنه قال في أبي حاجب: ربما أخطأ. ثم ادَّعَيْتَ أن هذا مما أخطأ فيه، وهل هذا إلا ضرب من الخرص؟! فأنت لمَّا اعتقدتَ استدللتَ، فما وجه قولك: الحديث يدور على أبي حاجب؟ وأنت تقر بأنه ثقة! وما وجه قولك: مخالفته للأحاديث الصحيحة؟! ومن أين أخذت هذه العلة، أو أنه حلال لكم أن تُعَلِّلوا بغير ما علل به المتقدمون، حرام على غيركم؟! ثم ما هي هذه الأحاديث الصحيحة المخالفة لهذا الحديث؟! ثم وقعت في خطأ آخر، وقلت: إن الحديث مخالف للآثار! ونقلت عن الإمام أحمد قوله: "إذا خلت به فلا يتوضأ منه، إنما رخص النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يتوضئا جميعًا". ثم قلت: وهذا لا يدل على تصحيح حديث الحكم مرفوعًا، فإن الإمام أحمد معروف بالأخذ بأقوال الصحابة. ثم خطَّأت الإمام أحمد، وقلت: "فإن فهم منها تصحيح المرفوع، وأنه لا يعارض الأحاديث الصحيحة الدالة على الجواز، باعتبار وجود الفرق بين أن يتوضَّئا جميعًا، وبين ما خلت به؛ فإن هذا ليس بصحيح فيما يظهر لي"! ثم استدللتَ على ذلك بحديث ابن عباس عند مسلم "أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - اغتسل بفضل ميمونة" (¬1) وهذا مما يؤكد أنك تجمع ولكن لا تحقق، عفا الله عنك. ¬

_ (¬1) انظر صحيح الإمام مسلم: (1/ 257).

وكنتَ قد اكتفيتَ بتقليد البيهقي، فقلتَ: أورد البيهقي حديث رجل صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين، وفيه النهي عن الاغتسال بفضل المرأة (¬1) وقال بعد ذلك: "إلا أنه مرسل جيد، لولا مخالفة الأحاديث الثابتة الموصولة". وغفلتَ أن جهالة الصحابي لا تضر، وخفيت عليك طريقة البيهقي في رد الأحاديث التي تخالفُ مذهبه، كما حكاه غير واحد من المحققين منهم شيخ الإسلام ابن تيمية. فاعلم أن الحديث جاء عن ثلاثة من الصحابة مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم: الأول: قال أبو داود: حدثنا بن بَشَّارٍ ثنا أبو دَاوُدَ -يَعْنِي الطَّيَالِسِيَّ- ثنا شُعْبَةُ عن عَاصِمٍ عن أبي حَاجِبِ عن الْحَكَمِ بن عَمْرٍو -وهو الأَقْرَعُ- أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى أَنْ يَتَوَضَّأ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ" (¬2)، الحديث رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان في "صحيحه" (4/ 71). الثاني: قال أبو داود: حدثنا أَحْمَدُ بن يُونُسَ ثنا زُهَيْرٌ عن دَاوُدَ بن عبد اللَّهِ ح وثنا مُسَدَّد ثنا أبو عَوَانَةَ عن دَاوُدَ بن عبد اللَّهِ عن حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ قال: لَقِيتُ رَجُلاً صَحِبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعَ سِنِينَ كما صَحِبَهُ أبو هُرَيْرَةَ، قال: "نهى رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ أو يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ" زَادَ مُسَدَّد: "وَلْيَغْتَرِفَا جميعًا" (¬3)، ورواه النسائي عن قتيبة عن أبي عوانة. وزهير هو ابن معاوية أبو خيثمة الجعفي الكوفي الحافظ أحد الأثبات. قال معاذ بن معاذ: والله ما كان سفيان أثبت من زهير. وقال أحمد: كان من معادن الصدق. ¬

_ (¬1) انظر سنن البيهقي الكبرى: (1/ 190). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 213) و (5/ 66) أبو داود في "سننه" (82)، والترمذي في "جامعه" (64)، والنسائي في "المجتبى" (1/ 179)، وابن ماجه في "سننه" (373). (¬3) أخرجه أبو داود: (1/ 21)، والنسائي في السنن الكبرى: (1/ 117)، وفي (المجتبى): (1/ 130)، وأحمد في مسنده: (4/ 111).

وداود بن عبد الله الأودي وثقَّه أحمد، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال إسحاق بن منصور عن يحيى: ثقة. كذا ذكر غير واحد من المصنفين رواية عباس عن يحيى في ترجمة داود هذا، والظاهر أن كلام يحيى إنما هو في داود بن يزيد الأودي عم عبد الله بن إدريس، فإنه المشهور بالضعف. وحميد الحميري هو ابن عبد الرحمن. قال العجلي: بصري تابعي ثقة، كان ابن سيرين يقول: هو أفقه أهل البصرة. وحميد الرؤاسي: ثقة ثبت. قال أبو بكر بن أبي شيبة: قلَّ من رأيت مثله. وقال البيهقي في هذا الحديث: "رواته ثقات، إلا أن حميدًا لم يُسَمِّ الصحابىَّ الذي حدَّثه، فهو بمعنى المرسل، إلا أنه مرسل جيد لولا مخالفته الأحاديث الثابتة الموصولة قبله. وداود بن عبد الله الأودي؛ لم يحتج به الشيخان البخاري ومسلم -رحمهما الله-" انتهى كلامه. وهذا الحديث ليس بمرسل، وجهالة الصحابي لا تضر. وقيل: إن هذا الرجل الذي لم يسم: عبد الله بن سرجس. وقيل: عبد الله بن مغفل. وقيل: الحكم بن عمرو الغفاري. وقد تكلم على هذا الحديث ابن حزم بكلام أخطأ فيه، ورد عليه ابن مفوز وابن القطان وغيرهما. وقد كتب الحميدي إلى ابن حزم من العراق يخبره بصحة هذا الحديث (¬1). ¬

_ (¬1) انظر تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (1/ 34).

وقال الحافظ ابن حجر (¬1): "رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعلَّه على حجة قوية، ودعوى البيهقي أنه في معنى المرسل؛ مردودة، لأن إبهام الصحابي لا يضر، وقد صرح التابعي بأنه لقيه، ودعوى ابن حزم أن داود راويه عن حميد بن عبد الرحمن هو ابن يزيد الأودي وهو ضعيف؛ مردودة، فإنه ابن عبد الله الأودي وهو ثقة، وقد صرح باسم أبيه أبو داود وغيره" انتهى. وقال الحافظ في "بلوغ المرام": إسناده صحيح. الحديث الثالث: قال الدارقطني في "سننه" (1/ 116): حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد المقري قال: حدثنا أبو حاتم الرازي قال: حدثنا معلى بن أسد قال: حدثنا عبد العزيز بن المختار عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعًا". ورواه ابن ماجه (1/ 133). وقال الدارقطني: هو وهم -يعني أن الصواب حديث الحكم بن عمرو-. ورواه الدارقطني وقال: خالفه شعبة فرواه من رواية شعبة عن عاصم عن عبد الله بن سرجس قال: "تتوضأ المرأة وتغتسل من فضل غسل الرجل وطهوره، ولا يتوضأ الرجل بفضل غسل المرأة، ولا طهورها". قال: هذا موقوف، وهو أولى. وقال البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 192): "وبلغني عن أبي عيسى الترمذي عن محمد بن إسماعيل البخاري أنه قال: حديث عبد الله بن سرجس في هذا الباب الصحيح هو موقوف، ومن رفعه فهو خطأ". أما الآثار: فقد روى عبد الرزاق عن معمر عن عاصم بن سليمان سمعت عبد الله بن ¬

_ (¬1) فتح الباري (1/ 300).

سرجس قال: "لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد، فإذا خلت به فلا تقربه" (¬1). وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: "لا بأس بالوضوء من فضل شراب المرأة وفضل وضوئها، ما لم تكن جنبًا أو حائضًا، فإذا خلت به فلا تقربه" (¬2). وطريقة الإمام أحمد: ما ذكره عنه ابنه عبد الله: قال: "قلت لأبي: إذا لم يكن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء مشروع يخبر فيه عن خصوص أو عموم؟ قال أبي: ينظر ما عمل به الصحابة، فيكون ذلك معنى الآية، فإن اختلفوا ينظر أي القولين أشبه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يكون العمل عليه" (¬3). فأنتَ ترى أن هذا الكلام يؤكد ما نقلتَ عن أحمد -أعني قوله: "إذا خلت به فلا يتوضَّئا منه، إنما رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضئا جميعًا"- أنه يعتمد على الحديث، ففتوى ابن عمر وابن سرجس هي الموافقة عنده للحديث، بخلاف فتوى ابن عباس؛ على تفصيل يأتي في الحديث القادم. وفتاوى الصحابة - رضي الله عنه - دليل على أن الحديث معروف عندهم، وهم الأولى بوصف المتقدِّمين، فكل حديث لم ينقل عنهم الفتوى بمقتضاه فلا ينبغي أن يُعَدَّ حديثًا. وأما استدلالك بحديث ابن عباس - رضي الله عنه - عند مسلم، وقد رواه الإمام أحمد في "مسنده"؛ فهل تظنه خفي على الإمام أحمد؟ ولكن فيه علة لم تعلمها؛ قال الحافظ ابن حجر: "وأما حديث ميمونة؛ فأخرجه مسلم، لكن أعله قوم لتردد وقع في رواية عمرو بن دينار حيث قال: ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (1/ 107) رقم (385). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (1/ 108) رقم (386). (¬3) مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله: (ص 443).

علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني. فذكر الحديث وقد ورد من طريق أخرى بلا تردد، لكن راويها غير ضابط، وقد خولف، والمحفوظ ما أخرجه الشيخان بلفظ: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم- وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد" (¬1). قلت: قال مسلم: وحدثنا قُتَيْبَةُ بن سَعِيدٍ وأبو بَكْرِ بن أبي شَيْبَةَ جميعًا عن بن عيينة: قال قُتَيْبَةُ حدثنا سُفْيَانُ عن عَمْرٍو عن أبي الشَّعْثَاءِ عن ابن عَبَّاسٍ قال: "أَخْبَرَتْنِي مَيْمُونَةُ أنها كانت تَغْتَسِلُ هِيَ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في إِنَاءٍ وَاحِدٍ". ثم قال: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وَمُحَمَّدُ بن حَاتِمِ قال إسحاق: أخبرنا وقال ابن حَاتِمِ: حدثنا محمد بن بَكْرٍ أخبرنا ابن جُرَيْجٍ أخَبرني عَمْرُو بن دِينَارٍ قال: "أَكْبَرُ عِلمِي وَالَّذِي يَخْطِرُ على بَالِي أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ أخبرني: أَنَّ ابن عَبَّاسِ أخبره: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ" (¬2). وتأخير مسلم لرواية ابن جريج قد يشير إلى ما نقلته عن الحافظ من أنها معلولة، ويأتي مزيد بحث في الحديث القادم إن شاء الله. والمقصود: أن استدراك الدكتور الخليل لم يكن على طريقة المتقدِّمين ولا المتأخرين! لا من حيث الصناعة، ولا من حيث الفقه، فإن حديث ابن عمر في البخاري وغيره: "كان الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يتوضَّؤون في زَمَان رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جميعًا" (¬3) لا يتعارض مع حديث الحكم والذي بعده وآثار الصحابة، فإنهم قيَّدوه فيما إذا خلت به، كيف وابن عمر هو راوي الحديث؟ والله ولي التوفيق. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه: (1/ 101)، وانظر "فتح الباري لابن حجر: (1/ 300). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه: (1/ 257)، وابن خزيمة في صحيحه: (1/ 57)، وأخرجه أحمد في مسنده: (1/ 366). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه: (1/ 82)، وابن خزيمة في صحيحه: (1/ 102)، والنسائي في السنن الكبرى: (1/ 78)، وأبو داود في سننه: (1/ 20).

الحديث الثالث

الحديث الثالث حديث ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: "اغتَسَلَ بَعضُ أَزوَاجِ النبي -صلى الله عليه وسلم - فِي جَفْنَةٍ، فَجَاءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لِيَتَوَضَّأَ منها أو يَغْتَسِلَ، فقالت له: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ إني كنت جُنُباً. فقال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ الماء لا يُجْنِبُ". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: وله علل: الأولى: رواية سماك عن عكرمة مضطربة. الثانية: أُعِلَّ بالإرسال. الثالثة: تفرد به سماك. الرابعة: اضطرابه. الخامسة: مخالفته للأحاديث الصحيحة. * والجواب: أما العلة الأولى: فإنكَ نقلتَ عن الحافظ في "الفتح" (1/ 300) قوله: "وقد أعله قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة، لأنه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه عنه شعبة، وهو لا يحمل عن مشايخه إلا الصحيح من حديثهم". وقلتَ: إن في كلام ابن المديني وابن أبي شيبة ما يدل على أن رواية شعبة وسفيان أصح من رواية غيرهما.

ثم قلتَ: هذا الحكم لا يؤخذ على إطلاقه، بل إذا ظهر من خلال دراسة الأسانيد أن سماك اضطرب في حديث معين من رواية شعبة والثوري، فيُحكم عليه بالاضطراب. فظاهر كلامكَ أنكَ مقرٌّ من حيث الجملة بما قرَّره الحافظ. لكنك عُدْتَ وقرَّرتَ أن رواية شعبة عنه مضطربة أيضاً على سبيل العموم بما فهمته من كلام الإمام أحمد وعلي بن المديني، ثم قلتَ: حتى في رواية شعبة وسفيان أحيانًا. ثم نقلتَ عن الدارقطني قوله: "اختلف في هذا الحديث على سماك، ولم يقل فيه: عن ميمونة؛ إلا شريك". ثم أعللتَه بالتفرُّد، ونقلت عن أحمد: "لم يجيء لحديث سماك غيره". ثم أعللتَه بالاضطراب، ونقلتَ عن أحمد أنه روي موصولاً، ومرسلاً، وهكذا الدارقطني: "اختلف في هذا الحديث على سماك". ثم قلتَ: إنه يخالف الأحاديث الصحيحة، لأن الأحاديث الصحيحة دلَّتْ على أنهما اغَتسَلا جميعًا. فالجواب: ينبغي أن نعلمَ أولاً كلام أهل العلم في سماك، فقد احتج به مسلم في "صحيحه"، واستشهد به البخاري في "الجامع الصحيح". وقال عبد الرزاق عن الثوري: ما سقط لسماك بن حرب حديث. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: سماك أصلح حديثًا من عبد الملك بن عمير. وقال أبو طالب عن أحمد: مضطرب الحديث. وقال أحمد بن سعد بن أبي مريم عن يحيى بن معين: ثقة، وكان شعبة يضعفه. وقال ابن المبارك عن الثوري: ضعيف.

وقال العجلي: جائز الحديث، إلا أنه كان في حديث عكرمة ربما وصل الشيء عن ابن عباس، وربما قال: قال رسول الله، وإنما كان عكرمة يحدث عن ابن عباس، وكان الثوري يضعفه بعض الضعف، وكان جائز الحديث لم يترك حديثه أحد ولم يرغب عنه أحد، كان عالمًا بالشعر وأيام الناس وكان فصيحًا. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة. وقال ابن المديني: رواية سماك عن عكرمة مضطربة. وقال زكريا بن عدي عن ابن المبارك: سماك ضعيف في الحديث. وقال صالح بن محمد البغدادي: يضعف. وقال النسائي: ليس به بأس وفي حديثه شيء. وقال ابن خراش: في حديثه لين. وقال ابن عدي: صدوق لا بأس به. فالذي يؤخذ من كلام الجميع أنه محل للصدق، والأمانة، وإنما يخشى منه الغلط، ونص بعضهم على روايته عن عكرمة عن ابن عباس، ومن المعلوم أنهم لا يقصدون كل حديث رواه عن عكرمة مضطرب، وإلا كانت عملية حسابية، ومن ظن ذلك فلا علم له بهذا الفن، فإذا كان الأمر كذلك فقد يروي عن عكرمة حديثًا لا يكون محل اختلاف عند أهل الحديث، وإليك بعض الأمثلة: قال الإمام أحمد (¬1): حدثنا أبو سَعِيدٍ مولى بني هَاشِمٍ قال: حدثنا زَائِدَةُ ثنا سِمَاكٌ عن عِكْرِمَةَ عَنِ ابن عَبَّاسٍ قال: قال عُمَرُ: "كنا مع رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - في رَكْبٍ، فقال رَجُلٌ: لاَ وأبي! فقال رَجُلٌ: لا تَحْلِفُوا بِآبائِكُمْ. فَالْتَفَتُّ فإذا هو رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -". ¬

_ (¬1) في "مسنده" (1/ 19) أو رقم (116 - شاكر).

وقال (¬1): حدثنا يحيى بن أَبِي بُكَيْرٍ ثنا إِسْرَائِيلُ عن سِمَاكٍ عن عِكْرِمَةَ عَنِ ابن عَبَّاسٍ قال: "مَرَّ رَجُل من بَنِي سُلَيْمٍ بِنَفَرٍ من أَصْحَابِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو يَسُوقُ غَنَمًا له، فَسَلَّمَ عليهم، فَقَالُوا: ما سَلَّمَ عَلَيْنَا إلا لِيَتَعَوَّذَ مِنَّا، فَعَمَدُوا إليه فَقَتَلُوهُ، وَأَتَوْا بِغَنَمِهِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَنَزَلَتْ هذه الآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94]. وقال (¬2): حدثنا وكيعٌ ثنا إِسْرَائِيلُ عن سِمَاكٍ عن عِكْرِمَةَ عَنِ ابن عَبَّاسٍ: "أن رَجُلاً جاء مُسْلِمًا على عَهْدِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ جَاءَتِ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً بَعْدَهُ، فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنها أَسْلَمَتْ معي، فَرَدَّهَا عليه النبي صلى الله عليه وسلم". وغيرها كثير أحصيتها في "مسند أحمد"، فتعدت الثلاثين حديثًا، ومع ذلك سوف أسرد الطرق كافة موصولة، ومرسلة، ليتبين للقارئ القول الفصل في الحديث، فأقول وبالله التوفيق: قال أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (4/ 301 رقم: 2411): حدثنا أبو معمر ثنا أبو الأحوص عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء لا ينجسه شيء". ورواه الإمام أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق وعن عبد الله بن الوليد وعن وكيع وعن علي بن إسحاق عن ابن المبارك جميعًا عن سفيان به وفيه: "الماء لا ينجسه شيء". ورواه أبو داود (68) عن مسدد، ورواه الترمذي (65) عن قتيبة عن أبي الأحوص، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه النسائي (1/ 173) عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به. ¬

_ (¬1) أي الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 229) أو رقم (2023 - الرسالة). (¬2) الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 232) أو رقم (2059 - الرسالة).

ورواه ابن ماجه (370) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي الأحوص وعن علي بن محمد به. ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 57 رقم: 1229) قال: أخبرنا أبو طاهر نا أبو بكر نا أبو موسى محمد بن المثنى وأحمد بن منيع قالا: حدثنا أبو أحمد وهو الزبيري ثنا سفيان وحدثنا عتبة بن عبد الله أخبرنا ابن المبارك أخبرنا سفيان، وحدثنا سلم بن جنادة حدثنا وكيع عن سفيان عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس: "أن امرأة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسلت من الجنابة، فتوضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - أو اغتسل من فضلها". هذا حديث وكيع، وقال أحمد بن منيع: "فتوضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - من فضلها". وقال أبو موسى وعتبة بن عبد الله: "فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ من فضلها، فقالت له، فقال: الماء لا ينجسه شيء". ورواه أبو حاتم البستي الحافظ ابن حبان في "صحيحه" (4/ 56) رقم (1229): أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي غَيْلانَ الثَّقَفِي بِبَغْدَادَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عكرمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاج النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- مِنْ جَفْنَةٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَغْتَسِلُ مِنْهَا أَوْ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ الْمَاءَ لا يُجْنِبُ". وقال الإمام أحمد بن حنبل في "المسند" (6/ 330): حدثنا سليمان بن داود الطيالسي أنبأنا شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس عن ميمونة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ بفضل غسلها من الجنابة". وقال رحمه الله (6/ 33): حدثنا هاشم بن القاسم ثنا شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: "أجنبت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاغتسلت من جفنة، ففضلت فضلة، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليغتسل منها فقلت: إني قد اغتسلت منها، قال: إن الماء ليس عليه جنابة، أو لا ينجسه شيء. فاغتسل منه ".

أما شعبة فرواه موصولاً مثل رواية سفيان يرويه عنه أبو بكر البرساني. قال الحافظ في "الفتح" (1/ 300): "وقد أعله قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة، لأنه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه عنه شعبة وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم، وقول أحمد إن الأحاديث من الطريقين مضطربة، إنما يصار إليه عند تعذر الجمع، وهو ممكن بأن تحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء، والجواز على ما بقي من الماء، وبذلك جمع الخطابي، أو يحمل النهي على التنزيه جمعًا بين الأدلة، والله أعلم". وخالفه محمد بن جعفر: فرواه عن شعبة عن عكرمة مرسلاً، كما في "تهذيب الآثار" لابن جرير (1037). قال ابن أبي حاتم: "سألت أبا زرعة عن حديث رواه سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس: "أن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسلت من جنابة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت له، فتوضأ بفضلها وقال: الماء لا ينجسه شيء". ورواه شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في ميمونة. فقال: الصحيح عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا ميمونة. فبيَّن أن الصحيح من الروايات هو الذي من مسند ابن عباس مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثل هذا الاختلاف لا يضر كما لا يخفى. وهكذا فإن كلام الدارقطني ليسى فيه التصريح بضعف الحديث، وإنما ذكر ما فيه من الاختلاف، فإنه قال: "اختلف في هذا الحديث على سماك". ولم يقل فيه عن ميمونة غير شريك، وهذا يؤكد أنه ما أراد إلا بيان الوجه الصحيح في روايات الحديث. والغريب أن المستدرِك -عفا الله عنه- جعل من علله مخالفته للأحاديث الصحيحة، وتغافل عن الحديث الذي احتج هو به في الحديث السابق، وهو ما أخرجه مسلم عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل يفضل ميمونة"، وإلا فإن

طريق مسلم يرويه أيضًا محمد بن بكر البرساني عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس به، وعليه فإن محمد بن بكر البرساني له فيه طريقان؛ هذه واحدة. والأخرى: عن شعبة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس به، عند ابن خزيمة الحاكم، وهذا يدل على أنه جوّده، وهو مما يدل أيضًا على أن حديث سماك له أصل أصيل. والعجيب أن جميع من تكلم على الحديث مما وقفت عليه أغفل هذه الفائدة فيما أعلم، ولله النعمة، والفضل، والثناء الحسن، فإن الفائدة الكبيرة منه هى صرفه لأحاديث النهي إلى كراهة التنزيه، وهى الفائدة المطلوبة بعينها من حديث الباب، وإلا فإن قوله: "لا ينجسه شيء"، يؤخذ من أحاديث أخرى كحديث بئر بضاعة، وبهذا يظهر السر فى قول عمرو بن دينار فى "صحيح مسلم": "وعلمي والذى يخطر على بالي أن أبا الشعثاء حدثني عن ابن عباس وذكر الحديث" أنه نسي لفظه ورواه بمعناه. أما الإمام أحمد فإنه أعله بمخالفته للآثار. وهى طريق صحيحة، لو لم تنقل مخالفة ابن عباس لابن عمر، وعبد الله ابن سرجس، فقد قال أبو عبيد (¬1): حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن أبي زيد المديني عن ابن عباس أنه سئل عن سؤر المرأة، فقال: "هي ألطف بنانًا وأطيب ريحًا". وأقوى ضابط في اعتقادي في مثل هذا الاختلاف، هو وجود من عمل به من الصحابة، فإن لم يوجد غلب على الظن ضعفه، وهذه طريقة فقهاء الحديث المتقدِّمين، كالشافعي، وأحمد، وإسحاق وغيرهم، وهذا الحديث وُجِدَ من عمل به من الصحابة، ولله الحمد. ¬

_ (¬1) في "الطهور" (196)، وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 33) وعبد الرزاق (380)، وإسناده حسن.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حديث علي - رضي الله عنه - مرفوعًا: "ستر ما بين الجن وعورات بني آدم: إذا دخل الخلاء أن يقول: بسم الله" .. ـــــــــــــــــــــــــ وأعله الدكتور الخليل: بمحمد بن حميد الرازى؛ وهو متهم بالكذب، والمتابعات لا تقوى على النهوض بالحديث، وشواهده كله ضعيفة، منها حديث أنس، وأبي سعيد، وابن مسعود، ومعاوية بن حيدة، وخلص إلى القول: "وقد ذم السلف غرائب الأحاديث واشتهر عنهم هذا". وأخذ الكلام من المستدرِكِ في محمد بن حميد قريبًا من أربع صفحات بغير كبير فائدة، لأن من تستدرك عليه لم ينازع في ضعفه، ثم خلصت إلى أنه ضعيف جدًّا، ثم ناقضت نفسك فقلتَ: بل الصواب أنه كذاب! وهذا إن دلَّ على شيء دلَّ على ضعف خبرتك في هذا الفن، وأنك تتأثر بكل من تقرأ له، وهذا هو الفارق العظيم بين الشيخ ناصر رحمه الله، وبين معظم من انتقدوه ممن درسوا على كتبه، بل ذهبت إلى انتقاد الحافظ ابن حجر حين قال: "ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه". فقلتَ: "قولٌ غير محرر، وتعوزه الدقة"!!! فهل تظن -عفا الله عنك- أن أصحاب السنن: الترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، وابن جرير أيضًا، وغيرهم، يروون عنه وهم يعتقدون

كذبه؟! وهم أئمة في الجرح والتعديل، فأنتَ بنيتَ حكمكَ على عبارات أخذتها من بعض أهل العلم، وهم نظروا إلى ميراث الرجل في الحديث، فالترمذي وحده روى عنه في أكثر من خمسة وعشرين موضعًا من "جامعه". ومن هنا يتبين لك اعتدال الحافظ -عليه رحمة الله- بقوله: ضعيف. فإن ابن حجر جاء بعد جميع من نقلت عنه، فخبر أقوالهم وأحاديث الرجل، وخلُصَ إلى هذه النتيجة، هذا مع الحفظ، وسعة الاطلاع. ولهذا فإن الشيخ ناصر كان يثني على الحافظ ابن حجر في حكمه على الرجال المختلف فيهم، لأنه خلال خمسين عامًا، وهو يدرس هذا الفن، فخلص إلى أن الحافظ من أكثر أهل العلم رسوخًا في هذا الفن، واعتدالاً في الحكم عل الرجال، وكان يقول: لم تنجب النساء بعد ابن حجر مثله. وهكذا الإمام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحم الله الجميع-. هذا مع أن محمد بن حميد لم ينفرد به -كما ستعرف-. أعود إلى الحديث وأقول: إن طرق الحديث كما يأتي: قال الترمذي رحمه الله في "جامعه" (606): حدثنا محمد بن حميد الرَّازِيُّ حدثنا الْحَكَمُ بن بَشِيرِ بن سَلْمَانَ، حدثنا خَلادٌ الصَّفَّارُ، عن الْحَكَمِ بن عبد اللَّهِ النَّصْرِيِّ، عن أبي إسحاق، عن أبي جُحَيفةَ، عن عَلِيِّ بن أبي طَالِبِ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "سترُ ما بين أَعْيُنِ الجنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدم إذا دخَل أَحَدُهُمْ الْخَلاءَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ". قال أبو عِيسَى: "هذا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إلا من هذا الْوَجْهِ، وَإِسْنَاده ليس بِذَاكَ الْقَويِّ، وقد روي عن أَنَسٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَشْيَاءُ في هذا". وهكذا رواه ابن ماجه رحمه الله فقال في "سننه" (297): حدثنا محمد بن

حُميدٍ ثنا الحَكَمُ بن بَشِيرِ بن سَلْمَانَ ثنا خَلادٌ الصَّفَّارُ عن الْحَكَمِ البصري عن أبي إسحاق عن أبي جُحَيْفَةَ عن عَلِيٍّ قال: قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: "سِتْرُ ما بين الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بني آدَمَ إذا دخل الكَنِيفَ أَنْ يقول: بِسْمِ اللَّهِ". ولم ينفرد به محمد بن حميد، بل تابعه محمد بن مهران. قال أبو الشيخ في "العظمة" (5/ 1669 - 1670): حدثنا جعفر بن أحمد حدثنا محمد بن مهران حدثنا الحكم بن بشير عن خلاد أبي مسلم عن الحكم النصري عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة عن علي - رضي الله عنه- قال: حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ستر ما بينكم وبين الجن: بسم الله". وتابعه يوسف بن موسى عند البزار في "البحر الزخار" (2/ 127): حدثنا يوسف بن موسى قال: نا عبد الرحمن بن الحكم بن بشير بن سلمان قال: سمعته يذكره عن خلاد الصفار عن الحكم النصري عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة عن علي قال: كلمتان حفظتهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أحب أن تحفظوهما عني، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستر ما بينكم وبين الجن أن تقول: بسم الله". وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من الوجه، وقد روي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم". وقد أعله الشيخ ناصر رحمه الله بعنعنة أبي إسحاق، وجهالة الراوي عنه الحكم النصري. وقال المستدرك: "قال الذهبي في المغني: مجهول". ثم قال: "فلا يعرف هل سمع منه قبل تغيره أو بعده؟ ". قلت: سكوتك على قول الذهبي يدل على موافقتك له، ولا أدري ما هو حد الجهالة عندك؟! فقد قال الذهبي نفسه في "الميزان": الحكم بن عبد الله

النصري ما ضعف. وقال في "الكاشف": الحكم بن عبد الله النصرى عن أبي إسحاق وعنه السفيانان وخلاد بن عيسى ت ق. فهل من منهج المتقدِّمين تضعيف مثل هذا؟!! ودعك من القول: قبل التغير أو بعده، فإنه لم يقل أحد بصحة الحديث أو حسنه بغير شواهده، ولكنك بالغتَ بقولك إنه لا يمكن أن يتقوّى! قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وذلك أن الحديث إنما يخاف فيه من شيئين: إما تعمد الكذب، وإما خطأ الراوي، فإذا كان من وجهين لم يأخذه أحدهما فى الفقه عن الآخر، وليس مما جرت العادة بأن يتفق تساوي الكذب فيه؛ علم أنه ليس بكذب، لا سيما إذا كان الرواة ليسوا من أهل الكذب، وأما الخطأ فإنه مع التعدُّد يضعف". الحديث الثانى: حديث أنس - رضي الله عنه -، قال الطبراني فى "الدعاء" (2/ 966): حدثنا الحضرمي محمد بن عبد الله ثنا إسماعيل بن أبى أمية الثقفى ثنا سعيد بن مسلمة الأموي عن الأعمش عن زيد العمي عن أنس ح وأخبرنا هلال بن العلاء في كتابه ثنا سعيد بن مسلمة الأموي بإسناده عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدكم الخلاء أن يقول: بسم الله". وأخرجه في "الأوسط" (7/ 128/ رقم: 7066) عن محمد بن يحيى عن سهل بن عثمان عن سعيد بن مسلمة به، وقال: لم يرو هذا الحديث عن الأعمش إلا سعيد بن مسلمة وسعد بن الصلت. قلت: أما سعيد؛ فقال عنه النسائي في "الضعفاء والمتروكين": سعيد بن مسلمة الأموي يروي عن إسماعيل بن أمية ضعيف. وقال ابن عدي في "الكامل" (3/ 199): "وهذا الحديث لم يكن يعرف

إلا بسعيد بن مسلمة عن الأعمش، ثم وجدناه من حديث سعد بن الصلت عن الأعمش، ولا يرويه عن الأعمش غيرهم". وقال: "أرجو أنه لا يترك". وقال الحافظ في "التقريب": ضعيف. وقال في "تهذيب التهذيب": وقال الدارقطني: ضعيف يعتبر به. أما سعد بن الصلت؛ قال المستدرك: "أما سعد بن الصلت الذي ذكره الطبراني متابعًا لابن مسلمة؛ فقد ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أغرب. لكن تفرده مع ابن مسلمة غير مقبول، مما يدل على أنه لم يشتهر بالأخذ عنه. إلى أن قال: ولعل هذا من أغرابه الذي أشار إليه ابن حبان". قلت: أوردها سعد وسعد مشتمل! فإن سعد بن الصلت قاضي شيراز أشهر من علم على جبل، فلو كان فيه مطعن لما سكت عنه الحفاظ كأبي حاتم وغيره، فهو ثقة، كما قال ابن حبان. ولا أعلم ماذا تقصد بأنهما تفرَّدا عن الأعمش، هل هو الكذب، أم الغلط؟! فإن كان الأول؛ فهذا باطل لأنه لم يقله غيرك، وإن كان الثاني -وهو الخطأ-؛ فكما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما خطأ الراوي؛ فإذا كان من وجهين لم يأخذه أحدهما في الفقه عن الآخر، وليس مما جرت العادة بأن يتفق تساوي الكذب فيه، علم أنه ليس بكذب، لا سيما إذا كان الرواة ليسوا من أهل الكذب، وأما الخطأ فإنه مع التعدد يضعف". وهكذا زيد العمي راويه عن أنس، قال الذهبي في "الكاشف": زيد بن الحواري العمي البصري أبو الحواري قاضي هراة، عن أنس وابن المسيب،

وعنه ابناه عبد الرحيم وعبد الرحمن وشعبة، فيه ضعف، قال ابن عدي: لعل شعبة لم يرو عن أضعف منه. وقال الحافظ في "التقريب": زيد بن الحواري أبو الحواري العمي البصري قاضي هراة يقال اسم أبيه مرة، ضعيف من الخامسة. وقال شيخ الإسلام (¬1): "وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي ومالك ونحوهم، قد كانوا يتركون الحديث عن أناس لنوع شبهة بلغتهم، لا توجب رد أخبارهم، فهم إذا رووا عن شخص كانت روايتهم تعديلاً له". وشعبة ممن روى عن زيد، فمثله ينجبر حديثه. قال الشوكاني (¬2): "وقد اعترض الحافظ مغلّط -أي: على الترمذي في قوله: إسناده ليس بالقوي- قال: ولا أدري ما يوجب ذلك، لأن جميع من في سنده غير مطعون عليهم بوجه من الوجوه، بل لو قال قائل: إسناده صحيح؛ لكان مصيبًا". ويزيده قوة: ما روه ابن أبي شيبة في "مصنفه " (6/ 114) قال: حدثنا هشيم عن أبي معشر عن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان إذا دخل الخلاء قال: بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". وفي "علل الحديث" (1/ 64/ رقم: 167): "أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن قال: وحدثنا أبو زرعة عن محمد بن منكدر عن أبي معشر عن عبد الله بن عيد الله بن أبي طلحة عن أنس قال: "كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الخلاء يقول: بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث"، فسمعت أبا زرعة يقول: هكذا أملاه علينا من حفظه". فلم يذكر فيه علة. وقال الحافظ في "فتح الباري" (1/ 244): "وقد روى العمري هذا ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (24/ 349 - 350). (¬2) في "تحفة الذاكرين" (ص 144 - 145).

الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ الأمر قال: "إذا دخلتم الخلاء، فقولوا: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث"، وإسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية، ولم أرها في غير هذه الرواية". قلت: وعبد العزيز ثقة، روى له الجماعة. وقال ابن عبد الهادي في "المحرر": وزاد سعيد بن منصور التسمية في أوله. والفائدة: أن هذه الروايات الصحيحة تدل على أن البسملة تقال عند دخول الخلاء، وثمرتها ما جاء في حديث علي وأنس السابقين. ويشهد له أيضًا ما رواه البخاري عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ - رضي الله عنه - رَفَعَهُ قال: "خَمِّرُوا الآنِيَةَ، وَأَوْكُوا الأسْقِيَةَ، وأَجِيفُوا الأبْوَابَ، وأكفتوا صِبْيَانَكُم عِنْدَ الْعِشَاءِ، فإن لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً، وَأَطْفِئُوا الْمَصَابيحَ عِنْدَ الرُّقَادِ، فإن الْفُويسِقَةَ رُبَّمَا اجْتَرَّتْ الْفَتِيلَةَ، فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ" (¬1). وفي رواية له: "إذا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ أو كان جُنْحُ اللَّيلِ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فإن الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فإذا ذَهَبَ ساعَةٌ من الْعِشَاءِ فَخَلَّوهُمْ، وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَاذْكُر اسْمَ اللَّهِ، وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ، وَاذْكُر اسْمَ اللَّهِ، وَأَوْكِ سِقَاءَكَ، وَاذْكُر اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ وَاذْكُر اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ تَعْرُض عليه شيئًا"، وفي رواية: "فإن الشَّيْطَانَ لا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا". وقد قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]. ولا ريب أن ثمرة هذا للمسلم: التعلق بالله، وأن تكون البسملة حجابًا بينه وبين الشياطين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3316).

ومناسبة قولها عند دخول الخلاء، أو عند وضع الثياب، ظاهر جدًّا لمن له أدنى ذوق في الفقه. فقد روى البخاري ومسلم، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما أنَّ أحدَهم يقولُ حين يأتي أَهْلَهُ: بسم الله، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وجَنِّب الشَّيطانَ ما رَزَقْتَنَا. ثم قُدِّرَ بينهما في ذلك، أو قُصِيَ وَلَدٌ؛ لم يَضُرُّهُ شيطانَ أبدًا". لفظ البخاري. فقوله: "جَنِّبْني" يشمل النظر والضَّرر، فالسُّنَّةُ يصدِّقُ بعضُها بعضًا، والقرآن يصدق السُّنَّة، كما في آية الأعراف. وفي هذا العصر إذا لم يكن المشتغل بصناعة الحديث عنده فَهْمٌ للقرآن واطّلاع واسع للسُّنَّة؛ فلا أرى أنه يحكم على الحديث بمجرد النظر إلى الإسناد. أما قول المستدرك: "وقد ذم السلف غرائب الأحاديث واشتهر عنهم هذا"! فهو الغريب، لأن حديث علي وأنس - رضي الله عنه - موجودان في كافة كتب الفقه على اختلاف المذاهب، وحتى كتب الأذكار، فهو من الأحاديث المشتهرة التي لم ينظر العلماء إلى تعليل من عللها بل تلقوها بالقبول، وهذا من العلم الذي لا يفقهه إلا من فقه معنى قوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. قال شيخ الإسلام: "فالواجبْ أن يفرق بين الحديث الصحيح، والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عمومًا، ولمن يدَّعي السنة خصوصًا" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى: (3/ 380).

ثم إني أقول: إن الحكم على مثل هذا الحديث أمر نسبي، فقد ينقدح في النفس قوته، وقد يحدث العكس، ولذا قال الذهبي في "الموقظة": "أنا على إياس أن تجدَ للحسَنِ قاعدة يتَّفَقُ عليها، وإنما هو شيء ينقدح في النفس". أو كلامًا نحو هذا. وأمر آخر مهم جدًّا وهو: علم المحقق بارتباط السنة بالقرآن، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "رب حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، فهما يخرجان من مشكاة واحدة، وسعة الإطلاع على السنة ليعرف ما له أصل فيها، وخصوصًا الصحيحين فيقبل، وما لا أصل له فيها فيرد، والحمد لله الذي حفظ بالشيخ ناصر -عليه رحمة الله- سنة نبيه، والله ولي التوفيق. الشاهد الثالث: قال أبو الشيخ في "العظمة" -وهو من الكتب المعتمدة عند أهل السنة-: "حدثنا جعفر بن أحمد بن فارس حدثنا أحمد بن منيع حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن الفضل بن عطية عن زيد العمي عن جعفر العبدي عن أبي سعيد - رضي الله عنه -عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله". وذكر الشيخ الألباني علله وهي: ضعف زيد والراوي عنه محمد بن الفضل، قال الذهبي في "الكاشف": تركوه، وقال الحافظ في "تهذيب التهذيب": ساقط. الشاهد الرابع: حديث معاوية بن حيدة - رضي الله عنه -، قال الشيخ رحمه الله: "رواه مكي بن إبراهيم عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وقال: غريب". قال الشيخ: وهذا سند حسن إن كان من دون مكي ثقات. قال المستدرك: والكتب التي أخرج فيها (¬1) الشيخ الألباني رحمه الله هذه الطرق هي: "الفوائد" لتمام، و"فوائد خراسان" لمحمد بن عثمان العثماني، "الفوائد الثقافيات" للثقفي، "الفوائد" لابن النقور، وكتب الفوائد وضعت لذكر ¬

_ (¬1) كذا، والصواب منها.

الغرائب والفرائد، ولعل من أكبر أسباب الأخطاء التي تقع في تقوية الأحاديث بكثرة الطرق أخذ تلك الطرق من كتب الفوائد والغرائب. قلت: هذا كلام عجيب! لا يقوله إلا من لم يمارس علم رواية الأسانيد، وأنا أعذرك، لأن هذا العلم لم يعد يوجد في زماننا، فلم تتصور ما معنى أن يؤلف عالم كتابًا، ولو سماه الفوائد، ويسوق فيه أحاديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناده، ويكون الإسناد صحيحًا، ومن هنا حكمتَ على كل على كل ما سُمِّي بهذا بالضعف! وربما أنك لم تقف على شيء منها، فاعلم أن أهل العلم كانوا ولا زالوا يحتجون بما فيها من الروايات والطرق، وإليك بعض الأمثلة: قال الحافظ ابن حجر: "وهو ما أخرجه إسحاق بن راهويه، والمحاملي في "الفوائد الأصبهانية" من طريق أبي الزبير عن جابر قال: "اقتتل غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار ... " فذكر الحديث" (¬1). وقال ابن عبد الهادي: وقد روى البيهقي في "سننه" أنا أبو عبد الله الحافظ في "الفوائد الكبير" لأبي العباس وفي حديثه شعبة ثنا أبو العباس بن يعقوب ثنا بن إبراهيم بن مرزوق البصري ثنا أبو الوليد الطيالسي ثنا شعبة عن سلمة بن كهيل قال: سمعت حجرًا أبا عنبس يحدث عن وائل الحضرمي: "أنه صلى خلف النبي - صلى الله عليه وسلم، فلما قال: ولا الضالين، قال: آمين، رافعًا بها صوته"، فهذه الرواية عن شعبة توافق رواية سفيان " (¬2). وقال ابن دقيق العيد في "الإلمام": "ونُصرت بالرعب يسير بين يديّ مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي، ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" (6/ 546). (¬2) انظر: تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (1/ 368).

وأحلت لي الغنائم"، لفظ رواية أبي عبد الله الثقفي في "الفوائد" (¬1). وغيرها كثير. أما قولك تعليقًا على كلام الشيخ رحمه الله: "وهذا سند حسن إن كان من دون مكي ثقات": فإن كان من دون مكي ضعفاء أو متروكين؟! كيف يستشهد بمثل هذا الطريق الذي لم يعرف رجاله؟! ". هذا الأسلوب -وهو تعليق الحكم على الحديث بالصحة، إن كان فلان سمعه من فلان- هذا أمر سائغ عند أهل الفن. قال الحافظ في "الفتح": "ولأبي داود من وجه آخر عن عكرمة قال: "كانت أم حبيبة تستحاض، وكان زوجها يغشاها"، وهو حديث صحيح إن كان عكرمة سمعه منها" (¬2). وقال: "ومن طريق علي بن الحسين بن علي أخبرني رجل من أهل العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تمد الأرض مد الأديم" الحديث، وفيه: "ثم يؤذن لي في الشفاعة فأقول: أي رب، عبادك عبدوك في أطراف الأرض، قال: فذلك المقام المحمود" (¬3)، ورجاله ثقات، وهو صحيح إن كان الرجل صحابي" (¬4). والشيخ رحمه الله ساقه مستأنسًا به على ما انقدح في نفسه من قوة الحديث، وإلا فإن حديث علي وشاهده حديث أنس - رضي الله عنه - كافيان في إثبات هذه السنة، وبالله التوفيق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: الإلمام: (1/ 107). (¬2) انظر: "فتح الباري" (1/ 429). (¬3) انظر: مسند الحارث (زوائد الهيثمي): (2/ 1008). (¬4) انظر: "فتح الباري" (8/ 400).

الحديث الخامس

الحديث الخامس حديث عائشة - رضي الله عنه -: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك". ـــــــــــــــــــــــــ وأنا لا أدرى ما وجه استدراكه؟! فهو لم يتكلم على الحديث، وإنما تعقب الشيخ فى قوله: (إن أبا حاتم صححه)، ثم قال: "ذكر الشيخ -كما ذكر عدد من المعاصرين- أن الحافظ أبا حاتم الرازى صحح الحديث، وهذا خطأ سببه عدم فهم عبارة أبى حاتم"! فأقول: ما علاقة هذا الحديث بشرط كتابك؟ وما سطرته على غلافه؟ أما قولك: كما ذكر عدد كبير من المعاصرين، فهو تدليس، أردتَ منه أمرًا لا يليق بالعامة، فضلاً عن طلبة العلم، ولكن سبحان الذى أراد إعلاء ذكر الشيخ، ولوعن طريق خصومه، ومنتقديه، فالذي حكى أن أبا حاتم صححه علماء يفهمون ويدركون غوامض هذا الفن، وإليك من نقل تصحيحه: الحافظ ابن حجر في "البلوغ" حيث قال: "أخرجه الخمسة، وصححه الحاكم، وأبو حاتم". الشوكاني في "النيل": "الحَدِيثُ صَححَهُ الْحَاكِمُ، وأبو حَاتِمٍ. قال في

"الْبَدْرِ الْمُنِيرِ": وَرَوَاة الدَّارِمِيُّ، وَصَحَّحَه ابن خزيمة، وابن حبان" (¬1). ثم إني أقول: اعلم -عفا الله عنك- أن العلم إذا لم يكن مقرونًا بالخشية، وحسن الخُلُق والأدب، فإنه وبال على صاحبه، فالشيخ قضى عمره فى خدمة السُّنة، والذب عنها، وأوثق عرى الإيمان: أن تحب فى الله، وتبغض في الله، فدعك من بنيات الطريق، والله المستعان. * * * ¬

_ (¬1) انظر: نيل الأوطار: (1/ 88).

الحديث السادس

الحديث السادس حديث: "أَلقِ عنك شعرَ الكُفر واختَتِن" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــ قال الشيخ رحمه الله: الحديث حسن بشواهده. قال المستدرك: "الحديث ضعيف، وذكر الشيخ ثلاثة شواهد لا تصلح لتقويته". ثم قال: "الخلاصة: الحديث الأول: فيه كذاب، متروك. الحديث الثاني: فيه منكر الحديث لا يتابع على حديثه، وقد تفرد بهذا الحديث. الحديث الثالث: فيه مجهول، فالأول سقط، والثاني والثالث لا يقوي أحدهما الآخر". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند: (3/ 415)، وأبو داود في سننه: (1/ 98)، والبيهقي في السنن الكبرى: (1/ 172)، (8/ 323)، وفي السنن الصغرى (نسخة الأعظمي): (7/ 394)، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (6/ 10)، (10/ 317)، والطبراني في المعجم الكبير: (22/ 395)، واستشهد به شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى: (21/ 121)، والفتاوى الكبرى: (1/ 53).

* الجواب: أقول -وبالله التوفيق-: الحديث حسن، ولا ريب، وسأبدأ الكلام على الحديث الثالث: قال الحافظ في "الإصابة" (6/ 583): "هشام بن قتادة الرهاوي: ذكره البغوي، ويحيى بن يونس، وأبو نعيم، تبعًا لغلط وقع لبعض الرواة في إسقاط ذكر أبيه من السند. قال البغوي: حدثنا أبو بكر بن زنجويه حدثنا علي بن بحر حدثنا قتادة بن الفضيل بن عبد الله بن قتادة حدثنا أبي حدثنا عمى هشام بن قتادة قال: "لما عقد لي النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومي، أخذت بيده فودعته". قال أبو موسى في "الذيل": رواه غيره عن علي بن بحر -يعني بهذا السند- إلى هشام بن قتادة، فقال عن أبيه: قال: "لما عقد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت"، وهذا هو الصواب؛ فقد أخرجه أحمد بن أبي خيثمة عن علي بن بحر كذلك، وكذا أخرجه البخاري عن أحمد بن أبي طالب عن قتادة بن الفضل، وكذا هو في الطبراني من وجه آخر عن علي بن بحر، وذكر البخاري وابن أبي حاتم، وابن حبان، وغيرهم هشام بن قتادة في التابعين". فأنتَ ترى أن من كبار أهل العلم: البخاري، وابن أبي حاتم، وابن حبان، يرون أنه من التابعين، وحديثه تداوله العلماء في مصنفاتهم، ولم يجرِّحوه ولم يطعنوا في حديثه، فكيف إذا كان أبوه؟! فمثله لا يُعلُّ حديثه بالجهالة. ونظيره: أبو الهياج ثعلبة بن يزيد، قال البخاري: سمع عليًّا، روى عنه حبيب بن أبي ثابت. قال ابن أبي حاتم: روى عنه حبيب بن أبي ثابت وسلمة بن كهيل، وإسناده صحيح، سمعت أبي يقول ذلك. وأخرج مسلم حديثه في الصحيح، فقولهم في المصطلح: إذا روى عنه

واحد فهو مجهول العين، وإذا روى عنه اثنان فهو مجهول الحال. هذه ليست قاعدة كلية، ثم إنها في الغالب تكون فيمن دون التابعين، وعليه فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن. أما حديث واثلة بن الأسقع: قال الطبراني في "الصغير": "لم يروه عن واثلة بن الأسقع إلا بهذا الإسناد، تفرد به منصور بن عمار" (¬1). وقال الهيثمي: "رواه الطبراني في الكبير والصغير، وفيه منصور بن عمار الواعظ وهو ضعيف. وعن قتادة أبي هشام قال: "أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فقال لي: "يا قتادة؛ اغتسل بماء وسدر، واحلق عنك شعر الكفر". وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر من أسلم أن يختتن وإن كان ابن ثمانين سنة". رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات" (¬2). وقال ابن أبي حاتم: "منصور بن عمار صاحب المواعظ بغدادي روى عن الليث بن سعد، والهقل بن زياد، وبشير بن طلحة، روى عنه ابنه سليم بن منصور، سمعت أبي يقول ذلك، نا عبد الرحمن قال: سئل أبي عن منصور بن عمار، فقال: ليس بالقوي، صاحب مواعظ" (¬3). وذكره البخاري في "التاريخ الكبير"، ولم يذكر فيه تجريحًا. وقال في "المقتنى في سرد الكنى" (ص 260): "منصور بن عمار الواعظ روى عنه ابنه سليم له مناكير". وقال ابن عدي (¬4): "وأرجو أنه مع مواعظه الحسنة، لا يتعمَّد الكذب، وإنكار ما يرويه لعله من جهة غيره". ¬

_ (¬1) انظر: المعجم الصغير (الروض الداني): (2/ 117). (¬2) انظر: "مجمع الزوائد" (1/ 283). (¬3) انظر: "الجرح والتعديل" (8/ 176). (¬4) انظر: "الكامل في ضعفاء الرجال" (6/ 395).

وذكر الذهبي في "الميزان" وابن عدي في "الكامل" جملة من الأحاديث استنكرت عليه، ولم يذكروا منها حديث واثلة. وقال الذهبي: "منصور بن عمار الواعظ أبو السري خراساني، ويقال بصري، زاهد شهير، يروي عن الليث وابن لهيعة، ومعروف الخياط وجماعة، وعنه ابن سليم، وداود، وأحمد بن منيع، وعلي بن خشرم وعدة، وإليه كان المنتهى في بلاغة الوعظ، وترقيق القلوب، وتحريك الهمم، وعظ ببغداد، والشام، ومصر، وبعد صيته واشتهر اسمه" (¬1). قلت: فالذي يظهر والحالة هذه: أن حديثه يصلح في المتابعات والشواهد، كما قال شيخنا -عليه رحمة الله-. أما حديث عثيم بن كليب عن أبيه عن جده؛ فإنه ضعِّفَ بإبراهيم بن محمد بن يحيى، وقد وثقه عدد من أهل العلم منهم: الشافعي، وابن عدي، والمشهور أنهم يتَّقون حديثه. وبالجملة: فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن، كما قال شيخنا، ويشهد له ما رواه الشيخان عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ" (¬2). وما روياه عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ" (¬3). "وقد قال تعالى: " {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95]. أمما قول المستدرك: "ثم هناك علة تقدح في هذا الحديث في جميع طرقه، وهي أن الذين يسلمون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثر جدًّا، ولو كانوا يؤمرون ¬

_ (¬1) انظر: "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" (6/ 521). (¬2) أخرجه البخاري (5889، 5891، 6297) ومسلم (257). (¬3) أخرجه البخاري (3356، 3357، 6298) ومسلم (2370).

بالختان لاشتُهِرَ هذا، ونُقِلَ بالطرق الصحيحة الثابتة، لا بمثل هذه الطرف الضعيفة". وهذا تعليل عليل، وليتك ما ذكرته، فإن ما تنقله عن غيرك تقليدًا خير مما تبتدعهُ من نفسك! فإن العرب كانوا يختتنون قبل الإسلام، وقد روى البخاري في قصة هرقل وفيه: "فَبَيْنَمَا هُمْ على أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عن خَبَرِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلما اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قال: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هو أَمْ لاَ؟ فَنَظَرُوا إليه فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسأَلَهُ عن الْعَرَب فقال: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فقال هِرَقْلُ: هذا مُلْكُ هذه الأمة قد ظَهَرَ" (¬1). ومن هنا: لم يستفض هذا الحديث ومثله، مثل أحاديث كثيرة في "الصحيحين" وغيرهما لم ينقلها إلا الواحد بعد الواحد. ثم نقلتَ عن الحسن البصري قوله: "قد أسلم الناس الأسود والأبيض، ولم يفتش أحد منهم ولم يختنوا". ألم يكن الأولى بك النقل عن حبر الأمة ابن عباس، فقد روى البيهقي في "سننه": وأخبرنا عبد الرزاق عن ابن أبي يحيى عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لا تقبل صلاة رجل لم يختتن" (¬2)، وهذه الفتوى موافقة للحديث، وهذا هو منهج الأئمة حقًّا: تقوية الحديث بآثار الصحابة - رضي الله عنه -، فإنهم كما قال ابن القيم رحمه الله: "هذا فِيمَا انْفَرَدُوا بِهِ عَنَّا، أَمَّا الْمَدَارِكُ التي شَارَكْنَاهُمْ فيها من دَلالاتِ الألفاظ، والأقيسة؛ فَلا رَيْبَ أنهم كَانُوا أبرَّ قُلُوبًا وأعمق عِلْمًا، وأقلَّ تَكَلُّفًا، وأقرب إلَى أن يُوَفَّقُوا فيها لِمَا لم نُوَفَّقْ له نَحْنُ؛ لِمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ من تَوَقُّدِ الأَذْهَانِ، وفَصاحَة اللِّسَانِ، وَسَعَةِ الْعِلْمِ، وَسُهُولَةِ الأَخْذِ، وَحُسْنِ الإِدْرَاكِ، وَسُرْعَتِهِ، وَقِلَّةِ الْمُعَارِضِ، أو عدمه، وَحُسْنِ الْقَصدِ، وَتَقْوَى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه: (1/ 9). (¬2) انظر: "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 325)، والسنن الصغرى (نسخة الأعظمي): (7/ 398).

الرَّبِّ تَعَالَى، فَالْعَرَبِيَّةُ طَبِيعَتُهُمْ، وَسَلِيقَتُهُمْ، وَالْمَعَانِي الصحِيحَةُ مَرْكُوزَةٌ في فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، وَلا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى النَّظَرِ في الإِسْنَادِ وَأَحْوَالِ الرُّوَاةِ وَعِلَلِ الحديث والجرح وَالتَّعْدِيلِ، وَلا إلَى النَّظَرِ في قواعد الأُصُول، وَأَوْضَاعِ الأُصُوليِّينَ، بَلْ قد غُنُوا عن ذلك كُلِّهِ، فَلَيْسَ في حَقِّهِمْ إلاَّ أمران: أَحَدُهُمَا: قال اللَّهُ تَعَالَى كَذَا، وقال رَسُولُهُ كَذَا. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ كَذَا وَكَذَا. وَهُمْ أَسْعَدُ الناس بِهَاتيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَأَحْظَى الأُمَّةِ بِهمَا، فَقُوَاهُمْ مُتوفِّرةٌ مُجْتَمِعَةٌ عليهما، وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَقُوَاهُمْ مُتَفَرِّقَةٌ، وَهِمَمُهُمْ مُتَشَعِّبَةٌ، فَالْعَرَبِيَّةُ وَتَوَابِعُهَا قد أَخذَتْ من قُوَى أَذْهَانِهِمْ شعْبَةً، وَالأُصول وَقَوَاعِدُهَا قد أَخَذَتْ منها شُعْبَةً، وَعِلْمُ الإِسْنَادِ وَأَحْوَالِ الرُّوَاةِ قد أخذ منها شُعْبَةً، وفكرُهُم في كَلامِ مصنفيهم وشُيُوخِهِمْ على اخْتِلافِهمْ وما أَرَادُوا بِهِ قد أخذ منها شُعْبَةً، إلَى غَيْرِ ذلك من الأمور، فإذا وَصَلُوا إلَى النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ -إنْ كان لهم هِمَمٌ تُسَافِرُ إليها- وَصَلُوا إليها بِقُلُوبِ وَأَذْهَانٍ قد كَلَّت من السَّيْرِ في غَيرِهَا، وَأَوْهَنَ قُوَاهُمْ مُوَاصَلَةُ السُّرَى في سِوَاهَا" (¬1)، والحمد من قبل ومن بعد. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "إعلام الموقعين" (4/ 148).

الحديث السابع

الحديث السابع حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعفه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وهو الصواب وشواهده وطرقه لا تقوِّيه". وكتب فيه قريبًا من ثلاث عشرة صفحة ليقنع القارئ بضعفه! ولا أدري ما وجه الاستدراك على الشيخ عليه رحمة الله، هل لأن تحسين الشيخ للحديث مخالف للقواعد؟! أو أنه ليس على طريقة المتقدمين بزعمه؟! فإن كان الأول؛ فقد حسَّنه قبل الشيخ جمع من الحفاظ، منهم: ابن عبد الهادي، فقال في "التعليقة": "لكن الأظهر أن الحديث في ذلك بمجموع طرقه حسن أو صحيح" (¬1). وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص": "وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَجْمُوعَ الأَحَادِيثِ يَحْدُثُ منها قُوَّةٌ تَدُلُّ على أَنَّ له أَصْلاً". ونقل عن ابن سيد الناس قوله: "وقال ابن سَيِّدِ الناس في "شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ": ¬

_ (¬1) انظر: تعليقة على العلل: (1/ 144).

لا يَخْلُو هذا الْبَابُ من حَسَنٍ صرِيحٍ وَصحِيحٍ غَيْرِ صرِيحٍ" وغيرهم كثير. أما إن كنتَ ترى أن هؤلاء جميعًا ليسوا على طريقة المتقدمين، وليس تحسينهم أو تصحيحهم بمعتبر، فاعلم أن من كبار أئمة الشأن من صحَّح الحديث، منهم: إسحاق بن راهويه قرين أحمد، فقد سُئل عن هذا الحديث، "قال إسحاق: كَمَا قال؛ إذا نسي أجزأه، وإذا تعمَّدَ أعادَ، لما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ " يعني التسمية على التيمم (¬1). ونقل عنه تصحيحه أيضاً ابن المنذر في "الأوسط"، وهكذا صححه أبو بكر بن أبي شيبة من شيوخ أصحاب الكتب الستة، نقل ذلك عنه عدد من أهل العلم، منهم ابن عبد الهادي في "التنقيح". وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثبت لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا وضوء لمن لم يسم" (¬2). والمنذري في "الترغيب"، والحافظ ابن حجر في "التلخيص". وهذا الحديث من أقوى الأدلة على بطلان قول من يفرق بين منهاج أهل الحديث المتقدمين ومن جاء بعدهم، وذلك أن طرقه كلها ضعيفة، ومع ذلك أثبتوه، ولتكن مقولة الذهبي المشهورة في الحديث الحسن منك على بال. ثم وقفت على كلام بديع لشيخ الإسلام ابن تيمية وهذا نصه: "قال أبو إسحاق الجوزجاني: قال ابن أبي شيبة: ثبت لنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا وضوء لمن لم يسم"، وتضعيف أحمد لها محمول على أحد الوجهين: إما أنها لا تثبت عنده، أولاً: لعدم علمه بحال الراوي ثم علمه، فبنى عليه مذهبه برواية الوجوب، ولهذا أشار إلى أنه لا يعرف رباحًا، ولا أبا ثفال، وهكذا تجيءُ عنه كثيرًا الإشارة إلى أنه لم يثبت عنده، ثم زال ثبوتها، فإن النفي ¬

_ (¬1) مسائل الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه لإسحاق بن منصور الكوسج: (1/ 99). (¬2) انظر: تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (1/ 105).

سابق على الإثبات، وإما أنه أشار إلى أنه لم يثبت على طريقة تصحيح المحدثين، فإن الأحاديث تنقسم إلى صحيح، وحسن، وضعيف، وأشار إلى أنه ليس بثابت، أي ليس من جنس الصحيح الذي رواه الحافظ الثقة عن مثله، وذلك لا ينفي أن يكون حسنًا، وهو حجة، ومن تأمل الحافظ الإمام علم أنه لم يوهن الحديث، وإنما بين مرتبته في الجملة أنه دون الأحاديث الصحيحة الثابتة، وكذلك قال في موضع آخر: أحسنها حديث أبي سعيد، ولو لم يكن فيها حسن لم يقل فيها أحسنها، وهذا معنى احتجاج أحمد بالحديث الضعيف. وقوله: ربما أخذنا بالحديث الضعيف. وغير ذلك من كلامه؛ يعني به الحسن، فأما ما رواه متهم، أو مغفل؛ فليس بحجة أصلاً، ويبين ذلك وجوه: أحدها: أن البخاري أشار في حديث أبي هريرة إلى أنه لا يعرف السماع في رجاله، وهذا غير واجب في العمل بل العنعنة مع إمكان اللقاء، ما لم يعلم أن الراوي مدلس. وثانيها: أنه قد تعددت طرقه، وكثرت مخارجه، وهذا مما يشد بعضه بعضًا، ويغلب على الظن أن له أصلاً. وروي أيضًا مرسلاً، رواه سعيد عن مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال-: وثالثها: أن تضعيفه إما من جهة إرسال، أو جهل راو، وهذا غير قادح على إحدى الروايتين وعلى الأخرى، وهي قول من لا يحتج بالمرسل، نقول: إذا عمل به جماهير أهل العلم وأرسله من أخذ العلم عن غير رجال المرسل الأول، أو روي مثله عن الصحابة، أو وافقة ظاهر القرآن؛ فهو حجة، وهذا الحديث قد اعتضد بأكثر ذلك، فإن عامة أهل العلم عملوا به في شرع التسمية في الوضوء، ولولا هذا الحديث لم يكن لذلك أصل، وإنما اختلفوا في صفة شرعها: هل هو إيجاب، أو ندب؟ وروي من وجوه متباينة مسندًا، ومرسلاً، ولعلك تجد في كثير من المسائل ليس معهم أحاديث مثل هذه. ورابعها: أن الإمام أحمد قال: أحسنها -يعني أحاديث هذا الباب-

حديث أبي سعيد، وكذلك قال إسحاق بن راهويه، وقد سئل: أي حديث أصح في التسمية؟ فذكر حديث أبي سعيد. وقال البخاري: أحسن حديث في هذا الباب حديث سعيد بن زيد. وهذه العبارة؛ وإن كانوا إنما يقصدون بها بيان أن الأثر أقوى شيء في هذا الباب، فلولا أن أسانيدها متقاربة لما قالوا ذلك" (¬1). وهذا الكلام ينبغي أن يقف معه بعض طلحة العلم الذين طاروا بما يُسَمَّى منهج المتقدمين، وقفة تأمل، يعيدون معها حساباتهم، ويحترموا من سبقهم في هذا العلم والفهم. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح العمدة" (1/ 173).

الحديث الثامن

الحديث الثامن قول علي لابن عباس: "ألا أتوضأ لك وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بلى فداك أبي وأمي، قال: فوضع إناء فغسل يديه، ثم مضمض واستنشق واستنثر، ثم أخذ بيديه فصك بهما وجهه وألقم إبهاميه ما أقبل من أذنيه، قال: ثم عاد في مثل ذلك ثلاثًا، ثم أخذ كفًّا من ماء بيده اليمنى فأفرغها على ناصيته، ثم أرسلها تسيل على وجهه، وذكر بقية الوضوء" (¬1)، وتمامه: "ثم غسل يده، اليمنى إلى المرفق ثلاثاً، ثم يده الأخرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه وأذنيه من ظهورهما، ثم أخذ بكفيه من الماء فصك بهما على قدميه وفيهما النعل، ثم قلبها بها، ثم على الرجل الأخرى مثل ذلك، قال: قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين، قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين، قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث معلول، وممن ضعفه البخاري ... ". وأعلَّه بالتفرد ونكارة المتن. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند: (1/ 82)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (1/ 74)، وانظر "الأحاديث المختارة: (2/ 230).

* الجواب: قد أجاب ابن القيم عن هذا وقال: "هذا من الأحاديث المشكلة جدًّا، وقد اختلفت مسالك الناس في دفع إشكاله، فطائفة ضعفته منهم البخاري والشافعي، قال: والذي خالفه أكثر وأثبت منه. وأما الحديث الآخر يعني هذا؛ فليس مما يثبت أهل العلم بالحديث لو انفرد. وفي هذا المسلك نظر، فإن البخاري روى في "صحيحه" حديث ابن عباس - رضي الله عنه - كما سيأتي، وقال في آخره: "ثم أخذ غرفة من ماء فرشَّ بها على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها يعني رجله اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ". ثم شرع يسرد بقية المسالك. فهذا ابن القيم رحمه الله لم يوافق الشافعي والبخاري على تعليل الحديث، وبيَّن أن البخاري روى مثله من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، وإليك بقية المسالك: المسلك الثاني: أن هذا كان في أول الإسلام ثم نسخ بأحاديث الغسل. وكان ابن عباس - رضي الله عنها - أولاً يذهب إليه، بدليل ما روى الدارقطني: حدثنا إبراهيم بن حماد حدثنا العباس بن يزيد حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل: أن علي بن الحسين أرسله إلى الربيع بنت معوذ يسألها عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث، وقالت: "ثم غسل رجليه، قالت: وقد أتاني ابن عم لك -تعني-ابن عباس- فأخبرته، فقال: ما أجد في الكتاب إلا غسلين ومسحين، ثم رجع ابن عباس عن هذا، لما بلغه غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجليه وأوجب الغسل" (¬1)، فلعل حديث علي وحديث ابن عباس - رضي الله عنه - كانا في أول الأمر، ثم نسخ، والذي يدل عليه أن فيه أنه مسح عليهما بدون حائل، كما روى هشام بن سعد حدثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: قال لنا ابن عباس: "أتحبون أن أحدثكم كيف كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فذكر الحديث، قال: ثم اغترف ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: 1/ 72، أخرجه الدارقطني في سننه: 1/ 96.

غرفة أخرى فرشَّ على رجله وفيها النعل واليسرى مثل ذلك، ومسح بأسفل الكعبين " (¬1). وقال عبد العزيز الدراوردي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس: "توضأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ... فذكره، قال: ثم أخذ حفنة من ماء، فرش قدميه، وهو منتعل" (¬2). المسلك الثالث: أن الرواية عن علي وابن عباس مختلفة، فروي عنهما هذا وروي عنهما الغسل، كما رواه البخاري في الصحيح عن عطاء بن يسار عن ابن عباس فذكر الحديث، وقال في آخره: "أخذ غرفة من ماء فرش بها على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله يعني اليسرى"، فهذا صريح في الغسل. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس به، وقال: "ثم غرف غرفة ثم غسل رجله اليمنى ثم غرف غرفة فغسل رجله اليسرى" (¬3). وقال ورقاء عن زيد عن عطاء عنه: "ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره وقال فيه: وغسل رجليه مرة مرة" (¬4). وقال محمد بن جعفر عن زيد: "وأخذ حفنة فغسل بها رجله اليمنى، وأخذ حفنة، فغسل رجله اليسرى". قالوا: والذي روى أنه رش عليهما في النعل هو هشام بن سعد، وليس بالحافظ، فرواية الجماعة أولى من روايته. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه: (1/ 65). (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (1/ 72)، وانظر "معرفة السنن والآثار" (1/ 170). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (1/ 17). (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (1/ 67)، وقال: إسناده صحيح.

على أن سفيان الثوري وهشامًا أيضًا رويا ما يوافق الجماعة، فرويا عن زيد عن عطاء بن يسار قال: قال لي ابن عباس: "ألا أريك وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فتوضأ مرة مرة، ثم غسل رجليه وعليه نعله". وأما حديث علي - رضي الله عنه -؛ فقال البيهقي: روينا من أوجه كثيرة عن علي أنه غسل رجليه في الوضوء. ثم ساق منها حديث عبد خير عنه: "أنه دعا بوضوء" فذكر الحديث، وفيه: "ثم صب بيده اليمنى ثلاث مرات على قدمه اليمنى، ثم غسلها بيده اليسرى، ثم قال: هذا طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم -". ومنها حديث زر بن حبيش عنه: أنه سئل عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فذكر الحديث، وفيه "وغسل رجليه ثلاثًا ثلاثًا"ء ومنها حديث أبي حية عنه: "رأيت عليًّا توضأ" الحديث، وفيه: "وغسل قدميه إلى الكعبين، ثم قال: أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله -صلى الله عليه وسلم ". قالوا: وإذا اختلفت الروايات عن علي وابن عباس، وكان مع أحدهما رواية الجماعة فهي أولى. المسلك الرابع: أن أحاديث الرش والمسح إنما هي وضوء تجديد للطاهر، لا طهارة رفع حدث، بدليل ما رواه شعبة: حدثنا عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت النزال بن سبرة يحدث عن علي: "أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة، فمسح بها وجهه، ويديه، ورأسه، ورجليه، ثم قام فشرب فضله، وهو قائم، ثم قال: إن أناسًا يكرهون الشرب قائمًا، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: صنع كما صتعت، وقال: هذا وضوء من لم يحدث" (¬1). رواه البخاري بمعناه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: (5/ 2130).

قال البيهقي: في هذا الحديث الثابت دلالة على أن الحديث الذي روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الرجلين، إن صح؛ فإنما عني به وهو طاهر غير محدث، إلا أن بعض الرواة كأنه اختصر الحديث، فلم ينقل قوله: هذا وضوء من لم يحدث. وقال أحمد: حدثنا ابن الأشجعي عن أبيه عن سفيان عن السُّدى عن عبد خير عن علي: "أنه دعا بكوز من ماء، ثم توضأ وضوءًا خفيفًا، ومسح على نعليه، ثم قال: هكذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يحدث". وفي رواية: "للطاهر ما لم يحدث" (¬1). قال: وفي هذا دلالة على أن ما روي عن علي - رضي الله عنه - في المسح على النعلين إنما هو في وضوء متطوع به، لا في وضوء واجب عليه من حدث يوجب الوضوء، أو أراد غسل الرجلين في النعلين، أو أراد أنه مسح على جوربيه ونعليه، كما رواه عنه بعض الرواة مقيدًا بالجوربين، وأراد به جوربين منعلين. قلت: هذا هو المسلك الخامس: أن مسحه رجليه ورشه عليهما، لأنهما كانتا مستورتين بالجوربين في النعلين. والدليل عليه: ما رواه سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ مرة مرة، ومسح على نعليه" (¬2). لكن تفرد به رواد بن الجراح عن الثوري، والثقات رووه عن الثوري بدون هذه الزيادة. وقد رواه الطبراني من حديث زيد بن الحباب عن سفيان فذكره بإسناده، ومتنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على النعلين " (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 120)، والبيهقي (1/ 75). (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (1/ 286). (¬3) في المعجم الكبير للطبراني: (1/ 222)، حدثنا عَلِيُّ بن عبد الْعَزِيزِ وأبو مُسْلِمٍ الْكَشِّيُّ قَالا: ثنا حجاج بن الْمِنْهَالِ ثنا حَمَّادُ بن سَلَمَةَ عن يَعْلَى بن عَطَاءٍ عن أَوْسِ بن أَبي أَوْسٍ قال: "رأيت أبي يَمْسَحُ على النَّعْلَيْنِ، فقلت: أَتَمْسَحُ عليها؟ فقال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ".

وروى أبو داود من حديث هشيم عن يعلى بن عطاء عن أبيه: أخبرني أويس بن أبي أويس الثقفي قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه وقدميه" (¬1)، فقوله (مسح على نعليه)، كقوله (مسح على خفيه). والنعل لا تكون ساترة لمحل المسح، إلا إذا كان عليها جورب، فلعله مسح على نعل الجورب، فقال: مسح على نعليه. المسلك السادس: أن الرِّجل لها ثلاثة أحوال: حال تكون في الخف فيجزي مسح ساترها، وحال: تكون حافية، فيجب غسلها، فهاتان مرتبتان، وهما: كشفها وسترها، ففي حال كشفها لها أعلى مراتب الطهارة، وهى الغسل التام، وفي حال استتارها لها أدناها، وهي المسح على الحائل، ولها حالة ثالثة وهي: حالما تكون في النعل، وهي حالة متوسطة بين كشفها، وبين سترها بالخف، فأعطيت حالة متوسطة من الطهارة وهي الرش، فإنه بين الغسل والمسح، وحيث أطلق لفظ المسح عليها في هذه الحال، فالمراد به الرش، لأنه جاء مفسَّرًا في الرواية الأخرى. وهذا مذهب كما ترى لو كان يعلم له قائل معين، ولكن يحكى عن طائفة لا أعلم منهم معيَّنًا. وبالجملة: فهو خير من مسلك الشيعة في هذا الحديث، وهو المسلك السابع: أنه دليل على أن فرض الرجلين المسح، وحكي عن داود الجواري وابن عباس، وحكي عن ابن جرير أنه مخيَّر بين الأمرين، فأما حكايته عن ابن عباس، فقد تقدمت، وأما حكايته عن ابن جرير فغلطٌ بيِّنٌ، وهذه كتبه وتفسيره كله يكذب هذا النقل عليه، وإنما دخلت الشبهة، لأن ابن جرير القائل بهذه المقالة رجل آخر من الشيعة يوافقه في اسمه واسم أبيه، وقد رأيت له مؤلفات في أصول مذهب الشيعة وفروعهم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه: (1/ 41)، والبيهقي في السنن الكبرى: (1/ 286).

فهذه سبعة مسالك للناس في هذا الحديث. وبالجملة: فالذين رووا وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل: عثمان بن عفان، وأبي هريرة، وعبد الله بن زيد بن عاصم، وجابر بن عبد الله، والمغيرة بن شعبة، والربيع بنت معوذ، والمقدام بن معد يكرب، ومعاوية بن أبي سفيان، وجد طلحة بن مصرف، وأنس بن مالك، وأبي أمامة الباهلي وغيرهم - رضي الله عنهم -؛ لم يذكر أحد منهم ما ذكر في حديث علي وابن عباس مع الاختلاف المذكور عليهما، والله أعلم" (¬1). فإذا أردتَ -عفا الله عنك- تقرير أن في المتن نكارة، فبمثل هذه الدراسة، وإلا أعطِ القوسَ باريها، ولا تستعجل بانتقاد الأئمة الأعلام. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب السنن" لابن القيم (1/ 136).

الحديث التاسع

الحديث التاسع حديث أنس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفًّا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي". أخرجه أبو داود، والبيهقي، والحا كم وغيرهم. ـــــــــــــــــــــــــ * قال المستدرك: "أحاديث تخليل اللحية لا يثبت منها شيء، ذهب إلى ذلك الإمام أحمد، وأبو حاتم .... ". وسرد أربعة عشر حديثًا وأعلَّها جميعًا. * الجواب: الذي يظهر لي أن المستدرك يقرأ في "العلل" لابن أبي حاتم، فإذا وجد حديثًا أعله أبو حاتم، وقال: لا يثبت في الباب حديث، ونحو ذلك؛ عضَّ عليه بنواجذه، ثم بحث في كلام أهل الفن ما يدعمه! قال الحافظ في "الدراية": "وجاء في تخليل اللحية أحاديث منها حديث عثمان: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل لحيته"، أخرجه ابن ماجه، وأحمد، وابن حبان، وابن خزيمة، والحاكم. قال الترمذي نقلاً عن البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب. وقال الترمذي: حسن صحيح.

وحديث عمار: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخلل لحيته"، أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وهو معلول، وحديث أنس تقدم قريبًا، وحديث عائشة أخرجه أحمد والحاكم، وحديث أبي أيوب أخرجه ابن ماجه، وحديث ابن عمر أخرجه ابن ماجه، بلفظ: "ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها"، وحديث ابن عباس أخرجه الطبراني، وفيه في صفة الوضوء: "ثم خلل لحيته"، وحديث أبي أمامة أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني، وحديث ابن أبي أوفى وأبي الدرداء، وكعب بن مالك، وأم سلمة أخرجها الطبراني، وحديث أبي بكرة أخرجه البزار، وحديث جابر أخرجه ابن عدي. قال ابن أبي حاتم في "العلل": سمعت أبي يقول: لا يثبت في تخليل اللحية حديث! " (¬1). قال في "البدر المنير" (¬2): "فهذا اثنا عشر شاهدًا لحديث عثمان رضي الله عنه فكيف لا يكون صحيحًا، والأئمة قد صححوه: الترمذي في "جامعه"، وإمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبو حاتم ابن حبان في "صحيحيهما"، والدارقطني كما تقدم عنه، والحاكم أبو عبد الله في "مستدركه"، والشيخ تقي الدين ابن الصلاح، وشهد له إمام هذا الفن أبو عبد الله البخاري بأنَّه حديث حسن، وبأنَّه أصحّ حديث في الباب، فلعلَّ ما نقله ابن أبي حاتم عن أبيه من قوله: إنَّه لا يثبت عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في تخليل اللحية حديث، ومن قول الإِمام أحمد حيث سأله ابنه: لا يصح عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في تخليل اللحية شيء. أن يكون المراد بذلك غير حديث عثمان، وقد قَالَ الشيخ تقي الذين في "الإِمام": ذكر عن أبي داود أنَّه قَال: قَالَ أحمد: تخليل اللحية، قد روي فيه أحاديث ليس يثبت فيه حديث، وأحسن شيء فيه حديث شقيق عن عثمان: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- توضأ فخلل"، وهذا المشهور عنه. ¬

_ (¬1) انظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية: (1/ 24). (¬2) (2/ 192).

وسئل: يخلل الرجل لحيته إذا توضأ؟ قال: إي والله" (¬1). ويدلُّ على أن ذلك مقصد شرعي في الوضوء: ما رواه مسلم في "صحيحه" (832) من حديث عمرو بن عبسة، وفيه: "ثُمَّ إذا غَسَلَ وَجْهَهُ كما أَمَرَهُ اللهُ، إلاَّ خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أطرافِ لِحْيتتِهِ مع الماء". وقال ابن المنذر: "والأخبار التي رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خلل لحيته قد تُكُلِّمَ في أسانيدها، وأحسنها حديث عثمان" (¬2). وهذا هو الحق، فإنه قد ثبت عن عدد من الصحابة تخليل اللحية، قال ابن المنذر: حدثنا إسماعيل بن قتيبة ثنا أبو بكر ثنا عبد الله بن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: "أنه كان يخلل لحيته" (¬3). حدثنا يحيى بن محمد ثنا الحجبي ثنا أبو عوانة عن أبي حمزة قال: "رأيت ابن عباس يخلل لحيته إذا توضأ من باطنها، ويدخل أصابعه فيها، ويحك ويخلل عارضيه، ثم يفيض الماء على طول لحيته فيمسحها إلى أسفل" (¬4). حدثنا إسماعيل ثنا أبو بكر ثنا معتمر بن سليمان عن أبي معين قال: "رأيت أنسًا توضأ فخلل لحيته" (¬5). ولم يثبت عن أحد منهم أنه أنكره، أو نفاه، وهذا الذي ينبغي أن يُعْتَمَدَ ¬

_ (¬1) انظر: المسائل التي حلف عليها أحمد بن حنبل: (1/ 21). (¬2) انظر: "الأوسط" (1/ 385). (¬3) تقدم تخريجه وانظر أيضًا مصنف ابن أبي شيبة: (1/ 20). (¬4) انظر: مصنف ابن أبي شيبة: (1/ 20). (¬5) انظر: "الأوسط" (1/ 382).

عليه في مثل هذه الأحاديث: أن يكون الترجيح بالنظر إلى آثار الصحابة، وتقدم النقل عن الإمام أحمد أنه علَّل حديثًا مرفوعًا بمخالفته آثار الصحابة، فإن ثبت عنهم ولم يختلفوا فيه كان دليلاً قويًّا على ثبوت الحديث، لأن من عرف سيرتهم لا يشك أنهم أخذوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: لما لم يرد في الأحاديث المشهورة في صفة وضوء النبي عليه السلام؟ فالجواب: ما قاله ابن القيم عليه رحمة الله: "وكان يخلل لحيته أحيانًا ولم يكن يواظب على ذلك، ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه كعثمان وعلي وعبد الله بن زيد" (¬1). وبهذا يتبين ضعف قول المستدرك: "وسبب نكارته: أن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم محل عناية خاصة من الصحابة، ومع هذا لم ينقل لنا في الأحاديث الصحيحة المعتمدة المتكاثرة أنه خلل لحيته، مما يدل على عدم وقوعه"! ولعل ما ذهب إليه المستدرك -عفا لله عنه- سببه الإغراق في معرفة العلل من غير نظر إلى عمل المتقدمين. قال ابن القيم رحمه الله: "فإن ما انْفَرَدُوا بِهِ من الْعِلْمِ عنا أَكْثَرُ من أَنْ يُحَاطَ بِهِ، فلم يَرْوِ كُلٌّ منهم كُلَّ ما سمع، وَأَيْنَ ما سَمِعَهُ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - وَالْفَارُوقُ وَغَيْرُهُمَا من كِبَارِ الصحَابَةِ - رضي الله عنه - إلَى ما رَوَوْهُ؟ فلم يَرْوِ عنه صِدِّيقُ الأُمَّةِ مِئَةَ حَدِيثٍ، وهو لم يَغِبْ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من مَشَاهِدِهِ، بَلْ صحِبَهُ من حِينِ بُعِثَ بَلْ قبل الْبَعْثِ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وكان أَعْلَمَ الأُمَّةِ بِهِ -صلى الله عليه وسلم - بِقَوْلِهِ، وَفِعْلِهِ، وَهَدْيِهِ، وَسِيرَتِهِ، وَكَذَلِكَ أجلة الصَّحَابَةِ رِوَايَتُهُمْ قَلِيلَةٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى ما سَمِعُوهُ من نَبِيِّهِمْ وَشَاهَدُوهُ، وَلَوْ رَوَوْا كُلَّ ما سَمِعُوهُ وَشَاهَدُوهُ؛ لَزَادَ على رِوَايَةِ أبي هُرَيْرَةَ أَضعَافًا مُضَاعَفَةً، فإنه إنَّمَا صَحِبَهُ نحو أَرْبَعَ سِنِينَ، وقد رَوَى عنه الْكَثِيرَ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: لو كان عِنْدَ الصَّحَابِيِّ في هذه الْوَاقِعَة شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" (1/ 198).

لَذَكَرَهُ. قَوْلُ من لم يَعْرِفْ سِيرَةَ الْقَوْمِ وَأَحْوَالَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهَابُونَ الرِّوَايَةَ عن رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيُعَظِّمُونَهَا وَيُقَلِّلُونَهَا خَوْفَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَيُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ الذي سَمِعُوهُ من النبي - صلى الله عليه وسلم - مِرَارًا وَلا يُصَرِّحُونَ بِالسَّمَاعِ، وَلا يَقُولُونَ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم" (¬1). والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "إعلام الموقعين" (4/ 148).

الحديث العاشر

الحديث العاشر روى المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الجوربين والنعلين". ـــــــــــــــــــــــــ * قال المستدرك: "الحديث شاذٌّ ضعيف، أعله أكثر الحفاظ المتقدمين رحمهم الله " انتهى. * قلت: الحديث له شواهد: من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -؛ أخرجه ابن ماجه (560) والطبراني في "الأوسط" (2/ 24) والبيهقي (1/ 285). ومن حديث بلال - رضي الله عنه -، رواه سعيد بن منصور. قال ابن عبد الهادي: "قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فإن قالوا: قد روي عن أحمد أنه قال: أحاديث أبي قيس ليست حجة! قلنا: قد قال في رواية: (ليس بأبي قيس بأس). ثم قد صححه الترمذي". ثم قال: "وروى هذا الحديث أبو داود، وابن ماجه.

قال أبو داود: وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث، لأن المعروف عن المغرِة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين. وذكر البيهقي حديث المغيرة هذا وقال: وذاك حديث منكر، ضعفه سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، ومسلم بن الحجاج، والمعروف عن المغيرة حديث المسح على الخفين، ويروى عن جماعة أنهم فعلوه، وأبو قيس اسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي، وهو من رجال الصحيح، ووثقه يحيى بن معين. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: يخالف في حديثه. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سالت أبي عن أبي قيس الأودي، فقال: ليس بقوي، قليل الحديث، ليس بحافظ. قيل له: كيف حديثه؟ قال: صالح، هو لين الحديث. الحديث الثاني: قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن يحيى حدثنا معلى بن منصور وبشر بن آدم قالا: حدثنا عيسى بن يونس عن عيسى بن سنان عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين". قال يحيى بن معين: عيسى بن سنان ضعيف. والضحاك: هو ابن عبد الرحمن بن عرزب، ويقال: ابن عرزم، أبو عبد الرحمن الشامي، وثقه أحمد بن عبد الله العجلي، وأبو حاتم ابن حبان. وعيسى ضعفه أحمد أيضاً، وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث. وقال البيهقي: الضحاك بن عبد الرحمن لم يثبت سماعه من أبي موسى، وعيسى بن سنان: ضعيف لا يُحْتَجُّ به.

وقد كان يمسح على الجوربين: عمر، وعلي، وابن عباس، والبراء، وأبو أمامة، وأنس، وعقبة بن عامر - رضي الله عنه. وقال أحمد بن حنبل: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو داود: ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب، وابن مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس - رضي الله عنه. وقال ابن المنذر: ويروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر منهم ابن عمر، وابن أبي أوفى. ورواه سعيد بن منصور عن أبي مسعود البدري. وقال سعيد: ثنا إسماعيل بن عياش عن عبيد بن عبيد الكلاعي عن مكحول عن الحارث بن معاوية الكندي وأبي جندل بن سهيل قالا: "سألنا بلالاً مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم -ونحن على مطهرة الدرج بدمشق ونحن نتوضأ فيها- عن المسح على الخفين؟ فقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "امسحوا على النصيف والموق". وقال الحسن بن محمد الزعفراني: ثنا علي ثنا ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن الحارث بن معاوية وسهيل بن أبي جندل أنهما سألا بلالاً عن المسح، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "امسحوا على الخفين والموق" (¬1). وقال الحافظ ابن حجر: "وفي الباب عن بلال، أخرجه الطبراني بسندين أحدهما ثقات، وعن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة، ومسح على نعليه"، أخرجه ابن عدي ثم البيهقي، وفي إسناده رواد بن الجراح وهو ¬

_ (¬1) انظر: تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (1/ 197).

ضعيف، وذكره من طريق زيد بن الحباب بمتابعة رواد، وهي متابعة قوية لكنها شاذة لمخالفة الأثبات، وقد وقع في البخاري في هذا الحديث: "ثم رش على رجليه، وهما في النعل حتى غسلهما". وأجاب ابن خزيمة عن هذه الأحاديث -إذا صحت- بأنه كان وضوءًا عن غير حدث، وأخرجه من طريق عبد خير عن علي أنه: "دعا بكوز ماء ثم توضأ وضوءًا خفيفًا ومسح على نعليه، ثم قال: هكذا وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للطاهر ما لم يحدث" (¬1). وتابعه ابن حبان على ذلك، فأخرج من حديث أوس بن أبي أوس: أنه توضأ ومسح على النعلين، وقال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح عليهما، ثم قال: هذا كان في النفل" (¬2)، ثم ساق من طريق النزال بن سبرة عن علي: "أنه توضأ ومسح على رجليه، وقال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل كما فعلت، وقال: هذا وضوء من لم يحدث" (¬3)، وسبق إلى ذلك البزار في حديث ابن عمر الآتي، وأثر علي، وأبي مسعود والبراء وأنس أخرجها عبد الزراق، وأخرج عن ابن عمر نحوه "أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه"، وهو عند البزار بإسناد صحيح عن ابن عمر: "أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ويمسح عليهما، ويقول: كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل" (¬4)، وعند البيهقي بإسناد جيد عن ابن عمر: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم يلبسهما -يعني النعال السبتية- ويتوضأ فيها ويمسح عليها (¬5) " (¬6). إذًا شواهد الحديث عند التحقيق ليست اثنان بل ستة: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند: (1/ 120)، والبيهقي في السنن الكبرى: (1/ 75). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه: (4/ 170). (¬3) أخرجه ابن حبان في صحيحه: (4/ 171). (¬4) أخرجه البزار في مسنده: (1/ 256). (¬5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (1/ 287). (¬6) انظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية: (1/ 83).

الأول: حديث أبي موسى - رضي الله عنه -، وفي إسناده عيسى بن سنان. الثاني: حديث بلال - رضي الله عنه -، قال الحافظ: رجاله ثقات. الثالث: حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، وفي إسناده رواد بن الجراح ضعيف. الرابع: حديث علي - رضي الله عنه -، وإسناده صحيح. الخامس: حديث أوس بن أبي أوس - رضي الله عنه -، عند ابن حبان وإسناده حسن. السادس: حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، عند البزار وإسناده صحيح. ومن هنا جاء تصحيح الترمذي للحديث، وهو من أئمة هذا الفن رواية ودراية، ولم يسلِّم لتعليل من علله. والمقصود بقوله: "مسح على الجوربين والنعلين": أنهما كانتا مستورتين بالجوربين في النَّعلين، كما تقدم في كلام ابن القيم في الحديث السابق. ومن أقوى الأدلة في ذلك: اشتهاره بين الصحابة، قال الإمام أحمد: ثبت عن تسعة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فلم يكن ليشتهر بينهم لو لم يأخذوه عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. ولم يرو عن واحد منهم كراهته، أو منعه؛ فتنبه. ثم إني أقول: إن الشيخ الألباني لم يكن ليصير إمامًا لعصره في الحديث، لو كان في كل حديث سيقلد أبا حاتم، أو البخاري، أو غيرهما، فهل كان البخاري يقلد أحمد؟ بل هل كان الترمذي يوافق البخاري على تعليله الأحاديث في كل ما قال؟ فقد انتقد أحاديث وضعها البخاري في "صحيحه"، وأعلها إما بالاضطراب، أو الإرسال، ولا يقال: ذاك البخاري، أو أبو حاتم، أو الترمذي، فإن من جاء بعدهم اجتمع عنده ما لم يجتمع عند من سبقه، فكيف بمن نذر نفسه لهذا العلم على مدى ستين عامًا؟! وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء،

والله ذو الفضل العظيم، وهذا يذكرني بقوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68] وبقوله -صلى الله عليه وسلم -: "لو كان العلم في الثريا لناله رجال من هؤلاء"، أخرجاه. قال القرطبي: "وقع ما قاله - صلى الله عليه وسلم - عيانًا، فإنه وجد منهم من اشتهر ذكره من حفاظ الآثار والعناية بها ما لم يشاركهم فيه كثير من أحد غيرهم" (¬1). وقال الكرماني: أي الفرس يعني العجم. رحم الله الشيخ الإمام، وجمعنا وإياه مع النبيين، والصدّيقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" (8/ 643).

الحديث الحادى عشر

الحديث الحادى عشر حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للمستحاضة: "توضئي لكل صلاة". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذه الزيادة معلولة، لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أعلَّها جماعة من الحفاظ منهم: مسلم، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم". * قلت: هذه الزيادة في "صحيح البخاري"، قال الإمام البخاري: حدثنا مُحَمَّدٌ قال: حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ حدثنا هِشَامُ بن عُرْوَةَ عن أبيه عن عَائِشَةَ قالت: "جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أبي حُبَيْشٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ إني امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فلا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ فقال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا؛ إنما ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِحَيْض، فإذا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلاةَ، وإذا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ، ثُمَّ صَلي". قال: وقال أبي: "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاةٍ حتى يَجِيءَ ذلك الْوَقْتُ" (¬1). قال الحافظ في "الفتح " (1/ 332): "وادَّعى بعضهم أن هذا معلَّق، وليس بصواب؛ بل هو بالإسناد المذكور عن محمد عن أبي معاوية عن هشام، وقد بيَّن ذلك الترمذي في روايته، وادَّعى آخر أن قوله: "ثم توضَّئي"، من كلام عروة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه: (228).

موقوفًا عليه! وفيه نظر؛ لأنه لو كان كلامه لقال: "ثم تتوضأ"، بصيغة الإخبار، فلما أتى به بصيغة الأمر شاكله الأمر الذي في المرفوع، وهو قوله: "فاغسلي". * قلت: أخرجه الترمذي من طريق عبدة ووكيع وأبي معاوية عن هشام، قال أبو معاوية في حديثه: "وتوضئي" إلى آخره. وقال ابن عبد الهادي: ""وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، وتوضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت"، أخرجاه. قالوا: قال: اللالكائي قوله: "فتوضئي لكل صلاة"، قول عروة، وهكذا أخرج في الصحيحين. قال هشام؟ ثم قال أبي: "ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت". قلنا: قد ذكره الترمذي كما رويناه وحكم بصحته. ثم لا يمكن أن يقول هذا عروة من قبل نفسه، إذ لو قاله هو لكان لفظه: "ثم تتوضأ لك لصلاة"، فلما قال: "توضئي " شاكل ما قبله" (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذه الزيادة قد رويت من قول عروة، ولعله أفتى بها مرة، وحدَّث بها أخرى، ولعلها كانت عنده عن فاطمة نفسها لا عن عائشة، فقد روى عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان دم الحيض، فإنه أسود يعرف، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو دم عرق" (¬2)، رواه أبو داود، والنسائي، وعن عائشة - رضي الله عنه - قالت: "جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني امرأة استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: "لا، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة، ثم صلي وإن قطر الدم على الحصير" (¬3)، رواه أحمد، وابن ماجه. ¬

_ (¬1) انظر: تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (1/ 160). (¬2) أخرجه أبو داود (281) والنسائي (1/ 123). (¬3) أخرجه أحمد (6/ 204) وابن ماجه (1/ 204).

وعن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل، وتتوضأ، عند كل صلاة، وتصوم وتصلي" (¬1)، رواه أبو داود، وابن ماجه. والترمذي وقال: حديث حسن" (¬2)، انتهى من شرح العمدة. وفي "مسائل الإمامين أحمد وإسحاق لإسحاق بن منصور" (1/ 313): "قَالَ: سألت أحمد عن المستحاضةِ؛ توضَّأتْ لصلاةِ الفجرِ، ثم طلعت الشمسُ، وهي تريدُ أنْ تقضيَ صلاةَ الفائتةِ، أتُصلِّي بوضوئها ذَلِكَ إلى دخولِ وقت الظهر؟، قَالَ: لا، ولكن تتوضأ لأنَّها خرجَتْ من وقتِ الفجرِ. قَالَ إسحاق: أصابَ، لأنَ المستحاضةَ عليها الفرضُ أن تتوضأ بوقت كل صلاة، فلما طلعت الشمسُ ذهبَ وقتُ الغداةِ، وصار وضوؤها منتقضًا". وفي "مسائل عبد الله": "قال: سألت أبي عن المستحاضة، إذا كان لا يرقأ دمها كيف تصلي؟ قال: تحتشي وتصلي؟ وإن قطر الدم على الحصير، وتتوضأ لكل صلاة. قلت لأبي: إن صلَّتْ صلاتين بوضوء واحد؟ قال: لا" (¬3). قال ابن حزم: "وَمِمَّنْ قال بِإِيجَابِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاةٍ على التي يَتَمَادَى بها الدَّمُ من فَرْجِهَا مُتَّصِلاً بِدَمِ الْمَحِيضِ: عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ، وابن عَبَّاسٍ، وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ: عُرْوَةُ بن الزُّبَيْرِ، وسَعِيدُ بن الْمُسَيّبِ، وَالْقَاسِمُ بن مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بن عبد الله، ومُحَمَّدُ بن عَلِيِّ بن الْحُسَيْنِ، وَعَطَاءُ بن أبي رَبَاحٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وهو قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ. قالت عَائِشَةُ - رضي الله عنه -: "تَغْتَسِلُ وَتتوَضَّأ لِكُلِّ صَلاةٍ". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (281) والترمذي (126) وابن ماجه (625). (¬2) انظر: "شرح العمدة" (1/ 292). (¬3) انظر: مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله: (ص 44).

رُوِّينَاهُ من طَرِيقِ وَكِيعٍ عن إسْمَاعِيلَ بن أبي خَالِدٍ الشَّعْبِيِّ عن امْرَأَةِ مسروقٍ عن عَائِشَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَدِيِّ بن ثَابِتٍ عن أبيه عن عَلِيِّ بن أبي طَالِبٍ: "الْمُسْتَحَاضَةُ تتوَضَّاُ لِكُلِّ صَلاةٍ". وَعَنْ شعبة عن عَمَّارِ بن أبي عَمَّارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّاُ لِكُلِّ صَلَاةٍ". وَعَنْ قَتَادَةَ عن الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ: "الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّاُ لِكُلِّ صَلاةٍ" وَعَنْ عبد الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عن هِشَامِ بن عُرْوَةَ في التي يَتَمَادَى بها الدَّمُ أنها تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاةٍ. وَعَنْ شُعْبَةَ عن الْحَكَمِ بن عُتَيْبَةَ عن محمد بن عَلِيِّ بن الحسن: "الْمُسْتَحَاضَةُ تتوَضَّاُ لِكُلِّ صَلاةٍ" (¬1). ولم يثبت عن صحابي واحد أنه أفتى بخلاف ما دل عليه الحديث، وهذا يدل على أن من ذكر الزيادة عن عروة عن عائشة - رضي الله عنه - حفظوه، وأن عروة أحيانًا ينشط فيروي الحديث بتمامه، وأحيانًا يفتي بها. لكن السؤال الأهم لمن أعلها ونفى أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قالها: إذا كان الصحابة اتفقوا على القول بهذه الزيادة فمن أين جاؤوا بها؟! ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" (1/ 253).

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر حديث: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاء فتوضأ". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث غير صحيح بلفظ: "قاء فتوضأ ... ". * الجواب: "الْحَدِيثُ هو عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَصْحَابِ السُّنَنِ الثَّلاثِ، وابن الْجَارُودِ، وابن حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وابن مَنْدَهْ، وَالْحَاكِمِ بِلَفْظِ: "أن رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَاءَ فَأَفْطَرَ، قال مَعْدَانُ: فَلَقِيت ثَوْبَانَ في مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فَقُلْت له: إنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ أخبرني فَذَكرَهُ، فقال: صَدَقَ، أنا صَبَبْت عليه وَضُوءَهُ". قَال ابن مَندَه: إسْنَادُهُ صحِيحٌ مُتَّصِلٌ، وَتَرَكَهُ الشَّيْخَانِ لاخْتِلافٍ في إسْنَادِهِ. قال التَّرمِذِى: جَوَّدَهُ حُسَيْنٌ الْمعَلِّمُ، وَكَذَا قال أَحْمَدُ، وَفِيهِ اخْتِلافٌ كَثِيرٌ ذَكَره الطَّبَرَانِيُّ" (¬1). والاختلاف بيَّنه النسائي في "سننه" فقال في الصائم يتقيأ، وذكر الاختلاف على يحيى بن أبي كثير في خبر ثوبان في ذلك: ¬

_ (¬1) انظر: "نيل الأوطار" (1/ 235).

أخبرني محمد بن علي بن ميمون الرقي قال: حدثني أبو معمر قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال: حدثنا حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثني عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن يعيش بن الوليد بن هشام أن أباه أخبره قال: حدثني معدان بن طلحة أن أبا الدرداء أخبره: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاء فأفطر. فلقيت ثوبان في مسجده، فقلت: أن أبا الدرداء أخبرني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر. قال: وأنا صببت له وضوءًا". أنبأ عمرو بن علي قال: حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثني أبي قال: حدثني حسين المعلم قال: حدثني يحيى بن أبي كثير قال: حدثني الأوزاعي عن يعيش بن الوليد عن أبيه عن معدان بن طلحة عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه قاء فأفطر، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له، فقال: صدق، أنا صببتُ له وضوءه". أنبأ محمد بن المثنى قال: حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث قال: سمعت أبي يحدث قال: حدثنا حسين قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير أن عبد الله بن عمرو الأوزاعي حدثه أن يعيش بن الوليد حدته أن معدان بن طلحة حدثه أن أبا الدرداء حدثه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر، فلقيتُ ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له، فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه". قال أبو عبد الرحمن: كذا وجدته في كتابي" (¬1). ثم قال: "ذكر الاختلاف على هشام الدستوائي في هذا الحديث. أخبرني عبدة بن عبد الرحيم المروزي قال: أنبأ بن سهيل قال: أنبأ هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن الأوزاعي عن يعيش بن الوليد بن هشام عن معدان عن أبي الدرداء: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاء فأفطر، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فسألته، فقال: نعم، أنا صببت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه". ¬

_ (¬1) انظر كلام النسائي في سننه الكبرى: رقم (3120) وما بعده.

أنبأ سليمان بن سلم قال: أنبأ النضر قال: أنبأ هشام عن يحيى عن رجل عن يعيش بن الوليد بن هشام عن معدان عن أبي الدرداء: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فسألته، فقال: نعم، أنا صببت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه". أخبرني إبراهيم بن يعقوب قال حدثنا يزيد بن هارون قال أنبأ هشام عن يحيى عن يعيش بن الوليد بن هشام أن معدان أخبره: "أن أبا الدرداء أخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر، فلقيت ثوبان فذكرت ذلك له فقال: أنا صببت له لوضوئه". أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن يزيد قال حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد أن خالد بن معدان أخبره عن أبي الدرداء: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فذكرت ذلك له، فقال: أنا صببت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه". أنبأ عبيد الله بن سعيد سرخسي يقال له أبو قدامة عن معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن يحيى قال: حدثني رجل من إخواننا عن يعيش بن الوليد عن خالد بن معدان عن أبي الدرداء نحوه. أنبأ محمد بن المثنى قال حدثنا بن أبي عدي عن هشام عن يحيى قال حدثني رجل من إخواننا عن يعيش بن الوليد أن بن معدان أخبره نحوًا من حديث إبراهيم". قال أبو جَعفَر الطحاوي في "مشكل الآثار" (4/ 376): فَكَانَ في هذا الحديث سُكُوتُ هِشَامٍ عن تَسْمِيَةِ الرَّجُلِ الذي حدثه يحيى بن أبي كَثِيرٍ بهذا الحديث عنه، وهو عبد الرحمن بن عَمْرٍو الأَوْزَاعِيِّ كما قد حدثنا إبْرَاهِيمُ بن مَرْزُوقٍ قال: ثنا عبد الصَّمَدِ بن عبد الْوَارِثِ التَّنُّورِى قال: ثنا أبي عن حُسَيْنٍ الْمُعَلَّمِ عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ عن عبد الرحمن بن عَمْرٍو الأَوْزَاعِيِّ عن يَعِيشَ بن الْوَلِيدِ عن أبيه عن مَعْدَانَ بن أبي طَلْحَةَ عن أبي الدَّرْدَاءِ: "أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَاءَ فَأَفْطَرَ، قال: فَلَقِيت ثَوْبَانَ في مَسْجِدِ دِمَشْقَ فقال: صَدَقَ، أنا صَبَبْتُ له وَضُوءَهُ".

وَكَمَا حدثنا إبْرَاهِيمُ بن أبي دَاوُد قال: ثنا أبو مَعْمَرٍ عبد اللَّهِ بن أبي الْحَجَّاجِ الْمُنْقِرِيُّ قال: ثنا عبد الْوَارِثِ عن حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ عن عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو الأَوْزَاعِيِّ عن يَعِيشَ بن الْوَلِيدِ بن هِشَامِ عن مَعْدَانَ بن طَلْحَةَ عن أبي الدَّرْدَاءِ ثُمَّ ذَكَرَ مَثَلَهُ، سَمِعْت ابْنَ أبي دَاوُد يقول: قال أبو مَعْمَرٍ: هَكَذَا قال عبد الْوَارِثِ: عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو! وَالصوَابُ: عبد الرحمن بن عَمْرٍو. وقال أبو جَعْفَرٍ: ولم يذكر ابن أبي دَاوُد في حَدِيثِهِ هذا أَبَا يَعِيشَ بن الْوَلِيدِ وقال فيه مَعْدَانُ بن طَلْحَةَ، وَهَكَذَا يقول الْعِرَاقِيُّونَ في نَسَبِ هذا الرَّجُلِ، وَأَمَّا الشَّامِيُّونَ فَيَقُولُونَ فيه: مَعْدَانُ بن أبي طَلْحَةَ، وَهُمْ بِهِ أَعْرَفُ، لأَنَّهُ منهم وهو يَعْمُرِيٌّ وقد سمع عُمَرَ بن الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - اهـ. وقال ابن عبد الهادي: "قالوا: قد اضطربوا في هذا الحديث. فرواه معمر عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش عن خالد بن معدان عن أبي الدرداء ولم يذكر فيه الأوزاعي. فالجواب: أن اضطراب بعض الرواة لا يؤثر في ضبط غيره. قال الأثرم: قلت لأحمد: قد اضطربوا في هذا الحديث، فقال: حسين المعلم يجوِّده. وقال الترمذي: حديث حسن، أصح شيء في هذا الباب. ورواه أبو داود، والنسائي، والحاكم، وقال: على شرطهما. والبيهقي، وتكلم فيه، والترمذي، وقال: وقد جوَّد حسين المعلم هذا الحديث، وحديث حسين أصح شيء في هذا الباب". * قلت: أخذ معدان عن ثوبان وأبي الدرداء، وسؤالاته لهما أمر معروف. قال الإمام مسلم: حدثني زُهَيْرُ بن حَرْبٍ حدثنا الْوَلِيدُ بن مُسْلِمٍ قال:

سمعت الأَوْزَاعِيَّ قال: حدثني الْوَلِيدُ بن هِشَامٍ الْمُعَيْطِيُّ حدثني مَعْدَانُ بن أبي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ قال: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مولى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي الله بِهِ الْجَنَّةَ، أو قال: قلت: بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إلى اللَّهِ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ، فقال: سَأَلْتُ عن ذلك رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فقال. "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إلا رَفَعَكَ الله بها دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بها خَطِيئَةً". قال مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَسَأَلْتهُ، فقال لي مِثْلَ ما قال لي ثَوْبَانُ" (¬1). وعليه فإن قول المستدرك: "وهذا في الحقيقة مشكل، أي ترجيح الأئمة لحديث حسين المعلم، لم يظهر لي معناه"! سببه نقص الخبرة في هذا الفن، وضعف ضبط الأصول. نعود إلى قوله في الحديث: "قاء فتوضأ". قال عبد الرزاق: عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش بن الوليد، عن خالد بن معدان، عن أبي الدرداء قال: "استقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفطر وأتي بماء فتوضأ" (¬2). ومن طريقه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 449). قال النسائي: أخبرني أحمد بن فضالة بن إبراهيم النيسابوري قال: أنبأ عبد الرزاق قال: أنبأ معمر، عن يحيى، عن يعيش، عن خالد بن معدان، عن أبي الدرداء قال: "استقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفطر، فأتي بماء فتوضأ" (¬3). قال الترمذي: "وروى معمر هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير فأخطأ فيه، فقال: عن يعيش بن الوليد، عن خالد بن معدان، ولم يذكر فيه الأوزاعي، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: (1/ 353). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (4/ 215). (¬3) السنن الكبرى للنسائي: (2/ 215).

وقال: عن خالد بن معدان، وإنما هو: معدان بن أبي طلحة". انتهى. قال المستدرِكُ: "فالترمذي يشير إلى أن هذا من أخطائه، لا سيما مع مخالفته لمن هو أخص منه في ابن أبي كثير، وهذا واضح. ثم إن كان معمر لم يخطئ، فالإسناد مرسل، فإن خالد بن معدان لم يسمع من أبي الدرداء، كما قال الإمام أحمد"، انتهى. * قلت: خالد روى عن عدد من الصحابة منهم أبو أمامة، والمقدام عند الشيخين، وعن جمع من الصحابة خارج الصحيح. قال في " الكاشف": "خالد بن معدان الكلاعي عن معاوية وابن عمر وعبد الله بن عمرو وثوبان" (¬1). فهو من حملة هذا العلم، فروايته عن أبي الدرداء، سواء كانت موصولة، أو مرسلة، فإنها مقبولة إذا اعتضدت بطريق أخرى موصولة تقوَّت، وليس فيها ما يخالف الرواية الأخرى بل تصدق إحداهما الأخرى، فليس هناك ما يدعو إلى ردها، وتقدم أن هذا العلم وسيلة لا غاية، فلا ينبغي الإغراق فيه إلى حد الجفاء، فرواية معدان فيها قول أبي الدرداء: "أنا صببت له وضوءه"، ورواية خالد بن معدان فيها قوله: "قاء فتوضأ". ومما يؤكد هذا: ما رواه اين المنذر في "الأوسط": "فممن روينا عنه أنه رأى الوضوء: علي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وكان ابن عمر يأمر بالوضوء منه، وروينا عن ابن عباس أنه قال: "الحدث حدثان: حدث من فيك، وحدث من أسفل منك"، وعن ابن عباس أنه قال: "الإفطار مما دخل، وليس مما خرج، والوضوء مما خرج وليس مما دخل" (¬2) ¬

_ (¬1) انظر: "الكاشف" للذهبي (1/ 369). (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (1/ 116)، وفي "السنن الصغرى" (نسخة الأعظمي): (3/ 330)، وورد عن ابن مسعود نحوه: في مصنف عبد الرزاق: (4/ 208).

حدثنا علي بن الحسن ثنا عبد الله عن سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي أنه قال: "من وجد رزءًا في بطنه، أو رعافًا، أو قيئًا، فلينصرف وليتوضأ، فإن تكلم استقبل، وإن لم يتكلم بنى على ما مضى من صلاته" (¬1). حدثنا إسحاق عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: "إذا رعف الرجل، أو ذرعه القيء، أو وجد مذيًّا؛ فإنه ينصرف فيتوضأ، ثم يرجع فيبني ما بقي على ما مضى إن لم يتكلم" (¬2). حدثنا محمد بن نصر ثنا محمد بن يحيى ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا همام ثنا علي بن سفيان عن عطاء عن أبي هريرة قال: "يعاد الوضوء من القيء والرعاف". حدثنا محمد بن إسحاق أنا علي الرازي عن عبد الكريم عن مجاهد عن ابن عباس قال: "الحدث حدثان: حدث من فيك، وحدث من أسفل منك" (¬3). ولا ريب أن فتاوى الصحابة رضوان الله عليهم أعظم شاهد لصدق أي حديث أو خطئه وكذبه. ورحم الله أبا عبد الرحمن فقد كان فقيهًا محدِّثًا، والحمد لله أولاً، وآخرًا. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده: (1/ 99)، والدارقطني في سننه: (1/ 156)، وعبد الرزاق في مصنفه: (2/ 338). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (2/ 339). (¬3) انظر: "الأوسط" (1/ 185).

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حديث: "العين وكاء السّه، فمن نام فليتوضأ". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "لهذا عدة علل تمنع من تحسينه، كما سيأتي، ولذلك أعله بعض الأئمة منهم: أبو حاتم، وأبو زرعة، وضعفه ابن عبد البر وابن حزم" انتهى. * الجواب: قال الدارقطني: حدثنا أبو حامد محمد بن هارون، حدثنا سليمان بن عمر بن خالد، حدثنا بقية بن الوليد، عن الوضين بن عطاء، عن محفوظ بن علقمة، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي، عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العين وكاء السه، فمن نام فليتوضأ" (¬1). الوضين بن عطاء، قال فيه السعدي: هو واهي الحديث. وقال أحمد: ما كان به بأس. قال ابن الملقن: "والذي يعل به حديث عليّ أمران: ¬

_ (¬1) انظر: سنن الدارقطني: (1/ 161).

الأول: أن في إسناده جماعة تُكُلِّمَ فيهم، أولهم بقية، وهو ثقة في نفسه، لكنه يدلِّسُ عن الكذابين. ثانيهم: الوضين بن عطاء بن كنانة أبو كنانة الشامي وفيه لين، قال ابن حزم: ضعيف. وقال السعدي: واهي الحديث، وقد أنكر عليه هذا الحديث نفسه ووثقه جماعات. قال الدارمي عن دحيم: ثقة. وقال أبو داود: صالح. وقال أحمد: ما كان به من بأس. وفي رواية: ثقة. وكَال أبو زرعة: سألت عبد الرحمن بن إبراهيم عنه، فقال: ثقة. وقال ابن عدي: ما أرى بحديثه بأسًا. وثالثهم: عبد الرحمن بن عائذ الأزدي الحمصي، نسبه ابن القطان إلى جهالة الحال، وهو من العجائب! فقد أرسل عن معاذ وغيره، وروى عن أبي أمامة وكثير بن مرة، وروى عنه محفوظ ونصر ابنا علقمة، وثور بن يزيد، وصفوان بن عمرو، ووثقه النسائي، كما أفاده المزي، وذكره ابن حبان أيضًا في "ثقاته"، وقال: يقال: إن له صحبة. وذكره أبو الحسن بن سميع في الطبقة الثالثة من تابعي أهل الشام. الأمر الثاني: الانقطاع بين عبد الرحمن، وعلي. قال ابن أبي حاتم في "مراسيله" و"علله": قال أبو زرعة: عبد الرحمن بن عائذ الأزدي عن علي مرسل. وقال عبد الحق: هذا الحديث ليس بمتصل. قال ابن القطان: هو كما قال، ليس بمتصل، ولكن بقي عليه أن يبين أنه

من رواية بقية بن الوليد وهو ضعيف، وهو دائمًا يضعف به الأحاديث عن الوضين، وهو واهي الحديث، قاله السعدي، ومنهم من يوثقه عن محفوظ بن علقمة، وهو ثقة؛ عن عبد الرحمن بن عائذ؛ وهو مجهول الحال، عن علي ولم يسمع منه" (¬1). قال الدارقطني: وحدثنا أبو حامد محمد بن هارون، حدثنا مساور، حدثنا الوليد بن مسلم، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن عطية بن قيس الكلاعي، عن معاوية بن أبي سفيان: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العين وكاء السه، فإذا نامت العين استطلق الوكاء". وأما حديث معاوية - رضي الله عنه - فالذي يعل به أيضاً أمران: قال ابن الملقن: "الأول: حال أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم. وقد اختُلِفَ في اسمه، فقيل: بكر، وقيل: بكير، وقيل: عبد السلام، وقيل: عمر. وحاله واهية، وهو كثير الغلط، ضعفه أحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي، والدارقطني، وكذا يحيى بن معين، وقال مرة: صدوق. نقله عنه ابن الجوزي في "ضعفائه"، وجزم بأن اسمه بكيرًا. وقال السعدي: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: كان من خيار أهل الشام، ولكنه كان رديء الحفظ، فيحدث بالشيء ويهم، وكثر ذلك حتى استحق الترك. وأورد له ابن عدي جملة مناكير، وأما ابن حزم فنسبه إلى الكذب كما سيأتي، ولم أو أحدًا نسبه إلى ذلك إلا ما روي عن عيسى بن يونس أنه قال: لو أردت أبا بكر بن أبي مريم أن يجمع لي فلانًا وفلانًا لفعل -يعني يقول عن ¬

_ (¬1) انظر: "البدر المنير" (2/ 429).

راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وحبيب بن عبيد -وهؤلاء الثلاثة قد روى أبو بكر بن أبي مريم عنهم- فانتفى أن يكون يقبل التلقين إن كان أراد ذلك -يعني أنه يقبل التلقين- وإن كان أراد به أنه يروي عن هؤلاء الثلاثة، فهذا نوع مدح. الثانى: أنه روي موقوفًا، وقد أسلفنا أن الوليد بن مسلم رجحها على رواية الرفع. وأعله ابن حزم بأمر ثالث، فقال في "محلاه": هذا حديث ساقط، لأنه من رواية بقية -وهو ضعيف- عن أبي بكر بن أبي مريم، وهو مذكور بالكذب، عن عطية بن قيس وهو مجهول، انتهى كلامه. ونسبته عطية بن قيس إلى الجهالة من الغرائب، فهو تابعي مشهور، أرسل عن أبي بن كعب ونحوه، وغزا مع أبي أيوب وروى عن معاوية وطائفة، وقرأ القرآن على أم الدرداء، وروى عنه سعيد بن عبد العزيز وطائفة، وكانوا يصلحون مصاحفهم على قراءته، وعمَّر دهرًا جاوز المئة، وروى له مسلم في "صحيحه"، وأصحاب السنن الأربعة، وعلم له الصريفيني فيما رأيته بخطه علامة البخاري أيضاً، وهو كما علم له لأنه استشهد به، ونقل عن أبي مسهر أنه ولد في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد تعقب ابن عبد الحق ابن حزم في رده على "محلاه"، ونقل عن أبي حاتم أنه قال في حقه: صالح الحديث. قلت: ووثقه ابن القطان أيضاً، فهؤلاء ثلاثة وثقوه مسلم، وأبو حاتم وابن القطان، وحالته كما عرفتها، فكيف يكون مجهولاً؟! وخفف ابن الجوزي في تحقيقه القول في أمر حديث علي ومعاوية، فقال: فيهما مقال، ونحا نحوه الحافظ زكي الدين المنذري، فقال في كلامه على أحاديث المهذب: حديث علي حديث حسن، والشيخ تقي الدين بن الصلاح

فقال: رواه أبو داود في جماعة، وفي إسناده شيء، وهو -إن شاء الله- حسن، وحسنه النووى أيضًا، ولا يخفى ما فيه" (¬1). وقال ابن عبد الهادي: "وهذا إسناد ضعيف، وأبو بكر بن أبي مريم تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وقد خالفه غيره، وحديث علي المتقدم أقوى من حديث معاوية، هذا نص عليه الإمام أحمد بن حنبل، والصواب في حديث معاوية أنه موقوف عليه" (¬2). قال شيخ الإسلام: "وسئل أحمد عن حديث علي ومعاوية في ذلك، فقال: حديث علي أثبت وأقوى" (¬3). والذي يظهر أن الإمام أحمد قواه مع علمه بإسناده، لأن الأحاديث الأخرى تشهد لمعناه، مثل حديث صفوان بن عسال: "ولكن من غائط وبول ونوم" رواه أهل السنن. وللآثار الثابتة عن الصحابة رضوان الله عليهم، ولأن رواته إنما يخشى منهم الغلط، وكما تقدم عن شيخ الإسلام: "وذلك أن الحديث إنما يخاف فيه من شيئين: إما تعمد الكذب، وإما خطأ الراوي، فإذا كان من وجهين لم يأخذه أحدهما في الفقه عن الآخر، وليس مما جرت العادة بأن يتفق تساوى الكذب فيه؛ عُلِمَ أنه ليس بكذب، لا سيما إذا كان الرواة ليسوا من أهل الكذب. وأما الخطأ فإنه مع التعدد يضعف، والمرسل نقول: إذا عمل به جماهير أهل العلم، وأرسله من أخذ العلم عن غير رجال المرسل الأول، أو روي مثله عن الصحابة، أو وافقة ظاهر القرآن؛ فهو حجة". وهو رحمه الله أعرف الناس بمذهب الإمام أحمد وأقواله، ومن هذا تعرف ¬

_ (¬1) انظر: "البدر المنير" (2/ 429 - 431). (¬2) انظر: "تعليقة على العلل" (ص 72). (¬3) انظر: "شرح العمدة" (1/ 299).

الفرق بين الإمام أحمد وبعض أهل العلم بالحديث من معاصريه ومن بعدهم. قال ابن المنذر: "حدثنا علي بن الحسن، ثنا عبد الله قال: أخبرني سفيان، قال: حدثني يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال: "وجب الوضوء على كل نائم إلا من خفق برأسه خفقة" (¬1). حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج، ثنا حماد، عن سعيد الجريري، عن خالد بن غلاق، عن أبي هريرة قال: "إذا استحق أحدكم نومًا فليتوضأ". حدثنا إسحاق عن عبد الرازق عن جعفر بن سليمان وغيره عن سعيد الجريري عن هلال العيشي عن أبي هريرة قال: "من استحق النوم فعليه" (¬2). حدثنا موسى بن هارون، ثنا شريح بن يونس، ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن أنس قال: "إذا وجد الرجل طعم النوم جالسًا كان أو غير ذلك فعليه الوضوء" (¬3). وهكذا أثر معاوية، رواه البيهقي من طريق مروان بن جناح عن عطية بن قيس عن معاوية قال: "العين وكاء السه". وقال: موقوف. وهذا كله مما يدل على إمامة الشيخ ناصر رحمه اللهُ، وأنه كان يحقق هذا العلم تحقيق العالم الداعية، لا الباحث، أو صاحب الصنعة، والله ولي التوفيق. ¬

_ (¬1) أخرجه كذلك ابن أبي شيبة في مصنفه: (1/ 124)، والبيهقي في سننه الكبرى: (1/ 119). (¬2) أخرجه كذلك البيهقي في السنن الكبرى: (1/ 119). (¬3) انظر: "الأوسط" (1/ 146).

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حديث: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث روي عن ابن عباس موقوفًا، وهو الصحيح، ورجح الموقوف النسائي، والبيهقي، وابن الصلاح، والمنذري، والنووي، وأشار إليه الترمذي والبزار". * الجواب: قال الحافظ ابن حجر (¬1): "رواه التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالدَّارَقُطْنِيّ من حديث ابن عَبَّاسٍ، وَصَحَّحَهُ ابن السَّكَنِ، وابن خُزَيْمَةَ، وابن حِبَّانَ، وقال التِّرْمِذِيُّ: رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَمَوْقُوفًا وَلا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إلاَّ من حديث عَطَاءٍ. وَمَدَارُهُ على عَطَاءِ بن السَّائِبِ عن طَاوُسٍ عن ابن عَبَّاسٍ، وَاخْتُلِفَ في رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَرَجَّحَ الْمَوْقُوفَ النَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وابن الصَّلاَحِ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَالنَّوَوِيُّ، وزاد: إنَّ رِوَايَةَ الرَّفْعِ ضَعِيفَةٌ. وفي إطْلاقِ ذلك نظر، فإن عَطَاءَ بن السَّائِبِ صَدُوقٌ، وإذا روى عنه الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا تَارَةً وَمَوْقُوفًا أُخْرَى، فَالْحُكْمُ عِنْدَ هَؤُلاءِ الْجَمَاعَةِ لِلرفْعِ، وَالنَّوَوِيُّ مِمَّنْ يَعْتَمِدُ ذلك وَيُكْثِرُ منه، وَلا يَلْتَفِتُ إلَى ¬

_ (¬1) في "التخليص الحبير" (1/ 128 - 131).

تَعْلِيلِ الحديث بِهِ إذَا كان الرَّافِعُ ثِقَةً، فَيَجِيءُ على طَرِيقَتِهِ أَنَ الْمَرْفُوعَ صَحِيحٌ، فَإِنْ اعْتَلَّ عليه بِأَنَّ عَطَاءَ بن السَّائِبِ اخْتَلَطَ، وَلا تُقْبَلُ إلاَّ رِوَايَةُ من رَوَاهُ عنه قبل اخْتِلاطِهِ. أُجِيبَ: بِأَنَّ الْحَاكِمَ أَخْرَجَهُ من رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عنه، وَالثَّوْرِيُّ مِمَّنْ سمع قبل اخْتِلاطِهِ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ كان الثَّوْرِى قد اخْتَلَفَ عليه في وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ فَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ، تُقَدَّمُ رِوَايَةُ الرفْعِ أَيْضًا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ من رِوَايَةِ سُفْيَانَ مَوْقُوفٌ، وَوَهَمَ عليه من رَفَعَهُ. قال البَزَّارُ: لا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ ابن عَبَّاسٍ، وَلا نَعْلَمُ أَسْنَدَ عَطَاءُ بن السَّائِبِ عن طَاوُسٍ غير هذا، وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عن عَطَاءٍ مَوْقُوفًا، وَأَسْنَدَهُ جَرِيرٌ وَفُضَيْلُ بن عِيَاضٍ. قُلْتُ: وقد غَلِطَ فيه أبو حُذَيْفَةَ؛ فَرَوَاهُ مَرْفُوعًا عن الثَّوْرِيِّ عن عَطَاءٍ عن طَاوُسٍ عن ابن عُمَرَ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الأَوْسَطِ" عن مُحَمَّدِ بن أَبَانَ عن أَحْمَدَ بن ثَابِتٍ الْجَحْدَرِيِّ عنه، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْغَلَطَ من الْجَحْدَرِيِّ، وَإِلا فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابن السَّكَنِ من طَرِيقِ أبي حُذَيْفَةَ فقال: عن ابن عَبَّاسٍ. وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى ليس فيها عَطَاءٌ، وَهِيَ عِنْدَ النَّسَائِيّ من حديث أبي عَوَانَةَ عن إبْرَاهِيمَ بن مَيْسَرَةَ عن طَاوُسٍ عن ابن عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا، وَرَفَعَهُ عن إبْرَاهِيمَ محمد بن عبد اللَّهِ بن عُبَيْدِ بن عُمَيْرٍ وهو ضَعِيفٌ؛ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ من طَرِيقِ مُوسَى بن أَعْيَنَ عن لَيْثِ بن أبي سليم عن طَاوُسٍ عن ابن عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَلَيْثٌ يُسْتَشْهَدُ بِهِ. * قلت: لَكِن اختُلِفَ على مُوسَى بن أَعْيَنَ فيه؛ فَرَوَى الدَّارِمِيُّ عن عَلِيِّ بن مَعْبَدٍ عنه عن عَطَاءِ بن السَّائِبِ، فَرَجَعَ إلَى رِوَايَةِ عَطَاءٍ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ من طَرِيقِ الْبَاغَنْدِيِّ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ بن أَبَانَ عن ابن عُيَيْنَةَ عن إبْرَاهِيمَ مَرْفُوعًا، وَأَنْكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ على الْبَاغَنْدِيِّ.

وَلَهُ طريق أُخْرَى مَرْفُوعَة، أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ في أَوَائِلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ من "الْمُسْتَدْرَكِ" من طَرِيقِ الْقَاسِمِ بن أبي أَيُّوبَ عن سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ عن ابن عَبَّاسٍ قال: "قال اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: (طَهِّرَا بَيتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكفِين وَاْلرُّكَّعِ السُّجُودِ)، فَالطَّوَافُ قبل الصَّلاةِ، وقد قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: الطَّوَافُ بِمَنْزِلَةِ الصَّلاةِ، إلاَّ أَنَّ اللَّهَ قد أَحَلَّ فيه النطق فَمَنْ نَطَقَ فَلا يَنْطِقُ إلاَّ بِخَيْرٍ"، وَصَحَّحَ إسْنَادَهُ، وهو كما قال، فإنَّهم ثِقَاتٌ، وَأَخْرَجَ من طَرِيقِ حَمَّادِ بن سَلَمَةَ عن عَطَاءِ بن السَّائِبِ عن سَعِيدِ بن جبَيْرٍ عن ابن عَبَّاسٍ أَوَّلَهُ الْمَوْقُوفَ، وَمِنْ طَريقِ فُضيْلِ بن عِيَاضٍ عن عَطَاءٍ عن طَاوُسٍ آخِرَهُ الْمَرْفُوعَ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ، من طَرِيقِ ابن جُرَيْجِ عن الْحَسَنِ بن مُسْلِمِ عن طَاوُسٍ عن رَجُل أَدْرَكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "الطَّوَافُ صَلاةٌ، فإذا طُفْتُمْ فَأَقِلُّوا الْكَلامَ" (¬1)، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ صَحِيحَة، وَهِيَ تُعَضِّدُ رِوَايَةَ عَطَاءِ بن السَّائِبِ، وَتُرَجِّحُ الرِّوَايَةَ الْمَرْفُوعَةَ، وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الْمُبْهَمَ فيها هو ابن عَبَّاسٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ؛ فَلا يَضُرُّ إبْهَامَ الصَّحَابَةِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، من طريق حَنْظَلَةَ بن أبي سُفْيَانَ عن طَاوُسٍ عن ابن عُمَرَ مَوْقُوفًا. وإذا تَأَمَّلْتَ هذه الطُّرُقَ عَرَفْتَ أَنَّهُ اخْتُلِفَ على طَاوُسٍ على خَمْسَةِ أَوْجُهٍ، فَأَوْضَحُ الطُّرُقِ وَأَسْلَمُهَا: رِوَايَةُ الْقَاسِم بن أبي أَيُّوبَ عن سعيد بن جُبَيْرٍ عن ابن عَبَّاسٍ، فَإِنَّهَا سَالِمَةٌ من الاضْطِرَابِ، إلاَّ أَنِّي أَظُنُّ أَنَّ فيها إدْرَاجًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمْ". قال شيخ الإسلام (¬2): "والحديث الذي يُرْوَى: "الطوافُ بالبيتِ صلاة، إلا أنَّ الله أَبَاحَ فيه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند: (3/ 414)، والنسائي في السنن الكبرى: (2/ 406)، وعبد الرزاق في مصنفه: (5/ 495). (¬2) الفتاوى الكبرى: (2/ 60).

الكلامَ، فمن تكلَّمَ فلا يتكلَّمُ إلا بخير". قد رواه النسائي، وهو يُروى موقوفًا ومرفوعًا، وأهل المعرفة بالحديث لا يصحّحونه إلا موقوفًا، ويجعلونه من كلام ابن عباس، لا يثبتون رفعه". وقال أيضًا (¬1): "والحديث الذي رواه النسائي، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير". قد قيل: إنه من كلام ابن عباس. وسواء كان من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أو كلام ابن عباس؛ ليس معناه أنه نوع من الصلاة كصلاة الجمعة والاستسقاء والكسوف، فإن الله قد فرَّق بين الصلاة والطواف بقوله: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} [البقرة: 125]. والأمر كما قال أبو العباس رحمه الله. ... ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى: (26/ 193).

الحديت الخامس عشر

الحديتّ الخامس عشر حديث: "إذا فضخت الماء فاغتسل". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك "هذا اللفظ شاذ ضعيف، وأشار إلى ذلك الحافظ البزار". ثم قال: "وحصين (يعني رَاوِيه عن علي) لم ينقل توثيقه إلا عن ابن حبان والعجلي، ولم أجد لأحد من المتقدِّمين كلامًا فيه، إلا لهذين، فهل يقبل ما تفرد به حصين من الألفاظ مخالفًا لهؤلاء الذين فيهم حُفَّاظ أثبات؟ ". * الجواب: هذا الكلام ينقصه التحرير في مبحثين: الجهالة والتفرد. أما الأول: فالذي يظهر لي أن المُسْتَدْرِكُ لا يسير فيه على طريقة كبار الأئمة. قال ابن القيم رحمه الله: "فأما تعليله - (يعني ابن حزم) - حديث ندبة بكونها مجهولة؛ فإنها مدنِيَّة، روت عن مولاتها ميمونة، وروى عنها حبيب، ولم يعلم أحد جرحها، والراوي إذا كانت هذه حاله إنما يُخْشَى من تفرده بما لا يتابع عليه، فأما إذاً روى ما رواه الناس، وكانت لروايته شواهد ومتابعات، فإن أئمة الحديث يقبلون حديث مثل هذا، ولا يردُّونه ولا يعلِّلونه بالجهالة، فإذا صاروا

إلى معارضة ما رواه بما هو أثبت منه وأشهر؛ علَّلوه بمثل هذه الجهالة وبالتفرُّد، ومن تأمل كلام الأئمة رأى فيه ذلك، فيظن أن ذلك تناقض منهم! وهو بمحض العلم والذوق والوزن المستقيم، فيجب التنبه لهذه النكتة، فكثيرًا ما تمر بك في الأحاديث وبقع الغلط بسببها" (¬1). قال البخاري رحمه الله: "حصين بن قبيصة الفزاري سمع عليًّا وعن عبد الله، روى عنه القاسم بن عبد الرحمن والركين" (¬2). وقال الذهبي رحمه الله: "حصين بن قبيصة الفزاري عن علي وابن مسعود وغيرهما، وعنه الركين بن الربيع وغيره قال ابن القطان: لا تعرف حاله، قلت: ذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى عنه جماعة". وقال الحافظ في "التقريب": "حصين بن قبيصة الفزاري الكوفي: ثقة، من الثانية د س ق". قال الدارقطني رحمه الله: "وأهل العلم بالحديث لا يحتجُّون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف، وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان رواته عدلاً مشهورًا، أو رجل قد ارتفع اسم الجهالة عنه، وارتفاع اسم الجهالة عنه: أن يروي عنه رجلان فصاعدًا، فإذا كان هذه صفته؛ ارتفع عنه اسم الجهالة، وصار حينئذ معروفًا، فأما من لم يروِ عنه إلا رجل واحد انفرد بخبر؛ وجب التوقف عن خبره ذلك، حتى يوافقه غيره، والله أعلم" (¬3). * قلت: أما التفرد فنوعان: تفرد لم يخالف فيه من تفرد به، وتفرد خولف فيه المتفرد، وهذا الحديث من النوع الأول، فهو من قبيل زيادة الثقة، فكيف إذا كانت هذه الزيادة مجمع عليها، وشواهدها في القرآن؟ قال تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]. ¬

_ (¬1) تهذيب السنن (1/ 309). (¬2) انظر: التاريخ الكبير: (3/ 5). (¬3) انظر: سنن الدارقطني: (3/ 174).

والسنة: مارواه مسلم وغيره: عن أبىِ سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنما الْمَاءُ من الْمَاءِ" (¬1). فلم يبق في تعلملها إلا مجرد التعقب. والحديث صححه أئمة في هذا الفن: ابن خزيمة، وابن حبان، والضياء في "المختاره"، والهيثمي في "المجمع"، وغيرهم، والله الموفِّقُ سبحانه. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند: (3/ 29)، ومسلم: (1/ 269، 271)، وابن حبان في صحيحه: (3/ 443)، وابن خزيمة في صحيحه: (1/ 117).

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر قول - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنه: "انقضي شعرك واغتسلي". ـــــــــــــــــــــــــ قال: المستدرك: "هذه الزيادة شاذة، لا شك في خطئها". * قلت: هذا الحديث ليس على شرط الكتاب، فإن هذه الزيادة ليست في "الإرواء" (¬1)، ممَّا يُشعِر أن المقصود هو التعقب لذاته، فلو أن الكاتب اشتغل بتخريج بعض كتب الفقه، بدل التعقب -وهو لا يُعْرفُ له باع في هذا الفن- لكان خيرًا له. قال المستدرك: "تنبيه: صحَّح الشيخُ الألبانيُّ رحمه الله هذه الزيادة، مع أنه خالف وكيعًا ثمانية من الرواة، با لإضافة إلى رواية الزهري الخالية. من الزيادة. ثم بالمقابل عندما أراد أن يبحث زيادة وقعت في حديث أم سلمة -وهو ¬

_ (¬1) وقد أشار المستدرك إلى ذلك، فالشيخ الألباني لم يصححها في "الإرواء"، وإنما تكلَّم عليها في "الصحيحة"!.

الحديث التالي لهذا الحديث مباشرة في "الإرواء"- حكم عليها بالشذوذ، معلِّلا بما يلي: "تفرَّد عبد الرزاق بيها عن الثوري، خلافًا ليزيد بن هارون عنه، ولابن عيينة، وروح بن القاسم، عن أيوب بن موسى، فإنهم لم يذكروها كما رأيت". ثم نقل الشيخ رحمه الله عن ابن القيم ما يؤيد شذوذ هذه الزيادة لنفس العلة. فهذا الحديث رواه أيوب بن موسى، ورواه عنه الثوري، وابن عيينة، وروح بن قاسم، فروح وابن عيينة لم يذكرا هذه الزيادة. والثوري اختُلِفَ عليه: فرواه يزيد بن هارون عن الثوري بدون الزيادة. ورواه عبد الرزاق بهذه الزيادة، مخالفًا للروايات السابقة، فروايته شاذة، كما هو واضح. والآن يحقُّ لي أن أتساءل: أيهما أوضح شذوذًا: مخالفة ثلاثة من الرواة، أنهم مخالفة ثمانية من الرواة؛ بل تسعة باعتبار أن الزهري لم يذكر هذه الزيادة أيضًا في حديث عائشة - رضي الله عنه -؟ " انتهى كلام المستدرك. * قلت: مهلاً مهلاً، لا تعجل بنقد الكبار، وصدق شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله حيث قال: "من ضيَّع الأصول حرم الوصول". فكيف تكون الزيادة شاذَّة وهي في "صحيح مسلم"؟! قال الإمام مسلم رحمه الله: "حدثنا قُتَيْبَةُ بن سَعِيدٍ وَمُحَمَّدُ بن رُمْحٍ جميعًا، عن اللَّيْثِ بن سَعْدٍ، قال قُتَيْبَة: حدثنا لَيْثٌ، عن أبي الزُّبَير، عن جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قال: أَقْبَلْنَا مُهلِّينَ مع رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- بِحَجّ مُفْرَدٍ، وَأَقْبَقتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنه - بِعُمْرةٍ، حتى إذا كنا بِسَرِفَ عَرَكَتْ، حتى إذا قَدِمْنَا طُفْنَا بِالْكَعْبَةِ وَالصفَا والمَروَة، فَأمَرَنَا رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَحِلَّ مِنَّا من لم يكن معه هَدْيٌ، قال: فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟ قال:

"الْحِلُّ كُلُّهُ". فَوَاقَعْنَا النِّسَاء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثمَّ أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة - رضي الله عنه - فوجدها تبكي، فقال: "ما شأنك"؟ قالت: شأني أنّي قد حضْت، وقد حَلَّ الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحجِّ الآن. فقال: "إِنَّ هذا أَمْر كَتَبَهُ الله على بَنَاتِ آدَمَ فَاغتَسِلِي ثُمَّ أهِلِّي بِالْحَجِّ". ففعلت ووقَفَت المَواقِف، حتى إذا طهرت طَافَت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: "قد حَلَلْتِ من حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جميعًا". فقالت: يا رسول الله؛ إنى أجد فى نفسي أَنِّي لم أَطُفْ بِالْبَيْتِ حتى حَجَجْت. قال: "فَاذْهَبْ بها يا عبد الرحمن، فَأعْمِرْهَا من التَّنعيمِ" وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ" (¬1). ثم من سبقك من الأئمة بالقول إن الزيادة شاذة؟! فإن الإمام البخارى بوَّب على حديث عائشة: "بَاب امْتِشَاطِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا من الْمَحِيضِ". ولو كنت فقيهًا لعلِمْتَ أنه لا نقض إلا باغتسال. على أن الإمام البخاري روى بسنده في "الصحيح"، عن عبد اللهِ بن عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: "انْطَلَقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الْمَدِينَةِ بَعْدَ ما تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ، وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هو وَأَصْحَابُهُ" (¬2)، وهذا لا يكون عادة إلا بعد الاغتسال، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: (1/ 263)، والنسائي في السنن الكبرى: (2/ 356)، وأبو داود في سننه: (2/ 154). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه: (2/ 560).

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "من غسَّل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعيف مرفوعًا، ولا يصح في هذا الباب حديث، كما قاله الإمام أحمد وعلي بن المديني، وغيرهما من الحفَّاظ". * قلت: قال ابن الملقّن في " البدر المنير": (2/ 524 - 536): "هذا الحديث له طرق كثيرة يدور -فيما حصرنا منها- على ستة من الصحابة: أبي هريرة، وعائشة، وعلي، وأبي سعيد الخدري، وحذيفة بن اليمان: والمغيرة - رضي الله عنهم -. أما حديث أبي هريرة؛ فيحضرنا من طرقه ثلاثة عشر طريقًا: الأول: عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه مرفوعًا: "من غسله الغسل، ومن حمله الوضوء -يعني الميت-"، رواه الترمذي (¬1)، واللفظ له، وابن ¬

_ (¬1) في "الجامع" (993).

ماجه (¬1)، ولفظه كلفظ الرافعي سواء، روياه من حديث عبد العزيز بن المختار عن سهيل به. الثاني: عن سهيل أيضاً عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة مرفوعًا بمعناه. رواه أبو داود (¬2) عن حامد بن يحيى عن سفيان عن سهيل به. الثالث: عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة مرفوعًا: "من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ"، رواه أحمد في "مسنده" (¬3)، والبيهقي في "سننه" (¬4). الرابع: عن عمرو بن عمير عن أبى هريرة مرفوعًا: "من غسل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ"، رواه أبو داود (¬5) من حديث ابن أبي ذئب عن القاسم بن عباس عن عمرو به. الخامس: عن زهير عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، بمثل الذي قبله، رواه البيهقي في "سننه". السادس: عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه مرفوعاً: "من غسل جنازة -يعني ميتًا- فليغتسل، ومن حملها فليتوضأ"، رواه البزار في "مسنده". السابع: عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة مرفوعًا: "من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ"، رواه البزار أيضاً. الثامن: عن يحيى بن أبي كثير عن رجل يقال له أبو إسحاق عن أبي هريرة مرفوعًا: "من غسل ميتًا فليغتسل"، رواه أحمد في "مسنده" (¬6). ¬

_ (¬1) في "سننه" (1463). (¬2) في "سننه" (3154). (¬3) (2/ 433، 472). (¬4) (1/ 303). (¬5) في "سننه" (3155). (¬6) "المسند" (2/ 280)، وعبد الرزاق في مصنفه: (3/ 407).

التاسع: عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا مثل الذي قبله، رواه ابن حزم في "محلاه" هكذا، وابن الجوزي في "علله"، من حديث محمد بن شجاع عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من غسل ميتًا فليغتسل". العاشر: عن أبي بحر البكراوي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً بنحو مما قبله، رواه البزار عن يحيى بن حكيم به. الحادي عشر: عن صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من غسل الميت الغسل، ومن حمله الوضوء"، رواه البيهقي وفي رواية له: "من غسل ميتِّا فليغتسل" (¬1)، لم يزد. الثاني عشر: عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي هريرة مرفوعِّا: "من غسل ميتًا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ". الثالث عشر: عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ذكر هذا الطريق والذي قبله الشيخ تقي الدين القشيري في كتاب "الإمام". هذا مجموع ما حصرنا من طريق حديث أبي هريرة. ولنذكر أولاً مقالات الحفاظ فيه، ثم نبيِّن بعد ذلك ما يقتضيه النظر والبحث على وجه الإنصاف، فنقول: ذكر البيهقي في "سننه" جميع ما عزيناه مما قدمناه عنه، وضعفه، ثم قال: والصحيح فيه أنه موقوف على أبي هريرة. وقال البخاري: الأشبه أنه موقوف، قال: وقال أحمد وعلي بن المديني: لا يصح في هذا الباب شيء. قال: وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول -وقد سئل عن الغسل من غسل الميت- فقال: يجزئه الوضوء. ¬

_ (¬1) انظر: "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 305).

قال البيهقي: وقال الترمذي: سألت البخاري عن هذا الحديث؟ فقال: إن أحمد وعلي بن المديني قالا: لم يصح في هذا الباب شيء، ليس بذاك. وقال الشافعي: إنما منعني من إيجاب الغسل من غسل الميت أن في إسناده رجلاً لم أقف على معرفة ثبت حديثه إلى يومي هذا على ما يقتضي، فإن وجدت ما يقنعني أوجبته، وأوجبت الوضوء من مس الميت مفضيًا إليه، فإنهما في حديث واحد. قال البيهقي: وقال محمد بن يحيى -يعني الذهلي- شيخ البخاري: لا أعلم فيمن غسل ميتًا فليغتسل حديثًا ثابتًا، ولو ثبت لزمنا استعماله. قال البيهقي: والروايات المرفوعة في هذا الباب غير قوية لجهالة بعض رواتها وضعف بعضهم، والصحيح من قوله موقوفًا غير مرفوع. وقال ابن أبي حاتم في "علله" (¬1): سألت أبي عن رفعه؟ فقال: خطأ، لا يرفعه الثقات، إنما هو موقوف على أبي هريرة. قال: وسألته عن الرجل -يعني الذي في الطريق الثامن- من هو، وهل يسمى؟ فقال: لا. ونقل أصحابنا عن الشافعي أنه قال في البويطي: إن صح الحديث قلت بوجوبه. وقال الدارقطني في "علله" (¬2): هذا حديث يرويه ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة، واختلف عنه فرواه حبان بن علي عن ابن أبي ذئب به، وخالفه يحيى القطان ويحيى بن أيوب والدراوردي وحجاج بن محمد وعبد الصمد بن النعمان وابن أبي فديك؛ رووه عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) رقم (1035). (¬2) (10/ 378).

قال: وأغرب ابن أبي فديك فيه بإسنادين آخرين: أحدهما: عن ابن أبي ذئب عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، والآخر: عن ابن أبي ذئب عن القاسم بن عباس عن عمرو بن عمير عن أبي هريرة. قال: وحديث المقبري أصح. وقال الحاكم في "مستدركه" في آخر الجنائز (¬1): هذا الحديث مختلف فيه على محمد بن عمرو، وهو مرفوض. وقال ابن الجوزي في "علله" (¬2): هذا حديث لا يصح، لأن المحفوظ في الطريق الأول وقفه على أبي هريرة، وفي الطريق الثاني صالح مولى التوأمة، قال مالك: ليس بثقة، وكان شعبة ينهى أن يؤخذ عنه، ولا يروي عنه. وفي الثالث -وهو فيما قدمناه التاسع- محمد بن عمرو، قال يحيى: ما زال الناس يتَّقون حديثه. وفي الرابع -وهو فيما قدمناه الثامن- رجل مجهول. قال: وقد رواه ابن لهيعة من حديث صفوان عن أبي سلمة، وابن لهيعة ليس بشيء. وقال الرافعي في "شرح مسند الشافعي": علماء الحديث لم يصححوا في هذا الباب شيئًا مرفوعًا، وصحَّحوه عن أبي هريرة موقوفًا، وقال في هذا الكتاب -أعني شرح الوجيز-: والحديث إن ثبت محمول على الاستحباب. ونقل النووى عن الجمهور تضعيف هذا الحديث، وأنكر على الترمذي تحسينه. هذا ما حضرنا من كلام الحفاظ قديمًا، وحديثًا عليه، وحاصله: تضعيف رفعه وتصحيح وقفه، ولا بد من النظر في ذلك على سبيل التفصيل دون الاكتفاء بالتقليد، وقد قام بذلك صاحب "الإمام"، وحاصل ما يُعَلُّ به في ذلك وجهان: ¬

_ (¬1) (1/ 386). (¬2) "العلل المتناهية" (1/ 374 - 375).

أحدهما: من جهة رجال الإسناد، فأما رواية صالح مولى التوأمة -وهي الطريق الثالث- فقد سلف قول مالك وشعبة فيه، وقال البيهقي في "المعرفة": (¬1) اختلط في آخر عمره، فخرج عن حد الاحتجاج به. وأما رواية عمرو بن عمير -وهي الطريق الرابع- فقال البيهقي فيه: إنما يعرف بهذا الحديث، وليس بالمشهور. وقال ابن القطان: إنه مجهول الحال لا يعرف بغير هذا، وهذا الحديث من غير مزيد ذكره ابن أبي حاتم، قال ابن القطان: وهذا علة الخبر. وأما زهير المذكور في الطريق الخامس، فقال البيهقي: قال البخاري: روى عنه أهل الشام أحاديث مناكير. وقال النسائي: ليس بالقوي. وأما حديث العلاء -وهو السادس،- فقال ابن القطان: ليس بمعروف. وأما السابع؛ ففي إسناده أبو واقد، واسمه صالح بن محمد بن زائدة. قال يحيى بن معين: ليس حديثه بذاك. وقال الدارقطني، وجماعة: ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث. وأما الثامن؛ ففيه أبو إسحاق، وهو مجهول -كما سلف عن أبي حاتم الرازي- وأما التاسع؛ فمحمد بن عمرو قال يحيى: ما زال الناس يتَّقون حديثه. وأما العاشر: فالبكراوي وهو عبد الرحمن بن عثمان طرح الناس حديثه كما قاله أحمد، وقال علي بن المديني: ذهب حديثه. وقال أبو حاتم: ليس بقوي يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال يحيى والنسائي: ضعيف. وقال ابن حبان: يروي المقلوبات عن الأثبات لا يجوز الاحتجاج به. ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (1/ 359).

وأما الحادي عشر: فقال البيهقي: في إسناده ابن لهيعة حنين بن أبي حكيم؛ ولا يحتج بهما. الوجه الثاني: التعليل؛ فأما رواية سهيل فقد قال الترمذي: إنه روي موقوفًا. وأيضًا فقد رواه سفيان عن سهيل عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة -كما سلف- فأدخل رجلاً بين أبي صالح وأبي هريرة وهذا اختلاف. قال البيهقي في "المعرفة": وإنما لم يقو عندي أنه يروى عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ويدخل بعض الحفاظ بين أبي صالح وأبي هريرة إسحاق مولى زائدة، قال: فيدل على أن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة، وليست معرفتي بإسحاق مولى زائدة مثل معرفتي بأبي صالح ولعله أن يكون ثقة. وأما رواية ابن أبي ذئب فقد أسلفنا روايتنا له عن صالح عن أبي هريرة وعن القاسم بن عباس عن عمرو بن عمير عن أبي هريرة. وقال البيهقي عقب رواية ابن أبي ذئب: وصالح مولى التوأمة ليس بالقوي. وأما رواية محمد بن عمرو؛ فقد رواها عبد الوهاب عنه موقوفة على أبي هريرة، ورجَّحه بعضهم على الرفع، قال البيهقي: وهو الصحيح كما أشار إليه البخاري. ورواه معتمر أيضًا عن محمد فوقفه، وقد أسلفنا عن أبي حاتم أن الرفع خطأ. ثم شرع الشيخ تقي الدين يجيب عن ذلك، فقال: لقائل أن يقول: أما الكلام على صالح مولى التوأمة، فهو وإن كان مالك قال فيه: إنه ليس بثقة -كما قدمناه- واستضعفه غيره؛ فقد قال يحيى فيه: إنه ثقة حُجَّة. قيل له: إن مالكًا ترك السماع منه، فقال: إن مالكًا إنما أدركه بعد أن

خرف، ولكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف. وقال السعدي: تغير جدًّا. وحديث ابن أبي ذئب مقبول منه لقدم سماعه. قال الشيخ: فهذا يقتضي أن كلام مالك فيه بعد تغيره، وأن رواية ابن أبي ذئب قديمة مقبولة، وهذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب عنه. قال: وبهذا يحصل الجواب عن قول البيهقي فيه إنه اختلط في آخر عمره، فخرج عن حد الاحتجاج به، لأنه قد تبين بشهادة من تقدم بقدم سماع ابن أبي ذئب وأنه مقبول. * قلت: وبه يجاب أيضاً عن إعلال ابن الجوزي الحديث به، كما أسلفناه عنه. قال الشيخ: وأما رواية سهيل عن أبيه عن أبي هريرة؛ فسندها عند الترمذي من شرط الصحيح، وقال فيها الترمذي إنه حديث حسن. وعبد العزيز بن المختار وأبو صالح متفق عليهما، ومحمد بن عبد الملك، وسهيل أخرج لهما مسلم. وقال الشيخ في "الإلمام" أيضًا: رجاله رجال مسلم، وقد أخرجها ابن حبان في "صحيحه" من حديث إبراهيم بن الحجاج الشامي، حدثنا حماد بن سلمة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا: "من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" (¬1)، وفي هذه الرواية فائدة أخرى وهي متابعة حمادٍ عبد العزيز. وأما رواية سفيان وإدخال إسحاق بين أبي صالح وأبي هريرة؛ فكما قال الشافعي: يدل على أن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة، ولكن إسحاق مولى زائدة موثق أخرج له مسلم، وقال يحيى: ثقة. وإذا كان ثقة فكيفما كان الحديث عنه أو عن أبي صالح عن أبي هريرة لم يخرج عن ثقة. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه: (3/ 435) رقم (1161).

* قلت: وقول الشافعي السالف إن في إسناده رجلاً لم أقف على معرفة ثبت حديثه إلى يومي على ما يقنعني. الظاهر أنه أراد إسحاق هذا، وقد وضح لك ثقته، وقد قال فيه مرة أخرى: لعله أن يكون ثقة -كما أسلفناه عنه-. وأما طريق أبي داود الذي زيد فيه إسحاق، فلا أرى له علة لصحة إسناده واتصاله. حامد بن يحيى المذكور في أول إسناده مشهور، قال أبو حاتم: صدوق. وذكر جعفر الفريابي أنه سأل علي بن المديني عنه، فقال: يا سبحان الله! أبقي حامد إلى أن يحتاج يسأل عنه. وذكره ابن حبان في "ثقاته"، وقال: كان أعلم زمانه. ومَنْ بعده مخرج له في الصحيح، وقد جنح ابن حزم الظاهري إلى تصحيحه فإنه احتج به في المسألة، وقال إسحاق: مولى زائدة ثقة مدني، وثَّقه أحمد بن صالح الكوفي وغيره. وأما زهير؛ فقد أخرج له الشيخان في صحيحيهما، وباقي الكتب الستة، وقال يحيى: ثقة، وقال أحمد مقارب الحديث، وقال مرة: ليس به بأس، وقال ابن المديني: لا بأس به، وقال العجلي: جائز الحديث، وقال أبو حاتم: محله الصدق، في حفظه سوء. وقال: حديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق لسوء حفظه، وما حدث به من حفظه، فهو أغاليط. * قلت: وهذا الحديث من رواية أهل الشام عنه التي قال البخاري فيها ما سلف، لكن روى البخاري أيضًا عن أحمد أنه قال: كأنَّ زهيرًا الذي روى عنه أهل الشام زهير آخر.

وأما رواية محمد بن عمرو؛ فقد احتج بها ابن حزم حيث رواها من جهة حماد بن سلمة، ومحمد بن عمرو روى عنه مالك في "الموطأ"، واستشهد به البخاري، وتابع به مسلم، وقد رفع هذا الحديث حماد، وتابعه أبو بحر، وفي قول أبي حاتم: يكتب حديثه، ما يقتضي أن يجعل تأكيدًا في رفعه، ورواية الوقف لم يعتبرها ابن حزم تقديمًا للرفع عليها، وقال علي بن المديني: كان يحيى بن سعيد حسن الرأي في أبي بحر. وأما ابن لهيعة؛ فقد سلفت ترجمته فيما مضى، وأما حنين بن أبي حكيم؛ فقد وثقه ابن حبان. وأما الاختلاف على ابن أبي ذئب؛ فقد يقال إنهما إسنادان مختلفان لابن أبي ذئب، لا يعلل أحدهما بالآخر لاختلاف رجالهما. وأما قول ابن القطان في حديث العلاء: إنه ليس بمعروف، إن أراد: أنه لا يعرف مخرجه؛ فليس كذلك، فقد خرجه البزار كما أسلفناه، وإن أراد: مع معرفة طريقه أنه غير مشهور؛ فلا يناسبه ذلك، وإنما يناسبه النظر في رجال إسناده. وأما أبو واقد؛ فقد قال أحمد فيه: ما أرى به بأسًا. فلعل ذلك يقتضي أن يتابع بروايته، وأما جهالة بعض رواته فلا يقدح فيما صح منهما، فقد ظهر صحة بعض طرقه، وحسن بعضها، ومتابعة الباقي لها، فلا يخفى إذًا ما في إطلاق الضعف عليها، وإن الأصح الوقف، وقد علم أيضاً ما يعمل عند اجتماع الرفع والوقف، وشهرة الخلاف فيه، وقد نقل الإمام أبو الحسن الماوردي من أئمة أصحابنا في "حاويه" عن بعض أصحاب الحديث أنه خرج لصحة هذا الحديث مئة وعشرين طريقًا، فأقل أحواله إذًا أن يكون حسنًا" انتهى من "البدر المنير".

قال شيخ الإسلام بعد أن ساق الحديث برواياته: "وعن عائشة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يغتسل من أربع: من الجمعة والجنابة، والحجامة، وغسل الميت" (¬1)، رواه أحمد وأبو داود ولفظه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل"، وهو على شرط مسلم، وتضعيف الإمام أحمد وغيره لبعض هذه الأحاديث، إما لأنه لم يبلغهم حين التضعيف إلا من وجوه ضعيفه، أو بناء على قاعدة الحديث دون ما يحتج به الفقهاء" (¬2). * قلت: ولا ريب أن الحديث له أصلاً، وأنه معروف عند الصحابة، لكن الاختلاف بينهم هو في الوجوب، أو الاستحباب؛ بدليل ورواه مالك في "الموطأ" قال: "وحدثنى عن مَالِكٍ عن عبد الله بن أبِي بَكْرٍ: "أَنَّ أَسْمَاءَ بنت عُمَيْسٍ غَسَّلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حين توفي ثُمَّ خَرَجَتْ فَسَأَلَتْ من حَضَرَهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فقالت: إنِّي صَائِمَة، وإن هذا يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ، فَهَلْ عَلَيَّ من غُسْلٍ؟ فَقَالُوا: لا" (¬3). قال الحافظ ابن حجر: "إَنَّ الأَمْرَ فيه لِلنَّدْب، لما رَوَى الْخَطِيبُ في تَرْجَمَةِ محَمَّدِ بن عبد اللَّهِ الْمَخْرَمِيِّ من طريق عبد اللًّهِ بن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ قال: قال لي أبي: كَتَبْتُ حَدِيثَ عُبَيْدِ اللَّهِ عن نَافِعِ عن ابن عُمَرَ: "كنا نُغَسِّلُ الْمَيّتَ فَمِنَّا من يَغْتَسِلُ، وَمِنَّا من لا يَغْتَسِلُ". قال: قُلْت: لا. قال: في ذلك الْجَانِبِ شَابٌّ، يُقَالُ له محمد بن عبد اللَّهِ يحدث بِهِ عن أبي هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ عن وُهَيْبٍ، فَاكْتُبْهُ عنه". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند: (6/ 152)، وابن خزيمة في صحيحه: (1/ 126)، وأبو داود في سننه: (3/ 201)، وأخرجه الدارقطني في سننه: (1/ 113)، وابن أبي شيبة في مصنفه: (1/ 433). (¬2) انظر: "شرح العمدة" (1/ 363). (¬3) أخرجه مالك في الموطأ: (1/ 223).

* قُلت: وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ، وهو أَحْسَنُ ما جَمَعَ بِهِ بين مُخْتَلِفِ هذه الأَحَادِيثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" (¬1). وقال: "وفي الْجُمْلَةِ؛ هو بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ أَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا" (¬2). وانظر آثار الصحابة في مصنفي ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق وغيرهما. وقال الحافظ: "قال الذهبى في" مُختَصَرِ البَيهَقِيّ": طُرُقُ هذا الحديث أَقْوَى من عِدَّةِ أَحَادِيثَ احْتَجَّ بها الْفُقَهَاءُ ولم يُعِلُّوهَا بِالْوَقْفِ، بَلْ قَدَّمُوا رِوَايَةَ الرَّفْعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" (¬3). ومن هنا تعلم: أن العالم كلما كان أوسع علمًا، كان أقدر على الحكم وأبعد عن التردد، ومن عرف أبا عبد الرحمن من قرب لا يشك أنه من هذا الطراز رحمه الله. ¬

_ (¬1) انظر: التلخيص الحبير: (1/ 138). (¬2) انظر: التلخيص الحبير: (1/ 137). (¬3) انظر: التلخيص الحبير: (1/ 137).

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: "أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله واغتسل". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "إسناد هذا الحديث ليس حسنًا؛ بل ضعيف، كما قال العقيلي، وله علل". ثم قال: "ومرة أخرى أقول: إن ظاهر هذا الإسناد صحيح، ويشهد لحديث زيد بن ثابت، لولا أن في النفس شيء من المتن منكر ... ". ثم قال: "الخلاصة: أن حديث زيد بن ثابت ليس حسنًا؛ بل ضعيف الإسناد، وفي تقويته بالشواهد المذكورة نظر، لما ذكرتُ من نكارة المتن حسب ما ظهر لي" اهـ. * الجواب: لو قال هذا الكلام أحد الأئمة؛ لم يكن حُجَّة في تضعيف حديث، فكيف بباحث؟! فرحم الله أمرءًا عرف قدر نفسه، فالحديث صحيح، ولا غبار عليه؛ بل هو من المتواتر تواترًا معنويًّا عند المسلمين، وتقدم حديث جابر في مسلم وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: "فاغتسلي ثم أهلِّي بالحج" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند: (3/ 394)، ومسلم: (2/ 881)، والنسائي في السنن الكبرى: (2/ 356)، وأبو داود في سننه: (2/ 154).

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة حائض بغير خمار". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعيف، وهو مرسل، أو موقوف، وأعله الدارقطني، وأشار إلى إعلاله أبو داود". * قلت: الحديث رواه أحمد (6/ 96، 150) وأبو داود (641)، والترمذي (377) وقال: حديث حسن. والحاكم في "مستدركه" (1/ 251) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. من طرق عن قتادة عن محمد بن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة - رضي الله عنه -. قال الحاكم: "وأظن أنهما لم يخرجاه لخلاف فيه على قتادة". ثم روى بإسناده عن الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار" ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 380) أيضًا بلفظ: "لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار"، ورواه ابن حبان في "صحيحه" (4/ 612).

قال الدارقطنى في "العلل": "رواه سعيد وشعبة عن قتادة موقوفًا، ورواه أيوب وهشام عن ابن سيرين مرسلاً عن عائشة، أنها نزلت على صفية بنت الحارث، فحدَّثتها بذلك مرفوعًا، قال: وقول أيوب وهشام أشبه بالصواب" (¬1). * قلت: وصله حماد بن سلمة، قال الترمذي: حدثنا هَنَاد حدثنا قبِيصَةُ، عن حَمَّادِ بن سَلَمَة، عن قَتَادَةَ، عن ابن سيرين، عن صَفِيَّةَ بنت الْحَارِثِ، عن عَائِشَةَ قالت: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقْبَلُ صَلاةُ الْحَائِضِ إلا بِخِمَارٍ" (¬2)، ثم قال أبو عِيسَى: حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وتابعه حماد بن زيد كما رواه ابن حزم في "المحلى" (1/ 90): حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن إِسْحَاقَ بن السُّلَيْمِ، ثنا أبو سعيد بن الأَعْرَابِيِّ، ثنا محمد بن الْجَارُودِ الْقَطَّانُ، ثنا عَفَّانُ بن مُسْلِمٍ، ثنا حَمَّادُ بن زَيْدٍ، ثنا قَتَادَةُ، عن محمد بن سيرين، عن صفِيَّةَ بنْتِ الْحارِثِ، عن عائشة أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ رسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ حَائِضٍ إلاَّ بِخِمَارٍ" وفي "مسند الإمام أحمد": حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا عَفَّانُ ثنا حَمَّادٌ، قال: أنا قَتَادَةُ، عن مُحَمّدِ بن سِيرِينَ، عن صفية بِنْتِ الحارث، عن عَايشَةَ أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَقْبَلُ الله صَلاةَ حَائِضٍ إِلا بِخِمَارٍ" (¬3). قلت: وعليه؛ فإن تعليل الدارقطني لا يقدح في صحة الحديث، كما فعل مع أحاديث كثيرة في البخاري ومسلم، حتى إنه لم يرجح الوقف أو الإرسال في هذا الحديث. وظاهر فتاوى الأئمة على قبوله؛ بل لا يعرف عن الصحابة خلاف في ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: "البدر المنير" (4/ 156). (¬2) أخرجه الترمذي في سننه: (2/ 215). (¬3) أخرجه أحمد في المسند: (6/ 218).

قال ابن القيم رحمه الله: "وقد احْتَجَّ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ وَالْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً بصحيفة عَمْرِو بن شُعَيْب عن أبيه عن جَدِّهِ، وَلا يُعْرَفُ في أَئِمَّةِ الْفَتْوَى إلاَّ من احْتَاجَ إلَيْهَا وَاحْتَجَّ بها، وَإِنَّمَا طَعَنَ فيها من لم يَتَحَمَّلْ أَعْبَاءَ الْفِقْهِ وَالْفَتْوَى" (¬1). وهذا الحديث هو العمدة في هذا الباب عند الفقهاء، كما لا يخفى على من له اشتغال في العلم، ومصداقه في كتاب الله: قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] فإنه تعالى أمر بالخمار، ثم بيَّن في آخر الآية أن كشفه يظهر عورة المرأة، هذا مع أمره تعالى بأخذ الزينة في الصلاة: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، [الأعراف: 31]. وتصحيح الشيخ ناصر رحمه الله لهذا الحديث موافق لما عليه عامة أهل العلم من الصحابة، ومن بعدهم، وانظر الآثار عن الصحابة في "المحلى" وغيره. ¬

_ (¬1) انظر: "إعلام الموقعين" (1/ 99).

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون حديث: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين، إن من بعدكم زمانًا سفلتهم مؤذِّنوهم". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذه الزيادة ضعيفة لشذوذها، وضعفها من الأئمة: الدارقطني وقال البزار وبعد أن ذكر الحديث بهذه الزيادة: تفرَّد بآخره أبو حمزة، ولم يتابع عليه". * قلت: قال ابن عبد البر: "وهذه الزيادة لا تجيء إلا بهذا الإسناد، وهو إسناد رجاله ثقات معروفون، أبو حمزة السكري، وعتاب بن زياد مرزونان ثقتان، وسائر الإسناد يُستغنى عن ذكرهم لشهرتهم إلا أن أحمد بن حنبل ضعَّف الحديث كلَّه، ويقال: إنه لم يسمعه الأعمش من أبي صالح. قال أحمد بن حنبل: رواه ابن فضيل عن الأعمش عن رجل، ما أدرى لهذا الحديث أصلاً، ورواه ابن نمير عن الأعمش فقال: نبئت عن أبي صالح، ولا أراني إلا قد سمعته منه" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: التمهيد لابن عبد البر: (19/ 225).

وقال الذهبي في ترجمة البزار: "هذه زيادة منكرة، قال الدارقطني: ليست محفوظة، انتهى. * قلت: ولم ينفرد أبو بكر البزار بهذه الزيادة، فقد رواها أبو الشيخ في كتاب الأذان له عن إسحاق بن أحمد بن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق سمعت أبي يقول أنا أبو حمزة فذكره. وقد أثبت ابن عدي هذه الزيادة أنها من حديث أبي حمزة السكري، فبرئ البزار من عهدتها. وقال ابن عدي في ترجمة عيسى بن عبد الله بن سليمان العسقلاني: "ثنا عمران بن موسى بن فضالة ثنا عبد الله بن سليمان ثنا يحيى بن عيسى عن الأعمش، فذكر الحديث بزيادته، وقال في إثر هذه الزيادة: لا يُعرف إلا لأبي حمزة السكري، وقد جاء بها عيسى هذا عن يحيى بن عيسى عن الأعمش، قلت: وأخرجها البيهقي في "السنن" من طريق عمرو بن عبد الغفار، ومحمد بن عبيد وأبي حمزة السكري ثلاثتهم عن الأعمش، فصاروا ثلاثة غير أبي حمزة" (¬1). قال ابن القطان: "والزيادة المذكورة ذكرها البزار، فقال: حدثنا أحمد بن منصور بن سيار، حدثنا عتاب بن زياد، حدثنا أبو حمزة السكري، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين". قالوا: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ لقد تركتنا نتنافس في الأذان بعدك. فقاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يكون بعدي -أو بعدكم- قوم سفلتهم موذنونهم". أبو حمزة محمد بن ميمون السكري: ثقة مشهور. وعتاب بن زياد مروزي: ثقة. قاله أبو حاتم. وأحمد بن منصور بن سيار: ثقة مشهور. ¬

_ (¬1) انظر: "ميزان الاعتدال" (1/ 238).

ولا عيب بهذا الإسناد إلا ما بيّنَّا من انقطاعه الخافي على أبي محمد (¬1). فإيرادها إذن لازم له لو علم مكانها، ولا مبالاة بقول الدارقطني في "علله": إنها ليست بمحفوظة. لثقة راويها أبي حمزة السكري. وقد أورد أبو محمد فيه زيادة أخرى من طريق أبي أحمد هذه أسلم إسنادًا منها، فاعلم ذلك " (¬2). وأما قول المستدِرِكِ: "ثم في متنها نكارة، حيث تفيد أنه في آخر الزمان يكون سفلة الناس مؤذنوهم، وهو حكم عام للمؤذنين ولا يخفى ما فيه". * قلت: المراد بالسفلة هنا: الغوغاء من الناس، كما في معاجم اللغة. ¬

_ (¬1) أي: ابن حزم. (¬2) انظر: "بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام" (5/ 604).

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون حديث: "أمناء الناس على صلاتهم وسحورهم: المؤذِّنون" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعيف، ولم يحرِّر الشيخ الألباني القول في يحيى بن عبد الحميد، وهو سبب ضعف الحديث". * قلت: هذا الحديث له طرق: أحدها: من رواية إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبيه عن جده أبي محذورة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمناء الناس على صلاتهم وسحورهم المؤذنون". رواه البيهقي في "سننه" (1/ 426) من حديث يحيى بن عبد الحميد، هو الحماني، ويحيى هذا: حافظ شيعي جلد، وثقه ابن معين وغيره، وقال ابن عدي: صنف المسند، ولم أو في مسنده ولا في أحاديثه أحاديث مناكير، وأرجو أنه لا بأس به. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (1/ 426)، والشافعي في مسنده: (1/ 33).

وضعفه الجمهور، ومنهم النسائي وأحمد، وقال أحمد: كان يكذب جهارًا، ما زلنا نعرفه يسرق الأحاديث. وقال السعدي: ساقط. وقال ابن نمير: كذاب. الطريق الثاني: من رواية ابن عمر - رضي الله عنه - رفعه: "خصلتان معلقتان في أعناق المؤذنين للمسلمين صلاتهم وصيامهم". رواه ابن ماجه في "سننه" (712) وفي إسناده مروان بن سالم الجزري، ذكره ابن حبان في "ثقاته"، وقال أحمد وغيره: ليس بثقة. الطريق الثالث: عن الحسن، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤذنون أمناء الناس على صلاتهم وذكر معها غيرها". رواه الشافعي في "الأم" عن عبد الوهاب عن يونس عن الحسن به، ورواه البيهقي (1/ 431) بلفظ: "المؤذنون أمناء الناس على صلاتهم وحاجتهم -أو حاجاتهم". الطريق الرابع: من حديث أبي هريرة، أشار إليها الدارقطني، قال في "الْعِلَلِ": هذا هو الصَّحِيحُ مُرْسَلٌ، وَأَمَّا من رَوَاهُ عن الْحَسَنِ عن أبي هُرَيْرَةَ فَضَعِيفٌ. الطريق الخامس: من حديث جابر - رضي الله عنه -، ذكره البيهقي، فقال عقب حديث الحسن: وروي ذلك عن جابر، وليس بمحفوظ، قال: وروي في ذلك عن أبي أمامة من قوله أنه قال: "الموذنون أمناء المسلمين، والأئمة ضمناء، قال: والأذان أحب إليَّ من الإمامة" (¬1). فحديث الحسن يحتج به، وهو العمدة إذًا، فإنه انضم إلى إرساله اتصاله ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (1/ 432)، وانظر "صحيح ابن خزيمة" عن أبي هريرة نحوه: (3/ 16).

من وجوه أخر، ويشهد له ما رواه الشيخان عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكمْ -أو أَحَدًا مِنْكُمْ- أَذَانُ بِلالٍ من سَحُورِهِ، فإنه يُوَذِّنُ -أو يُنَادِي بِلَيْلٍ - ليَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَليُنبِّهَ نَائِمَكُمْ" (¬1). ويشهد له أيضاً: ما رواه ابن حبان في "صحيحه" (4/ 559) قال: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفِيانَ حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْن سَلَمْةَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبِ، عَنْ حَيْوَةَ ابْنِ شُرَيْحٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ سُلَيْمَانَ: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ أَخْبَرَهُ، عًنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "الإِمَامُ ضَامِن وَالْمُؤَذِّنُ مُوْتَمَنٌ، فَأرَشْدَ اللَّهُ الأَئِمَّةَ، وَعَفَا عَنِ المُؤَذِّنِينَ". الحديث .. وصححه جمع من الحفاظ. فلم يبقَ في تضعيفه مع ثبوت معناه إلا مجرد المماحكة، والتعليل للتعليل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه: (621، 5298، 7247)، وأخرجه مسلم: (1093).

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون حديث أبي جحيفة: "رأيتُ بلالاً يؤذِّنُ ويدور، وأتتبع فاه هاهنا وهاهنا، وإصبعاه في أذنيه" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعيف شاذ، أعلَّه الإمام أحمد، وأخرج الحديث البخاري مسلم، وأعرضا عن زيادة الدوران ووضع الإصبعين في الأذنين، وما فعل ذلك البخاري إلا إشارة إلى تعليلها ... ". * قلت: قال الحافظ في "التغليق" (¬2): "وقد روي أن بلالاً جعل إصبعيه في أذنيه، من حديث أبي جحيفة بإسناد لا بأس به، فقرأت على أبي بكر بن العز بن قدامة، عن أبي عبد الله بن الزراد: أن الحافظ أبا علي البكري أخبره، أنا جدي إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة، ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا هشيم، عن حجاج، عن عون، عن أبيه قال: "رأيت بلالاً يوذن وقد جعل إصبعيه في أذنيه". قال ابن خزيمة: هذه اللفظة لست أحفظها، إلا عن حجاج بن أرطأه، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند: (4/ 308) والترمذي في سننه: (1/ 375)، وعبد الرزاق في مصنفه: (1/ 467)، والطبراني في المعجم الكبير: (22/ 101). (¬2) "تغليق التعليق" (2/ 268 - وما بعد).

ولست أفهم أسَمِعَ هذا الخبر من عون بن أبي جحيفة أم لا؟ فأنا أشك في صحته. انتهى. ورواه ابن أبي شيبة عن عباد عن حجاج به. ورواه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن حجاج به. ورواه ابن ماجه، من حديث عبد الواحد بن زياد عن حجاج. وأخرجه أبو علي الطوسي في "مستخرجه على الترمذي" الذي سماه "الأحكام" عن يعقوب بن إبراهيم، فوافقناه بعلو، وقال: يقال: حسن صحيح. * قلت: وهو من زياداته على الترمذي، وهذه اللفظة التي ذكر الإمام أبو بكر بن خزيمة أن حجاج بن أرطأة تفرد بها، وقد رواها أيضًا سفيان بن سعيد الثوري، عن عون بن أبي جحيفة. أخبرنا بذلك أحمد بن أبي بكر في كتابه، عن محمد بن علي بن ساعد أن يوسف بن خليل الحافظ أخبره، أنا محمد بن أبي زيد أنا محمود بن إسماعيل الصيرفي، أنا أبو الحسين بن فإذا شاه، أنا أبو القاسم الطبراني، ثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: "رأيت بلالاً يؤذن ويدور فأتتبع فاه هاهنا وهاهنا، وإصبعاه في أذنيه، قال: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبة له حمراء" الحديث. وهكذا رواه عبد الرزاق في "مصنفه". ورواه الإمام أحمد بن في "مسنده" عن عبد الرزاق، فوافقناه بعلو. ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق، فوقع لنا بدلاً عاليًا، وهكذا رواه عبد الرحمن بن مهدي الإمام عن سفيان، أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن أبي أحمد عن المطرز عن بندار عنه مختصرًا، كما هاهنا. ورواه جماعة عن سفيان، لم يذكروا هذه الزيادة في الاستدارة، وجعل

الإصبعين في الأذنين، لكن رواه بعض أصحاب سفيان، عن سفيان ففصل هذه اللفظة في جعل إصبعيه في أذنيه، فرواها عنه عن حجاج عن عون بن أبي جحيفة. ورواها الفريابي عن سفيان قال: حُدِّثْتُ عن عون بذلك، ذكره البخاري في "تاريخه" عن الفريابي. ورواه قيس بن الربيع عن عون، وفيه الزيادة. ورواه محمد بن عبيد الله العرزمي -وهو ضعيف- عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: "رأيت بلالاً يؤذن واضعًا أصبعيه في أذنيه، وهو يستدير في أذانه" كذا رواه مختصرًا. وهكذا رواه إدريس الأودي عن عون، أخرجه الطبراني من حديثه، وهو ضعيف أيضًا. وأما شك الإمام أبي بكر بن أبي خزيمة في صحته من أجل عنعنة حجاج ابن أرطأة له، فقد قال سعيد بن منصور في "السنن" له: حدثنا هشيم عن حجاج قال: أنا عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: "كان بلالاً إذا أذن وضع إصبعيه في أذنيه، واستدار في أذانه". فقد صرح حجاج بالسماع كما ترى، وروى أن بلالاً جعل إصبعيه في أذنيه عند التأذين من وجه آخر. قال الطبراني في "مسند الشاميين" وفي "المعجم الكبير": حدثنا أحمد بن الخليل ثنا أبو توبة ثنا معاوية بن سلام حدثني زيد بن سلام، أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عبد الله الهوزني قال: "لقيت بلالاً مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا بلال؛ ألا تحدثني كيف كانت نفقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فذكر الحديث بطوله، وفيه: خرجت إلى البقيع فجعلت إصبعي في أذني فأذنت" (¬1). رواه أبو داود عن أبي توبة بطوله، وصححه ابن حبان " انتهى كلام الحافظ. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود: (3/ 171)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه: (14/ 64)، والطبراني في المعجم "الأوسط" (1/ 148)، وفي "المعجم الكبير" (1/ 364).

* قلت: فهذه الزيادة وإن كانت خارج الصحيحين، فقد جاءت من طرق متعددة يغلب على الظن ثبوتها، كما يظهر من كلام الحافظ، وقد صححها الإمام أحمد. قال إسحاق بن منصور: "قلت لأحمد: المؤذن يجعل أصبعيه في أذنيه؟ قال: إي والله" (¬1). وفي مسائل إسحاق بن منصور: "قُلْتُ لأحمدَ: هل يدور المؤذن في الأذان، أو يتكلم؟ قَالَ: لا، إلا أن يكون في مَنارة يريد أن يُسمعَ الناسَ. قَالَ والكلام ليس به بأسٌ" (¬2). وفي كلام إمام السنة جمع بين الروايات التي يظن فيها الاختلاف. وقال التِّزمِذِيُّ: "اسْتَحَبَّ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنْ يُدْخِلَ الْمُؤَذِّنُ أُصْبُعَيْهِ في أُذُنَيْهِ". ولله الحمد من قبل ومن بعد. ¬

_ (¬1) انظر: المسائل التي حلف عليها أحمد بن حنبل: (1/ 64). (¬2) انظر: مسائل الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه: (1/ 125).

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون حديث: "مستقبلاً لفعل مؤذنيه - صلى الله عليه وسلم ". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "لفظ (وهو مستقبل القبلة) لم يثبت ... ". * قلت: الحق أنها ليست شاذة؛ بل هي السنة، لا ريب فيها، كما قال أبو عبد الرحمن. قال ابن أبي شيبة: حدثنا مَالِكُ بن إسْمَاعِيلَ قال: نا زُهَيْرُ قال: نا أبو طَاهِرٍ الْجُعْفِيُّ قال: "أذَّنت مِرَارًا، فقال لي سُوَيْد: إذَا أَذَنْت فَاسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ، فإنه من السنة (¬1). وإسناده صحيح. قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم: على أن من السنة أن يستقبل القبلة بالأذان، وذلك لأن مؤذني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يؤذنون مستقبلين القبلة". قلت: والشذوذ هو مخالفة السنة. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (1/ 195).

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في قصة الخندق: أن المشركين شغلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أربع صلوات، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، ثم أمر بلالاً فأذَّنَ ثم أقام، فصلَّى الظُّهر، ثم أقام فصلَّى العصر، ثم أقام فصلَّى المغرب، ثم أقامَ فصلَّى العشاء". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "وإنما أطلت -نوعًا ما- في هذا التوضيح، لأنبِّهَ إلى خطأ بالغ يكثر من المتأخرين المشتغلين بالحديث، وهو المسارعة إلى نقد كلام الحفاظ المتقدِّمين بجرأة غير محمودة، وبانتقادات سطحية، ليس من الإنصاف نسبتها إلى المتقدِّمين، ولو تأمل الناقد ودرس الإسناد على الوجه المطلوب لوجد أن كلام الحفاظ دليلاً على حفظهم وتقدمهم. أرجع الآن إلى بيان الأسباب التي قوَّى الترمذي الإسناد لأجلها: أبو عبيدة لم يسمع من أبيه، هذا لا شك فيه، إلا أنه أخذ أحاديثه عن أهل بيته الثقات المأمونين، وضبطها، ولذلك قبلت منه، وصححها الحفاظ. قال ابن رجب: وأبو عبيدة وإن لم يسمع من أبيه، إلا أن أحاديثه عنه صحيحة، تلقاها عن أهل بيته الثقة العارفين بحديث أبيه، قاله ابن المديني وغيره.

وقال ابن المديني -في حديث يرويه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه-: هو منقطع وهو حديث ثبت. وقال يعقوب بن شيبة: إنما أجتاز أصحابنا أن يدخلوا حديث أبي عبيدة عن أبيه في المسند -يعني: فى الحديث المتصل- لمعرفة أبي عبيدة بحديث أبيه وصحتها، وأنه لم يأت فيها بحديث منكر. وبهذا التحقيق ظهر فضل المتقدمين، وأن كلام الترمذي مع قصره جمع أشتات المسألة بأسلوب متميز، فهو مما يثير الإعجاب لا التعجب"! انتهى كلام المستدرِك. * الجواب: لا ينقضي عجبي من دعواك الفهم لكلام المتقدِّمين، وتنقّصك للأئمة منذ زمن الدارقطني إلى اليوم، مع أنك لا يُعْرَفُ لك كتاب في هذا العلم، إلا هذا الكتاب المليء بالمغالطات! أعود إلى انتقادك الشيخ انتقاده كلمة الترمذي: "حديث عبد الله ليس بإسناده بأس، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله". فأنت تُقَرِّرُ أن الترمذي يرى أن حديث أبي عبيدة عن أبيه متصل، مع أنه لم يسمع منه، أو بمعنى: أنه بحكم المتصل للأسباب التي ذكرتها! والأمر ليس كما تظن، فالترمذي لم يحسِّن الحديث لأجل إسناده، وإنما لأجل متنه، وهذه طريقته في أحاديث كثيرة يرويها بأسانيد ضعيفة ويحسنها، ولذا فإنه أعل حديث ابن مسعود قال: "خَرَجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لِحَاجَتِهِ فقال: "الْتَمِسْ لي ثَلاثَةَ أَحْجَارٍ" قال: فَأَتَيْتُهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ، وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وقال: "إِنَّهَما رِكْسٌ" (¬1)، بأنه من رواية أبي عبيدة عن أبيه، فقال: "حدثنا هَنَادٌ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه: (1/ 70)، وأخرجه الترمذي: (1/ 25)، والدارقطني في سننه: (1/ 55).

وقتيبة قالا: حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبى إسحاق عن أبى عبيدة عن عبد الله، قال أبو عيسى: وهكذا روى قيس بن الربيع هذا الحديث عن أبي إسحاق عن أبى عبيدة عن عبد الله نحو حديث إسرائيل، وروى معمر وعمار بن رزيق عن أبى إسحاق عن علقمة عن عبد الله، وروى زهير عن أبى إسحاق عن عبد الرحمن بن الأَسْوَدِ عن أبيه الأسود بن يزيد عن عبد الله، وروى زكريا بن أبي زَائِدَةَ عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن الأسود بن يزيد عن عبد اللَّهِ، وَهَذَا حَدِيثٌ فيه اضطِرَابّ، حدثنا محمد بن بشّار العبدى، حدثنا محمد بن جَعْفَرٍ، حدثنا شُعْبَةُ، عن عَمْرِو بن مرّةَ قالْ سألت أبَا عبيدة بن عبد اللَّهِ: هل تَذْكُرُ من عبد اللَّهِ شيئاً؟ قال: لا. قال أبو عِيسَى: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بن عبد الرحمن: أَيُّ الرِّوَايَاتِ في هذا الحديث عن أبي إسحاق أَصَحُّ؟ فلم يَقْضِ فيه بِشَىءٍ، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عن هذا، فلم يَقْضِ فيه بِشَيءٍ، وَكَأَنَّهُ رَأَى حَدِيثَ زُهَيْرٍ عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن الأَسْوَدِ عن أبيه عن عبد اللَّهِ أَشْبَهَ، وَوَضَعَهُ في كِتَابِ "الْجَامِعِ". قال أبو عِيسَى: وَأَصَحُّ شَىءٍ في هذا عِنْدِي حَدِيثُ إِسرَائِيلَ وَقَيْسٍ عن أبي إسحاق عن أبي عُبَيْدَةَ عن عبد الله، لأَنَّ إِسرَائِيلَ أَثْبَتُ وَأَحْفَظُ لِحَدِيثِ أبِي إسحاق من هَؤُلاءِ، وَتَابَعَهُ على ذلك قَيْسُ بن الرَّبِيعِ. قال أبو عِيسَى: وسَمِعْت أَبَا مُوسَى مُحَمَّدَ بن الْمُثَنَّى يقول: سمعت عَبْدَ الرحمن بن مَهْدِى يقول: ما فَاتَنِي الذي فَاتَنِي من حديث سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عن أبي إسحاق، إلا لمَّا اتَّكَلْتُ بِهِ على إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ كان يَأْتِي بِهِ أَتَمَّ". فاعلم أَنَّ التِّرْمِذِيَّ رَجَّحَ رِوَايَةَ إِسْرَائِيلَ على رِوَايَةِ زُهَيْرٍ التي وَضَعَهَا الإِمَامُ الْبُخَارِيُّ في "صَحِيحِهِ" وَعَلَى رِوَايَاتِ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ بِثَلاثَةِ وُجُوهٍ: الأول: أَنَّ إِسرَائِيلَ أَثْبَتُ وَأَحْفَظُ لِحَدِيثِ أبي إِسْحَاقَ من زُهَيْرٍ وَمَعْمَرٍ وَغَيْرِهِمَا.

الثَّانِي: أَنَّ قَيْسَ بن الرَّبِيعِ تَابَعَ إِسْرَائِيلَ على رِوَايَتِهِ عن أبي إِسْحَاقَ عن أبي عُبَيْدَةَ عن عبد اللَّهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ سَمَاعَ إِسْرَائِيلَ من أبي إِسْحَاقَ ليس في آخِرِ عُمُرِهِ، وَسَمَاعَ زُهَيْرٍ منه في آخِرِ عمره، والترمذي وافق في ذلك أبا حاتم، ومع ذلك لم يبالِ البخاري بهذا، ووضعه في "الصحيح". ونظيره: قوله عند حديث فاطمة حديث حسن، وليس إسناده بمتصل إلخ. فإن قلت: قد اعترف الترمذي بعدم اتصال إسناد حديث فاطمة، فكيف قال: حديث فاطمة حديث حسن؟ * قلت: الظاهر أنه حسنه لشواهده، وقد بيَّنَّا في المقدمة أن الترمذي قد يحسِّن الحديث مع ضعف الإسناد للشواهد، وهذا الحديث أخرجه أحمد وابن ماجه أيضًا. فإن قلت: لم أورد الترمذي في هذا الباب حديث فاطمة وليس إسناده بمتصل، ولم يورد فيه حديث أبي أسيد وهو صحيح بل أشار إليه؟ * قلت: ليبين ما فيه من الانقطاع، وليستشهد بحديث أبي أسيد. انتهى من "تحفة الأحوذي" (¬1). وعليه: فإن دعوى صحة كل حديث من طريق أبي عبيدة عن أبيه هي دعوى المتأخرين والمتقدمين. ¬

_ (¬1) انظر: "تحفة الأحوذي" (2/ 216).

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "ما بين السرة والركبة عورة". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذه الزيادة في حديث عمرو بن شعيب ضعيفة، وممن ضعف حديث عمرو بن شعيب هذا: العقيلي". * قلت: في إسناده سوار أبو حمزة هو ابن داود البصري، وثقه يحيى بن معين، وابن حبان، وقال أحمد: شيخ بصري لا بأس به، وقال الدارقطني: لا يتابع على أحاديثه فيعتبر به. قال الذهبي في"الكاشف": "سوار بن داود أبو حمزة الصيرفي البصري صاحب الحلي، عن عطاء وطاوس، وعنه وكيع ومسلم، وثقه بن معين، وقال الدارقطني: لا يتابع على أحاديثه. د ف". وقال الحافظ في "التقريب": "سوَّار -بتشديد الواو آخره راء- بن داود المزني، أبو حمزة الصيرفي البصري، صاحب الحلي صدق، له أوهام، من السابعة د ق".

وللحديث شواهد: الأول: حديث محمد بن جحش، رواه أحمد (¬1) والبخاري في "التاريخ" (¬2) والحاكم في "المستدرك" (¬3)، كلهم من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي كثير مولى محمد بن جحش عنه وقال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه على معمر، وفخذاه مكشوفتان، فقال: "يا معمر؛ غط عليك فخذيك، فإن الفخذين عورة"، قال الحافظ في "الفتح": رجاله رجال الصحيح غير أبي كثير فقد روى عنه جماعة. الثاني: قال عبد الله بن أحمد: حدثني عبيد الله بن عمر القواريري قال: حدثني يزيد أبو خالد القرشي قال: حدثنا ابن جريج قال: أخبرني حبيب بن أبي ثابت عن عاصم بن ضمرة عن علي قال: قال لي رسول الله: "لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" (¬4). وقد تكلم أبو حاتم الرازي على هذا الحديث في "العلل" وضعفه، وقال: "إن ابن جريج: لم يسمعه من حبيب ولا حبيب من عاصم بن ضمرة". وعاصم بن ضمرة وثقه ابن معين، وابن المديني، والعجلي. وقال النسائي: ليس به بأس وتكلم فيه ابن عدي وابن حبان. الثالث: قال أحمد (1/ 275): حدثنا محمد بن سابق حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل فخذه خارجة، فقال: "غط فخذك، فإن فخذ الرجل من عورته"، ورواه الترمذي (1827) مختصرًا، وحسنه، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده" ¬

_ (¬1) في "المسند" (5/ 290). (¬2) "التاريخ الكبير" (1/ 13 - 14). (¬3) (4/ 180). (¬4) أخرجه عبد الدين أحمد في زوائد المسند: (1/ 146)، وأبو داود في سننه: (3140)، وابن ماجه في سننه: (1460).

(4/ 221)، والطحاوي، وصححه، وفي إسناده أبو يحيى القتات. قال الحافظ في "التقريب": " أبو يحيى القتات -بقاف ومثناة مثقلة وآخره مثناة أيضًا- الكوفي، اسمه زاذان، وقيل دينار، وقيل مسلم، وقيل يزيد، وقيل زبان، وقيل عبد الرحمن، لين الحديث من السادسة، بخ د ت ق". الحديث الرابع: قال أحمد (3/ 479): حدثنا حسين بن محمد حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه بن زرعة بن عبد الله بن جرهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على جرهد؛ وفخذ جرهد مكشوفة في المسجد، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا جرهد؛ غط فخذك فإن الفخذ عورة". وقال ابن القطان: "حديث جرهد له علتان: إحداهما: الاضطراب المورث سقوط الثقة به، وذلك أنهم مختلفون فيه، فمنهم من يقول: زرعة بن عبد الرحمن. ومنهم من يقول: زرعة بن عبد الله. ومنهم من يقول: زرعة بن مسلم. ثم من هؤلاء من يقول: عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم من يقول: عن أبيه عن جرهد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم من يقول: زرعة من آل جرهد عن جرهد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وإن كنت لا أرى الاضطراب في الإسناد علة، فإنما ذلك إذا كان من يدور عليه الحديث ثقة، فحينئذ لا يضره اختلاف النقلة عليه إلى مسند ومرسل، أو رافع، وواقف، وواصل، وقاطع. وأما إذا كان الذي اضطرب عليه بجميع هذا، أو ببعضه غير معروف؛ فالاضطراب حينئذ يكون زيادة في وهنه، وهذه حال هذا الخبر. العلة الثانية: وذلك أن زرعة وأباه غير معروفي الحال ولا مشهوري الرواية" اهـ الخامس: قال الدارقطني (1/ 231): حدثنا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن بهلول قال: حدثني جدي، حدثنا أبي عن سعيد بن راشد، عن عباد بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي، أيوب قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما فوق الركبتين من العورة، وما أسفل السرة من العورة"، سعيد وعباد لا يحتج بهما.

ولا ريب أن الحديث بهذه الشواهد لا ينزل عن درجة الحديث الحسن، وهذا الذي جعل البخاري رحمه الله يقول: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط، فإنه لا يحتاط للشريعة بأحاديث ضعيفة أو واهية. ومما يقرب هذا ويوضحه: ما رواه البخاري في "صحيحة" (365 - وانظر أطرافه): عن أبي هُرَيْرةَ - رضي الله عنه - قال: "قام رَجُلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ عن الصَّلاةِ في الثَّوْب الْوَاحِدِ، فقال: "أوكلكم يَجِدُ ثَوْبَيْنِ"؟ ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فقال: إذا وَسَّعِّ الله فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عليه ثِيَابَهُ صلى رَجُلٌ في إِزَار وَرِدَاءٍ في إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، في إِزَار وَقَبَاءٍ، في سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ في سَرَاوِيلَ، وَقَمِيصٍ في سَرَاويلَ وقَباء، في تُبَّان وَقَبَاءٍ، في تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ، قال: وَأَحْسِبُهُ قال: في تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ". فالناظر في هذا الحديث يرى أن كل ما ذكر فيه من لباس يغطي من السرة إلى الركبة، وهكذا قوله لجابر: "فَإِنْ كان وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كان ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ". أخرجاه. فالإزار في العادة يغطي من السرة إلى الركبة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه"، رواه أهل السنن من حديث أنس بإسناد صحيح. ثم وقفت على إثبات الإمام أحمد للحديث في "مسائل أحمد بن حنبل" رواية ابنه عبد الله قال: "سألتُ أبي عن الفخذ من العورة؟ قال: نعم، حديث جرهد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الفخذ عورة" (¬1). والحمد لله على توفيقه. ¬

_ (¬1) انظر: مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله: (ص 62).

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون حديث: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان". ـــــــــــــــــــــــــ خلاصة الاستدراك: "الحديث منقطع أشار إلى ذلك ابن خزيمة ... منقطع بين قتادة ومورق، وأن أبا إسحاق وحميد بن هلال رووه عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود موقوفًا عليه". * قلت: لكن رواه ابن حبان عن قتادة عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حبان في "صحيحة" (5598): أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ الْعِجْلِيُّ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَال: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللهِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "المَرْأَةُ عَوْرَةٌ وإِنَّهَا إِذَا خَرَجَتِ استَشرفَها الشَّيْطَانُ، وَإِنَّهَا لا تكون إِلَى وَجْهِ اللهِ أَقْرَبَ مِنْهَا فِي قَعْرِ بَيْتِهَا". ثم قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسحاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ قَال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمِ قَال: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُورِّق الْعِجْلِيِّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْمَرْأَةُ عَوْرَة فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وَأَقْرَبُ مَا تكون مِنْ رَبّهَا إِذَا هِيَ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا".

وهو على الوجهين صحيح، بشهادة ما رواه مسلم في "صحيحه" (1403): حدثنا عَمْرُو بن عَلِيٍّ، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا هِشَامُ بن أبي عبد اللَّهِ، عن أبي الزُّبَيْرِ، عن جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى امْرَأَةً فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ وَهِيَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً لها فَقَضى حَاجَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إلى أَصحَابِهِ فقال: "إن الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ في صُورَةِ شيطان وَتُدْبِرُ في صُورَةِ شَيطَانٍ، فإذا أَبْصَرَ أحدكم امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فإن ذلك يَرُدُّ ما في نَفْسِهِ". والحديث صححه الترمذي (1173)، وابن خزيمة (1686). فالحمد لله الذي جعل الشيخ الألباني من حفاظ سنة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "الأرض كلها مسجد، إلا الحمام والمقبرة". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث مرسل ليس بمتصل، وهذا سبب ضعفه، ورجَّح إرساله الحافظ الترمذي، والدارقطني، والبيهقي، وابن العربي" اهـ. * قلت: قال ابن عبد الهادي: "قال أحمد: ثنا معاوية الغلابي، ثنا عبد الواحد بن زياد، عن عمرو بن يحيى الأنصاري، عن أبيه، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأرض كلها مسجد، إلا الحمام والمقبرة". قال أحمد: وثنا أحمد بن عبد الملك، ثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل الأرض مسجد وطهور، إلا المقبرة والحمام" (¬1). وقال أبو بكر بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي: ثنا إسحاق هو أبو الحسن، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند: (3/ 83).

ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام". ورواه الإمام أحمد أيضًا عن يزيد بن هارون مثل رواية زهير. ورواه أبو داود عن موسى عن حماد بن سلمة وعن مسدد عن عبد الواحد بن زياد قال موسى في حديثه: فيما يحسب عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ... شك في رفعه. ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر وأبي عمار المروزي كلاهما عن الدراوردي عن عمرو بن يحيى به مسندًا، وقال: قد روي عن الدراوردي روايتين: منهم من ذكره عن أبي سعيد، ومنهم من لم يذكره، وهذا حديث فيه اضطراب، وروى سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه ابن إسحاق عن عمرو عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. ورواه ابن إسحاق عن عمرو عن أبيه قال: وكان عامة روايته عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل عن أبي سعيد، وكأن رواية الثوري أثبت وأصح. ورواه ابن ماجه عن محمد بن يحيى، عن يزيد بن هارون، عن سفيان الثوري، وحماد بن سلمة؛ فرفعهما كلاهما، عن عمرو بن يحيى به مسندًا. ورواه أبو حاتم البستي عن ابن خزيمة، عن بشر بن معاذ عن عبد الواحد بن زياد. ورواه الحاكم في "المستدرك"، من طريق عبد الواحد بن زياد عن عمرو مسندًا، ورواه أيضًا من رواية بشر بن المفضل عن عمارة بن غزية عن يحيى بن عمارة عن أبي سعيد مرفوعًا، وقال: كلاهما على شرط البخاري ومسلم. وقد رواه علي بن عبد العزيز عن حجاج بن منهال عن حماد مسندًا. وكذلك رواه أبو بكر البزار، عن أبي كامل الجحدري، عن عبد الواحد بن زياد. وكذلك رواه أبو نعيم عن خارجة بن مصعب عن عمرو بن يحيى.

وسئل عنه الدارقطني فقال: رواه عبد الواحد بن زيد والدراوردي ومحمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد متصلاً، وكذلك رواه أبو نعيم عن الثوري عن عمرو، وتابعه سعيد بن سالم القداح، ويحيى بن آدم عن الثوري فوصلوه، ورواه جماعة عن عمرو بن يحيى عن أبي سعيد مرسلًا، والمرسل المحفوظ" (¬1). قال ابن القطان: ينبغي ألا يضره الاختلاف إذا كان الذي أسنده ثقة. وقد صحح وصله ابن حبان والحاكم، وابن المنذر في "الأوسط" حيث قال: "روى هذا الحديث حماد بن سلمة والدراوردي، وعباد بن كثير، كرواية عبد الواحد متصل عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. إذا روى الحديث ثقة، أو ثقات مرفوعًا متصلاً، وأرسله بعضهم، يثبت الحديث برواية من روى موصولًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يوهن الحديث تخلف من تخلف عن إيصاله" (¬2). ورواه ابن حزم في "المحلى": "قال عَلِيٌّ: قال بعض من لا يَتَّقِي عَاقِبَةَ كَلامِهِ في الدِّيْنِ (¬3): هذا حَدِيث أَرْسَلَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَشَكَّ في إسناده مُوسَى بن إسْمَاعِيلَ عن حَمَّادِ بن سَلَمَةَ، ثم قال: فَكَانَ مَاذَا؟ لا سِيَّمَا وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْمُسْنَدَ كَالْمُرْسَل، وَلا فرق، ثُمَّ أَيُّ مَنْفَعَةٍ لهم في شَكِّ مُوسَى، ولم يَشُكَّ حَجَّاجٌ؟ وَإِنْ لم يَكُنْ فوق مُوسَى فَلَيْسَ دُونَهُ أو في إرْسَالِ سُفْيَانَ، وقد أَسْنَدَهُ حَمَّادٌ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ، وأبو طُوَالَةَ وابن إِسْحَاق، وَكُلُّهُمْ عَدْلٌ. حدثنا أَحْمَدُ بن مُحَمَّدٍ الجسُورُ، ثنا أَحْمَدُ بن الْفَضْلِ الدِّينَوَرِيُّ، ثنا محمد ¬

_ (¬1) انظر: تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (1/ 303). (¬2) انظر: "الأوسط" (2/ 182). (¬3) هذا من شدَّة ابن حزم المعروفة عنه رحمه الله.

ابن جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، ثنا محمد بن بَشَّارٍ بِنْدَارٌ، ثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيٍّ، ثنا عبد اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ، عن عبد الرحمن بن يَزِيدَ بن جَابِرٍ حدثني بُسْرُ بن عُبَيْدِ اللَّهِ، سمعت أَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ يقول: سمعت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تَجْلِسُوا على الْقُبُورِ وَلا تُصَلُّوا إلَيْهَا" (¬1). حدثنا عبد اللَّهِ بن يُوسُفَ، ثنا أَحْمَدُ بن فَتْحٍ، ثنا عبد الْوَهَّابِ بن عِيسَى، ثنا أَحْمَدُ بن مُحَمَّدٍ، ثنا أَحْمَدُ بن عَلِيٍّ، ثنا مُسْلِمُ بن الْحَجَّاجِ، ثنا إِسحَاقُ بن إبْرَاهِيم وأبو بَكْرِ بن أبي شَيْبَةَ وَاللَّفْظُ له، قال إِسْحَاقُ: أخبرنا زَكَرِيَّاءُ بن عُدَيٍّ، وقال أبو بَكْرٍ: ثنا زَكَرِيَّاءُ بن عُدَيٍّ عن عُبَيْدِ اللَّهِ بن عَمْرٍ والرَّقِّيِّ، عن زَيْدِ بن أبي أُنَيْسَةَ، عن عَمْرِو بن مُرَّةَ، عن عبد اللَّهِ بن الْحَارِثِ النَّجْرَانِيِّ، حدثني جُنْدُبٌ قال: سمعت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قبل أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ: "وَإِنَّ من كان قَبْلَكُمْ كانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالحِيهِمْ مَسَاجدَ، أَلا فَلا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إنِّي أَنْهَاكُمْ عن ذلك. في حَدِيثٍ طَوِيلٍ (¬2). حدثنا حمام، ثنا ابن مُفَرِّجٍ، ثنا ابن الأَعْرَابِيِّ، ثنا الدبري، ثنا عبد الرَّزَّاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْرِيِّ، أخبرني عُبَيْدُ اللَّهِ بن عبد اللَّهِ بن عُتبَةَ: أَنَّ عَائِشَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَاهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَعَلَ يُلْقِي على وَجْهِهِ طَرَفَ خَمِيصةٍ له، فإذا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عن وَجْهِهِ، وهو يقول: "لَعْنَةُ اللَّهِ على الْيَهُودِ وَالنَّصارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ". تَقُولُ عَائِشَةُ: يُحَذِّزُ مِثْلَ ما صَنَعُوا. ثم قال: من زَعَمَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أرَادَ بِذَلِكَ قُبُورَ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ كَذَبَ على ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده: (4/ 135)، وأخرجه مسلم: (2/ 668)، والحاكم في مستدركه: (243/ 3)، وابن حبان في صحيحه: (6/ 91)، وابن خزيمة في صحيحه: (2/ 7). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه: (1/ 377)، وابن حبان في صحيحه: (14/ 334)، وابن أبي شيبة في مصنفه: (2/ 150).

رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، لأنه - صلى الله عليه وسلم - عَمَّ بِالنَّهْي جَمِيعَ القبور، ثُمَّ أَكَّدَ بذَمِّهِ من فَعَلَ ذلك في قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالصالِحِينَ" اهـ (¬1). ومنهم ابن دقيق العيد؛ فإنه قال في كتابه "الإمام": حاصل ما يعل فيه بالإسناد، والإرسال، وأن الرواة اختلفوا في ذلك، قال: وإذا كان الرافع نفسه ثقة، فقد عُرِفَ مذهب الأصوليين والفقهاء في قبوله. وقال ابن الجوزي في "تحقيقه" -بعد أن استدل به لمذهبه-: إن قيل: هو مضطرب، كان الدراوردي يقول فيه تارة عن أبي سعيد، وتارة لا يذكره، ثم أجاب بأن مثل هذا لا يوجب إطراح الحديث، وكذا المزي في "أطرافه". ورواه علي بن عبد العزيز عن حجاج بن منهال عن حماد مسندًا، وكذلك رواه أبو بكر البزار عن أبي كامل الجحدري عن عبد الواحد بن زياد، وكذلك رواه أبو نعيم عن خارجة بن مصعب عن عمرو بن يحيى: ومما يرجح ما قاله هؤلاء الحفاظ ما أفتى به حبر الأمة موافقًا للخبر. فقد روى عبد الرزاق عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: "لا تصلّيَنَّ إلى حَشَّ ولا في الحمام ولا في المقبرة" (¬2). فالحديث جاء على وفق قواعد الأئمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمرسل نقول: إذا عمل به جماهير أهل العلم، وأرسله من أخذ العلم عن غير رجال المرسل الأول، أو روي مثله عن الصحابة، أو وافقة ظاهر القرآن؛ فهو حجة". والشاهد قوله: وروي مثله عن الصحابة، وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" (4/ 30). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (1/ 405 رقم: 1584).

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون حديث: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة! فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل: (فَأَينَمَا تُوَلُواْ فَثَمَّ وَجهُ الله)، [البقرة: 115] ". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعيف، وضعَّفه من الأئمة: الترمذي، والبيهقي، وابن حزم، والعقيلي، وابن القطان، وأشار إلى ضعفه الطبراني، والدارقطني". * الجواب: الحديث جاء من طرق: الحديث الأول: قال الترمذي في "جامعه" (345): ثنا محمود بن غيلان ثنا وكيع ثنا أشعث بن سعيد السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة! فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل: (فَأينَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَ وَجهُ اَللَّهِ) [البقرة: 115] ". قال الترمذي: هذا حديث حسن، ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث السمان يُضعَّفُ في الحديث". * قلت: كان هشيم يقول: أشعث السمان يكذب.

وقال أحمد بن حنبل: حديثه مضطرب ليس بذاك. وقال يحيى والنسائي وأبو زرعة: ضعيف. وفي لفظ عن يحيى: ليس بشيء، وقال الفلاس والدارقطني: متروك. وقال أبو حاتم ابن حبان: يروي عن الأئمة الأحاديث الموضوعات، خصوصًا عن هشام بن عروة. قال في "التقريب": "أشعث بن سعيد البصري أبو الربيع السمان متروك من السادسة ت ق". وأما عاصم بن عبيد الله؛ فقال يحيى بن معين: ضعيف، لا يحتج بحديثه. وقال ابن حبان: كان سيئ الحفظ، كثير الوهم، فاحش الخطأ فتُرِكَ. الثاني: قال الدارقطني في "سننه" (1/ 272): قرئ على عبد الله بن محمد ابن عبد العزيز وأنا أسمع حدثكم داود بن عمرو حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن محمد بن سالم، عن عطاء، عن جابر قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير أو سفر، فأصابنا غيم فتحيرنا، فاختلفنا في القبلة، فصلى كل رجل منا على حده، وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا، فذكرنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يأمرنا بالإعادة، وقال: "قد أجزأت صلاتكم" (¬1). قال الدارقطني: كذا قال عن محمد بن سالم، وقال غيره: عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء. وهما ضعيفان. * قلت: أما محمد بن سالم؛ فكان ابن المبارك إذا مر بحديثه يقول: اضربوا عليه. وقال أحمد: هو شبه المتروك. وقال يحيى القطان: ليس بشيء. ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 324)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 10).

وقال النسائي: متروك الحديث لا يساوي شيئًا. وأما العرزمي؛ فقال أحمد: ترك الناس حديثه. وقال يحيى: لا يُكْتَبُ حديثه. * قلت: على أنه قد حدث عنه شعبة وسفيان (¬1). الثالث: قال الطبراني في "المعجم الأوسط" (1/ 84): حدثنا أحمد بن رشدين قال: حدثنا هشام بن سلام البصري قال: حدثنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله السكوني، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن أبيه، عن معاذ بن جبل قال: "صلَّينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم غيم في سفر إلى غير القبلة، فلما قضى الصلاة وسلم تجلت الشمس، فقلنا: يا رسول الله؛ صلينا إلى غير القبلة! فقال: "قد رُفِعَتْ صلاتُكم بحقها إلى الله عز وجل". لم يرو هذا الحديث عن إبراهيم بن أبي عبلة إلا إسماعيل بن عبد الله، ولا عن إسماعيل إلا أبو داود، تفرد به هشام بن سلام". وأخرج سعيد بن منصور في "سننه" (2/ 601): وابن المنذر عن عطاء: "أن قومًا عميت عليهم القبلة، فصلى كل إنسان منهم إلى ناحية، ثم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له، فأنزل الله: (فَأَينَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَاللهُ) ". حدثنا سعيد قال: نا إسماعيل بن عياش قال: حدثني حجاج عن عطاء. وأخرج ابن مردويه -بسند ضعيف- عن ابن عباس- رضي الله عنه -: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بعث سريه فأصابتهم ضبابة، فلم يهتدوا إلى القبلة، فصلوا لغير القبلة، ثم استبان لهم بعدما طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة، فلما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه، فأنزل الله: (وَللهِ الْمَشْرِقُ وَاْلمْغربُ) الآية". من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) انظر: تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (1/ 298).

قال شيخ الإسلام: "وأيضًا: ما روي عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر في ليلة مظلمة، فلم يدر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي فنزل: (فَأَينَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجهُ اللَّهِ)، [البقرة: 115] ". رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن ليس إسناده بذلك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث يُضَعَّفُ في الحديث. * قلت: وقد رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (368) عن أشعث بن سعيد وعمر بن قيس، عن عاصم بن عبيد الله، وهو يقوى رواية أشعث، ويزيل تفرده به" (¬1). وقد روي هذا المتن من حديث جابر من حديث محمد بن سالم ومحمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء عن جابر قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير فأصابنا غيم، فتحيرنا فاختلفنا في القبلة، فصلى كل رجل منا على حدة، وجعل أحدنا يخطُّ بين يديه، لنعلم أمكنتنا، فذكرنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يأمرنا بالإعادة، وقال: "قد أجزأت صلاتكم". رواه الدارقطني (1/ 271) وغيره، وقال: هما ضعيفان. ورواه الباغندي والحسن بن علي المعمري وغيرهما عن أحمد بن عبيد الله بن الحسن العنبري قال: وجدت في كتاب أبي ثنا عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا: القبلة هاهنا قبل الشمال، فصلوا وخطوا خطًّا، وقال بعضنا: القبلة ها هنا قبل الجنوب، وخطوا خطًّا، فلما أصبحنا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فقدمنا من سفرنا، فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم- فسألناه عن ذلك، فسكت، وأنزل الله عز وجل: ¬

_ (¬1) انظر: "شرح العمدة" (4/ 545).

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] " (¬1)، وهو إسناد مقارب. وبعض هذه الطرق مما يغلب على القلب أن الحديث له أصل، وهو محفوظ، فإن المحدِّثَ إذا كان إنما يُخَافُ عليه من سوء حفظه، لا من جهة التهمة بالكذب، فإذا عضده محدث آخر، أو محدثان من جنسه؛ قويت روايته، حتى يكاد أحيانًا يعلم أنه قد حفظ ذلك الحديث، لا سيما إذا جاء به محدث آخر عن صحابي آخر، فإن تطرق سوء الحفظ في مثل ذلك إلى جماعة؛ بعيد لا يلتفت إليه، إلا أن يعارض حديثهم ما هو أصح منه. وقد روى أصحاب التفسير عن ابن عباس -رضي الله عنها - قال: "خرج نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر -وذلك قبل تحويل القبلة إلى الكعبة- فأصابهم الضباب، وحضرت الصلاة فتحروا القبلة، وصلوا، فمنهم من صلى قِبَلَ المشرق، ومنهم من صلى قِبَلَ المغرب، فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فنزلت هذه الآية" (¬2). فهذا وإن لم يكن مما يُحْتَجُّ به منفردًا؛ فإنه يشد تلك الروايات ويقويها، وقد استدل أحمد بهذه الآية، وتأولها على ذلك، قال: إذا تحرى القبلة ثم صلى، فعلم بعدما صلى أنه صلى لغير القبلة مضت، فتأول بعض قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فَأَينَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اَللَّهِ). وقال في موضع آخر في الرجل يصلي لغير القبلة: لا يعيد، (فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) وهذا دليل على أن الصحابة تأولوها على حال التحري، كما ذكرنا، ويشبه والله أعلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معهم تلك الليلة، وإنما كان قد ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (2/ 11)، والدارقطني في السنن: (1/ 271). (¬2) عزاه الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (1/ 337) لابن مردويه، وقال -بعد إيراده لطرق الحديث-: "وهذه الأسانيد فيها ضعْفٌ، ولعلَّه يشدُّ بعضُها بعضًا".

سراهم سرية، فلما أصبحوا لقوه وقد قفلوا من وجوههم ذلك، هكذا تدل عليه الروايات. فإن قيل: ففي حديث ابن عمر أن هذه الآية نزلت في صلاة التطوع في السفر! قلنا: لا منافاة بين هذين، فإن الآية الجامعة العامة تنزل في أشياء كثيرة، إما أن يراد به جميع تلك المعاني بإنزال واحد، وإما أن يتعدد الإنزال، إما بتعدد عرض النبي - صلى الله عليه وسلم- القرآن على جبريل - صلى الله عليه وسلم - أو غير ذلك، وفي كل مرة تنزل في شيء غير الأول، لصلاح لفظها لذلك كله، على أن قول الصحابة نزلت الآية في ذلك، قد لا يعنون به سبب النزول، وإنما يعنون به أنه أريد ذلك المعنى منها، وقصد بها، وهذا كثير في كلامهم (¬1). والحمد لله على توفيقه. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح العمدة" (4/ 547).

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين المشرق والمغرب قبلة". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعيف، وضعفه من الأئمة: الإمام أحمد، والنسائي، وأبو زرعة، والبيهقي". * قلت: للحديث شواهد: قال الترمذي في "جامعه" (342 - 344): حدثنا محمد بن أبي مَعْشَرٍ حدثنا أبي عن مُحَمَّدِ بن عَمْرٍو عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ". حدثنا يحيى بن مُوسَى حدثنا محمد بن أبي مَعْشَرٍ مثله. حدثنا الْحَسَنُ بن أبي بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ حدثنا الْمُعَلَّى بن مَنْصُورٍ حدثنا عبد اللَّهِ بن جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيُّ عن عُثْمَانَ بن مُحَمَّدٍ الأَخْنَسِيِّ عن سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "ما بين الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ". قال أبو عِيسَى: هذا حَدِيث حَسَن صحيح". * قلت: الأَخْنَسِيِّ وَثَّقَهُ ابن مَعِينٍ والبخاري، وتكلَّم فيه ابن حِبَّانَ، فالصوَابُ ما قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ.

ثم قال الترمذي رحمه الله: وإنَّمَا قِيلَ عبد اللَّه بن جَعْفَرٍ المخرمي، لأنَّه من وَلدِ الْمِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ، وقد رُوِيَ عن غَيْرِ وَاحِدٍ من أَصحَابِ النبي - صلى الله عليه وسلم-: "ما بين الْمَشْرقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ"، منهم عُمَرُ بن الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بن أبي طَالِبِ وابن عَبَّاسٍ، وقال ابن عُمَرَ: "إذا جَعَلْتَ الْمغْرِبَ عن يَمِينِكَ وَالْمَشْرِقَ عن يَسَارِكَ، فما بَيْنَهُمَا قِبْلةٌ إذا اسْتَقْبَلْتَ الْقِبلَةَ". وهذا يدل على ما تقدم غير مرة: أن أهل العلم يثبتون الحديث إذا كان عمل المتقدمين عليه. قال الزيلعي وابن عبد الهادي وابن حجر: "وقواه البخاري". وله شاهد من حديث ابن عمر: قال ابن مردويه: حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن، أخبرنا يعقوب بن يوسف مولى بني هاشم، أخبرنا شعيب بن أيوب، أخبرنا ابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة". وقد رواه الدارقطني (¬1) البيهقي (¬2)، وقال: المشهور عن ابن عمر عن عمر- رضي الله عنه -. * قلت: وفي إسناده العمري، فلا يعلل به المرفوع. قال الحاكم: "وشعيب بن أيوب ثقة، وقد أسنده، وقد رواه محمد بن عبد الرحمن بن مجبر عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا نحوه، ثم أخرجه كذلك. قال: ومحمد بن عبد الرحمن بن مجبر ثقة، وقد وثقه جماعة". * قلت: فتعليل أبي زرعة للحديث ليس في محله، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم الْغَائِطَ فلا يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ، ولا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ؛ شَرِّقُوا أو غرّبُوا (¬3). أخرجاه من حديث أبي أيوب. ¬

(¬1) في "سننه" (1/ 270). (¬2) في "سننه" (2/ 9). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه: (144، 386)، ومسلم: (264).

واشتهر بين الصحابة - رضي الله عنه - بلا نكير، قال ابن أبي شيبة: حدثنا وَكِيعٌ قال: نا إسْرَائيل، عن عبد الأعْلَى، عن عامر الشِّعْبِيِّ، عن أبي عبد الرحمن السُّلمِيِّ، عن عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قال: "ما بين الْمَشْرِق وَالْمَغْربِ قِبْلَةٌ". حدثنا وكيع قال: نا إسْرَائِيلُ، عن عُبد الأعْلَى، عن سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ قال: "ما بين الْمَشرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ". حدثنا ابن عُلَيَّةِّ، عن أيُّوبَ، عن نافع قال: قال عُمَرُ - رضي الله عنه -: "ما بين المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَة ما اُسْتُقْبلَت الْقِبْلَةُ". حدثنا وكيع قال: نا الْعُمَرِيُّ، عن نَافعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عن عُمَرَ رضي الله عنه قال: "ما بين الْمَشْرِقِ وَالْمَغرِبِ قِبْلَةٌ". قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح العمدة" (4/ 538).

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون قول ابن عمر: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة ليسمعناها". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "ذهب الإمام أحمد، وابن المديني، والأثرم، والعقيلي، وابن عبد البر، وابن حزم، وابن رجب، وابن القيم، والنووي: إلى أنه لا يثبت شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التسليمة الواحدة". * قلت: هذا الكلام فيه نظر بل تدليس؛ فإن من نقل عنهم المستدرِكُ، معظمهم فصلوا بين الفريضة والنافلة، والحديث جاء عن ثمانية من الصحابة، ولن أتكلم إلا على حديث واحد، فهو كافٍ في إثبات هذه السنة: قال الإمام مسلم في "صحيحه" (746): حدثنا محمد بن الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حدثنا محمد بن أبي عَدِيٍّ، عن سَعِيدٍ، عن قَتَادَةَ، عن زُرَارَةَ: أَنَّ سَعْدَ بن هِشَامِ بن عَامِرٍ أراد أن يغزو ... وفيه: "فَانْطَلَقْنَا إلى عَائِشَةَ فَاسْتَأذَنَّا عليها فَأَذِنَتْ لنا، فَدَخَلْنَا عليها فقالت: أَحَكِيمٌ؟ فَعَرَفَتْهُ، فقال: نعم. فقالت: من مَعَكَ؟ قال: سَعْدُ بن هِشَامِ، قالت: من هِشَامٌ؟ قال: ابن عَامِرٍ. فَتَرَحَّمَتْ عليه، وَقَالَتْ: خَيْرًا. قالَ قَتَادَةُ: وكان أُصِيبَ يوم أُحُدٍ، فقلت: يا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؛

أنبئيني عن خُلُق رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قلت: بَلَى، قالت: فإن خلق نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن. قال: فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ ولا أَسْأَلُ أَحَدًا عن شَيءٍ حتى أموت، ثمّ بَدَا لي فقلت: أَنْبِئِينِي عن قِيَامِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: ألست تَقرَأ (يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ)؟ قلت: بَلَى، قالت: فإن اللَّهَ عز وجل افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ في أول هذه السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصحَابُهُ حَوْلاً، وَأَمْسَكَ الله خَاتِمَتَهَا اثنَي عشر شهرًا في السَّمَاءِ حتى أَنزَلَ الله في آخِرِ هذه السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَام اللّيلِ تَطَوُّعًا بَعدَ فَرِيضةِ. قال: قلت. يا أمَّ المؤمنين أَنْبِئِينِي عن وِتْرِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: كنا نُعِدُّ له سِوَاكَة وطهوره، فيبعثه الله ما شَاءَ أن يَبعَثَهُ من اللَّيْلِ فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأ، وَيُصَلِّي تسعَ ركَعات، لا يجلس فيها إلا في الثَّامِنَةِ، فَيَذْكُر اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ، وَيَدْعُوهُ ثم ينهض ولا يسَلِّم، ثُمّ يقُوم فيصلي التَّاسِعَةَ، ثمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ، "ويدعوه، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا، يُسْمِعُنَا ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، بَعْدَ ما يُسَلِّمُ". واختُلِفَ على قتادة، قال ابن خزيمة: قال لنا بندار في حديث ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة: "ويسلم تسليمة، يسمعنا". وقال بندار: قلت ليحيى: إن الناس يقولون (تسليمة). فقال: هكذا حفظي عن سعيد، وكذا قال هارون في حديث عبدة عن سعيد: "ثم يسلم تسليمًا يسمعنا". كما قال يحيى، وقال عبد الصمد عن هشام عن قتادة في هذا الخبر: "ثم يسلم تسليمة يسمعنا". ورواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 513)، وبيَّن بما لا شك فيه أنها واحدة. قال رحمه الله: حدثنا عبد اللَّهِ حدثني أَبِي ثنا يَزِيدُ قال: ثنا بَهْزُ بن حَكِيمٍ وقال: مَرَّةً أنا قال: سمعتُ زُرَارَةَ بن أَوْفَى يقول: "سألتُ عَائِشَةُ عن صَلاةِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالليْلِ، فقالت: كان يصلي الْعِشَاءَ ثُم يصلي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُم يَنَامُ، فإذا اسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ وَضُوءُهُ مُغَطًّى وَسِوَاكُهُ اسْتَاكَ، ثُمَّ تَوَضَّأ، فَقَامَ فَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِيهِنَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وما شَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ، وقال مَرَّةً: ما شَاءَ

الله مِنَ الْقُرْآنِ، فَلا يَقْعُدُ في شيء مِنْهُنَّ إلا في الثَّامِنَةِ، فإنه يَقْعدُ فيها فَيَتَشَهَّدُ، ثُمَّ يَقُومُ وَلا يُسَلِّمُ، فَيُصَلِّي رَكْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يَجْلِسُ، فَيَتَشَهَّدُ، وَيَدْعُو، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، يَرْفَعُ بها صَوْتَهُ حتى يُوقِظَنَا". ثم رواه من وجه آخر (6/ 236): حدثنا عبد اللَّهِ حدثني أَبِي ثنا يُونُسُ قال: ثنا عِمْرَانُ بن يزِيدَ العطار، عن بَهْزِ بن حَكِيمِ، عن زُرَارَةَ بن أَوْفَى، عن سَعْدِ بن هِشَامٍ قال: قلت لأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ: كَيْفُ كانت صَلاةُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ؟ قالت: "كان يصلي الْعِشَاءَ، فذكر الحديث، ويصلي رَكْعَتَيْنِ قَائمًا، يَرْفَعُ صوْتَهُ، كَأَنَّهُ يُوقِظُنَا، بَلْ يُوقِظُنَا، ثُمَّ يَدْعُو بِدُعَاءٍ يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً ثُمَّ يَرْفَعُ بها صَوْتَهُ". قال ابن عبد الهادي: إسناده صحيح. وبهز؛ قال الذهبي في ترجمته: "بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة أبو عبد الملك عن أبيه وزرارة بن أوفى وعنه القطان ومكي، وثقه جماعة؟ قال ابن عدي: لم أر له حديثًا منكرًا" (¬1). وأما الطريق الأخرى عن عائشة - رضي الله عنه: فقد رواها الترمذي في "جامعه" (296)، عن محمد بن يحيى النيسابوري، نا عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه، يميل إلى الشق الأيمن شيئًا". ورواه ابن ماجه في "سننه" (919) عن هشام بن عمار ثنا عبد الملك بن محمد الصنعاني، ثنا زهير، فذكره إلى قوله: "تلقاء وجهه". ورواه الدارقطني في "سننه" (1/ 357) من طرق عن عمرو بن أبي سلمة ¬

_ (¬1) انظر: "الكاشف" (1/ 276).

بلفظ الترمذي، قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، قال محمد بن إسياعيل -يعني البخاري-: زهير بن محمد أهل الشام يروون عنه مناكير، ورواية أحل العراق عنه أشبه. قال: وقال أحمد بن حنبل: كأن زهير بن محمد الذي وقع عندهم ليس هو الذي يروى عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه". وقال البيهقي في "سننه" (2/ 179): هذا الحديث تفرد به زهير بن محمد، قال: وروي من وجه آخر موقوفًا على عائشة رضي الله عنها. وقال أبو حاتم فى "العلل": هذا حديث منكر؛ هو موقوف عن عائشة رضي الله عنها. وقال الدارقطني في "علله": رفع هذا الحديث عبد الملك بن محمد الصنعاني وعمرو -يعني ابن أبي سلمة- وخالفهما الوليد بن مسلم فوقفه على عائشة عن زهير. قال الوليد لزهير: هل بلغك في هذا شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: نعم، أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم تسليمة". وصوَّب الدارقطني رواية الوقف، وقال في موضع آخر منها: إنه الصحيح، ووهَّم رواية الرفع. وقال البزار بعد أن ذكره مرفوعًا: هذا رواه غير واحد موقوفًا، ولا نعلم أسنده إلا عمرو عن زهير. وقال ابن عبد البر (¬1): لم يرفعه غير زهير عن هشام بن عروة، وهو ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يُحْتَجُّ به. ونقل عبد الحق في "الأحكام" عن ابن عبد البر أنه قال: لا يصح مرفوعًا، وأقره على ذلك. ورأيته كذلك في "التمهيد"، فإنه قال: وأما حديث عائشة "أنه كان لا يسلم إلا تسليمة واحدة"، فلم يرفعه إلا زهير بن محمد وحده عن هشام عن أبيه عن عائشة مرفوعًا، رواه عنه عمرو بن أبي سلمة، وزهير بن محمد ¬

_ (¬1) في "التمهيد" (16/ 189).

ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يحتج به، وذكر ليحيى بن سعيد هذا الحديث، فقال: عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان لا حجة فيهما. وحاصل قول من ضعَّفه: الطعن في زهير بن محمد وانفراده به، وزهير من رجال الصحيحين، والسنن الأربعة، وقال أحمد فيه: إنه مستقيم الحديث، وفي رواية عنه لا بأس به، وفي رواية عنه: إنه ثقة. وقال علي بن المديني: لا بأس به. واختلف قول يحيى بن معين فيه، فمرة قال: لا بأس به، ومرة قال: ثقة، ومرة قال: ليس به بأس، وعند عمرو بن أبي سلمة عنه مناكير، ومرة قال: ضعيف. وقال العجلي: جائز الحديث. وقال الحاكم في " تاريخ نيسابور" -بعد أن نقل الرواية الأولى عن أحمد- قال: صالح بن محمد ثقة صدوق. وقال موسى بن هارون: أرجو أنه صدوق. وقال الدارمي: ثقة له أغاليط كثيرة. وقال أبو حاتم الرازي: محله الصدق، وفي حفظه سوء، وحديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق لسوء حفظه، وما حدث من حفظه فهو أغاليط. قال ابن عدي: لعل أهل الشام حيث رووا عنه أخطأوا عليه، فإنه إذا حدَّث عنه أهل العراق فرواياتهم عنه شبيهة بالمستقيمة، وأرجو أنه لا بأس به (¬1). وقال النسائي: ليس بالقوي. وذكره ابن حبان في "ثقاته"، وقال: إنه يخطئ ويخالف. فهذه أقوال من وثقه وضعفه، والأكثر على توثيقه، قال ابن القطان في علله: "في كلام أبي عمر حمل على زهير وعمرو بن أبي سلمة، وذلك فوق ما يستحقان، وليس كذلك عند أهل العلم بهما". ¬

_ (¬1) انظر: "البدر المنير" (3/ 65).

وأما دعوى تفرده به؛ فليس كذلك، فقد تابعه عاصم بن سليمان الأحول، رواه بقي بن مخلد في "مصنفه" من طريقه نا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به. وعاصم من رجال الصحيحين والسنن الأربعة، قال الإمام أحمد فيه: ثقة من الحفاظ. وتابعه زُرَارَةَ بن أَوْفَى عن سَعْدِ بن هِشَامٍ، كما تقدم في مسلم، ومسند أحمد. فظهر بهذا ضعف قول البيهقي: تفرد به زهير بن محمد. وقول أبي عمر ابن عبد البر: لم يرفعه غير زهير عن هشام. وأما قول الحافظ أبي بكر البزار: لا نعلم أسنده إلا عمرو عن زهير. فليس بجيد أيضاً، فقد أسنده عبد الملك بن محمد الصنعاني عنه -كما سلف من رواية ابن ماجه وغيره-. وأما قول الدارقطني: إن عمرو بن أبي سلمة وعبد الملك الصنعاني رفعاه، وخالفهما الوليد بن مسلم فوقفه على عائشة. فجوابه من وجهين: أحدهما: أنه قد توارد على رفعه ثلاثة هذان الإمامان، وعاصم بن سليمان، وتابعهم زرارة بن أوفى، فيكون الأكثر على رفعه، وانفرد بوقفه الوليد بن مسلم. ثانيهما: أنه يحمل على أن عائشة - رضي الله عنها-روته مرفوعًا، وأفتت به، فنقل المجموع عنها، وهذا لا غرابة فيه، بل هو الأصل. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (2442): عن الحسن بن سفيان نا ابن أبي السري نا عمرو بن أبي سلمة عن زهير بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم تسليمة واحدة عن يمينه يميل بها وجهه إلى القبلة".

قال البيهقي في "المعرفة": "وروينا تسليمة واحدة عن علي وابن عمر وابن عباس وجابر وأنس وواثلة بن الأسقع وأبي أمامة ابن سهل بن حنيف" (¬1). فلا يُظَنُّ بالصحابة رضوان الله عليهم أن يتواطأوا على هذا من غير أن يأخذوه من نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، كيف وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي؟!. فرحم الله الإمام المجدد فقد برع، حتى أدرك ما فات غيره من علماء هذا الفن، وكان كثيرًا ما يقول: كم ترك الأول للآخر. تتبيه: قال الإمام مسلم رحمه الله (581): حدثنا زُهَيْرُ بن حَرْبٍ حدثنا يحيى بن سَعِيدٍ عن شعْبَةَ عن الْحَكَمِ وَمَنْصُورٍ عن مُجَاهِدٍ عن أبي مَعْمَرٍ: "أَنَّ أميرًا كان بِمَكَّةَ يُسَلِّمُ تَسلِيمَتَيْنِ، فقال عبد اللهِ: أَنَّى عَلِقَهَا؟ قال الْحَكَمُ في حَدِيثِهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يَفْعَلُهُ". أي: من أين حصل على هذه السنة، وظفر بها؟ وهذا يدل على صحة ما ذهب إليه الشيخ رحمه الله، وأن جواز هذا الأمر مستقر عند الصحابة رضوان الله عليهم، وأن التسليمتين من السنن التي هجرت، أو كادت، ونظيره: ما رواه البخاري عن عكرمة قال: "صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبيرَة، فقلت لابن عَبَّاسٍ: إنه أَحْمَقُ! فقال: ثَكِلَتكَ أُمُّكَ! سُنَّة أبي القَاسَمِ - صلى الله عليه وسلم" (¬2). ثم وقفت على تقوية الإمام أحمد للحديث؛ قال الحافظ في "التخليص الحبير" (2/ 16): "وحديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يفصل بين الوتر والشفع بتسليمة ويسمعناها" (¬3)، رواه أحمد وابن حبان، وابن السكن ¬

_ (¬1) انظر: "معرفة السنن والآثار" (3/ 173). (¬2) أخرجه البخاري (788). (¬3) أخرجه أحمد في مسنده: (2/ 76).

في صحيحهما، والطبراني، من حديث إبراهيم الصائغ عن نافع عن ابن عمر به، وقواه أحمد. انتهى". وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكان كلا الفعلين مشهورًا بينهم، كانوا يصلُّون على الجنازة بقراءة، وغير قراءة، كما كانوا يصلون تارة بالجهر بالبسملة، وتارة بغير جهر بها، وتارة باستفتاح وتارة بغير استفتاح، وتارة برفع اليدين في المواطن الثلاثة، وتارة بغير رفع اليدين، وتارة يسلِّمون تسليمتين، وتارة تسليمة واحدة، وتارة يقرؤون خلف الإمام بالسر، وتارة لا يقرؤون، وتارة يكبرون على الجنازة أربعًا، وتارة خمسًا وتارة سبعًا، كان فيهم من يفعل هذا، وفيهم من يفعل هذا، كل هذا ثابت عن الصحابة" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" (24/ 197).

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون ذكر حديث أبي موسى - رضي الله عنه -، وفيه: "وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد". ثم ذكر لفظه بطوله، وذكر زيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: حديث أبي موسى صحيح، فقد رواه مسلم -كما سبق- إنما الكلام حول زيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا"، فهي ضعيفة، ضعَّفها جمهور الحفاظ منهم: أبو داود، والبخاري، وأبو حاتم، وابن معين، والحاكم، والدارقطني، وغيرهم نحو عشرة من الحفاظ، كلهم يرى خطأ هذه الزيادة وأنها ليست بمحفوظة" اهـ. * قلت: هذه الزيادة صححها الإمام أحمد، ومسلم، وابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، ونقل الإمام أحمد الإجماع على أن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] نزلت في الصلاة. فلا نطيل الجواب عليه.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون حديث: "لكل سهو سجدتان بعدما يُسَلِّم". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعيف، ولا يتقوَّى بطُرُقِهِ، وضعَّفه من الأئمة: أبو بكر الأثرم، والبيهقي، وابن الجوزي، وعبد الحق في "الأحكام الوسطى"، والعراقي، وابن حجر في "البلوغ". * قلت: قال الإمام أبو داود الجستاني رحمه الله في "السنن" (1038): حدثنا عَمْرُو بن عُثْمَانَ وَالرَّبِيعُ بن نَافِعٍ وَعُثْمَانُ بن أبي شَيْبَةَ وَشُجَاعُ بن مَخْلَدٍ بِمَعْنَى الإسناد، أَنَّ ابن عَيَّاشٍ حَدَّثَهُمْ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بن عُبَيْدٍ الْكَلاعِيِّ، عن زُهَيْرٍ -يَعْنِي بن سَالِمٍ الْعَنْسِيَّ- عن عبد الرحمن بن جُبَيْرِ بن نُفَيْرٍ، قال عَمْرٌو وَحْدَهُ: عن أبيه، عن ثَوْبَانَ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَان بَعْدَما يُسَلِّمُ". لم يذكر عن أبيه غَيْرُ عَمْرٍو". قال البيهقي في "المعرفة" (¬1): "وهذا حديث ينفردُ به إسماعيل بن عياش، وليس بالتقوي". ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (2/ 171).

قال الذهبي: "إسماعيل بن عياش أبو عتبة العنسي، عالم الشاميين، عن شرحبيل بن مسلم ومحمد بن زياد الألهاني وأمم، وعنه علي بن حجر وهناد وابن عرفة. قال يزيد بن هارون: ما رأيت أحفظ منه. وقال دحيم: هو في الشاميين غاية، وخلط عن المدنيين. وقال البخاري: إذا حدَّث عن أهل حمص فصحيح. وقال أبو حاتم: لين. مات في ربيع الأول 181، 4" (¬1). والكلاعي: شامي ثقة. قال الذهبي: "عبيد الله بن عبيد أبو وهب الكلاعي الدمشقي، عن مكحول وطبقته، وعنه الأوزاعي ويحيى بن حمزة وجماعة، وثقَّه دُحيم، مات بعد 13، د ق" (¬2). وقال في "التقريب": صدوق. وزهير، قال عنه الذهبي: ثقة. ووثَّقه ابن حبان. ويشهد له: "ما جاء عن ابن مسعود بلفظ: "وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين" (¬3). متفق عليه، واللفظ للبخاري، وفي لفظ لمسلم: "سجد سجدتين بعد السلام والكلام"، ولأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن جعفر: "من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم" (¬4)، وصححه ابن خزيمة" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الكاشف" (1/ 248). (¬2) انظر: "الكاشف" (1/ 684). (¬3) خرجه البخاري: (401)، ومسلم: (572). (¬4) أخرجه النسائي في السنن الكبرى: (1/ 207) وفي "المجتبى" (3/ 30)، وأبو داود في السنن: (1033)، وابن خزيمة في صحيحه: (2/ 109)، وانظر الأحاديث المختارة: (9/ 184). (¬5) انظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية: (1/ 207).

فقول المستدرك: "ولا أدري كيف اعتُبر شاهدًا لحديث ثوبان؟ ففي حديث ثوبان: "لكل سهو ... "، وهذا التعميم ليس في حديث ابن مسعود، وأيضًا في حديث ثوبان أنه بعد السلام، وفي حديث ابن مسعود تخصيص السجود بعد السلام بحالة: "إذا شك ... "، وبين التخصيص الذي في حديث ابن مسعود، والتعميم الذي في حديث ثوبان ما يمنع تمامًا من اعتباره شاهدًا له، والله أعلم" اهـ. أقول: فإن قوله: "إذا شك أحدكم في صلاته"، بمعنى: إذا سهى، وسواء كان السهو عن زيادة أو نقصان، بدليل: أن محل السجود للشك قبل السلام، كما روى الإمام مسلم، عن أبي سعيد مرفوعًا: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلَّى؛ فَلْيَبْنِ على اليقين، حتى إذا استيقنَ أن قد أتمَّ؛ فيسجد سجدتين قبل أن يُسَلِّمَ، فإنه إن كانت صلاته وترًا شفعها، وإن كانت شفعًا كانتا ترغيمًا للشيطان " (¬1). وعليه فإن المراد بحديث ثوبان: سجدتا السهو تجزئان من كل زيادة ونقصان. انتهى (¬2). وفي رواية لمسلم: قال: فَقُلْنَا: "يا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَحَدَثَ في الصَّلاةِ شَيءٌ؟! فقال: لا. قال: فَقُلْنَا له الذي صَنَعَ، فقال: إذا زَادَ الرَّجُلُ أو نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، قال: ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: (571). (¬2) انظر: "فتح الباري": (3/ 102). (¬3) أخرجه مسلم: (1/ 403)، وأبو عوانة في مسنده: (1/ 520)، والطبراني في المعجم الكبير: (10/ 27).

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون حديث عائشة وأبي سعيد قالا: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استفتح الصلاة قال ذلك". يقصد قوله: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث لا يصح مرفوعًا، فحديث عائشة أعلَّه أبو داود، وأحمد، وحديث أبي سعيد ضعَّفه أحمد، وحديث أنس قال عنه أبو حاتم: "هذا حديث كذب لا أصل له". وقد ذكر جميع ذلك الشيخ الألباني، لكنه لم يرتَضِهِ، وسأبين -إن شاء الله- أن قول الأئمة هو الصحيح، وأن هذا الحديث إنما صح موقوفًا عن عمر في مسلم وغيره" اهـ. * قلت: لسنا في حاجة للرد على هذا الكلام، فإن الحديث اشتهر عند المسلمين؛ بل ربما أكثرهم لا يعرف غيره، فهو مما تلقَّتْهُ الأُمَّةُ بالقَبول. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأيضًا؛ فقد كان عمر -رضي الله عنه - يجهر بسبحانك اللهم وبحمدك، يعلمها الناس، ولولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقولها في الفريضة، ما

فعل ذلك عمر، وأقره المسلمون" (¬1). وبهذا يظهر لك ضعف قول ابن خزيمة رحمه الله: "وهذا صحيح عن عمر بن الخطاب أنه كان يستفتح الصلاة مثل حديث حارثة، لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولست أكره الافتتاح بقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) على ما ثبت عن الفاروق -رضي الله عنه -، أنه كان يستفتح الصلاة، غير أن الافتتاح بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خبر علي بن أبي طالب وأبي هريرة وغيرهما بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه - صلى الله عليه وسلم -، أحب إليَّ وأولى بالاستعمال، إذ اتباع سُنَّةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل وخير من غيرها" (¬2). فإنه رحمه الله لم يسق كافة طرق الحديث، ولم يفطن إلى ما فطن له شيخ الإسلام من أن الفاروق لم يكن ليجهر بها في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمها الناس، ويقره الصحابة لو لم يعلموا أنها سنة، وهكذا فعل ابن عباس حين جهر بالفاتحة في صلاة الجنازة، وقال: "لتعلموا أنها سنة". وإذا أردتَ أن تعلم أنه لا يمكن خروجه إلا من مشكاة النبوة؛ فانظر إلى شرحه في "مجموع الفتاوى": ج 22/ ص 384، و"زاد المعاد" ج 1/ ص 205. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأهل العلم المأثور عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس قيامًا بهذه الأصول، لا تأخذ أحدهم في الله لومة لائم، ولا يصدهم عن سبيل الله العظائم، بل يتكلم أحدهم بالحق الذي عليه ويتكلم في أحب الناس إليه، عملًا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} [النساء: 135] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] ولهم من التعديل والتجريح، والتضعيف والتصحيح، من ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" (22/ 344). (¬2) انظر: "صحيح ابن خزيمة" (1/ 238 - 239).

السعي المشكور والعمل المبرور، ما كان من أسباب حفظ الدين وصيانته عن إحداث المفترين، وهم في ذلك على درجات منهم المقتصر على مجرد النقل والرواية، ومنهم أهل المعرفة بالحديث والدراية، ومنهم أهل الفقه فيه والمعرفة بمعانيه" (¬1). وقد رواه مرفوعًا أربعة من الصحابة: أبو سعيد، وجابر، وأنس، وعائشة رضوان الله عليهم. قال ابن القيم رحمه الله: "وأحمد لم يضعِّف أحاديث الافتتاح، ولا أسقط وجوبه من أجل ضعفها ولا من أجل ترك ابن مسعود له، وإنما لم يوجبه لعدم الأمر به، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن". ولم يأمره بالاستفتاح" (¬2)، والله الموفق. ومصداق هذا الاستفتاح في القرآن، قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48]. فقدله تعالى: (حينَ تقومُ) أي: للصلاة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" (1/ 10). (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 602).

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول قبل القراءة: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذه الأحاديث لا يقوِّي بعضها بعضًا، وضعَّف بعضها أحمد، وبعضها البخاري، بل يُفْهَمُ من كلام ابن رجب تضعيف أحمد لها كلها بشواهدها". * الجواب: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله "قَوْلُهُ: وَرُوِيَ عن غَيْرِ جُبَيْرِ بن مُطْعَمٍ: "أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَتَعَوَّذُ قبل الْقِرَاءَةِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَصحَابُ السُّنَنِ، وَالْحَاكِمُ، من حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال: "كان رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قام إلَى الصَّلاةِ بِاللَّيْلِ كَبَّرَ، ثُمَّ يقول: سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلا إلَهَ غَيْرُكَ. ثُمَّ يقول: لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، ثَلاثًا، ثُمَّ يقول اللَّهُ أَكْبَرُ، ثَلاثًا، ثُمَّ يقول: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ من الشَّيْطَان الرَّجِيمِ من هَمْزِهِ وَنَفَخِهِ وَنَفْثِهِ" (¬1)، قال التِّرْمِذِيُّ: "حَدِيثُ أبي سَعِيدٍ أَشْهَرُ حَدِيثٍ في الْبَابِ، وقد تُكُلِّمَ في إسناده، وقال أَحْمَدُ: لا يَصحُّ هذا الْحَدِيثُ". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 50) وأبو داود (775) والترمذي (242) وابن ماجه (807) وغيرهم.

وقال ابن خزيمة (¬1): "لا نَعْلَمُ في الافْتِتَاحِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ خَبَرًا ثَابِتًا عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، وَأَحْسَنُ أَسَانِيدِهِ حَدِيثُ أبي سَعِيد". ثُمَّ قال: "لا نَعْلَمُ أَحَدًا وَلا سَمِعْنَا بِهِ اسْتَعْمَلَ هذا الحديث على وَجْهِهِ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ من حديث أبي أُمَامَةَ نَحْوَهُ، وَفِيهِ: "أَعُوذُ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَان الرَّجِيمِ"، وفي إسْنَادِهِ من لم يُسَمَّ. وَرَوَى ابن ماجه وابن خُزَيْمَةَ من حديث ابن مَسْعُودٍ أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللَّهُمَّ إنّي أَعُوذُ بِكَ من الشَّيْطَان الرَّجِيمِ من هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ"، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ: "كان إذَا دخل في الصَّلاةِ"، وَعَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِيهِ الْحُسَيْنُ بن عَلِيِّ بن الأَسْوَدِ فيه مَقَالٌ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا ابن أبي حَاتِمٍ في "الْعِلَلِ" عن أبيه، وَضَعَّفَهَا" (¬2). وقد صحح الحديث: الإمام أحمد، وقرينه إسحاق بن راهويه. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وعن أحمد من رواية عبد الله: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم"، لحديث أبي سعيد وهو مذهب الحسن وابن سيرين، ويدل عليه ما رواه أبو داود في قصة الإفك: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس وكشف عن وجهه، وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم". وقال إسحاق: الذي أختاره ما ذُكِرَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" (¬3). وقال أيضًا: "روى حنبل عنه: إذا أراد أن يبتدئ الصلاة يكبر، ثم يستفتح استفتاح عمر، ثم يتعوَّذ: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم" (¬4). ¬

_ (¬1) في "صحيحه" (1/ 238). (¬2) انظر: "التلخيص الحبير" (1/ 229). (¬3) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 95). (¬4) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 602).

وبهذا يظهر لك ما تقدم نقله عن شيخ الإسلام. "وأما قول أبي حاتم: يُكْتَبُ حديثُه، ولا يحتج به. فأبو حاتم يقول مثل هذا في كثير من رجال الصحيحين، وذلك أن شرطه في التعديل صعب، والحجة في اصطلاحه ليس هو الحجة في جمهور أهل العلم. ثم إن ما جاء في الحديث من ألفاظ مأخوذة من القرآن العزيز، وهكذا كافة الأذكار النبوية ألفاظها مأخوذة من القرآن، بل ما تكلم - صلى الله عليه وسلم - بكلمة بلغها الناس، أو فعلها على وجه التعبد إلا مصداقها في كتاب الله، علِمَهَا من عَلِمَهَا وجهِلَها من جَهِلَها، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 36]، وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)} [المؤمنون: 97]، وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98] والله ولي التوفيق.

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون حديث مالك بن الحويرث: "كان إذا صلى كبر ورفع يديه، وحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع هكذا"، وهو متفق عليه. وفيه زيادة في غير "الصحيحين": " ... وإذا رفع رأسه من السجود فعل مثل ذلك". أي رفع اليدين، والمقصود بالبحث هذه الزيادة. ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذه الزيادة شاذة لا تصح، ... وقد أشار إلى تعليلها الإمام أحمد". * الجواب: قال الإمام النسائي: رحمه الله في "السنن الكبرى" (1: 228): أخبرنا محمد بن المثنى قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن نصر بن عاصم، عن مالك بن الحويرث: "أنه رأى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه في صلاته إذا ركع وإذا رفع رأسه من ركوعه وإذا سجد وإذا رفع رأسه من سجوده حتى يحاذي بهما فروع أذنيه"، وساقه مسلم (391) أيضًا وذكر طرفًا منه. وتابع سعيدًا: همام عند أبي عوانة، قال: حدثنا الصائغ بمكة قال: ثنا عفان قال: ثنا همام قال أنبأ قتادة بإسناده: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حيال إذنيه في الركوع والسجود" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عوانة في "مسنده" (1/ 427).

وبهذا يتبين خطأ المُسْتَدْرِكِ حين قال: "والخلاصة: أن هذه الزيادة جاءت من طريق سعيد بن أبي عروبة فقط، مخالفًا خمسة من الرواة، على أنه اختُلِفَ على سعيد أيضًا، فهذا يبين شذوذ هذه الزيادة، وهذا واضح جدًّا من استعراض الطرق السابقة". وقوله: "هذه الزيادة التي في طريق قتادة عن نصر بن عاصم ليست إلا في طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة". * قلت: فقد رواها النسائي من طريق شعبة عن قتادة: أخبرنا محمد بن الْمُثَنَّى قال: حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن شُعْبَةَ، عن قَتَادَةَ، عن نَصْرِ بن عَاصمِ، عن مَالِكِ بن الْحُوَيْرِثِ: "أَنَّهُ رَأَى النبي - صلى الله عليه وسلم - رَفَعَ يَدَيْهِ في صَلاتِهِ، وإذا ركع ذا رَفَعَ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ، وإذا سَجَدَ وإذا رَفَعَ رَأْسَهُ من السُّجُودِ حتى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْه". وهكذأ خطأه في قوله: "ومما يدلُّ على أن هذا الحديث لا يثبت مرفوعًا (يعني شاهده عن أنس) أن أصحاب حميد -وهم كثيرون جدًّا ذكرهم المزي- لم يتابع أحد منهم عبد الوهاب على هذا الحديث، فهذا مما يؤيد صحة ما ذهب إليه الأئمة"! * قلت: وهذا استعجال وخطأ من المستدرك؛ فقد تابعه يزيد بن هارون، قال الضياء في "المختارة": "وأخبرنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الجبار الأصبهاني بها أن زاهر بن طاهر الشحامي أخبرهم، أبنا سعيد بن محمد بن أحمد البحيري، أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عقيل، ثنا أبو بكر عبد الرحمن بن محمد بن علويه القاضي، ثنا إسماعيل بن أحمد بن أسد والي خراسان، ثنا أبي، عن يزيد بن هارون، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه إذا كبر، وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع". قال الدارقطني في "سننه" (1/ 292): "يرويه عبد الوهاب الثقفي عن حميد عن أنس، وغيره يرويه عن حميد موقوفًا، وهو المحفوظ".

* قلت: فرواية يزيد بن هارون مما يقوّي رواية عبد الوهاب، والله أعلم. * قلت: إنما يريد الدارقطني تفرد الثقفي بذكر الرفع في السجود، وهذا ما لم يفهمه المستدرِك. وله شواهد أيضًا من حديث ابن عباس، ووائل بن حجر، وابن الزبير رضي الله عنهم. فقد روى أبو داود في "سننه" (723) من طريق عبد الْوَارِثِ بن سَعِيدٍ قال: ثنا محمد بن جُحَادَةَ، حدثني عبد الْجَبَّارِ بن وَائِلِ بن حُجْرٍ قال: كنت غُلامًا لا أَعقِلُ صَلاةَ أبي، قال: فَحَدَّثَنِي وَائِلُ بن عَلْقَمَةَ، عن أبي وَائِلِ بن حُجْر قال: "صَلَّيْت مع رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ إذا كبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ، قال: ثمَّ الْتَحَفَ ثُمَّ أَخَذَ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ، وَأَدْخَلَ يَدَيْهِ في ثَوْبِهِ، قال: فإذا أَرَادَ أَنْ يَرْكعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ ثمَّ رَفَعهُمَا، وإذا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ من الرُّكوعِ رَفَعَ يَدَيْهِ ثمَّ سَجَدَ وَوَضَعَ وَجْهَهُ بين كَفَّيْهِ، وإذا رَفَعَ رَأْسَهُ من السُّجودِ أَيْضًا رَفَعَ يَدَيْهِ حتى فَرَغ من صَلاتِه". قال مُحَمَّد: فَذَكَرْتُ ذلك لِلْحَسَنِ بن أبي الْحَسَنِ فقال: هِيَ صَلاةُ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَعَلَهُ من فَعَلَهُ، وَتَرَكَهُ من تَرَكَهُ". وقال النسائي في "السنن الكبرى": (1/ 245): أخبرنا موسى بن عبد الله ابن موسى البصري، حدثني النضر بن كثير أبو سهل الأزدي قال: "صلى إلى جنبي عبد الله بن طاوس بمنى في مسجد الخيف، وكان إذا سجد السجدة الأولى فرفع رأسه منها رفع يديه تلقاء وجهه، فأنكرت أنا ذلك. فقلت لوهيب بن خالد: إن هذا يصنع شيئًا لم أر أحدًا يصنعه! فقال له وهيب: تصنع شيئًا لم أر أحدًا يصنعه! فقال عبد الله بن طاوس: رأيت أبي يصنعه، وقال أبي: رأيت ابن عباس يصنعه، وقال ابن عباس: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنعه". وفي إسناده النضر بن كثير السعدي أبو سهل البصري العابد، ضعيف من الثامنة د س. قاله الحافظ في "التقريب". وروى أبو داود رحمه الله من طريق ابن لَهِيعَةَ عن أبي هُبَيْرَةَ عن مَيْمُونٍ الْمَكِّيِّ

أَنَّهُ: "رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، وَصَلَّى بِهِمْ يُشِيرُ بِكَفَّيْهِ حين يَقُومُ، وَحِينَ يَرْكَعُ، وَحِينَ يَسْجُدُ، وَحِينَ يَنْهَضُ لِلْقِيَامِ، فَيَقُومُ فَيُشِيرُ بِيَدَيْهِ، فَانْطَلَقْتُ إلى ابن عَبَّاسٍ فقلت: إني رأيت ابن الزُّبَيْرِ صلى صَلاةً لم أَرَ أَحَدًا يُصَلِّيهَا، فَوَصَفْتُ له هذه الإِشَارَةَ، فقال: إن أَحْبَبْتَ أَنْ تَنْظُرَ إلى صَلاةِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاقْتَدِ بصَلاةِ عبد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ" (¬1). بل رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (15/ 46): عن ابن عمر، قال الطحاوي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه - "أنه كان يرفع يديه في كل خفض ورفع، وركوع وسجود، وقيام وقعود بين السجدتين، ويزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك". ثم قال: "وقد روي هذا الحديث عن نافع بخلاف ما رواه عنه عبيد الله. وذكر ما قد حدثنا يحيى بن عثمان، حدثنا عبد الغفار بن داود، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك". قال: فقد وافق ما رواه مالك وسفيان عن الزهري، وخالف ما رواه عبيد الله عنه. فكان جوابنا له في ذلك: أن أيوب ما روى شيئًا عن نافع مما رواه عنه فيه غير أيوب بخلاف ما رواه عبيد الله، ومما يحقق ما رواه عبيد الله عنه في ذلك أفعاله التي كان عليها في صلاته، كما حدثنا أحمد بن داود بن موسى حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، قال: "رأيتُ طاوسًا ونافعًا يرفعان أيديهما بين السجدتين" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند: (1/ 289)، وأبو داود في سننه: (739). (¬2) انظر: "مشكل الآثار" (15/ 49).

* قلت: وقد ثبت من فعل ابن عمر - رضي الله عنه -، رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 243) قال: حدثنا أبو بكر قال: نا أبو أُسَامَةَ، عن عُبَيْدِ اللهِ، عن نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ: "أَنَّهُ كان يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ من السَّجْدَةِ الأولَى". وقال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا وَكِيعٌ، عن حَمَّادِ بن سَلَمَةَ، عن يحيى بن أبي إِسْحَاقَ، عن أَنَسٍ: "أَنَّهُ كان يَرْفَعُ يَدَيْهِ بين السَّجْدَتَيْنِ". وقال: حدثنا أبو بكر قال: نا يَزِيدُ بن هَارُونَ، عن أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ وابن سيرِينَ: "أَنَّهُمَا كَانَا يَرْفَعَان أَيْدِيَهُمَا بين السَّجْدَتَيْنِ". وقال: حدثنا أبو بكر قال: نا ابن عُلَيَّةَ، عن أَيُّوبَ قال: "رَأَيْته يَفْعَلُهُ". فإن قيل: فما توجيه قول ابن عمر: "وكان لا يفعل ذلك في السجود"؟ فالجواب: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يواظب عليه، وقد نقل المستدرِكُ عن ابن رجب نحو ذلك، فقال: "فهذا يدل على أن أكثر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ترك الرفع، فيما عدا المواضع الثلاثة والقيام من الركعتين" (¬1). ثم وجدتُ من كلام الإمام أحمد ما يدل على ثبوت حديث وائل - رضي الله عنه، فقد قال ابنه صالح: "قال أبي: يرفع يديه عند الافتتاح، وقبل الركوع وبعد الركوع، وفي بعض ما روي عن وائل بن حجر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا كبر، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا أراد أن يسجد رفع يديه" (¬2). وهذا مما يبين جلالة قدر الشيخ ناصر في حفظ سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله ولي التوفيق. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري " لابن رجب الحنبلي (6/ 354). (¬2) انظر: مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح: (2/ 129).

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون حديث وائل بن حجر، وفيه: "ثم وضع اليمنى على اليسرى على صدره" ... وفيه زيادة على أصله وهو في مسلم: "فرأيته يحركها يدعو بها". قال المستدرِكُ: "هذه الزيادة شاذة ضعيفة، تفرَّد بها زائدة بن قدامة من بين أصحاب عاصم ابن كليب، وهم أربعة عشر راويًا متهم أئمة كالسفيانين وغيرهما". * قلت: هو كما قال، وانظر الحديث الحادي والأربعين. ولم أجد له ما يشهد له في السُّنة والأثر، والله أعلم.

الحديث الحادى والأربعون

الحديث الحادى والأربعون حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذا الحديث في مسلم، ولا إشكال في صحته، لكن له زيادة ذكرها الشيخ الألباني: فقد زاد النسائي والبيهقي بعد قوله: "الإبهام": "في القبلة ورمى بصره إليها أو نحوها" اهـ. قال المستدرِكُ: "هذه الزيادة زيادة شاذة، ولا تثبت". * الجواب: قال ابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 355) بعد قوله: باب النظر إلى السبابة عند الإشارة بها في التشهد: "أنا أبو طاهر نا أبو بكر نا علي بن حجر نا إسماعيل -يعني بن جعفر- نا مسلم بن أبي مريم، عن علي بن عبد الرحمن المعاوي، عن عبد الله بن عمر: "أنه رأى رجلاً يحرِّكُ الحصا بيده وهو في الصلاة، فلما انصرف قال له عبد الله: لا تحرك الحصا وأنت في الصلاة، فإن ذلك من الشيطان، ولكن اصنع كلما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع. قال: فوضح يده اليمنى على فخذه، وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام إلى القبلة، ورمى ببصره إليها أو نحوها، ثم قال: هكذا رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع".

وأخرجه أبو داود (824) والنسائي ولم يذكر أحدهم تعليلاً لهذه الزيادة، بل بوَّب النسائي وغيره: "موضع البصر في التشهد"، وبوَّب البيهقي: "باب السنة في أن لا يجاوز بصره إشارته". وله شاهد من حديث ابن الزبير، رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 3): حدثنا عبد اللَّهِ حدثني أبي، ثنا يحيى بن سَعِيدٍ، عَنِ ابن عَجْلانَ قال: حدثني عَامِرُ بن عبد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، عن أبيه قال: "كان رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا جَلَسَ في التَّشَهُّدِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى على فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَيَدَهُ الْيُسْرَى على فَخِذهِ الْيُسْرَى، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ، ولم يُجَاوِزْ بَصَرُهُ إِشَارَتَهُ". ولم يشر المستدرك لهذا الشاهد من قريب ولا بعيد، بل لم يذكر أحدًا من أهل العلم علَّل الزيادة، بل تفرد هو بإعلالها، وهذا مناقض لقاعدته! وعلى كل حال؛ فإسماعيل بن جعفر ثقة، وتوهيم الثقاة بمجرد التفرُّد منهج حادث، سببه القصور في دراسة الحديث ومعرفة أقوال أهل العلم فيه.

الحديث الرابع والأربعون

الحديث الرابع والأربعون حديث جابر -وصوابه سمرة كما نبه إليه الشيخ-: "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نردَّ على الإمام، وأن يسلِّمَ بعضُنا عل بعضٍ". ـــــــــــــــــــــــــ الاستدراك: "الحديث صحيح، وأحاديث الحسن عن سمرة صحيحة إذا صح الإسناد إلى الحسن .... ". * قلت: قال أبو داود في "سننه" (1001): حدثنا محمد بن عُثْمَانَ أبو الْجَمَاهِرِ ثنا سَعِيدُ بن بَشِيرٍ، عن قَتادَةَ، عن الْحَسَنِ، عن سَمُرَةَ قال: "أَمَرَنَا النبي -صلى الله عليه وسلم- أنْ نَرُدَّ على الإِمَامِ وَأَنْ نتَحَابَّ وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا على بَعْضٍ". ورواه ابن ماجه (922): عن عبدة بن عبد الله، نا أبو القاسم، نا همام، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب قال: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن نسلم على أئمتنا، وأن يسلِّمَ بعضنا على بعض". وحدثنا هشام بن عمار نا إسماعيل بن عياش نا أبو بكر الهذلي، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة مرفوعًا: "إذأ سلم الإمام فردوا عليه". قال ابن ماجه: "قال عبد الله بن سليمان: وتفسير ذلك: إذا سلم الإمام أن يقول مَنْ خلفه قبل أن يسكت: وعليكم ورحمة الله".

وسعيد بن بشير، قال عثمان عن ابن معين: ضعيف. وقال عباس الدوري عنه: ليس بشيء. وقال الفلاس: نا عنه ابن مهدي، ثم تركه. قال ابن القطان: وإنما تركه لفحش خطئه، ونكارة بعض حديثه. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن نمير: منكر الحديث ليس بشيء، ليس بالقوي في الحديث، يروي عن قتادة المنكرات. وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ، فاحش الخطأ، يروي عن قتادة ما لا يُتَابَعُ عليه، وعن عمرو بن دينار ما لا يُعْرَفُ من حديثه. وذكره أبو زرعة في "الضعفاء" وقال: لا يُحْتَجُّ به. قال في "التقريب": "سعيد بن بشير الأزدي مولاهم أبو عبد الرحمن أو أبو سلمة الشامي، أصله من البصرة، أو واسط: ضعيف، من الثامنة، مات سنة ثمان أو تسع وستين، 4". قال أبو داود (975): حدثنا محمد بن داود بن سفيان، ثنا يحيى بن حَسَّانَ، ثنا سُلَيْمَانُ بن مُوسَى أبو داود، ثنا جَعْفَرُ بن سَعْدِ بن سمُرَةَ بن جُنْدُبٍ، حدثني خُبَيْبُ بن سُلَيْمَانَ بن سَمُرَةَ، عن أبيه سُلَيْمَان بن سَمُرَةَ، عن سَمُرَة بن جُنْدُب: "أَمَّا بَعْدُ؛ أَمَرَنَا رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في وَسَطِ الصَّلاةِ، أو حين انْقِضَائِهَا، فابدؤوا قبل التَّسليم، فَقُولُوا: التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَات، وَالصَّلَوَاتُ، وَالْمُلْكُ للَّهِ، ثُمَّ سَلِّمُوا على الْيَمِينِ، ثُمَّ سَلِّموا على قارئكم، وَعَلَى أنفسكم". قال أبو دَاوُد: سُلَيْمَان بن مُوسَى: كُوفِيُّ الأَصْلِ كان بِدِمَشْقَ. قال أبو دَاوُد: دَلَّتْ هذه الصحيفة على أَنَّ الْحَسَنَ سمع من سَمُرَةَ. قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 233): "وذكر من طريق

أبي داود حديث سمرة: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نرد على الإمام، وأن نتحاب وأن يسلم بعضنا على بعض". وقد كتبناه بما فيه في باب الأحاديث التي لم يعبها بسوى الإرسال، ونذكر الآن هنا: أنه قد روي من طريق جيد، قال البزار: حدثنا عمرو بن علي حدثنا عبد الأعلى بن القاسم حدثنا همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نسلم على أئمتنا، وأن يسلم بعضنا على بعض في الصلاة". -إلى أن قال-: وتبين في هذا الحديث الذي ذكر البزار أن السلام المذكور هو في الصلاة. فهي زيادة داخلة في باب الزيادات التي تفيد في الأحاديث فائدة، أو تفسير معنى من معانيها، وهو أيضًا أحسن إسنادًا، فإن همام بن يحيى لا يفاضل بينه وبين سعيد بن بشير في قتادة، وعبد الأعلى بن القاسم اللؤلؤي صدوق". * قلت: لكن لفظه ليس كذلك عند ابن خزيمة، فإنه قال: "أنا أبو طاهر، نا أبو بكر نا إبراهيم بن المستمر البصري، نا عبد الأعلى بن القاسم أبو بشر صاحب اللؤلؤ ح وثنا محمد بن يزيد بن عبد الملك الأسفاطي البصري حدثني عبد الأعلى بن القاسم نا همام بن يحيى عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نسلم على أيماننا، وأن يرد بعضنا على بعض". قال محمد بن يزيد: وأن يسلم بعضنا على بعض. زاد إبراهيم: قال همام: يعني في الصلاة" (¬1). وزاد الطبراني في "الكبير" (7/ 218) لفظًا ثالثًا: من طريق عُثْمَانُ بن مِقْسَمِ عن قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عن سَمُرَةَ قال: "أَمَرَنَا رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُسَلِّمَ على نِسَائِنَاَ -لعلها تصحفت- وأَنْ يَرُدَّ بَعْضُنَا على بَعْضٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه: (3/ 104). (¬2) وقال في "مسند الشاميين" (4/ 29): حدثنا الحسن بن جرير الصوري ثنا أبو الجماهر ثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نرد على الإمام وأن يرد بعضنا على بعض".

قال الخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 305): "ذكر لنا أبو بكر البرقاني أن يعقوب بن موسى الأردبيلي حدثهم قال: حدثنا أحمد بن طاهر بن النجم، حدثنا سعيد بن عمرو البرذعي قال: قلت لأبي زرعة محمد بن سعيد الأثرم، قال: ليس كأنه يقول ليس بشيء. قلت: أي شيء أنكر عليه؟ قال: عن همام وأبي هلال عن قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المسلم من يشبع وجاره طاوي"، أخبرنا الحسن بن أبي بكر قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي، حدثنا محمد بن غالب، حدثنا محمد بن سعيد القرشي، حدثنا همام بن يحيى، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة قال: "أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن يسلم بعضنا على بعض". وتلخَّص من هذا أن الحديث له طرق: 1 - من طريق عبد الأعلى بن القاسم نا همام بن يحيى عن قتادة عن الحسن عن سمرة. 2 - ومن طريق سَعِيد بن بَشِيرٍ عن قَتَادَةَ عن الْحَسَنِ عن سمرة. 3 - ومن طريق عُثْمَان بن مِقْسَمٍ عن قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عن سَمُرَةَ. 4 - ومن طريق جَعْفَر بن سَعْدِ بن سَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ حدثني خُبَيْبُ بن سُلَيْمَانَ بن سَمُرَةَ عن أبيه سُلَيْمَانَ بن سمرة، عن سمرة بن جُنْدُبٍ. 5 - ومن طريق أبي بكر الهذلي عن قتادة عن الحسن عن سمرة. 6 - التي أشار إليه الخطيب من طريق محمد بن سعيد القرشي حدثنا همام بن يحيى حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة. والذي لا ريب فيه أن الحديث منكر لوجوه: الأول: ما رواه البخاري ومسلم عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قال: "كنا نَقُولُ التَّحِيَّةُ في الصَّلاةِ، وَنُسَمِّي وَيسَلِّمُ بَعْضُنَا على بَعْضٍ، فَسَمِعَهُ رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم فقال: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيباتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبي وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلا الله

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه. فَإِنَّكُمْ إذا فَعَلْتُمْ ذلك فَقَدْ سَلَّمْتُمْ على كل عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ في السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" (¬1). وفيه فائدتان: الأولى: النهي عن تسليم بعضهم على بعض، وأن ذلك داخل ضمن قوله (عباد الله الصالحين)، الثانية: ليس فيه ذكر التسليم على الإمام. الثاني: أنه لا يوجد ما يشهد له من السنة العملية وعمل الصحابة. الثالث: أنه ليس عليه العمل عند عامة أهل العلم. الرابع: أن أسانيده مضطربة، مما يدل على بطلان دعوى سماع الحسن من سمرة مطلقًا، ونظائره كثيرة. الخامس: قول أبي داود: دَلَّتْ هذه الصَّحِيفّة على أَنَّ الْحَسَنَ سمع من سَمُرَةَ. غريب، فالحديث مسلسل بالضعفاء والمجاهيل. وأما قول المستدرِك: فقد جود إسناده ... إلخ. فأقول: سبحان الله! ما وجدتَ أن تُقلِّدَ المتأخرين -بزعمك- إلا في هذا الحديث، وخالفتهم في الأحاديث المعروفة التى عمل بها عامة أهل العلم من المتقدِّمين والمتأخرين، ثم لما حكمتَ على حديث واحد بالصحة، أخطأت فيه! وتنتقد من درس وحكم على أكثر من أربعين ألف حديثٍ! ثم رأيتُ الإمام أحمد لا يصحح سماع الحسن من سمرة، "قال الأثرم: قال أبو عبد الله: لا يصح سماع الحسن من سمرة" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه: (1202)، ومسلم في صحيحه: (402). (¬2) انظر: "المغني" (4/ 31).

الحديث السابع والأربعون

الحديث السابع والأربعون حديث أبي بن كعب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت قبل الركوع". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذه الزيادة شاذة أعلها الإمام أحمد ... إلخ". * قلت: قال الطحاوي في "مشكل الآثار" (11/ 368): "حدثنا محمد بن الحسن ابن علي البخاري الأحول وغيره قالوا: حدثنا محمد بن إدريس الحنظلي الرازي أبو حاتم، حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي عن مسعر عن زبيد عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب -رضي الله عنه -: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يوتر بثلاث ركعات، لا يسلم فيهن حتى ينصرف، أول ركعة ب (سَبِّحِ اَسم ربك اَلأَعلَى) والثانية: ب (قُل ياأيُّهَا الكفِرُونَ)، والثالثة: ب (قُل هُوَ اَللَّهُ أَحَد)، وأنه قنت قبل الركوع، فلما أنصرف من صلاته قال: سبحان الملك القدوس، مرتين يرفع صوته ويجهر بالثالثة". قال أبو جعفر: ثم عدنا إلى حديث أُبَيّ، وهل نجده من غير حديث مسعر كما رواه حفص عن مسعر؟ فوجدنا علي بن سعيد بن بشير الرازي قد حدثنا قال: حدثنا محمد بن موسى الحراني الأصم وإسحاق بن زريق برأس العين، قال: أخبرنا مخلد بن

يزيد الحراني حدثنا سفيان الثوري عن زبيد اليامي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أُبَيّ بن كعب: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث ركعات، يقرأ في الركعة الأولى: ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، وفي الثانية: ب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة: ب (قُل هُوَ اَللَّهُ أَحَد)، ويقنت قبل الركوع، فإذا سلم وفرغ، قال عند فراغه: سبحان الملك القدوس. ثلاث مرات، يطيل في آخرهن" (¬1). ووجدنا علي بن سعيد قد حدثنا قال: حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي المعروف بابن الأقطع، حدثنا عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أُبَيّ بن كعب قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يوتر: ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَاالْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وكان يقنت قبل الركوع"، وكانت هذه الآثار كلها على القنوت قبل الركوع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم "اهـ. والذي يدل على صحة ما ذهب إليه الطحاوي: ما رواه مسلم عن أنس - صلى الله عليه وسلم: قال رحمه الله: حدثنا أبو بَكْرِ بن أبي شَيْبَةَ وأبو كُرَيْبِ قالا: حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن عَاصِمِ عن أَنَسٍ قال: "سَأَلْتُهُ عن الْقُنُوتِ قبل اَلرُّكُوعِ، أو بَعْدَ الرُّكُوعِ؟ فقال: قبلَ الرُّكُوعِ. قال: قلتُ: فإن نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فقال: إنما قَنَتَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَهْرًا يَدْعُو على أُنَاس قَتَلُوا أُنَاسًا من أَصْحَابِهِ، يُقَالُ لهم الْقُرَّاء" (¬2). وأخرجه البخاري: حدثنا مُسَدَّدٌ قال: حدثنا عبد الْوَاحِدِ قال: حدثنا عَاصِمٌ قال: سَأَلْتُ أَنَسَ بن مَالِكٍ، به. ¬

_ (¬1) انظر: الأحاديث المختارة: (3/ 422)، وأخرجه النسائي في سننه الكبرى: (1/ 448) (6/ 184)، وفي (المجتبى): (3/ 235). (¬2) أخرجه مسلم: (677).

ورواه من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس، قال عبد الْعَزِيزِ: "وَسَأَلَ رَجُل أَنَسًا عن الْقُنُوتِ: أَبَعْدَ الرُّكُوع أو عِنْدَ فَرَاغ من الْقِرَاءَةِ؟ قال: لا؛ بَلْ عِنْدَ فَرَاغٍ من الْقِرَاءَةِ" (¬1). ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة: حدثنا يَزِيدُ بن هَارُونَ عن هِشَامٍ الدَّسْتوَائِيِّ، عن حَمَّادٍ، عن إبْرَاهِيمَ، عن عَلْقَمَةَ: "أن ابن مَسْعُودٍ وَأَصْحَابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانُوا يَقْنُتُونَ في الْوتْرِ قبل الرُّكُوعِ" (¬2). وقال الحافظ في "الدراية": "إسناده حسن". * قلت: هو على شرط مسلم. قال الطحاوي: حدثنا أبو أمية، حدثنا معلى بن منصور الرازي، أخبرنا عطاء بن مسلم، حدثنا العلاء بن المسيب، عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس قال: "بت عند خالتي ميمونة، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ثمان ركعات، ثم أوتر فقرأ في الركعة الأولى: بفاتحة الكتاب، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، وقرأ في الثانية: بفاتحة الكتاب و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة: بفاتحة الكتاب، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم قنت، ودعا، ثم ركع". فقال قائل: فهل يثبت سماع حبيب بن أبي ثابت من ابن عباس؟ فكان جوابنا له في ذلك: أن سماعه منه ومن عبد الله بن عمر ثابت، وقد روي فيما سمعه منه ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق حدثنا أبو داود، أخبرنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت: أنه سمع ابن عباس، وسأله رجل فقال: إني رجل من أهل السواد أتقبل بالقرية، لا أريد أن أظلم إنما أريد أن أدرأ عن نفسي الظلم، ثم قرأ هذه الآية: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) إلى قوله (وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: 29]. ثم قال: ينزع الصغار ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحيه: (3860). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (2/ 97).

من أعناقهم ويضعه في عنقك" (¬1). وصحح إسحاق بن راهويه القنوت قبل الركوع؛ ففي مسائله مع الإمام أحمد، للكوسج: "وكان إسحاقُ يرى قضاءَ الوترِ بعدَ الصبح، ما لم يصلِّ الفجرَ ويرفع يديه في القنوتِ الشهر كله، ويقنت قبلَ الركوعِ" (¬2). والذي يظهر أن الإمام أحمد رجع إلى هذا، قال ابن عبد الهادي: "قيل لأحمد بن حنبل: سائر الأحاديث في القنوت قبل الركوع، وإنما صح بعده. فقال: القنوت في الفجر بعد الركوع، وفي الوتر يختار بعد الركوع، ومن قنت قبل الركوع فلا بأس لفعل الصحابة، واختلافهم، فأما في الفجر فبعد الركوع" (¬3). فائدة: قال الإمام أبو دَاوُد: الصحِيحُ قَوْلُ ابن عُمَرَ، وليس بِمَرْفُوعٍ. قال أبو دَاوُد: روى بَقِيَّةُ أَوَّلَهُ عن عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأَسْنَدَهُ، وَرَوَاهُ الثَّقَفِيُّ عن عُبَيْدِ الله أوقفه على ابن عُمَرَ، وقال فيه: "وإذا قام من الرَّكعَتَيْنِ يَرْفَعُهُما إلى ثَدْيَيْه" (¬4)، وَهَذَا هو الصَّحِيحُ. قال أبو دَاوُد: وَرَوَاهُ اللَّيْثُ بن سَعْدٍ وَمَالِكٌ وَأَيُّوبُ وابن جُرَيْجِ مَوْقُوفًا، وَأَسْنَدَهُ حماد بن سَلَمَةَ وَحْدَهُ عن أَيُّوبَ، ولم يذكر أَيُّوبُ وَمَالِكٌ الرَّفْعَ إذا قام من السَّجْدَتَيْنِ، وَذَكَرَهُ اللَّيْثُ في حَدِيثِهِ. قال ابن جُرَيجٍ فيه: قلت لِنَافِعٍ: أَكَانَ ابن عُمَرَ يَجْعَلُ الأُولَى أَرْفَعَهُنَّ. قال: لا سَوَاءً. قلت: أَشِرْ لي. فَأَشَارَ إلى الثَّدْيَيْنِ، أو أَسْفَلَ من ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: مشكل الآثار: (11/ 371). (¬2) انظر: مسائل الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه: (2/ 591). (¬3) انظر: تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (1/ 533). (¬4) أخرجه أبو داود في سننه: (1/ 197).

حدثنا الْقَعنَبِيُّ عن مَالِكٍ عن نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عُمَرَ: "كان إذا ابْتَدَأَ الصَّلاةَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وإذا رَفَعَ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا دُونَ ذلك" (¬1). قال أبو دَاوُد: لم يذكر رَفَعَهُمَا دُونَ ذلك أَخدٌ غَيْرُ مَالِكٍ فِيمَا أَعْلَمُ". * قلت: فأبو داود يرى أن ما رواه الشيخان مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر شاذ. وقال البخاري في "جزء رفع اليدين": ما زاده ابن عمر، وعلي وأبو حميد في عشرة من الصحابة من الرفع عند القيام من الركعتين صحيح، لأنهم لم يحكوا صلاة واحدة فاختلفوا فيها، وإنما زاد بعضهم على بعض، والزيادة مقبولة من أهل العلم (¬2)، فتنبه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه: (1/ 198)، والشافعي في مسنده: (1/ 212)، ومالك في الموطأ: (1/ 77). (¬2) وانظر: فتح الباري: (2/ 222).

الحديث التاسع والأربعون

الحديث التاسع والأربعون حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدُّوها شيئًا، ومن أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعفه العقيلي، والبيهقي، وأشار إلى ضعفه البخاري". * قلت: قال الإمام أبو داود في "السنن" (893): "حدثنا محمد بن يحيى بن فَارِسٍ أَنَّ سَعِيدَ بن الْحَكَمِ حَدَّثَهُمْ أخبرنا نَافِعُ بن يَزِيدَ، حدثني يحيى بن أبي سُلَيْمَانَ، عن زَيْدِ بن أبي الْعَتَّابِ وابن الْمَقْبُرِيِّ، عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جِئْتُمْ إلى الصَّلَاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا، ولا تَعُدُّوهَا شيئًا، وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ". يحيى بن أبي سليمان المديني وهو ضعيف. قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: مضطرب. قال الحافظ ابن حجر: "يحيى بن أبي سليمان المدني أبو صالح: لين الحديث من السادسة، بخ دت س" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: تقريب التهذيب: (ص 591).

قال في "الخلاصة": "يحيى بن أبي سليمان المدني عن سعيد المقبري وعنه شعبة، قال البخاري: منكر الحديث، ووثقه ابن حبان والحاكم" (¬1). ومن هذا يتبين لك دقة قول الحافظ: لين الحديث، وذلك لرواية شعبة عنه وفي ضمنها تعديله، في مقابل قول البخاري: منكر الحديث. فمثل هذا يتقوى حديثه لأن الخشية إنما هي من غلطه. وشاهده في مسلم مرفوعًا: من حديث أبي هريرة، وأصله في البخاري: "من أَدْرَكَ رَكْعَةً من الصَّلَاةِ مع الْإِمَامِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ" (¬2). قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّق الإدراك مع الإمام بركعة، وهو نص في المسألة، ففي "الصحيحين" من حديث أبى هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام، فقد أدرك الصلاة". وهذا نص رافع للنزاع. الرابع: أن الجمعة لا تدرك إلا بركعة، كما أفتى به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم منهم ابن عمر، وابن مسعود، وأنس، وغيرهم، ولا يُعْلَمُ لهم في الصحابة مُخَالِفٌ، وقد حكى غير واحد أن ذلك إجماع الصحابة، والتفريق بين الجمعة والجماعة غير صحيح، ولهذا أبو حنيفة طرد أصله، وسوَّى بينهما، ولكن الأحاديث الثابتة وآثار الصحابة تبطل ما ذهب إليه. الخامس: أن ما دون الركعة لا يعتد به من الصلاة فإنه يستقبلها جميعها منفردًا، فلا يكون قد أدرك مع الإمام شيئًا يحتسب له به، فلا يكون قد اجتمع هو والإمام في جزء من أجزاء الصلاة يعتد له به، فتكون صلاته جميعًا صلاة منفرد. ¬

_ (¬1) انظر: خلاصة تذهيب تهذيب الكمال: (1/ 424). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، وأخرجه مسلم.

يوضِّحُ هذا: أنه لا يكون مدركًا للركعة، إلا إذا أدرك الإمام في الركوع، وإذا أدركه بعد الركوع لم يعتد له بما فعله معه، مع أنه قد أدرك معه القيام من الركوع والسجود وجلسة الفصل، ولكن لما فاته معظم الركعة -وهو القيام والركوع- فاتته الركعة، فكيف يقال مع هذا أنه قد أدرك الصلاة مع الجماعة؟! وهو لم يدرك معهم ما يحتسب له به، فإدراك الصلاة بإدراك الركعة، نظير إدراك الركعة بإدراك الركوع، لأنه في الموضعين قد أدرك ما يعتد له به، وإذا لم يدرك من الصلاة ركعة كان كمن لم يدرك الركوع مع الإمام في فوت الركعة، لأنه في الموضعين لم يدرك ما يحتسب له به، وهذا من أصح القياس" (¬1). ويدل على صحة ما ذهب إليه الشيخ رحمه الله قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَءاتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] فلولا أن الركوع هو العمدة في إدراك الصلاة ما خصه بالذكر. وأما تضعيف البخاري له؛ فلأنه يخالف مذهبه في أن الركعة لا تدرك إلا بقراءة الفاتحة، وهو خلاف ما عليه عامة الصحابة، وهو من الأدلة على تأثره عليه رحمه الله بمذهب أبي داود الظاهري في بعض المسائل. ويشهد له أيضًا ما رواه الترمذي عن علي ومعاذ مرفوعًا: "إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حاله، فليصنع كلما يصنع الإمام" (¬2). وقال: حديث غريب، لا نعلم أحدًا أسنده إلا ما روي من هذا الوجه، والعمل على هذا عند أهل العلم. انتهى. وفي إسناده الحجاج بن أرطاة. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": "وينجبر ضعفه بما رواه سعيد بن منصور عن أناس من أهل المدينة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وجدني قائمًا، أو ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى: (23/ 333). (¬2) أخرجه الترمذي في سننه: (2/ 486).

راكعًا، أو ساجدًا، فليكن معي على الحالة التي أنا عليها" (¬1). وعلى كل حال: فإن ظاهر القرآن وحديث الشيخين كاف في تقوية الحديث؛ بل وإجماع الصحابة، فتحسين الشيخ رحمه الله جار على وفق قواعد الأئمة الكبار، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري: (2/ 269).

الحديث الحادى والخمسون

الحديث الحادى والخمسون حديث: "من كان له إمام فقراءته له قراءة". ـــــــــــــــــــــــــ الاستدراك: "هذا الحديث ضعيف لا يثبت مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اجتمع فيه علل في أسانيده وطرقه، ما لا تجده في حديث آخر، وممَّن ضعفه من الأئمة: البخاري، والدارقطني، وابن عبد البر، والحاكم، وابن الجوزي". * قلت: الحديث له طرق كثيرة من وقف عليها متجرِّدًا تبين له ثبوته مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم. الحديث الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر قال: حدثنا حسن بن صالح، عن جابر، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أنه قال: "من كان له إمام فقراءته له قراءة" (¬1). وفي إسناده: جابر الجعفي وهو ضعيف. طريق ثان: قال الإمام الدارقطني: حدثنا محمد بن مخلد، حدثنا العباس ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (3/ 339).

ابن محمد الدوري، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، عن الحسن بن صالح، عن ليث بن أبي سليم وجابر، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان له إمام فقراءته له قراءة" (¬1). فيه جمع جابر ليث بن أبي سليم. طريق ثالث: قال الدارقطني: حدثنا علي بن عبد الله بن مبشر، حدثنا محمد بن حرب الواسطي، قال: حدثنا إسحاق الأزرق، عن أبي حنيفة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة". فيه أبو حنيفة ويضعف. وقال الدارقطني: وروى هذا الحديث سفيان الثوري وشعبة وإسرائيل وأبو خالد الدالاني وأبو الأحوص وسفيان بن عيينة وجرير بن عبد الحميد وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم-، وهو الصواب (¬2). طريق رابع: قال الدارقطني: وحدثنا جعفر بن محمد بن نصير قال: حدثنا محمود بن محمد المروزي، حدثنا سهل بن العباس الترمذي، حدثنا إسماعيل ابن عُلية، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من صلى خلف الإمام فقراءة الإمام له قراءة" (¬3). فيه سهل بن العباس، قال الدارقطني: ليس بثقة. أبو بكر النيسابوري: حدثنا بحر بن نصر قال: حدثنا يحيى بن سلام، حدثنا مالك بن أنس، حدثنا وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم قال: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج، إلا أن يكون وراء الإمام". ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه: (1/ 331). (¬2) انظر: سنن الدارقطني: (1/ 325). (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه: (1/ 402).

فيه يحي بن سلام وهو ضعيف، وقال الدارقطني: الصواب موقوف (¬1). الحديث الثاني: قال الدارقطني: وحدثنا سحمد بن خلد، حدثنا محمد بن هشام البختري، حدثنا سليمان بن المفضل، حدثنا محمد بن الفضل بن عطية، عن أبيه، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" (¬2). فيه محمد بن الفضل: متروك الحديث. الحديث الثالث: قال الدارقطني: قرئ على أبي محمد بن صاعد -وأنا أسمع- حدثكم علي بن حرب وأحمد بن يوسف التغلبي قالا: حدثنا غسان بن الربيع، عن قيس بن الربيع، عن محمد بن سالم، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "أقرأ خلف الإمام، أو أنصت؟ قال: بل أنصت فإنه يكفيك" (¬3). فقال الدارقطني: تفرد به غسان بن الربيع، وهو ضعيف، وقيس ومحمد بن سالم: ضعيفان، والمرسل عن الشعبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أصح. الحديث الرابع: قال الدارقطني: وحدثنا محمد بن مخلد حدثنا علي بن زكريا التمار قال: حدثنا عاصم بن عبد العزيز، عن أبي سهيل، عن عون، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تكفيك قراءة الإمام خافت أو جاهر". عاصم بن عبد العزيز؛ قال الدارقطني: ليس بالقوي ورفعه وهم. الحديث الخامس: قال الدارقطني: وحدثنا أحمد بن نصر حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا ¬

_ (¬1) انظر: "بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام" لابن القطان (2/ 303). (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه: (1/ 325). (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه: (1/ 330).

سلمة بن الفضل، حدثنا حجاج بن أرطأة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس، ورجل يقرأ خلفه، فلما فرغ قال: من ذا الذي يخالجني سورتي؟ فنهاهم عن القراءة خلف الإمام" (¬1). حجاج بن أرطاة، قال الدارقطني: لم يروه هكذا إلا حجاج، ولا يحتج به. وقال الدارقطني: خالف حجاج بن أرطأة أصحاب قتادة، منهم شعبة، وسعيد وغيرهما، فلما يذكروا أنه نهاهم عن القراءة. الحديت السادس: قال الدارقطني: وحدثنا محمد بن مخلد حدثنا شعيب بن أيوب حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا معاوية بن صالح، حدثني أبو الزاهرية، عن كثير بن مرة، عن أبي الدرداء قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفي كل صلاة قراءة؟ قال: نعم، فقال رجل من الأنصار: وجبت هذه، فقال رسول الله لي -وكنت أقرب القوم إليه-: ما أرى الإمام إذا أم القوم إلا قد كفاهم" (¬2). معاوية بن صالح؛ قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به. وقال الدارقطني: والصواب: فقال أبو الدرداء: ما أرى الإمام إلا قد كفاهم. كذلك رواه ابن وهب عن معاوية. الحديث السابع: قال الدارقطني: وحدثنا ابن مخلد حدثنا الفضل بن العباس الرازي، حدثنا محمد بن عباد، حدثنا أبو يحيى التيمي، عن سهيل بن أبي صالح، عن ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه: (1/ 326). (¬2) أخرجه أحمد في المسند: (6/ 448)، (5/ 197)، وأخرجه النسائي في السنن الكبرى: (1/ 320)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (2/ 162)، والدارقطني في سننه: (1/ 332).

أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له إمام فقراءته له قراءة" (¬1). أبو يحيى التيمي واسمه إسماعيل بن بن إبراهيم تفرد نهذا الحديث محمد بن عباد عنه، وهما ضعيفان. قال البوصيري في "المصباح": "لكن رواه أحمد بن منيع وعبد بن حميد بسند صحيح، بينته في زوائد المسانيد العشرة" (¬2). قال شيخ الإسلام: "وهذا الحديث روي مرسلاً ومسندًا، لكن أكثر الأئمة الثقات رووه مرسلاً عن عبد الله بن شداد عن النبي - صلى الله عليه وسلم-، وأسنده بعضهم، ورواه ابن ماجه مسندًا. وهذا المرسل قد عضده ظاهر القرآن والسنة، وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين ومرسله من أكابر التابعين، ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد نص الشافعي على جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل". وروى الزهري عن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها، فقال: هل قرأ معي أحد منكم آنفًا؟ فقال الرجل: نعم يا رسول الله، قال: إني أقول ما لي أنازع القرآن، قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فيما جهر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة في الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم-"، رواه أحمد (2/ 240)، وأبو داود (826)، وابن ماجه (1/ 276)، والنسائي (991)، والترمذي (312)، وقال: حديث حسن. فإن قيل: قال البيهقي: ابن أكيمة رجل مجهول لم يحدث إلا بهذا الحديث وحده، ولم يحدث عنه غير الزهري. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه: (1/ 333). (¬2) انظر: مصباح الزجاجة: (1/ 106).

قيل: ليس كذلك، بل قد قال أبو حاتم الرازي فيه: صحيح الحديث، حديثه مقبول. وحكي عن أبي حاتم البستي أنه قال: روى عنه الزهري وسعيد بن أبي هلال وابن أبيه عمر وسالم بن عمار بن أكيمة بن عمر. قال أبو داود: سمعت محمد بن يحيى بن فارس يقول قوله: "فانتهى الناس"، من كلام الزهري. وروي عن البخاري نحو ذلك، فقال في الكنى من "التاريخ": وقال أبو صالح: حدثني الليث حدثني يوسف عن ابن شهاب سمعت ابن أكيمة الليثي يحدث: أن سعيد بن المسيب سمع أبا هريرة يقول: "صلى لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة جهر فيها بالقراءة، ثم قال: هل قرأ منكم أحد معي؟ قلنا: نعم، قال: إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر الإمام". قال الليث: حدثني ابن شهاب، ولم يقل: فانتهى الناس، وقال بعضهم: هو قول الزهري، وقال بعضهم: هو قول ابن أكيمة. والصحيح: أنه قول الزهري، وهذا إذا كان من كلام الزهري فهو من أدل الدلائل على أن الصحابة لم يكونوا يقرؤون في الجهر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن الزهري من أعلم أهل زمانه، أو أعلم أهل زمانه بالسنة، وقراءة الصحابة خلف النبي -صلى الله عليه وسلم إذا كانت مشروعة واجبة، أو مستحبة، تكون من الأحكام العامة التي يعرفها عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فيكون الزهري من أعلم الناس بها، فلو لم يبينها لاستدل بذلك على انتفائها، فكيف إذا قطع الزهري بأن الصحابة لم يكونوا يقرؤون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم- في الجهر. وعمل الصحابة عليه؛ فقد روى مالك في "موطئه" (1/ 84) عن وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "من صلى ركعة لم يقرأ فيها، لم يصل إلا وراء الإمام". وروى أيضًا (1/ 86): عن نافع أن عبد الله بن عمر: "كان إذا سئل: هل

يقرأ خلف الإمام؟ يقول: إذا صلى أحدكم خلف الإمام تجزئه قراءة الإمام، وإذا صلى وحده فليقرأ" (¬1)، قال: "وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإمام" (¬2). وروى مسلم في "صحيحه" (577) عن عطاء بن يسار أنه: "سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام، فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء". وروى البيهقي (2/ 160) عن أبي وائل: "أن رجلاً سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام، فقال: أنصت للقرآن، فإن في الصلاة شغلاً، وسيكفيك ذلك الإمام". وابن مسعود وزيد بن ثابت هما فقيها أهل المدينة، وأهل الكوفة من الصحابة، وفي كلامهما تنبيه على أن المانع إنصاته لقراءة الإمام. وكذلك البخاري في كتاب "القراءة خلف الإمام" (ص211): عن علي بن أبي طالب قال: وروى الحارث عن علي: "يسبح في الأخريين"، قال: ولم يصح. وخالفه عبيد الله بن أبي رافع: حدثنا عثمان بن سعيد سمع عبيد الله بن عمرو عن إسحاق بن راشد عن الزهرى عن عبيد الله بن أبي رافع مولى بني هاشم حدثه عن علي بن أبي طالب: "إذا لم يجهر الإمام في الصلوات، فاقرأ بأم الكتاب، وسورة أخرى في الأوليين من الظهر والعصر، وفاتحة الكتاب في الأخريين من الظهر والعصر، وفي الآخرة من المغرب، وفي الأخريين من العشاء". وفي "صحيح مسلم" (404): عن أبي موسى الأشعري، قال: "إن رسول الله خطبنا، فبيَّن لنا سنتنا وعلَّمنا صلاتنا، فقال: "أقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا". وهذا من حديث أبي موسى ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد لابن عبد البر: (11/ 37)، وانظر "شرح الزرقاني: (1/ 257)، وانظر "الفتاوى الكبرى: (2/ 171). (¬2) وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (2/ 159 - 160).

الطويل المشهور، لكن بعض الرواة زاد فيه على بعض، فمنهم من لم يذكر قوله: "وإذا قرأ فأنصتوا"، ومنهم من ذكرها، وهي زيادة من الثقة لا تخالف المزيد، بل توافق معناه، ولهذا رواها مسلم في "صحيحه" (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا"، رواه أحمد (2/ 376)، وأبو داود (604)، والنسائي (994)، وابن ماجه (846). قيل لمسلم بن الحجاج: حديث أبي هريرة صحيح؟ يعني: "وإذا قرأ فأنصتوا". قال: هو عندي صحيح، فقيل له: لما لا تضعه هاهنا؟ يعني في كتابه، فقال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه" (¬2). * قلت: ويشهد له أيضًا: ما رواه البخاري في "صحيحه" (694) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُصَلُّونَ لَكُمْ، فإن أَصَابُوا فَلَكُمْ وَإِنْ أخطؤوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ". ففيه إشارة إلى تحمل الإمام القراءة عن المأموم، وذلك أن المأموم يقوم بجميع ما يقوم به الإمام؛ إلا القراءة، فهذا معنى قوله: "يصلون لكم"، ونظيره قوله تعالى: (وَإِذَا كنُتَ فِيهِم فَأقَمتَ لَهُمُ اَلصلَاةَ) الآية، [النساء: 102] فليس المقصود: الإقامة المعروفة، وإنما العمدة في إقامة الصلاة على قراءة الإمام، وأعظمها الفاتحة، وقد سماها الله في الحديث القدسي صلاة. ويزيده إيضاحًا: ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس: في قَوْلى تعالى: {لَا تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يُعَالِجُ من التَّنْزِيلِ شِدَّةً، كان يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فقال لي ابن عبَّاسٍ: أنا أحَرِّكُهُمَا كما كان ¬

(¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" (23/ 272). (¬2) انظر: "صحيح مسلم" (404).

رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَرِّكُهُمَا، فقال سَعِيدٌ: أنا أُحَرِّكُهُمَا كما كان ابن عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتيه، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: (لا تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لتَعجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَينَا جَمْعَهُ وَقُرءَانَه)، [القيامة: 16 - 17] قال: جَمْعَهُ فى صَدْرِكَ، ثُمَّ تقرأه، (فَإِذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبَعْ قُرْءَانَهُ)، قال: فَاسْتَمِعْ وَأَنْصِتْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، قال: فَكَانَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا أَتَاهُ جِبْريلُ اسْتَمَعَ، فإذا انْطَلَقَ جِبْريلُ قَرَأَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أَقْرَأَهُ" (¬1). وهكذا أيضًا: فإن المأموم لو أدرك الإمام في الركوع صحت صلاته، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (5، 4927، 5044، 7524) ومسلم (448).

الحديث الثاني والخمسون

الحديث الثاني والخمسون حديث الحسن عن سمرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسكت سكتتين إذا استفتح، وإذا فرغ من القراءة كلها"، وفيِ رواية: "سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث صحيح، وسماع الحسن عن سمرة ثابت في حديث العقيقة، وباقي الأحاديث وجادة، وهي وجادة صحيحة لا تقتضي الانقطاع". * الجواب: قال الدارمي: "كان قَتَادَةُ يقول: "ثَلاثُ سَكَتَاتٍ". وفي الحديث الْمَرْفُوعِ: "سَكْتَتَانِ" (¬1). قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رحمه الله: "الْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَمُرَةَ شَيْئًا وَسَمِعَ مِنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ هَذَا الْخَبَرَ، وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ عَلَى عِمْرَانَ دُونَ سَمُرَةَ". وقال الدارقطني: "الحسن مختلف في سماعه من سمرة، وقد سمع منه حديثًا واحداً وهو حديث العقيقة، فيما زعم قريش بن أنس عن حبيب بن الشهيد" (¬2). ¬

(¬1) أخرجه الدارمي في سننه: (1/ 313). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 336).

قال الحافظ العراقي: "وقد صح سماعه منه لغير حديث العقيقة، ولكن هذا الحديث لم يثبت سماعه منه، لأنه رواه عنه بالعنعنة في سائر الطرق، ولا يحتج به لكونه يدلس. كذا في قوت المغتذي". وجمهور أصحاب الحديث على أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، والأحاديث التي فيها عن الحسن سمعت أبا هريرة غير صحيحة، وقد روى قتادة ويونس بن عبيد أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، والذي صح للحسن السماع من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنس بن مالك، وعبد الله بن مغفل، وعبد الرحمن بن سمرة وأحمد بن جعفر (¬1). وقال الحافظ في "التهذيب": "وأما رواية الحسن عن سمرة بن جندب؛ ففي "صحيح البخاري" سماعًا منه لحديث العقيقة، وقد روى عنه نسخة كبيرة غالبها في السنن الأربعة، وعند علي بن المديني أن كلها سماع، وكذا حكى الترمذي عن البخاري. وقال يحيى القطان وآخرون: هي كتاب. وذلك لا يقتضي الانقطاع. وفي "مسند أحمد": حدثنا هشيم عن حميد الطويل، وقال: جاء رجل إلى الحسن فقال: "إن عبدًا له أبق، وإنه نذر إن يقدر عليه أن يقطع يده، فقال الحسن: حدثنا سمرة قال: قل: ما خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة إلا أمر فيها بالصدقة، ونهى عن المثلة"، وهذا يقتضي سماعه منه لغير حديث العقيقة. وقال أبو داود عقب حديث سليمان بن سمرة عن أبيه في الصلاة: دلت هذه الصحيفة على أن الحسن سمع من سمرة. * قلت: ولم يظهر لي وجه الدلالة بعد. وقال العباس الدوري: لم يسمع الحسن من الأسود بن سريع، وكذا قال ¬

_ (¬1) انظر: التعديل والتجريح: (1/ 305).

الآجري عن أبي داود قال عنه في حديث شريك عن أشعث عن الحسن سألت جابرًا عن الحائض. فقال: لا يصح. وقال البزار في "مسنده" في آخر ترجمة سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: سمع الحسن البصري من جماعة، وروى عن آخرين لم يدركهم، وكان يتأول، فيقول حدثنا، وخطبنا، يعني قومه الذين حدثوا، وخطبوا بالبصرة، قال: ولم يسمع من ابن عباس، ولا الأسود بن سريع، ولا عبادة، ولا سلمة بن المحبق، ولا عثمان، ولا أحسبه سمع من أبي موسى، ولا من النعمان بن بشير، ولا من عقبة بن عامر، ولا سمع من أسامة، ولا من أبي هريرة، ولا من ثوبان ولا من العباس. ووقع في "سنن النسائي" من طريق أيوب عن الحسن عن أبي هريرة في المختلعات، قال الحسن: لم أسمع من أبي هريرة غير هذا الحديث. أخرجه عن إسحاق بن راهويه عن المغيرة بن سلمة عن وهيب عن أيوب. وهذا إسناد لا مطعن من أحد في رواته، وهو يؤيد أنه سمع من أبي هريرة في الجملة، وقصته في هذا شبيهة بقصته في سمرة سواء" (¬1). وفي "مسائل الإمام أحمد": "سألت أبي عن الرجل يقتل عبده يقتله الإمام أم لا؟ فقال: يروى عن الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل عبده قتلناه". وأخشى أن يكون هذا الحديث لا يثبت. قلت لأبي: فإيش تقول أنت؟ قال: إذا كنت أخشى أن لا يكون يثبت لا أثبته" (¬2). قال الحافظ في "الفتح": "ولهذا الحديث: "الوضوء لصلاة الجمعة"، طرق أشهرها وأقواها: رواية الحسن عن سمرة، أخرجها أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة وابن حبان، وله علتان: إحداهما: أنه من عنعنة الحسن، والأخرى: أنه اختلف عليه فيه" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: تهذيب التهذيب: (2/ 233 - 235). (¬2) انظر: مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله: (1/ 409). (¬3) انظر: فتح الباري: (2/ 362).

وملخص كلام أهل العلم في رواية الحسن من سمرة، هو التالي: الأول: أَحَدُهَا أَنَّهُ سمع منه مُطْلَقًا، وهو قَوْلُ ابن الْمَدِينِيِّ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عنه. الثاني: أَنَّهُ لم يَسْمَعْ منه شيئًا، وَاخْتَارَهُ جمع من أهل العلم كما تقدم. الثالث: أَنَّهُ سمع منه حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ فَقَطْ، قَالَهُ النَّسَائيُّ، وَإِلَيْهِ مَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ في "سُنَنِهِ" كما تقدم. والذي يظهر: أنه ينبغي النظر إلى هذا الأمر من جهتين: الأولى: الاختلاف في سماعه من الحسن. الثانيه: أن الحسن مدلس كما يظهر من اختلاف الروايات الشديد عنه في سماعه من غير الحسن، كروايته عن أبي بكرة، وأبي هريرة، وغيرهما كما تقدم في كلام الحافظ في "التهذيب"، وعليه؛ فما قال فيه الحسن سمعته، فلا ريب في صحته إذا صح الإسناد إليه، مثل حديث العقيقة، وما لم يصرح بالسماع؛ نُظِرَ فيه: فإن جاء ما يشهد له، ولم يكن فيه ما ينكر؛ قُبِلَ، وإلا فإنه في عداد المرسل، ومراسيل الحسن ليست بحجة، وأما القول أنها صحيفة وجدها ورواها! فهو ضعيف جدًّا. وذلك من وجوه: الأول: أن هذه الصحيفة لو كانت صحيحة معروفة ومشتهرة لرواها غير الحسن. الثاني: لو كانت صحيفة صحيحة معتبرة عند أهل العلم لما حصل هذا الاختلاف الشديد بينهم. الثالث -وهو أمر دقيق-: أن معظم الأحاديث من رواية قتادة عن الحسن عن سمرة، وقتادة مدلس، ويرويها أو أكثرها بالعنعنة، وأحصيتها في "المسند"

فبلغت بضعة عشر حديثًا، أما الأحاديث الأخرى التي لا تعرف من طريق الثقات عن الحسن فهي لا تخلو من ضعف ونكارة، ولأجل هذا توقف شيخنا -عليه رحمة الله- في إثباتها، أعني رواية الحسن عن سمرة، ما لم يصرح بالسماع إن وجد، أو تعتضد بالشواهد. فالمقصود عنده رحمه الله هو صحة المتن، لا مجرد التعليل للتعليل، وهذا لا يفطن له إلا الكبار من أهل العلم، وبالله التوفيق.

الحديث الخامس والخمسون

الحديث الخامس والخمسون حديث نعيم بن النحام قال: "نودي بالصبح في يوم بارد، وأنا في وطر امرأتي، فقلت: ليت المنادي قال: من قعد فلا حرج عليه. فنادى منادي النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر آذانه: ومن قعد فلا حرج عليه". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "أسانيده ضعيفة، ولا يثبت". * الجواب: روى عبد الرزاق في "مصنفه" (1/ 502) عن ابن جريج، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن نعيم بن النحام قال: "أذن مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة فيها برد وأنا تحت لحافي، فتمنَّيْتُ أن يلقي الله على لسانه: ولا حرج. قال: ولا حرج". * قلت: وهذا إسناد صحيح، كما قال الحافظ في "الفتح" (¬1). فإن قيل: فيه عنعنة ابن جريج. * قلت: وهل يلزم من ذلك أنه دلَّسه؟! فهذه الضوابط هي اجتهادات ممن ¬

_ (¬1) وصحَّح إسناده الشيخ الألباني -أيضًا-، وهذا لم يُرْضِ الدكتور الخليل! فإنه قال عن إسناده: "إسناد ضعيف جدَّا"!! وهذا من تعنُّته واستعجاله، وسيأتي تصريح ابن جريج بالتحديث.

لم تضمن له العصمة، فهي قابلة للخطأ والصواب، فلا ينبغي أن تكون حاكمة على السنة، بل يجب أن تكون السُّنة حاكمة عليها، وعليه فإذا جاء الحديث من وجه آخر بشاهد، أو متابع، فهذا الذي عليه المعوَّل، وأما رد الأحاديث بقواعد حسابية! فهذا شأن بعض أهل الرواية، وليس شأن أهل المعرفة بالمعاني. ثم إن الحافظ ابن حجر -نفسه- صحَّح إسناد الحديث، لعلمه بمتابعاته، وبعدم تدليس ابن جريج فيه، وهذا هو الفرقُ بين الحُفَّاظ والذين قضوا عمرهم في هذا الميدان، وبين المنتحلين لهذا العلم! على أن ابن جريج توبع، قال الحافظ: "وأخرج ابن قانع من طريق عمر بن نافع، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال نعيم بن النحام -وكان من بني عدي ابن كعب-: "سمعتُ منادي النبي - صلى الله عليه وسلم - في غداة باردة وأنا مضطجع، فقلت: ليته قال: ومن قعد فلا حرج. قال: فقال: ومن قعد فلا حرج" (¬1). ثم وجدت ابن جريج صرَّح بالتحديث، قال الضحاك بن مخلد: حدثنا الحسن بن علي ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، أخبرني نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن نعيم بن النحام رضي الله عنه قال: "أذن موذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة فيها برد ومطر، وأنا تحت لحافي، فتمنيت أن يلقي الله تعالى على لسانه: ولا حرج، فلما فرغ قال: ولا حرج" (¬2). فهذا دليل بيِّن على ما ذكرته آنفًا. قال المستدرِك: "تنبيه: نقل الشيخ الألباني أن الحافظ ذكر أن الحديث رواه عبد الرزاق بسند صحيح، وقد وجدته عند عبد الرزاق في الموضعين المذكورين في التخريج، وسبق بيان ضعفهما". * قلت: وفيه من الفوائد: أنه لا ينبغي التعجل بتخطئة الكبار من أهل ¬

_ (¬1) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة: (6/ 459). (¬2) انظر: "الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (2/ 67).

العلم، فإن الحافظ يعلم أن ابن جريج مدلس، ولا يخفى عليه ذلك، فهو تخصصه، وإذا أردتَ أن تعلم هذه الحقيقة فراجع مقدمة "الفتح"، فهو وإن كان من المتأخِّرين بزعمكم، لكنه فاق كثيرًا من المتقدِّمين بزعمكم أيضًا. والحديث جاء عن عدد من الصحابة وبعضها في الصحيح.

الحديث السادس والخمسون

الحديث السادس والخمسون حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه -: "أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث معلول، أعلَّه البخاري، وأبو داود، والدارقطني، والبيهقي". * قلت: الحديث رواه أحمد، وأبو داود عنه، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى -هو ابن أبي كثير- عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر قال: "أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة" (¬1). قال أبو داود: غير معمر لا يسنده. وقال البيهقي: "تفرَّد معمر بروايته مسندًا، ورواه علي بن المبارك وغيره عن يحيى عن ابن ثوبان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مرسلاً، وروي عن يحيى بن أبي كثير عن أنس، وقال: "بضع عشرة"، ولا أراه محفوظًا". وأما أبو حاتم ابن حبان؛ فأخرجه في "صحيحه" (2749) من طريقه. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 295) وأبو داود (1235) وعبد الرزاق في "مصنفه" (4335) وابن حبان (2749) والبيهقي (3/ 152) وغيرهم.

ومعمر إمام مجمع على جلالته، فلا يضر تفرده به. وقال أبو محمد ابن حزم: محمد بن عبد الرحمن ثقة، وباقي رواة الخبر أشهر من أن يُسْأَلَ عنهم. وقال النووى في "خلاصته": "هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين، ولا يقدح فيه تفرد معمر، فإنه ثقة حافظ، فزيادته مقبولة". والحق أن الحديث صحيح بلا ريب، لعدة أمور: الأول: أن الحديث له طريق آخر، قال البيهقي: "أخبرناه أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر بن الحسن القاضي قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن إسحاق الصمغاني، ثنا معاوية -يعني ابن عمرو- عن أبي إسحاق -يعني الفزاري- عن أبي أنيسة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "غزوتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك، فأقام بها بضع عشرة، فلم يزد على ركعتين حتى رجع". وهذا إسناد صحيح، وما يخشى من غلط معمر زال بهذا الطريق. الثاني: أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، وهذا في "الصحيحين" وغيرهما. الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر ويجمع في تبوك، فقد روى مسلم عن مُعَاذٍ -رضي الله عنه- قال: "خَرَجْنَا مع رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جميعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جميعًا" (¬1). الرابع: أن أهل السِّيَرِ اتفقوا على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقي في تبوك بضعة عشر يومًا، والبضع من الثلاث إلى التسع، ومن المعلوم في كلام العرب أنهم يُجُبِرُونَ الكَسْرَ، فلا اختلاف بين الروايتين. الخامس: أنه لم يُنْقَلْ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أتم الصلوات، أو تنفَّل بينها في سفر، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (706).

فقد روى الشيخان عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ لا يَزِيدُ في السَّفَرِ على رَكعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كذَلِكَ -رضي الله عنه" (¬1)، وتبوك آخر غزواته صلى الله عليه وسلم. ثم وقفتُ على كلام للإمام أحمد يدل على تصحيح الحديث: "قيل لأحمدَ -رضي الله عنه-: إنَّ النَّبيَ - صلى الله عليه وسلم - أقَامَ بمكةَ ثماني عشرةَ، زمنَ الفتح، قَالَ: إنَّما أرادَ حُنينًا، لم يكُنْ ثمَّ إجماع، وأقامَ بتبوكَ عشرينَ، لمْ يكُنْ ثُمَّ إجماعٌ، ولكن إذا أُجمِعَ على إقامةٍ زيادة على أربع أتَمَّ الصَّلاةَ" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1101)، 1102)، ومسلم (689). (¬2) انظر: مسائل الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه: (1/ 611).

الحديث السابع والخمسون

الحديث السابع والخمسون حديث معاذ -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس، أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار، وكان يفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: الحديث ضعيف معلول، أعلَّه من الأئمة: البخاري، وأبو داود، والترمذي، وأبو حاتم، والحاكم، والبيهقي، والدارقطني، وابن حزم، والخطيب البغدادي، والنسائي، وقال ابن رجب: "غريب جدًّا، استنكره الحفاظ" اهـ. * قلت: هذا الحديث رواه الإمام أحمد (5/ 241)، وأبو داود (1220) والترمذي (553) عن قتيبة بن سعيد، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطُّفيل، عن معاذ بن جبل به. وقال أبو داود: "لم يرو هذا الحديث إلا قتيبة وحده". وقال الترمذي: "حديث معاذ حديث حسن غريب، تفرد به قتيبة، لا نعرف أحدًا رواه عن الليث غيره".

والمعروف عند أهل العلم ما روى أبو الزبير المكي عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء". وروى هذا الحديث قرة بن خالد، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وغير واحد من الأئمة؛ عن أبي الزبير المكي. وقال البيهقي: "تفرد به قتيبة بن سعيد عن ليث عن يزيد، أنا محمد بن عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا الحسن محمد بن موسى بن عمران الفقيه الصيدلاني يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: سمعت صالح بن حفصويه بنيسابور صاحب حديث يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبتَ عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ فقال: كتبته مع خالد المدائني، قال محمد ابن إسماعيل: وكان خالد المدائني هذا يدخل الأحاديث على الشيوخ. قال البيهقي: وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل، فأما رواية أبي الزبير عن أبي الطفيل فهي محفوظة صحيحة" (¬1). يشير إلى ما رواه بعده من طريق: الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك، إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل، جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك، إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس، أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم جمع بينهما" (¬2). وله شاهد من حديث أنس، قال البيهقي: "أخبرنا أبو عمرو الأديب، ثنا ¬

_ (¬1) انظر: سنن البيهقي الكبرى: (3/ 163). (¬2) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (3/ 161).

أبو بكر الإسماعيلي، أنبأ جعفر الفريابي، ثنا إسحاق بن راهويه، أنا شبابة بن سوار، عن ليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في سفر، فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، ثم ارتحل" (¬1). قال الحافظ في "الفتح" (2/ 583): "روى إسحاق بن راهويه هذا الحديث عن شبابة فقال: "كان إذا كان في سفر، فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، ثم ارتحل"، أخرجه الإسماعيلي، وأعل بتفرد إسحاق بذلك عن شبابة، ثم تفرد جعفر الفريابي به عن إسحاق، وليس ذلك بقادح؛ فإنهما إمامان حافظان". وله شاهد من حديث ابن عباس - رضي الله عنها -، رواه الدارقطني: من طريق ابن عجلان، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زاغت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، وإذا ارتحل قبل أن تزيغ أخرهما حتى يصليهما في وقت العصر" (¬2). وتابعه ابن الهاد، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم ... ". وحسين؛ قال الذهبي: ضعفوه، وكذا قال في "التقريب": ضعيف. والذي يظهر أنه ضبطه، فقد روى ابن المنذر في "الأوسط": حدثنا علي بن عبد العزيز قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن ابن عباس قال: "إذا كنتم سائرين فنابكم المنزل، فسيروا حتى تصيبوا منزلاً، فتجمعوا بينهما، وإن كنتم نزولاً، فعجل بكم أمر فاجمعوا بينهما ثم ارتحلوا". فهذا يؤكد أن ابن عباس كان يرفعه، ويفتي به، وهذا هو المعروف من أحوال الصحابة، كما تقدم في كلام ابن القيم: "فَقَوْلُ الْقَائِلِ: لو كان عِنْدَ ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (3/ 162). (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه: (1/ 389).

الصَّحَابِيِّ في هذه الْوَاقِعَة شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَذَكَرَهُ. قَوْلُ من لم يَعْرِفْ سِيرَةَ الْقَوْمِ وَأَحْوَالَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهَابُونَ الرِّوَايَةَ عن رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ويُعظِّمُونها، وَيُقَلِّلونَهَا خَوْفَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَيُحَدِّثُونَ بِالشَّيءِ الذي سَمِعُوه من النبي - صلى الله عليه وسلم مِرَارًا، وَلا يُصرِّحُونَ بِالسَّمَاعِ، وَلا يَقُولُونَ قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم". وعليه؛ فكلا الأمرين ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فربما صلى الظهر وارتحل، وربما قدم العصر مع الظهر فجمع بينهما ثم ارتحل. قال أبو بكر ابن المنذر: "اسم الجمع بين الصلاتين يقع على من جمع بينهما في وقت إحداهما، وعلى من جمع بينهما، فصلى الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها إن أمكن ذلك، غير أنك إذا تدبرت الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علمتَ أنها دالَّة على إباحة الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما، مع أن الجمع بين الصلاتين إنما رُخِّصَ فيه للمسافر تخفيفًا عليه، ولو كان المسافر كلف إذا أراد الجمع بين الصلاتين أن يصلي الأولى من الصلاتين في آخر وقتها، والأخرى في أول وقتها، لكان ذلك إلى التشديد على المسافر والتغليظ عليه أقرب" (¬1). والحديث أفتى به الإمام أحمد: ففي "مسائل الإمام أحمد وابن راهويه": "قُلْتُ: هل يجمع بين الصلاتين في السفر والحضر وكيف يجمج بينهما؟ قَالَ: وجه الجمع أن يُؤخر الظهرَ حتَّى يدخلَ وقتُ العصرِ، ثم ينزل فيجمع بينهما، ويؤخر المغربَ كذلك، وإن قَدَّم، فأرجو أن لا يكونَ به بأسٌ. قَالَ إسحاق: كما قَالَ بلا رجاء". وهذا يدل على تصحيح إسحاق للحديث، فالأمر كما قال أبو عبد الرحمن -على الجميع رحمة الله-. ¬

_ (¬1) انظر: الأوسط: (2/ 428).

الحديث التاسع والخمسون

الحديث التاسع والخمسون قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الجمعة على من سمع النداء". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث معلول، وأعله من الأئمة: أبو داود، وقال عبد الحق: الصحيح أنه موقوف. وكذا قال ابن رجب". * قلت: والأمر كما قال أبو عبد الرحمن: الحديث حسن. قال الدارقطني: حدثنا عبد الله بن أبي داود، ثنا محمد بن يحيى، ثنا قبيصة، ثنا سفيان عن محمد بن سعيد، عن أبي سلمة بن نبيه، عن عبد الله بن هارون، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة على من سمع النداء"، قال لنا ابن أبي داود: محمد بن سعيد هو الطائفي ثقة، وهذه سنة تفرد بها أهل الطائف" (¬1). وروى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصورًا على عبد الله بن عمرو، ولم يذكروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أسنده قبيصه، وقبيصة بن عقبة من الثقات، ومحمد بن سعيد هذا هو الطائفي ثقة. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه: (2/ 6).

وكلام الدارقطني يدل أنه يثبته. وله طريق آخر، قال الدارقطني: حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، نا هشام بن خالد، نا الوليد، عن زهير بن محمد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الجمعة على من سمع النداء" (¬1). * قلت: وهذا إسناد جيد. ورواه من وجه آخر، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، ثنا داود بن رشيد، ثنا محمد بن الفضل بن عطية، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة على من بمدى الصوت". قال داود: يعني حيث يسمع الصوت. ويشهد له: ما رواه الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد هممتُ أن آمر بالصلاة، فتقام، ثم أخرج بفتيان معهم حزم حطب، فأحرق على قوم بيوتهم، يسمعون النداء، ثم لا يأتون الصلاة". وفي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-مرفوعًا-: "لقد هممتُ أن آمر رجلاً يصلي للناس، أو بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلَّفون عن الجمعة بيوتهم"، أخرجه مسلم (651). كيف وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]. وروى الشيخان من طريق عبد الْحَمِيدِ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ قال: سمعت عَبْدَ اللَّهِ بن الْحَارِثِ قال: "خَطَبَنَا ابن عَبَّاسٍ في يَوْمٍ ذِي رَزغٍ، فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ لَمَّا بَلَغَ حَيَّ على الصَّلاةِ، قال: قُلْ: الصَّلاةُ في الرِّحَالِ. فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ، فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا! فقال: كأنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هذا؛ إِنَّ هذا فَعَلَهُ من هو خير مِنِّي" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (657) ومسلم (651). (¬2) أخرجه البخاري (616، 668، 901) ومسلم (699).

وأما قول المستدرك في الحديث الذي بعده: "وما أكثر ما يردد المتأخرون تعليلات الأئمة بمثل هذا الأمر، وهو من أعجب الردود! إذ لو أخذنا بهذه الطريقة لم تسلم لنا أكثر العلل الحديثية، وهو ليس ردًّا علميًّا مبني على معرفة درجة إتقان الرجل، أو تفرده، أو نحو ذلك، إنما هو احتمال عقلي، لا يسنده تعليل حديثي، وهذا كاف في رده"!! سبق وأن قلت: إن هذا العلم وسيلة وليس غاية، فمثله مثل علوم الآلة، والغاية هو المتن، وكما تقدم في كلام ابن القيم عن الصحابة: "وَلا حَاجَةَ بهم إلَى النَّظَرِ في الإِسْنَاد، وَأَحْوَالِ الرُّوَاةِ، وَعِلَلِ الحديث، وَالْجَرْح وَالتَّعْدِيل". فصحة الحديث لا يُكتفى فيها بمعرفة العلل، دون النظر إلى أصول الشريعة ومقاصدها، كما قال شيخ الإسلام: "والمرسل نقول: إذا عمل به جماهير أهل العلم وأرسله من أخذ العلم عن غير رجال المرسل الأول، أو روي مثله عن الصحابة، أو وافقة ظاهر القرآن؛ فهو حُجَّة". ولكن لا يفطن لهذا ويدركه إلا الكبار من أهل العلم، ولا يتأتَّى بالقراءة في كتب العلل، دون ضيط أصول العلم، رواية ودراية، وفِقْهًا، والله الموفق. وقال ابن مهدي: "رجلان من أهل الشام إذا رأيتَ رجلاً يحبهما فاطمئن إليه: الأوزاعي وأبو إسحاق، كانا إمامين في السنة. وقال ابن عيينة في قصة: والله ما رأيتُ أحدًا أُقدّمه عليه. وقال لأبي أسامة: أيهما أفضل أبو إسحاق، أو الفضيل بن عياض؟ فقال: كان الفضيل رجل نفسه، وأبو إسحاق رجل عامة" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: تهذيب التهذيب: (1/ 132).

الحديث الستون

الحديث الستون حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعرض له الرجل يوم الجمعة، بعدما ينزل من المنبر فيكلمه ثم يدخل الصلاة". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعيف، وقد أعلَّه من الأئمة: البخاري، وأبو داود، والدارقطني". ونقل المستدرك إحالة الشيخ ناصر على تقرير أحمد شاكر على الترمذي وهو قوله: "والحق ما قاله العراقي من صحة حديث جرير، بل قد يكون حديثًا آخر". * قلت: قال أبو داود: حدثنا مُسْلِمُ بن إبراهيم، عن جَرِيرٍ -هو ابن حَازِمِ- لا أَدْرِي كَيْفَ قَالَهُ مُسْلِم أولاً عن ثَابِتٍ عن أَنسٍ قال: "رأيت رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْزِلُ من الْمِنْبَر، فَيَعْرِضُ له الرَّجُلُ في الْحَاجَةِ، فَيَقُومُ معه حتى يَقْضيَ حَاجَتَهُ، ثُمّ يَقُومُ فّيُصَلَّي" (¬1). قال أبو داوُد: الْحَدِيثُ ليس بِمَعْرُوفٍ عن ثابِتٍ، هو مِمَّا تَفَرَّد بِهِ جَرِيرُ بن حَازِمٍ. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في "السنن" (1120).

وهو إسناد صحيح كلما لا يخفى، وتعليله جاء من قبل متنه، والحق أنه لا غبار على المتن، كما سيتَّضِح. قال المستدرِكُ: "وكلمة هؤلاء الأئمة تلتقي في معنى واحد، وهو أن جريرًا وهم في هذا الحديث، فالحديث ليس فيه نزول من المنبر، بل الصحيح عن ثابت عن أنس: "أقيمت الصلاة فأخذ ... " كما ذكره البخاري". ثم قال المستدرِكُ: "والجواب على ذلك: أن قوله: "حتى نعس بعض القوم"، لا يتأتَّى بعد نزول الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المنبر، بل هو في صلاة العشاء غالبًا". * قلت: هذا الذي استبعده من نقلت عنه من الأئمة جاء صريحًا في الصحيح، قال الإمام مسلم: حدثنا شَيْبَانُ بن فَرُّوخَ، حدثنا سُلَيْمَانُ بن الْمُغِيرَةِ، حدثنا حُمَيْدُ بن هِلالٍ، قال: قال أبو رِفَاعَةَ: "انْتَهَيْتُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يَخْطُبُ، قال: فقلت: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ رَجُل غَرِيبٌ، جاء يَسْأَلُ عن دِينِهِ، لا يَدْرِي ما دِينُهُ. قال: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ حتى انْتَهَى إلي، فَأُتِيَ بِكُرْسِى، حَسِبْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا، قال: فَقَعَدَ عليه رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ الله، ثُمَّ أتى خُطْبَتَهُ فَأَتَمَّ آخِرَهَا" (¬1). وهو كما ترى أشد من الصورة الأولى، وبهذا يتضح لك أن التعليل أمر نسبي، يصيب ويخطئ، وليس وحيًا من السماء، وأن إتقان العلم لا يتأتَّى بمجرد التقليد، فالحمد لله الذي وفَّق الشيخ -عليه رحمة الله- لما فات غيره. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (876).

الحديث الحادي والستون

الحديث الحادي والستون حديث ابن عمر مرفوعًا: "من أدرك ركعة من يوم الجمعة فقد أدركها، وليضف إليها أخرى". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث معلول بالوقف، أعله بذلك الدارقطني، وله طريق آخر أعلَّه أبو حاتم" اهـ. * الجواب: هذا الحديث مروي من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر - رضي الله عنها مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم. أما الأول: فمن أوجه منها ثلاثة: أحدها: من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، حدثني الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك من صلاة الجمعة ركعة، فقد أدرك الصلاة" (¬1). رواه الحاكم في "مستدركه" (1/ 429)، من طريق محمد بن ميمون الإسكندراني حدثنا الوليد به، ثم قال: هذا حديث إسناده صحيح على شرط ¬

_ (¬1) وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه": (3/ 173)، وأخرجه النسائي في سننه (المجتبى): (3/ 112).

الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، إنما اتفقا على حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك من الصلاة ركعة ومن أدرك من صلاة العصر ركعة"، ولمسلم فيه الزيادة: "فقد أدركها كلها". ثانيها: من طريق أسامة بن زيد الليثي عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك من صلاة الجمعة ركعة، فليصل إليها أخرى". رواه الحاكم أيضا في "مستدركه" (1/ 429) من طريق الفضل بن محمد الشعراني ثنا سعيد بن أبي مريم نا يحيى بن أيوب نا أسامة به. ثم قال: هذا حديث صحيح إسناده على شرط الشيخين. ويحيى هذا هو الغافقي، وإن احتج به الشيخان وغيرهما، فقد قال أبو حاتم في حقه: محله الصدق، ولا يحتج به. وقال النسائي: ليس بالقوي. وأسامة بن زيد: من رجال مسلم، وقال يحيى بن معين: كان يحيى القطان يضعفه. ثم قال يحيى بن معين: هو ثقة. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: ليس به بأس. الثالث: من طريق حماد بن زيد عن مالك بن أنس، وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن أبى سلمة مرفوعًا: "من أدرك من الجمعة ركعة، فليصل إليها أخرى". رواه الحاكم أيضًا في "مستدركه"، من طريق عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي نا حماد به. وقال فيه كما قال في الطريقين قبله. وصالح هذا لينه البخاري، وضعفه النسائي، وأحمد، وأبو زرعة، وقال ابن حبان: اختلط عليه ما سمع بما لم يسمع، فحدث بالكل، فينبغي أن لا يحدث عنه. وهذه الطرق الثلاث أحسن طرق هذا الحديث. والحديث في "الصحيحين"، وذكر الجمعة قاله أربعة أنفس عن الزهري،

عن أبي سلمة كلهم ضعفاء، أي: وهم أسامة بن زيد، وصالح بن أبي الأخضر، وسليمان بن أبي داود، وعبد الرزاق بن عمر الدمشقي. * قلت: قد تابعهم الأوزاعي، ومالك؛ كما سلف من طريق الحاكم، وصححهما على شرط الشيخين، وقال في رواية: أسامة وصالح مثل ذلك، وتابعهم أيضًا ياسين بن معاذ، والحجاج، ومعاذ؛ كما سلف. وأما حديث ابن عمر فله أيضًا طرق: أحدها: من طريق الزهري عن سالم عن أبيه رفعه: "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة، أو غيرها، فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته" (¬1). وفي لفظ: "وقد أدرك الصلاة". رواه الدارقطني في "سننه" من طريق محمد بن مصفى، وعمرو بن عثمان قالا: ثنا بقية، قال: حدثني يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري به، ثم قال: قال لنا ابن أبي داود: لم يروه عن يونس إلا بقية. وقال ابن أبي حاتم في "علله": سألت أبي عن هذا الحديث، فقال: هذا خطأ المتن، والإسناد، إنما هو عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك من صلاة ركعة فقد أدركها"، وأما قوله: "من صلاة الجمعة"، فليس هذا في الحديث، فوهم في كليهما. الطريق الثاني: من طريق يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر رفعه "من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدركها، وليضف إليها أخرى"، وفي لفظ: "من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى" (¬2). رواه الدارقطني في "سننه" أيضًا من حديث يعيش بن الجهم، ثنا عبد الله ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في سننه: (1/ 356)، وأخرجه الدارقطني في سننه: (2/ 12). (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه: (2/ 13).

ابن نمير عن يحيى باللفظ الأخير، ومن حديث عيسى بن إبراهيم ثنا عبد العزيز ابن مسلم عن يحيى باللفظ الأول. ورواه الطبراني من حديث إبراهيم بن سليمان الدباس عن عبد العزيز به بلفظ: "من أدرك ركعة من الجمعة، فقد أدرك"، ثم قال: لم يروه عن يحيى إلا عبد العزيز، تفرد به إبراهيم بن سليمان. وذكر الدارقطني في "علله" الاختلاف فيه، ثم قال: "والصواب وقفه على ابن عمر". الطريق الثالث: عن إبراهيم بن عطية الثقفي عن يحيى بن سعيد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه رفعه: "من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى". رواه أبو حاتم ابن حبان في "تاريخ الضعفاء" في ترجمة إبراهيم هذه، ثم قال في حقه: "منكر الحديث جدًّا، وكان هشيم يدلس عنه أخبارًا لا أصل لها، وهو حديث خطأ". قال ابن عبد الهادي: "وإسناده جيد، لكن تكلم فيه أبو حاتم، وقال: هذا خطأ المتن، والإسناد. وقال ابن أبي داود: لم يروه عن يونس إلا بقية. وقد رواه النسائي أيضاً من حديث سليمان بن بلال عن يونس عن ابن شهاب عن سالم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك ركعة من صلاة من الصلوات، فقد أدركها، إلا أنه يقضي ما فاته"، وهو مرسل" (¬1). وعلى فرض أنَّا سلَّمنا بأن كافة الطرق معلولة، وهِبْنَا أبا حاتم فلم نخالفه، فماذا نصنع بإجماع الصحابة؟ فإن قيل: لعل الصحابة أخذوا فقه الحديث من طريق الصحيحين؛ أي باللفظ الثابت فيهما، وليس فيه ذكر الجمعة! ¬

_ (¬1) انظر: المحرر في الحديث: (1/ 274).

قُلنا: هذا فيه نظر إلا على واسع الخطو في القياس، فإن الجمعة ليست هي الظهر، ولو أخذه بعضهم فمن البعيد أن يتفقدا من غير نص من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأيهما أولى مخالفة: أبي حاتم، أو مخالفة الصحابة؟! فإن قول أبي حاتم يحتمل الصواب والخطأ، وإجماع الصحابة لا يحتمل الخطأ. قال شيخ الإسلام: "الرابع: أن الجمعة لا تدرك إلا بركعة، كما أفتى به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- منهم: ابن عمر، وابن مسعود، وأنس وغيرهم، ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف، وقد حكى غير واحد أن ذلك إجماع الصحابة" (¬1). ثم وجدت في "مسائل الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه" (1/ 122) احتجاجه بالحديث: "قُلْتُ: مسافر أدرك من صلاة المقيمين ركعةً، أو أدركهم جلوسًا، قَالَ: يصلي بصلاتهم، وإذا أدركهم جلوسًا؟ يصلي بصلاتهم، فلولا الحديثُ في الجمعة لكان ينبغي له أن يصلي ركعتين". وفي "شرح الزركشي" الحنبلي قوله: "إلا أن أحمد قال: لولا الحديث الذي يروى في الجمعة، لكان ينبغي أن يصلي ركعتين، إذا أدركهم جلوسًا. وظاهر هذا أنه يعتمد عليه" (¬2). فالملاحظ: أن التقليد كما هو في الفقه، فهو موجود في الحديث، فانظر كيف تتابع أكثر أصحاب كتب التخريج على تقليد أبي حاتم، والدارقطني، ولم يتفطَّنوا إلى أن اتفاق الصحابة لا بد له من مستند، وإلا فأين يقع علم أبي حاتم والدارقطني من علم الإمام أحمد؟! وعند التأمل: فإن النظر لا يستبعد أن يكونا حديثين، فإن في صحيفة همام ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى: (23/ 332). (¬2) شرح الزركشي: (1/ 274)، والفروع: (2/ 102).

مئة حديث بإسناد وأحد، كلها صحيحة، أخرج البخارى قطعة منها في "صحيحه"، وكذا مسلم، كيف وقد أفتى به تلاميذ النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وأعرف الناس بحديثه؟ وهم الشهداء حقًّا بصدق الحديث أو خطئه! وهذا من الأدلة البينة أن الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله، معدود من الأئمة القلائل المجددين لما اندرس من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله ولي التوفيق.

الحديث الثاني والستون

الحديث الثاني والستون حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث موقوف، ولا يصح مرفوعًا، كما قال النسائي وغيره". ثم قال في آخر بحثه: "لكن مثله لا يقال بالرأي، فله حكم الرفع". فهو كما قيل: فسَّر الماء بعد جهد بالماء!

الحديث الثالث والستون

الحديث الثالث والستون حديث عبد الله بن السائب: "شهدتُ العيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرِكُ: "الحديث معلول بالإرسال، أعلَّه بذلك أبو داود والنسائي، وابن معين، والبيهقي، وابن خزيمة". * الجواب: قال البخاري رحمه الله: حدثنا حِبَّانُ بن مُوسَى، أخبرنا عبد اللَّهِ قال: أخبرني يُونُسُ عن الزُّهْرِيِّ قال: حدثني أبو عُبَيْدٍ مولى بن أَزْهَرَ: "أنَّهُ شَهِدَ الْعِيدَ يوم الأضْحَى مع عُمَرَ بن الْخَطَّاب -رضي الله عنه-، فَصَلَّى قبل الْخطْبَةِ، ثمَّ خَطَبَ الناس فقال: يا أَيُّهَا الناس؛ إِنَّ رَسُولَ الَلَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قد نَهَاكُمْ عن صيام هَذَيْنِ الْعِيدَيْنِ، أَمَّا أحدهما فَيَوْم فِطْرِكمْ من صِيَامِكُمْ وَأَمَّا الآخَر فَيَوْم تأكلون نسُكِكمْ". قال أبو عُبَيدٍ: ثُمَّ شَهِدْتُ مع عُثْمَانَ بن عَفَّانَ فَكَانَ ذلك يوم الجمعة، فَصَلَّى قبل الْخطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ فقال: "يا أَيُّهَا الناس؛ إِنَّ هذا يَوْم قد اجْتَمَعَ لَكمْ فيه عِيدَان، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْتَظِرَ الْجُمعَةَ من أَهْلِ الْعَوَالِي فَلْيَنْتَظِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فَقَدْ أَذِنْتُ له" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (5/ 2116).

فعثمان -رضي الله عنه- قال هذا القول بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد منهم، فدل على إجماعهم أن هذا من السنة، وهذا مما يؤكد صحة الحديث موصولاً، فلله دَرّ أبي عبد الرحمن كم حفظ الله به من السنن، وبالله التوفيق.

الحديث الرابع والستون

الحديث الرابع والستون عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلِّي قبل العيد شيئًا". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعيف، وابن عقيل لا يحتج به، وقد تفرد بالحديث .. ". * الجواب: الحديث رواه عبد الله بن أحمد في زوائد "المسند": حدثنا عبد اللَّهِ حدثني أبي ثنا زكريا بن عدي أنا عُبَيْدُ اللَّهِ عن عبد اللَّهِ بن مُحَمَّدِ بن عَقِيل عن عَطَاءِ بن يسار عن أبي سَعِيدٍ الخدري قال: "كان رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يفْطِرُ يوم الفطر قبل أَن يَخْرُجَ، وكان لا يصلي قبل الصَّلاةِ، فإذا قَضَى صَلاتَهُ صلى ركعتين" (¬1). قال الحافظ: بإسناد حسن (¬2). وهو كذلك، فإن ابن عقيل لا ينزل حديثه عن الحسن، وحكى الترمذي عن الإمام أحمد وإسحاق أنهما كانا يحتجان به، وعن البخاري قال: مقارب الحديث، أي يقارب حديثه حديث الثقات. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (3/ 28)، وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (2/ 362). (¬2) انظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية: (1/ 219).

وأما دعوى التفرد؛ فلا تصح، فإنه قيَّد الركعتين في بيته. ويدل على ذلك أنه ثبت عن ابن مسعود وحذيفة النهي عن الصلاة قبل العيد، ففي "مصنف عبد الرزاق": عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين: "أن ابن مسعود وحذيفة، كانا ينهيان الناس، أو قال: يجلسان من رأياه يصلي قبل خروج الإمام يوم العيد" (¬1). وثبت عن ابن مسعود الصلاة بعد العيد، فقد روى عبد الرزاق عن الثورى عن صالح عن الشعبي قال: "كان ابن مسعود يصلي بعد العيدين أربعًا" (¬2). وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين، وقتادة: "أن ابن مسعود كان يصلي بعدها أربع ركعات، أو ثمان، وكان لا يصلي قبلها" (¬3). ويقرِّبُ هذا: أن عبد الرزاق روى كلا الأمرين عن الشعبي، فإنه روى عن ابن التيمي عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: "خرجت معه في يوم عبد، فلم يصلِّ قبلها، ولا بعدها، قال: ثم خرجتُ أنا ومسروق وشريح إلى الجبانة، فلم نصلِّها قبلها، ولا بعدها. قال إسماعيل: وقام رجل يصلي يوم العيد بعد الصلاة، فنهاه عامر ولم يدعه يصلي بعدها" (¬4). وروى عن إسرائيل بن يونس عن عيسى بن أبي عزة قال: "رأيت عامرًا يصلي بعد العيدين ركعتين" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (3/ 273). (¬2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: (9/ 306). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (3/ 276)، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير: (9/ 306). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (3/ 273). (¬5) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (3/ 276).

الحديث الخامس والستون

الحديث الخامس والستون قول عمر -رضي الله عنه-: "صلاة العيد والأضحى ركعتان ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث منقطع، أعلَّه بذلك ابن معين والنسائي وغيرهما". * الجواب: روى هذا الحديث النسائي في "الكبرى" (1734)، وابن ماجه (1063)، وأبو حاتم ابن حبان (2783)، وقال النسائي: ابن أبي ليلى لم يسمعه من عمر. وقد روى أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (241) عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت أبي يقول: ثنا الحسين بن واقد عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت، أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه قال: "خرجتُ مع عمر بن الخطاب إلى مكة، فاستقبلنا أمير مكة نافع بن علقمة، فقال: من استخلف على مكة؟ قال: استخلف عليها عبد الرحمن بن أبزى". والحديث مذكور في مسلم من طريق أبي الطفيل، وهذا الطريق الذي ذكره أبو يعلى فيه دليل على صحبة عبد الرحمن بن أبي ليلى لعمر -رضي الله عنه- (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (2/ 50).

قال مسلم بن الحجاج: "وأسند عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى، وقد حَفِظَ عن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ". وعلى فرض أن عبد الرحمن لم يسمع من عمر، فقد قال البيهقي (3/ 199) بعد أن أخرجه: رواه يحيى القطان عن سفيان عن زبيد عن ابن أبي ليلى عن الثقة عن عمر. ثم أخرجه بإسناد صحيح، عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن عمر قال: قال عمر: "صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، تمام غير قصر".

الحديث السادس والستون

الحديث السادس والستون حديث: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلَّى". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الصواب: أن الحديث ضعيف مرفوعًا صحيح موقوفًا، كما قال البيهقي". * الجواب: قال ابن خزيمة: "أخبرنا أبو طاهر نا أبو بكر نا أحمد بن علي بن وهب ثنا عمي ثنا عبد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين مع الفضل بن عباس، وعبد الله بن عباس، والعباس، وعلي، وجعفر، والحسن والحسين، وأسامة بن زيد، وزيد بن حارثة، وأيمن ابن أم أيمن رافعًا صوته بالتهليل، والتكبير، فيأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلَّى، فإذا فرغ رجع على الحذائين حتى يأتي منزله" (¬1) وعبد الله بن عمر العمري: يُضَعَّفُ من قبل الخطأ. وله شاهد رواه الحاكم (4/ 256) من طريق إسحاق بن بزرج عن زيد بن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه: (3/ 343).

الحسن عن أبيه قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العيدين، أن نلبس أجود ما نجد، وأن نتطيَّب بأجود ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد: البقرة عن سبعة، والجزور عن عشرة، وأن نظهر التكبير، وعلينا السكينة والوقار"، وقال الحاكم: لولا جهالة إسحاق هذا، لحكمت للحديث بالصحة. وتعقبه ابن كثير قائلاً: "قلت: ليس بمجهول، فقد ضعفه الأزدي، ووثقه ابن حبان" (¬1). وذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحًا، ومن عادته الجرح عند وجود سببه. وقال ابن أبي حاتم: "إسحاق بن بزرج مصرى روى عن الحسن بن علي، روى عنه الليث بن سعد، سمعتُ أبي وأبا زرعة يقولان ذلك". قال المزي: "إسحاق بن بزرج الفارسي مولى أم حبيبة" (¬2). فحديثه مما يصلح أن يستشهد به ولا ريب. وقد تظافرت الآثار عن الصحابة في العمل به: قال الطحاوي: "حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عائذ بن حبيب عن الحجاج عن سعيد بن أشوع عن حنش بن المعتمر، قال: "رأيت عليًّا -رضي الله عنه- أتي ببغلته يوم الأضحى فركبها، فلم يزل يكبر حتى أتى الجبانة". ووجدنا محمد بن خزيمة قد حدثنا قال: حدثنا يوسف بن عدي، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يخرج يوم الفطر ويوم الأضحى يكبر يرفع بذلك صوته، حتى يجيء المصلى". ووجدنا يوسف بن يزيد قد حدثنا قال: حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا ¬

_ (¬1) انظر: تحفة المحتاج: (1/ 544). (¬2) انظر: تهذيب الكمال: (6/ 221).

الدراوردي عن موسى بن عقبة، وعبيد الله بن عمر عن نافع: "أن ابن عمر كان إذا خرج من بيته إلى العيد كبر حتى يأتي المصلى، ولا يخرج حتى تطلع الشمس". ووجدنا محمد بن خزيمة وابن أبي داود قد حدثانا قالا: حدثنا يوسف بن عدي، حدثنا ابن إدريس، عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن محمد بن إبراهيم: "أن أبا قتادة كان يكبر يوم العيد حتى يبلغ المصلَّى". قال أبو جعفر: فكان ما روينا عن علي وابن عمر وأبي قتادة في ذلك التكبير أنه في الطريق إلى المصلى لا فيما سواه. ووجدنا أبا أمية قد حدثنا قال: حدثنا جعفر بن عون المخزومي، ثم العمري أخبرنا الأعمش عن تميم بن سلمة قال: "خرج ابن الزبير يوم العيد فلم يرهم يكبرون، فقال: ما لهم لا يكبرون؟! أما والله لئن فعلوا ذلك، لقد رأيتنا في عسكر ما يرى طرفاه، فيكبر الرجل ويكبر الذي يليه حتى يرتج العسكر، وإن بينكم وبينهم كما بين الأرض السفلى إلى السماء الدنيا". قال أبو جعفر: فكان في هذا الحديث عن ابن الزبير في التكبير" (¬1). والحديث والآثار تفسير عملي لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. ¬

_ (¬1) انظر: مشكل الآثار: (14/ 36 - 39).

الحديث السابع والستون

الحديث السابع والستون حديث عبد الله بن زيد: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - حين استسقى أطال الدعاء وأكثر المسأله، قال: ثم تحول إلى القبلة، وحوَّل رداءه، فقلبه ظهرًا لبطن، وتحول الناس معه". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدركُ: "لم أجد هذه اللفظة في مسند أحمد، ولهذا الحديث طرق أخرى كثيرة لم أقف في شيء منها على هذا اللفظ، فهو لفظ خطأ ليس في الطرق الصحيحة لحديث عبد الله بن زيد. وهذا اللفظ لو صح لكان نصًّا في مسألة خلافية، وهي هل يحول الناس أرديتهم مع الإمام؟ ". * قلت: هذا ونحن في عمر الطباعة والحاسوب! أما قولك: وهذا اللفظ لو صح ...... فهو يدل على أنك تعتقد ثم تستدل، فمع أنك لم تقف عليها إلا أنك بادرت في الحكم عليها، فكيف لو وجدتها في. "علل ابن أبي حاتم"، أو

"التاريخ الكبير"؟ وهذه ليست طريقة أهل الحديث، أهل الرواية والدراية، بل هو ضرب من الخرص والقول بلا علم! * قلت: بل هي في "مسند الإمام أحمد": حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا يعقوب قال: ثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بَكْرٍ عن عَبَّادِ بن تَمِيمِ الأنصاري ثُمَّ المازني عن عبد اللَّهِ بن زَيْدِ بن عَاصِمٍ -وكان أَحَدَ رَهْطِهِ وكان عَبد اللَّهِ بن زَيْدٍ من أَصْحَابِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قد شَهِدَ معه أُحُدًا- قال: "قد رأيت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حين اسْتَسْقَى لنا أَطَالَ الدُّعَاءَ، وَأكْثَرَ الْمَسْأَلَةَ، قال: ثُمَّ تَحَوَّلَ إلى القبلة، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ فَقَلَبَهُ ظهر البطن وَتَحَوَّلَ الناس معه" (¬1). وأشار إليها الحافظ في "الفتح" و"الدراية"، وابن كثير في "التحفة"، وابن الملقن في "البدر"، والمباركفوري في "التحفة"، وغيرهم. قال الحافظ: "واستحب الجمهور أيضًا أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق أخرى عن عباد في هذا الحديث بلفظ: "وحول الناس معه" (¬2). والحديث أخرجه الضياء في "المختارة" (9/ 361)، ولو لم ترد هذه الزيادة الصحيحة، لقلنا: إن هذا من السنة، لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] فلله الحمد. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده: (4/ 41). (¬2) انظر: فح الباري: (2/ 498).

الحديث الثامن والستون

الحديث الثامن والستون حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعيف، ضعفه من الأئمة الدارقطني". ثم نقل عن الدارقطني قوله: "والصحيح مرسل". يعني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصح مرسلاً أيضًا عن زيد بن أسلم عن النبي. * قلت: ويشهد للمرفوع والمرسَلَين ما رواه مسلم (976) عن أبى هريرة قال: "زَارَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى، وَأَبْكَى من حَوْلَهُ، فقال: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي في أَنْ أَسْتَغْفرَ لها، فلم يُؤْذنْ لي، وَاستَأْذَنْتُهُ في أَنْ أَزُورَ قَبْرهَا فأُذِنَ لي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فإِنَّهَا تُذَكَّرُ الْمَوْتَ". فالحديث لا ريب في ثبوته، وقد جاء في معناه أحاديث كثيرة.

الحديث التاسع والستون

الحديث التاسع والستون قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة -رضي الله عنه-: "لو مُتِّ قبلي لغسَّلتك وكفَّنتك". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "قوله "لغسلتك"، لا يثبت". * الجواب: قال الحافظ: "وَأَعَلَّهُ الْبَيْهَقِيُّ بِابْنِ إِسْحَاقَ، ولم يَنْفَرِدْ بِهِ؛ بَلْ تَابَعَهُ عليه صَالِحُ بن كَيْسَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ" (¬1). ففي "المسند" (6/ 228): حدثنا عبد اللَّهِ حدثني أبي ثنا يَزِيدُ أنا إِبْرَاهِيمُ ابن سَعْدٍ عن صَالِحِ بن كَيْسَانَ عَنِ الزهري عن عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ قالت: "دخل عَلَيَّ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في الْيَوْمِ الذي بدأ فيه، فقلتُ: وَارَأْساهُ! فقال: وَدِدْتُ أن ذلك كان وأنا حي فَهَيَّأْتُكِ وَدَفَنْتُكِ". وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (14/ 551) رقم (6576). أي: يتولى غسلها وتكفينها. وأخرج مسلم من حديث معاذة العدوية عن عائشة -رضي الله عنه-: "قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء -بيني وبينه- واحد، فيبادرني حتى أقول: دع ¬

_ (¬1) انظر: التلخيص الحبير: (2/ 107).

لي دع لي. قالت: وهما جنبان" (¬1). وقد اشتهر الأمر عند الصحابة بغير نكير: قال البيهقي (3/ 396): أخبرنا أبو عبد الله، وأبو بكر، وأبو زكريا، وأبو سعيد قالوا: حدثنا أبو العباس، قال: أخبرنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري، عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: "لو استقبلنا من أمرنا معرفة ما استدبرنا ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نساؤه" (¬2). حدثناه أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني محمد بن المؤمل، قال: حدثنا الفضل بن محمد، قال: حدثنا النفيلي، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، قال: حدثني محمد بن موسى عن عون عن عمارة بن المهاجر، عن أم جعفر، قالت: حدثتني أسماء بنت عميس، قالت: "غسلت أنا وعلي فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم" (¬3)، وذكر غيره عن محمد بن موسى وصيتها بذلك. وأخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان قال: أخبرنا أحمد بن عبيد، قال: حدثنا محمد بن يونس، قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أسماء بنت عميس قالت: "لما ماتت فاطمة -رضي الله عنها- غسلها علي بن أبي طالب رضي الله عنه" (¬4). وصحَّ ذلك عن ابن عباس: قال ابن أبي شيبة: حدثنا مُعْتَمِرُ بن سُلَيْمَانَ الرَّقِّيُّ عن حَجَّاجِ عن دَاوُد بن حُصيْنِ عن عِكْرِمَةَ عَنِ ابن عَبَّاسِ قال: "الرَّجُلُ أَحَقُّ بِغُسْلِ امْرَأَتِهِ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: (321/ 46). (¬2) أخرجه الشافعي في مسنده: (1/ 360)، وانظر "معرفة السنن والآثار" (3/ 131). (¬3) أخرجه الحاكم في مستدركه: (3/ 179)، وانظر "معرفة السنن والآثار" (3/ 131). (¬4) انظر: معرفة السنن والآثار: (3/ 131). (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (2/ 456).

الحديث السبعون

الحديث السبعون حديث المغيرة: "السقط يُصَلَّى عليه". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذا الحديث ضعيف مرفوعًا، صحيح موقوفًا على المغيرة، وممَّن ذهب إلى ذلك من الأئمة: الدارقطني، ورواه الطبراني موقوفًا على المغيرة، وقال: "لم يرفعه سفيان"، وأعلَّ الحديث أيضًا ابن حزم" اهـ. * الجواب: قال الحافظ: "في ذلك ما أخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم عن جابر رفعه: "إذا استهل الصبي؛ ورث وصُلِّي عليه"، وقد ضعفه النووى في شرح المهذب، والصواب: أنه صحيح الإسناد، لكن المرجَّح عند الحفاظ وقفه، وعلى طريق الفقهاء لا أثر للتعليل بذلك، لأن الحكم للرفع لزيادته" (¬1). والحق ما ذهب إليه فقهاء المحدثين، ومنهم الإمام أحمد، فقد ذهب إلى تصحيح حديث المغيرة، قال: السقط يُصلَّى عليه، إذا تم خلقه، عن سعيد بن المسيب، قال: قال أبو بكر: "أحق من صلينا عليه أطفالنا، والصلاة لا تضر". والمغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يصلى عليه إذا تم خلقه عتقت به الأمة ¬

_ (¬1) فتح الباري: (11/ 489).

يعني أم الولد، إذا تبين يد أو رجل، وانقضت به العدة ويصلى عليه ويغسل، كان محمد بن سيرين يرى أن يسميه" (¬1). وقال: "السقط يورث إذا استهل، والاستهلال: أن يبكي أو يصرخ، فإن لم يصرخ ولم يبك واختلج فلا يورث" (¬2). * قلت: ويشهد لحديث المغيرة ما رواه مسلم: عن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رضي الله عنه- قالت: "دُعِيَ رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - إلى جَنَازَةِ صَبِيٍّ من الأَنْصَارِ، فقلت: يا رَسُولَ اللًّهِ؛ طُوبَى لِهَذَا عُصْفُورٌ من عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، لم يَعْمَلْ السُّوءَ، ولم يُدْرِكْهُ، قال: أَوَغير ذلك يا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلاً خَلَقَهُمْ لها وَهُمْ في أَصْلابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلاً خَلَقَهُمْ لها وَهُمْ في أَصْلَابِ آبَائِهِمْ" (¬3). والصبي: تطلق على المولود، فقد روى البخاري: عن سَهْلٍ قال: أُتِيَ بِالْمُنْذِرِ بن أبي أسيد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وُلدَ، فَوَضَعَهُ على فَخِذِهِ وأبو أُسيدٍ جالس، فَلَهَا النبي - صلى الله عليه وسلم - بشَيءٍ بين يَدَيْه، فَأَمَرَ أبو أُسَيْدٍ بِابْنِهِ فَاحْتُمِلَ من فَخِذِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَاسْتَفَاقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أَيْنَ الصَّبيُّ؟ فقال أبو أُسيْدٍ: قَلَبْنَاهُ يا رَسُول اللَّهِ، قال: ما اسْمُهُ؟ قال: فُلانٌ. قال: وَلَكِنْ اسمه الْمُنذِرَ. فَسَمَّاهُ يَؤمَئِذٍ الْمُنْذِر" (¬4). ¬

_ (¬1) مسائل الإمام أحمد رواية أبنه أبي الفضل صالح: (3/ 176). (¬2) مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح: (3/ 238). (¬3) أخرجه مسلم (2662). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه: (6191).

الحديث الحادى والسبعون

الحديث الحادى والسبعون حديث علي -رضي الله عنه- أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فواره". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعيف، ضعَّفه ابن المديني، والبيهقي". * قلت: الحديث رواه الإمام أحمد (1/ 97) عن وكيع عن سفيان، ورواه أبو داود (3214) عن يحيى بن سعيد عن سفيان، ورواه النسائي (190) أيضًا عن ابن مثنى عن غندر عن شعبة عن أبي إسحاق. وسئل الدارقطني عن هذا الحديث فقال: "رواه شعبة، والثوري، وإسرائيل، وشريك، وزهير، وقيس، وورقاء، وإبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي، وخالفهم الحسين بن واقد، وأبو حمزة السكري، فروياه عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي، ووهما في ذكر الحارث، وذكر فيه من الاختلاف غير هذا. وقال: والمحفوظ قول الثوري وشعبة ومن تابعهما عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي، وكذلك رواه فرات القزاز عن ناجية بن كعب" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: الأحاديث المختارة: (2/ 364)، والبدر المنير: (5/ 238).

قال الحافظ: "وَمَدَارُ كَلام الْبَيْهَقِيِّ على أَنَّهُ ضعيف، وَلا يَتَبَيَّنُ وَجْهُ ضَعْفِهِ" (¬1). قال ابن أبي حاتم: "ناجية بن كعب العنزي أخو سلمى بنت كعب أبو خفاف، روى عن علي، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، روى عنه أبو إسحاق، وأبو حسان الأعرج، ويونس بن أبي إسحاق، سمعت أبي يقول ذلك، نا عبد الرحمن أنا أبو بكر بن أبي خيثمة فيما كتب إليَّ قال: سئل يحيى بن معين عن ناجية بن كعب؟ فقال: صالح، سمعتُ أبي يقول: ناجية شيخ" (¬2). وقال في "المعرفة": "ناجية بن كعب كوفي تابعي ثقة" (¬3). وقال الذهبي في "المغني": "ناجية بن كعب عن علي، توقف فيه ابن حبان وقواه غيره، وقال ابن معين: صالح" (¬4). وقال في "التقريب": "ناجية بن كعب الأسدي عن علي: ثقة من الثالثة أيضاً، وهم من خلطه بالأول د ت س" (¬5). وقال: "وقال العجلي: "ناجية بن كعب كوفي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات" (¬6). قال الضياء في "المختارة": "إسناده صحيح". وهو الحق الذي لا مرية فيه، فإن هذا الأمر واجب على علي -رضي الله عنه-، لقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ¬

_ (¬1) انظر: التلخيص الحبير: (2/ 114). (¬2) انظر: الجرح والتعديل: (8/ 486). (¬3) انظر: معرفة الثقات: (2/ 308). (¬4) انظر: المغني في الضعفاء: (2/ 692). (¬5) انظر: تقريب التهذيب: (ص 557). (¬6) انظر: تهذيب التهذيب: (10/ 357).

الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15]. فطاعة الوالدين الكافرين والبر بهما واجب في غير معصية، وقد روى البخاري عن ابن عُمَرَ -رضي الله عنه- أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ جاء ابْنُهُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي قَمِيصَكَ اُكَفِّنْهُ فيه، وَصَلِّ عليه وَاسْتَغْفِرْ له، فَأَعْطَاهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَمِيصَهُ فقال: آذِنِّي أُصلِّي عليه، فَآذَنَهُ فلما أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عليه جَذَبَهُ عُمَرُ -رضي الله عنه- فقال: أَلَيْسَ الله نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ على الْمُنَافِقِينَ؟ فقال: أنا بين خيَرَتَيْن، قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فَصَلَّى عليه، فَنَزَلَتْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} " (¬1). وقد روى سعيد بن منصور عن ابن عباس ما يدل على ما تقدم: حدثنا سعيد قال: نا سفيان عن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال: "جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن أبي مات نصرانيًّا، فقال له: اغسله وكفنه، وحنطه، ثم ادفنه، ثم قال هذه الآية: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 113 - 114] قال: لما مات على كفره تبين له أنه عدو لله فتبرأ منه (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1269). (¬2) انظر: سنن سعيد بن منصور (5/ 275، 280)، وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (3/ 398).

الحديث الثاني والسبعون

الحديث الثاني والسبعون حديث ابن عمر: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر يمشون أمام الجنازة". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذا الحديث معلول بالإرسال .......... ". * الجواب: الحديث احتج به أحمد في رواية أبي طالب ومهنا، لكن قال في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث: "ما أراه محفوظًا، عدة أرسلوه، وما أراه إلا من كلام الزهري، قيل له: فتذهب إلى المشي أمام الجنازة؟ فقال: نعم" (¬1). ثم قال الزركشي: "ابن المنكدر سمع ربيعة يقول: رأيت عمر يقدم الناس أمام الجنازة، وكذا قال الترمذي: إن أهل الحديث يرون أن المرسل أصح. وهذا لا يخرج الحديث عن الحجية على قاعدة أحمد في المرسل" (¬2). قال ابن المنذر: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة. وقال البيهقي: "ومن وصله واستقر على وصله، ولم يختلف عليه فيه وهو ¬

(¬1) شرح الزركشي: (1/ 318). (¬2) شرح الزركشي: (1/ 318).

سفيان بن عيينة حجة ثقة، والله أعلم". يشير إلى ترجيح الموصول، ثم ساق بإسناده عن عدد من الصحابة المشي أمام الجنازة. أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا سعدان بن نصر ثنا سفيان، عن ابن المنكدر عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير: "أنه رأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقدم الناس أمام جنازة زينب بنت جحش - رضي الله عنها" (¬1). أخبرنا أبو علي الروذباري، أنبأ أبو محمد بن شوذب الواسطي، ثنا أحمد ابن سنان، ثنا وهب بن جرير، ثنا شعبة، عن عدي، عن أبي حازم قال: "رأيت أبا هريرة، والحسن بن علي - رضي الله عنها - يمشيان أمام الجنازة" (¬2). أخبرنا أبو طاهر الفقيه أنبأ أبو حامد بن بلال ثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ثنا المحاربي عن سعد بن طارق الأشجعي قال: قلت لأبي حازم: "هل حفظت جنازة مشى معها قوم من الفقهاء أمامها؟ قال: نعم رأيت عبد الله بن عمر وحسن بن علي وابن الزبير يمشون أمامها حتى وضع" (¬3). أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب أنبأ الربيع بن سليمان أنبأ الشافعي أنبأ ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد مولى السائب قال: "رأيت ابن عمر وعبيد بن عمير يمشيان أمام الجنازة، فتقدما فجلسا يتحدثان، فلما حاذت بهما قاما" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (4/ 24)، وأخرجه الشافعي في مسنده: (1/ 360)، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (3/ 445). (¬2) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (4/ 24). (¬3) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (4/ 24). (¬4) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (4/ 24)، وأخرجه الشافعي في مسنده: (1/ 360)، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (2/ 477).

وأخبرنا أبو زكريا وأبو بكر بن الحسن قالا: ثنا أبو العباس بن يعقوب أنبأ بحر بن نصر ثنا بن وهب أخبرني بن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة أنه: "رأى أبا هريرة وعبد الله بن عمر وأبا أسيد الساعدي وأبا قتادة - رضي الله عنهم - يمشون أمام الجنازة". أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أبو بكر يحيى بن أبي طالب، ثنا أبو داود، ثنا قيسِ بن الربيع، عن عاصم بن بهدلة، عن زياد بن قيس الأشعري، قال: "أتيت المدينة، فرأيت أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار يمشون أمام الجنازة" (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمرسل إذا اعتضد بقول الصحابي صار حجة بالاتفاق" (¬2). وتقدم في كلام الزركشي أن الإمام أحمد اختلف قوله في الحديث، وهذا يدل أن ترجيح أحد الأمرين نسبي، والقرائن ينبغي أن تؤخذ من أحاديث أخر، أو من آثار الصحابة. ثم رأيت في "مسائل عبد الله ابن الإمام": "قال: ورأيت أبي إذا كان في جنازة يتقدم يمشي أمامها" (¬3). فلله الحمد. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (4/ 24). (¬2) انظر: شرح العمدة: (2/ 214). (¬3) انظر: مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله: (ص 143).

الحديث الثالث والسبعون

الحديث الثالث والسبعون حديث أبي هريرة: "فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثًا". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذا الحديث أعلَّه الحافظ أبو حاتم، فقال عنه: "هذا حديث باطل"، وأعلَّه الدارقطني، والطبراني". قال الحافظ في "التلخيص": "وقال أبو حَاتِمِ في الْعِلَلِ: (هذا حَدِيثٌ بَاطِلٌ) (¬1). قلت: إسْنَادُهُ ظَاهِرُهُ الصَحَّةُ، قال ابن ماجه: حدثنا الْعَبَّاسُ بن الْوَلِيدِ، ثَنَا يحيى بن صَالِحٍ، ثَنَا سَلَمَةُ بن كُلْثُومٍ، ثنَا الأَوْزَاعِيُّ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُريْرةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على جِنَازَةٍ، ثُمَّ أتى قَبْرَ المَيِّت، فَحَثَى عليه من قبل رَأسِهِ ثَلاثًا" (¬2)، ليس لسَلَمَة بن كُلثُوم في "سُنَنٍ ابن ماجه" وَغَيْرِهَا إلاَّ هذا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ، ورجاله ثِقَاتٌ. ¬

_ (¬1) ملاحظه: الشيخ ناصر رحمه الله ذكر العلة هذه والتي قبلها، وردَّ عليها في كتابه "إرواء الغليل" (3/ 200)، وذِكْر الشيخ ناصر رحمه الله لها، جعل المستدرك يتنبه لها ويضعها في مستدركه! بالرغم من بيان الشيخ الواضح وذكره الشواهد التي أدت للتصحيح، والله أعلم. (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه: (1/ 499)، وفي مصباح الزجاجة (2/ 41): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.

وقد رَوَاهُ ابن أبي داود في كِتَابِ التَّفَرُّدِ له من هذا الْوَجْهِ، وزاد في الْمَتْنِ أنَّهُ "كَبَّرَ عليه أَرْبَعًا"، وقال بَعْدَهُ: ليس يُرْوَى في حَدِيثٍ صحِيحٍ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم - كَبَّرَ على جِنَازَةِ أربعًا، إلاَّ هذا، فَهَذَا حُكْمٌ منه بِالصِّحَّةِ على هذا الحديث. لَكِنَّ أبا حَاتِمِ إمَامٌ لم يَحْكم عليه بِالْبُطْلانِ إلاَّ بَعْدَ أَنْ تبين له، وَأَظُنُّ الْعِلَّةَ فيه عنعنة الأَوزَاعِيِّ، وَعَنْعَنَةَ شيخِه، وَهَذَا كُلُّهُ إنْ كان يحيى بن صَالِح هو الوحَاظِيّ شيخ البخارى، وَالله أَعْلَم" (¬1). فرحم الله الحافظ ابن حجر الذي يصنفه بعض المتأخرين على أنه من المتأخرين! انظر كيف هاب أن يخالف أبا حاتم مع أنه لم يظهر له وجه التعليل. والأمر كما قال أبو داود، فقد روى عبد الرزاق في "مصنفه" عن الخليفة الراشد علي -رضي الله عنه- هذه السنة، قال: عن الثوري عن مالك بن مغول عن عمير بن سعد: "أن عليًّا حتى على يزيد بن المكفف -قال هو أو غيره- ثلاثاً" (¬2). وروى أيضاً عن ابن عباس -رضي الله عنه-، قال عبد الرزاق عن معمر عن علي بن زيد بن جدعان: "أن ابن عباس لما دفن زيد بن ثابت حتى عليه التراب، ثم قال: هكذا يدفن العلم، قال علي بن زيد: فحدثت به علي بن الحسين فقال: وابن عباس والله قد دُفِنَ به علم كثير" (¬3). وابن أبي شيبة في "مصنفه": عن زيد بن أرقم حدثنا وَكِيعٌ عن سفْيَانَ عن يَعقُوبَ قال: "أخبرني من رَأى زَيْدٌ بن أَرْقَمَ حَثَا في قَبْرِهِ ثَلاثَ حُثًا " (¬4). فهذه الآثار وغيرها تدل على أنها سنة نبوية. وقد رأيتُ شيخَنا الحافظ العلامة عبد الله بن محمد الدويش رحمه الله، يحثو على قبر رجل بعد دفنه ثلاث حثيات. ¬

_ (¬1) انظر: "التلخيص الحبير" (2/ 132). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (3/ 501). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (3/ 501). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (3/ 21).

الحديث الرابع والسبعون

الحديث الرابع والسبعون حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "كسر عظم الميت، ككسر عظم الحي". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الصواب أنه موقوف على عائشة، أشار إليه البخاري وابن حزم". * الجواب: هذا الحديث رواه أحمد في "مسنده" (6/ 58)، وأبو داود (3207) وابن ماجه (1616) والبيهقي (4/ 58) في سننهم من حديث عائشة - رضي الله عنها - بإسناد صحيح. وسعد بن سعيد الأنصاري المذكور في إسناده من رجال مسلم، ولذا قَالَ ابن القطان: إنه حديث حسن، وقد تابعه أخوه يحيى بن سعيد، وهو من الثقات الأثبات، أخرجه من جهته البيهقي في "سننه"، وأبو حاتم ابن حبان في "صحيحه". وهو يرد قول ابن حزم في "المحلى": "إن هذا الحديث لا يسند إلا من طريق سعد بن سعيد أخي يحيى بن سعيد، وهم ثلاثة: يحيى بن سعيد إمام ثقة، وعبد ربه بن سعيد لا بأس به، وسعد بن سعيد وهو ضعيف جدًّا لا يحتج به لا خلاف في ذَلِكَ، فبطل التعلق بهذا الحديث " هذا كلامه. وقوله في سعد بن سعيد: إنه ضعيف جدًّا، ليس كما ذكر، فقد أخرج له

مسلم في "صحيحه" محتجًّا به، ووثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في "ثقاته"، وقد تقدم أن يحيى بن سعيد تابعه، وأخرجه الدارقطني من حديث زهير بن محمد عن إسماعيل بن أبي حكيم عن القاسم عن عائشة مرفوعًا به سواء. انتهى من "البدر المنير" (¬1). قال ابن حبان في "صحيحه" (7/ 437): أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ". وقد حكى الحنابلة عن أحمد الاحتجاج بالحديث، قال البيهقي: "واحتج أحمد بحديث عائشة مرفوعًا: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي" رواه أبو داود وابن ماجه عن أم سلمة، وزاد في الإثم وأخرج النساء من ترجى حياته" (¬2). والحق أن شاهد الحديث في "صحيح مسلم" (970) من حديث جابر وأبي هريرة عن جَابِرٍ قال: "نهى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عليه وَأَنْ يُبْنَى عليه". وعن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ يَجْلِسَ أحدكم على جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلي جِلْدِهِ، خَيرٌ له من أَنْ يَجْلِسَ على قَبْرٍ" (¬3). وقد تعقب غير واحد ابن دقيق العيد في قوله: رواه مسلم، منهم الحافظ ابن حجر، ولعل هذا مراده رحمه الله فإنه فقيه، فإذا كان القعود على قبر الميت منهي عنه، ومحرَّم؛ فمن باب أولى كسر عظمه، والله أعلم. ¬

(¬1) انظر: البدر المنير: (6/ 770). (¬2) انظر: شرح منتهى الإرادات: (1/ 379). (¬3) أخرجه مسلم (971).

الحديث الخامس والسبعون

الحديث الخامس والسبعون حديث علي -رضي الله عنه- مرفوعًا: "يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعيف، ولا يتقوَّى بطرقه، وضعَّفه من الأئمة: أبو زرعة، وأبو حاتم، ويعقوب بن شيبة، وأبو داود". * قلت: قال المنذري: في إسناده سعيد بن خالد الخزاعي المدني، قال أبو زرعة الرازي: مدني ضعيف، وقال أبو حاتم الرازي: هو ضعيف الحديث، وقال البخاري: فيه نظر، وقال الدارقطني: ليس بالقوي. وحسَّن الحديث ابن عبد البر في "التمهيد"، قال: "وسعيد بن خالد هذا هو سعيد بن خالد الخزاعي مدني ليس به بأس عند بعضهم، وقد ضعفه جماعة منهم أبو زرعة وأبو حاتم" (¬1). وهذا من أبي عمر دليل بين أن التحسين يكون بالنظر إلى مجموع الطرق، ¬

_ (¬1) انظر: التمهيد لابن عبد البر: (5/ 290).

وإن كان بالنظر إلى كل طريق على حده، يحكم عليه بالضعف، وأبو عمر جعله شاهدًا لمرسل زيد بن أسلم الذي رواه مالك كما يأتي. وله شاهد من حديث الحسن بن علي عند الطبراني، من طريق حَفْصُ بن عُمَروَ الرَّقَاشِيُّ ثنا عبد اللَّهِ بن حَسَنِ بن حَسَنِ بن عَلِيٍّ عن أبيه عن جَدِّهِ قال: "قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ الْقَوْمُ يَأْتُونَ الدَّارَ فَيَسْتَأْذِنُ وَاحِدٌ منهم، أيجزئ عَنْهُمْ جميعًا؟ قال: نعمِ. قِيلَ: فَيَرُدُّ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ أيجزئ عَنِ الْجَمِيعِ؟ قال: نعم. قِيلَ: الْقَوْمُ يَمُرُّون فَيُسَلِّمُ واحد منهم أيجزئ عَنِ الْجَمِيع؟ قال: نعم. قِيلَ: فيَرُدُّ رَجُلٌ مِنَ الْقَومِ أيجزئ عَنِ الجميع؟ قال: نعم" (¬1). وعبد الله بن حسن قال فيه ابن كثير: "عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي؛ تابعي، روى عن أبيه وأمه فاطمة بنت الحسين، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو صحابي جليل، وغيرهم، وروى عنه جماعة: منهم سفيان الثوري، والدراوردي، ومالك، وكان معظَّمًا عند العلماء، وكان عابدًا كبير القدر، قال يحيى بن معين: كان ثقة صدوقًا" (¬2). وحفص بن عمرو من شيوخ ابن ماجه، وابن خزيمة، قال في "التقريب": ثقة من العاشرة. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: (3/ 82)، والطريق الآخر لهذا الحديث أيضًا في معجم الطبراني الكبير: (24/ 285): حدثنا أبو مُسْلِمٍ الْكَشِّيُّ ثنا عَمْرُو بن مَرْزُوقٍ ثنا شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ عن أبي وَائِلٍ عن عَمْرِو بن الْحَارِثِ عن زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ امْرَأَةِ عبد الله: أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: تَصَدَّقْنَ وَلَوْ من حُلِيِّكُنَّ. فقالت زَيْنَبُ لِعَبْدِ اللَّهِ: أيجزئ عَنِّي أَنْ أَجْعَلَ صَدَقَتِي فِيكَ وفي بني أَخِي أَيْتَامٍ؟ وكان عبد اللَّهِ خَفِيف ذَاتِ الْيَدِ، فقال عبد اللَّهِ: سَلِي عن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -. قالت زَيْنَبُ: فَأَتَيْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم-، فإذا امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فقال لها: زَيْنَبُ جَاءَتْ لِتَسْأَلَ عَمَّا جِئْتُ أَسْأَلُ عنه، فَخَرَجَ إِلَيْنَا بِلالٌ، فَقُلْنَا له: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلا تُخْبِرْهُ من نَحْنُ: أيجزئ عَنِّي أَنْ أَجْعَلَ صَدَقَتِى في زَوْجِي وَبَنِي أَخِي أَيْتَامٍ؟ فَأَتَى بِلالٌ النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له فقال: أَيُّ الزَّيانِبِ؟ قال: امْرَأَةُ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وامرأة مِنَ الأَنْصَارِ، فقال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَخْبِرْهَا أَنَّ لها أَجْرَان أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ. (¬2) انظر: البداية والنهاية: (10/ 95).

وله شاهد آخر رواه عبد الرزاق "مصنفه" (10/ 387 - 388): أخبرنا عبد الرزاق: عن معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده قال: كتب معاوية إلى عبد الرحمن بن شبل: "أَنْ عَلِّمِ الناسَ ما سمعتَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجمعهم، فقال: إني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تعلموا القرآن، فإذا تعلمتموه، فلا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ثم قال: إن التجار هم الفجار"، قالوا: يا رسول الله؛ أليس قد أحل الله البيع وحرم الربا؟! قال: "بلى ولكنهم يحلفون، ويأثمون، ثم قال: إن الفساق هم أهل النار"، قالوا: يا رسول الله، ومن الفساق؟ قال: "النساء"، قالوا: أوليس بأمهاتنا، وبناتنا، وأخواتنا؟! قال: "بلى، ولكنهن إذا أعطين لم يشكرن، وإذا ابتلين لم يصبرن، ثم ليسلم الراكب على الراجل، والراجل على الجالس، والأقل على الأكثر، من أجاب السلام كان له، ومن لم يجب فلا شيء له". قال الحافظ: "وقد صحح أحمد طريق يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده" (¬1). وله شاهد مرسل رواه مالك في "الموطأ": حدثني عن مَالِكٍ عن زَيْدِ بن أَسْلَمَ أَنَّ رَسُول الله قال: "يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ على الْمَاشِي، وإذا سَلَّمَ مِنَ الْقَوْمِ واحد أَجْزَأَ عَنْهُمْ" (¬2). فالحديث بهذه الطرق -كما قال مُحَدِّثُ عصرنا-: حديث حسن. ¬

_ (¬1) انظر: تهذيب التهذيب: (6/ 185). (¬2) "الموطأ" (2/ 959).

الحديث السادس والسبعون

الحديث السادس والسبعون حديث أبي هريرة وفيه زيادة: "الحمد لله على كل حال". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذه الزيادة ضعيفة ......... ". * الجواب: قال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا يحيى بن إسحاق السالحيني، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال -أو قال: الحمد لله- فإذا قال له أخوه -أو صاحبه-: يرحمك الله، قال: يهديكم الله ويصلح بالكم" (¬1). سئل الدارقطني عنه، فقال: رواه يحيى القطان، وعلي بن مسهر، وحفص بن غياث، وحمزة الزيات، ومنصور بن أبي الأسود، وأبو عوانة عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن أبيه عن علي. وخالفهم شعبة بن الحجاج، وعدي بن عبد الرحمن أبو الهيثم، فروياه عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن أبيه عن أبي أيوب ¬

_ (¬1) انظر: الدعوات الكبير: (2/ 210).

الأنصاري. والاضطراب فيه من ابن أبى ليلى، لأنه كان سيئ الحفظ (¬1). قال ابن حبان: أخبرنَا عَند الله بن محمد الأزدى قال: حدثنا إسحاق بن إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حدثنا يَحيَى بن آدم، قال: حدثنا إسرائيل عن منصور عن هلال ابْنِ يَسَاف، قَالَ: "كُنَّا مَعَ سالم بن عبيد في غزاة فعطس رجلٌ من القوم، فقال: السلام عليكم، فقال سالم: السلام عليك وعلى أمك، فوجد الرجل في نفسه، فقَالَ لَهُ سَالِمٌ: كَأَنَّكَ وجدت في نفسك، فقال: ماكنت أحبّ أن تذكر أمي بِخَيْرٍ وَلا بِشَرٍّ، فقَالَ سَالِم: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَعَطَسَ رَجُلٌ، فقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: عَلَيْكَ وَعَلَى أُمِّكَ، إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلْيَقُلْ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَلْيَقُلْ هُوَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ" (¬2). قال ابن عبد البر: "ومن أدب العطاس: أن يضع العاطس يده على فيه، ويخفض بالعطسة صوته ويقول: الحمد لله على كل حال" (¬3). قال النووى في "الأذكار": "اتفق العلماء على أنه يستحب للعاطس أن يقول عقب عطاسه: الحمد لله، ولو قال الحمد لله رب العالمين لكان أحسن، فلو قال: الحمد لله على كل حال كان أفضل" (¬4). وفي "شرح السنة" للبغوي: "عطس الحسن فقال: الحمد لله على كل حال" (¬5). وفي "حلية الأولياء": حدثنا أبو محمد بن حيان، ثنا محمد بن يحيى بن منده، ثنا محمد بن الوليد القرشي صاحب غندر، ثنا محمد بن فضالة، وكان لا ¬

_ (¬1) انظر: الأحاديث المختارة: (2/ 264). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه: (2/ 361). (¬3) انظر: التمهيد لابن عبد البر: (17/ 334). (¬4) وانظر: عون المعبود: (13/ 255). (¬5) انظر: شرح السنة: (12/ 309).

يقدر أن يمشي من الخوف، ثنا عبد الله الغنوي عن أبي إسحاق الفزاري قال: "من قال: الحمد لله على كل حال، فإن كانت نعمة كانت لها شكرًا، وان كانت مصيبة كانت لها عزاء" (¬1). وفي "مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله" (ص 41): "وعطست أنا عند أبي غير مرة، فحمدت الله، فرَّد عليَّ: رحمك الله، فقلت له: يهديكم الله ويصلح بالكم. حدثني أبي قال: نا محمد بن جعفر وحجاج قالا: حدثنا شعبة عن محمد بن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال، وليقل الذي يرد عليه: يرحمك الله، وليقل هو: يهديكم الله ويصلح بالكم". ¬

_ (¬1) انظر: حلية الأولياء: (8/ 255).

الحديث السابع والسبعون

الحديث السابع والسبعون حديث ابن عمر -رضي الله عنه-: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "لا يصح في اشتراط الحول حديث مرفوع .... ". * قلت: قال الحافظ في "الفتح" (3/ 311): "فائدة: أجمع العلماء على اشتراط الحول في الماشية والنقد". وهذا أقوى دليل على صحة الحديث، فلسنا بحاجة إلى مناقشة المستدرك.

الحديث الثامن والسبعون

الحديث الثامن والسبعون حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل، من كل عشر قرب قربة من أوسطها". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: قال البخاري: "ليس في زكاة العسل حديث يصح ... ". ثم قال: "ثم أخيرًا أقول: قارن بين معالجة الحافظ الدارقطني لطرق هذا الحديث، وبين عمل الشيخ الألباني رحمه الله؛ ليتبين لك الفرق بين طريقة كل منهما في تعليل الأحاديث". * قلت: قد وافق الشيخ من هو خير منك ومن الدارقطني، قال عبد الله في المسائل: "سألتُ أبي عن العسل هل تجب فيه الزكاة؟ قال: في العسل العشر. حدثني أبي قال: نا وكيع، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى، عن أبي سيارة قال: قلت: "يا رسول الله؛ إني لي غلاًّ، قال: "أَدِّ العشر". فقلت: يا رسول الله؛ احمها لي. قال: فحماها لي" (¬1). ¬

_ (¬1) مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله: (ص 165).

وتمام الحديث: "فلما وُلِّيَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ -رضي الله عنه - كتب سُفْيَانُ بن وَهْبٍ إلى عُمَرَ بن الْخَطَّابِ يَسْأَلُهُ عن ذلك، فَكَتَبَ عمر -رضي الله عنه -: "إن أَدَّى إِلَيْكَ ما كان يُؤَدِّي إلى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - من عُشُورِ". قال شيخ الإسلام: "ويوجبها في العسل لما فيه من الآثار التي جمعها هو وإن كان غيره، لم تبلغه إلا من طريق ضعيفة" (¬1). وهذا يدل على ما تقدم غير مرة أن الإمام أحمد يقوي الحديث المرفوع بالآثار الصحيحة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى: (25/ 42). (¬2) وفي "عمدة القاري": (9/ 71): "واحتجت أصحابنا بما رواه ابن ماجه من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم- "أنه أخذ من العسل العشر"، وبرواية أبي داود أيضًا: عن عمرو بن شعيب، وقد ذكرناه، وبما رواه الدارقطني أيضًا عنه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل من كل عشر قرب قربة من أوسطها" قال: هو حديث حسن. وبما رواه الترمذي أيضًا عن ابن عمر وقد ذكرناه، وبما رواه أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كتب إلى أهل اليمن أن يؤخذ عن العسل العشر". ذكره في "الإمام". فإن قلت: ذكروا عن معاذ -رضي الله عنه- أنه سئل عن العسل في اليمن، قال: لم أومر فيه بشيء. قلت: لا يلزم من عدم أمر معاذ أن لا يجب فيه العشر، وإثبات أبي هريرة مقدم على نفي أمر معاذ. وبما رواه عبد الرحمن بن أبي ذئاب عن أبيه "أن عمر -رضي الله عنه- أمره في العسل بالعشر". رواه الأثرم ورواه الشافعي في "مسنده"، والبزار والطبراني والبيهقي، قال الشافعي: أخبرنا، أنس بن عياض عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذئاب عن أبيه عن سعد بن أبي ذئاب قال: قدمتُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلمتُ، ثم قلت: يا رسول الله؛ اجعل لقومي ما أسلموا عليه من أموالهم، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستعملني عليهم ثم استعملني أبو بكر وعمر -رضي الله عنها -، قال: وكان سعد من أهل السراة. قال: تكلمت قومي في العسل، فقلت: زكاة فإنه لا خير في ثمرة لا تزكى. فقالوا: كم؟ قال: قلت: العشر. فأخذت منهم العشر، وأتيتُ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأخبرته بما كان، قال: فقبضه عمر فباعه، ثم جعل ثمنه في صدقات المسلمين".

الحديث التاسع والسبعون

الحديث التاسع والسبعون حديث "زكاة الحلي ......... ". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "أحاديث زكاة الحلي ضعفها الأئمة المتقدمون ... ". * الجواب: روى الإمام أحمد وأهل السنن: من طريق حسين بن ذكوان عن عمرو عن أبيه عن جدِّه قال: "جاءت امرأةٌ وابنُتها من أهل اليمن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي يدها مسكتان غليظتان من ذهبٍ، قال: هل تعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: فيسرُّك أن يسورك الله بسوارين من نارٍ؟ فخلعتهما، وقالت: هما للَّه ولرسوله" (¬1). وحسين هو المعلم ثقة من رجال الشيخين، تابعه حجاج والمثنى بن الصباح، وابن لهيعة. وتقدم النقل عن الإمام أحمد في الاحتجاج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في سننه: (637)، وأخرجه النسائي في سننه الكبرى: (2/ 19) وفي "المجتبى" (5/ 38)، وأخرجه أبو داود في سننه: (1563) وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (4/ 140) وأخرجه الدارقطني في سننه: (2/ 112)، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (4/ 85).

قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب، يقول: سمعت العباس بن محمد الدوري، يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: عمرو بن شعيب ثقة. سمعت أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعت أبا الوليد الفقيه، يقول: سمعت الحسن بن سفيان، يقول: سمعت إسحاق بن راهويه، يقول: إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة، فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر. أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم؛ أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الأصبهاني، نا أبو أحمد محمد بن سليمان بن فارس قال: قال محمد بن إسماعيل البخاري: عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، أيو إبراهيم السهمي القرشي سمع أباه، وسعيد بن المسيب، وطاوسًا، روى عنه أيوب وابن جريج، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، والحكم، ويحيى بن سعيد، وعمرو بن دينار، قال البخاري: وقال أحمد بن سليمان: سمعت معتمرًا يقول: قال أبو عمرو بن العلاء: كان قتادة وعمرو بن شعيب لا يعاب عليهما شيء، إلا أنهما كانا لا يسمعان شيئًا إلا حدَّثا به. قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن عبد الله، والحميدي، وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (¬1). * قلت: وذلك بشرطين: أن يصح السند إلى عمرو. والثانى: أن لا ينفرد بما لا شاهد له من السنة والأثر. وهذا الحديث توفر فيه الأمران، فقد روى البخاري من طريق شَقِيق عن عَمْرِو بن الْحَارِثِ عن زَيْنَبَ امْرَأَةِ عبد اللَّهِ -رضي الله عنها -، قال: فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ، فَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عن أبي عُبَيْدَةَ عن عَمْرِو بن الْحَارِثِ عن زَيْنَبَ امْرَأَةِ عبد اللَّهِ بمثله ¬

_ (¬1) انظر "السنن" للبيهقي (7/ 318).

سَوَاء، قالت: "كنت في الْمَسْجدِ فَرَأَيْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "تَصَدَّقْنَ وَلَوْ من حُلِيكُنَّ الحديث" (¬1). قال البخاري معلِّقًا عليه: وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تَصَدَّقْنَ وَلَوْ من حُلِيِّكُنَّ". فلم يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الْفَرْضِ من غَيْرِهَا". ومن حديث ابن عباس: "ثُمَّ أتى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ، وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُهْوِي بِيَدِهَا إلى حَلَقِهَا، تُلْقِي في ثَوْبِ بِلالٍ، ثُمَّ أتى هو وَبِلالٌ الْبَيْتَ". فهذا أمره - صلى الله عليه وسلم - النساء أن يتصدَّقن من حليهن. فإن قيل: فهذا الأمر للاستحباب. قلنا: لأن الغالب على حلي النساء في ذلك الوقت أنه قليل، لا يبلغ النصاب، ولما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في يد البنت مسكتان غليظتان، أمر أمها أن تؤدي زكاتها وجوبًا. يزيد هذا إيضاحًا: أنه ثبت عن جابر أنه قال: "لا زكاة في الحلي" (¬2). وثبت عنه أيضًا ما روى عبد الرزاق عن الثوري ومعمر عن عمرو بن دينار قال: "سألت جابر بن عبد الله عن الحلي هل فيه زكاة؟ قال: لا، قلت: إن كان ألف دينار، قال الألف كثير" (¬3). وروى عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: "أن عائشة كانت تحلي بنات أخيها بالذهب واللؤلؤ فلا تزكيه، وكان حليُّهم يومئذ يسيرًا" (¬4). ¬________ (¬1) أخرجه البخاري (466). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (2/ 383). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (4/ 82). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (4/ 83).

وقد ثبت عن غير واحد من الصحابة القول بزكاة الحلي: ففي "مصنف عبد الرزاق": عن الثوري عن حماد عن إبراهيم عن علقمة قال: "قالت امرأة عبد الله: إن لي حليًّا فأزكيه، قال: إذا بلغ مائتي درهم فزكيه" (¬1). عبد الرزاق عن الثوري عن أبي موسى عن عمرو بن شعيب عن عبد الله بن عمرو: "أنه كان يحلي بناته بالذهب -ذكر أكثر من مائتي درهم أراه ذكر الألف أو أكثر- كان يزكيه" (¬2). وقد ثبت عن عائشة أيضًا: رواه أبو عبيد. وعليه فإن الدين أفتوا بعدم الوجوب من الصحابة ومنهم عائشة وجابر، يريدون ما جرت العادة بلبسه، لا ما بلغ النصاب، ولذا روى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: "ليس في الحلي زكاة، وإنها لسفيهة إن تحلت بما تجب فيه الزكاة" (¬3). والحديث له ثمانية شواهد عن ثمانية من الصحابة، لا تخلو من مقال، مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم أتعرض لها طلبًا للاختصار، وتصحيح الشيخ ناصر للحديث يدل على إمامته في العلم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (4/ 83). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (4/ 84). (¬3) مصنف عبد الرزاق: (4/ 82).

الحديث الحادي والثمانون

الحديث الحادي والثمانون حديث عطاء بن يسار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحل الصدقة إلا لخمسة: رجل اشتراها بماله، أو رجل عمل عليها، أو ابن السبيل أو في سبيل الله، أو رجل كان له جار فتصدق عليه فأهدى له". فأسقط الغارم وجعل مكانه "ابن السبيل". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث معلول بالإرسال، أعلَّه بذلك من الأئمة: أبو حاتم، وأبو زرعة، والدارقطني ... ". * الجواب: قال الحافظ: "حَدِيثُ: "لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إلاَّ لِخَمْسَةٍ، فذكر منهم الْغَارِمَ"، مَالِكٌ في "الْمُوَطَّأِ" من مُرْسَلِ عَطَاءِ بن يَسَارٍ، وَاخْتُلِفَ فيه على زَيْدِ بن أَسْلَمَ عنه فقال: أَكْثَرُ أصحابه عنه هَكذَا، وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، فقيل عنه هَكَذَا، وَقِيلَ عن عَطَاءٍ حدثني الثَّبْتُ، وَقِيلَ عن عَطَاءٍ عن أبي سَعِيد الْخُدْرِيِّ، وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عن زَيْدِ بن أَسلَمَ عن عَطَاءٍ عن أبي سَعِيدٍ من غَيْرِ خِلافٍ فيه، أَخْرَجَهُ أبو دَاوُد وابن ماجه، وَأَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَهُ جَمَاعَة" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "التلخيص الحبير" (3/ 111).

* قلت: وهو الحق. قال ابن الملقن: "وقال البزار في "مسنده": هذا الحديث قد رواه غيرُ واحدٍ عن زيد عن عطاء مرسلاً. وأسنده عبد الرزاق عن معمر، والثوري قال: وإذا حدَّث بالحديث ثقةٌ كان عندي الصواب، وعبد الرزاق عندي ثقة، ومعمر ثقة. وقال ابن عبد البر: هذا الحديث وصله جماعة من رواية زيد بن أسلم، وقال ابن الجوزي في "تحقيقه": إسناده ثقات. وجمع البيهقي طُرُقَهُ، وفيها أن مالكًا وابن عيينة أرسلا، وأن معمرًا والثوري وصلا، وهما من جُلَّة الحفاظ المعتمدين، والصحيح إذن أن الحُكم للمتصل كما صرَّح به أهل هذا الفن والأصوليون" (¬1). وفي "مسائل إسحاق بن راهويه والإمام أحمد" "قُلْتُ لأحمدَ: أبو سعيد الخدري قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحلُّ الصدقةُ لغني إلا لخمسةٍ: لعاملٍ عليها، أو لغنيٍّ اشتراها بمالِهِ، أو غازٍ في سبيلِ الله عز وجل، أو مسكينٍ تُصدق عليه منها، فأهداها لغنيٍّ، أو غارمٍ"، قَالَ: نعم هكذا حُدِّثنا عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه"" (¬2). وشواهده في الصحيحين وغيرهما. ¬

_ (¬1) انظر: "البدر المنير" (7/ 384). (¬2) انظر: مسائل الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه: (2/ 514).

الحديث الثاني والثمانون

الحديث الثاني والثمانون حديث أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذا الحديث أعلَّه الأئمة بالوقف، كالإمام أحمد، والبخاري، والنسائي، والترمذي، وأبو داود (¬1)، وأبو حاتم، ومن خالف كل هؤلاء فهو محجوج". * قلت: الحديث له ثلاث طرق: قال الدارقطني: وثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا يونس بن عبد الأعلى قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن أبي بكر، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن حفصة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لم يجمع الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له". فإن قالوا: هذا الحديث قد رواه جماعة موقوفًا، وإنما رفعه عبد الله بن أبي بكر! ¬

_ (¬1) كذا! والصواب: وأبي داود. وكذا: أبي حاتم.

قلنا: الراوي قد يسند الحديث، وقد يفتي به، وقد يرسله، وعبد الله من الثقات الرفعاء، والرفع زيادة فهي من الثقة مقبولة. قال البيهقي فيه: هذا حديث قد اختلف على الزهري في إسناده، وفي رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعبد الله بن أبي بكر أقام إسناده، ورفعه، وهو من الثقات الأثبات. وقال الدارقطني: رفعه عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء (¬1). ويشهد له أيضًا حديث عائشة - رضي الله عنه: قال الدارقطني: ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى بن أبي حامد ثنا روح بن الفرج، ثنا عبد الله بن عباد، ثنا المفضل بن فضالة، حدثني يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له" (¬2). قال الدارقطني: كلهم ثقات. "وقوله كلهم ثقات فيه نظر، فإن عبد الله بن عباد غير مشهور، ويحيى بن أيوب ليس بالقوي، وقد اختلف عليه فيه" (¬3). قال الحافظ في "الفتح": "وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة، فصححوا الحديث المذكور، منهم: ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وابن حزم، وروى له الدارقطني طريقًا آخر، وقال: رجالها ثقات" (¬4). وحديث حفصة صحح وقفه غير واحد من الأئمة، والأظهر أنه صحيح مرفوع، وشاهده في البخاري ومسلم. ¬

_ (¬1) "أقول: قارن بين معالجة الحافظ الدارقطني لطرق هذا الحديث، وبين عمل (المستدرِكِ) غفر الله له؛ ليتبيَّن لك الفرق بين طريقة كل منهما في تعليل الأحاديث"! (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه: (2/ 171). (¬3) انظر: تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (2/ 280). (¬4) انظر: فتح الباري: (4/ 142).

قال الإمام مسلم: حدثني محمد بن حَاتِمٍ، حدثنا يحيى بن سَعِيدٍ، عن ابن جُرَيْجٍ، وحدثني محمد بن رَافِعِ، واللفظ له: حدثنا عبد الرَّزَّاقِ بن هَمَّامٍ، أخبرنا ابن جُرَيْجٍ، أخبرني عبد الْمَلِكِ بن أبي بَكْرِ بن عبد الرحمن عن أبي بَكْرٍ، قال: سمعت أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- يَقُصُّ يقول في قَصَصِهِ: "من أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فلا يَصُمْ. فَذَكَرْتُ ذلك لِعَبْدِ الرحمن بن الْحَارِثِ لأَبِيهِ، فَأَنْكَرَ ذلك، فَانْطَلَقَ عبد الرحمن، وَانْطَلَقْتُ معه حتى دَخَلْنَا على عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها-، فَسَأَلَهُمَا عبد الرحمن عن ذلك، قال: فَكِلْتاهُمَا قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصْبِحُ جُنُبًا من غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ". قال: فَانْطَلَقْنَا حتى دَخَلْنَا على مَرْوَانَ، فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إلا ما ذَهَبْتَ إلى أبي هُرَيْرَةَ، فَرَدَدْتَ عليه ما يقول. قال: فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ وأبو بَكْرٍ حَاضِرُ ذلك كُلِّهِ، قال: فذكر له عبد الرحمن، فقال أبو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ لك؟ قال: نعم، قال: هُمَا أَعْلَمُ. ثُمَّ رَدَّ أبو هُرَيْرَةَ ما كان يقول في ذلك إلى الْفَضلِ بن الْعَبَّاسِ، فقال أبو هُرَيْرَةَ: سمعت ذلك من الْفَضْلِ، ولم أَسْمَعْهُ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فَرَجَعَ أبو هُرَيْرَة عَمَّا كان يقول في ذلك، قلت لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أقَالَتَا في رَمَضانَ؟ قال: كَذَلِكَ، كان يُصْبِحُ جُنُبًا من غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يصومُ". ووجه الدلالة من هذا الحديث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أصبح جنبًا، فلا صيام له"، فهو وإن كان منسوخًا، فلا يُفهم من نفي صحة الصيام، إلا التأخر عن تبييت النية، والتي لا بد أن تكون من الليل، بدليل أن أم سلمة وعائشة - رضي الله عنها نصَّتا على أن ذلك في رمضان، ومن المعلوم أنه لا فرق في صيام رمضان عن غيره إلا وجوب تبييت النية من الليل. قال الإمام مسلم: وحدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مَالِكٍ عن عبد رَبِّهِ بن سَعِيدٍ، عن أبي بَكْر بن عبد الرحمن بن الْحَارِثِ بن هِشَام، عن عَائِشَةَ وَأُمَ سَلَمَةَ زَوْجَيْ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما قَالَتَا: "إن كان رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - ليُصبحُ جُنُبًا من جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلامٍ في رَمَضَانَ ثُمَّ يَصُومُ".

ثم بين بفعله - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الفعل لا يناقض تبييت النية، فهو بعينه حديث حفصة: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له". وجاءت السنة بالترخيص في ترك تبييت النية في النافلة: وذلك فيما رواه مسلم عن عائشة مرفوعًا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال رحمه الله: وحدثنا أبو بَكْرِ بن أبي شَيْبَةَ حدثنا وَكِيع عن طَلْحَةَ بن يحيى، عن عَمَّتِهِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قالت: "دخل عَلَيَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يَوْمٍ فقال: هل عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْنَا: لا، قال: فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ، ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ، فَقُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ أُهْدِيَ لنا حَيْسٌ، فقال: أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا، فَأَكَلَ". ومما يقرب هذا: أن الأمر بالسحور لم يرد فيما أعلم إلا في صيام رمضان، وذلك لاشتراط النية فيه من الليل، فقد روى الشيخان عن ابن عمر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حتى يُنَادِيَ ابن أُمِّ مَكْتُومٍ". ففيه معنى حديث حفصة. وفي "مسائل إسحاق بن منصور" للإمامين: "قُلْتُ: قولُهُ: "لا صيامَ لمن لمْ يجمعْ الصيامَ منَ الليلِ"، قَالَ: هَذَا عندي عَلَى رمضان، قَالَ إِسحاقُ: كمَا قَال، وكلٌّ واجب نذرٌ أو قضاءٌ" (¬1)، والله أعلم وأحكم. ¬

_ (¬1) انظر: مسائل الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه: (1/ 294).

الحديث الثالث والثمانون

الحديث الثالث والثمانون حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذا الحديث معلول عند جَمْعٍ من الأئمة، فقد أعلَّهُ: الإمام أحمد، والحافظ البخاري، والترمذي، والبيهقي، قال ابن القيم: "إن الحفَّاظ لا يرونه محفوظًا" اهـ. * الجواب: قال شيخ الإسلام: "والذين لم يثبتوا هذا الحديث لم يبلغهم من وجه يعتمدونه، وقد أشاروا إلى علته، وهو انفراد عيسى بن يونس، وقد ثبت أنه لم ينفرد به، بل وافقه عليه حفص بن غياث" (¬1). وما نبَّه إليه شيخ الإسلام ذكره أبو داود في "السنن"، قال أبو دَاوُد: "رَوَاهُ أَيْضا حَفْصُ بن غِيَاثٍ عن هِشَامٍ مثله" (¬2). ويشهد له ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، عن أبي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه-: "أَنَّ ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى: (25/ 222). (¬2) أخرجه أبو داود في سننه: (2/ 310) رقم (238).

رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَاءَ فَأَفْطَرَ، فَتَوَضَّأَ، فلقيت ثَوْبَانَ في مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْتُ ذلك له، فقال: صَدَقَ، أنا صَبَبْتُ له وَضُوءَهُ" (¬1)، وهو حديث صحيح كما. قال الإمام أحمد والبخاري. وقد أفتى به الصحابة، فقد روى عبد الرزاق عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: "من استقاء فقد أفطر وعليه القضاء، ومن ذرعه قيء فلا قضاء عليه" (¬2). قال ابن الملقن: "وقد أسلفنا عن الدارقطني أنه قال: رواته كلهم ثقات. وتابعه على ذلك عبد الحق في "أحكامه"، وصاحب "الإلمام"، وقد صححه ابن حبان كما سلف، واستدركه الحاكم من حديث حفص بن غياث عن هشام به" (¬3)، وحسنه الترمذي. أما ما نقله المستدرك عن البخاري استدلاله بأثر أبي هريرة: "إذا قاء فلا يفطر ....... ". فإن هذا ينتقض بخروج المني والحيض، والذي يظهر أن أبا هريرة يريد بيان أن القيء لا يفطر إذا غلبه، وأما إذا استقاء وتعمد إخراجه فإنه يفطر، ويدل على ذلك: عدم وجود التفصيل الموجود في الحديث، ويؤكد دْلك: ما رواه النسائي موقوفًا على أبي هريرة: "أنبأنا محمد بن حاتم قال: حدثنا حبان قال: أنبأ عبد الله بن الأوزاعي، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة قال: "من قاء وهو صائم فليفطر" (¬4). وفي "مسائل عبد الله": "سمعتُ "أبي يقولُ في رجل تقيَّأَ لم يتعمد ذلك في ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده: (5/ 195)، وأخرجه النسائي في سننه الكبرى: (2/ 213)، وأخرجه أبو داود في سننه: (2/ 310)، وأخرجه الترمذي في سننه: (1/ 143). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (4/ 215). (¬3) انظر: "البدر المنير" (5/ 661). (¬4) أخرجه النسائي في سننه الكبرى: (2/ 215).

رمضان، فقال أبي: أرى أن لا يعيد صوم ذلك. فقلت لأبي: فإن هو تقيأ تعمد ذلك؟ قال: أرى أن يعيد الصوم ذلك اليوم، وليس عليه كفارة" (¬1). وقد روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن جمع من الصحابة والتابعين القول بظاهر الحديث. وأما أثر ابن عباس الذي علقه البخاري، فهو مع إجماله فقد بيَّن الحافظ في "التغليق" أنه ضعيف، وقد روى عنه أبو بكر ما يوافق الحديث، حدثنا الفضل بن دُكَيْنٍ عن إسْرَائِيلَ، عن جَابِرِ بن طَلْحَةَ، عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابن عَبَّاسٍ قال: "إذَا تَقَيَّأَ الصَّائِمُ فَقَدْ أَفْطَرَ" (¬2)، وفيه انقطاع، فلله الحمد. ¬

_ (¬1) انظر: مسائل أحمد، بن حنبل رواية ابنه عبد الله: (ص / 184). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (2/ 298).

الحديث الثامن والثمانون

الحديث الثامن والثمانون حديث: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذا الحديث لا يصح، وضعَّفه عدد من الأئمة المتقدمين، منهم: الزهري، ومالك، والأوزاعي، ويحيى بن سعيد القطان، والإمام أحمد، والنسائي، والطحاوي". * الجواب: قال ابن القيم: "حديث عبد الله بن بسر هذا، رواه جماعة عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء، ورواه النسائي عن عبد الله بن بسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه أيضًا عن الصماء عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذه ثلاثة أوجه. وقد أشكل هذا الحديث على الناس قديمًا وحديثًا. فقالى أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسْأَل عن صيام يوم السبت يفرد به، فقال: أما صيام يوم السبت يفرد به، فقد جاء فيه ذلك الحديث حديث الصماء، يعني حديث ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصوموا يوم السبت، إلا فيما افترض عليكم"،

قال أبو عبد الله: يحيى بن سعيد ينفيه، أَبَى أن يحدِّثني به، وقد كان سمعه من ثور، قال: فسمعته من أبي عاصم. وقاعدة مذهبه: أنه إذا سئل عن حكم فأجاب فيه بنص يدل على أن جوابه بالنص دليل على أنه قائل به، لأنه ذكره في معرض الجواب، فهو متضمن للجواب والاستدلال معًا، وأما ما ذكره عن يحيى بن سعيد، فإنما هو بيان لما وقع من الشبهة في الحديث" (¬1). ثم اعلم أن حديث الصماء أُعِلَّ بأمور: أحدها: بالاضطراب، حيث روي عن عبد الله بن بسر عنها وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبيه بسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن الصماء عن عائشة أم المؤمنين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال النسائي: وهذه أحاديث مضطربة. قال ابن الملقن: "ولك أن تقول وإن كانت مضطربة فهو اضطراب غير قادح، فإن عبد الله بن بسر صحابي، وكذا والده والصماء ممن ذكرهم في الصحابة ابن حبان في أوائل "الثقات"، فتارة سمعه من أبيه، وتارة من أخته، وتارة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتارة سمعته أخته من عائشة، وسمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال عبد الحق: وقيل في هذا الحديث عن عبد الله بن بسر عن عمته الصماء، قال: وهو أصح. قلت: وأخرجه من هذا الطريق البيهقي في سننه. وقال الدارقطني في "سننه": إن الصحيح عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب السنن" (7/ 50). (¬2) انظر: "البدر المنير" (5/ 763).

قال ابن القيم: "قالوا: وأما قولكم إن الاستثناء دليل التناول ... إلى آخره، فلا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي. فصورة الاقتران بما قبله، أو بما بعده أخرجت بالدليل الذي تقدم فكلا الصورتين مخرج، أما الفرض؛ فبالمخرج المتصل، وأما صومه مضافًا؛ فبالمخرج المنفصل، فبقيت صورة الإفراد، واللفظ متناول لها، ولا مخرج لها من عمومه، فيتعين حمله عليها" (¬1). والحديث حسَّنه الترمذي، وصحَّحه ابن حبان. وكراهة إفراده مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة. وما ذهب إليه الأئمة الثلاثة هو الحق، فقد روى اين أبي حاتم في "تفسيره": حدثنا أبي، ثنا الحسن بن الربيع، ثنا عبد الله بن إدريس، ثنا محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف: 163] قال: قال ابن عباس: "ابتدعوا السبت، فابتلوا فيه، فحرمت عليهم الحيتان، قوله تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ} " (¬2). [الأعراف: 163]. فهذا الأثر صريح في أن تعظيمهم يوم السبت هو من ابتداعهم. وعليه فيستفاد منه أمران: الأول: تحريم تخصيص يوم السبت بعبادة. الثاني: أن هذا التعظيم لا يتحقق إلا بإفراده، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم: "أتريدين أن تصومي غدًا"؟ ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب السنن" (7/ 51). (¬2) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (5/ 1598).

ونظيره: النهي عن تخصيص يوم الجمعة بعبادة، لأنه يوم عيد فيكون من الابتداع، لكن لو صام قبله أو بعده، كما لو وافق الأيام البيض، فهذا لا يظهر فيه التخصيص المنهي عنه، وبهذا تجتمع الأدلة. علمًا أني لا أعلم أحدًا من أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم أفتى أنه لا يجوز صيامه بكل حال إلا في الفرض، وإنما يمنعون إفراده، والله أعلم.

الحديث التسعون

الحديث التسعون حديث ابن عباس مرفوعًا: "أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عيد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذا الحديث لا يصح إلا موقوفًا على ابن عباس -رضي الله عنه-، ورفعه خطأ من بعض الرواة ... ". * قلت: الحديث رواه البيهقي وغيره، ولم يرفعه إلا يزيد بن زريع عن شعبة وهو ثقة، وتابعه الحارث بن سريع الخوارزمي النقال عن يزيد بن زريع عن شعبة، كما ذكره الخطيب في "تاريخ بغداد". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: "احفظوا عني ولا تقولوا: قال ابن عباس: أيما عبد حج به أهله ... " الحديث (¬1). وهذا ظاهر في رفعه، بل قطعي، وإسناده صحيح، وله شاهد احتج به الإمام أحمد، قال شيخ الإسلام: "وكذلك الصبي؛ لما روى محمد بن كعب ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: 3/ 355.

القرظي قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين، أيما صبي حج به أهله، فمات أجزأت عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما رجل مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه، فان أعتق فعليه الحج"، رواه سعيد وأبو داود في مراسيله، واحتج به أحمد" (¬1). قال الزركشي: "ذكره أحمد في رواية ابنه عبد الله" (¬2). وأما قول المستدرك ص 413: "ولو أخذنا بهذا المبدأ الذي يعمل به الشيخ الألباني رحمه الله من الاكتفاء بثقة الرواة، لأدَّى ذلك إلى إهدار تعليلات الأئمة، في عدد كبير من الأحاديث ... ". سبحان الله! أيهما أعظم إهدارًا: تعليلات الأئمة بزعمك، أم إهدار سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؟! فأنت حتى لم تحط بطرق الحديث وشواهده، وإنما اكتفيت بالتقليد، والله المستعان. ¬

_ (¬1) انظر: شرح العمدة: (2/ 261). (¬2) انظر: شرح الزركشي: (1/ 461).

الحديث الحادى والتسعون

الحديث الحادى والتسعون حديث ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذا الحديث أعلَّه الأئمة بالوقف؛ منهم: الإمام أحمد، وابن المنذر والطحاوي". * قلت: قد رجع الإمام أحمد عن قوله: رفعه خطأ (¬1)، قال شيخ الإسلام: "قإن قيل: هذا الحديث موقوف على ابن عباس، ذكر الأثرم عن أحمد أن رفعه خطأ، وقال: رواه عدة موقوفًا على ابن عباس، وهو مشهور من حديث قتادة عن عروة عن سعيد بن جبير، وقد قال يحيى: عزرة لا شيء. قلنا: قد تقدم أن أحمد حكم بأنه مسند وأنه من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فيكون قد اطلع على ثقة من رفعه، وقرر رفعه جماعة" (¬2). ¬

_ (¬1) ملاحظةالشيخ الألباني رحمه الله ذكر هذا بعد الحديث مباشرة: رواه أحمد واحتج به: (4/ 171). (¬2) انظر: شرح العمدة: (2/ 292).

وفي "مسائل ابنه صالح": "قلت: ما تقول في رجل لم يحج عن نفسه أيحج عن غيره؟ وما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "حج عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة"، وما سألت الخثعمية: "إن أبي شيخ كبير أفأحج عنه؟ فقال: نعم"؟ فقال لا يحج عن أحد حتى يحج عن نفسه، وقد بين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "احجج عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة"" (¬1). وهكذا صححه إسحاق بن راهوية، كما في "مسائل إسحاق بن منصور" (¬2). وقال البيهقي: "هذا إسناد صحيح ليس في هذا الباب أصح منه" (¬3). وهكذا الحافظ في "التلخيص" (2/ 224) حيث قال: "فَيَجْتَمِعُ من هذا صِحَّة الحديث". قال ابن الملقن: "فائدة رابعة غريبة: أن هذا الحديث من رواية ابن عباس، ومن رواية عائشة، وظفرت له بطريق ثالث من حديث أبي الزبير عن جابر: "سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً وهو يلبي: لبيك عن شبرمة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: أفلا حججت عن نفسك، ثم حججت عن شبرمة"، رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في معجمه عن أحمد بن يوسف بن الضحاك نا عمر بن يحيى نا ثمامة نا أبو الزبير فذكره" (¬4). فرحم الله أبا عبد الرحمن كان كثيراً ما يردد: كم ترك الأول للآخر! ¬

_ (¬1) انظر: مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح: (2/ 140). (¬2) ج1/ ص 612. (¬3) ذكره البيهقي في سننه الكبرى: (4/ 336). (¬4) انظر: "البدر المنير" (6/ 54).

الحديث الثاني والتسعون

الحديث الثاني والتسعون أخرج مسلم: من طريق أبي الزبير أنه سمع جابر يسأل عن المُهَلِّ، فقال: سمعت (أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) فقال: "مُهَلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومُهَلُّ أهل العراق من ذات عرق، ومُهَلُّ أهل نجد من قرن، ومُهَلُّ أهل اليمن من يلملم". ثم ذكر الشيخ الألباني طريقًا آخر لحديث جابر، رواه ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، مرفوعًا بدون شك" اهـ. ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "حديث جابر الصحيح هو ما أخرجه مسلم بالشك في رفعه، وحديث ابن لهيعة ضعيف، أعلَّه البيهقي كما سيأتي، وهو الذي يشعر به صنيع مسلم، والأئمة لا يصحِّحون حديثًا مرفوعًا في ذات عرق ... ". * قلت: بل ما ذهب إليه الشيخ من إثبات رواية الرفع هو الحق. قال شيخ الإسلام: "والثالث: ما روي عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عيد الله سئل عن المهل فقال: سمعت -أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر: الجحفة، ومهل أهل العراق: ذات عرق، ومهل أهل نجد: من قرن، ومهل أهل اليمن: من يلملم". رواه مسلم، ورواه ابن ماجه بلا شك من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي، وقد

احتج أحمد به مرفوعًا، ورواه أبو عبد الرحمن المقرئ عن ابن لهيعة عن أبي الزبير مرفوعًا بلا شك، وروى المعافى بن عمران عن أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة قالت: "وقَّت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل العراق ذات عرق" (¬1)، رواه أبو داود، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم، وهذا إسناد جيد، وقد رواه عبد الله بن أحمد وغيره مستوفى في المواقيت الخمسة، قالت: "وقَّت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام ومصر الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرنًا، ولأهل العراق ذات عرق". وقال أبو عاصم: ثنا محمد بن راشد عن مكحول: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقَّت لأهل العراق ذات عرق"، وعن عطاء قال: "وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المشرق ذات عرق" (¬2)، رواه سعيد، فهذا قد روي مرسلاً من جهة أهل المدينة، ومكة، والشام، ومثل هذا يكون حجة. وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: "وقَّت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المشرق ذات عرق" (¬3)، رواه أحمد عن وكيع عنه. وعن الحارث بن عمرو السهمي قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمنى، أو عرفات، وقد أطاف به الناس، قال: فيجيء الأعراب، فإذا رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك، قال: ووقت ذات عرق لأهل العراق"، رواه أبو داود، والدارقطني، ولفظه: "وقت لأهل اليمن يلملم أن يهلوا منها، وذات عرق لأهل العراق" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه الكبرى: (2/ 328 - 329)، وأخرجه أبو داود في سننه: (2/ 143)، وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (5/ 28). (¬2) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (5/ 27)، وأخرجه الشافعي: (1/ 114)، وانظر "السنن الصغرى للبيهقي (نسخة الأعظمي): (3/ 524). (¬3) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (5/ 29). (¬4) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: (5/ 28)، وأخرجه الدارقطني في سننه: (2/ 236).

وذهب أبو الفرج ابن الجوزي وغيره من أصحابنا إلى أن ذات عرق إنما ثبتت بتوقيت عمر -رضي الله عنه-، اجتهادًا، ثم انعقد الإجماع على ذلك، لما روى ابن عمر قال: "لما فتج هذان المصران أتوا عمر بن الخطاب، فقالوا: يا أمير المؤمنين؛ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حد لأهل نجد قرنًا، وإنه جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا أن نأتي قرنًا شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم، قال: فحد لهم ذات عرق"، رواه البخاري. فهذا يدل على أنها حديث بالاجتهاد الصحيح، لأن من لم يكن على طريقه ميقات، فإنه يحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إلى طريقه، وهم يحاذون قرنًا إذا صاروا بذات عرق، ولو كانت منصوصة لم يحتج إلى هذا، وأحاديث المواقيت لا تعارض هذا، فعلى هذا هل يستحب الإحرام من العقيق؟ والأول هو الصواب، لما ذكرناه من الأحاديث المرفوعة الجياد الحسان التي يجب العمل بمثلها مع تعددها، ومجيئها مسندة، ومرسلة من وجوه شتى. وأما حديث عمر؛ فإن توقيت ذات عرق كان متأخرًا في حجة الوداع، كما ذكره الحارث بن عمرو، وقد كان قبل هذا سبق توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لغيرها، فخفي هذا على عمر -رضي الله عنه -، كما خفي عليه كثير من السنن، وإن كان علمها عند عماله وسعاته، ومن هو أصغر منه مثل دية الأصابع، وتوريث المرأة من دية زوجها، فاجتهد وكان محدَّثًا موفَّقًا للصواب، فوافق رأيه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وليس ذلك ببدع منه -رضي الله عنه-، فقد وافق ربه في مواضع معروفة، مثل المقام، والحجاب، والأسرى، وأدب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعلى هذا لا يستحب الإحرام قبلها، كما لا يستحب قبل غيرها من المواقيت المنصوصة، قال عبد الله: سمعت أبي يقول: أرى أن يحرم من ذات عرق. فإن قيل: فقد روى يزيد بن أبي زياد عن محمد بن علي بن عبد الله بن

عباس عن ابن عباس قال: "وقت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل المشرق العقيق" (¬1)، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن. فإن لم يكن هذا مفيدًا لوجوب الإحرام منها فلا بد أن يفيد الاستحباب. قيل: هذا الحديث مداره على يزيد بن أبي زياد، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وقالوا: يزيد يزيد. ويدل على ضعفه: أن حديث ابن عباس المشهور الصحيج قد ذكر فيه المواقيت الأربعة، ولم يذكر هذا؛ مع أن هذا مما يقصد المحدت ذكره مع إخوته لعموم الحاجة إليه أكثر من غيره، فإن حجاج المشرق أكثر من حجاج سائر المواقيت. وأن الناس أجمعوا على جواز الإحرام دونه، فلو كان ميقاتًا لوجب الإحرام منه، كما يجب الإحرام من سائر ما وقته النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ ليس لنا ميقات يستحب الإحرام منه، ولا يجب على أن قوله: وقت، لا يقتضي إلا وجوب الإحرام منه. قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن إحرام العراقي من ذات عرق إحرابم من الميقات، وأن الأحاديث التي هي أصح منه وأكثر تخالفه، وتبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت ذات عرق. ويشبه -والله أعلم-: أنه إن كان لهذا الحديث أصل -يعني حديث ابن عباس- أن يكون منسوخًا، لأن توقيت ذات عرق كان في حجة الوداع، حيث أكمل الله دينه، وبعد أن أكمل الله دينه لم يغيره. ولأن ابن عباس لم يذكره لما ذكر حديثه المشهور، فيكون إن كان حدث به مرة، قد تركه، لما علم من نسخه، ولهذا لم يروه عنه إلا ولده الذي قد يقصد ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده: (1/ 344)، وأبو داود في سننه: (2/ 143)، والترمذي في سننه: (3/ 194)، وابن أبي شيبة في مصنفه: (3/ 266).

بتحديثهم إخبارهم بما قد وقع، لا لأن يبني الحكم عليه. وما روي عن أنس أنه كان يحرم منه، فكما كان عمران بن حصين يحرم من البصرة، وكان بعضهم يحرم من الربذة" (¬1). وهذا كله يؤكد إمامة أبي عبد الرحمن في الحديث، وإلا فإن المشهور في الكتب أنه من سنة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فلو كان الشيخ ممَّن يجمع ولا يحقق أو يقلد، لما خالف المشهور، وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح العمدة" (2/ 313).

الحديث الرابع والتسعون

الحديث الرابع والتسعون قوله - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي وقصته راحلته: "ولا تغطوا وجهه". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذه الزيادة ذكرها مسلم، دون البخاري، مع العلم أنهما متَّفقان على هذا الحديث. وهي شاذَّة، ضعَّفها الحاكم، والبيهقي، ويفهم تضعيفها من صنيع البخاري ... ". * قلت: الحديث رواه مسلم (1206) من طريق إسرائيل، عن منصور، وأبي الزبير؛ كلاهما عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكر الحديث، قال منصور: "ولا تغطوا وجهه"، وقال أبو الزبير: "ولا تكشفوا وجهه". وأخرجه النسائي من طريق عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير بلفظ: "ولا تخمروا وجهه، ولا رأسه"، وأخرجه مسلم أيضًا من حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير بلفظ: "ولا يمس طيبًا، خارج رأسه" (¬1)، قال شعبة: ثم حدثني به بعد ذلك، فقال: "خارج رأسه ووجهه". والذي يظهر لي: أنها ثابتة، والذي أشكل على من ضعفها، أنه جاء عن ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه الكبرى: (2/ 343).

جمع من الصحابة تغطية وجوههم، وهم محرمون، منهم الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنهم. والصحيح: أن لا تلازم بين الإذن للحي بتغطية وجهه، وهذا الحديث. ولما سئل الإمام أحمد عن تغطية وجه المحرم الميت قال: "قُلْتُ: المحرم إذا مات يغطَّى وجهُه، قَالَ: لا يغطَّى وجهُه، ولا يقرب الطيب. قَالَ إسحاق: كما قالَ" (¬1). ولما سئل عن تغطية الحي وجهه قال: "قُلْتُ: المحرمُ يغطي وجهَه؟ قَالَ: إنْ ذهب ذاهبٌ إلى قولِ عثمان -رضي الله عنه-: لا أعيبُه، يُرْوَى عن عثمان رحمة الله تعالى عليه، وزيدٍ ومروان، ولمْ يرَ بِهِ بأسًا، قَالَ إسحاق: السُّنة أنْ يغطيَ المحرمُ وجهَهُ، إذا نامَ مِن الذّبان وغيره، وإنْ لمْ يضربْ مَا غطى به وجهَهُ كان أفضل" (¬2). وهذا منهما -رحمهما الله- تصحيح للزيادة. ¬

(¬1) مسائل الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه (1/ 545). (¬2) انظر: مسائل الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه: (1/ 543).

الحديث الخامس والتسعون

الحديث الخامس والتسعون حديث جابر قال: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عن الضبع؟ فقال: هو صيد، ويجعل فيه كبش، إذا صاده المحرم". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "ذكر الكبش فيه موقوف ........... ". * قلت: قد صححه الإمام أحمد، قال شيخ الإسلام: "وأما السنة وعليه اعتمد أحمد، فما روى جابر بن عبد الله قال: "جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الضبع يصيبه المحرم كبشًا، وجعله من الصيد" (¬1)، رواه أبو داود، وابن ماجه. وأما إجماع الصحابة: فإنه روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، أنهم قضوا في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش، وبقرة الأيل، والتبتل والوعل ببقرة، وفي الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي اليربوع بجفرة" (¬2). وفي مسائل الإمام أحمد لابنه عبد الله: "حدثنا قال: قلت لأبي: فإن صاد ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3801) وابن ماجه (1030). (¬2) انظر: "شرح العمدة" (3/ 283).

ناسيًا، عليه كفارة؟ قال: نعم، كل من يكفر إذا تعمد، وقال ابن عباس: إذا صاد المحرم ناسيًا ليس عليه شيء، إنما على العامد. قال أبي: أعجب إلي أن يكفر مثل كفارة العامد. مثل حكم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظبي شاة، ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الضبع كبش، فإذا أصاب ظبيًا فعليه شاة. حدثنا قال: سألت أبي عن المحرم يصيب الصيد؟ قال: يحكم عليه بمثله، فجزاء مثل ما قتل من النعم: في الظبي شاة، وفي النعامة بدنة، وفي الحمامة شاة، حكم بها ابن عباس، وفي الضبع كبش، يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال التَّزمِذِيُّ: سَأَلْتُ عنه الْبُخَارِيَّ فَصَحَّحَه. وَكَذَا صَحَّحَهُ عبد الْحَقّ، وصححه ابن حبان أيضًا. ¬

_ (¬1) انظر: مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله: (1/ 209).

الحديث السادس والتسعون

الحديث السادس والتسعون حديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "كنتُ فيمن قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى". وفي لفظ: "أمرهم أن لا يرموا الحجرة حتى تطلع الشمس". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذا اللفظ شاذ، وقد أخرج البخاري ومسلم هذا الحديث، وليس فيه هذه الزيادة، وضعَّفها من الأئمة: البخاري وابن خزيمة ..... ". * قلت: للحديث طرق: الأول: رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (9/ 123): حدثنا ابن أبي داود، ثنا المقدمي، ثنا فضيل بن سليمان، حدثني موسى بن عقبة، أنا كريب، عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر نساءه، وثقله، صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر بسواد، ولا يرموا الجمرة إلا مصبحين". الثاني: حدثنا محمد بن خزيمة، ثنا حماد، ثنا الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه في الثقل، وقال: لا ترموا الجمار حتى تصبحوا" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده: (1/ 334)، وانظر: مرقاة المفاتيح: (5/ 528)، ونصب الراية: (3/ 86).

وقال الترمذي: حديث ابن عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحِيحٌ. وأما الرواية الثانية: عند أصحاب السنن الأربعة إلا الترمذي من طريق حبيب عن عطاء عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم ضعفاء أهله بغلس، ويأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس". وعن الحسن العرني، عن ابن عباس قال: "قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المزدلفة أغيلمة من بني عبد المطلب على جمرات، فجعل يلطح أفخاذنا، ويقول: يا بني؛ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" (¬1). قال المنذري: والحسن العرني احتج به مسلم، واستشهد به البخاري، وقال ابن معين: إنه لم يسمع من ابن عباس شيئًا. وقال الحافظ ابن حجر: "حديث حسن، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضًا، ومن ثم صححه الترمذي وابن حبان" (¬2). وقال ابن القيم: "حديث صحيح" (¬3). ويشهد له ما رواه الشيخان: عن أسماء وابن عمر: "أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلي، فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني؛ غاب القمر؟ قلت: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: فارتحلوا، فارتحلنا فمضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت، فصلت الصبح في منزلها، فقلت: يا هنتاه؛ ما أرانا إلا قد غلسنا، قالت: يا بني؛ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن" (¬4). "وكان عبد اللَّهِ بن عمر - رضي الله عنها - يقدم ضعَفَةَ أَهلِهِ فَيَقِفُونَ عِندَ الْمشْعرِ الحرَامِ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده: (1/ 234). (¬2) انظر: "فتح الباري" (3/ 528). (¬3) انظر: " زاد المعاد" (2/ 248). (¬4) أخرجه البخاري (1679) ومسلم (1291).

بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْل، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ ما بَدَا لهم، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قبل أَنْ يَقِفَ الإِمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ من يَقْدَمُ مِنًى لِصَلاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ من يَقْدَمُ بَعْدَ ذلك، فإذا قَدِمُوا رمووا الْجَمْرَةَ، وكان ابن عُمَرَ - رضي الله عنها - يقول: أَرْخَصَ في أُولَئِكَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم" (¬1). فقولهما: "أذن للظعن وأرخص في أولئك" يقتضي قصر الإذن عليهم، وأن غيرهم لم يؤذن له، وكذلك تقديمه - صلى الله عليه وسلم - ضعفة أهله وإبقاؤه سائر الناس معه، دليل على أن حكمهم بخلاف ذلك، وابن عباس حينها قد ناهز الاحتلام، ولذا قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الفتيان: "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس"، والله أعلم وأحكم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1676) ومسلم (1290).

الحديث التاسع والتسعون

الحديث التاسع والتسعون حديث: "السجود على الحجر الأسود ............. " (¬1). ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرِكُ: "ليس فيما ذكر الألباني من الشواهد ما يثبت السجود على الحجر مرفوعًا". * قلت: قد حسَّنه الإمام أحمد، قال شيخ الإسلام: "وأما السجود عليه، فقد ذكر لأحمد حديث ابن عباس في السجود على الحجر، فحسَّنه" (¬2). قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن السجود على الحجر جائز، وانفرد مالك فقال: بدعة" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (4/ 213)، قال: باب السجود على الحجر الأسود إذا وجد الطائف السبيل إلى ذلك من غير إيذاء المسلم، (2714) حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو عاصم، حدثنا جعفر بن عبد الله، قال: "رأيتُ محمد بن عباد بن جعفر قبَّل الحجر وسجد عليه، ثم قال: رأيتُ خالك ابن عباس يقبله ويسجد عليه. وقال ابن عباس: رأيتُ عمر بن الخطاب قبَّل وسجد عليه، ثم قال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هكذا ففعلت". وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (5/ 37)، وانظر "معرفة السنن والآثار" (4/ 51). (¬2) انظر: "شرح العمدة" (3/ 430). (¬3) انظر: "الإجماع" لابن المنذر (1/ 52).

"واعترف القاضي عياض المالكي بشذوذ مالك عن الجمهور" (¬1). وهذه من السنن الكثيرة المهجورة التي أحياها الله بالشيخ -عليه رحمة الله-. ¬

_ (¬1) انظر: أضواء البيان: (4/ 407).

الحديث المئة

الحديث المئة قول أبي رافع: "رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذَّن في أُذن الحسن حين ولدته فاطمة بالصلاة". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث ضعيف، وله شاهد أشدّ منه ضعفًا، ولا يصلح لتقويته". * الجواب: قال الترمذي في "جامعه" (4/ 97) رقم (1514): "حدثنا محمد بن بَشَّارٍ حدثنا يحيى بن سَعِيدٍ وَعَبْدُ الرحمن بن مَهْدِيٍّ قالا: أخبرنا سُفْيَانُ، عن عَاصِمِ بن عُبَيْدِ اللَّهِ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بن أبي رَافِع، عن أبيه قال: "رأيتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَذَّنَ في أُذُنِ الْحَسَنِ بن عَلِيٍّ، حين وَلَدتهُ فَاطِمَةُ بِالصَّلاةِ"، قال أبو عِيسَى: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ". وقال أبو داود: في "السنن": (4/ 328) "بَاب في الصَّبِيِّ يُولَدُ فَيُؤَذَّنُ في أُذُنِه". وهكذا عامة الفقهاء في كتبهم بوَّبوا له، واحتجُّوا به، بل والمحققون منهم؛ كالبغوي، وابن قدامة، والنووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن الملقن وغيرهم. وشواهد مقصد الأذان في أذن المولود حين يولد في الكتاب والسنة كثيرة،

لا يخفى على أحد أن الشيطان له تسلط على بني آدم، فقد روى الشيخان عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ بَنِي آدم يَطْعُنُ الشَّيْطَانُ في جَنْبَيْهِ بِإِصْبَعِهِ حين يُولَدُ، غير عِيسَى ابن مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعُنُ فَطَعَنَ في الحِجَابِ" (¬1). وروى الشيخان من حديث عبد اللَّهِ بن أبي قَتَادَةَ عن أبيه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الرُّؤيَا الصَّالِحَةُ من اللَّهِ، وَالْحُلُمُ من الشَّيْطَان، فإذا حَلَمَ أحدكم حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عن يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ من شَرِّهَا فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ" (¬2). وهكذا رويا عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "التَّثَاؤُبُ من الشَّيْطَان، فإذا تَثَاءَبَ أحدكم فَلْيَرُدَّهُ ما اسْتَطَاعَ، فإن أَحَدَكُمْ إذا قال: هَا ضَحِكَ الشَّيْطَانُ" (¬3). ورويا عن أبي هُرَيْرَة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اسْتَيْقَظَ -أُرَاهُ أحدكم- من مَنَامِهِ فَتَوَضَّأ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاثًا، فإن الشَّيْطَانَ يَبِيتُ على خَيْشُومِهِ" (¬4). ورويا من حديث جَابِرٍ -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ أو كان جُنْحُ اللَّيْلِ، فَكُفُّوا صبيانكم، فإن الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حينَئذٍ" (¬5). ولا ريب أن الأذن من المنافذ التي يتسلَّط من خلالها الشيطان على الإنسان، فقد روى الشيخان عن عبد اللَّهِ -رضي الله عنه- قال: ذُكِرَ عِنْدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ نَامَ ليلة حتى أَصْبَحَ، قال: "ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ في أُذُنَيْهِ، أو قال في أُذُنِهِ" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3431) و (4548)، ومسلم (2366). (¬2) أخرجه البخاري (5747) وانظر أطرافه، ومسلم (2261). (¬3) أخرجه البخاري (3289، 6223، 6226) ومسلم (2994). (¬4) أخرجه البخاري (3295) ومسلم (238). (¬5) أخرجه البخاري (3280، وانظر أطرافه) ومسلم (2012). (¬6) أخرجه البخاري (1144، 3270).

وعن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "الْمَلائِكَةُ تَتَحَدَّثُ في العَنَانِ -وَالْعَنَانُ الْغَمَامُ- بِالأمْرِ يَكُونُ في الأرض، فَتَسْمَعُ الشَّيَاطِينُ الْكَلِمَةَ، فَتَقُرُّهَا في أُذُن الْكَاهِنِ، كما تُقَرُّ الْقَارُورَةُ فيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذِبَةٍ" (¬1). ومن المعلوم أن الأذان لما اشتمل عليه من التكبير والتوحيد من أعظم أسباب طرد الشيطان والسلامة منه. فقد روى الشيخان من حديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نُودِيَ بِالصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، فإذا قُضِيَ أَقْبَلَ، فإذا ثُوِّبَ بها أَدْبَرَ فإذا قُضِيَ أَقْبَلَ" (¬2). الحديث والطفل بحاجة إلى تعويذه، وتحصينه، فكيف بالوليد؟ وبهذا تظهر الحكمة من التأذين في أذن المولود، ويتبين صدق الحديث، فإن راويه عاصم بن عبيد الله لم يُتَّهَمْ. قال أبو بكر -ابن خزيمة-: كنتُ لا أخرج حديث عاصم بن عبيد الله في هذا الكتاب -صحيحه- ثم نظرت فإذا شعبة والثوري قد رويا عنه، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وهما إماما أهل زمانهما قد رويا عن الثوري عنه، وقد روى عنه مالك خبرًا في غير "الموطأ" (¬3). وقال العجلي: لا بأس به، والترمذي صحح حديثه هذا، وهو الحق -إن شاء الله تعالى-. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3210). (¬2) أخرجه البخاري (1231) ومسلم (569/ 83). (¬3) انظر "صحيح ابن خزيمة" (3/ 247).

الحديث الواحد بعد المئة

الحديث الواحد بعد المئة قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة لما ولدت الحسن: "احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره فضة على المساكين". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "لا يثبت في التصدُّق بوزن الشعر فضَّة حديث، وممَّن ضعَّف الحديث البيهقي، وأشار أحمد إلى ضعفه". ثم قال: "الفائدة الثانية: التصدق بالفضة وإن لم يثبت مرفوعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد روي عن فاطمة". * قلت: ضعف الحديث، ثم عاد، وقال: إنه من فعل فاطمة -رضي الله عنها-! والحق أن هذا لا يمكن أن تفعله من نشأت في بيت النبوة إلا بإذن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذا قال الترمذي عن حديث أبي جعفر الباقر: "هذا حديث حسن غريب، وإسناده ليس بمتصل". وقد تقدم أن الترمذي إذا قال مثل هذا فإنه يريد متن الحديث، وأنه جاء من طرق أخرى فحسَّنه. على أن أصل هذه السنة في "صحيح البخاري"، فقد روى من طريق أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عن مُحَمَّدِ بن سِيرِينَ، حدثنا سَلْمَانُ بن عَامِرٍ الضَّبِّيُّ قال: سمعت

رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مع الْغُلامِ عَقِيقَةٌ، فَأَهْرِيقُوا عنه دَمًا وَأَمِيطُوا عنه الأَذَى" (¬1). قال ابن سيرين: إن لم يكن الأذى حلق الرأس فلا أدري ما هو! والأمر كما قال ابن سيرين رحمه الله، قال ابن أبي شيبة: حدثنا محمد بن بشر عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تذبح عنه يوم السابع، ويحلق رأسه ويسمى" (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5471، 5472). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (5/ 115).

الحديث الثاني بعد المئة

الحديث الثاني بعد المئة حديث أبي هريرة -رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله عز وجل، وقتل النفس بغير حق، أو نهب مؤمن، أو الفرار من الزحف، أو يمين صابرة يقتطع بها مالاً - صلى الله عليه وسلم - بغير حق" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "فيه أبو المتوكل، غفل عنه الشيخ الألباني، وهو علَّة الحديث ... ". * قلت: قال ابن عبد الهادي: "قال شيخنا: وهذا الحديث لم يخرجه أحد من الكتب الستة، وإسناده جيد". والذي يظهر: أن الحديث لا يصح لمخالفته للحديث الصحيح، وهو ما رواه البخاري: حدثنا آدَمُ حدثنا شُعْبَةُ حدثنا محمد بن زِيَادٍ قال: سمعت أَبَا هُريرةَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - يَرْوِيهِ عن رَبِّكُمْ، قال: "لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ، وَالصَّوْمُ لي، وأنا أَجْزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ من ريحِ الْمِسْكِ" (¬2). ولما أخرجه الشيخان من حديث ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنها -: "أَنَّ نَاسًا من أَهْلِ ¬

_ (¬1) انظر: تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (3/ 510). (¬2) أخرجه البخاري (7538).

الشِّرْكِ، كَانُوا قد قَتَلُوا وَأكْثَرُوا، وَزَنَوْا، وَأكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: إِنَّ الذي تَقُولُ وتدعوا إليه لَحَسَنٌ، لو تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كفَّارَةً، فَنَزَلَ {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ}، ونزل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} " (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4810) ومسلم (122).

الحديث الثالث بعد المئة

الحديث الثالث بعد المئة حديث: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تراءى نارهما". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "هذا الحديث أعله خمسة من الأئمة بالإرسال، وهم: أبو داود، والبخاري، والترمذي، وأبو حاتم، والدارقطني .. ". ثم قال: "وبغضِّ النظر عما في بعض هذه الشواهد من ضعف، إلا أن هذه الشواهد لا تنفي عن الحديث علَّة الإرسال التي أعلّه بها الأئمة، وإن كانت تدل على ثبوت هذا المعنى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم". * قلت: وهذا الذي يريده الشيخ رحمه الله، فإن الاستدراك على الشيخ يتوجه لو أن الشيخ اكتفى بطريق جرير، ولكنه أضاف من القرائن ما تدل على ثبوته من قوله - صلى الله عليه وسلم. وهي طريقة صحيحة لا غبار عليها، كما ذكرت في المقدمة نقلاً عن أئمة هذا الشأن، وبالله التوفيق.

الحديث السادس بعد المئة

الحديث السادس بعد المئة حديث أبي بكر -رضي الله عنه-: "إذا أطعم الله نبيًّا طعمة ثم قبضه فهو للذي يقوم بها من بعده". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "الحديث في لفظه غرابة ونكارة، كما قال ابن كثير، وابن حجر، والعيني". * قلت: ليس فيه نكارة، وقد صححه عدد من الأئمة، وقال شيخ الإسلام في توجيهه: "نعم؛ كان عثمان يعطي بعض أقاربه ما يعطيهم من العطاء الذي أنكر عليه، وقد تقدم تأويله في ذلك، والجواب العام يأتي على ذلك: فإنه كان له تأويلان في إعطائهم كلاهما مذهب طائفة من الفقهاء، أحدهما: أنه ما أطعم الله لنبي طعمة، إلا كانت طعمة لمن يتولى الأمر بعده، وهذا مذهب طائفة من الفقهاء، ورووا في ذلك حديثًا معروفًا مرفوعًا، وليس هذا موضع بسط الكلام في جزئيات المسائل. وقالوا: إن ذوي القربي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ذوو قرباه، وبعد موته هم ذوو قربى من يتولى الأمر بعده، وقالوا: إن أبا بكر وعمر لم يكن لهما أقارب، كما كان لعثمان، فإن بني عبد شمس من أكبر قبائل قريش، ولم يكن من

يوازيهم إلا بنو مخزوم، والإنسان مأمور بصلة رحمه من ماله، فإذا اعتقدوا أن ولي الأمر يصله من مال بيت المال مما جعله الله لذوي القربى، استحقوا بمثل هذا أن يوصلوا من بيت المال ما يستحقونه لكونهم أولى قربى الإمام، وذلك أن نصر ولي الأمر والذب عنه متعين، وأقاربه ينصرونه ويذبون عنه ما لا يفعله غيرهم. وبالجملة: فلا بد لكل ذوي أمر من أقوام يأتمنهم على نفسه، ويدفعون عنه من يريد ضرره، فإن لم يكن الناس مع إمامهم كما كانوا مع أبي بكر وعمر احتاج الأمر إلى بطانة يطمئن إليهم، وهم لا بد لهم من كفاية" (¬1). وقال أيضًا: "وأيضًا فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن سهم ذوي القربى هو لقرابة الإمام، كما قاله الحسن وأبو ثور، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي أقاربه، بحكم الولاية، وسقط حق ذوي قرباه بموته، كما يقول ذلك كثير من العلماء كأبي حنيفة وغيره، ثم لما سقط حقه بموته فحقه الساقط، قيل: إنه يصرف في الكراع، والسلاح، والمصالح، كما كان يفعل أبو بكر وعمر، وقيل: هو لمن ولي الأمر بعده، وقيل: إن هذا مما تأوله عثمان، ونقل عن عثمان -رضي الله عنه- نفسه أنه ذكر هذا، وأنه يأخذ بعمله، وأن ذلك جائز، وإن كان ما فعله أبو بكر وعمر أفضل، فكان له الأخذ بهذا، وهذا، وكان يعطي أقرباءه مما يختص به، فكان يعطيهم لكونهم ذوي قربى الإمام على قول من يقول ذلك. وبالجملة: فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه، إما بولاية، وإما بمال، وعلي ولي أقاربه أيضاً" (¬2). * قلت: وبوَّب البخاري: "بَاب: وَمِنْ الدَّليل على أَنَّ الخُمُس لِلإِمَامِ وَأَنَّهُ يُعْطِي بعض قرابَتِهِ دُون بَعْضٍ". ¬

_ (¬1) انظر: منهاج السنة النبوية: (6/ 249 - 251). (¬2) انظر: منهاج السنة النبوية: (6/ 239 - 242).

على أن له شاهدًا من حديث ابن عباس رواه الطبراني في "الكبير": حدثنا محمد بن عَلِيٍّ الْمَرْوَزِيُّ، ثنا أبو الدَّرْدَاءِ عبد الْعَزِيزِ بن الْمُنِيبِ، ثنا إسحاق بن عبد اللَّهِ بن كَيْسَانَ، عن أبيه، عن سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ أَنَ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كان جَالِسًا ذَاتَ يَوْمٍ، وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فقال: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ شَهْوَةً، وإِنَّ شهوتِي في قِيَامِ هذا اللَّيْلِ، فَلا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ خَلْفِي، وَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ طُعْمَةً، وإِنَّ طُعْمَتِي هذا الْخُمُسُ، فإذا قُبِضْتُ فَهُوَ لولاة الأَمْرُ من بَعْدِي" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: (12/ 84).

الحديث السابع بعد المئة

الحديث السابع بعد المئة حديث: "لا يتم بعد احتلام". ـــــــــــــــــــــــــ قال المستدرك: "طرق الحديث ضعيفة ولا تقوِّيه". * قلت: أخرج مسلم: "أَنَّ نَجْدَةَ كتَبَ إلى ابن عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عن خَمْسِ خِلَالٍ، فقال ابن عَبَّاسٍ: لَوْلا أَنْ أكْتُمَ عِلْمًا ما كَتَبْتُ إليه ... ". وفيه "وَكتَبْتَ تَسْأَلُنِي عن الْيَتِيمِ مَتَى يَنْقَطِعُ عنه اسْمُ الْيُتْم؟ وَإِنَّهُ لا يَنْقَطِعُ عنه اسْمُ الْيُتْمِ حتى يَبْلُغَ، وَيُؤْنَسَ منه رُشدٌ" (¬1). وفي رواية: "فإن أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس، فقد ذهب عن اليتم". وكلا الروايتين في مسلم: وهو صريح في الرفع، ومصداقه قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6]. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1812).

فرحم اللهُ الإمام الألباني، فقد قرَّب السنة بين يدي الأمة. ومن الموافقات الجميلة: ما ذكره الحافظ ابن حجر في مقدمة "الفتح": قال: "وقال الفربري أيضًا: سمعت محمد بن أبي حاتم البخاري الوراق يقول: رأيت محمد بن إسماعيل البخاري في المنام يمشي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يمشي، فكلما رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - قدمه وضع البخاري قدمه في ذلك الموضع". وعينها رؤيت للشيخ ناصر عليه رحمة الله. قال ابن مالك في مقدمة كتابه "التسهيل": "وإذا كانت العلوم منحة إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين، ما عسر على كثير من المتقدمين، نعوذ بالله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف". وهذا فيمن دون الصحابة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. انتهى

§1/1