ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر

مقبل بن هادي الوادعي

مقدمة الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله الذي بيّن لنا سبيل الفلاح والفوز فقال: ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله القائل: ((لا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ ظاهرين لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتّى يأتي أمر الله عزّ وجلّ وهم على ذلك)). وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فإن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الدعوة إلى الله بل ومن الجهاد في سبيل الله بيان عقيدة أهل السنة والجماعة والذّب عنها، وكشف عوار أهل البدع والملحدين والتحذير منهم، كما قال ربنا عزوجل في كتابه الكريم: بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. وجزى الله أهل السنة خيرًا فهم من زمن قديم يتصدون لأهل البدع، حتى فضّل بعضهم الرّدّ على أهل البدع على الجهاد في سبيل الله.

وفي هذا الزمن شاع وذاع أن جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده المصري، ومحمد رشيد رضا، من المجددين وأنّهم علماء الفكر الحر، فقام غير واحد من المعاصرين ببيان ضلالهم وأنّهم مجدّدون للضلال وترهات الإعتزال فعلمت حقيقتهم، وصدق الله إذ يقول: فأمّا الزّبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض فصارت معرفة ضلالهم كلمة إجماع بين أهل السنة، لكن محمد رشيد رضا لم يوفّ حقه واغترّ بعض الناس ببعض كلماته في الردود على بعض أهل البدع، وما يدري أن عنده من البدع والضلال ما يقاربهم، ولقد صدق مروان بن محمد الطاطري إذ يقول كما في ترجمته من "ترتيب المدارك" للقاضي عياض: ثلاثة لا يؤتمنون: الصوفي والقصاص والمبتدع يرد على المبتدعة. لذا رأيت أن أكتب هذه الرسالة الموسومة بـ"ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر وبيان بعد محمد رشيد رضا عن السلفية". ولما نفدت طبعتها الأولى عزمت على نشرها مع بعض الزيادات، نسأل الله أن ينفع بها وأن يجعلها خالصةً لوجهه الكريم إنه جواد كريم. والحمد لله رب العالمين.

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وبعد: فإني لما كنت بمدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلغني أن بعض الناس ينكرون حديث السحر، فقلت لمن أخبرني إنه في البخاري ومسلم. فقال: وهم ينكرونه! فقلت: بمن ضعّفوه؟ وكنت أظن أنّهم يسلكون مسالك العلماء في النقد والتجريح، لعلهم وجدوا في سنده من هو سيء الحفظ أو جاء موصولاً والراجح أنه منقطع أو جاء مرفوعًا والراجح فيه الوقف، كما هو شأن الحافظ الدارقطني رحمه الله في انتقاداته على الصحيحين، فإذا هؤلاء الجاهلون أحقر من أن يسلكوا هذا المسلك الذي لا يقوم به إلا جهابذة الحديث ونقاده، والميزان عند هؤلاء أهواؤهم، فما وافق الهوى فهو الصحيح وإن كان من القصص الإسرائيلية، أو مما لا أصل له، وما خالف أهواءهم فهو الباطل ولو كان في الصحيحين، بل ربما تجاوز بعض أولئك المخذولين الحد وطعن في بعض القصص القرآنية. لذا رأيت أن أقدّم لإخواني طلبة العلم هذا الحديث الشريف، وتوجيه أهل العلم لمعناه على المعنى الذي يليق بشرف النبوة والعصمة النبوية، ولا

أدّعي أنني صحّحت الحديث فهو صحيح من قبل أن أخلق ومن قبل أن أطلب العلم، وما طعن فيه عالم يعتد به، وناهيك بحديث اتفق عليه الشيخان، ورواه الإمام أحمد من حديث زيد بن أرقم، ولا يتنافى معناه مع أصول الشريعة. والذي أنصح به طلاب العلم أن لا يصغوا إلى كلام أولئك المفتونين الزائغين وأن يقبلوا على تعلم الكتاب والسنة وأن يبينوا للناس أحوال أولئك الزائغين ويحذروهم منهم ومن كتبهم ومجلاتهم وندواتهم. والله أسأل أن يحفظ علينا ديننا وأن يتوفانا مسلمين. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

المبتدعة ينكرون حقيقة السحر

المبتدعة ينكرون حقيقة السحر قال القرطبي رحمه الله (ج2 ص46): ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة، وذهب عامة المعتزلة وأبوإسحاق الأستراباذي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام، لكون الشيء على غير ما هو به، وأنه ضرب من الخفّة والشعوذة، كما قال تعالى: يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى (¬1) ولم يقل: تسعى على الحقيقة، ولكن قال: يخيّل إليه وقال أيضًا: سحروا أعين النّاس (¬2) وهذا لا حجة فيه، لأنا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوّزها العقل وورد بها السمع، فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه ولا أخبر تعالى أنّهم يعلمونه الناس فدل على أن له حقيقة، وقوله تعالى في قصة سحرة فرعون: وجاءوا بسحر عظيم وسورة الفلق مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم، ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 66. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 176.

وهو مما خرجه البخاري ومسلم (¬1) وغيرهما عن عائشة رضى الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يهوديّ من يهود بني زريق، يقال له لبيد بن الأعصم الحديث، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما حل السحر قال: ((إن الله شفاني)). والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض، فدل على أن له حقًا وحقيقة، ً فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه، وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق. ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان، وتكلّم الناس فيه ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله، وروى سفيان عن أبي الأعور عن عكرمة عن ابن عباس قال: علم السحر في قرية من قرى مصر، يقال له: (الفرما)، فمن كذب به فهو كافر مكذب لله ورسوله، منكر لما علم مشاهدةً وعيانًا. وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج1 ص254): فصل: حكى أبوعبد الله الرازي في "تفسيره" عن المعتزلة أنّهم أنكروا وجود السحر قال: وربما كفّروا من اعتقد وجوده، قال: وأما أهل السنة فقد جوّزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء، أو يقلب الإنسان حمارًا والحمار إنسانًا، إلا أنّهم قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرّقى والكلمات المعيّنة، فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا، خلافًا ¬

(¬1) البخاري (ج10 ص235)، ومسلم (ج14 ص174).

للفلاسفة والمنجّمين والصابئة، ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى بقوله تعالى: وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله (¬1). ومن الأخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحر، وأن السحر عمل فيه، وبقصة تلك المرأة مع عائشة رضى الله عنها، وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر، قال: وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثيرة. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 102.

رجال زائغون سنوا للناس سنة سيئة

رجال زائغون سنّوا للناس سنةً سيئةً من هؤلاء الزائغين الرافضة على اختلاف أصنافهم فقد قدحوا في أفاضل الصحابة رضوان الله عليهم، وردّوا من الشرع مالا يوافق أهواءهم، ومنهم بعض رءوس الاعتزال: واصل بن عطاء، فقد قدح في أصحاب الجمل وعلي ومن معه، كما في "الفرق بين الفرق" (ص100) ومنهم: عمرو بن عبيد بن باب، قال بفسق تلك الطائفتين المتقاتلتين يوم الجمل، كما في "الفرق بين الفرق" (101)، ومنهم: إبراهيم النّظام، كما في "الفرق بين الفرق" (ص134) فأئمة الضلال من الروافض والمعتزلة هم الذين جرّءوا الناس على رد السنن الصحيحة، وعلى القدح في الأئمة الأثبات، وكل من انحرف من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وسلك هذا السبيل فهو سالك سبيلهم، وهم الذين جرّءوا المستشرقين على الطعن في السنة المطهرة، وأصل الضلال في هذا الباب هم أئمة الاعتزال، وأما الرافضة فإنّهم يطعنون طعنًا سخيفًا غير معقول ولا مقبول، لأنّهم كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أجهل الناس بالمعقول والمنقول. وقد سلك مسلك هؤلاء الزائغين جمال الدين الإيراني المتأفغن، ومحمد عبده المصري، ومحمد رشيد رضا، ومحمد مصطفى المراغي، ومحمد فريد

وجدي، ومحمود شلتوت، وعبد العزيز جاويش، وعبد القادر المغربي، وأحمد مصطفى المراغي، وأبوريّة صاحب الظلمات، وأحمد أمين صاحب "فجر الإسلام" و"ضحاه" و"ظهره"، وإني أقتصر على بيان حال محمد رشيد رضا لأن بعض الناس اغتروا بسلفيّته. 1 - من التفسير المسمى بـ"المنار" وهو بالظلام أشبه (ج1 ص351) قال: وأما قوله: {فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى (¬1)} فهو بيان لإخراج ما يكتمون. ويروون في هذا الضرب روايات كثيرة، قيل إن المراد: اضربوا المقتول بلسانها، وقيل: بفخذها، وقيل: بذنبها ... وقالوا: إنّهم ضربوه فعادت إليه الحياة، وقال: قتلني أخي أو ابن أخي فلان، الخ ما قالوه، والآية ليست نصًا في مجمله فكيف بتفصيله. والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلةً عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله، ليعرف الجاني من غيره، فمن غسل يده وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برئ من الدم، ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية. ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضةً لأن تسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس، أي: يحييها بمثل هذه الأحكام. اهـ وقد سبق أن استدل محمد رشيد رضا وشيخه بكلام نقله من التوراة وهذا مخالف لما رواه البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 73.

أنزل إليكم)). بل مخالف لما أخبرنا الله عن أهل الكتاب أنّهم قد حرّفوا التوراة، وأتوا بكلام من عندهم يزعمون أنه كلام الله. وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: ((وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)). فالمراد به ما أخبرنا الله أو رسوله، وإلا فمن أين لنا السند إلى موسى عليه السلام، والمحدثون رحمهم الله يضعّفون المرسل، فكيف بماليس له سند والله أعلم. وما ذكره المفسرون أن الله أحيا المقتول، فهذا ظاهر القرآن، وما صرفه محمد رشيد وشيخه إلا لموافقة أهل الكتاب، ولأن المستشرقين لا تتسع عقولهم لمعجزات النبوة، فأرادوا أن يتقرّبوا إليهم بهذا التأويل المستبعد. 2 - {ألم تر إلى الّذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثمّ أحياهم إنّ الله لذو فضل على النّاس ولكنّ أكثر النّاس لا يشكرون (¬1)}. قال محمد رشيد رضا (ج2 ص457): أقول: ولا يشترط أن تكون القصة في مثل هذا التعبير واقعةً، بل يصح مثله في القصص التمثيلية، إذ يراد أن من شأن مثلها في وضوحه أن يكون معلومًا حتى كأنه مرئي بالعينين. ومنه ما نبّهنا عليه من الفرق بين العطف بالفاء وبثم، وقد قالوا: إن العطف في قوله تعالى: {وقاتلوا} للإستئناف، لأن الجملة المبدوءة ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 243.

بالواو هنا جديدة لا تشارك ما قبلها في إعرابه ولا في حكمه الذي يعطيه العطف، قال الأستاذ الإمام: وهذا لا يمنع أن يكون بين الجملة المبدوءة بواو الاستئناف وبين ما قبلها تناسب وارتباط في المعنى غير ارتباط العطف والمشاركة في الإعراب، كما هو الشأن هنا، فإن الآية الأولى مبيّنة لفائدة القتال في الدفاع عن الحق أو الحقيقة، والثانية آمرة به بعد تقرير حكمته وبيان وجه الحاجة إليه، فالارتباط بينهما شديد الأواخي لا يعتريه التراخي. خرجوا فارين {فقال لهم الله موتوا} أي: أماتهم بإمكان العدو منهم، فالأمر أمر التكوين لا أمر التشريع، أي: قضت سنته في خلقه بأن يموتوا بما أتوه من سبب الموت، وهو تمكين العدوّ المحارب من أقفائهم بالفرار، ففتك بهم وقتل أكثرهم. ولم يصرح بأنّهم ماتوا لأن أمر التكوين عبارة عن مشيئته سبحانه، فلا يمكن تخلفه، وللإستغناء عن التصريح بقوله بعد ذلك: {ثمّ أحْياهم} وإنما يكون الإحياء بعد الموت والكلام في القوم لا في أفراد لهم خصوصيّة، لأن المراد بيان سنته تعالى في الأمم التي تجبن فلا تدافع العادين عليها، ومعنى حياة الأمم وموتها في عرف الناس جميعهم معروف. فمعنى موت أولئك القوم هو أن العدو نكل بهم فأفنى قوّتهم وأزال استقلال أمتهم حتى صارت لا تعدّ أمةً بأن تفرّق شملها وذهبت جامعتها، فكان من بقي من أفرادها خاضعين للغالبين ضائعين فيهم، مدغمين في غمارهم، لا وجود لهم في أنفسهم وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم. ومعنى حياتهم هو عود الاستقلال إليهم. ذلك أن من رحمة الله تعالى في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديبًا

لهم ومطهرًا لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة. أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها، فجمعوا كلمتهم ووثقوا رابطتهم حتى عادت لهم وحدتهم قويّةً فاعتزوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذل العبوديّة التي كانوا فيها إلى عز الإستقلال، فهذا معنى حياة الأمم وموتها -يموت قوم منهم باحتمال الظلم ويذل الآخرون حتى كأنّهم أموات، إذ لا تصدر عنهم أعمال الأمم الحية من حفظ سياج الوحدة وحماية البيضة بتكافل أفراد الأمة ومنعتهم، فيعتبر الباقون فينهضون إلى تدارك ما فات والاستعداد لما هو آت، ويتعلمون من فعل عدوهم بهم كيف يدفعونه، قال عليّ كرم الله وجهه: إن بقية السيف هي الباقية. أي التي يحيا بها أولئك الميتون، فالموت والإحياء واقعان على القوم في مجموعهم على ما عهدنا في أسلوب القرآن إذ خاطب بني إسرائيل في زمن تنْزيله بما كان من آبائهم الأولين بمثل قوله: {أنجيْناكم من آل فرْعون (¬1)} وقوله: {ثمّ بعثناكم من بعْد موتكم} وغير ذلك، وقلنا: إن الحكمة في هذا الخطاب تقرير معنى وحدة الأمة وتكافلها وتأثير سيرة بعضها في بعض حتى كأنّها شخص واحد وكل جماعة منها كعضو منه، فإن انقطع العضو العامل لم يكن ذلك مانعًا من مخاطبة الشخص بما عمله قبل قطعه، وهذا الاستعمال معهود في سائر الكلام العربي، يقال: هجمنا على بني فلان حتى أفنيناهم أو أتينا عليهم، ثم أجمعوا أمرهم وكروا علينا (مثلاً). وإنما كر عليهم من ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 141 ..

بقي منهم. أقول: وإطلاق الحياة على الحالة المعنوية الشريفة في الأشخاص والأمم والموت على مقابلها معهود كقوله تعالى: {ياأيّها الّذين ءامنوا استجيبوا لله وللرّسول إذا دعاكم لما يحييكم (¬1)}، وقوله: {أومن كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في النّاس كمن مثله في الظّلمات ليس بخارج منها (¬2)} الآية، وانظر إلى دقة التعبير في عطف الأمر بالموت على الخروج من الديار بالفاء الدالة على اتصال الهلاك بالفرار من العدو، إلى عطفه الاخبار بإحيائهم بثم الدالة على تراخي ذلك وتأخره، ولأن الأمة إذا شعرت بعلة البلاء بعد وقوعه بها وذهابه باستقلالها فإنه لا يتيسر لها تدارك ما فات، إلا في زمن طويل، فما قرره الأستاذ الإمام هو ما يعطيه النظم البليغ وتؤيده السنن الحكيمة، وأما الموت الطبيعي فهو لا يتكرر كما علم من سنة الله ومن كتابه إذ قال: {لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى (¬3)} وقال: {وأحْييتنا اثنتيْن (¬4)}، ولذلك أوّل بعضهم الموت هنا بأنه نوع من السكتة والاغماء الشديد لم تفارق به الأرواح أبدانها، وقد قال بعدما قرره: هذا هو المتبادر فلا نحمّل القرآن مالا يحمل لنطبقه على بعض قصص بني إسرائيل، والقرآن لم يقل إن أولئك الألوف منهم كما قال في الآيات الآتية وغيرها، ولو فرضنا صحة ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 24. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬3) سورة الدخان، الآية: 56. (¬4) سورة غافر، الآية: 11.

ما قالوه من أنّهم هربوا من الطاعون وأن الفائدة في إيراد قصتهم بيان أنه لا مفر من الموت لما كان لنا مندوحة عن تفسير إحيائهم بأن الباقين منهم تناسلوا بعد ذلك وكثروا، وكانت الأمة بهم حيّةً عزيزةً، ليصح أن تكون الآية تمهيدًا لما بعدها مرتبطة به، والله تعالى لا يأمرنا بالقتال لأجل أن نقتل ثم يحيينا بمعنى أنه يبعث من قتل منا بعد موتهم في هذه الحياة الدنيا. اهـ أقول: نحن نؤمن بظاهر القرآن، والحامل على هذا التأويل أن عقول المستشرقين لا تخضع لهذا. 3 - قوله تعالى: {أو كالّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثمّ بعثه قال كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك ءايةً للنّاس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحمًا فلمّا تبيّن له قال أعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير (¬1)}. قال محمد عبده (ج3 ص49) في الكلام على قول الله عز وجل: {فأماته الله مائة عام ثمّ بعثه}: قالوا: معناه ألبثه الله مائة عام ميتًا. وذلك أنّ الموت يكون في لحظة واحدة، قال الأستاذ الإمام: وفاتهم أنّ من الموت ما يمتد زمنًا طويلاً، وهو ما يكون من فقد الحس والحركة والإدراك من غير أن تفارق الروح البدن بالمرّة، وهو ما كان لأهل ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 259.

الكهف، وقد عبّر عنه تعالى بالضرب على الآذان. أقول: ولعل وجهه أن السمع آخر ما يفقد من إدراك من أخذه النوم أو الموت، وهذا الموت أو الضرب على الآذان، هو المراد بالشق الثاني من قوله تعالى: {الله يتوفّى الأنفس حين موتها والّتي لم تمت في منامها (¬1)} والبعث هو الإرسال. فإذا كان هذا النوع من الموت يكون بتوفي النفس أي: قبضها، فزواله إنما يكون بإرسالها وبعثها. وأقول: قد ثبت في هذا الزمان أن من الناس من تحفظ حياته زمنًا طويلاً يكون فيه فاقد الحس والشعور ويعبّرون عن ذلك بالسبات، وهو النوم المستغرق الذي سماه الله وفاةً، وقد كتب إلى مجلة "المقتطف" سائل يقول: إنه قرأ في بعض التقاويم أن امرأةً نامت (5500) يوم، أي: بلياليها من غير أن تستيقظ ساعة ما في خلال هذه المدة. وسأل: هل هذا صحيح؟ فأجابه أصحاب المجلة بأنّهم شاهدوا شابًا نام نحو شهر من الزمان، ثم أصيب بدخل في عقله. وقرأوا عن أناس ناموا نومًا طويلاً أكثره أربعة أشهر ونصف، واستبعدوا أن ينام إنسان مدة (5500) أي أكثر من 15 سنة نومًا متواليًا، وقالوا: إنّهم لا يكادون يصدقون ذلك. نعم إن الأمر غير مألوف، ولكن القادر على حفظ الإنسان أربعة أشهر ونصف و (15) سنة، قادر على حفظه مائة سنة، وإن لم نهتد إلى سنته في ذلك، فلبْث الرجل الذي ضرب على سمعه هناك مثلاً مائة سنة غير محال في نظر العقل، ولا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النص من ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 42.

آيات الله تعالى، وأخذها على ظاهرها، إلاّ أن تكون من الممكنات دون المستحيلات، وإنما ذكرنا ما وصل إليه علم بعض الناس من هذا السبات الطويل الذي لم يعهده أكثرهم. لأجل تقريب إمكان هذه الآية من أذهان الذين يعسر عليهم التمييز بين ما يستبعد لأنه غير مألوف وما هو محال لا يقبل الثبوت لذاته. اهـ. أقول: وفي قصة الحمار نحو ذلك من التحريف، فكأنه موكل بتحريف ما لا تتسع له عقول أعداء الإسلام. 4 - {وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال فخذ أربعةً من الطّير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءًا ثمّ ادعهنّ يأتينك سعيًا واعلم أنّ الله عزيز حكيم (¬1)}. قال محمد عبده كما في "المنار" الذي هو بالظلام أشبه (ج3 ص55): ملخص معنى الآية عند الجمهور: أن إبراهيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم طلب من ربه أن يطلعه على كيفية إحياء الموتى، فأمره تعالى بأن يأخذ أربعة من الطير فيقطعهن أجزاء يفرقها على عدة جبال هناك، ثم يدعوها إليه فتجيئه، وقالوا: إنه فعل ذلك. وخالفهم أبومسلم المفسر الشهير فقال: ليس في الكلام ما يدل على أنه فعل ذلك، وما كلّ أمر يقصد به الامتثال، فإن من الخبر ما يأتي بصيغة الأمر، لاسيما إذا أريد زيادة البيان كما إذا سألك سائل: كيف يصنع الحبر مثلاً؟ فتقول: خذ كذا وكذا وافعل كذا ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 260.

وكذا يكن حبرًا. تريد هذه كيفيته، ولا تعني تكليفه صنع الحبر بالفعل. قال: وفي القرآن كثير من الأمر الذي يراد به الخبر، والكلام ههنا مثل لإحياء الموتى. ومعناه: خذ أربعةً من الطير فضمها إليك وآنسها بك حتى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك فإن الطيور من أشد الحيوانات استعدادًا لذلك، ثم اجعل كل واحد منها على جبل، ثم ادعها فإنّها تسرع إليك لا يمنعها تفرق أمكنتها وبعدها من ذلك. كذلك أمْر ربك إذا أراد إحياء الموتى، يدعوهم بكلمة التكوين (كونوا أحياء) فيكونوا أحياء، كما كان شأنه في بدء الخلق إذ قال للسموات والأرض: ائتيا طوعًا أو كرهًا. قالتا: أتينا طائعين، هذا ما تجلى به تفسير أبي مسلم، وقد أورده الرازي مختصرًا. وقال: والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة، وأنكر (يعني أبا مسلم) القول بأن المراد منه فقطعهن واحتج عليه بوجوه: الأول: أن المشهور في اللغة في قوله: {فصرْهنّ} أملهن، وأما التقطيع والذبح فليس في الآية ما يدل عليه، فكان إدراجه في الآية إلحاقًا لزيادة بالآية لم يدل الدليل عليها وأنه لا يجوز. والثاني: أنه لو كان المراد بصرّهن قطعهن لم يقل: {إليْك} فإن ذلك لا يتعدى بإلى، وإنما يتعدى بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة، فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: فخذ إليك أربعةً من الطير فصرهن؟ قلنا: التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجئ إلى التزامه خلاف الظاهر.

والثالث: أن الضمير في قوله: {ثمّ ادْعهنّ} عائد إليها لا إلى أجزائها، وإذا كانت الأجزاء متفرقةً متفاصلة، وكان الموضوع على كل جبل بعض تلك الأجزاء، يلزم أن يكون الضمير عائدًا إلى تلك الأجزاء لا إليها، وهو خلاف الظاهر، وأيضًا الضمير في قوله: {يأتينك سعيًا} عائد إليها لا إلى أجزائها، وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض كان الضمير في: {يأتينك} عائدًا إلى أجزائها لا إليها. واحتج القائلون بالقول المشهور بوجوه: الأول: أن كل المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور وتقطيع أجزائها، فيكون إنكار ذلك إنكارًا للإجماع. والثاني: أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا يكون له فيه مزيّة على الغير. والثالث: أن إبراهيم أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى، وظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك، وعلى قول أبي مسلم لا تحصل الإجابة في الحقيقة. والرابع: أن قوله: {ثمّ اجْعل على كلّ جبل منهنّ جزءًا} يدل على أن تلك الطيور جعلت جزءًا جزءًا. قال أبومسلم: في الجواب عن هذا الوجه: أنه أضاف الجزء إلى الأربعة فيجب أن يكون المراد بالجزء الواحد من تلك الأربعة. والجواب: أن ما ذكرته وإن كان محتملاً، إلا أن حمل الجزء على ما ذكرنا أظهر، والتقدير فاجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءًا

أو بعضًا. اهـ كلام الرازي. آية فهم الرازي وغيره فيها خلاف ما فهمه جميع المفسرين من قبله، ولم يقل أحد: أنّ فهْم فئة من الناس حجة على فهم الآخرين، على أن ما فهمه أبومسلم هو المتبادر من عبارة الآية الكريمة، وما قالوه مأخوذ من روايات حكمّوها في الآية ولآيات الله الحكم الأعلى، وعلى ما في تلك الرواية هي لا تدل. وأما قوله: إن ما ذكره أبومسلم غير مختص بإبراهيم، فلا يكون فيه مزيّة. فهو مردود بأن هذا المثال لكيفية إحياء الله للموتى أو لكيفية التكوين فيه توضيح لها وتحديد لما يصل إليه علم البشر من أسرار الخليقة، ولا دليل على أن العلم بذلك كان عامًا في الناس، فيقال: إنه لا خصوصية فيه لإبراهيم. على أنه يرد مثل هذا الإيراد على حجة إبراهيم على الذي آتاه الله الملك، وحجته على عبدة الكواكب في سورة الأنعام، فإن مثل هذه الحجج التي أيد الله تعالى بها إبراهيم مما يحتج به الرازي وغيره، فهل ينفي ذلك أن تكون هدايةً من الله لإبراهيم وإخراجًا من ظلمات الشبه التي كانت محيطةً بأهل زمنه إلى نور الحق، وقد قال تعالى: {وتلك حجّتنا ءاتيناها إبراهيم (¬1)} الآية. وأما قوله: إن إجابة إبراهيم إلى ما سأل لا تحصل بقول أبي مسلم وإنما تحصل بقول الجمهور، فالأمر بعكسه، وذلك أن إتيان الطيور بعد تقطيعها وتفريق أجزائها في الجبال لا يقتضي رؤية كيفية الإحياء. إذ ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 83.

ليس فيها إلا رؤية الطيور كما كانت قبل التقطيع، لأن الإحياء حصل في الجبال البعيدة، وافرض أنك رأيت رجلاً قتل وقطّع إربًا إربًا ثم رأيته حيًا أفتقول حينئذ: إنك عرفت كيفية إحيائه؟ هذا ما يدل عليه قولهم. وأما قول أبي مسلم فهو الذي يدل على غاية ما يمكن أن يعرف البشر من سر التكوين والإحياء، وهو توضيح معنى قوله تعالى للشيء: {كنْ فيكون} ولولا أن الله تعالى بيّن لنا ذلك بما حكاه عن خليله لجاز أن يطمع في الوقوف على سر التكوين الطامعون، ولو فهم الرازي هذا لما قال: إنه لا خصوصية لإبراهيم على الغير. وهذا النوع من الجواب قريب من جواب موسى إذ طلب رؤية الله تعالى، ومن جواب السائلين عن الأهلة وليس مثلهما من كل وجه فإنه بيّن وأوضح ما يمكن علمه في المسألة نفسها ونهى عما زاد على ذلك، وجملة القول: أن تفسير أبي مسلم هو المتبادر الذي يدل عليه النظم وهو الذي يجلي على الحقيقة في المسألة فإن كيفية الإحياء هي عين كيفية التكوين في الابتداء. وإنما تكون بتعلق إرادة الله تعالى بالشيء المعبر عنه بكلمة التكوين (كن) فلا يمكن أن يصل البشر إلى كيفية له إلا إذا أمكن الوقوف على كنْه إرادة الله تعالى وكيفية تعلقها بالأشياء. وظاهر القرآن وهو ما عليه المسلمون أن هذا غير ممكن، فصفات الله منزهة عن الكيفية، والعجز عن الإدراك فيها هو الإدراك، وهو ما أفاده قول أبي مسلم رحمه الله تعالى: ومما يؤيده في النظم المحكم قوله تعالى: {ثمّ اجْعلْ} فإنه يدل على التراخي الذي يقتضيه إمالة الطيور وتأنيسها على أن لفظ: {صرْهنّ} يدل على التأنيس. ولولا أن هذا هو المراد لقال: فخذ أربعة من الطير

فقطعهن واجعل على كل جبل منهن جزءًا، ولم يذكر لفظ الإمالة إليه، ويعطف جعلها على الجبال بثم. ويدل عليه أيضًا ختم الآية باسم العزيز الحكيم، دون اسم القدير، والعزيز هو الغالب الذي لا ينال، وما صرف جمهور المتقدمين عن هذا المعنى على وضوحه إلا الرواية، بأنه جاء بأربعة طيور من جنس كذا وكذا وقطعها وفرقها على جبال الدنيا، ثم دعاها فطار كل جزء إلى مناسبه، حتى كانت طيورًا تسرع إليه، فأرادوا تطبيق الكلام على هذا ولو بالتكلف. وأما المتأخرون فهمهم أن يكون في الكلام خصائص للأنبياء من الخوارق الكونية. وإن كان المقام مقام العلم والبيان والإخراج من الظلمات إلى النور وهو أكبر الآيات، ولكل أهل زمن غرام في شيء من الأشياء يتحكم في عقولهم وأفهامهم. والواجب على من يريد فهم كتاب الله تعالى أن يتجرد من التأثر بكل ما هو خارج عنه فإنه الحاكم على كل شيء، ولا يحكم عليه شيء. ولله در أبي مسلم ما أدق فهمه وأشد استقلاله فيه. اهـ وأنت ترى أن ظاهر القرآن مع الجمهور، وليس هناك ما يوجب صرفه عن ظاهره، وأبومسلم من أئمة الابتداع المعتزلة. 5 - {إذ قال الله ياعيسى إنّي متوفّيك ورافعك إليّ ومطهّرك من الّذين كفروا (¬1)}. يقول محمد عبده كما في "المنار " (ج3 ص316) الذي هو بالظلام أشبه: يقول بعض المفسرين: إني متوفيك، أي منوّمك، وبعضهم: إني ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 55.

قابضك من الأرض بروحك وجسدك ورافعك إلي بيان لهذا التوفي، وبعضهم: إني أنجيك من هؤلاء المعتدين فلا يتمكنون من قتلك وأميتك حتف أنفك، ثم أرفعك إليّ، ونسب هذا القول إلى الجمهور، وقال: للعلماء ههنا طريقتان: إحداهما وهي المشهورة: أنه رفع حيًا بجسمه وروحه، وأنه سينْزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله تعالى. ولهم في حياته الثانية على الأرض كلام طويل معروف، وأجاب هؤلاء عما يرد عليهم من مخالفة القرآن في تقديم الرفع على التوفي بأن الواو لا تفيد ترتيبًا، -أقول: وفاتهم أن مخالفة الترتيب في الذكر للترتيب في الوجود لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، ولا نكتة هنا لتقديم التوفي على الرفع إذ الرفع هو الأهم، لما فيه من البشارة بالنجاة ورفعة المكانة-. (قال): والطريقة الثانية: أن الآية على ظاهرها، وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر وهو الإماتة العادية، وأن الرفع يكون بعده وهو رفع الروح، ولا بدع في إطلاق الخطاب على شخص وإرادة الروح، فإن الروح هي حقيقة الإنسان والجسد كالثوب المستعار فإنه يزيد وينقص ويتغير، والإنسان إنسان لأن روحه هي هي. (قال): ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول في آخر الزمان تخريجان: أحدهما: أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي لأنه من أمور الغيب، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي، لأن المطلوب فيها هو اليقين، وليس في الباب حديث متواتر. وثانيهما: تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسرّ رسالته

على الناس، وهو ما غلب في تعليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسلم، والأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها، وهو حكمتها وما شرعت لأجله، فالمسيح عليه السلام لم يأت لليهود بشريعة جديدة، ولكنه جاءهم بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر ألفاظ شريعة موسى عليه السلام ويوقفهم على فقهها والمراد منها، ويأمرهم بمراعاته وبما يجذبهم إلى عالم الأرواح بتحري كمال الآداب، أي: ولما كان أصحاب الشريعة الأخيرة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها بل وألفاظ من كتب فيها، معبرًا عن رأيه وفهمه وكان ذلك مزهقًا لروحها ذاهبًا بحكمتها كان لابد لهم من إصلاح عيسوي يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين وأدبه الحقيقي، وكل ذلك مطوي في القرآن الذي حجبوا عنه بالتقليد الذي هو آفة الحق وعدوّ الدين في كل زمان، فزمان عيسى على هذا التأويل هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية، لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر، هذا ما قاله الأستاذ في الدرس مع بسط وإيضاح، ولكن ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك تأباه، ولأهل هذا التأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نقلت بالمعنى كأكثر الأحاديث، والناقل للمعنى ينقل ما فهمه. وسئل عن المسيح الدجال وقتل عيسى له فقال: إن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها، وإن القرآن أعظم هاد إلى هذه الحكم والأسرار، وسنة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم مبينة لذلك فلا حاجة للبشر إلى إصلاح وراء الرجوع إلى ذلك، وسنعود إلى مبحث ما جرى للمسيح

عليه السلام مع الماكرين الذين أرادوا قتله وصلبه في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى. اهـ وأحاديث نزول عيسى وخروج الدجال لدى أهل العلم متواترة، ولكن سهل على هؤلاء الذين سلكوا مسلك جمال الدين الإيراني المتأفغن ردها والقدح فيها وتحريفها، وإني أنصح للشباب المصري ولعلماء مصر أن يطهروا مصر من هذه الأفكار الإلحادية. وفّقهم الله لذلك إنه على كل شيء قدير. وبما أنه ليس لدي وقت لتفنيد ما في هذا الكتاب من الضلال فإني أكتفي بهذا وما تركته أكثر وأكثر. وقد اخترت هذا الكتاب من بين سائر كتبهم الزائغة لأن كثيرًا من الناس يغترون بالكتاب وبالمؤلف، ففي ذات مرة ونحن بفصل الدراسة بالجامعة الإسلامية تحدّث مدرس التفسير عن التفاسير وما دخل عليها من الدخيل، فسأله طالب أي تفسير أحسن؟ فقال: تفسير المنار، فروجع الأستاذ ولم يقبل. وفى أخرى كنت أحذر من أئمة الضلال وذكرت منهم جمال الدين الإيراني المتأفغن، ومحمد عبده المصري، ومحمد رشيد رضا، وكان ذلك بمسجد (النزيلي) بصنعاء وبعد أيام التقيت بأخ محب للخير فنصحني أن لا أذكرهم فإنّهم قدموا خدمات جليلة للإسلام، ولم يكن الوقت متسعًا لتفهيم الأخ ببعض ضلالهم. وفى أخرى كتب إليّ من مصر بعض الأخوة يقول: إنه قيل له: لم ذكرت محمد رشيد في الصحيح المسند من دلائل النبوة وشاركته مع أولئك في الضلال، وهو معروف بالسلفية، فكتبت للأخ: إقرأ كتابه "المنار"

الذي هو بالظلام أشبه، وكذا مجلة "المنار" وستقول إن شاء الله: أف لهذه السلفية، ستجده بعيدًا عن السلفية، والسلفية بعيدة عنه، فأنا أحيل طلبة العلم الذين قد عرفوا الحق من الباطل أن يرجعوا إلى كتبه، وأنا متأكد أنّهم سيعلمون أنه بريء من السلفية، والسلفية بريئة منه. لا نكتفي من محمد رشيد رضا بمحاربة التقليد، وهو أكبر المقلدين لجمال الدين، ومحمد عبده، لا نكتفي بمهاجمة الشرك والبدع، وهو يحرّف كتاب الله ويرد من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لا يتمشى مع أفكار جمال الدين ومحمد عبده. نحن بحمد الله لا نكتفي بالدعاوي، بل لابد من البراهين والاستقامة، وسلوك طريقة السلف. والله المستعان. فإن قلت: أين أضر على الإسلام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، أم محمد رشيد رضا؟ قلت: محمد رشيد رضا، لأنه عالم بعلم الحديث، فهو يستطيع أن يلبّس على الجهال بعلم السنة ولذا فقد أكثر النقل عنه أبوريّة في ظلماته، ولما سئل عن ذلك قال ما معناه: إن محمد رشيد رضا عالم كبير ومشهور بالسلفية فأحب أن يكون كلامي مقبولاً. هذا وقد طلب بعض إخواني في الله مزيدًا من البراهين على بعد محمد رشيد رضا عن السلفية. فأقول: الذي نفهمه عن النسبة السلفية أن معناها الانقياد لشرع الله انقيادًا شموليًا كما قال تعالى: ياأيّها الّذين ءامنوا ادخلوا في السّلم كافّةً (¬1) وقد أنكر الله على من أخذ من الدين ما يوافق ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 208.

هواه فقال عز من قائل: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون (¬1). وقال سبحانه وتعالى: إنّ الّذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتّخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقًّا وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا (¬2). وقال سبحانه وتعالى: فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا (¬3). أولئك الانْهزاميون الذين انْهزموا أمام أعداء الإسلام وأصبحوا يحرفون ما لا تتقبله عقولهم، كأنّهم مفوضون في شرع الله فأصبحوا يتبعون أهواء الملحدين في تحريف المعجزات وغيرها من شرع الله، ورب العزة يقول لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولّوا فاعلم أنّما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإنّ كثيرًا من النّاس لفاسقون (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 85. (¬2) سورة النساء، الآية: 151. (¬3) سورة النساء، الآية: 65. (¬4) سورة المائدة، الآية: 49.

ويقول سبحانه وتعالى: ولئن اتّبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنّك إذًا لمن الظّالمين (¬1). ويقول سبحانه وتعالى: ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ولا تتّبع أهواء الّذين لا يعلمون إنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا وإنّ الظّالمين بعضهم أولياء بعض والله وليّ المتّقين (¬2). ويقول سبحانه وتعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبينًا (¬3). ويقول سبحانه وتعالى: وإن كادوا ليفتنونك عن الّذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذًا لاتّخذوك خليلا ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئًا قليلا إذًا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثمّ لا تجد لك علينا نصيرًا (¬4). هذا ومما ينبغي أن يعلم أنه ليس بيني وبين محمد رشيد عداوة دنيوية، فهو شاميّ وأنا يمنيّ، وكلانا يجمعنا الإسلام، ولكني رأيت له ولجمال الدين الأفغاني ولمحمد عبده ومن سلك مسلكهم أخطاءً اشمأز منها قلبي، ورأيت أنه لا يجوز السكوت عليها، وأنا بحمد الله أعلم أنه ردّ على كثير من ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 145. (¬2) سورة الجاثية، الآيتان: 18 - 19. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 36. (¬4) سورة الإسراء، الآيات: 73 - 75.

المبتدعة، منهم الرافضة فقد رأيت الرافضي الأثيم محسن أمين العاملي في كتابه "كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب" ذلك الكتاب الذي يدعو إلى الوثنيّة، رأيته فيه يرد على محمد رشيد رضا، ويتوجع من ردود محمد رشيد رضا عليهم، لكني أريد أن أبيّن أن الرجل ليس ملتزمًا بمذهب السلف الذي هو قبول ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ولا تضعيف لأحاديث صحيحة، ولا تصحيح لأحاديث ضعيفة، وقد تقدمت بعض الآيات وتحريفها عما يخرجها عن تفسير السلف رحمهم الله، وإليك ما يتيسر لي الآن: 1 - قال في "المنار" (ج11 ص155): ولولا حكاية القران لآيات الله التي أيّد بها موسى وعيسى عليهما السلام لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر، واهتداؤهم به أعم وأسرع، لأن أساسه قد بني على العقل والعلم وموافقة الفطرة البشرية، وتزكية أنفس الأفراد وترقية مصالح الاجتماع. اهـ المراد منه. فهل هذا الكلام يتمشى مع ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما من الأنبياء من نبيّ إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الّذي أوتيت وحيًا (¬1) أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)). الله سبحانه وتعالى وصف القرآن بأنه يهدي للتي هي أقوم وأنه شفاء ¬

(¬1) الوحي يشمل الكتاب والسنة فإن قال قائل: المراد به هنا القرآن، قلنا: سلّمنا جدلاً فالمراد المعجزة العظمى الخالدة، ولا ينفي ما عداها من المعجزات.

وأنه نور، وقد تأثر بالقرآن بعض كفار قريش، كما في قصة جبير بن مطعم أنه قدم على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلي بأصحابه المغرب يقرأ سورة الطور، قال: فلما بلغ إلى قوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} كاد قلبي أن يطير-وفي رواية- فوقع الإيمان في قلبي. وتأثر به الجن كما في سورة الأحقاف والجن، وهؤلاء الإفرنج يجوز أنّهم لم يبلّغوا القرآن على الوجه الصحيح، أو أنّهم بلّغوا ولكنهم معاندون كما حصل لبعض مشركي قريش. وقد ذكرت شيئًا من هذا في مقدمة الصحيح المسند من دلائل النبوة. ويجوز أن الله ما قدّر هدايتهم كما قال تعالى: {ولو جعلناه قرءانًا أعجميًّا لقالوا لولا فصّلت ءاياته ءأعجميّ وعربيّ قل هو للّذين ءامنوا هدًى وشفاء والّذين لا يؤمنون في ءاذانهم وقر وهو عليهم عمًى أولئك ينادون من مكان بعيد (¬1)}. وتأثر النجاشي عند أن قرأ عليه جعفر بن أبي طالب القرآن ثم إسلامه معروف رواه أحمد في "مسنده". وقال الله سبحانه وتعالى: {ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين ءامنوا الّذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا ءامنّا فاكتبنا مع الشّاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحقّ ونطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصّالحين فأثابهم الله بما قالوا ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 44.

جنّات تجري من تحتها الأنْهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين (¬1)}. وأخيرًا نقول لأفراخ الإفرنج: {ءأنتم أعلم أم الله} (¬2). 2 - قوله تعالى: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظةً للمتّقين (¬3)}. أبعد النجعة محمد رشيد رضا في "المنار" (ج1 ص345) واختار أنه مسخ معنوي، تابعًا في ذلك مجاهدًا لأن رأي مجاهد موافق لهواه. وفي (ج9 ص379) من "المنار"، ذكر القولين وسكت، وجمهور المفسرين رحمهم الله على أنه مسخ حقيقي، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر أثر مجاهد (ج1 ص190): وهذا سند جيد عن مجاهد، وقول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره قال الله تعالى: {قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبةً عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطّاغوت (¬4)}. اهـ ثم قال ابن كثير رحمه الله ص (192) قلت: والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه الله من أن مسخهم إنما كان معنويًا لا صوريًّا، بل الصحيح أنه معنوي صوري، والله تعالى أعلم. اهـ ¬

(¬1) سورة المائدة، الآيات: 82 - 85. (¬2) سورة البقرة، الآية: 140. (¬3) سورة البقرة، الآيتان: 65 - 66. (¬4) سورة المائدة، الآية: 60.

يعني أنه يشمل مسخ صورهم، ويشمل مسخ أخلاقهم. 3 - قال البخاري رحمه الله (ج8 ص164): حدثني محمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((قيل لبني إسرائيل {ادخلوا الباب سجّدًا وقولوا حطّة} (¬1) فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدّلوا وقالوا حطّة حبّة في شعرة)). محمد رشيد رضا في تفسير سورة البقرة بعد أن اعترف أنه في الصحيح يقول: ولكنه لا يخلو من علّة إسرائيلية، وسنبين ذلك في تفسير المسألة من سورة الأعراف. وقال في سورة الأعراف (ج9 ص373): ولا ثقة لنا بشيء مما روي في هذا التبديل من ألفاظ عبرانية ولا عربية، فكله من الإسرائيليات الوضعيّة كما قاله الأستاذ الإمام هنالك، وإن خرّج بعضه في الصحيح والسنن موقوفًا ومرفوعًا كحديث أبي هريرة المرفوع في الصحيحين وغيرهما لبني إسرائيل: {وادخلوا الباب سجّدًا وقولوا حطّة} فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدّلوا وقالوا حطّة حبّة في شعرة))، وفي رواية: ((شعيرة)). رواه البخاري في تفسير السورتين من طريق همام بن منبه أخي وهب، وهما صاحبا الغرائب في الإسرائيليات، ولم يصرح أبوهريرة بسماع هذا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار، إذ ثبت أنه روى عنه، وهذا مدرك عدم اعتماد الأستاذ رحمه الله على مثل هذا من الإسرائيليات, وإن ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 58.

صح سنده، ولكن قلّ ما يوجد في الصحيح المرفوع شيء يقتضي الطعن في سندها. اهـ وهذا يدل أن محمد رشيد رضا لم يغيّر منهجه عن شيخه في التفسير بالرأي، ولكنه يستكثر من الاستدلال بالسنة إذا كانت موافقة لهواه، بل أقبح من هذا أنه يستدل بأقوال الصوفية والرافضة إذا كانت موافقةً لهواه. 4 - {ياأيّها الّذين ءامنوا لا تأكلوا الرّبا أضعافًا مضاعفةً واتّقوا الله لعلّكم تفلحون (¬1)}. يهوّن الأمر في ربا الفضل، "المنار" (ج4 ص23 - إلى ص130) وفي رسالة بعنوان الربا والمعاملات في الإسلام (ص127)، وهو في (ج3 ص116) لا يرى بأسًا أن تعطي شخصًا مالاً يستغلّه ويجعل لك من كسبه حظًا معينًا، وهذا من ربا النسيئة فهو يهوّن الأمر في ربا الفضل ويتسامح في القليل من ربا النسيئة. 5 - من اجتهادات محمد عبده الباطلة، أنه يرى جواز التيمم للمسافر وإن كان واجدًا للماء، "المنار" (ج5 ص121و122). 6 - قال الإمام مسلم رحمه الله (ج8 ص78): حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث وحجاج بن الشاعر كلاهما عن عبد الصمد واللفظ لعبد الوارث بن عبد الصمد حدثنا أبي عن جدي عن الحسين بن ذكوان حدثنا ابن بريدة حدثني عامر بن شراحيل الشعبي شعب همدان، أنه سأل فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس وكانت من ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 130.

المهاجرات الأول فقال: حدّثيني حديثًا سمعتيه من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا تسنديه إلى أحد غيره ... فذكرت الحديث وفيه ذكر الجساسة والدجال، ثم ذكر له مسلم طرقًا إلى الشعبي. هذا الحديث يشكك فيه محمد رشيد رضا كما في "المنار" (ج9 ص197) ولا أعلم عالماً من علماء المسلمين تكلم فيه، بل يمثّل به أهل المصطلح لرواية الأكابر عن الأصاغر، وقد شرحه تقي الدين أحمد بن على المقريزي بكتاب سماه ضوء الساري في معرفة خبر تميم الداري. 7 - قوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربّه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون (¬1)}. يدفع شيخه القول بخروج مرتكبي كبيرة الربا من النار، ويقرّه محمد رشيد رضا (ج3 ص98،99) من "المنار". ويقول محمد عبده (ص102) في الكلام على قول الله عز وجل: {ياأيّها الّذين ءامنوا اتّقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين (¬2)}: وهذا يؤيد ما قلنا في مسألة خلود من عاد إلى الربا بعد تحريمه في النار. اهـ وهو ينكر خروج القاتل الموحد من النار، فقال محمد رشيد رضا في ... "المنار" (ج5 ص341): أقول: وقد استكبر الجمهور خلود القاتل في النار، وأوّله بعضهم بطول المكث فيها، وهذا يفتح باب التأويل لخلود ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 275. (¬2) سورة البقرة، الآية: 278.

الكفار- إلى آخر كلامه. وأنت خبير أن الأحاديث متواترة بخروج الموحّدين من النار، وهو قول أهل السنة والجماعة. 8 - تشكيكه في أحاديث الدجال (ج9 ص490) إلى ص (499) وقد ألّف الأخ أحمد بن عيسى رسالة ماجستير في أحاديث الدجال، وطعنه في أحاديث المهدي (ج9 ص499 - 504) وقد ألّف الشيخ عبد المحسن العباد رسالة قيمة في أحاديث المهدي. 9 - قول محمد رشيد رضا إنه يصح أن تكون الميكروبات نوعًا من الجن، "المنار" (ج3 ص96) وهذا كلام ما أنزل الله به من سلطان، بل هو مناف لصفات الجن الواردة في الكتاب والسنة. 10 - طعنه في معجزة انشقاق القمر كما في "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" (ص580) -إلى ص (586) وعزاه إلى مجلة "المنار". ومحمد رشيد رضا يشكك في المعجزات النبوية التي لم ترد في القرآن كلها كما في "المنار" (ج11 ص155). 11 - تشكيك محمد عبده في أن آدم هو أبو البشر كلهم، وإقرار محمد رشيد له بل تأييده (ج4 ص323،324،325)، وعدم إنكاره على الذين يقولون: إن أصل الإنسان قرد (ج4 ص327) من "المنار". 12 - قول محمد عبده: إن الملائكة قوًى طبيعية أودعها الله في المخلوقات. بمعنى أن الملائكة ليسوا مخلوقين خلقًا مستقلاً يصعدون وينْزلون، ويكتبون، وغير ذلك من تصرفاتهم الواردة في الكتاب والسنة، ومحمد رشيد رضا يؤيد قول شيخه -راجع "المنار" (ج1

ص267 - 275). 13 - يشكك في رفع عيسى بروحه وجسده حيًا حياة دنيوية بهما ... وليس في القرآن نص صريح بأنه ينزل من السماء، وإنما هذه عقيدة أكثر النصارى، وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الإسلام إلى الآن بثها في المسلمين. اهـ بالمعنى من "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" (ص712) وعزاه إلى مجلة "المنار" (الجزء العاشر من المجلد28 ص756)، وهذا يخالف ظاهر القرآن بدون برهان، ثم إن نزول عيسى من أمارات الساعة، والأحاديث في ذلك متواترة، ولو لم تكن متواترة وورد حديث واحد صحيح السند سالم من العلة والشذوذ لوجب قبوله. 14 - قال البخاري رحمه الله (ج8 ص296): حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا عمارة حدثنا أبوزرعة حدثنا أبوهريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تقوم السّاعة حتّى تطلع الشّمس من مغربها، فإذا رآها النّاس آمن من عليها، فذاك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل)). ثم قال البخاري رحمه الله: حدثني إسحاق أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تقوم السّاعة حتّى تطلع الشّمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها النّاس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها)) ثم قرأ الآية. ورواه البخاري (ج1 ص352) من حديث الأعرج عن أبي هريرة به.

وأخرجه مسلم (ج2 ص371) من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة به. هذا الحديث من الأحاديث التي طعن فيها محمد رشيد رضا، "المنار" (ج8 ص210،211). 15 - قال الإمام البخاري رحمه الله (ج6 ص297): حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: ((أتدري أين تذهب))؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((فإنّها تذهب حتّى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى: {والشّمس تجري لمستقرّ لها ذلك تقدير العزيز العليم))}. وأخرجه مسلم (ج2 ص372) رقم (397). هذا الحديث يطعن فيه كما في "المنار" (ج8 ص211) ويقول: إن الإمام أحمد قال: إن إبراهيم بن يزيد لم يسمع من أبي ذر، وقد ذكره هو عن إبراهيم عن أبيه عن أبي ذر، فسبحان من أعمى بصيرته، أعني أن الحديث مرويّ عن يزيد والد إبراهيم عن أبي ذر، لا عن إبراهيم عن أبي ذر. وبعد فإن الحديث مرويّ عن جماعة من الصحابة كما في "تفسير ابن كثير" (ج2 ص194) منهم: حذيفة بن أسيد، رواه مسلم (ج18 ص235) برقم (7215) ومنهم: صفوان بن عسال، رواه الترمذي (ج5

ص545) والنسائي في "الكبرى" وابن ماجة (ج2 ص1353)، ومنهم: عبد الله بن عمرو، رواه مسلم (ج18 ص280) برقم (7359). ولا أعلم عالمًا من علماء المسلمين طعن فيه. 16 - قدحه في كعب الأحبار ووهب بن منبه، "المنار" (ج9 ص480) وهو لم يسبق إلى هذا، اللهم إلا قول معاوية رضي الله عنه في كعب الأحبار: إنه يكذب، ولكنه مؤول على أنه بمعنى الخطأ، كما في "الفتح" (ج13 ص346) طبعة الريان. ووهب وثقه أبوزرعة والنسائي، وقال عمرو بن علي: كان ضعيفًا كما في "تهذيب التهذيب"، ووهب من رجال الشيخين، وكعب الأحبار روى له البخاري تعليقًا، ومسلم موصولاً، كما ذكره الحافظ في "تهذيب التهذيب". 17 - ثناؤه على جمال الدين الأفغاني: وقد أنكر عليه بعض معاصريه فقال أبوالهدى الصيادي لمحمد رشيد رضا: (إني أرى جريدتك طافحة بشقاشق المتأفغن جمال الدين الملفقة، وقد تدرجت به الحسينية التي يزعمها زورًا، وقد ثبت في دوائر الدولة رسميًا أنه مازندراني من أحلاف الشيعة). اهـ من "منهج المدرسة العقلية في التفسير" ص (76). وإذا أردت أن تعرف شيئًا عن ضلال جمال الدين قرأت "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" للأخ فهد بن عبد الرحمن الرومي، وكتاب "دعوة جمال الدين الأفغاني في الميزان الإسلامي" للأخ: مصطفى فوزي بن عبد اللطيف غزال.

18 - ثناؤه على محمد عبده وفتنته به: فتن محمد رشيد رضا بمحمد عبده، حتى أنكر عليه يوسف النبهاني فقال: فذاكرته في شيخه وهو عبده ... تملكه الشيطان عن قومه قسرًا فقلت له لو كابن سيناء زعمتم ... وعالم فاراب وأرفعهم قدرًا لقلنا لكم: حقًا وإن كان باطلاً ... ولم نر من هذا على ديننا ضرًا ولكنكم مع تركه الحج مرة ... وحج لباريز وللندن عشرًا ومع تركه فرض الصلاة ولم يكن ... يسر بذا بل كان يتركها جهرًا ومع كونه شيخ المسون مجاهرًا ... بذلك لا يخفي إخوتهم سرًا ومع غير هذا من ضلالاته التي تقولون: أستاذ إمام لديننا ... بها سار مثل السهم للجهة الأخرى ونحن نراه عندنا شر فاسق ... فما أكذب الدعوى وما أقبح الأمرا فيقتل فسقًا بالشريعة أو كفرًا قال أبوعبد الرحمن: ابن سيناء والفارابي ملحدان، ويوسف النبهاني مخرّف، ولا مانع من قبول الحق ممن كان. وأما كون شخص هداه الله للسنة على يدي محمد رشيد رضا، فهو يرى أنه لزامًا عليه أن يدافع عنه، فهذا أمر عجيب، فما أكثر الناس الذين هداهم الله على أيدي جماعة التبليغ ثم تحولوا إلى السنة، ثم أصبحوا بحمد الله يحذّرون من بدع جماعة التبليغ. ومن الناس من يهديه الله للإسلام على أيدي الصوفية، ثم يرى هزة الرءوس عند الذكر، ويلتمس طريقة أهل السنة التي هي الطريق القويم، ومن الناس من يكون قد هداه الله على أيدي بعض الإخوان المسلمين، فتدعوه

إلى السنة فيقول: أنا يا أخي كنت ضائعًا فهداني الله على أيدي الإخوان المسلمين، فتقول له: أنت انتقلت من ضياع سهل إلى ضياع مستصعب، وأنا أدعوك إلى الطريق القويم، إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى تعلّمها ثم العمل بها ثم الدعوة إليها، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فكونك قد هداك الله للسنة على يدي محمد رشيد رضا، لا يدل أنه على الصراط المستقيم، وإذا أردنا أن نثْبت للشخص السلفية فلابد أن نعرض أعماله على أعمال السلف الذين لا يرفعون رأسًا إلا لقول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد أصبحت السلفيّة ستارًا يندرج تحته حالق اللحية المتشبه بأعداء الإسلام، مهلاً مهلاً أيها المسلمون اتقوا الله، ودعوا هذه الإدّعاءات، فقد أصبح عوام المسلمين وطلبة العلم المبتدئين أضحيتهما، ياأيّها الّذين ءامنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصّادقين (¬1). ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به ولا يجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا ومن يعمل من الصّالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنّة ولا يظلمون نقيرًا ومن أحسن دينًا ممّن أسلم وجهه لله وهو محسن واتّبع ملّة إبراهيم حنيفًا واتّخذ الله إبراهيم خليلاً (¬2). فليست السلفية بالإدعاءات، ولكنها استسلام لله وقبول ما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 119. (¬2) سورة النساء، الآية: 123.

وبعض الصحابة رضوان الله عليهم عند أن أنزل الله سبحانه وتعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله (¬1) شق عليهم ذلك فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أتريدون أن تقولوا كما قال أهْل الكتابين من قبْلكم: سمعْنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعْنا، فلما أذعن القوم أنزل الله في إثرها: آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون إلى قوله: لا يكلّف الله نفسًا إلاّ وسْعها. إلى آخر السورة. رواه بهذا المعنى مسلم من حديث أبي هريرة وابن عباس. لسنا نقبل أن يتحمس الشخص للدين من جوانب، ويهدمه من جانب، فأصحاب المدرسة العقلية الحديثة لا يرون حجيّة حديث الآحاد، والدين أغلبه من طريق الآحاد، ويقدمون العقل على النقل فهل هذه طريقة السلف؟. وليس عندي من كتب محمد رشيد رضا إلا "المنار" ورسالة في الربا، ولو أردت استقصاء ما ردّ من الأحاديث أو شكك فيه، لكان مجلدًا، أفكان سلفنا كذلك. ائتوني بسلفي حرّف ما تقدم من الآيات، ورد ما تقدم من الأحاديث، وأضعاف أضعافها، والرجل لم يؤت من جهل فقد بهرتني كثرة استدلالاته، وسعة اطلاعه، ولكنه صاحب هوى، فتن بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. أما آثار المدرسة العقلية على الدين فإفساد الأزهر، والتبرج والسفور، ومهاجمة السنة، وما ذكرت شيئًا بالنسبة لكتاب "منهج المدرسة العقلية ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 284.

الحديثة في التفسير" وكتاب "دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام". وكون محمد رشيد خالف أستاذه بعد وفاة أستاذه كما ذكره في "المنار" ص (16) فهل أقصر عن رد الأحاديث التي لا توافق هواه؟ الجواب: لا، فقد انتهى شيخه محمد عبده عند تفسير: وكان الله بكلّ شيء محيطًا آية (125) من سورة النساء كما في "المنار" ثم مشى على تضعيف ما لم يوافق هواه، وهل تراجع عن الأحاديث التي وافق شيخه على تضعيفها، وكان الواجب عليه أن ينبّه في أثناء التفسير وعند مناسبات المواضيع من الأحاديث. ولما كان فعل أصحاب المدرسة العقلية الحديثة يهدم الإسلام وكثير من الناس لا يعلمون أن الطعن في حديث الآحاد طعن في الدين كله، وقد اهتم العلماء رحمهم الله برد هذه الفكرة الخطيرة على الدين فرد عليهم الإمام الشافعي رحمه الله في "الرسالة"، والإمام البخاري في "صحيحه" عقد كتابًا للرد عليهم وأبومحمد ابن حزم في كتاب "إحكام الأحكام" وابن القيم رحمه الله في كتاب "الصواعق المرسلة"، وردّهم لما يخالف أهواءهم من السنة أمر قد أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال الإمام أبوداود رحمه الله (ج12 ص354): حدثنا عبد الوهاب بن نجدة أخبرنا أبوعمرو بن كثير بن دينار عن حريز بن عثمان عن عبد الرحمن ابن أبي عوف عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((ألا إنّي أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه، ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهليّ، ولا كلّ ذي ناب

من السّبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)). عبد الرحمن بن أبي عوف مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات. والحديث له شواهد، منها الذي بعده على أنه قد تابعه الحسن بن جابر اللخمي، كما عند الترمذي، وهو مستور الحال، فالحديث حسن لغيره. قال أبوداود رحمه الله (ج12 ص356): حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل وعبد الله بن محمد النفيلي قالا أخبرنا سفيان. حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل وعبد الله بن محمد النفيلي وابن كثير قالوا حدثنا سفيان عن أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لا ألفينّ أحدكم متّكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه)). فإن رأينا من يجادل أو يدافع عن بعد محمد رشيد رضا عن السلفية، فإننا إن شاء الله سنكلف بعض إخواننا بجمع ما ردّه أو شك فيه أو شكّك من السنن، ولكننا يعلم الله (نستثقل) هذا أو نراه تحصيل حاصل، فأحاديث الدجال قد جمعت وحكم العلماء بتواترها، وأحاديث المهدي قد جمعت وحكم العلماء بتواترها، وكان قدح ابن خلدون فيها نقيصة فيه، ودليل على قصوره في علم الحديث، وهكذا حديث انشقاق القمر وغيرها من دلائل النبوة، قد جمعت الصحيح منها في "الصحيح المسند من دلائل النبوة" والذي أعتقده وأدين الله به أن دعوة جمال الدين الأفغاني ومن سلك مسلكه، نكبة على الإسلام، وجناية على العلم، وفتح باب للشر بجميع

أنواعه، وفتح باب لأعداء الإسلام، وللفسقة من المسلمين، للطعن فيما لا يوافقهم من السنن. على أنني أحمد الله فقد استيقظ الشباب المصري، وعلموا أن هذه دعوة هدّامة للدين فجزاهم الله خيرًا، وإذا كنا لا نرضى بتقليد أئمة الهدى، مثل: مالك والشافعي وأحمد، فنحن بحمد الله عن تقليد هؤلاء أبعد. وهذا من فضل الله علينا والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

شبهة وجوابها

شبهة وجوابها قال الله سبحانه وتعالى: هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والرّاسخون في العلم يقولون ءامنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلاّ أولو الألباب (¬1). وقال البخاري رحمه الله (ج8 ص209): حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الآية: هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلا أولو الألباب قالت: قال رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((فإذا رأيت الّذين يتّبعون ما تشابه منه، فأولئك الّذين سمّى الله فاحذروهم)). هذه الشبهة أن بعض المعاصرين ممن جمع بين بدعة الخوارج وبدعة ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 7.

المعتزلة، سمعته يستدل على دفع حديث السحر بقول الله عز وجل: إذ يقول الظّالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا (¬1). وقوله تعالى: وقال الظّالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا (¬2). قال: فلو قلنا بصحة الحديث لوافقنا المشركين في هذه الدعوى. قال أبوعبد الرحمن: وليست هذه بأول انْهزامية للمعاصرين أمام أهل الباطل، وما أكثر المعجزات التي أنكروها، لأن عقول أعداء الإسلام لا تتقبّلها، وما أكثر الأحكام التي حرّفوها أو ردوها، لأنّها لا تتمشى مع ما عليه المجتمع، وما أوتي هذا القائل المسكين إلا من قبل نفسه، إذ قد نبذ المسكين كلام الصحابة، وكلام أهل التفسير، وكلام الفقهاء، وكلام المحدثين، وزعم أنه يعتمد على نفسه وهو جاهل باللغة العربية وبغيرها من الوسائل، ولسنا ندعوه إلى تقليد هؤلاء الأئمة رحمهم الله، ولكن إلى الاستفادة من فهمهم، وإلا فالتقليد في الدين محرم، وقد ذكرت جملة من الأدلة في كتابي المخرج من الفتنة وأنا ذاكر لك كلام بعض المفسرين حول هذه الآية: قال الحافظ ابن كثير رحمه الله (ج3 ص310) في الكلام على قول الله عز وجل: وقال الظّالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا قال الله تعالى: انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا أي: جاءوا بما يقذفونك به، ويكذبون به عليك من قولهم: ساحر، مسحور، مجنون، كذّاب، شاعر، ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 47. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 8.

وكلها أقوال باطلة كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك. اهـ المراد منه. والحافظ ابن كثير هو الذي ذكر حديث السحر في تفسير سورة الفلق محتجًا به رحمه الله. وقال الشوكاني رحمه الله (ج4 ص63): أي ما تتبعون إلا رجلاً مغلوبًا على عقله بالسحر، وقيل: ذا سحر، وهي الرئة، أي بشر له رئة لا ملك. اهـ والشوكاني هو الذي ذكر حديث السحر في تفسير سورة الفلق، لعلم هذين المفسريْن رحمهما الله بأنه لا تعارض بين الحديث وبين الآيتين، لأن الحديث يحمل على ما وجّهه الإمام القاضي عياض والحافظ ابن حجر وغيرهما من علماء الإسلام، والحديث قد تلقّاه علماء الإسلام بالقبول، فقد اتفق على إخراجه البخاري ومسلم، وما اتفقا عليه فهو أعلى مرتبة في الصحة كما في كتب المصطلح، ثم لم ينتقده الدارقطني ولا أبومسعود الدمشقي، ولا أبوعلي الجياني، ولا أبومحمد بن حزم، ممن تصدى لنقد بعض الأحاديث المعلة التي في الصحيحين، ولسنا نتوقع من علماء الكلام وغيرهم من ذوي الزيغ أن يعظموا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل دأبهم التنفير عنها وتلقيب حملتها بالألقاب المنفّرة، وقد ذكر ابن قتيبة في كتابه "تأويل مختلف الحديث" الشيء الكثير من سخريّتهم بأهل السنة، ولكن أبى الله إلاّ أن ينصر أهل السنة، ويذلّ أهل البدعة والحمد لله. وهذا الحديث الصحيح يهدم على المبتدعة عقيدتهم أن السحر ليس بحقيقة ولكنه تخيّل، فلذلك هم يحاولون التشكيك فيه وفي غيره من السنن التي تخالف أهواءهم فباءوا بالخزي، وتمت كلمة ربك هي العليا، وصدق

الله إذ يقول: إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون (¬1). واحتج بعضهم بقوله: والله يعصمك من النّاس (¬2). وهذا شأن من لا يرجع إلى كتب التفسير، ولا يدري المتقدم من المتأخر فهذه الآية من آخر ما أنزل، كما ذكره الحافظ ابن كثير فقد سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكسرت رباعيته وشج رأسه قبل نزولها، ثم إن المراد: يعصمك من القتل والأسر والتلف، وإلا فهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأبي وأمي بشر يجري عليه ما يجري على البشر، قال الله سبحانه وتعالى: قل إنّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنّما إلهكم إله واحد (¬3). قال البخاري رحمه الله (ج12 ص339): حدثنا محمد بن كثير عن سفيان عن هشام عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إنّما أنا بشر، وإنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنّما أقطع له قطعةً من النّار)). وقال البخاري رحمه الله (ج1 ص503): حدثنا عثمان قال حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: قال عبد الله: صلّى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم -قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص- فلمّا سلّم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصّلاة شيء؟ قال: ((وما ذاك)) قالوا: صلّيت كذا وكذا، فثنى رجليه ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية: 9. (¬2) سورة المائدة، الآية: 67. (¬3) سورة الكهف، الآية: 110.

واستقبل القبلة وسجد سجدتين، ثمّ سلّم فلمّا أقبل علينا بوجهه قال: ((إنّه لو حدث في الصّلاة شيء لنبّأتكم به، ولكن إنّما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكّروني، وإذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الصّواب فليتمّ عليه، ثمّ ليسلّم ثمّ يسجد سجدتين)). فنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشر، يجري عليه ما يجري على البشر، كسرت رباعيته وشج رأسه. قال الإمام البخاري رحمه الله (ج7 ص372): حدثنا إسحاق بن نصر حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((اشتدّ غضب الله على قوم فعلوا بنبيّه -يشير إلى رباعيته- اشتدّ غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله)). حدثني مخلد بن مالك حدثنا يحيى بن سعيد الأموي حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((اشتدّ غضب الله على من قتله النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سبيل الله، اشتدّ غضب الله على قوم دمّوا وجه نبيّ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم)). حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: أما والله إنّي لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن كان يسكب الماء وبما دووي، قال: كانت فاطمة عليها السّلام بنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تغسله، وعليّ يسكب الماء بالمجنّ، فلمّا رأت فاطمة أنّ الماء لا يزيد الدّم إلا كثرةً أخذت قطعةً من حصير فأحرقتها وألصقتها، فاستمسك الدّم، وكسرت رباعيته يومئذ، وجرح وجهه، وكسرت البيضة على رأسه.

حدثني عمرو بن علي حدثنا أبوعاصم حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: اشتدّ غضب الله على من قتله نبيّ اشتدّ غضب الله على من دمّى وجه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال الإمام النووي رحمه الله في "شرح صحيح مسلم" (ج12 ص148): وفى هذا وقوع الانتقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، لينالوا جزيل الأجر، ولتعرف أممهم وغيرهم ماأصابهم ويتأسوا بهم، قال القاضي: وليعلم أنّهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر، ليتيقّنوا أنّهم مخلوقون مربوبون، ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات وتلبيس الشيطان من أمرهم، ما لبّسه على النصارى. اهـ. وردّهم السنة التي لا يدل عليها القرآن في فهمهم السقيم، علم من أعلام النبوة، فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ألا وإنّي أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه)). رواه أبوداود من حديث المقدام بن معدي كرب، وفيه عبد الرحمن بن أبي عوف، وهو مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات، وقد تابعه الحسن بن جابر، كما عند الترمذي، وهو مستور الحال، فالحديث حسن لغيره، وله شاهد من حديث أبي رافع عند أبي داود، وقد ذكرتهما بسنديهما في "الصحيح المسند من دلائل النبوة".

الطاعنون في الحديث

الطاعنون في الحديث قدح الجصاص في حديث السحر: قال (ج1 ص49) (¬1): وقد أجازوا من فعل الساحر ما هو أطم من هذا وأفظع، وذلك أنّهم زعموا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحر، وأن السحر عمل فيه حتى قال فيه: ((إنّه يتخيّل لي أني أقول الشّيء وأفعله، ولم أقلْه ولم أفعلْه)) وإن امرأةً يهوديةً سحرته في جف طلعة ومشط ومشاقة، حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنّها سحرته في جف طلعة، وهو تحت راعوفة البئر فاستخرج، وزال عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك العارض، وقد قال الله تعالى وهو مكذبًا للكفار فيما ادعوه من ذلك للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال جل من قائل: وقال الظّالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبًا بالحشو الطغام واستجرارًا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها، وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة، وأن جميعه من نوع واحد، والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام، وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى: ولا يفلح السّاحر حيث أتى فصدّق هؤلاء من كذّبه ¬

(¬1) من كتابه "أحكام القرآن".

الله، وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله، وجائز أن تكون المرأة اليهودية بجهلها فعلت ذلك، ظنًا منها بأن ذلك يعمل في الأجساد وقصدت به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأطلع الله نبيه على موضع سرها، وأظهر جهلها فيما ارتكبت وظنت، ليكون ذلك من دلائل نبوته، لا أن ذلك ضرّه وخلط عليه أمره، ولم يقل كل الرواة إنه اختلط عليه أمره، وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث ولا أصل له. اهـ طعن محمد عبده ومحمد رشيد رضا: قال الأخ فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي في كتابه "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" ص (346 - 351): ومن هذا ما ورد في "صحيح البخاري" و"مسلم" عن عائشة رضى الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل من بني زريق، يقال له: لبيد بن الأعصم، حتّى كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخيّل إليه أنّه يفعل الشّيء وما فعله، حتّى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنّه دعا ودعا، ثمّ قال: ((يا عائشة أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرّجل؟ فقال: مطبوب. قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أيّ شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلع نخلة ذكر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان)) فأتاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: ((يا عائشة كأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، أو كأنّ رءوس نخلها رءوس الشّياطين)) قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: ((قد عافاني الله، فكرهت أن أثوّر على النّاس فيه شرًّا)) فأمر بها فدفنت. رواه البخاري ومسلم، واللفظ

للبخاري. قال ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذا الحديث: (ثابت عند أهل العلم بالحديث، لا يختلفون في صحته، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيحه، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير، والسنن، والحديث، والتاريخ، والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله وأيامه من المتكلمين). وقال الأستاذ عبد القادر الأرنؤوط: ورواه أيضًا أحمد والنسائي وابن سعد والحاكم وعبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي في "دلائل النبوة" وغيرهم. وقال ابن القيم في "بدائع الفوائد": وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم متلقّى عندهم بالقبول. تلكم درجة ذلك الحديث، ولنسجل هنا في مقابلة هذا ما ذهب إليه الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسيره لقوله تعالى: ومن شرّ النّفّاثات في العقد حيث يقول: (وقد رووا هنا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحره لبيد بن الأعصم، وأثّر سحره فيه حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله أو يأتي شيئًا وهو لا يأتيه، وأن الله أنبأه بذلك وأخرجت مواد السحر من بئر وعوفي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما كان نزل به من ذلك ونزلت هذه السورة. ولا يخفى أن ثأثير السحر في نفسه عليه السلام حتى يصل به الأمر إلى أن يظن أنه يفعل شيئًا وهو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان، ولا من قبيل عروض السهو والنسيان في بعض الأمور العادية، بل

هو ماس بالعقل، آخذ بالروح، وهو مما يصدّق قول المشركين فيه: إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا. وليس المسحور عندهم إلا من خولط في عقله، وخيّل له أن شيئًا يقع وهو لا يقع، فيخيّل إليه أنه يوحى إليه ولا يوحى إليه. وقد كان كثير من المقلّدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة وما يجب لها أن الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صح، فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق به من بدع المبتدعين، لأنه ضرب من إنكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر. فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح، والحق الصريح في نظر المقلّد بدعة، نعوذ بالله، يحتج على ثبوت السحر، ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعدّه من افتراء المشركين عليه، ويؤول في هذه ولا يؤول في تلك، مع أن الذي قصده المشركون ظاهر لأنّهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه السلام، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد، فإنه قد خالط عقله وإدراكه في زعمهم. والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته، وعدم الاعتقاد بما ينفيه، وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبّخهم على زعمهم هذا، فإذن هو ليس بمسحور قطعًا. وأما الحديث على فرض صحته، فهو آحاد والآحاد لا يؤخذ بها في

باب العقائد، وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد لا يؤخذ في نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون. على أن الحديث الذي يصل إلينا من طريق الآحاد، إنما يحصل الظن عند من صح عنده، أما من قامت له الأدلة على أنه غير صحيح فلا تقوم به عليه حجة، وعلى أي حال فلنا بل علينا أن نفوض الأمر في الحديث، ولا نحكمه في عقيدتنا ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل). ثم قال: (على أن نافي السحر بالمرة لا يجوز أن يعد مبتدعًا، لأن الله تعالى ذكر ما يعتقد به المؤمنون في قوله: آمن الرّسول وفي غيرها من الآيات ووردت الأوامر بما يجب على المسلم أن يؤمن به حتى يكون مسلمًا، ولم يأت في شيء من ذلك ذكر السحر، على أنه مما يجب الإيمان بثبوته، أو وقوعه على الوجه الذي يعتقد به الوثنيون في كل ملة، بل الذي ورد في الصحيح هو أن تعلّم السحر كفر، فقد طلب منا أن لا ننظر بالمرة فيما يعرف عند الناس بالسحر ويسمى باسمه). وماذا نقول بعد هذا في موقف الأستاذ الإمام، هل يكفي وصف تلميذه لسيد رشيد رضا له: (بأنه كان مقصّرًا في علوم الحديث من حيث الرواية والحفظ والجرح والتعديل؟) لا، لا يكفي ذلك، بل قد تجاوزه الإمام محمد عبده فحتى المقصرين في علوم الحديث يدركون أنه ليس من حقهم الخوض في الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا، حتى يدركوا أصول ذلك، فكيف برد ما رواه البخاري ومسلم. ثم لنستمع إلى رأي الشيخ رشيد رضا في هذا مدافعًا عن أستاذه وملتمسًا مخرجًا آخر له ولرجال المدرسة كافة، حيث قال بعد سياقه

للحديث السابق: (فهذا الحديث صريح في أن المراد من السحر فيه خاص بمسألة مباشرة النساء، ولكن فهم أكثر العلماء أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحر سحرًا أثّر في عقله كما أثر في جسده، فأنكره بعضهم، وبالغوا في إنكاره وعدوه مطعنًا في النبوة ومنافيًا للعصمة، لقول عائشة: حتى إنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله. فعظمت هذه الرواية على علماء المعقول وعدوها مخالفة للقطعي في النقل، وهو ما حكاه الله تعالى عن المشركين من طعنهم فيه كعادة أمثالهم في رسلهم بقولهم: إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسْحورًا وتفنيده تعالى لهم بقوله: انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا فلا يستطيعون سبيلاً ومخالفة للقطعي في العقل من عصمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كل ما ينافي النبوة والثقة بها، إذ يدخل فى ذلك التخييل ما هو من التشريع، ومخالفة لعلم النفس الذي يعلم منه أن الأنفس السافلة الخبيثة لا تؤثر في الأنفس العالية الطاهرة، فأنكر صحة الرواية بعض العلماء وأقدم من عرفنا ذلك عنهم من المفسرين الفقهاء أبوبكر الجصاص في كتابه ... "أحكام القرآن" وآخرهم شيخنا الأستاذ الإمام في "تفسير جزء عم"، وقد أطال شيخنا في هذا وبالغ فيه). ثم قال بعد هذا: (وقد محصت هذه المسألة مرارًا آخرها في الرد على مجلة الأزهر "نور الإسلام" في زعمها المفتري أنني كذبت حديث البخاري في سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فبيّنت أن الحديث الصحيح في المسألة عن عائشة رضى الله عنها توهم عبارة بعض رواياته ما هو أعم من المعنى الخاص الذي أرادته منها، وهو مباشرة الزوجية بينه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبينها فقولها: كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لم يفعله، كناية عن هذا الشيء الخاص لا عام في كل شيء ... وبينت أيضًا أن الرواية في أصح أسانيدها

عند الشيخين عن هشام عن أبيه عن عائشة فيها علة من علل الحديث الخفية التي يشترط في صحة الحديث السلامة منها، وهى: أن بعض منكري الحديث أعلّوه بهشام هذا، وألّف بعضهم كتابًا خاصًا فيه محتجًا بقول بعض علماء الجرح والتعديل أنه كان في العراق يرسل عن أبيه عروة بن الزبير ما سمعه من غيره، وعروة هو راوية عائشة الثقة، وهى خالته وقال ابن خراش: كان مالك لا يرضاه، يعنى: هشامًا، وقد نقم منه حديثه لأهل العراق، وقال ابن القطان: تغيّر قبل موته، ولاشك أن تعديل الجماعة له ومنهم الشيخان، خاص بما رواه قبل تغيره، فهذا عذر من طعن في روايته لهذا الحديث الذي أنكروا متنه بما علمت، والأمر فيه أهون مما قالوا، فالتحقيق أنه خاص بمسألة الزوجية كما جاء في التصريح به في الرواية الثانية كما تقدم، ولا يعقد بغير هذا). اهـ

من يقبل منه الجرح والتعديل

من يقبل منه الجرح والتعديل قال الله سبحانه وتعالى: ياأيّها الّذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (¬1). وقال سبحانه وتعالى: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم (¬2). وقال سبحانه وتعالى: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (¬3). وقال سبحانه وتعالى: ياأيّها الّذين ءامنوا إنّ كثيرًا من الأحبار والرّهبان ليأكلون أموال النّاس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله (¬4). وقال سبحانه وتعالى: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله ¬

(¬1) سورة الحجرات، الآية: 6. (¬2) سورة النساء، الآية: 83. (¬3) سورة البقرة، الآية: 75. (¬4) سورة التوبة، الآية: 24.

يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلاّ الحقّ ودرسوا ما فيه والدّار الآخرة خير للّذين يتّقون أفلا تعقلون (¬1). وقال تعالى: واتل عليهم نبأ الّذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشّيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الّذين كذّبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلّهم يتفكّرون (¬2). وقال تعالى: مثل الّذين حمّلوا التّوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا بئس مثل القوم الّذين كذّبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظّالمين (¬3). وفى "مسند الإمام أحمد" برقم (143) بتحقيق أحمد شاكر من حديث عمر، والبزاركما في "كشف الأستار" (ج1 ص97) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ أخْوف ما أخاف على أمّتي كلّ منافق عليم اللّسان))، أو بهذا المعنى. وقال اللكنوى رحمه الله فى "الرفع والتكميل" ص (52): إيقاظ: في شرط الجارح والمعدل. يشترط في الجارح والمعدل: العلم والتقوى والورع والصدق والتجنب عن التعصب ومعرفة أسباب الجرح والتزكية، ومن ليس كذلك لا يقبل منه ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 169. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 176. (¬3) سورة الجمعة، الآية: 5.

الجرح ولا التزكية. قال التاج السبكي: من لا يكون عالمًا بأسبابهما -أي الجرح والتعديل- لا يقبلان منه لا بإطلاق ولا بتقييد. انتهى. وقال البدر بن جماعة: من لا يكون عالمًا بالأسباب، لا يقبل منه جرح ولا تعديل لا بإطلاق ولا بالتقييد. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر فى "شرح نخبته": إن صدر الجرح من غير عارف بأسبابه لم يعتبر به. وقال أيضًا: تقبل التزكية من عارف بأسبابها لا من غير عارف، وينبغى أن لا يقبل الجرح إلا من عدل متيّقظ. انتهى. وقال الذهبى فى ترجمة (أبي بكر الصديق) من كتابه "تذكرة الحفاظ": حق على المحدث أن يتورع فيما يؤديه وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته، ولا سبيل الى أن يصير العارف الذى يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذًا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى العلماء والإتقان وإلا تفعل: فدع عنك الكتابة لست منها ... ولوسودت وجهك بالمداد فإن آنست من نفسك فهمًا وصدقًا ودينًا وورعًا، وإلا فلا تفعل، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب، فبالله لا تتعب، وإن عرفت أنك مخلّط مخبّط مهمل لحدود الله فأرحنا منك. انتهى. وقال الحافظ الذهبي فى ترجمة علي بن عبد الله بن المديني (ج3 ص140) ردًا على العقيلي حيث ذكر ابن المديني فى "الضعفاء" وقد بدت منه هفوة (يعني القول بخلق القرآن) ثم قال الإمام الذهبي: وهذا أبوعبد الله

البخاري وناهيك به، وقد شحن "صحيحه" بحديث علي بن المديني، وقال: ما استصغرت نفسي بين يدي أحد إلا بين يدي علي بن المديني، ولو تركت (¬1) حديث علي وصاحبه محمد، وشيخه عبد الرزاق، وعثمان بن أبى شيبة، وإبراهيم بن سعد، وعفان، وأبان العطار، وإسرائيل، وأزهر السمان، وبهز ابن أسد، وثابت البناني، وجرير بن عبد الحميد، لغلقنا الباب وانقطع الخطاب، ولماتت الآثار، واستولت الزنادقة، ولخرج الدجال، أفما لك عقل ياعقيلي، أتدرى فيمن تتكلم وإنما تبعناك فى ذكر هذا النمط لنذب عنهم ولنزيّف ما قيل فيهم: كأنك لا تدري أن كل واحد من هؤلاء أوثق منك بطبقات، بل وأوثق من ثقات كثيرين لم توردهم فى كتابك، فهذا مما لا يرتاب فيه محدث، وأنا أشتهي أن تعرفني من هو الثقة الثبت الذى ما غلط ولا انفرد بما لا يتابع عليه، بل الثقة الحافظ إذا انفرد بأحاديث كان أرفع له وأكمل لرتبته، وأدل على اعتنائه بعلم الأثر وضبطه دون أقرانه لأشياء ما عرفوها، اللهم إلا أن يتبين غلطه ووهمه فى الشيء، فيعرف ذلك، فانظر أول شيء إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلمالكبار والصغار ما فيهم أحد إلا وقد انفرد بسنة، فيقال له: هذا الحديث لا يتابع عليه، وكذلك التابعون كل واحد عنده ما ليس عند الآخر من العلم، وما الغرض هذا، فإن هذا مقرر على ما ينبغي فى علم الحديث، وإن تفرد الثقة المتقن يعد صحيحًا غريبًا، وإن تفرد الصدوق ومن دونه يعد منكرًا، وإن إكثار الراوي من الأحاديث التي لا يوافق عليها لفظًا أو إسنادًا يصيّره متروك الحديث، ثم كل أحد فيه بدعة أو له هفوة أو ذنوب يقدح فيه بما يوهن حديثه، ولا من ¬

(¬1) كذا، والظاهر: ولو ترك ..

شرط الثقة أن يكون معصومًا من الخطايا والخطأ، ولكن فائدة ذكْرنا كثيرًا من الثقات الذين فيهم أدنى بدعة، أو لهم أوهام يسيرة فى سعة علمهم، أن يعرف أن غيرهم أرجح منهم وأوثق إذا عارضهم أو خالفهم، فزن الأشياء بالعدل والورع. وأما علي بن المدينى فإليه المنتهى فى معرفة علل الحديث النبوي مع كمال المعرفة بنقد الرجال وسعة الحفظ والتبحر في هذا الشأن، بل لعله فرد زمانه في معناه. وقد أدرك حماد بن زيد وصنف التصانيف وهو تلميذ يحيى ابن سعيد القطان، ويقال: لابن المديني نحو مائتي مصنف. اهـ وقال الإمام الذهبي رحمه الله فى ترجمة موسى بن إسماعيل أبوسلمة التبوذكي المنقري: قلت: لم أذكر أبا سلمة للين فيه، ولكن لقول ابن خراش فيه: صدوق وتكلّم الناس فيه. قلت: نعم تكلموا فيه بأنه ثقة ثبت يارافضي. اهـ وقال الحافظ الذهبي أيضًا فى ترجمة أبان بن إسحاق المدني: قال ابن معين وغيره: ليس به بأس، وقال أبوالفتح الأزدي: متروك. قلت: لا يترك فقد وثقه أحمد والعجلي، وأبوالفتح يسرف فى الجرح وله مصنف كبير إلى الغاية فى المجروحين جمع فأوعى، وجرح خلقًا بنفسه لم يسبقه أحد إلى التكلّم فيهم، وهو المتكلم فيه وسأذكره في المحمدين. اهـ وهكذا التصحيح والتضعيف لا يقبلان إلا ممن توفّرت فيه هذه الشروط التي ذكرها الإمام الذهبي واللكنوي، وزيادة معرفة المصطلح، ومن أهمه معرفة المعل والشاذ، وهكذا أيضًا علم الرجال، ويبنغى أن يعلم المصحح والمضعف أنه إذا لم يتحرّ فهو بتصحيح الموضوع وما لا أصل له يدخل في

شرع الله ما ليس منه، وبتضعيفه الصحيح بالهوى يبطل شرع الله، وكلا الأمرين من أكبر الكبائر، قال الله سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفْتروا على الله الكذب (¬1). وقال سبحانه وتعالى: قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ وأن تشركوا بالله ما لم ينزّل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (¬2). وقال سبحانه وتعالى: فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا (¬3). ومن علامة أصحاب الأهواء وأصحاب البدع، أنّهم يصحّحون الحديث إذا كان موافقًا لأهوائهم، ويضعفونه إذا كان مخالفًا لأهوائهم، وقد قرأت كثيرًا في كتب الشيعة وفي "كشاف" الزمخشري فوجدت هذا بخلاف أهل السنة، فإنّهم يحكمون على الحديث بما تقتضيه الصناعة الحديثية، فرب حديث يكون مندرجًا تحت أصل ولا يمنعهم هذا من أن من أن يحكموا على الحديث بأنه ضعيف أو موضوع، وربّ راو يكون رأسًا في السنة فلا يمنعهم هذا من القول بتضعيفه إذا كان ضعيفًا، فرحمهم الله وجزاهم الله خيرًا على نصحهم وإنصافهم واتباعهم الحق أينما وجدوه. ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 116. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 33. (¬3) سورة النساء، الآية: 65.

بعض أدلة الجرح والتعديل

بعض أدلة الجرح والتعديل الناس يستغربون في هذا الزمن إذا رأوا في كتبنا انتقاد بعض أهل العلم، ذلك لأنّهم جهلوا فنًا عظيمًا ألا وهو علم الجرح والتعديل الذي قام به علماؤنا الأقدمون رحمهم الله، المتبعون لكتاب ربّهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والجرح هو الذي يستغربون، وأما التعديل عندهم فليس له حد، يطلقون تلك الألقاب الضخمة التي ما كان سلفنا رحمهم الله يطلقونها, وأنا ذاكر لك بعض أدلة الجرح لأنه المستنكر عندهم كما قال تعالى: بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه (¬1)، وقال تعالى: وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم (¬2). وأنا أسألك أيها المعترض، أعلي الطنطاوي خير أم أبوحاتم الرازي؟ والجواب معروف، أن أباحاتم الرازي إمام متفق على جلالته، إمام من أئمة الجرح والتعديل، وعلي الطنطاوي لا يساوي كلامه فلسًا، بل لا يساوي هو بعرةً، عرفته بالحرم المكي، وهو فاسق حالق اللحية لا يتقيّد بدليل، لا أكثر الله في علماء المسلمين من أمثاله. ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 39. (¬2) سورة الأحقاف، الآية: 11.

وهكذا لابد لأهل السنة من أن يتميّزوا من هذا المجتمع الجاهلي، ولست أعني أنه كافر، ولكن لابد لهم من بيان أحوال الفسقة الذين يلبسون الحق بالباطل، ويفتن بهم المجتمع فيظن أنّهم من أهل العلم، وهم مفتونون فاتنون، وإليك بعض الأدلة على جواز جرح من يستحق الجرح: 1 - عن أنس رضى الله عنه عن النبيصلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إنّ الله حجب التّوبة عن كلّ صاحب بدعة حتّى يدع بدعته)). رواه ابن أبي عاصم. في هذا الحديث جرح أصحاب البدع. 2 - عن سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشماله فقال: ((كلْ بيمينك)) قال: لا أسْتطيع. قال: ((لا استطعت ما منعه إلاّ الكبر)) قال: فما رفعها إلى فيه. رواه مسلم. 3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل، فقتلت ولدها الّذي في بطنها، فاختصموا إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقضى أنّ دية ما في بطنها غرّة عبد أو أمة، فقال وليّ المرأة الّتي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهلّ، فمثل ذلك يطلّ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّما هذا من إخوان الكهّان)). متفق عليه. زاد مسلم: من أجْل سجعه الّذى سجع. 4 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنّ امرأةً قتلت ضرّتها بعمود فسطاط، فأتي فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقضى على عاقلتها بالدّية وكانت حاملاً، فقضى في الجنين بغرّة، فقال بعض عصبتها: أندي من لا طعم ولا شرب ولا صاح فاستهلّ، ومثل ذلك يطلّ، قال: فقال: سجع كسجع

الأعراب)). رواه مسلم. 5 - عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في مرضه: ((مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس))، قالت عائشة: فقلت: إنّ أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر فليصلّ بالنّاس، فقال: ((مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس))، فقالت عائشة: فقلت لحفصة: قولي له إنّ أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر فليصلّ بالنّاس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّكنّ لانتنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس)) فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا. متفق عليه. 6 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسألون عن عبادة النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلمّا أخبروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، قال أحدهم: أمّا أنا فأصلّي اللّيل أبدًا. وقال الآخر: وأنا أصوم الدّهر ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((أنتم الّذين قلتم كذا وكذا، أما والله إنّي لاخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النّساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي)). متفق عليه. 7 - عن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((هلك المتنطّعون)). قالها ثلاثًا. رواه مسلم. في "النهاية" في مادة (نطع): هم المتعمّقون المغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل

في كل تعمق قولاً وفعلاً. اهـ في هذه الأحاديث جرح لمن ترك السنن وأقبل على البدع والأهواء. 8 - عن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذرّ بالرّبذة وعليه حلّة وعلى غلامه حلّة، فسألته عن ذلك فقال: إنّي ساببت رجلاً فعيّرته بأمّه، فقال لي النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يا أبا ذرّ أعيّرته بأمّه، إنّك امرؤ فيك جاهليّة، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم فأعينوهم)). متفق عليه. 9 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلّي مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمّ يأتي قومه فيصلّي بهم الصّلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوّز رجل فصلّى صلاةً خفيفةً، فبلغ ذلك معاذًا، فقال: إنّه منافق، فبلغ ذلك الرّجل، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله إنّا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي نواضحنا، وإنّ معاذًا صلّى بنا البارحة فقرأ الْبقرة، فتجوّزت، فزعم أنّي منافق، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يا معاذ أفتّان أنت؟ ثلاثًا، اقرأ: والشّمْس وضحاها وسبّح اسم ربّك الأعلى، ونحوها)). متفق عليه. وهذا فى حق هذين الصحابيّين الجليلين ومن شابههما المراد به الأدب لا التجريح، وإنما ذكرنا هذا ليدل على جواز إطلاق مثل هذا على من يحتاج إلى تأديب. 10 - وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنّ رجلاً خطب عند النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال

رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله)). رواه مسلم. 11 - وعن بريدة رضي الله عنه أنّ رجلاً نشد في المسجد فقال: ((من دعا إلى الجمل الأحمر فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا وجدْت، إنّما بنيت المساجد لما بنيتْ له)). رواه مسلم. 12 - وعن جابر رضى الله عنه أنّ عبْدًا لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشْكو حاطبًا، فقال: يارسول الله ليدخلنّ حاطب النّار، فقال رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كذبت لا يدخلها، فإنّه شهد بدْرًا والحديبية)). رواه مسلم. 13 - عن أنس رضي الله عنه قال: مرّوا بجنازة فأثْنوا عليها خيرًا، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((وجبتْ)) ثمّ مرّوا بأخرى فأثْنوا عليها شرًّا، فقال: ((وجبتْ)) فقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: ما وجبتْ؟ قال: ((هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنّة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النّار، أنتم شهداء الله في الأرض)). متفق عليه. 14 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعودني عام حجّة الوداع من وجع اشتدّ بي، فقلت: إنّي قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: ((لا)) فقلت: فالشّطر يا رسول الله؟ فقال: ((لا)) قلت: فالثلث يا رسول الله؟ قال: ((الثّلث، والثّلث كثير أو كبير، إنّك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالةً يتكفّفون النّاس، وإنّك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتّى ما تجعل في في امرأتك)) فقلت: يا رسول الله أخلّف بعد أصحابي؟ قال: ((إنّك لن تخلّف فتعمل عملاً تبتغي

به وجه الله إلا ازددت به درجةً ورفعةً، ولعلّك أن تخلّف حتّى ينتفع بك أقوام ويضرّ بك آخرون، اللهمّ أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردّهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة)) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن مات بمكّة. متفق عليه. 15 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: قال له في شأن الشّيطان: ((أما إنّه قد صدقك وهو كذوب)). رواه البخاري. 16 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لا تقوم السّاعة حتّى يبعث دجّالون كذّابون قريب من ثلاثين كلّهم يزعم أنّه رسول الله)). متفق عليه واللفظ لمسلم. 17 - وعن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((إنّ بيْن يدي السّاعة كذّابين)). رواه مسلم. ففي هذه الأدلة دليل على الجرح، وأما أدلة التعديل فأكثر من أن تحصى ولم ينازع فيها العصريون فلم نوردها، وإن كان إيرادها يقوى أدلة الجرح ويثبتها على أن أدلة الجرح كافية. والحمد لله. وقد ذكرت جملة من أدلة الجرح والتعديل في "الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين"، وفي "نشر الصحيفة في كلام أئمة الجرح والتعديل في أبي حنيفة".

الإنكار على من رد السنن بالرأي والاستحسان

الإنكار على من رد السّنن بالرأي والاستحسان قال الله سبحانه: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنّما يتّبعون أهواءهم (¬1) وقد ذكرت في "شرعية الصلاة بالنعال" جملة من هذا، فأنا أنقلها هنا لمناسبتها أيضًا هنا وأزيد مايسر الله. الحديث الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل فقتلت ولدها الّذي في بطنها، فاختصموا إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقضى أنّ دية ما في بطنها غرّة، عبد أو أمة، فقال وليّ المرأة الّتي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهلّ، فمثل ذلك يطلّ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّما هذا من إخوان الكهّان)). رواه البخاري: (ج12 ص328). ومسلم: (ج11 ص177)، وفيه زيادة قوله: ((إنّما هذا من إخوان الكهّان من أجل سجعه الّذي سجع)). وأخرجه أبوداود: (ج4 ص318). والنسائي: (ج8 ص43). وابن ماجة: (ج2 ص882). ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 50.

الحديث الثاني: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أنّ امرأةً قتلت ضرّتها بعمود فسطاط، فأتي فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقضى على عاقلتها بالدّية، وكانت حاملاً، فقضى في الجنين بغرّة، فقال بعض عصبتها: أندي من لا طعم ولا شرب، ولا صاح فاستهلّ، ومثل ذلك يطلّ، قال: فقال: ((سجع كسجع الأعراب)). رواه مسلم (ج11 ص179). والنسائي (ج8 ص44). فأنت ترى أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنكر عليه معارضته لحديثه برأيه وقال: ((إنّما هذا من إخوان الكهّان)). من أجل سجعه. الحديث الثالث: عن عبد الله بن أبي مليكة قال: كاد الخيّران أن يهلكا، أبوبكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر -قال نافع: لا أحفظ اسمه- فقال أبوبكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله سبحانه: يا أيّها الّذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم الآية. قال ابن الزّبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد هذه الآية حتّى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه -يعني- أبا بكر. أخرجه البخاري (ج10 ص212،214) وفيه رواية ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير (ج17 ص39). وأخرجه الترمذي (ج4 ص185) وعنده تصريح عبد الله بن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير حدثه به، وأحمد (ج4 ص6)، والطبري (ج26 ص119) وفيه قول نافع: حدثني ابن أبي مليكة عن ابن الزبير، فعلم اتصال الحديث كما أشار إليه الحافظ في "الفتح"

(ج10 ص212). الحديث الرابع: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في مرضه: ((مروا أبابكْر فيصلّ بالنّاس)) قالت عائشة: فقلت: إنّ أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر فليصلّ. فقال: ((مروا أبابكر فلْيصلّ بالنّاس)) قالت عائشة: فقلت لحفْصة: قولي: إنّ أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر فليصلّ بالنّاس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّكنّ لأنتنّ صواحب يوسف، مروا أبابكر فليصلّ بالنّاس)) قالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا. رواه البخاري (ج17 ص39). ومسلم (ج5 ص140،141). الحديث الخامس: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((إنّ الله لا ينْزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعًا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهّال يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلّون ويضلّون)). رواه البخاري (ج17 ص45) ومسلم واللفظ للبخاري. الحديث السادس: قال مسلم رحمه الله (ج3 ص1599): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب عن عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع أنّ أباه حدّثه أنّ رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشماله، فقال: ((كل بيمينك)) قال: لا أستطيع. قال: ((لا استطعت))، ما منعه إلا الكبر، قال: فما

رفعها إلى فيه. الحديث السابع: قال البخاري رحمه الله (ج10 ص121): حدثنا إسحاق حدثنا خالد ابن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم دخل على رجل يعوده، فقال: ((لا بأس طهور إن شاء الله)) فقال: كلا بل هي حمّى تفور، على شيخ كبير، حتى تزيره القبور. قال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((فنعم إذًا)). آثار عن السلف وأما الاثار عن السلف رحمهم الله، فأكثر من أن تحصر، ولكن أشير إلى بعضها: الأثر الأول: عن علي رضي الله عنه أنه قال: لو كان الدّين بالرّأي لكان أسفل الخفّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمسح على ظاهر خفّيه. رواه أبوداود (ج1 ص63) ورجاله رجال الصحيح، إلا عبدخير، وهو ثقة كما في "التقريب". وقال الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام": إنّ سنده حسن، وقال في "التلخيص": رواه أبوداود وإسناده صحيح. الأثر الثاني: الحديث عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لا

تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنّكم)) قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهنّ، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبًّا سيّئًا ما سمعته سبّه مثله، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتقول: والله لنمنعهنّ. رواه مسلم (ج4 ص161). وفي "جامع بيان العلم وفضله" (ج2 ص139) للحافظ ابن عبد البر أنه قال له: لعنك الله، لعنك الله. أقول: رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أن لا يمنعن، وقام مغضبًا. الأثر الثالث: عن عبد الله بن المغفل أنّه رأى رجلاً يخذف فقال له: لا تخذف، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الخذف، أو كان يكره الخذف، وقال: ((إنّه لا يصاد به صيد، ولا ينكى به عدوّ، ولكنّها قد تكسر السّنّ وتفقأ العين))، ثمّ رآه بعد ذلك يخذف، فقال له: أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه ينهى عن الخذف، وأنت تخذف، لا أكلّمك كذا وكذا. رواه البخاري (ج12 ص26). ومسلم (ج13 ص105،106) وفيه: لا أكلمك أبدًا. الأثر الرابع: عن أبي قتادة تميم بن نذير العدوي أنّه قال: كنّا عند عمران بن حصين في رهط، وفينا بشير بن كعب فحدّث عمران يومئذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((الحياء خير كلّه)) فقال بشير بن كعب: إنّا لنجد في بعض الكتب: أنّ منه سكينةً ووقارًا ومنه ضعف. فغضب عمران حتّى احمرّت عيناه، وقال: ألا أراني أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتعارض فيه، قال: فأعاد عمران الحديث، قال: فأعاد بشير، فغضب عمران، قال: فما زلنا نقول فيه: إنّه منّا يا أبا نجيد، إنّه لا بأس به. رواه مسلم (ج2 ص7) وأحمد (ج4 ص427،436،440، 442،445)، والطيالسي

(ج2 ص41). الأثر الخامس: عن ابن أبي مليكة أن عروة بن الزبير قال لابن عباس: أضللت الناس، قال: وما ذاك يا عريّة؟ قال: تأمر بالعمرة في هؤلاء العشر وليستْ فيهنّ عمرة فقال: أولا تسأل أمّك عن ذلك؟ فقال عروة: فإنّ أبابكر وعمر لم يفعلا ذلك، فقال ابن عبّاس: هذا الّذي أهلككم والله ما أرى إلاّ سيعذّبكم، إنّي أحدّثكم عن النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتجيئوني بأبي بكر وعمر ... رواه أحمد (ج1 ص337). وإسحاق بن راهويه كما في "المطالب العالية" (ج1 ص360) وفيه: نجيئكم برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتجيئوني بأبي بكر وعمر؟. والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (ج1 ص 145)، والسياق له، وابن حزم في "حجة الوداع" ص (268، 269) من طرق إلى ابن عباس. وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (ج2 ص239،240). الأثر السادس: قال الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (ج1 ص150): أنا محمد بن أحمد بن رزق أنا عثمان بن أحمد الدقاق أنا محمد بن إسماعيل الرقي أنا الربيع بن سليمان قال: سمعت الشّافعي وسأله رجل عن مسألة فقال: يروى فيها كذا وكذا عن النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال له السّائل: يا أبا عبد الله ما تقول فيه؟ فرأيت الشّافعي أرعد وانتفض، فقال: ما هذا، أيّ أرض تقلّني وأيّ سماء تظلني؟ إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حديثًا فلم أقلْ به، نعم على السّمع والبصر، نعم على السّمع والبصر. وقال: أنا الربيع قال: سمعت الشّافعي وقد روى حديثًا وقال له بعض من حضر: تأخذ بهذا؟ فقال: إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حديثًا صحيحًا

فلم آخذْ به، فأنا أشهدكم أنّ عقلي قد ذهب، ومدّ يديه. وأخرج الأثرين: الحافظ البيهقي في "مناقب الشافعي" (ج1 ص474،475)، وأبونعيم في "الحلية" (ج9 ص106). الأثر السابع: قال الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله في "التوحيد" ص (113): حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني وعلي بن الحسين ويحيى بن حكيم قالوا ثنا معاذ بن معاذ العنبري قال ثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قوله: فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكًّا قال بأصبعه هكذا: وأشار بالخنصر من الظفر يمسكه بالإبهام، قال: فقال حميد لثابت: يا أبا محمد دع هذا، ما تريد؟ قال: فضرب ثابت منكب حميد وقال: ومن أنت يا حميد؟ وما أنت يا حميد؟ حدثني به أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتقول أنت: دع هذا. هذا لفظه. حدثنا يحيى بن حكيم والزعفراني وعلي بن الحسين عن معاذ (¬1) بن معاذ عن حماد بن سلمة. قال علي ثنا ثابت البناني عن أنس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقال الزعفراني: عن ثابت البناني عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قوله: فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكًّا قال: هكذا، ووصف معاذ أنه أخرج ¬

(¬1) سقط من الأصل: معاذ، لأن هؤلاء لا يروون عن حماد مباشرة، وقوله: ووصف معاذ إلى آخره، يدل على ذلك.

أول المفصل من خنصره فقال له حميد: يا أبا محمد ما تريد إلى هذا؟ فضرب صدره ضربةً شديدةً وقال: فمن أنت؟ ما تريد إلى هذا؟. غير أن الزعفراني قال هكذا: ووضع إبْهامه اليسرى على طرف خنصره الأيسر على العقد الأول. حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال ثنا أبي ثنا حماد بن سلمة قال ثنا ثابت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لمّا تجلّى ربّه للجبل)) رفع خنصره وقبض على مفصل منها ((فانساخ الجبل)) فقال له حميد: أتحدث بهذا؟ فقال: حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتقول: لا تحدث به. هذا حديث صحيح على شرط مسلم. الأثر الثامن: قال الترمذي رحمه الله (ج3 ص648): حدثنا أبوكريب أخبرنا وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قلّد نعلين وأشعر الهدي في الشّقّ الأيمن بذي الحليفة، وأماط عنه الدّم. قال: وفي الباب عن المسور بن مخرمة، قال أبوعيسى: حديث ابن عبّاس حديث حسن صحيح، وأبوحسّان الأعرج اسمه مسلم، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وغيرهم يرون الإشعار، وهو قول الثّوريّ والشّافعيّ وأحمد وإسحق. قال: سمعت يوسف بن عيسى يقول: سمعت وكيعًا يقول حين روى هذا الحديث قال: لا تنظروا إلى قول أهل الرّأي في هذا، فإنّ الإشعار سنّة وقولهم بدعة، قال: وسمعت أبا السّائب يقول: كنّا عند وكيع فقال لرجل

عنده ممّن ينظر في الرّأي: أشعر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويقول أبوحنيفة: هو مثلة. قال الرّجل فإنّه قد روي عن إبراهيم النّخعيّ أنّه قال: الإشعار مثلة. قال: فرأيت وكيعًا غضب غضبًا شديدًا، وقال: أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتقول: قال إبراهيم: ما أحقّك بأن تحبس ثمّ لا تخرج حتّى تنْزع عن قولك هذا. الأثر التاسع: قال الدارمي رحمه الله (ج1 ص118): أخبرنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن سلمة عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير أنّه حدّث يومًا بحديث عن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال رجل: في كتاب الله ما يخالف هذا، قال: ألا أراني أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتعرّض فيه بكتاب الله، كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلم بكتاب الله منك. هذا الأثر صحيح. الأثر العاشر: قال الإمام الآجري رحمه الله في "الشريعة" ص (56): حدثنا أيضًا الفريابي حدثني إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثنا معن بن عيسى قال: انصرف مالك بن أنس رضي الله عنه يومًا من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له: أبوالحورية كان يتّهم بالإرجاء، فقال: ياعبد الله اسمع منّي شيئًا أكلمك به وأحاجك به وأخبرك برأي، قال: فإنْ غلبتني؟ قال: إن غلبتك اتبعتني. قال: فإن جاء رجل آخر فكلّمنا فغلبنا؟ قال: نتّبعه. فقال مالك رحمه الله: يا عبد الله بعث الله عزّ وجلّ محمّدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدين واحد، وأراك تنتقل من دين إلى دين، قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضًا

للخصومات أكثر التّنقل. أثر مالك صحيح، وما ذكره عن عمر بن عبد العزيز، منقطع، لكن الآجري رحمه الله قد رواه قبل هذا الأثر بالسند الصحيح، فقال: وحدثنا الفريابي قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال: إن عمر بن عبد العزيز قال: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل. وقال الإمام أبوبكر الخطيب رحمه الله في "شرف أصحاب الحديث" ص (5): أخبرنا أبوسعيد محمد بن موسى بن الفضل بن شاذان الصيرفي بنيسابور، قال حدثنا أبوالعباس محمد بن يعقوب الأصم قال حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني قال حدثنا إسحاق بن عيسى قال سمعت مالك بن أنس يعيب الجدال في الدين، ويقول: كلما جاءنا رجل أجدل من رجل أرادنا أن نردّ ما جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. هذا الأثر صحيح. وقال الإمام أبوعمر بن عبد البر رحمه الله في "جامع بيان العلم وفضله" (ج2 ص176): وذكر الطبري في كتاب "تهذيب الآثار" له حدثنا الحسن ابن الصباح البزار قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الحنيني قال: قال مالك: قبض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد تمّ هذا الأمر واستكمل، فإنما ينبغي أن نتّبع آثار رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يتبع الرأي، فإنه متى اتّبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك، فاتبعته فأنت كلما جاء رجل عليك اتبعته، أرى هذا لا يتم. الأثر ضعيف جدًا بهذا السند، إسحاق بن إبراهيم الحنيني الجرح فيه مفسّر، قال

النسائي: ليس بثقة، وقال البخاري: فيه نظر، لكن الأثر ثابت بالطريقين المتقدمين، والله أعلم. الأثر الحادي عشر: قال عبد الله بن أحمد في كتاب "السنة" ص (38): حدثني إسحاق بن بهلول الأنباري سمعت وكيعًا يقول: من رد حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن جرير عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الرؤية فاحسبوه من الجهميّة. وأخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد" معلقًا ص (18): وفيه: فهو جهمي فاحذروه. وإسحاق بن بهلول شيخ عبد الله بن أحمد ترجمه الخطيب في "التاريخ" (ج6 ص366) وقال: كان ثقةً، ونقل عن ابن أبي حاتم أنه سأل أباه عنه فقال: صدوق. الأثر الثاني عشر: قال الإمام الآجري رحمه الله في "الشريعة" ص (227): وأخبرنا الفريابي قال سمعت أبا حفص عمرو بن علي قال سمعت معاذ بن معاذ وذكر قصة عمرو بن عبيد إن كانت تبّت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ فما على أبي لهب من لوم. قال أبوحفص: فذكرته لوكيع بن الجراح، فقال: من قال بهذا، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. هذا الأثر صحيح. الأثر الثالث عشر: قال الآجري رحمه الله في "الشريعة": حدثنا الفريابي قال حدثنا العباس ابن الوليد بن مزيد قال أخبرني أبي قال سمعت الأوزاعي يقول: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرّجال، وإن تزخرفوا لك

بالقول. هذا الأثر صحيح. الأثر الرابع عشر: إنكار ابن أبي شيبة على أبي حنيفة في رده بعض الأحاديث بالرأي، فقد عقد في "مصنفه" (ج14 ص148) كتابًا فقال رحمه الله: "كتاب الرد على أبي حنيفة": هذا ما خالف به أبوحنيفة الأثر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم ذكر إلى ص (282)، تشتمل على نحو خمسة وثمانين وأربعمائة بين حديث وأثر، فجزى الله سلفنا الصالح الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم. الأثر الخامس عشر: قال ابن حزم في كتابه "إحكام الأحكام" (ج1 ص89): وقد ذكر محمد ابن نصر المروزي أن إسحاق بن راهويه كان يقول: من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خبر يقرّ بصحّته ثم ردّه بغير تقيّة، فهو كافر. الأثر السادس عشر: قال الدارمي رحمه الله (ج1 ص60): أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا مالك هو ابن مغول قال: قال لي الشعبي: ما حدّثوك هؤلاء عن رسول الله فخذْ به، وما قالوه برأيهم فألقه في الحشّ. هذا الأثر صحيح. الأثر السابع عشر: ونقل القاضي أبوالحسين محمد بن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة" في

ترجمة إبراهيم بن أحمد بن شاقلا (ج2 ص135) أنه قال: ومن خالف الأخبار التى نقلها العدل عن العدل موصولة بلا قطع في سندها ولا جرح في ناقليها وتجرأ على ردّها فقد تهجّم على رد الإسلام، لأن الإسلام منقول إلينا بمثل ما ذكرت. وقال ص (138) لخصمه: أنت تتكلم على المسلمين فتحشوا أسماعهم بمثل كلام الكلبي الكذاب، فيما يخبر عن مراد الله تعالى من الأمم الخالية التي لم يشاهدها، فلا يكون عندك هذيان ثم تجيء إلى مثل إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله -حديث الخبر (¬1) - فتقول: هذا هذيان، وهذا قول من تقلده خرج عندي من الدين وسلك سبيل غير المسلمين. اهـ الأثر الثامن عشر: قال الحسن بن علي البربهاري (¬2) في "شرح كتاب السنة" له ص (113): وإذا سمعت الرجل يطعن على الأثر أو يرد الآثار، أو يريد غير الآثار فاتّهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع. وقال أيضًا ص (119): وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن، فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة فقمْ من عنده وودّعه. ¬

(¬1) كذا في الأصل، وصوابه: الحبر، والحديث متفق عليه، جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والأنْهار على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول بيده: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال: وما قدروا الله حق ّقدره. (¬2) البربهارى: هذه النسبة إلى بربهار، وهى الأدوية التى تجلب من الهند، يقال لها: البربهار، ومن يجلبها يقال له: البربهارى. اهـ من "اللباب".

وقال أيضًا ص (128): ولا يحل لرجل أن يقول: فلان صاحب سنة، حتى يعلم أنه قد اجتمعت فيه خصال السنة، فلا يقال: صاحب سنة حتى تجتمع فيه السنة كلها. اهـ الأثر التاسع عشر: وقال الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (ج1 ص152): ولعمري إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرًا على خلاف الرأي ومجانبته خلافًا بعيدًا، فما يرى المسلمون بدًا من اتّباعها والانقياد لها، ولمثل ذلك ورع أهل العلم والدين فكفهم عن الرأي ودلهم على عوره وغوره أنه يأتي الحق على خلافه في وجوه متعددة، من ذلك: أن قطع أصابع اليد، مثل قطع اليد من المنكب، أي ذلك أصيب ففيه ستة الآف. ومن ذلك: أن قطع الرجل في قلة ضررها مثل قطع الرجل من الورك، أي ذلك أصيب ففيه ستة الآف. ومن ذلك: أن في العينين إذا فقئتا مثل مافي قطع أشراف الأذنين في قلة ضررها، أي ذلك أصيب ففيه اثنا عشرألفًا. ومن ذلك: أن في شجتين موضحتين صغيرتين مائتي دينار، وما بينهما صحيح، فإن جرح ما بينهما حتى تقام إحداهما إلى الأخرى، كان أعظم للجرح بكثير، ولم يكن فيها حينئذ إلا خمسون دينارًا. ومن ذلك: أنّ المرأة الحائض تقضي الصيام، ولا تقضي الصلاة. ومن ذلك: رجلان: قطعت أذنا أحدهما جميعًا، يكون له اثنا عشر ألفًا، وقتل الآخر فذهبت أذناه وعيناه ويداه ورجلاه وذهبت نفسه، ليس ذلك

إلا اثنا عشر ألفًا، مثل ذلك الذي لم يصب إلا شراف أذنيه. في أشباه هذا غير واحد فهل وجد المسلمون بداً من لزوم هذا؟ وأي هذه الوجوه يستقيم على الرأي أو يخرج في التفكير؟ إلى آخر كلامه رحمه الله. وفي كتاب أبي محمد بن حزم رحمه الله "الإحكام في أصول الأحكام" من هذا الكثير الطيب فأنصح مريد الحق بقراءته.

حديث السحر

حديث السحر قال البخاري رحمه الله (ج10 ص221): حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى بن يونس عن هشام عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل من بني زريق، يقال له: لبيد بن الأعصم، حتّى كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخيّل إليه أنّه كان يفعل الشّيء وما فعله، حتّى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنّه دعا ودعا، ثمّ قال: ((يا عائشة أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرّجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أيّ شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان)) فأتاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: ((يا عائشة كأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، أو كأنّ رءوس نخلها رءوس الشّياطين)) قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: ((قد عافاني الله، فكرهت أن أثوّر على النّاس فيه شرًّا)) فأمر بها فدفنت. تابعه أبوأسامة وأبوضمرة وابن أبي الزّناد، عن هشام، وقال اللّيث وابن عيينة عن هشام: ((في مشط ومشاطة))، يقال: المشاطة ما يخرج من الشّعر إذا مشط، والمشاطة من مشاطة الكتّان.

وقال البخاري رحمه الله (ج10 ص232): وحدثني عبد الله بن محمد قال سمعت ابن عيينة يقول: أول من حدثنا به ابن جريج يقول: حدثني آل عروة فسألت هشامًا عنه فحدثنا عن أبيه: عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحر حتّى كان يرى أنّه يأتي النّساء ولا يأتيهنّ. قال سفيان: وهذا أشدّ ما يكون من السّحر إذا كان كذا، فقال: ((يا عائشة أعلمت أنّ الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ، فقال الّذي عند رأسي للآخر: ما بال الرّجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد بن أعصم، رجل من بني زريق حليف ليهود، كان منافقًا، قال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاطة، قال: وأين؟ قال: في جفّ طلعة ذكر، تحت راعوفة في بئر ذروان)) قالت: فأتى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم البئر حتّى استخرجه، فقال: ((هذه البئر الّتي أريتها، وكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، وكأنّ نخلها رءوس الشّياطين)) قال: فاستخرج، قالت: فقلت: أفلا -أي تنشّرت-؟ فقال: ((أمّا والله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من النّاس شرًّا)). وقال البخاري رحمه الله (ج10 ص235): حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبوأسامة عن هشام عن أبيه: عن عائشة قالت: سحر النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتّى إنّه ليخيّل إليه أنّه يفعل الشّيء وما فعله، حتّى إذا كان ذات يوم وهو عندي، دعا الله ودعاه، ثمّ قال: ((أشعرت يا عائشة أنّ الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه)): قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ((جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ، ثمّ قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرّجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهوديّ، من

بني زريق، قال: فيما ذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان)) قال: فذهب النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل ثمّ رجع إلى عائشة فقال: ((والله لكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، ولكأنّ نخلها رءوس الشّياطين))، قلت: يا رسول الله أفأخرجته؟ قال: ((لا، أمّا أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخشيت أن أثوّر على النّاس منه شرًّا)) وأمر بها فدفنت. وقال الإمام مسلم (ج14 ص174): حدثنا أبوكريب حدثنا ابن نمير عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وسلّم يهوديّ من يهود بني زريق، يقال له: لبيد بن الأعصم، قالت: حتّى كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخيّل إليه أنّه يفعل الشّيء وما يفعله، حتّى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة، دعا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمّ دعا ثمّ دعا، ثمّ قال: ((يا عائشة أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، جاءني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ، فقال الّذي عند رأسي للّذي عند رجليّ، أو الّذي عند رجليّ للّذي عند رأسي: ما وجع الرّجل؟ قال: مطبوب، قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أيّ شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، قال: وجفّ طلعة ذكر، قال: فأين هو، قال: في بئر ذي أروان)) قالت: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أناس من أصحابه، ثمّ قال: ((يا عائشة والله لكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، ولكأنّ نخلها رءوس الشّياطين)) قالت: فقلت: يا رسول الله أفلا أحرقته؟ قال: لا، أمّا أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على النّاس شرًّا)) فأمرت بها فدفنت. حدثنا أبوكريب حدثنا أبوأسامة حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت:

الرواة لحديث السحر عن هشام بن عروة

سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وساق أبوكريب الحديث بقصّته نحو حديث ابن نمير وقال فيه: فذهب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل، وقالت: قلت: يا رسول الله فأخرجه؟ ولم يقل: أفلا أحرقته، ولم يذكر فأمرْت بها فدفنت. وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج6 ص63): ثنا إبراهيم بن خالد عن رباح عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لبث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ستّة أشهر يرى أنّه يأتي، ولا يأتي، فأتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: ما باله؟ قال: مطبوب. قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: فيم؟ قال: في مشط ومشاطة في جفّ طلعة ذكر في بئر ذروان تحت راعوفة، فاستيقظ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من نومه فقال: ((أي عائشة ألم ترين أنّ الله أفتاني فيم استفتيته، فأتى البئر فأمر به فأخرج، فقال: هذه البئر الّتي أريتها والله كأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، وكأنّ رءوس نخلها رءوس الشّياطين، فقالت عائشة: لو أنّك -كأنّها تعني أن ينتشر-، قال: ((أما والله قد عافاني الله، وأنا أكره أن أثير على النّاس منه شرًّا)). الرواة لحديث السحر عن هشام بن عروة 1 - يحيى بن سعيد القطان البصرى عند البخاري (ج6 ص276) وأحمد (ج6 ص50) وابن جرير (ج2 ص437) بتخريج أحمد شاكر. 2 - عيسى وهو ابن يونس الكوفي عند البخاري (ج6 ص334)

و (ج10ص221) والنسائي في "الكبرى" (ج4 ص380) وإسحاق (ج2 ص68) وعند ابن حبان (ج8 ص194) من "تقريب الإحسان". وقال البخاري (ج10 ص221): تابعه أبوأسامة وأبوضمرة وابن أبي الزناد عن هشام وقال الليث وابن عيينة: عن هشام. 3 - ابن جريج المكي عند البخاري (ج10 ص232). 4 - أبوأسامة وهو حماد بن أسامة الكوفي عند البخاري (ج10 ص235) وعند مسلم (ج14 ص178) وعند أحمد (ج6 ص63) وعند أبي يعلى (ج8 ص90). 5 - سفيان بن عيينة الكوفي نزيل مكة عند البخاري (ج10 ص479) وعند الحميدي (ج1 ص125) وابن حزم (ج11 ص400) وقال: هذا خبر صحيح، والشافعي كما في "المسند" (ج2 ص196) بتحقيق أبي عمير حفظه الله. 6 - أبوضمرة أنس بن عياض المدني عند البخاري (ج11 ص192) والبيهقي في "دلائل النبوة" (ج9 ص247)، والبغوي في "شرح السنة" (ج6 ص279). 7 - عبد الله بن نمير الكوفي عند مسلم (ج14 ص174) وابن ماجة (ج2 ص1173) وعند أحمد (ج6 ص57) وعند ابن أبي شيبة (ج8 ص30) من القسم الأول من الجزء الثامن وابن جرير (ج2 ص437) وعند ابن حبان (ج8 ص194) من "تقريب الإحسان".

8 - معمر بن راشد البصري نزيل اليمن عند أحمد (ج6 ص63). 9 - وهيب وهو ابن خالد بن خالد البصري عند أحمد (ج6 ص 96) وعند ابن سعد (مجلد2 قسم2 ص4). 10 - عبد الرحمن بن أبي الزناد المدني كما ذكره البخاري معلقًا (ج10 ص221) قال الحافظ في "الفتح" ولم أعرف من وصلها. 11 - الليث بن سعد المصري عند البخاري (ج7 ص145) طبعة حلبية مع "الفتح" معلقًا قال الحافظ في "الفتح" (ج7 ص145) رويناه موصولاً في نسخة عيسى بن حماد رواية أبي بكر بن أبي داود. اهـ 12 - مرجي بن رجاء البصرى ذكره الحافظ في "تغليق التعليق" (ج5ص49). وعزاه في "الفتح" إلى الطبراني. 13 - حماد بن سلمة البصرى ذكره الحافظ في "تغليق التعليق" (ج5 ص49). 14 - علي بن مسهر في "مشكل الآثار" للطحاوي (ج15 ص179). فأنت ترى أن الحديث قد رواه جماعة عن هشام بن عروة منهم البصري، ومنهم الكوفي، ومنهم المكي، ومنهم المدني، ومنهم المصري، وناهيك بحديث من رواته يحيى بن سعيد القطان، وهو في غاية من التحرّى، وهذا الحديث لم ينتقده محدث وهم الحجة لا أصحاب الأهواء فإنّهم أعداء السنن. وهشام بن عروة تكلم بعضهم فيما حدث بالعراق، وأنه حدث عن أبيه

بما لم يسمع منه وهذا منفي هنا فإنه قد صرح بالتحديث عن أبيه، وقد قال أبوالحسن بن القطان: إن هشامًا اختلط فقال الحافظ: في "تهذيب التهذيب" ولم نر له في ذلك سلفًا. اهـ وقال الحافظ الذهبي في "ميزان الاعتدال": هشام بن عروة أحد الأعلام، حجة إمام، لكن في الكبر تناقص حفظه ولم يختلط أبدًا ولا عبرة بما قاله أبوالحسن بن القطان من أنه وسهيل بن أبي صالح اختلطا وتغيرا، نعم الرجل تغيّر قليلاً ولم يبق حفظه كهو في حال الشبيبة فنسي بعض محفوظه أو وهم فكان ماذا أهو معصوم من النسيان. ولما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم في يغضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها ومثل هذا يقع لمالك ولشعبة ولوكيع ولكبار الثقات، فدع عنك الخبط وذر خلط الأئمة الأثبات بالضعفاء والمخلطين فهشام شيخ الإسلام، ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطان، وكذا قول عبد الرحمن بن خراش: كان مالك لا يرضاه نقم عليه حديثه لأهل العراق، قدم الكوفة ثلاث مرات، قدمة كان يقول: حدثني أبي قال سمعت عائشة. والثانية: فكان يقول: أخبرني أبي عن عائشة وقدم الثالثة فكان يقول أبي عن عائشة يعني يرسل عن أبيه. وروى محمد بن علي الباهلي عن شيخ من قريش: أهوى هشام بن عروة إلى يد المنصور يقبّلها فمنعه وقال -يا ابن عروة إنا نكرمك عنها ونكرمها عن غيرك. قيل بلغ سبعًا وثمانين سنة. اهـ. وذكر الحافظ في "الفتح)) أنه جاء عن عمرة عن عائشة فإن ثبت حديث عمرة عن عائشة فيزداد الحديث قوة وإلا فالحديث صحيح والحمد لله. ثم

وجدته فى "دلائل النبوة" للبيهقي (ج7 ص92) وفي سنده سلمة بن حبان البصرى ترجمه ابن ماكولا وقال: روى عنه عبد الله بن أحمد بن حنبل ويوسف بن يعقوب القاضي. اهـ وترجمه ابن أبي حاتم وقال: روى عنه علي بن الحسين بن الجنيد. ولم يذكر أنه وثقه معتبر فعلى هذا فهو مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.

شاهد لحديث السحر

شاهد لحديث السحر قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص367): ثنا أبومعاوية ثنا الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: سحر النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل من اليهود، قال: فاشتكى لذلك أيّامًا، قال: فجاءه جبريل عليه السّلام فقال: إنّ رجلاً من اليهود سحرك، عقد لك عقدًا عقدًا في بئر كذا وكذا، فأرسل إليها من يجيء بها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليًّا رضي الله عنه، فاستخرجها فجاء بها فحلّلها، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كأنّما نشط من عقال، فما ذكر لذلك اليهوديّ ولا رآه في وجهه قطّ حتّى مات. هذا حديث صحيح على شرط مسلم. وأخرجه النسائي (ج7 ص 112) فقال: أخبرنا هنّاد بن السري عن أبي معاوية به. وأخرجه ابن أبي شيبة (ج8 ص1،29،30)، والطبراني (ج5 ص202). وأخرجه ابن سعد (مجلد2 ق2 ص6) فقال: أخبرنا موسى بن مسعود حدثنا سفيان الثورى عن الأعمش عن ثمامة المحلمي عن زيد بن أرقم قال: عقد رجل من الأنصار (يعني للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) عقداً، وكان يأمنه ورمى به في بئر كذا وكذا، فجاء الملكان يعودانه، فقال أحدهما لصاحبه: أتدري ما به؟ عقد له فلان الأنصاري، ورمى به في بئر كذا وكذا، ولو أخرجه لعوفي

فبعثوا إلى البئر فوجدوا الماء قد اخْضرّ فأخرجوه فرموا به، فعوفي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فما حدث به ولا رؤي في وجهه. هذا حديث صحيح، وقد اختلف على الأعمش فيه، فرواه أبومعاوية عن الأعمش عن يزيد بن حيان، كما عند الإمام أحمد، وأبومعاوية من أثبت الناس في الأعمش، وخالفه الثوري كما تقدم عند ابن سعد فرواه عن الأعمش عن ثمامة المحلمي عن زيد بن أرقم، وتابع الثوري شيبان بن عبد الرحمن عند يعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج3 ص289) وعند الطبراني (ج5 ص201) وتابعهما جرير وهو ابن عبد الحميد عند الطبراني في "الكبير"، فالظاهر أن أبا معاوية شذّ في هذا، لأنّ سفيان وشيبان وجرير أرجح منه والله أعلم. وثمامة هو ابن عقبة المحلمي الكوفي وثّقة ابن معين والنسائي، كما في "تهذيب التهذيب"، ويزيد بن حيان وثّقه النسائي كما في "تهذيب التهذيب"، فالحديث صحيح سواء أقلنا: إنّ أبا معاوية شذّ فيه أم إن للأعمش شيخين، والله أعلم. وقد قال الهيثمي في "المجمع" (ج6 ص281): قلت: رواه النسائي باختصار، ورواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح. اهـ وقد جاء في بعض طرقه كما ترى أنّ الذي سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل من الأنصار، فتعقّب الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى هذا في "البداية والنهاية" (ج6 ص39) فقال: قلت: والمشهور أنّ لبيد بن الأعصم اليهودي هو الذى سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. اهـ المراد منه.

شرح الحديث

شرح الحديث قال الحافظ رحمه الله في "الفتح" (ج10 ص227): قوله: (حتى إذا كانت ذات يوم أو ذات ليلة) شك من الراوي، وأظنه من البخاري لأنه أخرجه في صفة إبليس من بدء الخلق، فقال: حتى كان ذات يوم. ولم يشك ثم ظهر لي أن الشك فيه من عيسى بن يونس، وأن إسحاق بن راهويه أخرجه في "مسنده" على الشك، ومن طريقه أخرجه أبونعيم فيحمل الجزم الماضي على أن إبراهيم بن موسى شيخ البخاري حدثه به تارةً بالجزم وتارةً بالشك ويؤيده ما سأذكره من الاختلاف عنه، وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أن يخرج الحديث تامًا بإسناد واحد بلفظين، ووقع فى رواية أبي أسامة الآتية قريبًا: (ذات يوم) بغير شك، و (ذات) بالنصب ويجوز الرفع، ثم قيل: إنّها مقحمة، وقيل: بل هي من إضافة الشيء لنفسه على رأي من يجيزه. قوله: (وهو عندي لكنه دعا ودعا) كذا وقع، وفي الرواية الماضية فى بدء الخلق (حتى كان ذات يوم دعا ودعا)، وكذا علقه المصنف لعيسى بن يونس في الدعوات، ومثله في رواية الليث، قال الكرماني: يحتمل أن يكون هذا الاستدراك من قولها (عندي) أي: لم يكن مشتغلاً بي بل اشتغل بالدعاء، ويحتمل أن يكون من التخيل أي: كان السحر أضره في بدنه لا

في عقله وفهمه بحيث أنه توجّه إلى الله ودعا على الوضع الصحيح، والقانون المستقيم، ووقع في رواية ابن نمير عند مسلم: (فدعا ثم دعا ثم دعا)، وهذا هو المعهود منه أنه كان يكرر الدعاء ثلاثًا، وفي رواية وهيب عند أحمد وابن سعد: (فرأيته يدعو)، قال النووي: فيه استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره، والالتجاء إلى الله تعالى في دفع ذلك. قلت: سلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب، ففى أول الأمر فوض وسلّم لأمر ربه فاحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوي ثم إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية فى الكمال. قوله: (أشعرت) أي: علمت، وهي رواية ابن عيينة كما في الباب الذي بعده. قوله: (أفتاني فيما استفتيته) في رواية الحميدي (أفتاني في أمر استفتيه فيه)، أي أجابني فيما دعوته، فأطلق على الدعاء استفتاءً، لأن الداعي طالب والمجيب مفت، أو المعنى: أجابني بما سألته عنه، لأن دعاءه كان أن يطلعه الله على حقيقة ما هو فيه، لما اشتبه عليه من الأمر، ووقع في رواية عمرة عن عائشة (أن الله أنبأني بمرضي) أي أخبرني. قوله: (أتاني رجلان) وقع في رواية أبي أسامة: (قلت: وما ذاك؟ قال: أتاني رجلان) ووقع في رواية معمر عند أحمد ومرجأ بن رجاء عند الطبراني كلاهما عن هشام: (أتاني ملكان)، وسماهما ابن سعد في رواية منقطعة جبريل وميكائيل، وكنت ذكرت فى المقدمة ذلك احتمالاً. قوله: (فقعد أحدهما عند رأسي والاخر عند رجلي) لم يقع لي أيهما

قعد عند رأسه لكنني أظنه جبريل لخصوصيّته به عليهما السلام، ثم وجدت في "السيرة" للدمياطي الجزم بأنه جبريل، قال: لأنه أفضل. ثم وجدت في حديث زيد بن أرقم عند النسائي وابن سعد وصححه الحاكم وعبد بن حميد (سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أيامًا، فأتاه جبريل فقال: إن رجلاً من اليهود سحرك عقد لك عقدًا كذا في بئر كذا) فدل مجموع الطرق على أن المسئول هو جبريل والسائل ميكائيل. قوله: (فقال أحدهما لصاحبه) وفي رواية ابن عيينة الآتية بعد باب (فقال الذي عند رأسه للآخر)، وفي رواية الحميدي (فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي)، وكأنّها أصوب، وكذا هو في حديث ابن عباس (¬1) عند البيهقي، ووقع الشك في رواية ابن نمير عند مسلم. قوله: (ما وجع الرجل) كذا للأكثر، وفي رواية ابن عيينة (ما بال الرجل) وفي حديث ابن عباس عند البيهقي (ما ترى)، وفيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام إذ لو جاءا إليه في اليقظة لخاطباه وسألاه، ويحتمل أن يكون كان بصفة النائم وهو يقظان، فتخاطبا وهو يسمع، وأطلق في رواية عمرة عن عائشة أنه كان نائمًا، وكذا في رواية ابن عيينة عند الإسماعيلي ¬

(¬1) حديث ابن عباس أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (ج6 ص248)، وفي سنده محمد بن السائب الكلبي وهوكذاب يرويه عن أبي صالح واسمه باذام وهو ضعيف فالحديث بهذا السند ضعيف جدًا. وأخرجه ابن سعد (ج2 ص198) وفي سنده جويبر بن سعيد وهو متروك يرويه عن الضحاك عن ابن عباس والضحاك هو ابن مزاحم لم يسمع من ابن عباس فالحديث عند ابن سعد ضعيف جدًا.

(فانتبه من نومه ذات يوم) وهو محمول على ما ذكرت، وعلى تقدير حمله على الحقيقة فرؤيا الأنبياء وحي، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد بسند ضعيف جدًا (فهبط عليه ملكان وهو بين النائم واليقظان). قوله: (فقال: مطبوب) أي: مسحور يقال: طب الرجل -بالضم- إذا سحر، يقال: كنوا عن السحر بالطب تفاؤلاً، كما قالوا للديغ: سليم، وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء طب، والسحر من الداء ويقال له: طب. وأخرج أبوعبيد من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: احْتجم النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم على رأسه بقرْن حيْن طبّ. قال أبوعبيد: يعني سحر. قال ابن القيم بنى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأمر أولاً على أنه مرض وأنه عن مادة مالت إلى الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه، فرأى استعمال الحجامة لذلك مناسبًا فلما أوحي إليه أنه سحر عدل إلى العلاج المناسب له وهو استخراجه، قال: ويحتمل أن مادة السحر انتهت إلى إحدى قوى الرأس حتى صار يخيّل إليه ما ذكر، فإن السحر يكون من تأثير الأرواح الخبيثة، وقد يكون من انفعال الطبيعة وهو أشد السحر، واستعمال الحجم لهذا الثاني نافع، لأنه إذا هيّج الأخلاط وظهر أثره فى عضو كان استفراغ المادة الخبيثة نافعًا في ذلك، وقال القرطبي: إنما قيل للسحر طب لأن أصل الطب الحذق بالشيء والتفطن له فلما كان كل من علاج المرض والسحر إنما يتأتى عن فطنة وحذق أطلق على كل منهما هذا الاسم. قوله: (في مشط ومشاطة) أما المشط بضم الميم، ويجوز كسرها أثبته أبوعبيد وأنكره أبوزيد، وبالسكون فيهما، وقد يضم ثانيه مع ضم أوله

فقط، وهو الآلة المعروفة التى يسّرح بها شعر الرأس واللحية وهذا هو المشهور، ويطلق المشط بالإشتراك على أشياء أخرى منها العظم العريض في الكتف وسلاميات ظهر القدم، ونبت صغير يقال له: مشط الذنب قال القرطبي: يحتمل أن يكون الذى سحر فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحد هذه الأربع قلت: وفاته آلة لها أسنان وفيها هراوة يقبض عليها ويغطى بها الإناة. قال ابن سيده فى "المحكم": أنّها تسمى المشط، والمشط أيضًا سمة من سمات البعير تكون في العين والفخذ، ومع ذلك فالمراد بالمشط هنا هو الأول فقد وقع في رواية عمرة عن عائشة فإذا فيها مشط رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن مراطة رأسه، وفي حديث ابن عباس: من شعر رأسه ومن أسنان مشطه وفي مرسل عمر بن الحكم فعمد إلى مشط، وما مشط من الرأس من شعر، فعقد بذلك عقدًا. قوله: (ومشاطة) سيأتي بيان الاختلاف هل هي بالطاء أو القاف في آخر الكلام على هذا الحديث حيث بيّنه المصنف. قوله: (وجف طلع نخلة ذكر) قال عياض: وقع للجرجاني يعني في البخاري والعذري -يعني في مسلم- بالفاء ولغيرهما بالموحدة، قلت: أما رواية عيسى بن يونس هنا فوقع للكشميهني بالفاء ولغيره بالموحدة، أما روايته في بدء الخلق فالجميع بالفاء، وكذا في رواية ابن عيينة للجميع وللمستملي في رواية أبي أسامة بالموحدة، وللكشميهني بالفاء، وللجميع في رواية أبي ضمرة في الدعوات بالفاء، قال القرطبي: روايتنا -يعني في مسلم- بالفاء. وقال النووي: في أكثر نسخ بلادنا بالباء، يعني في مسلم وفي بعضها

بالفاء، وهما بمعنى واحد: الغشاء الذي يكون على الطّلع ويطلق على الذكر والأنثى، فلهذا قيّده بالذكر في قوله: (طلعة ذكر) وهو بالإضافة. انتهى. ووقع في روايتنا هنا بالتنوين فيهما على أن لفظ (ذكر) صفة الجف، وذكر القرطبي أن الذي بالفاء هو وعاء الطلع، وهو الغشاء الذي يكون عليه، وبالموحدة داخل الطلعة إذا خرج منها الكفري قاله شمر، قال: ويقال أيضًا لداخل الركية من أسفلها إلى أعلاها (جف)، وقيل: هو من القطع ماقطع من قشورها، وقال أبوعمرو الشيباني: الجف بالفاء شيء ينقر من جذوع النخل. قوله: (وأين هو؟ قال: هو في بئر ذروان) زاد ابن عيينة وغيره (تحت راعوفة)، وسيأتي شرحها بعد الباب، وذروان بفتح المعجمة وسكون الراء وحكى ابن التين فتحها، وأنه قرأه كذلك ولكنه بالسكون أشبه، وفي رواية ابن نمير عند مسلم (في بئر ذي أروان)، ويأتي في رواية أبي ضمرة في الدعوات مثله وفي نسخة الصغاني لكنه بغير لفظ (بئر) ولغيره (في ذروان)، و (ذروان) بئر في بني زريق، فعلى هذا فقوله: (بئر ذروان) من إضافة الشيء لنفسه، ويجمع بينهما وبين رواية ابن نمير بأن الأصل (ذي أروان)، ثم لكثرة الاستعمال سهلت الهمزة فصارت (ذروان)، ويؤيده أن أبا عبيدة البكري صوّب أن اسم البئر (أروان) بالهمز، وأن من قال (ذروان) أخطأ، وقد ظهر أنه ليس بخطأ على ما وجهته، ووقع في رواية أحمد عن وهيب وكذا في روايته عن ابن نمير: (بئر أروان) كا قال البكري فكأن رواية الأصيلي كانت مثلها فسقطت منها الراء. ووقع عند الأصيلي في ما حكاه عياض (في بئر ذي أوان) بغير راء، قال

عياض: وهو وهم، فإن هذا موضع آخر على ساعة من المدينة، وهو الذي بني فيه مسجد الضرار. قوله: (فأتاه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ناس من أصحابه). وقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد (فبعث إلى علي وعمار فأمرهما أن يأتيا البئر)، وعنده في مرسل عمر بن الحكم: (فدعا جبير بن إياس الزرقي وهو ممن شهد بدرًا فدلّه على موضعه في بئر ذروان، فاستخرجه)، قال: ويقال: الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي، ويجمع بأنه أعان جبيرًا على ذلك وباشره بنفسه فنسب إليه، وعند ابن سعد أيضًا (أن الحارث بن قيس قال: يا رسول الله ألا يهور البئر؟) فيمكن تفسير من أبْهم بهؤلاء أو بعضهم، وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجههم أولاً ثم توجه فشاهدها بنفسه. قوله: (فجاء فقال: يا عائشة) وفي رواية وهيب (فلما رجع فقال: يا عائشة) ونحوه في رواية أبي أسامة ولفظه: (فذهب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى البئر فنظر إليها ثم رجع إلى عائشة فقال)، وفي رواية عمرة عن عائشة (فنزل رجل فاستخرجه)، وفيه من الزيادة: (أنه وجد في الطلعة تمثالاً من شمع تمثال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإذا فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة فنزل جبريل بالمعوذتين فكلما قرأ اية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألمًا، ثم يجد بعدها راحة)، وفي حديث ابن عباس نحوه كما تقدم التنبيه عليه. وفى حديث زيد بن أرقم الذى أشرت إليه عند عبد بن حميد وغيره (فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين وفيه: فأمر أن يحل العقد ويقرأ آية، فجعل يقرأ ويحل حتى قام كأنما نشط من عقال)، وعند ابن سعد من طريق

عمر مولى غفرة معضلة (فاستخرج السحر من الجف من تحت البئر ثم نزعه فحله فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم). قوله: (كأن ماءها) في رواية ابن نمير: (والله لكأن ماءها)، أي: البئر (نقاعة الحناء) بضم النون وتخفيف القاف، والحناء معروف وهو بالمد، أي أن لون ماء البئر لون الماء الذى ينقع فيه الحناء، قال ابن التين: يعني أحمر، وقال الداودي: المراد الماء الذى يكون من غسالة الإناء الذى تعجن فيه الحناء. قلت: ووقع في حديث زيد بن أرقم عند ابن سعد وصححه الحاكم (فوجد الماء وقد اخضرّ)، وهذا يقول قول الداودي. قال القرطبي: كأن ماء البئر قد تغير إما لرداءته بطول إقامته، وإما لما خالطه من الأشياء التى ألقيت فى البئر، قلت: ويرد الأول أن عند ابن سعد فى مرسل عبد الرحمن بن كعب أن الحارث بن قيس هوّر البئر المذكورة، وكان يستعذب منها، وحفر بئرًا أخرى، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حفرها. قوله: (وكأن رءوس نخلها رءوس الشياطين) كذا هنا، وفي الرواية التي في بدء الخلق: (نخلها كأنه رءوس الشياطين)، وفي رواية ابن عيينة وأكثر الرواة عن هشام: (كأن نخلها) بغير ذكر (رءوس) أولاً، والتشبيه إنما وقع على رءوس النخل فلذلك أفصح به في رواية الباب وهو مقدر في غيرها ووقع في رواية عمرة عن عائشة (فإذا نخلها الذى يشرب من ماءها قد التوى سعفه كأنه رءوس الشياطين)، وقد وقع تشبيه طلع شجرة الزقوم في القرآن برءوس الشياطين.

قال الفراء وغيره: يحتمل أن يكون شبّه طلعها في قبحه برءوس الشياطين لأنّها موصوفة بالقبح وقد تقرر في اللسان أن من قال: فلان شيطان، أراد أنه خبيث أو قبيح، وإذا قبحوا مذكرًا قالوا: شيطان أو مؤنثًا قالوا: غول ويحتمل أن يكون المراد بالشياطين الحيّات، والعرب تسمي بعض الحيّات شيطانًا وهو ثعبان قبيح الوجه، ويحتمل أن يكون المراد نبات قبيح قيل إنه يوجد باليمن. وقوله: (قلت يا رسول الله أفلا استخرجته) في رواية أبي أسامة (فقال: لا)، ووقع في رواية ابن عيينه أنه استخرجه وأن سؤال عائشة إنما وقع عن النشرة فأجابها بلا، وسيأتي بسط القول فيه بعد باب. قوله: (فكرهت أن أثير على الناس فيه شرًا) في رواية الكشميهني: (سوءًا) ووقع في رواية أبي أسامة: (أن أثوّر)، بفتح المثلثة وتشديد الواو، وهما بمعنى، والمراد بالناس التعميم في الموجودين، قال النووي: خشي من إخراجه وإشاعته ضررًا على المسلمين من تذكر السحر وتعلمه ونحو ذلك، وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة، ووقع في رواية ابن نمير: (على أمتي) وهو قابل أيضًا للتعميم، لأن الأمة تطلق على أمة الإجابة وأمة الدعوة، وعلى ما هو أعم وهو يرد على من زعم أن المراد بالناس هنا لبيد ابن الأعصم لأنه كان منافقًا فأراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن لا يثير عليه شرًا لأنه كان يؤثر الإغضاء عمن يظهر الإسلام، ولو صدر منه ما صدر، وقد وقع أيضًا في رواية ابن عيينة: (وكرهت أن أثير على أحد من الناس شرًا)، نعم وقع في حديث عمرة عن عائشة (فقيل: يارسول الله لو قتلته؟ قال: ((ما وراءه من عذاب الله أشد))).

وفي رواية عمرة: (فأخذه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاعترف فعفا عنه)، وفي حديث زيد بن أرقم: (فما ذكر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لذلك اليهودي شيئًا مما صنع به، ولا رآه في وجهه)، وفي مرسل عمر بن الحكم: (فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: حب الدنانير)، وقد تقدم في كتاب الجزية قول ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقتله، وأخرج ابن سعد من مرسل عكرمة أيضًا أنه لم يقتله، ونقل عن الواقدي أن ذلك أصح من رواية من قال إنه قتله، ومن ثم حكى عياض في "الشفاء" قولين: هل قتل أم لم يقتل؟ وقال القرطبي: لا حجة على مالك من هذه القصة، لأن ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله فتنة، أو لئلا ينفر الناس عن الدخول في الإسلام وهو من جنس ما راعاه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من منع قتل المنافقين حيث قال: ((لا يتحدّث النّاس أنّ محمّدًا يقتل أصحابه)). قوله: (فأمر بها) أي: بالبئر (فدفنت) وهكذا وقع في رواية ابن نمير وغيره عن هشام وأورده مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام عقب رواية ابن نمير وقال: لم يقل أبوأسامة في روايته (فأمر بها فدفنت)، قلت: وكأن شيخه لم يذكرها حين حدثه، وإلا فقد أورده البخاري عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة كما في الباب بعده، وقال في آخره: (فأمر بها فدفنت)، وقد تقدم أن في مرسل عبد الرحمن بن كعب أن الحارث بن قيس هورها. قوله: (تابعه أبوأسامة) هو حماد بن أسامة، وتأتي روايته موصولة بعد بابين. قوله: (وأبوضمرة) هو أنس بن عياض ستأتي روايته موصولة في كتاب

الدعوات. قوله: (وابن أبي الزناد) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان، ولم أعرف من وصلها بعد. قوله: (وقال الليث وابن عيينة عن هشام فى مشط ومشاطة) كذا لأبي ذر ولغيره، و (مشاقة) وهو الصواب وإلا لاتحدت الروايات، ورواية الليث تقدم ذكرها في بدء الخلق، ورواية ابن عيينة تأتي موصولة بعد باب وذكر المزي في الأطراف تبعًا لخلف أن البخاري أخرجه في الطب عن الحميدي، وعن عبد الله بن محمد كلاهما عن ابن عيينة وطريق الحميدي ما هي في الطب في شيء من النسخ التى وقفت عليها، وقد أخرجه أبونعيم في "المستخرج" من طريق الحميدي، وقال بعده: أخرجه البخاري عن عبيد الله ابن محمد لم يزد على ذلك، وكذا لم يذكر أبومسعود في "أطرافه" الحميدي، والله أعلم. قوله: (ويقال المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط) هذا لا اختلاف فيه بين أهل اللغة، قال ابن قتيبة: المشاطة ما يخرج من الشعر الذي سقط من الرأس إذا سرح بالمشط وكذا من اللحية. قوله: (والمشاطة من مشاطة الكتان) كذا لأبي ذر، كأن المراد أن اللفظ مشترك بين الشعر إذا مشط وبين الكتان إذا سرح، ووقع في رواية غير أبي ذر (والمشاقة) وهو أشبه، وقيل: المشاقة هي المشاطة بعينها، والقاف تبدل من الطاء لقرب المخرج والله أعلم. اهـ

وقال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (ج3 ص95): فصل: (في السحر وعلاجه وحديث سحر لبيد للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم)

في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يهوديّ من يهود بني زريق، يقال له: لبيد بن الأعصم، حتّى كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخيّل إليه أنّه كان يفعل الشّيء وما يفعله، حتّى كان ذات يوم وهو عندي، دعا الله ثمّ قال: ((يا عائشة أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرّجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أيّ شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلع ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان)) فأتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أناس من أصحابه، ثمّ قال: ((يا عائشة والله لكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، ولكأنّ رءوس نخلها رءوس الشّياطين)) فقلت: يا رسول الله أفلا أخرجته؟ -وفي مسلم: أحرقته- قال: ((لا، أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على النّاس شرًّا فأمرت بها فدفنت)). وفي لفظ للبخاري: (يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي)، وفيه أيضًا: (حتى كان يرى أنه إن كان يأتي أهله ولا يأتي)، وفيه أيضًا: (حتى كان يرى أنه إن كان يأتي النساء ولا يأتيهن)، قال سفيان: وذلك أشد مايكون من السحر. وفيه: (قال من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم من بني زريق، حليف اليهود كان منافقًا). أنكر بعض الناس هذا، لأنه نقص وعيب، أو أنه يمنع الثقة بالشرع وهذا باطل فإنه من جنس الأوجاع والأمراض والسم، والدلائل القطعية ناطقة بصدقه وعصمته والإجماع أيضًا. فأمّا بعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها ولم يفضل من أجلها فلا مانع منه. الطّب: بكسر الطاء، في اللغة يقال على معان: أحدها: السحر والمطبوب المسحور. يقال: طب الرجل إذا سحر، فكنّوا بالطب عن السحركما كنوا بالسليم عن اللديغ، قال أبوعبيد: تفاؤلاً بالسلامة، وكما كنوا بالمفازة عن الفلاة المهلكة التي لا ماء فيها فقالوا: مفازة تفاؤلاً بالفوز من الهلاك. والثاني: الإصلاح، يقال: طببته إذا أصلحته، ويقال له طب بالأمور، أي: لطف وسياسة. قال الشاعر: وإذا تغير من تميم أمرها ... كنت الطبيب لها بامر ثاقب. قال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء طب، وللسحر طب. والثالث: الحذق، قال الجوهري: كل حاذق طبيب عند العرب، قال أبوعبيد: أصل الطب الحذق بالأشياء والمهارة بها. يقال للرجل: طب وطبيب، إذا كان كذلك، وإن كان في غير علاج المريض، وقال غيره: رجل طبيب، أي حاذق، سمي طبيبًا لحذقه وفطنته. قال علقمة: فإن تسالوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودهنّ نصيب وقال غيره:

إن تغدقي دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئم وذكره بعضهم بكسر الطاء وبعضهم بفتحها. أغدقت المرأة قناعها، أي أرسلته على وجهها، وأغدق الليل، أي أرخى سدوله، وأغدق الصيّاد الشبكة على الصيد. والمستثلم الذي قد لبس لأمة حربه. الرابع: يقال: الطب لنفس الدواء كقوله: ألا من مبلغ حسان عني ... أسحركان طبك أم جنون الخامس: العادة، يقال ليس ذلك بطبي، أي: عادتي، قال فروة بن مسيك: فما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا وقال أحمد بن الحسين: وما التيه طبي فيهمو غير أنني ... بغيض إلى الجاهل المتغافل وقول الحماسي: فإن كنت مطبوبًا فلا زلت هكذا وإن كنت مسحورًا فلا برئ السحر أراد بالمطبوب: المسحور، وبالمسحور: العليل المريض. قال الجوهري: ويقال للعليل مسحور، وأنشد هذا البيت، ومعناه: يعني إن كان هذا الذي قد عراني منك ومن حبك أسأل الله دوامه، ولا أريد زواله، سواءً كان سحرًا أو مرضًا، والطب بفتح الطاء: العالم بالأمور وكذلك الطبيب يقال له طب طب أيضًا، وبضم الطاء اسم موضع وأنشد بعضهم: فقلت هل انْهلتم بطب ركابكم ... بجائزة الماء التي طاب طيبها

أما علاج المسحور فإما باستخراجه وتبطيله كما في الخبر فهو كإزالة المادة الخبيثة بالإستفراغ، وأما بالإستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر فإن للسحر تأثيرًا عند جمهور العلماء لا مجرد خيال باطل لا حقيقة له، وللمسألة وأحكام السحر والساحر مسائل مشهورة ليس هذا محلها. وقد روى أبوعبيد في "الغريب" بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إحتجم على رأسه بقرن حين طب، قال أبوعبيد: معنى طب سحر. قال بعضهم: إنتهت مادة هذا السحر إلى رأسه إلى إحدى قواه التي فيه، بحيث أنه كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله. والسحر مركب من تأثيرات الأرواح الخببثة، وانفعال القوى الطبيعية عنه، وهو سحر النمريجات، وهو أشد ما يكون من السحر، فاستعمال الحجامة على المكان الذي تضرر بالسحر على ما ينبغي من أنفع المعالجة. قال أبقراط: الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ يجب أن تستفرغ من المواضع التي هي إليها أمثل بالأشياء التي تصلح لاستفراغها، وقال بعضهم: لما وقع للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذا إنه عن مادة دموية أو غيرها مالت إلى جهة الدماغ وغلبت عن البطن المقدم منه فغيرت مزاجه عن طبيعته، وكان استعمال الحجامة حينئذ من أنفع المعالجة، وكان ذلك قبل الوحي، فلما جاءه الوحي أنه سحر عدل إلى العلاج الحقيقي، وهو استخراج السحر وإبطاله فدعا الله فأعلمه به فاستخرجه وكان غاية هذا السحر إنما هو في جسده وظاهر جوارحه لا على عقله وقلبه، وما ورد من التخيّل فهو بالبصر لا تخيل يطرق إلى العقل، ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يميل اليه من إتيانه النساء، بل

يعلم أنه خيال، وقد يحدث مثل هذا عن بعض الأمراض. ومن أعظم ما يتحصن به من السحر ومن أنفع علاج له بعد وقوعه التوجه إلى الله سبحانه وتعالى وتوكل القلب والإعتماد عليه والتعوذ والدعاء، وهذا وهذا هو السبب الذي الذي لم يصح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه استعمل شيئًا قبله، بل قد يقال: لم يصح أنه استعمل شيئًا غيره، وهو الغاية القصوى، والنهاية العظمى ولهذا في الخبر أنه لم يخرجه وإنما دفنه لئلا يفضي ذلك إلى مفسدة وانتشارها، لا لتوقف الشفاء والعافية عليه وهذا واضح إن شاء الله. وعند السحرة أن سحرهم إنما يتم في قلب ضعيف منفعل ونفس شهوانية كجاهل وصبي وامرأة، لا في قلب متيقظ عارف بالله له معاملة وتوجه لأن القلب الضعيف فيه ميل وتعلق فيتسلط عليه بذلك، فالأرواح الخبيثة. فالأرواح الخبيثة تسلط عليه بميله إلى مايناسبها وفراغه عما يعرضها ويقاومها. والله أعلم. قال بعض الأطباء إذا سنع من قضبان الآراك خلخالاً للعضد منع السحر.

رد أهل العلم على الطاعنين في الحديث

رد أهل العلم على الطاعنين في الحديث 1 - قال ابن قتيبة رحمه الله في "تأويل مختلف الحديث" (177): قالوا: حديث تكذبه حجة العقل والنظر. قالوا: رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحر وجعل سحره في بئر ذي أروان، وأنّ عليًا كرم الله وجهه استخرجه، وكلّما حل منه عقدة وجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خفة فقام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كأنما أنشط من عقال. وهذا لا يجوز على نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأنّ السحر كفر، وعمل من أعمال الشيطان فيما يذكرون، فكيف يصل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع حياطة الله تعالى له وتسديده إياه بملائكته وصونه الوحي عن الشيطان؟ والله تعالى يقول في القرآن: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (¬1)}. وأنتم تزعمون أنّ الباطل ههنا هو الشيطان. وقال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلاّ من ارتضى من رسول فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدًا (¬2)} أي: يجعل بين يديه وخلفه رصدًا من الملائكه يحفظونه ويصونون الوحي عن أن يدخل فيه ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 42. (¬2) سورة الجن، الآية: 26.

الشيطان ما ليس منه. وذهبوا في السحر إلى أنه حيلة يصرف بها وجه المرء عن أخيه، ويفرق بها بين المرء وزوجه، كالتمائم والكذب، وقالوا: هذه رقى، ومنه السم يسقاه الرجل فيقطعه عن النساء ويغيّر خلقه وينثر شعره ولحيته. وإلى أنّ سحرة فرعون خيلوا لموسى عليه السلام ما أروه. قالوا: ومثل ذلك أن نأخذ الزئبق فنفرغه في وعاء كالحيّة ثم نرسله في موضع حارّ فينساب انسياب الحيّة. قالوا: ومن الدليل على ذلك قول الله تعالى: {فإذا حبالهم وعصيّهم يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى (¬1)}. إنما هو تخييل، وليس ثم شيء على حقيقته. وقالوا في قول الله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت (¬2)}. هو بمعنى النفي. أي: لم ينْزل ذلك. وقالوا: الملكين: بكسر اللام. وذكروا عن الحسن أنه كان يقرؤها كذلك، ويقول: علجان من أهل بابل. قال أبومحمد: ونحن نقول: إنّ الذي يذهب إلى هذا، مخالف للمسلمين واليهود والنصارى، وجميع أهل الكتب ومخالف للأمم كلها، الهند وهي ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 66. (¬2) سورة البقرة، الآية: 102.

أشدها إيمانًا بالرقى، والروم والعرب في الجاهلية وفي الإسلام، ومخالف للقرآن معاند له بغير تأويل، لأنّ الله جل وعز قال لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {قل أعوذ بربّ الفلق من شرّ ما خلق ومن شرّ غاسق إذا وقب ومن شرّ النّفّاثات في العقد} فأعلمنا أن السواحر ينفثن في عقد يعقدنها كما يتفل الراقي والمعوّذ. وكانت قريش تسمي السحر: العضه. ولعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم العاضهة والمستعضهة (¬1). يعني بالعاضهة: الساحرة. وبالمستعضهة: التى تسألها أن تسحر لها. وقال الشاعر: أعوذ بربي من النافثات ... في عقد العاضه المعضه يعني السواحر. وقد روى ابن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، وهذا طريق مرضي صحيح، أنّه قال: حين سحر: ((جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والأخر عند رجليّ. فقال أحدهما: ما وجع الّرجل؟ قال: مطبوب. فقال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أيّ شيء؟ قال في: مشط ومشاطة وجفّ طلعة ذكر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان)). وليس هذا مما يجتر الناس به إلى أنفسهم نفعًا ولا يصرفون عنها ضرًا ولا يكسبون به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثناءً ومدحًا، ولا حملة هذا الحديث كذابين ¬

(¬1) ينظر من أخرجه وما حاله.

ولا متهمين ولا معادين لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وما ينكر أن يكون لبيد بن الأعصم هذا اليهودي سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد قتلت اليهود قبله زكرياء بن آذن في جوف شجرة قطعته قطعًا بالمناشير. وذكر وهب بن منبه أو غيره أنه عليه السلام لما وصل المنشار إلى أضلاعه أنّ، فأوحى الله تعالى إليه: إمّا أن تكف عن أنينك وإما أن أهلك الأرض ومن عليها. وقتلت بعده ابنه يحيى بقول بغيّ واحتيالها في ذلك (¬1). ولو لم يقل الله تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم (¬2)} لم نعلم نحن أن ذلك شبهه، لأن اليهود أعداؤه، وهم يدّعون ذلك، والنصارى أولياؤه وهم يقرّون لهم به. وقتلت الأنبياء وطبختهم وعذّبتهم أنواع العذاب، ولو شاء الله جل وعز لعصمهم منهم. وقد سمّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في شاة مشوية سمته يهودية، فلم يزل السم يعاوده حتى مات. وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((مازالتْ أكلة خيبر تعاودني، فهذا أوان انقطاع أبْهري (¬3)) فجعل الله تعالى لليهودية عليه السبيل حتى قتلته. ومن قبل ذلك ما جعل الله لهم السبيل على النبيّين. والسحر أيسر خطبًا من القتل والطبخ والتعذيب. ¬

(¬1) هذه من الإسرائيليات، وأين السند إلى زكريا وابنه يحيى عليهما السلام. (¬2) سورة النساء، الآية: 157. (¬3) أخرجه البخاري (ج7 ص737) معلقًا، قال الحافظ في "الفتح": وصله البزار والحاكم والإسماعيلي.

فإن كانوا إنما أنكروا ذلك لأن الله تعالى لا يجعل للشيطان على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سبيلاً ولا على الأنبياء، فقد قرءوا في كتاب الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلاّ إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته (¬1)}. يريد: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، يعزيه عما ألقاه الشيطان على لسانه حين قرأ في الصلاة: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتجى (¬2). غير أنه لا يقدر أن يزيد فيه أو ينقص منه. أما تسمعه يقول: {فينسخ الله ما يلقي الشّيطان ثمّ يحكم الله ءاياته} أي: يبطل ما ألقاه الشيطان. ثم قال: {ليجعل ما يلقي الشّيطان فتنةً للّذين في قلوبهم مرض}. وكذلك قوله في القرآن: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (¬3)} أي: لا يقدر الشيطان أن يزيد فيه أولاً ولا آخرًا. قال أبومحمد: حدثني أبوالخطاب قال: نا بشر بن المفضل عن يونس عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ جبريل عليه السّلام أتاني فقال: إنّ عفْريتًا من الجنّ يكيدك فإذا أويت إلى فراشك فقل: {الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم} حتى تختم آية الكرسي (¬4). وقد حكى الله تعالى عن أيوب صلى الله عليه وسلم فقال: {أنّي مسّني ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 52. (¬2) راجع ما كتبه الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، حول هذه القصة في كتابه "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق". (¬3) سورة فصلت، الآية: 42. (¬4) مرسل، والمرسل من قسم الضعيف، لكن جاء فضل قراءة آية الكرسي في "الصحيحين".

الشّيطان بنصب وعذاب (¬1)}. قال أبومحمد: وأما قولهم في السحر الذي رآه موسى صلى الله عليه وسلم: إنه تخييل إليه، وليس على حقيقته، فما ننكر هذا ولا ندفعه، وإنا لنعلم أن الخلائق كلها لو اجتمعوا على خلق بعوضة لما استطاعوا، غير أنا لا ندري أهو بالزئبق الذي ادعوا أنّهم جعلوه فى سلوخ الحيات حتى جرت أم بغيره. ولا يعلم حقيقة هذا إلا من كان ساحرًا، أو من سمع فيه شيئًا من السحرة. وأما قولهم في قول الله تبارك وتعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان} ثم قال: {يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين}. إن تأويله: ولم ينْزل على الملكين ببابل، فليس هذا بمنكر من تأويلاتهم المستحيلة المنكوسة. فإذا كان لم ينْزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، صار الكلام فضلاً لا معنى له، وإنما يجوز بأن يدّعي مدّع أن السحر أنزل على الملكين ويكون فيما تقدم ذكر ذلك أو دليل عليه فيقول الله تعالى: اتبعوا ذلك، ولم ينْزل على الملكين كما ذكروا. ومثال هذا أن يقول مبتدئًا علّمت هذا الرجل القرآن، وما أنزل على موسى عليه السلام، فلا يتوّهم سامع هذا أنك أردت أن القرآن لم ينْزل على موسى عليه السلام لأنه لم يتقدمه قول أحد: إنه أنزل على موسى عليه السلام، وانما يتوّهم السامع أنك علّمته القرآن والتوراة، وتأويل هذا عندنا ¬

(¬1) سورة ص، الآية: 41.

مبيّن بمعرفة الخبر المروي فيه، وجملته -على ما ذكر ابن عباس- أن سليمان صلى الله عليه وسلم لما عوقب وخلفه الشيطان في ملكه، دفنت الشياطين في خزانته وموضع مصلاه سحرًا وأخذًا ونيرنجات، فلما مات سليمان صلى الله عليه وسلم، جاءت الشياطين إلى الناس فقالوا: ألا ندلكم على الأمر الذي سخّرت به لسليمان الريح والجن، ودانت له به الإنس؟ قالوا: بلى، فأتوا مصلاه وموضع كرسيه فاستخرجوا ذلك منه. فقال العلماء من بني إسرائيل: ما هذا من دين الله، وما كان سليمان ساحرًا، وقال سفلة الناس: سليمان كان أعلم منا فسنعمل بهذا كما عمل، فقال الله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان}. أي: اتبعت اليهود ما ترويه الشياطين. والتلاوة والرواية شيء واحد. ثم قال: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين} وهما ملكان أهبطا إلى الأرض حين عمل بنو آدم بالمعاصي ليقضيا بين الناس، وألقي في قلوبهما شهوة النساء وأمرا أن لا يزنيا، ولا يقتلا، ولا يشربا خمرًا، فجاءتْهما الزهرة تخاصم إليهما فأعجبتهما، فأراداها، فأبت عليهما حتى يعلماها الاسم الذى يصعدان به إلى السماء، فعلماها، ثم أراداها فأبت، حتى يشربا الخمر، فشرباها وقضيا حاجتهما، ثم خرجا فرأيا رجلاً فظنا أنه قد ظهر عليهما فقتلاه، وتكلّمت الزهرة بذلك الاسم فصعدت فخنست، وجعلها الله شهابًا، وغضب الله تعالى على الملكين فسماهما: هاروت وماروت، وخيّرهما بين عذاب الدنيا

وعذاب الاخرة، فاختارا عذاب الدنيا (¬1). فهما يعلمان الناس ما يفرّقون به بين المرء وزوجه، والذي أنزل الله عز وجل على الملكين فيما يرى أهل النظر -والله أعلم- هو الاسم الأعظم الذي صعدت به الزهرة. وكانا -قبلها وقبل السخط عليهما- يصعدان إلى السماء، فعلّمته الشياطين فهي تعلمه أولياءها وتعلمهم السحر. وقد يقال: إنّ الساحر يتكلم بكلام فيطير بين السماء والأرض ويطفوا على الماء. قال أبومحمد: حدثني زيد بن أخزم الطائي قال نا عبد الصمد قال نا همام عن يحيى بن كثير (¬2): أن عامل عمان كتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء فطفت، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: لسنا من الماء في شيء، إن قامت البينة وإلا فخلّ سبيلها. وحدثني زيد بن أخزم الطائي قال: نا عبد الصمد قال: نا زيد بن أبي ليلى (¬3) قال: نا عميرة بن شكير (¬4) قال: كنا مع سنان بن سلمة بالبحرين فأتي بساحرة فأمر بها فألقيت في الماء فطفت، فأمر بصلبها، فنحتنا جذعًا، فجاء زوجها كأنه سفود محترق، فقال: مرها فلتطلق عني. فقال لها: أطلقي ¬

(¬1) القصة لا تثبت، راجع "تفسير ابن كثير". (¬2) كذا في الأصل، والصواب: يحيى بن أبي كثير، كما في ترجمة همام بن يحيى العوذي من "تهذيب الكمال". (¬3) لم أقف له على ترجمة. (¬4) لم أقف له على ترجمة.

عنه. فقالت: نعم ائتوني بباب وغزل. فقعدت على الباب، وجعلت ترقى الغزل وتعقد، فارتفع الباب، فأخذا يمينًا وشمالاً فلم يقدر عليهما. وحدثنا أبوحاتم عن الأصمعي قال: أخبرني محمد بن سليم الطائي في حديث ذكره: إنّ الشياطين لا تستطيع أن تغيّر خلقها، ولكنها تسحره. وحدثني أبوحاتم قال: قال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء: إنّ الغول ساحرة الجن. وحدثنا أبوالخطاب قال: نا المعتمر بن سليمان قال: سمعت منصورًا يذكر عن ربعي بن حراش عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لأنا أعلم بما مع الدّجّال، إنّ معه نارًا تحْرق، ونهْر ماء بارد، فمن أدركه منكم فلا يهْلكنّ به، وليغمض عينيه وليقعْ في الّتي يراها نارًا، فإنّها نهْر ماء بارد)) (¬1). وحدثني أبوحاتم عن الأصمعي عن أبي الزناد قال: جاءت امرأة تستفتي فوجدت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد توفّي: ولم تجد إلا امرأة من نسائه يقال: إنّها عائشة رضي الله عنها فقالت لها: ياأم المؤمنين قالت لي امرأة: هل لك أن أعمل لك شيئًا يصرف وجه زوجك إليك؟ وأظنه قال: فأتت بكلبين، فركبت واحدًا وركبْت الآخر فسرنا ما شاء الله. ثم قالت: أتدرين أنك ببابل؟ ودخلت على رجل، أو قالت: رجلين فقالا لها بولي على ذلك الرماد، قالت: فذهبت فلم أبل، ورجعت إليهما، فقالا لي: ما رأيت؟ قالت: ما رأيت شيئًا، قالا: أنت على رأس أمرك. قالت: فرجعت، فتشددت، ثم ¬

(¬1) الحديث صحيح رجاله رجال الصحيح، إلا أبا الخطاب وهو زياد بن يحيى الحساني، كما في ترجمة المعتمر بن سليمان من "تهذيب الكمال", وقد قال الحافظ فيه: ثقة. والحديث أخرجه البخاري برقم (3450)، ومسلم برقم (7295).

بلت، فخرج مني مثل الفارس المقنع، فصعد في السماء فرجعت إليهما، فقالا: ما رأيت؟ فأخبرتهما. فقالا: ذلك إيمانك قد فارقك. فخرجت إلى المرأة فقلت: والله ما علماني شيئا، ولا قالا لي كيف أصنع. قالت: فما رأيت؟ قلت: كذا، قالت: أنت أسحر العرب، عملي وتمني. قالت: فقطعت جداول وقالت: احقل، فإذا هو زرع يهتز. فقالت: أفرك فإذا هو قد يبس. قالت: فأخذته ففركتْه وأعطتْنيه، فقالت: جشّي هذا واجعليه سويقًا وأسقيه زوجك فلم أفعل شيئًا من ذلك، وانتهى الشأن إلى هذا، فهل لي من توبة؟. قالت: ورأيت رجلاً من خزاعة كان يسكن أمج فقالت: يا أم المؤمنين هذا أشبه الناس بهاروت وماروت (¬1). قال أبومحمد: وقد روى هذا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها. قال أبومحمد: وهذا شيء لم نؤمن به من جهة القياس ولا من جهة حجة العقل، وإنما آمنا به من جهة الكتب وأخبار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وتواطؤ الأمم في كل زمان عليه خلا هذه العصابة التي لا تؤمن إلا بما أوجبه النظر، ودل عليه القياس فيما شاهدوا ورأوا. وأما قول الحسن: إنّهما علجان من أهل بابل وقراءته ((الملكين)) بالكسر فهذا شيء لم يوافقه أحد من القراء ولا المتأولين، فيما أعلم، وهو أشد استكراهًا وأبعد مخرجًا. وكيف يجوز أن ينْزل على علجين شيء يفرقان به ¬

(¬1) قد ذكرت في تخرج "تفسير ابن كثير" أن هذه القصة لا تثبت.

بين المرء وزوجه. اهـ (¬1) 2 - قال القاضي عياض رحمه الله في "الشفاء" (ج2 ص160) (فصل): فإن قلت قد جاءت الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحر كما حدثنا الشيخ أبومحمد العتابي بقراءتي عليه، قال نا حاتم بن محمد نا أبوالحسن علي بن خلف نا محمد بن أحمد نا محمد بن يوسف نا البخاري نا عبيد بن إسماعيل نا أبوأسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتّى أنّه ليخيّل إليه أنّه فعل الشّيء وما فعله. وفي رواية أخرى: حتى كأن يخيل إليه أنه كان يأتي النساء ولا يأتيهن الحديث. وإذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور، فكيف حال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذلك، وكيف جاز عليه وهو معصوم، فاعلم وفقنا الله وإياك أنّ هذا الحديث صحيح، متفق عليه، وقد طعنت فيه الملحدة وتذرّعت به لسخف عقولها وتلبيسها على أمثالها، إلى التشكيك في الشرع، وقد نزّه الله الشرع والنبي عما يدخل في أمره لبسًا، وإنما السحر مرض من الأمراض وعارض من العلل يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته. وأما ماورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح في صدقه لقيام الدليل، والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في ¬

(¬1) أبومحمد بن قتيبة رحمه الله، دافع عن السنة بحسب معرفته، والظاهر أنه قليل البضاعة في الحديث، وقد مرّت بي أحاديث في أثناء كلامه لم أتمكن من البحث عنها، فلا يعتمد عليه في ثبوتها، يسر الله لكتابه من يحققه ويخرّج أحاديثه ويحكم عليها، حتى تتم الفائدة.

أمر دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فضّل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها مالا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان، وأيضًا فقد فسر هذا الفصل الحديث الآخر من قوله حتى يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن، وقد قال سفيان: هذا أشدّ مايكون من السحر، ولم يأت فى خبر منها أنه نقل عنه في ذلك قول بخلاف ماكان أخبر أنه فعله ولم يفعله، وإنما كانت خواطر وتخيلات، وقد قيل: إن المراد بالحديث أنه كان يتخيل الشيء أنه فعله وما فعله، لكنه تخييل لا يعتقد صحته، فتكون اعتقاداته كلها على السداد، وأقواله على الصحة، هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث مع ما أوضحنا من معنى كلامهم وزدناه بيانًا من تلويحاتهم، وكل وجه منها مقنع لكنه قد ظهر لي في الحديث تأويل أجلى وأبعد من مطاعن ذوي الأضاليل، يستفاد من نفس الحديث، وهو أن عبد الرزاق (¬1) قد روى هذا الحديث عن ابن المسيب وعروة بن الزبير وقال فيه عنهما: سحر يهود بني زريق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجعلوه في بئر حتّى كاد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن ينكر بصره ثمّ دلّه الله على ما صنعوا فاستخرجه من البئر. وروي نحوه عن الواقدي (¬2) وعن عبد الرحمن بن كعب (¬3) وعمر بن ¬

(¬1) عبد الرزاق في "المصنف" (ج11 ص14) وهو مرسل، والمرسل من قسم الضعيف، ومن رواية معمر عن الزهري وفيها ضعف. (¬2) كما في "الطبقات" (ج1 ص197) والواقدي كذاب. (¬3) نفس المصدر من طريق الواقدي.

الحكم (¬1) وذكر عن عطاء الخراساني عن يحيى بن يعمر (¬2): حبس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن عائشة سنةً فبينا هو نائم أتاه ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ... الحديث. قال عبد الرزاق: حبس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن عائشة خاصّةً سنةً حتّى أنكر بصره. (¬3) وروى محمد بن سعد (¬4) عن ابن عباس: مرض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فحبس عن النّساء والطّعام والشّراب فهبط عليه ملكان. وذكر القصة. فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره وجوارحه لا على قلبه واعتقاده وعقله، وأنّه إنما أثّر في بصره وحبسه عن وطء نسائه وطعامه، وأضعف جسمه وأمرضه. ويكون معنى قوله: (يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن)، أي: يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة على النساء فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر فلم يقدر على إتيانهن كما يعتري من أخذ واعترض، ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله: وهذا أشد ما يكون من السحر، ويكون قول عائشة في ¬

(¬1) نفس المصدر من طريق الواقدي. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (ج14 ص14) وهو مرسل، من مراسيل يحيى بن يعمر، ومن طريق عطاء بن أبي مسلم الخراساني، صدوق يهم كثيرًا ويرسل ويدلس. (¬3) في "المصنف" (ج11 ص13) وهو من مراسيل يحيى بن يعمر وسعيد بن المسيب كما تقدم. (¬4) في "الطبقات" (ج2 ص198) والحديث ضعيف جدًا، سبق تخريجه والحكم عليه في حاشية ص (99).

الرواية الأخرى: إنّه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله، من باب ما اختل من بصره، كما ذكر في الحديث، فيظن أنه رأى شخصًا من بعض أزواجه أو شاهد فعلاً من غيره، ولم يكن على ما يخيل إليه لما أصابه في بصره وضعف نظره، لا لشيء طرأ عليه في ميزه، وإذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابة السحر له وتأثيره فيه ما يدخل لبسًا ولا يجد به الملحد المعترض أنسًا. اهكلامه رحمه الله. 3 - وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (ج10 ص226): قال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، إذ يحتمل على هذا أنه يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء. قال المازري: وهذا كله مردود، لأن الدليل على صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين. قال: وقد قال بعض الناس إن المراد بالحديث أنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن، وهذا كثيًرا ما يقع تخيله للإنسان في المنام، فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة. قلت: وهذا قد ورد صريحًا في رواية ابن عيينة في الباب الذى يلي هذا

ولفظه: (حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن) وفي رواية الحميدي: (أنه يأتي أهله ولا يأتيهم). قال الداودي: يرى بضم أوله، أي: يظن، وقال ابن التين: ضبطت يرى بفتح أوله. قلت: وهو من الرأي لا من الرؤية، فيرجع إلى معنى الظن، وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق: سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره. وعنده في مرسل سعيد بن المسيب: حتّى كاد ينكر بصره. قال عياض: فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على تمييزه ومعتقده. قلت: ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد (¬1): فقالت أخت لبيد بن الأعصم: أن يكن نبيًا فسيخبر، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله. قلت: فوقع الشق الأول، كما في هذا الحديث الصحيح، وقد قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت فلا يبقى على هذا للملحد حجة. وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك، كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الأخرى: حتى ¬

(¬1) (ج1 ص197) من طريق محمد بن عمر الواقدي وهو كذاب.

كاد ينكر بصره، أي: صار كالذي أنكر بصره بحيث أنه إذا رأى الشيء يخيل إليه أنه على غير صفته، فإذا تأمّله عرف حقيقته، ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به. وقال المهلب: صون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده فقد مضى في الصحيح: أنّ شيطانًا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه. فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصًا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام أو عجز عن بعض الفعل أو حدوث تخيل لا يستمر بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين. واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: ((أما أنا فقد شفاني الله)). وفي الاستدلال بذلك نظر، لكن يؤيد المدعى أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في "الدلائل" فكان يدور ولا يدري ما وجعه، وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد (¬1): مرض النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخذ عن النّساء والطّعام والشّراب فهبط عليه ملكان. الحديث. 4 - قال عبد الرحمن المعلمي في "الأنوار الكاشفة" ص (249): وذكر (يعني أبا رية) كلامًا للشيخ محمد عبده في حديث: أنّ يهوديًا سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أقول: النظر في هذا في مقامات: المقام الأول: ملخص الحديث أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في فترة من عمره ناله مرض ¬

(¬1) في "الطبقات" (ج2 ص198) والحديث ضعيف جدًا، سبق تخريجه والحكم عليه في حاشية ص (99).

خفيف، ذكرت عائشة أشد أعراضه بقولها: (حتى كان يرى أنه يأتي أهله ولا يأتيهم) وفي رواية: (حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن). وفي أخرى: (يخيل إليه كان يفعل الشيء وما فعله). والرواية الأولى فيما يظهر أصح الروايات، فالأخريان محمولتان عليها. وفي "فتح الباري" (ج10 ص193): قال بعض العلماء: (لا يلزم من أنه يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، أن يجزم بفعله ذلك وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت). أقول: وفي سياق الحديث ما يشهد لهذا، فإن فيه شعوره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك المرض ودعاءه ربه أن يشفيه. فالذي يتحقق دلالة الخبر عليه أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في تلك الفترة يعرض له خاطر أنه قد جاء إلى عائشة وهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم عالم أنه لم يجئها، ولكنه كان يعاوده ذاك الخاطر على خلاف عادته، فتأذّى صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ذلك، وليس في حمل الحديث على هذا تعسف ولا تكلف. المقام الثاني: في الحديث عن عائشة: حتّى إذا كان ذات يوم وهو عندي، لكنّه دعا ودعا، ثمّ قال: ((يا عائشة أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان)). (أي: ملكان -كما في رواية أخرى- في صورة رجلين) ... فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرّجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أيّ شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان)) فأتاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ناس من أصحابه، فجاء، قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: ((قد عافاني الله، فكرهت أن أثير على النّاس شرًّا فأمرت بها فدفنت)).

ومحصل هذا أن لبيد أراد إلحاق ضرر بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعمل عملاً في مشط ومشاطة، الخ. فهل من شأن ذلك أن يؤثر، قد يقال: لا ولكن إذا شاء الله تعالى خلق الأثر عقبه والأقرب أن يقال: نعم بإذن الله، والإذن هنا خاص. وبيانه أن الأفعال التى من شأنها أن تؤثر ضربان: الأول: ما أذن الله تعالى بتأثيره إذنًا مطلقًا ثم إذا شاء منعه، وذلك كالاتصال بالنار مأذون فيه بالإحراق إذنًا مطلقًا قلما أراد الله تعالى منعه، قال: {يانار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم}. الضرب الثاني: ما هو ممنوع من التأثير منعًا مطلقًا، فإذا اقتضت الحكمة أن يمكّن من التأثير رفع المنع فيؤثر، وقوله تعالى في السحر: {وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله} يدل أنه من الضرب الثاني وأن المراد بالإذن، الإذن الخاص، والحكمة في مصلحة الناس تقتضى هذا، والواقع في شئونهم يشهد له، وإذا كان هذا حاله فلا غرابة في خفاء وجه التأثير علينا. المقام الثالث: النظر في كلام الشيخ محمد عبده وفيه ثلاث قضايا: القضية الأولى: قال: (فعلى صحته هو آحاد والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد). أقول: أما صحته فثابتة بإثبات أئمة الحديث لها فإن أراد الصحة فى نفس الأمر فهب أنا لا نقطع بها ولكنا نظنها ظنًا غالبًا، وعلى كلا الحالتين فواضعو تلك القاعدة لا ينكرون أنه يفيد الظن، ومن أنكر ذلك فهو مكابر، وإذا أفاد الظن فلا مفر من الظن وما يترتب على الظن، فلم يبق إلا أنه لا يفيد القطع، وهذا حق في كل دليل لا يفيد إلا الظن. القضية الثانية: أنّه مناف للعصمة في التبليغ، قال: فإنه قد خالط عقله

وإدراكه في زعمهم، فإنه إذا خولط في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئًا وهو لم يبلغه أو أنّ شيئًا ينْزل عليه وهو لم ينْزل عليه. أقول: أما المتحقق من معنى الحديث كما قدمنا في المقام الأول، فليس فيه ما يصح أن يعبر عنه بقولك: خولط في عقله. وإنما ذاك خاطر عابر ولو فرض أنه بلغ الظن فهو في أمر خاص من أمور الدنيا، لم يتعده إلى سائر أمور الدنيا فضلاً عن أمور الدين، ولا يلزم من حدوثه في ذاك الأمر جوازه في ما يتعلق بالتبليغ بل سبيله سبيل ظنه أن النخل لا يحتاج إلى التأبير، وظنه بعد أن صلى ركعتين أنه صلى أربعًا وغير ذلك من قضايا السهو في الصلاة، وراجع ص (18 - 19) وفي القرآن ذكر غضب موسى على أخيه هارون وأخذه برأسه لظنه أنه قصر، مع أنه لم يقصر، وفيه قول يعقوب لبنيه لما ذكروا له ما جرى لابنه الثاني: {بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا (¬1)} يتهمهم بتدبير مكيدة مع أنّهم كانوا حينئذ أبرياء صادقين. وقد يكون من هذا بعض كلمات موسى للخضر. وانظر قوله تعالى في يونس: {فظنّ أن لن نقدر عليه (¬2)}. القضية الثالثة: الحديث مخالف للقرآن في نفيه السحر عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعده من افتراء المشركين عليه، مع أن الذي قصده المشركون ظاهر لأنّهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه السلام، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم، وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي ينسب إلى لبيد ... وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 18،83. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 87.

السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبّخهم على زعمهم هذا، فإذًا هو ليس بمسحور قطعًا. أقول: كان المشركون يعلمون أنه لا مساغ لأن يزعموا أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفتري -أي: يتعمّد- الكذب على الله عز وجل فيما يخبر به عنه، ولا لأنه يكذب في ذلك مع كثرته غير عامد فلجأوا إلى محاولة تقريب هذا الثاني بزعم أنه له اتصال بالجن، وأن الجن يلقون إليه ما يلقون فيصدقهم ويخبر الناس بما ألقوه إليه، هذا مدار شبهتهم وهو مرادهم بقولهم: به جنّة. مجنون، كاهن، ساحر، مسحور، شاعر، كانوا يزعمون أنّ للشعراء قرناء من الجن تلقي إليهم الشعر، فزعموا أنه شاعر، أي: أنّ الجن تلقي إليه كما تلقي إلى الشعراء ولم يقصدوا أنه يقول الشعر، أو أنّ القرآن شعر. إذا عرف هذا فالمشركون أرادوا بقولهم: {إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا} أنّ أمر النبوة كله سحر، وأن ذلك ناشئ عن الشياطين استولوا عليه -بزعمهم- يلقون إليه القرآن ويأمرونه وينهونه، فيصدقهم في ذلك كله ظانًا أنه أنما يتلقى من الله وملائكته، ولا ريب أن الحال التي ذكر في الحديث عروضها له صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفترة خاصة ليست هي هذه التي زعمها المشركون ولا هي من قبيلها في شيء من الأوصاف المذكورة، إذن تكذيب القرآن وما زعمه المشركون لا يصح أن يؤخذ منه نفيه لما في الحديث. فإن قيل: قد أطلق على تلك الحالة أنه سحر ففي الحديث عن عائشة سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل ... والسحر من الشياطين، وقد قال الله تعالى للشيطان: {إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان}. قلت: أما الذى أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الملك فإنما سماها طبًا كما مر في

وللشيخ الفاضل أحمد شاكر رحمه الله كلام حسن

الحديث، وقد أنشد ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (ج3 ص408): فإن كنت مطبوبًا فلا زلت هكذا ... وإن كنت مسحورًا فلا برأ للسحر وأقل ما يدل عليه هذا أن الطب أخص من السحر، وأنّ من الأنواع التي يصاب بها الإنسان ويطلق عليها سحرًا ما يقال له: طب. وما لا يقال طب، وعلى كل حال فالذي ذكر في الحديث ليس من نوع ما زعمه المشركون ولا هو من ملابسة الشيطان، وإنما هو أثر نفس الساحر وفعله، وقد قدمت أن وقوع أثر ذلك نادر، فلا غرابة في خفاء تفسيره وهذا يغني عما تقدم. اهـ 5 - ابن مفلح في "الآداب الشرعية" كما تقدم. 6 - والخطابي كما تقدم وكما في "شرح السنة للبغوي" (ج6 ص279). * * * وللشيخ الفاضل أحمد شاكر رحمه الله كلام حسن في توجعه من بعض معاصريه في تهجّمه على كتب السنة بالهوى، قال رحمه الله في الكلام على حديث أبي هريرة: ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم)) (ج12 ص124) من تحقيق المسند: وهذا الحديث مما لعب فيه بعض معاصرينا ممن علم وأخطأ وممن علم وعمد إلى عداء السنة وممن جهل وتجرّأ. فمنهم من حمل على أبي هريرة وطعن في روايته وحفظه، بل منهم من جرؤ على الطعن في صدقه فيما يروي حتى غلا بعضهم فزعم أن في الصحيحين أحاديث غير صحيحة، إن لم يزعم أنّها لا أصل لها، بما رأوا من شبهات في نقد بعض الأئمة لأسانيد قليلة فيهما، فلم يفهموا اعتراض

أولئك المتقدمين الذين أرادوا بنقدهم أنّ بعض أسانيدهما خارجة عن الدرجة العليا من الصحة التى التزمها الشيخان لم يريدوا أنّها أحاديث ضعيفة قط. ومن الغريب أن هذا الحديث بعينه -حديث الذباب- لم يكن مما إستدركه أحد من أئمة الحديث على البخاري، بل هو عندهم جميعًا مما جاء على شرطه في أعلى درجات الصحة. ومن الغريب أيضًا أنّ هؤلاء الذين حملوا على أبي هريرة على علم كثير منهم بالسنة وسعة اطلاعهم رحمهم الله، غفلوا أو تغافلوا عن أنّ أبا هريرة رضى الله عنه لم ينفرد بروايته بل رواه أبوسعيد الخدري أيضًا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند أحمد في "المسند" (11207،11666) والنسائي (ج2 ص193) وابن ماجة (ج2 ص185) والبيهقي (ج1 ص253) بأسانيد صحاح، ورواه أنس بن مالك أيضًا، كما ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج5 ص 38) وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في "الأوسط" وذكره الحافظ في "الفتح" (ج10 ص213) وقال: أخرجه البزار ورجاله ثقات. فأبوهريرة لم ينفرد برواية هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكنه انفرد بالحمل عليه منهم بما غفلوا أنه رواه اثنان غيره من الصحابة. والحق أنه لم يعجبهم هذا الحديث لما وقر في نفوسهم من أنه ينافي المكتشفات الحديثة من المكروبات ونحوها، وعصمهم إيمانهم عن أن يجرؤا على المقام الأسمى فاستضعفوا أباهريرة. والحق أيضًا أنّهم آمنوا بهذه المكتشفات الحديثة أكثر من إيمانهم بالغيب

ولكنهم لا يصرحون ثم اختطوا لأنفسهم خطةً عجيبةً: أن يقدموها على كل شيء وأن يؤلوا القرآن بما يخرجه عن معنى الكلام العربي إذا ما خالف ما يسمونه (الحقائق العلمية) وأن يردوا من السنة الصحيحة ما يظنون أنه يخالف حقائقهم هذه، افتراءً على الله وحبًا في التجديد، بل إن منهم لمن يؤمن ببعض خرافات الأوربيين، وينكر حقائق الإسلام أو يتأولها، فمنهم من يؤمن بخرافات استحضار الأرواح، وينكر وجود الملائكة والجن بالتأول العصري الحديث، ومنهم من يؤمن بأساطير القدماء وما ينسب إلى القديسين والقديسات، ثم ينكر معجزات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلها، ويتأول ما ورد في الكتاب والسنة من معجزات الأنبياء السابقين يخرجونها عن معنى الإعجاز كله وهكذا وهكذا .. وفي عصرنا هذا صديق لنا كاتب قدير أديب جيد الأداء، واسع الأطلاع، كنا نعجب بقلمه وعلمه واطلاعه، ثم بدت منه هنات وهنات على صفحات الجرائد والمجلات في الطعن على السنة والازراء برواتها من الصحابة فمن بعدهم، يستمسك بكلمات للمتقدمين فى أسانيد معينة يجعلها -كما يصنع المستشرقون- قواعد عامة يوسع من مداها ويخرج بها عن حدها الذي أراده قائلوها، وكانت بيننا في ذلك مساجلات شفوية ومكاتبات خاصة، حرصًا مني على دينه وعلى عقيدته. ثم كتب في إحدى المجلات -منذ أكثر من عامين- كلمةً على طريقته التي ازداد فيها إمعانًا وغلوًا، فكتبت له كتابًا طويلاً في شهر جمادى الأولى سنة (1370) كان مما قلت له فيه من غير أن أسميه هنا، أو أسمي المجلة التى كتب فيها قلت له: وقد قرأت لك منذ أسبوعين تقريبًا كلمة في مجلة ... لم

تدع فيها ما وقر في قلبك من الطعن في روايات الحديث الصحيحة، ولست أزعم أني أستطيع إقناعك أو أرضي إحراجك بالإقلاع عما أنت فيه. وليتك -يا أخي- درست علوم الحديث وطرق روايته، دراسةً وافيةً غير متأثر بسخافات (فلان) رحمه الله وأمثاله، ممن قلدهم وممن قلدوه، فأنت تبحث وتنقّب على ضوء شيء استقر في قلبك من قبل، لا بحثًا حرًا خاليًا من الهوى، وثق أني لك ناصح أمين، لا يهمني ولا يغضبني أن تقول في السنة ما تشاء فقد قرأت من مثل كلامك أضعاف ما قرأت، ولكنك تضرب الكلام بعضه ببعض، وثق -يا أخي- أن المستشرقين فعلوا مثل ذلك في السنة، فقلت مثل قولهم وأعجبك رأيهم، إذ صادف منك هوىً، ولكنك نسيت أنّهم فعلوا مثل ذلك وأكثر منه في القرآن نفسه، فما ضار القرآن ولا السنة شيء مما فعلوا، وقبلهم قام المعتزلة وكثير من أهل الرأي والأهواء، ففعلوا بعض هذا أو كله، فما زادت السنة إلا ثبوتًا كثبوت الجبال، وأتعب هؤلاء رؤوسهم وحدها وأوهموها، بل لم نر فيمن تقدّمنا من أهل العلم من اجترأ على ادعاء أن في الصحيحين أحاديث موضوعة فضلاً عن الإيهام والتشنيع الذى يطويه كلامك، فيوهم الأغرار أن أكثر ما في السنة موضوع، هذا كلام المستشرقين، غاية ما تكلم فيه العلماء نقد أحاديث فيهما بأعيانها لا بادّعاء وضعها والعياذ بالله، ولا بادّعاء ضعفها، إنما نقدوا عليهما أحاديث ظنوا أنّها لا تبلغ في الصحة الذروة العليا التي التزمها كل منهما. وهذا مما أخطاء فيه كثير من الناس، ومنهم أستاذنا السيد رشيد رضا رحمه الله، على علمه بالسنة وفقهه، ولم يستطع قط أن يقيم حجته على ما

يرى، وأفلتت منه كلمات يسمو على علمه أن يقع فيها، ولكنه كان متأثرًا أشد الأثر بجمال الدين ومحمد عبده وهما لا يعرفان في الحديث شيئًا، بل كان هو بعد ذلك أعلم منهما وأعلى قدمًا وأثبت رأيًا، لولا الأثر الباقي في دخيلة نفسه، والله يغفر لنا وله. وما أفضت لك في هذا إلا خشيةً عليك من حساب الله، أما الناس في هذا العصر فلا حساب لهم، ولا يقدّمون في ذلك ولا يؤخرون، فإن التربية الإفرنجية الملعونة جعلتهم لا يرضون القرآن إلا على مضض، فمنهم من يصرح، ومنهمم من يتأول القرآن والسنة ليرضي عقله الملتوي، لا ليحفظهما من طعن الطاعنين فهم على الحقيقة لا يؤمنون ويخشون أن يصرحوا فيلتوون وهكذا هم، حتى يأتي الله بأمره، فاحذر لنفسك من حساب الله يوم القيامة، وقد نصحتك وما آلوت والحمد لله. وأما الجاهلون الأجرياء فإنّهم كثر في هذا العصر، ومن أعجب ما رأيت من سخافاتهم وجرأتهم أن يكتب طبيب في إحدى المجلات الطبية فلا يرى إلا أن هذا الحديث لم يعجبه، وأنه ينافي علمه، وأنه رواه مؤلف اسمه البخاري، فلا يجد مجالاً إلا الطعن في هذا البخاري ورميه بالافتراء والكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وهو لا يعرف عن البخاري هذا شيئًا، بل لا أظنه يعرف اسمه ولا عصره ولا كتابه، إلا أنه روى شيئًا يراه هو بعلمه الواسع غير صحيح فافترى عليه ما شاء، مما سيحاسب عليه بين يدي الله حسابًا عسيرًا. ولم يكن هؤلاء المعترضون المجترئون أول من تكلم في هذا، بل سبقهم من أمثالهم الأقدمون، ولكن أولئك كانوا أكثر أدبًا من هؤلاء. فقال

الخطابي في "معالم السنن" رقم (3695) من "تهذيب السنن": وقد تكلم في هذا الحديث بعض من لا خلاق له. وقال: كيف يكون هذا؟ وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة، وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء وتؤخر جناح الشفاء وما أربها في ذلك. قلت: (القائل الخطابي): وهذا سؤال جاهل أو متجاهل، وإن الذى يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت، ثم يرى أن الله سبحانه قد ألّف بينها وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان التى بها بقاؤها وصلاحها لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والشفاء في جزءين من حيوان واحد، وأن الذى ألهم النحلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة وأن تعسل فيه وألهم الذرة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه، هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحًا وتؤخر جناحًا لما أراد الله من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد، والامتحان الذي هو مضمار التكليف، وفي كل شيء عبرة وحكمة وما يذّكر إلا أولوا الألباب. وأما المعنى الطبي فقال ابن القيم -في شأن الطب القديم- في "زاد المعاد" (ج3 ص210 - 211): واعلم أن في الذباب قوة سمية، يدل عليها الورم والحكة العارضة من لسعه، وهى بمنْزلة السلاح فإذا سقط فيما يؤذية اتقاه بسلاحه فأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله في جناحه الآخر من الشفاء، فيغمس كله في الماء والطعام، فيقابل المادة السمية بالمادة النافعة، فيزول ضررها، وهذا طب لا يهتدى إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارج من مشكاة النبوة، ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع

لهذا إلعلاج ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية. وأقول -في شأن الطب الحديث- إن الناس كانوا ولا يزالون تقذر أنفسهم الذباب، وتنفر مما وقع فيه من طعام أو شراب، ولا يكادون يرضون قربانه، وفي هذا من الإسراف -إذا غلا الناس فيه- شيء كثير ولا يزال الذباب يلح على الناس في طعامهم وشرابهم، وفي نومهم ويقظتهم، وفي شأنهم كله، وقد كشف الأطباء والباحثون عن المكروبات الضارة والنافعة وغلو غلوًا شديدًا في بيان ما يحمل الذباب من مكروبات ضارة، حتى لقد كادوا يفسدون على الناس حياتهم لو أطاعوهم طاعة حرفيّة تامة، وإنا لنرى بالعيان أن أكثر الناس تأكل مما سقط عليه الذباب، وتشرب فلا يصيبهم شيء إلا في القليل النادر، ومن كابر في هذا فإنما يخدع الناس ويخدع نفسه، وإنا لنرى أيضًا أن ضرر الذباب شديد حين يقع الوباء العام لا يماري في ذلك أحد، فهناك إذن حالان ظاهرتان بينهما فروق كبيرة، أما حال الوباء فمما لاشك فيه أن الاحتياط فيها يدعو إلى التحرز من الذباب وأضرابه مما ينقل المكروب أشد التحرز، وأما إذا عدم الوباء وكانت الحياة تجري على سننها فلا معنى لهذا التحرز، والمشاهدة تنفي ما غلا فيه من إفساد كل طعام أو شراب وقع عليه الذباب، ومن كابر في هذا فانما يجادل بالقول لا بالعمل، ويطيع داعي الترف والتأنّق وما أظنه يطبّق ما يدعو إليه تطبيقًا دقيقًا، وكثير منهم يقولون ما لا يفعلون. اهـ

مسألة

مسألة وتعلم السحر كفر قال الله تعالى: واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحد حتّى يقولا إنّما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون. وقال البخاري رحمه الله (ج5 ص393): حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثنا سليمان بن بلال عن ثور بن زيد المدني عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((اجتنبوا السّبْع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: ((الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلا بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّولّي يوم الزّحْف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)). والحديث ليس صريحًا في أنّ متعلّم السحر كافر، وتكفي الآية، ويستأنس بالحديث معها. والله أعلم.

الخاتمة

الخاتمة قد عرضت عليك بعض ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر، وعرضت بعض آراء محمد رشيد رضا المنحرفة، وكشفت لك عن تلبيس تستّره بالسلفية، وما لم أذكره أكثر، فهو يشكّك في حديث رجوع الشمس من مغربها، وهو يقول: إن ذكر القرآن بعض الخوارق، هو الذي صد أحرار الإفرنج عن الإسلام. ذكر هذا صاحب "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" فواحدة مما ذكرت توجب ضلاله وانحرافه، نعوذ بالله من عمى البصيرة. وإن تشهيرنا بضلال محمد رشيد رضا المتستّر بالسلفيّة، ليدل على أن أهل السنة ليس لديهم محاباة، وهذا بخلاف جهلة الإخوإن المسلمين الذين يدندنون بقول من قال: نتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضًا فيما أختلفنا فيه. وقوله: وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، باطل، لأنّ من المختلف ما لا يجوز أن يعذر عليه صاحبه، كما هو معلوم من الشرع. وبخلاف أيضًا الحزب الشيوعي والبعثي، فإنّ من تظاهر بالكفر والإلحاد والطعن في الإسلام، رفعوا شأنه، وتحدثت عنه وسائل الإعلام، وإن كان لا يساوي بعرة، ولكن يأبى الله إلا أن يهين أعداءه ويذلهم ومن يهن الله فما له من مكرم. والحمد لله قد باء أعداء السنة بالفشل، وباء الملاحدة بالخزي والذل، وأصبحت السنة هي السائدة فى اليمن، والفضل في هذا لله وحده. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

§1/1