رحمة للعالمين

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة

[المقدمة] المقدمة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه، وسَلَّم تسليمًا كثيرًا، أَمَّا بعد: فلقد أرسل الله عَزَّ وجَلَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فهو رحمة للإنس، والجن، مؤمنهم وكافرهم؛ يدعوهم إلى الله؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، قال الله تعالى له: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا

بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]، فهو صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وحجة على خلقه أجمعين، وهو مِنَّةٌ من الله تعالى على المؤمنين، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وعن أبي نضرة قال: «حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وسط أيام التشريق فقال: يا أيها الناس إنَّ ربَّكُم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود،

ولا لأسود على أحمر إلا بالتَّقوى» (¬1). وهذا فيه الدلالة الواضحة على أنه لا فرق بين الناس إلا بالتقوى، فكلما كان الإنسان لله أتقى فهو أفضل، من أي الأجناس أو الألوان كان. وقد مَنَّ الله تعالى على هذا النبي الكريم بمكارم الأخلاق كلِّها؛ فإنه لا يُحصى من دخل في الإسلام بسبب خُلُقه الكريم صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك الخُلُق الحسن الكريم: من جوده، أو كرمِهِ، أو عفوهِ، أو صفحِهِ، أو حلمِهِ، أو أناتِهِ، أو رفقِهِ، أو صبرِهِ، أو تواضُعِهِ، أو عدلِهِ، أو رحمتِهِ، أو منِّهِ، أو شجاعته وقوَّتِهِ، أو غير ذلك من مكارم الأخلاق. ومن تتبَّع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجد أنه كان يلازم الخُلُق الحسن في سائر أحواله، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجًا، بفضل الله ثم بفضل حُسْنِ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم، فكم دخل في الإسلام بسبب حُسْنِ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) مسند أحمد بترتيب البناء، 12/ 226، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 3/ 266: ((رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح)).

فهذا ثُمامةُ بن أُثال يُسلِمُ بسبب عفو النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: (والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهِكَ، فقد أصبح وجهُك أحب الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إليَّ من دينك، وقد أصبحَ دينُك أحبَّ الأديانِ كلِّها إليَّ، والله ما كان على وجه الأرض بلادٌ أبغض إليَّ من بلادك، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلِّها إليَّ) (¬1). وهذا أعرابي يقول: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا؛ لأنه تأثر بعفو النبي صلى الله عليه وسلم عندما بال هذا الأعرابي في المسجد، ولم يتركه على تحجيرهِ رحمة الله التي وسعت كل شيء؛ بل قال له ناصحًا ومُعلِّمًا صلى الله عليه وسلم: «لقد حجَّرتَ واسعًا» (¬2). وذاك معاوية بن الحكم يرفق به النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه، فيقول: (فبأبي هو وأمي ما رأيتُ مُعلِّمًا قبله ولا بعده أحسن ¬

(¬1) البخاري، برقم 4372، ومسلم 1764. (¬2) البخاري، برقم 6010.

تعليمًا منه، والله ما كهرني، ولا ضربني ولا شتمني) (¬1) «وأعطى صلى الله عليه وسلم رجلًا غنمًا بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قومي أسلموا؛ فإن محمدًا يُعطي عطاءً لا يخشى الفاقة» (¬2). «وهذا صفوان ابن أمية من صناديد قريش الكفرة يعطيه النبي صلى الله عليه وسلم مائة من الغنم ثم مائة، ثم مائة، فيقول صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما بَرِحَ يُعطيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليَّ». وهذا سبب إسلام صفوان (¬3). ومُشركٌ كافرٌ آخرُ يُريدُ قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف فيعصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم منه ويعفو عنه النبي صلى الله عليه وسلم (¬4) فيرجع إلى قومه ويُسلم، ويدعوهم إلى الإسلام فأسلم ¬

(¬1) مسلم، برقم 537. (¬2) مسلم، برقم 2312. (¬3) مسلم، برقم 2313. (¬4) البخاري مع الفتح، 6/ 96، 97، برقم 2910، ومسلم، 4/ 1786، برقم 843.

من قومه على يديه خَلْقٌ كثير (¬1). «وهذا عبد الله بن سلام اليهودي الحبر العالم من علماء اليهود يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند قدومه إلى المدينة يقول عبد الله رضي الله عنه: فجئتُ في الناس لأنظر، فلما تبيَّنْتُ وجهَهُ عَرفْتُ أن وجهه ليس بوجه كذَّاب، فكان أوَّل شيء سمعته يقول: يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعِمُوا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام» (¬2). وهذا زيد بن سعية اليهودي يختبر النبي صلى الله عليه وسلم فيعفو عنه النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر عمر أن يعطيه عطاءً، فيقول زيد اليهودي الحبر: " ما من علامات النبوة شيءٌ إلا وقد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرتُ إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمُهُ جهله، ولا تزيده شدَّةُ الجهل إلا حلمًا، وقد اختبرتهما فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر، 7/ 428، وشرح النووي، 15/ 44. (¬2) الترمذي، برقم 2485، وابن ماجه، برقم 3251، وانظر: صحيح الترمذي 2/ 303.

وبمحمد نبيًّا، وأشهدك أنَّ شطر مالي صدقة على أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم " (¬1). وهذا يهودي آخر يقول عند الموت: والذي أنزل التوراة إنَّا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنَّك رسول الله (¬2). وهذا ملك النصارى النجاشي في الحبشة عندما سمع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: إن عيسى عبد الله ورسوله فقال لوفد النبي صلى الله عليه وسلم: مرحبًا بكم، وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بَشَّرَ به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أُقَبِّلَ نعله (¬3). وهذا هرقل عظيم الروم النصراني، يقول لأبي سفيان حينما قال له: «إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدر، وأنه يأمر بعبادة الله وحده، وعدم الشرك به، وينهى عن عبادة الأوثان، ويأمر بالصلاة، والصدق، والعفاف، قال هرقل لأبي سفيان: فإن ¬

(¬1) الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1/ 566. (¬2) أحمد، 5/ 411، وقوَّاه ابن كثير في تفسيره، 2/ 252. (¬3) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 1/ 438.

كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كُنتُ أعلم أنه خارج لم أكن أظنُّ أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشَّمْتُ لقاءَهُ، ولو كُنتُ عنده لغسلت عن قدمه» (¬1). وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وصدق النبي الكريم إذ يقول: «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّم مكارم الأخلاق» (¬2). «وسُئِلَتْ عائشةُ رضي الله عنها عن خُلُق النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن» (¬3). ولأهمية معرفة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، التي هي الأصل الثاني من الأصول الثلاثة، التي يجب على كل مسلم ومسلمة تعلُّمها والعمل بها، ويُسأل عنها في قبره، كتبت هذا المختصر، وسَمَّيتُهُ: (رحمةٌ للعالمين: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وبيَّنت فيه: نسبه صلى الله عليه وسلم، ونشأته، وأخلاقه، وصفاته: الخَلْقِيَّة؛ ¬

(¬1) البخاري، برقم 7. (¬2) البيهقي، 10/ 192، وأحمد، 2/ 381، وانظر: الصحيحة للألباني برقم 45. (¬3) مسلم، برقم 746.

والخُلُقيَّة، ومُعجزاته، وعموم رسالته، ووصاياه لأمته، وحقوقه على أمته صلى الله عليه وسلم، وقد قسَّمت البحث إلى المباحث الآتية: المبحث الأول: خيار من خيار "نسبه صلى الله عليه وسلم". المبحث الثاني: نشأته صلى الله عليه وسلم. المبحث الثالث: صفاته: الخَلْقيَّة، والخُلُقيَّة صلى الله عليه وسلم. المبحث الرابع: اجتهاده في عبادته وجهاده صلى الله عليه وسلم. المبحث الخامس: النبي الكريم صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. المبحث السادس: تلطفه صلى الله عليه وسلم مع الأطفال ومداعبتهم وإدخال السرور عليهم. المبحث السابع: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم. المبحث الثامن: جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم. المبحث التاسع: عدله صلى الله عليه وسلم. المبحث العاشر: تواضعه صلى الله عليه وسلم. المبحث الحادي عشر: حلمه وعفوه صلى الله عليه وسلم. المبحث الثاني عشر: أناته وتثبته صلى الله عليه وسلم. المبحث الثالث عشر: رفقه ولينه صلى الله عليه وسلم. المبحث الرابع عشر: صبره الجميل صلى الله عليه وسلم.

المبحث الخامس عشر: شجاعته صلى الله عليه وسلم. المبحث السادس عشر: حكمته صلى الله عليه وسلم في الإصلاح وجمع القلوب. المبحث السابع عشر: بلاغته صلى الله عليه وسلم. المبحث الثامن عشر: معجزاته ودلائل نبوَّته صلى الله عليه وسلم. المبحث التاسع عشر: عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس. المبحث العشرون: اعتراف المنصفين من اليهود والنصارى برسالته صلى الله عليه وسلم. المبحث الحادي والعشرون: خير أعماله خواتمها صلى الله عليه وسلم. المبحث الثاني والعشرون: وداعه صلى الله عليه وسلم لأمته ووصاياه في حجة الوداع. المبحث الثالث والعشرون: توديعه صلى الله عليه وسلم للأحياء والأموات. المبحث الرابع والعشرون: بداية مرضه صلى الله عليه وسلم وأمره لأبي بكر أن يُصلي بالناس. المبحث الخامس والعشرون: خطبته العظيمة صلى الله عليه وسلم ووصاياه للناس. المبحث السادس والعشرون: اشتداد مرضه صلى الله عليه وسلم ووداعه ووصيته في تلك الشدة. المبحث السابع والعشرون: وصاياه صلى الله عليه وسلم عند وفاته. المبحث الثامن والعشرون: اختياره صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى. المبحث التاسع والعشرون: موته صلى الله عليه وسلم شهيدًا. المبحث الثلاثون: مَن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت.

المبحث الحادي والثلاثون: مصيبة المسلمين بموته صلى الله عليه وسلم. المبحث الثاني والثلاثون: ميراثه صلى الله عليه وسلم. المبحث الثالث والثلاثون: حقوقه صلى الله عليه وسلم على أمته. واللهَ تعالى أسألُ أن يجعل هذا العمل القليل مُباركًا نافعًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به من انتهى إليه؛ فإنه سبحانه أحسن مسؤول وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن حرر ضحى الثلاثاء الموافق 29/ 1 / 1427هـ

المبحث الأول خيار من خيار "نسبه صلى الله عليه وسلم"

المبحث الأول خيار من خيار "نسبه صلى الله عليه وسلم" هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كِلاَب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضر بن كِنانة ابن خزيمة بن مُدْرِكَة بن إلياس بن مُضر بن نزار ابن معدِّ بن عدنان (¬1) فهو خيار من خيار، كما قال صلى الله عليه وسلم عن نسبه: «إن الله اصطفى كِنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (¬2). فهو صلى الله عليه وسلم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام (¬3). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، قبل الحديث رقم 3851. (¬2) مسلم، برقم 2276. (¬3) انظر نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى آدم: البداية والنهاية لابن كثير 2/ 195، وسيرة ابن هشام 1/ 1، قال ابن القيم عن نسبه - صلى الله عليه وسلم - إلى عدنان: (إلى هاهنا معلوم الصحة متفق عليه= = بين النسَّابين، ولا خلاف فيه البتَّة، وما فوق عدنان مختلف فيه، ولا خلاف بينهم أن "عدنان" من ولد إسماعيل عليه السلام، وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم [زاد المعاد، 1/ 71].

[مولده صلى الله عليه وسلم] ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل بمكة في شهر ربيع الأول (¬1) يوم الاثنين (¬2) الموافق 571م (¬3). [وفاته صلى الله عليه وسلم] وتوفي صلى الله عليه وسلم وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها: أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيًّا رسولًا، نُبِّئَ بإقرأ، وأُرسل بالمدثر، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة، بعثَهُ الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد، أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد، ¬

(¬1) هذا هو الصحيح المشهور أنه ولد - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل في شهر ربيع الأول، وقد نقل بعضهم الإجماع على ذلك، انظر: تهذيب السيرة للإمام النووي ص 20. (¬2) التحديد بيوم الإثنين ثابت؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل عن صومه: ((فيه ولدت وفيه أُنزِل عليَّ)) مسلم 2/ 820. أما تحديد تاريخ اليوم ففيه عدة أقوال: فقيل في اليوم الثاني، وقيل لثمانٍ، وقيل لعشر، وقيل: لسبعة عشر، وقيل في الثاني عشر، وقيل غير ذلك، وأشهر وأقرب الأقوال قولان: الأول: أنه ولد لثمانٍ مضين من ربيع الأول، ورجحه ابن عبد البر عن أصحاب التأريخ: انظر: البداية والنهاية 2/ 260 وقال: "هو أثبت". القول الثاني: أنه ولد في الثاني عشر من ربيع الأول، قال ابن كثير في البداية والنهاية: "وهذا هو المشهور عند الجمهور" 2/ 260، وجزم به ابن إسحاق: انظر: سيرة ابن هشام 1/ 171. (¬3) انظر: الرحيق المختوم ص 53.

وبعد العشر عُرج به إلى السماء، وفُرِضَت عليه الصلوات الخمس، وصلَّى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أُمِر بالهجرة إلى المدينة، فلما استقر بالمدينة (¬1) أُمِر ببقية شرائع الإسلام مثل: الزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والأذان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام، أخذ على هذا عشر سنين وبعدها توفي صلى الله عليه وسلم، ودينه باقٍ وهذا دينه، لا خير إلا دلَّ أمته عليه، ولا شر إلا حذَّرها منه، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين لا نبي بعده، وقد بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على الجن والإنس، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار (¬2). [الدروس والفوائد والعبر والعظات] وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر ¬

(¬1) وصل إلى المدينة - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين من شهر ربيع الأول وحدده بعضهم باليوم الثاني عشر من ربيع الأول، انظر: فتح الباري 7/ 224. (¬2) انظر: صحيح البخاري، برقم 3851، والأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص75، 76.

والعظات في هذا المبحث كثيرة منها: 1 - إن النبي صلى الله عليه وسلم خيار من خيار من خيار، فهو أحسن الناس وخيرهم نسبًا، وأرجح العالمين عقلًا، وأفضل الخلق منزلة في الدنيا والآخرة، وأرفع الناس ذكرًا، وأكثر الأنبياء أتباعًا يوم القيامة. 2 - إن إقامة الاحتفالات بمولد النبي صلى الله عليه وسلم كل عام في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول بدعة منكرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك في حياته، ولم يفعله الصحابة من بعده رضي الله عنهم، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، ومع ذلك فإن تحديد ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم باليوم الثاني عشر من ربيع الأول لم يُجْزَم به، وإنما فيه خلاف وحتى ولو ثبت فالاحتفال به بدعة لما تقدم؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (¬1). وفي رواية لمسلم: «من عمل عملًا ليس عليه ¬

(¬1) البخاري برقم 2697، ومسلم برقم 1718.

أمرنا فهو رد» (¬1). 3 - إن وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم هي الدعوة إلى التوحيد، وإنقاذ الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن ظلمات المعاصي والسيئات إلى نور الطاعات والأعمال الصالحات، ومن الجهل إلى المعرفة والعلم، فلا خير إلا دلَّ أمته عليه، ولا شر إلا حذَّرها منه صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) انظر: رسالة التحذير من البدع لسماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله.

المبحث الثاني نشأته صلى الله عليه وسلم

المبحث الثاني نشأته صلى الله عليه وسلم نشأ النبي صلى الله عليه وسلم يتيمًا فآواه الله تعالى، وعائلًا فأغناه الله، فقد تُوفِّي والده عبد الله وهو صلى الله عليه وسلم حملٌ في بطن أمه، وأرضعته ثُويْبَةُ أيَّامًا (¬1) وهي مولاة لأبي لهبٍ، ثم أرضعته حليمة السعدية في البريَّة، وأقام عندها في بني سعدٍ نحوًا من أربع سنين، وَشُقَّ عن فُؤاده هناك وهو يلعب مع الغلمان، فعن أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقةً فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طستٍ (¬2) من ذهب بماء زمزم ثم لامَهُ (¬3) ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، 9/ 124. (¬2) طستٍ: إناء كبير مستدير [فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 1/ 460]. (¬3) لامه: جمعه وضم بعضه على بعضٍ [شرح النووي على صحيح مسلم].

إلى أمه (يعني ظئره) (¬1) فقالوا: إن محمدًا قد قُتِلَ، فاستقبلوه وهو مُنتقع اللَّون (¬2) قال أنسٌ: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره» (¬3) وعند هذه الحادثة العظيمة خافت عليه حليمة السعدية رضي الله عنها، فردَّته إلى أمه آمنة بنت وهب، فخرجت به أمه إلى المدينة، تزور أخواله، ثم رجعت متجهة إلى مكة فماتت في الطريق بالأبواء، بين مكة والمدينة، وعمره صلى الله عليه وسلم ست سنين وثلاثة أشهر وعشرة أيام (¬4) ولما ماتت أمه كفله جده عبد المطلب، فلما بلغ ثماني سنين توفي جده وأوصى به إلى عمه أبي طالب؛ لأنه كان شقيق عبد الله بن عبد المطلب ¬

(¬1) ظِئره: هي المرضعة، ويقال أيضا لزوج المرضعة [شرح النووي]. (¬2) منتقع اللون: أي متغير اللون [شرح النووي على صحيح مسلم]. (¬3) مسلم، برقم 261 - (162) وانظر: البداية والنهاية لابن كثير، بتحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، 3/ 413. (¬4) البداية والنهاية، 4/ 423، والفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لابن كثير، ص92 وقد ماتت أمه وأبوه انظر: صحيح مسلم، برقم 203 (على دين الجاهلية ولا حول ولا قوة إلا بالله) ..

خروجه صلى الله عليه وسلم للتجارة

فكفله، وأحاطه أتمَّ حياطة، ونصره حين بعثه الله، أعزَّ نصرٍ، مع أنه كان مستمرًا على شركه إلى أن مات، فخفَّفَ الله بذلك من عذابه بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «هو في ضحْضاحٍ من النار، ولولا أنا لكان في الدَّرْكِ الأسفلِ من النار». وفي لفظٍ: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامةِ فيُجعلُ في ضحْضاحٍ من النارِ يبلغ كعبَيه، يغلي منه دِمَاغُه» (¬1). [خروجه صلى الله عليه وسلم للتجارة] وخرج مع عمِّه أبي طالب إلى الشام في تجارةٍ، وهو ابن ثنتي عشرة سنة، وذلك من تمام لطفه به؛ لعدم من يقوم به إذا تركه بمكة، فَرَأَى عبد المطلب وأصحابه ممن خرج معه إلى الشام من الآيات فيه صلى الله عليه وسلم ما زاد عمَّه في الوصاة بِهِ، والحرص عليه، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخٍ من قريشٍ، فلما أشرفوا على الراهب هبطُوا فحلُّوا ¬

(¬1) البخاري، برقم 3883، 3884، و3885، 6208، 6572، ومسلم، برقم 209. وانظر: الفصول لابن كثير، ص93، والبداية والنهاية، 5/ 431 - 434.

رحالهم، فخرج إليهم الرَّاهبُ، وكانوا قبل ذلك يمرُّون به فلا يخرج إليهم، ولا يلتفتُ، قال: فهم يحلُّون رِحالهم فجعل يتخلَّلهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "هذا سيدُ العالَمِين، هذا رسولُ ربِّ العالمين، يبعثه الله رحمةً للعالمين، فقال له أشياخٌ من قريش ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبقَ شجرٌ ولا حجرٌ إلا خرَّ ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإنِّي أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروفِ كتفهِ مثل التُّفَّاحة. . .» الحديث، وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أظلته غمامةٌ ومالت الشجرة بظلها عليه» (¬1) وأمر الراهب أبا طالب بالرجوع به إلى مكة؛ لئلا يراه اليهود؛ فيحصل له منهم سوء، فأرسل به عمه إلى مكة، ثم أرسلت به خديجة بنت ¬

(¬1) الترمذي برقم 3620، وقال عنه ابن كثير في الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ص94: ((بإسناد رجاله كلهم ثقات)) وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 3620، وفي فقه السيرة للغزالي ص68 وقال: ((إسناده صحيح)) وقال: لكن ذِكر بلال فيه منكر كما قيل قال: ((قلت: وقد رواه البزار فقال: وأرسل معه عمه رجلاً)) ..

حماية الله تعالى له صلى الله عليه وسلم من دنس الجاهلية

خويلد في تجارةٍ لها إلى الشام مع غلامها ميسرة، فربحت تجارة خديجة رضي الله عنها، فرأى ميسرة ما بهره من شأنه، فرجع فأخبر سيدته بما رأى، فرغبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، لِمَا رجَتْ في ذلك من الخير الذي جمعه الله لها، وفوق ما يخطر بِبَالِ بشر، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله من العمر خمس وعشرون سنة، وكان عمرُ خديجة أربعون سنة (¬1). [حماية الله تعالى له صلى الله عليه وسلم من دنس الجاهلية] وقد حماه الله تعالى من صغره من دنس الجاهلية، ومن كلِّ عيب، فلم يُعظِّم لهم صنمًا في عمره قط، ولم يحضر مشهدا ًمن مشاهد كفرهم، وكانوا يطلبونه بذلك فيمتنع، ويعصمه الله من ذلك، وما شرب خمرًا قط، وما عمل فاحشة قط، وكان يعلم بأنهم على باطل، ولم يشرك بالله قطٌّ، ولم يحضر مجلس لهوٍ (¬2) ولم ¬

(¬1) قاله ابن القيم في زاد المعاد، 1/ 105، وقال ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 466: ((وكان عمرها آنذاك خمساً وثلاثين وقيل: خمساً وعشرين)). (¬2) الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لابن كثير، ص91 - 95، والبداية والنهاية، 3/ 406 - 451، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1/ 24.

يعمل شيئًا مما كان يعمله قومه من الفواحش والمنكرات، فقد نشأ في مجتمعٍ كَثُرت فيه المفاسد وعمت فيه الرذائل، فالشرك بالله تعالى، ودعاء غيره معه، وقتل الأنفس بغير حق، والظلم، والبغاء، والاستبضاع، والزنى الجماعي، والأفرادي، ونكاح أسبق الرجال ممن مات زوجها، والاعتداء على الأعراض، والأموال، والدماء، كل ذلك كان شائعًا في قومه قبل الإسلام، لا ينكره أحد، ولا تحاربه جماعة، بالإضافة إلى وَأْدِ البناتِ، وقتل الأولاد خشية الفقر، أو العار، ولعب الميسر، وشرب الخمر، أمور تعدُّ في الجاهلية من المفاخر، والتباهي، وليس من شرط أن يكون المجتمع كلُّه يرتكب هذه الجرائم، وإنما عدم إنكارها هو دليل على الرضى بها، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعمل أي عمل أو يباشر أيَّ خُلقٍ من هذه الأخلاق الرذيلة، وقد أدَّبه ربُّهُ فأحسن تأديبه (¬1) وهذه الأخلاق ¬

(¬1) لم يثبت ((أدّبني ربي فأحسن تأديبي)) لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية في = ... = مجموع الرسائل الكبرى، 2/ 336: ((معناه صحيح ولكن لا يعرف له إسناد ثابت))، وأيده السخاوي والسيوطي، فراجع كشف الخفاء 1/ 70. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني برقم 72.

التي اتصف بها قد عرفها قومه منه؛ ولهذا لُقِّب بين قومه " بمحمدٍ الأمين" (¬1). وقد بنت قريش الكعبة في سنة خمس وثلاثين من عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما وصلوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا، واشتجروا فيمن يضع الحجر الأسود موضعه، فقالت كلُّ قبيلةٍ: نحن نضعه، ثم اتفقوا على أن يضعه أَوَّلُ داخلٍ عليهم، فكان أول من دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرِحوا به كثيرًا، فقالوا: جاء الأمين، فرضوا به أن يكون حكمًا بينهم؛ ليحلَّ النزاع ويقف القتال الذي كاد أن يحصل، فأمر صلى الله عليه وسلم بثوبٍ فَوُضِعَ الحجر في وسطه، وأمر كلَّ قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب، ثم أخذ ¬

(¬1) أحمد في المسند، 3/ 425، وحسنه الألباني في تخريج فقه السيرة لمحمد الغزالي، ص84.

تعبده صلى الله عليه وسلم بغار حراء

الحجر فوضعه بيديه في موضعه صلى الله عليه وسلم (¬1). [تعبده صلى الله عليه وسلم بغار حراء] وبعد ذلك حبب الله إليه الخلوة والانعزال عن الناس؛ لكي يتعبد لله تعالى، وكان يخلو بغار حراء يتعبد لله تعالى على ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ولما كمَّل الأربعين أكرمه الله تعالى بالنبوَّة، ولا خلاف أن مبعثه كان يوم الإثنين، وقيل بأن الشهر كان ربيع الأول سنة إحدى وأربعين لثمانٍ خلون منه، من عام الفيل وهذا قول الأكثرين (¬2). [نزول الوحي] «وجاءه جبريل في غار حراء، فقال له: اقرأ، فقال: "لست بقارئ"، قال: اقرأ، قال: "لست بقارئ"، فغتَّه (¬3) حتى بلغ منه الجهد، فقال له: اقرأ، فقال: "لست بقارئ" فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الْإِنْسَانَ ¬

(¬1) الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن كثير، ص95. (¬2) زاد المعاد لابن القيم، 1/ 78، قال: وقيل: ((كان ذلك في رمضان، وقيل كان ذلك في رجب)). (¬3) غته: حبس أنفاسه، وفي رواية البخاري: ((غطني)) ومعناه: ضمَّني وعصرني.

مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ - عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]، وبهذه السورة كان صلى الله عليه وسلم نبيًّا، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى خديجة رضي الله عنها يرجفُ فؤادُهُ فدخل عليها وقال: "زملوني زمِّلوني"، فزمَّلوه (¬1) حتى ذهب عنه الرَّوعُ، فأخبر خديجة الخبر، فقالت خديجة رضي الله عنها: كلا واللهِ ما يُخزيك اللهُ أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمِل الكلَّ، وتكسِب المعدوم، وتقري الضيف، وتعينُ على نوائب الحق. . .» الحديث (¬2) ثم أرسله الله تعالى بسورة المدثر إلى الإنس والجن، قال صلى الله عليه وسلم: «بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء فرفعتُ بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرُعبْتُ منه، فرجعت فقلت ¬

(¬1) زمِّلوني: أي غطُّوني أو لُفُّوني بثوبٍ أو نحوه. (¬2) البخاري، برقم 3، ومسلم، برقم 160.

الدعوة إلى الإسلام

زمِّلوني، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1 - 2] إلى قوله {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] فحميَ الوحيُ وتتابع» (¬1) وبهذه السورة كان رسولًا صلى الله عليه وسلم. [الدعوة إلى الإسلام] بدأ صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى سرًا، فأسلم على يديه: السابقون الأولون، وكان أول من أسلم خديجة رضي الله عنها، ثم علي ثم زيد بن حارثة، ثم أبو بكر رضي الله عنهم، ثم دخل الناس في دين الله واحد بعد واحد، حتى فشى الإسلام في مكة، «ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجهر بالدعوة فقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ - وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 214 - 216]، فدعاهم إلى الله، وصعد على الصفا وقال: يا بني فهر، يا بني عدي لبطون قريش، حتى ¬

(¬1) البخاري، برقم 4.

اجتمعوا، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج عليكم بسفح هذا الوادي أكنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم ما جرَّبنا عليك كذبًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد» (¬1) وقد ناصبه صناديد قريش ومن معهم العداء، ولكن مع ذلك لم يستطع أحد منهم أن يتهمه بصفة الكذب أو صفة غير لائقة، وقد قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، ولو عرفوا خُلُقًا ذميمًا - وقد عاش بينهم أربعين عامًا -؛ لأراحهم من التنقيب عن خصلة غير حميدة يتهمونه بها أمام الناس، ووجدوا أن كلمة (ساحر) و (كاهن) هي أنسب الصفات التي يطلقونها عليه؛ حيث يفرق بدعوته إلى الله بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والزوجة وزوجها، واتهموه بالجنون؛ لأنه خالف ¬

(¬1) البخاري، برقم 4971، ومسلم /194 - (برقم 208).

الإسراء والمعراج

شركهم ودعا إلى عبادة الله وحده، وتابع دعوته إلى الله في المواسم، والأسواق، وخرج إلى الطائف، وأسلم الجن في طريقه عند رجوعه من الطائف، وحصل له من الأذى الكثير فصبر واحتسب. [الإسراء والمعراج] ثم أُسريَ به إلى بيت المقدس ليلًا وعُرِج به إلى السماوات العُلى، وقبل الإسراء جاء جبريلُ ففرج صدره ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطستٍ ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدره، ثم أطبقه، ثم أخذ بيده فَعُرِج به (¬1) وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم شُقَّ صدره ثلاث مرات، الأولى في بني سعد وهو صغير، والثانية عند البعثة فقال: (وثبت شق الصدر أيضًا عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوَّة، فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس: «فأخرج علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك»، وكان هذا في زمن الطفولية فنشأ على أكمل الأحوال، من ¬

(¬1) البخاري، برقم 349، ومسلم برقم 163.

العصمة من الشيطان، ثم وقع شق الصدر عند البعث زيادة في إكرامه؛ ليتلقى ما يُوحى إليه بقلبٍ قويٍّ في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع شق الصدر عند العروج إلى السماء؛ ليتأهب للمناجاة، ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما تقرر في شرعه صلى الله عليه وسلم (¬1). وصل ليلة الإسراء والمعراج إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام فوق السماء السابعة، وفرضت عليه الصلاة، وصلى بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ركعتين، ورجع قبل أن يصبح إلى مكة، واستمر في دعوته إلى التوحيد، وصلَّى في مكة قبل الهجرة ثلاث سنين، ولما اشتد الأذى من قريش، وأكمل ثلاثة عشر عامًا في دعوته قومه إلى التوحيد، أَذِنَ الله له بالهجرة، فهاجر إلى المدينة، وفرضت عليه فيها بقية شرائع الإسلام خلال ¬

(¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7/ 204 - 205.

عشر سنواتٍ، كما تقدم، وسيأتي إتمام الكلام في صبره صلى الله عليه وسلم على أذى قومه، وفي غزواته، وجهاده، وحجِّه حجة الوداع، ورجوعه إلى المدينة، ثم موته بعد أن كمَّل الله به الدين صلى الله عليه وسلم (¬1). ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 71 - 135، والبداية والنهاية لابن كثير، 3/ 353 - 563، والفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن كثير، ص91 - 330، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1/ 22 - 33.

المبحث الثالث صفاته الخلقية والخلقية صلى الله عليه وسلم

المبحث الثالث صفاته الخَلْقيَّة والخُلُقيَّة صلى الله عليه وسلم [من صفاته الخَلْقيَّة صلى الله عليه وسلم] كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خَلْقًا وخُلُقًا، وألينهم كفًّا، وأطيبهم ريحًا، وأكملهم عقلًا، وأحسنهم عشرة، وأعلمهم بالله وأشدهم له خشية (¬1) وأشجع الناس، وأكرم الناس، وأحسنهم قضاء، وأسمحهم معاملة، وأكثرهم اجتهادًا في طاعة ربه، وأصبرهم وأقواهم تحمُّلًا، وأخشعهم لله قلبًا، وأرحمهم بعباد الله تعالى، وأشدهم حياء، ولا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها؛ ولكنه إذا انتُهِكت حرمات الله، فإنه ينتقم لله تعالى، وإذا غضب لله لم يقم لغضبه أحد، والقوي والضعيف، والقريب والبعيد، والشريف وغيره عنده في الحق سواء، وما عاب طعامًا قط إن اشتهاه أكله، وإن لم يشتهه تركه، ويأكل من ¬

(¬1) ولهذا قال عبد الله بن الشَّخِّير: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المِرجل من البكاء، أبو داود برقم 904، وصححه الألباني في مختصر الشمائل برقم 276, ومعنى: أزير المرجل: أي غليان القدر.

من صفاته الخلقية صلى الله عليه وسلم

الطعام المباح ما تيسر ولا يتكلف في ذلك، ويقبل الهدية ويكافئ عليها، ولا يقبل الصدقة، ويخصف نعليه ويرقع ثوبه، ويخدم في مهنة أهله، ويحلِبُ شاته، ويخدِمُ نفسه، وكان أشد الناس تواضعًا، ويجيب الداعي: من غني أو فقير، أو دنيء أو شريف، وكان يحب المساكين ويشهد جنائزهم ويعود مرضاهم، ولا يحقر فقيرًا لفقره، ولا يهاب مَلِكًا لِمُلْكِهِ، وكان يركب الفرس، والبعير، والحمار، والبغلة، ويردف خلفه، ولا يدع أحدًا يمشي خلفه (¬1). وخاتمه فضة وفصه منه، يلبسه في خنصره الأيمن وربما لبسه في الأيسر، وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وقد آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض، ولكنه اختار الآخرة. [من صفاته الخَلْقيَّة صلى الله عليه وسلم] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن (¬2) ولا ¬

(¬1) أحمد 3/ 398، وابن ماجه برقم 246, والحاكم 4/ 481، وابن حبان موارد 2099 , وانظر: الأحاديث الصحيحة برقم 1557. (¬2) البائن: أي ليس بالطويل الطول الظاهر.

بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق (¬1) ولا بالأدم (¬2) ولا بالجعد القطط (¬3) ولا بالسَّبط (¬4) صلى الله عليه وسلم (¬5) وكان ضخم القدمين حسن الوجه (¬6) أبيض مليح الوجه (¬7) وكان رجلًا مربوعًا بعيد ما بين المنكبين، عظيم شعر الجُمَّة إلى شحمتي أذنيه، وفي وقت إلى منكبيه، وفي وقوتٍ إلى نصف أذنيه، كث اللحية، شثن الكفين والقدمين (¬8) ضخم الرأس، ضخم الكراديس (¬9) طويل المَسْربة (¬10) إذ مشى تكفَّأَ تكفؤًا كأنما ينحط من صببٍ (¬11) لم يُرَ قبله ¬

(¬1) الأمهق: أي ليس بالأبيض شديد البياض، وإنما أبيض مشرب بالحمرة. (¬2) الأدم: الأسمر. (¬3) القطط: الشعر فيه التواء وانقباض. (¬4) السبط: الشعر المسترسل. (¬5) مختصر شمائل، الترمذي برقم 1، وصححه الألباني. وهو في البخاري برقم 3549. (¬6) البخاري، برقم 5908. (¬7) مسلم، برقم 2340. (¬8) عظيم الأصابع غليظها من الكفين والقدمين. (¬9) الكراديس: رؤوس العظام. (¬10) المَسرَبة: الشعر الدقيق الذي يبدأ من الصدر وينتهي بالسرة. (¬11) الصبب: انخفاض من الأرض.

ولا بعده مثله، وكان عظيم الفم، طويل شِق العين، قليل لحم العقب، منظره أحسن من منظر القمر، وجهه مثل القمر، وخاتم النبوة بين كتفيه: غدَّة حمراء مثل بيضة الحمامة، وقيل: الخاتم شعرات مجتمعات بين كتفيه، وكان يفرق رأسه، ويدَّهن، ويعفي لحيته ولا يأخذ منها شيئًا، ويُسرِّحها، ويأمر بتوفيرها وإيفائها، وإعفائها، وكان يأمر بالاكتحال بالإثمد عند النوم، ويقول: «عليكم بالإثمد عند النوم؛ فإنه يجلو البصر ويُنبت الشعر» (¬1). وقال: «إن خير أكحالكم الإثمد، يجلو البصر، ويُنبت الشعر» (¬2) وكان قليل الشَّيب في رأسه وفي لحيته إذا ادَّهن لم يُرَ شيبه، وإذا لم يدَّهن رُؤي منه شيء، كان شيبه نحوًا من عشرين شيبة بيضاء، وكان يقول: «شيَّبتني هود وأخواتها»، وفي لفظ: «شيَّبتني: هود، والواقعة، ¬

(¬1) الترمذي في الشمائل، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، برقم 43، ص45. (¬2) الترمذي في الشمائل، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، برقم 44، ص45 ..

من سيرته صلى الله عليه وسلم

والمرسلات، وعمَّ يتساءلون، وإذا الشمس كُوِّرت» (¬1) وشَيْبُهُ أحمر مخضوبًا، وكان يُحبُّ لبس القميص، والحَبِرَة (¬2) وكان يلبس العمامة، والإزار، وإزاره إلى نصف ساقه (¬3) وكان يحب الطيب، ويقول: «طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه» (¬4). [من سيرته صلى الله عليه وسلم] وكان صلى الله عليه وسلم يتجمَّلُ للعيد، والوفود، ويُحِبُّ النظافة، وكان يكره أن يقوم له أحد؛ فلا يقوم له الصحابة؛ لعلمهم بكراهته لذلك (¬5) وكان يُحِبُّ السِّواك، ويبدأ به إذا دخل بيته، ويشوص فاه بالسواك إذا قام من الليل، وكان ينام أول الليل ثم يقوم يصلي، وكان يطيل صلاة ¬

(¬1) مختصر الشمائل للترمذي، اختصره وصححه الألباني، برقم 34، 35. (¬2) ثياب من نوع بُرُود اليمن، والبُرد: ثوب مخطط، ومحبّرة مزينة. (¬3) مختصر شمائل الترمذي، برقم 97، وصححه الألباني. (¬4) مختصر شمائل الترمذي برقم 188، وصححه الألباني. (¬5) أحمد، 3/ 134.

الليل حتى تنتفخ قدماه، ثم يُوتِرُ آخر الليل قبل الفجر، وكان يُحِبُّ أن يسمع القرآن من غيره، وكان يعود المرضى، ويشهد الجنائز ويصلي عليهم، وكان كثير الحياء، وكان إذا كره شيئًا عُرِف في وجهه، وكان يُحِبُّ الستر، وكان يتوكل على الله حقَّ توكُّلِهِ؛ لأنه سيد المتوكِّلين، قال أنس رضي الله عنه: «خَدَمْتُ النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما بعثني في حاجةٍ لم أُتِمَّها إلا قال: لو قُضِيَ لكان، أو: لو قُدِّر لكان» (¬1) ومع هذا فقد كان يأخذ بالأسباب. وكان لا يغدر وينهى عن الغدر، وقد حفظه الله تعالى من أمور الجاهلية قبل الإسلام (¬2) ورعى الغنم في صغره وما من نبيٍّ إلاَّ رعاها (¬3) وكان الحجر يسلم عليه قبل البعثة (¬4). وله صلى الله عليه وسلم أسماء، قال صلى الله عليه وسلم: «أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا ¬

(¬1) أحمد، 1/ 352 وهو صحيح. (¬2) البخاري، برقم 3829، وأحمد 4/ 222. (¬3) البخاري، برقم 2262، ورقم 3406. (¬4) مسلم، برقم 2277.

الماحي الذي يُمحى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على عَقِبِي (¬1) وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي» (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا محمد، وأحمد، والمُقفِّي (¬3) والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة» (¬4) وكنيته أبو القاسم (¬5) بعثه الله ليتَمِّمَ مكارم الأخلاق (¬6). وذكر الله تعالى اسمه في القرآن في مواضع فقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144]، وقال سبحانه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ¬

(¬1) أي يحشر الناس على أثره، النهاية. (¬2) البخاري، برقم 3532، ومسلم برقم 2354. (¬3) المقفّي: الذي قفى آثار من سبقه من الأنبياء {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا ... }. [انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/ 94]. (¬4) مسلم، برقم 2355، وشمائل الترمذي برقم 316 ((مختصر الألباني)). (¬5) البخاري، برقم 3537، ومسلم، 3/ 1682. (¬6) أحمد، 2/ 381، برقم 8939.

وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 2]، وقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29]، وقال جل وعلا في قول عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]. وكان يكثر الذكر، دائم الفكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ويحب الطيب ولا يرده، ويكره الروائح الكريهة، وكان أكثر الناس تبسمًا، وضحك في أوقاتٍ حتى بدت نواجذه (¬1) قال جرير رضي الله عنه: «ما حجبني ¬

(¬1) النواجذ: الأنياب، وقيل: [هي الضواحك التي تبدو عند الضحك] النهاية، 5/ 20.

رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسَّمَ في وجهي، ولقد شكوت إليه أَنِّي لا أثبت على الخيل، فضرب في صدري، وقال: اللهم ثبِّته، واجعله هاديًا مهديًّا» (¬1) ويمزح ولا يقول إلا حقًّا، ولا يجفو أحدًا، ويقبل عذر المعتذر إليه، وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقهن، ويتنفس في الشرب ثلاثًا خارج الإناء، ويتكلم بجوامع الكلم، وإذا تكلم تكلَّم بكلامٍ بيِّنٍ فَصْلٍ، يحفظه من جلس إليه، ويعيد الكلمة ثلاثًا إذا لم تفهم حتى تُفهم عنه، ولا يتكلم من غير حاجة، وقد جمع الله له مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، فكانت معاتبته تعريضًا، وكان يأمر بالرفق ويحثُّ عليه، وينهي عن العنف، ويحث على العفو والصفح، والحلم، والأناة، وحسن الخلق ومكارم الأخلاق، وكان يحب التيمن في طهوره وتنعُّله، وترجُّله، وفي شأنه كله، ونهى عن الترجل إلا غبًا، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى، وإذا ¬

(¬1) البخاري، برقم 3035، ورقم 3822، ورقم 6090.

اضطجع اضطجع على جنبه الأيمن، ووضع كفه اليمنى تحته خده الأيمن، ويقول: أذكار النوم، وإذا عرَّس (¬1) قُبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه، وكان مجلسه: مجلس علم، وحلم، وحياء، وأمانة، وصيانة، وصبر، وسكينة، ولا ترفع فيه الأصوات، ولا تنتهك فيه الحرمات، يتفاضلون في مجلسه بالتقوى، ويتواضعون، وَيُوَقِّرون الكبار، ويرحَمُون الصغار، ويؤثرون المحتاج، ويخرجون دعاة إلى الخير، وكان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، وكان يمشي مع الأرملة والمسكين، والعبد، حتى يقضي له حاجته. ومر على الصبيان يلعبون فسلَّم عليهم، وكان لا يصافح النساء غير المحارم، وكان يتألف أصحابه ويتفقدهم، ويكرم كريم كل قوم، ويُقبل بوجهه وحديثه على من يُحدثه، حتى على أشرِّ القوم يتألفهم بذلك، «وخدمه أنس رضي الله عنه عشر سنين، قال: فما ¬

(¬1) التعريس: نزول المسافر آخر الليل نزلةً للنوم والاستراحة. انظر: النهاية في غريب الحديث 3/ 206.

كمال الأخلاق ومحاسن الشيم

قال لي أُفٍّ قط، وما قال لي لشيء صنعته لِمَ صنعته، ولا لشيء تركته لِمَا تركته، وكان من أحسن الناس خُلُقًا ولامسست خزًّا، ولا حريرًا، ولا شيئًا كان ألين من كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكًا قط ولا عطرًا أطيب من عرق النبي صلى الله عليه وسلم» (¬1). ولم يكن فاحشًا ولا متفحشًا ولا صخَّابًا (¬2) ولا يجزي بالسيئة السيئة بل يعفو ويصفح ويحلم، ولم يضرب خادمًا ولا امرأة ولا شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى، وما خُيِّر بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه. [كمال الأخلاق ومحاسن الشيم] وقد جمع الله له كمال الأخلاق ومحاسن الشيم وآتاه من العلم والفضل وما فيه النجاة والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة ما لم يؤت أحدًا من العالمين، وهو أُمٌّي لا يقرأ ¬

(¬1) البخاري، برقم 6038، ومسلم، برقم 2309، والترمذي في مختصر الشمائل، واللفظ له، برقم 296. (¬2) الصّخَّاب: الصخب والسخب: الضجة واضطراب الأصوات للخصام، فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يكن صخَّاباً في الأسواق ولا في غيرها. النهاية 3/ 14.

ولا يكتب، ولا معلم له من البشر، واختاره الله على جميع الأولين والآخرين، وجعل دينه للجن والناس أجمعين إلى يوم الدين، فصلوات الله وسلامه عليه صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم الدين؛ فإن خلقه كان القرآن (¬1). فينبغي الاقتداء به صلى الله عليه وسلم والتأسي به في جميع أعماله، وأقواله، وجده واجتهاده، وجهاده، وزهده، وورعه، وصدقه وإخلاصه، إلا في ما كان خاصًّا به، أو ما لا يُقدر على فعله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يَملُّ حتى تملُّوا (¬2) " (¬3)؛ ولقوله: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» (¬4). ¬

(¬1) تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1/ 25 - 26، و31 - 33، ومختصر الشمائل المحمدية للترمذي، اختصره وحققه الألباني، ص13 - 194. (¬2) البخاري مع الفتح، 4/ 213، برقم 1970، ومسلم 1/ 541، برقم 782. (¬3) انظر: تهذيب السيرة النبوية للإمام النووي ص 56، ومختصر السيرة النبوية للحافظ عبد الغني المقدسي ص 77، وحقوق المصطفى للقاضي عياض 1/ 77 - 215، ومختصر الشمائل المحمدية للترمذي ص 112 - 188. (¬4) البخاري برقم 7288، ومسلم برقم 2619.

المبحث الرابع اجتهاده في عبادته وجهاده صلى الله عليه وسلم

المبحث الرابع اجتهاده في عبادته وجهاده صلى الله عليه وسلم [كان أسوة لكل مسلم] 1 - كان صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة وإمامًا يُقتدى به؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]؛ ولهذا «كان صلى الله عليه وسلم يصلي حتى تفطَّرت قدماه وانتفخت وورمت، فقيل له: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا» (¬1). [صلاته صلى الله عليه وسلم] 2 - وكان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، وربما صلى ثلاث عشرة ركعة (¬2) وكان يصلي الرواتب اثنتي عشرة ركعة (¬3) وربما صلاها عشر ركعات (¬4) وكان يصلي ¬

(¬1) البخاري برقم 1130، ومسلم برقم 2819. (¬2) البخاري برقم 1147، ومسلم برقم 737. (¬3) مسلم برقم 728. (¬4) البخاري برقم 1172، ومسلم برقم 729.

صومه صلى الله عليه وسلم

الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله (¬1) وكان يطيل صلاة الليل فربما صلى بما يقرب من خمسة أجزاء في الركعة الواحدة (¬2) فكان ورده من الصلاة كل يوم وليلة أكثر من أربعين ركعة منها الفرائض سبع عشر ركعة (¬3). [صومه صلى الله عليه وسلم] 3 - وكان يصوم غير رمضان ثلاثة أيام من كل شهر (¬4) ويتحرَّى صيام الاثنين والخميس (¬5) وكان يصوم شعبان إلا قليلًا، بل كان يصومه كله (¬6) ورغَّب في صيام ست من شوال (¬7) وكان صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يُقال: لا يفطر، ويفطر حتى يُقال: لا يصوم (¬8) وما استكمل شهرًا غير رمضان ¬

(¬1) مسلم برقم 719. (¬2) مسلم برقم 772. (¬3) كتاب الصلاة لابن القيم ص 140. (¬4) مسلم برقم 1160. (¬5) الترمذي برقم 745، والنسائي 4/ 202 وغيرهما. (¬6) البخاري رقم 1969 و1970، ومسلم برقم 1156 و1157. (¬7) مسلم برقم 1164. (¬8) البخاري برقم 1971، ومسلم برقم 1156.

صدقته صلى الله عليه وسلم

إلا ما كان منه في شعبان، وكان يصوم يوم عاشوراء (¬1) وروي عنه صوم تسع ذي الحجة (¬2) وكان يواصل الصيام اليومين والثلاثة وينهى عن الوصال، وبيَّن أنه صلى الله عليه وسلم ليس كأمته؛ فإنه يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه (¬3) وهذا على الصحيح: ما يجد من لذة العبادة والأنس والراحة وقرة العين بمناجاة الله تعالى؛ ولهذا قال: «يا بلال أرحنا بالصلاة» (¬4) وقال: «وجُعِلَتْ قرة عيني في الصلاة» (¬5). [صدقته صلى الله عليه وسلم] 4 - وكان يكثر الصدقة، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة حينما يلقاه جبريل عليه الصلاة والسلام (¬6)؛ فكان يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة؛ ولهذا أعطى رجلًا غنمًا ¬

(¬1) البخاري برقم 2000 - 2007، ومسلم برقم 1125. (¬2) النسائي 4/ 205، وأبو داود برقم 2437، وأحمد 6/ 288، وانظر: صحيح النسائي رقم 2236. (¬3) البخاري برقم 1961 - 1964 ومسلم برقم 1102 - 1103. (¬4) أبو داود برقم 8549، وأحمد 5/ 393. (¬5) النسائي 7/ 61، وأحمد 3/ 128، وانظر: صحيح النسائي 3/ 827. (¬6) البخاري برقم 6، ومسلم يرقم 2308.

جهاده صلى الله عليه وسلم

بين جبلين فرجع الرجل إلى قومه وقال: يا قومي أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة (¬1) فكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأكرم الناس، وأشجع الناس (¬2) وأرحم الناس وأعظمهم تواضعًا، وعدلًا، وصبرًا، ورفقًا، وأناة، وعفوًا، وحلمًا، وحياءً، وثباتًا على الحق. [جهاده صلى الله عليه وسلم] 5 - وجاهد صلى الله عليه وسلم في جميع ميادين الجهاد: جهاد النفس وله أربع مراتب: جهادها على تعلم أمور الدين، والعمل به، والدعوة إليه على بصيرة، والصبر على مشاق الدعوة، وجهاد الشيطان وله مرتبتان: جهاده على دفع ما يلقي من الشبهات، ودفع ما يلقي من الشهوات، وجهاد الكفار وله أربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، واليد. وجهاد أصحاب الظلم وله ثلاث مراتب: باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب. فهذه ثلاث عشرة مرتبة من ¬

(¬1) مسلم 4/ 1806، برقم 2312. (¬2) البخاري مع الفتح 10/ 455، برقم 6033، ومسلم 4/ 1804، برقم 2308.

حسن معاملته صلى الله عليه وسلم

الجهاد، وأكمل الناس فيها محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كمَّل مراتب الجهاد كلها، فكانت ساعاته موقوفة على الجهاد: بقلبه، ولسانه، ويده، وماله؛ ولهذا كان أرفع العالمين ذكرًا وأعظمهم عند الله قدرًا (¬1). وقد دارت المعارك الحربية بينه وبين أعداء التوحيد، فكان عدد غزواته التي قادها بنفسه سبعاًٍ وعشرون غزوة، وقاتل في تسع منها، أما المعارك التي أرسل جيشها ولم يقدها فيقال لها سرايا فقد بلغت ستًا وخمسين سرية (¬2). [حسن معاملته صلى الله عليه وسلم] 6 - وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس معاملة، فإذا استسلف سلفًا قضى خيرًا منه؛ ولهذا «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه بعيرًا فأغلظ له في القول، فَهَّم به أصحابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه فإن لصاحب الحق مقالًا، فقالوا: يا رسول الله: لا نجد إلا سنًّا هو خير من سنِّه فقال صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) زاد المعاد 3/ 5، 10، 12. (¬2) انظر: شرح النووي 12/ 95، وفتح الباري 7/ 279 - 281، و8/ 153.

خلقه صلى الله عليه وسلم

أعطوه، فقال الرجل: أوفيتني أوفاك الله، فقال صلى الله عليه وسلم: إن خير عباد الله أحسنهم قضاءً» (¬1). «واشترى من جابر بن عبد الله رضي الله عنه بعيرًا، فلما جاء جابر بالبعير قال له صلى الله عليه وسلم: أتراني ماكستك؟ قال: لا يا رسول الله، فقال: خذ الجمل والثمن» (¬2). [خلقه صلى الله عليه وسلم] 7 - وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا؛ لأن خُلُقَهُ القرآن، لقول عائشة رضي الله عنها: «كان خلقه القرآن» (¬3)؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (¬4). [زهده صلى الله عليه وسلم] 8 - وكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم «أنه اضطجع على الحصير فأثَّر في جنبه، فدخل عليه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، ولما استيقظ جعل يمسح جنبه فقال رسول الله: لو اتخذت فراشًا أوثر من هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) البخاري رقم 2305، ومسلم برقم 1600. (¬2) البخاري مع الفتح 4/ 320، برقم 2097، ومسلم 3/ 1221، برقم 715. (¬3) مسلم 1/ 513، برقم 746. (¬4) البيهقي بلفظه 10/ 192، وأحمد 2/ 381، وانظر: الصحيحة للألباني رقم 45.

مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها» (¬1). «وقال: لو كان لي مثلُ أُحُدٍ ذهبًا ما يَسُرُّني أن لا يمر عليَّ ثلاثٌ وعندي منه شيء، إلا شيءٌ أرصُدُهُ لدين» (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض» (¬3). والمقصود أنهم لم يشبعوا ثلاثة أيام بلياليها متوالية، والظاهر أن سبب عدم شبعهم غالبًا كان بسبب قلة الشيء عندهم على أنهم قد يجدون ولكن يؤثرون على أنفسهم (¬4)؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير» (¬5). وقالت: «ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أُكلتين في يوم ¬

(¬1) الترمزي وغيره، وانظر: الأحاديث الصحيحة برقم 439، وصحيح الترمذي 2/ 280. (¬2) البخاري برقم 2389، ومسلم برقم 991. (¬3) البخاري مع الفتح 9/ 517 و549، برقم 5374. (¬4) انظر فتح الباري 9/ 517 و549 برقم 5374، ومن حديث عائشة رضي الله عنها برقم 5416. (¬5) البخاري مع الفتح 9/ 549، برقم 5414.

ورعه صلى الله عليه وسلم

إلا إحداهما تمر» (¬1). «وقالت: إنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أُوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقال عروة: ما كان يقيتكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء» (¬2). والمقصود بالهلال الثالث: وهو يُرى عند انقضاء الشهرين. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان فراشُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدَم وحشوُهُ ليفٌ» (¬3). ومع هذا كان يقول صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتًا» (¬4). [ورعه صلى الله عليه وسلم] 9 - وكان صلى الله عليه وسلم من أورع الناس؛ ولهذا قال: «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي أو في بيتي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون من الصدقة ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 11/ 282، برقم 6455. (¬2) البخاري مع الفتح 11/ 283، برقم 6459. (¬3) البخاري مع الفتح 11/ 282، برقم 6456. (¬4) البخاري مع الفتح 11/ 283، برقم 6460، ومسلم برقم 1055 والقوت: هو ما يقوت البدن من غير إسراف وهو معنى الرواية الأخرى عند مسلم "كفافاً" ويكف عن الحاجة، وقال أهل اللغة: القوت: هو ما يسد الرمق، وفي الكفاف سلامة من آفات الغنى والفقر جميعاً والله أعلم. الفتح 11/ 293، وشرح النووي 7/ 152, والأبي 3/ 537.

توسطه صلى الله عليه وسلم

فَأُلقيها» (¬1). «وأخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كَخْ كَخْ ارمِ بها أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة؟» (¬2). [توسطه صلى الله عليه وسلم] 10 - ومع هذه الأعمال المباركة العظيمة فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: «خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا، وأحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل»، وكان آلُ محمد صلى الله عليه وسلم إذا عَمِلُوا عملًا أثبتوه (¬3). «وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة داوم عليها» (¬4). «وقد تقالَّ عبادة النبي صلى الله عليه وسلم نفر من أصحابه رضي الله عنهم وقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال بعضهم: أمَّا أنا فأنا أصلي الليل أبدًا، وقال بعضهم: أنا أصوم ولا ¬

(¬1) مسلم 2/ 751، برقم 1070. (¬2) مسلم 2/ 751، برقم 1069. (¬3) البخاري مع الفتح 4/ 213، برقم1970، 11/ 294، برقم 6465، ومسلم 1/ 541، 2/ 811، برقم 782. (¬4) البخاري مع الفتح 4/ 213، برقم 1970، وانظر: صحيح البخاري حديث رقم 6461 - 6467.

أفطر، وقال بعضهم: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا [وقال بعضهم: لا آكل اللحم] فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاء إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬1). والمراد بالسنة الهدي والطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره. ومع هذه الأعمال الجليلة فقد «كان صلى الله عليه وسلم يقول: سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل». وفي رواية: «سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيءٌ من الدُّلجة، والقَصْدَ القَصْدَ تبلغوا» (¬2). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 9/ 104، برقم 5063، ومسلم 2/ 1020، برقم 1401، وما بين المعكوفين من رواية مسلم. (¬2) البخاري برقم 6463، 6464، ومسلم 4/ 2170، برقم 2816 - 2818.

الدروس والعبر

«وكان يقول: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» (¬1). ويقول: «اللهم مصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك» (¬2). [الدروس والعبر] وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر والعظات في هذا المبحث كثيرة منها: 1 - إن النبي صلى الله عليه وسلم قدوة كل مسلم صادق مع الله تعالى في كل أموره؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. 2 - إن النبي أحسن الناس خَلْقًا، وخُلُقًا صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) الترمزي 5/ 238، برقم 3522، وغيره، وانظر: صحيح الترمزي 3/ 171. (¬2) مسلم 4/ 2045، برقم 2654.

المبحث الخامس النبي الكريم صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين

المبحث الخامس النبي الكريم صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين أولًا: عموم رحمته صلى الله عليه وسلم للإنس والجن، والمؤمنين والكافرين والحيوان: قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فالمؤمنون به صلى الله عليه وسلم قبلوا هذه الرحمة، وشكروها، وغيرهم كفرها، وبدَّلوا نعمة الله كفرًا، وأبوا رحمة الله ونعمته (¬1). قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف) (¬2). قال الإمام الطبري رحمه الله: (أولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي رُوي عن ابن عباس: وهو أن الله أرسل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالم: مؤمنهم ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان، للسعدي، ص532. (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره جامع البيان، 18/ 552.

وكافرهم، فأما مؤمنهم فإن الله هداه به وأدخله بالإيمان به وبالعمل بما جاء به من عند الله الجنة، وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذبة رسلها من قبله) (¬1). ومما يدل على أن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم عامة للعالم؛ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قيل: يا رسول الله! ادعُ على المشركين، قال: إني لم أُبعث لَعَّانًا وإنما بُعِثْتُ رحمةً» (¬2). وحديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيُّما رجل من أمتي سببته سبةً أو لعنته لعنةً في غضبي؛ فإنما أنا من ولد آدم، أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة» (¬3). وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ¬

(¬1) جامع البيان للطبري، 18/ 552. (¬2) مسلم، برقم 2599. (¬3) أبو داود، برقم 4659، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 134.

الأمثلة التطبيقية وأنواعها

قال: «إنما أنا رحمةٌ مهداةٌ» (¬1). وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أنا محمد، وأحمد، والمُقَفِّي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة» (¬2). ثانيًا: الأمثلة التطبيقية وأنواعها النوع الأول: رحمته صلى الله عليه وسلم لأعدائه: المثال الأول: رحمته صلى الله عليه وسلم لأعدائه في الجهاد: وقد شملت رحمته صلى الله عليه وسلم الأعداء حتى في قتالهم ومجاهدتهم؛ فإن قوة الجهاد في سبيل الله تعالى في شريعته صلى الله عليه وسلم لها ضوابط ينبغي أن يلتزم بها المجاهدون في سبيل الله - تعالى - ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، فيدخل في ذلك ارتكاب ¬

(¬1) رواه ابن سعد، 1/ 192، وابن أبي شيبة 11/ 504، والحاكم، 1/ 35، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة بطرقه، برقم 490. (¬2) مسلم، برقم 2355.

المناهي: من المثلة، والغلول، وقتل النساء، والصبيان، والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال، والرُّهبان، والمرضى، والعُمي، وأصحاب الصَّوامع؛ لكن من قاتل من هؤلاء أو استعان الكفَّار برأيه قتل (¬1). ويدخل في ذلك قتل الحيوان لغير مصلحة، وتحريق الأشجار، وإفساد الزُّروع والثِّمار، والمياه، وتلويث الآبار، وهدم البيوت (¬2) وقد "وُجدت امرأةٌ مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان" (¬3)؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أوسريَّة أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوَّك من المشركين ¬

(¬1) انظر: المغني لابن قدامة 13/ 175 - 179. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 227 وعناصر القوة في الإسلام ص212. (¬3) البخاري برقم 3014، ورقم 3015.

المثال الثاني: وفاؤه بالعهد مع أعدائه صلى الله عليه وسلم

فادعهم إلى ثلاث خصال. . .» (¬1) ثم بيَّنها صلى الله عليه وسلم كالآتي: (أ) الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين. (ب) فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية. (ج) فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان بالله وقاتلهم مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث (¬2). المثال الثاني: وفاؤه بالعهد مع أعدائه صلى الله عليه وسلم: من أعظم الضوابط في الجهاد الوفاء بالعهد وعدم الخيانة؛ لقول الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]. فإذا كان بين المسلمين والكفار عهد أو أمان فلا يجوز ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث 3/ 1357 (رقم 1731). (¬2) انظر المرجع السابق 3/ 1357، وزاد المعاد 3/ 100.

للمسلمين الغدر حتى ينقضي الأمد، فإن خاف المسلمون من أعدائهم خيانةً، بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة، فيحنئذٍ يخبرهم المسلمون أنه لا عهد بيننا وبينكم حتى يستوي علم المسلمين وعلم أعدائهم بذلك. ودلت الآية على أنه إذا وُجِدَت الخيانة المحققة من الأعداء لم يحتج أن يُنبذ إليهم عهدهم؛ لأنه لم يُخَف منهم بل عُلم ذلك. ودل مفهوم الآية أيضًا أنه إذا لم يُخف منهم خيانة؛ بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته (¬1). ولهذا قال سليم بن عامر: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى عهدهم ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 321، وتفسير السعدي 3/ 183 - 184.

المثال الثالث دفعه صلى الله عليه وسلم نزول العذاب على أعدائه

غزاهم، فجاء رجل على فرس أو بِرْذَونٍ وهو يقول: الله أكبر، وفاء لا غدر. فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية - رضي الله عنه - فسأله، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان بينه وبين قومٍ عهدٌ فلا يشدُّ عقدة ولا يحلها حتى ينقضيَ أمَدُها أو ينبذ إليهم على سواء» فرجع معاوية (¬1). وهذا كلُّه يدلُّ على أن الهدف والمراد من الجهاد هو إعلاء كلمة الله عزَّ وجل. المثال الثالث: دفعه صلى الله عليه وسلم نزول العذاب على أعدائه: ومن الأمثلة العظيمة على هذه الرحمة التي شملت حتى أعدائه صلى الله عليه وسلم قصَّته مع مَلَك الجبال حينما بعثه الله إليه؛ ليأمره بما شاء عندما آذاه المشركون، فجاء ملك الجبال وسلَّم عليه وقال: «يا محمد إن الله قد سمع قول قومك ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه 3/ 83 (رقم 2759)، وانظر: صحيح سنن أبي داود 2/ 528، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في الغدر (رقم 1580) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

المثال الرابع: سلامة قلبه صلى الله عليه وسلم، وحبه الخير لليهود وغيرهم

لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربِّي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت (¬1)؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين [والأخشبان جبلان عظيمان في مكة، تقع مكة بينهما]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لملك الجبال: بل أرجوا أن يخرج اللهُ من أصلابهم من يعبُد الله وحده لا يُشرك به شيئًا» (¬2). المثال الرابع: سلامة قلبه صلى الله عليه وسلم، وحُبُّه الخير لليهود وغيرهم: ومن الأمثلة العظيمة لرحمته صلى الله عليه وسلم حديث أنس رضي الله عنه قال: «كان غلام يهوديٌّ يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: "أسلم" فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال: له أطع أبا القاسم، فأسلم، [وفي رواية النسائي فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله]، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه ¬

(¬1) استفهام، أي فمرني بما شئت، انظر: فتح الباري، 6/ 316. (¬2) البخاري برقم 3231، ومسلم برقم 1795.

النوع الثاني: رحمته للمؤمنين صلى الله عليه وسلم

من النار» [وفي رواية أبي داود: أنقذه بي من النار] (¬1). وغير ذلك كثير. النوع الثاني: رحمته للمؤمنين صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، فقد بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم للناس كافة، وهو من أنفس المؤمنين خاصة، يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه، وهو في غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم، ويشق عليه الأمر الذي يشق عليهم، ويحب لهم الخير، ويسعى جاهدًا في إيصاله إليهم، ويحرص على هدايتهم إلى الإيمان، ويكره لهم الشر، وهو شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من ¬

(¬1) البخاري، برقم 1356، ورقم 5657، وانظر: فتح الباري، 3/ 219.

والديهم؛ ولهذا كان حقُّهُ مُقدَّمًا على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه، وتعزيره وتوقيره (¬1). وقال الله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، أقرب مال للإنسان نفسه، فالرسول أولى به من نفسه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بذل لهم النصح والشفقة والرأفة؛ فلذلك وجب على العبد إذا تعارض مراد نفسه مع مراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُقدِّمَ مُراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن لا يُعارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس، كائنًا من كان، وأن يُقدِّم محبَّته على محبَّة الناس كلهم (¬2). وقال سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص357. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص659.

النوع الثالث: رحمته صلى الله عليه وسلم للناس جميعا

عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به» (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاءً فعلينا قضاؤُهُ، ومن ترك مالًا فهو لورثته» (¬2). النوع الثالث: رحمته صلى الله عليه وسلم للناس جميعًا: 1 - عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لا يَرحَمِ الناس لا يَرحَمُه الله عز وجل» (¬3). 2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) مسلم، برقم 1828. (¬2) البخاري، برقم 6731، ورقم 2298، ومسلم، برقم 1619. (¬3) مسلم، برقم 2319.

النوع الرابع رحمته صلى الله عليه وسلم للصبيان

يقول: «لا تُنزعُ الرحمة إلاَّ من شقي» (¬1). 3 - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء، الرَّحِمُ شُجنةٌ من الرحمن، فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله» (¬2). النوع الرابع: رحمتهُ صلى الله عليه وسلم للصبيان: 1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء شيخٌ يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأبطأ القوم عنه أن يُوسِّعوا له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس مِنَّا من لم يرحم صغيرنا، ويوقِّرُ كبيرنا» (¬3). 2 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس مِنَّا من لم يرحم صغيرنا، ¬

(¬1) الترمذي، برقم 1923، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 350. (¬2) الترمذي، برقم 1924، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 350. (¬3) الترمذي، برقم 1919، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 348.

النوع الخامس رحمته صلى الله عليه وسلم للبنات

ويعرف شرف كبيرنا» (¬1). النوع الخامس: رحمتهُ صلى الله عليه وسلم للبنات: 1 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يكون لأحد ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو بنتان، أو أختان فيتقي الله فيهنَّ ويحسن إليهنَّ إلا دخل الجنة» (¬2). 2 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن عال بنتين أو ثلاثًا، أو اختين أو ثلاثًا حتى يَبِنَّ (¬3) أو يموت عنهن كُنتُ أنا وهو في الجنة كهاتين وأشار بأصبعه الوسطى والتي تليها» (¬4). ¬

(¬1) الترمذي، برقم 1920، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 349. (¬2) أبو داود، برقم 5147، والترمذي برقم 1912 و1916، وقال عنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/ 429: (صحيح لغيره). (¬3) حتى يَبِنَّ: أي ينفصلن عنه بتزويج أو موت. (¬4) أحمد في المسند، 19/ 481، برقم 12498، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 2/ 428.

النوع السادس رحمته صلى الله عليه وسلم للأيتام

النوع السادس: رحمتهُ صلى الله عليه وسلم للأيتام: 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة» وأشار مالك أحد رواة الحديث بالسبابة والوسطى (¬1). 2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال له: «امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين» (¬2). النوع السابع: رحمتهُ صلى الله عليه وسلم للمرأة والضعيف: 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) مسلم، برقم 2983، والبخاري من حديث سهل بن سعد برقم 605. (¬2) أحمد، 14/ 558، برقم 9018، وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، 3/ 323: ((رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح)) وحسّنه، الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، 2/ 676. وقد ضعّفه أصحاب الموسوعة الحديثية في تحقيق مسند الإمام أحمد 13/ 21، برقم 7576، ولفظه: ((إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم)) وفي 14/ 558، برقم 9018، بلفظ ما في متن هذا البحث.

النوع الثامن رحمته صلى الله عليه وسلم للأرملة والمسكين

«اللهم إنِّي أُحَرِّج (¬1) حقَّ الضعيفين: اليتيم والمرأة» (¬2). 2 - وعن عامر بن الأحوص رضي الله عنه أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، وذَكَّرَ ووعظ ثم قال: «استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإِنهنَّ عندكم عوانٍ، ليس تملكون منهنَّ شيئًا غير ذلك» (¬3). 3 - وعن أنس رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل بيتًا بالمدينة غير بيتِ أُمِّ سُليْمٍ إلا على أزواجه، فقيل له. فقال: «إني أرحمها، قُتل أخوها معي» (¬4). النوع الثامن: رحمتهُ صلى الله عليه وسلم للأرملة والمسكين: 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الساعي ¬

(¬1) أحرّج: أي أضيقه وأحرمه على من ظلمهما. النهاية في غريب الحديث، 1/ 361. (¬2) ابن ماجه برقم 3678، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 298. (¬3) ابن ماجه، برقم 1851، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 120، ورواه الترمذي أيضاً والنسائي، وانظر: إرواء الغليل، برقم 1997. (¬4) البخاري، برقم 2844، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 161.

على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار»، ولفظ مسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر» (¬1). 2 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ الذِّكر، ويُقِلُّ اللَّغْوَ، ويُطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي له الحاجة» (¬2). 3 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فما نزل حتى جيَّش (¬3) كل ميزاب بالمدينة، فأذكر قول الشاعر: ¬

(¬1) البخاري، برقم 5353، 606، 607، ومسلم، برقم 2982. (¬2) النسائي، برقم 1415، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 456. (¬3) جيّش: أي تَدَفَّقَ وجرى الماء.

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ... ثِمَالُ (¬1) اليتامى عصمة للأرامل وهو قول أبي طالب» (¬2). والأرملة: المرأة التي مات زوجها، والأرمل الرجل الذي ماتت زوجته، وسواء كانا غنيين أو فقيرين، ويُقال لكلِّ واحدٍ من الفريقين على انفراده: أراملُ، وهو بالنساء أخصُّ وأكثر استعمالًا (¬3)؛ ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لئن سلَّمَني اللهُ تعالى لأَدَعَنَّ أرامل العراق لا يحتجن إلى رجلٍ بعدي أبدًا) (¬4). فاتضح من الأحاديث آنفة الذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ¬

(¬1) ثمال: أي غياث. (¬2) ابن ماجه، برقم 1272، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 382، وأخرجه البخاري تعليقاً وموصولاً، وبهذا قوّاه الحافظ ابن حجر، انظر: صحيح ابن ماجه، 1/ 382. (¬3) النهاية في غريب الحديث، 2/ 66. (¬4) البخاري، برقم 3700.

النوع التاسع رحمته صلى الله عليه وسلم لطلاب العلم والشفقة عليهم

يرحم الأرامل والمساكين، ويَحُثُّ على العناية بهم، وسدِّ حاجاتهم، فصلوات الله وسلامه عليه. 4 - عن أمِّ بُجيدٍ رضي الله عنها، أنها قالت: «يا رسول الله صلى الله عليك: إن المسكين ليقومُ على بابي فما أجد له شيئًا أُعطيه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لم تجدي له شيئًا تُعطينه إيَّاه إلا ظلفًا مُحرَّقًا فادفعيه إليه في يده» (¬1) وهذا فيه رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالمساكين وحثَّه على إطعامهم، على حسب القدرة والاستطاعة رحمةً بهم، وشفقةً عليهم. النوع التاسع: رحمته صلى الله عليه وسلم لطلاب العلم والشفقة عليهم: 1 - عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيأتيكم أقوامٌ يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم فقولوا: مرحبًا مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقنوهم» قلت ¬

(¬1) أبو داود، برقم 1667، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 464.

النوع العاشر: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم للأسرى

للحكم: ما أقنوهم؟ قال: علِّموهم (¬1). 2 - عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: «أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبَةٌ متقاربون فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا رفيقًا، فلما ظنَّ أنَّا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا [وفي رواية: فلما رأى شوقنا إلى أهالينا] سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، قال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلِّموهم، ومروهم،. . . وصلُّوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذِّن لكم أحدُكم وليؤمُّكم أكبَرُكُم» (¬2) وهذا فيه شفقة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته لطلاب العلم. النوع العاشر: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم للأسرى: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فُكُّوا ¬

(¬1) الترمذي، برقم 2650، 2651، وابن ماجه برقم 247، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه 1/ 98. (¬2) البخاري، برقم 628، ورقم 631.

النوع الحادي عشر: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم للمرضى والشفقة عليهم

العاني - يعني الأسير - وأطعموا الجائع، وعُودوا المريض» (¬1) وهذا الحديث فيه رحمة النبي صلى الله عليه وسلم للأسرى المسلمين، والأمر بفَكِّهم، والأمر بإطعام الجائع، وعيادة المريض. النوع الحادي عشر: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم للمرضى والشفقة عليهم: 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ قيل: ما هُنَّ يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه» (¬2). 2 - عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عاد مريضًا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع، قيل: يا رسول الله! وما خرفة الجنة؟ قال: جناها» (¬3). ¬

(¬1) البخاري، برقم 3046. (¬2) البخاري، برقم 1240، ورقم 2162. (¬3) مسلم، برقم 2568.

3 - عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يعودُ مسلمًا غدوة إلا صلَّى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يُمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يُصبح، وكان له خريفٌ في الجنة» (¬1). 4 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن عاد مريضًا لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلاَّ عافاه الله من ذلك المرض» (¬2). وهذه الأحاديث فيها الرحمة الظاهرة من النبي صلى الله عليه وسلم بالمرضى، ورغبته العظيمة في نفعهم وشفائهم، وترغيبه لأمته في العناية بالمرضى وإدخال السرور عليهم. ¬

(¬1) الترمذي، برقم 969، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 497. (¬2) أبو داود، برقم 3106، والترمذي برقم 2083، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 3160.

النوع الثاني عشر رحمته صلى الله عليه وسلم للحيوان والطير والدواب

النوع الثاني عشر: رحمتهُ صلى الله عليه وسلم للحيوان، والطير، والدواب: 1 - في حديث أبي هريرة «أن رجلًا وجد كلبًا يأكل الثرى من العطش، فسقاه فغفر الله له، قالوا: يا رسول الله! وإنَّ لنا في البهائم أجرًا؟ قال: في كُلِّ كبدٍ رطبة أجر» وفي لفظ للبخاري: «فشكر الله له فأدخله الجنة» (¬1). 2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غُفِرَ لامرأة مومسةٍ مرَّت بكلبٍ على رأس ركيٍّ كاد يقتله العطش، فنزعت خُفَّها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغُفر لها بذلك» (¬2). 3 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عُذِّبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعًا فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولاسقتها إذ حبستها، ¬

(¬1) البخاري، برقم 173، 2466، ومسلم، برقم 2244. (¬2) البخاري برقم 3321.

ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» (¬1). 4 - عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مسلم يغرس غرسًا أو زرعًا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كان له به صدقة» (¬2). 5 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رجلًا أضجع شاةً وهو يحدُّ شفرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أَتُريدُ أن تُميتَها موتاتٍ هَلاَّ أحددتَ شفرتك قبل أن تُضْجِعَهَا؟» (¬3). 6 - وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَةَ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِبْحَةَ، وليُحِدَّ ¬

(¬1) البخاري برقم 2365، ورقم 3482، ومسلم، برقم 2243. (¬2) البخاري، برقم 2320، ومسلم، برقم 1552. (¬3) الحاكم، 4/ 233، وصححه على شرط الشيخين، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، 4/ 33، وقال: (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 2/ 552.

أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» (¬1). 7 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه قال: «من قتل عصفورًا فما فوقها بغير حقِّها [إلا سأله] الله عز وجل عنها يوم القيامة قيل: يا رسول الله فما حقُّها؟ قال: أن تذبحها فتأكلها ولا تقطع رأسها فَيُرمى بها» (¬2) وسمعت سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: (قتل العصفور لا يجوز إذا كان للتلاعب، أما من قتله؛ لأكله أو الصدقة به فلا بأس) (¬3). 8 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: «أنه مرَّ بصبيانٍ من قريش قد نصبوا طيرًا أو دجاجةً يترامونها، وقد جعلوا لصاحب الطير كلَّ خاطئةٍ من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرَّقَوا فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل ¬

(¬1) مسلم، برقم 1955. (¬2) النسائي، برقم 4445، 7/ 239، والحاكم، 4/ 233، وصححه ووافقه الذهبي، وما بين المعكوفين له، وحسّنه الألباني في صحيح الترغيب، 2/ 552. (¬3) سمعته أثناء تقريره على سنن النسائي، الحديث رقم 4445.

هذا؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعن من اتخذ شيئًا فيه الروحُ غرضًا» (¬1) (¬2). 9 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فانطلق لحاجته فرأينا حُمَّرةً (¬3) معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرةُ فجعلت تَفرش [أي تُرَفرِفُ بجناحيها وتقرب من الأرض] فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من فَجعَ هذه بولدها؟ ردُّوا ولدها إليها ورأى قرية نملٍ (¬4) قد حرَّقناها فقال: مَن حرَّق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يُعَذِّب بالنار إلا ربُّ النار» (¬5). 10 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما «أن النبي ¬

(¬1) الغرض: بفتح الغين المعجمة والراء: هو ما ينصبه الرماة يقصدون إصابته من قرطاس ونحوه. [الترغيب والترهيب للمنذري، 3/ 153]. (¬2) البخاري، برقم 5515، ومسلم، برقم 1958. (¬3) حُمَّرةٌ: بضم الحاء وتشديد الميم، وقد خُفِّف: طائر صغير، كالعصفور أحمر اللون. [النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 1/ 439]. (¬4) قرية نملٍ: موضع النمل مع النمل. (¬5) أبو داود، برقم 2675، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 146.

صلى الله عليه وسلم مَرَّ على حمارٍ قد وُسِمَ في وجهِهِ فقال: لعن الله الذي وسمه» (¬1) [الوسم الكي بحديدة]. 11 - وعنه رضي الله عنه: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجهِ، وعن الوسم في الوجه» (¬2). 12 - وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: «أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه، وفيه: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطًا لرجلٍ من الأنصار فإذا جملٌ فلمَّا رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه (¬3) فسكت، فقال: من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتىً من الأنصارِ فقال: لي يا رسول الله، فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمةِ التي ملَّكَكَ الله ¬

(¬1) مسلم، برقم 2117. (¬2) مسلم، برقم 2116. (¬3) ذفراه: ذفرا البعير بكسر الذال المعجمة مقصور: هي الموضع الذي يعرق في قفا البعير عند أذنه، وهما ذفران. [الترغيب والترهيب للمنذري، 3/ 157].

النوع الثالث عشر رقة قلبه صلى الله عليه وسلم وبكاؤه في مواطن كثيرة

إيَّاها؛ فإنه شكا إليَّ أنَّك تُجيعه وتُدئبُهُ» (¬1). (¬2) وهذه نماذج يسيرة من أنواع رحمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأعدائه، وأحبابه، والمسلم، والكافر، والذكر والأنثى، والصغير، والكبير، والإنس، والحيوان، والطير، والنمل، وغير ذلك كثير لا يحصر في مثل هذا المقام. فصلوات الله وسلامه عليه ما تتابع الليل والنهار. النوع الثالث عشر: رقة قلبه صلى الله عليه وسلم وبُكاؤه في مواطن كثيرة: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يبكي بشهيقٍ ورفع صوتٍ، كما لم يكن ضحكه قهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تَهمُلا ويُسْمَعُ لصدره أزيز، وكان بكاؤُه تارة رحمة للميت، وتارة خوفًا على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله ¬

(¬1) تُدْئِبُهُ: بضم التاء ودال مهملة ساكنة، بعدها همزة مكسورة، وباء موحدة: أي تتعبه بكثرة العمل. [الترغيب والترهيب للمنذري، 3/ 157]. (¬2) أحمد، 1/ 205، وأبو داود، برقم 2549، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 110.

تعالى، وتارة عند سماع القرآن وهو بكاء اشتياقٍ ومحبةٍ وإجلالٍ (¬1). ومن الحالات التي بكى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتي: 1 - بكاؤه من خشية الله في صلاة الليل، فقال بلال: «يا رسول الله لِمَ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا، لقد نزلت عليَّ الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكَّر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]». (¬2) 2 - بكاء النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة من خشية الله تعالى، ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/ 183. (¬2) ابن حبان في صحيحه، برقم 620، وقال شعيب الأرنؤوط: ((إسناده صحيح على شرط مسلم))، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 68: ((وهذا إسناد جيد)).

فعن عبد الله بن الشخِّير قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المِرجل من البكاءِ» (¬1). 3 - بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع القرآن، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليَّ القرآن" فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك؛ وعليك أُنزل؟ فقال: "نعم، فإني أُحِبُّ أن أسمعه من غيري" قال ابن مسعود: فافتتحتُ سورة النساء فلما بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، فإذا عيناه تذرفان» (¬2). 4 - بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند فقد الأحبة، «بكى النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم، فجعلت عيناه تذرفان، فقال له ¬

(¬1) أبو داود، برقم 904، وصححه الألباني في مختصر شمائل الترمذي، برقم 276. (¬2) البخاري، برقم 4582، ومسلم، برقم 800.

عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف! إنها رحمة. . . إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربُّنا، وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» (¬1). 5 - بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاة إحدى بناته، قيل: هي أُمُّ كلثوم زوجة عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع، فعن أنس رضي الله عنه قال: «شهدنا بنتًا للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: "هل فيكم أحد لم يُقارف الليلة؟ " فقال أبو طلحة: أنا، قال: "فانزل في قبرها" قال: فنزل في قبرها فقَبَرها» (¬2). 6 - وبكى صلى الله عليه وسلم عند موت ابنة له أيضًا، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة له تقضي (¬3) ¬

(¬1) البخاري، برقم 1303، ومسلم، برقم 2315. (¬2) البخاري، برقم 1285، ورقم 1342. (¬3) تقضي: تشرف على الموت.

فاحتضنها فوضعها بين يديه فماتت وهي بين يديه، فصاحت أُمُّ أيمن، فقال: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتبكين عند رسول الله؟ " فقالت: ألست أراك تبكي؟ قال: إني لست أبكي إنما هي رحمة، إن المؤمن بكل خير على كلِّ حال، إنَّ نفسه تُنزع من بين جنبيه وهو يحمد الله عزَّ وجلَّ» (¬1). 7 - وبكى صلى الله عليه وسلم عند وفاة أحد أحفاده، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: «أرسلَتْ بنتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم (¬2) إنَّ ابني قد احتُضِرَ فاشْهَدنا، فأرسل يُقرِئُ السلام ويقول: "إنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمًّى، فلتصبر ولتحتسب" فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينَّها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأُبَيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال رضي الله عنهم، فرُفِعَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبيُّ، فأقعده في حجره ونفسه تقعقع، ¬

(¬1) أحمد، 1/ 268، والترمذي في الشمائل، برقم 324، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، برقم 279. (¬2) قيل: إنها زينب رضي الله عنها؛ بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

قال: كأنها شَنٌّ، وفي رواية: تقعقع (¬1) كأنها في شنٍّ (¬2) ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسولَ الله ما هذا؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده" وفي رواية: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب مَن شاء من عباده، إنما يرحم الله من عباده الرُّحماءُ» (¬3). 8 - بكى النبي صلى الله عليه وسلم عند موت عثمان بن مظعون، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّل عثمان بن مظعون وهو ميِّتٌ حتى رأيت الدموع تسيل». ولفظ الترمذي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبَّل عثمانَ بن مظعون، وهو ميِّتٌ وهو يبكي، أو قال: عيناه تذرفان» (¬4). 9 - بكى صلى الله عليه وسلم على شهداء مؤتة، فعن أنسٍ رضي الله عنه «أن النبي ¬

(¬1) تقعقع: تضطرب وتتحرك. (¬2) الشن: القربة البالية. (¬3) البخاري، برقم 1284، ومسلم، برقم 923. (¬4) أبو داود، برقم 3163، والترمذي برقم 989، وابن ماجه برقم 1456، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 289.

صلى الله عليه وسلم نعى زيدًا وجعفرًا للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: أخذ الرَّايةَ زيدٌ فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فُتِح عليهم» (¬1). 10 - بكى عند زيارة قبر أمه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أَزورَ قبرها فَأذِنَ لي، فزورُوا القبور فإنها تذكركم الموت» (¬2). 11 - بكى صلى الله عليه وسلم عند سعد بن عبادة وهو مريض، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي ¬

(¬1) البخاري، برقم 4262. (¬2) مسلم، برقم 108 - (976).

الله عنهم، فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله (¬1) فقال: "قد قضى؟ " قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بَكَوْا، فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يُعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يُعذب بهذا (¬2) - وأشار إلى لسانه - أو يرحم. . .» (¬3) الحديث (¬4). 12 - بكى صلى الله عليه وسلم عند القبر، فعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «كُنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بَلَّ الثَّرى ثم قال: يا إخواني! لِمِثْلِ هذا فأعِدُّوا» (¬5). 13 - بكى صلى الله عليه وسلم في ليلة بدر وهو يصلي يناجي ربه ¬

(¬1) غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها [فتح الباري لابن حجر، 3/ 175]. (¬2) ولكن يعذب بهذا: أي إن قال: سوءاً. [فتح الباري 3/ 175]. (¬3) أو يرحم: أي إن قال خيراً. [فتح الباري 3/ 175]. (¬4) البخاري، برقم 1304، ومسلم، برقم 924. (¬5) ابن ماجه، برقم 4195، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 369، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1751. وكذلك أخرجه أحمد، 4/ 294.

ويدعوه حتى أصبح، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: «ما كان فينا فارس يوم بدرٍ غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرةٍ يُصلِّي ويبكي حتى أصبح» (¬1). 14 - بكى صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «انكسفتِ الشمس يومًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي، ثم سجد فلم يكد يرفع رأسه، فجعل ينفخ ويبكي، وذكر الحديث، وقال: فقام فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "عُرِضَتْ عليَّ النار فجعلت أنفخها، فخفت أن تغشاكم" وفيه: ربِّ ألم تعدني ألا تُعذَّبهم» (¬2). 15 - بكى صلى الله عليه وسلم لقبوله الفداء في أسرى معركة بدر، ¬

(¬1) ابن خزيمة، برقم 899، 2/ 53، وأحمد 1/ 125، 2/ 222، وصحح إسناده الألباني والأعظمي في صحيح ابن خزيمة، 2/ 52. (¬2) ابن خزيمة في صحيحه، برقم 901، وقال الألباني والأعظمي: إسناده صحيح، انظر: صحيح ابن خزيمة، 2/ 53، وصححه الألباني في مختصر شمائل الترمذي برقم 278.

ففي حديث عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم: «. . . فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء؟ " فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنوا العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فديةً فتكون لنا قوةً على الكفار، فعسى الله أن يديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قال: قلت: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكرٍ، ولكني أرى أن تُمكِّنَّا فنضرب أعناقهم، فتُمكِّن عليًا من عقيلٍ فيضربُ عُنقه، وتُمكِّنِّي من فلانٍ - نسيبًا لعمر - فأضربَ عنقه؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدُها، فَهَوِيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكرٍ، ولم يَهْوَ ما قُلْتُ، ولَمَّا كان مِنَ الغَدِ جئتُ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله! أخبرني من أيِّ شيءٍ تبكي أنت وصاحبُك؟ فإن وجدتُ بُكاءً بكيت، وإن لم أجد بُكاءً تباكيتُ لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أبكي للذي عرض عليَّ أصحابُك من أخذهم الفداء، لقد عُرِضَ عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة" شجرةٍ قريبةٍ من نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ (¬1) فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] فأحلَّ الله الغنيمة لهم» (¬2). 16 - بكى النبيُّ صلى الله عليه وسلم شفقة على أمته، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عزَّ وجلَّ في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] الآية، وقال عيسى عليه السلام: ¬

(¬1) يثخن في الأرض: يُكثر القتل والقهر في العدوِّ. شرح النووي 12/ 87. (¬2) مسلم، برقم 1763.

{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] الآية، فرفع يديه وقال: "اللهم أُمَّتي أُمَّتي" وبكى، فقال الله عز وجل: "يا جبريل اذهب إلى محمد وربُّك أعلم فسله ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنَّا سَنُرضيك في أُمَّتك ولا نسوءك» (¬1). ¬

(¬1) مسلم، برقم 202.

المبحث السادس تلطفه صلى الله عليه وسلم بالأطفال وإدخال السرور عليهم

المبحث السادس تلطفه صلى الله عليه وسلم بالأطفال وإدخال السرور عليهم وَصَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الدرجة العليا في الكمال البشري في جميع المجالات، ومن هذه الأخلاق العظيمة أخلاقه مع الأطفال التي ضرب فيها المثل الأعلى، ولا يصل إلى درجته أحد من خلق الله تعالى، لا علماء النفس، ولا غيرهم؛ ولكن مع ذلك المسلم يُلْزِمُ نفسه على حسب قدرته بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذا تلطفه ومداعبته الكريمة للأطفال، ومن ذلك على سبيل المثال والإيجاز ما يأتي: المثال الأول: مداعبته صلى الله عليه وسلم محمود بن الرُّبيع: قال محمود رضي الله عنه: «عَقلتُ من النبي صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مجَّها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلوٍ» (¬1) وقوله رضي الله عنه: عقلت: أي حفظت، ومجةً: المجُّ هو إرسال الماء من الفَمِ، ولا يُسمَّى مجًّا إلا إذا كان عن بُعدٍ، وفعل ذلك صلى الله عليه وسلم إمَّا مداعبةً أو ليُبارك عليه كما كان ذلك شأنه مع أولاد ¬

(¬1) البخاري، برقم 77، ومسلم، 1/ 456، برقم 265 - (33).

المثال الثاني ملاطفته ومداعبته صلى الله عليه وسلم لجملة من الأطفال

الصحابة (¬1) قال شيخنا ابن باز رحمه الله: وهذا من باب المداعبة وحسن الخلق (¬2). المثال الثاني: ملاطفته ومداعبته صلى الله عليه وسلم لجملة من الأطفال: عن جابر بن سَمُرة رضي الله عنه، قال: «صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأُولى ثم خرج إلى أهله وخرجتُ معه، فاستقبلهُ وِلدانٌ فجعل يمسح خدَّيْ أحدهم واحدًا واحدًا، قال: وأما أنا فمسح خدَّيَّ فوجدت لِيَدِهِ بردًا أو ريحًا، كأنما أخرجها من جؤنة عطَّار» (¬3) والجؤنة: السفط الذي فيه متاع العطار. المثال الثالث: ملاطفته صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين في مواقف كثيرة: 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن عليٍّ وعنده الأقرع بن حابسٍ التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر، 1/ 172. (¬2) سمعته منه أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 77. (¬3) مسلم، برقم 2329.

إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من لا يَرْحم لا يُرحم» (¬1). 2 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «جاء أعرابيٌّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تُقَبِّلون صبيانكم فما نُقَبِّلُهُم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوَأَمْلِكُ لَكَ أن نَزَعَ اللهُ من قلبك الرحمة» (¬2) والمعنى: لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها الله منه (¬3). 3 - والحسن والحسين رضي الله عنهما من أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:. . . وسمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «هُمَا ريحانتاي من الدنيا» (¬4) والمعنى: أنهما مما أكرمني الله وحباني به؛ لأن الأولاد يُشمَّون ويُقبَّلون، فكأنهم من جملة الرياحين، وقوله "من ¬

(¬1) البخاري، برقم 5997. (¬2) البخاري، برقم 5998، ومسلم، برقم 2317. (¬3) فتح الباري لابن حجر، 10/ 430. (¬4) البخاري برقم 5994.

المثال الرابع ركوب الصبي على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو ساجد

الدنيا" أي نصيبي من الريحان الدنيوي (¬1). 4 - وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعلَّ الله أن يُصلِحَ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (¬2). وقد أصلح الله به بين معاوية ومن معه وأتباع علي بن أبي طالب ومن معه فتنازل عن الخلافة لمعاوية فحقن الله تعالى به دماء المسلمين (¬3). 5 - وعن البراء رضي الله عنه قال: «رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم والحسن بن عليٍّ على عاتقه يقول: اللهم إني أُحِبُّه فأَحِبَّه» (¬4). المثال الرابع: ركوب الصبي على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو ساجد: وعن شدَّادٍ رضي الله عنه قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس؛ ليصلي ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر، 10/ 427. (¬2) البخاري، برقم 3746. (¬3) انظر: البخاري، برقم 2704. (¬4) البخاري، برقم 3749.

المثال الخامس محبته صلى الله عليه وسلم لأسامة

بهم إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسنًا أو حسينًا فتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثم كبر للصلاة، فصلَّى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أَبِي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ساجد، فرجعتُ إلى سجودي، فلمَّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظنَنَّا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك، قال: "كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أُعَجِّلَهُ حتى يقضي حاجته» (¬1). المثال الخامس: محبته صلى الله عليه وسلم لأُسامة: عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فَيُقْعِدُني على فخذه ويُقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر ثُمَّ يضمُّهما ثم يقول: "اللهم ارحمهما فإني ¬

(¬1) النسائي برقم 1142، وصححه الألباني في صحيح النسائي 1/ 246، ومسند أحمد 3/ 493.

المثال السادس حمله صلى الله عليه وسلم بنت زينب وهو يصلي

أرحمهما» وفي رواية: «اللهم إني أُحبُّهما فأَحبَّهما» (¬1). المثال السادس: حَمْلُهُ صلى الله عليه وسلم بنت زينب وهو يصلي: فعن أبي قتادة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حاملٌ أمامة بنت زينب، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أبي العاص، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها» (¬2). المثال السابع: مداعبة أم خالد باللغة الحبشية: فعن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعليَّ قميص أصفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَنَه سَنَه" قال عبد الله الراوي: وهي بالحبشية: حسنة، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة فزبرني أبي (¬3) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعها" ثم قال: "أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي» قال عبد الله فبقيت حتى ¬

(¬1) البخاري، برقم 6003، ورقم 3747، 3735. (¬2) البخاري، برقم 516، ورقم 5996، ومسلم، 1/ 385، برقم 543. (¬3) زبرني: أي نهرني وزجرني.

المثال الثامن تخفيفه صلى الله عليه وسلم الصلاة عند بكاء الصبي

ذكر (¬1) والمعنى فبقيت حتى ذكر الراوي من بقائها أمدًا طويلًا، وقيل: لم تعش امرأة مثلما عاشت أم خالد (¬2). المثال الثامن: تخفيفه صلى الله عليه وسلم الصلاة عند بكاء الصبي: كان يخفف الصلاة إذا سمع بكاء الصبي رحمة لأمه وشفقة عليها وعليه، صلى الله عليه وسلم، فعن أبي قتادة، عن أبيه رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي لأقوم في الصلاة أُريد أن أُطوِّل فيها فأسمع بكاء الصَّبيِّ؛ فأتجوَّز في صلاتي كراهية أن أشقَّ على أُمِّه» (¬3). المثال التاسع: سلامه صلى الله عليه وسلم على الصبيان: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أنه مرَّ على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله» (¬4). ¬

(¬1) البخاري، برقم 3071. (¬2) فتح الباري لابن حجر، 1/ 184. (¬3) البخاري، برقم 707. (¬4) البخاري، برقم 6247، ومسلم 4/ 1708.

المثال العاشر مداعبته صلى الله عليه وسلم لأبي عمير

المثال العاشر: مداعبته صلى الله عليه وسلم لأبي عُميرٍ: فعن أنس رضي الله عنه، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقًا، وكان لي أخٌ يُقال له: أبو عُمير - أحسبه فَطِيمًا - وكان إذا جاء صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا عُمير ما فعل النُّغير؟» (¬1) نُغرٌ كان يلعبُ به، أي طير صغير كان يلعب به أبو عمير، فمات النُّغير، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم حزينًا على النغير، فداعبه صلى الله عليه وسلم (¬2). المثال الحادي عشر: إعطاؤه صلى الله عليه وسلم الصبي قبل الأشياخ؛ لأنه عن يمينه: أعطى صلى الله عليه وسلم الشراب لغلام صغير عن يمينه قبل الأشياخ، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلامٌ أصغر القوم، والأشياخ عن يساره فقال: "يا غلام أَتَأْذَنُ لِي أَن أُعطيه الأشياخ؟ " قال: ما كنت لأوثر بفضلي منكَ أحدًا يا رسول الله! فأعطاه إياه». وفي رواية: «أَتَأْذَنُ لي أن أُعطِيَ ¬

(¬1) البخاري، برقم 6203. (¬2) فتح الباري لابن حجر، 10/ 583.

المثال الثاني عشر بول الصبيان في حجره صلى الله عليه وسلم

هؤلاء؟ " فقال الغلامُ: لا واللهِ يا رسول الله، لا أُوثِرُ بنصيبي منك أحدًا، قال: فَتَلَّهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في يده» (¬1). المثال الثاني عشر: بول الصبيان في حجره صلى الله عليه وسلم: فعن أمِّ قيس بنت مِحصنٍ «أنها أتت بابنٍ لها لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ فنضحه ولم يغسله» (¬2). وغير هذه المواقف كثيرةٌ جدًا. ¬

(¬1) البخاري، برقم 2351، ورقم 2451. (¬2) البخاري، برقم 223.

المبحث السابع حسن خلقه صلى الله عليه وسلم

المبحث السابع حسن خلقه صلى الله عليه وسلم أولًا: ترغيبه صلى الله عليه وسلم في حسن الخلق لا يُحصَى من دخل في الإسلام بسبب خلق النبي الكريم عليه الصلاة والسلام سواء كان ذلك الخلق الحسن من: جوده أو كرمه، أو عفوه أو صفحه، أو حلمه أو أناته، أو رفقه أو صبره، أو تواضعه أو عدله، أو رحمته أو منِّه، أو شجاعته وقوته. . وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في حسن الخلق في مجالات عديدة منها ما يأتي: 1 - الخلق الحسن في حياة المسلم عامة، وفي حياة الدعاة إلى الله تعالى خاصة من أعظم روابط الإيمان وأعلى درجاته، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» (¬1). 2 - الخلق الحسن ضرورة اجتماعية لجميع المجتمعات، ¬

(¬1) أخرجه الترمذي 3/ 437 برقم 1162، وأبو داود 4/ 220 برقم 4682، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/ 340.

وهو من أعظم المهمات التي تتعين على جميع الدعاة إلى الله تعالى؛ لأن من تخلَّق به كان من أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقربهم منه مجلسًا يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: «إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا» (¬1). 3 - الخلق الحسن يجعل المسلم من أحسن الناس، ومن خيارهم مطلقًا، ولا يكون كذلك إلا بالتخلق بهذا الخلق العظيم، قال صلى الله عليه وسلم: «إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا» (¬2). وقد أحسن الشاعر إذ يقول: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا 4 - الخلق الحسن من أعظم القربات وأجلِّ العطايا والهبات، والداعية إلى الله تعالى هو من أحق الناس بهذا الخير العظيم؛ ليطبقه على نفسه، ويدعو الناس إليه؛ ¬

(¬1) أخرجه الترمذي 4/ 370 برقم 2019، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 196. (¬2) البخاري مع الفتح 10/ 452، برقم 6029، ومسلم 4/ 1810 برقم 2321.

ليحصل على الثواب الجزيل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن» (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» (¬2) وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: «أربع إذا كن فيك فما عليك ما فاتك من الدنيا: حفظُ أمانةٍ، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة» (¬3) وبهذا يحصل المسلم على جوامع الخيرات والبركات، قال صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق» (¬4). 5 - الخلق الحسن هو وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع المسلمين، وخاصة الدعاة، فقد أوصى به صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن واليًا، وقاضيًا، وداعيًا إلى الله ¬

(¬1) أبو داود 4/ 253 برقم 4799، والترمذي 4/ 362، برقم 2002، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 3/ 911. (¬2) أبو داود 4/ 252 برقم 4798 وصححه الألباني في صحيح أبي داود 3/ 911. (¬3) أحمد في المسند بإسناد جيد 2/ 177، وانظر: صحيح الجامع الصغير للألباني 1/ 301 برقم 886. (¬4) مسلم 4/ 1980 برقم 2553.

فقال له: «. . . وخالق الناس بخلق حسن» (¬1). 6 - الخلق الحسن ذو أهمية بالغة؛ لأن الله عز وجل أمر به نبيه الكريم، وأثنى عليه به، وعظم شأنه الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم. قال عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثتُ لِأُتمِّمَ مكارم الأخلاق» (¬2) وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: «. . . فإن خلق نبيكم صلى الله عليه وسلم كان القرآن» (¬3). 7 - الخلق الحسن من أعظم الأساليب التي تجذب ¬

(¬1) الترمذي 4/ 355، برقم 2389، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 191. (¬2) البيهقي في السنن الكبرى بلفظه 10/ 192، وأحمد 2/ 381، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/ 613، وانظر: الأحاديث الصحيحة للألباني 1/ 75 برقم 45. (¬3) مسلم في صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض 1/ 513، برقم 746.

الناس إلى الإسلام، والهداية، والاستقامة؛ ولهذا من تتبع سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام وجد أنه كان يلازم الخلق الحسن في سائر أحواله وخاصة في دعوته إلى الله تعالى، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجًا بفضل الله تعالى ثم بفضل حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، فكم دخل في الإسلام بسبب خلقه العظيم، فهذا يسلم ويقول: «والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ» (¬1) وذاك يقول: «اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا» (¬2) تأثر بعفو النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتركه على تحجيره رحمة الله التي وسعت كل شيء، بل قال له: «لقد تحجرت واسعًا»، والآخر يقول: «فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه» (¬3) والرابع يقول: «يا قومي أسلموا فإن محمدًا يعطي ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 8/ 87، برقم 4372، ومسلم 3/ 1386، برقم 1764. (¬2) البخاري مع الفتح 10/ 438، برقم 6010. (¬3) مسلم 1/ 381، برقم 537.

عطاءً لا يخشى الفاقة» (¬1) والخامس يقول: «والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ» (¬2))، والسادس يقول: بعد عفو النبي صلى الله عليه وسلم عنه (¬3) «جئتكم من عند خير الناس»، ثم يدعو قومه للإسلام فأسلم منهم خلق كثير (¬4). وهناك أمثلة كثيرة جدًا. 8 - الخلق الحسن هو أمنية كل مسلم وكل داعية مخلص خاصة؛ لأنه بذلك ينجو ويفوز وينجح في جميع أموره الخاصة والعامة؛ ولهذه الأهمية كان صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يهديه للخلق الحسن، فكان صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاحه لصلاة الليل: «واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت. . .» (¬5) وكان يقول: «اللهم كما أحسنت ¬

(¬1) مسلم 4/ 1806، برقم 2312. (¬2) مسلم 4/ 1806، برقم 2313. (¬3) البخاري، برقم 2910، ومسلم، برقم 843. (¬4) انظر: فتح الباري 7/ 428. (¬5) مسلم 1/ 534، برقم 770.

خَلْقي فحسِّن خُلُقي» (¬1). 9 - الخلق الحسن يُحبب صاحبه إلى الناس جميعًا حتى أعدائه، ويتمكن بذلك من إرضاء الناس على اختلاف طبقاتهم، وكل من جالسه أو خالطه أحبه، وبهذا يسهل على الداعية إدراك مطالبه السامية بإذن الله تعالى؛ لأن الدعاة إلى الله عز وجل لا يسعون الناس بأموالهم ولكن ببسط الوجه وحسن الخلق. 10 - إن من لم يتخلق بالخلق الحسن من الدعاة ينفر الناس من دعوته، ولا يستفيدون من علمه وخبرته؛ لأن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون ممن يستطيل عليهم أو يبدو منه احتقارهم، واستصغارهم، ولو كان ما يقوله حقًا. قال عز وجل للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا ¬

(¬1) البيهقي وأحمد 6/ 68، وصححه الألباني في إرواء الغليل 1/ 113 برقم 74.

مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وقال عز وجل: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]، وقال عز وجل مُمْتَنًّا على عباده: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164] الآية، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ

رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا - وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 45 - 47]، ولا شك أنه يتعين على كل داعية أن يتخذه عليه الصلاة والسلام قدوة وإمامًا لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. 11 - إن صلاح الأمة وهدايتها والنهوض بها لا يكون سليمًا نقيًا إلا بالأخذ من المنبع الصافي، والبعد عن الأفكار الهدامة المنحرفة، والتزام الدعاة إلى الله تعالى بالخلق الحسن ودعوة الناس إليه هو من هذا المنبع، وتطبيق ذلك على أنفسهم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]؛ ولهذا أمر الله بالعلم قبل العمل، وبالعمل قبل الدعوة إليه، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] الآية، وقال: {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] فقدم العمل قبل الدعوة إلى الحق. 12 - الخلق الحسن في الدعوة يجعل الداعية مستنير القلب، ويفتح مداركه، فيتبصر به مواطن الحق، ويهتدي به إلى الوسائل والأساليب الصحيحة في دعوة الناس الملائمة للظروف والأحوال، والأشخاص {يَاأَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] الآية. 13 - الخلق الحسن في الدعوة من أعظم الأسباب التي تنجي من النار وتورث الفوز بأعلى الدرجات في جنات النعيم وهذا هو غاية كل مسلم بعد رضى الله عز وجل، ولهذا عندما سأل صلى الله عليه وسلم رجلًا فقال له: «ما تقول في الصلاة؟ " قال: أتشهَّد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار. أما والله! ما أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ. فقال صلى الله عليه وسلم "حولها نُدَنْدِنُ» (¬1) وهذا يدل أن جميع الأقوال والدعوات والأعمال؛ إنما هو من أجل الفوز بالجنة والنجاة من النار بعد رضى الله عز وجل. وقد تكفل صلى الله عليه وسلم ببيت في أعْلى الجنة لمن حسَّن خلقه فقال: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن ¬

(¬1) أبو داود، برقم 792، وأحمد 3/ 474, وابن ماجه، برقم 3847، وانظر: صحيح ابن ماجه 2/ 328.

كان محقًا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقه» (¬1). 14 - الخلق الحسن من أكثر الأعمال التي يدخل بها المسلم الجنة، «فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: "تقوى الله وحسن الخلق» (¬2) ويبين صلى الله عليه وسلم: أن النار تحرم على كل قريب هَيِّنٍ سهل. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أُخبركم بمن يحرم على النار - أو بمن تَحرُمُ عليه النار -؟! على كُلِّ قريبٍ هيِّنٍ لَيِّنٍ» (¬3). ¬

(¬1) أبو داود، برقم4800، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 3/ 911، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 273. (¬2) الترمذي 4/ 363 برقم 2005، وانظر: جامع الأصول 11/ 694 وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 2/ 194. (¬3) الترمذي 4/ 654 برقم 2488، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 610. وانظر: جامع الأصول 11/ 698.

ثانيا: عمله بالأخلاق الحسنة صلى الله عليه وسلم

ثانيًا: عمله بالأخلاق الحسنة صلى الله عليه وسلم الخلق الحسن موضوع واسع جدًا يشمل: الحلم، والأناة، والجود والكرم، والعفو والصفح، والرفق واللين، والصبر، والعزيمة، والثبات، والعدل والإنصاف، والصدق، والبرَّ، والوفاء بالعهد، والإيثار، والرحمة، والعفة، والتواضع، والزهد، والكيس، والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، والإخلاص. . . وهذا هو الخلق الحسن في الدعوة إلى الله تعالى وما يتفرع منه. أما الخلق العظيم الذي مدح الله به النبي صلى الله عليه وسلم فهو الدين كله، والخلق الحسن جزء منه كما ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى (¬1) وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في مدارج السالكين: (حسن الخلق يقوم على ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية 10/ 658.

أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقِه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل. ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة) (¬1). وهذه الأخلاق الحسنة العظيمة قد عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) مدارج السالكين 2/ 308.

المبحث الثامن جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم

المبحث الثامن جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم [مراتب الجود والكرم] الجود والكرم خُلقٌ عظيم وهو على عشر مراتب على النحو الآتي: 1 - الجود بالنفس وهو أَعْلى مراتب الجود. 2 - الجود بالرياسة، فيحمل الجواد جوده على الجود برياسته والإيثار في قضاء حاجات الناس. 3 - الجود براحته، فيجود بها تعبًا في مصلحة غيره. 4 - الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود، وهو أفضل من المال. 5 - الجود بالنفع بالجاه كالشفاعة وغيرها. 6 - الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، فكل يوم تعدل فيه بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فترفع متاعه عليها أو تحمله عليها صدقة،

والكلمة الطيبة صدقة. 7 - الجود بالعرض، كمن يعفو عمن اغتابه، أو سبه، ونال من عرضه، كما فعل أبو ضمضم. 8 - الجود بالصبر، والاحتمال، وكظم الغيظ، وهذا أنفع من الجود بالمال. 9 - الجود بالخلق الحسن، والبشاشة، والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر. 10 - الجود بترك ما في أيدي الناس عليهم فلا يلتفت إليه. ولكل مرتبة من الجود مزيد وتأثير خاص في القلب، والله سبحانه قد ضمن المزيد للجواد والإتلاف للممسك، والله المستعان (¬1). وكل أنواع الجود والكرم قد اتصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم 2/ 293 - 296 بتصرف.

ومن الأمثلة العظيمة لتطبيق الجود والكرم

ومن الأمثلة العظيمة لتطبيق الجود والكرم بالمال ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمثلة الآتية: المثال الأول: وصف أنس رضي الله عنه لكرمه صلى الله عليه وسلم: عن أنس رضي الله عنه قال: «ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قومي أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة» (¬1). وهذا الموقف الحكيم العظيم يدل على عظم سخاء النبي صلى الله عليه وسلم، وغزارة جوده (¬2). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فقال: لا، 4/ 1806، برقم 2312. (¬2) انظر: أمثلة كثيرة من كرمه وجوده في البخاري مع الفتح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا عبدان 1/ 30، برقم 6، وكتاب الأدب باب حسن الخلق وما يكره من البخل 10/ 455، برقم 6034، وكتاب الرقاق، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أن عندي مثل أُحُد ذهباً 11/ 264، برقم 6445، 11/ 303، برقم 6470، وكتاب الكفالة، باب من تكفل عن ميت ديناً فليس له أن يرجع 4/ 474، برقم 2296، وكتاب التمني، باب تمني الخير، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كان لي مثل أحد ذهباً 13/ 217، برقم 7228، ومسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - = = شيئاً قط فقال: لا، وكثرة عطائه 4/ 1805، 1806، برقم 2311 - 2314، وكتاب الزكاة، باب من سأل بفحش وغلظة 2/ 730، برقم 1056 - 1058، وباب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة 2/ 687، برقم 991.

المثال الثاني وصف صفوان رضي الله عنه لكرمه صلى الله عليه وسلم

وكان صلى الله عليه وسلم يعطي العطاء ابتغاء مرضاة الله - عز وجل - وترغيبًا للناس في الإسلام، وتأليفًا لقلوبهم، وقد يُظهر الرجل إسلامه أولًا للدنيا ثم - بفضل الله تعالى، ثم بفضل النبي صلى الله عليه وسلم ونور الإسلام - لا يلبث إلا قليلًا حتى ينشرح صدره للإسلام بحقيقة الإيمان، ويتمكن من قلبه، فيكون حينئذٍ أحب إليه من الدنيا وما فيها (¬1). المثال الثاني: وصف صفوان رضي الله عنه لكرمه صلى الله عليه وسلم: روى مسلم في صحيحه «أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح - فتح مكة - ثم خرج صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين، فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة. قال صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم 15/ 72.

وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ» (¬1). وقال أنس - رضي الله عنه -: «إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها» مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا، وكثرة عطائه (¬2). وإذا رأى صلى الله عليه وسلم الرجل ضعيف الإيمان، فقد كان صلى الله عليه وسلم يجزل له في العطاء، قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يُكبَّ في النار على وجهه» (¬3) ولذلك ¬

(¬1) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال: لا، وكثرة عطائه 4/ 1806، برقم 2313. (¬2) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما آنفاً 4/ 1806، برقم 58 - (2312). (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الزكاة، باب قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 3/ 340، برقم 1478، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء من يخاف على إيمانه 2/ 733، برقم 1059.

المثال الثالث ما فعله صلى الله عليه وسلم مع المرأة المشركة

كان صلى الله عليه وسلم «يعطي رجالًا من قريش المائة من الإبل» (¬1). المثال الثالث: ما فعله صلى الله عليه وسلم مع المرأة المشركة: من كرمه وأخلاقه العظيمة في ذلك ما فعله صلى الله عليه وسلم مع المرأة المشركة صاحبة المزادتين، «فإنه صلى الله عليه وسلم بعد أن أسقى أصحابه من مزادتيها، ورجعت المزادتان أشد ملاءةً منها حين ابتدأ فيها قال لأصحابه "اجمعوا لها"، فجمعوا لها - من بين عجوة ودقيقة وسويقة - حتى جمعوا لها طعامًا كثيرًا وجعلوه في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، فقال لها: "اذهبي فأطعمي هذا عيالك، تعلمين والله ما رزأناك (¬2) من مائك شيئًا، ولكن الله هو الذي أسقانا». وفي القصة أنها رجعت إلى قومها فقالت: «لقيت أسحر ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم 6/ 249، برقم 3143 - 3349. (¬2) أي: لم ننقص من مائك شيئاً. انظر: فتح الباري 1/ 453.

الناس، أو هو نبي كما زعموا، فهدى الله ذلك الصرم (¬1) بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا» (¬2). وفي رواية: «فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون ذلك الصرم الذي هي فيه، فقالت يومًا لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام» (¬3). وقد كان سبب إسلام هذه المرأة أمران: الأمر الأول: ما رأته من أخذ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مزادتيها ولم ينقص ذلك من مائها شيئًا، وهذا من ¬

(¬1) الصرم: أبيات مجتمعة من الناس. انظر: فتح الباري 1/ 453. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة 6/ 580، برقم 3571، وأطرافه في البخاري: برقم 344، ورقم 348، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها 1/ 476، برقم 682. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم بكفيه من الماء 1/ 448، برقم 344.

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على صدق رسالته. الأمر الثاني: كرم النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر أصحابه أن يجمعوا لها، فجمعوا لها طعامًا كثيرًا. أما قومها، فقد أسلموا على يديها؛ لأن المسلمين صاروا يراعون قومها بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستئلاف لهم، حتى كان ذلك سببًا لإسلامهم (¬1). وهذه الأمثلة التي سقتها ما هي إلا قطرة من بحر من كرم النبي صلى الله عليه وسلم، فما أحوجنا إلى الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتباس من نوره وهديه في دعوته وفي أموره كلها، والله المستعان. ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 1/ 453.

المبحث التاسع عدله صلى الله عليه وسلم

المبحث التاسع عدله صلى الله عليه وسلم [ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في العدل] وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في العدل، ومن ذلك أنه قال: «سبعة يُظِلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظِلِّ إلا ظِلُّه: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله. . .» الحديث (¬1). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نورٍ عن يمين الرحمن عز وجل وكِلتَا يديه يمينٌ، الذين يعدلون في حُكمِهم، وأهليهم، وَمَا وَلُوا» (¬2). العدل له مجالات كثيرة لا تحصر منها: العدل في الولاية، والعدل في القضاء، والعدل في تطبيق الحدود، والعدل في المعاملات بين الناس، والعدل في الإصلاح بين الناس، والعدل مع الأعداء، والعدل مع الأولاد، والعدل بين الزوجات. . . وغير ذلك. ¬

(¬1) البخاري، برقم 660، ومسلم، برقم 1031. (¬2) مسلم، برقم 1827.

ومن الأمثلة العظيمة في تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم العدل

ومن الأمثلة العظيمة في تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم العدل الأمثلة الآتية: المثال الأول: مع المرأة المخزوميَّة التي سرقت: قد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعدل البشر في جميع أموره وأحكامه، ومما يضرب به المثل في عدله إلى يوم القيامة قصة المخزومية التي سرقت فقطع يدها بعد أن شفع فيها أسامة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحابِ في ذلك، ولم يقبل الشفاعة في حد من حدود الله تعالى. فعن عائشة - رضي الله عنها - «أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يُكلِّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُتيَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتشفع في حد من حدود الله؟ " فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله! فلما كان العشي

قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله، فقال: "أما بعد، أيها الناس: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتيني فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). إن العدل خلاف الجور، وقد أمر الله - عز وجل - به في القول والحكم، فقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ ¬

(¬1) البخاري مع الفتح بنحوه مختصراً في كتاب الحدود، باب إقامة الحد على الشريف والوضيع 12/ 86، برقم 6786، وباب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان 12/ 87، برقم 6788 6/ 513، برقم 3475، 5/ 255، برقم 2648، ورواه مسلم بلفظه في كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود 3/ 1315، برقم 1688، وانظر: شرح النووي 11/ 186، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 12/ 95، 96.

المثال الثاني مع النعمان بن بشير وابنه رضي الله عنهما

كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] وقال: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. ولاشك أن هذا الخلق العظيم وغيره من أخلاقه صلى الله عليه وسلم مما يوجب على المسلم تطبيقها أسوة به صلى الله عليه وسلم (¬1). المثال الثاني: مع النعمان بن بشير وابنه رضي الله عنهما: وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال وهو على المنبر: «أعطاني أبي عطيَّةً، فقالت عمرة بنتُ رواحة: لا أرضَ حتى تُشهِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيتُ ابني من عمرة بنت رواحة عطيَّةً فأمرتني أن أُشهدكَ يا رسولَ الله، قال: "أعطيت سائر ¬

(¬1) انظر مواقف حكيمة في هذا الشأن في: سنن أبي داود 2/ 242، والترمذي 3/ 137، والنسائي 7/ 64، وانظر أيضاً: البخاري مع الفتح 3/ 292، برقم 1423، 2/ 143، برقم 640، 11/ 312، برقم 6479، 12/ 112، برقم 6806، ومسلم 3/ 1458، برقم 1827 - 1830 وهذا الحبيب يا محبّ ص534، 535.

ولدك مثل هذا؟ " قال: لا. قال: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» قال: فرجع فردَّ عطيته. وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألك ولدٌ سواه؟ " قال: نعم، قال: فأراه قال: "لا تُشهدني على جور» وفي لفظ: «لا أشهد على جور» وفي لفظ: «إني نحلتُ ابني هذا غلامًا، فقال: "أَكُلَّ ولدك نحلتَه مثلَهُ؟ " قال: لا. قال: "فأرجعه» وفي لفظ لمسلم: «أليس تريد منهم البر مثل ما تريد من ذا؟ " قال: بلى، قال: "فإني لا أشهد» (¬1). والنحلة: العطية بغير عوض (¬2) وفي هذا الحديث حرص النبي صلى الله عليه وسلم على العدل بين الأولاد، ووصيته صلى الله عليه وسلم بالتقوى، وبالعدل بين الأولاد وغيرهم، وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله يقول: (وهذا واضح أنه لا يجوز تخصيص بعض الأولاد بشيء؛ لأن ¬

(¬1) البخاري، برقم 2586، 2587، 2650، ومسلم، برقم 18 - (1623). (¬2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، 5/ 213.

المثال الثالث عدله مع أهله صلى الله عليه وسلم

هذا يسبب الشحناء بين الأولاد والعداوة، وللذكر مثل حظ الأنثيين كالميراث على الصحيح، ويعدل بين الطائعين والعصاة، ويُوجِّه العصاة وينصحون) (¬1). المثال الثالث: عدله مع أهله صلى الله عليه وسلم: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملكُ فلا تلُمني فيما تَمْلِكُ ولا أَمْلِكُ» (¬2). وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم فعدل بين نسائه، وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: قوله: "فلا تلمني فيما تملك" يعني القلب، وما يتعلق به؛ فإن المحبة والمودة شيء في القلب، لا يستطيع الزوج أَنْ يسوِّيَ بينهنَّ فيه، وله أسباب تحبب المرأة إلى زوجها: من دينها، وشبابها، وغير ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على الحديث رقم 2586 من صحيح البخاري. (¬2) أبو داود، برقم 2134، والترمذي برقم 1140، والنسائي 7/ 64، وابن ماجه، برقم 1971، وسمعت ابن باز يقول أثناء تقريره على بلوغ المرام: (إسناده جيد).

ذلك، وإنما يملك العبد القسم بينهن بالسوية في الليل والنهار، والنفقة وإحسان العشرة، وطيب الكلام، أما الشيء الذي يتعلق بالقلب والشهوة فهذا لا يملكه) (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت له امرأتان فمال إلى إِحداهما جاء يوم القيامة وشِقُّهُ مائل» (¬2). وهذا الحديث يدل على تحريم الميل الذي يستطيعه الإنسان، أما الميل الذي لا يستطيعه فالله يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 1084. (¬2) أحمد 2/ 347، وأبو داود برقم 2133، والترمذي برقم 1141، والنسائي، 7/ 63، وابن ماجه برقم 1969، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 593.

فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]، وفي هذا الحديث الوعيد لمن تعمَّد الجور والظلم، وأنه يأتي يوم القيامة وشقه مائل، وهذه عقوبة ظاهرة (¬1). ومن سنته صلى الله عليه وسلم أن من تزوَّج بكرًا أقام عندها سبع ليالٍ ثم قسم بين زوجاته إذا كان له أكثر من واحدة؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال: «من السُّنَّة إذا تزوَّج الرجل البكر على الثيِّب أقام عندها سبعًا ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا ثم قسم» (¬2). وعن أم سلمة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوَّجها أقام عندها ثلاثًا، وقال: "إنه ليس بك على أهلك هوان (¬3) إن شئت سبَّعتُ لَكِ، وإن سبَّعتُ لَكِ سبَّعْتُ لنسائي» (¬4). ¬

(¬1) سمعته من شيخنا ابن باز أثناء تقريره على بلوغ المرام. (¬2) متفق عليه، واللفظ للبخاري: البخاري، برقم 5214، ومسلم، برقم 1461. (¬3) هوان: يعني ليس لكِ عندي هوان (¬4) مسلم، برقم 1460.

وعن عائشة رضي الله عنها: «أن سودة بنتُ زَمْعةَ وَهبت يومها لعائشة، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة» (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُفضِّل بعضنا على بعضٍ في القَسْمِ من مكثه عندنا، وكان قلَّ يومٍ إلا وهو يطوف علينا جميعًا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنتُ زَمعة حين أسنت (¬2) وفَرِقت (¬3) أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله يومي لعائشة، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، قالت: نقول في ذلك: أنزل الله تعالى وفي أشباهها - أُرَاه قال - {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء: 128]» (¬4). ¬

(¬1) البخاري برقم 5212، ومسلم برقم 1413. (¬2) أسنت: كبرت في السن. (¬3) فرِقت: خافت. (¬4) أبو داود، برقم 2135، وقال الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 594: = ... = ((حسن صحيح))، وأصل هبة سودة يومها لعائشة في صحيح مسلم برقم 1463 وصحيح البخاري برقم 5212.

وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم سودة بعد خديجة وَقَبْلَ عائشة وطالت حياتها معه فلما أسنت وخافت أن يطلقها قالت: «يا رسول الله: يومي لعائشة». رواه أبو داود وإسناده جيد، وهذا يدل على أنه لا بأس أن تتنازل المرأة عن يومها لإحدى ضرَّاتها إذا رضي الزوج، فيكون للموهوبة يومان ولغيرها يوم (¬1). وقد كان هذا الوقت المشترك بعد العصر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى العصر دار على نسائه ثم يدنو منهن. . .» (¬2) وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: وهذا يدل على حسن عشرته صلى الله عليه وسلم، فقد كان خير الناس لأهله، فكان يطوف عليهن كل عصر يتفقد أحوالهنَّ وحاجاتهنَّ وذلك من ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام الحديث رقم 1089. (¬2) البخاري برقم 5268، ومسلم واللفظ له برقم 1474.

غير جماع، وربما طاف بهنَّ وجامعهن كما في حديث أنس، بغسل واحد، ولعل هذا نادر والجمع بين حديث عائشة هذا وحديث أنس أنه في الغالب من غير مسيس وربما جامع، فالمثبت مقدم على النافي (¬1). ولفظ حديث أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة قال الراوي لأنس: أَوَكان يُطيقه؟ قال: كُنَّا نتحدَّثُ أنه أُعطي قوَّة ثلاثين»، وقال سعيد عن قتادة أن أنسًا حدثهم (تسع نسوة) (¬2) وقد حمل الحافظ ابن حجر أنه ضمَّ مارية، وريحانة: جاريتيه إلى زوجاته التسع، وأطلق عليهن (نسائه) تغليبًا (¬3) وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: (هذه قوة عظيمة عنده تسع نسوة، ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام الحديث رقم 1089. (¬2) البخاري، برقم 268، 284، 5068، 5215. (¬3) فتح الباري، 1/ 389.

وجاريتان: ريحانة، ومارية) (¬1) (وهذا يدل على أن الرجل له أن يجامع زوجاته [في الوقت المشترك بينهن] تأسيًا به صلى الله عليه وسلم، وهذا من خلقه الكريم)، وفي حديث أنس قال: «كان للنبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة فكان إذا قسم بينهن لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسع فَكُنَّ يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها. . .» (¬2). وسمعت شيخنا ابن باز يقول: (وهذا عِلاوة على طوافه عليهن كل عصر، وهذا يكسبهن تعارفًا وإبعادًا عن الوحشة؛ فإن بين الضرات وحشة، فاجتماعهن كل ليلة يسبب التآلف) (¬3). ومن عدله صلى الله عليه وسلم بين نسائه أنه كان إذا أراد سفرًا أقرع بينهن، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 268، بتاريخ 23/ 7/1418هـ. (¬2) مسلم، برقم 1462. (¬3) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث 1089.

خرج بها معه» (¬1). ومن عدله وكرم أخلاقه صلى الله عليه وسلم ما قاله أنس رضي الله عنه، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين صحفةً فيها طعام، فضربت التي النبيُّ صلى الله عليه وسلم في بيتها يدَ الخادم فسقطت الصحفةُ فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: "غارت أُمُّكم" ثم حبس الخادم حتى أُتِيَ بصحفةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرَتْ صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كُسِرَت فيه» (¬2). هذه الأحاديث تدل على عِظَمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعلى عدله مع نسائه، وحسن خلقه معهن، وملاطفتهن، والقيام بحقوقهن صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) البخاري، برقم 2593، ومسلم برقم 2770. (¬2) البخاري، برقم 5225 و2481.

المبحث العاشر تواضعه صلى الله عليه وسلم

المبحث العاشر تواضعه صلى الله عليه وسلم [معنى التواضع وتكريم الله للمتواضعين] يقال: تواضع: تذلل وتخاشع (¬1) والمراد بالتواضع: إظهار التنزل لمن يراد تعظيمه، وقيل: تعظيم من فوقه لفضله (¬2). والتواضع صفة عظيمة وخلق كريم؛ ولهذا مدح الله المتواضعين فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، أي يمشون في سكينة ووقار متواضعين غير أشرين ولا متكبرين، ولا مرحين، فهم علماء، حلماء، وأصحاب وقار وعفة (¬3). والمسلم إذا تواضع رفعه الله في الدنيا والآخرة؛ لقوله ¬

(¬1) القاموس المحيط ص997. (¬2) فتح الباري 11/ 341. (¬3) انظر: مدارج السالكين 2/ 327.

أمثلة تطبيقية لتواضع النبي صلى الله عليه وسلم

صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًا، ومن تواضع لله رفعه» (¬1). وهذا ما يفتح الله به للمسلم قلوب الناس؛ فإن الله يرفعه في الدنيا والآخرة، ويثبت له بتواضعه في قلوب الناس منزلة ويرفعه عندهم ويجلُّ مكانه (¬2) أما من تكبر على الناس فقد توعده الله بالذل والهوان في الدنيا والآخرة؛ لحديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العزُّ إزاره، والكبرياءُ رداءه فمن ينازعني عذبته» (¬3). [أمثلة تطبيقية لتواضع النبي صلى الله عليه وسلم] وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تواضعًا، ومن تواضعه الأمثلة الآتية: ¬

(¬1) مسلم 4/ 2001، برقم 2588. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 16/ 142. (¬3) مسلم مع النووي 16/ 173، برقم 2620، ولفظه "فمن ينازعني عذبته".

المثال الأول: قصة الناقة العضباء

المثال الأول: قصة الناقة العضباء: عن أنس رضي الله عنه قال: «كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تُسمَّى العضباء وكانت لا تُسْبَقُ، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا سُبِقَتِ العضباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حقًا على الله أن لا يرفع شيئًا من الدنيا إلا وضعه» (¬1). ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة فقد كان متواضعًا في دعوته للناس. المثال الثاني: وصف أبي مسعود لتواضعه صلى الله عليه وسلم: عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فكلَّمه فجعل ترعُد فرائصُهُ فقال له: هوِّن عليك نفسك فإني لستُ بِمَلِكٍ، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد» وزاد الحاكم في روايته عن جرير بن عبد الله: ". . . في هذه ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 11/ 340، برقم 6501.

البطحاء"، ثم تلى جرير {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] (¬1). فعلى جميع الناس أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان متواضعًا في دعوته مع الناس، فكان يمر بالصبيان فيسلم عليهم، وتأخذه بيده الأمة فتنطلق به حيث شاءت، وكان في بيته في خدمة أهله، ولم يكن ينتقم لنفسه قط، وكان يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى أيسر شيء، فكان متواضعًا من غير ذلة، جوادًا من غير سرف، رقيق القلب رحيمًا بكل مسلم خافض الجناح للمؤمنين، لين الجانب لهم (¬2) صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) ابن ماجه، برقم 3312، والحاكم 2/ 466، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 3/ 128، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 4/ 497، برقم 1876، سورة ق، الآية: 45. (¬2) انظر: مدارج السالكين لابن القيم 2/ 328 - 329.

المثال الثالث تفضيله صلى الله عليه وسلم للأنبياء على نفسه

المثال الثالث: تفضيله صلى الله عليه وسلم للأنبياء على نفسه: «وقال له رجل: يا خير البرية! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك إبراهيم عليه السلام» (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لأَحدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متَّى» (¬2). ولاشك أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين، وسيد الناس أجمعين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد الناس يوم القيامة» (¬3) وقال صلى الله عليه وسلم: (¬4). ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم: أنه لم يكن له بوَّابٌ يحجبه عن الناس (¬5) وكان يرقي المرضى ويدعو لهم، ويمسح رأس الصبي ويدعو له (¬6) وكان يشفع لأصحابه، ويقول: «اشفعوا ¬

(¬1) مسلم، برقم 1369. (¬2) البخاري، برقم 4630، ومسلم، 4/ 1846، برقم 2376. (¬3) البخاري، برقم 3340 و3361 و4712، ومسلم، برقم 194. (¬4) أبو داود برقم 4763 وصححه الألباني، 3/ 138. (¬5) البخاري، برقم 1283. (¬6) البخاري، برقم 7210.

تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء» (¬1) وقال لأنس رضي الله عنه: يا بُنَيَّ على سبيل الملاطفة والتواضع (¬2). ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم: «أن رجلًا كان يَقمُّ المسجد أو امرأة سوداء، فماتت أو مات ليلًا، فدفنه الصحابة، ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم أو فقده، فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، قال: "أفلا كنتم آذنتموني" فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره، فقال: "دلُّوني على قبرها" فدلوه فصلى عليها ثم قال: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم» (¬3). وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍّ قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلُقًا. . .» (¬4). ¬

(¬1) البخاري، برقم 1432، ومسلم، برقم 2627. (¬2) مسلم، برقم 2151، 2152. (¬3) مسلم، برقم 956. (¬4) البخاري بنحوه برقم 6038، والترمذي بلفظه في الشمائل كما تقدم تخريجه.

المبحث الحادي عشر حلمه وعفوه صلى الله عليه وسلم

المبحث الحادي عشر حلمه وعفوه صلى الله عليه وسلم بلغ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حلمه، وعفوه في دعوته إلى الله - تعالى - الغاية المثالية، والدلائل على ذلك كثيرة جدًّا، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: المثال الأول: مع من قال: هذه قسمة ما عُدِلَ فيها: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «لما كان يوم حنينٍ آثر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أُناسًا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عُيَينة مثل ذلك، وأعطى أُناسًا من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدِلَ فيها، وما أُريدَ بها وجه الله، فقلت: والله لأُخْبَرِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم. فأتيته فأخبرته، فقال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟! رحم الله موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (¬1). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح بلفظه، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلَّفة قلوبهم وغيرهم من الخُمس 6/ 251، برقم 3150، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلّفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه 2/ 739، برقم 1062.

المثال الثاني مع من قال كنا أحق بهذا

وهذا من أعظم مظاهر الحلم في الدعوة إلى الله - تعالى - وقد اقتضت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم تلك الغنائم بين هؤلاء المؤلَّفة قلوبهم، ويُوكِلَ من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه (¬1). المثال الثاني: مع من قال: كُنَّا أَحَقَّ بهذا: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى رسول الله من اليمن بذهيبة (¬2) في أديم مقروظ (¬3) لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر (¬4) وأقرع بن حابس، وزيد الخيل (¬5) والرابع إما علقمة (¬6) وإما عامر بن الطفيل، ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري 8/ 49. (¬2) أي: ذهب. انظر: فتح الباري 8/ 68. (¬3) مدبوغ بالقرظ. انظر: فتح الباري 8/ 68. (¬4) وهو عيينة بن حصن بن حذيفة، نسب لجده الأعلى. الفتح 8/ 68. (¬5) زيد الخيل بن مهلهل الطائي، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير، بالراء بدل اللام. انظر: فتح الباري 8/ 68. (¬6) ابن علاثة العامري، أسلم وحسن إسلامه، واستعمله عمر على حوران، فمات بها في خلافته. انظر: فتح الباري 8/ 68.

فقال رجل من أصحابه: كُنَّا نحن أحقُّ بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء؟ " قال: فقام رجل غائر العينين، مُشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مُشمِّر الإزار، فقال: يا رسول الله! اتق الله، قال: "ويلك، أولستُ أحقُّ أهل الأرض أن يتقي الله؟ " قال: ثم ولى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ قال: "لا، لعله أن يكون يصلي" فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أُومر أن أَنقُب قلوب الناس ولا أشقَّ بطونهم". قال: ثم نظر إليه وهو مُقَفٍّ فقال: "إنه يخرج من ضئضيء هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» (¬1). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد= = - رضي الله عنهما - إلى اليمن 8/ 67 برقم 4351، ومسلم، في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم 2/ 741، برقم 1064.

المثال الثالث مع الطفيل بن عمرو رضي الله عنه

وهذا من مظاهر حلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخذ بالظاهر ولم يؤمر أن ينقب قلوب الناس، ولا أن يشق بطونهم، والرجل قد استحق القتل واستوجبه؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله؛ لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ولاسيما من صلَّى (¬1). المثال الثالث: مع الطفيل بن عمرو رضي الله عنه: من مواقف الحلم ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الطفيل بن عمرو الدوسي - رضي الله عنه -، فقد أسلم الطفيل - رضي الله عنه - قبل الهجرة في مكة، ثم رجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فبدأ بأهل بيته، فأسلم أبوه وزوجته، ثم دعا قومه وعشيرته إلى الله - عز وجل - فأبت عليه وعصت، وأبطؤوا عليه، فجاء الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر له أن دوسًا هلكت وكفرت وعصت وأبت. ¬

(¬1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/ 69.

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن دوسًا قد عصت وأبت، فادع الله عليهم، فاستقبل رسول الله القبلة ورفع يديه، فقال الناس: هلكوا. فقال: اللهم اهد دوسًا وائت بهم، اللهم اهد دوسًا وائت بهم» (¬1). وهذا يدل على حلم النبي صلى الله عليه وسلم وصبره وتأَ نِّيه في الدعوة إلى الله - عز وجل -؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعجل بالعقوبة، أو الدعاء على من رد الدعوة؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالهداية، فاستجاب الله دعاءه، وحصل على ثمرة الصبر والتأنِّي وعدم العجلة، فقد رجع الطفيل إلى قومه، ورفق بهم، ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، في كتاب الجهاد، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم 6/ 107، برقم 2937، وفي كتاب المغازي، باب قصة دوس والطفيل بن عمرو الدوسي 8/ 101، برقم 4392، وفي كتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين 11/ 196، برقم 6397، ومسلم، في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل غفار وأسلم وجهينة وأشجع وتميم ودوس وطي 4/ 1957، برقم 2524، وأخرجه أحمد واللفظ له 2/ 243، 448، وانظر: البداية والنهاية 6/ 337، 3/ 99، وسيرة ابن هشام 1/ 407.

المثال الرابع مع من أراد قتله صلى الله عليه وسلم

فأسلم على يديه خلقٌ كثير، ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر، فدخل المدينة بثمانين أو تسعين بيتًا من دوس، ثم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، فأسهم لهم مع المسلمين (¬1). الله أكبر! ما أعظمها من حكمةٍ أسلم بسببها ثمانون أو تسعون أسرة. وهذا مما يوجب على الدعاة إلى الله - عز وجل - العناية بالحلم في دعوتهم، ولا يحصل لهم ذلك إلا بفضل الله ثم بمعرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته. المثال الرابع: مع من أراد قتله صلى الله عليه وسلم: روى البخاري ومسلم، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قِبَلَ نجدٍ (¬2) فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادٍ كثير العضاه، فنزل ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 346، وزاد المعاد 3/ 626، والإصابة في تمييز الصحابة 2/ 225. (¬2) وقع في رواية البخاري التصريح باسمها "ذات الرقاع"، انظر: البخاري مع الفتح 7/ 426، برقم 4136.

رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرةٍ، فَعلَّق سيفه بغصنٍ من أغصانها، قال: وتفرَّق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رجلًا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتًا (¬1) في يده، فقال لي، من يمنعنك مني؟ قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، قال: فشام (¬2) السيف، فهاهو ذا جالس"، ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬3). الله أكبر! ما أعظم هذا الخلق! وما أكبر أثره في النفس! ¬

(¬1) والسيف صلتاً: أي مسلولاً. انظر: شرح النووي 15/ 45. (¬2) شام السيف: أي رده في غمده. انظر: المرجع السابق 15/ 45. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة 6/ 96، 97، برقم 2910، وكتاب المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع 7/ 426، برقم 4135، ومسلم، واللفظ له، كتاب الفضائل، باب: توكله على الله - تعالى -، وعصمة الله - تعالى - له من الناس 4/ 1786، 1/ 576، برقم 843، وأحمد 3/ 311، 364. وانظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني فقد ذكر رواية مطولة عزاها لأبي بكر الإسماعيلي في صحيحه 2/ 335.

المثال الخامس مع زيد الحبر

أعرابي يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعصمه الله منه، ويمكِّنه من القدرة على قتله، ثم يعفو عنه! إن هذا لخلقٌ عظيم وصدق الله العظيم إذ يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وهذا الخلق الحكيم قد أثر في حياة الرجل، وأسلم بعد ذلك، فاهتدى به خلق كثير (¬1). المثال الخامس: مع زيد الحبر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعفو عند القدرة، ويحلم عند الغضب، ويحسن إلى المسيء، وقد كانت هذه الأخلاق العالية من أعظم الأسباب في إجابة دعوته والإيمان به، واجتماع القلوب عليه، ومن ذلك ما فعله مع زيد بن سعنة، أحد أحبار اليهود وعلمائهم الكبار (¬2). ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 7/ 428، وشرح النووي على مسلم 15/ 44، وذكر ابن حجر والنووي في هذا الموضع أن اسم الأعرابي: غورث بن الحارث. (¬2) انظر: هذا الحبيب يا محب ص528، وهداية المرشدين ص384.

«جاء زيد بن سعنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبه دينًا عليه، فأخذ بمجامع قميصه وردائه وجذبه، وأغلظ له القول، ونظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجهٍ غليظٍ وقال: يا محمد، ألا تقضيني حقي، إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطْلٌ، وشدَّد له في القول، فنظر إليه عمر وعيناه تدوران في رأسه كالفلك المستدير، ثم قال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتفعل ما أرى، فوالذي بعثه بالحق لولا ما أُحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتُؤَدَةٍ وتَبَسُّمٍ، ثم قال: "أنا وهو يا عمر كنا أحوج إلى غيره هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعًا من تمرٍ"، فكان هذا سببًا لإسلامه، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وكان زيد قبل هذه القصة يقول: (لم يبق شيء من

المثال السادس مع زعيم المنافقين

علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا)» (¬1). فاختبره بهذه الحادثة فوجده كما وُصِفَ، فأسلم وآمن وصدق، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشاهده، واستشهد في غزوة تبوك مقبلًا غير مدبر (¬2). فقد أقام محمد صلى الله عليه وسلم براهين عديدة من أخلاقه على صدقه، وأن ما يدعو إليه حق. المثال السادس: مع زعيم المنافقين: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد أجمع الأوس والخزرج على ¬

(¬1) ذكر ابن حجر في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة هذه القصة وعزاها إلى الطبراني، والحاكم، وأبي الشيخ في كتابه أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن سعد، وغيرهم، ثم قال ابن حجر: ورجال إسناده موثّقون ... ومحمد بن أبي السري وثّقه ابن معين ... والوليد قد صرح بالتحديث 1/ 566. وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، وعزاه إلى أبي نعيم في الدلائل. البداية والنهاية 2/ 310، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 240: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. (¬2) الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 566.

تمليك عبد الله بن أُبيٍّ، ولم يختلف عليه في شرفه اثنان، ولم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين، وكانوا قد نظموا له الخرز، ليُتَوِّجوه ثم يملِّكوه عليهم، فجاءهم الله - تعالى - برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام امتلأ قلبه حقدًا وعداوةً وبغضًا، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكه، فلما رأى قومه أبوا إلا الإسلام، دخل فيه كارهًا مصرًا على النفاق والحقد والعداوة (¬1) ولم يأل جهدًا في الصَّدِّ عن الإسلام، وتفريق جماعة المسلمين، والذَّبِّ عن اليهود ومساعدتهم. وقد ظهرت مواقفه الخبيثة في معاداته لدعوة الإسلام، ولكن عن طريق التستر والنفاق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقابل عداوته بالعفو والصفح والحلم؛ لأنه يُظهر الإسلام؛ ولأن له أعوانًا من المنافقين، هو رئيسهم وهم ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 216، والبداية والنهاية 4/ 157.

تَبَعٌ له، فكان صلى الله عليه وسلم يحسن إليه بالمقال والفعل، ويقابل إساءته بالعفو والإحسان في عدة مواقف، منها على سبيل المثال ما يأتي: 1 - شفاعته لليهود - بنو قينقاع - عندما نقضوا العهد: نقض بنو قينقاع العهد بعد بدر بكشف عورة امرأة من المسلمين في السوق، وبقتل رجل نصرها من المسلمين (¬1) فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت للنصف من شوال، على رأس عشرين شهرًا من الهجرة، وحاصرهم خمسة عشر يومًا، وتحصَّنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهم فَكُتِّفُوا، وكانوا سبعمائة مقاتل، فقام إلى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُبيٍّ حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في مواليَّ، فأبطأ عليه رسول الله ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 427، والبداية والنهاية 4/ 4، والرحيق المختوم ص228، وهذا الحبيب ص246.

صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض عنه، فأدخل يديه في جيب درع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربع مائة حاسر، وثلاث مائة دارع (¬1) قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فوهبهم النبي صلى الله عليه وسلم له (¬2) وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات من أرض الشام، وقبض منهم أموالهم، وخمس غنائمهم صلوات الله وسلامه عليه (¬3). فلم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذه الشفاعة وعلى شدته القبيحة، بل عفى عنه صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) الحاسر: هو الذي لا درع له، والدارع: هو لابس الدرع. انظر: المعجم الوسيط، مادة "حسر" 1/ 172، ومادة "درع" 1/ 280. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 428، والبداية والنهاية لابن كثير 4/ 4. (¬3) انظر: زاد المعاد 3/ 126، 190.

2 - ما فعله مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى معركة أحد، فلما صار بين أحد والمدينة انخزل عبد الله بن أُبيٍّ بنحو ثلث العسكر، ورجع بهم إلى المدينة فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر - رضي الله عنهما - فوبَّخهم، وحضَّهم على الرجوع، وقال: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم وسبهم (¬1). فلم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الجرم العظيم، وتخذيل المسلمين. 3 - صدُّه الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الله تعالى: ركب النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة، فمر بعدو الله عبد ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد 3/ 194، وسيرة ابن هشام 3/ 8، 3/ 57، والبداية والنهاية 4/ 51.

الله بن أُبَيٍّ وحوله رجال من قومه، فنزل صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس قليلًا، فتلا القرآن، ودعا إلى الله - عز وجل -، وذكَّر بالله، وحذَّر وبشَّر وأنذر، وعندما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من مقالته، قال له عبد الله بن أُبيٍّ: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا، إن كان حقًّا فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدِّثْهُ إيَّاه، ومن لم يأتك فلا تغته (¬1) ولا تأته في مجلسه بما يكره منه (¬2) فلم يؤاخذه النبي صلى الله عليه وسلم، وعفا عنه وصفح. 4 - تثبيته بني النضير: عندما نقض يهود بني النضير العهد بِهَمِّهِم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، بعث إليهم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق - وعلى رأسهم عبد الله بن أُبيٍّ - أن اثبتوا وتمنَّعوا فإنا لن نسلمكم، إن ¬

(¬1) أي: لا تكثر عليه به وتتردد به عليه، أو لا تعذبه به. انظر: القاموس المحيط، باب التاء، فصل الغين ص200، والمعجم الوسيط مادة "غتَّ" 2/ 644. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 218، 219.

قُوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم، فقويت عزيمة اليهود، ونابذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقض العهد، فخرج إليهم حتى نزل بهم وحاصرهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام (¬1). وترك النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُبيٍّ فلم يُعاقبه على ذلك الفعل القبيح! 5 - كيدُهُ وغدره للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين في غزوة المريسيع: في هذه الغزوة قام عبد الله بن أُبيٍّ بعدة مواقف مخزية توجب قتله وعقابه، ومنها: دَبَّر المنافقون في هذه الغزوة قصة الإفك، وتولى كبره عبد الله بن أُبيٍّ بن سلول (¬2). ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام 3/ 192، والبداية والنهاية 4/ 75، وزاد المعاد 3/ 127. (¬2) انظر قصة الإفك في البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب حديث الإفك 7/ 431، برقم 4141، وكتاب التفسير، سورة النور، باب: = = {((((((((إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا (((((((((((هَذَا ((((((((عَظِيمٌ} 8/ 452، برقم 4750، ومسلم، كتاب التوبة، باب حديث الإفك 4/ 2129، برقم 2770، وزاد المعاد 3/ 256 - 268. وانظر: البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ ((((((((اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا (((((((الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 8/ 648، 652، برقم 4905، وفي كتاب المناقب، باب ما ينهى عنه من دعوى الجاهلية 6/ 546، برقم 3518، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً 4/ 1998، برقم 2584، وانظر: سيرة ابن هشام 3/ 334. والحديث في البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} 8/ 648، برقم 4904، = = ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم 4/ 2140، برقم 2772.

وفي هذه الغزوة قال عبد الله بن أُبيٍّ: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] (¬1). وفي هذه الغزوة قال عدو الله: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] (¬2). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} 8/ 648، 8/ 652، 6/ 546، برقم 4905، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً 4/ 1998، برقم 63 - (2584). (¬2) والحديث في البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ) 8، برقم 4904، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم 4، برقم 2772.

وقد ظهرت الحكمة المحمدية، وتجلت السياسة الرشيدة في إخماد النبي صلى الله عليه وسلم نار الفتنة، وقطع دابر الشر - بفضل الله ثم بصبره - على عبد الله بن أُبيٍّ، وتَحمُّله له، والإحسان إليه، ومقابلة هذه المواقف المخزية من هذا الزعيم المنافق بالعفو؛ لأنه هذا الرجل له أعوان، ويخشى من شرهم على الدعوة الإسلامية؛ ولأنه يظهر إسلامه، ولهذا «قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب - حينما قال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق -: دعه حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» (¬1). فلو قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان ذلك منفِّرًا للناس عن الدخول في الإسلام؛ لأنهم يرون أن عبد الله بن أُبيٍّ ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) 8، 8، 6، برقم 4905، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا 4، برقم 63 - (2584).

المثال السابع مع ثمامة بن أثال

مسلم، ومن ثم سيقول الناس: إن محمدًا يقتل المسلمين، فعند ذلك تظهر المفاسد، وتتعطل المصالح. فظهرت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على بعض المفاسد خوفًا من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم؛ ولتقوى شوكة الإسلام، وقد أُمر بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. وقد ظهرت الحكمة لعمر بعد ذلك في عدم قتل عبد الله بن أُبيٍّ فقال: (قد والله علمت، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري) (¬1). وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله أن يسلكوا طريق الحكمة في دعوتهم اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم. المثال السابع: مع ثمامة بن أثال: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: ¬

(¬1) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 4/ 185، وانظر: شرح النووي على مسلم 16/ 139، وهذا الحبيب يا محبّ ص336.

«بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلًا قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن أُثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ماذا عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم (¬1) وإن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد، فقال: "ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد، فقال: "ماذا عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) معناه: أن تقتل تقتل صاحب دم يدرك قاتله به ثأره لرئاسته وفضيلته، وقيل: معناه تقتل من عليه دم مطلوب به، وهو مستحق عليه فلا عتب عليك في قتله. انظر: فتح الباري 8/ 88 ..

"أطلقوا ثمامة "، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يا محمد! والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أُحبَّ الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: [لا والله]، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1). (ثم خرج - رضي الله عنه - إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال 8/ 87، برقم 4372، ومسلم - واللفظ له إلا ما بين المعكوفين فمن البخاري - في كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المنّ عليه 3/ 1386، برقم 1764.

مكة شيئًا، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا، وقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل) (¬1). وذكر ابن حجر أن ابن منده روى بإسناده عن ابن عباس قصة إسلام ثمامة ورجوعه إلى اليمامة، ومنعه قريش عن الميرة، ونزول قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]. (¬2) وقد ثبت ثمامة على إسلامه لما ارتد أهل اليمامة، وارتحل هو ومن أطاعه من قومه فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين (¬3). ¬

(¬1) سيرة ابن هشام 4/ 317 بتصرف يسير، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/ 88. (¬2) وقال ابن حجر عن هذا الأثر: إسناده حسن. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 203. (¬3) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 203.

الله أكبر، ما أحلم النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، وما أعظمه من موقف، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتألَّف القلوب، ويلاطف من يُرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير. وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله - عز وجل - أن يعظموا أمر الحلم والعفو عن المسيء؛ لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبًّا في ساعة واحدة؛ لما أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من الحلم والعفو والمنِّ بغير مقابل، وقد ظهر لهذا العفو الأثر الكبير في حياة ثمامة، وفي ثباته على الإسلام ودعوته إليه (¬1)؛ ولهذا قال: أَهِمُّ بترك القول ثم يردني ... إلى القول إنعام النبي محمد شكرتُ له فكي من الغل بعدما ... رأيت خيالًا من حسام مهند (¬2) ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم 12/ 89، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/ 88. (¬2) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 203.

المثال الثامن مع من جبذه بردائه صلى الله عليه وسلم

المثال الثامن: مع من جبذه بردائه صلى الله عليه وسلم: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذةً شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء» (¬1). وهذا من روائع حلمه صلى الله عليه وسلم وكماله، وحسن خلقه، وصفحه الجميل، وصبره على الأذى في النفس، والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألُّفه على الإسلام؛ وليتأسى به الدعاة إلى الله، والولاة بعده في حلمه، وخلقه الجميل من الصفح، والإغضاء، والعفو، والدفع ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه 6/ 251، برقم 3149، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة 2/ 730، برقم 1057.

المثال التاسع: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون

بالتي هي أحسن (¬1). المثال التاسع: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون: ومن عظيم حلمه عدم دعاؤه على من آذاه من قومه، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم، فيهلكهم الله، ويدمرهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم حليم حكيم يهدف إلى الغاية العظمى، وهي رجاء إسلامهم، أو إسلام ذرياتهم؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدْمَوْهُ وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» (¬2). وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم الحلم، وعظَّم أمره، فقال لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 10/ 506، وشرح النووي على مسلم 7/ 146، 147. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان 6/ 514، برقم 3477، ومسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد 3/ 1417، برقم 1792.

المثال العاشر عفوه صلى الله عليه وسلم عن اليهودي الذي سحره

والأناة» (¬1) وفي رواية، قال الأشج: يا رسول الله، «أنا تخلَّقت بهما أمِ الله جبلني عليهما؟ قال: "بل الله جبلك عليهما". قال الحمد لله الذي جبلني على خُلُقينِ يحبهما الله ورسوله» (¬2). والنبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلم ويتصف به. المثال العاشر: عفوه صلى الله عليه وسلم عن اليهودي الذي سحره: لقد كان من عظيم عفوه صلى الله عليه وسلم ما فعله مع اليهودي الذي سحره؛ فإنه لم يذكر لذلك اليهودي شيئًا، ولا رآه في وجهه حتى مات (¬3). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى، وروسله - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 48، برقم 17/ 25. (¬2) أبو داود، كتاب الأدب، باب في قبلة الجسد، 4/ 357، برقم 5225، وأحمد، 4/ 206، و3/ 23. (¬3) أحمد، 4/ 367، برقم 19286.

المبحث الثاني عشر أناته وتثبته صلى الله عليه وسلم

المبحث الثاني عشر أناته وتثبُّته صلى الله عليه وسلم لا يكون الداعية ناجحًا في دعوته إلا إذا التزم الأناة في جميع أموره وتصرفاته، ومما يوضح ذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واتصافه بالأناة والتثبُّتِ، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: المثال الأول: مع أسامة بن زيد رضي الله عنه: عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقتُ أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال: فكف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: فقال لي: " يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ " قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذًا، قال: فقال: "أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ "،

قال، فمازال يُكرِّرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم» (¬1). وفي رواية: قال: «قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفًا من السلاح، قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا"، فمازال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ» (¬2). وفي رواية: «كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ " قال: يا رسول الله: استغفر لي، قال: "وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ ". قال فجعل لا يزيده على أن يقول: "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة» (¬3). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة إلى الحرقات 7/ 517، 12/ 191، برقم 4269، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله 1/ 97، برقم 159 - (96). (¬2) مسلم، في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله 1/ 96، برقم 97. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله 1/ 97، برقم 97.

المثال الثاني قبل القتال

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس أناةً وتثبتًا، فكان لا يقاتل أحدًا من الكفار إلا بعد التأكد بأنهم لا يقيمون شعائر الإسلام، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بِنا قومًا لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانًا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم. . .» (¬1). المثال الثاني: قبل القتال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّم ويُربِّي أصحابه على الأناة والتثبت في دعوتهم إلى الله - تعالى - ومن ذلك أنه كان يأمر أمير سَرِيَّته أن يدعو عدوه قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال: الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين. فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح بلفظه مطولاً، في كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء 2/ 89، برقم 610، ومسلم، في الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سُمِعَ فيهم الأذان 1/ 288، برقم 382.

المثال الثالث في الصلاة

فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان بالله وقاتلهم (¬1). المثال الثالث: في الصلاة: ومن تربيته لأصحابه صلى الله عليه وسلم على الأناة وعدم العجلة قوله: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تَسْعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة فما أدركْتُمْ فصلُّوا، وما فاتكم فأتموا» (¬2). وقوله: «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت» (¬3). وَلِسُمُوِّ الأناة أَحبَّها الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم للأشج: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» (¬4). ¬

(¬1) أخرج الحديث مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها 3/ 1357، برقم 1365، وانظر: زاد المعاد لابن القيم 3/ 100. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة، وقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ((((((اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 2/ 390، برقم 908، ومسلم في المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بسكينة ووقار والنهي عن إتيانها سعياً 1/ 420، برقم 602. (¬3) مسلم، في كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة 1/ 422، برقم 604. (¬4) مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله - تعالى - ورسوله وشرائع الدين والدعاء إليه 1/ 48، برقم 18.

المثال الرابع في الغزو

والرُّسُلُ عليهم الصلاة والسلام هم صفوة الخلق وقدوتهم، وهم أكمل الناس أناة وحلمًا، وأعظمهم في ذلك وأوفرهم حظًا محمد صلى الله عليه وسلم. المثال الرابع: في الغزو: عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار، فسمع رجلًا يقول: الله أكبر، الله أكبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على الفطرة"، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خرجت من النار» (¬1). وعنه رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قومًا لم يغزُ بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانًا كَفَّ عنهم وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم. . .» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه مسلم 1/ 288، برقم 382. (¬2) البخاري مع الفتح 2/ 89، برقم 610.

وهذا يدل على تثبُّته صلى الله عليه وسلم وعدم عجلته. وعن عبد الله بن سرجس المزني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السَّمْتُ الحسن (¬1) والتُّؤَدَةُ والاقتصاد (¬2) جزء من أربعةٍ وعشرين جزءًا من النبوة» (¬3). وبهذا يعلم أن الأناة في كل شيء محمودة وخير إلا ما كان من أمر الآخرة، بشرط مراعاة الضوابط التي شرعها الله حتى تكون المسارعة مما يحبه الله تعالى (¬4). ¬

(¬1) السمت الحسن: هو حسن الهيئة والمنظر. انظر: فيض القدير للمناوي 3/ 277. (¬2) الاقتصاد: هو التوسط في الأمور والتحرز عن طرفي الإفراط والتفريط. انظر: المرجع السابق 3/ 277. (¬3) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التأني والعجلة 4/ 366، برقم 2010، وانظر: صحيح سنن الترمذي 2/ 195. (¬4) انظر: شرح السنة للبغوي 13/ 177، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي 6/ 153.

المبحث الثالث عشر رفقه ولينه صلى الله عليه وسلم

المبحث الثالث عشر رفقه ولينه صلى الله عليه وسلم أولًا: ترغيبه صلى الله عليه وسلم في الرفق: عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «إنه من أُعطي حظه من الرفق فقد أُعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار» (¬1). فقط عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم شأن الرفق في الأمور كلها، وبيَّن ذلك بفعله وقوله بيانًا شافيًا كافيًا؛ لكي تعمل أمَّتهُ بالرفق في أمورها كلها، وخاصة الدعاة إلى الله - عز وجل -؛ فإنهم أولى الناس بالرفق في دعوتهم، وفي جميع تصرفاتهم، وأحوالهم. وهذا الحديث السابق وغيره من الأحاديث التي ستأتي تُبيِّن فضل الرفق، والحث على التخلق به، وبغيره من الأخلاق الحسنة، وذم العنف وذم من تخلق به. ¬

(¬1) أخرجه أحمد 6/ 159، وإسناده صحيح؛ انظر الأحاديث الصحيحة للألباني برقم 519.

فالرفق سبب لكل خير؛ لأنه يحصل به من الأغراض ويسهل من المطالب، ومن الثواب ما لا يحصل بغيره، وما لا يأتي من ضده (¬1). وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من العنف، وعن التشديد على أمته صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به» (¬2) وكان صلى الله عليه وسلم إذا أرسل أحدًا من أصحابه في بعض أموره أمرهم بالتيسير ونهاهم عن التنفير، فعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدًا من أصحابه في بعض أموره قال: ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم 16/ 145، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 10/ 449، وتحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي 6/ 154. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم 3/ 1458، برقم 1828.

«بشِّرُوا ولا تُنفِّرُوا، ويسِّرُوا ولا تُعسِّرُوا» (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله -عز وجل- بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق» (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري ومعاذ - رضي الله عنهما - حينما بعثهما إلى اليمن: «يسَّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوَعَا ولا تختلِفَا» (¬3). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يسِّرُوا ولا تعسِّرُوا، وبشِّرُوا ولا تنفِّرُوا» (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير 3/ 1358، برقم 1732. (¬2) أخرجه أحمد في المسند 6/ 71، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: حديث صحيح من رواية عائشة رضي الله عنها 3/ 219 برقم 1219. (¬3) البخاري مع الفتح في كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع 8/ 62، برقم 4344، و2345، ومسلم في كتاب الجهاد والسير باب الأمر بالتيسير وترك التنفير 3/ 1359، واللفظ له، برقم 1733. (¬4) البخاري مع الفتح في كتاب العلم، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا 1/ 163، برقم 69، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير 3/ 1359، برقم 1732.

في هذه الأحاديث الأمر بالتيسير والنهي عن التنفير، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأن الإنسان قد يفعل التيسير في وقت والتعسير في وقت، ويُبشِّرُ في وقت ويُنفِّرُ في وقت آخر فلو اقتصر على يسروا لصدق ذلك على من يسَّر مرة أو مرات، وعسَّر في معظم الحالات، فإذا قال ولا تُعسِّرُوا انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه وهذا هو المطلوب. وكذا يقال في يسِّرا ولا تُعسرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا؛ لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حث في هذه الأحاديث وفي غيرها على التبشير بفضل الله وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، ونهى عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير، وهذا فيه تأليف لمن قَرُبَ إسلامه وتَرْكُ التَّشديد عليه، وكذلك من قَارَبَ البلوغ من

الصبيان، ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي كلهم ينبغي أن يتدرج معهم ويُتلطَّف بهم في أنواع الطاعات قليلًا قليلًا، وقد كانت أمور الإسلام في التَّكليف على التَّدريج فمتى يُسِّرَ على الداخل في الطاعة، أو المُريد للدخول فيها سَهُلَتْ عليه وكانت عاقبته غالبًا الازدياد منها، ومتى عُسِّرت عليه أوْشَكَ أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم ولا يستحليها (¬1). وهكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوَّل أصحابه بالموعظة في الأيام كراهة السَّآمة عليهم (¬2). فصلوات الله وسلامه عليه فقد دل أمته على كل خير وحذرهم من كل شر، ودعا على من شق على أمته، ودعا لمن رفق بهم كما تقدم في حديث عائشة وهذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم (¬3). ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم 12/ 41، وفتح الباري 1/ 163. (¬2) انظر: فتح الباري 1/ 162، 163. (¬3) انظر: شرح النووي على مسلم 12/ 213.

ثانيا رفقه صلى الله عليه وسلم

ثانيًا: رفقه صلى الله عليه وسلم: كان صلى الله عليه وسلم رفيقًا يحب الرِّفق ويعمل به، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: المثال الأول: مع شاب استأذن في الزنا: عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: «إن فتىً شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا له: مه مه! فقال له: "ادنه"، فدنا منه قريبًا، قال: "أتحبه لأمك؟ " قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم". قال: "أفتحبه لابنتك؟ " قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم". قال: "أفتحبه لأختك؟ " قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم". قال: "أفتحبه لعمتك؟ " قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه

المثال الثاني مع اليهود

لعماتهم". قال: "أفتحبه لخالتك؟ " قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم". قال: فوضع يده عليه، وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصِّن فرجه"، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء» (¬1). وهذا الموقف العظيم مما يؤكد على الدعاة إلى الله - عز وجل - أن يعتنوا بالرفق والإحسان إلى الناس، ولاسيما من يُرغَبُ في استئلافهم ليدخلوا في الإسلام، أو ليزيد إيمانهم ويثبتوا على إسلامهم. وكما يبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم الرِّفق بفعله بينه لنا بقوله وأمرنا بالرفق في الأمر كله. المثال الثاني: مع اليهود: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «دخل رهط من ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - 5/ 256، 257، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه إلى الطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح 1/ 129، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، برقم 370 ج1.

اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السَّامُ عليكم. قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السَّامُ واللعنة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهلًا يا عائشة إن الله يُحبُّ الرفق في الأمر كله"، فقلت: يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد قلت وعليكم» (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة «إن الله رفيق يُحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العُنْف، وما لا يُعطي على ما سواه» (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزع من شيء إلا شانه» (¬3). وبين صلى الله عليه وسلم أن من حُرِمَ الرفق فقد حُرِمَ الخير، قال صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله 10/ 449، برقم 6024. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، عن عائشة رضي الله عنها 4/ 2004، برقم 2593. (¬3) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما سابقاً 4/ 2004، عن عائشة رضي الله عنها أيضاً، برقم 2594.

المثال الثالث مع من بال في المسجد

«من يُحرم الرفق يُحرم الخير» (¬1). وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أُعطيَ حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حُرِمَ حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير» (¬2) وعنه - رضي الله عنه - يبلغ به قال: «من أُعطي حظَّه من الرفق أُعطي حظَّه من الخير، وليس شيء أثقل في الميزان من الخُلُق الحسن» (¬3). المثال الثالث: مع من بال في المسجد: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، ¬

(¬1) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما سابقاً عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - 4/ 2003، برقم 2592. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الرفق 4/ 367، برقم 2013، وقال حديث حسن صحيح، وانظر: صحيح الترمذي 2/ 195. (¬3) أخرجه أحمد في المسند 6/ 451، انظر: الأحاديث الصحيحة للألباني رقم 876، فقد ذكر له شواهد كثيرة.

فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَه مَهْ (¬1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه (¬2) دعوه"، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة وقراءة القرآن"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأمر رجلًا من القوم فجاء بِدَلْوٍ من ماءٍ فشنَّه (¬3) عليه» (¬4). وقد ثبت في البخاري وغيره أن هذا الرجل هو الذي ¬

(¬1) مه: كلمة زجر، وهو اسم مبني على السكون، معناه: اسكت. وقيل: أصلها: ما هذا؟ انظر: شرح النووي 3/ 193. (¬2) لا تزرموه: أي لا تقطعوا عليه بوله. والإزرام: القطع. انظر: المرجع السابق 3/ 190. (¬3) شنه: أي صبه عليه. انظر: المرجع السابق 3/ 193. (¬4) أخرجه مسلم بلفظه في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها 1/ 236، برقم 285، والبخاري مع الفتح، بمعناه مختصراً في كتاب الوضوء، باب ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد 1/ 322، برقم 219، وروايات بول الأعرابي في البخاري مع الفتح في عدة مواضع 1/ 223، 10/ 449، 10/ 525.

قال: (اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحداً)، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: "لقد حجرت واسعاً" يريد رحمة الله» (¬1). وتُفسِّر هذه الرواية الروايات الأخرى عند غير البخاري، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «دخل رجل أعرابي المسجد فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحداً! فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد تحجَّرت واسعًا"، ثم لم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع الناس إليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعثتم مُيسِّرين، ولم تُبعثوا مُعسِّرين، أهريقوا عليه دلوًا من ماء، أو سجلًا من ماء» (¬2). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم 10/ 438، برقم 6010. (¬2) أخرجه الترمذي بنحوه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض 1/ 275، برقم 147، وأخرجه أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر واللفظ = ... = لأحمد 12/ 244، برقم 7254، وأخرجه أحمد أيضاً مطولاً 20/ 134 برقم 10540، وأبو داود مع العون 2/ 39.

قال: يقول الأعرابي بعد أن فقه: «فقام النبي صلى الله عليه وسلم إليَّ بأبي وأمي فلم يسبَّ، ولم يؤنِّبْ، ولم يضرب» (¬1). النبي صلى الله عليه وسلم أحكم خلق الله، فمواقفه وتصرفاته كلها مواقف حكمة مشرفة، ومن وقف على أخلاقه ورفقه وعفوه وحلمه، ازداد يقينه وإيمانه بذلك. وهذا الأعرابي قد عمل أعمالًا تثير الغضب، وتسبب عقوبته وتأديبه من الحاضرين؛ ولذلك قام الصحابة إليه، واستنكروا أمره، وزجروه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطعوا عليه بوله. وهذا في غاية الرفق والحلم والرحمة، ويجمع ذلك كله الحكمة، فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة على هذا الأعرابي ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر وهو تكملة للحديث السابق من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - 20/ 134، برقم 10540، وابن ماجه 1/ 175، برقم 529، 530.

عمله، فقال له حينما قال: (اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحداً): «لقد تحجرت واسعًا»، يريد صلى الله عليه وسلم رحمة الله، فإن رحمة الله قد وسعت كل شيء، قال عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، فقد بخل هذا الأعرابي برحمة الله على خلقه. وقد أثنى الله عز وجل على من فعل خلاف ذلك حيث قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10] وهذا الأعرابي قد دعا بخلاف ذلك فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالرِّفق واللين والرحمة (¬1). وحينما بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه؛ لأنه قد شرع في المفسدة، فلو منع ذلك لزادت المفسدة، وقد حصل تلويث ¬

(¬1) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10/ 439.

جزء من المسجد، فلو منعه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لدار بين أمرين: إما أن يقطع عليه بوله فيتضرر الأعرابي بحبس البول بعد خروجه. وإما أن يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه، أو ثوبه، أو مواضع أخرى من المسجد. فأمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عنه للمصلحة الراجحة، وهي دفع أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما (¬1). وهذا من أعظم الحكم العالية، فقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم هذه المصالح، وما يقابلها من المفاسد، ورسم صلى الله عليه وسلم لأمته والدعاة من بعده كيفية الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف، ولا سبٍّ ولا إيذاء ولا تشديد، إذا لم يكن ذلك منه عنادًا ولا استخفافًا، وقد كان لهذا ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري 1/ 325، وشرح النووي على مسلم 3/ 191.

المثال الرابع مع معاوية بن الحكم

الاستئلاف والرحمة والرفق الأثر الكبير في حياة هذا الأعرابي وغيره، فقد قال بعد أن فقه - كما تقدم - وفي رواية الإمام أحمد: فقام النبي صلى الله عليه وسلم إليَّ بأبي وأمي، فلم يسبَّ، ولم يؤنِّبْ، ولم يضرب (¬1). فقد أثَّر هذا الخلق العظيم في حياة الرجل (¬2). المثال الرابع: مع معاوية بن الحكم: عن معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال: «بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني، لكني ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل 1/ 175، برقم 529، وتقدم تخريجه عند أحمد. (¬2) انظر: فتح الباري 1/ 325، وشرح النووي 3/ 191، وعون المعبود شرح سنن أبي داود 2/ 39، وتحفة الأحوذي، شرح سنن الترمذي 1/ 457.

سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني (¬1) ولا ضربني ولا شتمني، قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإنَّ منَّا رجالًا يأتون الكهان، قال: "فلا تأتهم". قال: ومنَّا رجال يتطيرون، قال: "ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم" (¬2) (قال ابن الصلاح: فلا يصدنكم)، قال: قلت: ومنا رجال يخطُّون. قال: "كان نبي من الأنبياء يخطُّ، فما وافق خطه فذاك» (¬3). ¬

(¬1) ما كهرني: أي ما قهرني ولا نهرني. انظر: شرح النووي 5/ 20. (¬2) قال العلماء: معناه أن الطيرة شيء تجدونه في نفوسكم ضرورة، ولا عتب عليكم في ذلك، ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في أموركم. انظر: المرجع السابق 5/ 22. (¬3) اختلف العلماء في معناه، والصحيح أن معناه: من وافق خطه فهو مباح له؛ = ... = ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يُباح، والمقصود أنه حرام؛ لأنه لا يُباح إلا بيقين الموافقة، وليس لنا يقين بها، وقيل: إنه نُسِخَ في شرعنا. فحصل من مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه الآن فهو محرم. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 5/ 23.

قال: «وكانت لي جارية ترعى غنمًا لي قِبَلَ أُحُد والجوَّانية (¬1) فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها، قال: "ائتني بها"، فأتيته بها، فقال لها: "أين الله؟ " قالت: في السماء، قال: "من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله. قال: "أعتقها فإنها مؤمنة» (¬2). وهذا الموقف من أعظم الحكم البارزة السامية التي ¬

(¬1) الجوانية: موضع في شمال المدينة بقرب جبل أحد. انظر: المرجع السابق 5/ 23. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته 1/ 381، برقم 537، وانظر شرحه في شرح مسلم للنووي 5/ 20.

المثال الخامس مع من كانت يده تطيش

أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر أثر ذلك في حياة ونفس معاوية - رضي الله عنه -؛ لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، ولهذا قال معاوية رضي الله عنه: ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه. المثال الخامس: مع من كانت يده تطيش: عن عمر بن أبي سلمة - رضي الله عنه - قال: «كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام! سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك"، فمازالت تلك طعمتي بعد» (¬1). المثال السادس: مع من أصاب من امرأته قبل الكفارة: عن سلمة بن صخر الأنصاري - رضي الله عنه - قال في حديثه: «. . . خرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبري فقال لي: "أنت بذاك؟ " فقلت: أنا بذاك، فقال: "أنت بذاك؟ " ¬

(¬1) مسلم 3/ 1599 برقم 2022، والبخاري مع الفتح 9/ 521 برقم 5376.

فقلت: أنا بذاك، فقال: "أنت بذاك؟ " فقلت: نعم ها أنذا فامضِ فيَّ حكمك فإني صابر له. قال: "أعتق رقبة" قال: فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: "فصم شهرين" قال: قلت: يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال: "فتصدق" قال فقلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشًا ما لنا عشاء. قال: "اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقًا ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك" قال فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة وقد أمر لي بصدقتكم فادفعوها لي، قال: فدفعوها لي» (¬1). ¬

(¬1) أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وانظر: صحيح الترمذي 1/ 352، وإرواء الغليل 7/ 179.

المثال السابع مع من بكت عند القبر

المثال السابع: مع من بكت عند القبر: عن أنس - رضي الله عنه - قال: «مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: "اتقِ الله واصبري" قالت: إليك عنِّي فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوَّابين، فقالت: لم أعرفك. فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى» (¬1) وهذا فيه الدلالة على رفق النبي صلى الله عليه وسلم بالجاهل، وترك المؤاخذة. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 3/ 148 برقم 1283.

المبحث الرابع عشر صبره الجميل صلى الله عليه وسلم

المبحث الرابع عشر صبره الجميل صلى الله عليه وسلم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم مواقف في الدعوة إلى الله تدل على صبره، ورغبته فيما عند الله تعالى، ومن المعلوم أنه صبر في جميع أحواله ابتداءً بدعوته السرية حتى لَقِيَ ربه صابرًا محتسبًا، وأمثلة صبره في دعوته كثيرة جدًا لا تحصر، ولكني أقتصر على إيراد الأمثلة التطبيقية الآتية: المثال الأول: صعوده على الصفا ونداؤه العام: أمر الله نبيه بإنذار عشيرته الأقربين، فقال عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ - وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 214 - 216] فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنفيذ أمر ربه بالجهر بالدعوة والصدع بها، وإنذار عشيرته، فوقف مواقف حكيمة

أظهر الله بها الدعوة الإسلامية، وبيَّن بها حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته، وصبره، وحسن خلقه، وإخلاصه لله رب العالمين، وقَمَعَ بها الشرك وأهله، وأذلهم إلى يوم الدين. عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عدي" - لبطون قريش - حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ " قالو: نعم، ما جربنا عليك إلا صِدْقًا. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ - مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1 - 2] (¬1). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، باب وأنذر عشيرتك الأقربين 8/ 501، 737، برقم 4770، و6/ 551، ومسلم بنحوه في كتاب الإيمان، باب قوله: وأنذر عشيرتك الأقربين 1/ 194، برقم 208.

وفي رواية لأبي هريرة - رضي الله عنه - أنه صلى الله عليه وسلم ناداهم بطنًا بطنًا، ويقول لكل بطن: "أنقذوا أنفسكم من النار. . . "، ثم قال: "يا فاطمة أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رحماًَ سأبلها ببلاها» (¬1). وهذه الصحية العالمية غاية البلاغ، وغاية الإنذار، فقد أوضح صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأوضح أن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار، الذي جاء من عند الله تعالى، فقد دعا صلى الله عليه وسلم قومه - في هذا الموقف العظيم - إلى الإسلام، ونهاهم عن عبادة الأوثان، ورغَّبهم في الجنة، وحذَّرهم من النار، وقد ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الشعراء، باب وأنذر عشيرتك الأقربين 8/ 501، برقم 4771، 5/ 382، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: وأنذر عشيرتك الأقربين 1/ 192، برقم 206.

ماجت مكة بالغرابة والاستنكار، واستعدت لحسم هذه الصرخة العظيمة التي ستزلزل عاداتها وتقاليدها وموروثاتها الجاهلية؛ ولكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يضرب لصرخاتهم حسابًا، لأنه مرسل من الله - عز وجل -، ولابد أن يبلغ البلاغ المبين عن رب العالمين، حتى ولو خالفه أو رد دعوته جميع العالمين، وقد فعل صلى الله عليه وسلم (¬1). استمر صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى الله - تعالى - ليلًا ونهارًا، وسِرًّا وجهاراًًً، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يردُّه عن ذلك راد، ولا يصدُّه عن ذلك صادٌّ، استمر يتتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، يدعو من لقيه من: حر وعبد، وقوي وضعيف، وغني وفقير، جميع الخلق عنده في ذلك سواء. وقد تسلَّط عليه وعلى من اتبعه الأشداء الأقوياء من ¬

(¬1) انظر: الرحيق المختوم ص78، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص101، 102، والسيرة النبوية، دروس وعبر لمصطفى السباعي ص47.

مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية، وانفجرت مكة بمشاعر الغضب؛ لأنها لا تريد أن تفارق عبادة الأصنام والأوثان (¬1) ومع ذلك لم يفتر محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته، ولم يترك العناية والتربية الخاصة لأولئك الذين دخلوا في الإسلام، فقد كان يجتمع بالمسلمين في بيوتهم على شكل أسر بعيدة عن أعين قريش، وتتكون هذه الأسر من الأبطال الذين عقد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمل بعد الله - تعالى - في حمل العبء والمهام الجسمية لنشر الإسلام، وبذلك تكونت طبقة خاصة من المؤمنين الأوائل قوية في إيمانها، متينة في عقيدتها، مدركة لمسئوليتها، منقادة لأمر ربها، طائعة لقائدها، مطبقة لكل أمر يصدر عنه برغبة وشوق واندفاع لا يعادله اندفاع، وحب لا يساويه حب. وبهذه المواقف الحكيمة، والتربية الصالحة المتينة استطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤدي الأمانة، ويرسم لنا طريقًا ¬

(¬1) البداية والنهاية 3/ 40.

نسير عليه في دعوتنا وعملنا وسلوكنا، فهو قدوتنا وإمامنا الذي نسير على هديه، ونستنير بحِكَمِهِ صلى الله عليه وسلم. فقد بدأ الدعوة بعناصر اختارها ورباها، فلبت الدعوة، وآمنت به، وكانت دعوته عامة للناس، وأثناء هذه الدعوة يُركِّزُ على من يجد عندهم الإمكانات أو يتوقع منهم ذلك، وقد تكوَّن من هذه العناصر نواة القاعدة الصلبة التي ثبتت عليها أركان الدعوة (¬1). ومع هذا الجهد المبارك العظيم لم يلجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاغتيال السياسي، ولم يتخلص بالاغتيال من أفراد بأعينهم، وكان بإمكانه ذلك وبكل يسر وسهولة، إذ كان يستطيع أن يكلف أحد الصحابة بقتل بعض قادة الكفر: كالوليد بن المغيرة المخزومي، أو العاص بن وائل السهمي، أو أبي جهل عمرو بن هشام، أو أبي لهب عبد العزى ابن عبد المطلب، أو النضر بن الحارث، أو عقبة ¬

(¬1) التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر 2/ 65.

ابن أبي معيط، أو أُبيِّ بن خلف، أو أُمية بن خلف. . .، وهؤلاء هم من أشد الناس أذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأمر أحدًا من أصحابه باغتيال أحد منهم أو غيرهم من أعداء الإسلام؛ فإن مثل هذا الفعل قد يُوْدي بالجماعة الإسلامية كاملة، أو يعرقل مسيرتها مدة ليست باليسيرة، كرد فعل من أعداء الإسلام الذين يتكالبون على حربه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر في هذه المرحلة باغتيالهم؛ لأن الذي أرسله هو أحكم الحاكمين. وعلى هذا يجب أن يسير الدعاة إلى الله فوق كل أرض، وتحت كل سماء، وفي كل وقت، يجب أن تكون الدعوة على حسب المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك قبل الهجرة أو بعدها، فطريق الدعوة الصحيح هو هديه والتزام أخلاقه وحكمه وتصرفاته على حسب ما أرادها صلى الله عليه وسلم (¬1). ¬

(¬1) انظر: التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر 2/ 65.

المثال الثاني مع اضطهاد سادات قريش

المثال الثاني: مع اضطهاد سادات قريش: رأت قريش أن تجرب أسلوبًا آخر تجمع فيه بين الترغيب والترهيب، فلترسل إلى محمد صلى الله عليه وسلم تعرض عليه من الدنيا ما يشاء، ولترسل إلى عمه الذي يحميه تحذره مغبة هذا التأييد والنصر لمحمد صلى الله عليه وسلم، وتطلب منه أن يكف عنها محمدًا ودينه (¬1). جاءت سادات قريش إلى أبي طالب، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنًا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه، وإنا والله لا نصبر على هذا، مِنْ: شَتْم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى نكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين. فعظم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، وعظم عليه فراق قومه وعداوته لهم، ولم يطب نفسًا ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 3/ 41، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص112.

بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، ولا خذلانه، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي، إن قومك جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فأبقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك. فثبت النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته إلى الله، ولم تأخذه في الله لومة لائم؛ لأنه على الحق، ويعلم بأن الله سينصر دينه ويُعلي كلمته، وعندما رأى أبو طالب هذا الثبات ويئس من موافقة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش على ترك دعوته إلى التوحيد قال: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أُوسَّد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضةً ... وأبشر وقر بذاك منك عيونا (¬1) ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام 1/ 278، وانظر: البداية والنهاية 3/ 42، وفقه السيرة للغزالي ص114، والرحيق المختوم ص94.

المثال الثالث مع عتبة بن ربيعة

المثال الثالث: مع عتبة بن ربيعة: بعد أن أسلم حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب أخذت السحائب تنقشع، وأقلق هذا الموقف الجديد مضاجع المشركين، وأفزعهم وزادهم هولًا وفزعًا تزايد عدد المسلمين، وإعلانهم إسلامهم، وعدم مبالاتهم بعداء المشركين لهم، الأمر الذي جعل رجال قريش يساومون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث المشركون عتبة بن ربيعة ليعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمورًا لعله يقبل بعضها فيُعطَى من أمور الدنيا ما يريد. فجاء عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة (¬1) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعِبْتَ به ¬

(¬1) يعني: المنزلة الرفيعة. انظر: المصباح المنير، مادة "سطا" ص276، والقاموس المحيط، باب الواو، فصل السين ص1670.

آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل أبا الوليد أسمع"، قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت إنما تريد به شرفًا سوَّدناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به مُلْكًا ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. . حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟ " قال: نعم، قال: "فاستمع مني" قال: أفعل، فقال: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ -

وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 2 - 5] ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليها يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك" (¬1). وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13]، فقام مذعورًا فوضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنشدك الله والرحم، وطلب ¬

(¬1) أخرج هذه القصة ابن إسحاق في المغازي 1/ 313 من سيرة ابن هشام، قال الألباني: وإسناده حسن إن شاء الله. انظر: فقه السيرة للغزالي ص113، وتفسير ابن كثير 4/ 61، والبداية والنهاية 3/ 62، والرحيق المختوم ص103.

منه أن يكف عنه، فرجع إلى قومه مسرعًا كأن الصواعق ستلاحقه، واقترح على قريش أن تترك محمدًا وشأنه، وأخذ يرغبهم في ذلك (¬1). لقد تخير رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله - تعالى -، ثم بحكمته العظيمة هذه الآيات من الوحي؛ ليعرف عتبة حقيقة الرسالة والرسول، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم يحمل كتابًا من الخالق إلى خلقه، يهديهم من الضلال، وينقذهم من الخبال، ومحمد صلى الله عليه وسلم قبل غيره مُكلَّف بتصديقه والعمل به، والوقوف عند أحكامه، فإذا كان الله - عز وجل - يأمر الناس بالاستقامة على أمره، فمحمد صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك، وهو لا يطلب ملكًا ولا مالًا ولا جاهًا، لقد مكَّنه الله من هذا كله، فعفَّ عنه وترفَّع أن يمد يديه إلى هذا الحطام الفاني؛ لأنه صادق في دعوته، مخلص لربه، صلى الله عليه وسلم (¬2). ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية 3/ 62، وتاريخ الإسلام للذهبي، قسم السيرة ص158، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص114، وهذا الحبيب يا محبّ ص102، وتفسير ابن كثير 4/ 62. (¬2) انظر: فقه السيرة لمحمد الغزالي ص113.

المثال الرابع مع أبي جهل

وهذا موقف من أعظم مواقف الصبر والحكمة التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قد ثبت وصدق في دعوته، ولم يرد مالًا، ولا جاهًا، ولا ملكًا، ولا نكاحًا، من أجل أن يتخلى عن دعوته، وقد اختار الكلام المناسب في الموضع المناسب، وهذا هو عين الحكمة والخلق الحسن العظيم. المثال الرابع: مع أبي جهل: قرر المشركون ألا يألو جهدًا في محاربة الإسلام وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن دخل معه في الإسلام، والتعرض لهم بألوان النكال والإيلام. ومنذ جهر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى الله، وبيَّن أباطيل الجاهلية، انفجرت مكة بمشاعر الغضب، وظلت عشرة أعوام تعدُّ المسلمين عصاة ثائرين فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، واستباحت في الحرم الآمن دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وصاحبت هذه النار المشتعلة

حرب من السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب، وتشويه تعاليم الإسلام، وإثارة الشبهات، وبث الدعايات الكاذبة، ومعارضة القرآن، والقول بأنه أساطير الأولين، ومحاولة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم عامًا، ويعبدون الله عاماً! إلى غير ذلك من مفاوضاتهم المضحكة! واتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون، والسحر، والكذب والكهانة، والنبي صلى الله عليه وسلم ثابت صابر محتسب يرجو من الله النصر لدينه، وإظهاره (¬1). لقد نال المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم ينالوه من كثير من المؤمنين، فهذا أبو جهل يعتدي على النبي صلى الله عليه وسلم ليعفر وجهه في التراب، ولكن الله حماه منه، ورد كيده في نحره، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «قال أبو جهل: هل يُعَفِّر محمد ¬

(¬1) انظر: فقه السيرة لمحمد الغزالي ص106، والرحيق المختوم ص80، 82، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/ 85، 88، 91، 93، 94، وهذا الحبيب يا محبّ ص110.

وجهه بين أظهركم؟ قال: قيل: نعم. فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأُعَفِّرنَّ وجهه في التراب، قال: فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته. قال: فما فجئهم (¬1) منه إلا وهو ينكص على عقبيه (¬2) ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار، وهولًا، وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضواً". قال: فأنزل الله - عز وجل -: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] إلى آخر السورة.» (¬3) وقد عصم الله النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الطاغية ومن غيره، وصبر على هذا الأذى العظيم ابتغاء وجه الله - تعالى -، فضحَّى بنفسه وماله ووقته في سبيل الله تعالى. ¬

(¬1) ويقال أيضاً: فجأهم، أي بغتهم. انظر: شرح النووي 17/ 140. (¬2) يرجع يمشي إلى ورائه. انظر: المرجع السابق 7/ 140. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب المنافقين، باب قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} 4/ 2154، برقم 2797، وانظر: شرح النووي 17/ 140.

المثال الخامس وضع السلا على ظهره

المثال الخامس: وضع السَّلا على ظهره صلى الله عليه وسلم: ومما أُصيب به محمد صلى الله عليه وسلم من الأذى ما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نُحِرتْ جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سَلَا (¬1) جزور بني فلان فيأخذه فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم (¬2) فأخذه، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ¬

(¬1) السّلا: هو اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة وسائر الحيوان، وهي من الآدمية: المشيمة. انظر: شرح النووي 12/ 151. (¬2) هو عقبة بن أبي مُعيط، كما صرح في رواية لمسلم في صحيحه 3/ 1419.

المثال السادس مع عقبة بن أبي معيط

ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا، ثم قال: "اللهم عليك بقريش" ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: "اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط "، وذكر السابع ولم أحفظه، فوالذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق لقد رأيت الذي سمَّى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر» (¬1). المثال السادس: مع عقبة بن أبي معيط: ومن أشد ما صنع به المشركون صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير، قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: «أخبرني بأشد ما صنع المشركون ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، في كتاب الوضوء، باب إذا أُلقيَ على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته 1/ 349، برقم 240، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين 2/ 1418، برقم 1794.

برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر، فأخذ بمنكبه، ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28]» وقد اشتد أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، حتى جاء بعض الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصره، ويسأل منه الدعاء والعون، ولكن النبي الحكيم واثق بنصر الله وتأييده، فإن العاقبة للمتقين.

عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، [ولقد لقينا من المشركين شدة]، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد [ما دون عظامه من لحم وعصب]، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليُتَمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (¬1). وهكذا اشتد أذى قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ¬

(¬1) البخاري مع الفتح في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام 6/ 619، برقم 3612، وفي كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة 7/ 164، برقم 3852، وفي كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر 12/ 315، برقم 6943، واللفظ من كتاب الإكراه، وما بين المعكوفين من مناقب الأنصار.

المثال السابع مع زوجة أبي لهب

أصحابه، وما ذلك كله إلا من أجل إعلاء كلمة الله، والصدع بالحق، والثبات عليه، والدعوة إلى التوحيد الخالص، ونبذ عادات الجاهلية وخرافاتها ووثنيتها. المثال السابع: مع زوجة أبي لهب: لقي النبي صلى الله عليه وسلم أشد الأذى، ووصل الأمر إلى تغيير اسمه صلى الله عليه وسلم احتقارًا له ولدينه، وحسدًا وبغضًا له، فقد كان المشركون من قريش من شدة كراهتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لا يُسمُّونه باسمه الدَّال على المدح فيعدلون إلى ضده، فيقولون: مُذمَّم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فعل الله بمذمم، ومذمم ليس هو اسمه ولا يُعرف به، فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفًا إلى غيره بحمد الله تعالى (¬1). قال صلى الله عليه وسلم: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش، ولعنهم؟! يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمد» (¬2). ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 6/ 558. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 6/ 554، برقم 3533.

والنبي صلى الله عليه وسلم له خمسة أسماء ليس منها مُذَمَّمًا (¬1). جاءت أم جميل زوجة أبي لهب - حين سمعت ما أنزل الله فيها وفي زوجها من القرآن - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها ملء الكف من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر! أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أَمَا والله إني لشاعرة، ثم قالت: مُذَمَّمًَا عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا (¬2) استمر المشركون في إلحاق الأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الذين أسلموا، وبعد أن زاد عدد المسلمين ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 6/ 554، برقم 3532. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام 1/ 378، ومعنى قولها: قلينا: أي أبغضنا. انظر: تفسير ابن كثير4/ 523.

وكثر عددهم ازداد حنق المشركين على المسلمين، وبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، ورأى أنه في حماية الله ثم عمه أبي طالب، وهو لا يستطيع أن يمنع المسلمين مما هم فيه من العذاب - فقد مات منهم من مات، وعُذِّب من عذب حتى عمي وهو تحت العذاب - فأذن رسول الله لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فكان أهل هذه الهجرة الأولى اثنى عشر رجلًا، وأربع نسوة، ورئيسهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ذهبوا فوفَّقَ الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين، فحملوهم فيها إلى أرض الحبشة، وكان ذلك في رجب، في السنة الخامسة من البعثة، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر فلم يدركوا منهم أحدًا، ثم بلغ هؤلاء المهاجرين أن قريشًا قد كفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم فرجعوا إلى مكة من الحبشة، وقبل وصولهم مكة بساعة من نهار بلغهم أن الخبر كذب، وأن قريشًا أشد ما كانوا عداوة

لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل من دخل مكة بجوار، وكان من الداخلين ابن مسعود، ووجد أن ما بلغهم من إسلام أهل مكة كان باطلًا، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار - كابن مسعود - أو مستخفيًا، ثم اشتد البلاء من قريش على من دخل مكة من المهاجرين وغيرهم، ولقوا منهم أذىً شديدًا، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية، وكان عدد من خرج في هذه المرة الثانية ثلاثة وثمانين رجلًا، إن كان فيهم عمار بن ياسر، ومن النساء تسعة عشرة امرأة، فكان المهاجرون في مملكة أصحمة النجاشي آمنين، فلما علمت قريش بذلك أرسلت للنجاشي بهدايا وتحف ليردهم عليهم، فمنع ذلك عليهم، ورد عليهم هداياهم، وبقي المهاجرون في الحبشة آمنين حتى قدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر (¬1). ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد لابن القيم 3/ 23، 36، 38، والرحيق المختوم ص89، وهذا الحبيب يا محب ص120، وسيرة ابن هشام 1/ 343، والبداية والنهاية 3/ 66، = = والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/ 98، 109، وتاريخ الإسلام للذهبي، قسم السيرة ص183.

المثال الثامن حبسه صلى الله عليه وسلم في الشعب

المثال الثامن: حبسه صلى الله عليه وسلم في الشعب: ولما رأت قريش انتشار الإسلام، وكثرة من يدخل فيه، وبلغها ما لقي المهاجرون في بلاد الحبشة، من: إكرام وتأمين، مع عودة وفدها خائبًا، اشتد حنقها على الإسلام، وأجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم، وبني عبد المطلب، وبني عبد مناف، وأن لا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسلِّموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، فانحاز بنو هاشم، وبنو عبد المطلب مؤمنهم وكافرهم إلا أبا لهب، فإنه بقي مظاهرًا لقريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بني هاشم، وبني عبد المطلب. وحُبِسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب ليلة هلال محرم، سنة سبع من البعثة، وبقوا محصورين محبوسين،

مضيقًا عليهم جدًا، مقطوعًا عليهم الطعام والمادة نحو ثلاث سنين حتى بلغهم الجهد، وسُمِعَ أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب، ثم أطلع الله رسوله على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله - عز وجل -، فأخبر عمه بذلك، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن محمدًا قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت، فأنزلوا الصحيفة، فلما رأوا الأمر كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا كفرًا إلى كفرهم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب بعد عشرة أعوام من البعثة، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام، وقيل غير ذلك (¬1). ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد 3/ 30، وسيرة ابن هشام 1/ 371، البداية والنهاية 3/ 64، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/ 109، 127، 128، وتاريخ الإسلام للذهبي - قسم السيرة ص126، 137، والرحيق المختوم ص112.

المثال التاسع مع أهل الطائف

ولما نُقِضَتِ الصحيفة وافق موت أبي طالب وموت خديجة وبينهما زمن يسير، فاشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومه، وتجرؤوا عليه فكاشفوه بالأذى، فازدادوا غمًا على غم حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يؤووه أو ينصروه على قومه، فلم ير من يؤوي، ولم ير ناصرًا، وآذوه مع ذلك أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله من قومه (¬1). المثال التاسع: مع أهل الطائف: في شوال، من السنة العاشرة من النبوة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لعله يجد في ثقيف حسن الإصغاء لدعوته والانتصار لها، وكان معه زيد بن حارثة مولاه، وكان في طريقه كلما مر على قبيلة دعاهم إلى الإسلام، فلم تُجِبْه واحدة منها. عندما وصل إلى الطائف عمد إلى رؤسائها فجلس ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد 3/ 31، والرحيق المختوم ص113.

إليهم، ودعاهم إلى الإسلام، فردوا عليه ردًا قبيحًا، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم، فلما أراد الخروج تبعه هؤلاء السفهاء واجتمعوا عليه صَفَّين يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه حتى اختضب نعلاه بالدماء، وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى مكة محزونًا، كسير القلب، وفي طريقه إلى مكة أرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبَيْن على أهل مكة، وهما جبلاها اللذان هي بينهما (¬1). عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت لرسول الله ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد 3/ 31، والرحيق المختوم ص122، وهذا الحبيب يا محبّ ص132، والبداية والنهاية 3/ 135.

صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: "لقد لقيت من قومك [ما لقيت]، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال (¬1) فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أسْتَفِق إلا بقرن الثعالب (¬2) فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني: فقال: إن الله - عز وجل - قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك فما شئت (¬3)؟ إن شئت أن أُطْبِق ¬

(¬1) ابن عبد ياليل بن كلال من أكابر أهل الطائف من ثقيف. الفتح 6/ 315. (¬2) وهو ميقات أهل نجد، ويقال له: قرن المنازل، ويعرف الآن بالسيل الكبير. انظر: الفتح 6/ 315. (¬3) استفهام، أي: فأمرني بما شئت. انظر: فتح الباري 6/ 316.

عليهم الأخشبين". فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً» (¬1). وفي هذا الجواب الذي أدلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم تتجلى شخصيته الفذة، وما كان عليه من الخلق العظيم الذي أمده الله به. وفي ذلك بيان شفقته على قومه، ومزيد صبره وحلمه، وهذا موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فصلوات الله وسلامه عليه (¬2). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح في كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه 6/ 312، برقم 3231، ومسلم بلفظه في كتاب الجهاد والسير باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين 3/ 1420، برقم 1795، وما بين المعكوفين من البخاري دون مسلم. (¬2) انظر: فتح الباري لابن حجر 6/ 316، والرحيق المختوم ص124.

وأقام صلى الله عليه وسلم بنخلة أيامًا، وصمم على الرجوع إلى مكة، وعلى القيام باستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله الخالدة، بنشاط جديد، وجد وحماس، وحينئذ قال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ فَرُوي عنه (¬1) أنه قال: يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه. ثم سار حتى وصل إلى مكة فأرسل رجلًا من خزاعة إلى مطعم بن عدي ليدخل في جواره، فقال مطعم: نعم، ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدًا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المُطْعمُ بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه وصلى ركعتين، وانصرف إلى ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد، لابن القيم 3/ 33.

بيته، والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته (¬1). وفي هذه المواقف العظيمة التي وقفها النبي صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الطائف دليل واضح على تصميمه الجازم في الاستمرار في دعوته وعدم اليأس من استجابة الناس لها، وبَحَثَ عن ميدان جديد للدعوة، بعد أن قامت الحواجز دونها في ميدانها الأول. وفي ذلك دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أستاذًا في الحكمة، وذلك لأنه حينما قدم الطائف اختار الرؤساء وسادة ثقيف في الطائف وقد علم أنهم إذا أجابوه أجابت كل قبائل أهل الطائف. وفي سيل الدماء من قدمي النبي صلى الله عليه وسلم - وهو النبي الكريم - أكبر مثل لما يتحمله الداعية في سبيل الله من أذى واضطهاد. ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد 3/ 33، وسيرة ابن هشام 2/ 28، والبداية والنهاية 3/ 137، والرحيق المختوم ص125.

المثال العاشر مع أهل الأسواق والمواسم

وفي عدم دعائه على قومه، وعلى أهل الطائف، وعدم موافقة مَلَك الجبال في إطباق الأخْشَبيْن على أهل مكة أكبر مثل لما يتحمله الداعية في صبره على من رد دعوته، وعدم اليأس من هدايتهم، فربما يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا. ومن حكمته صلى الله عليه وسلم أنه لم يدخل مكة إلا بعد أن دخل في جوار المُطْعم بن عدي، وهكذا ينبغي للداعية أن يبحث عمن يحميه من كيد أعدائه؛ ليقوم بدعوته على الوجه المطلوب (¬1). المثال العاشر: مع أهل الأسواق والمواسم: باشر النبي صلى الله عليه وسلم دعوته في مكة بعد عودته من الطائف في شهر ذي القعدة سنة عشر من النبوة، فبدأ يذهب إلى المواسم التي تقام في الأسواق مثل: عكاظ، ومجنة، وذي مجاز، وغيرها، التي تحضرها القبائل العربية للتجارة ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر لمصطفى السباعي ص58، وهذا الحبيب يا محبّ ص134.

والاستماع لما يُلقى فيها من الشعر ويعرض نفسه على هذه القبائل يدعوها إلى الله - تعالى -، وجاء موسم الحج لهذه السنة فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة. ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرض الإسلام على القبائل فحسب، بل كان يعرضه على الأفراد أيضًا. وكان صلى الله عليه وسلم يُرَغِّبُ جميع الناس بالفلاح، فعن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، قال: أخبرني رجل يقال له: ربيعة بن عباد، من بني الديل، وكان جاهليًا، قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضئ الوجه، أحول، ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فذكروا لي نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا عمه أبو لهب» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه أحمد 4/ 341، 3/ 492، وسنده حسن، وله شاهد عند ابن حبان = ... = برقم 1683 (موارد) من حديث طارق بن عبد الله المحاربي، والحاكم المستدرك بإسنادين، وقال عن الإسناد الأول: صحيح على شرط الشيخين، رواته كلهم ثقات أثبات 1/ 15.

وقد كانت الأوس والخزرج يحجُّون كما تحج العرب دون اليهود، فلما رأى الأنصار أحواله صلى الله عليه وسلم ودعوته، عرفوا أنه الذي تتوعدهم به اليهود، فأرادوا أن يسبقوهم؛ ولكنهم لم يبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة، ورجعوا إلى المدينة (¬1). وفي موسم الحج من السنة الحادية عشرة من النبوة، عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل، وبينما الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه، مر بعقبة مِنَى فوجد بها ستة نفر من شباب يثرب، فعرض عليهم الإسلام، فأجابوا دعوته، ورجعوا إلى قومهم وقد حملوا معهم رسالة الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد 3/ 43، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/ 136، والرحيق المختوم ص129، والبداية والنهاية 3/ 149، وابن هشام 2/ 31. (¬2) انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/ 137، وهذا الحبيب يا محبّ 2/ 145، = = والرحيق المختوم ص132، وزاد المعاد 3/ 45، وسيرة ابن هشام 2/ 38، والبداية والنهاية 3/ 149.

ثم استدار العام وأقبل الناس إلى الحج سنة اثنتي عشرة من النبوة، وكان من بين حجاج يثرب اثنا عشر رجلًا، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد اتصلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في العام السابق، والتقوا حسب الموعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة بمنى، وأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء (¬1). عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: «تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتانٍِ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروفٍ، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فَعُوقِب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد 3/ 46، والرحيق المختوم ص139، والتاريخ الإسلامي 2/ 139، وهذا الحبيب يا محبّ ص145، وسيرة ابن هشام 2/ 38.

الله عليه فأمره إلى الله: إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه" فبايعناه على ذلك» (¬1). وبعد أن انتهت المبايعة، وانتهى الموسم بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء مصعب بن عمير - رضي الله عنه - ليعلم المسلمين شرائع الإسلام؛ وليقوم بنشر الإسلام، وقد قام بذلك - رضي الله عنه - أتم قيام، وفي موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة حضر لأداء الحج من يثرب ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان، وكلهم قد أسلموا. فلما قدموا مكة واعدوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة، وجاءهم على موعدهم، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا: يا رسول الله، على ما نبايعك؟ فقال: «تبايعوني على: السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة 7/ 219، برقم 3892، وكتاب الإيمان، باب حدثنا أبو اليمان 1/ 64، برقم 18.

الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة» (¬1) فقاموا إليه فبايعوه. وبعد عقد هذه البيعة جعل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى عشر زعيمًا، يكونون نقباء على قومهم، وكانوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، ثم رجعوا إلى يثرب، وعندما وصلوا أظهروا الإسلام فيها، ونفع الله بهم في الدعوة إلى الله تعالى (¬2). وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح النبي صلى الله عليه وسلم في تأسيس وطنٍ للإسلام، انتشر الخبر في مكة كثيرًا، وثبت لقريش أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بايع أهل يثرب، فاشتد أذاهم على من أسلم في مكة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، ¬

(¬1) أحمد في المسند 3/ 322، والبيهقي 9/ 9، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/ 624، وحسَّن إسناده الحافظ في الفتح 7/ 117. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 49، والبداية والنهاية 3/ 158، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/ 142، والرحيق المختوم ص143.

فهاجر المسلمون، فاجتمع قريش في 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، وأجمعوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ ولحسن سياسته وحكمته أمر عليًا أن يبيت في فراشه تلك الليلة، فبقي المشركون ينظرون إلى عليٍّ من صِير الباب (¬1) وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومر بأبي بكر، وهاجر إلى المدينة (¬2). وهذه المواقف العظيمة التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل واضح على حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى صبره، وشجاعته، وأنه صلى الله عليه وسلم حينما علم بأن قريشًا قد طغت، ورفضت الدعوة بحث عن مكان يتخذ فيه قاعدة للدعوة الإسلامية، ولم يكتف بذلك، بل أخذ منهم البيعة والمعاهدة على نصرة الإسلام، وتم ذلك في مؤتمرين: بيعة العقبة الأولى، ثم ¬

(¬1) صير الباب: هو شق الباب. انظر: المعجم الوسيط، مادة "صار" 1/ 531. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 95، والبداية والنهاية 3/ 175، وزاد المعاد 3/ 54، والسيرة النبوية دروس وعبر لمصطفى السباعي ص61، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/ 148، وهذا الحبيب يا محبّ ص156.

المثال الحادي عشر جرح وجهه وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم

الثانية، وعندما وجد مكان الدعوة الذي يتخذ قاعدة لها، ووجد أنصار الدعوة أذن بالهجرة لأصحابه، وأخذ هو بالأسباب عندما تآمرت عليه قريش، وهذا لا يعتبر جبنًا، ولا فرارًا من الموت؛ ولكن يعتبر أخذًا بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، وهذه السياسة الحكيمة من أسباب نجاح الدعوة، وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو قدوتهم وإمامهم (¬1). المثال الحادي عشر: جُرِحَ وجهه وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم: عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أنه سُئلَ عن جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: «جُرِحَ وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكُسِرَت رباعيته، وهُشِمَتِ البيضة على رأسه، فكانت فاطمة - عليها السلام - تغسل الدم، وعليٌّ يمسك، فلما رأت أن الدم لا يرتد إلا كثرة أخذت حصيرًا فأحرقته حتى صار رمادًا، ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر ص68.

ثم ألزقته فاستمسك الدم» (¬1). وقد حصل له هذا الأذى العظيم الذي ترتج لعظمته الجبال، هو نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يدع على قومه، بل دعا لهم بالمغفرة، لأنهم لا يعلمون. فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» (¬2). فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم قد كانوا (¬3) على جانب عظيم من الحلم والتصبر، ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب لبس البيضة 6/ 96، برقم 2911، ومسلم، كتاب الجهاد، باب غزوة أحد 3/ 1416، برقم 1790. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان 6/ 514، برقم 3477، 12/ 282، برقم 6929، وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب عزوة أحد 3/ 1417، برقم 1792، وانظر: شرحه في الفتح 6/ 521، وشرح النووي لصحيح مسلم 12/ 148. (¬3) انظر: شرح النووي لمسلم 12/ 148.

والعفو والشفقة على قومهم ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جناياتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون (¬1) قال صلى الله عليه وسلم: «اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حينئذ يشير إلى رباعيته، اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله عز وجل» (¬2). وفي إصابة النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد عزاء للدعاة فيما ينالهم في سبيل الله من أذى في أجسامهم، أو اضطهاد لحرياتهم، أو قضاء على حياتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة قد أوذي وصبر (¬3). ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم 12/ 150 بتصرف. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجراح يوم أحد 7/ 372، برقم 4073، ومسلم، كتاب الجهاد، باب: اشتداد غضب الله على من قتله رسول الله 3/ 1417، 1793. (¬3) السيرة النبوية دروس وعبر ص116.

المبحث الخامس عشر شجاعته صلى الله عليه وسلم

المبحث الخامس عشر شجاعته صلى الله عليه وسلم لاشك أن الشجاعة صبر في ساحات القتال والوغى، وفيها ضبط النفس عن مثيرات الخوف حتى لا يجبن الإنسان في المواضع التي تحسن فيها الشجاعة ويقبح فيها الجبن ويكون شرًا، ومن هذه الأمثلة يجد الإنسان أن النبي صلى الله عليه وسلم خير قدوة وخير مثال في ذلك؛ ولهذا جاهد في سبيل الله: بالقلب، واللسان، والسيف، والسنان، والدعوة والبيان، وقد أرسل ستًا وخمسين سرية، وقاد بنفسه سبعًا وعشرين غزوة، وقاتل بنفسه في تسع من غزواته (¬1) ومن ذلك الأمثلة الآتية: المثال الأول: شجاعته صلى الله عليه وسلم في معركة بدر الكبرى: من مواقفه التي تزخر بالحكمة في هذه الغزوة: " أنه صلى الله عليه وسلم استشار الناس قبل بدء المعركة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يعرف ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 436.

مدى رغبة الأنصار في القتال؛ لأنه شُرِطَ له في البيعة أن يمنعوه في المدينة مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم وأبنائهم وأزواجهم، أما خارج المدينة فلم يحصل أي شرط، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يستشيرهم، فجمعهم صلى الله عليه وسلم واستشارهم، فقام أبو بكر - رضي الله عنه - فقال وأحسن، ثم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال وأحسن، ثم استشارهم ثانيًا، فقام المِقْدَاد فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، [نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك، ثم استشار الناس ثالثًا، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله كأنك تريدنا]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعنيهم، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على

الخروج استشارهم؛ ليعلم ما عندهم، فقال له سعد: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرتنا فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فَخُضْتَهُ لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوًا غدًا، إنا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدقٌ في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله، فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُرَّ بما سمع، ونَشَّطه ذلك، ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني

إحدى الطائفتين؛ ولكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم " (¬1). ومن مواقفه العظيمة في بدر: اعتماده على ربه - تبارك وتعالى -؛ لأنه قد علم أن النصر لا يكون بكثرة العدد ولا العدة، وإنما يكون بنصر الله - عز وجل - مع الأخذ بالأسباب والاعتماد على الله. عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه (¬2) "اللهم أنجز لي ما وعدتني، ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 253، وفتح الباري 7/ 287، وزاد المعاد 3/ 173، والرحيق المختوم ص200، وقد أخرج البخاري مواضع منها. انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 7/ 287، برقم 3952، وكتاب التفسير 8/ 273، وأخرج مسلم بعض المواضع من القصة. انظر: صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر 3/ 1403، برقم 1779، وانظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/ 194. (¬2) يهتف بربه، أي: يصيح ويستغيث بالله بالدعاء. انظر: شرح النووي 12/ 84.

اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض"، فما زال يهتف بربه، مادًّا يديه، مُستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدة ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله - عز وجل -: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] فأمده الله بالملائكة» (¬1). وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ¬

(¬1) أخرجه مسلم بلفظه في كتاب الجهاد والسير والمغازي، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر 3/ 1383، برقم 1763، والبخاري مع الفتح بمعناه مختصراً، في كتاب المغازي، باب قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 7/ 287، برقم 3952، وانظر: الرحيق المختوم ص208.

وقاتل صلى الله عليه وسلم في المعركة، وكان من أشد الخلق وأقواهم وأشجعهم، ومعه أبو بكر - رضي الله عنه - كما كانا في العريش يُجاهِدان بالدعاء والتضرع، ثم نزلا فحرَّضا، وحثَّا على القتال، وقاتلا بالأبدان جمعًا بين المقامين الشريفين (¬1). وكان أشجع الناس الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «لقد رأَيْتُنَا يوم بدر، ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا» (¬2). وعنه - رضي الله عنه - قال: «كنا إذا حمي البأس، ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون أحدنا أدنى إلى القوم منه» (¬3). ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية 3/ 278. (¬2) أخرجه أحمد في المسند 1/ 86، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/ 143. (¬3) الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي 2/ 143، وعزاه ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 279، إلى النسائي.

المثال الثاني شجاعته صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد

المثال الثاني: شجاعته صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: من مواقفه في الشجاعة أيضًا، وصبره على أذى قومه ما فعله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقاتل قتالًا عظيمًا؛ فإن الدولة كانت أول النهار للمسلمين على المشركين، فانهزم أعداء الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم، فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، وذلك أنهم ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة، فذهبوا في طلب الغنيمة، وتركوا الجبل فكرَّ فرسان المشركين فوجدوا الثغر خاليًا قد خلا من الرُّماة فجازُوا منه، وتمكَّنوا حتى أقبل آخرهم فأحاطوا بالمسلمين، فأكرم الله من أكرم منهم بالشهادة، وهم سبعون، وتولى الصحابة، وخلص المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهه، وكسروا رباعيته اليمنى، وكانت السفلى، وهشموا البيضة على رأسه، وقاتل الصحابة دفاعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد 3/ 196، 199، والرحيق المختوم ص255، 256.

«وكان حول النبي صلى الله عليه وسلم رجلان من قريش، وسبعة من الأنصار، فقال صلى الله عليه وسلم لما رهقوه، وقربوا منه: "من يردُّهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة"، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضًا فقال: "من يردهم عنا وله الجنة"، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: "ما أنصفنا أصحابنا» (¬1). وعندما اجتمع المسلمون، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشعب الذي نزل فيه، وفيهم أبو بكر، وعمر، وعلي، والحارث بن الصِّمة الأنصاري وغيرهم، فلما استندوا إلى الجبل أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أُبَيُّ بن خلف، وهو على جواد له، ويقول: أين محمد، لا نجوت إن نجا؟ فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتركه، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد 3/ 1415، برقم 1789.

المثال الثالث شجاعته صلى الله عليه وسلم في معركة حنين

الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله وأبصر ترقوته من فرجةٍ بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدحرج منها عن فرسه مرارًا، فلما رجع عدو الله إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشًا غير كبير. . . قال: قتلني والله محمد، فقالوا له: ذهب والله فؤادك والله إن بك من بأس، قال: إنه قد قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليَّ لقتلني، فمات عدو الله بسرف، وهم قافلون إلى مكة (¬1). المثال الثالث: شجاعته صلى الله عليه وسلم في معركة حنين: «بعد أن دارت معركة حنين والتقى المسلمون والكفار، ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد، لابن القيم 3/ 199، والرحيق المختوم ص263، وروى قصة قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن خلف: أبو الأسود عن عروة بن الزبير, والزهري عن سعيد ابن المسيب. انظر: البداية والنهاية لابن كثير 4/ 32، وكلاهما مرسل، والطبري 2/ 67، وانظر: فقه السيرة لمحمد الغزالي ص226.

ولَّى المسلمون مدبرين (¬1) فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قِبَلَ الكفار. . . ثم قال: "أي عباس، ناد أصحاب السمرة" فقال عباس: - وكان رجلًا صيِّتًا - فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عَطْفَتهم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار. . . فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "الآن حمي الوطيس» (¬2). وظهرت شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا نظير لها في هذا الموقف الذي عجز عنه عظماء الرجال (¬3). «وسئل البراء، فقال له رجل: يا أبا عمارة، أكنتم وليتم ¬

(¬1) كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة ألفان من أهل مكة، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه من المدينة ففتح بهم. انظر: زاد المعاد 3/ 468. (¬2) مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب: غزوة حنين، وقد اختصرت ألفاظه 3/ 1398، برقم 1775. (¬3) انظر: الرحيق المختوم ص401، وهذا الحبيب يا محب ص408.

يوم حنين؟ قال: لا والله ما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج شبان أصحابه (¬1) وأخفاؤهم (¬2) حسرًا (¬3) ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح، فلقوا قومًا رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوازن، وبني نَصْرٍ، فرشقوهم رشقًا (¬4) ما يكادون يخطئون، فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم نزِّل نصرك» (¬5) ¬

(¬1) جمع شباب. شرح النووي لمسلم 12/ 117. (¬2) جمع خفيف، وهم المسارعون المستعجلون. شرح النووي لمسلم 12/ 117. (¬3) حسراً: جمع حاسر، أي بغير دروع، وقد فسره بقوله: ليس عليهم سلاح. شرح النووي لمسلم 12/ 117. (¬4) رشقا: هو بفتح الراء، وهو مصدر، وأما الرشق بالكسر فهو اسم للسهام التي ترميها الجماعة دفعة واحدة. انظر: شرح النووي 12/ 118. (¬5) مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين، مع التصرف في بعض الكلمات 3/ 1400، برقم 1776، والبخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابته فاستنصر 6/ 150، 8/ 27، 28، برقم 2930.

قال البراء: «كنا والله إذا احمرَّ البأس (¬1) نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم» (¬2). وفي رواية لمسلم عن سلمة قال: «مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزمًا (¬3) وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأى ابن الأكوع فزعاً". فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: "شاهت الوجوه" (¬4) فما خلق الله منهم إنسانًا إلا ملأ عينيه ترابًا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله - عز وجل -، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين» (¬5). ¬

(¬1) إذا احمر البأس: كناية عن شدة الحرب، واستعير ذلك لحمرة الدماء الحاصلة فيها في العادة. انظر: شرح النووي 12/ 121. (¬2) رواه مسلم في كتابا الجهاد والسير، باب غزوة حنين 3/ 1401، برقم 79 - (1776). (¬3) قال العلماء: قوله: ((منهزماً)) حال من ابن الأكوع، وليس النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: شرح النووي 12/ 122. (¬4) شاهت الوجوه، أي: قبحت. انظر: شرح النووي 12/ 122. (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين 3/ 1402، برقم 1777.

المثال الرابع شجاعته صلى الله عليه وسلم في الحماية لأصحابه

وقد قال العلماء: إن ركوب النبي صلى الله عليه وسلم البغلة في موضع الحرب وعند اشتداد البأس هو النهاية في الشجاعة والثبات؛ ولأنه أيضًا يكون معتمدًا يرجع الناس إليه، وتطمئن قلوبهم به وبمكانه، وإنما فعل هذا عمدًا، وإلا فقد كانت له صلى الله عليه وسلم أفراس معروفة. ومما يدل على شجاعة تقدمه صلى الله عليه وسلم وهو يركض بغلته إلى جمع المشركين، وقد فر الناس عنه، ونزوله إلى الأرض حين غشوه مبالغة في الشجاعة والصبر، وقيل: فعل ذلك مواساة لمن كان نازلًا على الأرض من المسلمين، وقد أخبر الصحابة - رضي الله عنهم - بشجاعته صلى الله عليه وسلم في جميع المواطن (¬1). المثال الرابع: شجاعته صلى الله عليه وسلم في الحماية لأصحابه: روى البخاري ومسلم، عن أنس - رضي الله عنه - قال: «كان ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم 12/ 114.

النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قِبَلَ الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: "لم تراعوا، لم تراعوا"، وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، في عنقه سيف، فقال: "لقد وجدته بحرًا، أو إنه لبحر» (¬1). وهذا المثال وغيره من الأمثلة السابقة تدل دلالة واضحة على أن صلى الله عليه وسلم أشجع إنسان على الإطلاق، فلم يكتحل الوجود بمثله صلى الله عليه وسلم، وقد شهد له بذلك الشجعان الأبطال (¬2). قال البراء - رضي الله عنه -: «كنا والله إذا احمرَّ البأس نتقي به، ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء، وما يكره من البخل 10/ 455، برقم 6033، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقدمه للحرب 4/ 1802، برقم 2307. (¬2) انظر: رواية علي بن أبي طالب في شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسند أحمد 1/ 86، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي 2/ 143، وتقدم تخريجها في آخر المثال الأول من شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر.

المثال الخامس شجاعته العقلية صلى الله عليه وسلم

وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم» (¬1). وقال أنس في الحديث السابق: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس. . .». المثال الخامس: شجاعته العقلية صلى الله عليه وسلم: كانت هذه الشواهد السابقة لشجاعته القلبية، أما شجاعته العقلية فسأكتفي بشاهد واحد؛ فإنه يكفي عن ألف شاهد ويزيد، وهو موقفه من تعنت سهيل بن عمرو، وهو يملي وثيقة صلح الحديبية، إذ تنازل صلى الله عليه وسلم عن كلمة "بسم الله الرحمن الرحيم" إلى باسمك اللهم وعن كلمة " محمد رسول الله" إلى كلمة: محمد بن عبد الله، وقبوله شرط سهيل على أن لا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم رجل من قريش حتى ولو كان مسلمًا إلَّا ردَّه إلى أهل مكة، وقد اغتاظ الصحابة غيظًا عظيمًا، وبلغ الغضب حدًّا لا مزيد عليه، وهو صلى الله عليه وسلم صابر ثابت حتى انتهت الوثيقة، وكان بعد أيام فتحًا مبينًا. ¬

(¬1) خرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين 3/ 1401، برقم 79 - (1776).

فضرب صلى الله عليه وسلم بذلك المثل الأعلى في الشجاعتين: القلبية، والعقلية، مع بعد النظر، وأصالة الرأي، وإصابته؛ فإن من الحكمة أن يتنازل الداعية عن أشياء لا تضره بأصل قضيته لتحقيق أشياء أعظم منها (¬1). وجميع ما تقدم نماذج من شجاعته صلى الله عليه وسلم وثباته، وهذا نقطة من بحر، وإلا فإنه لو كُتِبَ في شجاعته صلى الله عليه وسلم بالاستقصاء لكُتِبَ مجلدات، فيجب على كل مسلم، وخاصة الدعاة إلى الله - عز وجل - أن يتخذوا الرسول صلى الله عليه وسلم قدوةً في كل أحوالهم وتصرفاتهم، وبذلك يحصل الفوز والنجاح، والسعادة في الدنيا والآخرة، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] ¬

(¬1) انظر: وثيقة صلح الحديبية كاملة في البخاري مع الفتح 5/ 329، برقم 2731، 2732، وشرح الوثيقة في الفتح 5/ 333 - 352، ومسند أحمد 4/ 328 - 331، وانظر: هذا الحبيب يا محبّ ص532.

المبحث السادس عشر حكمته صلى الله عليه وسلم في الإصلاح وجمع القلوب

المبحث السادس عشر حكمته صلى الله عليه وسلم في الإصلاح وجمع القلوب حكمته صلى الله عليه وسلم في الإصلاح والتأسيس: عندما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان فيها مجموعات من السكان متباينة في عقيدتها، مختلفة في أهدافها، متفرقة في اجتماعاتها، وكانت لديهم خلافات بعضها قديم موروث، وبعضها حديث موجود، وقد كانت هذه المجموعات على ثلاثة أصناف: 1 - المسلمون، من: الأوس، والخزرج، والمهاجرين. 2 - المشركون، من: الأوس، والخزرج، والذين لم يدخلوا في الإسلام. 3 - اليهود، وهم عدة قبائل: بنو قينقاع، وقد كانوا حلفاء الخزرج، وبنو النضير، وبنو قُريظة، وهاتان القبيلتان كانتا حلفاء الأوس.

أمثلة تطبيقية لحكمة النبي صلى الله عليه وسلم في الإصلاح وجمع شمل المسلمين

وقد كان هناك خلاف مستحكم بين الأوس والخزرج، وكانت بينهما حروب في الجاهلية، وآخرها يوم بُعاثٍ ولا يزال في النفوس شيء منها (¬1). [أمثلة تطبيقية لحكمة النبي صلى الله عليه وسلم في الإصلاح وجمع شمل المسلمين] لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بحل هذه المشكلات كلها، بحكمته العظيمة، وحسن سياسته، وكان حله وإصلاحه لهذه الأوضاع، وجمعه لشمل المسلمين كالآتي: 1 - بناء المسجد والاجتماع فيه أول عمل وحَّد بين القلوب: كان أول عمل قام به صلى الله عليه وسلم في الإصلاح والتأسيس بناء المسجد النبوي، واشترك المسلمون جميعًا في البناء، وعلى رأسهم إمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكان أول عمل تعاوني عام، وَحَّد بين القلوب، وأظهر الهدف العام للعمل، وقد كان ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية 3/ 214، وسيرة ابن هشام 2/ 114، وزاد المعاد 3/ 62، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/ 159، والرحيق المختوم ص171، وهذا الحبيب يا محب ص174، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص188، والبخاري مع الفتح، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد 1/ 524 (رقم 428)، ومسلم، كتاب المساجد، باب بناء مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - 1/ 373، 374 (رقم 524).

لكل حي في المدينة - قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم - مكان يلتقون فيه، فيسمرون ويسهرون، وينشدون الأشعار، فكانت هذه الحال تدل على الفرقة والاختلاف، فعندما بُنيَ المسجد كان مركز المسلمين جمعيًا، ومكان تجمعهم، يلتقون به في كل وقت، ويسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمهم ويرشدهم ويوجههم (¬1). وبهذا تجمعت الأندية، والتفَّت الأحياء، واقتربت القبائل، وتحابَّت البطون، وانقلبت التفرقة إلى وحدة، ولم تعد في المدينة جماعات، بل جماعة واحدة، ولم تعد زعامات، بل قائد واحد، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتلقى من ربه الأوامر والنواهي، ويُعلِّم أمته، فأصبح المسلمون صفًا واحدًا، وامتزجت النفوس والعقليات، وتقوت الوحدة، وتآلفت الأرواح، وتعاونت الأجسام (¬2). ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه 7/ 239، 240 (رقم 3906). (¬2) انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/ 161، 162، والرحيق المختوم ص179.

دعوة اليهود إلى الإسلام بالقول الحكيم

ولم يكن المسجد موضعًا لأداء الصلوات الخمس فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ويجتمعون فيه، وتلتقي فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها وقاعدة لإدارة جميع الشؤون، وبثِّ الانطلاقات، وموضعًا لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية. ولهذا ما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكان في المدينة إلا كان أول ما يفعله بناء مسجد يجتمع فيه المؤمنون، فقد أقام مسجد قباء حين أقام فيها، وصلى الجمعة في بني سالم بن عوف، بين قباء والمدينة، في بطن وادي (رانوناء) فلما أن وصل إلى المدينة كان أول عمل عمله بناء المسجد فيها (¬1). 2 - دعوة اليهود إلى الإسلام بالقول الحكيم: ومن قواعد الإصلاح والتأسيس التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، ص74، وفقه السيرة ص189، وهذا الحبيب يا محب ص180.

- بعد أن دخل المدينة - الاتصال باليهود بواسطة عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - ودعوتهم إلى الإسلام. فعن أنس - رضي الله عنه - قال: «بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأتاه، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خبَّرني بهن آنفًا جبريل" قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها" [قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله]، قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهْتٌ، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بَهَتُوني عندك، [فأرسل نبي الله

صلى الله عليه وسلم فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقًا، وأني جئتكم بحق، فأسلموا"، قالوا: ما نعلمه، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم - قالها ثلاث مرات - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ " قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ " قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ " قالوا حاشا لله ما كان ليسلم، قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ " قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: "يا ابن سلام اخرج عليهم"، فخرج فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت، [شرنا، وابن شرنا]، ووقعوا فيه» (¬1). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، في كتاب أحاديث الأنبياء 6/ 362، برقم 3329، وفي كتاب مناقب الأنصار 7/ 250 (رقم 3911)، 7/ 272 (رقم 3938)، والألفاظ من = = المواضع الثلاثة، وانظر أيضاً: البخاري مع الفتح 8/ 165، برقم 4480، والبداية والنهاية 3/ 210.

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

وهذه أول تجربة تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود عند دخول المدينة (¬1). ومن حسن سياسته صلى الله عليه وسلم أنه وافق على إخفاء عبد الله بن سلام حتى يسأل اليهود عن مكانته بينهم، وعندما أثنوا عليه، ورفعوا من قدره أمره بالخروج فخرج وأعلن شهادته، وأظهر ما كان يكتمه اليهود من صدق النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ضبطهم صلى الله عليه وسلم بالمعاهدة التي ستأتي. 3 - المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: كما قام النبي صلى الله عليه وسلم بالبدء ببناء المسجد ودعوة اليهود إلى الإسلام، قام صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهذا من الرشد، والكمال النبوي، والنضج السياسي، ¬

(¬1) انظر: الرحيق المختوم ص175، وهذا الحبيب يا محب ص175، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص198، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/ 173.

والحكمة المحمدية (¬1). آخى بينهم صلى الله عليه وسلم في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلًا، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، يتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله - عز وجل -: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6]، ردَّ التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة (¬2). ذابت عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وسقطت فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتقدم أحد أو يتأخر إلا بمروءته وتقواه، وكانت عواطف الأخوة، والإيثار؛ والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال؛ وفي هذه الأخوة أقوى ¬

(¬1) انظر: هذا الحبيب يا محب، لأبي بكر الجزائري ص178. (¬2) انظر: زاد المعاد 3/ 63، والرحيق المختوم ص180.

مظهر من مظاهر عدالة الإسلام الإنسانية والأخلاقية (¬1). ولم تكن هذه المؤاخاة معاهدة دُوِّنت على الورق فحسب، ولا كلمات قيلت باللسان فقط؛ وإنما كانت مؤاخاة سجلت على صفحات القلوب، وعملًا يرتبط بالدماء والأموال، لا كلامًا يثرثر به اللسان، إنها مؤاخاة في القول والعمل، والنفس والمتاع والأملاك، في العسر واليسر (¬2). ومن أروع الأمثال لذلك ما رواه البخاري في صحيحه: «آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالًا، فسأقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد 3/ 63، والرحيق المختوم ص180. (¬2) انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/ 165، وفقه السيرة لمحمد الغزالي، ص192.

التربية الحكيمة

الغدوة ثم جاء يومًا وبه أثر صُفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَهْيَم؟ " (¬1) قال: تزوجت امرأة من الأنصار، فقال: "ما سقت فيها؟ " قال: وزن نواة من ذهب، أو نواة من ذهب، فقال: "أولِم ولو بشاة» (¬2). وهذه المؤاخاة حكمة فذَّة، وسياسة صائبة، وحلٌّ رائعٌ لكثير من المشكلات التي كان يواجهها المسلمون. 4 - التربية الحكيمة: وقد كان صلى الله عليه وسلم يتعهدهم بالتعليم والتربية وتزكية النفوس، والحث على مكارم الأخلاق، ويؤدبهم بآداب الود والإخاء والمجد والشرف والعبادة والطاعة (¬3). ¬

(¬1) مهيم: كلمة استفهام، أي: ما حالك، وما شأنك؟ انظر: القاموس المحيط، باب الميم، فصل الميم، ص1499. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب إخاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، 7/ 112 حديث رقم 3780، 3781، واللفظ من الموضعين، وانظر: باب كيف آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه، في الكتاب السابق نفسه. (¬3) انظر: الرحيق المختوم ص179، 181، 208، والتاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر 2/ 165.

فقد كان يقول صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» (¬1). ويقول: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» (¬2) «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (¬3). ويقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (¬4). ويقول: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة، باب حدثنا محمد بن بشار 4/ 652 (رقم 2485)، وقال: هذا حديث صحيح، وابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب إطعام الطعام، 2/ 1083 (رقم 3251)، والدارمي 1/ 156، وأحمد 1/ 165، 2/ 391، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 303. (¬2) مسلم، في كتاب الإيمان، باب تحريم إيذاء الجار، 1/ 68 (رقم 46). (¬3) البخاري مع الفتح، في كتاب الإيمان، باب أي الإسلام أفضل 1/ 54 (رقم 11)، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل 1/ 65 (رقم 41)، واللفظ له. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه 1/ 56 (رقم 13)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه 1/ 67 (رقم 45).

وشبك بين أصابعه» (¬1). ويقول: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله وعرضه» (¬2). وقال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» (¬3). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة باب تشبيك الأصابع في المسجد 1/ 565 (رقم 481)، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم 4/ 1999 (رقم 2585). (¬2) مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره وتحريم دمه وعرضه وماله 4/ 1986 (رقم 2564). (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب الهجر، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) 10/ 491 (رقم 6077)، ومسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي 4/ 1986 (رقم 2560).

وقال: «تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا» (¬1). وقال: «تعرض الأعمال في كل يوم خميس وإثنين فيغفر الله - عز وجل - في ذلك اليوم لكل امرئٍ لا يُشرك بالله شيئاًَ إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اركوا (¬2) هذين حتى يصطلحا، اركوا هذين حتى يصطلحا» (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: «انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، قيل: يا رسول الله، هذا نصرته مظلومًا، فكيف أنصره إذا كان ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة، باب النهي عن الشحناء والتهاجر 4/ 1987 (رقم 2565). (¬2) اركوا هذين: أي أخروا، يقال: ركاه، يركوه ركوا، إذا أخره، انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 16/ 122. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن الشحناء والتهاجر، 4/ 1988 (رقم 2565/ 36).

ظالمًا؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فذلك نصره» (¬1). وقال: «حق المسلم على المسلم ست، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته، وإذا مرض فعُده، وإذا مات فاتبعه» (¬2). وعن البراء بن عازب قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي, وإفشاء السلام، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم، ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن الشُّرب في الفضة - أو قال: في آنية ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب البر، باب انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً 4/ 1998 (رقم 2584)، بمعناه، وأخرجه أحمد بلفظه 3/ 99، والبخاري مع الفتح في كتاب المظالم، باب أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً 5/ 98 (رقم 2443، 2444)، وكتاب الإكراه، باب يمين الرجل لصاحبه 12/ 223 (رقم 6952). (¬2) البخاري مع الفتح بنحوه في كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز 3/ 112 (رقم 1240)، ومسلم في كتاب السلام، باب من حق المسلم على المسلم رد السلام (4/ 1705)، برقم 2162.

الفضة - وعن المياثر (¬1) والقسي (¬2) وعن لبس الحرير، والديباج (¬3) والإستبرق» (¬4). وقال: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم» (¬5). «وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ فقال: تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» (¬6). ويقول: «مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، ¬

(¬1) المياثر: سروج من الديباج أو الحرير. الفتح 10/ 293. (¬2) ثياب مضلعة بالحرير: أي فيها خطوط منه. الفتح 10/ 293. (¬3) الديباج والإستبرق: صنفان من الحرير. انظر: فتح الباري 10/ 307. (¬4) البخاري مع الفتح، في كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز 3/ 112 (رقم 1239)، 5/ 99، 9/ 240، 10/ 96، وانظر مواضع الحديث في البخاري مع فتح الباري 3/ 112. (¬5) مسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون 1/ 74 (رقم 54). (¬6) البخاري مع الفتح في كتاب الإيمان، باب إطعام الطعام من الإسلام 1/ 55 (رقم 12)، ومسلم في الإيمان باب بيان تفاضل الإسلام 1/ 65 (رقم 39).

مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحَم لا يُرحم» (¬2). وقال: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل» (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر» (¬4). وسواء وصلت هذه النصوص للأنصار من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، أو سمعوا بعضها من المهاجرين الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، فكل ذلك تربية منه صلى الله عليه وسلم لأصحابه ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم 10/ 438 (رقم 6011)، ومسلم في كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم 4/ 2000 (رقم 2586). (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم 10/ 438 (رقم 6013)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك 4/ 1809 (رقم 2319). (¬3) مسلم، في كتاب الفضائل، الباب السابق 4/ 1809. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر 1/ 110 (رقم 48)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (رقم 64).

جميعًا، ولمن بلغته هذه النصوص إلى يوم الدين. وغير ذلك من النصوص التي ربَّى بها محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه فقد كان يحثهم على الإنفاق، ويذكر من فضائله ما يشوِّق النفوس والقلوب، وكان يحث على الاستعفاف عن المسألة، ويذكر لهم فضل الصبر والقناعة، وكان يرغبهم في العبادات بما فيها من الفضائل والأجر والثواب، وكان يربطهم بالوحي النازل من السماء ربطًا موثقًا يقرؤه عليهم ويقرؤونه؛ لتكون هذه الدراسة إشعارًا بما عليهم من حقوق الدعوة، فضلًا عن ضرورة الفهم والتدبر. وهكذا رفع صلى الله عليه وسلم معنوياتهم، ودربهم على أعلى القيم والمثل حتى صاروا صورة لأعلى قمة من الكمال الإنساني. بمثل هذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني مجتمعًا مسلمًا أروع وأشرف مجتمع عرفه التاريخ، وأن يضع لمشاكل هذا المجتمع حلًا بعد أن كان يعيش في ظلمات الجهل والخرافات، فأصبح مجتمعًا يضرب به المثل في جميع

ميثاق المهاجرين والأنصار وموادعة اليهود

الكمال الإنساني، وهذا بفضل الله وحده، ثم بفضل هذا النبي الحكيم، فحَريٌّ بالدعاة إلى الله أن يسلكوا مسلكه، ويهتدوا بهديه صلى الله عليه وسلم (¬1). 5 - ميثاق المهاجرين والأنصار وموادعة اليهود: بعد أن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، عقد معاهدة أزاح بها كل ما كان من حزازات الجاهلية والنزعات القبلية، ولم يترك مجالًا لتقاليد الجاهلية، وقد وضع في هذه المعاهدة ميثاقًا للمهاجرين والأنصار، متضمنًا موادعة اليهود بالمدينة، وهذا من أبرز الجهود التي بذلها صلى الله عليه وسلم في الإصلاح والتأسيس. كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود، وعاهدهم، وأقرهم على أموالهم، واشترط عليهم، وشرط لهم (¬2). ¬

(¬1) انظر: الرحيق المختوم، ص183. (¬2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 3/ 224 - 226، وزاد المعاد 3/ 65، وانظر: كتابة الميثاق بين المسلمين ويهود المدينة في سيرة ابن هشام 2/ 119 - 123.

وهذا الميثاق في غاية الدقة، وحسن السياسة، وكمال الحكمة من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ربط بين جميع المسلمين في المدينة وبين اليهود، فأصبحوا كتلة واحدة، يستطيعون أن يقفوا في وجه كل من يريد أهل المدينة بسوء. وهذه الخطوات الخمس: بناء المسجد، ودعوة اليهود إلى الإسلام، والمؤاخاة بين المؤمنين وتربيتهم، وكتابة الميثاق، هي التي حل بها النبي صلى الله عليه وسلم - بفضل الله تعالى - الخلاف المستحكم بين سكان المدينة، وأزال بها جميع آثار الماضي، ووحَّد بها قلوب المسلمين، وطبَّق بها النظام المتقن داخل المدينة، ومن ثم انتشر هذا النظام، والدعوة إلى الله من هذه المدينة إلى جميع أقطار العالم (¬1). ¬

(¬1) انظر: الرحيق المختوم ص171، 178، 185، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/ 166، 2/ 69، 160، وهذا الحبيب يا محب ص176، 174.

المبحث السابع عشر بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم

المبحث السابع عشر بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على تأثير القرآن العظيم في القلوب ما قاله جبير بن مطعم رضي الله عنه: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطُّور، فَلَمَّا بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ - أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 35 - 37] كاد قلبي أن يطير [وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي]» (¬1). وهذا يدل على تأثير القرآن الكريم في القلوب، وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنها الوحي الثاني ولها ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة الطور، بابٌ: حدثنا عبد الله بن يوسف، 6/ 68، برقم 4854، وما بين المعكوفين من الطرف رقم 4023 من كتاب المغازي 5/ 25، وأخرجه مسلم بنحوه في كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح، 1/ 338، برقم 463.

المثال الأول: قصة ضماد رضي الله عنه

تأثير في القلوب أيضًا، ومما يدل على تأثير كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في القلوب وبلاغته الأمثلة الآتية: المثال الأول: قصة ضماد رضي الله عنه: «عندما قدم ضماد رضي الله عنه مكة، وكان يرقي من الجن، فسمع سفهاءَ من أهل مكة يقولون: إن محمدًا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يديَّ، فلقيه فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح (¬1) وإن الله يشفي على يديَّ من شاء، فهل لك (¬2)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الحمدَ لله، نحمدُهُ، ونستعينه، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده وسوله. أما بعد، فقال: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. فقال: لقد سمعت قول ¬

(¬1) المراد بالريح هنا: الجنون ومس الجن. شرح النووي على صحيح مسلم 6/ 406. (¬2) أي فهل لك رغبة في رقيتي، وهل تميل إليها؟ انظر: المرجع السابق 6/ 406.

المثال الثاني مع الطفيل بن عمرو رضي الله عنه

الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بَلَغْنَ ناعوس البحر (¬1) فقال؛ هات يدك أُبَايِعْكَ على الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعلى قومك؟ قال: وعلى قومي» (¬2). المثال الثاني: مع الطفيل بن عمرو رضي الله عنه: ومن بلاغته صلى الله عليه وسلم ما جاء عن الطفيل بن عمرو رضي الله عنه أنه كان شاعرًا، وسيِّدًا في قومه، فقدم مكة، فحذرته قريش من مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن كلامه كالسحر فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك ما أدخل علينا؛ فإنه يُفرِّق بين المرء وزوجه، وبين المرء وابنه، فما زالوا يحذرونه، حتى حلف أن لا يدخل المسجد إلا وقد سدَّ أُذنيه، فسد أذنيه بقطن، ثم دخل المسجد، فأعجبه فقال في نفسه: إني امرؤ ¬

(¬1) قيل: ناعوس البحر، وقيل: قاموس البحر، وهو وسطه، ولُجّتَه، أو قعره. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 6/ 407. (¬2) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 2/ 593، برقم 868.

ثَبْتٌ ما تخفى عليَّ الأمور: حُسْنُها وقُبْحُها، والله لأَسْمَعَنَّ منه؛ فإن كان أمره رُشدًا أخذته منه وإلا اجتنبته، فنزع القطن فلم يسمع كلامًا أحسن من كلامِه، فلحقه إلى بيته ودخل معه وأخبره الخبر، وقال: اعرض عليَّ دينك؟ فعرض عليه صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلم (¬1). فينبغي للدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ أن يعتنوا بتذكير الناس بالقرآن الكريم، وبسنة محمد صلى الله عليه وسلم. والله المستعان. ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 345.

المبحث الثامن عشر معجزاته ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم

[الوجه الأول الإعجاز البياني والبلاغي] المبحث الثامن عشر معجزاته ودلائل نبوَّته صلى الله عليه وسلم من أعظم الأقوال الحكيمة في دعوة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار أن تبيِّن لهم البراهين والأدلة القطعية الدالة على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين. ولا شك أن الآيات والبينات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته كثيرة متنوعة، وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء، وجميع الأنواع تنحصر في نوعين: (أ) منها: ما مضى وصار معلومًا بالخبر الصادق كمعجزات موسى وعيسى. (ب) ومنها: ما هو باق إلى اليوم كالقرآن، والعلم والإيمان اللذين في أتباعه، فإن ذلك من أعلام نبوته، وكشريعته التي أتى بها، والآيات التي يظهرها الله وقتًا بعد وقتٍ من كرامات الصالحين من أمته، وظهور دينه بالحجة والبرهان، وصفاته الموجودة في كتب الأنبياء قبله وغير

المطلب الأول معجزات القرآن العظيم

ذلك (¬1) وهذا باب واسع لا أستطيع حصره؛ ولكن سأقتصر في إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته على المطالب الآتية: المطلب الأول: معجزات القرآن العظيم. المطلب الثاني: معجزاته صلى الله عليه وسلم الحسية. المطلب الأول معجزات القرآن العظيم المعجزة لغة: ما أُعجزَ به الخصم عند التحدي (¬2). وهي أمر خارق للعادة يعجز البشر متفرقين ومجتمعين عن الإتيان بمثله، يجعله الله على يد من يختاره لنبوته؛ ليدلَّ على صدقه وصحة رسالته (¬3). ¬

(¬1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/ 67 - 71. (¬2) انظر: القاموس المحيط، باب الزاي، فصل العين، ص 663. (¬3) انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 1/ 66، والمعجم الوسيط، مادة: عجز 2/ 585، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، للدكتور صالح الفوزان 2/ 157. والفرق بين المعجزة والكرامة: هو أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بدعوة النبوة والتحدي للعباد. أما الكرامة: فهي أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ولا التحدي، ولا تكون الكرامة إلا لعبد ظاهره الصلاح، مصحوباً بصحة = = الاعتقاد والعمل الصالح. أما إذا ظهر الأمر الخارق على أيدي المنحرفين فهو من الأحوال الشيطانية. وإذا ظهر الأمر الخارق على يد إنسان مجهول الحال؛ فإن حاله يعرض على الكتاب والسنة كما قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: (إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة). انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص510، وسير أعلام النبلاء 10/ 23، والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية للسلمان، ص311.

والقرآن الكريم كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو المعجزة العظمى، الباقية على مرور الدهور والأزمان، المعجز للأولين والآخرين إلى قيام الساعة (¬1) قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أعطي من الآيات على ما مثله آمن البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» (¬2). وليس المراد في هذا الحديث حصر معجزاته صلى الله عليه وسلم في القرآن، ولا أنه لم يؤت من المعجزات الحسية كمن تقدمه، بل المراد أن القرآن المعجزة العظمى التي اختص ¬

(¬1) انظر: الداعي إلى الإسلام للأنباري ص393. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي 9/ 3 (رقم 4981)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس 1/ 134 (رقم 152).

بها دون غيره؛ لأن كل نبي أُعطي معجزة خاصة به، تحدَّى بها من أُرسل إليهم، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه؛ ولهذا لما كان السحر فاشيًا في قوم فرعون جاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة، لكنها تلقف ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره. ولما كان الأطباء في غاية الظهور جاء عيسى بما حيَّر الأطباء، من: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، وكل ذلك من جنس عملهم، ولكن لم تصل إليه قدرتهم. ولما كانت العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والخطابة جعل الله - سبحانه - معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم الذي (¬1) {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 9/ 6، 7، وشرح النووي على مسلم 2/ 188، وأعلام النبوة للماوردي ص53، وإظهار الحق 2/ 101.

ولكن معجزة القرآن الكريم تتميز عن سائر المعجزات؛ لأنه حجة مستمرة، باقية على مرِّ العصور، والبراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها، أما القرآن فلا يزال حجة قائمة كأنما يسمعها السامع من فم رسول الله، ولاستمرار هذه الحجة البالغة قال صلى الله عليه وسلم: «فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يومَ القيامة» (¬1). والقرآن الكريم آية بيِّنة، معجزة من وجوه متعددة، من جهة اللفظ، ومن جهة النظم، والبلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها، ومعانيه التي أخبر بها عن الله - تعالى - وأسمائه وصفاته وملائكته، وغير ذلك من الوجوه الكثيرة التي ذكر كل عالمٍ ما فتح ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية 6/ 69، وتقدم تخريج الحديث.

الوجه الأول: الإعجاز البياني والبلاغي

الله عليه به منها (¬1) وسأقتصر على أربعة وجوه من باب المثال لا الحصر بإيجاز على النحو الآتي: الوجه الأول: الإعجاز البياني والبلاغي: من الإعجاز القرآني ما اشتمل عليه من البلاغة والبيان، والتركيب المعجز، الذي تحدى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فعجزوا عن ذلك، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ - فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 33 - 34]. ¬

(¬1) انظر: الجواب الصحيح 4/ 74، 75، وأعلام النبوة للماوردي ص53 - 70، والبداية والنهاية 6/ 54، 65، والبرهان في علوم القرآن للزركشي 2/ 90 - 124، ومناهل العرفان للزرقاني 2/ 227 - 308.

وبعد هذا التحدي انقطعوا فلم يتقدم أحد، فمدَّ لهم في الحبل وتحداهم بعشر سور مثله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]، فعجزوا فأرخى لهم في الحبل فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]، ثم أعاد التحدي في المدينة بعد الهجرة، فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23 - 24].

فقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] أي: فإن لم تفعلوا في الماضي، ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل، فثبت التحدي، وأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بسورة من مثله فيما يستقبل من الزمان، كما أخبر قبل ذلك، وأمر النبي وهو بمكة أن يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. فعم بأمره له أن يخبر جميع الخلق معجزًا لهم، قاطعًا بأنهم إذا اجتمعوا لا يأتون بمثل هذا القرآن، ولو تظاهروا وتعاونوا على ذلك، وهذا التحدي لجميع الخلق، وقد سمعه كل من سمع القرآن، وعرفه الخاص والعام، وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوه، ولا أتوا بسورة مثله من حين بُعِثَ صلى الله عليه وسلم إلى اليوم والأمر على ذلك (¬1). ¬

(¬1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/ 71 - 77، والبداية والنهاية 6/ 65.

الوجه الثاني الإخبار عن الغيوب

والقرآن يشتمل على آلاف المعجزات؛ لأنه مائة وأربع عشرة سورة، وقد وقع التحدي بسورة واحدة، وأقصر سورة في القرآن سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات قصار، والقرآن يزيد بالاتفاق على ستة آلاف ومائتي آية، ومقدار سورة الكوثر من آيات أو آية طويلة على ترتيب كلماتها له حكم السورة الواحدة، ويقع بذلك التحدي والإعجاز (¬1)؛ ولهذا كان القرآن الكريم يغني عن جميع المعجزات الحسية والمعنوية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. الوجه الثاني: الإخبار عن الغيوب: من وجوه الإعجاز القرآني أنه اشتمل على أخبار كثيرة من الغيوب التي لا علم لمحمد صلى الله عليه وسلم بها، ولا سبيل لبشر مثله أن يعلمها، وهذا مما يدلُّ على أن القرآن كلام الله ¬

(¬1) انظر: استخراج الجدال من القرآن الكريم لابن نجم ص100، وفتح الباري 6/ 582، ومناهل العرفان للزرقاني 1/ 336، 1/ 231، 232.

- تعالى - الذي لا تخفى عليه خافية: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]. والإخبار بالغيوب أنواع: النوع الأول: غيوب الماضي: وتتمثل في القصص الرائعة وجميع ما أخبر الله به عن ماضي الأزمان. النوع الثاني: غيوب الحاضر: أخبر اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم بغيوب حاضرة، ككشف أسرار المنافقين، والأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين، أو غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، وأطلع عليه رسوله صلى الله عليه وسلم. النوع الثالث: غيوب المستقبل: أخبر اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم بأمور لم تقع، ثم وقعت كما أخبر، فدلَّ ذلك على أن

الوجه الثالث الإعجاز التشريعي

القرآن كلام الله، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله (¬1). الوجه الثالث: الإعجاز التشريعي: القرآن العظيم جاء بهدايات كاملة تامَّة، تفي بحاجات جميع البشر في كل زمان ومكان؛ لأن الذي أنزله هو العليم بكل شيء، خالق البشرية والخبير بما يُصلحها ويُفسدها، وما ينفعها ويضرُّها، فإذا شرع أمرًا جاء في أعلى درجات الحكمة والخبرة {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. ويزداد الوضوح عند التأمل في أحوال الأنظمة والقوانين البشرية التي يظهر عجزها عن معالجة المشكلات البشرية ومسايرة الأوضاع والأزمنة ¬

(¬1) انظر: الداعي إلى الإسلام للأنباري ص424 - 428، وإظهار الحق 65 - 107، ومناهل العرفان 2/ 263، ومعالم الدعوة للديلمي 1/ 463. وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - بأمور غيبية كثيرة جداً. انظر: جامع الأصول لابن الأثير 11/ 311 - 331.

والأحوال، مما يضطر أصحابها إلى الاستمرار في التعديل والزيادة والنقص، فيُلْغُونَ غدًا ما وضعوه اليوم؛ لأن الإنسان محلُّ النقص والخطأ، والجهل لأعماق النفس البشرية، والجهل بما يحدث غدًا في أوضاع الإنسان وأحواله، وفيما يصلح البشرية في كل عصر ومصر. وهذا دليل حسي مُشاهد على عجز جميع البشر عن الإتيان بأنظمة تصلح الخلق وتقوِّم أخلاقهم، وعلى أن القرآن كلام الله سليم من كل عيب، كفيل برعاية مصالح العباد، وهدايتهم إلى كل ما يصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة إذا تمسكوا به واهتدوا بهديه (¬1) قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9]. ¬

(¬1) انظر: مناهل العرفان للزرقاني 2/ 247، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع الإسلامي، من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ص117، ومعالم الدعوة للديلمي 1/ 426.

وبالجملة فإن الشريعة التي جاء بها كتاب الله - تعالى - مدارها على ثلاث مصالح: المصلحة الأولى: درء المفاسد عن ستة أشياء (¬1) حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والعرض، والمال. المصلحة الثانية: جلب المصالح (¬2) فقد فتح القرآن الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين، وسدِّ كل ذريعة تؤدي إلى الضرر. المصلحة الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. فالقرآن الكريم حلَّ جميع المشاكل العالمية التي عجز عنها البشر، ولم يترك جانبًا من الجوانب التي يحتاجها البشر في الدنيا والآخرة إلا وضع لها القواعد، وهدى إليها بأقوم الطرق وأعدلها (¬3). ¬

(¬1) درء المفاسد هو المعروف عند أهل الأصول بالضروريات. انظر: أضواء البيان 3/ 448. (¬2) جلب المصالح يعرف عند أهل الأصول بالحاجيات. أضواء البيان 3/ 448. (¬3) انظر: أضواء البيان 3/ 409 - 457، فقد أوضح هذا الجانب بالأدلة العقلية والنقلية جزاه الله خيراً وغفر له.

الوجه الرابع الإعجاز العلمي الحديث

الوجه الرابع: الإعجاز العلمي الحديث: يتصل بما ذكر من إعجاز القرآن في إخباره عن الأمور الغيبية المستقبلة نوع جديد كشف عنه العلم في العصر الحديث، مصداقًا لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]. لقد تحقق هذا الوعد من ربنا في الأزمنة المتأخرة، فرأى الناس آيات الله في آفاق المخلوقات بأدق الأجهزة والوسائل: كالطائرات، والغوَّاصات، وغير ذلك من أدق الأجهزة الحديثة التي لم يمتلكها الإنسان إلا في العصر الحديث. . . فمن أخبر محمدًا صلى الله عليه وسلم بهذه الأمور الغيبية قبل ألف وأربعمائة وستة وعشرين عامًا؟ إن هذا يدلُّ على أن القرآن كلام الله، وأن محمدًا رسول الله حقًّا.

المطلب الثاني معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية

وقد اكتُشِفَ هذا الإعجاز العلمي: في الأرض وفي السماء، وفي البحار والقفار، وفي الإنسان والحيوان، والنبات، والأشجار، والحشرات، وغير ذلك، ولا يتَّسع المقام لذكر الأمثلة العديدة على ذلك (¬1). المطلب الثاني معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية الخارقة للعادة كثيرة جدًا (¬2) لا أستطيع حصرها، وسأقتصر بإيجاز على ذكر تسعة أنواع منها على سبيل المثال، على النحو الآتي: النوع الأول: المعجزات العلوية، ومنها: 1 - انشقاق القمر: وهذه من أُمَّهات معجزاته صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) انظر أمثلة كثيرة في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم في مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/ 278 - 284، وكتاب الإيمان، لعبد المجيد الزنداني ص55 - 59، وكتاب التوحيد للزنداني أيضاً 1/ 74 - 77. (¬2) قال ابن تيمية - رحمه الله -: (قد جمعت نحو ألف معجزة). انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية ص158. ومعجزاته - صلى الله عليه وسلم - تزيد على ألف ومائتين، وقيل: ثلاثة آلاف معجزة. انظر: فتح الباري 6/ 583.

الدالة على صدقه، «فقد سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُريهم آية، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا جبل حِراء بينهما» (¬1) قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ - وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ - وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 1 - 3] الآيات. 2 - صعوده صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج إلى ما فوق السماوات: وهذا ما أخبر به القرآن الكريم، وتواترت به الأحاديث، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب انشقاق القمر 7/ 182، 6/ 631 (رقم 3636)، 8/ 617، ومسلم، صفات المنافقين، باب انشقاق القمر، 4/ 2159 (رقم 2800).

النوع الثاني آيات الجو

وهذه الآية من أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم، فإنه أُسري به إلى بيت المقدس، وقطع المسافة في زمن قصير، ثم عُرِجَ به إلى السماوات، ثم صعد إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام، ورأى الجنة، وفُرِضَت عليه الصلوات، ورجع إلى مكة قبل أن يُصبح، فكذَّبته قريش، وطلبوا منه علامات تدلُّ على صدقه، ومن ذلك علامات بيت المقدس؛ لعلمهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يرَ بيت المقدس قبل ذلك، فجلَّى الله له بيت المقدس ينظر إليه ويخبرهم بعلاماته وما سألوا عنه (¬1). وغير ذلك من الآيات العلوية، كحراسة السماء بالشهب عند بعثته صلى الله عليه وسلم. النوع الثاني: آيات الجوِّ: 1 - من هذه المعجزات طاعةُ السَّحاب له صلى الله عليه وسلم، بإذن ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب حديث الإسراء 7/ 196 (رقم 3886)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال 1/ 156 (رقم 170).

النوع الثالث تصرفه في الحيوان الإنس والجن والبهائم

الله تعالى في حصوله ونزول المطر وذهابه بدعائه (¬1) صلى الله عليه وسلم. 2 - ومن هذا النوع نصر الله للنبي صلى الله عليه وسلم بالريح التي قال تعالى عنها: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]، وهذه الريح هي ريح الصَّبَا، أرسلها على الأحزاب، قال صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهْلِكت عادٌ بالدَّبورِ» (¬2) وغير ذلك. النوع الثالث: تصرفه في الحيوان: الإنس، والجنِّ والبهائم: وهذا باب واسع، منه على سبيل المثال: (أ) تصرفه في الإنس: 1 - «كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يشتكي عينيه من ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة 2/ 413 (رقم 933)، ومسلم، كتاب الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء 2/ 614 (رقم 897). (¬2) مسلم، كتاب الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور (رقم 900).

وجعٍ بهما، فبصقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما ودعا له فبرأ، كأَنْ لم يكن به وجع» (¬1). 2 - «انكسرت ساق عبد الله بن عتيك - رضي الله عنه - فمسحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنها لم تنكسر قطُّ» (¬2). 3 - «أُصيب سلمة بن الأكوع بضربة في ساقه يوم خيبر، فنفث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث نفثات، فما اشتكاها سلمة بعد ذلك» (¬3). (ب) تصرفه في الجنِّ والشياطين: 1 - «كان صلى الله عليه وسلم يُخرج الجن من الإنس بمجرد المخاطبة. فيقول: اخرج عدو الله أنا رسول الله» (¬4). ¬

(¬1) انظر: البخاري، كتاب الجهاد، باب فضل من أسلم على يديه رجل 6/ 144 (رقم 3009)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي - رضي الله عنه - 4/ 1872 (رقم 2406). (¬2) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب قتل أبي رافع 7/ 340 (رقم 4039). (¬3) انظر: المرجع السابق، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 7/ 475 (رقم 4206). (¬4) مسند أحمد 4/ 170 - 172، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 6: رجال أحمد رجال الصحيح.

2 - «أخرج الشيطان من صدر عثمان بن أبي العاص، فضرب صدر عثمان بيده ثلاث مرات، وتفل في فمه، وقال: اخرج عدو الله، فعل ذلك ثلاث مرات، فلم يُخالط عثمان الشيطان بعد ذلك» (¬1). (ج) تصرفه في البهائم: وقد حصل له مرارًا، ومن ذلك «أنه جاء بعير فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال أصحابه: يا رسول الله! تسجد لك البهائم والشجر، فنحن أحقُّ أن نسجد لك، فقال صلى الله عليه وسلم: اعبدوا ربَّكم، وأكرِمُوا أخاكُم، ولو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجد لزوجها. . .» (¬2). ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب الطب، باب الفزع والأرق وما يتعوذ منه، بسند حسن 2/ 1174 (رقم 3548)، وانظر: صحيح ابن ماجه 1/ 273. (¬2) مسند أحمد 6/ 76، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 9: إسناده جيد، وانظر: معجزات من هذا النوع مسند الإمام أحمد 4/ 170 - 172، ومجمع الزوائد للهيثمي 9/ 3 - 12.

النوع الرابع تأثيره في الأشجار والثمار والخشب

النوع الرابع: تأثيره في الأشجار والثمار والخشب: (أ) تأثيره في الأشجار: 1 - «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال الأعرابي: ومن يشهد لك على ما تقول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه السَّلمة" (¬1) فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخدُّ (¬2) الأرض خدًّا حتى قامت بين يديه، فأشهدها ثلاثًا، فشهدتْ ثلاثًا أنه كما قال، ثم رجعت إلى مَنْبَتِها» (¬3). 2 - «أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضي حاجته وهو في سفر، فلم يجد ما يستتر به، فأخذ بغصن شجرة وقال: "انقادي ¬

(¬1) شجرة من شجر البادية، انظر: المصباح المنير، مادة "سلم"، 1/ 286، ومختار الصحاح، مادة "سلم"، ص131. (¬2) أي: تشقها أخدوداً. وانظر: المصباح المنير، مادة "خد" 1/ 165، ومختار الصحاح مادة (خد) ص72. (¬3) الدارمي، في المقدمة، باب ما أكرم الله به نبيه من إيمان الشجر به والبهائم والجن 1/ 17 (رقم 16)، وإسناده صحيح، وانظر: مشكاة المصابيح برقم 5925، 3/ 1666.

عليَّ بإذن الله"، فانقادت معه كالبعير المخشوم (¬1) حتى أتى الشجرة الأخرى، ففعل وقال كذلك، ثم أمرهما أن تلتئما عليه فالتأمتا، ثم بعد قضاء الحاجة رجعت كل شجرة، وقامت كل واحدة منهما على ساق. . .» (¬2). (ب) تأثيره في الثمار: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بم أعرف أنك نبي؟ قال: "إن دعوت هذا العِذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله؟ " فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "ارجع"، فعاد، فأسلم الأعرابي» (¬3). ¬

(¬1) الذي جعل في أنفه عوداً، ويشد فيه حبل ليذل وينقاد إذا كان صعباً. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 18/ 146. (¬2) انظر: صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر 4/ 2306 (رقم 3012). (¬3) الترمذي، كتاب المناقب، باب حدثنا عباد، 5/ 594 (رقم 3628)، وأحمد 1/ 123، والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي 2/ 620.

النوع الخامس: تأثيره في الجبال والأحجار وتسخيرها له

(ج) تأثيره في الخشب: «كان صلى الله عليه وسلم يخطب في المدينة يوم الجمعة على جذع نخل، فلما صنع له المنبر ورقِي عليه صاحَ الجذعُ صياحَ الصبي، [وخارَ كما تخورُ البقرة، جزعًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وضمه إليه وهو يئن، ومسحه حتى سكن]» (¬1). النوع الخامس: تأثيره في الجبال والأحجار وتسخيرها له: (أ) تأثيره في الجبال: «صعد النبي صلى الله عليه وسلم أُحدًا، ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فضربه صلى الله عليه وسلم برجله، وقال: اثبت أحد، فإن عليك نبي، وصدِّيق، وشهيدان» (¬2). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام 6/ 602 (رقم 3584)، وما بين المعكوفين عند أحمد في المسند 2/ 109. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كنت متخذاً خليلاً .. )) 7/ 22، 40، 7/ 53 (رقم 3675).

النوع السادس تفجير الماء وزيادة الطعام والشراب والثمار

(ب) تأثيره في الحجارة: وقال صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف حجرًا بمكة كان يُسلِّم عليَّ قبل أن أُبعثَ، إني لأعرفه الآن» (¬1). (ج) تأثيره في تراب الأرض: «عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة حنين، واشتدَّ القتال، نزل عن بغلته وقبض قبضة من تراب الأرض، واستقبل به وجوه القوم، فقال: "شاهَتِ الوُجُوه"، فما خلق الله إنسانًا منهم إلا ملأ عينيه من تلك القبضة، فهزمهم الله وقسم غنائمهم بين المسلمين» (¬2). النوع السادس: تفجير الماء، وزيادة الطعام والشراب والثمار: (أ) نبع الماء وزيادة الشراب: ¬

(¬1) مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسليم الحجر عليه قبل النبوة 4/ 1782 (رقم 2277). (¬2) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين 3/ 1402 (رقم 1777). وحصل له مثل ذلك في معركة بدر.

هذا النوع حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مراتٍ كثيرة جدًّا (¬1) ومن ذلك: 1 - «عطش الناس في الحديبية، فوضع يده صلى الله عليه وسلم في الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كالعيون، فشربوا وتوضؤوا، قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة» (¬2). 2 - «قدم صلى الله عليه وسلم تبوك، فوجد عينها كشراك النعل، فغُرِفَ له منها قليلًا قليلًا، حتى اجتمع له شيء قليل، فغسل فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماءٍ مُنهمرٍ، وبقيت العين إلى الآن» (¬3). ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6/ 580، من حديث 3571 - 3577، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها 1/ 471 - 477 (رقم 681، 682)، وجامع الأصول لابن الأثير 11/ 334 - 351. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة 6/ 581، 7/ 441، 443، 10/ 101 (رقم 3576)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال 3/ 1484 (رقم 1856) (72). (¬3) انظر: صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - 4/ 1784 (رقم 706).

3 - قصة أبي هريرة - رضي الله عنه - وقدح اللبن، وزيادة لبن القدح حتى شرب منه أضياف الإسلام (¬1). (ب) زيادة الطعام وتكثيره لما جعل الله فيه صلى الله عليه وسلم من البركة، ومن ذلك: 1 - «كان النبي صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة من أصحابه في غزوة، فأصابهم مشقة، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يجمعوا ما معهم من طعام وبسطوا سفرة، وكان الطعام شيئًا يسيرًا فبارك فيه، وأكلوا، وحشوا أوعيتهم من ذلك الطعام» (¬2). 2 - «بقي الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق ثلاثة أيام لا يذوقون طعامًا، فذبح جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عناقًا، وطحنت زوجته صاعًا من شعير، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الخندق يدعوهم على هذا ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم عن الدنيا 11/ 281 (رقم 6452). (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب حمل الزاد في الغزو 6/ 129 (رقم 2982)، ومسلم، اللقطة، باب استحباب خلط الأزواد إذا قلَّت 3/ 1354 (رقم 1729).

الطعام اليسير، ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وبصقَ في العجين وبارك، وبصقَ في البرمة وبارك، قال جابر - رضي الله عنهما -: وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغطُّ كما هي (¬1) وإن عجيننا ليخبز كما هو» (¬2). وهذا باب واسع لا يمكن حصره. (ج) زيادة الثمار والحبوب، ومن ذلك: 1 - «جاء رجل يستطعم النبي صلى الله عليه وسلم فأطعمه شطرَ وسْقِ شعيرٍ، فما زال الرجل يأكل منه وأهله حتى كاله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو لم تكِلْهُ لأكلتم منه ولقام لكم» (¬3). ¬

(¬1) أي: تغلي ويسمع غليانها. انظر: الفتح 7/ 399. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق 7/ 395، 396 (رقم 4101)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباع غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك 3/ 1610 (رقم 2039). (¬3) مسلم، كتاب الفضائل، باب معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - 4/ 1784 (رقم 2281).

النوع السابع تأييد الله له بالملائكة

2 - «كان على والد جابر دين، وما في نخله لا يقضي ما عليه سنين، فجاء جابر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحضر الكيل، فحضر، ومشى حول الجرن، ثم أمر جابرًا أن يكيل فكال لهم حتى أوفاهم، قال جابر - رضي الله عنه -: (وبقي تمري وكأنه لم ينقص منه شيء)» (¬1). النوع السابع: تأييد الله له بالملائكة: أيد الله رسوله بالملائكة في عدة مواضع، نُصرةً له ولدينه، منها على سبيل المثال: 1 - في الهجرة، قال المولى - جل وعلا -: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40]. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة 6/ 587، 7/ 357 (رقم 3580)، وانظر شرح روايات الحديث في الفتح 6/ 593.

2 - في بدر، قال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]. 3 - «في أُحدٍ، قاتل جبريل وميكائيل - عليهما السلام - عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره» (¬1). 4 - في الخندق، قال الله - عز وجل -: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]. 5 - في غزوة بني قُريظة، «جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وضع السلاح من غزوة الخندق واغتسل، فقال له جبريل: قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه، فاخرُجْ ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب: إذ همت طائفتان ... 7/ 358 (رقم 4054)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب قتال جبريل وميكائيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد 4/ 1802 (رقم 2306).

النوع الثامن كفاية الله له أعداءه وعصمته من الناس

إليهم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: "إلى أين؟ " فأشار إلى بني قريظة، فخرج صلى الله عليه وسلم، ونصره الله عليهم» (¬1). 6 - في حنين، قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26]. النوع الثامن: كفاية الله له أعداءه وعصمته من الناس: هذا النوع من أعظم الآيات الدالة على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: 1 - كفاه الله تعالى المشركين والمستهزئين، فلم يصلوا إليه بسوء، قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ - إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94 - 95]. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب 7/ 407 (رقم 4117)، ومسلم، كتاب الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد 3/ 1389 (رقم 1769).

2 - كفاه الله أهل الكتاب، قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]. 3 - وعصمه تعالى من جميع الناس بقوله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. وهذا خبر عام بأن الله يعصمه من جميع الناس، فكلٌّ من هذه الأخبار الثلاثة قد وقع كما أخبر الله - تعالى - فقد كفاه الله أعداءه بأنواع عجيبة خارجة عن العادة المعروفة، ونصره مع كثرة أعدائه وقوتهم وغلبتهم، وانتقم ممن عاداه. ومن ذلك: «أن رجلًا نصرانيًّا أسلم، وقرأ البقرة وآل

النوع التاسع إجابة دعواته صلى الله عليه وسلم

عمران، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتدَّ وعاد نصرانيًّا، فكان يقول: ما يَدْري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله، فدفنه قومه، فأصبح وقد أخرجته الأرض من بطنها، فأعادوا دفنه، وأعمقوا قبره، فأصبح وقد أخرجته الأرض منبوذًا على ظهرها، فأعادوا دفنه وأعمقوا له، فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أن هذا ليس من الناس فتركوه منبوذًا» (¬1). النوع التاسع: إجابة دعواته صلى الله عليه وسلم: الأدعية التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم وشُوهدت إجابتها كالشمس في رابعة النهار كثيرة جدًّا، لا تُحصر ولا يتَّسع المقام لذكر أكثرها، ولكن منها على سبيل المثال: 1 - «قال صلى الله عليه وسلم لأنس - رضي الله عنه -: اللهم أكثر ماله وولده، ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة 6/ 624 (رقم 3617)، ومسلم، صفات المنافقين 4/ 2145 (رقم 2781).

وبارك له فيما أعطيته» (¬1) «[وأطل حياته واغفر له]» (¬2) «قال أنس: فوالله إنَّ مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادُّون على نحو المائة اليوم» (¬3) «[وحدثتني ابنتي أمينة أنه دُفِنَ لصلبي مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة]» (¬4). «وكان له - رضي الله عنه - بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيها ريحان يجيء منها ريح المسك» (¬5). 2 - ودعا صلى الله عليه وسلم لأم أبي هريرة بالهداية فهداها الله فورًا، ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الصيام، باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم 4/ 228، 11/ 144 (رقم 1982)، ومسلم، في فضائل الصحابة، باب فضائل أنس 4/ 1928 (رقم 2480). (¬2) البخاري في الأدب المفرد، برقم 653، وانظر: فتح الباري 11/ 145، وسير أعلام النبلاء 2/ 219. (¬3) مسلم، فضائل الصحابة، باب فضائل أنس 4/ 1929 (رقم 2481) (143). (¬4) البخاري مع الفتح كتاب الصيام، باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم 4/ 228 (رقم 1982). (¬5) الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب أنس 5/ 683 (رقم 3833) وقال: هذا حديث حسن غريب، وانظر: صحيح الترمذي 3/ 234.

وأسلمت وقصَّتها عجيبة جدًّا (¬1). 3 - «وقال صلى الله عليه وسلم لعروة بن أبي الجعد البارقي: "اللهم بارك له في صفقة يمينه"، فكان يقف في الكوفة ويربح أربعين ألفًا قبل أن يرجع إلى أهله (¬2) [وكان لو اشترى التراب لربح فيه]» (¬3). 4 - ودعاؤه صلى الله عليه وسلم على بعض أعدائه، فلم تتخلَّف الإجابة، كأبي جهل، وأميَّة، وعقبة، وعتبة. . . وغيرهم كثير (¬4). 5 - ودعاؤه يوم بدر، ويوم حنين، وعلى سراقة بن مالك - رضي الله عنه - وغيرهم كثير (¬5). ¬

(¬1) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي هريرة 4/ 1938 (رقم 2491). (¬2) أحمد في المسند 4/ 376. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب حدثنا محمد بن المثنى 6/ 632 (رقم 3642). (¬4) انظر: البخاري مع الفتح 1/ 349، ومسلم 3/ 1418. (¬5) انظر: دعاءه يوم بدر في صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر 3/ 1384 (رقم 1763)، ويوم حنين في مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين 3/ 1402 (رقم 1775)، وقصة سراقة في = ... = البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة 7/ 238 (رقم 3906)، وانظر: ص271 و275.

والحقيقة أن العاقل المنصف يقف أمام هذه الدلائل والبينات مذعورًا، ولا يسعه إلا أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

المبحث التاسع عشر عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس

المبحث التاسع عشر عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس إن أصل الأصول هو تحقيق الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله إلى جميع الخلق: إنسهم وجنِّهم، عربهم وعجمهم، كتابيِّهم ومجوسيِّهم، رئيسهم ومرؤوسهم، وأنه لا طريق إلى الله - عز وجل - لأحد من الخلق إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، حتى لو أدركه موسى وعيسى، وغيرهما من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ لوجب عليهم اتباعه، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ - فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 81 - 82].

قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ما بعث الله نبيًّا إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بُعِثَ محمد وهو حيٌّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به، ولينصرنه (¬1). ولهذا جاء في الحديث: «لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حلَّ له إلا أن يتبعني» (¬2). ومن خالف عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من أحد أمرين: 1 - إما أن يكون المخالِفُ مؤمنًا بأنه مرسل من عند الله؛ ولكنه يقول: رسالته خاصة بالعرب. ¬

(¬1) انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية ص77، 191 - 200، وفتاوى ابن تيمية 19/ 9 - 65، بعنوان: إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/ 31 - 176، وتفسير ابن كثير 1/ 378، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 2/ 334، ومعالم الدعوة للديلمي 1/ 454 - 456، والمناظرة في الإسلام والنصرانية ص303 - 309. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/ 338، وله شواهد وطرق كثيرة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 173 - 174، وانظر: مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني 1/ 63، 68.

2 - وإما أن يكون المخالف منكرًا للرسالة جملةً وتفصيلًا. فأما المعترف له بالرسالة؛ ولكنه يجعلها خاصة بالعرب فإنه يلزمه أن يصدقه في كل ما جاء به عن الله - تعالى - ومن ذلك عموم رسالته، ونسخها للشرائع قبلها، فقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله إلى الناس أجمعين، وأرسل رسله، وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى، وقيصر، والنجاشي، وسائر ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، ثم قاتل من لم يدخل في الإسلام من المشركين، وقاتل أهل الكتاب، وسبى ذراريهم، وضرب الجزية عليهم، وذلك كلُّه بعد امتناعهم عن الدخول في الإسلام، أما كونه يؤمن برسول ولا يصدُّقه في جميع ما جاء به فهذا تناقض ومكابرة. وأما المنكر لرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مطلقًا، فقد قام البرهان القاطع على صدق صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، ولا تزال معجزات القرآن تتحدى الإنس والجنَّ، فإما أن

يأتي بما يُناقض المعجزة القائمة وإلا لزمه الاعتراف بمدلولها، فإن اعترف بالرسالة لزمه التصديق بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن ذهب يُكابر ويُعاند ليأتي بقرآن مثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقع في العجز وفضح نفسه لا محالة؛ لأن أصحاب الفصاحة والبلاغة قد عجزوا عن ذلك، ولا شكَّ أن غيرهم أعجز عن هذا؛ لأن القرآن معجزة قائمة مستمرة خالدة (¬1). وحينئذ يلزم جميع الخلق العمل بما فيه والتحاكم إليه. وقد صرح القرآن الكريم بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول إلى جميع الناس، وخاتم النبيين، قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ¬

(¬1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/ 144، 166، ومناهج الجدل في القرآن الكريم ص303، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للدكتور/ صالح بن فوزان 2/ 182.

وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال تعالى يأمر نبيِّه بالإنذار والتبليغ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]. وهذا تصريح بعموم رسالته لكل من بلغه القرآن. وصرح تعالى بشمول رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب، فقال: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]، وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ

مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]. وبلَّغَ صلى الله عليه وسلم الناس جميعًا أنه خاتم الأنبياء، وأن رسالته عامة، قال صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسًا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي، وذكر منها: وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصَّة، وبُعثت إلى الناس كافَّةً. . .» الحديث (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) 1/ 533 (رقم 438)، ومسلم، كتاب المساجد 1/ 370، (رقم 521).

الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلاَّ وُضِعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللَّبنةُ، وأنا خاتم النبيين» (¬1). وعموم رسالته صلى الله عليه وسلم لجميع الإنس والجن في كل زمان ومكان من بعثته إلى يوم القيامة، وكونها خاتمة الرسالات، يقضي ويدلُّ دلالة قاطعة على أن النبوة قد انقطعت بانقطاع الوحي بعده، وأنه لا مصدر للتشريع والتعبد إلا كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي وجوب الإيمان بعموم رسالته واتباع ما جاء به، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (¬2). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين 6/ 558 (رقم 3535)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين 4/ 1790 (رقم 2286). (¬2) مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته 1/ 134 (رقم 153).

وبعون الله - تعالى - فقد قامت الحجة وثبتت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وعمومها وشمولها لجميع الثقلين: الإنس والجن، في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104]، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. . . الآية.

المبحث العشرون اعتراف المنصفين من علماء اليهود والنصارى برسالته صلى الله عليه وسلم

المبحث العشرون اعتراف المنصفين من علماء اليهود والنصارى برسالته صلى الله عليه وسلم أولًا: اعتراف المنصفين من علماء اليهود: لاشك أن من حكمة القول مع أهل الكتاب في دعوتهم إلى الله - عز وجل - الاستشهاد عليهم بشهادة علماء أهل الكتاب المنصفين، الذين وفقهم الله - تعالى - وقبلوا الحق، وبيَّنوه ولم يكتموه، وهذا من باب قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26]. وأذكر على سبيل المثال من هؤلاء العلماء الذين يعترف اليهود بأنهم كانوا منهم فأقروا بالإسلام وأنه الدين الحق ما يلي: 1 - عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه: لو لم يسلم من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا سيد اليهود على الإطلاق وابن سيدهم، وعالمهم وابن عالمهم، وخيرهم وابن خيرهم، باعترافهم وشهادتهم، لكان في

مقابلة كل يهودي على وجه الأرض، فكيف وقد تابعه من الأحبار والرُّهبان من لا يُحصي عددهم إلا الله (¬1). وقد آمن هذا الرجل بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: «بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيٌّ، قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خبَّرني بهنَّ آنفًا جبريلُ" قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أول أشرط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ (¬2) وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان ¬

(¬1) انظر: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم ص514، 525. (¬2) وفي رواية للبخاري برقم 3939: ((فزيادةُ كَبِدِ الحوت)) ..

الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها"، [قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله] قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهْتٌ، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بَهَتُوني عندك، فادعهم [فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي]، [فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا]، فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:، قالوا: ما نعلمه - قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، قالها ثلاثًا مرارًا - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ " قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، وأخبرنا وابن أخبرنا، [خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا]، قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ " قالوا: أعاذه الله من ذلك، حاشا لله ما كان ليسلم، قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ " قالوا حاشا لله ما كان ليسلم، قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ " قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: "يا ابن سلام اخرج عليهم"،

[فخرج عليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله]، [يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت]، [شرُّنا وابن شرِّنا، ووقعوا فيه]، [فأخرجهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم]» (¬1). وعن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - قال: «لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قِبَلَهُ، وقيل: قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبيَّنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذَّاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب خلق آدم وذريته 6/ 362 (رقم 3329)، ومناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة 7/ 250 (رقم 3911)، وباب حدثني حامد بن عمر، عن بشر بن المفضل 7/ 272 (رقم 3938)، وكتاب التفسير، سورة البقرة، باب قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا ((((((((((((}. 8/ 165 (رقم 4480)، وألفاظ الحديث من المواضع الأربعة، وانظر: البداية والنهاية 3/ 210.

يا أيها الناس، أفشُوا السلام، وأطعِمُوا الطعامَ، وصِلُوا الأرحامَ، وصلُّوا بالليلِ والناسُ نيامٌ، تدخُلُوا الجنَّةَ بسلام» (¬1). وقد أثنى الله على هذا العالم الرباني، فعن سعد بن أبي وقاص قال: «ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يمشي (¬2) على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، قال: وفيه نزلت هذه الآية» (¬3) {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10]. ¬

(¬1) ابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب إطعام الطعام 2/ 1083 (رقم 3251) بلفظه، والترمذي في صفة القيامة، باب حدثنا محمد بن بشار 4/ 652 (2485)، وأحمد في المسند 4/ 451، وانظر: صحيح ابن ماجه 2/ 222. (¬2) قد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه شهد لأناس كثير بالجنة، ومنهم العشرة المبشرون بالجنة، فقيل بأن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - يعني من الأحياء، لأن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - عاش بعد موتهم، ولم يتأخر معه من العشرة غير سعد وسعيد، ويؤخذ هذا من قول سعد - رضي الله عنه -: يمشي على الأرض. انظر: فتح الباري 7/ 129، 130. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب عبد الله بن سلام 7/ 128 (رقم (3812)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن سلام 4/ 1930 (رقم 2483).

زيد بن سعنة أحد أحبار اليهود رضي الله عنه

2 - زيد بن سعنة، أحد أحبار اليهود رضي الله عنه: قال - رضي الله عنه -: «ما من علامات النبوة شيءٌ إلا وقد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، وقد اختبرتهما، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، وأشهدك أن شطر مالي - فإني أكثرها مالًا - صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال عمر: أو على بعضهم، فإنك لا تسعهم. قلت: أو على بعضهم. فخرج عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وآمن به، وصدَّقه، وبايعه، وشهد معه مشاهد كثيرة، ثم توفي في غزوة تبوك مُقبلًا غير مدبر» (¬1) رضي الله عنه ورحمه. ¬

(¬1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه إلى الطبراني، وقال: رجاله ثقات 8/ 240، وتقدم تخريجه كاملاً مطولاً في حلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقصة هنا مختصرة، فارجع إليها في مجمع الزوائد للهيثمي، 8/ 239، 240.

من أسلم عند الموت

3 - من أسلم عند الموت: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها يُعزِّي بها نفسه على ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟ " فقال برأسه هكذا، أي: لا. فقال ابنه: إي والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: "أقيموا اليهودي عن أخيكم"، ثم وَلِيَ كفنَه، وحنَّطهُ، وصلَّى عليه صلى الله عليه وسلم» (¬1). هذه ثلاثة أمثلة لاعترافات أحبار اليهود بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم حقًّا، وأن صفته موجودة في التوراة، ويعرفه اليهود كما يعرفون أبناءهم {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ ¬

(¬1) أحمد في المسند 5/ 411، وقال ابن كثير: هذا حديث جيد قوي، له شواهد في الصحيح عن أنس - رضي الله عنه - انظر: تفسير ابن كثير 2/ 252، ومجمع الزوائد 8/ 234.

ثانيا اعتراف المنصفين من علماء النصارى

فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. وممن أسلم من اليهود عند الموت ما جاء في حديث أنس رضي الله عنه قال: «إن غلامٌ يهوديٌّ يخدم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه، فقال له: "أسلم"، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلم، [وفي رواية النسائي، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله]، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار» (¬1). ثانيًا: اعتراف المنصفين من علماء النصارى: من حكمة القول مع النصارى في دعوتهم إلى الله الاستشهاد عليهم بشهادة المنصفين من علماء النصارى، ومن وفقه الله منهم للإسلام، فإن هذا من باب {وَشَهِدَ ¬

(¬1) البخاري برقم 1356، ورقم 5657، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 3/ 219.

النجاشي ملك الحبشة رحمه الله ورضي عنه

شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26]، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: 1 - النجاشي ملك الحبشة رحمه الله ورضي عنه: عندما قرأ جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - على النجاشي (¬1) صدرًا من سورة مريم، بكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكى أساقفته حين سمعوا ما تُلي عليهم، وقال النجاشي للوفد: (ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟) فقال جعفر - رضي الله عنه -: يقول فيه قول الله: (هو روح الله وكلمته، أخرجه من البتول العذراء التي لم يقربها بشر. . .) فتناول النجاشي عودًا فرفعه، فقال: (يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد على ما تقولون في ابن مريم ¬

(¬1) أصحمة ملك الحبشة، أسلم وحسن إسلامه، وهو معدود في الصحابة، ولم يُهاجر، ولا له رؤية، فهو تابعي من وجه، صحابي من وجه، توفي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى عليه بالناس صلاة الغائب، ولم يثبت أنه صلى على غائب سواه. انظر: سير أعلام النبلاء 1/ 428 - 443.

سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه

ما تزن هذه، وقال للوفد: مرحبًا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشَّر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعله. . .) (¬1). 2 - سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه: قصة سلمان مشهورة عجيبة (¬2) فقد عاش مع مجموعة من علماء النصارى، وعندما كان مع آخر عالم من هؤلاء بعمورية بالروم حضرته الوفاةُ، فأوصى إلى سلمان الفارسي وقال: (قد أظلَّكَ زمان نبي يُبعثُ من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى: بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل، فإنه قد أظلك زمانه). وسافر سلمان ووجد العلامات التي وصفت ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء 1/ 438. (¬2) انظر: قصته وإسلامه - رضي الله عنه - في سير أعلام النبلاء 1/ 505 - 556.

هرقل عظيم الروم

له، فأسلم رضي الله عنه (¬1). 3 - هرقل عظيم الروم: قال هرقل لأبي سفيان في آخر حديثه: «. . . وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه. . .» (¬2). ثم قال للروم بعد ذلك: يا معشر الروم هل لكم في ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 509، 510. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع 1/ 32 (رقم 7)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام 3/ 1396 (رقم 1773).

الفلاح والرشد، وأن يثبت مُلككم فتبايعوا لهذا النبي؟ (¬1) ولكن رغب في ملكه وضنَّ به، فلم يسلم! وهذا مما يبيِّن أن عدول أهل الكتاب ومنصفيهم قد شهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقًّا، فلا يقدح قدح المكذبين بعد ذلك (¬2). وقد أسلم الجمُّ الغفير من علماء النصارى وشهدوا بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولُ الله إلى الناس أجمعين، {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82]. فحريٌّ بجميع النصارى أن يسيروا على طريق علمائهم المنصفين، ويسلموا لله رب العالمين. ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع 1/ 33 (رقم 7). (¬2) انظر: هداية الحيارى لابن القيم ص525.

المبحث الحادي والعشرون خير أعماله خواتمها صلى الله عليه وسلم

المبحث الحادي والعشرون خير أعماله خواتمها صلى الله عليه وسلم [المداومة على الأعمال] كان صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملًا أثبته وداوم عليه؛ ولهذا قال: «إن أحب الأعمال إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه وإن قل» (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعتكف عشرين يومًا، وكان يُعرَضُ عليه القرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه عرض القرآن مرتين» (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل أن يموت: "سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك". قالت: قلت: يا رسول الله، ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها تقولها؟ قال: "جُعلت لي علامةٌ في أمتي إذا رأيتها قلتها ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 9/ 43، برقم 4998، و 4/ 213، ومسلم 2/ 811، برقم 782. (¬2) البخاري برقم 4433، ومسلم برقم 2450.

{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]». (¬1) وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما لعمر عن هذه السورة: «{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إنها أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه، فقال: ما أعلم منها إلا ما تعلم» (¬2). وقيل: نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] يوم النحر والنبي صلى الله عليه وسلم في منى بحجة الوداع (¬3) وقيل: نزلت أيام التشريق (¬4) وعند الطبراني أنها لما نزلت هذه السورة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة (¬5)؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 8/ 130، برقم 4430. (¬2) مسلم 1/ 351، برقم 484. (¬3) انظر: الفتح 8/ 734، شرح الأحاديث 4967 - 4970، وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يوماً. فتح 8/ 734. (¬4) انظر: المرجع السابق 8/ 130. (¬5) انظر: فتح الباري 8/ 130.

الدروس والفوائد والعبر

لي" يتأول القرآن» (¬1). ومعنى ذلك أنه يفعل ما أمر به فيه وهو قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3] (¬2). [الدروس والفوائد والعبر] وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستنبطة من هذا المبحث كثيرة، ومنها: 1 - الحث على المداومة على العمل الصالح، وأن قليلًا دائمًا خير من كثير منقطع؛ لأن بدوام العمل الصالح القليل تدوم الطاعة والذكر، والمراقبة، والنية، والإخلاص، والإقبال على الخالق، والقليل الدائم يثمر؛ لأنه يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة (¬3). 2 - من أجهد نفسه في شيء من العبادات لا يطيق ¬

(¬1) البخاري برقم 794، ومسلم برقم 484. (¬2) انظر: شرح النووي 4/ 447. (¬3) انظر: فتح الباري 1/ 103، وشرح النووي 6/ 318.

العمل به خُشِيَ عليه أن يمل فيفضي ذلك إلى تركه (¬1). 3 - الإنسان المسلم كلما تقدم في العمر اجتهد في العمل على حسب القدرة والطاقة؛ ليلقى الله على خير أحواله؛ ولأن الأعمال بالخواتيم، وخير الأعمال الصالحة خواتيمها (¬2). ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 4/ 215. (¬2) انظر: فتح الباري 4/ 285، و 9/ 46.

المبحث الثاني والعشرون وداعه لأمته ووصاياه صلى الله عليه وسلم

المبحث الثاني والعشرون وداعه لأمته ووصاياه صلى الله عليه وسلم 1 - أذانه في الناس بالحج: وبعد أن بلَّغ صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، أعلن في الناس وأذَّن فيهم وأعلمهم أنه حاج في السنة العاشرة - بعد أن مكث في المدينة تسع سنين كلها معمورة بالجهاد والدعوة والتعليم - وبعد هذا النداء العظيم الذي قصد به صلى الله عليه وسلم إبلاغ الناس فريضة الحج؛ ليتعلموا المناسك منه صلى الله عليه وسلم؛ وليشهدوا أقواله، وأفعاله، ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب، وتشيع دعوة الإسلام، وتبلغ الرسالة القريب والبعيد (¬1). قال جابر رضي الله عنه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذَّن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجٌّ، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 8/ 422 , وشرح الأبي 4/ 244.

وداعه ووصيته لأمته في عرفات

برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله. . . وساق الحديث وفيه: حتى إذا استوت به ناقته على البيداء (¬1) نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك (¬2) ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله وما عمل به من شيء عملنا به. . . وساق الحديث وقال: حتى إذا أتى عرفة فوجد القبة قد ضُرِبت له بنمرة فنزل بها». 2 - وداعه ووصيته لأمته في عرفات: قال جابر رضي الله عنه: «حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: "إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر ¬

(¬1) البيداء: اسم للمفازة والصحراء التي لا شيء فيها، وهي هنا موضع بذي الحليفة. فتح الملك المعبود 2/ 9. (¬2) قيل كان عددهم تسعين ألفاً، وقيل مائة وثلاثين ألفاً. انظر: المرجع السابق 2/ 9، و 105.

الجاهلية تحت قدمي موضوع (¬1) ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دمٍ أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله (¬2) فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله (¬3) ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم (¬4) أحدًا تكرهونه فإن فعلن ذلك ¬

(¬1) والمعنى أنه أبطل كل شيء من أمور الجاهلية وصار كالشيء الموضوع تحت القدمين فلا يعمل به في الإسلام، فجعله كالشيء الموضوع تحت القدم من حيث إهماله وعدم المبالاة به. انظر: شرح النووي 8/ 432، وشرح الأبي 4/ 255، وفتح الملك المعبود 2/ 18. (¬2) والمعنى الزائد على رأس المال باطل أما رأس المال فلصاحبه بنص القرآن، انظر: شرح النووي 8/ 433. (¬3) قيل: الكلمة هي: الأمر بالتسريح بالمعروف أو الإمساك بإحسان، وقيل: هي لا إله إلا الله، وقيل: الإيجاب والقبول، وقيل: هي قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، سورة النساء، الآية: 3. قال النووي: (وهذا هو الصحيح ويدخل فيه القبول والإيجاب) شرح النووي، 8/ 433، وشرح الأبي 4/ 256، وفتح الملك المعبود 2/ 19. (¬4) والمعنى لا يأذن لأحد من الرجال أو النساء تكرهون أن يدخل منازلكم، وليس = = المراد من ذلك الزنا؛ لأنه حرام سواء كرهه الزوج أو لم يكرهه؛ ولأن فيه الحد. شرح النووي 8/ 433، والأبي 4/ 257, وفتح الملك المعبود 2/ 20.

فاضربوهن ضربًا غير مبرِّح (¬1) ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله (¬2) وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون"؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت. فقال بإصبعه السبَّابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: "اللهم اشهد، اللهم اشهد" ثلاث مرات» (¬3). ¬

(¬1) غير المبرِّح: لا شديد ولا شاق، انظر: فتح الملك المعبود 2/ 19، وشرح النووي 8/ 434 .. (¬2) والمعنى قد تركت فيكم أمراً لن تخطئوا إن تمسكتم به في الاعتقاد والعمل وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه، وسكت عن السنة؛ لأن القرآن هو الأصل في الدين، أو لأن القرآن أمر باتباع السنة كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ (((((((((((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ (((((((((((((فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} سورة النساء، الآية: 59. وقال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} سورة الحشر, الآية: 7. انظر: فتح الملك المعبود 2/ 20، وقد جاء عند الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الوصية بـ ( ... كتاب الله وسنة نبيه .. ) وصححه الألباني في صحيحه الترغيب برقم 36. (¬3) أخرجه مسلم برقم 1218.

وقد كان في الموقف جمٌّ غفير لا يُحصي عددهم إلا الله تعالى (¬1). وأُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة يوم الجمعة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وهذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الجن والإنس فلا حلال إلا ما أحلَّه، ولا حرام إلا ما حرَّمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق، لا كذب فيه ولا خلف، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] ¬

(¬1) قيل: مائة وثلاثون ألفاً. انظر: فتح الملك المعبود 2/ 105.

وداعه ووصيته لأمته عند الجمرات

أي صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الله لهم الدين تمت عليهم النعمة (¬1). وقد ذُكر أن عمر بكى عندما نزلت هذه الآية في يوم عرفة، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أُكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص (¬2) وكأنه رضي الله عنه توقع موت النبي صلى الله عليه وسلم قريبًا. 3 - وداعه ووصيته لأمته عند الجمرات: قال جابر رضي الله عنه: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلِّي لا أحُجُّ بعد حجتي هذه» (¬3). وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت: «حججت مع ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 2/ 12. (¬2) ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 12 وعزاه بإسناده إلى تفسير الطبري. وهذا يشهد له قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريبًا كما بدأ ... )). (¬3) مسلم برقم 1297.

وصيته ووداعه لأمته يوم النحر

رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة. . . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا كثيرًا ثم سمعته يقول: إن أُمِّر عليكم عبد مجدَّع أسود يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا» (¬1). 4 - وصيته ووداعه لأمته يوم النحر: عن أبي بكرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه - أو بزمامه - وخطب الناس فقال: "أتدرون أيُّ يوم هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم [فسكت] حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: "أليس بيوم النحر؟ " قلنا: بلى يا رسول الله! قال: "فأي شهر هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم [فسكت] حتى ظننا أنه سيسمه بغير اسمه، فقال: "أليس بذي الحجة؟ " قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "فأي بلد هذا؟ " قلنا الله ورسوله أعلم [فسكت] حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: ¬

(¬1) مسلم برقم 1298.

"أليست البلدة الحرام؟ " قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا [وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعوا بعدي كفارًا] [أو ضُلاَّلًا] يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد [منكم] الغائب [فَرُبَّ مُبلَّغ أوعى من سامع] ألا هل بلَّغت [ثم انكفأ (¬1) إلى كبشين أملحين فذبحهما. .» (¬2) قال ابن عباس رضي الله عنهما: «فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته فليبلغ الشاهد الغائب» (¬3). وسكوته صلى الله عليه وسلم بعد كل سؤال من هذه الأسئلة الثلاثة كان لاستحضار فهومهم؛ وليقبلوا عليه بكليتهم؛ ¬

(¬1) انكفأ: أي انقلب. انظر: شرح النووي 11/ 183. (¬2) البخاري 3/ 26 برقم 67, 105, 1741, 3197, 4406, 4662, 5550, 7078, 447, ومسلم برقم 1679 والألفاظ من هذه المواضع. (¬3) البخاري برقم 1739.

وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه (¬1). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات. . . وقال: "هذا يوم الحج الأكبر" وطَفِق (¬2) النبي يقول: "اللهم اشهد" وودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع» (¬3). وقد فتح الله أسماع جميع الحجاج بمنى حتى سمعوا خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، وهذا من معجزاته أن بارك في أسماعهم وقوَّاها حتى سمعها القاصي والداني حتى كانوا يسمعون وهم في منازلهم (¬4). فعن عبد الرحمن بن معاذ التيمي رضي الله عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى فَفُتِحت أسماعُنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا.» (¬5). ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 1/ 159. (¬2) طفق: جعل وشرع يقول. (¬3) البخاري برقم 1742. (¬4) انظر: عون المعبود 5/ 436, وفتح الملك المعبود 2/ 106. (¬5) أبو داود برقم 1957 وفي آخره قصة تدل على أنه يوم النحر, والحديث صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم 1724, 1/ 369.

وصيته صلى الله عليه وسلم لأمته في أوسط أيام التشريق

5 - وصيته صلى الله عليه وسلم لأمته في أوسط أيام التشريق: وخطب صلى الله عليه وسلم الناس في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة وهو ثاني أيام التشريق ويقال له: يوم الرؤوس؛ لأن أهل مكة يسمونه بذلك؛ لأكلهم رؤوس الأضاحي فيه، وهو أوسط أيام التشريق (¬1) فعن أبي نجيح عن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهما من بني بكر، قالا: «رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته، وهي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خطب (¬2) بمنى» (¬3) وعن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وسْطَ أيام التشريق فقال: «يا أيها الناس إن ربكم واحد، ¬

(¬1) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود 5/ 432, وفتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود 2/ 100, وفتح الباري 3/ 574. (¬2) ومعنى قوله: "وهي خطبته التي خطب بمنى" أي مثل الخطبة التي خطبها يوم النحر بمنى, فالخطبتان: في يوم النحر, وفي ثاني أيام التشريق اليوم الثاني عشر متحدتان في المعنى. انظر: عون المعبود 5/ 431، وفتح الملك المعبود 2/ 100. (¬3) أبو داود برقم 1952 ويشهد له حديث سرَّاء بنت نبهان برقم 1953 وصحح حديث أبي نجيح الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 368 برقم 1720.

وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت؟ " قالوا: بلَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: "أي يوم هذا؟ " قالوا: يوم حرام. ثم قال: "أيُّ شهر هذا؟ " قالوا: شهر حرام. ثم قال: "أي بلد هذا؟ " قالوا: بلد حرام. قال: "فإن الله قد حرَّم بينكم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، أبلغت؟ " قالوا بلَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "ليبلغ الشاهد الغائب» (¬1). وهناك جُمَلٌ من خطبه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في الأماكن المقدسة منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال: إن ¬

(¬1) أحمد بترتيب عبد الرحمن البناء 12/ 226 وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح 3/ 266. وانظر: حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه قال: كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوسط أيام التشريق أذود عنه الناس .... وذكر فيه جملاً تراجع ويراجع سند الحديث في مسند أحمد 5/ 72.

الدروس والفوائد والعبر

الشيطان قد يئس أن يُعبد بأرضكم ولكن رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا، كتاب الله وسنة نبيه. . .» الحديث (¬1). وحديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يخطب الناس على ناقته الجدعاء في حجة الوداع يقول: يا أيها الناس أطيعوا ربكم، وصلُّوا خمسكم، وأدُّوا زكاة أموالكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم» (¬2). [الدروس والفوائد والعبر] وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستنبطة من هذا المبحث كثيرة، ومنها: ¬

(¬1) ذكره المنذري في الترغيب وعزاه إلى الحاكم, وحسنه الألباني في صحيح الترغيب 1/ 21 برقم 36 وله أصل في صحيح مسلم. انظر: حديث رقم 2812, وانظر: مسند أحمد 2/ 368 والأحاديث الصحيحة برقم 472. (¬2) الحاكم 1/ 473 وصححه على شرط مسلم, ووافقه الذهبي.

1 - إن كل من قدم المدينة إجابة لأذان النبي صلى الله عليه وسلم بالحج فقد حج مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقول جابر رضي الله عنه: «فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله» (¬1). 2 - استحباب نزول الحاج إلى عرفات بعد زوال الشمس إن تيسر ذلك. 3 - استحباب خطبة الإمام بالحجاج بعرفات، يبين فيها للناس ما يحتاجون إليه، ويعتني ببيان التوحيد، وأصول الدين، ويحذر فيها من الشرك والبدع والمعاصي، ويوصي الناس بالعمل بالكتاب والسنة. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع ثلاث خطب: خطبة يوم عرفة، والخطبة الثانية يوم النحر في منى، والخطبة الثالثة في منى يوم الثاني عشر من ذي ¬

(¬1) تقدم تخريجه من حديث جابر - رضي الله عنه -.

الحجة. ومذهب الشافعي أن الإمام يخطب يوم السابع من ذي الحجة كذلك (¬1) ويُعلِّم الإمام الناس في كل خطبة ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى. 4 - تأكيد غلظ تحريم الدماء، والأعراض، والأموال، والأبشار الجلدية. 5 - استخدام ضرب الأمثال وإلحاق النظير بالنظير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا». 6 - إبطال أفعال الجاهلية، وربا الجاهلية، وأنه لا قصاص في قتلى الجاهلية. 7 - إن الإمام ومن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يجب أن يبدأ بنفسه وأهله؛ لأنه أقرب لقبول قوله، وطيب نفس من قرب عهده بالإسلام. 8 - الموضوع من الربا هو الزائد على رأس المال، ¬

(¬1) انظر: فتح الملك المعبود في تكملة المنهل المورود 2/ 20.

أما رأس المال فلصاحبه. 9 - مراعاة حق النساء، ومعاشرتهن بالمعروف، وقد جاءت أحاديث كثيرة بذلك جمعها النووي أو معظمها في رياض الصالحين. 10 - وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وجواز تأديبها إذا أتت بما يقتضي التأديب لكن بالشروط والضوابط التي جاءت بالكتاب والسنة، وأن لا يحصل منكر من أجل ذلك التأديب. 11 - الوصية بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. 12 - قوله: «لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه» ففي ذلك لام الأمر، والمعنى خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال، والأفعال، والهيئات هي أمور الحج وصفته

وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها، واحفظوها واعملوا بها، وعلموها الناس، وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬1). 13 - وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «لَعَلِّي لا أحج بعد حجتي هذه» إشارة إلى توديعهم، وإعلامهم بقرب وفاته صلى الله عليه وسلم، وحثهم على الأخذ عنه، وانتهاز الفرصة وملازمته، وبهذا سميت حجة الوداع. 14 - الحث على تبليغ العلم ونشره، وأن الفهم ليس شرطًا في الأداء، وأنه قد يأتي في الآخر من يكون أفهم ممن تقدم ولكن بقلة، وأن الأفضل أن يكون الخطيب على مكان مرتفع؛ ليكون أبلغ في سماع الناس ورؤيتهم له. 15 - استخدام السؤال ثم السكوت والتفسير يدل ¬

(¬1) البخاري برقم 7246.

على التفخيم، والتقرير والتنبيه. 16 - الأمر بطاعة ولي الأمر مادام يقود الناس بكتاب الله تعالى، وإذا ظهرت منه بعض المعاصي والمنكرات، وُعِظَ وَذُكِّر بالله وخُوِّف به لكن بالحكمة والأسلوب الحسن. 17 - الوصية بطاعة الله، والصلاة، والزكاة، والصيام، وأنه لا فرق بين أصناف الناس إلا بالتقوى. 18 - معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الظاهرة الدالة على صدقه، وذلك بسماع الناس لخطبته يوم النحر وهم في منازلهم (¬1) فقد فتح الله أسماعهم كلهم لها. 19 - الضحية سنه مؤكدة على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهي في حق الحاج وغير الحاج فلا يجزئ عنها الهدي، وإنما هي سنة مستقلة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعد أن ¬

(¬1) البخاري, برقم 4406، ومسلم، برقم 1679.

خطب الناس بمنى انقلب فذبح كبشين أملحين (¬1) وهذا غير الهدايا التي نحرها بيده وأشرك عليًّا في الهدي وأمره بنحر الباقي من البدن. ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 3/ 574, 577, وشرح النووي 8/ 422 - 434 و9/ 51 - 52 و11/ 182, وفتح الملك المعبود في تكملة المنهل المورود شرح سنن أبي داود 2/ 20 و2/ 54, 2/ 99 - 206.

المبحث الثالث والعشرون توديعه للأحياء والأموات صلى الله عليه وسلم

المبحث الثالث والعشرون توديعه للأحياء والأموات صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون، غدًا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» (¬1). وفي رواية أنه قال صلى الله عليه وسلم: «فإن جبريل أتاني. . فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قالت عائشة: يا رسول الله، كيف أقول لهم؟ قال: قولي: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» (¬2). وقد ذكر الإمام الأُبِّي رحمه الله تعالى أن خروجه هذا ¬

(¬1) البقيع هو مدفن أهل المدينة, وسمي بقيع الغرقد, لغرقد كان فيه, وهو ما عظم من العوسج. انظر: شرح النووي 7/ 46, وشرح الأبي على مسلم 3/ 390. (¬2) أخرجه مسلم برقم 974.

كان في آخر عمره صلى الله عليه وسلم (¬1) وهذا والله أعلم يدل على توديعه للأموات كما فعل مع شهداء أحد؛ ولهذا والله أعلم كان يخرج في الليل ويقف في البقيع يدعو لهم كما قالت عائشة رضي الله عنها: «ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات ثم انحرف. . .» (¬2). وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يومًا فصلى على قتلى أُحد صلاة الميت (¬3) بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع على المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإن موعدكم الحوض، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن من مقامي هذا، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح ¬

(¬1) انظر: شرح الأبي على صحيح مسلم 3/ 388, وفتح الباري 7/ 349. (¬2) مسلم برقم 974. (¬3) الأحاديث الصحيحة دلت أن شهداء المعركة لا يصلى عليهم, أما هذا الحديث فكأنه - صلى الله عليه وسلم - دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعاً لهم بذلك, كما ودع أهل البقيع بالاستغفار لهم. انظر: فتح الباري 3/ 210 و7/ 349 ورجح ذلك العلامة ابن باز في تعليقه على فتح الباري 6/ 611.

الدروس والفوائد والعبر

الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي (¬1) ولكني أخاف عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها [وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم] قال عقبة: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [على المنبر]» (¬2). فتوديعه صلى الله عليه وسلم للأحياء ظاهر؛ لأن سياق الأحاديث يشعر أن ذلك كان آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وأما توديعه للأموات فباستغفاره لأهل البقيع ودعائه لأهل أحد، وانقطاعه بجسده عن زيارتهم (¬3). [الدروس والفوائد والعبر] وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستنبطة من هذا المبحث كثيرة، منها: 1 - حرص النبي صلى الله عليه وسلم على نفع أمته، والنصح لهم في ¬

(¬1) أي لا أخاف على مجموعكم؛ لأن الشرك قد وقع من بعض أمته بعده - صلى الله عليه وسلم -. فتح الباري 3/ 211. (¬2) البخاري من الألفاظ في جميع المواضع, برقم 1344, 3596, 4042, 4085، 6426, 6590، ومسلم برقم 2296, وما بين المعكوفين من صحيح مسلم. (¬3) الفتح 7/ 349.

الحياة، وبعد الممات؛ ولهذا صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنوات، وزار أهل البقيع ودعا لهم، وأوصى الأحياء ونصحهم، ووعظهم وأمرهم ونهاهم فما ترك خيرًا إلا دلهم عليه، ولا شرًا إلا حذرهم منه. 2 - التحذير من فتنة زهرة الدنيا لمن فتحت عليه، فينبغي له أن يحذر سوء عاقبتها، ولا يطمئن إلى زخارفها، ولا ينافس غيره فيها، ويستخدم ما عنده منها في طاعة الله تعالى (¬1). ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 11/ 245.

المبحث الرابع والعشرون بداية مرضه صلى الله عليه وسلم وأمره لأبي بكر أن يصلي بالناس

المبحث الرابع والعشرون بداية مرضه صلى الله عليه وسلم وأمره لأبي بكر أن يصلي بالناس رجع صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع في ذي الحجة فأقام بالمدينة بقية الشهر، والمحرم، وصفرًا، وجهز جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فبينما الناس على ذلك ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكواه في ليال بقين من صفر: قيل في الثاني والعشرين منه، وقيل: في التاسع والعشرين، وقيل: بل في أول شهر ربيع الأول، «وقد صلى على شهداء أحد فدعا لهم كما تقدم، وذهب إلى أهل البقيع وسلم عليهم ودعا لهم مودعًا لهم، ثم رجع مرة من البقيع فوجد عائشة وهي تشتكي من صداع برأسها وهي تقول: وارأساه. فقال: " بل أنا والله يا عائشة وارأساه". قالت عائشة رضي الله عنها: ثم قال: " وما ضرك لو متِ قبلي فقمت عليك وكفنتك، وصلَّيت عليك، ودفنتك " قالت: قلت: والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك. قالت:

" فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1) وتتام به وجعه حتى استعزبه (¬2) وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي (¬3). وأول ما اشتدَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه في بيت ميمونة رضي الله عنها فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها (¬4) فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذنَّ له فخرج وهو بين رجلين تخط ¬

(¬1) ابن هشام بسند ابن إسحاق, انظر: سيرة ابن هشام 4/ 320, وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/ 224, وفتح الباري 8/ 129 - 130, وأخرجه أحمد 6/ 144 و228 لابن ماجه, والبيهقي, وقال الألباني: إن ابن إسحاق قد صرح بالتحديث في رواية ابن هشام فثبت الحديث والحمد لله. أحكام الجنائز ص 50. (¬2) استعزبه: اشتد عليه وغلبه على نفسه. (¬3) انظر: سيرة ابن هشام 4/ 320 والبداية والنهاية لا بن كثير 5/ 223 - 231, وقيل: كان ذلك في التاسع والعشرين من شهر صفر يوم الأربعاء, فبقي في مرضه ثلاثة عشر يوماً وهذا قول الأكثر. انظر: الفتح 8/ 129. (¬4) صحيح مسلم برقم 418, وانظر: فتح الباري 8/ 129.

رجلاه في الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر» (¬1) وكانت عائشة رضي الله عنها تحدث «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا دخل بيتي واشتد به وجعه قال: هَرِيقوا (¬2) عليَّ من سبع قرب (¬3) لم تُحْلَلْ أوكيتهن لعلي أعهد (¬4) إلى الناس، فأجلسناه في مِخضَب (¬5) لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ثم طفقنا (¬6) نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن، ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم» (¬7). ¬

(¬1) هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كما قال ابن عباس في آخر حديث البخاري رقم 687 ومسلم برقم 418. (¬2) وفي رواية: أهريقوا: أي أريقوا وصبوا. الفتح 1/ 303. (¬3) هذا من باب التداوي؛ لأن لعدد السبع دخولاً في كثير من أمور الشريعة, وأصل الخلقة, وفي رواية لهذا الحديث عند الطبراني: (( ... من آبار شتى)). الفتح 1/ 303 و8/ 141. (¬4) أعهد: أي أوصي. الفتح 1/ 303. (¬5) المخضب: هو إناء نحو المركن الذي يغسل فيه وتغسل فيه الثياب من أي جنس كان. النووي 4/ 379 والفتح 1/ 301 و303. (¬6) طفقنا: أي شرعنا: يقال: طفق يفعل كذا إذا شرع في فعل واستمر فيه. الفتح 3/ 303. (¬7) البخاري برقم 198 وذكر هنا له ستة عشر موضعاً, وقد جمع بين هذه المواضع الألباني في مختصر البخاري 1/ 170, ومسلم برقم 418.

وعنها رضي الله عنها قالت: «ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أصلى الناس؟ " قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! قال: "ضعوا لي ماء في المخضب" قالت: ففعلنا. فاغتسل فذهب لينوءَ (¬1) فأُغمي عليه، ثم أفاق فقال صلى الله عليه وسلم: "أصلى الناس"؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! فقال: "ضعوا لي ماء في المخضب" قالت: ففعلنا [فقعد] فاغتسل. ثم ذهب لينوء فأُغمي عليه. ثم أفاق فقال: "أصلى الناس"؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله! فقال: "ضعوا لي ماء في المخضب" ففعلنا [فقعد] فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: "أصلى الناس"؟ فقلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ¬

(¬1) لينوء: أي لينهض بجهد. الفتح 2/ 174.

أبي بكر؛ ليصلي بالناس، فأتاه الرسول (¬1) فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس. فقال أبو بكر - وكان رجلًا رقيقًا - يا عمر! صلِّ بالناس. فقال له عمر: أنت أحقُّ بذلك. قالت: فصلَّى بهم أبو بكر تلك الأيام. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خِفَّة فخرج بين رجلين - أحدهما العباس (¬2) - لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يتأخر، وقال لهما: "أجلساني إلى جنبه" فأجلساه إلى جنب أبي بكر، فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد» (¬3). وهذا صريح في أن هذه الصلاة هي ¬

(¬1) أي الذي أرسله إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصلي بالناس. (¬2) والآخر علي - رضي الله عنه - كما تقدم. (¬3) البخاري برقم 687 ومسلم برقم 418 وقد اخترت بعض الألفاظ من البخاري وبعضها من مسلم.

صلاة الظهر (¬1). وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يكون أبو بكر هو الإمام وردد الأمر بذلك مرارًا، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما ثَقُل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: "مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس" فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف (¬2) وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر؟ فقال: "مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس" قالت: فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى ¬

(¬1) وزعم بعضهم أنها الصبح, واستدل برواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس: ((وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القراءة من حيث بلغ أبو بكر, وهذا لفظ ابن ماجه وإسناده حسن؛ لكن في الاستدلال به نظر؛ لاحتمال أن يكون - صلى الله عليه وسلم - سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي انتهى إليها أبو بكر خاصة, وقد كان هو يسمع الآية أحياناً في الصلاة السرية كما في حديث أبي قيادة, ثم لو سلم لم يكن فيه دليل على أنها الصبح بل يحتمل أن تكون المغرب فقد ثبت في الصحيحين من حديث أم الفضل قالت: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفاً, ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله) البخاري برقم 763 و4429, ومسلم برقم 462 قال ابن حجر: لكن وجدت في النسائي أن هذه الصلاة التي ذكرتها أم الفضل كانت في بيته وقد صرح الشافعي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلِّ بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرة واحدة وهي هذه التي صلى فيها قاعداً وكان أبو بكر فيها أولاً إماماً ثم صار مأموماً يسمع الناس التكبير. انظر: الفتح 2/ 175. (¬2) أسيف: شديد الحزن: والمراد أنه رقيق القلب إذا قرأ غلبه البكاء فلا يقدر على القراءة. فتح الباري 2/ 152, 165, 203.

يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر، فقالت له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكنَّ لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس" فقالت حفصة لعائشة: [ما كنت لأصيب منك خيرًا]. قالت عائشة: فأمروا أبا بكر يصلي بالناس فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض، حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم مكانك" فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالسًا وأبو بكر قائمًا يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر» (¬1). ¬

(¬1) البخاري برقم 713 , 2/ 204 ومسلم برقم 418, قول حفصة رضي الله عنها:= = ما كنت لأصيب منك خيراً. البخاري برقم 679.

والسبب الذي جعل عائشة رضي الله عنها تراجع النبي صلى الله عليه وسلم في إمامة أبي بكر بالصلاة هو ما بيَّنَتْه في رواية أخرى قالت رضي الله عنها: «لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلًا قام مقامه أبدًا، ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر» (¬1)؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لها ولحفصة: «إنكن لأنتن صواحب يوسف» (¬2). قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (وتقديمه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر معلوم بالضرورة من دين الإسلام وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة، وأقرؤهم لما ثبت في الصحيح: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله. .» (¬3) الحديث. نعم قد اجتمعت ¬

(¬1) البخاري برقم 198, و4445, ومسلم برقم 418 رواية 93. (¬2) البخاري برقم 713, مسلم برقم 418 وتقدم تخريجه. (¬3) مسلم برقم 673.

الدروس والفوائد والعبر

في أبي بكر هذه الصفات رضي الله عنه. . .) (¬1). [الدروس والفوائد والعبر] وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها: 1 - استحباب زيارة قبور الشهداء بأحد وقبور أهل البقيع والدعاء لهم بشرط عدم شد الرحال، وعدم إحداث البدع. 2 - جواز تغسيل الرجل زوجته وتجهيزها والزوجة كذلك. 3 - جواز استئذان الرجل زوجاته أن يُمرَّض في بيت إحداهن إذا كان الانتقال يشق عليه، وإذا لم يأذنَّ فحينئذ يقرع بينهن. ¬

(¬1) البداية والنهاية 5/ 234 وروى البيهقي عن أنس - رضي الله عنه - أنه كان يقول: ((آخر صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع القوم في ثوب واحد ملتحفاً به خلف أبي بكر)) قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية 5/ 234: ((وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح)) ورجح العلامة ابن باز رحمه الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلِّ خلف أحد من أمته إلا عبد الرحمن بن عوف. قلت: أما الصلاة التي صلاها مع أبي بكر فإنه هو الإمام كما تقدم والله أعلم.

4 - جواز المرض والإغماء على الأنبياء بخلاف الجنون فإنه لا يجوز عليهم؛ لأنه نقص، والحكمة من مرض الأنبياء؛ لتكثير أجرهم، ورفع درجاتهم، وتسلية الناس بهم؛ ولئلا يفتتن الناس بهم فيعبدونهم؛ لما يظهر على أيديهم من المعجزات والآيات البينات، وهم مع ذلك لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا إلا ما شاء الله. 5 - استحباب الغسل من الإغماء؛ لأنه ينشط ويزيل أو يخفف الحرارة. 6 - إذا تأخر الإمام تأخرًا يسيرًا ينتظر، فإذا شق الانتظار صلى أعلم الحاضرين. 7 - فضل أبي بكر وترجيحه على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وتنبيهه وتنبيه الناس أنه أحق بالخلافة من غيره؛ لأن الصلاة بالناس للخليفة؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: (رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا).

8 - إذا عرض للإمام عارض أو شغل بأمر لا بد منه منعه من حضور الجماعة فإنه يستخلف من يصلي بهم ويكون أفضلهم. 9 - فضل عمر رضي الله عنه؛ لأن أبا بكر وثق به، ولهذا أمره أن يصلي ولم يعدل إلى غيره. 10 - جواز الثناء والمدح في الوجه لمن أُمِنَ عليه الإعجاب والفتنة؛ لقول عمر رضي الله عنه: (أنت أحق بذلك). 11 - دفع الفضلاء الأمور العظيمة عن أنفسهم إذا كان هناك من يقوم بها على وجه مقبول. 12 - يجوز للمُسْتَخْلَفِ في الصلاة ونحوها أن يستخلف غيره من الثقات لقول أبي بكر: (صلِّ يا عمر). 13 - الصلاة من أهم ما يسأل عنه. 14 - فضل عائشة رضي الله عنها على جميع أزواج

النبي صلى الله عليه وسلم الموجودات ذلك الوقت وهن تسع إحداهن عائشة رضي الله عنهن. 15 - جواز مراجعة ولي الأمر على سبيل العرض والمشاورة والاستشارة بما يظهر أنه مصلحة، لكن بعبارة لطيفة تحمل الحكمة وحسن الأسلوب. 16 - جواز وقوف المأموم بجنب الإمام لحاجة أو مصلحة: كإسماع المأمومين التكبير في الجم الغفير الذين لا يسمعون الصوت، أو ضيق المكان، أو علة أخرى كصلاة المرأة بالنساء، أو المنفرد مع الإمام، أو إمام العراة. 17 - جواز رفع الصوت بالتكبير فينقل المبلغ للناس صوت الإمام إذا لم يسمع الناس تكبير الإمام. 18 - التنبيه على الحرص على حضور الصلاة مع الجماعة إلا عند العجز التام عن ذلك. 19 - الأعلم والأفضل أحق بالإمامة من العالم والفاضل.

20 - إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالسًا صلَّى الناس جلوسًا، وإذا صلَّى قائمًا صلوا قيامًا. 21 - البكاء في الصلاة من خشية الله لا حرج فيه لكن لا يتكلف ذلك ولا يطلبه، فإذا غلبه البكاء في الصلاة بدون اختياره فلا حرج (¬1). ¬

(¬1) انظر: شرح النووي 4/ 379 - 386 , وشرح الأبي 2/ 301 - 302, وفتح الباري 2/ 151, 152, 164 و166, 173, 203, 206.

المبحث الخامس والعشرون خطبته العظيمة ووصيته للناس صلى الله عليه وسلم

المبحث الخامس والعشرون خطبته العظيمة ووصيته للناس صلى الله عليه وسلم خطب صلى الله عليه وسلم أصحابه في يوم الخميس قبل أن يموت بخمسة أيام خطبة عظيمة بيَّن فيها فضل الصدِّيق من سائر الصحابة، مع ما قد كان نص عليه أن يؤم الصحابة أجمعين، ولعل خطبته هذه كانت عوضًا عما أراد أن يكتبه في الكتاب، وقد اغتسل عليه الصلاة والسلام بين يدي هذه الخطبة العظيمة، فصبوا عليه من سبع قرب لم تُحلل أوكيتهن، وهذا من باب الاستشفاء بعدد السبع كما وردت به الأحاديث (¬1) والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل ثم خرج وصلى بالناس ثم خطبهم. قال جندب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل (¬2)؛ فإن الله تعالى قد ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/ 228. (¬2) الخُلَّة: الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خِلاله؛ أي في باطنه, وهي أعلى المحبة الخالصة, والخليل: الصديق الخالص؛ وإنما قال ذلك - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن خلته كانت مقصورة على حب الله تعالى فليس فيها لغيره متسع ولا شركة من محاب = = الدنيا والآخرة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 72, والمصباح المنير 1/ 180, وشرح النووي 5/ 16, شرح الأبي 2/ 426.

اتخذني خليلًا، كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك» (¬1). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله خيَّر عبدًا بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عند الله"، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: فديناك بآبائنا وأُمهاتنا، فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبدٍ خيَّرَه الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو [العبد] المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " [يا أبا بكر لا تبكي] إن من أمنِّ الناس عليَّ في ¬

(¬1) مسلم برقم 532.

الدروس والفوائد والعبر

صحبته وماله (¬1) أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أُخوَّةُ الإسلام، ومودته، لا يَبْقَينَّ في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر» (¬2). [الدروس والفوائد والعبر] وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها: 1 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب إلا باب أبي بكر من جملة الإشارات التي تدل على أنه هو الخليفة. 2 - فضل أبي بكر رضي الله عنه وأنه أعلم الصحابة رضي الله عنهم، ومن كان أرفع في الفهم استحق أن يطلق عليه أعلم، وأنه أحب الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 - الترغيب في اختيار ما في الآخرة على ما في الدنيا، وأن الرغبة في البقاء في الدنيا وقتًا من الزمن إنما هي ¬

(¬1) معناه: أكثرهم جوداً لنا بنفسه وماله, انظر: فتح الباري 1/ 559, وشرح النووي 15/ 160. (¬2) البخاري برقم 466, 3654, 3904, ومسلم برقم 2382.

للرغبة في رفع الدرجات في الآخرة وذلك بالازدياد من الحسنات لرفع الدرجات. 4 - شكر المحسن والتنويه بفضله وإحسانه والثناء عليه؛ لأن من لم يشكر الناس لا يشكر الله تعالى. 5 - التحذير من اتخاذ المساجد على القبور وإدخال القبور في المساجد أو وضع الصور فيها، ولعن من فعل ذلك، وأنه من شرار الخلق عند الله كائنًا من كان (¬1). 6 - حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من النفس والولد والوالد والناس أجمعين ولهذا يفدونه بآبائهم وأمهاتهم. ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 1/ 559, 7/ 14, 16, والنووي 15/ 16.

المبحث السادس والعشرون اشتداد مرضه صلى الله عليه وسلم ووصيته في تلك الشدة

المبحث السادس والعشرون اشتداد مرضه صلى الله عليه وسلم ووصيته في تلك الشدة عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات (¬1) وينفث فلما اشتد وجعه [الذي توفي فيه] كنت أقرأ [وفي رواية أنفث] عليه بهن وأمسح بيده نفسه رجاء بركتها. قال ابن شهاب: ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه» (¬2). وفي صحيح مسلم قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي» (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم فلم يغادر منهن امرأة فجاءت ¬

(¬1) المراد بالمعوذات: قل هو الله أحد, وقل أعوذ برب الفلق, وقل أعوذ برب الناس. انظر: الفتح 8/ 131 و9/ 62. (¬2) البخاري برقم 4439, 5016, 5735, 5751, ومسلم برقم 2192 وكان يفعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - أيضاً إذا أوى إلى فراشه "فيقرأ بقل هو الله أحد, وبالمعوذتين جميعاً ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات" البخاري برقم 5748. (¬3) مسلم برقم 2192.

فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "مرحبًا بابنتي" فأجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم إنه أسرَّ إليها حديثًا فبكت فاطمة. ثم إنه سارَّها فضحكت أيضًا، فقلتُ لها ما يبكيك؟ فقالت: ما كنتُ لِأُفشي سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: ما رأيت كاليوم فرحًا أقرب من حُزْنٍ، فقلت حين بكت: أخصَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه دوننا ثم تبكين؟ وسألتها عما قال: فقالت: ما كنت لِأُفشي سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: عزمتُ عليك بما لي من الحق لما حدثتيني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: أمَّا الآن فنعم: أمَّا حين سارَّني في المرة الأولى "فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن كل عام مرة وإنه عارضه به في العام مرتين ولا أُراني (¬1) إلا قد حضر أجلي فاتقي الله واصبري فإنه نعم السلف أنا لك"، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي ¬

(¬1) أي لا أظن ..

سارني الثانية فقال: "يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة؟ " قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت» (¬1) وفي رواية: «فأخبرني أني أول من يتبعه من أهله فضحكت» (¬2). فكان سبب ضحكها رضي الله عنها أنها سيدة نساء المؤمنين، وأول من يلحق به من أهله، وسبب البكاء أنه أخبرها بموته صلى الله عليه وسلم. قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (وروى النسائي في سبب الضحك الأمرين) (¬3) أي بشارتها بأنها سيدة نساء هذه الأمة، وكونها أول من يلحق به من أهله. وقد اتفقوا على أن فاطمة رضي الله عنها أول من مات من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعده حتى من أزواجه (¬4). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيتُ أحدًا أشدَّ ¬

(¬1) البخاري برقم 4433, 4434, ومسلم برقم 2450, واللفظ لمسلم. (¬2) البخاري برقم 4433, 4434, ومسلم 2450. (¬3) انظر: فتح الباري 8/ 138. (¬4) انظر: فتح الباري 8/ 136.

عليه الوجع (¬1) من رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك (¬3) فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكًا شديدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجلْ إني أُوعك كما يوعك رَجُلان منكم، قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه [شوكة فما فوقها] إلا حط الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها» (¬4). وعن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: ¬

(¬1) المراد بالوجع: المرض, والعرب تسمي كل مرض وجعاً. انظر: الفتح 10/ 111, وشرح النووي 16/ 363. (¬2) البخاري برقم 5646, ومسلم برقم 2570. (¬3) يوعك: قيل الحمى, وقيل ألمها , وقيل إرعادها الموعوك وتحريكها إياه. الفتح 10/ 111. (¬4) البخاري مع الفتح 10/ 111 برقم 5647, 5648, 5660, 5661, 5667, ومسلم 4/ 1991 برقم 2571 واللفظ له إلا ما بين المعكوفين.

«لما نُزِلَ (¬1) برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق (¬2) يطرح خميصة (¬3) له على وجهه فإذا اغتم (¬4) كشفها عن وجهه وهو كذلك يقول: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يُحذِّرُ ما صنعوا» (¬5). وعن عائشة رضي الله عنها «أنهم تذاكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فذكرت أمُّ سلمة وأمُّ حبيبة كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أولئِكِ إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئِكِ شرار الخلق عند الله ¬

(¬1) نُزِل: أي لما حضرت المنية والوفاة. انظر: شرح السنوسي على صحيح مسلم بهامش الأبي 2/ 425, وفتح الباري 1/ 532. (¬2) طفق: أي شرع وجعل, انظر: شرح النووي 5/ 16, وشرح الأبي 2/ 425, حاشية السنوسي, وفتح الباري 1/ 532. (¬3) خميصة: كساء له أعلام. (¬4) اغتم: تسخن بالخميصة وأخذ بنفسه من شدة الحرارة. (¬5) البخاري مع الفتح 8/ 140 برقم 4443، 4444, ومسلم برقم 531.

يوم القيامة» (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها أيضًا قالت: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت: فلولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أني أخشى أن يُتخذ مسجدًا» (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» (¬3). وعن أنس رضي الله عنه قال: «لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه (¬4) ¬

(¬1) البخاري برقم 427 و434, 1341, 3878, ومسلم برقم 528. (¬2) البخاري برقم 435, 1330، 1390, 3453, 4441, 4443, 5815, ومسلم برقم 529 ولفظ مسلم ((غير أنه خُشِيَ)) , وعند البخاري برقم 1390 ((غير أنه خَشِيَ أو خُشِيَ)). (¬3) أبو داود 2/ 218, برقم 2042، وأحمد 2/ 367, وانظر صحيح أبي داود 1/ 383. (¬4) يتغشاه: يغطيه ما اشتدّ به من مرض فيأخذ بنفسه ويغمه.

الدروس والفوائد والعبر

فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أباه (¬1) فقال لها: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم" فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه (¬2). فلما دُفن قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس! أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟» (¬3). [الدروس والفوائد والعبر] وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة ومنها: 1 - استحباب الرقية بالقرآن، وبالأذكار، وإنما جاءت الرقية بالمعوذات؛ لأنها جامعة للاستعاذة من كل المكروهات جملة وتفصيلًا، ففيها الاستعاذة من شر ما خلق الله عز وجل، فيدخل في ذلك كل شيء، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر السواحر، ومن شر ¬

(¬1) لم ترفع صوتها رضي الله عنها بذلك, وإلا لنهاها - صلى الله عليه وسلم -. انظر: الفتح 8/ 149. (¬2) ننعاه: نَعَى الميت إذا أذاع موته وأخبر به. (¬3) البخاري برقم 4462.

الحاسدين، ومن شر الوسواس الخناس (¬1). 2 - عناية النبي صلى الله عليه وسلم ببنته فاطمة ومحبته لها؛ ولهذا قال: "مرحبًا بابنتي" وقد جاءت الأخبار أنها كانت إذا دخلت عليه قام إليها وقبَّلها، وأجلسها في مجلسه، وإذا دخل عليها فعلت ذلك رضي الله عنها، فلما مرض دخلت عليه وأكبَّتْ عليه تقبله (¬2). 3 - يؤخذ من قصة فاطمة رضي الله عنها أنه ينبغي العناية بالبنات، والعطف عليهن، والإحسان إليهن، ورحمتهن، وتربيتهن التربية الإسلامية، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يختار لها الزوج الصالح المناسب. 4 - عناية الولد بالوالد كما فعلت فاطمة رضي الله عنها، فيجب على الولد أن يحسن إلى والديه، ويعتني ببرهما، ولا يعقهما، فيتعرض لعقوبة الله تعالى. ¬

(¬1) انظر: شرح النووي 14/ 433, والأبي 7/ 375. (¬2) انظر: فتح الباري 8/ 135, 136.

5 - معجزة النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على صدقه وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أنه أخبر أن فاطمة أول من يلحقه من أهله، فكانت أول من مات من أهله بالاتفاق. 6 - سرور أهل الإيمان بالانتقال إلى الآخرة، وإيثارهم حب الآخرة على الدنيا لحبهم للقاء الله تعالى، ولكنهم لا يتمنون الموت لضر نزل بهم؛ لرغبتهم في الإكثار من الأعمال الصالحة؛ لأن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث كما بين النبي عليه الصلاة والسلام. 7 - المريض إذا قَرُبَ أجله ينبغي له أن يوصي أهله بالصبر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة: "فاتقي الله واصبري". 8 - فضل فاطمة رضي الله عنها وأنها سيدة نساء المؤمنين. 9 - المرض إذا احتسب المسلم ثوابه، فإنه يكفر الخطايا، ويرفع الدرجات، وتزاد به الحسنات، وذلك عام في الأسقام، والأمراض ومصائب الدنيا، وهمومها

وإن قَلَّت مشقتها، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أشد الناس بلاء، ثم الأمثل فالأمثل؛ لأنهم مخصوصون بكمال الصبر والاحتساب، ومعرفة أن ذلك نعمة من الله تعالى ليتم لهم الخير ويضاعف لهم الأجر، ويظهر صبرهم ورضاهم، ويُلحق بالأنبياء الأمثل فالأمثل من أتباعهم؛ لقربهم منهم وإن كانت درجتهم أقل، والسر في ذلك والله أعلم أن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد؛ ولهذا ضوعف حد الحُرِّ على حد العبد، وقال الله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] والقوي يُحمَّل ما حمل، والضعيف يرفق به، إلا أنه كلما قويت المعرفة هان البلاء، ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء، وأعلى من ذلك من يرى أن هذا

تصرف المالك في ملكه فَيُسلِّم ويرضى ولا يعترض (¬1). 10 - التحذير من بناء المساجد على القبور ومن إدخال القبور والصور في المساجد، ولعن من فعل ذلك، وأنه من شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة، وهذا من أعظم الوصايا التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بخمسة أيام (¬2). ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 8/ 136, و10/ 112, و3/ 208. (¬2) انظر: فتح الباري 8/ 136, و10/ 112, و3/ 208.

المبحث السابع والعشرون وصايا النبي صلى الله عليه وسلم عند موته

[المبحث السابع والعشرونوصايا النبي صلى الله عليه وسلمعند موته] [وصايا النبي صلى الله عليه وسلم] المبحث السابع والعشرون وصايا النبي صلى الله عليه وسلم عند موته عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يوم الخميس وما يوم الخميس (¬1) «اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: ائتوني أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي التنازع [فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله،] [فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قوموا] وفي رواية: دعوني فالذي أنا فيه خير (¬2) مما ¬

(¬1) يوم الخميس وما يوم الخميس؛ معناه: تفخيم أمره في الشدة والمكروه, والتعجب منه , وفي رواية في أواخر كتاب الجهاد عند البخاري: ((ثم بكى حتى خضب دمعه الحصى)). وفي رواية لمسلم: ((ثم جعلت تسيل دموعه حتى رأيتها على خديه ... )) انظر: فتح الباري 8/ 132، وشرح النووي على صحيح مسلم. (¬2) المعنى: دعوني من النزاع والاختلاف الذي شرعتم فيه فالذي أنا فيه من مراقبة الله تعالى والتأهب للقائه, والفكر في ذلك خير مما أنتم فيه, أو فالذي أعانيه من كرامة= = الله تعالى الذي أعدها لي بعد فراق الدنيا خير مما أنا فيه من الحياة .. وقيل غير ذلك. انظر: فتح الباري 8/ 134, وشرح النووي.

تدعونني إليه، أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به، (¬1) وسكت عن الثالثة أو قال: فأنسيتها» (¬2) قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وأوصاهم بثلاث" أي في تلك الحالة، وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتبه صلى الله عليه وسلم لم يكن أمرًا متحتمًا؛ لأنه لو كان مما أُمر بتبليغه لم يتركه لوقوع اختلافهم ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه، ولبلَّغه لهم لفظًا كما أوصاهم بإخراج المشركين (¬3) وغير ذلك، وقد عاش بعد هذه المقالة أيامًا وحفظوا عنه أشياء لفظًا فيحتمل أن يكون مجموعها ما أراد أن يكتبه والله أعلم (¬4). ¬

(¬1) وأجيزوا الوفد: أي أعطوهم, والجائزة العطية, وهذا أمر منه - صلى الله عليه وسلم - بإجازة الوفود وضيافتهم وإكرامهم تطييباً لنفوسهم وترغيباً لغيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم, وإعانة لهم على سفرهم. انظر: فتح الباري 7/ 135 وشرح النووي. (¬2) البخاري برقم 4431, 4432, ومسلم برقم 1637 .. (¬3) وهذه الوصية وإن كانت لعموم الأمة، فليس لكل أحد أن يقوم بإخراج المشركين بنفسه من جزيرة العرب، إنما الأمر راجع لولي أمر المسلمين، وهو الذي يقوم به عندما يرى مناسبته. (¬4) فتح الباري 8.

والوصية الثالثة في هذا الحديث يحتمل أن تكون الوصية بالقرآن، أو الوصية بتنفيذ جيش أسامة رضي الله عنه. أو الوصية بالصلاة وما ملكت الأيمان، أو الوصية بأن لا يتخذ قبره صلى الله عليه وسلم وثنًا يُعبد من دون الله، وقد ثبتت هذه الوصايا عنه صلى الله عليه وسلم (¬1). وعن عبد الله بن أبي أوْفَى رضي الله عنه «أنه سُئِلَ هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. . . قال: أوصى بكتاب الله عز وجل» (¬2). والمراد بالوصية بكتاب الله: حفظه حسًّا ومعنى، فيكرم ويصان، ويتبع ما فيه: فيعمل بأوامره، ويجتنب نواهيه، ويداوم على تلاوته وتعلمه وتعليمه ونحو ذلك (¬3). وقد أوصى صلى الله عليه وسلم بكتاب الله تعالى في مناسبات كثيرة: منها أنه صلى الله عليه وسلم أوصى به في خطبته في عرفات (¬4) وفي خطبته ¬

(¬1) فتح الباري 8. (¬2) مسلم برقم 1634، البخاري برقم 2740، 4460، 5022. (¬3) الفتح 9. (¬4) مسلم، برقم 1218.

في منى (¬1) وعندما رجع من مكة في غدير خم قال: «. . . وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، [هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة] فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي. . .» ثلاث مرات (¬2) وأوصى بكتاب الله تعالى عند موته صلى الله عليه وسلم (¬3). وأمر صلى الله عليه وسلم وأوصى بإنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى أنه كان تجهيز جيش أسامة يوم السبت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بيومين، وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر، ودعا أسامة وقال: " سِرْ إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش. . . " فبدأ برسول ¬

(¬1) مسند أحمد، 2/ 368. (¬2) صحيح مسلم برقم 2408. (¬3) البخاري، برقم 2740، ومسلم، برقم 1634، ورقم 2408.

الله صلى الله عليه وسلم وجعه في اليوم الثالث فعقد لأسامة لواء بيده فأخذه أسامة، وكان ممن انتدب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار، ثم اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: "أنفذوا جيش أسامة " فجهزه أبو بكر بعد أن استخلف فسار عشرين ليلة إلى الجهة التي أمر بها، وقتل قاتل أبيه ورجع الجيش سالمًا وقد غنموا. . " (¬1). عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثًا وأمَّر عليهم أسامة بن زيد فطعن بعض الناس في إمارته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقًا للإمارة (¬2) وإن كان لمن أحبِّ الناس إليَّ، وإنَّ هذا لمن أحبِّ الناس إليَّ بعده» (¬3). وقد كان عُمْرُ أسامة رضي الله عنه حين ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 8/ 152, وسيرة ابن هشام 4/ 328. (¬2) خليقاً: حقيقاً بها. النووي 15/ 205. (¬3) البخاري 7/ 86, برقم 3730, 4250, 4468, 4469, 6627, 7187, ومسلم برقم 2426.

الدروس والفوائد والعبر

توفي النبي صلى الله عليه وسلم ثمان عشرة سنة (¬1). وأوصى صلى الله عليه وسلم بالصلاة وما ملكت الأيمان، فعن أنس رضي الله عنه قال: «كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره ولا يكاد يفيض بها لسانه» (¬2). وعن علي رضي الله عنه قال: «كان آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» (¬3). [الدروس والفوائد والعبر] وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة ومنها: 1 - وجوب إخراج المشركين من جزيرة العرب؛ لأن ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 15/ 205. (¬2) أحمد بلفظه 3/ 117, وإسناده صحيح, ورواه ابن ماجه 2/ 900, وانظر صحيح ابن ماجه 2/ 109. (¬3) أخرجه ابن ماجه 2/ 901, برقم 1625، وأحمد برقم 585, وانظر: صحيح ابن ماجه 2/ 109.

النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك عند موته، وقد أخرجهم عمر رضي الله عنه في بداية خلافته، أما أبو بكر فقد انشغل بحروب الردة. 2 - إكرام الوفود وإعطاؤهم ضيافتهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك. 3 - وجوب العناية بكتاب الله حسًّا ومعنى: فيكرم، ويصان، ويتبع ما فيه، فيعمل بأوامره ويجتنب نواهيه، ويداوم على تلاوته، وتعلمه وتعليمه ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى به في عدة مناسبات، فدل ذلك على أهميته أهمية بالغة مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم. 4 - أهمية الصلاة؛ لأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ ولهذا أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم عند موته أثناء الغرغرة. 5 - القيام بحقوق المماليك والخدم ومن كان تحت الولاية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك فقال: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم».

6 - فضل أسامة بن زيد حيث أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على جيش عظيم فيه الكثير من المهاجرين والأنصار، وأوصى بإنفاذ جيشه (¬1). 7 - فضل أبي بكر حيث أنفذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش أسامة فبعثه؛ لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 8/ 134 - 135 و9/ 67.

المبحث الثامن والعشرون اختياره صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى

المبحث الثامن والعشرون اختياره صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخيَّر بين الدنيا والآخرة، فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وأخذته بُحَّةٌ (¬1) [شديدة] يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] قالت: فظننته خُيِّر حينئذ» (¬2). وفي رواية عنها رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يُرى مقعده من الجنة ثم يخيَّر" قالت: فلما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3) ورأسه على فخذي غُشِيَ عليه ساعة ثم أفاق ¬

(¬1) البُحةُ: غِلظٌ في الصوت. انظر: شرح النووي 15/ 219. (¬2) البخاري برقم 4436, 4437, 4463, 4586، 6348, 6509, ومسلم برقم 2444. (¬3) وفي البخاري ((فلما اشتكى وحضره القبض)) رقم 4437.

فأشخص بصرهُ إلى السقف ثم قال: "اللهم في الرفيق الأعلى" فقلت: إذًا لا يختارنا، وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح، قالت: فكان آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم الرفيقَ الأعلى» (¬1). وقالت رضي الله عنها: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسند إليَّ ظهره يقول: اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى» (¬2) وكان صلى الله عليه وسلم متصل بربه وراغبًا فيما عنده، ومُحبًّا للقائه، ومُحبًّا لما يُحبُّه سبحانه، ومن ذلك السواك؛ لأنه مطهرة للفم مرضاة للرب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن من نعم الله عليَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري (¬3) ونحري (¬4) وأن الله جمع ¬

(¬1) البخاري برقم 4437, 4463 ومسلم 2444. (¬2) البخاري برقم 4440, 5664. (¬3) سحري: هو الصدر, وهو في الأصل: الرئة وما تعلق بها. الفتح 8/ 139, والنووي 15/ 218. (¬4) ونحري: النحر هو موضع النحر. الفتح 8/ 139.

بين ريقي وريقه عند موته، دخل عليَّ عبد الرحمن [بن أبي بكر] وبيده السواك وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم [إلى صدري] (¬1) فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه، وقلتُ أُليِّنه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته [وفي رواية: فقصمته، ثم مضغته (¬2) وفي رواية فقضمته ونفضته وطيبته (¬3) ثم دفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستنَّ به (¬4) فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استن استنانًا قَطُّ أحسن منه] (¬5) وبين يديه ركوة (¬6) أو علبة (¬7) فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: "لا إله إلا الله إن للموت ¬

(¬1) في البخاري رقم 4438. (¬2) في البخاري برقم 980. (¬3) طيبته: بالماء, ويتحمل أن يكون تطييبه تأكيداً للينه, الفتح 8/ 139. (¬4) أي استاك به وأَمَرَّهُ على أسنانه. (¬5) في البخاري برقم 4438. (¬6) الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء .. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 260. (¬7) شك بعض الرواة وهو عمر, انظر: الفتح 8/ 144.

الدروس والفوائد والعبر

سكرات"، ثم نصب يده فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى" حتى قبض ومالت يده» (¬1) صلى الله عليه وسلم. وقالت عائشة رضي الله عنها: «مات النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لبين حاقنتي (¬2) وذاقنتي (¬3) فلا أكره شدة الموت لأحد أبدًا بعد النبي صلى الله عليه وسلم» (¬4). [الدروس والفوائد والعبر] وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها: 1 - إن الرفيق الأعلى: هم الجماعة المذكورون في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ ¬

(¬1) البخاري 2/ 377, برقم 890, وأخرجه البخاري في تسعة مواضع, انظر: 2/ 377, ومسلم برقم 2444. (¬2) الحاقنة: ما سفل من الذقن وقيل غير ذلك, الفتح 8/ 139. (¬3) والذاقنة: ما علا من الذقن وقيل غير ذلك, الفتح 8/ 139, والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة: هو ما بين السحر والنحر, والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها. الفتح 8/ 139. (¬4) البخاري برقم 4446 , ومسلم برقم 2443.

اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] فالصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم أن المراد بالرفيق الأعلى هم الأنبياء الساكنون أعلى عليين. ولفظة رفيق تطلق على الواحد والجمع؛ لقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. (¬1) 2 - إن النبي صلى الله عليه وسلم اختار الرفيق الأعلى حين خُيِّر حُبًّا للقاء الله تعالى، ثم حُبًّا للرفيق الأعلى، وهو الذي يقول صلى الله عليه وسلم: «من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه» (¬2). 3 - فضل عائشة رضي الله عنها حيث نقلت العلم الكثير عنه صلى الله عليه وسلم، وقامت بخدمته حتى مات بين سحرها ونحرها؛ ولهذا قالت: «إن من نعم الله عليَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري». ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 8/ 138, وشرح النووي 15/ 219. (¬2) البخاري برقم 6507, ومسلم برقم 2683.

4 - عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالسواك حتى وهو في أشد سكرات الموت، وهذا يدل على تأكد استحباب السواك؛ لأنه مطهرة للفم مرضاة للرب. 5 - قول النبي صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت: «لا إله الله إن للموت سكرات» وهو الذي قد حقق لا إله إلا الله، يدل على تأكُّدِ استحبابها والعناية بها والإكثار من قولها وخاصة في مرض الموت؛ لأن «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة». 6 - حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مرافقة الأنبياء ودعاؤه بذلك يدل على أن المسلم ينبغي له أن يسأل الله تعالى أن يجمعه بهؤلاء بعد الموت في جنات النعيم، اللهم اجعلنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين. 7 - شدة الموت وسكراته العظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما بالنا بغيره.

المبحث التاسع والعشرون موت النبي صلى الله عليه وسلم شهيدا

المبحث التاسع والعشرون موت النبي صلى الله عليه وسلم شهيدًا عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام (¬1) الذي أكلت بخيبر (¬2) فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهَري (¬3) من ذلك السم» (¬4) وقد عاش صلى الله عليه وسلم بعد أكله من الشاة المسمومة بخيبر ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي قُبض فيه (¬5) وقد ذُكِرَ ¬

(¬1) ما أزال أجد ألم الطعام: أي أحس الألم في جوفي بسبب الطعام. الفتح 8/ 131. (¬2) وذلك أنه عندما فتح خيبر أُهديت له - صلى الله عليه وسلم - شاة مشوية فيها سم, وكانت المرأة اليهودية قد سألت: أي عضو من الشاة أحب إليه؟ فقيل لها الذراع فأكثرت فيها من السم, فلما تناول الذراع لاك منها مضغة ولم يسغها, وأكل معه بشر بن البراء فأساغ لقمته, ومات منها, وقال لأصحابه: أمسكوا عنها فإنها مسمومة, وقال لها: ما حملك على ذلك؟ فقالت: أردت إن كُنْتَ نبيّاً فيطلعك الله, وإن كنت كاذباً فأريح الناس منك ... انظر: فتح الباري 7/ 197, والقصة في البخاري برقم 3169, و4249, 5777, والبداية والنهاية لابن كثير 4/ 208. (¬3) الأبهر عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه. الفتح 8/ 131. (¬4) البخاري مع الفتح 8/ 131 برقم 4428 وقد وصله الحاكم والإسماعيلي. انظر: الفتح 8/ 131. (¬5) انظر: الفتح 8/ 131 فقد ساق آثاراً موصولة عند الحاكم وابن سعد. الفتح 8/ 131.

أن المرأة التي أعطته الشاة المسمومة أسلمت حينما قالت: من أخبرك؛ فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الشاة المسمومة أخبرته، وأسلمت وعفى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولًا ثم قتلها بعد ذلك قصاصًا ببشر بن البراءة بعد أن مات رضي الله عنه (¬1) وقد ثبت الحديث متصلًا أن سبب موته صلى الله عليه وسلم هو السم، فعن أبي سلمة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة فأهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية سمَّتها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأكل القوم فقال: "ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة" فمات بشر بن البراء ابن معرور الأنصاري، فأرسل إلى اليهودية: "ما حملك على الذي صنعت"؟ قالت: إن كنت نبيًّا لم يضرك الذي صنعت، وإن كنت ملكًا أرحت الناس منك "فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت" ثم قال في وجعه الذي مات فيه: "ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر فهذا أوان ¬

(¬1) انظر: التفصيل في فتح الباري 7/ 497, والبداية والنهاية لابن كثير 4/ 208 - 212.

انقطاع أبهري» (¬1). «وقالت أم بشر للنبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ما يتهم بك يا رسول الله؟ فإني لا أتهم بابني إلا الشاة المسمومة التي أكل معك بخيبر: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنا لا أتهم بنفسي إلا ذلك فهذا أوان انقطاع أبهري» (¬2) وقد جزم ابن كثير رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا (¬3) ونقل: "وإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا مع ما أكرمه الله به من النبوة" (¬4) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لئن أحلف تسعًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل قتلًا أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك؛ لأن الله اتخذه نبيًّا واتخذه شهيدًا (¬5). ¬

(¬1) أبو داود برقم 4512, وقال الألباني: حسن صحيح. انظر: صحيح سنن أبي داود 3/ 855. (¬2) أبو داود برقم 4513 وصحح إسناده الألباني. انظر: صحيح سنن أبي داود 3/ 855. (¬3) انظر: البداية والنهاية 4/ 210 و211 و4/ 210 - 212 و5/ 223 - 244. (¬4) انظر: المرجع السابق 4/ 211. (¬5) ذكره ابن كثير وعزاه بإسناده إلى البيهقي. انظر: البداية والنهاية 5/ 227.

وعن أنس رضي الله عنه: «أن أبا بكر رضي الله عنه كان يصلي بهم في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف [في صلاة الفجر] ففجأهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد كشف سِترَ حجرةِ عائشة رضي الله عنها [وهم في صفوف الصلاة] وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف (¬1) ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك [وهَمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا] [برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم] [فنكص (¬2) أبو بكر رضي الله عنه على عقبيه ليصل الصف، وظنَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة] فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [بيده] أن أتموا صلاتكم [ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم] [الحجرة] وأرخى الستر فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك، ¬

(¬1) كأن وجهه ورقة مصحف: عبارة وكناية عن الجمال البارع وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته. شرح الأبي على صحيح مسلم 2/ 310. (¬2) فنكص على عقبيه: أي رجع القهقرى فتأخر, لظنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ليصلي بالناس, الفتح 2/ 165.

الدروس والفوائد والعبر

وفي رواية: [وتوفي من آخر ذلك اليوم] (¬1) وفي رواية: [لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا] (¬2) فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرًا كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا، فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يُقدر عليه حتى مات» (¬3) [الدروس والفوائد والعبر] وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها: 1 - موت النبي صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى شهيدًا؛ ¬

(¬1) وقد ذكر ابن إسحاق أنه - صلى الله عليه وسلم - مات حين اشتد الضحى, ويجمع بينهما بأن إطلاق الأخير بمعنى: ابتداء الدخول في أول النصف الثاني من النهار وذلك عند الزوال واشتداد الضحي يقع قبل الزوال ويستمر حتى يتحقق زوال الشمس, وقد جزم موسى بن عقبة عن ابن شهاب بأنه - صلى الله عليه وسلم - مات حين زاغت الشمس. الفتح 8/ 143 - 144. (¬2) ابتداء من صلاته بهم قاعد يوم الخميس كما تقدم. انظر: فتح الباري 2/ 165, والبداية 5/ 235 .. (¬3) البخاري برقم 608, 681, 754, 1205, 4448, ومسلم برقم 419 والألفاظ مقتبسة من جميع المواضع, وانظر: مختصر صحيح الإمام البخاري للألباني 1/ 174 برقم 374.

لأن الله اتخذه نبيًّا واتخذه شهيدًا صلى الله عليه وسلم. 2 - عداوة اليهود للإسلام وأهله ظاهرة من قديم الزمان فهم أعداء الله ورسله. 3 - عدم انتقام النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، بل يعفو ويصفح؛ ولهذا لم يعاقب من سمَّت الشاة المصلية، ولكنها قُتِلتْ بعد ذلك قصاصًا ببشر ابن البراء بعد أن مات بِصُنعها: 4 - معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم وهي أن لحم الشاة المصلية نطق وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسموم. 5 - فضل الله تعالى على عباده أنه لم يقبض نبيهم إلا بعد أن أكمل به الدين وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. 6 - محبة الصحابة رضي الله عنهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم حتى أنهم فرحوا فرحًا عظيمًا عندما كشف الستر في صباح يوم الاثنين وهو ينظر إليهم وصلاتهم، فأدخل الله بذلك

السرور في قلبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ناصح لأمته يحب لهم الخير؛ ولهذا ابتسم وهو في شدة المرض فرحًا وسرورًا بعملهم المبارك.

المبحث الثلاثون من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت

المبحث الثلاثون من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]. {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34]. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]. {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ - وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27]. مات محمد بن عبد الله أفضل الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم «وكان آخر كلمة تكلم بها عند الغرغرة كما قالت عائشة رضي الله عنها: أنه كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه صلى الله عليه وسلم في الماء فيمسح بها وجهه ويقول:

"لا إله إلا الله إن للموت سكرات" ثم نصب يده فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى" حتى قبض ومالت يده» (¬1) «فكان آخر كلمة تكلم بها: "اللهم في الرفيق الأعلى» (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسُّنح (¬3) فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: وقال: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنَّه الله فليقطع أيدي رجال وأرجلهم (¬4) فجاء أبو بكر رضى الله عنه [على فرسه من مسكنه بالسُّنْح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم (¬5) رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) البخاري برقم 890 وما بعدها من المواضع, ومسلم 2444. (¬2) البخاري برقم 4437, 463, ومسلم 2444. (¬3) السُّنح: العالية وهو مسكن زوجة أبي بكر - رضي الله عنه - وهو منازل بني الحارث من الخزرج بينه وبين المسجد النبوي ميل. الفتح 8/ 145 و7/ 19, 29. (¬4) أي يبعثه في الدنيا ليقطع أيدي القائلين بموته. انظر: الفتح 7/ 29. (¬5) أي قصد. الفتح 3/ 115.

وهو مغشَّى بثوب حِبرة (¬1) فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبَّله (¬2) [ثم بكى] فقال: بأبي أنت وأمي [يا نبي الله] [طبت حيًّا وميتًا والذي نفسي بيده] [لا يجمع الله عليك موتتين] (¬3) [أبدًا] [أما الموتة التي كُتبت عليك قد مُتَّها] [ثم] خرج وعمر رضى الله عنه يكلم الناس فقال: [أيها الحالف على رسلك] [اجلس] [فأبى فقال: اجلس فأبى] [فتشهد أبو بكر] [فلما تكلم أبو بكر جلس عمر] [ومال ¬

(¬1) وفي رواية للبخاري: وهو مسجَّى ببرد حبرة. البخاري برقم 1241, ومعنى مغشى ومسجى أي مغطى, وبرد حبرة: نوع من برود اليمن مخططة غالية الثمن. الفتح 3/ 115. (¬2) أي قبّله بين عينيه كما ترجم له النسائي. انظر: الفتح 3/ 115, وانظر: ما نقله ابن حجر من الروايات في أنه قبّل جبهته. الفتح 8/ 147. (¬3) قوله: لا يجمع الله عليك موتتين: فيه أقوال: قيل هو على حقيقته وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال .. ؛ لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى .. وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها, وقيل أراد لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره إذ يحيا ليسئل ثم يموت, وهذا أحسن من الذي قبله؛ لأن حياته - صلى الله عليه وسلم - لا يعقبها موت بل يستمر حيّاً والأنبياء حياتهم برزخية لا تأكل أجسادهم الأرض, ولعل هذا هو الحكمة في تعريف الموتتين ... أي المعروفتين المشهورتين الواقعتين لكل أحد غير الأنبياء. انظر: فتح الباري 3/ 114 و7/ 29 ..

إليه الناس وتركوا عمر] [فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه] وقال: [أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] [فوالله لكأن الناس لم يكونوا يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضى الله عنه فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها] [وأخبر سعيد بن المسيب] [أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت (¬1) حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى ¬

(¬1) عقِرت: دهشت وتحيرت, أما بضم العين فالمعنى هلكت. الفتح 8/ 146.

الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات] [قال: ونشج الناس (¬1) يبكون، واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منَّا أمير ومنكم أمير (¬2) فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيَّأت كلامًا قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر. ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل منَّا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب دارًا وأعربهم ¬

(¬1) نشج الناس: بكوا بغير انتحاب, والنشج ما يحصل للباكي من الغصة. انظر: الفتح 7/ 30. (¬2) إنما قالت الأنصار رضي الله عنهم: منا أمير ومنكم أمير على ما عرفوه من عادة العرب أنه لا يتأمر على القبيلة إلا من يكون منها فلما سمعوا حديث الأئمة من قريش رجعوا إلى ذلك وأذعنوا. الفتح 7/ 32.

أحسابًا (¬1) فبايعوا عمر أو أبا عبيدة فقال عمر: بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس، فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة، فقال عمر: قتله الله «(¬2). قالت عائشة رضي الله عنها: في شأن خطبة أبي بكر وعمر في يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم: فما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها، فلقد خوَّف عمر الناس وإن فيهم لنفاقًا فردهم الله بذلك، ثم لقد بصَّر أبو بكر الناس الهُدى وعرَّفهم الحق الذي عليهم وخرجوا به يتلون {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. (¬3) ¬

(¬1) أي قريش. انظر: الفتح 7/ 30. (¬2) البخاري برقم 1141, 142, 3/ 113, و3667, 3668, 7/ 19 و4452, 4453, 4454, 8/ 145. وقد جمعت هذه الألفاظ من هذه المواضع لتكتمل القصة وأسأل لله أن يجعل ذلك صواباً. (¬3) البخاري برقم 3669, 3671, والآية من سورة آل عمران, 144.

وخطب عمر ثم أبو بكر يوم الثلاثاء خطبة عظيمة مفيدة نفع الله بها والحمد لله. قال أنس بن مالك رضى الله عنه: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر، وقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة (¬1) ما كانت وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدًا عهدها إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا - يقول: يكون آخرنا - وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر رضى الله عنه البيعة العامة بعد بيعة السقيفة. ثم تكلم أبو بكر، فحمد الله ¬

(¬1) هي خطبته التي خطب يوم الاثنين حينما قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت.

وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: (أما بعد، أيها الناس فإني وليت عليكم ولست بخيركم (¬1) فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته (¬2) إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله) (¬3) ثم استمر الأمر لأبي بكر والحمد لله. وقد بُعِثَ صلى الله عليه وسلم فبقي بمكة يدعو إلى التوحيد ثلاث ¬

(¬1) وهذا من باب التواضع منه - رضي الله عنه - وإلا فهم مجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم - رضي الله عنه -. البداية والنهاية 5/ 248. (¬2) والمعنى: الضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له وأنصره وأعينه. (¬3) البداية والنهاية 5/ 248 وساق سند محمد بن إسحاق قال: حدثني الزهري, حدثني أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر ... الحديث. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح 5/ 248.

عشرة سنة يُوحى إليه، ثم هاجر إلى المدينة وبقي بها عشر سنين، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة صلى الله عليه وآله وسلم (¬1). ورجَّح الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى أن آخر صلاة صلاها صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم هي صلاة الظهر يوم الخميس، وقد انقطع عنهم عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة، والسبت، والأحد، وهذه ثلاثة أيام كوامل (¬2). وبعد موته صلى الله عليه وسلم وخطبة أبي بكر رضى الله عنه دارت مشاورات - كما تقدم - وبايع الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في سقيفة بني ساعدة، وانشغل الصحابة ببيعة الصديق بقية يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ثم شرعوا في تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3) وغُسل من أعلى ثيابه، وكفن في ثلاثة أثواب بيض ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح 8/ 15 برقم 4466, وفتح الباري 8/ 151 مختصر الشمائل للترمذي للألباني ص192. (¬2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير, 5/ 235. (¬3) انظر: المرجع السابق 5/ 245.

سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، ثم صلى عليه الناس فرادى لم يؤمهم أحد، وهذا أمر مجمع عليه: صلى عليه الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء، والعبيد والإماء، وتوفي يوم الاثنين على المشهور (¬1) ودفن ليلة الأربعاء، أُلحد لحدًا صلى الله عليه وسلم ونصب عليه اللبن نصبًا (¬2) ورُفع قبره من الأرض نحوًا من شبر (¬3) وكان قبره صلى الله عليه وسلم مسنمًا (¬4) وقد تواترت الأخبار أنه دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها شرقي مسجده صلى الله عليه وسلم في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة، ووسع المسجد النبوي الوليد بن عبد الملك عام 86هـ ¬

(¬1) توفي - صلى الله عليه وسلم - سنة إحدى عشرة للهجرة في ربيع الأول يوم الاثنين, أما تاريخ اليوم فقد اختلف فيه: فقيل لليلتين خلتا من ربيع الأول, وقيل لليلة خلت منه, وقيل غير ذلك, وقيل مرض في التاسع والعشرين من شهر صفر, وتوفي يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة , فكان مرضه ثلاثة عشر يوماً, وهذا قول الأكثر. انظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/ 255 - 256, وتهذيب السيرة للنووي ص 25, وفتح الباري 8/ 129 - 130. (¬2) مسلم برقم 966. (¬3) ابن حبان في صحيحه 14/ 602، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح. (¬4) كما قال سفيان التمار في البخاري مع الفتح 30/ 255.

الدروس والفوائد والعبر

وقد كان نائبه بالمدينة عمر بن عبد العزيز فأمره بالتوسعة فوسعه حتى من ناحية الشرق فدخلت الحجرة النبوية فيه (¬1). [الدروس والفوائد والعبر] وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها: 1 - إن الأنبياء والرسل أحب الخلق إلى الله تعالى وقد ماتوا؛ لأنه لا يبقى على وجه الكون أحد من المخلوقات، وهذا يدل على أن الدنيا متاع زائل، ومتاع الغرور الذي لا يدوم، لا يبقى للإنسان من تعبه وماله إلا ما كان يبتغي به وجه الله تعالى، وما عدا ذلك يكون هباءً منثورًا. 2 - حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مع الرفيق الأعلى؛ ولهذا سأل الله تعالى ذلك مرات متعددة، وهذا يدل على عظم هذه المنازل لأنبيائه وأهل طاعته. 3 - استحباب تغطية الميت بعد تغميض عينيه، وشد ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية 5/ 271 - 273، وفتح الباري 8/ 129 - 130.

لحييه؛ ولهذا سجِّي وغطي النبي صلى الله عليه وسلم بثوب حبرة. 4 - الدعاء للميت بعد موته؛ لأن الملائكة يؤمنون على ذلك؛ ولهذا قال أبو بكر رضى الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (طبت حيًّا وميتاً). 5 - إذا أصيب المسلم بمصيبة فليقل: (إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها). 6 - جواز البكاء بالدمع والحزن بالقلب. 7 - النهي عن النياحة وشق الجيوب وحلق الشعر ونتفه والدعاء بدعوى الجاهلية وكل ذلك معلوم تحريمه بالأدلة الصحيحة. 8 - إن الرجل وإن كان عظيمًا قد يفوته بعض الشيء ويكون الصواب مع غيره، وقد يخطئ سهوًا ونسيانًا. 9 - فضل أبي بكر وعلمه وفقهه؛ ولهذا قال: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله

فإن الله حي لا يموت. 10 - أدب عمر رضى الله عنه وأرضاه وحسن خلقه؛ ولهذا سكت عندما قام أبو بكر يخطب ولم يعارضه بل جلس يستمع مع الصحابة رضي الله عن الجميع. 11 - حكمة عمر العظيمة في فض النزاع في سقيفة بني ساعدة، وذلك أنه بادر فأخذ بيد أبي بكر فبايعه فانصب الناس وتتابعوا في مبايعة أبي بكر، وانفض النزاع والحمد لله تعالى. 12 - بلاغة أبي بكر فقد تكلم في السقيفة فأجاد وأفاد حتى قال عمر عنه: (فتكلم أبلغ الناس). 13 - قد نفع الله بخطبة عمر يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم قبل دخول أبي بكر فخاف المنافقون، ثم نفع الله بخطبة أبي بكر فعرف الناس الحق. 14 - ظهرت حكمة أبي بكر وحسن سياسته في خطبته

يوم الثلاثاء بعد الوفاة النبوية، وبيَّن أن الصدق أمانة والكذب خيانة، وأن الضعيف قوي عنده حتى يأخذ له الحق، والقوي ضعيف عنده حتى يأخذ منه الحق، وطالب الناس بالطاعة له إذا أطاع الله ورسوله، فإذا عصى الله ورسوله فلا طاعة لهم عليه. 15 - حكمة عمر رضى الله عنه وشجاعته العقلية والقلبية حيث خطب الناس قبل أبي بكر ورجع عن قوله بالأمس واعتذر، وشد من أزر أبي بكر، وبيَّن أن أبا بكر صاحب رسول الله وأحب الناس إليه، وثاني اثنين إذ هما في الغار. 16 - استحباب بياض الكفن للميت، وأن يكون ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، وأن يلحد لحدًا، وأن ينصب عليه اللبن نصبًا، وأن يكون مسنمًا بقدر شبر فقط.

المبحث الحادي والثلاثون مصيبة المسلمين بموته صلى الله عليه وسلم

المبحث الحادي والثلاثون مصيبة المسلمين بموته صلى الله عليه وسلم من المعلوم يقينًا أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم محبة كاملة من أعظم درجات الإيمان الصادق؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين» (¬1). فإذا فقد الإنسان أهله، أو والده، أو ولده، لا شك أن هذه مصيبة عظيمة من مصائب الدنيا، فكيف إذا فقدهم كلَّهم جميعًا في وقت واحد؟ ولا شك أن مصيبة موت النبي صلى الله عليه وسلم أعظم المصائب على المسلمين؛ ولهذا جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بابًا بينه وبين الناس، أو كشف سترًا فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر، فحمد الله على ما رآه من حسن حالهم، ورجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم، فقال: يا أيها الناس أيما ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 1/ 58 برقم 5, ومسلم 1/ 67، برقم 44.

أحد من الناس أو من المؤمنين أُصيب بمصيبة فلْيتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحدًا من أُمتي لن يُصاب بمصيبة أشدَّ عليه من مُصيبتي» (¬1). وعن أنس رضي الله عنه قال: «لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء (¬2) فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي (¬3) وإنا لفي دفنه (¬4) حتى أنكرنا (¬5) ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه برقم 1599, وغيره وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 1/ 267, والأحاديث الصحيحة برقم 1106, وانظر: البداية والنهاية 5/ 276. (¬2) أضاء منها كل شيء: أشرق من المدينة كل شيء. انظر: تحفة الأحوذي 10/ 87. (¬3) وما نفضنا: من النفض: وهو تحريك الشيء ليزول ما عليه من التراب والغبار ونحوهما. انظر تحفة الأحوذي 10/ 88. (¬4) وإنا لفي دفنه: أي مشغولون بدفنه بعد. انظر: تحفة الحوذي 10/ 88. (¬5) حتى أنكرنا قلوبنا: يريد أنهم لم يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه من الصفاء والألفة لانقطاع مادة الوحي وفقدان ما كان يمدهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التأييد والتعليم, ولم يرد أنهم لم يجدوها على ما كانت عليه من التصديق؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم أكمل الناس إيماناً وتصديقاً. انظر: تحفة الحوذي 10/ 88.

الدروس والفوائد والعبر

قلوبنا» (¬1). وعن أنس رضي الله عنه قال: «قال أبو بكر رضي الله عنه - بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - لعمر: انطلق بنا إلى أمِّ أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهيا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ فما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم. قالت: إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها» (¬2). وما أحسن ما قال القائل: اصبر لكلِّ مصيبة وتجلَّدِ ... واعلم بأن المرء غير مُخلَّد فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد [الدروس والفوائد والعبر] وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر ¬

(¬1) أبو داود، برقم 864، 866, وأحمد 3/ 68, برقم 6483، ورقم 26684، وابن ماجه برقم 1631, وقال ابن كثير في البداية والنهاية: إسناده صحيح على شرط الصحيحين 5/ 274, وانظر: صحيح ابن ماجه 1/ 273. (¬2) مسلم برقم 2454, وابن ماجه برقم 1635, واللفظ من المصدرين. وانظر: شرحه في شرح النووي 16/ 242.

المستفادة هذا المبحث كثيرة، ومنها: 1 - موت النبي صلى الله عليه وسلم أعظم مصيبة أصيب بها المسلمون. 2 - إنكار الصحابة قلوبهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفراقهم نزول الوحي وانقطاعه من السماء. 3 - النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلى المسلمين من النفس، والولد، والوالد، والناس أجمعين، وقد ظهر ذلك عند موته بين القريب والبعيد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل وجميع المسلمين. 4 - محبة الصحابة للاقتداء والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء من أمور الدين حتى في زيارة النساء كبار السن، كما فعل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

المبحث الثاني والثلاثون ميراثه صلى الله عليه وسلم

المبحث الثاني والثلاثون ميراثه صلى الله عليه وسلم عن عمرو بن الحارث رضي الله عنه قال: «ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته: دِرْهمًا، ولا دينارًا، ولا عبدًا، ولا أمَةً، ولا شيئًا، إلا بغلته البيضاء [التي كان يركبها] وسلاحه، [وأرضًا بخيبر] جعلها [لابن السبيل] صدقة» (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا، ولا درهمًا، ولا شاة، ولا بعيرًا، ولا أوصى بشيء» (¬2) (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا فهو صدقة» (¬4) وذلك ¬

(¬1) البخاري 5/ 356, برقم 2739, 2873, 2912, 3098، 4461, واللفظ من هذه المواضع. (¬2) مسلم برقم 1635. (¬3) أي لم يوص بثلث ماله ولا غيره إذ لم يكن له مال, أما أمور الدين فقد تقدم أنه أوصى بكتاب الله وسنه نبيه, وأهل بيته, وإخراج المشركين من جزيرة العرب, وبإجازة الوفد, والصلاة وملك اليمين وغير ذلك. انظر: شرح النووي 11/ 97. (¬4) البخاري في عدة مواضع من حديث عائشة ومالك بن أوس, وأبي بكر رضي الله عنهم, برقم 3093, 3712, 4036, 4240, 5358, 6726, و6727, 7305. ومسلم برقم 1757, و1758, 1759, و1761, واللفظ لعائشة عند مسلم.

لأنه لم يبعث صلى الله عليه وسلم جابيًا للأموال وخازنًا إنما بعث هاديًا، ومبشراًًً، ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا منيرًا، وهذا هو شأن أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا إنما وَرَّثُوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر» (¬1). وقد فَهِمَ الصحابة رضي الله عنهم ذلك، فعن سليمان ابن مهران: بينما ابن مسعود رضي الله عنه يومًا معه نفر من أصحابه إذ مرَّ أعرابي فقال: على ما اجتمع هؤلاء؟ قال ابن مسعود رضي الله عنه: (على ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقسِّمونه) (¬2). فميراث النبي صلى الله عليه وسلم هو الكتاب والسنة والعلم والاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا توفي صلى الله عليه وسلم ولم يترك درهمًا، ولا دينارًا، ولا ¬

(¬1) أبو داود 3/ 317, برقم 3641، والترمذي 5/ 49, برقم 2682، وابن ماجه 1/ 80, برقم 223، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/ 43. (¬2) أخرجه الخطيب البغدادي بسنده في شرف أصحاب الحديث ص 45.

عبدًا، ولا أمة، ولا بعيرًا، ولا شاة، ولا شيئًا، إلا بغلته وأرضًا جعلها صدقة لابن السبيل. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «توفي النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير» (¬1). وهذا يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتقلل من الدنيا، ويستغني عن الناس؛ ولهذا لم يسأل الصحابة أموالهم أو يقترض منهم؛ لأن الصحابة لا يقبلون رهنه وربما لا يقبضوا منه الثمن، فعدل إلى معاملة اليهودي؛ لئلا يضيِّق على أحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم (¬2). وقد كان صلى الله عليه وسلم يصيبه الجوع وهو حي؛ ولهذا يمر ويمضي الشهر والشهران وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، «قال عروة لعائشة رضي الله عن الجميع: ما كان يقيتكم؟ قالت: الأسودان: التمر ¬

(¬1) البخاري برقم 2068 وكرره بفوائده في عشرة مواضع , ومسلم برقم 1603 , وانظر: جميعها في مختصر البخاري للألباني 2/ 21. (¬2) انظر: شرح النووي 11/ 43.

الدروس والفوائد والعبر

والماء. . .» (¬1). ومع هذا كان يقول صلى الله عليه وسلم: «مالي وللدنيا ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها» (¬2). [الدروس والفوائد والعبر] وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها: 1 - الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يُبعثوا لجمع الأموال وإنما بُعِثُوا لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور؛ ولهذا لم يُوَرِّثُوا دينارًا ولا درهمًا وإنما وَرَّثُوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر. 2 - زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وحطامها الفاني؛ وإنما هو كالراكب الذي استظل تحت شجرة ثم راح وتركها. ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح 11/ 283، برقم 6459. (¬2) أحمد 6/ 154 وقال ابن كثير في البداية والنهاية 5/ 284, وإسناده جيد, وأخرجه الترمذي، برقم 1377، وابن ماجه، برقم 4109, وانظر: الأحاديث الصحيحة برقم 439, وصحيح الترمذي 2/ 280.

3 - استغناء النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال الناس فهو يقترض ويرهن حتى لا يكلف على أصحابه؛ ولهذا مات ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعًا من شعير. 4 - شدة الحال وقلة ما في اليد عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يمضي الشهر والشهران ولم تُوقَدْ في أبياته نار وإنما كان يقيتهم الأسودان. فصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وأسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا من أتباعه المخلصين، وأن يحشرنا في زمرته يوم الدين.

المبحث الثالث والثلاثون قوقه على أمته صلى الله عليه وسلم

المبحث الثالث والثلاثون قوقه على أمته صلى الله عليه وسلم للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم حقوق على أمته وهي كثيرة، منها: الإيمان الصادق به صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا وتصديقه في كل ما جاء به صلى الله عليه وسلم، ووجوب طاعته والحذر من معصيته صلى الله عليه وسلم، ووجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه، وإنزاله منزلته صلى الله عليه وسلم بلا غلوٍّ ولا تقصير، واتباعه واتخاذه قدوة وأسوة في جميع الأمور، ومحبته أكثر من النفس، والأهل والمال والولد والناس جميعًا، واحترامه وتوقيره ونصر دينه والذب عن سنته صلى الله عليه وسلم، والصلاة عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه. خلق آدم، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليَّ، فقال رجل. يا رسول الله! كيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يعني بليت. قال: إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» (¬1). ¬

(¬1) أبو داود 1/ 275, برقم 1047، وابن ماجه 1/ 524, برقم 1636، والنسائي 3/ 91, برقم 374، وصححه الألباني في صحيح النسائي 1/ 197.

وإليك هذه الحقوق بالتفصيل والإيجاز على النحو الآتي: 1 - الإيمان الصادق به صلى الله عليه وسلم وتصديقه فيما أتى به: قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن: 8]، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28]، {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح: 13]، وقال صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا

وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم والحذر من معصيته

إله إلا الله ويُؤمنوا بي وبما جئت به» (¬1). والإيمان به صلى الله عليه وسلم هو تصديق نبوته، وأن الله أرسله للجن والإنس، وتصديقه في جميع ما جاء به وقاله، ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان، بأنه رسول الله، فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة باللسان ثم تطبيق ذلك العمل بما جاء به تمَّ الإيمان به صلى الله عليه وسلم (¬2). 2 - وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم والحذر من معصيته: فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتى به، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ¬

(¬1) مسلم 1/ 52، برقم 21. (¬2) انظر: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - للقاضي عياض 2/ 539.

{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71]، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13 - 14]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من

اتباعه صلى الله عليه وسلم واتخاذه قدوة في جميع الأمور والاقتداء بهديه

أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله» (¬1) وعنه رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» (¬2). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجُعِلَ رزقي تحت ظلِّ رمحي، وجُعِلَ الذِّلُّ والصَّغارُ على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم» (¬3). 3 - اتباعه صلى الله عليه وسلم واتخاذه قدوة في جميع الأمور والاقتداء بهديه: قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 13/ 111 برقم 7137. (¬2) البخاري مع الفتح 13/ 249 برقم 7280. (¬3) أحمد في المسند 1/ 92, والبخاري مع الفتح معلقاً 6/ 98, وحسّنه العلامة ابن باز, وانظر: صحيح الجامع 3/ 8.

محبته صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] فيجب السير على هديه والتزام سنته والحذر من مخالفته، قال صلى الله عليه وسلم: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬1). 4 - محبته صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين: قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 9/ 104 برقم 5063.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (¬1). وقد ثبت في الحديث أن من ثواب محبته الاجتماع معه في الجنة، «وذلك عندما سأله رجل عن الساعة فقال: "ما أعددت لها"؟ قال: يا رسول الله ما أعددت لها كبير صيام، ولا صلاة، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: "فأنت مع من أحببت" (¬2). قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحًا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأنك مع من أحببت"، فأنا أحب الله ورسوله، وأبا بكر، وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم» (¬3). ولما «قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 1/ 58 برقم 15, ومسلم 1/ 67، برقم 44. (¬2) البخاري مع الفتح 10/ 557 برقم 6168 - 6171، و13/ 131, ومسلم 4/ 2032، برقم 2639. (¬3) مسلم 4/ 2032، برقم 63 - (2639).

والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال له عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إليَّ من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر» (¬1) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قومًا ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب» (¬2). وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا» (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد بِهِنَّ حلاوة الإيمان: من كان اللهُ ورسولهُ أَحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحِبَّ المرء لا يُحِبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 11/ 523، برقم 6632. (¬2) البخاري مع الفتح 10/ 557، برقم 6168. (¬3) مسلم في صحيحه 1/ 62، برقم 34.

الله منه كما يكره أن يقذف في النار» (¬1). ولاشك أن من وفَّقه الله تعالى لذلك ذاق طعم الإيمان ووجد حلاوته، فيستلذ الطاعة ويتحمل المشاق في رضى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رضي به رسولًا، وأحبه، ومن أحبه من قلبه صدقًا أطاعه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال القائل: تعصي الإله وأنت تُظْهر حُبَّهُ ... هذا لعمري في القياسِ بديعُ لو كان حُبَّكَ صادقًا لأطعته ... إن المُحبَّ لمن يُحِبُّ مُطيعُ (¬2) وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: شرطُ المحبةِ أن توافِقَ مَنْ تحبَّ ... على محبَّته بلا عصيان فإذا ادَّعيتَ له المحبةَ مع خلافِكَ ... ما يُحبُّ فأنت ذو بُهتانِ أتحبُّ أعداء الحبيب وتدَّعي ... حُبًّا له ما ذاك في إمكان ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 1/ 72, برقم 21، ومسلم 1/ 66، برقم 43. (¬2) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - 2/ 549 و2/ 563.

وكذا تُعادي جَاهدًا أَحبَابَهُ ... أين المحبَّةُ يا أخا الشيطانِ (¬1) ولا شك أن العبد إذا أحب الله ورسوله، فإنه يحبُّ ما يحبه الله ورسولُه؛ لأن من أحبَّ أحدًا أحب من يحبه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحبَّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومَنَعَ لله، فقد استكمل الإيمان» (¬2). وعلامات محبته صلى الله عليه وسلم تظهر في الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، واتباع سنته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه، في الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر، ولا شك أن من أحب شيئًا آثره، وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقًا في حبه ويكون مدَّعِيًا (¬3). قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ¬

(¬1) النونية لابن القيم مع شرح الهراس (2/ 134). (¬2) أبو داود، برقم 4681، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3/ 886). (¬3) انظر: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - 2/ 571 - 582.

احترامه وتوقيره

يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. ويقال لهذه الآية آية المحنة؛ لأن الله امتحن بها العباد، فعلامة المحبة لله تعالى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والابتعاد عما نهى عنه. ولا شك أن من علامات محبته. النصيحة له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» (¬1) والنصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم: التصديق بنبوته، وطاعته فيما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، ومُؤازرته، ونصرته وحمايته حيًا وميتًا، وإحياء سنته والعمل بها وتعلمها، وتعليمها والذب عنها، ونشرها، والتخلق بأخلاقه الكريمة، وآدابه الجميلة (¬2). 5 - احترامه وتوقيره: كما قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ¬

(¬1) مسلم 1/ 74، برقم 55. (¬2) الشفاء بتعريف حقوق المصطفي - صلى الله عليه وسلم - للقاضي عياض 2/ 582 - 584.

وجوب نصرته صلى الله عليه وسلم وحكم من سبه

وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]. وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وتوقيره لازم كحال حياته وذلك عند ذكر حديثه، وسنته، وسماع اسمه وسيرته، وتعلم سنته، والدعوة إليها، ونصرتها (¬1). 6 - وجوب نصرته صلى الله عليه وسلم وحكم من سبَّه: من صِدْقِ المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم: نُصرته، وتعزيره، وتوقيره، قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا ¬

(¬1) الشفاء 2/ 595 و612.

وَنَذِيرًا - لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 8 - 9]. وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. ومعنى (وَعَزَّرُوهُ) ذكر ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما (تعظموه) وقال البغوي. (وَتُعَزِّرُوهُ) تعينوه وتنصروه. (وَتُوَقِّرُوهُ) من التوقير وهو الاحترام (¬1). وقد لعن الله تعالى من آذاه وآذى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57]. وقال تعالى. {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52]. ¬

(¬1) ابن كثير (ص 1233) والبغوي المختصر (2/ 872).

ولا شك أن من استهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم يستحق لعنة الله تعالى، وقد لعنه، {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52]. فإذا كان مسلمًا قبل سبَّه ارتدَّ ولا تقبل توبته عندنا ولو تاب؛ لقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ - لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66]. ويجب قتله بدون استتابة على القول الصحيح. وسب النبي صلى الله عليه وسلم له أحكام متعددة بينها شيخ الإسلام في كتابه (الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم) قال رحمه الله: قد رتبته على أربع مسائل:

المسألة الأولى: أن السابَّ يقتل: سواء كان مسلمًا أو كافرًا. المسألة الثانية: في أنه يتعين قتله وإن كان ذميًّا فلا يجوز المنُّ عليه ولا مفاداته. المسألة الثالثة: في حكمه إذا تاب، وكذا لو أسلم الكافر بعد السبِّ. المسألة الرابعة: في بيان السبِّ وما ليس بسبٍّ والفرق بينه وبين الكفر. وقد أجاد وأفاد رحمه الله تعالى (¬1). وقد وعد الله تعالى من قام بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم بالفوز والنجاة والهداية، قال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ ¬

(¬1) يراجع الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 156 - 158]. وأرسل الله تعالى هذا النبي الكريم رحمة للعالمين كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين، {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. فلا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، وهو الداعي لكل خير، المحذر من كل شر

لجميع الجن والإنس، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا - وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا - وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 45 - 48]. {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16]. وهو صلى الله عليه وسلم منةٌ من الله تعالى على المؤمنين خاصة، {لَقَدْ

مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. وقد عصمه الله تعالى وتكفل بحمايته فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67]. وكفاه الله تعالى المستهزئين فقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ - إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ - الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ - وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ - وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 94 - 99].

فيا عبد الله المؤمن كن من الطائعين المتبعين لهذا النبي الكريم ولا تُعِن الكافرين بل أبغضهم لله رب العالمين ولا تتشبه بهم؛ فإن: «من تشبه بقوم فهو منهم»، وانصر نبيك محمدًا صلى الله عليه وسلم باتباعه، ومحبته، والله تعالى ناصرُ نبيه، ومُعلي كلمته، ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون، ولو كره المنافقون، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. وقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة. يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار» (¬1). فدعوته صلى الله عليه وسلم عامة للإنس والجن إلى قيام الساعة، ومن آذاه وسبه فقد تولى الله عقابه في الدنيا والآخرة. {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا ¬

(¬1) رواه مسلم 153.

وجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه صلى الله عليه وسلم

وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57]. وقال: {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52]. وقد أحسن حسانُ بن ثابت رضي الله عنه حين قال لمن هجى النبي صلى الله عليه وسلم: هجوتَ محمدًا فأجبتُ عنه ... وعند الله في ذلك الجزاءُ فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرضِ محمدٍ منكم وِقاءُ 7 - وجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ

إنزاله مكانته صلى الله عليه وسلم بلا غلو ولا تقصير

حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ويكون التحاكم إلى سنته وشريعته بعده صلى الله عليه وسلم: 8 - إنزاله مكانته صلى الله عليه وسلم بلا غلو ولا تقصير: فهو عبد لله ورسوله، وهو أفضل الأنبياء والمرسلين، وهو سيد الأولين والآخرين، وهو صاحب المقام المحمود والحوض المورود، ولكنه مع ذلك بشر لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرًا ولا نفعًا إلا ما شاء الله كما قال تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50]، وقال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]،

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم

{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا - قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 21 - 22]، وقد مات صلى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء ولكن دينه باقٍ إلى يوم القيام {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ - كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 34 - 35]، وبهذا يعلم أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163]. 9 - الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا» (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» (¬2) وقال صلى الله عليه وسلم: «البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ» (¬3) وقال صلى الله عليه وسلم: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلُّوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم» (¬4) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام» (¬5) «وقال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: رَغِمَ أنف عبد - أو بَعُد - ذُكِرتَ عنده فلم يُصَلِّ عليك، ¬

(¬1) أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما 1/ 288، برقم 384. (¬2) أبو داود 2/ 218, برقم 2042، وأحمد 2/ 367, وانظر: صحيح أبي داود 1/ 383. (¬3) الترمذي 5/ 551, برقم 3546، وغيره, وانظر: صحيح الترمذي 3/ 177. (¬4) الترمذي, برقم 3380، وانظر: صحيح الترمذي 3/ 140. (¬5) النسائي 3/ 43, برقم 1282، وصححه الألباني في صحيح النسائي 1/ 274.

فقال صلى الله عليه وسلم: آمين» (¬1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يسلِّم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام» (¬2). * وللصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مواطن كثيرة، ذكر منها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى واحدًا وأربعين موطنًا منها على سبيل المثال: الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد، وعند الخروج منه، وبعد إجابة المؤذن، وعند الإقامة، وعند الدعاء، وفي التشهد في الصلاة، وفي صلاة الجنازة، وفي الصباح والمساء، وفي يوم الجمعة، وعند اجتماع القوم قبل تفرقهم، وفي الخطب، كخطبتي صلاة الجمعة، وعند كتابة اسمه، وفي أثناء صلاة العيدين بين التكبيرات، وآخر دعاء القنوت، وعلى الصفا والمروة، وعند الوقوف على قبره، وعند الهم والشدائد وطلب المغفرة، وعقب ¬

(¬1) ابن خزيمة 3/ 192, وأحمد 2/ 254, وصححه الأرنؤوط في الأفهام. (¬2) أخرجه أبو داود 2/ 218 برقم 2041, وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 1/ 283.

الذنب إذا أراد أن يُكَفَّر عنه، وغير ذلك من المواطن التي ذكرها رحمه الله في كتابه (¬1). ولو لم يَرِدْ في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديث أنس رضي الله عنه لكفى: «من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات (¬2). [كتب الله له بها عشرة حسنات] (¬3) وحط عنه بها عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات» (¬4). وصلى الله، وسلم، وبارك على عبده، ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬

(¬1) راجع كتاب جلاء الأفهام في الصلاة واللام على خير الأنام - صلى الله عليه وسلم - للإمام ابن القيم رحمه لله تعالى. (¬2) السياق يقتضي (و). (¬3) هذه الزيادة من حديث طلحة في مسند أحمد 4/ 29. (¬4) أحمد 3، وابن حبان الرقم 2390 (موارد)، والحاكم 1/ 551، وصححه الأرنؤوط في تحقيقه لجلاء الأفهام ص 65.

§1/1