رحمة للعالمين

محمد سليمان المنصورفوري

رحمة للعالمين تأليف القاضي محمد سليمان سلمان المنصور فوري ترجمة د. سمير عبد الحميد إبراهيم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض دار السلام للنشر والتوزيع الرياض

بسم الله الرحمن الرحيم

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى دار السلام للنشر والتوزيع الرياض

كلمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم كلمة الناشر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. لقد قطعت دار السلام للنشر والتوزيع - منذ تأسيسها - على نفسها عهدا بأن تسعى جاهدة لنشر العقيدة الصحيحة والسنة الصحيحة، إيمانا - من القائمين على إدارتها - بأن هذا هو الصراط المستقيم الذي ارتضاه الله لنا والمنهاج الذي تركه لنا رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وكما نعلم أن المهتم بالسنة يجد في صحيحها كل خير وبركة وفي سيرة صاحبها المثل الأعلى، ومن هنا رأت دار السلام أن تقدم لقرائها هذا الكتاب في السيرة النبوية أي ـ[رحمة للعالمين]ـ من تأليف العالم الجليل القاضي محمد سليمان سلمان المنصوربوري - رحمه الله -. ولا شك أن الراصد والمتابع لما كتبه العلماء المسلمون قديما وحديثا في ميدان السيرة النبوية يعجب من كثرة الكتب وتنوعها، مما يدل على أهمية الموضوع، والكتاب الذي نقدم اليوم ترجمته إلى اللغة العربية، كتاب فريد من نوعه، بقلم عالم من أكابر الدعاة إلى الله، والدعاة إلى اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلم من أعلام جماعة أهل الحديث في شبه القارة الهندية الباكستانية. ومما لا شك فيه أن قراء اللغة العربية أصبحوا يعرفون الكثير عن نشاط جماعة أهل الحديث قديما وحديثا، كما أنهم تعرفوا على مؤلفات بعض علماء الجماعة، سواء ما كتب منها بالعربية أو ما ترجم منها عن الأردية إلى العربية. وكتاب ـ[رحمة للعالمين]ـ الذي نقدم ترجمته إلى قراء اللغة العربية، كتبه عالم جليل، استفاد من علمه الكثير من علماء شبه القارة الهندية الباكستانية وغيرها، ونذكر على سبيل المثال فضيله الشيخ أبا الحسن علي الحسني الندوي الذي قال عن الكتاب: "تسلمت الكتاب، قرأته بشغف وشوق وانقطاع إليه وتفان فيه، وقل ما كان لكتاب آخر من التأثير على قلبي وعقلي مثل ما كان لهذا الكتاب، فكان إخلاص المؤلف وإيمانه،

وطرازه الخاص في الدعوة والتربية، وبساطة حوادث السيرة، وجمالها وتأثيرها الذي نفذ منه إلى جسمي وروحي تيار كهربائي، وأرى أن هذا الكتاب من الكتب التي لها منة جسيمة علي وأنا دائم الترحم على المؤلف والدعاء له بالقبول عند الله تعالى" [صفحة 81، 82 أبو الحسن الندوي: في مسيرة الحياة المجلد الأول]. ولا شك أن الكتاب يعد درة فريدة بين مؤلفات القاضي محمد سليمان المنصوربوري الذي ألف في التفسير والتاريخ ومقارنة الأديان والرحلات، مما جعل جريدة "الوكيل" التي تصدر من أمرتسر في عدد لها عام 1914 م تشيد بالكتاب وتذكر أنه لم يعد في الإمكان صدور كتاب عن السيرة يحمل ما لكتاب ـ[رحمة للعالمين]ـ من محاسن، كما أشار العلامة سيد سليمان الندوي أيضا إلى أهمية الكتاب لما فيه من تحليل ونقد لاعتراضات أصحاب الديانات الأخرى، وبالإضافة إلى ما ورد فيه من دراسة مقارنة لما جاء في الكتب السماوية الأخرى وما جاء في تعاليم الإسلام، فأبطل دعاوى اليهود والنصارى. وفي تقريظه للكتاب ذكر الشيخ أبو الأعلى المودودي أن الكتاب يتميز عن كتب السيرة بما فيه من تحقيق للأحداث والوقائع، وأوضح المودودي أن كتاب ـ[رحمة للعالمين]ـ يأتي على قمة كتب السيرة من حيث هذا الأمر. وهكذا جال بخاطري تقديم ترجمة جيدة لهذا الكتاب القيم، فتوكلت على الله، وناقشت الأمر مع صديقي الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم أستاذ اللغة الأردية وآدابها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الذي رحب بالفكرة ووافق على ترجمة الكتاب. وبتوفيق من الله تمت الترجمة والطباعة بصورة ترضي القارئ العربي ورأينا أن يصدر الكتاب في مجلد واحد رغم ضخامة حجمه، وكنا فكرنا في إصداره في ثلاث مجلدات كما هو في الأردية إلا أن الآراء اتفقت على أن تصدر الطبعة العربية في مجلد واحد. نسأل الله العلي القدير أن يتقبل منا هذا العمل وأن يجعله في ميزان حسناتنا يوم القيامة إنه على كل شيء قدير. عبدالمالك مجاهد المدير المسئول مكتبة دار السلام للنشر والتوزيع ربيع الأول 1418 هـ

مقدمة المترجم

مقدمة المترجم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. حين أهداني الأخ العزيز الشيخ عبد المالك مجاهد المدير المسؤول لمكتبة دار السلام بالرياض كتاب العلامة القاضي محمد سليمان المنصوربوري ـ[رحمة للعالمين]ـ بأجزائه الثلاثة، رحت أتصفحه بداية، ثم غرقت في صفحاته، ولم أتركه لأيام، وبعدها طلبت منه الأصل بالأردية ورحت أطالعه أيضا، وبعد تفكير وتدقيق، رأيت أن أبدأ في إعداد ترجمة عربية ثانية لكتاب ـ[رحمة للعالمين]ـ وحين عرضت الأمر على الشيخ عبد المالك مجاهد وافق من فوره، وبدأت الترجمة التي استغرقت أكثر من سنتين نظرا لانشغالي بأعمال البحث في الجامعة إذ كنت أعكف على ترجمة الكتاب خلال الإجازات والعطلات الدراسية والصيفية. وإذا كنت أدين بالشكر هنا للأخ العزيز الشيخ عبد المالك مجاهد الذي أهداني نسختي الكتاب: العربية والأردية، فإنني أدين بالشكر أيضا إلى الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري الذي اختار هذا الكتاب، ودفع به إلى الأخ مختار أحمد الندوي المدير العام للدار السلفية في بومباي، وحثه على نقله إلى العربية، وقد قام الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري بالإشراف على مراجعة الترجمة والمساهمة في طباعتها، فله فضل تعريف قراء العربية بهذا الكتاب القيم. وأدين بالشكر الجزيل للأخوين العزيزين، صديقي الدكتور مقتدى حسن الأزهري، والأخ الفاضل عبد السلام عين الحق السلفي، فقد وضعت ترجمتهما القيمة أمامي دائما، وأنا أعد ترجمتي للكتاب، فاستفدت من ترجمتهما وتخريجهما لآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وكذلك ما ورد من عبارات أصلية اقتطفاها من مراجعها العربية، ولولا ترجمتهما هذه لما تمكنت من الانتهاء من الترجمة الحالية هذه السرعة!! هذا بالإضافة إلى أنني كنت أرى ترجمتهما لبعض العبارات أدق من ترجمتي، فرحت أستفيد من أسلوبهما أيضا!!.

وأشير إلى أن الطبعة الأردية التي اعتمدت عليها في الترجمة صدرت عن " الفيصل " للنشر والتجارة في لاهور في مايو 1991 م (¬1) وبها مقدمة المؤلف للطبعة السادسة التي أضاف إليها بعض المعلومات، وربما اعتمد الدكتور مقتدي حسن الأزهري والشيخ عبدالسلام عين الحق السلفي على طبعة أخرى سابقة أو لاحقة لهذه الطبعة السادسة، ولهذا قد تختلف بعض العبارات بالزيادة أو بالنقص وذلك في مواضع قليلة إن لم تكن وقد أثبت هنا نبذة مختصرة عن حياة المؤلف وآثاره حتى يتعرف القراء العرب على مكانته ليكون إن شاء الله موضوع دراسات أهل العلم من المهتمين بالعلوم الإسلامية في البلاد العربية. وقد يتعجب البعض من إقدامي على ترجمة الكتاب مرة ثانية، إلا أن الكثير من الكتب الأردية والدينية لكبار الأدباء والعلماء صدرت لها أكثر من ترجمة وهذا يرجع إلى أهمية الكتاب واهتمام الناس به، ولا مجالل هنا للتمثيل أو الإشارة، ومختصر القول إنني ما قصدت بعملي هذا إلا وجه الله وخدمة الدين وإضافة مصدر من مصادر السيرة والتاريخ الإسلامي ودراسة الأديان المقارنة إلى المكتبة العربية بعد أن شعرت بأهمية الكتاب وقيمته العظيمة للباحثين والدارسين العرب. والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل. 5 شعبان 1416 هـ 28 ديسمبر 1995 م د. سمير عبد الحميد إبراهيم أستاذ اللغة الأردية وآدابها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض ¬

(¬1) وهي بحاجة إلى تصحيح ومراجعة وربما قام بهذا القائمون على دار السلام إن شاء الله.

القاضي محمد سليمان المنصور بوري

القاضي محمد سليمان المنصور بوري حياته وآثاره بقلم المترجم •---------------------------------• مولده ونشأته: ولد العلامة القاضي محمد سليمان المنصوربوري سنة 1284هـ / 1867م في بلدة منصوربور (بنجاب الهند) التي كانت آنذاك من المراكز التاريخية في رئاسة بتيالة، ويطلق عليها اليوم اسم "تشينتانوالة" نشأ العلامة الجليل في أسرة عمله بالقضاء منذ القديم، وأدت واجب الدعوة الإسلامية، فقد عمل جده الأكبر بير محمد بالقضاء في دهلي في عهد سلاطين المغول، وهكذا أطلق على الأسرة لقب " قاضي "، ولا يزال خاتم القضاء الخاص بجده سابق الذكر محفوظا لدى الأسرة حتى اليوم (¬1)، وقد ولي جده لأبيه قاضي معز الدين القضاء من بعد بير محمد، أما جده قاضي باقي بالله فقد عمل بتبليغ الدين وراح يكسب عيشه من الزراعة، وعرف في المنطقة كلها بورعه وتقواه والتفاف تلامذته من حوله. أما والد شيخنا الجليل قاضي أحمد شاه بن قاضي باقي بالله فقد عمل موظفا في ديوان المالية برئاسة بتيالة، وهو الذي استقبل سيد أحمد خان، حين ذهب لجمع التبرعات لبناء جامعة عليكره الإسلامية، وكان والد شيخنا الجليل عالما يعمل بعلمه، يقيم ليله في العبادة، ويقضي نهاره في العمل، أدى فريضة الحج مرة بعد مرة (عام 1313 هـ وعام 1324 هـ، وانتقل من بلدة منصوربور إلى العاصمة بتيالة (على بعد 23 ميلا) وتوفي بها، وقام شيخنا الجليل العلامة القاضي محمد سليمان المنصوربوري فأهدى معظم مؤلفاته إلى أبيه (¬2). اهتم الأب بتربية ولديه قاضي محمد سليمان، وقاضي عبد الرحمن تربية دينية، وكانت الأمم أحيانا ترفض أن ترضع ابنيها حتى تتوضأ، فقد كانت سيدة تقية ورعة تقضي معظم أوقاتها في عبادة الله. ¬

(¬1) قاضي عبد الباقي. سيرت سليمان سفرنامه حجاز (تاريخ الحرمين) سلمان آرت بريس: ط 2 لاهور 1986م / 1404هـ[ص:261]. (¬2) قاضي عبد الباقي منصوربوري. سيرت سليمان ملحق بكتاب سفرنامه حج (تاريخ حرمن) ط لاهور.

تعليمه

تعليمه: درس القاضي محمد سليمان القرآن الكريم واللغة العربية على يد والده، واستفاد في دراسته للغة العربية من الشيخ العلامة عبد العزيز الذي كان يقطن بلدة كوم القريبة من لدهيانه، كما درس اللغة الفارسية على يد منشى سكهن لال أستاذ الفارسية في كلية مهندرا في بتيالة. نال القاضي المنصوربوري درجة منشي فاضل من كلية مهندرا سنة 1352 هـ / 1884م وكان الأول على جميع طلاب الجامعة، وتقلد وظيفة في إحدى إدارات التعليم، وترقى في منصبه وعمل بالقضاء، وقد تقاعد سنة 1343 هـ / 1924 م. بعض صفاته الطيبة: أدى شيخنا الجليل رحمه الله فريضة الحج لأول مرة سنة 1339 هـ / 1921 م، ويحكى أن والي كابل أمير حبيب الله حين صلى الجمعة أثناء وجوده في مدينة بومباي أسندت مهمة ترتيب هذا الأمر إلى القاضي محمد سليمان النصور بوري الذي قام بفرش المسجد بالسجاد على نفقة حكومة الهند، وتحير مسلمو بومباي. لقد أحبه المسلمون، وأحبه غير المسلمين أيضا، أحبه من غير المسلمين عدد كبير من الشخصيات المرموقة في الهند مثل مستر دانلوب سميث واللورد منتو واللورد كرزن الحاكم العام للهند، وجوكندرسنكه، الذي حزن كثيرا حين سمع نبأ وفاته، وأمر بصرف راتب تقاعد لابنته طوال الحياة واهتم بترقية ولده قاضي عبد العزيز، الذي تخرج في جامعة عليكره، إلى وظيفة مفتش عام المدارس. كان القاضي سليمان رحمه الله أسمى وأرفع من كل ما كان يثار من خلافات طائفية، كان يخدم جميع الأئمة وجميع الفقهاء وجميع العلماء، وأكبر دليل على ذلك أنه رغم حبه لجماعة أهل الحديث، ورغم أنه دعي لرئاسة مؤتمر جمعية أهل الحديث لعموم الهند، إلا أنه حين قدم العلامة أسلم جيراجبوري (مرشد غلام أحمد برويز قائد جماعة إنكار السنة المسماة بأهل القرآن) إلى بتيالة لجمع التبرعات لبناء الجامعة الملية نزل ضيفا في بيت قاضي سليمان الذي أكرمه وزاد في إكرامه وبالغ في ذلك كثيرا!!

القاضي سليمان المنصوربوري والعلامة محمد إقبال

القاضي سليمان المنصوربوري والعلامة محمد إقبال: كان القاضي سليمان طوال حياته ملاذا لجميع أصدقائه ويحكى أنه جمع كل المجوهرات في بيته وباعها ليشد من أزر صديقه محمد حياة، الذي احترق مصنعه وهذه حكاية من حكايات عديدة، وقد ربطت أواصر المحبة بين العلامة محمد إقبال والقاضي سليمان المنصور بوري، ولا عجب في ذلك فكلاهما أديب، وكلاهما شاعر، وكلاهما عمل بالقضاء، وكلاهما حمل مسئولية الدعوة إلى الله، وكلاهما عمل على خدمة المسلمين في كل مكان. كان القاضي سليمان المنصوربوري يحب إقبال ويقدره، وكان إقبال يحمل للقاضي سليمان احتراما خاصا، وحين توفي قاضي منصور بوري، عقدت جلسة في "صالة حبيب" لقبول العزاء ترأسها حاجي شمس الدين (جمعية حماية الإسلام) اشترك فيها الشيخ أحمد علي والشيح محمد بخش مسلم والعلامة محمد إقبال. وقف إقبال وتحدث وأشاد بالقاضي سليمان المنصور بوري وامتدح شعره وأسمع الحاضرين بعضا من أشعار القاضي سليمان: " يا شيخ! ماذا رأيت في الكعبة! بالله أرأيت بيت الله ... ؟! لقد رأينا حمام الحرم وكفى ماذا يحدث لو لم نر العنقاء؟! " (¬1) كانت " جمعية حماية الإسلام " تعرف قدر القاضي سليمان وتحمل له كل الحب، فكانت تحرص على دعوته لحضور جلساتها كل عام والمشاركة بإلقاء كلمة مع الأعضاء، ويحكى أنه راح مرة يلقي كلمة عن " محامد الإسلام " استمرت لست ساعات!! وقال الشيخ محمد شفيع: إنني سأعطي للجمعية هدية " مبلغ 3 آلاف روبية " عن كل ساعة من الساعات التي ألقى فيها القاضي سليمان كلمته في جلسة الجمعية وهكذا نالت الجمعية مبلغ 18 ألف روبية، وتعد هذه واقعة لا مثيل لها في تاريخ الخطابة في الهند قبل التقسيم (¬2). ¬

(¬1) العنقاء طائر خرافي يزعم قدماء المصريين أنه يعمر خمسة قرون أو ستة وبعد أن يحرق نفسه ينبعث من رماده وهو أتم ما يكون شبابا وجمالا، ويكنى به عن الشخص أو الشيء ذي الجمال الذي لا يضارع ويزعم أهل شبه القارة الهندية أنه طائر إذا ما أظل أحدا بجناحيه رفعه إلى العرش. (¬2) سيرت سليمان [ص:268].

القاضي محمد سليمان المنصور بوري والمغفور له الملك عبد العزيز

وكان القاضي رحمه الله يمد يد العون والمساعدة ويساهم في جمع التبرعات لندوة العلماء في لكهنو وكذلك لحركة المجاهدين في الهند. القاضي محمد سليمان المنصور بوري والمغفور له الملك عبد العزيز: كان القاضي محمد سليمان المنصور بوري لا يحب التحدث عن نفسه ولا يحب الظهور، ولا الإعلان عن نفسه، وكان التواضع من أبرز صفاته، حين سافر رحمه الله إلى الحج سنة 1930 م كان رئيسا لجمعية أهل الحديث، ورغم هذا لم يشأ أن يخبر السلطان عبد العزيز بذلك (¬1). ويقال إن الملك عبد العزيز رحمه الله تأثر كثيرا بلقائه الأول مع الشيخ القاضي محمد سليمان المنصور بوري حتى أنه طلب منه أن يكتب كتابا عن تاريخ نجد، فجعل القاضي محمد سليمان الحديث مع السلطان عن تاريخ نجد وقدم السلطان (جلالة الملك) عبد العزيز للشيخ عددا كبيرا من المصادر العربية حتى يقوم بكتابة كتاب عن تاريخ نجد حين يعود إلى الهند. وقد أهداه الملك عبد العزيز قطعة من غطاء الكعبة بقدر أربعة أقدام مربعة مكتوب عليها بخط طغري سورة (الإخلاص) قل هو الله أحد ومكتوب عليها "يا الله" أربع مرات ويقول الشيخ الجليل القاضي سليمان: "حين تلقيت من جلالته هذه الهدية المباركة قلت له: هذا أثمن عندي من الدنيا وما فيها" (¬2). وفاته: ذكر الدكتور مقتدى حسن الأزهري في مقدمته عن حياة العلامة الشيخ محمد سليمان المنصوربوري (الجزء الأول من الترجمة العربية) ما يلي: "وفاه الأجل المحتوم في عودته من حج بيت الله الحرام في المرة الثانية حينما كان على الباخرة في البحر في طريقه إلى الهند في يوم 8 محرم 1349 هـ المصادف 6 يونيو 1930 م (¬3) وذكر القاضي عبد الباقي قدسي في "سيرت سليمان" أن وفاة الشيخ ¬

(¬1) سيرت سليمان [ص:270]. (¬2) سفر نامه حجاز ط2 1986م / 1404 هـ[ص:79]. (¬3) الجزء الأول ط أولى، الدار السلفية بومباي 1410 هـ (1989 م) [ص:12].

رحمه الله كانت أول محرم الحرام 1349 هـ الموافق 30 مايو 1935 م في يوم الجمعة المبارك، وقد أم صلاة الجنازة سيد محمد إسماعيل الغزنوي، وكان ذلك بالقرب من يلملم داخل حدود الحرم (¬1). وقد رجع كاتب هذه السطور لما كتبه العلامة المحقق غلام رسول مهر عن رحلته للحج عام 1348 هـ / 1930 م التي نشرها في جريدة انقلاب، وأعاد طباعتها الدكتور أبو سلمان الشاهجهان بوري في كتاب عام 1405 هـ / 1984 م. ويهمنا هنا المقال الذي نشر بجريدة انقلاب في 23 يوليو 1930 م وهو آخر فصل في الكتاب الذي نشره الدكتور أبو سلمان، جاء تحت عنوان: "مؤلف ـ[رحمة للعالمين]ـ في رحمة الله، تفصيل اللحظات التي سبقت وفاة المرحوم العلامة القاضي محمد سليمان المنصوربوري هكذا": " كانت أفجع حادثة في سفر العودة هي وفاة العلامة القاضي محمد سليمان المنصوربوري مؤلف كتاب السيرة ـ[رحمة للعالمين]ـ والعديد من الكتب الإسلامية الأخرى". وبعد أن كتب العلامة غلام رسول مهر عن مرض القاضي محمد سليمان في مكة وزيارته وعيادته له، ولقاءاته به أيام الحج، كتب أيضا عن اللمحات الأخيرة للعالم الجليل: " ... وفي لحظات بدأ يأخذ نفسا طويلا واحدا بعد الآخر، بدأت شفتاه ترتعشان، وخرج من حلقه صوت خافت وصدرت عن يده حركة كالتي تصدر عن يد الإنسان وهو يكتب، كانت هذه هي آخر لحظة من لحظات اليأس، ولم يستطع أحد رفاقه الصبر، فانخرط يجهش بالبكاء قائلا: "انطفأ سراج الهند" فانهمرت دموعنا جميعا رغما عنا، في تلك الفترة بدأت ملامح النهاية تظهر على جبين القاضي سليمان للحظة واحدة، وبعدها بلحظة أخرى انقطع النفس، ونظرنا فإذا شمس العلم والفضل والزهد والتقوى قد غربت وإلى الأبد ... يداه انعقدتا على صدره دون أن يحركهما أحد وكأنه في صلاة ... وبقينا لدقائق نبكي بكاء مرا .. واشترك مئات المسافرين في صلاة الجنازة ¬

(¬1) سفرنامة حجاز (تاريخ الحرمين) ط ثانية سلمان آرت بريس، لاهور 1404 هـ / 1986 م [ص:279].

مؤلفاته

وقام إسماعيل بإمامتهم وظل يدعو للميت وهو يبكي ... أنزلنا الميت البحر ووقف جميع الركاب يشاهدون هذا المشهد وهكذا غاب عنا هذا الجسد الطاهر ولفته أمواج البحر الأحمر، كانت السنة الهجرية قد انتهت وبدأ يوم سنة جديدة، وكان اليوم هو يوم الجمعة، وحدثت الوفاة في الساعة الحادية عشرة وتم إسقاط الجثة في البحر في وقت صلاة الجمعة ... . ". وهكذا فإن وفاة شيخنا الجليل كانت ظهر الأول من محرم الحرام عام 1348 هـ الموافق للثلاثين من مايو عام 1930 م. مؤلفاته: ترك القاضي محمد سليمان عددا من الكتب والرسائل بعضها مطبوع وبعضها لم يطبع حتى الآن وبعضها مفقود ويأتي كتابه ـ[رحمة للعالمين]ـ على رأس قائمة مؤلفاته التي نشير إليها باختصار فيما يلي: - سفرنامه حجاز (تاريخ الحرمين) طبع لأول مرة سنة 1342 هـ / 1924 م ثم صدرت له طبعة ثانية كتب بتعليقاتها وحواشيها وترجم العبارات الفارسية والعربية الواردة في الكتاب إلى الأردية القاضي عبد الباري المنصوربوري وبهذه الطبعة ملحق عن سيرة المؤلف بقلم القاضي عبد الباقي المنصوربوري. ويعد كتاب سفرنامه حجاز من الكتب الهامة التي تلقي الضوء على تاريخ الجزيرة العربية ومعالمها الحضارية والعمرانية في ذلك الوقت وكذلك جوانب الحياة الثقافية والعلمية هذا بالإضافة إلى ما يفيد القراء من موضوعات تتعلق بمقارنة الأديان كما يستفيد من الكتاب كل حاج يريد أن يحج كما حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. - تفسير سورة يوسف وقد سماه "الجمال والكمال". - تاريخ المشاهير، سلسلة من المقالات كتبها لجريدة الوكيل التي كانت تصدر بالأردية. - أصحاب بدر وقد كتبه المؤلف بعد أن لاحظ أن والده كان مشغولا بعمل فهارس لأسماء أصحاب بدر، فكتب القاضي سليمان هذا الكتاب عن الموضوع ذاته. - الصلاة والسلام، ترجمة لكتاب حافظ ابن القيم جلاء الأفهام.

- تأييد الإسلام. وهو في رد القاديانية وقد نشره المؤلف سنة 1310 هـ ومعه قصيدة في حمد الله تبارك وتعالى (¬1). - غاية المرام وهو أيضا في رد القاديانية. - الاستقامة. - البرهان. - ابن الله في الأناجيل. - رد على طلب. وهذه الكتب تتعلق بالنصرانية. - مهر النبوة. كتاب في السيرة النبوية للأطفال. - تفسير سورة الفلق. وهذه ترجمة أردية لتفسير السورة المذكورة للإمام الرازي. - حجة الله البالغة. ترجمة إلى الأردية ولم تطبع المسودة وفقدت فيما بعد. - المسح على الجورب، وهذه ترجمة رسالة كتبها العلامة جلال الدين السيوطي، وهي مفقودة. - مكاتيب سلمان ونشرت بعد وفاته - خطبات سلمان ونشرت أيضا بعد وفاته. - الصلاة (مترجم) - تبيان الحج وقد أثبتت مع رحلته للحج الطبعة الثانية [ص:249] وما بعدها وهي رسالة صغيرة تتضمن موضوع أداء مناسك الحج والعمرة والزيارة الشرعية. - شرح أسماء الله الحسنى وهو آخر مؤلفاته. - مرآة التصوف. ترجمة لما كتبه الإمام الغزالي. ومن مؤلفاته أيضا: معراج المؤمنين، الإسلام والسيف. تبليغ الإسلام، نصيحة ¬

(¬1) انظر سفرنامه حجاز ط2 [ص:15].

رحمة للعالمين

الدعاة، أحوال كربلا، الأسوة الحسنة، سيد البشر. ومقارنة بين القرآن والتوراة والإنجيل (¬1). رحمة للعالمين: تمتع القاضي سليمان منصور بوري بأسلوب أدبي رائع، ومن المعروف أنه نظم شعرا في جميع الفنون فله شعر في الحمد والشكر، وله شعر في المدائح النبوية كما نظم في فن القصيدة والنظم والغزل، وكتب أشعاره بالأردية والفارسية وترجم أشعارا عن العربية، ومن أشهرها. قصيدة حسان بن ثابت في رثائه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نظمها القاضي منصوربوري بالفارسية وله قصيدة عن فاطمة الفتاة الليبية التي استشهدت وهي تسقي جرحى المسلمين في حرب طرابلس عام 1930 هـ / 1912 م ومن الجدير بالذكر أن للشاعر محمد إقبال قصيدة في نفس الموضوع أيضا. إلا أن الشيخ منصور بوري لم يهتم بالشعر ولم يكن يريد أن يعرفه الناس كشاعر، بل شغف بالقرآن الكريم درسا وتدريسا وكان الناس يعجبون به كثيرا حين يلقى دروسه القرآنية عليهم (¬2). وقد أشاد الشيخ أبو الحسن الندوي بعلمه وقدرته الكاملة على اللغة العربية وعلوم الدين، واطلاعه على العهد القديم والجديد بما يمكنه من خدمة هدف الحوار مع غير المسلمين (¬3). ومن هنا جاء كتابه ـ[رحمة للعالمين]ـ على مستوى علمي دقيق، موثقا بالمراجع والمصادر الأصيلة التي جعلت منه مصدرا لكل من يبحث في السيرة النبوية في شبه القارة الهندية وفي غيرها بعد أن ترجم الكتاب إلي اللغة العربية. وقد بلغ هذا الكتاب شهرة واسعة في الهند حتى كان الجميع يتهافتون على الحصول عليه وقراءته ولا أجد ما أكتبه عن هذا الكتاب القيم أكثر مما ذكره الشيخ أبو الحسن علي ¬

(¬1) وهذه الكتب الأخيرة مذكورة في الصفحات الخاصة بحياة العلامة النصوربوري للدكتور مقتدى حسن ياسين في مقدمته للترجمة العربية للكتاب التي صدرت عن الدار السلفية في بومباي ط أولى 0 1410هـ / 1989م [ص:13]. (¬2) انظر المصدر السابق، الترجمة العربية للدكتور مقتدى الأزهري، [ص:12]. (¬3) المصدر نفسه [ص:14].

الندوي في كتابه "في مسيرة الحياة". " ... وقع نظري على اسم كتاب " رحمة للعالمين " في قائمة مكتبة شبلي التجارية في لكهنو للقاضي محمد سليمان منصور بوري، ووجدت في نفسي فور قراءة اسمه شوقا إليه. فطلبت الكتاب بالبريد، وجاء الكتاب، ولم يكن عند والدتي ما تدفع به ثمن الكتاب، فاعتذرت عن تسلم الكتاب، ولجأت إلى البكاء وهو ملجأ الأطفال الأخير. وتطوع أحد الأقارب الشيوخ فدفع الثمن حتى تسلمت الكتاب، وقرأته في شغف وشوق وانقطاع إليه وتفان فيه، وقل ما كان لكتاب آخر من التأثير في قلبي وعقلي مثل ما كان لهذا الكتاب، فكان إخلاص المؤلف وإيمانه، وطرازه الخاص في الدعوة والتربية وبساطة حوادث السيرة وجمالها وتأثيرها كتيار كهربائي نفذ منه إلى جسمي وروحي، وأرى أن هذا الكتاب من الكتب التي لها منة جسيمة علي ... " (¬1). ¬

(¬1) أبو الحسن الندوي، في مسيرة الحياة ط أول 1407 هـ / 1987م دار القلم دمشق [ص:81]، 82 وانظر أيضا ما كتبه في كتاب "شخصيات وكتب" ط ندوة العلماء لكهنو الهند الصفحات الخاصة بـ "الكتب التي عشت فيها".

مقدمة

مقدمة يذكر أنه قبل المسيح بألفي عام تقريبا وصلت مملكة بابل إلى أوج قوتها، وكانت أمور المملكة المالية قد استحكمت، وقوتها العسكرية قد اكتملت، فملأت وفرة المال مع توفر الأمن عقل الملك بالنخوة والغرور حتى أنه أمر بصناعة تمثال له داخل معبد المملكة الأعظم، وأمر الخلق أن يسجدوا له وأن يطلبوا منه قضاء حاجاتهم. فبعث رب العالمين إبراهيم عليه السلام لهدايتهم، وتصل سلسلة نسبه عليه السلام إلى نوح بتسع حلقات، لم يعجب الملك بدعوة التوحيد لأن قبولها يعني نزوله من درجة الألوهية ليصير عبدا، ولهذا غضب من إبراهيم عليه السلام، وكان بيته على صلة بالملك، فهاجر سيدنا إبراهيم بعد أن رأى معارضة القوم له وهاجرت معه سارة زوجه ولوط بن فاران ابن أخيه. قام إبراهيم عليه السلام بتربية الغنم ليكسب من ذلك قوت يومه، فبارك الله له فيها فتكاثرت وزاد عددها. وحين تحولت المراعي التي ترعى فيها قطعان غنمه إلى صحراء جرداء لتوقف الأمطار، تحول عنها سيدنا إبراهيم ومضى إلى أن وصل مصر. وكان عليها آنذاك حاكم يدعى "رقيون" (¬1) وكان أصلا من أهل بابل، (ومن الممكن أن يكون هذا ما دعا سيدنا إبراهيم للتفكير في الذهاب إلى مصر). وأراد ملك مصر أن يستأثر السيدة سارة لنفسه بعد أن عرف أنها من نساء وطنه، ولكن الله اطلعه فورا على أنها زوجهة نبي الله المختار، وقام الملك بتكريم إبراهيم عليه ¬

(¬1) خطبات أحمدية [ص:109]. كتب د. حسن إبراهيم حسن - في كتابه عمرو بن العاص ط. مطبعة السعادة بمصر مجلد 2 [ص:182]- أن أسم ذلك الملك كان طوطيس بن ماليا، وكتب أن عاصمة ملكه كانت منف، ويفهم مما ذكره في [ص:183] أن طوطيس لقب للملك ومن هنا يكون الاسم الأصلي هو رقيون وطوطيس هو لقبه - وكتب المؤرخ سابق الذكر أن هذا الملك قد حفر ترعة تصل النيل بالبحر الأحمر لإيصال محاصيل مصر إلى السيدة هاجرة وقد جدد كل من قيصر ونيخوس ودارا حفر هذه الترعة، وكانت هذه الترعة هي نفسها التي اكتشفها عمر الفاروق من جديد.

السلام حتى إنه حين هم بالعودة إلى وطنه أرسل معه ابنته هاجرة (¬1) حتى تتربى في هذه الأسرة الصالحة، وتتزوج في وطنه واحدا من أهله الأصليين. وقام إبراهيم عليه السلام فتزوج من هاجرة حتى يحقق للملك المضياف أمنيته الطيبة. وقد وهبه الله منها باكورة أولاده فسمي إسماعيل (عليه السلام). وولدت السيدة سارة الابن الثاني لإبراهيم عليه السلام فسماه إسحاق (عليه لسلام) وكان الله قد أخبر خليله إبراهيم أن هذين الولدين (¬2) مباركان تخرج من ضلعهما أمم عظيمة، ويكثر أولادهما حتى إنه يصعب حصر عددهم، ولهذا قسم الأب الملك بينهما بناء على أمر الله ورغبة الأهل، فأعطى إسحاق بلاد الشام لأن مملكة بابل كانت تقع شرقها وهذا يقرب إسحاق من أخواله. وأعطى إسماعيل بلاد العرب لأن مصر كانت تقع غربها وهذا يقرب إسماعيل من أخواله أيضا، وهكذا عاش الأخوان لا يفصل بينهما بلد ثالث حتى يمكن أن يعاون الأخ أخاه في بلديهما إذا ما اقتضى الأمر ذلك (¬3). ¬

(¬1) لم تنل هاجرة شرف كونها بنت ملك فقط بل يفهم من التوراة أن منزلتها عند الله أيضا عاليه، ففي سفر التكوين 16/ 7 - 11، 21/ 17 ورد أن ملائكة الرب كانت تمثل أمام هاجرة وتبلغها بأمر الله، ولكن أيا من الملائكة لم يحضر أمام سارة أبدا. وثبت مما جاء في سفر التكوين 10/ 18 أن الملك بشر سارة بطفلها بواسطة إبراهيم. (¬2) يمكن التعرف على تساوي إسماعيل عليه السلام وإسحاق عليه السلام في الدرجة والبركة من مطالعة المواضيع التالية في سفر التكوين: أ - سمع الله تضرع هاجرة 16/ 11. سمع الله تضرع سارة 18/ 14. ب - سمى الله ولد هاجرة إسماعيل 16/ 11. سمى الله ولد سارة إسحاق 17/ 19 ج - بارك الله في ولد هاجرة إسماعيل 17/ 20 بارك الله في ولد سارة إسحاق 17/ 19 د - كان الله عونا لإسماعيل 21/ 20 كان الله عونا لإسحاق 26/ 24. هـ - سيكون إسماعيل أبا للأم والملوك 25/ 16 سيكون إسحاق أبا للأم والملوك 17/ 6 (¬3) جاء في سفر التكوين 25/ 9 أن إبراهيم دفنه ولداه إسحاق وإسماعيل - وهذا يدل على أن الأخوين ظلا معا شريكين في السراء والضراء.

كان زواج إسماعيل من ابنة مضاض سيد بني جرهم، وبنو جرهم من القبائل القديمة التي حكمت في العرب، وكان مضاض هو الحاكم الأوحد لمنطقته (¬1)، هذا بينما كان زواج إسحاق في بيت أخواله وهكذا ظلت الشقة تتسع بين أبناء النسل الواحد، ولكن رب العالمين كان يقرب بينهم من حين لآخر عن طريق الاتصال والتعاون بين الاثنين. حين فر موسى عليه السلام خوفا من فرعون، لجأ إلى العرب وحين حرر بني إسرائيل وأخرجهم من مصر قضى بين العرب أربعين سنة كاملة، وهكذا حين خرج داود عليه السلام من وطنه خوفا من الملك صموئيل، قدم إلى العرب وأقام بينهم، وحين دمر بخت نصر بني إسرائيل قام معد بن عدنان بإسكانهم بين العرب معززين مكرمين، والأنبياء الذين ظهروا من أولاد إسحاق عليه السلام أشاروا في إلهاماتهم إلى بني إسماعيل. وما أقصده هنا هو أن أكتب فقط شيئا عن إسماعيل عليه السلام. كان إبراهيم عليه السلام قد أسكنه ووالدته في تلك البقعة التي توجد فيها مكة الآن، وقام الأب الصالح مع ولده الجليل ببناء مسجد (مكعب الشكل) في ذلك المقام، ودعا الله سبحانه وتعالى مالك الملك أن يرزق أهل هذا المكان المجدب رزقا، وأن يهيئ لهم من الثمرات رزقا (¬2)، وأن يبعث في هذا المقام رسولا عظيما يهدميهم ويرشدهم. كان لإسماعيل اثنا عشر ولدا (¬3) اقتسموا أرض العرب فيما بينهم، وقد انتشروا ¬

(¬1) بروفيسر سيديو: خلاصة تاريخ العرب [ص:23] (¬2) يتعجب من يذهب إلى مكة لأمرين: الأول، أن أرض مكة لا زرع فيها ولا نبات ولا محاصيل والثاني أن أسواق مكة مليئة بالفاكهة الطازجة والخضروات، وهي متوافرة ورخيصة، ويفهم من هذا أن الله تبارك وتعالى استجاب دعاء إبراهيم عليه السلام، ثم يأتي الدليل على قبول الله للدعاء في شطره الثاني وهو بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد جاء في التوراة (كتاب التثنية 17، 18، 19 أن النبي الموعود يظهر من نسل إسماعيل - وثبت من كتاب التثنية 23/ 2 أن ظهوره يكون من مكة (فاران). (¬3) كان ليعقوب بن إسحاق عليهما السلام اثنا عشر ولدا، ستة من بطن زوجته لياه (راوبين، شمعون، لاوي، يهوذا، يساك، زبلون) ومن بطن زوجه راخيل اثنان (يوسف، بن يامين) ومن بطن زلفه وكانت جارية لزوجه لياه اثنان (جاد، آشير) ومن بطن بلهه وكانت جارية لزوجه راحيل اثنان (دان، نفتالي) سفر التكوين 29، 30. ومن هؤلاء الأولاد الإثنى عشر كانت قبائل بني إسرائيل الإثنى عشرة، وهي التي باركها يعقوب =

بسرعة كبيرة حتى وصلوا غربا إلى مصر حيث أخوالهم، ووصلت خيامهم إلى اليمن جنوبا حيث أسكن الأب إخوانهم بني قطورة، واتصلت قراهم بالشام شمالا حيث سكن إخوانهم بنو إسحاق. وهكذا ورث أولاد أب واحد علم بابل ومصر القديم وحضارتهما وسيطروا على مواني المحيط الهندي والبحر الأحمر التي كانت تتحكم في تجارة العالم المتمدن آنذاك، كما دان لهم أيضا وسط الجزيرة العربية، والذي كان دائما حصنا منيعا في وجه الأمم الأخرى. اشتهر من أولاد إسماعيل عليه السلام ابنه الثاني قيدار شهرة واسعة، فقد سكن أولاده في مكة وحفظوا - كأبيهم - لهذا المسجد المقدس حقوقه وشأنه على الدوام، وهو المسجد الذي كان مدرسة التوحيد الأولى للدنيا أجمع. بعد الجيل السابع والثلاثين لأولاد قيدار، ولد عدنان الأول وكان من أولي العزم، قام أخوه الأصغر ويدعى عك بتأسيس دولة في اليمن. وبعد عدنان غلبت قبيلة بني جرهم بني إسماعيل ورغم أنهم أخوالهم إلا أنهم أخرجوهم من مكة سنة 207 م لأن بني إسماعيل لم يوافقوهم حتى ذلك الوقت على عبادة الأصنام، ولكن قصي، وهو من الجيل الخامس عشر لعدنان الثاني، استولى على مكة، وأسس فيها سنة 440 م حكما مشتركا وأقام المناصب التالية: 1 - الرفادة. 2 - السقاية. 3 - الحجابة. 4 - القيادة. 5 - وأنشأ رمزا قوميا أطلق عليها "اللواء". ¬

= عليه السلام وموسى عليه السلام وداود عليه السلام والمسيح عليه السلام ويوحنا. وإذا اعتبرنا قول النصارى بأن السيدة هاجرة كانت جارية للسيدة سارة التي وهبتها لزوجها فتزوجها، فإن هذا أيضا لا يمكن أن يكون مدعاة للاعتراض على بني إسماعيل مثلما لا يوجه أي اعتراض على جاد وأشتر ودان ونفتالي وعلى أولادهم الذين هم أولاد بلهه وزلفه وكانتا أمتين.

6 - وأقام مجلسا قوميا أطلق عليه " الندوة " أو " دار الندوة ". بعد قصي جاء ابنه عبد مناف (¬1)، ومن بعده ابنه هاشم (¬2) ثم ابنه عبدالمطلب (¬3) (المولود سنة 497 م) ثم ابنه أبو طالب وكانوا جميعا رؤساء مكة المحترمين كل في زمانه، وكان سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي يتناورا طذا الكتاب سيرته العطرة حفيدا لعبدالمطلب. وهكذا اتضح من الصفحات السابقة من كانوا يسكنون في الجزيرة العربية، وكيف كانت علاقتهم بالبلاد المجاورة لهم، ولكن أرى لزاما علي أن أوضح الحديث عن بلاد العرب. يفهم من مشاهدة الخارطة أن بلاد العرب هي شبه الجزيرة التي يحدها البحر الأحمر من الغرب والمحيط الهندي من الجنوب والخليج العربي من الشرق وبلاد الشام من الشمال، ويفصلها عن الشام سلسلة الجبال الممتدة شمالا، كما تفصلها عن مصر قناة السويس كما يفصل بحر العرب بين الهند والجزيرة العربية. ومساحة الجزيرة العربية ضعف مساحة فرنسا تقريبا، وتمتاز كل منطقة فيها بخصائص فريدة، فوادي اليمن وجبال الطائف تضارع في خضرتها أحسن مافي شبه القارة الهندية الباكستانية، وتخلو بطاح الحجر وصحراء وسط الجزيرة الواسعة، من الماء والعشب مثلما هو الحال في صحراء إفريقيا العظمى، أما الحالة السياسية والأخلاقية التي كانت عليها جزيرة العرب وقت مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهلا فكانت كما يلي: في جنوب الجزيرة وجدت دولة الأحباش، وفي الجزء الشرقي إمبراطورية الفرس وفي القطاع الشمالي الإمبراطورية الرومانية الشرقية التي كانت تسيطر على القسطنطينية (¬4)، وكان وسط الجزيرة العربية حرا كما يزعمون إلا أن كل إمبراطورية كانت تسعى من جانبها إلى السيطرة عليه. أثرت الحرية على سكان وسط الجزيرة تأثيرا سيئا للغاية، فظهرت فيهم الأنانية ¬

(¬1) كان اسمه المغيرة وقد أخذوه إلى صنم مناف بعد ولادته - تبركا - فاشتهر بعدها بعبد مناف. (¬2) كان اسمه عمرو وقد هشم الثريد للفقراء وأطعمهم إياه فسمي هاشما. (¬3) كان اسمه شيبة، حين ولد كان شعره أبيض، ولهذا سمته أمه شيبة (أي عجوز) وكان عمه المطلب هو الذي رباه فقد كان يتيما وتقديرا لذلك عرف طوال حياته بعبد المطلب. (¬4) تاريخ العرب للبروفيسر سيديو [ص:45].

وسيطر عليهم التمرد، وجعلوا من إخوانهم هدفا لإثبات شجاعتهم وجرأتهم، فغرست البطالة والكسل فيهم عادة الخمر والميسر، حتى تأصلت في نفوسهم، وأدى بعدهم عن الدول الأخرى إلى بقاء لغتهم صافية وكذا نسلهم، إلا أن استعمالهم للفصاحة اقتصر في معظمه على التفاخر بأنفسهم وتحقير غيرهم من الأمم، أو أنهم استخدموا كل براعتهم اللغوية لإذاعة غرامهم الفاحش والتشهير بعشيقاتهم، وقد غرست فيهم حياة العزلة كراهية المصاهرة، فكانوا يقومون بوأد بناتهم شرفا وشجاعة وفخرا. ونشر الجهل فيهم عبادة الأوثان، تلك العبادة التي سيطرت على القلوب والعقول البشرية، فجعلتهم عبدة للوهم وهكذا بدأوا في عبادة كل ما في الطبيعة، عبدوا الأحجار والأشجار، والقمر والشمس والجبال والأنهار وغيرها، وهكذا نسوا عظمة الله وجلاله ونسوا أيضا قيمتهم ومكانتهم، لأنه لم تكن هناك أي قاعدة لحفظ الحقوق الإنسانية، كما لم يكن هناك أي قانون ينظم هذه الحقوق على أساس سليم، وكانت النتيجة: قتل النفس البشرية، النهب والسلب، الأسر، والسلوك السيء، والتدخل الجائر وخطف النساء جبرا أو عن طريق الإغراء، ووأد البنات، ذلك لأن عبادة الأوثان جعلت الإنسان في أعينهم أحقر الموجودات. وصور جمود السنوات بل جمود الأجيال والقرون، لعقولهم وقلوبهم أنهم على أحسن حال، وأنه لا توجد مدنية تفوق مدنيتهم، ولا توجد ديانة أفضل من ديانتهم. ونتيجة لاتصال مختلف الحكومات والسلاطين بمختلف بقاع الجزيرة العربية، وجدت فيها ديانات مختلفة أخرى. ومن يعرف اليهودية (¬1)، والنصرانية (¬2) والصابئة وغيرها قد يخدع ظنا منه أن أولئك الناس يمثلون محاسن هذه الديانات، لكن الحقيقة هي أنهم أفسدوا الدين بدلا من أن يصلحوا بالدين أنفسهم، ولو رآهم موسى وعيسى ¬

(¬1) حين أخرج اليونانيون والسريانيون اليهود من مناطقهم، وفدوا إلى جزيرة العرب فرحب بهم بنو إسماعيل (فهم أبناء عمومتهم وإخوانهم) وانتشرت ديانتهم بسرعة في الحجاز ونواحي خيبر والمدينة (كتاب خلاصة تاريخ العرب [ص:38]). (¬2) قبل بنو غسان النصرانية سنة 230 م وانتشرت النصرانية في العراق والجزيرة العربية والبحرين وصحراء فاران ودومة الجندل وشواطئ دجلة والفرات وعمل على نشرها معا كل من نجاشي الحبشة وقيصر الروم، وفيما بين سنتي 513 م و 395 م وبذلت جهود كبيرة لنشرها وانتشرت الأناجيل بكثرة في اليمن. (المصدر السابق [ص:39]).

موقع عرب

وشعيب وصالح عليهم السلام، لما عرفوا أبدا أنهم من أتباع ملتهم الذين يتبعون تعاليمهم، فإذا كان عامة النصارى يقولون أن المسيح ابن الله، فنصارى العرب يقولون أن مريم زوجة الله وأن الملائكة بنات الله، وعبدة الأوثان يقولون أن اللات والعزى أنثى الله (اللات تأنيث الله، والعزى تأنيث أعز). وعامة اليهود في ذلك الزمان كانوا يقولون: عزير ابن الله لأنه كتب التوراة عن ظهر قلب (لأنه كان يحفظها كلها) إلا أن يهود العرب كانوا يقولون إن رجالهم ونساء هم هم أبناء الله وأحباؤه، وبنات الله وخليلاته. وعبدة النار "لمجوس" كانوا غالبا ما يحبسون بناتهم وأخواتهم داخل البيوت، إلا أن ملحدي العرب كانوا يتخذون من جميع زوجات آبائهم - ما عدا أمهاتهم - إماء لهم، وجميع الأمم في جزيرة العرب (باستثناء بعض الأفراد) كانت مم جاهلة لا تعرف القراءة ولا الكتابة، ليس لديها نصيب من العلوم، ولا تدري شيئا عن الفنون أو التمدن، ولا تفقه شيئا من معاني الصفح والعفو والتسامح. لقد سكن جزيرة العرب الملاحدة والدهريون أيضا الذين ظنوا أن الموت والحياة مجرد صدفة ونسبوا كل شيء إلى الدهر، وبالتالي نسبوا إليه كل تغير يطرأ على هذا العالم، وكان الإقرار بوجود الله، ونظرية الثواب والعقاب، وما يترتب على العمل الصالح والعمل الطالح من نتائج طيبة وأخرى سيئة، كان كل هذا عندهم مدعاة للسخرية والاستهزاء. وهكذا كانت الجزيرة العربية ملتقى جميع الأديان الباطلة والأفكار الفاسدة نظرا لما ضمت من مساوئ سبق ذكرها. موقع عرب: إذا نظرنا إلى الجزيرة العربية على خريطة الكرة الأرضية لعرفنا من موقعها (¬1) أن الله ¬

(¬1) إذا نظرنا إلى قارات الكرة الأرضية لعرفنا أنها تقع في الجنوب على خط عرض 40 درجة وفي الشمال على 80 درجة على أكثر تقدير ويكون مجموعهما 120 درجة نصفها 60 درجة وإذا طرحنا 60 من ثمانين درجة (شمالا) فالناتج هو 20 وإذا طرحنا 40 درجة (جنوبا) من 60 درجة فالناتج هو 20 ولما كانت مكة المكرمة تقع على (خط 21 ونصف درجة) لهذا فهي تمثل وسط ومركز الكرة الأرضية. ونلاحظ ما يلي: =

جعلها وسط قارات آسيا وأوربا وإفريقيا، وهي حين تربط الدنيا بيمينها وشمالها برا وبحرا تجعلها وحدة واحدة ولهذا يمكن أن يفهم كيف وصلت جميع أديان العالم إلى هذه البلاد وكيف فسدت تحت تأثير سيطرة الجهل وهكذا يمكن أن يفهم أيضا أنه إذا ما اختير مكان ما لتأسيس مركز لهداية العالم أجمع فإن الجزيرة العربية هي أنسب وأصلح مكان لذلك، وخاصة إذا نظرنا إلى ذلك الزمان لأمكننا القول بأنه إذا كانت الدول الكبرى في إفريقيا وأوربا وآسيا على صلة بالجزيرة العربية فإن السبل كانت متوفرة لإيصال صوت الجزيرة العربية بأسرع ما يمكن إلى القارات الثلاث. ولهذا (وحسبما أفهم) بعث الله سيدنا محمدا (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جزيرة العرب، وكلفه بتبليغ دعوة الهداية إلى أمته، وبلده، والعالم أجمع بالترتيب. وسوف يستطيع القارئ بمطالعته لهذا الكتاب أن يعرف كم كانت صعوبة العمل الذي اطلع به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف أدى هذا الواجب بأسلوب جميل، وصبر وحلم، وثبات وتحمل، لينشر بذلك الحضارة والمدنية والعلم والأخلاق ويوحد الأمم والبلاد، كيف رفع مكانة الإنسان ونشر رسالة التوحيد، وأشعر قلوب البشر بعظمة الله وكبريائه فأثبت أن جميع الموجودات خلقت لخدمة الإنسان. وسوف يستطيع القارئ أيضا أن يعرف كيف وحد الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بين بني البشر وجعلهم سواسية وساوى بينهم في العقيدة والفكر، وذلك رغم فوارق النسل والجنس والقومية وتباين الأوطان والبلاد، وامتيازات الغنى والفقر وتفاوت ظروف المنتصر والمنهزم، واختلاف اللغات والألوان وما إلى ذلك. ¬

= أ - اسم مكة في كتب اللغة يعني "سرة الأرض" وسرة الإنسان لا تكون وسطه بالضبط بل تكون قريبا في وسط جسمه وهذا هو السبب في أن مكة تقع في أقرب منطقة للوسط والفرق نصف درجة يثبت أن مكة هي "سرة الأرض." ب - وليفهم الآن أن بلاد العرب تقع ما بين درجتي خطي عرض 15 و35 شمالا، وبينهما تقطن الأجناس الشهيرة في العالم، ففي الشرق القبائل الآرية والمنغولية، وفي الغرب الأحباش والحاميون والهنود الحمر (سكان أمريكا الأصليون)، وحين تظهر مسألة الدعوة بين الأمم جميعا تكون الجزيرة العربية هي مركز الدعوة، ولهذا جاء في القرآن الكريم: {جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء}. (¬1) لفظ محمد اسم مفعول من حمد والمضاعف للمبالغة وأحمد أيضا من حمد، وهو

أثر دعرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

أثر دعرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: حين أتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا العمل العظيم، قرب العباد من الله، وقرب الأمم من الأمم، وأثبت النصر والأخوة مكان البغضاء والعداوة، وأخرج الظلمة والجهالة لينير القلوب والعقول بنور الصدق والعلم، وهكذا رحل عن هذا العالم فارغ البال قرير العين فرحا مسرورا. وحتى يمكن للقارئ أن يقدر عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - العظيم عليه أن ينظر: كيف بذرت بذرة الإسلام في القلوب الطاهرة فأثمرت ثمارا طيبة؟ فكان النجاشي ملك الحبشة، وجيفر ملك عمان وأكيدر رئيس دومة الجندل يفخرون بالوقوف جنبا إلى جنب مع بدو نجد وتهامة وفقراء اليمن، وترك عبد الله بن سلام الإمامة في اليهودية، وكذا ترك ورقه بن نوفل الإمامة في النصرانية وعثمان بن طلحة في الإبراهيمية وشرفوا بأن يكونوا في خدمة الإسلام، أما سلمان الفارسي العبد المملوك لليهود فقد فاز بالدرجة الرفيعة التي أنزلها إياه رسول الله (سلمان منا أهل البيت)، وبلال الحبشي العبد المملوك للوثنيين، كان عمر الفاروق الأعظم الذي يخاف سطوته وهيبته قيصر وكسرى، يقول له: سيدنا سيدنا، وهكذا - في ظل الإسلام - انتهت امتيازات اختلاف الألوان وتباين الألسنة، والتفرقة الوطنية حتى صار مجرد ذكر شرف الحسب والنسب دليلا على النذالة، فالدين جعلهم جميعا أمة واحدة، فتوحدت العواطف في القلوب والغيرة في الطبائع، والفكر في العقول، وعلى الألسن نداء واحد هو نداء التوحيد. انقلب العدو صديقا، وصار القاتل مدافعا عن الإسلام فها هو عمرو بن العاص الذي ذهب إلى النجاشي في الحبشة سفيرا لقريش، ليعتقل المسلمين - كمجرمين - ها هو بعد عدة سنوات يذهب إلى ملك عمان داعيا إلى الإسلام، ويعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يبشره بإسلام الآلاف من الناس. وها هو خالد بن الوليد الذي قاد جيش المشركين في غزوة أحد جاعلا من القضاء على المسلمين أسمى أهداف حياته، ها هو بعد فترة يدخل رحاب الإسلام، فيهدم بيديه معابد اللات والعزى، ويكون قائدا مظفرا في جيش الفتوحات الإسلامية. وها هو عروة بن مسعود رضي الله عنه الذي كان سفيرا لقريش في الحديبية جاء ليمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دخول مكة، فإذا به هو نفسه يأتي المدينة ويستأذن رسول الله

لنشر الدعوة الإسلامية بين أهله، ويضحي بنفسه في سبيل الدعوة. وها هو سهيل بن عمرو رئيس وفد المشركين في معاهدة الحديبية الذي رفض كتابة عبارة "رسول الله" بعد محمد اسم الرسول المبارك في الاتفاقية، ها هو بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - يقف في بيت الله يلقي خطبة رائعة في بيان مصداقية الإسلام وتأييد دين الله الحق. فتمتلئ مئات القلوب بالسكينة والإيمان. وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي حمل سيفه وخرج من بيته لقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ها هو نفسه يوم وفاة الرسول يشهر سيفه قائلا: من قال إن محمدا قد مات ضربت عنقه. وها هو وحشي الذي قتل حمزة رضي الله عنه وأخرج كبده ومزق أعضاءه ومثل بجثته، يسلم بعد أيام، فلا يرفع وجهه أمامه خجلا وندامة ثم يكفر عن جريمته السابقة بقتل مسيلمة الكذاب، وأبو سفيان بن حارث بن عبد المطلب وهو ابن العم الشقيق للنبي - صلى الله عليه وسلم - يستمر في فرض الشعر في هجاء النبي، هداه الله للإسلام فشوهد يمسك بزمام الركاب النبوي وحده في ميدان المعركة في غزوة حنين. وها هو أبو سفيان بن حرب الذي ظل يؤلب الجيوش ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع سنوات ويلهب نار الحرب ضد المسلمين في جميع البلاد، يعلن الإسلام ويرسل حاكما على منطقة نجران النصرانية. وطفيل الدوسي رضي الله عنه الذي كان يمضي في مكة وقد سد أذنيه بندف القطن حتى لا يصل صوت محمد - صلى الله عليه وسلم - إليه، يدور في النهاية على كل بيت في وطنه لإبلاغ صوت محمد - صلى الله عليه وسلم -. وعبد ياليل الثقفي الذي كان قد أرسل العبيد والغلمان خلف رسول الله في الطائف ليرموه بالحجارة، يحضر في النهاية إلى المدينة ومنها حمل إلى قومه جواهر الإيمان واليقين. وبريدة بن الحصيب الأسلمي الذي خرج مع سبعين فارس للقبض على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن وعدته قريش بجائزة قدرها مائة من حمر النعم، نراه بعد ساعات يحمل لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والخلاصة أن مثل هذه الأمثلة تحتاج إلى مجلدات ومجلدات.

كل هذه المعجزات كانت نتيجة للتربية الطاهرة التي ظلت تمتلك القلوب تدريجيا، لقد أتى معظم الأنبياء عليهم السلام بالمعجزات مثل تحويل ماهية العصا والحيات والأحجار والبحار والنار أو سلب خاصيتها أمام الناظرين، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - (فداه أبي وأمي) أتى بمعجزة أعظم، فقد بدل القلوب وطهر النفوس، والفرق بين الإنسان والعصا والإنسان والحية والإنسان والحجر، هو نفسه الفرق بين هذه المعجزة وبين المعجزات الأخرى، وهذا هو الأمر الذي حير حتى اليوم جميع المفكرين الذين أرادوا أن يقولوا أو يكتبوا شيئا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (رغم الاختلاف الديني) -. ليت المسلمين يقدرون حق هذه التربية الطاهرة ليتهم يطلعون على هدف النبي - صلى الله عليه وسلم - الطاهر، ليتهم يعتبرون الحفاظ على الإسلام فرضا واجبا عليهم، ليتهم يعتبرون بقاء الإسلام أكثر ضرورة من بقاء أنفسهم، وأبنائهم وآبائهم وشيوخهم وعظمائهم. أيها القارئ! إن الميزة العجيبة في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تكمن في أنها تهدي الناس من جميع الطبقات، لقد ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الدنيا يتيما وهكذا لازمته صفات المسكنة والفقر، وعاش سنوات عمره الأولى وسط جو ريفي وهكذا نشأت البساطة ونمت لدى رسول الله، فأمضى صباه في وقت انشغل فيه القوم بحرب الفجار وغيرها. وهكذا حاز السلم والأمن والتعاطف مع الناس اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ البداية. لم يتزوج الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى سن الخامسة والعشرين وعاش حياة التجرد وهو في عنفوان الشباب، بكامل العفة والعصمة، والحياء والخجل فكان بشهادة من رأوه أكثر حياء وخجلا من ذوات الخدور. اختار - صلى الله عليه وسلم - التجارة وسيلة لكسب العيش فأرشد أصحاب الهمم العالية، الذين يتصفون بالثبات والاستقامة وفهم المعاملات والضرورات، والحلم والصبر، أن التجارة خير وسائل الكسب. كان زواجه الأول من أرملة تكبره بخمس عشرة سنة مع ما كان عليه من جمال الرجولة، وعلو الحسب والنسب، وهكذا قدم مثالا رائعا على ضرورة وفضل زواج الأرامل، كما أوضح أيضا أن المرء يمكن أن يتحرر من قيد الأفكار الشهوانية حتى لو كان متأهلا. كانت الزوجة ثرية جدا، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - استغنى دائما عن عونها المالي وعن عون

أسرته وذلك بما اتصف به من قناعة وزهد، وهكذا قدم نموذجا رائعا للاعتماد على النفس. وفي مدة قصيرة أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقه وعطفه على العرب الجفاة، وأوجد لنفسه في قلوبهم العزة والمحبة وهكذا قدم نموذجا منيرا للصادقين على أن قوة الخير والصدق يمكن أن تقهر الظلم والجهل. أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضل وقوة التعاون والتمدن، ومهد السبيل بعقد "حلف الفضول" لاستقرار الأمن وحماية الجنس البشري وعلم الحريصين على نهضة بلادهم بإخلاص، الأصول الذهبية لإدارة شئون البلاد التي تتمثل في الاستعانة بأبنائها. وأرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنصبه الحجر الأسود أنه إذا اجتمع أناس اختلفوا في الأهداف والمقاصد في مكان واحد، فيمكن جمعهم على مركز واحد، كما أثبت أيضا أن دعم السلام وتجنب مخاطر الحرب لا يحتاج إلى القوة الحربية بل يلزمه ذهن ثاقب. وتتجلى محاسن الأنبياء جميعا في نبوته - صلى الله عليه وسلم -: كذب - صلى الله عليه وسلم -، وأوذي كما كذب المسيح وأوذي فصبر وشكر. وبلغ صوت الله في الصحراوات والقرى مثلما فعل يحيى عليه السلام. وأحيى من جديد حرمة وعظمة بيت الله مثلما فعل عيسى عليه السلام. وعاش - صلى الله عليه وسلم - صابرا صبر أيوب ثلاث سنوات في الشعب، ورغم ما عاناه ظل قلبه مملوءا بالشكر لله والثناء عليه وظل لسانه يلهج بالتسبيح لله. وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بدعوته قومه الأشقياء في السر والعلن، في الخفاء وعلى الملأ، في الأعياد والاجتماعات، في الطرق والممرات، في الوديان وفوق الجبال محذرا الناس من ارتكاب المعاصي والأعمال السيئة، تماما مثلما فعل نوح عليه السلام. واعتزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - مثله مثل إبراهيم عليه السلام - عصاة قومه، وهاجر من وطنه يبحث عن أرض طيبة ليغرس فيها شجرة الإسلام الطيبة وفي ليلة الهجرة نجح - صلى الله عليه وسلم - في الافلات من الأعداء مثل داود عليه السلام. ومثل يونس عليه السلام الذي قضى في بطن الحوت ثلاثة أيام حتى بلغ نداءه في

"نينوى" مكث - صلى الله عليه وسلم - في بطن غار ثور ثلاثة أيام ثم رفع صوت الحق في المدينة الطيبة. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل موسى عليه السلام الذي حرر بني إسرائيل من عبودية فرعون مصر، حرر العرب في شمال الجزيرة من سيطرة ملك القسطنطينية (الروم) وحررهم في شرق الجزيرة من عبودية كسرى الفرس وحررهم في جنوب الجزيرة من استعباد ملك الحبشة، ومثل سليمان عليه السلام بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بيتا لا يزال على الدوام يذكر فيه اسم الله، ويضيء بنور التوحيد، ولا يمكن لأي "بخت نصر" أو أمثاله أن يصيبوه بسوء. ومثل يوسف عليه السلام أحضر المؤن من نجد (بواسطة ثمامة بن أثال) لأخوته المكيين الذين آذوه وظلموه، ثم بشرهم يوم فتح مكة ببشارة "لا تثريب عليكم اليوم" وملكهم بالإحسان بقوله "اذهبوا فأنتم الطلقاء". وكان - صلى الله عليه وسلم - في وقت واحد صاحب دولة مثل موسى عليه السلام وصاحب إمامة مثل هارون. واجتمعت في ذاته - صلى الله عليه وسلم - حرارة نوح عليه السلام ورقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وعفو يوسف وانتصارات داوود عليه السلام، وصبر يعقوب عليه السلام، وسطوة سليمان عليه السلام، وتواضع عيسى عليه السلام، وزهد يحيى عليه السلام، وخفة روح إسماعيل عليه السلام ... . أنت يا من تملك منذ الأزل عرش السيادة تلك المحاسن التي اجتمعت في الكرام اجتمعت فيك وحدك ... يا من جلست على عرش السيادة. تلك المحاسن التي اجتمعت. في الكرام ... اجتمعت فيك وحدك ... . رغم وجود جميع الألوان المقدسة في شمس الرسالة إلا أن نور ـ[رحمة للعالمين]ـ الذي احتوى بداخله جميع الأنوار، أضاء الدنيا بشعاع أبيض صاف.

وكاتب هذه السطور ما هو إلا ذرة لا قدر لها، فكيف له أن يلقي الضوء على الشمس المنيرة، ولهذا أكتفي بذكر سيرته العطرة باختصار وإيجاز، عفا الله عن زلاتي فهو أعلم بحسن نيتي، وليسامحني إخوتي في الإسلام إذا ما قصرت وذلك لقلة بضاعتي. العاجز محمد سليمان

محمد - صلى الله عليه وسلم -

بسم الله الرحمن الرحيم محمد - صلى الله عليه وسلم - حياته وبعثته •---------------------------------• سيدنا محمد (¬1) بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي نبينا، سماه جده محمدا، وسمته أمه أحمد (¬2)، ببشارة ملك في المنام (¬3). والنبي - صلى الله عليه وسلم - من أولاد إبراهيم (¬4) (خليل الرحمن وأبي الأنبياء عليه السلام)، وهم من بطن السيدة هاجرة، بنت "رقيون" ملك مصر، وكانت لها مكانة عند الله حتى إن ملائكة الله كانت تأتيها، وكانت تبلغها رسالات الله (¬5). واسم ولد هاجر إسماعيل وهو الابن الأول لإبراهيم عليه السلام وكان قد أسكنه في الوادي الذي تقع فيه مكة المكرمة الآن، وقد فجر الله تعالى لإسماعيل بئر زمزم (¬6). وهب الله إسماعيل اثنا عشر ولدا، اشتهر من بينهم ولده "قيدار"، وقد كثر ذكره ¬

(¬1) لفظ محمد اسم مفعول من حمد والمضاعف للمبالغة وأحمد أيضا من حمد، وهو واقع على المفعول، ويظهر من اسم محمد كثرة الحمد وكميته ومن اسم أحمد صفة الحمد وكيفيته، يقول حسان ابن ثابت: وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد ويفهم أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - نسبة خاصة بالحمد، فاسمه محمد وأحمد واسم مقام شفاعته محمود واسم الأمة المحمدية (الحمادون) واسم لوائه - صلى الله عليه وسلم - لواء محمد - والحمد لله على ذلك حمدا كثيرا. (¬2) ورد في الحديث: "اسمي في الأرض محمد وفي السماء أحمد" وقد ورد اسمه المبارك في التوراة "محمد" وفي الانجيل "أحمد". (¬3) بشر الملك السيدة آمنة ببشارة التسمية، كما سمت السيدة هاجرة ابنها إسماعيل ببشارة ملك (سفر التكوين 16/ 11) وسمت مريم ابنها يسوع (إنجيل لوقا 1/ 30). (¬4) كان اسم إبراهيم في البداية "ابرام" فسماه الله إبراهيم، ومعناه أبو الأمم (سفر التكوين 17/ 5) ومن ولده بنو إسماعيل وبنو إسرائيل وبنو عيصو وبنو قيطورة، وعلى القساوسة الذين يذكرون اسم بني إسرائيل أن يفكروا كيف يمكنهم أن يثبتوا قولهم بأن إبراهيم أبو الأمم. (¬5) سفر التكوين 7 حتى 11/ 16 و 17/ 21. (¬6) سفر زبور (84/ 4 / 6) والتكوين 19/ 2، وصحيح البخاري برواية ابن عباس (6/ 396).

في التوراة (¬1) واشتهر عدنان من بين أبناء قيدار، كما اشتهر قصي من بين أبناء عدنان وقصي هو الجد الرابع للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وأم النبي - صلى الله عليه وسلم - هي آمنة بنت وهب رئيس قبيلة بني زهرة ونسبه يتصل بفهر الملقب بقريش، وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من خير بطون العرب ومن أحسن قبائلهم وفروعهم من جهة أبيه وأمه. ولد نبينا - صلى الله عليه وسلم - في فصل الربيع (¬2) يوم الاثنين (¬3) في التاسع من ربيع الأول (¬4) السنة الأولى من عام الفيل (¬5) الموافق للثاني والعشرين من أبريل (¬6) سنة 571 م والأول من جيته سنة 628 بكرمى وذلك في مكة المكرمة بعد الفجر الصادق (¬7) وقبل شروق الشمس. وكان - صلى الله عليه وسلم - وحيد أبويه (¬8) وقد توفي والده قبل ولادته. عاش عبد المطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - حياة اليتم، وهكذا سمع خبر مولد من يذكره بابنه عبد الله الذي توفي عن 24 سنة، فقدم إلى البيت وحمل المولود إلى الكعبة ودعا له ثم رجع به، وفي اليوم السابع قدم قربانا ودعا قريش كلهم، وبعد الوليمة سألوه عن اسم ¬

(¬1) يسعياه 16/ 1، زبور 5/ 120، يسعياه 7/ 60 ويرمياه 28/ 49 وغيرهم. (¬2) ولد يحيى وداود عليهما السلام في فصل الربيع أيضا. (¬3) يوم الاثنين له خصوصية في حياة الرسول، ففيه ولد، وفيه بعث، وفيه هاجر، وفيه توفي، وهذا يساعد في تصحيح مختلف التواريخ. (¬4) اختلف المؤرخون في تاريخ ولادته، فذكر الطبري وابن خلدون أنه ولد يوم الثاني عشر من ربيع الأول، وذكر أبو الفداء أنه ولد في العاشر منه. ولكنهم جميعا اتفقوا على أنه ولد يوم الاثنين، ولما كان الاثنين لا يوافق إلا التاسع من ربيع الأول، فيرجح أنه يكون مولده في التاسع، وقد رجح هذا التاريخ محمد طلعت بك عرب في كتابه " تاريخ دول العرب والإسلام ". (¬5) أي بعد حادث عام الفيل بخمسة وخمسين يوما. (¬6) هذا طبقا لقاعدة التقويم الإفرنجي، وطبقا لحساب التقويم الإنجليزي القديم يوافق سبتمبر سنة 1752. ولكن طبقا للقاعدة القديمة فإن 9 ربيع الثاني يوافق 22 أبريل بالتقويم الأفرنجي. ويجعل التقويم الإفرنجي يوم 19 أبريل هو يوم 22 أابريل سنة 571 م طبقا للحساب القديم. (¬7) حين ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان طلوع الصبح الصادق على مكة في ثمام الساعة الرابعة وعشرين دقيقة (بحساب الظل) وكانت الشمس يوم ذاك في برج الحمل (31 درجة: 20 دقيقة) ومضى على أول جيته (عام 628 بكرمية) 13 ساعة و 16 دقيقة. (¬8) جاء في يسعياه (9/ 6) أنه قد وهبنا ابنا، وهذه بشارة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - لا في حق المسيح لأنه يظهر من إنجيل متى أن المسيح كان له أخوة وأخوات، فلم يكن وحيد مريم.

المولود، فقال عبد المطلب: "محمد" فسألوه متعجبين: لم تركت جميع أسماء أسرتك المألوفة وفضلت هذا الاسم؟ فقال: أريد أن يكون ابني جديرا بثناء الدنيا كلها (¬1). وكان من عادة أشراف مكة أن يرسلوا أطفالهم إذا ما بلغوا ثمانية أيام إلى مرضعات في مكان يتوفر فيه الجو النقي والهواء العليل، واتباعا لهذه العادة أودع محمد - صلى الله عليه وسلم - لدى حليمة السعدية، وكان يؤتى به بعد كل ستة أشهر لتراه أمه وأقاربه، وبعد عامين كان فطامه، فحملته حليمة إلى أمه آمنة رضي الله عنها، ولكن آمنة رضي الله عنها سلمته ثانية إلى حليمة معتقدة أن جو البادية أنسب لطفلها من جو مكة. وحين بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرابعة من عمره، أخذته أمه إلى حضنها، وحين بلغ السادسة انتقلت أمه إلى الرفيق الأعلى، فكفله جده (¬2). وحين بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أعوام وعشرة أيام توفي عنه جده عبد المطلب، عن عمر يناهز الثانية والثمانين فكفله عمه أبو طالب، شقيق والده عبد الله، وتذكر معظم الكتب (¬3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سافر إلى الشام مع عمه أبي طالب حين كان في الثانية عشرة من عمره، وكان عمه يذهب إلى الشام للتجارة، وفي بصرى تعرف بحيرى الراهب (¬4) على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرف أنه النبي الموعود، فقال لعمه: لا تذهب به إلى بلاد اليهود لئلا يعرفوه فيؤذوه، فعاد به العم الشفيق من بصرى؟ ومما جاء في حديث الترمذي عن هذا الأمر أن أبا طالب بعث معه بلال في أثناء عودته، ويقول ابن القيم: هذا خطأ واضح، لأن بلالا رضي الله عنه لم يكن آنذاك عند أبي طالب، ولا عند أبي بكر، بل يمكن ألا يكون موجودا في تلك الأيام (¬5). ويثبت من الآية الكريمة: ¬

(¬1) أبو الفداء [ص:110]، وانظر أيضا يسعياه (9/ 6)، كانت تسميته بهذا الاسم عجبا. (¬2) نقلا عن خطبات أحمدية، لمؤلفه سيد أحمد خان (م هـ 131 هـ) وزاد المعاد. (¬3) زاد المعاد، للعلامة ابن القيم م 23 رجب 751 هـ. (¬4) وقد كثر تعليق القساوسة على قصة لقاء بحيرى النصراني فقالوا إن ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أربعين عاما كان من تأثير تعاليم هذا الراهب وأقول: لو أن ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بطلان نظرية التثليث والكفارة والصلب من تأثير هذا الراهب فلماذا لا يقبل النصارى اليوم تعاليم كبيرهم هذا؟ المؤلف. (¬5) زاد المعاد لابن القيم [ص:17].

التفكير في التجارة

{وكانوا من قبل يسفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} (البقرة: 89). إن اليهود كانوا في انتظار الرسول الموعود، وكانوا يعتقدون أنهم سينتصرون على الكفار بعد مجيئه، وظل هذا الاعتقاد سائدا حتى بعثة الرسول، وثبت أيضا من هذه الآية خطأ قول بحيرى الراهب، لأن اليهود لو عرفوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في صباه لاحترموه وقدروه فهو طبقا لاعتقادهم بشير انتصارهم وفوزهم، ومن هنا يفهم أن حكاية الراهب حكاية غير موثوق بها. التفكير في التجارة: حين بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - سن الشباب فكر أولا في التجارة، ولكنه لم يكن يملك مالا، وكانت في مكة أرملة تنتمي إلى أسرة شريفة جدا تدعى خديجة (رضي الله عنها)، كانت في غاية الثراء، وضعت مالها في التجارة، فلما سمعت عن محاسن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوصافه، وعلمت بصدقه وأمانته وحسن تدبيره، طلبت بنفسها أن يتولى التجارة بأموالها. وذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - بمالها للتجارة فربحت تجارته كثيرا. وكان ميسرة غلام خديجة (رضي الله عنها) مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا السفر، فروى لخديجة (رضي الله عنها) ما رآه من كمال محاسنه وصلاح أعماله في السفر، وحين سمعت بهذا طلبت خديجة (رضي الله عنها) الزواج من النبي - صلى الله عليه وسلم - وتزوجته، رغم أنها رفضت من قبل هذا الزواج من أي من عظماء قريش وسادتها. الزواج: تم هذا الزواج حين كان عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - 25 وعمر خديجة 40 سنة، وعاشت خديجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - 25 سنة وظل النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكرها بعد وفاتها بكل حب، وظل يحسن إلى صديقاتها ويكرمهن، بعد هذا الزواج تفرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبادة الله وظل يعمل من أجل فلاح وصلاح بني البشر. انعقاد حلف إقامة الأمن ومراعاة الحقوق: في تلك الأيام أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - لرؤساء معظم القبائل وعقلاء الناس ما كانت عليه البلاد من فساد، ومخاطر تعم الطرق ونهب المسافرين وظلم الأقوياء للفقراء، وأكد على

الصادق الأمين

ضرورة إصلاح كل هذه الأمور، وانتهى الأمر إلى تأسيس حلف ضم بني هاشم وبني المطلب، وبني أسد، وبني زهرة وبني تميم. وتعاهد أعضاء هذا الحلف على ما يلي: 1 - القضاء على فساد البلاد. 2 - حماية المسافرين. 3 - مساعدة الفقراء. 4 - رد مظلمة الأقوياء على الضعفاء (¬1). وكان من نتيجة هذا التدبير حماية أرواح وأموال الناس وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في زمان بعثته أيضا: "لو دعا أحد لمساعدة أحد باسم هذا الحلف لكنت أول من يهب لنجدته". الصادق الأمين: في تلك الأيام أثرت مثل هذه الأعمال الصالحة على قلوب الناس حتى إنهم لم يكونوا ينادونه باسمه بل كانوا ينادونه بـ "الصادق" أو "الأمن". وكان عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة وثلاثون سنة حين جددت قريش عمارة الكعبة (التي تصدعت جدرانها من أثر السيل) (¬2). وبينما كان الجميع مشغولون في إعادة إعمار الكعبة حدث خلاف يتعلق بوضع الحجر الأسود (¬3)، فكان كل واحد يرغب في أن يتم ذلك على يديه، واستمر هذا ¬

(¬1) صدر في إنجلترا قرار نايتهد الذي أقر أعضاؤه بمثل قرارات الحلف المذكور وكان ذلك بعد هذا الحلف بعدة قرون. (¬2) أول بناء للكعبة كان على يد إبراهيم عليه السلام مع ابنه إسماعيل عليه السلام، وقام بتجديد عمارتها بنو جرهم، وبنو العمالقة وقصي وقريش، وكان ذلك يتم نظرا للتقادم أو تأثير السيل أو غير ذلك، ولم يحدث أن استولى على الكعبة أجنبي وهدمها وذلك لمدة خمسة آلاف سنة مثلما حدث لهيكل أورشليم وهذا شرف لم ينله أي معبد في الدنيا. (¬3) كان من عادة إبراهيم عليه السلام وأولاده أن يضعوا حجرا طويلا قائما على هيئة عمود، في المكان الذي يجعلونه للعبادة، مثلما يضع المسلمون اليوم وقت الصلاة في مكان واسع قصبة يقال لها سترة - وهذا ثابت من كتاب التكوين (12/ 7 - 8) (13/ 18)، (26/ 25)، (28/ 18 - 19 - 23) وكتاب الخروج (25/ 24 - 4) =

الخلاف لأربعة أيام، وفي النهاية اقترح أبو أمية بن المغيرة، وكان أكبر قريش سنا أن يرتضوا شخصا يحكمونه بينهم واتفقوا على أن يحكموا أول من يدخل الحرم، واتفق أن دخل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأوه وصاحوا: هذا الأمين (¬1) رضيناه. ¬

= والحجر الأسود نوع من هذا الحجر، وهو شهادة على أن الكعبة على بناء إبراهيم عليه السلام، ووضعه في ركن الكعبة الآن يستفاد منه في معرفة بداية الطواف ونهايته، ومنزلته عند المسلمين تفهم من اسمه (الحجر الأسود) ومرة قال عمر بن الخطاب مخاطبا الحجر ليسمع الناس: إنك حجر لا يمكن أن تنفع أو تضر - انظر ما ورد في صحيح البخاري باب ما ذكر في الحجر الأسود. (¬1) ذكرنا قبلا أن العرب كانت تلقب النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة بالصادق والأمين، وهكذا دعوه في هذه المناسبة بالأمين وتثبت صحف الأنبياء السابقين هذا - في نهاية الكتاب المقدس وفي سفر رؤيا (مكاشفات) يوحنا، جاء في بدايته الدرس التالي: "رؤيا يسوع المسيح التي أعطاها الله إياه حتى يري عباده الأمور التي تقع قريبا" وهذا يدل على أن هذه الرؤيا تذكر الأمور التي تحدث في العالم بعد يوحنا، ويذكر أيضا أن القس يوحنا كان من حواري المسيح وقد رأى هذه الرؤيا بعد رفع المسيح من هذه الدنيا. يقول يوحنا: "ثم رأيت السماء مفتوحة، وانظروا: (أ) فرسا فضيا وراكبه. (ب) يسمى الأمين الصادق (ج) يعدل بصدق (د) ويقاتل (هـ) عيناه مثل شعلة من نار (و) على رأسه أكاليل كثيرة (ز) وله اسم مكتوب لم يعلمه أحد غيره (ح) لبس ملابس ملطخة بالدم (ط) اسمه كلام الله (ي) والجنود التي في السماء ركبت الفرس الفضي وكانت ترتدي الملابس الكتانية البيضاء النظيفة (ك) يخرج من فمه سيف قاطع يضرب به الأمم. (ل) يحكمهم بعصا حديدية وأنه بنفسه قلق مكتئب داخل غضب الله وسخطه (م) مكتوب على فخذه وعلى ردائه هذا الاسم: ملك الملوك وإله الآلهة [الرؤيا باب 19]. وأود الآن أن أشرح هذا باختصار شديد: (أ) ورد ذكر الفرس الفضي وراكبه في "الرؤيا 6/ 2" أيضا بالألفاظ التالية: "انظروا الفرس الفضي وكان راكبه يحمل قوسا وأعطى إكليلا، وقد خرج فاتحا وهو منتصر". ويتبن من ل [رؤيا 19/ 11] إماراته أنه راكب الفرس الفضي [ومن رؤيا 6/ 2] وأنه يحمل القوس ويفتح البلاد. وهذه العلامات تصدق على النبي - صلى الله عليه وسلم - 1 - فقد كان من بين ما ركب - صلى الله عليه وسلم - فرس فضي يسمى "بحرا" انظر سفر السعادة. 2 - وكان - صلى الله عليه وسلم - يمسك بيده قوسا، وكان كثيرا ما يمسكه في يده وهو يخطب، وقد ورد في الحديث أنه أمر المسلمين بالرمي بالقوس فقال: "ارموا فإن أباكم [أي إسماعيل] كان راميا =

…………………………………………………… ¬

= 3 - أثبت القرآن الكريم أيضا النصر المبين للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأعظم الفتوح أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرحل عن هذه الدنيا إلا بعد أن بلغ الرسالة التي بعث من أجلها على أكمل وجه وحين نرى أن موسى كليم الله رحل عن الدنيا قبل أن يصل أمته إلى أرض الميعاد، وأن المسيح روح الله رحل عن الدنيا قبل أن يبلغ الكثير من الأمور، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رحل عن الدنيا بعد أن أكمل رسالته، لم يعد هناك أدنى شك في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الفاتح صاحب الفتح المبين. ب - يقال له الصادق الأمين، أي أن الناس ينادونه بهذا الاسم - وكان هذا هو شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ج - يعدل بالحق - ورد في يسعياه باب 11 أيضا أنه سوف ينصف المساكين بصدق. وينتصف للمستضعفين في الأرض، ويبين تكرار يوحنا لذلك أن هذا سيكون بعد زمان المسيح، ورد في القرآن الكريم: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}. وتصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكائه وتفهمه للأمور فأرضى الجميع بتصرفه الحكيم، إذ بسط رداءه ووضع عليه الحجر وطلب من رئيس كل قبيلة أن يقبض على طرف ردائه، ولما انتهوا إلى موضع الحجر، رفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضعه في ركن الكعبة حيث يكون بدء الطواف حولها -. هـ - "عيناه مثل شعلة من نار" ما ورد من كتابات في صفات الرسول ورد فيها جميعا صفة الحمرة في عيني الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان الأمر كذلك فقد كانت هناك خطوط حمراء حول إنسان عينه - صلى الله عليه وسلم -. و- "على رأسه أكاليل كثيرة " انظروا إلى جماعة الأنبياء: بينهم واعظ كسليمان ومبشر كعيسى، ومنذر كنوح ومنقذ كموسى ومناظر كإبراهيم، ومجاهد كداود، ولكن انظروا: هذه الصفات كلها قد اجتمعت في ذات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا يقول تبارك وتعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} وهذا هو معنى على رأسه أكاليل كثيرة أي أنه نبي جامع للصفات التي سبق ذكرها. ز - "له اسم مكتوب لا يعلمه أحد سواه" لم يسبق لأحد أن سمي قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - باسمه المبارك "أحمد ومحمد" ولكن عشرات من الناس قد سموا بالمسيح ويسوع قبل عيسى. ح - " لبس الملابس الملطخة بالدم" حين ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - لتبليغ الدعوة في الطائف، ألقوا عليه الحجارة فسال دمه المبارك وتبلل لباسه بالدم وغطى جسده المبارك وتجمد الدم حتى تعذر عليه خلع نعليه للوضوء، ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وحيدا في ذلك السفر، فإن ما ورد في يسعياه 63/ 1، 2، 3 يصدق عليه - صلى الله عليه وسلم -. ط - "كلام الله" بين موسى عليه السلام في موعظته الأخيرة (سفر 5 باب 3) أيضا وبين عيسى عليه السلام في موعظته الأخيرة (يوحنا 13/ 16) علامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه، كما بينها أيضا يوحنا الحواري فيفهم أن هذه العلامة أي "كلام الله" لم تكن قد تحققت حتى دنت رؤيا يوحنا، وهكذا فالعلامة هنا هي القرآن الكريم الذي قال عنه رب العزة: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}. ي - "جنود السماء" ورد في القرآن الكريم أيضا وجود الملائكة والقوى الملكوتية مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: =

قرب زمن البعثة

وتصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكائه وتفهمه للأمور فأرضى الجميع بتصرفه الحكيم، إذ بسط رداءه ووضع عليه الحجر وطلب من رئيس كل قبيلة أن يقبض على طرف ردائه، ولما انتهوا إلى موضع الحجر، رفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضعه في ركن الكعبة حيث يكون بدء الطواف حولها -. وهكذا قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتصرفه الحكيم والبسيط على حرب دامية، فقد كان العرب في تلك الأيام يتقاتلون على أتفه الأسباب كسقي الإبل، وسباق الفرس، وتفضيل قوم على قوم في الشعر، وقد لا تنتهي مثل هذه الحروب طوال عشرات السنن. قرب زمن البعثة: قبل البعثة بسبع سنوات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشاهد نورا ولمعانا (¬1) وطالما كان يفرح حين يشعر بهذا النور (¬2)، لم يقترن هذا النور بصوت أو بصورة، وكلما قرب زمن البعثة كلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العزلة والخلوة، فكان - صلى الله عليه وسلم - يحمل معه في معظم الأحيان الماء والسويق ويذهب إلى مكان في جبل (¬3) يبعد عن المدينة عدة أميال يقال له غار حراء، ¬

= (والملائكة بعد ذلك ظهير) والملائكة بالملابس البيضاء الصافية كانوا مع رسول الله، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب اللباس الأبيض، وكانت رايته أيضا بيضاء، وكانت الراية البيضاء ترفع لوقف الحرب وعقد الصلح. ك - "يخرج من فمه سيف قاطع" هذا هو الجهاد، ومن شرع عليهم الجهاد ورد ذكرهم في تلك الرؤيا 19 باب 17 حتى 21. ل - "سيحكم بالعصا الحديدية" ورد ذكر نفس الشيء في الزبور 2 - 9، والنتيجة المأخوذة من تكرار كلمات الزبور في الرؤيا هي أن من تصدق عليه هذه الكلمات يأتي بعد يوحنا وهو بالتأكيد محمد رسول الله لأنه لم يجتمع الوحي والنبوة والسلطة المحكمة لأحد غيره. م - "إن بنفسه قلق مكتئب داخل غضب الله وسخطه، إن دمار القبائل المتمردة وعقاب كسرى وقيصر على عصيان النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بسخط من الله. ن - "مكتوب على فخذه وعلى ردائه هذا الاسم: ملك الملوك وإله الآلهة" من ألقاب النبي - صلى الله عليه وسلم - "إمام الأنبياء"، و"سيد المرسلين" وهذا هو المقصود من كلمات الرؤيا. المؤلف. (¬1) في الصحيحين عن ابن عباس. (¬2) سفر السعادة ط أفضل المطابع كلكتا 1252، [ص:31]. (¬3) يقال له اليوم جبل النور وانظر "سفرنامه حجاز" للمؤلف.

البعثة والنبوة

كان طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان إلا ربع، فيجلس فيه يعبد الله، كان يقوم بحمد الله وتقديسه ويفكر ويتدبر في القدرة الإلهية (¬1) وكان لا يرجع إلى المدينة حتى ينفد منه الماء والسويق (¬2). البعثة والنبوة: حين بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمره أربعين (¬3) سنة قمرية ويوما، وكان ذلك يوم الاثنين التاسع (¬4) من ربيع الأول في العام الواحد والأربعين من ميلاده - صلى الله عليه وسلم - الموافق للثاني عشر من فبراير عام 610 م، أتاه الروح الأمين بأمر النبوة من عند الله، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - آنذاك في غار حراء. قال الروح الأمين: يا محمد! أبشر، فأنت رسول الله وأنا جبريل (¬5). ورجع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا الحادث إلى البيت فورا ورقد وطلب من زوجته أن تزمله، وحين هدأ قليلا قال لزوجته إنني أرى أمورا أخاف منها على نفسي (¬6). خديجة في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - الحميدة: قالت خديجة رضي الله عنها: لا، علام الخوف، إني أراك تصل الرحم، وتصدق الحديث، وتأخذ بيد الأرامل واليتامى والمحتاجين، وتكرم الضيف، وتعين المصابين، فالله لن يخزيك أبدا (¬7). وأرادت خديجة رضي الله عنها أن يطمئن قلبها فذهبت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ابن عمها ورقة بن نوفل (¬8). ¬

(¬1) سفر السعادة للفيروزابادي (جمعا للأقوال). (¬2) في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها. (¬3) صحيح البخاري عن ابن عباس (باب مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -) وكان موسى عليه السلام قد أعطى النبوة بعد أن بلغ الأربعين من عمره. انظر كتاب الأعمال (الإنجيل). (¬4) ورد في زاد المعاد [ص:18]: في اليوم الثامن من ربيع، إلا أن يوم الاثنين الذي اتفق عليه الجميع يصادف يوم التاسع وهو الصحيح. (¬5) سفر السعادة صفحة 35. (¬6) إشارة إلى مشكلات النبوة. (¬7) في الصحيحين عن عائشة والمشكاة [ص:514]. (¬8) خلاصة تاريخ العرب، البروفيسر سيديو.

شهادة العالم النصراني ورقة بن نوفل على نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وسبق أن ذكرنا في مقدمة هذا الكتاب أن النصرانية كانت قد وصلت إلى الجزيرة العربية بجهود النجاشي وقيصر، ولهذا وجد في الجزيرة العربية قبيل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - أناس استفادوا من المعلومات المتوفرة لدى علماء اليهود والنصارى، فتركوا دين الجاهلية وظلوا يخبرون الناس بأن رسولا سيظهر قريبا يغلب إبليس وجنوده، والمشتهر من بين هؤلاء الناس عثمان بن حريث، وعبيد وزيد بن عمرو، وورقة بن نوفل. وكان زيد بن عمرو عم عمر الفاروق هو الذي خرج مسافرا بعيدا بحثا عن الرسول الموعود، وحين عرف آخر الأمر أنه سيولد في مكة، بقي ينتظره إلى أن توفي. شهادة العالم النصراني ورقة بن نوفل على نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قص النبي - صلى الله عليه وسلم -، بناء على طلب خديجة رضي الله عنها، على ورقة بن نوفل حادثة نزول جبريل وكلامه، فقال ورقة على الفور: إنه الناموس الذي نزل على موسى عليه السلام، ياليتني كنت شابا ياليتني أكون حيا حين يخرجك القوم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أومخرجي هم؟ قال ورقة: نعم. لم يأت أحد قط في هذه الدنيا بمثل هذا التعليم إلا عودي في البداية، ليتني أبقى حيا حتى الهجرة فأنصرك نصرا عظيما (¬1). وبعد أيام (¬2) جاء الملك فأقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لم يتعلم القراءه والكتابة بعد، اسم الله وكلامه المبارك الذي هو مفتاح كل علم وخزانة كل حقيقه. أقرأه الروح ¬

(¬1) في الصحيحين عن عائشة والمشكاة [ص:514]، وقد توفي ورقة بعد هذا الحادث بعدة أيام وكان عجوزا فاقد البصر ولعل ورقة قرأ ذكر الهجرة في يسعياه باب 42. (¬2) اتفق العلماء على أن ولادته - صلى الله عليه وسلم - كانت في شهر ربيع الأول واتفقوا أيضا على أن بداية الوحي كانث في بداية العام الواحد والأربعين وهذا يدل على أن بداية الوحي كانت أيضا في شهر ربيع الأول ولكن يثبت من القرآن الكريم أن نزوله كان في شهر رمضان المبارك والحاصل أن بداية النزول كانت في شهر رمضان والمراد بعدة أيام الفترة التي قدرت تقريبا بستة أشهر وهي الفترة التي جاءت فيها الرؤيا الصادقة التي هي الجزء السادس والأربعون من النبوة (والجزء السادس والأربعون من عهد النبوة طوال 23 سنة هو ستة أشهر) وقد روى الطبري أن تاريخ نزول القرآن كان في السابع عشر أو الثامن عشر من رمضان. ولما كان الثامن عشر من رمضان فهي السنة الأولى من النبوة يوم الجمعة الموافق للسابع عشر من أغسطس سنة 610 م فإن نزول القرآن الكريم لأول مرة كان ليلة الجمعة الثامن عشر من رمضان.

بداية الصلاة

الأمين هذه الآيات: بسم الله الرحمن الرسم {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم} (¬1). بداية الصلاة: وبعد ذلك أتى الروح الأمين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سفح الجبل، فتوضأ أمام النبي، وتوضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا، وصليا معا وتولى الروح الأمين إمامة الصلاة. بداية الدعوة: بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعوة بعد أن وصل إلى البيت، فأسلم في أول يوم كل من زوجه خديجة رضي الله عنها وابن عمه علي رضي الله عنه (عمره ثماني سنوات)، وصديقه أبو بكر رضي الله عنه، ومولاه زيد بن حارثة (¬2). إن إيمان أولئك الأشخاص الذين اطلعوا على كل صغيرة وكبيرة في حياة الني - صلى الله عليه وسلم - لأربعين سنة هو أقوى دليل على صدق دعواه - صلى الله عليه وسلم -. وقد أسلم بلال رضي الله عنه وعمرو بن عنبسة رضي الله عنه، وخالد بن سعد بن عاص رضي الله عنه بعد عدة أيام. كان أبو بكر رضي الله عنه غنيا، يعمل بالتجارة، كان يتجر بالأقمشة في مكة، فكان على صلة وثيقة بالناس، فأسلم بدعوته عثمان رضي الله عنه والزبير وعبد الرحمن ابن عوف وطلحة وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم ثم أسلم بعدهم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الذي لقب فيما بعد بأمين الأمة، وعبد الأسد بن هلال، وعثمان بن مظعون، وعامر بن فهيرة الأزدي وأبو حذيفة بن عتبة والسائب بن عثمان بن مظعون والأرقم رضي الله عنهم. وأسلمت من النساء بعد خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها أم ¬

(¬1) لننظر إلى هذه اللفتة الطيبة فكلام الله الذي جاء لهداية البشر يبدأ بحالة الإنسان البدائية فينادي بادئ ذي بدء بضرورة التعليم للإنسان، ويرشدنا إلى أن الخالق الأعظم قد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله تعالى {ما لم يعلم} يدل على أن النبي كان أميا، وفي كتاب يسعياه 12/ 19 جاء ما يلي: "أعطي الأمي كتابا حتى يقرأ"، وانظر كون القرآن كلام الله لفظا ومعنى في الاستثناء15 - 20 باب 18. (¬2) اختلف العلماء في من أسلم أولا، علي رضي الله عنه أو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقد أرجأت هذا البحث لأن مكانه عند الحديث عن سيرتهما رضي الله عنهما.

أهداف النبوة

زوجة العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأسماء بنت عميس رضي الله عنها وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما وفاطمة رضي الله عنها أخت عمر الفاروق رضي الله عنه، وكان المسلمون في تلك الأيام يذهبون للصلاة في عقبة الجبل. ظل النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس سرا في سنوات الدعوة الثلاث الأولى، ويحثهم على عبادة الله وحده وترك عبادة الأحجار والأشجار والشمس والقمر. وهنا جاءه أمر الله: {يا أيها المدثر ... قم فأنذر ... وربك فكبر ... وثيابك فطهر ... والرجز فاهجر ... ولا تمنن تستكثر ... ولربك فاصبر}. أهداف النبوة: ويتضح من هذه الآيات أن أهداف الرسالة والنبوة هي ما يلي: 1 - تحذير العصاة مما هم عليه وتخويفهم من عاقبة ذلك. 2 - إعلان ربوبية الله وكبريائه وعظمته وجلاله. 3 - توجيه الناس إلى التطهر من الأرجاس الظاهرة والخفية في العقيدة والعمل والأخلاق. 4 - تعليم الطهارة والنظافة والعفة. 5 - نشر الدعوة الإلهية دون مقابل، بلا من على أحد ودون توقع فائدة من أحد. 6 - تحمل جميع المصائب والشدائد التي تقع أثناء المضي في هذا السبيل. ومن يفكر بإمعان في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - الطاهرة يدرك كيف نجح النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحقيق جميع هذه الأهداف. مراحل الدعوة الخمس: الأولى: الدعوة في الأقربين وخاصة الأصدقاء. الثانية: الدعوة في قومه وجميع أهل بلده. الثالثة: الدعوة في قبائل ضواحي مكة وأطرافها.

أحوال العالم وقت البعثة

الرابعة: الدعوة في مناطق الجزيرة العربية وقبائلها. الخامسة: الدعوة في جميع الأمم المتحضرة والأديان المعروفة. وقد ثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة جميع أنوع المصائب بثبات عظيم وكمال ورباطة جأش وصبر وتسامح، وأثبت بالدلائل البينة والبراهين المحكمة تعاليمه. أحوال العالم وقت البعثة: يجب أن نتذكر أن الزمان الذي بعث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوته إلى العالم، كان زمانا خيمت فيه ظلمات الجهل على العالم كله. كما سادت الهمجية والوحشية الدنيا كلها وربما شوهدت كلمات الإنسانية والحضارة والأخلاق على صفحات الكتب، إلا أنه لم يكن لها أي أثر على القلوب. أ - كان بنو إسرائيل قبل المسيح قد استحقوا بأن يسموا بالحيات وأولاد الحيات، وبلعنة المسيح لهم لم يبق فيهم من الإنسانية أثرا إلا شكلها وصورتها الخارجية ودخلت فيهم الوثنية من تأثير الأمم المجاورة لهم. ب - كانت أوربا تشهد عصر الجهل والبربرية. وفي إنجلترا كانت تسكن أمم البرتون والسكسون الوحشية، وفي أقاليم إنجلترا المختلفة مثل ناربترلاند، ومدلاند، وكونتيز ونارفوك وساسيكس راجت عبادة الأوثان. وفي مناطق فرنسا وما حولها سادت الخرافات بينما كان القساوسة يدعون الناس إلى الإتيان بأنواع مختلفة من الفحش والوقاحات. وظلت فرنسا في حرب دائمة مع أمة السكسون على نهر الألب استمرت إلى ما بعد عام 782 م حين قتل من أسرى السكسون حوالي 4500 أسيرا بلا رحمة في مدينة وردن، أما المجر في تلك الفترة فقد وقعت فريسة في يد أمة وصلت في وحشيتها درجة فظيعة، أمة بعيدة تماما عن كل معاني الحضارة والمدنية قامت بإدخالها في عقيدتها (النصرانية) بوسائل وحشية إرهابية ظالمة (¬1). ج - كانت المزدكية تسيطر على إيران، دعت إلى الشيوعية في النساء والمال والأرض ¬

(¬1) Civil and Military Gazette, éditorial Note 12 October 1907

فدمرت الأخلاق وأعاقت التقدم الإنساني. د - وفي الهند كان عصر "بران" (¬1) قد بدأ، وسيطرت طائفة "بام مارك" التي كانت تدعو النالس إلى مبادئها القذرة، فكانت تماثيل النساء والرجال العارية توضع في المنادر (...)، ليعبدها الناس. هذا بالإضافة إلى أن جدران دور العبادة وأبوابها كانت مزخرفة بصور فاحشة لا يملك أمامها الإنسان المهذب إلا الشعور بالاشمئزاز والنفور. هـ - أما سكان الصين فاعتبروا بلدهم مملكة للابن السماوي وهكذا أعرضوا عن الله، وجعلوا لكل أمر من أمور الحياة صنما ووثنا: صنم المطر، صنم الإنجاب، صنم الحرب، صنم السلم، وكان عقاب هذه الأصنام من سلطة الملك، ولم يكن كونفوشيوس، الذي يعد مصلح الصين، قد ظهر بعد. و- وفي مصر سيطرت النصرانية بقوة، ويوما بعد يوم كانت تظهر معتقدات جديدة فيما يتعلق بالتعريف بشخصية المسيح عليه السلام وأبنيته وتحديدهما، وفيما يتعلق بأشكال التوحد والتفرق، وهكذا ظهرت فرق جديدة، تكفر كل واحدة منها الأخرى، ولا تتورع عن قتل أو تحريق معارضيها. هذا موجز مختصر عن أحوال البلاد التي خضعت لحكومات عظيمة وشرائع، وكانت كل واحدة منها تفخر بعلمها وحضارتها على الأخرى. ز - وهكذا كان حال الجزيرة العربية كحال البلاد سابقة الذكر، مع ملاحظة أنها لم تخضع لقرون لحكم أي ملك، ولم تتأثر بأي قانون، كما لم يصلها هاد يرشدها إلى الطريق القويم، وبالإضافة إلى الحرية البهيمية (¬2) فإن الجهل والانعزال والبعد عن الأمم المتحضرة قد زاد من تدهور الأحوال أكثر فأكثر، وهذه الحالة السيئة للغاية هي التي جعلتهم جديرين بالرحمة، فشاءت إرادة الله تعالى أن تكون الجزيرة العربية هي منطلق الدعوة لإصلاح العالم وهدايته. ¬

(¬1) ر. س، دت. اردو تهذيب قديم هندوستان [ص:37]. (...) جمع مندر والمندر هو مكان العبادة عند الهنادكة. (¬2) الحرية الإنسانية هي الحرية التي ينالها كل فرد ضمن الالتزام بالقانون والدين، والحرية البهيمية هي التي ينالها الفرد في ظل إلغاء القانون والدين.

الدعوة في عشيرته

الدعوة في عشيرته: بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الدعوة العامة حسب التوجيه الرباني، ونزل القرآن الكريم بدعوة العشيرة بصفة خاصة: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (الشعراء: 214). وهكذا جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع بني هاشم ذات يوم على الطعام، ووصل عددهم حوالي أربعين، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتمكن من مخاطبتهم نظرا لثرثرة أبي لهب، ولهذا دعاهم في الليلة التالية، فلما فرغوا من الطعام وشرب اللبن قال - صلى الله عليه وسلم -: "قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ولا أعلم أحدا في العرب جميعهم جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر؟ " فسكت القوم كلهم، فقام علي رضي الله عنه وقال: أنا يا رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب: "فاسمعوا له وأطيعوا". فراح القوم يضحكون ويقولون بسخرية لأبي طالب: انظر قد أمرك محمد أن تسمع لابنك وتطيعه منذ اليوم (¬1). موعظة جبل الصفا ودعوه أهل مكة: صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما جبل الصفا وجعل ينادي الناس، فلما جمعوا قال - صلى الله عليه وسلم -: أخبروني أصادق أنا أم كاذب؟ فقال الجميع بصوت واحد: ما سمعنا منك كذبا قط، ونحن على يقين أنك صادق وأمين (¬2). قال النبي: انظروا إني على قمة الجبل وأنتم في سفحه، وأنا أنظر ناحيتي الجبل، فلو قلت لكم إن جماعة مسلحة من قطاع الطرق تبدو من بعيد قادمة لتهجم على مكة فهل تصدقونني؟ قالوا: نعم، فليس عندنا ما يجعلنا نكذب صادقا مثلك لاسيما إذا كان واقفا على مثل هذا المكان العالي يشاهد ناحيتي الجبل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا كله كان مثالا لكي تفهموا، فاعلموا أن الموت يتربص بكم، وأنتم حاضرون أمام الله، وإني أرى عالم الآخرة كما ترون الدنيا -. وكان هدف النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الموعظة المؤثرة أن يقدم مثالا على النبوة، وكيف يمكن لإنسان أن يرى عالم الآخره بينما آلاف الأشخاص لا يمكنهم رؤيته. ¬

(¬1) أبو الفداء، المختصر في أخبار البشر 1/ 117 بتصرف. (¬2) انظر الرؤيا 19/ 11 - 12 (رؤيا يوحنا).

جهود النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة

جهود النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة: بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعوة العلنية للجميع، فكان يذهب إلى كل محفل أو جمع وإلى كل طريق أو ممر يدعو الناس إلى التوحيد، وينهاهم عن عبادة الأوثان والأحجار والأشجار، ويمنعهم من قتل بناتهم ومن ارتكاب فاحشة الزنا، ولعب الميسر. أعظم ما في دعوته: كان - صلى الله عليه وسلم - يطالب الناس بأن يطهروا أجسامهم من النجاسة وثيابهم من القذارة، وألسنتهم من الفحش وقلوبهم من المعتقدات الكاذبة، وأن يوفوا بوعودهم، وأن يبتعدوا عن الغش والخداع في البيع والشراء، وأن ينزهوا ذات الله من كل عيب ونقص وشين، وأن يؤمنوا إيمانا قاطعا بأن الله هو خالق الأرض والسماء والقمر والشمس، وهو خالق الكبير والصغير، وأن الجميع محتاجون إليه، وهو الذي يسمع الدعاء، ويشفي المرضى ويحقق الآمال، ولا يمكن لأحد أن يفعل شيئا إلا بإذن الله، والملائكة والأنبياء أيضا لا يخالفون حكمه. واشتهرت في الجزيرة العربية أسواق عكاظ وعيينة ومجنة وذي المجاز يفد إليها الناس من كل مكان، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذهب إلى هذه الأماكن ويقوم بدعوة الناس القادمين إلى هذه الأسواق إلى الإسلام والتوحيد. معارضة قريش: أما قريش التي اعتبرت نفسها أعظم قبائل العرب وأنها كالحوت في البحر، فلم يعجبها كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك لأسباب منها: 1 - كانت قريش قاصرة عن فهم معنى النبوة، فقد استبعدت أن يأتي إنسان بحكم من الله يهدي الناس ويرشدهم. 2 - لم تكن قريش تؤمن بالثواب والعقاب طبقا للأعمال خيرها وشرها، وهكذا فإن القول بالحساب بعد الموت كان يلقى من قريش كل سخرية واستهزاء. 3 - كانت قريش في غرور كبير بالنسب وبكرم الآباء، ومن هنا شعرت بأن قبول فكرة المساواة الإسلامية والأخوة الإسلامية هو نوع من التحقير والذل.

ظلم قريش للمسلمين

4 - كانت معظم قبائلها في خلاف مع بني هاشم، واتباع تعليم شخص من قبيلة معادية كان بمثابة عار وحقارة. 5 - اقتنعت قريش تماما بعبادة الأوثان ولم تكن لتتصور أي دين أفضل مما كانت عليه. 6 - اعتادت قريش التحرر من قيود وضوابط أي قانون واعتادت الزنا والقمار وقطع الطرق، والقتل والحنث بالوعد والدعارة، فرأت في نظام الإسلام عدوا لعاداتها المحببة إليها. ظلم قريش للمسلمين: وعليه شمرت قريش عن ساعد الجد لمعارضة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصممت على القضاء على أي بادرة للإسلام واتبعت في ذلك عدة أساليب: أولا: أسلوب إيذاء المسلمين إيذاء شديدا حتى يرتد من دخل الإسلام، ولا يدخله أحد من جديد. ويصعب هنا تفصيل الحديث عن تلك المظالم التي ألحقتها قريش بالمسلمين، وما أوقعته بهم من صنوف الإيذاء، ونذكر هنا باختصار طرق التعذيب وأحوال بعض المسلمين ممن عذبوا. 1 - كان بلال رضي الله عنه حبشيا وعبدا لأمية بن خلف فلما سمع أمية أن بلالا رضي الله عنه أسلم، اخترع له صنوفا متنوعة من العذاب، كأن يربط حبلا في عنقه ويتركه للصبيان يطوفون به جبال مكة، فكان تأثير الحبل على رقبته رضي الله عنه ظاهرا، كما كان يلقيه على رمل مكة المحرق، ثم يضع حجرا ساخنا على صدره، كما كان يشد يديه ثم يضرب بعد ذلك بالعصيان، وكثيرا ما أجلس تحت أشعة الشمس المحرقة، أو ترك جوعانا بلا طعام، وكان بلال رضي الله عنه في كل هذه الأحوال لا ينطق إلا بعبارة "أحد أحد" وقد اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأعتقه لله (¬1). 2 - أسلم عمار (¬2) ووالده ياسر رضي الله عنه ووالدته سمية رضي الله عنها فأذاقهم أبو جهل صنوف العذاب، ورآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يعذبون ذات يوم فقال: "اصبروا ياآل ياسر فإن موعدكم الجنة"، وطعن أبو جهل التعس سمية رضي الله عنها في موضع العفة ¬

(¬1) توفي في دمشق عام 20 هـ وهو في الثالثة والستين. (¬2) استشهد في غزوة صفين وعمره 91 أو 92 سنة.

إساءة قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -

فيها بحربة فقتلها (¬1). 3 - أما أبو فكيهة واسمه أفلح فقد ربطت قدماه بالحبال وراحوا يجرونه على أرض صخرية (¬2). 4 - وخباب بن أرت رضي الله عنه كان شعر رأسه ينتف وعنقه يلوى، وجسده يكوى بالجمرات الملتهبة (¬3). 5 - أما يعينة وزنيرة ونهدية وأم عبيس فكن جوار مسكينات تعرضن للتعذيب الوحشي الشديد على أيدي مواليهن قساة القلوب. ولم يكن سلوك قريش هذا مع العبيد والضعفاء فقط، بل اتبعوا هذا السلوك الوحشي مع أبنائهم وأقاربهم المسلمين أيضا (¬4). 6 - ولما بلغ خبر إسلام عثمان بن عفان رضي الله عنه عمه، كان هذا التعس يلف عثمان رضي الله عنه بقعف النخل ويحمى النار من تحته. 7 - أما مصعب (¬5) بن عمير فقد أخرجته أمه من البيت وجريمته في ذلك أنه أسلم. 8 - وكانت قريش تلف بعض الصحابة رضوان الله عليهم في جلود البقر والإبل، وتلقي بهم تحت وهج الشمس، كما كانت تلبس بعضهم درعا من الحديد ثم تلقى بهم فوق جمرات ملتهبة. وجملة القول أنهم كانوا يذيقونهم عذابا وحشيا لا يصمد أمامه إلا من آمن بمصداقية الإسلام، فالأمم السابقة قد حبست وقتلت الأنبياء بالدراهم المزيفة (¬6). إساءة قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -: وفي أكثر الأوقات كانوا يفرشون طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشوك حتى تجرح قدميه في ¬

(¬1) مدارج النبوة، مجلد 2 [ص:50] (¬2) إعجاز التنزيل [ص:53]. (¬3) توفي بالمدينة سنة 19 هـ وعمره 63 سنة. (¬4) اعجاز التنزيل [ص:53]. (¬5) إستشهد في غزرة أحد. (¬6) زاد المعاد المجلد الأول [ص:24]، 297.

لجان الإيذاء

ظلمة الليل، كما كانت القاذورات ترمي على باب بيته حتى يتأذى ويضطرب خاطره، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد عن قوله يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟ (¬1). ويروي ابن عمرو بن العاص، وهو شاهد عيان، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ذات يوم في حجر الكعبة، فقدم عقبة بن معيط فلوى ثوبه وجعله كالحبل، وبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد وضعه حول عنقه وراح يشده فخنقه خنقا شديدا والرسول - صلى الله عليه وسلم - مستمر في سجوده بقلب مطمئن، حتى أقبل أبو بكر الصديق رضي الله عنه فدفع عقبة وأقامه، وهو يسمعه الآية الكريمة: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات} (غافر: 28) (¬2). وتعرض بعض الأشرار لأبي بكر وأوسعوه ضربا (¬3). ويذكر أنه في مرة أخرى بينما بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في حجر الكعبة ذهبت قريش وجلست في صحن الكعبة، فقال أبو جهل: لقد ذبحت ناقة بناحية في مكة ولا يزال سقطها (¬4) ملقى على الأرض فليذهب أحد وليأت به فيلقيه عليه (أي على النبي - صلى الله عليه وسلم -)، وحين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدا وضعوه على ثوبه المبارك، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - مستغرفا في صلاته لله، لا يدري ما حدث، والكفار من حوله يضحكون ويتمايلون ويتساقط بعضهم على بعض (¬5). وكان الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه موجودا، ولم يتمكن من التصرف بعد أن رأى حشد الكفار، فقدمت فاطمة الزهراء رضي الله عنها، فألقت بالسقط الذي وضعه الكفار عن ظهر أبيها (¬6). لجان الإيذاء: رأت قريش مكة أن ما كان يلاقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من ظلم وأذى لا يكفي، ¬

(¬1) تاريخ الطبري مجلد 2 [ص:229]. (¬2) صحيح البخاري عن ابن عمرو بن العاص باب ما لقي النبي من المشركين. (¬3) انظر فتح الباري 7/ 169. (¬4) ما يطلق عليه العامة "الكرشة" (¬5) انظر البخاري عن ابن مسعود كتاب الجهاد والسير 3/ 234؛ وصحيح مسلم. (¬6) سيرة ابن هشام المجلد الأول [ص:90] والشقا للقاضي عياض 129.

جماعة المستهزئين

ومن هنا لجأت إلى تكوين لجان ثابتة كبديل عن المحاولات الفردية التي كانت تهدف إلى إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. جماعة المستهزئين: تكونت لجنة برئاسة أبي لهب، وعضوية خمس وعشرون من رؤساء مكة، وكان السؤال المطروح على تلك اللجنة هو ماذا يقال في حق محمد لأولئك القادمين من مناطق بعيدة خارج مكة حتى لا ينخدع هؤلاء بحديثه فيعترفون بعظمته. فقال أحدهم: فلنقل أنه كاهن. فقال وليد بن مغيرة (وكان عجوزا داهية): لقد رأيت الكهان فأين زمزمة الكهان من كلام محمد، لا يجب أن نقول مثل هذا الكلام الذي يجعل قبائل العرب تظن فينا الكذب أيضا. فقال آخر: نقول أنه مجنون. فقال وليد: ما هو بمجنون. فقال ثالث: نقول إنه شاعر فقال وليد: لقد عرفنا الشعر كله بجميع أنماطه وأشكاله وكلام محمد لا يشبه الشعر. فقال أحدهم: نقول إنه ساحر. فقال وليد: إن ما عليه محمد من طهر وعفاف لا يجعل له أي صلة بالسحرة، فأين هو من أوضاعهم النحسة وعاداتهم القذرة. عجز الأعداء عن وصف الرسول: بعد أن عجز الجميع قالوا: إذن أخبرنا يا عمنا ماذا نقول؟. فقال وليد، حقا إن لقوله لحلاوة هكذا نقول إن كلامه سحر يفرق به بين الابن وأبيه وبين الأخ وأخيه وبين المرء وزوجه (¬1)، ولهذا يجب عليهم أن يحذروه. وفي نهاية الجلسة اتفق المجتمعون على القرارات التالية: ¬

(¬1) سيرة ابن هشام مجلد 1 [ص:90]، الشفا للقاضي عياض [ص:129].

الهجرة إلى الحبشة

- مضايقة محمد بكل شكل من الأشكال. - الاستهزاء من جميع ما يقول. - إيذاؤه عن طريق السخرية منه والاستخفاف به. - إيذاء كل من آمن به وصدقه إيذاء شديدا. الهجرة إلى الحبشة: حين اشتد إيذاء الكفار للمسلمين وزاد عن حده، أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة رضوان الله عليهم بأن يهاجر إلى الحبشة من يريد منهم أن ينجو بروحه وإيمانه. وبعد هذا الإذن خرجت في ظلمة الليل قافلة صغيرة تضم اثنا عشر رجلا وأربع نساء. ركبوا السفينة من ميناء "شيبة" متجهين إلى الحبشة (¬1). فضيلة سيدنا عثمان رضي الله عنه: كان أمير هذه القافلة الصغيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه وكانت معه السيدة رقية (بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا أول زوج (يعني عثمان وزوجه رقية) هاجر في سبيل الله بعد لوط وإبراهيم عليهما السلام (¬2). قريش تتابع المسلمين حتى الحبشة: وهاجر من بعدهم من المسلمين ثلاثة وثمانون رجلا وثماني عشرة امرأة وكان من بينهم ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - جعفر بن أبي طالب، وقد تبعتهم قريش حتى البحر إلا أنهم كانوا قد ركبوا السفينة ومضت بهم. خطبة جعفر عن الإسلام: كان ملك الحبشة نصرانيا، ذهب إليه كفار مكة محملين بالهدايا وطلبوا منه أن يسلمهم "المسلمين" الذين فروا من ديارهم، فأحضر المسلمون إلى البلاط، وقام جعفر طيار ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - فألقى خطبة في بلاط الملك قائلا: "أيها الملك! كنا قد ابتلينا بالجاهلية، نعبد الأصنام، نغط في النجاسة، ونأكل ¬

(¬1) زاد المعاد، المجلد الأول [ص:24]. (¬2) رواه الحاكم.

الميتة، نأتي الفواحش، نقطع الأرحام، ونسيئ الجوار، لم يكن عندنا قانون ولا نظام، فكنا على ذلك حتى بعث الله فينا رسولا منا، نعرف جيدا حسبه ونسبه وصدقه وأمانته، وتقواه وعفافه، فدعانا إلى التوحيد، وأفهمنا ألا نشرك بالله الواحد الأحد، ومنعنا من عبادة الأحجار والأوثان، وأمرنا أن نصدق الحديث، وأن نفي بالوعد، ونبتعد عن المعاصي، ونهانا عن الفواحش، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصوم، فعادانا قومنا لما نحن عليه، وراحوا يعذبوننا بكل ما استطاعوا ليردونا عن عبادة الله وحده لا شريك له إلى عبادة الأوثان، وذقنا على أيديهم الأذى والظلم، وحين أردنا الهجرة اخترنا أن نهاجر إلى بلدك" (¬1). فقال النجاشي بعد أن سمع الخطبة: أسمعني القرآن، فأسمعه جعفر رضي الله عنه سورة مريم، فتأثر النجاشي وبكى، وقال: "محمد هو الرسول الذي أخبر به يسوع المسيح، الحمد لله على أنني عاصرت زمان هذا الرسول" وأمر النجاشي بإخراج كفار مكة من البلاط -. ولما رأى كفار مكة أن الذهاب حتى إلى الحبشة لم يعد عليهم بفائدة. قالوا: تعالوا نغري محمدا أولا وبعدها نهدده فسوف يوافقنا بشكل ما. بعد هذه المشورة قدم أحد رؤساء مكة من الأغنياء الموسرين ويدعى عتبة بن ربيعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال له: "يا ابن أخي! إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا وثروة، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا، جعلناك ملكا على العرب أجمعين، نحن على استعداد أن نلبي لك كل ما تريد على أن تترك هذا الطريق، وإن كان بعقلك مس، فأخبرنا حتى نطلب علاجك". قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما قلته عني ليس فيه شيء من الصواب، لاحاجة لي بالمال أو الشرف أو الثروة أو الملك، وليس بعقلي مس، ويمكنك أن تعرف حقيقة دعوتي من آيات القرآن الكريم التالية: بسم الله الرحمن الرحيم {حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ¬

(¬1) انظر النص في سيرة ابن هشام ج 1 [ص:116].

وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} (فصلت 1 - 8). وطرأ على عتبة ذهول وشغف من سماعه لآيات الذكر الحكيم، فألقى بيديه خلف ظهره مستندا عليهما وهو يسمع، وفي النهاية نهض لا ينطق بشيء ومضى إلى قريش التي كانت تنتظر بشوق متلهفة لمعرفة نتيجة اللقاء، والتف الجميع حول عتبة يسألونه ماذا رأى وماذا سمع؟ (¬1). ولما فشلت حيلة الإغراء، اجتمع رؤساء جميع القبائل وذهبوا إلى عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبي طالب - وقالوا له: "لقد وقرناك واحترمناك، وها هو ابن أخيك يعيب آلهتنا التي ظل آباؤنا يعبدونها، ونحن لا نستطيع الصبر على هذا، فلتنصحه حتى يسكت وإلا قضينا عليه وأنت وحدك لا يمكنك أن تواجهنا جميعنا". وبعد أن رأى العم الرحيم عداوة قريش كلها لابن أخيه رق له قلبه فبعث إلى النبي وطلب منه ألا يسيئ إلى أوثان قريش، لأنه بذلك لا يستطيع أن يدافع عنه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته (¬2). بعد هذا الفشل تشاور قريش مكة، ورأوا أن يبعثوا للنبي ليجتمعوا به ويكلموه، وهكذا اجتمعوا داخل الكعبة، فجاءهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مسرورا فقد تمنى أن يكونوا قد فكروا في دعوته لهم للإيمان بالله الواحد، وحين وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس إليهم فقالوا له: "يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه (من المشكلات) مثل ما أدخلت على قومك، فإن كنت تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى لا يبقى لدينا منها شيئا، وإن كنت تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام مجلد 1 ص. 10. (¬2) نفسه، مجلد 1 [ص:89].

تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك جنا غلب عليك بذلنا لك من أموالنا حتى نبرئك منه أو نعذر فيك". فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحتكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم". قالت قريش: يا محمد! إن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك تعلم أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك أن يسير عنا هذه الجبال حتى يبسط لنا بلدنا (¬1)، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا وأجدادنا على أن يكون فيمن يبعث لنا منهم قصي (¬2) بن كلاب، لأنه كان شيخنا وكان صادقا، فنسأله عما تقول، فإن صدقك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول". قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم رسالات الله، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم" قالت قريش: "فإن لم تفعل هذا لنا، فخذ لنفسك، وسل ربك: 1 - أن يبعث معك ملكا، كي يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك. 2 - وأن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم في الأسواق وتلتمس الرزق، وذلك حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا" (¬3). ¬

(¬1) كان مشركو مكة يريدون تسيير الجبال فقط ليتسع فناء دارهم أما أهل الإيمان فلم تقف الجبال أمامهم وأصبح وجه الأرض كلها فناء لدارهم. (¬2) هو اسم والد عبد مناف جد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي أخرج بني جرهم من مكة، وجمع قبائل قريش وأسكنهم مكة ثانية، ووزع الوفادة والدية والسقاية واللواء والسفارة والحجابة والأزلام. (¬3) إن الثروة والإمارة الدنيوية والقصور والجنان التي اعتبرها أهل مكة إمارة للصدق، قد أتمها الله =

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، فقد بعثني الله بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإلا صبرت لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم". قالت قريش: "إذن اسقط علينا كسفا من السماء، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل" (¬1). قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك إلى الله، إن شاء أن يفعله بكم فعل". قالت قريش: "يا محمد. أما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب، فيعلمك ما تراجعنا به، إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له "الرحمن" (¬2) وإنا لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد وإنا (والله) لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلك أو تهلكنا" ووصل الحديث إلى أن قال أحدهم: "لن نؤمن لك يا محمد حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا". فلما سمع النبي هذا الكلام تركهم ومضى وكان معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة وهو ابن عمته (ابن عاتكة بنت عبد المطلب) ققال له: يا محمد! عرض عليك قومك ما عوضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، فلم تفعل ثم سألوك أن تجعل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، وهكذا فأنا لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي معك بأربعة من الملائكة يشهدون لك .. لو فعلت ذلك ما ظننت أني مصدقك (¬3). ¬

= تعالى للمؤمنين، وعرف الجميع أن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت في الحقيقة مصدر خير في الدنيا كما تضمنت بالتأكيد سعادة الآخرة. (¬1) والعذاب الذي طلبه هؤلاء الكفار حاق بهم يوم بدر، فلم ينج أحد من المنكرين والمستهزئين. (¬2) الإسلام بين أسماء الله الحسنى ومنها الرحمن، وهو الاسم الذي لم يعرفه العرب على الإطلاق قبل الإسلام ولذا كانوا يكرهونه ويغضبون منه أشد الغضب ويقولون إنه اسم رجل مجهول والرحمن صيغة مبالغة من رحمة. (¬3) سيرة ابن هشام ج 1 [ص:101] والقارئ يلمس مدى عداء عبد الله للإسلام، ولكن لم تمض سنوات حتى أسلم وكان ذلك قبل فتح مكة بتوفيق من الله حين قدم عبد الله نفسه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - معلنا إسلامه، ويمكن لأهل المعرفة أن يدركوا أن قبول مثل هذا الشخص للإسلام هو معجزة أكبر من اتخاذ سلم =

إسلام حمزة

استمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته لقريش حتى بعد هذا الرفض والإنكار وكان يقول: إن في دعوتي كل ما تريدون، والعقلاء الذين آمنوا والتزموا بالتربية النبوية نالوا من المعارف والفوائد أكثر من تلك التي كان سألها كفار قريش. وبهذه المناسبة نذكر ما ورد في الإنجيل من أن الشيطان سأل المسيح عدة أسئلة ليختبره، فأجاب عنها المسيح بالنفي (¬1). والحقيقة أن رسل الله المصطفين يقدمون تعاليمهم إثباتا لصدقهم ولم يكونوا يقدمون المعجزات أو الخوارق لأن صفة الإيمان بالغيب تفقد بعدها ميزتها. هذا رغم أن المعجزات تتوالى منهم بعد ذلك وبكثرة في أوقات أخرى وطبقا للضرورة أو الحاجة. إسلام حمزة: يذكر أنه في السنة السادسة من البعثة النبوية، وبينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا على جبل الصفا، مر به أبو جهل، فشتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يرد النبي وسكت، حينئذ رماه أبو جهل بحجر في رأسه فجرى الدم منه، فبلغ ذلك حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن قد أسلم بعد، فأخذته حمية النسب فانطلق إلى أبي جهل حتى إذا وصل إليه رفع قوسه وشج رأس أبي جهل، وذهب حمزة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: " يا ابن أخي أيسرك أني قد انتصرت لك من أبي جهل؟ " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عم إني لا أفرح بمثل هذا، نعم أفرح إذا أسلمت، فأعلن حمزة رضي الله عنه إسلامه على الفور. ¬

= إلى السماء والرقي فيه وأكبر من شهادة الملائكة، فهذه هي الأمور التي رفض عبد الله الإيمان حتى بعد رؤيتها. (¬1) إنجيل متى 4/ 1 - 11. "فبعدما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا، فتقدم إليه المجرب وقال له إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزا فأجاب وقال مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله. ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل وقال له إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل لأنه مكتوب أنه يوصى ملائكته بك فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر صلد، قال له يسوع، مكتوب أيضا لا تجرب الرب إلهك ثم أخذه أيضا إبليس إلى جبل عال جدا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها وقال له أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي، حينئذ قال له يسوع اذهب يا شيطاني لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده نعبد ثم تركه إبليس." متى الإصحاح الرابع 1/ 11 ط جمعيات الكتاب المقدس المتحدة [ص:6]، 7.

إسلام عمر الفاروق رضي الله عنه

إسلام عمر الفاروق رضي الله عنه: بعد إسلام حمزة رضي الله عنه بثلاثة أيام، أسلم عمر بن الخطاب وكان رجلا شجاعا قويا، وكان سفير قريش إلى البلدان الخارجية واعتمادا على شجاعته خرج من بيته عاقدا العزم على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد حمل جميع أسلحته، وفي الطريق عرف أن أخته وزوجها ابن عمه قد أسلما (¬1)، فاتجه من فوره إلى بيت أخته، فضربهما ضربا مبرحا فقالت له أخته فاطمة: يا عمر اسمع أولا الكتاب الذي آمنا به بعد أن سمعناه، فإن لم يعجبك فاقتلنا - قال عمر: "طيب" في ذلك الوقت كان في البيت أحد صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - اختفى بعد مجيء عمر، فقرأ الركوع الأول (¬2) من سورة طه، وظل عمر ينصت إلى القرآن الكريم، ثم انخرط باكيا ولم يتمالك نفسه، وهكذا آمن عمر منذ ذلك الوقت بالنبي وبالقرآن الذي أنزل عليه، وصار من خرج يريد قتل النبي هو أكثر الناس اعتزازا بفداء النبي والدين الحنيف، وأطلق عليه فيما بعد لقب "الفاروق". وكان المسلمون حتى ذلك الوقت يصلون خفية في بيوتهم فصاروا الآن يصلون في الكعبة، ورأى الكفار حال المسلمين فازدادوا غضبا وعيظا وبدأوا في إيذاء المسلمين إيذاء شديدا، كما تعرضوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالأذى والسب والشتم. حصار النبي مع عشيرته في شعب أبي طالب لثلاث سنوات: حين رأى الكفار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت على دعوته، وأن نشاطه مستمر بشجاعة لا نظير لها وعزيمة لا تلين، اتفقوا في السنة السابعة من البعثة النبوية على أن يقاطعوا بني هاشم قبيلة النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم أنها لم تسلم، ولم تساند النبي - صلى الله عليه وسلم - على ألا يناكحوهم ولا يبيعوهم ولا يشتروا منهم شيئا (¬3). وعقدت معاهدة بذلك وعلقت على الكعبة. وبقى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعشيرته محاصرين محبوسين في الشعب وقطعت عنهم قريش إمدادات الغذاء، ووصل الجوع بأطفال بني هاشم لدرجة أن صوت بكائهم سمع من وراء الشعب (¬4). ¬

(¬1) أخته فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد. (¬2) صدر سورة طه. (¬3) زاد المعاد. المجلد الأول [ص:299]. (¬4) زاد المعاد. المجلد الأول [ص:299].

وفاة أبي طالب وخديجة

عاش النبي - صلى الله عليه وسلم - وعشيرته هكذا لثلاث سنوات وظل من أسلم محبوسا في بيته، وفي موسم الحج حين كاد الكفار يحرمون القتال، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج من الشعب يدعو الناس إلى الإيمان بالله، وكان الشقي التعس أبو لهب يمضي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول: أيها الناس، هذا مجنون لا تسمعوا لحديثه، ومن يسمع له ويصدقه يهلك. وتحمل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الشدة بصبر لا ينفذ لثلاث سنوات، وحين أنزلت قريش الصحيفة التي كتبت فيها المعاهدة سابقة الذكر وجدوا الأرضة قد أتت عليها - إلا ذكر الله عز وجل - وبعدها خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشعب وبدأ يباشر دعوته. وذات يوم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد الحرام حيث كان يجلس رؤساء المشركين، فلما رأى أبو جهل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ساخرا "ها هو نبيكم قد جاء يا بني عبد مناف". قال عتبة بن ربيعة: وما تنكر أن يكون منا نبي أو ملك؟ فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فأتاهم، وخاطب في البداية عقبة فقال: "عقبة! ما حميت لله ورسوله، ولكن حميت لأنفك". ثم قال لأبي جهل: "والله لا يأتي عليك غير كبير من الدهر حتى تضحك قليلا وتبكي كثيرا" ثم قال لقريش: "والله لا يأتي عليكم غير كبير من الدهر حتى تدخلوا فيما تنكرون" (¬1). وسوف يرى القراء كيف تحقق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وفاة أبي طالب وخديجة: في السنة العاشرة من البعثة النبوية، توفي أبو طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ووالد علي المرتضى رضي الله عنه، وكان أبو طالب هو الذي ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ صباه، وحماه وأيده حين بدأ الدعوة إلى عبادة الله وحده، ولهذا حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفاته حزنا شديدا. وبعد ذلك بثلاثة أيام توفيت زوجته خديجة رضي الله عنها، وكانت قد وهبت نفسها لمؤازرة النبي كما ضحت بمالها ومتاعها في سبيل الله، وكانت أول من أسلم، وقد بلغها جبريل ¬

(¬1) تاريخ الطبري المجلد الثاني [ص:231].

خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - لدعوة القبائل

السلام من الله، ولهذا كانت وفاتها صدمة شديدة ومؤثرة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهنا بدأت قريش تزيد من إيذائها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام أحد الأشرار بإلقاء التراب على رأسه، ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب وهي تبكي، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبك يا بنيتي، فإن الله مانع أباك". خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - لدعوة القبائل: رغم فقد الرسول لنصرة عمه أبي طالب، ورغم فقدان الرسول لخديجة رضي الله عنها زوجته التي شاركته مصائبه ومتاعبه، رغم هذا بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله بحماس أكبر ونشاط أعظم، وهكذا حج نبي الله بعد أيام قليلة من مكة واتجه للدعوة في خارج مكة، وكان معه في سفره هذا زيد بن حارثة رضي الله عنه، عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعوة على القبائل التي كانت تسكن بين مكة والطائف، ووصل إلى الطائف راجلا يدعو إلي التوحيد. وكانت تسكنها بنو ثقيف وقد حملها خصوبة أراضيها وبرد روابيها على الغرور الذي فاق الحد، التقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقادتها وكانوا ثلاثة أخوة هم عبد ياليل، ومسعود وحبيب، ودعاهم إلى الإسلام. فقال أحدهم: إني أمرط أمام الكعبة إن كان الله أرسلك. وقال الآخر: ما وجد الله أحدا يرسله غيرك، لا يجد حتى دابة يركبها. إن كان الله مرسل رسولا، أرسله من بين الحكام أو الرؤساء. وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا. فلئن كنت رسول الله كما تقول فمن الخطر أن أرد كلامك ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا أريد منكم سوى أن تكتموا ما لديكم حتى لا يبلغ بقية القوم فيكون سببا في زللهم. واستمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الإسلام، وأبلغ هؤلاء عبيدهم وسفهاءهم بما دار بينهم، فراح هؤلاء يلقون الحجارة على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سالت الدماء وتجمدت في خفه حتى صعب عليه خلعه من قدميه للوضوء. ومرة اجتمع عليه السفهاء والأوباش يسبونه ويصيحون به حتى التجأ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حائط لعتبة وشيبة بن ربيعة، ورأوه على هذا الحال فأمرا غلاما لهما يدعى عداس أن

يحمل طبقا به عنب إلى رسول الله، فوضع الغلام العنب أمام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمد النبي يده إلى العنب وهو يقول: "بسم الله" ثم أكل. فنظر عداس (وكان نصرانيا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في حيرة ثم قال: "هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلدة - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أي بلاد أنت وما دينك؟ " فقال عداس: "أنا نصراني من سكان نينوى" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ " - فقال عداس: "وما يدريك عن يونس بن متى؟ - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك أخي، كان نبيا، وأنا نبي" فانتفض عداس وراح يقبل رأسه ويديه ورجليه، فرأى عقبة بن شيبة غلامه من بعيد يفعل ما يفعله فقال لأخيه: "لقد فسد الغلام" وحين رجع إليهما عداس، قالا له: ماذا أصابك ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال عداس: يا سيدي لا يوجد على وجه الأرض خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي" - فقالا: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه" (¬1). وقد واجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضربات في هذه المنطقة وهو يعظ الناس حتى أنه أغمي عليه وسقط على الأرض فحمله زيد على ظهره، وذهب به خارج العمران، فأفاق - صلى الله عليه وسلم - بعد أن نضح عليه الماء. ومع ما كابده الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا السفر من أذى وألم، فقد كان ما آلمه أكثر هو ألا يسلم أحد ممن دعاهم، ولكن قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مملوءا بحب الله وعظمته، فدعا الله بالكلمات التالية: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد (¬2) يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك» (¬3). ¬

(¬1) انظر تاريخ الطبري مجلد 2 [ص:229]. (¬2) الطبري 2/ 230. هكذا ذكر الطبري كلمة بعيد ومعناها غريب وذكر ابن هشام وابن الأثير لفظ محمد ولعلها تعني صديق. (¬3) نفس المصدر.

خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - للدعوة في مناطق مختلفة

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عائد من الطائف: "لماذا أدعو هؤلاء الناس، ماذا لو لم يؤمنوا بالله؟ وإني لأرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله الواحد". خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - للدعوة في مناطق مختلفة: بعدما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة بدأ يذهب إلى مساكن مختلف القبائل، أو يذهب خارج مكة .. ويلتقي بالمسافرين هنا وهناك يدعوهم إلى الإيمان وعباده الله وحده، وقد أتى أيضا قبيلة بني عبد الله، فقال لهم إن أباكم كان عبد الله، فكونوا اسما على مسمى (¬1)، وذهب إلى منازل قبيلة بني حنيفة، فلم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم، كما أتى قبيلة بني عامر بن صعصعة. وكان رئيس القبيلة يدعى بحيرة بن فراس، وكان قد سمع عن دعوة الإسلام، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: حسنا لو آمنا بما جئت به ثم انتصرت على مخالفيك، فهل تعدنا أن يكون لنا الأمر من بعدك؟ - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الأمر لله يضعه حيث يشاء، فقال بحيرة: أنضع نحورنا للعرب الآن فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، وكان معه في سفره هذا رفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. إيمان سويد بن صامت: في تلكم الأيام التقى النبي - صلى الله عليه وسلم - السويد بن صامت وكان يلقب في قومه بالكامل، فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، فقال سويد: "فلعل الذي معك مثل الذي معي". فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - "وماذا معك؟ " فقال: "حكمة لقمان" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعرضها علي" فأسمعه بعض الأشعار الجيدة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا كلام حسن، ولكن معي القرآن أفضل منه، هدى ونور ثم تلا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - آيات من القرآن الكريم، فأسلم على الفور، وحين رجع إلى يثرب (المدينة) قتلته الخزرج (¬2). الدعوة في سفارة يثرب وهداية إياس بن معاذ: وفي تلك الأيام قدم إلى مكة أبو الحيسر أنس بن رافع وكان برفقته بعض شباب بني عبد الأشهل، ومن بينهم إياس بن معاذ، جاءوا يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، فأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم: ¬

(¬1) صحيح مسلم عن عائشة أم المؤمنين (رقم 795). (¬2) انظر الطبري 2/ 232.

المعراج

"هل لكم رغبة في شيء يكون فيه خيركم" قالوا: "وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله ولا يشركوا به، أنزل الله علي الكتاب). ثم أوضح لهم أصول الإسلام وتلا عليهم القرآن الكريم، فقال إياس بن معاذ وكان لا يزال شابا صغيرا: "يا قومي! هذا والله خير مما جئتم له". عندئذ أخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من التراب فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال: "اسكت، ما جئنا لهذا"، فنهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانصرف. كان هذا قبل حرب بعاث بين الأوس والخزرج، ورجع إياس ومات بعدها بعدة أيام. وعند موته ظل يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه. فقد غرست في قلبه بذرة الإسلام حين سمع كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) وأثمرت حين مات. وفي تلك الأيام أيضا قدم مكة ضماد وكان من أهل اليمن، واشتهر بين العرب برقياه لمن مسه الجن، فسمع أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - به أثر من جن، فقال لقريش: يمكنني أن أعالج محمدا، فحضر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا محمد، سمعت أن بك مس، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمعني أولا: "الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد .. " وحين سمع ضماد ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - انطلق قائلا أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين أو ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة والسحرة والشعراء، فما سمعت مثل هذه الكلمات، ولقد بلغن ناعوس البحر، يا محمد، هات يدك أبايعك على الإسلام" (¬2). المعراج: في السابع والعشرين من شهر رجب من السنة العاشرة من البعثة أسرى الله تعالى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأراه ملكوت السماوات والأرض، فذهب أولا من المسجد الحرام إلى بيت المقدس وهناك صلى بالأنبياء إماما ثم عرج به إلى السماوات والتقى بالأنبياء كل في مقامه ¬

(¬1) الطبري 2/ 234. (¬2) صحيح مسلم (رقم 868).

إلى أن وصل إلى سدرة المنتهى والبيت المعمور، ثم نال شرف القرب من الحضرة الإلهية فأوحى الله إلى عبده ما أوحى (¬1). كتب شاه ولي الله في كتابه حجة الله البالغة: (¬2) وأسرى به إلى المسجد الأقصى ثم إلى سدرة المنتهى وإلى ما شاء الله، وكل ذلك بجسده - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة، ولكن ذلك كان في موطن هو برزخ بين المثال والشهادة جامع لأحكامهما، فظهر على الجسد أحكام الروح، وتمثل الروح والمعاني الروحية أجسادا ولذلك فإن كل واقعة من تلك الوقائع تعبير. 1 - أما شق الصدر وملؤه إيمانا فحقيقته غلبة أنوار المليكة وانطفاء لهب الطبيعة وخضوعها لما يفيض عليها من حظيرة القدس. 2 - وأما ركوبه على البراق فحقيقته استواء نفسه النطفية على السمة التي هي الكمال الحيواني، فاستوى راكبا على البراق كما غلبت أحكام نفسه النطفية على البهيمية وتسلطت عليها. 3 - وأما إسراؤه إلى المسجد الأقصى فلأنه محل ظهور شعائر الله ومتعلق همم الملإ الأعلى ومطمح أنظار الأنبياء عليهم السلام فكأنه كوة إلى الملكوت. 4 - وأما ملاقاته مع الأنبياء صلوات الله عليهم ومفاخرته معهم فحقيقتها اجتماعهم من حيث ارتباطهم بحظيرة القدس وظهور ما اختص به من بينهم من وجوه الكمال. ¬

(¬1) كتب العلامة ابن القيم "روى عن عائشة رضي الله عنها ومعاوية والإمام حسن البصري أن الإسراء كان بروحه المباركة، وأن جسده لم يفارق مكانه، ويقول العلامة سابق الذكر أنه بين الإسراء بالروح وبين المنام فرق كبير فالمراد بالإسراء الروحي أن الروح المباركة قد عرج بها إلى المقامات التي ذكرت، وذلك لا يكون في المنام وهذه منزلة أتم وأكمل وأشرف وأعلى وجمهور العلماء على أن الإسراء كان بالجسد والروح (زاد المعاد [ص:300]) ومن الواضح إن إنكار العروج بالجسد إنما هو نتيجة للفلسفة المعاصرة الجافة، ذلك لأن القادر المطلق الذي أمسك الأجرام السماوية الثقيلة في الفضاء قادر على أن يعرج بجسم الإنسان الصغير إلى الفضاء واليوم تطير الطائرات بالإنسان بقوة النايتروجن، فكيف يستبعد أن يعرج الله نبيه الكريم ليريه ملكوت السماوات والأرض بالبراق (وهو مشتق من البرق وفيه إشارة إلى قوة الكهرباء) وأنا أعتقد أن المعراج كان بالجسد وفي حالة اليقظة (المؤلف). (¬2) حجة الله البالغة ([ص:387]).

5 - وأما رقيه إلى السماوات سماء بعد سماء فحقيقته الانسلاخ إلى مستوى الرحمن منزلة لعد منزلة، ومعرفة حال الملائكة الموكلة بها ومن لحق بهم من أفاضل البشر والتدبير الذي أوحاه الله فيها والاختصام الذي يحصل في ملأها. 6 - وأما بكاء موسى فليس بجسد ولكن مثال لفقده عموم الدعوة وبقاء كمال لم يحصل مما هو في وجهه. 7 - وأما سدرة المنتهى فشجرة الكون وترتب بعضها على بعض وانجماعها في تدبير واحد، كانجماع الشجر في الغاذية والنامية ونحوهما، ولم تتمثل حيوانا لأن التدبير الجملي الاجمالي الشبيه للسياسة الكلي أفراده (...)، وإنما أشبه الأشياء به الشجرة دون الحيوان فإن الحيوان قوى تفصيلية والإرادة فيه أصرح من سنن الطبيعة. 8 - وأما الأنهار في أصلها رحمة فائضة في الملكوت حذو الشهادة وحياة وإنماء فلذلك تعين هنالك بعض الأمور النافعة في الشهادة كالنيل والفرات. 9 - وأما الأنوار التي غشيتها فتدليات إلهية وتدبيرات رحمانية تلعلعت في الشهادة حيثما استعدت لها. 10 - وأما البيت المعمور فحقيقته التجلي الإلهي الذي يتوجه إليه سجدات البشر وتضرعاتها يتمثل بيتا على حذو ما عندهم في الكعبة وبيت المقدس. 11 - ثم أتى بإناء من لبن وإناء من خمر فاختار اللبن، فقال جبريل هديت للفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك. فكان هو - صلى الله عليه وسلم - جامع أمته ومنشأ ظهورهم، وكأن اللبن اختيارهم الفطرة والخمر اختيارهم لذات الدنيا. 12 - وأمر بخمس صلوات بلسان التجوز، لأنها خمسون باعتبار الثواب ثم أوضح الله مراده تدريجا ليعلم أن الحرج مرفوع وأن النعمة كاملة، وتمثل هذا المعنى مستندا إلى موسى عليه السلام. فإنه أكثر الأنبياء معالجة للأمة ومعرفة بسياستها (¬1). ¬

(*) أي مشابه للسياسة الكلية وهو أيضا مفرد. (¬1) ذكر أكثر المؤلفين أن المعراج كان بعد العودة من الطائف، ولكن الإمام الطبري كتب في كتابه "تاريخ الأمم والملوك" أن المعراج وقع في اليوم الثاني بعد البعثة ويؤيده بدليل قوي وهو أن الصلاة فرضت ليلة المعراج وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون منذ ذلك الوقت، فكيف يمكن أن يكون الحكم بفرضية الصلاة قد تأخر إحدى عشرة سنة، ولكن لو صح ما قاله "شاه عبد الحق محدث الدهلوي" =

إسلام طفيل بن عمرو الدوسي

إسلام طفيل بن عمرو الدوسي: وفي هذه الأيام قدم الطفيل بن عمرو، رئيس قبيلة دوس، إلى مكة، وقد عرفت أسرته في نواحي اليمن بالحكم والرئاسة وكان طفيل نفسه رجلا شاعرا ذكيا، وقد خرج أهل مكة لاستقباله خارجها، وبالغوا في الحفاوة به، وطبقا لرواية طفيل "قال لي أهل مكة، خرج فينا رجل، يأتيه السحر، فرق بين المرء وابنه وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، فرق جماعتنا وشتت أمرنا وأنا لا نريد أن يصيب قومك ما أصابنا وننصحك بشدة ألا تذهب إليه. وألا تكلمه وألا تسمع منه ... ". وظلوا يلحون علي بذلك حتى إنه حين أردت دخول الكعبة أغلقت أذناي بقطعة من القطن حتى لا أسمع شيئا مما يقول محمد، وغدوت إلى الكعبة ذات يوم وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، وكانت مشيئة الله أن يصل صوته إلى سمعي، فسمعته يقول كلاما عجبا، ورحت ألوم نفسي فأنا نفسي شاعر، عالم، أميز بين الحسن والقبيح، فلأي سبب وماذا يمنعني من أن أسمع كلامه، فإن كان ما يقول حسنا قبلت وإلا رفضت. وانتظرت بعد قراري هذا، وانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته فمضيت خلفه، ودخل بيته فدخلت عليه وأخبرته بما قال القوم وبما فعلته حتى لا أسمع صوته وما حدث بعد ذلك هو أن شاءت إرادة الله أن سمع ما جرى على لسانه الكريم، وطلبت منه أن يسمعني كلامه. فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن، ووالله ما سمعت كلاما أطهر منه، ولا أحسن منه ولا أمرا أعدل منه". وهكذا أسلم طفيل على الفور وهو الذي كانت قريش تصفه بالمخدوم المطاع، وهكذا أصبح بقلبه وروحه خادما ومطيعا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد شق إسلام طفيل على قريش كثيرا (¬1). إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: كان أبو ذر رضي الله عنه يقيم في مدينة يثرب، فلما بلغته بعض الأخبار المتناثرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال لأخيه: اذهب إلى مكة وقابل هذا الرجل. ¬

= المتوفي 1051 هـ في شرح سفر السعادة ([ص:36]) من أن صلاة الفجر والعصر فرضتا أولا، ثم كان فرض الصلوات الخمس في ليلة المعراج، فإنه لا يوجد إشكال في هذه المسألة. (¬1) زاد المعاد بتصرف، المجلد الأول 493، 494.

وكان أنيس وهو أخو أبي ذر شاعرا فصيحا ذائع الشهرة، فقدم مكة ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجع إلى أبي ذر فقال له: "رأيت محمدا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر". فقاد أبو ذر: ما شفيتني مما أردت، وانطلق راجلا ووصل إلى مكة، لم يكن أبو ذر رضي الله عنه يعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أنه كره أن يسأل أحدا عنه، فشرب من ماء زمزم واستراح في الكعبة، وبينما هو كذلك إذ قدم علي رضي الله عنه، فوقف عنده وقال: يبدو أن هنا غريب، فقال أبو ذر، نعم، فقال علي المرتضى رضي الله عنه، اتبعني فتبعه، ولم يسأله علي رضي الله عنه شيئا، كما أن أبا ذر لم يقل شيئا، وطلع الصباح، فذهب أبو ذر مرة ثانية إلى الكعبة عازما على البحث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه لم يسأل أحدا، فمر به علي مرة ثانية، فقال له: لعل الرجل لم يجد مناله؟ قال أبو ذر رضي الله عنه: "نعم" فذهب به علي رضي الله عنه وسأله عمن يكون وما الذي أقدمه؟ فقال أبو ذر: إن حفظت السر أخبرتك، فعاهده علي رضي الله عنه على ذلك، فقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت أن في هذه البلدة رجلا يقول إنه نبي الله، فأرسلت أخي، فلم يأتني بما يشفيني ولهذا جئت بنفسي. قال علي رضي الله عنه، لقد أحسنت بمجيئك وكان خيرا إن لقيتني، إني ذاهب إليه فامض معي، سأدخل أولا لأرى هل الوقت مناسب للقاء ... والخلاصة أن أبا ذر رضي الله عنه وصل مع علي المرتضى رضي الله عنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام، وأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم أبو ذر على الفور. فقال له النبي: "يا أبا ذر احفظ عليك هذا الأمر، وارجع إلى قومك حتى يأتيك أمري". فقال أبو ذر "والله لأعلن هذا بين هؤلاء الأعداء". وانطلق أبو ذر ناحية الكعبة، واجتمعت قريش فنادى بأعلى صوته: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" فقال كفار قريش: اضربوا هذا الصابئ وبدأوا في ضربه إلا أن العباس قدم وأكب عليه قائلا ويلكم هذا رجل من قبيلة غفار من حيث تمضي تجارتكم إلى الشام، فتراجع الناس، وفي اليوم التالي عاد لمثلها فضربوه فخلصه العباس، ثم عاد أبو ذر رضي الله عنه إلى قومه (¬1) ¬

(¬1) صحيح البخاري كتاب المناقب عن ابن عباس [4/ 41، 2/ 242] وفي مدارج النبوة أن أبا ذر رضي الله عنه عاش على ماء زمزم نحو شهر، وكان هذا ماءه وغذاءه حتى تسكن بطنه.

أسباب الهجرة

أسباب الهجرة: يذكر أنه في السنة الحادية عشرة للبعثة النبوية، وفي موسم الحج، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ظلام الليل في مكان يبعد عن مكة عند العقبة (¬1) أناسا يتكلمون فوصل النبي إلى مكان الصوت فوجد ستة رجال (¬2) كانوا قد قدموا من يثرب، فذكر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عظمة الله وجلاله. وأضاء قلوبهم بنور الله، ونفرهم من الأوثان، وأرشدهم إلى الخير والعفاف ومنعهم عن المعاصي والمنكرات، ونور قلوبهم بآيات القرآن الكريم، ومع أن هؤلاء الناس كانوا وثنيين، إلا أنهم طالما سمعوا من يهود مدينتهم مرة بعد مرة أن نبيا سيبعث قريبا (¬3)، ولهذا أسلموا من فورهم وعادوا إلى قومهم وقد أصبحوا من دعاة دين الحق المخلصين. كانوا يبشرون بأن ذلك النبي (¬4) الذي كان ينتظره الجميع قد ظهر وقد سمعنا كلامه بأسماعنا ورأينا طلعته بأبصارنا وأنه قد هدانا إلى الحي القيوم، فصارت الحياة والموت في هذه الدنيا بالنسبة لنا لا شيء. بيعة العقبة الأولى: كان من نتيجة دعوة هؤلاء الناس وبشارتهم أن فشا في كل بيت من بيوت يثرب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي العام التالي أي الثاني عشر للنبوة حضر إلى مكة اثنا عشر رجلا من يثرب (¬5) ¬

(¬1) هذا المكان يقع بين الحمراء ومنى. (¬2) وهم أبو أمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك وقطبة بن عامر بن حديدة وعقبة بن عامر بن نابي وسعد بن ربيع (انظر الاستيعاب) (¬3) زاد المعاد المجلد الأول [ص:303] (¬4) ليرجع القارئ لفهم معنى لفظ (ذلك النبي) إلى إنجيل يوحنا (الإصحاح الأول: 19 - 28) فقد اعترف فيه يوحنا (يحيى) بأنه ليس المسيح (21) فسألوه إذن ماذا، ألست أنت؟ فقال لست أنا، إذا ماذا هل أنت "ذلك النبي" فأجاب: لا، ويفهم من هذا أن علماء اليهود في ذلك الزمان كانوا ينتظرون مجيء ثلاثة أنبياء: الأول إلياس والثاني المسيح والثالث (ذلك النبي) ويتضح من الإنجيل أن يوحنا أخبر بأن يسوع هو المسيح والمسيح قال أن يوحنا هو إلياس، ويبقى الآن ظهور الثالث الذي ورد ذكره في الكتب السابقة بذلك النبي، الذي وصفه المسلمون بحضرة النبي، فإن لم يكن محمد هو ذلك النبي فليذكر لنا علماء النصارى من هو الذي قيل عنه "ذلك النبي". (¬5) أبو أمامة، عوف بن الحارث، رافع بن مالك. قطبة بن عامر، عقبة بن عامر، معاذ بن حارث، ذكوان بن عبد قيس، خالد بن مخلف، عبادة بن صامت، عباس بن عبادة، أبو الهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة

مصعب بن عمير

فنالوا شرف الإسلام على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبايعوه على ما يلي: 1 - أن نعبد الله وحده لا شريك له ولا نشرك به. 2 - ألا نسرق ولا نزني. 3 - وألا نقتل أولادنا (بناتنا). 4 - وألا نأتي ببهتان ولا نسعى بالنميمة والوشاية. 5 - وأن نطيع النبي ولا نعصيه في معروف. مصعب بن عمير: وحين انصرف القوم (¬1) عائدين بعث معهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير، وكان قد تربى في بيت غني، وكان حيثما يركب الفرس يتبعه غلامه، ولم يكن يخرج إلا وعليه الملابس الفخمة الغالية، ولكنه حين عاش في جو الإيمان الرائع تخلى فورا عن حياة الراحة والدعة، فحينما راح يدعو في المدينة إلى دين الحق يبلغ الإسلام كان يضع على كتفه قطعة من القماش يمسكها بالشوك. بيعة العقبة الثانية: نزل مصعب رضي الله عنه في المدينة في بيت أسعد بن زرارة رضي الله عنه، وكان أهل المدينة يسمونه "المقرئ" (¬2)، وقد اجتمع مصعب وأسعد يوما على بئر مرق ومعهما بعض ممن أسلموا، يفكرون في دعوة بني عبد الأشهل وبني ظفر إلى الإسلام وكان سعد ابن معاذ وأسيد بن حضير رؤساء قبيلتيهما وكانا مشركين، فلما عرفا ذلك قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: "في أي غفلة أنت، هذان الرجلان اللذان قدما إلى دارنا ليسفها ضعفاءنا، اذهب إليهما وازجرهما وحذرهما أن يأتيا ديارنا، أنا نفسي أفعل هذا ولكني سكت لأن أسعد ابن خالتي. فحمل أسيد بن حضير سلاحه، فقال أسعد رضي الله عنه لمصعب؛ انظر هذا ¬

(¬1) الطبري 2/ 235. (¬2) الطبري 2/ 235.

إسلام أسيد بعد سماعه دعوة مصعب

رئيس القبيلة قد جاءك، فلندعو الله أن يهديه لما ندعوه إليه. قال مصعب، إن يجلس أكلمه، وحينئذ وصل أسيد رضي الله عنه وراح يشتم ويسب وهو واقف، ويقول، ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ إسلام أسيد بعد سماعه دعوة مصعب: قال مصعب: ليتك تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره - قال أسيد: حسنا فأفهمه مصعب ما الإسلام، وتلا عليه القرآن الكريم، وسمع أسيد كل شيء وهو صامت، ثم قال: كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له تغتسل ثم تطهر ثيابك، وتنطق شهادة الحق، وتصلي ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا، إن اتبعكما لن يبق لكم من معارض وها أنا ذاهب سأرسله إليكما، وانطلق أسيد، ولما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال، لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به، وحين وصل أسيد وجلس سأله سعد عما جرى. فقال أسيد: كلمت الرجلين فقالا نفعل ما أحببت، ولكن شيئا وقع فقد قدم بني حارثة يريدون قتل أسعد بن زرارة لأنه أخوك، وسمع سعد بن معاذ هذا فغضب وحمل حربته ووقف، خشية أن يقتل بنو حارثة أخاه، وقال وهو يمضي، والله ما أراك أغنيت شيئا. إيمان سعد بن معاذ بعد سماعه دعوة مصعب: وصل سعد إلى مصعب وأسعد فرآهما يجلسان في هدوء وطمأنينة ففهم أن أسيدا إنما أراد أن يرسله لهما ليسمع كلامهما بنفسه، فوقف يشتم ويسب، وقال لأسعد بن زرارة: لولا ما بيننا من قرابة، ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا (بما نكره) وقال أسعد لمصعب، جاءك سيد قومه إن يتبعك لم يخالف عليك منهم اثنان، فقال مصعب لسعد، أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، ووضع سعد حربته وجلس، فعرض عليه مصعب حقيقة الإسلام، وتلا عليه القرآن الكريم، وفي النهاية سأله سعد رضي الله عنه، كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهر ثوبك وتنطق بشهادة الحق ثم تصلي ركعتين. فقام سعد واغتسل وطهر ثيابه ونطق الشهادة وصلى النفل وحمل حربته وعاد إلى نادي قومه ونادى فيهم: يا بني عبد الأشهل كيف ترون أمري فيكم؟ قال الجميع: أنت سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة. قال سعد: فاسمعوا إن كلام رجالكم ونسائكم حرام علي حتى تؤمنوا بالله ورسوله.

إسلام القبيلة كلها في يوم واحد

إسلام القبيلة كلها في يوم واحد: وهكذا كان لكلامه من التأثير أن أسلمت قبيلة بني عبد الأشهل في يوم واحد، وانتشر الإسلام بدعوة مصعب رضي الله عنه حتى عم قبائل الأنصار كلها (¬1)، وكان من نتيجة ذلك أنه في العام الثالث عشر من البعثة قدم إلى مكة 73 رجلا وست نساء في قافلة من يثرب، وكان مؤمنو يثرب قد أرسلوهم حتى يقوموا بدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مدينتهم وليحصلوا على موافقة النبي على هذه الدعوة. وصلت هذه الجماعة الصادقة إلى هذه البقعة الطاهرة التي كان يجتمع فيها المخلصون من يثرب منذ سنتين، وكان وصولها في ظلمة الليل، ووصل رسول الله المختار هناك مع عمه العباس رضي الله عنه (¬2). فقال العباس (ولم يكن قد أسلم آنذاك) كلمة هامة، قال: أيها الناس تعرفون عداوة قريش مكة لمحمد، فإن عاهدتموه وبايعتموه فاعرفوا أن الأمر جد خطير، لأنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود (¬3). فلتفكروا فيما أنتم مقدمون عليه. وإلا تراجعتم عن ذلك. فلم تجب الجماعة على العباس وأرادت أن تسمع ما يقوله الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وعظ الرسول في العقبة الثانية: فتلا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلام الله، رسالة الله إلى الإنسان، وبسماع التلاوة امتلأ هؤلاء بنور الإيمان واليقين، وأبدى الجميع رغبتهم في أن يقيم النبي - صلى الله عليه وسلم - في مدينتهم حتى يمكنهم أن ينالوا من فيض دعوته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: 1 - هل تنصرونني في نشر دين الحق؟ 2 - وحين أقيم في مدينتكم هل تمنعونني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم؟ قال المؤمنون: وما جزاؤنا عن هذا؟ (¬4). ¬

(¬1) الطبري 244. (¬2) الطبري 244. (¬3) حرب الأحمر والأسود أي الحرب الدامية الطاحنة التي لا تبقى على شيء. (¬4) انظر سؤال بطرس للمسيح. متى 19 - 27.

نقباء النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لكم الجنة (النجاة ورضاء الله في الآخرة). قال المؤمنون: يا رسول الله، طمئنا بألا تتركنا يا رسول الله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا أترككم، محياي ومماتي معكم. وما أن سمع هؤلاء الفقرة الأخيرة حتى نهضوا فرحين مغتبطين يبايعونه على الفداء والإخلاص (¬1) وكان البراء بن معرور رضي الله عنه أول من بايعه في تلك الليلة. ورأى شيطانا من الشياطن هذا المشهد من فوق القمة فصرخ ينادي أهل مكة: تعالوا إن محمدا وجماعة من أناسه يتشاورون على حربكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تبالوا بهذا الصوت، فقال العباس بن عبادة: لو أذنت لنا لأعملنا سيوفنا في أهل مكة غدا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، لم يؤذن لي في الحرب بعد" (¬2). نقباء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ثم اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - من بينهم اثنى عشر نقيبا، وقال لهم: مثلما اتخذ عيسى بن مريم لنفسه اثنى عشر نقيبا، اختاركم حتى تذهبوا إلى أهل يثرب فتنشروا فيهم الإسلام، وأما أهل مكة فأنا أنشر الإسلام فيهم. وكان النقباء تسعة من الخزرج هم: أسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وعبادة بن الصامت (وكانوا في العقبة الأولى أيضا) وسعد بن الربيع، ومنذر بن عمرو، وعبد الله ابن رواحة وبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وسعد بن عبادة وثلاثة من الأوس هم: أسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة، وأبو الهيثم بن تيهان. قريش تقبض على مسلمين من يثرب: ولما أصبحت قريش، عرفت بما جرى، فخرجت تطلب أهل يثرب، ولكن قافلتهم كانت قد رحلت مبكرا، فأدركت قريش سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، فأما المنذر ففلت من قريش ولم يتمكنوا منه وأما سعد فقبضوا عليه، وربطوا يديه إلى عنقه ¬

(¬1) وقد تمت كلمة "إن النور يلمع في الظلام" إنجيل يوحنا 5/ 1. (¬2) زاد المعاد مجلد 1 [ص:304]- الاستيعاب 12.

الإذن للمسلمين بالهجرة

بنسع راحلته، وأتوا به إلى مكة، يضربونه ويشدون شعر رأسه وكان طويلا، لقد كان سعد بن عبادة رضي الله عنه قد اختاره النبي من بين الاثني عشر نقيبا - وطبقا لروايته فإنه حين أوسعته قريش ضربا طلع عليه رجل أبيض وضيء شعشاع حلو من الرجال فنظرت إليه وقلت في نفسي: إن يكن عند أحد من القوم خير فعند هذا، فلما اقترب مني لطمني لطمة شديدة، فتأكدت أنه ليس فيهم بعد هذا خير. وبينما هو كذلك قدم عليه رجل آخر، تأثر مما أنا فيه وقال: أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟ ". يقول: فقلت: بلى، لقد كنت أجير لجبير بن مطعم وحارث بن أمية حفيد عبد مناف، فقد كنت أجير تجارتهم في بلادي مرات ومرات. قال: فاهتف باسم الرجلين. قال: وهكذا فعلت وخرج ذلك الرجل إليهما وقال لهما إن رجلا من الخزرج يضرب وأنه ليهتف بكما - فسألاه: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة - قالا: صدق، إن له علينا إحسان وفضل، فجاءا وخلصا سعد بن عبادة وانطلق إلى يثرب (¬1). الإذن للمسلمين بالهجرة: بعد بيعة العقبة الثانية أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين، الذين لم يغادروا مكة، والذين واجهوا صنوف الأذى والعذاب حتى أصبح وطنهم بالنسبة لهم جحيما، في الهجرة إلى يثرب، ولم يحزن هؤلاء المؤمنون على الإطلاق لفراقهم الوطن والأقارب، والأب والأخ والزوجة والابن، بل فرحوا لأنهم سيتمكنون من عبادة الله وحده لا شريك له بحرية كاملة. ¬

(¬1) ما هو الدرس الذي تضمنه حال سعد هذه؟ إن الابتلاء يبدأ من الله مع بدء إسلام المرء، ويكون الابتلاء بالجوع والظمأ وبالعداء من القوم والوطن، وبالإيذاء الجسماني وبنقص في الأموال، ومن يصبر على هذه البلايا والمصائب يستحق بذلك الوعد السرمدي الذي وعده الله لعباده الصابرين، وهو الوعد الذي ورد في القرآن والإنجيل والتوراة في شأن المؤمنين بأن الله يصلح لهم الدنيا والآخرة فالذين تمسكوا بالإسلام رغم كل هذه الشدائد والبلايا والمحن، كيف يقال إنهم أسلموا بقوة السيف؟ وكيف يكره هؤلاء أحدا على الدخول في الإسلام بقوة السيف؟

مصاعب الهجرة

مصاعب الهجرة: وكان المهاجرون والذين تركوا ديارهم يواجهون مقاومة شديدة من قريش بمكة: 1 - حين أراد صهيب الرومي رضي الله عنه الهجرة، جاءه كفار قريش وقالوا له: أتيتنا مفلسا حقيرا، فكثر مالك عندنا، ثم تريد أن تخرج من هنا وتريد أن تأخذ معك كل هذا المال، لا يكون هذا أبدا. فقال لهم صهيب، أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتتركوني أمضي. قالت قريش، نعم. فأعطاهم قريش جميع ماله، وهاجر إلى يثرب، وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقصة فقال: ربح صهيب، ربح صهيب! (¬1). 2 - تقول أم سلمة رضي الله عنها، أراد زوجي أبو سلمة الهجرة، فحملني إلى بعيره، وفي حضني طفلي سلمة، وحين بدأنا السير قدم إليه رجال بني المغيرة وقالوا له: يمكنك أن تذهب، ولكنك لا يمكن أن تأخذ ابنتنا، وقدم بنو عبد الأسد أيضا وقالوا لأبي سلمة، يمكنك أن تذهب ولكن الطفل طفل القبيلة لا يمكن أن تأخذوه فنزعوا خطام البعير من أبي سلمة وأناخوها، وسلب بنو عبد الأسد الطفل من حضن أمه، وأخذ بنو مغيرة أم سلمة، أما أبو سلمة الذي يعتبر الهجرة في سبيل الدين فرض، فقد انطلق إلى يثرب دونما زوجه وطفله. وكانت أم سلمة رضي الله عنها تخرج مساء كل يوم في المكان الذي انفصلت فيه عن زوجها وطفلها، فلا تزال تبكي لساعات ثم تعود، وظلت على هذا الحال سنة، حتى مر بها رجل من بني عمها فرق لحالها، فتحدث مع القبيلتن حتى سمح لها باللحاق بزوجها. وأعيد لها طفلها أيضا، فارتحلت أم سلمة على بعير متجهة إلى المدينة وحيدة مع طفلها (¬2)، وأصاب مثل ذلك تقريبا كل صحابي. 3 - يقول عمر الفاروق رضي الله عنه: إن عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي ¬

(¬1) سيرة ابن هشام [ص:168]، 2/ 121. مات صهيب رضي الله عنه بالمدينة المنورة في شوال سنة 38 هـ عن عمر يناهز الثالثة والسبعين (¬2) سيرة ابن هشام 2 / [ص:112]- 113.

الهجرة

رضي الله عنهما أرادا الهجرة معي، وفي وقت الرحيل وصل عياش إلا أن هشام لم يصل فقد بلغ كفار قريش خبره فحبسوه. ولم يكد عياش رضي الله عنه يصل إلى المدينة حتى وصل إليها أبو جهل والحارث، وعياش بن أبي ربيعة ابن عمهما وأخاهما لأمهما. فقال أبو جهل والحارث لعياش: لقد ساء حال أمك بعد رحيلك وأقسمت ألا يمس رأسها مشط ولا تستظل من شمس حتى تراك فلتذهب معنا يا أخي حتى تستريح أمك. قال عمر الفاروق رضي الله عنه: يا عياش يبدو أنها خدعة ولو آذى القمل أمك لامتشطت ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فلا تذهب. قال عياش: لا، أعود أبر بقسم أمي. قال عمر الفاروق: إذا كان الأمر كذلك، فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول فالزم ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانج عليها. فأخذ عياش رضي الله عنه الناقة، ومضى الثلاثة، وذات يوم وهم في الطريق بالقرب من مكة قال أبو جهل: لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال عياش: بلى. ولما أناخ كل منهم رحله، واستووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة هكذا. وكانا يقولان بفخر: انظروا هكذا فليكن عقاب سفهائكم وهكذا سجن عياش رضي الله عنه مع هشام بن العاص وحين وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، قام الوليد بن المغيرة بتحقيق أمنيته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج إلى مكة وأخرجهما من محبسهما (¬1). وتكفي هذه القصص الثلاث لبيان المشكلات والمصاعب التي واجهت المسلمين أثناء الهجرة، فترك الوطن والبيت ليس بالامتحان والابتلاء السهل. الهجرة: حين لم يبق في مكة من المسلمين إلا القليل، ولم يبق من مشاهير الصحابة إلا أبو بكر وعلي رضي الله عنهما، رأت قريش مكة أن الفرصة قد حانت لقتل محمد. ¬

(¬1) سيرة ابن هشام المجلد الأول 167، المجلد 2/ 118.

تشاور رؤساء قريش لقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -

تشاور رؤساء قريش لقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -: عقد رؤساء قريش جلسة سرية في دار الندوة لتدبير قتل النبي، وكان قصي بن كلاب قد بناها لتكون بمثابة إيوان لبرلمان قريش، وقد حضر هذه الجلسة أيضا شيطان نجد العجوز المحنك [في هيئة شيخ جليل] واجتمع فيها رؤساء قبائل قريش المشهورين وهم: 1 - من بني عبد شمس، شيبة وعقبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب. 2 - من بني نوفل طعيمة بن عدي وجبير بن مطعم والحارث بن عامر. 3 - من بني عبد الدار النضر بن حارث بن كلدة. 4 - ومن بني أسد بن عبد العزى، أبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام. 5 - ومن بني مخزوم أبو جهل بن هشام. 6 - ومن بني سهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج. 7 - ومن بني جمح أمية بن خلف (¬1). قال أحدهم: اقبضوا عليه وضعوا في عنقه طوقا وسلاسل واحبسوه في مكان وأغلقوا عليه الباب حتى يذوق موت زهير والنابغة ومن مضى منهم. فقال الشيخ النجدي: لا، لا لئن حبس محمد فسيخرج أمره لأصحابه، فيسعون لتخليصه ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم ويقضوا عليكم. فقال آخر: نحمله على بعير جامح وننفيه من هنا، فلا نبالي إذا غاب عنا وفرغنا منه وليمت كما يشاء. فقال الشيخ النجدي: لا، لا، ما هذا لكم برأي، أنسيتم حلاوة حديث محمد، فهو غالب بسهولة على قلوب من حدثهم، فهو أنى ذهب غلب على الناس بذلك حتى يتبعوه ويكونوا معه وفي النهاية يأتون إليكم لينتقموا لنبيهم. ¬

(¬1) قال تعالى في كتابه الكريم: {يكيدون كيدا وأكيد كيدا. فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} ولنفكر هنا في عاقبة هؤلاء الرؤساء في ضوء هذه الآية الكريمة، فقد قتل منهم أحد عشر رجلا في غزوة بدر، أما من نجا منهم من القتل وهم أبو سفيان بن حرب وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام فقد أنجاهم الله من الموت وهداهم الله إلى الإسلام في النهاية.

مؤامرة قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -

مؤامرة قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -: وفي النهاية اقترح أبو جهل خطة وافق عليها المجتمعون كلهم وتلخص اقتراحه وخطته فيما يلي: 1 - أن يختار فتى من كل قبيلة من القبائل المشهورة. 2 - أن يكمن هؤلاء الفتيان في ظلمة الليل أمام بيت محمد. 3 - حين يخرج محمد - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الفجر يقوم الفتية إليه فيضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد. وتكمن فائدة هذه الخطوة في أن القتل الذي ستشترك فيه جميع القبائل لن يمكن قبيلة محمد - صلى الله عليه وسلم - من حرب القوم مجتمعين كما لن يمكن المؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من المطالبة بالثأر والانتقام. التدبير الإلهي في مواجهة التدبير الإنساني: وهنا يأتي دور التدبير الإلهي والحماية الربانية في مواجهة التدبير الإنساني، فحين أحاط أولئك الناس ليلا ببيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، في ذلك الوقت طلب نبي الله من أخيه علي رضي الله عنه أن ينام في فراشه وأن يتسج ببردته، وألا يقلق أبدا، فلن يخلص إليه شيء يكرهه من هؤلاء، فنام علي رضي الله عنه نوما هادئا تحت ظلال السيوف وخرج رسول الله في حفظ الله، ونثر التراب على رؤوس هؤلاء الناس الذين عمت قلوبهم. وهو يتلو سورة يس، وخرج سالما فلم يره أحد وهو يمضي حيث أراد (¬1) وكانت هذه الواقعة يوم الخميس السابع والعشرين من صفر عام 13 من البعثة الموافق للثاني عشر من سبتمبر 662م. أتى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بيت صديقه ورفيقه أبي بكر، فأعد متاع السفر اللازم على عجل، ¬

(¬1) ما حدث للنبي - صلى الله عليه وسلم - يشبه ما حدث لصفي الله داود، فقد هرب داود من الكوة، وكان شاول قد أرسل رسلا إلى بيت داود ليراقبوه ويقتلوه في الصباح، وحين أرسل شاول رسله لأخذ داود، وجدوا في فراشه التراقيم ولبدة المعزى. فقالت هو مريض .. الخ انظر النص في العهد القديم صموئيل الأول الإصحاح التاسع عشر 12 - 13 - 14 - 19 [ص:460] ط جمعيات الكتاب المقدس المتحدة ط، بريطانيا. University Press Cambridge

القوة الإيمانية لأسماء بنت أبي بكر

وحلت أسماء بنت أبي بكر نطاقها فجعلته عصاما للسفرة، وفي ظلمة تلك الليلة انطلقا حتى وصلا غار ثور على بعد حوالي أربعة أميال من مكة وكانت الطريق وعرة حتى أدمى قدمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصابه الألم من الركض، فحمله أبو بكر رضي الله عنه على كتفه. حتى وصلا في النهاية إلى غار، فدخل أبو بكر أولا فنظفه وسد جحوره بمخاريق من ثوب جسده وبعدها طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل. وطلع الصبح واستيقظ علي رضي الله عنه كعادته كل يوم وجاءته قريش وسألته عن محمد فأجاب علي وما أدراني أكنت عليه رقيبا، أمرتموه بالخروج فخرج، فانتهروا عليا وعنفوه من غضبهم وضربوه وأخذوه إلى الجعبة وحبسوه لفترة ثم تركوه (¬1). وقدم هؤلاء إلى بيت أبي بكر، فدقوا بابه، فخرجت أسماء بنت أبي بكر إليهم، فسألها أبو جهل: أين أبوك يا ابنة أبي بكر؟ فقالت والله لا أعلم. فرفع أبو جهل - وكان فاحشا خبيثا - يده ولطم خدها لطمة طرحت منها قرطها (¬2). القوة الإيمانية لأسماء بنت أبي بكر: وهناك أمر بسيط يتعلق بالهجرة تجدر الإشارة إليه هنا، تقول أسماء بنت أبي بكر الصديق، لما خرج أبي حمل معه ماله كله، وكان خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم. وجاءني جدي أبو قحافة (¬3) بعد رحيل أبي فقال: إني أراه قد فجعكم بماله مع نفسه فقد ذهب هو وأخذ معه ماله. تقول أسماء، لا يا جدي، لقد ترك لنا مالا وافرا وأخذت أسماء أحجارا وضعتها في كوة البيت ووضعت عليها ثوبا وأخذت بيد جدها الذي كف بصره إلى الكوة وهي تقول له ضع يدك. المال موجود، فقال العجوز، لا بأس إذا كان قد ترك لكم المال، ولا حزن الآن على ذهاب أبي بكر، حسنا فعل أبو بكر، فهذا يكفيك. تقول أسماء. لقد أردت أن أسكن الشيخ بذلك، فقد حمل والدي كل شيء معه ¬

(¬1) تاريخ الطبري 2/ 245. (¬2) نفس المصدر 2/ 247. (¬3) لم يكن أبو قحافة قد أسلم بعد، بل أسلم يوم فتح مكة، وهناك ميزة خاصة في أسرة أبي بكر من بين أسر بقية الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فقد شرفت أربعة أجيال منها بصحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الخروج من الغار

(من أجل النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). وبقيت الشمس ومعها القمر كلاهما في الغار لثلاثة أيام (¬2). وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام، وكان عبد الله بن أبي بكر يخبرهما بما يقوله أهل مكة (¬3)، أما عامر بن فهيرة وهو مولى عبد الله أخي عائشة رضي الله عنها والمسئول عن قطيع أبي بكر كان يرعى الغنم، ويحمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يحتاج إليه من حليب، ويعفى آثار القادمين بقطيع الغنم (¬4). وقد أثاب الله أبا بكر على صدقه وإخلاص أن قال تعالى: {إن الله معنا} فكان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في معية الله. الخروج من الغار: وفي الليلة الرابعة خرج من بيت أبي بكر رضي الله عنه بعيران أعدا إعدادا جيدا لهذا السفر، فركب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه أبو بكر على أحدهما، بينما ركب على الآخر عامر بن فهيرة وعبد الله بن الأريقط (الذي استؤجر ليكون دليل السفر)، واتجه الركب إلى المدينة في غرة ربيع الأول، يوم الاثنين (16 سبتمبر 622 م) وكانت هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتداء بسنة الأنبياء السابقين فقد ورد ذكر هجرة إبراهيم خليل الرحمن، وموسى وداود عليهم السلام في التوراة، وقد تحقق نصر الله تعالى للنبي الكريم بعد الهجرة، مثلما كان يحدث للأنبياء السابقين. وترك الدليل الطريق الوسطى واتخذ المضي بمحاذاة ساحل البحر، وحين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر بالمنطقة التي تتوسط قلعة رابغ الحالية وساحل البحر، خرج سراقة بن جعثم يتعقبه، يقول عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة: "بينما سراقة يجري بفرسه لابسا البيضة آخذا بالرمح مدججا بالسلاح إذ أبصر ¬

(¬1) سيرة ابن هشام المجلد الأول [ص:73]. (¬2) قال يوناثان النبي لداود: وفي اليوم الثالث تنزل سريعا تأتي إلى الموضع الذي اختبأت فيه. صموئيل الأول الإصحاح 20/ 19 [ص:462] الطبعة السابقة. (¬3) سيرة ابن هشام المجلد الأول [ص:173] والطبري 2/ 247. (¬4) البخاري، باب المغازي عن عائشة.

استراحة النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيمة أم معبد

بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فظن أنه قد نجح، فإذا به قد عثرت فرسه فخر عنها، فنهض وأقام فرسه، ومضى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يمضي وهو يتلو القرآن الكريم يطلب من الله الخير، فإذا بأصحابه يخبرونه بإدراك عدوهم إياهم، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم فقنا شره" ولم تكد كلماته المباركة تخرج من فمه حتى ساخت يدا فرس سراقة في الأرض، فخر عنها سراقة، وعلم أن الرعاية الإلهية لنبيه غالبة لا محالة، فطلب الأمان فأمنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقدم سراقة وقال إني أمنع منك كل طالب يطلبك، وقام عامر بن فهيرة بناء على طلبه وعلى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكتب له خطاب الأمان (¬1). وبعد الخروج من الغار مر هذا الركب المبارك في أول يوم بخيمة أم معبد وهي امرأة من خزاعة، اشتهرت بكرمها وحفاوتها بالمسافرين تطعمهم وتسقيهم، وكان المسافرون يستريحون عندها. وصل الركب عندها فسألها النبي - صلى الله عليه وسلم - هل عندها شيء من طعام، فقالت، لا، لو كان عندي شيء لأحضرته لكم. استراحة النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيمة أم معبد: فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ركن الخيمة شاة، فسألها، ما هذه الشاة؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أتأذنن لي أن أحلبها؟ قالت أم معبد"إن رأيت بها حلبا فاحلبها". فمسح النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده على ضرعها وسمى الله ودعا ودعا بإناء فحلب فيه حتى علته الرغوة وسقط على الأرض، فشرب الرسول وأصحابه، ثم حلب الشاة فامتلأ الإناء فشرب أصحابه، وحلبها للمرة الثالثة وترك الإناء لأم معبد وارتحلوا. وحضر زوج أم معبد بعد قليل، فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين لك هذا؟ فقالت أم معبد، مر بنا رجل مبارك وكان هذا اللبن من بركة قدومه علينا، فقال: إنه ¬

(¬1) ورد في صحيح البخاري أن سراقة المشهور بسراقه بن جعثم هو سراقة بن مالك بن جعثم الكناني، كانت قبيلته مسيطرة على رابغ وجاء في الاستيعاب أنه لما رجع سراقة قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ " وأسلم سراقة بعد غزوة أحد وفي عهد عمر رضي الله عنه فتحت المدائن وجيئ بتاج كسرى وسواريه وحليه أمام عمر رضي الله عنه، فاستدعى أمير المؤمنين سراقة وألبسه سوار كسرى وقال: "الله أكبر، الذي ألبس سوار كسرى لأعرابي".

صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

لصاحب قريش الذي تطلبه صفيه لي يا أم معبد. فقالت: صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق، لم تعبه ثجلة ولم تزر به صلعة وسيم قسيم في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل وفي عنقه سطع، أحور، أكحل أزج أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد وأحسنه وأحلاه من قريب حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر، كان منطقه خرزات نظم ينحدرن ربعة لا تقحمه عين من قصر ولا تشنؤه من طول غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا له رفقاء يحفون به إذا قال استمعوا لقوله أو إذا أمر تبادروا إلى أمره محفود ومحشود لا عابس ولا مفند. فقال أبو معبد بعد أن سمع وصفها، والله هذا صاحب قريش (¬1). ¬

(¬1) زاد المعاد ج 1 [ص:307]، كانت القبائل البدوية غير المسلمة تسمي النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب قريش.

ثلاث عشرة سنة للنبوة في مكة

ثلاث عشرة سنة للنبوة في مكة مكانة السابقين الأولين: كما مر وعرضنا باختصار، يجب أن نتذكر أنه رغم أن عدد المسلمين لم يتجاوز في تلك الفترة عدة مئات إلا أن النجاح الكبير تمثل في وجود مثل هؤلاء المؤمنين: 1 - العظماء الكبار علي رضي الله عنه وأبو بكر وعثمان وعمر رضي الله عنهم، الذين عرفوا بفضيلة العلم، وقوة العمل، ويقظة الضمير وسمو الكفاءة، وهي صفات جعلتهم نبراسا للعالم كله. 2 - ومصعب بن عمير، وجعفر الطيار، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم بما لهم من أهلية وكفاءة فأسلم بدعوتهم أهل يثرب والحبشة ونجران. 3 - وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما اللذان عرفا برواياتهم العلمية التي حوت مئات اللطائف العلمية. 4 - والزبير وطلحة وعمار بن ياسر رضي الله عنهم، ممن لم يعرف التاريخ مثلهم في الفداء وحب الحق. 5 - وبلال وسمية وياسر وكعب وخباب الذين أنهكوا الظالمين الطغاة بثباتهم وصبر واستقامتهم على الحق. 6 - والسكران وشموس وأم حبيبة وخنيس بما عرف عنهم من همة عالية جعلتهم يؤثرون الإقامة في الحبشة تاركين أهلهم وآقاربهم ووطنهم، في سبيل الحفاظ على دينهم. 7 - ووليد وسويد بن الصامت الملقب بالكامل وأنيس شقيق أبي ذر ممن بلغوا في الفصاحة والبلاغة مبلغا عظيما حتى إنهم كانوا يؤثرون في العديد من القبائل بخطبة أو قصيدة واحدة، ولم يعرف أحد في الدنيا فاقهم في معرفتهم للحقائق وفهمهم للمعاني واطلاعهم على سرائر النفس البشرية. وفي تلك الأيام كان الإسلام قد انتشر خارج مكة أيضا، ونذكر على سبيل المثال: 1 - طفيل بن عمرو الدوسي وكان ملكا على منطقة باليمن، أسلم في مكة ونتيجة

إسلام بريدة ومعه 70 شخصا

لإسلام طفيل انتشر الإسلام في ملكه أيضا. 2 - أبو ذر الغفاري وأخوه أنيس وأمهما ونصف قبيلة غفار. 3 - عشرون شخصا من نصارى نجران. 4 - ضماد الأزدي كاهن مشهور باليمن. 5 - قبيلة بني الأشهل. 6 - تميم ونعيم وبعض سكان الشام. 7 - كثير من أهل الحبشة وغيرهم. إسلام بريدة ومعه 70 شخصا: بينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - متوجها إلى يثرب، لقيه في الطريق بريدة الأسلمي، وكان رئيس قومه، وكان قد خرج يبحث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - طمعا في الحصول على الجائزة التي رصدتها قريش لمن يقبض على النبي، وكانت الجائزة مائة من الإبل. إلا أنه حين مثل أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وواتته الفرصة ليستمع إلى كلام النبي، أسلم من فوره مع سبعين رجلا كانوا معه، ثم خلع عمامته وجعلها راية بيضاء ترفرف من فوق رمحه، تبشر بقدوم الأمن، حامي السلام ناشر العدل والإنصاف في الدنيا، وفي الطريق لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - الزبير بن العوام وكان قادما من الشام وكان معه تجار من المسلمين، فكسا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ثيابا بيضا (¬1). وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قباء: وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قبا يوم الاثنين (¬2) الثامن (¬3) من ربيع الأول عام 13 من البعثة الموافق 23 سبتمبر 622م والموافق 10 تشري سنة 4383 يهودية. وكان أهل يثرب حين سمعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من مكة، راحوا منذ الصباح الباكر يتوقعون قدومه المبارك، وظلوا جلوسا إلى ما قبل الظهر، ولم يكد هؤلاء يعودون إلى بيوتهم حتى وصل النبي - صلى الله عليه وسلم -، واجتمع الناس على صياح رجل، كما سمعت الأناشيد ترحب بمقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) البخاري عن عروة هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (4/ 257). (¬2) صحيح البخاري. (¬3) سرور المحزون لشاه ولي الله (متوفي 1174 هـ).

الخطبة

ولم تكن عيون معظم المسلمين قد اكتحلت برؤية صاحب الرسالة، وما كانوا يعرفونه من أبي بكر الصديق حتى قام أبو بكر فأظل النبي بردائه فعرفوه (¬1). وبقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك البقعة إلى يوم الخميس وكان أول عمل أنجزه أثناء إقامته في هذه الأيام الثلاثة (¬2) هو بناء مسجد لعبادة الله وحده لا شريك له. وقد وصل إلى ذلك المكان علي المرتضى رضي الله عنه وقدم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن وصل من مكة، التي بقي فيها عدة أيام بناء على طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - لكي يؤدي الأمانات الموجودة في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهلها. وفي يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول السنة الأولى للهجرة ركب النبي - صلى الله عليه وسلم - من قباء ولم يكد يصل إلى بيوت بني سالم حتى أدركته الجمعة فصلاه مع مائة شخص فكانت أول جمعة في الإسلام. الخطبة: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول جمعة جمعها بالمدينة في بني سالم بن عوف. فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأؤمن به، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل وقلة من العلم وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنو من الساعه وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا، أوصيكم بتقوى الله فإن خيرا ما أوصي به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرا وإن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما يبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله، يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم. ¬

(¬1) سيرة ابن هشام 2/ 137. (¬2) تفسير العلامة أبي السعود ج 8 [ص:152] وورد في صحيح البخاري بضع عشر ليلة.

دخول المدينة

وما كان سوى ذلك يود لو أن بينه وبينها أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد، والذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك فإنه يقول عز وجل {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد}. فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا، ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما، وإن تقوى الله يبيض الوجوه ويرضي الرب ويرفع الدرجة. خذوا حظكم ولا تفرطوا في جب الله، قد علمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين فأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداء الله وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة ولا قوة إلا بالله فأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد اليوم، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه ويملك من الناس ولا يملكون منه. الله أكبر ولا قوة إلا بالله العظيم" (¬1). دخول المدينة: بعد صلاة الجمعة، دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - يثرب من ناحيتها الجنوبية، ومنذ ذلك اليوم صار اسمها "مدينة النبي" ويطلق عليها اختصارا "المدينة". وكان لدخوله المدينة شأن عظيم. فكانت الشوارع والطرقات تصدح بكلمات التحميد والتقديس، وراح الرجال والنساء والشيوخ والشباب يرنون بعيونهم إلى بهاء "نور الله" وقد فهم أهل الكتاب بعدما رأوا عظمة وجلال قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك هو تفسير ما ورد في كتاب النبي حبقوق (الأصحاح 3: 4) "الله جاء من تيمان والقدوس، من جبل فاران (¬2) جلاله غطى السماوات والأرض ¬

(¬1) تاريخ الطبري 2/ 255. (¬2) أطلق على مكة في جميع أسفار الإنجيل اسم " فاران" لأن هذا المكان كان تحت سيطرة فاران بن عوف ابن حمير، وجاء في سفر التكوين (التوراة) [الإصحاح 21، (*) أن إسماعيل سكن في برية فاران، ويثبت من آيات القرآن الكريم أن إبراهيم وإسماعيل قد بنيا في هذه البرية مسجدا يعرف الآن باسم "الكعبة" فالتوراة والقرآن يصدق بعضه بعضا ويثبتا أن فاران هو اسم مكة. وقد ورد ذكر فاران في التوراة، سفر العدد [الإصحاح 1: 12، (**) والتثنيه (الأصحاح 33: 3) (...) وكل هذه المصادر تثبت صراحة أن فاران اسم مكة. (*) وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس وسكن في برية فاران. =

امتلأت من تسبيحه" ([ص:1231]) وكانت بنات الأنصار البريئات ينشدن بصوت عذب وبنغمة حبيبة هذه الأشعار (¬1). طلع البدر علينا ... من ثنيات (¬2) الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع وبنات الأنصار اللاتي أنشدن هذا النشيد، هن بنات من ذهبوا إلى مكة المكرمة في أعوام 11، 12، 13 من البعثة وبايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو هن بنات من أسلموا في المدينة المنورة بدعوة مصعب بن عمير أو ابن مكتوم رضي الله عنه. والأنصار (¬3) الكرام لم يكونوا أصحاب ثروة أو أرض أو عقار ولكنهم كانوا يمتلكون غنى القلب، والتضحية في سبيل الإسلام، وقد وصل مبلغ تضحيتهم في سبيل أخوتهم المسلمين أن المهاجر كان حين يلجأ إلى المدينة ظمآنا ناجيا بنفسه أمام السيف المسلول والسهم المشدود في قوسه (¬4). كان كل أنصاري يرغب في استضافة هذا المهاجر حتى أنهم ¬

= (**) وفي السنة الثانية ... ارتفعت السحابة عن مسكن الشهادة فارتحل بنو إسرائيل في رحلاتهم من برية سيناء فحلت السحابة في برية فاران (14). (...) قال جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران وأتى من ربوات القدس. (¬1) ورد في سفر اشعيا (42): لتترنم سكان سالع واسم المدينة في كتب الأنبياء الأولين سلع، والطبري يثبت أن المكان الذي حفر فيه المسلمون الخندق في غزوة الأحزاب فيه جبل يعرف عند أهل المدينة باسم "سلع". (¬2) الثنيات: جمع ثنية وهي تل في طريق العقبة، وقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر الهجرة بثنية البول وثنية الجابر وثنية مروان. وثنية الوداع تل قرب المدينة، وكان أهل المدينة يأتون إليه لتوديع الأحبة فسميت بهذا الاسم. وقد ورد ذكر هذه الثنيات في سفر اشعيا (الإصحاح 42) لتترنم سكان سلع من رؤوس الجبال ليهتفوا". (¬3) معنى الأنصار، المعاون والمساعد وقد كان هذا لقب أهل المدينة في الإسلام، والمهاجر من هجر بيته وكان هذا لقب أهل مكة الذين ذهبوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. (¬4) ورد ذكر الهجرة في سفر أشعيا (الإصحاح 21) وننقل هنا بعض آياته: 13 - وحيى من جهة بلاد العرب. في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الدوانيين. 14 - هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه. =

مقارنة بين أحوال مكة والمدينة

كانوا يقترعون على ذلك، فالآية الخامسة عشرة من الآيات السابق ذكرها تذكر المهاجرين الذين هربوا بأرواحهم وإيمانهم أمام بطش قريش ووصلوا إلى المدينة. فمن وقعت عليه القرعة كان المهاجر من حظه فيأخذه إلى بيته ويتقاسم معه كل ما يملك في نفس اليوم، ويظل على استعداد لخدمته ليل نهار، ويقدم شكره لله تعالى على حسن حظه حين جعل أخا له في الدين قسيما له في كل ما يملك. مقارنة بين أحوال مكة والمدينة: كانت السيادة في مكة لقريش دون غيرها، وكانت في معظمها، إن لم تكن كلها على الوثنية، أما في المدينة فقد وجدت قبائل مختلفة وأديان متنوعة، وجدت فيها الوثنية، واليهودية وقلة من النصارى، ومن قبائل اليهود القوية بنو النضير، وبنو قينقاع، وبنو قريظة، وكانت تسكن في قلاع منفصلة خاصة بها، وكانت تمتلك مالا وافرا نتيجة لعملها بالتجارة وكذا التعامل بالربا. ومنذ أن بشر (¬1) نبي الله موسى عليه السلام اليهود في وعظه بأن الله تعالى يخلق من ¬

= 15 - فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف السلول ومن أمام القوس المشدود ومن أمام شدة الحرب. 16 - فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار له. 17 - وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم. [ص:1015] / 1516 الطبعة العربية. والآية 13 و 14 تأمران الدوانيين باستقبالهم وتقديم الخبز والماء لهم ومن المعروف أن دوان اسم حفيد إبراهيم وولد لينسان وشقيق سبا، وقد سكنت ذريته في اليمن ثم تفرقت هذه القبائل بعد سيل عرم، وقبيلتا الأوس والخزرج (وهما الأنصار) من هؤلاء وقد صرح ابن خلدون بذلك، وفي هذه الآية بيان لما سيحدث من أن الهجرة تقع بسبب سيوف قريش وقسيهم وأيضا أن الأنصار من نسل دوان وتيما اسم ولد إسماعيل الثامن وقد سكن أولاده من بعده في عقب المدينه، وبعد أمر أهل المدينة وحواليها بالنصر والتأييد تبين الآيتان 16، 17 مصير الظالمين أي مصير قريش، وأن قريش أهل قيدار، وسوف تقل شوكتهم. وهكذا وبعد الهجرة بسنة كانت غزوة بدر، التي قتل فيها رؤساء قريش الكبار فتدهورت مكانتهم وقلت شوكتهم كثيرا ونقصت عزتهم، فالآيات السابقة في جملتها تنبئ عن ذلك بعد ذكر الأسماء بوضوح. (¬1) في سفر التثنية (الإصحاح 18: 15) جاء ما يلي: =

بين إخوة موسى نبيا مثل موسى، واليهود تأمل في أن يكون هذا منهم وعلى هذا الأمل أقاموا في المدينة فلعل نبي بني إسرائيل القادم يزيل عنهم تدهورهم القومي ويحيي لهم مجدهم الضائع وبأسهم وسلطتهم التي زالت، ومنذ إخراج اليهود من الشام، ضربت عليهم الذلة والعبودية، ومنذ ذلك الوقت واليهود ينتظرون بأمل أكبر ظهور النبي الموعود. ¬

= "يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي" ووردت عبارات أوضح في نفس الاصحاح (18، 19) "أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه". ويستدل المسلمون - بالنظر إلى هذه الآيات - على ما يلي: أ - أن بني إسماعيل أخوة لبني إسرائيل (انظر سفر التكوين الاصحاح 16 - 12 و25 - 18) ب - لم يكن في بني إسرائيل نبي مثل موسى (سفر التثنية باب 34: 10) ومن هنا يتضح أن هذه النبوءة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد ورد في وصفه - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى يجعل كلامه في فمه، وهذه صفة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يوجد غير القرآن الكريم كتابا حفظت فيه آيات "كلام الله" أو وصل وحيه لفظا ومعنى، فاليهود والنصارى يقرون ولا ينكرون أنه لا يحفظ في التوراة من كلام الله سوى الوصايا العشر، وفي صحف الأنبياء الآخرين من غير موسى وبخاصة في الإنجيل، لم تحفظ كلمات الله التي نزلت بالوحي السماوي. وبعد هذا الرأي القاطع يبقى موسى عليه السلام من بين الأنبياء كلهم الذي يتماثل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بالكلام، وبينهما مماثلة قوية في عدة أمور منها أنهما صاحبا هجرة، وصاحبا شريعة وصاحبا جهاد، وكلاهما أوحى إليه في بداية الحادية والأربعين، وهذه الأمور لم توجد مجتمعة بعد موسى في نبي من أنبياء بني إسرائيل، ولكنها توجد في نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ولكن ينبغي أن نفكر جيدا ونتدبر في هذه المماثلة التي أوضحها سفر التثنية، وصدقها القرآن الكريم بقوله: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} وانظروا في جميع أسفار العهد القديم والعهد الجديد، فسنجد أن أي كتاب لم يشر إلى هذه النبوءة أي الصفة ولم يستدل بها سوى القرآن الكريم، ولا شك أن هذه الصفة خاصة خصوصية كاملة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويجب أن نتذكر أن كلمة "من وسطك" التي وردت في التثنية (الاصحاح 18: 15) هي كلمة ملحقة على النص وليست بأصل فيه وهناك ثلاثة دلائل على ذلك: الأول: أن هذه الكلمة لا توجد في التوراة اليونانية. والثاني: أن نفس الاصحاح (18: 19) أعاد هذا التنبؤ بكامله دون ذكر هذه الكلمة. والثالث: أن لوقا ذكر هذه الآية في أعمال الرسل الاصحاح الثالث (آية 22، 23) [[ص:194] ط العربية، ولم يذكر فيها كلمة "من وسطك"] [وقد وردت هكذا ... فإن موسى قال للآباء إن نبيا مثل سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلمكم به].

نصارى المدينة والنبي الموعود

والآن فرحت اليهود بصفة خاصة بعد أن سمعوا بمقدم نبي إسماعيلي إلى المدينة، ولكن حين رأوا أنه يصدق المسيح عليه السلام، ويصدق تعاليمه، ويجعل الإيمان بالمسيح عليه السلام جزءا لا يتجزأ للإيمان بالإسلام ويخطئ اليهود بتمجيده إياه (¬1). عندئذ صار اليهود كلهم أعداء لنبينا - صلى الله عليه وسلم -. نصارى المدينة والنبي الموعود: منذ أن بشر عيسى المسيح عبد الله المختار في آخر موعظة له بمجيء نبي آخر يبقى مع الدنيا دائما، ويعلم الدنيا كل شيء، وأوصى النصارى باتباعه، منذ ذلك الوقت والنصارى في انتظار هذا النبي، الذي سيقتص لهم من اليهود، ويمنح النصارى الجلال والعظمة، ويظهر صدق المسيح، ولكن حين رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يرد على النصارى القضايا التي اصطنعوها (¬2). ¬

(¬1) جاء في إنجيل يوحنا (اصحاح 16) ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطيه وعلى بر وعلى دينونة (8) "ذاك يمجدني هو يرشدكم إلى الحق" ... . وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ... ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم [12/ 14، [ص:178] إنجيل يوحنا اصحاح 16. (¬2) كتب د. دريبر في كتابه المسمى "الدين والعلم" (وقد ترجمه إلى الأردية مولوي ظفر علي خان الشاعر والصحفي الشهير) أن الدين النصراني في بدايته كان يقوم بتلقين ثلاثة مبادئ لسنوات عديدة أولها: حق الله أي يجب على الإنسان أن يعظم الله ويمجده، وثانيها: حق الذات أي يجب على الإنسان أن يكون خيرا بذاته، وثالثها: حق العباد أي يجب عليه أن يحسن إلى أبناء جنسه. وبعدها كتب الدكتور سابق الذكر أن الوقوف جيدا على الإصلاحات والتعديلات التي طرأت على الدين النصراني من جراء التأثيرات الخارجية ولا تزال فيه حتى اليوم، يستلزم مطالعة ما كتبه تريلتين سنة 200 م، في روما حين كان النصارى يتعرضون لشتى أنواع الاضطهاد في عهد سيويرس. ولم يرد ذكر التثليث فيما كتبه تريلتين، وهناك رد على مسألة الكفارة، لأنه كتب يقول: إن الله قرر الثواب والعقاب طبقا لأعمال الإنسان خيرها وشرها، فهو يهب اللذة السرمدية للصالحين، ويدخل السيئين في النار الأبدية. ثم يكتب الدكتور المذكور أن الوثنية دخلت النصرانية في عهد الملك قسطنطين، وتأسس المجلس الأول للأساقفة تحت رئاسته عام 325 م، وبعدها جرت عادة انعقاد المجالس، وبدأ كل مجلس يدخل إصلاحات وتعديلات جديدة في الدين والعقيدة. وعلى هذا فإن ما ذكرناه صفة للقضايا (التي اصطنعوها) هو تعبير دقيق ويجب أن نتذكر أن الإصلاح الذي قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - في قضايا النصارى، قد قبلته فرق النصارى المختلفة تدريجيا

مثل البنوة والتثليث والكفارة والرهبانية والسلطة الإلهية (المطلقة) للبابا، صاروا أيضا أعداء للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وللاطلاع على أحوال المدينة ينبغي أن نلقي نظرة موجزة على أحوال عبد الله بن أبي ابن سلول، كان هذا الشخص - بالإضافة إلى اليهود - رجلا ممتازا ذا تأثير في أهل المدينة، كان يخشى تماما قبيلتي الأوس والخزرج وكان يتوقع أن يصبح أكبر قوة وسلطة في المدينة بمساعدة هاتين القبيلتن القويتين، وحين رأى أن الأوس والخزرج دخلتا في الإسلام، قام - في الظاهر - (بعد غزوة بدر) بالانضمام إلى المسلمين، ولكن حين رأى أن اليهود خالفوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، أراد أن يبقي على أثره السابق على اليهود، وأن تبقى له السيطرة على القبائل التي أسلمت، فاتبع أسلوب التودد إلى المسلمين والجلوس إليهم ومصاحبتهم، ثم يدعى أمام الأمم الأخرى أنه معهم وأنه حليفهم. ولما كان يرى أن الإسلام - في الحقيقة - قد خيب آماله فقد كان لا يتورع عن إيذاء المسلمين وإلحاق الضرر بهم - وقد سمى المسلمون هذه الطائفة "بالمنافقين". وحالة المدينة تلك توضح مدى الصعوبات والعراقيل التي واجهت الدعوة الإسلامية وواجهت صاحب الدعوة والإنسان المنصف يستطيع أن يحكم ويقرر كيف كان تخطى هذه العراقيل والمصاعب أكبر دليل على صدق الإسلام والنجاح الذي تحقق للنبي - صلى الله عليه وسلم - في نشر الإسلام في المدينة المنورة مقارنة بما تحقق في مكة المكرمة مما قد ورد ذكره قبلا في القرآن الكريم. يقول تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى}. ¬

= وجزئيا بطريقة أو بأخرى، وجعلته ضمن ديانتها، ومع ذلك فهم لا يشكرون إلى الآن محمدا رسول الله الذي أحسن إليهم بصدق وإخلاص ولننظر مثلا إلى فرقة يونيترين التي لا تعترف بأن المسيح ابن الله، والبروتستانت فرقة ظهرت بعد الإسلام وهي ترفض الرهبانية والسلطة المطلقة (الإلهية) للبابا رفضا تاما.

الباب الأول

الباب الأول معاهدة بين الأمم لاستتباب الأمن، مؤامرات قريش وهجماتها على المسلمين، نقض اليهود للعهد، نجاح المسلمين، وحرية الدعوة إلى الإسلام، انتشار الإسلام، استتباب الأمن •---------------------------------• سبق أن ذكرنا أن المدينة كانت عامرة بأناس من مختلف الأجناس، تعددت دياناتهم وتباينت، وكان هناك عدد من قبائل اليهود يتمتع بقوة كبيرة، وكانت هذه القبائل تسكن في حصون منفصلة خاصة بها. وحين وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة رأى في السنة الأولى من الهجرة أن من المناسب عقد معاهدة بين سائر الأقوام على أصول عالمية حتى يؤسس وحدة قومية داخل الأمم متعددة النسل متعددة الأديان، فيتحقق التعاون والتكاتف بين الجميع في سبيل الحضارة والمدنية. وفيما يلي أهم فقرات هذه المعاهدة (¬1): "هذا كتاب من محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم". إنهم أمة واحدة. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. ¬

(¬1) سيرة ابن هشام المجلد 1 [ص:178]، ط بولاق، مصر.

دخول قبائل ضواحي المدينة في المعاهدة

وأن بطانة يهود كأنفسهم. وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه. وأن النصر للمظلوم. وإن يثرب حرام جرفها لأهل هذه الصحيفة وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. وأن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. دخول قبائل ضواحي المدينة في المعاهدة: وقع على هذه المعاهدة جميع أقوام المدينة، وبعدها أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضم إلى المعاهدة القبائل التي تسكن ضواحي المدينة فيتحقق بذلك فائدتان: 1 - إخماد شعلة الحروب الأهلية التي كانت تدور دائما بين القبائل، وتلطخ أرض الله بدم عباد الله. 2 - لن يتمكن قريش مكة من تحريض المعاهدين ضد المسلمين. - وقد سافر النبي - صلى الله عليه وسلم - في العام الأول للهجرة لتحقيق هذا الهدف السامي إلى ودان (وتقع بين مكة والمدينة)، فوقع على هذه المعاهدة قبيلة بني ضمرة بن بكر بن عبد مناف، كما وقع أيضا على هذه المعاهدة عمرو بن مخشي الضمري (¬1). - كما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - لتحقيق هذا الهدف في شهر ربيع الأول عام 2 هـ إلى ناحية رضوى فألحق أهل جبل بواط بالمعاهدة. - كما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جمادى الآخرة من نفس السنة فبلغ ذا العشيرة وهي بناحية ينبع بين ينبع والمدينة فألحق بني مدلج في المعاهدة وعاد إلى المدينة. ولو سنحت فرصة كافية ووجد الوقت الكافي لتحقيق هذا الهدف الميمون لرأي العالم أن رسول الرحمة لم يأت إلى الدنيا لاستخدام السيف، بل لنشر الأمن والسلام بين ¬

(¬1) زاد المعاد، مجلد 1/ 334.

قريش والهجوم على المسلمين في المدينة

العالمين (¬1). قريش والهجوم على المسلمين في المدينة: كان عداء قريش كله للمؤمنين وللنبي - صلى الله عليه وسلم - عداء شديدا حتى أنها لم يقر لها قرار رغم هجرة المسلمين لوطنهم واستيطانهم المدينة على بعد ثلاثمائة ميلا، وقد سبق لقريش أن حاولت استرجاع المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة، إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك لعدل حاكم الحبشة، ولوجود البحر حائلا بينهم وبين تحقيق هدفهم. وهكذا لم يتمكنوا من اتخاذ أي إجراء أكثر مما قاموا به، وحين بدأ المسلمون الهجرة إلى المدينة، عقدت قريش جميعها النية على مهاجمة المدينة، فكتب قريش مكة بذلك إلى عبد الله بن أبي ورفقائه من الأوس والخزرج ممن كانوا يعبدون الأوثان. المؤامرة الأولى ضد المسلمين: كتبوا إليه ما يلي: "إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل شبابكم ونستبيح نساءكم". فلما وصل هذا الخطاب إلى عبد الله بن أبي ورفاقه، عزموا على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخبر، فخرج إليهم في "مجمع" وناقشهم في الأمر. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، لأنكم إن قاتلتم المسلمين، فإنما تقاتلون أبناء كم وأخواتكم، وإذا أجبرتم على قتال قريش فإنما تقاتلون من هم غير أهلكم" فلما سمعوا خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - تأثروا بها وتفرقوا (¬2). المؤامرة الثانية: وبعد ذلك بدأت قريش مكة في التآمر سرا مع يهود يثرب، ولما تمكنوا من ضمهم إليهم خفية، أرسلوا إلى المسلمين - وهم يعتمدون على نجاحهم هذا - يقولون لهم ¬

(¬1) قال المسيح: لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا (إنجيل متى، الأصحاح 10/ 34). (¬2) سنن أبي داود 3/ 3004 عن عبد الرحمن بن كعب باب في خبر النفير.

هجوم قريش على المسلمين

لا يغرنكم فراركم ناجين من مكة فإننا يمكن أن نقضي عليكم في المدينة، وبعد هذا البلاع، بدأت قريش مناوشاتها. هجوم قريش على المسلمين: في ربيع الأول من العام الثاني للهجرة وصل أحد رؤساء قريش ويدعى كرز بن جابر الفهري - إلى يثرب، وسلب مواشي أهل المدينة التي كانت ترعى في الوديان، وخرج سالما وكأنه يود أن يبين لأهل المدينة قوته وكيف تمكن من الوصول من على بعد ثلاثمائة ميل ليسلب مواشيها ويمضي سالما دون أن يتعرض له أحد. وفي رمضان من نفس العام أشاع أبو جهل في مكة أن المسلمين يريدون نهب قافلتنا المحملة بالمال والمتاع القادمة من الشام وكان هدف هذه الإشاعة جمع كل من له مال في هذه القافلة مع ذويهم وأقاربهم وكذا من يحملون كراهية للمسلمين، على حرب المسلمين وقتالهم، وقد تحقق لهم ذلك. عدد جيش قريش والتأكد من إرادته: خرج أبو جهل في جيش يتكون من ألف مقاتل متعطش للدماء، منهم سبعمائة على بعيرهم وثلاثمائة على فرسهم، وكانت القافلة التي اجتمع هذا الجيش لحمايتها قد وصلت إلى مكة سالمة إلا أن أبا جهل واصل تقدمه إلى المدينة، وهنا لم يعد لدى المسلمين أي شك في أن قريشا تريد الهجوم على المسلمين. فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته في هذا الأمر، فأجاب المهاجرون إجابة مطمئنة، ثم استشارهم ثانية فأجابوا إجابة مطمئنة، ثم استشارهم مرة ثالثة ففهمت الأنصار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعنيهم وينتظر ردهم، فقال سعد بن معاذ لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها. وإني أقول عن الأنصار، فاظعن حيث شئت وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت واعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من أمر فأمرنا نتبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك. وقال المقداد:

عدم الإذن للمسلمين بالقتال

يا رسول الله لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك. ولم يكن المسلمون بداية على استعداد للقتال، وقد وصل عدد الأنصار والمهاجرين معا القادرين على الذهاب إلى ميدان المعركة ثلاثمائة وثلاث عشرة رجل. عدم الإذن للمسلمين بالقتال: لم يكن الإذن بالقتال قد أعطي بعد للمسلمين، لأنه لا صلة للإسلام بالحرب، فمادة كلمة الإسلام "سلم" تعني الصلح والسلام والدين الذي جاء للدنيا برسالة السلام، والدين الذي أمر أتباعه المؤمنين بالتواضع واللين، كيف له أن يأمر بالحرب؟ ضرورة الحكم بالجهاد: وكان هذا هو السبب الذي جعل المسلمين الأولين يتركون بيوتهم وأملاكهم في مكة ويهاجروا في صمت إلى الحبشة والمدينة ولكن الوضع قد تغير الآن ولم يعد هناك مفر من الحرب، ولو جلس المسلمون واضعين يدا على يد فالنتيجة الحتمية هي أنهم سيذبحون كالخراف، والخسارة الكبرى هنا أنه لن يبقى في الدنيا أحد من الموحدين، فبعد أن ظل المسيح عليه السلام يعظ الناس لثلاث سنوات إلا ثلاثة أشهر، أجبرته الضرورة على أن يأمر حواريه بأن يشتروا السلاح عوضا عن الثياب والمال (لوقا 22/ 36) ولهذه الضرورة نفسها رحم الله المسلمين فأمرهم بالدفاع عن أنفسهم ضد أعدائهم ممن يهجمون عليهم، وذلك بعد أن صبروا وتحملوا الظلم لأربع عشرة سنة. الحكم الأول بالإذن بالجهاد: هذا هو الحكم الأول الذي به سمح للمسلمين بالجهاد، يقول تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} (الحج 39 - 40). ويتضمن هذا الحكم أو الإذن يالتفصيل الأسباب التي من أجلها سمح (أذن) للمسلمين بالقتال، كما يوضح هذا الحكم أيضا نوعية الحرب هجومية كانت أم دفاعية. السبب الأول: كون المدافعين مظلومين، والمهاجمين ظالمين، وهذا هو السبب الذي

السبب الثاني

يجيزه قانون الهند الجنائي المعمول به حاليا والمسمى بقانون حماية الاستقلال. السبب الثاني: إخراجهم من الوطن وتجريدهم من أملاكهم وذلك لمجرد الاختلاف في العقيدة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الملك المعظم ادوارد السابع كان قد وجه لرعاياه رسالة بمناسبة الاحتفال بمرور خمسين عاما على حكم الإنجليز في الهند، كان يفخر فيها بمنتهى الاعتزاز (وفخره كان في محله) بأنه لم يحدث وأن أوذي شخص ما لمجرد الاختلاف في العقيدة. إلا أن المسلمين المظلومين جميعهم بلا استثناء أوذوا وشردوا لمجرد تمسكهم بالتوحيد. والسبب الثالث: هو سبب عام يثبت أن المسلمين لم يؤذن لهم بالجهاد تحقيقا لفوائد ذاتية أو قومية أو دينية فحسب بل لأن المسلمين كانوا قد عقدوا معاهدات مع اليهود والنصارى وغيرهم من الأمم الأخرى، على أن يتمتع أتباع كل دين بالحرية الدينية الكاملة والآن إذا لم يدافع المسلمون بأرواحهم في سبيل الحفاظ على هذه المعاهدة فإن حرية جميع الأديان ستصبح في خطر، وتهدم البيع والصوامع فإذا لم توجد أمة تحافظ على المعاهدة فمن ذا الذي يعمل طبقا للمعاهدة؟ كل هذه الأسباب أوجبت على المسلمين، مع قلة عددهم وعتادهم أن يحاولوا صد المهاجمين بعيدا عن المدينة (¬1). هجوم قريش الثاني على المسلمين أو غزوة بدر: في رمضان عام 2 هـ خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه المسلمين من المدينة، ويمكن التعرف على مدى عدة وعتاد هذا الجيش، إذا عرفنا أن كل ما لديه كان فرسين وستين بعيرا. ومن المصادفة العجيبة أن عدد أهل بدر كان يساوي جيش طالوت حينما خرج ¬

(¬1) ومثل هذا النوع من القتال أقلق المسلمين لعدة سنوات، فقد رفع السيف دائما في وجههم واستمرت الجهود الرامية إلى القضاء على الإسلام بالسيف، ولكن الإسلام استمر في الانتشار، وهنا سنذكر باختصار وإيجاز أهم وأشهر الغزوات.

لمواجهة جالوت (¬1). ولما وصلوا بدرا وجدوا أن جيش العدو يفوقهم ثلاثة أضعاف في عدد المقاتلين وألف ضعف في العدة والعتاد. وقبل الحرب بيوم استعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ميدان القتال وأنبأ بأن الله تعالى يهلك غدا فلانا هنا وفلانا هنا. ووقعت المعركة يوم الجمعة السابع عشر من رمضان (في السنة الثانية للهجرة) وقبل الحرب دعا النبي - صلى الله عليه وسلم -، الله تعالى بتضرع وخشوع وقال: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد" وكذلك تضرع المسلمون إلى الله بنفس الدعاء. وانهزم أهل مكة بعون الله تعالى وقتل من شجعانهم سبعون وأسر سبعون، وقتل أبو جهل أيضا الذي أثار الناس على المسلمين وتسبب في القتال، وكذلك قتل أحد عشر رجلا من رؤساء مكة الأربعة عشر الذين كانوا قد اجتمعوا في دار الندوة للتشاور في قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، والثلاثة الناجون أسلموا فيما بعد (¬2). وكان قانون الحرب المتبع آنذاك، وتحمس المسلمين المظلومين للانتقام وضرورة إلقاء الرعب القتالي في قلوب بقية القبائل، كان كل هذا يقتضي أن يقتل أسرى الحرب، ولكن نبي الله الرحيم أفرج عنهم جميعا بعد دفع الفدية، وكانت فدية العلماء منهم هي تعليم أبناء المسلمين القراءة والكتابة. وهذه الواقعة توضح التنبؤ الذي ورد في أصحاح أشعياء21/ 16، 17 إذ يقول: "في مدة سنة كسنة الأجير، يفنى كل مجد قيدار وبقية عدد لمحسي أبطال بني قيدار تقل". كما يوضمح ما ورد ذكره في القرآن الكريم حين أذن للمسلمين بالقتال يقول تعالى: {إن الله على نصرهم لقدير} ولهذا ورد اسم هذه الغزوة في القرآن الكريم باسم "يوم الفرقان" لأنه وضح لأهل الكتاب وللمسلمين من خلال هذه التنبؤات الدليل القوي على صدق الإسلام، وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم هذه الواقعة بالألفاظ التالية: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون} (آل عمران: 123). ¬

(¬1) كان المهاجرون أكثر من 66 والأنصار أكثر من 24. (¬2) صحيح البخاري عن كتاب المغازي (5/ 5) وتاريخ الطبري 2/ 273.

مؤامرة قريش الثالثة والاستعداد لقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -

مؤامرة قريش الثالثة والاستعداد لقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -: يحكى أنه بعد عدة أيام من غزوة بدر، اجتمع صفوان بن أمية - وكان أبوه قتل في بدر - وعمير بن وهب - وكان ابنه أسيرا في يد المسلمين. في مكان خارج مكة يتشاورون ضد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال عمير: لولا دين علي ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لذهبت إلى المدينة وقتلت محمدا وعدت. قال صفوان: علي دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك نفقتهم علي ما دمت حيا. قال عمير، فاكتم علي شأني وشأنك. ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له ووضع عليه السم وانطلق من مكة. وصل عمير المدينة ولم يكن ينيخ بعيره أمام المسجد النبوي حتى (برطم) البعير، فرآه عمر الفاروق فعرفه، وفهم أن هذا الشيطان ما جاء إلا لمفسدة، فدخل عمر على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال له هذا عمير بن وهب جاء متوشحا سيفه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخله علي. فأخذ عمر رضي الله عنه بحمالة سيفه، في عنقه ودخل به على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال، أرسله يا عمر، أدن يا عمير، فدنا عمير وسلم، فسأله النبي: قل ماذا جاء بك. فقال جئت أعرف أحوال ابني. فسأله النبي، فما بال هذا السيف. فقال عمير: قبحها الله من سيوف وهل أغنت سيوفنا شيئا في السابق فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اصدقني ما الذي جئت له؟. فردد عمير جوابه السابق مرتين. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر خارج مكة وتحدثتما معا؟ وتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله عز وجل حائل بيني وبينك. فدهش عمير وقال: أشهد أنك رسول الله.

هجوم قريش الثالث وغزوة السويق أو قرقرة الكدر

قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فالحمد لله الذي هداني للإسلام. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة: فقهوا أخاكم في الدين، وأقرءوه وعلموه القرآن وأطلقوا له ابنه. فقال عمير: يا رسول الله إني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعو الناس إلى الإسلام، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم. وكان صفوان حين خرج عمير إلى المدينة يقول لقريش: أبشروا بوقعة تأتيكم في أيام تنسيكم صدمة بدر، فلما عرف صفوان خبر إسلام عمير صدم صدمة كبيرة وأقسم ألا يكلمه أبدا ما دام حيا، وألا ينفعه بنفع أبدا (¬1). وقدم عمير مكة وراح يدعو للإسلام. وأسلم على يده عدد كبير من الناس. هجوم قريش الثالث وغزوة السويق أو قرقرة الكدر (السبت 7 شوال سنة 3 هـ): بعد هزيمة بدر أقسم أبو سفيان بن حرب ألا يغتسل أو يتطهر، حتى ينتقم من المسلمين، وهكذا خرج في مائتي من مكة، وحين وصل بالقرب من المدينة، دخل في جنح الظلام وحده إلى المدينة والتقى بسلام بن مشكم اليهودي وشاوره في الأمر، ويبدو أنهما اتفقا على أن الوقت غير مناسب للمواجهة ولهذا خرج أبو سفيان في عقب ليلته، فأشعل النار في أشجار المسلمين المثمرة وفي نخيلهم وقتل مسلما مع حليفه وعاد. وبعد انتشار الخبر تابعهم المسلمون حتى قرقرة الكدر ولهذا سميت هذه الغزوة باسم قرقرة الكدر، وقد رجع المسلمون وقد فاتهم أبو سفيان وأصحابه وقد رأوا من مزاود القوم قد طرحوه في الحرث يتخففون منه للنجاة ولذلك سميت غزوة السويق (¬2). هجوم قريش الرابع (غزوة أحد): وفي العام التالي هاجمت قريش من جديد المدينة، وفي هذه المرة قامت قريش بجمع الأموال والتبرعات من عموم الناس، وكان الشاعر أبو عزة الجمحي يجوب تهامة ¬

(¬1) وقد أسلم صفوان أيضا بعد عام 8 للهجرة وقد عرف بعدائه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان من رؤساء مكة المشهورين. (¬2) ابن هشام 2/ 44، تاريخ الطبري 3/ 15.

يحث بني كنانة على مساعدة قريش، وقد ضم هذا المال خمسين مثقالا من الذهب وألف بعير لم يكن قد تم تقسيمها من تجارة الشام. وهكذا تقدم إلى المدينة جيش مكون من خمسة آلاف (¬1) مقاتل، منهم ثلاثة آلاف على البعير ومئتان من الخيالة وسبعمائة مقاتل من المشاة المدرعين - وكان رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يخرجوا من المدينة وأن يبقوا بداخلها مدافعين عنها، إلا أن الرأي كان للأغلبية وهكذا خرج المسلمون للقتال عند جبل أحد الأحمر والواقع على بعد تسعة آلاف ياردة من المدينة. وكان جيش المسلمين يتكون من ألف مقاتل، وفي نفس الوقت غدر عبد الله بن أبي بالمسلمين فانسحب بمن معه وكانوا ثلاثمائة مقاتل، وهكذا كانت المواجهة بين خمسة آلاف (امتلأوا حقدا وحنقا) وبين سبعمائة من المسلمين. وفي بداية المعركة هزم المسلمون الأعداء، وقتل اثنا عشر رجلا من حاملي راياتهم (منهم ثمانين قتلوا بيد علي المرتضى رضي الله عنه) ولكن رماة المسلمين تركوا مواقعهم التي أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالثبات فيها، وانتهز الكفار اللئام الفرصة فالتفوا حول المسلمين فأحاطوا بهم. وهكذا أصيب جيش المسلمين بخسارة فادحة وتشتت الجزء الأكبر منه. وكان قد بقي مع النبي من الصحابة اثنا عشر صحابيا فقط (¬2) منهم أبو بكر رضي الله عنه، وعمر وعلي، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم وغيرهم. وأخذ الأعداء يرمون نبي الله بالحجارة، فجرحت جبهة النبي - صلى الله عليه وسلم - بحجر ابن قمئة، وجرح عضد النبي - صلى الله عليه وسلم - بحجر ابن هشام وكسرت أربعة أسنان للنبي - صلى الله عليه وسلم - من حجر عتبة، وسقط النبي - صلى الله عليه وسلم - في حفرة، وشاع خبر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، فأقبلت نسوة من المدينة على عجل، فقامت فاطمة البتول رضي الله عنها فغسلت جراح أبيها، ولما رأت أن الدم ينزف من جبهته وضعت عليها قطعة من حصير أحرقتها. وكان علي المرتضى رضي الله عنه يأتي بالماء بينما حملت عائشة وأم سليم القربة تسقيان الجرحى (¬3)، واستشهد في ميدان المعركة ¬

(¬1) انظر ناسخ التواريخ. وفي المراجع الأخرى ثلاثة آلاف. (¬2) البخاري في المغازي 5/ 38، وابن هشام 2/ 83. (¬3) مسلم في الجهاد 1416 عن أنس.

تضحية أنس بن نضر

سبعون صحابيا (¬1). ومن أعظم خسائر الحرب، شهادة مصعب بن عمير (¬2) الذي قدم المدينة للدعوة وأسلمت بدعوته قبيلتا الأوس والخزرج وكانت زوجة حمنة بنت جحش قد استشهد أخوها وخالها في نفس اليوم، وحين علمت بخبر شهادة أخيها قالت إنا لله وإنا إليه راجعون ودعت له، وحين أخبرت بشهادة زوجها مصعب بن عمير صاحت وولولت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن زوج المرأة منها بمكان. وفي هذه المعركة استشهد حمزة (أسد الله ورسوله) عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد مثل به الأعداء، وأقبلت صفية أم الزبير بعد المعركة لترى جسد أخيها حمزة، فأوقف الزبير أمه، فقالت صفية رضي الله عنها: قد بلغني أنه مثل بأخي، ولكن هذا مدعاة لفخرنا يا بني، لأحتسبن ولأصبرن، سأدعو له الله ثم أعود (¬3). تضحية أنس بن نضر: واستشهد في هذه المعركة أنس بن نضر رضي الله عنه، وكان قد رأى بعض شجعان المسلمين وقد ألقوا بأسلحتهم وجلسوا يلفهم الحزن والغم، فسألهم عن حالهم فقالوا، مات رسول الله فقال لهم: قوموا وموتوا على ما مات عليه رسول الله، فما تصنعون بالحياة من بعده؟ ثم قاتل حتى قتل وبه سبعون جرحا (¬4). رسالة سعد بن الربيع للمسلمين عند وفاته: وفي هذه المعركة استشهد سعد بن الربيع، وقد أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد انتهاء القتال من يبحث عنه، فوجده أحدهم يلفظ أنفاسه بين الجرحى، فسأله عن حاله فقال سعد، اعتبرني الآن في عداد الموتى، أبلغ رسول الله عني السلام وقل له جزاك الله خير ما جزى به نبي عن أمته وأبلغ عني قومك السلام وقل لهم إنه لا عذر لكم عند الله وفيكم عين تطرف (¬5). ¬

(¬1) البخاري في المغازي 5/ 38 عن سهل بن سعد. (¬2) ما كان ترك إلا ثوبا واحدا، فكان إذا غطوا رأسه خرجت رجلاه وإذا غطوا رجليه خرج رأسه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر (البخاري عن خباب رضي الله عنه). (¬3) سيرة ابن هشام 3/ 154، تاريخ الطبري 3/ 27. (¬4) تاريخ الطبري 3/ 25، ابن هشام 2/ 97. (¬5) الطبري 3/ 24، ابن هشام 2/ 95.

عمارة بن زياد ولذة الوت

وعن رجل من الصحابة أنه دخل على أبي بكر، وعلى صدره بنت صغيرة يقبلها، فسألت، من هذه؟ فقال هذه بنت سعد بن الربيع هي خير مني، وهو يعد من النقباء يوم القيامة (¬1). عمارة بن زياد ولذة الوت: واستشهد في هذه المعركة أيضا عمارة بن زياد، وقد أسلم الروح وخده عند قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) وما أحسن ما قاله شاعر بالأردية عن هذه الواقعة: "رأسي تحت قدمه وقت الذبح، الله أكبر ما أسعد هذا الحظ، هذا موضع الغنيمة". شجاعة أبي دجانة وحنظلة وعلي وطلحة: وقد برزت وقائع عظيمة تشهد على الشجاعة البالغة والفداء والتضحية من جانب أبي دجانة وحنظلة (غسيل الملائكة) وطلحة وعلي رضي الله عنهم، حمى طلحة النبي - صلى الله عليه وسلم - من السهام الموجهة إليه ورمى بسهم في يده فشلت يده على الدوام. قوة إيمان امرأة من بني دينار: كانت امرأة من بني دينار، استشهد أبوها وأخوها وزوجها في هذه المعركة، كانت تقول أخبروني عن حال الرسول، وحين أخبرها الناس بأنه بفضل الله بخير وبعافية، قالت: أرونيه، فإذا ما رأته قالت من فورها: "كل مصيبة بعدك جلل" (¬3). رحمة للعالمين وعفوه: قال بعض الصحابة لرسول الله (وكان قد أصيب بعدة جروح) ليتك تدعو على هؤلاء المشركين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إني لم أبعث لعانا ولكن بعثت داعيا ورحمة (¬4)، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" (¬5). ¬

(¬1) ابن هشام 2/ 95. (¬2) الطبري 2/ 18، وأيضا زاد المعاد. (¬3) الطبري 3/ 27، وابن هشام 2/ 99. (¬4) صحيح مسلم عن أبي هريرة في البر والصلة 3/ 2007 رقم 2599. (¬5) الشفا بتعريف حقوق المصطفى لقاضي عياض (المتوفي 544 هـ) ط صديقي بريلي سنة 1282 [ص:47].

مؤامرة قريش الرابعة وقتل عشرة من دعاة الإسلام

مؤامرة قريش الرابعة وقتل عشرة من دعاة الإسلام: اتخذ الأعداء بعد غزوة أحد عدة سبل لإنزال الخسائر بالمسلمين وهكذا، وفي سنة 4 للهجرة: 1 - أرسلت قريش سبعة أشخاص من قبيلة عضل وقارة إلى النبي في المدينة ليخبروه أن أهل قبيلتهما على استعداد للدخول في الإسلام، وليطلبوا منه أن يرسل معهما من يفقهوهم في الدين، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم عشرة من الصحابة وأمر عليهم عاصم ابن ثابت (¬1)، وحين وصل الصحابة إلى مكان بين عسفان ومكة هجم عليهم مائتا رجل من الرماة يريدون أن يعتقلوهم أحياء فصدهم الصحابة واستشهد منهم ثمانية، واعتقل خبيب بن عدي وزيد بن دثنة فأخذهما سفيان الهزني إلى مكة وباعهما لقريش. خبيب وزيد في الأسر: وسجنتهما قريش عدة أيام في بيت الحارث بن عامر، وفي يوم من الأيام كان للحارث طفل يلهو بمدية حادة وجاء عند خبيب فأجلس الطفل على ركبتيه، وأخذ المدية، وحين رأت أم الطفل أن الطفل أخذ المدية وراح عند الأسير الذي لم يطعم شيئا ولم يسقى شيئا منذ أيام، صرخت دون أن تدري، فقال خبيب، هل تظنين أنني قاتل الطفل ... ألا تعرفين أن الغدر ليس من طبع المسلمين. وقام الظالمون من قريش بعد عدة أيام فوضعوا خبيبا وصاحبه تحت الصليب وقالوا لهما: لو تركتما الإسلام لنجوتما بروحيكما فقال الصحابيان الجليلان: إذا فقدنا الإسلام فماذا نفعل إذا امتلكنا روحينا". فسألتهما قريش عما يتمنياه، فقال خبيب: ذروني أركع ركعتين، فأمهل حتى أدى الصلاة، ثم قال: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع لطولتها (¬2). وقام القساة بصلبهما وأمروا الطاعنين بطعنهما في كل موضع في جسميهما. الله أكبر! كم كان ثبات قلوبهم على الإسلام! وكم كانت استقامتهم على دين الحق. وكم كان إيمانهم بالنجاة الأبدية وبرضا الله تعالى، حتى تحملوا كل هذه الآلام ¬

(¬1) عاصم بن ثابت: جد عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (¬2) البخاري عن عبد الله بن عياض (4/ 28، 29، وابن هشام 2/ 172.

مقارنة بين حب النفس وحب الرسول

وكل هذا الإيذاء ولم ينطقوا بكلمة أو حتى يتأوهوا. مقارنة بين حب النفس وحب الرسول: قام أحد الظالمين القساة بضرب خبيب في كبده وسأله: قل أتحب أن محمدا عندنا الآن نضرب عنقه وأنت في أهلك، فأجاب خبيب في حماس، يعلم الله ما أحب أن محمدا الآن تصيبه شوكة في قدمه وأنا أنجو بنفسي (¬1) وانطلق العبد الصالح وفتى الفتيان ينشد هذه الأبيات على البديهة وهو في مقتله تحت الصليب ووسط جموع المتفرجين وهي تصور بصدق ذلك المشهد العظيم وتبين مدى صدق إيمان الصحابي الجليل خبيب ومدى حبه للإسلام. لقد جمع (¬2) الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وكلهم مبدي العداوة جاهد ... علي لأني في وثاق بمصيع وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد يئس مطعمي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع وقدخيروني الكفر والموت دونه ... وقد هملت عينا لي من غير مجزع وما بي حذر الموت إني لميت ... ولكن حذاري حجم نار ملفع ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان في الله مصرعي فلست بمبد للعدو تخشعا ... ولا جزعا إني إلى الله مرجعي وكان آخر كلام خبيب هذا الدعاء اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا. ¬

(¬1) الطبري 2/ 542، وابن هشام 2/ 172، وزاد المعاد 3/ 245. (¬2) نقلا عن سيرة ابن هشام مجلد 2 [ص:173]، وزاد المعاد 3/ 245 ويوجد اختلاف في الكلمات في الصدرين كما ورد في الصحيحين البيت 9 و 6 مع اختلاف في بعض الكلمات، ولم يرد البيتان الثاني والخامس في زاد المعاد.

مؤامرة أخرى وقتل سبعين من دعاة الإسلام

وكان سعيد بن عامر رضي الله عنه (وهو من عمال عمر بن الخطاب على الشام) تصيبه أحيانا غشية، فسأله عمر الفاروق رضي الله عنه عن السبب فقال: ما بي من بأس ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلسي قط إلا غشي علي. مؤامرة أخرى وقتل سبعين من دعاة الإسلام: وقد خدع أبو براء عامر بمثل ذلك أيضا، فقد قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب منه أن يرسل معه بعض دعاة الإسلام إلى أهل نجد، وكان ابن أخيه رئيس نجد، وأكد عامر على أنه سيتولى حماية الدعاة، فأرسل معه النبي المنذر بن عمرو على رأس جماعة تتكون من سبعين صحابيا من خيار المسلمين فضلا وعلما وقراءة للقرآن، وحين وصلوا إلى بئر معونة وكانت منطقة بني عامر نزلوا هناك، ثم بعثوا بحرام بن ملحان بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عامر ابن طفيل الذي أمر بقتل السفير، وكان جبار بن سلمى هو الذي طعنه بالحربة من خلفه على إثر إشارة هذا الحاكم الظالم، فلما نفذت الحربة قال وهو يسقط "فزت ورب الكعب" ووقعت هذه العبارة في نفس القاتل وأثرت فيه حتى إنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعلن إسلامه. وأمر الحاكم بقتل الدعاة كلهم جميعا، وقدم كعب بن زيد - الذي بقى على قيد الحياة ونجا بعد طعنه بالخنجر - فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما حدث. هجوم قريش الخامس ونقض العهد أو فتح مكة: وفي نفس العام الثامن من الهجرة اضطر المسلمون للهجوم على مكة في شهر رمضان وذلك لأن المعاهدة التي عقدتها قريش مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية سنة 6 هـ، كان من بين بنودها ما يلي: "أن توضع الحرب عشر سنين فمن أحب أن يدخل في عهد الرسول وعقده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه" وبناء عليه دخلت بنو بكر في عقد قريش ودخلت خزاعة في عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولم تمض سنتان على المعاهدة حتى هاجمت بنو بكر خزاعة وقامت قريش فأمدت بني بكر بالأسلحة، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا مثل عكرمة بن أبي

جهل وسهيل بن عمرو وهو الذي وقع صلح الحديبية وصفوان بن أمية (¬1). وطلبت خزاعة الأمان واتخذت من الكعبة ملجأ وقالت: إلهك إلهك. فقيل. لا إله اليوم (¬2) - يا بني بكر أصيبوا ثأركم. ووصل أربعون نفرا من هؤلاء المظلومين الذين فروا بأرواحهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وقصوا على النبي قصة ما تعرضوا له من ظلم ودمار، ونظم عمرو بن سالم الخزاعي تلك الأحداث وجاء من بين ما قاله: إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير (...) هجدا ... فقتلونا ركعا وسجدا ... (¬3) والتزاما بالمعاهدة، وانتصارا للمظلوم، وحماية للقبائل المحالفة انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة في عشرة آلاف من المسلمين (¬4) وبعد أن ساروا مرحلتين لقيهم أبو سفيان بن ¬

(¬1) زاد المعاد، نقلا عن صحيح البخاري [ص:360] وورد العدد في ابن هشام (40). (¬2) سيرة ابن هشام 2/ 395. (...) الوتير اسم ماء بأسفل مكة لخزاعة. معجم البلدان 5/ 360، سيرة ابن هشام 2/ 392. (¬3) روى هذا الشعر في المصادر مع تقديم وتأخير وزيادة وحذف والكلام الأخير في الأبيات يدل على أن من خزاعة من أسلم، ولكن اتفق المؤرخون على أن رسول الله ساعد خزاعة قبل إسلامهم. [نقلا عن الطبري وسيرة ابن هشام]. (¬4) صحيح البخاري عن أبن عباس، كتاب المغازي، والآن نقرأ الأصحاح الخامس من نشيد الإنشاد ([ص:989]) [حبيبي أحمر وأبيض، يقف كالراية بين عشرة آلاف رجل] ولنلاحظ الآية 16 من نفس الأصحاح وهو موجود في الإنجيل الروماني (الشائع اليوم في البلاد (أي الهند وعبارته كما يلي: كله حب يا بنات أورشليم هذا حبيبي وهذا خليلي" إلا أن العبارة الواردة في الإنجيل العبري: خلو محمديم زه دودي وزه رعي بلوث يروشلاتيم" والترجمة الصحيحة هي أنه حقا محمد خليلي وحبيبي يا بنات أورشليم وقد اتفق القساوسة على أن الهيكل في نشيد الإنشاد قد هتف بهذا الهتاف في حب صالح موعود، ثم يحدده القساوسة بعد ذلك بالمسيح ولكن إذا كان سليمان عليه السلام نفسه مؤلف النشيد يذكر اسم محمد، ويحدد أكثر فيقول إنه سيدخل الهيكل (القبلة) في عشرة آلاف رجل، فإنه لا يوجد هنا أي مجال للشك في أن الممدوح هنا هو "محمد" وأن ترجمة كلمة =

الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي أمية، وكانوا من الذين بالغوا في إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وحاولوا كثيرا القضاء على الإسلام، فرآهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعرض عنهما. فقالت له أم سلمة: يا رسول الله أبو سفيان ابن عمك، وعبد الله ابن عمتك وبعدها قال علي لأبي سفيان أن يأتي النبي بمثل ما قاله إخوة يوسف وذلك طلبا لعفو الرسول، فجاء أبو سفيان وقرأ للنبي الآية: {تا الله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين} فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - {لا تثريب عليكم اليوم. يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}. ولما سمع أبو سفيان ذلك أنشد هذه الأشعار وقد اعتراه حماس وسرور ونشوة: لعمرك إني حين أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليلة ... فهذا أواني حين أهدي فأهتدي هداني هاد غير نفسي ودلني ... على الله من طردت كل مطرد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم أنت طردتني كل مطرد (¬1). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يباغت أهل مكة فكان كذلك (¬2). إذ لم يعلموا بقدومه ¬

= "محمديم" بالحب أو العشق خطأ، ولعل هناك من يقول إن قدوم محمد في عشرة آلاف مقاتل إلى مكة لا يمثل هذه النبوءة ولهذا نذكر هنا مصادر أخرى لبيان اسم مكة، فقد جاء في كتاب التثنية، الأصحاح 33/ 1، 2) هذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران، أتى مع عشرة آلاف من القديسين وفي يده اليمنى شريعة من نار". والمراد بالمجيئ من سيناء، مجيئ موسى عليه السلام، وبمجيئ الرب من سعير أي مجيئ عيسى وبقية الأخبار هي النبوءة المتعلقة بمحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي ظهر مع عشرة آلاف من الصحابة من جبل فاران، والمراد بشريعة من نار هي الشريعة النورية والسماوية لأن موسى سمع كلام الرب من خلال النار، والمراد [لهم] أن أهل مكة أسلموا حين فتحت مكة. (¬1) زاد المعاد 1/ 413؛ وابن هشام 2/ 401. (¬2) فتوح البلدان للبلاذري، [ص:45]، وابن هشام 4/ 39، وابن سعد 2/ 134، ولنلاحظ ما ورد في كتاب النبي ملاخي الأصحاح 3 [ص:1356]: ها أنذا أرسل ملاك فيهيئ الطريق أمامي ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تسرون به هو ذا يأتي قال رب الجنود، ومن يحتمل يوم مجيئه ومن يثبت عند ظهوره؟ " وهذه العبارة الإلهامية تدل على أن الجميع كانوا يتطلعون بشوق إلى الرسول الموعود وإلى معرفة علاماته، وكان الأنبياء السابقون يرون أن من واجبهم بيان علاماته، وكتاب النبي ملاخي آخر كتب العهد القديم، فمن تصدق عليه هذه النبوءة إما أن يكون =

المبارك إلا حين وصل مكة وضرب خيامه خارجها وأمر بإيقاد النار إعلاما منه بالوصول. وفي اليوم التالي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدخول الجيوش مكة من طرق مختلفة وأن تلتزم الجيوش بالأحكام التالية: 1 - أن لا يقتل من ألقى السلاح. 2 - أن لا يقتل من دخل الكعبة. 3 - أن لا يقتل من بقي جالسا في بيته. 4 - أن لا يقتل من دخل دار أبي سفيان. 5 - أن لا يقتل من دخل دار حكيم بن حزام. 6 - أن لا يعقب الهارب. 7 - أن لا يقتل الجريح. 8 - أن لا يقتل الأسير. ولم تصدر مقاومة للفرق التي دخلت مكة إلا لتلك التي قادها خالد بن الوليد، وقد انتهت بفرار المقاومين، وقد قتل في هذه المواجهة اثنان من المسلمين وثمانية وعشرون من غير المسلمين. ¬

= المسيح أو كما نقول محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن المسيح لا تصدق عليه هذه النبوءة للأسباب التالية: 1 - إن متى لم يجعل هذه النبوءة للمسيح مع أنه جمع كل نبوءات المسيح في الإنجيل. 2 - كما لم يذكرها أي مؤلف من المؤلفين القدامى أو المؤلفين المسيحيين في حق المسيح. 3 - جميع النصارى يقولون إن المسيح "ابن الله" لا "رسول الله". 4 - لم يغلب الأعداء أمامه في الهيكل بل غلبوه. أما هذه النبوءة فتصدق على محمد - صلى الله عليه وسلم - للأسباب التالية: 1 - أن كلمة الهيكل تدل على أنه يأتي إلى المكان الذي جعله هو هيكلا والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي جعل الكعبة قبلة وذلك قبل فتح مكة بسبع سنوات. 2 - يأتي بغتة - كان هذا من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم اضرب على آذانهم حتى نبغتهم بغتة وهكذا كان. 3 - وعبارة "رب الجنود" براعة استهلال على أنه يدخل مع الجيش. 4 - لم يصمد أحد من أهل مكة في مقاومة النبي - صلى الله عليه وسلم -. 5 - وعبارة (رسول العهد) يدل على نفس المعنى الذي دل عليه قول يحيى المعمد "النبي" وأنكر المسيح أنه ليس "النبي". - انظر يوحنا الأصحاح الأول / 21.

ودخل رسول الله مكة في العشرين من رمضان، خاشعا خاضعا لله (¬1) يتلو سورة الفتح، متوجها إلى بيت الله على ناقته (¬2) وأردف معه أسامة بن زيد مولاه، ولما وصل - صلى الله عليه وسلم - هناك قام أولا بتطهير بيت الله من الأصنام، وكان فيه آنذاك 360 صنما، فكان - صلى الله عليه وسلم - يوقع صنما صنما بقضيب في يده وهو يتلو قول الحق: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} (الإسراء: 81). {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد} (سبأ:49). فما أن فرغ من ذلك حتى دعا عثمان بن أبي طلحة، وكان مفتاح الكعبة لدى أسرته منذ مدة. وفي بداية أيام النبوة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن أبي طلحة أن يفتح بيت الله، فرفض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت، فقال عثمان أهلكث قريش يومئذ وذلت؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بل عمرت وعزت" (¬3). أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - مفتاح باب بيت الله وفتحه، وكبر في نواحيه وصلى لله شكرا وسجد لله تضرعا وإنابة. وتجمع في ذلك الوقت جميع رؤساء مكة وكبارها ممن: 1 - قتلوا أو أمروا بقتل عشرات المسلمين. 2 - آذوا مئات المسلمين وأخرجوهم من بيوتهم. 3 - سافروا إلى الحبشة والشام ونجد واليمن للقضاء على الإسلام والمسلمين. 4 - هاجموا المدينة مرات عديدة فأقلقوا حياة المسلمين بعد أن اضطروهم للهجرة بعيدا عن ديارهم (300 ميل). ¬

(¬1) وحين يفتح الحكام البلاد يدخلونها في أبهة وعظمة وفرح وضجيج. (¬2) البخاري عن عبد الله بن مغفل - ولنقرأ الآن سفر النبي أشعيا، الأصحاح 2/ 20 وقد ورد فيه ذكر راكب حمار وراكب ناقة كنبوءة، فالمسيح ذهب إلى بيت المقدس راكبا الحمار وأخرج منه أصحاب الدكاكين وباعة الحمام وطهر بيت الله، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى الكعبة راكبا الناقة، وطهرها من الأوثان، فكلاهما صدقا نبوءة النبي أشعياء. (¬3) الطبري وطبقات ابن سعد (2/ 136).

خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة أمام المهزومين والأعداء

أي جميع أولئك الناس الذين بذلوا قصارى جهدهم بالمال والجهد والحيلة والسلاح والغش والخدل، من أجل "إبادة المسلمين"، طوال واحد وعشرين سنة، إلا أن رسول الله الذي بعثه الله رحمة للعالمين، جلس بعد الصلاة، فطلب العباس (عم الرسول) أن يعطى مفتاح بيت الله لبني هاشم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اليوم يوم البر والوفاء" واستدعى عثمان بن أبي طلحة، وسلمه مفتاح الكعبة وقال: "لا ينزعها منكم إلا ظالم" (¬1). خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة أمام المهزومين والأعداء: ثم توجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الجماعة التي استوجبت القتال وقال: "يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم "وآدم خلق من تراب" ثم تلا هذه الآية: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ثم قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" (¬2). بيعة المسلمين وشروطها: ثم توجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جبل الصفا فجلس يتلقى البيعة على الإسلام، وكان عمر ابن الخطاب يأخذ على الناس واحدا واحدا وتضمنت البيعة ما يلي: 1 - إني لا أشرك بالله أحدا في ذاته وصفاته واستحقاقه للعبادة والاستعانة. 2 - لا أسرق ولا أزني ولا أقتل نفسا بغير حق، ولا أقتل البنات ولا آتي ببهتان. 3 - إني أطيع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور الحق على قدر الاستطاعة. وبايع النساء على ما بايع الرجال وزاد: "ألا يخمشن الوجوه حدادا على أحد، ولا يلطمنها ولا يثرن الرؤوس ولا يشققن الجيوب ولا يلبسن السواد ولا يجلسن على القبور حزنا". وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بايع النساء وضع يده في إناء فيه ماء ثم أخرجها، فتأتي من تريد مبايعته فتضع يدها فيه، وفي مناسبات أخرى كان يأخذ عليهن البيعة بالقول فقط. ويذكر أنه في اليوم التالي من الفتح وبينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالكعبة إذا بفضالة ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (2/ 137). (¬2) الطبري 3/ 61.

ابن عمير الملوح يراها فرصة ويعزم على قتل النبي، فلما دنا منه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أفضالة؟ فقال فضالة: نعم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ماذا كنت تحدث به نفسك الآن؟ قال فضالة: لا شيء، كنت أذكر الله. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: استغفر ربك، ثم وضع يده على صدره. يقول فضالة: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه. فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت، هلم يا فضالة إلى الحديث، فقلت لا - يأبى الله والإسلام ذلك (¬1). وبيان سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعد كاملا إذا لم يذكر عفوه عن الإساءات التي تعرض لها في مكة، ومن الواضح أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر جميع جيشه قبل دخول مكة ألا يهاجموا أحدا، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل أربعة رجال وامرأتين وجب القصاص منهم لجرائمهم السابقة، فقتل من الرجال الأربعة ابن خطل فقط، وكان مسلما (وارتد) وقد قتل غلامه لأنه لم يعد له الطعام في وقته وفر هاربا إلى مكة - وأصدر العفو عن الثلاثة الآخرين عكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود وعبد الله بن أبي سرح. 1 - أما عكرمة فبالإضافة إلى أنه ابن أبي جهل، فقد قاتل المسلمين مرارا وكان سببا فيما أصاب بني خزاعة حلفاء المسلمين. 2 - وأما هبار فهو الذي عرض للسيدة زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تركب الهودج من مكة إلى المدينة فنخس بها حتى سقطت وأسقطت جنينها وتوفيت في النهاية من جراء هذه الصدمة، وقد أسلم فيما بعد وحسن إسلامه. 3 - وأما عبد الله بن أبي سرح فكان يزعم أن الوحي يأتيه وأن محمدا يتلقى منه ثم يملي عليه الله أكبر، ما أرحم نبي الرحمة الذي عفا عن هؤلاء المجرمين. ومن بين المرأتين نفذ القصاص في امرأة ارتكبت جريمة القتل العمد وصدر العفو عن هند زوجة أبي سفيان، وهي التي مضغت كبد حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدعت أنفه وأذنه ¬

(¬1) الطبري 3/ 61.

فجعلت منها عقدا، كما صدر العفو أيضا عن وحشي الذي قتل حمزة (أسد الله ورسوله) خداعا ومثل بجسده. ويفهم من إمعان النظر والفكر أن جند رسول الله لم يفتحوا مكة بالقوة بل الخلق المحمدي والعفو النبوي والرحمة التي كانت سمة من سماته كل هذا فتح قلوب أهل مكة للإسلام (¬1). ولهذا فبعد فتح مكة لم يذكر أنه حدث استيلاء على أموال الكفار وممتلكاتهم كغنائم حرب، ودور المسلمين المهاجرين الذين أخرجوا من مكة، كانت بأيدي الكفار، وحين طلب هؤلاء المسلمون من النبي - صلى الله عليه وسلم - استعادة ممتلكاتهم، لم يوافق على طلبهم هذا، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ليس لهم الحق في المطالبة باسترداده. ***** وقبل أن أنتقل من الحديث عن فتح مكة (الذي ورد في نبوءات صحف الأنبياء السابقين) أود أن ألفت أنظار القراء إلى نبوءة أخرى عظيمة. سورة يوسف، التي وردت في القرآن الكريم، نزلت في مكة، قال الله تعالى في نهايتها: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك}. وهنا على القراء أن يعرفوا التشابه بين أحوال يوسف الملقب بالكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم وأحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: 1 - إن إخوة يوسف حسدوه لكمالاته الروحية، وكذلك كان حسد إخوة النبي - صلى الله عليه وسلم -. 2 - مكث يوسف في البئر، وكذلك أقام الرسول في الغار. 3 - قضى يوسف عدة سنين في السجن وكذلك حوصر النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة سنين في شعب أبي طالب. 4 - حظى يوسف بالجاه والجلال بعد خروجه من وطنه وذهابه إلى مصر، والنبي ¬

(¬1) زاد المعاد 3/ 412 قارنوا بين ألفاظ البيعة التي أخذها النبي على الناس في وقت انتصاره وبين ألفاظ بيعة العقبة الأولى التي أخذها في حلكة الليل خارج المدينة، فلن تجدوا بينها فرقا، وهذا هو أكبر دليل على عظمة شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

نتائج فتح مكة وأسباب انتشار الإسلام السريع

- صلى الله عليه وسلم - حالفه التوفيق حين ترك وطنه وذهب إلى المدينة. 5 - لجأ إخوة يوسف إليه في زمان القحط، وهكذا طلب إخوة النبي منه، فقد ورد في صحيح البخاري في باب الاستسقاء أن أهل مكة أصيبوا بقحط شديد فجاء أبو سفيان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا محمد جئت تأمرنا بصلة الرحم ونحن نموت قحطا فادع الله لنا، فدعا لهم فرفع عنهم. 6 - أرسل يوسف الطعام من مصر لإخوته في كنعان وكذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمامة بن أثال فأتى بالطعام من نجد إلى مكة. 7 - اعترف إخوة يوسف له بالعظمة في النهاية، وقد اضطر إخوة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاعتراف بعظمته في النهاية. 8 - دعا يوسف عليه السلام لإخوته الذين آذوه بقوله: {يغفر الله لكم}. وكذلك دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عمه أبي سفيان بن الحارث ولعبد الله بن أمية بهذا الدعاء مع أنهما كانا من المبالغين في إيذائه - صلى الله عليه وسلم -. 9 - بين يعقوب عليه السلام علو منزلة يوسف، كما آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة عمه العباس بن عبد المطلب والعم صنو أبيه كما جاء في الحديث "صنو أب". 10 - عفا يوسف عن إخوته بقوله: {لا تثريب عليكم اليوم} وكذلك فرج رسول الله بهذه الكلمات الطيبة عن أخوته الذين بالغوا في ايذائه. ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بجميع هذه الأحوال في مكة وتم إعلان سورة يوسف في مكة بين المنكرين، تحقق ما ورد فيها جميعه حتى زمان فتح مكة، لهذا ترتبط هذه السورة بفتح مكة ارتباطا خاصا، والسورة بأسرها نبوءة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. نتائج فتح مكة وأسباب انتشار الإسلام السريع: بعد فتح مكة (وهو الفتح الذي كانت نتائجه أفضل ألف مرة من السلم والعفو) زاد عدد المسلمين أكثر فأكثر، وكان ذلك لعدة أسباب: 1 - كانت قبائل كثيرة قد امتنعت عن الإسلام لأنها عاهدت قريشا، وقبولها للإسلام يعني خروجها على العهد.

2 - كما امتنعت قبائل أخرى عن الإسلام لأنها أضعف من أن تواجه قريشا، كما كانت لها صلة أو قرابة بقريش وقبولها الإسلام يعني قطع هذه الصلة والقرابة والتعرض لسخط قريش وغضبها. 3 - كانت قبائل كثيرة ترى أن السيطرة على مكة هي إمارة الصدق ورضا الله، ذلك لأنهم اعتقدوا منذ مئات السنين أن مكة تمضي تحت سيطرتهم وأن مكة لا يمكن أن تخضع لسيطرة من لا ينال تأييد رب العالمين ونصره - فيقولون: "أتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق" (البخاري كتاب المغازي 5/ 95 عن عمرو بن سلمة). 4 - حتى ذلك الوقت كانت مختلف القبائل تضم عشرات الشيوخ ممن شاهدوا جيش أبرهة الجرار الذي ضم أربعين ألفا (¬1) وهو يهجم على مكة وكانت فيه فيلة، وكان فيل أبرهة الخاص من نسل "محمود" (¬2). وقد رأى هؤلاء الشيوخ بعيونهم قبل ستين (¬3) عاما الأحباش وهم يهاجمون مكة، وشاهدوا أهل مكة يتركون بيوتهم خوفا ويصعدون إلى قمم الجبال، حتى إنه لم يبق أحد في مكة يقاوم المهاجمين، ومع هذا فقد رأوا جيش الأحباش يصاب بالهلاك والدمار، وقائدة يهرب ويفر بعد أن شاهد أحوال جيشه، فلم يبق جند ولا فيلة بل أشلاء مبعثرة ¬

(¬1) ذكر الأستاذ الفرنسي سيديو في كتابه "خلاصة تاريخ العرب" عدد جيش أبرهة بأربعين ألفا وقال إن القائد أبرهة الأشرم (وكان نائب النجاشي في اليمن) أسس في صنعاء كنيسة عجيبة البناء وكان يريد أن تتوجه إليها العرب كلها للحج كل سنة مثلما هو الحال بالنسبة للكعبة، ولما فشل في مساعيه هذه قدم لهدم الكعبة. يقول الشاعر عبد الله الزبعري في قصيدته عن هذه الواقعة: واسئل أمير الجيش عنا ما أرى ... ولسوف ينبى الجاهلين عليها ستون ألفا لم يؤبوا دارهم ... بل لم يعش بعد الإياب سقيمها ولا كان الأستاذ سيديو ذكر أن القائد أرياط ARYAT جاء بسبعين ألفا من العسكر عام 525 ق. م. فليس من المستبعد أن يكون قول الشاعر العربي صحيحا فيما يتعلق بعدد الجيش وأن يكون الأشرم - هو نائب أرياط وقاتله - ترك في اليمن عشرة آلاف وجاء بستين ألفا إلى مكة. (¬2) نوع من الأفيال عظيم الجثة ولا وجود له اليوم، ويطلق عليه في الانجليزية Mamat ، وقد عربه العرب فسموه "محمود" (نقلا عن تاريخ العرب). (¬3) في زماننا (أي سنة 1912 م) لا يزال يوجد بعض الجنود الذين شهدوا فتح مدينة دهلي وحصار مدينة لكهنو وحتى من شهد حرب كريميا.

الدفاع ضد هجوم ثقيف وهوازن: غزوة حنين شوال 8هـ

على بعد أربعة أميال من مكة وكان هؤلاء الشيوخ لا يزالون يتذكرون ما دار من كلام وحديث بين عبد مناف وأبرهة حين نزل جيش أبرهة إلى حدود مكة فأصاب مواشي أهل مكة وفيها مائة بعير لعبد مناف، وعبد مناف هو جد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذ سيد مكة ورئيسها، ذهب بنفسه إلى جيش الحبشة ولقي أبرهة عن طريق سائس الفيلة، فكرمه أبرهة وأجلسه بجواره وسأله ماذا جاء به، فقال عبد مناف: لقد استولى جيشك على مواشينا فلتأمر بردها إلينا. فقال أبرهة: كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني. فقال عبد مناف: لماذا؟ فقال أبرهة: لقد جئت لأهدم بيتا هو دينك ودين آبائك وأقيم بدلا منه كنيسة يعظمها العرب ويقدسها، وأراك لا تكلمني في هذا وتكلمني في مواشيك. فقال عبد مناف: أنا رب الإبل أما البيت فله رب سيمنعه. والحاصل أنه حين سيطر المسلمون على مكة بهذا التوفيق والنجاح وبهذه السهولة، لم تعد هناك معاهدات تمنع من يريد الدخول في الإسلام من الدخول فيه، كما زال ضغط قريش وإرهابهم للناس ورأى الناس أن المسلمين - حسب معتقدهم - هم المقبولون عند الله ولهذه الأسباب زاد عدد المسلمين. 5 - والسبب الأخير هو أنه لم يعد هناك موانع أمام الدعاة المسلمين العاملين في مجال تبليغ الإسلام وبيان حقيقته، فكان الدعاة يقومون بالدعوة بحرية كاملة وكان المتلقين يستمعون إليهم بحرية واطمئنان، كما كانت قوة الإسلام وجاذبيته تشد إليه الناس. الدفاع ضد هجوم ثقيف وهوازن: غزوة حنين شوال 8 هـ: بعد فتح مكة فكرت قبيلتا هوازن وثقيف وكانت حدودهما متصلة بمكة، بأنهما لو هزما المسلمين لعادت إليهم بساتين أهل مكة وأملاكهم بالطائف (¬1) وأمكنهم الانتقام من المسلمين لتحطيمهم الأصنام. فضموا إليهما قبائل بني مضر وبني هلال وخرجوا إلى مكة في أربعة آلاف من الشجعان، ونزلوا بوادي حنين، وكانوا قد أتوا بنسائهم وصبيانهم ¬

(¬1) فتوح البلدان للبلاذري، [ص:63].

وأموالهم وإبلهم معهم بناء على مشورة رئيسهم مالك بن عوف وذلك حتى لا يفر أحد منهم عن ميدان المعركة. ولما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخبر تقدم خارج مكة فقد رأى أنه ليس من المناسب القتال في الحرم بجوار مكة، وكان معه ألفان من أهل مكة من مسلمين ومعاهدين من غير المسلمين وعشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح الله بهم مكة وقد أعجبتهم كثرتهم، فابتعدوا عن الحذر والحيطة والحزم. وكمن الأعداء للمسلمين في واد ضيق صعب ونصبوا عليه رماة سهامهم، وحين صار الجزء الأول من جيش المسلمين (وكان في معظمه من الطلقاء والشباب الذي لا يبالي فليس مع أحدهم عدة ولا عتاد كما أنهم ليسوا على قدر من التدريب الحربي) في مرمى الأعداء دون أن يدري، قام الأعداء فأمطروا مقدمة الجيش بوابل من السهام، فبدأ الجميع يولون أدبارهم هاربين، وصمد في ميدان المعركة ما يقرب من مائة صحابي، وحين رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - المهاجمين يتقدمودن من الجهات الأربع وجيشه يتقهقر، ضرب للجيش مثلا في الشجاعة لا نظير له، فنزل - صلى الله عليه وسلم - من فوق بغلته وجعل يرتجز: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب (¬1) وكان هذا يعني أن معيار صدقي ليس بانهزام جيش أو انتصار جيش ولكن معيار صدقي نابع من ذاتي (أي من كونه - صلى الله عليه وسلم - نبي الله ورسوله). وبدأ العباس (عم النبي - صلى الله عليه وسلم -) ينادي المهاجرين والأنصار وكان كل منهم يستمعون إلى ندائه فيتجمعون كما يتجمع الحمام إلى برجه (¬2) وأعيد ترتيب الجيش من جديد. وبينما الأنصار والمهاجرون يتقدمون بدأ الأعداء يهربون وانقسموا إلى قسمين: 1 - قسم بقيادة مالك بن عوف، أخذ جماعته وتحصن في قلعة الطائف. 2 - والقسم الثاني وكان فيه أهله وعياله وماله ومتاعه هرب واختبأ في أوطاس. ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمحاصرة قلعة الطائف وأمر أبا عامر الأشعري بالتوجه إلى أوطاس. فوصل أبو عامر هناك وتمكن من أهل وعيال ومال ومتاع الأعداء كله، وحين علم النبي ¬

(¬1) البخاري ومسلم عن البراء بن عازب باب غزوة حنين. (¬2) صحيح البخاري عن ابن عباس.

- صلى الله عليه وسلم - بنتيجة ما حدث في أوطاس، أمر بمحاصرة قلعة الطائف، لأن ضياع أهل هؤلاء يعد مصيبة ما بعدها مصيبة. وكانت الغنائم التي غنمها المسلمون في أوطاس 24 ألف رأس من الإبل، 45 ألف رأس من الغنم، 4 آلاف أوقية من الفضة ومن السبي نساء وصبيانا ستة آلاف (¬1). وبينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظر بالقرب من ميدان المعركة إذا بستة من رؤساء قبيلة هوازن يأتون إليه ويسترحمونه وكان من بينهم اثنان ممن أمطروه بالحجارة في الطائف، حتى أن زيدا حمله في آخر مرة وهو مغشي عليه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم لقد كنت في انتظاركن، وبقيت في انتظاركم لأسبوعين اثنين ولهذا لم تقسم أموال الغنائم (¬2) أنا تارك لكم ما كان لي ولبني عبد المطلب وإذا كان معي الأنصار والمهاجرون فقط لسهل الأمر ولكنكم كما ترون في جيشي هذا أناس لم يسلموا بعد، ولهذا فإني أرى أن تأتوا غدا بعد صلاة الفجر وتقدموا طلبكم أمام الجميع، ولتختاروا بين أن تأخذوا المال أو الأهل والعيال، لأنه من الصعب أن يعود الجنود خالي الوفاض. وفي اليوم التالي حضر رؤساء هوازن أنفسهم وقدموا طلبهم أمام الناس إلى رسول الله لفك أسراهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم - وقال الأنصار والمهاجرون، ما كان لنا فهو لرسول الله. أما بنو سليم وبنو فزارة فقد أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قيمة كل أسير ستة من الإبل. وهكذا أطلق سراح جميع الأسرى، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكسوة جميع الأسرى في حضوره. ¬

(¬1) زاد المعاد (3/ 473) وقد ورد في سفر إرمياه (الأصحاح 49/ 28 - 29 [ص:1156]) ذكر فتح مكة وغزوة حنين وغنائمها: قوموا اصعدوا إلى قيدار، اخربوا بني المشرق، يأخذون خيامهم وغنمهم ويأخذون لأنفسهم شققهم وكل آنيتهم وجمالهم، " وليعلم أن المراد بالصعود إلى قيدار هو غزوة مكة حيث سكن أبناء قيدار والمراد ببني المشرق أهل حنين والطائف إذ أن حنينا تقع شرقي مكة. (¬2) صحيح البخاري عن المسور ومروان كتاب المغازي باب غزوة حنين.

نموذج للإخلاص

وكان من بين السبي أخته في الرضاعة الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى، عرف الرسول أنها أخته في الرضاعة، فبسط لها رداءه فأجلسها عليه وخيرها بين الإقامة معه أو العودة إلى قومها فاختارت العودة إلى قومها، فأرسلت إلى قومها معززة مكرمة. نموذج للإخلاص: وتم تقسيم مال الغنيمة في نفس المكان، فأعطى القسم الأكبر منها لأولئك الناس الذين أسلموا منذ أيام عديدة أما الأنصار وهم المخلصون فلم يكن لهم من العطايا شيء، وأثر هذا على بعضهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر الأنصار أنا بنفسي لكم والناس يرجعون بالشاة والبعير وترجعون برسول الله. فرضي القوم بهذا وتأثروا حتى بكوا واخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسما وحظا (¬1). ¬

(¬1) زاد المعاد 3/ 474.

فصل

فصل كيد اليهود، ونقضهم للعهود، هجومهم على المسلمين ودفاع المسلمين •---------------------------------• إن كلمة اليهود، وإن لزم أن يكون المقصود بها قبيلة واحدة انحدرت من نسل يهودا ابن يعقوب، إلا أنها تعني اصطلاحا أسباط بني إسرائيل الإثنا عشر، وقد كان بنو إسرائيل في بادئ أيامهم مقبولين ومفضلين عند الله، ولكنهم ابتعدوا في أيامهم الأخيرة عن الله ابتعادا جعلهم يستحقون غضب الله وسخطه. وهكذا نعتهم المسيح، الذي اتصف بالرحمة، بالحيات وأولاد الحيات، كما تنبأ بأن مملكة الرب سوف تنتقل من أيديهم إلى أيدي أمة أخرى خير منهم (¬1). ولما حان وقت ظهور هذه البشرى، وبدأ محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبلغ رسالته السامية استشاط اليهود غيظا وغضبا، ثم قرروا في النهاية إيذاء محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفس ما فعلوه مع المسيح من قبل. ومع أن اليهود كانوا قد عقدوا في السنه الأولى للهجرة معاهدة سلام، إلا أن طبعهم الشرير لم يبق في الخفاء طويلا، وهكذا وبعد سنة ونصف من توقيع المعاهدة بدأت مكايدهم في الظهور. المكيدة الأولى وإخراج بني القينقاع: حين ذهب المسلمون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى بدر، يذكر أن امرأة مسلمة ذهبت لبيع الحليب في حي بني القينقاع، فتحرش بها بعض اليهود، وكشفوا عن جسدها أمام الناس في السوق، فصرخت المرأة، فقدم رجل من المسلمين، وثار وقتل اليهودي، فتجمع ¬

(¬1) إنجيل متى 21، الأصحاح 23/ 24. "أيها الحيات أولاد الأفاعي، كيف تفلتون من عقاب جهنم؟ ... " الخ [ص:85] وما بعدها الإنجيل. الترجمة التفسيرية ط 3 - 1992 م

المكيدة الثانية مؤامرة قتل النبي أو إجلاء بني النضير

عليه اليهود، فقتلوه، وهكذا وقع الشر، وعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - من بدر واستدعى اليهود ليسألهم عما وقع من بلاء وشر، فأرسلوا ورقة المعاهدة واستعدوا للقتال. وهكذا وصل الأمر إلى إعلان العصيان ولهذا تم عقابهم فأخرجوا من المدينة ليسكنوا في خيبر. المكيدة الثانية، مؤامرة قتل النبي أو إجلاء بني النضير: سبق أن ذكرنا أن قريشا كتبت إلى الوثنيين بالمدينة في شأن قتال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن خطتهم فشلت نظرا لفراسة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكمته، ثم عادت قريش بعد هزيمتها في بدر فكتبت مرة ثانية إلى اليهود: "إنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء وهي الخلاخيل". فلما بلغهم هذا الكتاب عقدت بنو نضير النية عن نقض العهد وخدل النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ويذكر أنه في السنة الرابعة للهجرة خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعينهم في دية، فإذا بهم يجلسون خلف حائط ويتآمرون على قتله بأن يقوم عمرو بن جحاش بإلقاء الرحى على النبي. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء فقام وخرج راجعا إلى المدينة برعاية الله. وتم عقاب بني النضير بإجلائهم عن المدينة إلى خيبر، فخرجوا وقد حملوا متاعهم على ستمائة بعير، فهدموا بيوتهم بأيديهم وخرجوا إلى خيبر (¬2). مؤامرة اليهود الثالثة (العصيان العام) وما نتج عنها من غزوة الأحزاب أو الخندق: كانت غزوة الخندق (¬3) من أشهر أحداث العام الخامس من الهجرة. فلم يجنح بنو نضير إلى السلم بعد وصولهم إلى خيبر فعقدوا العزم على أن يكونوا جبهة واحدة للقضاء على المسلمين وأن تتكاتف الجهود وتجتمع لذلك جميع قبائل العرب وأصحاب المذاهب المختلفة أيضا. ¬

(¬1) أبو داود عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك باب في خبر النضير 3/ 404. (¬2) ابن هشام 3/ 199 وزاد المعاد 3/ 127، والطبري 3/ 36. وقد ورد الخبر بذلك في سفر اشعيا الأصحاح 6/ 30 يحملون [أي الأبناء المتمردون] على أكتاف الحمير ثروتهم وعلى أسنة الجمال كنوزهم إلى شعب لا ينفع وقد ظهر عدم النفع هذا في غزوة خيبر. (¬3) أدرجنا هذه الغزوة ضمن غزوات اليهود لأن اليهود هم الذين ألبوا القبائل وأتوا بهم إلى المدينة مع أن هذا الجيش ضم قريشيين ووثنيين أيضا إلا أن عدد الوثنيين كان أكثر.

فاختاروا عشرين رئيسا لتحريض جميع قبائل العرب على الهجوم على المسلمين، ونتج عن ذلك أن تجمع في ذي القعدة في السنة الخامسة للهجرة عشرة آلاف من المقاتلين الشرسين منهم عبدة الأوثان واليهود وغيرهم، هاجموا المدينة، وقد ورد ذكر هذا الهجوم في القرآن الكريم باسم "غزوة الأحزاب". 1 - كانت قريش وبنو كنانة وأهل تهامة تحت قيادة أبي سفيان بن حرب. 2 - كانت فزارة تحت قيادة عقبة بن حصين. 3 - كانت بني مرة تحت قيادة حارث بن عوف. 4 - كان بنو أشجع وأهل نجد تحت قيادة مسعر بن رخيلة (¬1). ولما رأى المسلمون أنهم لاطاقة لهم بمواجهة هذه الجيوش ضربوا الخندق على المدينة فكان كل عشرة رجال يحفرون أربعين ذراعا من الخندق، وكان الصحابة يرتجزون هذا الشعر وهم يحفرون: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الإسلام ما بقينا أبدا (¬2) وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يساعد الصحابة في حفر الخندق وكسر الحجارة ورفع التراب الذي غطى شعر صدره المبارك وهو ينشد أبياتا لعبد الله بن رواحة: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الأعداء قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا (¬3) كان المسلمون ثلاثة آلاف فقط، ونزل الجيش في المدينة فكان الخندق أمامهم وجبل السلع من خلفهم، وكان بنو قريظة اليهود يقيمون في المدينة وكان من الواجب عليهم نصرة المسلمين طبقا للمعاهدة المعقودة بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن ما حدث كان عكس ذلك. ¬

(¬1) ابن هشام 2/ 216 الطبري 2/ 3. (¬2) صحيح البخاري 5/ 45 عن براء. (¬3) صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه 5/ 46، 47.

نهاية بني قريظة

ففي ظلمة الليل ذهب حيي بن أخطب إلى بني قريظة واتفق مع رئيسهم على نقض العهد والتحالف معهم، وأرسل لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عددا من النقباء حتى يثنوهم عن عزمهم ولكنهم قالوا بوضوح: لا عقد بيننا وبين محمد (¬1). وحاول بنو قريظة بعد ذلك الإخلال بأمن المدينة وتعريض نساء المسلمين وأطفالهم للخطر مما اضطر المسلمين إلى تخصيص ثلاثة آلاف جند المسلمين لحراسة هذا الجزء من المدينة. واعتقد بنو قريظة أن وجود عشرة آلاف من جنود الأعداء خارج المدينة مع قيامهم بإخلال الأمن داخل المدينة سوف يؤدي إلى الفت في عضد المسلمين وسيتم القضاء عليهم نهائيا ولا يبقى لهم اسما ولا رسما. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره الحرب، لهذا استشار صحابته في أن يعقد صلحا مع رئيس غطفان على ثلث ثمار المدينة، إلا أن الأنصار فضلوا القتال، وقال سعد بن معاذ وسعد ابن عبادة؛ قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلا السيف. واستمر الحصار عشرون يوما، حدثت فيها أحيانا مناوشات بسيطة بالرميا والنبال، وأقبل عمرو بن عبد ود وكان يعتبر نفسه مساويا لألف شاب، فبارزه علي بن أبي طالب وقتله. وقتل أيضا نوفل بن عبد الله بن المغيرة، وقد عرض أهل مكة عشرة آلاف درهم للحصول على جسد نوفل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اعطوهم الجسد ولا حاجة لنا بثمنه. ولما لم يتمكنوا من اختراق حصار المسلمين، حبطت همتهم، وفي ليلة من الليالي، وبقدرة الله تعالى وجد المشركون أنفسهم وقد خسروا كل شيء وأصيبوا بالرعب والخوف، وصدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده (¬2). نهاية بني قريظة: بعد أن تخلص النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه المصيبة أرسل في طلب بني قريظة، وسألهم عن ¬

(¬1) الطبري 2/ 571، وسيرة ابن هشام مجلد 2/ 141. (¬2) انظر زاد المعاد 3/ 274.

موقفهم في غزوة الأحزاب، فإذا بهم قد تحصنوا، واستعدوا تماما للقتال، وهناك عرف المسلمون أن رئيس بني النضير حيي بن أخطب الذي كان قد جاء ليحرض بني قريظة ضد المسلمين لا يزال داخل حصنهم. ولم يكن هذا أول غدر يصدر عن بني قريظة، بل سبق لهم أن ساعدوا قريشا (الذين قدموا للهجوم على المسلمين) بإمدادهم بالأسلحة، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - الرحيم الكريم عفا عنهم وسامحهم على فعلتهم تلك. ولما تحصنوا داخل قلاعهم لم يجد المسلمون أمامهم من حل سوى القتال، فحاصروهم في شهر ذي الحجة واستمر الحصار لخمسة وعشرين يوما، وضاق بنو قريظة من شدة الحصار، فوسطوا مسلمي قبيلة الأوس وكان بينهم علاقة، وطلبوا من النبي قبول حكم سعد بن معاذ (وهو رئيس قبيلة الأوس) فيما يتعلق ببني قريظة وأن يوافق النبي على ما سيصدره سعد من حكم. وهكذا خرجت بنو قريظة من الحصن، وعهدت بالقضية إلى سعد، ويعلم الله وحده الآمال التي علقها يهود بني قريظة ومسلمو الأوس على سعد وما سيصدره من حكم. وبعد التحقيقات اللازمة أصدر هذا الرجل العسكري حكمه بأن: 1 - يقتل الرجال القادرين على القتال. 2 - تسبى النساء والأطفال. 3 - وتقسم الأموال. والحديث الذي أورده البخاري عن أبي سعيذ الخدري فيما يتعلق بتنفيذ قضاء سعد يفهم منه قتل الرجال القادرين على القتال، ولكن لم يرد في الحديث ذكر لسبي النساء والأطفال. ويجب على القارئ أن يتذكر أن الحكم الذي اختاره من حكموا في قضيتهم هو نفسه الحكم الذي كان يعاقب به اليهود أعداءهم تقريبا (¬1) وهو موجود في شريعتهم. ¬

(¬1) ذكرنا أنه نفس العقاب تقريبا لأن اليهود كانوا يعاقبون أسراهم بأكثر من ذلك، وقد ورد في التوارة في سفر العدد الأصحاح 31/ 6 - 35 ما يلي: =

وهناك من الوجوه والنظائر أن بني قريظة لو فوضوا أمرهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ما حكم فيهم إلا بالخروج من المدينة إلى خيبر، ويدل على ذلك ما فعله مع بني القينقاع وبني النضير، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد استثنى برحمته وكرمه بعضا من بني قريظة أيضا، فقد أمره على سبيل المثال بالإفراج عن الزبير اليهودي مع أهله وعياله وأولاده وماله، كما عفا عن قتل رفاعة ابن شمويل اليهودي (¬1). ¬

= وسبي بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار وسخط موسى وقال: هل أبقيتم كل أنثى حية؟ فالآن اقتلعوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها، لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن لكم حيات. ([ص:266]). وكذلك جاء في رك ويد مندل 4 منتر 16 رجا 10، أنه أهلك ودمر خمسين ألفا من الأعداء السود في الحرب (عن قديم هندوستان [ص:34]). وورد في مندل 10 منتر 49 رجا 7: نحن قطعنا العبيد في قطعتين وقد خلقهم القدر لذلك. وورد في مندل 2 منتر 20 رجا 6، 107. "إندر الذي قتل ورترا ودمر بلدة بلدة وقرية قرية والذي دمر جيش العبيد السود"، عن كتاب حضارة الهند القديمة آرسي، دت [ص:37]. (¬1) تاريخ الطبري [ص:58] / 57، 2/ 591، ابن هشام 2/ 244.

فصل

فصل قتال النصارى •---------------------------------• كانت علاقة النبي بالنصارى علاقة طيبة، وقد عاداه حاكم أو اثنان من هؤلاء إلا أن جمهورهم كان بمعزل عن ذلك، وهذا ما توضحه الأحداث فقد وقعت حرب واحدة مع حاكم نصراني، كما انتشر خبر مفاده الخروج (أو السفر) للقتال، ولا شيء غير هذا. الثأر لداعية الإسلام أو غزوة مؤتة في جمادي الأولى 8 هـ: مؤتة بلدة بالشام حيث أمر شرحبيل بن عمرو الغساني بقتل الحارث بن عمير الأزدي سفير رسول الله وكان يحمل كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ملك الروم. وقد عرض قتل الحارث أرواح سفراء رسول الله للخطر، لهذا أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، ولم يبدي حاكم غسان الندم على ما فعل بل استعد للقتال، وحدث أن قدم هرقل إلى هذه المنطقة في جيش قوامه مائة ألف، وانضم إليه من قبائل النصارى العرب التي كانت تقطن الصحراء كلخم وجذام وبلقين (بلقيس) وبهرام، حوالي مائة ألف. ولهذا طلب حاكم غسان بعض جنود الملك وجمع القبائل، والحاصل أن عدد جنود العدو وصل مائة ألف، واضطر المسلمون إلى القتال، وقد قتل في هذه المعركة زيد بن حارثة وهو من القادة المسلمين العظام وحبيب رسول الله (¬1) وجعفر بن أبي طالب (الطيار) شقيق علي المرتضى الأكبر عن ثلاثة وثلاثين سنة (¬2) بعد أن جرح أكثر من تسعين جرحا، وكذا قتل عبد الله بن رواحة الصحابي الكريم الذي تولى قيادة الجيش بعد جعفر رضي الله عنه، وحين تولى خالد بن الوليد قيادة الجيش وبعد قتال يوم ونصف اضطر إلى الخروج من المعركة فقد كانت جيوش الأعداء تفوق جيش المسلمين بأكثر من أربعين ضعفا وقد تكسرت في يد خالد بن الوليد تسعة سيوف (¬3) وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفس اليوم وهو ¬

(¬1) أصيب زيد بن حارثة بالرمح في صدره وسقط من فرسه وكانت الراية بيده، فأخذها جعفر الطيار رضي الله عنه، فعقر المهاجمون فرسه فصار ماشيا فضرب رجل بالسيف يمينه فأخذ الراية بيساره، وضربت يساره أيضا، ولهذا لقب بذي الجناحين (انظر ابن خلدون). (¬2) صحيح البخاري عن ابن عمر باب غزوة مؤتة. (¬3) البخاري في باب غزوة مؤتة.

سفر تبوك رجب 9هـ

بالمدينة عن مقتل هؤلاء الصحابة وعن مصير الحرب وبعد الحرب لقب خالد بن الوليد بسيف الله (¬1). سفر تبوك (¬2) رجب 9 هـ: في رجب سنة تسع من الهجرة قدمت قافلة من الشام وأعلنت أن جيش قيصر يعد العدة للهجوم على المدينة ومعه من قبائل العرب النصرانية لخم وجذام وعاملة وغسان وغيرها وكأنهم يريدون الانتقام من الهزيمة التي لحقتهم في مؤتة، لحقت بعامل القيصر وبجيش القيصر. ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من المناسب أن يلقى الجيش المهاجم قبل أن يدخل أرض العرب حتى لا يضطرب الأمن الداخلي للبلاد. وكانت هذه المواجهة مع إمبراطورية تحكم نصف الدنيا، وكان جيشها قد فرغ مؤخرا من هزيمة جيش الإمبراطورية الإيرانية وكان المسلمون يفتقدون إلى العدة والعتاد، وكان السفر طويلا، وكان فصل الصيف الحار والثمار قد طابت وأينعت والناس قد تعودوا الجلوس في ظلال أشجارهم يأكلون ثمارها. أعد رسول الله فهرسا لجمع الأموال لتجهيز الجيش. فتبرع عثمان بن عفان بتسعمائة بعير ومائة فرس وألف دينار ونال لقب: "مجهز جيش العسرة" - وقدم عبد الرحمن بن عوف أربعين ألف درهم، وأتى عمر بن الخطاب بنصف ما عنده في البيت من أثاث ومال وبلغ ثمنها عدة آلاف دينار، أما أبو بكر الصديق فرغم أن ما قدمه كان يبدو قليل القيمة إلا أنه قدم كل ما في بيته ولم يترك لبيته سوى "حب الله والرسول". وقدم أبو عقيل الأنصاري صاعا من التمر، وقال: سقيت طول الليل زرعا بصاعين من تمر، فتركت صاعا للعيال وأتيت بصاع في سبيل الله، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -؛ أنثروه على جميع الأمتعة الثمينة. وهكذا قدم كل صحابي ما يملك بإخلاص وسعة قلب، ولم يتخلف سوى 82 رجلا من المسلمين الأعراب بقوا في بيوتهم مختلقين بعض الأعذار، وكان عبد الله بن أبي بن سلول المنافق الأكبر قد طمأن هؤلاء، فقال لهم: إن محمدا وأصحابه لن يتمكنوا من العودة لأن قيصر سيقبض عليهم ويرسلهم إلى بلاد متفرقة. ¬

(¬1) البخاري عن قيس بن أبي حازم. (¬2) لأن حربا حقيقية لم تحدث لهذا سميتها خروجا للقتال أو سفرا والمؤرخون يسمونها غزوة تبوك لأنها كانت سفرا بهدف الدفاع العسكري.

وسار نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في جمع من ثلاثين ألفا إلى تبوك. واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة (¬1)، وعهد إلى علي بن أبي طالب (¬2) القيام على أمور أهل بيته. وكان الجيش يعاني من قلة في وسائل النقل حتى أن ثمانية عشر شخصا كانوا يتناوبون بعيرا واحدا، ولقلة المؤن والأطعمة اضطروا لأكل أوراق الأشجار فتورمت شفاههم، ولم يجدوا ماء في بعض الأماكن التي نزلوا فيها فاضطروا إلى ذبح الإبل الخاصة بالركوب فكانوا يشربون من ماء الأمعاء (¬3). وهكذا تحملوا جميع المتاعب بصبر وثبات حتى وصلوا إلى تبوك. ولم يكد جيش المسلمين يصل إلى تبوك حتى لحق بهم علي بن أبي طالب وراح المنافقون فيما بعد يغيظون عليا رضي الله عنه ويقولون إنما تركه النبي لأنه استثقله فأراد أن يتخفف منه، فأخذته رضي الله عنه الغيرة فانطلق حتى وصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن تحمل مشقة السفر الطويل وتورمت قدماه - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أفلا ترضى أنك مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي" (¬4) سمع علي المرتضى هذا فرجع إلى المدينة فرحا مسرورا. وفي تبوك أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - شهرا، وقد أحدثت هذه الخطوة أثرها على أهل الشام. فتخلوا عن فكرة الهجوم على العرب ورأوا أن أحسن وأفضل وقت لذلك بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي تبوك (¬5) ألقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة الفجر خطبة وجيزة بليغة ويمكن أن نقسمها ¬

(¬1) الطبري 3/ 103 ويقال محمد بن مسلمة الأنصاري. (¬2) البخاري ومسلم. (¬3) مدارج النبوة. (¬4) صحيح البخاري عن مصعب بن سعد عن أبيه، باب غزوة تبوك، كان موسى عليه السلام قد استخلف هارون على بني إسرائيل وحين أتم ميقات ربه أربعين يوما في جبل الطور، وقد وردت هذه الواقعة في القرآن الكريم بالتفصيل، والنبي الذي استخلفه موسى بعد وفاته هو يوشع بن النون. (¬5) كانت كنيسة فيلاديلفيا القديمة التي ورد ذكرها في رؤيا يوحنا (الأصحاح 3/ 7 - 13) مجاورة لتبوك، وكان العرب يسمونها القصر، وقد عثر على أنقاضها في طريق سكة حديد الحجاز، ويذكر أن النصارى في العصر النبوي سكنوا هذه المنطقة ولهذا فقد نشر الإسلام فيهم أثناء قيام المسلمين في تبوك كما أبرمت معهم معاهدات، وكان لمن بقي منهم على النصرانية حريته الدينية، وكان =

إلى خمسين فقرة كل فقرة تحمل معنى كبيرا، فبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال - صلى الله عليه وسلم -: فإن أصدق الحديث كتاب الله وأوثق العرى كلمة التقوى. وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عوازمها وشر الأمور محدثاتها وأحسن الهدي هدي الأنبياء وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، خير الأعمال ما نفع، خير الهدى ما اتبع وشر العمى عمى القلب واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضره الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا، ومنهم من لم يذكر الله إلا هجرا، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذاب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من حر جهنم، والسكر كي من النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، وشر المأكل مأكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وملاك العمل خواتمه، وشر الرؤيا رؤيا الكذاب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتعال على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر الله له، ومن يعف يعف الله عنه ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعصى الله يعذبه الله، ثم استغفر ثلاثا (¬1). ¬

= المسلمون يتولون مسئولية الحفاظ على أموالهم وأرواحهم، وكان في هذه الناحية إمارات نصرانية صغيرة مثل إمارة أكيدر في دومة الجندل، وإمارة يوحنا في أبلة، وكان أهل أذرج أيضا على النصرانية وتمتعوا بالحرية فتركوا على ما كانوا عليه، والمعاهدات التي عقدت معهم تدل دلالة واضحة على مدى ما كان بين المسلمين وبينهم من تسامح ومودة وكرم، وقد سمع النصارى اسم أورشليم والإله الجديد الذي ورد في رؤيا يوحنا (الأصحاح 3/ 12) في هذا المكان - وأكيدر حاكم دومة الجندل الذي أسره خالد بن الوليد وهو يصطاد، حضر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعقدت معه معاهدة ثم أسلم فيما بعد. (¬1) البيهقي (متوفي 558 هـ) في الدلائل والحاكم من حديث عقبة بن عامر نقلا من زاد المعاد مجلد 1/ 462، 3/ 541.

وفاة ذي البجادين

وفاة ذي البجادين: توفي ذو البجادين أثناء الإقامة في تبوك، وذكر هذا المخلص يوضح مدى لطف النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنايته بالفقراء المخلصين من الصحابة، واسمه عبد الله، توفي والده وهو طفل فرباه عمه ولما شب أصلح عمه حاله بأن وهبه الإبل والغنم والعبيد، سمع عبد الله عن الإسلام فتشوق قلبه إلى التوحيد، إلا أنه كان يخاف عمه لدرجة جعلته لا يستطيع إعلان إسلامه وحين عاد النبي من فتح مكة قال عبد الله لعمه: "يا عمي مضت سنوات وأنا أنتظر أن تتحرك فيك رغبة للإسلام فتسلم، ولكن حالك لم يتغير وعمري قد لا يطول كثيرا فاسمح لي أن أسلم". قال عمه: انظر لو أردت أن تقبل دين محمد فسوف أسلبك كل ما عندك حتى الإزار والرداء. قال عبد الله: "يا عمي لأسلمن وأتبعن محمدا، فقد تأذيت كثيرا من الشرك والوثنية، فافعل ما تشاء، ولتأخذ مالي وكل ما أملك، فإني أعلم أني تاركه في الدنيا جميعه في يوم ما، ولهذا لا يمكن أن أترك في سبيله الدين الحق". قال عبد الله هذا وخلع عنه ثيابه وذهب إلى أمه كما ولدته، رأته أمه فتحيرت وسألته عما جرى، فقال عبد الله؛ أصبحت مؤمنا وموحدا بالله وأريد الذهاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحتاج إلى ما أستر به عورتي، فأعطته أمه بجادا، فشقه عبد الله إلى شقين، اتزر بواحد واشتمل بواحد، ووصل المسجد النبوي في الفجر وظل إلى جدار المسجد ينتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل المسجد المبارك، رآه فسأله عمن يكون، فقال: اسمي عبد العزى، فقير مسافر، عاشق جمال وطالب هداية، جئت تاركا ورائي كل شيء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، اسمك عبد الله، ولقبك ذو البجادين، انزل قريبا منا واسكن المسجد. انضم عبد الله إلى أصحاب الصفة (¬1)، يتعلم القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتلوه بشوق ¬

(¬1) الصفة هي الأريكة أو المقعد، وكان في صحن المسجد النبوي مكان يشبه الأريكة، يقيم فيه المسلمون الذين تخلوا عن مال الدنيا ومتاعها، وعن دعتها وذلك ليتعلموا الدين وأحكام =

وحماس وذوق ونشاط. وذات مرة قال عمر الفاروق: إن الناس يصلون وهذا الأعرابي يرفع صوته لدرجة أنة يشوش عليهم في القراءة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمر، لا تقل له شيئا، لقد جاء تاركا كل شيء في سبيل الله ورسوله. وجاء عبد الله إلى رسول الله أثناء الاستعداد لغزوة تبوك وقال له: ادع لي أن أفوز بالشهادة في سبيل الله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اذهب فأحضر قشرة من شجرة، وحين عاد عبد الله بالقشرة، ربطها النبي - صلى الله عليه وسلم - على عضده وقال: اللهم أحرم دمه على الكفار" فقال عبد الله، إني أطلب الشهادة يا رسول الله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: حين خرجت بنية الغزوة، وأصبت بالحمى فمت فأنت شهيد. وهكذا حدث ما قاله الرسول، فحين وصل عبد الله إلى تبوك أصيب بالحمى وانتقل إلى رحمة الله، قال بلال بن الحارث المزني، لقد رأيت دفن عبد الله. كان الوقت ليلا، وكان في يد بلال مصباح وأبو بكر وعمر كانا يضعان جسده في اللحد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد نزل القبر وهو يقول: أدبا إلى أخيكما" ثم وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - اللبنة بيديه على القبر ودعا له قائلا: "اللهم إني أمسيت راضيا عنه فارض عنه" (¬1). قال عبد الله بن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة. ووصل النبي - صلى الله عليه وسلم - سالما إلى المدينة قادما من تبوك وندم المنافقون الذين ظنوا أن محمدا وأصحابه سيؤسرون وينفون إلى جزيرة بعيدة، ولن يصلوا إلى المدينة سالمين، فجاءوا يعتذرون عن عدم خروجهم معه وقد اختلقوا الأعذار، فعفا عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ثلاثة من الصحابة المخلصين لم يشتركوا في الذهاب مع النبي نظرا لضعف عادي أو تكاسل منهم، وهؤلاء تعرضوا لامتحان بسبب صدقهم. ومن بينهم صحابي كبير أرى ¬

= الشريعة، ولذلك عرفوا بأهل الصفة في الإسلام، وقد تحمل هؤلاء بلاء الجوع والظمأ وآلام الحر والبرد، ولكنهم لم ينصرفوا عن دروس القرآن الكريم وتعليم الإسلام، ومن هؤلاء كان يتم إعداد الدعاة الذين يذهبون لنشر الإسلام في مختلف أرجاء العالم، ومنهم أبو هريرة الذي حفظ آلاف الأحاديث النبوية وبلغ دين الله، انظر كتابنا، سبيل الرشاد أي الرحلة الحجازية. (¬1) ابن هشام 2/ 527 مدارج النبوة 2/ 423.

امتحان شديد لكعب بن مالك رضي الله عنه

من الضروري إثبات ما قاله بلسانه عن نفسه، وهذا الصحابي هو كعب بن مالك الأنصاري، وكان من بين الثلاثة والسبعين الذين حضروا بيعة العقبة الثانية، وكان من خاصة الشعراء. امتحان شديد لكعب بن مالك رضي الله عنه: قال كعب: كان تخلفي من هذا السفر وبقائي في بيتي ابتلاء محض، ولم تكن هذه إرادتي ولم يكن لي عذر في هذا الأمر، وكان جميع عتاد السفر جاهز، وكنت أمتلك أفضل النوق، وكانت حالتي المالية أحسن مما كانت عليه من قبل وكنت اشتريت استعدادا لهذا السفر راحلتين، بينما لم يجتمع لدي راحلتان من قبل، وبينما كان الناس يعدون العدة للسفر رأيتني أتكاسل وفكرت بأن أمضي يوم الرحيل، ويوم غادر جيش المسلمين، كان لدي عمل بسيط فقلت، لأذهب في الغد، وهكذا مضى يومان أو ثلاثة وأنا في هذا التكاسل والتردد، ومضى الجيش بعيدا حتى أنه صار من الصعب اللحاق به، وصدمت مما حدث. فخرجت يوما من البيت، فلم أر إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا مما عذر الله من الضعفاء. ولم يقابلني في الطريق سوى هؤلاء، واعتصرني الألم والحزن ومرت الأيام على هذا الحال حتى عاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتحيرت ماذا عساي أفعل وماذا أقول وكيف أنجو من سخط رسول الله، وعلمني الناس بعض الحيل والذرائع إلا أنني قررت بأن النجاة لا تكون إلا بالصدق، وحضرت في نهاية الأمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ورآني النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبسمم تبسم الغاضب، وذهب عني عقلي. سألني النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما خلفك يا كعب، ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قلت: يا رسول الله، كان عندي كل شيء، غافلتني نفسي وغلبني ضعفي، وأضلني الشيطان وأوقعني في دوامة الحرمان والخذلان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الزم بيتك حتى يقضي الله فيك أمره. فقال بعض الناس: لو أنك اختلقت عذرا وحيلة لما حدث هذا، فقلت، إن الوحي الإلهي سيفضح كذبي وهكذا لن يبقى أي مكان، فالأمر لا يتعلق بالدنيا بل برسول الله" وسألت: هل لقي أحد غيري مثلما لقيت؟ قال الناس: نعم هلال بن أمية ومرارة بن

ربيع، فلما سمعت هذا اطمأن قلبي، فقد كانا رجلين صالحين ولي فيهما أسوة. ثم أصدر رسول الله حكمه ونهى الناس عن التحدث معنا وعن مخالطتنا، وهكذا صارت لنا الدنيا وبالا، وبقي الاثنان هلال ومرارة لا يبرحان بيتهما فقد كانا عجوزين، ولكني كنت شابا وشجاعا، أخرج من البيت وأنصب إلى المسجد أصلي وأجلس في ركن من أركان المسجد. وكنت إذا أقبلت على صلاتي نظر إلي رسول الله وإذا التفت نحوه أعرض عني، ولم يكن أحد من المسلمين يكلمني أو يرد على سلامي، وخرجت يوما من المدينة وأنا في غاية الألم، فوصلت إلى بستان لابن عمي وحبيبي أبي قتادة كان يقيم عليه حائطا، فسلمت عليه، فلم يرد السلام ولم يلتفت حتى إلي، فقلت: يا أبا قتادة، أنت تعلم أني أحب الله ورسوله، وليس في قلبي ذرة من نفاق أو شرك فلماذا لا تكلمني؟ فسكت أبو قتادة ولم يرد، ولما ناشدته الحديث للمرة الثالثة ما زاد على أن قال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وانخرطت في البكاء، ورجعت إلى المدينة، فقابلني رجل نصراني، كان يبحث عني في المدينة، فأشار الناس إلي، فأعطاني الرجل كتابا من ملك غسان مكتوب فيه: سمعنا أن سيدك قد جفاك، وطردك من مجلسه، وجفاك جميع الناس أيضا، نحن نعرف قدرك ومنزلتك، لم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فألحق بنا بعد قراءة هذا الخطاب، فنحن نعرف كيف نكرمك ونعزك". فقلت حين قرأت الكتاب، وهذا بلاء آخر، وأي بلاء أكبر من أن يطمع في وفي ديني رجل نصراني فيأتي يدعوني إلى الكفر، وزاد حزني وغمي ووضعت الرسالة في النار وقلت للرسول حامل الكتاب: اذهب وقل لمن أرسلك إن سخط صاحبي أحب إلي من رضاك. وحين رجعت إلى البيت وجدت رسولا من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أتاني فقال لي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك؟ فسألته: أطلقها أم ماذا؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها، فأرسلت زوجتي إلى أهلها، وعلمت أن هلال ومرارة أرسل إليهما بمثل ما أرسل إلي، فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله، وقالت إن هلال بن أمية شيخ كبير لا خادم له أتأذن لي في أن أخدمه، فقال: نعم ولكن لا يقربنك فقالت: يا رسول الله، إن ما به من غم وحزن لا يجعلانه يفكر في شيء .. فقال لي بعض الناس: ماذا لو استأذنت رسول الله لامرأتك، فقلت: أنا لا أجرؤ

على ذلك فما أدري ما يقول رسول الله وأنا رجل شاب، يمكن أن أخدم نفسي. وهكذا مضى خمسون يوما على هذه المصيبة (¬1)، وبينما كنت راقدا أفكر في مصيبتي تلك، صعدت إلى جبل سلع (¬2) قريبا من بيتي، فسمعت أبا بكر الصديق ينادي: فلتبشر يا كعب فقد قبلت توبتك". وقدم أصدقائي وأحبابي على هذا الصوت من بعيد وراحوا يبشرونني بقبول توبتي، فخررت ساجدا، وبعد أن أديت سجدة الشكر انطلقت إلى رسول الله. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس مع المهاجرين والأنصار، رآني المهاجرون فباركوا لي قبول توبتي وأما الأنصار فسكتوا، فتقدمت وسلمت، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استبشر كأن وجهه قطعة قمر، وكان - صلى الله عليه وسلم - من عادته أن يبرق وجهه من السرور. قال: أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، أقدم فقد قبل رب العالمين توبتك. فقلت: إن من توبتي أن أنخلع عن مال صدقة إلى الله وإلى رسوله. فقال: أمسك عليك بعض مالك؟ فقلت: النصف. ¬

(¬1) استغرق سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك خمسين يوما ولذا عزل المتخلفين عن أهلهم وعن المسلمين مثل هذه المدة. (¬2) ورد ذكر جبل سلع في حديث البخاري وعليه نعرف أنه يقع داخل المدينة وكان بيت الصحابي كعب ابن مالك على مقربة منه، وقد ذكر الطبري في بيانه لغزوة الخندق عن ابن إسحاق: وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هناك عسكره والخندق ... إلخ". وهذا يدل على أن المسلمين في غزوة الخندق حين حوصروا في المدينة وهم يواجهون الأعداء نزل الجيش الإسلامي قريبا من جبل سلع، وكان المسلمون أنذاك أمامهم الخندق وسلع من خلفهم، ولحسان بن ثابت شعر في غزوة الخندق يذكر فيه موت عمرو بن عبد ود فيقول: أمسى الفتى عمرو بن عبد ثاويا ... بجنوب سلع ثارة لم ينظر وقد جاء هذا البيت من الشعر في قصيدة كعب بن مالك عن غزوة الخندق. ألا أبلغ قريشا إن سلعا ... وما بين العريض إلى العماد ولننظر مع هاتين الروايتن ما ورد في كتاب النبي اشعيا، (الأصحاح 43/ 15) والذي ذكر فيه سكان سلع ويتضح منه بجلاء أن اسم المدينة في كتب الأنبياء كان سلع.

قال: لا. فقلت: الثلث. قال: نعم الثلث، الثلث خير لك. الحمد لله، فقد انتهت الفتنة وانتهى الشر الذي أثاره الأعداء لسنوات، والذي سمم بالبغي والفساد جميع قبائل العرب، ووسط جميع تلك الحروب كان للمودة البالغة والرحم الذي لا نظير له من قبل رسول الله أثرهما في تعريف العالم كله بالأصول الحضارية والشجاعة للقتال. فقد كانت جميع تلك الحروب حروبا اضطرارية خاضها رسول الله دينية والمسلمون اضطرارا على مدار سبع سنوات. ولهذا فالقارئ لن يرى أن المسلمين قد بدأوا أي حرب وكانت جميع هذه الحروب حروبا دفاعية لصد هجوم المعتدين واتقاء لشرهم، ولم يحدث أن قتل رجل واحد طوال العصر النبوي لمجرد كونه وثنيا أو مجوسيا أو نصرانيا أو يهوديا. وقد أوضح الله تعالى بجلاء في القرآن الكريم أن الاختلاف الديني والعقدي قديم في هذا العالم وسيظل على الدوام لا ينتهي أبدا ولهذا لا يجوز إكراه أحد من أجل الدين، والآيات التالية توضح ذلك: - {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256). - {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} (يو نس: 99). - {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (هود: 118، 119) - {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص: 56) - {نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} (ق:45). - {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} (الغاشية: 21، 22).

أسرى الحرب

أسرى الحرب: أرى من المناسب قبل الانتهاء من الحديث عن الحرب أن نلقي الضوء على معاملات النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أسرى الحرب. كانت الأمم والحكومات قبل الإسلام تتعامل مع أسرى الحرب بوحشية تقشعر منها الأبدان. كان تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الأسرى يتم بطريقتين: - الاعتاق بعد دفع الدية. - الاعتاق والعفو عن الدية. وقد وقع الأسرى في يد المسلمين أول مرة في غزوة بدر وكانوا أهل مكة، ألد أعداء المسلمين، وقد عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أولا على الصحابة، فقال بعض الصحابة ومعهم أبو بكر الصديق بأخذ فدية عن الأسرى وإطلاق سراحهم، وأيدوا رأيهم هذا بأمرين: 1 - يمكن الاستفادة بالفدية في إصلاح عتادهم وعدتهم. 2 - يمكن لهؤلاء الأسرى أن يدخلوا الإسلام بعد إطلاق سراحهم، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام. وكان رأي عمر الفاروق ومن معه من الصحابة هو قتلهم، وقالوا في تأييد رأيهم أن: 1 - هؤلاء أئمة الكفر وقادة الشرك لذا يجب الإطاحة برقابهم. 2 - لقد نصرنا الله عليهم ولهذا فعلى المسلمين أن يقتصوا منهم. فأعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - برأي أبي بكر، أي أخذ الفدية من الأسرى، على أن يقوم من لا يستطيع دفع الفدية بتعليم أولاد الأنصار القراءة والكتابة. ويظن بعض الناس حتى الآن أن رأي عمر الفاروق كان الأصوب، ويستدلون على ذلك بالجزء الأول من الحديث الذي يذكر أنه لما كان من الغد رأى عمر رسول الله وأبا بكر يبكيان ولكن طائفة من العلماء ترجح رأي أبي بكر مستدلة بالأسباب التالية:

1 - وجود حكم سابق في القرآن الكريم يؤيد رأي أبي بكر. 2 - هذا الرأي يتضمن الرحمة التي هي أوسع من كل شيء. 3 - شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المذكور أبا بكر بإبراهيم وعيسى وشبه عمر بنوح وموسى. 4 - رأي النبي كان موافقا لرأي أبي بكر. 5 - أقر رب العالمين أيضا هذا الرأي. 6 - صح ظن أبي بكر، فقد أسلم فيما بعد كثير من هؤلاء الأسرى، وأصلح المسلمين بمال الفدية أحوالهم. والحاصل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق سبعين من أسرى بدر بعد قبول الفدية، وكان قد أبقاهم كضيوف على المسلمين ولا تزال بياناتهم مسطرة، وقد قالوا أن أهل المدينة كانوا يهتمون بهم أكثر من أولادهم، وقتل من الأسرى اثنان (عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث). وكان هذا العقاب لسبب جرائمهم السابقة التي جعلت من قتلهم أمرا ضروريا. وبعد غزوة بدر، أسر المسلمون مائة رجل وامرأة في غزوة المصطلق، وأطلق سراحهم جميعا دون فدية. وقد أكرم النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة منهم - هي جويرية - بإدخالها في أمهات المؤمنين. وفي الحديبية أسر ثمانون من مهاجمي جبل التنعيم فأطلق النبي سراحهم دون شرط ودون فدية. وفي غزوة حنين أطلق سراح ستة آلاف رجل وامرأة دون فدية ودون شرط، وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم -، من عنده مالا عوضا عن فك بعض الأسرى، وسرح معظمهم بعد أن أعطاهم هدايا. ويثبت من كل هذه الوقائع والدلائل أن رحمة للعالمين - صلى الله عليه وسلم - كان يعامل أعداء المهاجمين له بعد الانتصار عليهم برحمة ولين. وتذكر كتب الأحاديث واقعة تبادل بين الأسرى. وكان من أثر هذه التربية الطاهرة التي ربى عليها النبي أصحابه، أن قام الخلفاء

الراشدون بفتح مئات المدن في العراق والشام ومصر وكامل الجزيرة العربية وإيران وخراسان. ولم يحدث أن استرقوا أحدا من المحاربين أو الرعايا كما لم يأخذوا فدية من المنهزمين. ومع أن هذه الحروب كانت بلاء شديدا على المسلمين إلا أن رب العالمين قد جعل فيها حكمة، إذ قدم الإسلام للبشرية وللعالم نموذجا للحرب "الدفاعية" بما فيها من تعاطف إنساني ورحمة ولطف.

الباب الثاني

الباب الثاني إرسال الرسل إلى الملوك من أتباع الديانات الأخرى في مختلف البلاد للدعوة إلى الإسلام ومواقفهم من الدعاة •---------------------------------• من خصائص نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي لا توجد في نبوة ورسالة بقية الأنبياء عليهم السلام، خصوصية بارزة وهي أنه - صلى الله عليه وسلم - قدم الإسلام كدين وحيد للعالم أجمع. ولذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ الإسلام في أصحاب الديانات والأمم الأخرى في بداية زمان الدعوة في وقت لم يكن فيه أهل مكة قد عرفوا الإسلام بطريقة جيدة. ويعد بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وعداس النينوائي الذين دخلوا الإسلام من الثمار الأولى من الحبشة واليونان وإيران ووسط آسيا. والآيات القرآنية توضح هذا بجلاء: - {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} (34: 28). - {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كل}. (61: 9) و (48: 28) - {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (21: 107). - {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} (7: 158). وانطلاقا من التوجيه الوارد في الآيات الكريمة أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - الرسائل التالية إلى رؤساء الأمم والأديان المختلفة، وأوضح لكل منهم أن إثم رفض الإسلام لا يقع عليهم فقط بل سيقع وزر ذلك على أمتهم أيضا لأنهم بإنكارهم للإسلام يمنعون أمتهم من الهداية، ذلك لأن سحب ضلالتهم سوف تمطر عليهم أيضا لأن هذا الأمر ليس أمرا شخصيا بل هو موجه لهم بصفتهم رؤساء أقوامهم.

ونذكر هنا بإيجاز أخبار هذه السفارات

ومثل هذا الإجراء الذي اتخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للدعوة إلى الإسلام لا نظير له في تاريخ الديانات السابقة، فلم يسبق لأحد من اتباع الديانات الأخرى اتخاذ مثل هذا الإجراء. ولما كنا نحترم ونقدر داعي كل ديانة صادقة فإننا نستنتج من صمتهم وسكوتهم أن الدعاة كانوا يرون أن دينهم قاصر على أمتهم التي أرسلوا إليها (¬1) دون غيرها من الأمم، فلو خالف اليوم أتباعهم سلوكهم فهذا أمر خاص بهم هم ولا يمكن أن يكون حجة من الناحية الدينية. في غرة محرم من السنة السابعة للهجرة أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - سفراءه حاملين رسائل الدعوة إلى الإسلام إلى ملوك العالم، وكان كل واحد منهم يعرف لغة القوم الذين أرسل إليهم حتى يمكنه القيام بالدعوة على أحسن وجه (¬2). ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اتخذ خاتما بعد، فلما كتبت الرسائل إلى ملوك العالم صنع لهذا خاتم من فضة لدمغها به ونقش عليه "محمد رسول الله" (¬3) ويفهم من هذه الرسائل أن ما أرسل منها إلى ملوك النصارى كان يكتب فيها بصفة خاصة الآية التالية: {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ...} (3: 64). ونذكر هنا بإيجاز أخبار هذه السفارات: 1 - رسالة إلى ملك الحبشة: حمل رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملك الحبشة أصحم بن أبجر الملقب بالنجاشي، عمرو ابن أمية الضمري، وكان النجاشي نصرانيا، وننقل هنا هذه الرسالة عن الطبري: ¬

(¬1) كان المسيح عليه السلام يقول: أرسلت لخراف بني إسرائيل الضالة. (¬2) الخصائص الكبرى، المجلد الثاني عن ابن أبي شيبة [ص:1]. (¬3) جاء في البخاري عن أنس بن مالك أن خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في يده، وكان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم يلبسونه في زمان خلافتهم وفي آخر عهد خلافة عثمان سقط في بئر بالمدينة ورغم البحث عنه فلم يجده أحد. البخاري نقش الخاتم.

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، أسلم أنت، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه الله من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده ونفخه وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا ونفرا معه من المسلمين فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر فإني أدعوك وجنودك إلى الله، فقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى". وقد أسلم النجاشي بعد قراءة هذه الرسالة وبعث بالجواب التالي: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن الأبجر، سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، من الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام، أما بعد، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقا، إنه كما قلت وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه، فاشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك ابني ارها بن الأصحم بن أبجر فإني لا أملك إلا نفسي وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق والسلام عليك يا رسول الله. 2 - كان منذر بن ساوي ملك البحرين يدفع الخراج إلى إمبراطور الفرس، وقد حمل إليه رسالة رسول الله علاء بن الحضرمي، وقد أسلم هو أيضا وأسلم معه العدد الأكبر من رعاياه، وكتب إلى رسول الله في جواب رسالته أن بعض الناس أحبوا الإسلام كثيرا، وبعضهم كرهه، وبعضهم عارضه فإن في أرضي كثير من اليهود والمجوس فأخبرني ماذا يكون في شأنهم. فردعليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ... من ينصح فإنما ينصح لنفسه .. ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية" (¬1) ¬

(¬1) انظر النص الكامل في زاد المعاد 3/ 692.

3 - وأرسل النبي إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملك عمان رسالة مع عمرو بن العاص وطبقا لرواية عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه لما وصل إلى عمان التقى أولا بعبد وكان رئيسا وكان أكثر مرونة ولطفا من أخيه وعلى خلق، فأخبرته أني سفير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه وإلى أخيه. قال عبد: أخي أكبر مني عمرا وهو ملك البلاد، أوصلك إليه ولكن أخبرني إلى ما تدعو إليه. قال عمرو بن العاص: أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. قال عبد: يا عمرو إنك ابن سيد قومك، فماذا صنع أبوك حتى يكون لنا قدوة. قال عمرو بن العاص: مات ولم يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ووددت لو أنه كان أسلم وصدق به وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام. قال عبد: فمتى تبعت محمدا؟ قال عمرو بن العاص: منذ فترة بسيطة. فقال عبد: وأين كان ذلك؟ قلت: في بلاط النجاشي، والنجاشي قد أسلم. عبد: فماذا فعل الرعايا بملكهم؟ عمرو: أقروه وأسلموا. عبد: وهل تبعه الأساقفة والرهبان أيضا؟ عمرو: نعم. عبد: انظر يا عمر ما تقول، فليس من خصلة في رجل أفضح له من الكذب. عمرو: ما كذبت وما نستحله في ديننا عبد: ماذا فعل هرقل، هل علم بإسلام النجاشي؟ عمرو: نعم.

عبد: كيف علمت ذلك؟ عمرو: كان النجاشي يخرج له خرجا، فلما أسلم وصدق بمحمد قال: لا والله لو سألني درهما واحدا ما أعطيته، وبلغ هذا هرقل، فقال له أخوه بناق، أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا ويدين دينا محدثا؟ فقال هرقل، رجل رغب في دين فاختاره لنفسه ما أصنع به؟ والله لولا الضن بملكي لصنعت ما صنع. عبد: انظر يا عمرو ما تقول. عمرو: والله صدقتك عبد: فأخبرني ما الذي يأمر به "الإسلام" وينهى عنه؟ عمرو: يأمر بطاعة الله عز وجل، وينهى عن معصيته، وينهى عن الزنا وشرب الخمر وعن عبادة الأحجار والأوثان والصليب. عبد: ما أحسن الأحكام التي يدعو إليها، ليت أخي يتابعني عليه فنذهب حتى نبايع محمدا، ولكني أرى أخي أضن بملكه من أن يدعه. عمرو: إن أسلم ملكه النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومه فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم. عبد: هذا حسن لكن ما المقصود بالصدقة؟ فأخبره عمرو بن العاص بمسائل الزكاة، وحين أخبره أن للإبل أيضا زكاة، قال عبد: وتؤخذ الصدقة من مواشينا التي ترعى الشجر وترد الماء. فقال عمرو بن العاص: نعم. فقال عبد: والله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون هذا. والحاصل أن عمرو بن العاص مكث هناك أياما، وعبد ينقل لأخيه ما يقوله عمرو ابن العاص، وفي يوم من الأيام دعاه الملك، فدخل عليه فأخذ أعوانه بضبعه فقال دعوه، فأرسل فذهب ليجلس فأبوا أن يدعوه يجلس. فنظر إليه فقال له: - تكلم بحاجتك. فسلمه عمرو بن العاص رسالة النبي مختومة. ففض جيفر الخاتم وقرأ الرسالة ثم

دفعها إلى أخيه، ورأى عمرو بن العاص أن الأخ أرق وألطف من الملك. قال الملك: ألا تخبرني عن قريش، ماذا صنعت. فقال عمرو بن العاص، تبعوه جميعهم طوعا وكرها. فقال الملك: ومن معه؟. قال عمرو بن العاص: الناس الذين دخلوا الإسلام رغبة ورضا وتركوا كل شيء واتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الملك، ارجع إلي غدا. فالتقى عمرو بن العاص في اليوم التالي بأخي الملك أولا، فقال الأخ، إني لأرجو أن يسلم الملك إن لم يضن بملكه. والتقى عمرو بن العاص بعد ذلك بالملك، فقال الملك، لقد فكرت في الأمر مليا، إذا أطعت رجلا لا تبلغ خيله ههنا فإنني أكون أضعف العرب، وإذا بلغت خيله هنا قاتلتكم قتالا لم تشاهدوه من قبل. قال عمرو بن العاص، حسنا إني عائد غدا. قال الملك، لا أنتظر الغد. يقول عمرو بن العاص: "وفي اليوم التالي أرسل إلي الملك فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه كما أسلم معظم الرعايا" (¬1). 4 - وكان منذر بن حارث بن أبي شمر حاكما على دمشق وواليا على الشام، أرسل إليه شجاع بن وهب الأسدي برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ الرسالة وغضب كثيرا في البداية وقال: أنا ذاهب بنفسي للهجوم على المدينة، وفي النهاية كرم سفير النبي وأعاده معززا، ولكنه لم يسلم. 5 - وكان حاكم اليمامة هوذة بن علي نصرانيا، أرسل إليه سليط بن عمرو العامري برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال، سوف أسلم إذا أقر الإسلام لي نصف ملكي، وقد مات ¬

(¬1) زاد المعاد [ص:562].

هوذة بعد ذلك بأيام قليلة. 6 - وكان جريج بن متى الملقب بالمقوقس (¬1) النصراني ملكا على الاسكندرية ومصر، أرسل إليه الحاطب بن أبي بلتعة، وقد جاء في آخر رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أسلم تسلم فإن توليت فإن عليك إثم القبط" (أي أهل مصر). وقد سلم حاطب الرسالة إلى المقوقس، وأفهمه أيضا مضمونها، فقال: كان قبلك رجل كان يقول "أنا ربكم الأعلى" فأخذه الله نكال الدنيا والآخرة، فحين يحل غضب الله لا يبقى ملك ولا غير ذلك ولهذا فعليك أن تعتبر ولا يعتبر بك غيرك. قال الملك: إن لنا دينا لن نتركه، ما لم نجد خيرا منه. فقال حاطب ندعوك إلى دين الإسلام وهو يكفي عن بقية الأديان، وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الجميع إلى الإسلام فعارضته قريش وعادته اليهود، ولكن النصارى كانوا أقربهم منه وأحبهم إليه، وأقسم بالله ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل. وكل نبي أدرك قوما فهم من أمته ولهذا وجب عليهم أن يطيعوه وأنت ممن أدركه ولتؤمن بأننا ندعوك إلى دين المسيح. فقال المقوقس إني فكرت في أمر هذا النبي، وليس لدي أي رغبة الآن مع أنه لا ينهى عن مرغوب فيه، وأنا لا أجده بالساحر الضار ولا الكاهن الكاذب، وقد وجدت فيه علامة النبوة، وعلى كل حال سوف أفكر أكثر وأكثر في هذا الأمر. وأخذ رسالة النبي ووضعها في علبة من عاج وأمر بختمه ووضعه في خزانته. وأرسل للنبي بعض الهدايا وكتب ردا على رسالته: "قد علمت أن نبيا سيظهر وكنت أظن أنه يخرج بالشام" وهو الذي أهدى البغلة المعروفه بـ "دلدل" (¬2) .. ضمن ما أرسل من هدايا. 7 - كان هرقل ملك القسطنطينية أو الفرع الشرقي للإمبراطورية الرومانية نصرانيا، ¬

(¬1) اختلف علماء مصر وأوربا والعرب في أصل كلمة المقوقس، وقد ذكر بعض علماء أوربا جريج بن متى بأنه حورج بن مينا وكان رومي الأصل إلا أن أمه في الغالب كانت قبطية. (¬2) زاد المعاد ج3 [ص:520].

حمل إليه رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - دحية بن خليفة الكلبي (¬1)، فالتقى بالملك في مكان ببيت المقدس، فاحتفى به هرقل احتفاء عظيما، وسأله مستفسرا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأراد أن يعرف المزيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بإحضار كل من قدم من مكة إلى ملكه واتفق أن أبا سفيان كان قدم من مكة إلى الشام مع بعض التجار (¬2) في تلك الأيام، فطلب إلى بيت المقدس ودعى إلى البلاط، وقال القيصر للتجار المرافقين له: سوف أسأل أبا سفيان فإذا ما أخطأ جوابا ذكروا لي ذلك. وكان أبو سفيان في تلك الأيام من ألد أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يقول أبو سفيان، والله لولا الخوف من أن يكذبني أصحابي لكذبته ولكني استحييت أن يأثروا الكذب عني فصدقته. واستمر السؤال والجواب هكذا: القيصر: كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ أبو سفيان: شريف وعظيم. سمع هرقل هذا الجواب فقال، حقا النبي يكون من بيت شريف حتى لا يكون في إطاعته عار على أحد. قيصر: هل ادعى أحد من العرب أو من قريش النبوة من قبل؟ قال أبو سفيان: لا. فسمع هرقل هذا الجواب فقال: لو كان الأمر كذلك لظننت أنه يقلد من سبقه. قيصر: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول بالنبوة؟ قال أبو سفيان: لا. فقال هرقل، هذا لا يمكن لأن من لا يكذب على الناس لا يكذب على الله. قيصر: هل كان من آبائه ملك؟ أبو سفيان: لا. فقال هرقل بعد أن سمع هذا، أنا أرى أنه قد يكون ادعى النبوة ليحصل على ملك أبيه. قيصر: هل أشراف القوم يتبعونه أم ضعفاؤهم؟، أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. فقال هرقل: إن الضعفاء هم عادة أتباع الرسل. قيصر: هل يزيد أتباعه أم ينقصون؟ أبو سفيان: بل يزيدون. فقال هرقل، وكذلك الإيمان حتى يتم. قيصر: هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ أبو سفيان: لا. فقال هرقل: وهذا من أثر لذة الإيمان، فحين تقر في القلب ويثبت أثرها في الروح، فيبقى الإيمان ولا يزول. قيصر: هل نقض عهدا أو حنث بوعد؟ أبو سفيان: لا، ولكن بيننا وبينه عهد هذا العام ولنرى ¬

(¬1) ينتهي نسب دحية إلى ثور بن كلب وهو فرع كبير من قضاعة وهو من كبار الصحابة وقد شهد فيما بعد الكثير من الوقائع. (¬2) صحيح البخاري عن ابن عباس، كتاب الجهاد [ص:102] وكتاب الشهادات.

ما النتيجة. يقول أبو سفيان: لقد تمكنت فقط من إضافة هذه الفقرة، إلا أن قيصر لم يلتفت إليها وقال، بلا شك أنه لا يحنث بوعد ولا ينقض عهدا، فطالب الدنيا طالما ينقض العهد، أما النبي فلا حاجة له بالدنيا. قيصر: هل قاتلتموه أو قاتلكم؟ أبو سفيان: نعم، قيصر: فكيف كانت النتيجة؟ أبو سفيان: يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى. فقال هرقل، هذا هو حال الأنبياء تبتلى وتكون لها العاقبة فتنال النصر من الله. قيصر: فماذا يأمركم به؟ أبو سفيان: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ويأمرنا بالصلاة والزكاة والعفاف والصدق وصلة الرحم. فقال هرقل: هذه هي علامات النبي المولود قد كنت أعلم أنه ظاهر. ولكن لم أعلم أنه من العرب وأن يك ما قلت حقا فإنه يوشك أن يمتلك موضع قدمي هاتين، ليتني أستطيع أن أصل إليه لكنت، أغسل قدميه. ثم قرئ خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يعجب أعضاء البلاط فعلت أصواتهم وكثر لغطهم وصياحهم، ثم أخرج الجميع من البلاط، ويقول أبو سفيان ومنذ ذلك اليوم وأنا أرى نفسي ذليلا وقد تأكدت من عظمة النبي - صلى الله عليه وسلم -. 8 - خسرو برويز، كسرى إيران كان إمبراطور نصف العالم الشرقي، ويدين بالزردشتية، أرسل إليه عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك" (¬1). فلما رأى كسرى رسالة النبي غضب ومزقها قائلا: يكتب لي هذا وهو من رعاياي ¬

(¬1) على القارئ أن يتأمل العبارة التي وردت في رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - "أسلم تسلم" ولم يكن هذا تهديدا بل إخبار عن الغيب.

إسلام بعض حكام المناطق المختلفة

ويضع اسمه قبل اسمي، ثم كتب إلى عامله باليمن ويدعى "باذان" وكان يعتقد أن جميع بلاد العرب تحت إمرته، أن يقبض على هذا الشخص (أي النبي - صلى الله عليه وسلم -) ويرسله له. فبعث باذان بعض جنوده وعلى رأسهم بابويه، وأمر بابويه أن يدرس أحوال النبي وأن يأخذه إلى كسرى، فإذا ما رفض الذهاب معهم فعليه أن يعود ويقدم له تقريرا لما حدث، وحين وصل هؤلاء الجنود إلى الطائف، استبشر أهل الطائف، فقد ظنوا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هالك لا محالة لأن كسرى قد أمر بعقابه على تطاوله عليه. وحين حضر رئيس الجند بابويه ومن معه إلى المدينة ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ارجعا حتى تأتياني غدا، وفي اليوم التالي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد أهلك ملككم الليلة، فاذهبا وانظرا الأمر فسمع بابويه بهذا فعاد إلى اليمن، وهناك وصل خبر مفاده أن خسرو قتل على يد ابنه، واعتلى شيرويه العرش، وشيرويه هو قاتل أبيه. وأعلن باذان إسلامه بعد أن تأكد من خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أخلاقه وعاداته وخصاله وما إلى ذلك وأسلمه معه جميع من في البلاط وأكثر مناطق البلاد. وحين رجع عبد الله سفير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر النبي أن كسرى مزق الرسالة قال - صلى الله عليه وسلم -: "مزق ملكه". وعلى القارئ أن يفكر في هذه الجملة المختصرة التي تحمل معنى كبيرا ونبحث في تاريخ العالم مدى ثلاثة عشر قرنا وربع من الزمان، هل هناك أثر لتلك الإمبراطورية في أي مكان، تلك الإمبراطورية التي حكمت نصف الدنيا لأكثر من أربعة أو خمسة آلاف سنة ووصلت فتوحاتها إلى اليونان وروما؟ بالطبع لا يوجد أي أثر. إسلام بعض حكام المناطق المختلفة: ومن المناسب هنا أن نذكر أسماء بعض الولاة والحكام الذين اهتدوا بهدي الإسلام بعد أن وصل إليهم الدعاة الذين أرسلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فعرفوا حقيقة الإسلام وهديه. 1 - ثمامة حاكم نجد وأسلم في سنة ست من الهجرة (¬1). 2 - جبلة حاكم دولة غسان العربية القديمة أسلم في السنة السابعة للهجرة ¬

(¬1) إدعى ثمامة من اثال خدمات جليلة للإسلام أثناء فتنة مسيلمة الكذاب وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أرسل إليه سفيره فرات بن حبان.

3 - فروة بن عمرو الخزاعي (الخزامي) والي قيصر على الشام، أسلم فدعاه قيصر إليه وترك الإسلام. فأنكر فروة ذلك، فحبسه قيصر، ثم أمر بقتله، وقد ضحى هذا العبد الصالح بالثروة والحكومة والعزة والجاه والنفس ولم يرض بترك الإسلام. 4 - أكيدر حاكم دومة الجندل أسلم في السنة التاسعة للهجرة. 5 - ذو الكلاع الحميري، وكان حاكما على بعض مناطق اليمن والطائف وكان ملكا على قبيلة حمير القوية، وكان يدعى أنه إله، ويأمر الناس بالسجود له، ولما أسلم اعتق في يوم واحد ثمانية عشر ألفا من العبيد، وفي عهد عمر الفاروق تخلى من نفسه عن الحكم وقدم إلى المدينة المنورة حيث عاش فيها حياة كلها زهد وتقوى.

الباب الثالث

الباب الثالث يمكن التعرف على الطريقة المثلى لنشر الإسلام في العهد النبوي من خلال الاطلاع على بساطة هذه الطريقة ومن خلال التعرف على الوفود التي كانت تصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من حين لآخر. إن قدوم الوفود وعودتها، والاتصال بمختلف الأمم والقبائل في كل مرحلة وإبلاع دعوة الإسلام إلى الناس، كل هذا كان يتم بأسلوب رائع وحسن، كما أن الحروب الدفاعية التي اضطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للاشتراك فيها كانت في منطقة محدودة من البلاد، أما الوفود التي كانت تصل إليه فكانت تصل من كل صوب ومن كل ناحية من أنحاء البلاد، وكانت ينابيع الإسلام والهداية التي فجرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في واد قفر قد جذبت إليها الظمأى من كل صوب، كما أن قدوم الوفود يعد دليلا قويا على عالمية الدعوة وذلك بعد أن أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - سفراءه إلى الحكام والملوك في مختلف البلاد. وأذكر هنا أسماء القبائل التي أرسلت وفودها إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - تاركا أسماء تلك القبائل التي أتت لأغراض سياسية أو لتحقيق فائدة ذاتية: دوس، صدا، ثقيف، عبد القيس، بني حنيفة، طي، الأشعريون، الأزد، وفروة الجذامي، همدان، طارق بن عبد الله، تجيب، بنو سعد، هذيم، بنو أسد، بهراء، عذرة، خولان، محارب، غسان، بنو الحارث، بنو عيش، غامد، بنو فزارة، سلامان، نجران ونخع. وفيما يلي نذكر باختصار أحوال وفود القبائل سابقة الذكر: وفد بني دوس: سبق الحديث عن إسلام طفيل بن عمرو الدوسي، بعد قبوله الإسلام وحين استعد للعودة إلى موطنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ادع الله لي حتى يسلموا، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يجعل الله لطفيل آية، فوصل طفيل إلى بيته فأتاه أبوه الشيخ الكبير فقال لطفيل: يا أبت لست مني ولست منك، قال الشيخ: لماذا؟ قال طفيل: لقد جئتك بعد أن أسلمت وتبعت دين

إرشادات هامة للدعوة إلى الإسلام

محمد. فقال الشيخ، أنا على ما أنت عليه فديني هو دينك. فقال طفيل: إذن اذهب واغتسل وطهر ثيابك ثم تعال أعلمك الإسلام. ثم جاءت زوج طفيل، فقال لها ما قاله لأبيه، فأسلمت ثم بدأ الدعوة إلى الإسلام، إلا أن أهل القبيلة لم يسلموا. فحضر طفيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: يا رسول الله إنه قد غلبني على دوس الزنا فلم يسلموا، فادع لهم فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "اللهم اهد دوسا" ثم رجع دوس إلى قومه. إرشادات هامة للدعوة إلى الإسلام: قال النبي لطفيل وارجع وادع قومك إلى دين الله، وارفق بهم، وفي هذه المرة نجح طفيل نجاحا كبيرا، وفي السنة الخامسة للهجرة أخذ معه إلى المدينة سبعين أو ثمانين أسرة أسلمت فعرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر، فوصل إلى خيبر فكان له شرف المشاركة، وشرف جميع من معه برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر، وكان ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وصل من الحبشة مع تلك القبائل الحبشية التي أسلمت، إلى خيبر أيضا. وكان لوصول جعفر رضي الله عنه من الحبشة ومعه من أسلم من هناك وحضور طفيل بن عمرو من اليمن ومعه من أسلم من قبيلة دوس، إلى خيبر إيذانا من الله تعالى لليهود بأن تعاليم النبي - صلى الله عليه وسلم - التي تفتح قلاع القلوب في البلاد البعيدة لا يعقل معارضتها اعتمادا على قلاع الحجارة والطوب. وفد صداء: قدم هذا الوفد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة الثامنة للهجرة، جاء في البداية شخص يدعى زياد بن الحارث الصدائي، ثم قدم بعد ذلك في خمسة عشر رجلا من رؤساء القوم، فاستضافهم سعد بن عبادة، وبعد عودة هؤلاء انتشر الإسلام في قبيلتهم. قال زياد للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن لنا بئرا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها، وإذا كان الصيف قل علينا، ولهذا يتفرق القوم بحثا عن الماء وقبيلتنا أسلمت حديثا ونحتاج إلى المزيد من التربية والتعليم فادع لنا الله في بئرنا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ناولني سبع حصيات، فناوله زياد سبع حصيات فعركهن في يده

وفد ثقيف

ودفعهن إلى وقال: إذا انتهيت إليها فألق فيها حصاة حصاة وسم الله، فقال زياد: ففعلت فما أدركنا لها قعرا حتى الساعة. وفد ثقيف: أول من جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من ثقيف لتعلم الإسلام كان عروة بن مسعود الثقفي، وهو رئيس قومه، وكان قد قدم سفيرا لقريش إلى رسول الله في صلح الحديبية. وبعد غزوة هوازن وثقيف وبتوفيق من الله حضر إلى المدينة وأسلم، وكان في بيت عروة عشر زوجات فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمسك منهن أربعا (¬1) ويطلق الأخريات ففعل (¬2). ¬

(¬1) يعرف القارئ من هذه القصة أن تعدد الزوجات كان رائجا في الجزيرة العربية، ولم يكن هناك حد يقف عنده الرجل في التعدد، فقضى الإسلام على هذه الحرية المطلقة، وحدد ما لم يكن له حد وجعل الأربع نساء أخر حد التعدد، واليوم يعترض كثير من الناس على إجازة الإسلام لأربع نساء وأكثر المعترضين من النصارى، ونتساءل: هل أجرى المسيح عليه السلام أي إصلاح على تعدد الزوجات عند اليهود؟ فإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن من ميزة الإسلام على سائر الأديان الأخرى أنه جعل حدا لهذه المسألة، ولنقرأ الإصحاح الخامس والعشرين من إنجيل متى من أوله، جاء فيه ذكر زواج رجل واحد مع عشر جوار، ذهبت خمس منهن وراء العريس وتخلفت خمس لجهلهن، وهذا التمثيل يعد دليلا على تعدد الزوجات، أما القرآن الكريم فقد أجاز الزواج باثنتي وثلاث وأربع ثم قال: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} وقال أيضا: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم}، فهذا هو الإسلام الذي سبق سائر الكتب الدينية بقوله {فواحدة} وجعل هذا قانونا وحكما، وكفاه ذلك فخرا وفضلا، وليس موضوعنا هنا ذكر الأدلة العقلية والنقلية على جواز التعدد ولكن نقول بإيجاز لو كانت العزة والكرامة معتمدة على كثرة السكان لوجب الزواج بأكثر من واحدة تحقيقا للعزة القومية حتى لو كان ذلك على حساب الراحة الشخصية إلا أن عقلاء العالم يدركون أن السعداء هم أولئك الذين يضحون بأنفسهم في سبيل أمتهم. (¬2) ويضطرب الكتاب الغربيون ويغضبون من لفظ الطلاق أيضا ولعلهم يتناسون أن قانون العدالة يمنحهم الحرية الكاملة فيما يتعلق بمعاملة الطلاق، كما أنهم يتناسون أيضا أن الطلاق يحدث بكثرة في أوربا دون غيرها من العالم كما أن بها محاكم خاصة لإنهاء إجراءات الطلاق - وقد فرض الإسلام قيودا عديدة على الطلاق المطلق عند اليهود في النصارى ومشركي العرب حتى بطلت هذه العادة تقريبا، ومن هذه القيود: 1 - مهر الزوجة الذي يمنع الزوج من التطليق. 2 - الطلاق الشرعي ثلاث طلقات كل منها بعد حيضة وهذا يمنع الطلاق لمدة ثلاثة أشهر وحتى بعد الطلقة الثالثة يسكن الزوجان معا في بيت واحد وهذا التدبير يمنع أيضا التطليق. =

وحين تعلم عروة رضي الله عنه الإسلام طلب من رسول الله أن يسمح له بالذهاب إلى قومه ليكون داعية للإسلام فيهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن قومك قاتلوك فقال عروة: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم، فقدم قومه وبدأ يدعوهم إلى الإسلام، وفي يوم كان يصلي على سطح بيته فإذا بشقي يرميه بسهم فيقتله. ومع أن الفرصة لم تسنح لعروة للاستمرار في الدعوة إلا أن النداء الذي أوصله إلى آذان قومه لم يمض دون أن يترك أثره على قلوبهم، فلم تمض فترة بسيطة حتى انتخب القوم بعض رؤسائهم وأرسلوهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يتعلموا الإسلام جيدا. وصل الوفد في السنة التاسعة من الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان على رأس الوفد عبد ياليل بن عمرو بن عمير وهو الذي كان قد ذهب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جبل الطائف في السنة العاشرة للنبوة لتفهيمه الإسلام فأبى وسلط عليه الصبية وأشرار الناس وأوباشهم يضحكون عليه ويهزأون منه، وهو الذي أشار عليهم بإلقاء الحجارة والوحل على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان النبي طهبهد قد قال وهو في طريق عودته من هناك: إني لا أدعو عليهم بالهلاك ¬

= 3 - ضرورة وجود شاهدين على الطلاق، وهذا أيضا من شأنه أن يمنع أهل الغيرة من الطلاق فهم لا يحبون كشف أسرارهم لدى الآخرين. 4 - لا يجوز أن ترجع الطلقة إلى الزوج الأول إلا بعد أن ينكحها رجل آخر ثم يطلقها عن غير عمد، وهذا الشرط الصعب بل المتعذر تطبيقه يمنع الطلاق. 5 - وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - "أبغض الحلال عند الله الطلاق". 6 - في القرآن الكريم يأمر النبي زيدا ألا يطلق زوجته، (أمسك عليك زوجك واتق الله) (الأحزاب: 37)، ولم يرد في القرآن الكريم كله أمر واحد بالتطليق. 7 - ألغى القرآن الكريم الظهار وكان نوعا من الطلاق عند العرب وهذا يقلل من الطلاق. 8 - أصلح القرآن الكريم الإيلاء مع أن العرب كانوا يستعملونه بمعنى الطلاق، وهذا أيضا يقلل من الطلاق. 9 - أوجب القرآن الكريم في حالة وجود تنافر ونشوز بين الزوجين تعيين حكم من الزوج وحكم من الزوجة للإصلاح فيما بينها، وهذا يمنع الوصول إلى حالة الطلاق. فلو وضع أي دين من الأديان مثل هذه التدابير للحد من الطلاق فليخبرنا أتباعه بذلك، ولنرى النتيجة العملية لهذه الأحكام متمثلة في قلة وقوع الطلاق بين المسلمين أما أوربا التي تفخر بمسألة منع الطلاق فلن تجد فيها مدينة أو قرية أو حي إلا وفيه أمثلة على الطلاق.

فإنهم لو لم يسلموا فإن الله تعالى يكرم نسلهم بالإيمان، والآن يأتي نفس أعداء الإسلام بأنفسهم ليوجدوا في قلوبهم مكانا للإسلام، ويأتون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والشوق ملء قلوبهم والرغبة ملء أرواحهم. وطلب المغيرة بن شعبة من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستضيف أهل ثقيف فهم قومه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا أمنعك أن تكرم قومك ولكن أنزلهم حيث يسمعون القرآن". وهكذا أقام لهم خيمة في ناحية من صحن المسجد، حيث أمكنهم سماع القرآن الكريم ورؤية الناس يصلون فأثر صدق الإسلام في قلوبهم وبايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام، وكانوا قد طلبوا قبل البيعة أن يسمح لهم بترك الصلاة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا خير في دين ليس فيه ركوع" ثم طلبوا إعفاءهم من الجهاد والزكاة فأعفاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال لأصحابه سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا (¬1). وتكلم رئيسهم عبد ياليل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أوقات مختلفة عن القضايا التالية: 1 - سأل النبي عن الزنا وقال: نحن قوم نغترب ولابد لنا منه (أي من الزنا) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، الزنا حرام وقد أصدر الله حكما في القرآن الكريم: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} (الإسراء: 32). 2 - ثم سأل النبي عن الربا وقال، نحن لا نأخذ فيه إلا مالنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لكم رؤوس أموالكم، فقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا} (البقرة: 278). 3 - ثم سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر قائلا إنها عصير بلادنا ولا نستطيع أن نعيش بغيرها، ¬

(¬1) سنن أبي داود عن وهب وعثمان بن أبي العاص باب جاء في خبر الطائف لنتمعن في هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعليم المسلمين الجدد شرائع الإسلام بالحكمة وقد ورد في كتاب "الدعوة إلى الإسلام" [ص:462] أن قيصر روسيا (ول ويمبر) كان مستعدا لدخول الإسلام شرط ألا يترك شرب الخمر، ولكن لم يقبل أي من علماء ذلك الوقت هذا الشرط وكان قيصر الذي كره عبادة الأوثان قد يئس فدخل النصرانية فلو كان هناك آنذاك عالم ممن فهم هدي رسول الله وحكمته في دعوة الناس إلى الإسلام لكانت روسيا بأكملها الآن بلد إسلامي.

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد حرم الخمر، يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (المائدة: 95). وفي اليوم التالي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسأله عن الربة (وهي مؤنث رب وكان صنما يعبد) فقال - صلى الله عليه وسلم -: أهدمها. فقال الوفد الذين معه، هيهات لو تعلم الربة أنك تريد أن تهدمها، لقتلتنا جميعا. قال عمر بن الخطاب: ويحك يا ابن عبد ياليل، ألا تفهم أنها حجر. فنهض ابن عبد ياليل وقال: إنا لم نأتك يا عمر، ثم قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليتولى الرسل هدمها لأننا لن نهدمها أبدا - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها. وقال أحدهم، أرسله بعد انصرافنا ولا يذهب معنا (¬1). وأسلم كل من حضر في الوفد، وعادوا إلى وطنهم، وفي طريق العودة رأوا أن يعينوا لأنفسهم إماما من بينهم فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص وكان أصغرهم عمرا، كما أنه كان يدرس القرآن الكريم وأحكام الشريعة سرا منذ فترة، فكان يتعلم من النبي حينا ومن أبي بكر الصديق حينا آخر، وقد عينه النبي - صلى الله عليه وسلم - إماما لهم. وفي الطريق تشاور الوفد ورأو إخفاء إسلامهم إذ يجب أن يصاب القوم باليأس أولا، فلما وصلوا إلى وطنهم، سألهم القوم: ما وراءكم؟ فقال الوفد: إننا جئنا من عند رجل لا يعرف إلا إصدار الأحكام ولم نر له مثيلا في ذلك فهو مثلا يأمر بهدم اللات والعزى، ويحرم الربا، والخمر والزنا. فأقسم القوم وقالوا، لسنا على استعداد لقبول هذه الأمور. فقال الوفد، إذن أعدوا سلاحكم وتأهبوا للقتال، ورمموا قلاعكم، فمكثت ثقيف على هذا يومين أو ثلاثة، وفي اليوم التالي بدأت ثقيف تقول: هل سيمكننا قتال محمد؟ ¬

(¬1) ويفهم أن عبد ياليل الذي كان الحاكم العام للطائف كان شخصا ذكيا فكان يوجه في الظاهر اعتراضاته وأسئلته حتى لا يكون هدفا لنقد الجاهلية من قومه، وحتى لا يقول هؤلاء القوم أنه أسلم دون مناقشة وبحث، وبالطبع هذا هو أفضل أسلوب لتفهيم الجهلة.

وفد عبد القيس

إن العرب جميعهم دخلوا في طاعته، ثم قالوا للوفد: اذهبوا ووافقوا على ما يقول. قال الوفد: سنخبركم بالحقيقة، لقد وجدناه أتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم وقد بورك لنا ولكم في مسيرنا إليه. فقال القوم: لماذا أخفيتم عنا هذا السر؟ قال الوفد، أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان. وبعدها أسلم هؤلاء القوم، وبعد عدة أيام قدم إليهم رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت إمرة خالد بن الوليد، فأرادوا أن يبدأوا أولا بهدم اللات. فخرج جميع رجال ونساء وشيوخ وأطفال ثقيف ممن ظنوا أنها مستعصية، حتى العواتق من الحجال خرجن أيضا لمشاهدة هذا الحدث، فضرب المغيرة سهما لهدمها، وسقط على الأرض من شدته (¬1)، فصاحت ثقيف بعد أن رأت هذا وقالت أبعد الله المغيرة وقتلته الربة (¬2) وقالوا وهم مسرورون، فلتحاول ولكن لن تستطيع هدمها". فغضب المغيرة بن شعبة وقال، يا أهل ثقيف، ما أجهلكم ما هي إلا قطع من حجارة وماذا عساها فاعلة؟ فأقبلوا عافية الله واعبدوه. ثم ضرب الباب فكسره ثم علا سورها وبدأ في هدمه وعلا معه بقية المسلمين وهدموا اللات حجرا حجرا، فقال سدنة المعبد، لابد أن الأساس سيخسف بهم، فلما سمع المغيرة هذا حفر الأساس جميعه وهكذا رسخ أساس الإسلام في قلوب هؤلاء القوم. وفد عبد القيس: قدم وفد قبيلة عبد القيس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألهم: ممن القوم؟ فقالوا من ربيعة، فرحب بهم النبي - فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، فمرنا بأمر فصل، نأخذ به ونأمر من وراءنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع آمركم بالإيمان بالله وحده، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم ¬

(¬1) زاد المعاد، [ص:485]. (¬2) الربة مؤنث الرب.

وفد بني حنيفة

رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم. وأنهاكم عن أربع: الدباء والحنتم والنقير والمزفت (¬1). فاحفظوهن وادعوا إليهن من وراءكم. فقالوا: يا رسول الله ما علمك بالنقير؟ فقال بلى، جذع تنقرونه ثم تلقون فيه من التمر ثم تصبون عليه الماء حتى يفور فإذا سكن شربتموه فعسى أحدكم (وهو سكران) أن يضرب ابن عمه بالسيف (¬2) وكان في هذا الوفد رجل قتل ابن عمه وهو سكران من شرب النقير. فسأل هؤلاء الناس النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففيم نشرب يا رسول الله، فقال: اشربوا في أسقية الأدم التي يلاث على أفواهها، قالوا يا رسول الله. إن أرضنا كثيرة الجرذان لهذا لا تبقى فيها أسقية الأدم سالمة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن أكلها الجرذان. وقدم مع هذا الوفد أيضا الجارود بن بشر بن المعلى، وكان نصرانيا فقال يا رسول الله، إني الآن على دين، وإني تارك ديني إلى دينك، فهل تضمن لي بما فيه؟ قال: نعم أنا ضامن لذلك لأن الدين الذي أدعوك إليه خير من الذي كنت فيه، فأسلم الجارود وأسلم من معه من النصارى أيضا (¬3). وفد بني حنيفة: قدم وفد بني حنيفة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان الإسلام قد انتشر في بلادهم بجهود ثمامة ابن أثال (¬4). وأسلم الوفد بعد قدومه إلى المدينة، وكان مسيلمة الكذاب مع الوفد، فبعد أن وصل إلى المدينة راح يقول للناس: إن جعل لي محمد الأمر من بعده بايعته، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا وكان بيده قطعة من جريد النخل فقال: لا أقبل بيعتك حتى لو سألتني هذه ¬

(¬1) البخاري عن ابن عباس (1/ 19). كانوا يشربون فيها الخمر ويدخرونها فيها، فحين نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شرب الخمر نهى أيضا عن استعمال الآنية التي كانت تشرب فيها أو توضع فيها، وحين انتهى الناس من شرب الخمر صدر الأمر بالامتناع عن استعمال هذه الآنية أيضا وهكذا يمكن للمسلمين أن يفهموا أسلوب تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين وهو أسلوب اتبع فيه الحكمة والموعظة الحسنة. (¬2) زاد المعاد، [ص:485] .. (¬3) زاد المعاد 487، وفي الصحيحين برواية ابن عباس. (¬4) زاد المعاد 3/ 610.

وفد طي

القطعة. ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني أراك الذي أريت فيما رأيت ... أي فيما رأيت في منامي: في يدي سوارين من ذهب فأوهمني شأنهما، فأوحى إلي في المنام أن انفخهما فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي، فهذان هما، أحدهما مسيلمة صاحب اليمامة والآخر العنسي صاحب صنعاء (¬1). ومع أن مسيلمة الكذاب ادعى الرسالة إلا أنه كان يعترف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولعل هذا في الغالب كان السبب الذي جعل مسلمي تلك المنطقة لم يقفوا ضده. وفي السنة العاشرة للهجرة جرت مراسلات بين مسيلمة الكذاب والنبي - صلى الله عليه وسلم -، كتب مسيلمة: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشا لا ينصفون والسلام عليكم. فكتب له النبي - صلى الله عليه وسلم -: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين والسلام على من اتبع الهدى". وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أرسل حبيب بن زيد بن عاصم وعبد الله بن وهب الأسلمي إلى مسيلمة الكذاب فقام بقطع يدي حبيب ورجليه (¬2). وفد طي: حضر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد قبيلة طي برئاسة زعيمهم زيد الخيل، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل، ثم سماه زيد الخير، ولابد أن هؤلاء الناس أسلموا بعد نقاشهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

(¬1) في الصحيحين برواية نافع بن جبير عن ابن عباس، وكان مسيلمة والعنسي رجلين كذابين، ادعيا النبوة فأهلكهما الله، والتوفيق والنجاح لم يحالفا إلا من كان رسولا صادقا من عند الله، وقد ورد هذا في القرآن الكريم: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله}. (¬2) فتوح البلدان للبلاذري [ص:95]، ونثبت هنا للقارئ أن خالد بن الوليد قهر جيش مسيلمة في خلافة أبي بكر وقتل مسيلمة بيد وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه والذي كان يقول: إذا كنت قد قتلت في الكفر مسلما عظيما فقد أهلكت في الكفر كافرا عظيما، فلعل الله يذهب بهذا ذاك. (¬3) زاد المعاد [ص:491] وكان زيد الخير شاعرا وخطيبا وشجاعا وحاضر البديهة، وابناه مكنف =

وفد الأشعريين

وفد الأشعريين: حضر وفد قبيلة الأشعريين وهم من أهل اليمن، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مقدمهم، جاء أهل اليمن وهم أرق أفئدة وأضعف قلوبا، والإيمان يمان والحكمة يمانية، والسكينة في أهل الغنم والفخر والخيلاء في أهل الوبر قبل المشرق. ولما دخلوا المدينة جعلوا ينشدون: غدا نلاقي الأحبة ... محمدا وحزبه وفد الأزد: تضمن هذا الوفد سبعة من الأزد، حضروا إلى النبي فأعجبه ما رأى من سمتهم وزيهم. فقال من أنتم، فقالوا نحن مؤمنون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل قول حقيقة، فما حقيقة قولكم وإيمانكم، فقالوا: خمس عشرة خصلة. خمس منها أمرتنا رسلك بأن نؤمن بها وخمس أمرتنا أن نعمل بها وخمس نحن عليها من قبل. والخمس التي أمرتنا رسلك باتباعها هي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت. والخمس التي أمرتنا أن نعمل بها هي القول بلا إله إلا الله وأن نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونصوم رمضان ونحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، والخمس التي نحن عليها من قبل هي الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والصدق في مواطن البلاء، وترك الشماتة بالأعداء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء". ¬

= والحريث كلاهما من الصحابة ولما قدم هؤلاء المدينة جعلوا ينشدون: غدا نلاقي الأحبة ... محمدا وحزبه

ذكر قدوم فروة بن عمرو الجذامي

ثم قال وأنا أمدكم خمسا فيتم لكم عشرون خصلة: - فلا تجمعوا ما لا تأكلون. - ولا تبنوا ما لا تسكنون. - ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غدا تزولون. - واتقوا الله الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون - وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون وعمل هؤلاء القوم بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم -. ذكر قدوم فروة بن عمرو الجذامي: كان فروه بن عمرو حاكم منطقة العرب الشمالية كلها التي كانت تحت سيطرة إمبراطورية القسطنطينية وكانت عاصمته معان، وكان تحت إمرته أيضا المنطقة المتاخمة لفلسطين بعث إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - برسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، فأسلم فروة، وأرسل للنبي - صلى الله عليه وسلم - بغلة بيضاء ثمينة. وحين علم صاحب القسطنطينية بإسلامه عزله من الحكم وطلب منه ترك الإسلام، فرفض فروة فحبسوه ورأوا أن يصلبوه، وصلب على حوض يقال له عفراء بفلسطين، وحين وصل إلى مكان الصلب أنشد يقول: ألا هل أتى سلمى بأن خليلها ... على ماء عفرا فوق إحدى الرواحل على ناقة لم يضرب الفحل أمها ... مشذبة أطرافها بالمناجل (¬1) ويقال إنه أنشد أيضا قبل أن تفارقه الروح هذا الشعر: بلغ سراة المسلمين بأنني ... سلم لربي أعظمي ومقاصي وفد همدان: كانت هذه القبيلة تسكن اليمن وقد بعث إليهم النبي خالد بن الوليد يدعوهم إلى الإسلام، فأقام بينهم، ولم يسلموا، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا رضي الله عنه بتبليغ الإسلام ¬

(¬1) زاد المعاد [ص:512] عن كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم المتوفي سنة 236 هـ.

وفد طارق بن عبد الله

في تلك القبيلة فكان أن أسلمت القبيلة كلها، وحين قرأ النبي خطاب علي رضي الله عنه خر ساجدا لله شكرا وقال: السلام على همدان. وتضمن وفد همدان أولئك الذين أسلموا على يد علي رضي الله عنه، وتشرفوا برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أنشد مالك بن نمط هذا الشعر في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. إليك جاوزن سواد الريف ... في هبوات الصيف والخريف ... مخطمات بحبال الليف ... وفد طارق بن عبد الله: قال طارق بن عبد الله: كنت واقفا بسوق المجاز إذ أقبل رجل وهو يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا - ورجل يتبعه يرميه بالحجارة ويقول: يا أيها الناس لا تصدقوه فإنه كذاب. فقلت من هذا فقالوا: هذا من بني هاشم يزعم أنه رسول الله، وهذا عمه عبد العزى (وكان اسم أبي لهب عبد العزى) (¬1). يقول طارق، وبعدها مرت سنوات، وهاجر النبي إلى المدينة في ذلك الوقت ذهب بعض من قومنا وأنا منهم إلى المدينة حتى نمتار من تمرها، فلما دنونا من حيطانها ونخلها، نزلنا مكانا نغير فيه ملابس السفر ولم نكد نستعد لدخول المدينة حتى قدم رجل في طمرين له فسلم وقال من أين القوم؟ قلنا من الربذة، فسألنا عن سبب قدومنا، قلنا لشراء التمر. وكان معنا جمل أحمر مخطوم، فقال الرجل: أتبيعون هذا الجمل؟ فقلنا نعم بكذا وكذا صاعا من تمر، فما استوضعنا مما قلنا شيئا وأخذ بخطام الجمل فانطلق، وحين وصل إلى داخل المدينة فبدأنا النقاش فيما بيننا وقال الناس، والله ما بعنا جملنا ممن نعرف ولا أخذنا له ثمنا فقالت المرأة التي معنا في الهودج (امرأة رئيس القوم) لقد رأيت رجلا كأنه شقة القمر ليلة البدر، أنا ضامنة لثمن جملكم، فبينما نحن نتكلم إذ أقبل رجل ¬

(¬1) زاد المعاد وابن هشام. يفهم من هذه الواقعة مدى الجهد والصبر والثبات الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو الناس إلى التوحيد، كما أن هذا يدحض قول الأعداء بأن الإسلام انتشر بالسيف.

وفد تجيب

وقال أنا رسول الله إليكم، أرسلت لكم بتمركم فكلوا واشبعوا واكتالوا واستوفوا، فأكلنا حتى شبعنا، ودخلنا المدينة فإذا بالرجل قائم على المنبر يخطب الناس، فأدركنا من خطبته قوله "تصدقوا فإن الصدقة خير لكم، اليد العليا خير من اليد السفلى، أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك أدناك". وفد تجيب: قدم ثلاث عشرة رجلا من قبيلة تجيب، حاملين معهم صدقات أموال ومواشي قومهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ردوها فاقسموها على فقرائكم، فقالوا ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا. فقال أبو بكر: ما وفد من العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من تجيب. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الهدى بيد الله عز وجل فمن أراد به خيرا شرح صدره للإيمان. وسأل هؤلاء الناس رسول الله أشياء فكتب لهم بها (¬1) وكان هؤلاء الناس راغبين بشدة في تعلم القرآن والسنن فأمر رسول الله بلالا بأن يحسن ضيافتهم. وأظهر القوم رغبة شديدة في العودة، فسألهم الصحابة: ما يعجبكم البقاء بيننا؟ فقالوا: بل نريد أن نرجع لمن وراءنا، فنخبرهم بتشرفنا برؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما نلناه من فيض كلامه، وما شرفنا به من بركات وفوائد. فأجازهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأرفع ما كان يجيز به الوفود وودعهم وسألهم هل بقي منكم أحد، فقالوا، نعم، صبي خلفناه على رحالنا، فقال أرسلوا إليه فحضر وقال: يا رسول الله، لقد قضيت حوائج قومي فاقض حاجتي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وما حاجتك؟ قال الصبي: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، ولو أني أعرف أنهم قدموا راغبين في الإسلام وأحضروا صدقاتهم. وسأله النبي عما يريد، فقال: ¬

(¬1) ندعو من يظن أن الأحاديث لم تدون في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتدبروا في هذه الواقعة.

وفد بني سعد هذيم

والله ما تركت بيتي وجئت هنا إلا لتسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني وأن يجعل غناي في قلبي، فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي السنة العاشرة للهجرة حين ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - التقى هؤلاء القوم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فسألهم عن أمر الغلام فقالوا: يا رسول الله ما رأينا مثله قط، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها (¬1). وفد بني سعد هذيم: قبيلة بني سعد فرع من قضاعة، حين وصلوا إلى المسجد النبوي وجدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على جنازة، فقرروا فيما بينهم أن يقيموا في ناحية من المسجد لأنه لا ينبغي أن يعملوا شيئا سوى لقاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحين انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - ناداهم وسألهم، أمسلمون أنتم؟ قالوا نعم، فقال: فهلا صليتم على أخيكم؟ فقالوا، لقد اعتقدنا أنه لا يجوز لنا أن نفعل شيئا حتى نبايعك. فقال: أينما أسلمتم فأنتم مسلمون. وبينما هم كذلك إذ أتى أصغرهم الذي تركوه على رحالهم، فقال الوفد، يا رسول الله هذا أصغرنا ولهذا فهو خادمنا، قال النبي نعم، أصغر القوم خادمهم بارك الله فيه، فكان من بركة هذا الدعاء أن صار خيرهم وإمامهم وأقرأهم للقرآن. وحين رجع هؤلاء الناس إلى قومهم انتشر الإسلام في القبيلة كلها (¬2). وفد بني أسد: تضمن وفد بني أسد عشرة رجال كان من بينهم وابصة بن معبد وطلحة بن خويلد، قدموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس مع أصحابه في المسجد فقال أحدهم: يا رسول الله، لقد جئنا إليك بأنفسنا ولم تبعث إلينا أحدا، فأنزل الله على رسوله: ¬

(¬1) زاد المعاد 1/ 504 [3/ 32]. يجب على الدعاة الذين يتحملون مسئولية الدعوة إلى الإسلام اتباع نموذج هذا الشاب. (¬2) زاد المعاد [ص:505].

وفد بهراء

{يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} (الحجرات: 17). ثم سأل هؤلاء الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العيافة والكهانه وضرب الحصى وغيرها، فنهاهم رسول الله عن ذلك كله، فقالوا: يا رسول الله أرأيت خصلة بقيت؟ قال وما هي: قالوا الخط (أي الرمل) قال، علمه الناس نبي من الأنبياء، فمن صادف مثل علمه علم فهو بلا شك علم. وفد بهراء: قدم هؤلاء القوم إلى المدينة، فأناخوا رواحلهم أمام بيت المقداد رضي الله عنه فهيأ لهم الطعام وحمله إليهم ورحب بهم، وضع أمامهم المقداد جفنة من حيس، وبعث المقداد بعض هذا الطعام للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأصاب منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ردها إلى المقداد (¬1) فأكل منها الضيوف ما أقاموا، فتحير القوم وقالوا: "إنك لتنهلنا من أحب الطعام إلينا، وما كنا نقدر عليه كل يوم وقد ذكر لنا أن الطعام في بلادكم هو العلقة أو نحوه". فأخبرهم المقداد أن هذا من بركة أصابع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أكل منها النبي - صلى الله عليه وسلم - وردها، فقال القوم بعد أن سمعوا هذا الكلام: نشهد أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وازدادوا إيمانا ويقينا. أقام الوفد بالمدينة فترة فتعلموا القرآن الكريم وأحكام الإسلام ثم رجعوا. وفد عذرة: في شهر صفر من السنة التاسعة للهجرة حضر وفد عذرة المكون من تسع عشرة رجل وكان فيهم جمرة بن النعمان، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: من القوم؟ فقالوا نحن بنو عذرة إخوة قصي (لأمه) نحن الذين عضدوا قصيا، وأزاحوا من مكة خزاعة وبني بكر، ولهذا فلنا قرابات وأرحام. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مرحبا بكم وأهلا. وقد بشرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بفتح الشام وهروب هرقل، ثم نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سؤال الكهنة وعن القرابين التي كانوا يقدمونها، وأن ما عليهم إلا أضحية عيد الأضحى، وأقام ¬

(¬1) زاد المعاد 3/ 654. المقداد بن عمرو بن ثعلبة من كندة وهو لهذا التبني أطلق عليه اسم القرشي الزهري، كان من نجباء الرسول وفضلاء الصحابة ومات سنة خمس وثلاثين للهجرة عن سبعين سنة ودفن بالمدينة.

وفد خولان

الوفد أياما في المدينة المنورة ثم انصرفوا بعد أن شرفوا بالجوائز والهدايا (¬1). وفد خولان: ضم وفد خولان عشرة أشخاص قدموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في شهر شعبان سنة عشر للهجرة. فقالوا، نحن على من وراءنا من قومنا ونحن مؤمنون بالله ورسوله، قطعنا إليك سفرا طويلا ونحن نقر بأن المنة لله ولرسوله علينا، وقد حضرنا لك زائرين. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من زارني في المدينة كان في جواري يوم القيامة". ثم سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، عما فعل "عم أنس" (وهو صنم كانت خولان تعبده) فقالوا، شكرا لله ألف شكر فقد بدلنا ما جئت به وقد بقيت منا بقايا من شيخ هرم وعجوز، متمسكون به، وإن شاء الله إنا لهادموه، فقد كنا منه في غرور وفتنة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما أعظم ما رأيتم من فتنة؟ "! قالوا: كنا جمعنا مائة ثور ونحرناها لعم أنس ذات يوم، وتركناها للسباع، ونحن أحوج إليها من السباع، وقالوا أنهم كانوا يقسمون لعم أنس من أنعامهم وزرعهم، وقالوا: "كنا نزرع الزرع فنجعل له وسطه ونسمي زرعا آخر حجرة لله، فإذا مالت الريح فالذي سميناه لله جعلناه لعم أنس أما الذي جعلناه لعم أنس لم نجعله لله". وقد علمهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فرائض الدين وخاصة الوفاء بالعهد وأداء الأمانة وحسن الجوار، وأن لا يظلموا أحدا. وأخبرهم أن الظلم ظلمات يوم القيامة (¬2). وفد محارب: ضم وفد محارب عشرة أشخاص قدموا إلى رسول الله نيابة عن قومهم في السنة العاشرة للهجرة وتولى ضيافتهم بلال فكان يأتيهم بالطعام صباحا ومساء وفي يوم جلسوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، من الظهر حتى العصر. وكان من بينهم رجل أطال الرسول النظر إليه ¬

(¬1) زاد المعاد المجلد الأول [ص:506]. (¬2) زاد المعاد [ص:509].

وفد غسان

وسأله، كأني رأيتك، فقال ذلك الرجل: أي والله لقد رأيتني وكلمتني. وكلمتك بأقبح الكلام ورددتك بأقبح الرد بعكاظ، وأنت تطوف على الناس - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم. فقال ذلك الرجل: يا رسول الله ما كان في أصحابي أشد عليك يومئذ، ولا أبعد عن الإسلام مني، وقد ماتوا على دين آبائهم، وإني لأحمد الله الذي أبقاني حتى صدقت بك وآمنت. فقال رسول الله: إن هذه القلوب بيد الله عز وجل - فقال ذلك الشخص: يا رسول الله استغفر لي من مراجعتي إياك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن الإسلام يجب ما كان قبله من الكفر. وفد غسان: قدم ثلاثة رجال من غسان وذلك في شهر رمضان في السنة العاشرة من الهجرة، فأسلموا ورجعوا للدعوة في قومهم، إلا أنهم لم يوفقوا في نشر الإسلام، ومات منهم اثنان وبقي واحد منهم على قيد الحياة حتى عام اليرموك فالتقى بأبي عبيدة الجراح. وفد بني الحارث: قدم هذا الوفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شوال في السنة العاشرة للهجرة، وكان خالد بن الوليد قد أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم هؤلاء، وكتب خالد بن الوليد إلى رسول الله بذلك وبقي فيهم يعلمهم الإسلام، فطلب منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعود ومعه وفد من هؤلاء القوم، وتضمن الوفد قيس بن الحصن وعبد الله بن قراد وغيرهما (¬1). فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: يا رسول الله لم نكن نغلب أحدا إذا ما اجتمعنا للقتال لا نتفرق، ولا يبدأ أحد بالظلم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقتم. وفد بني عبس: قدم هذا الوفد على رسول الله قبل وفاته بأكثر من أربعة أشهر، وكان هذا الوفد من أهل نجران قدموا إلى النبي بعد أن أسلموا، فقالوا: يا رسول الله: سمعنا من دعاة ¬

(¬1) زاد المعاد المجلد الأول [ص:509].

وفد غامد

الإسلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا إسلام لمن لا هجرة له" ولنا أموال ومواشي وهي معايشنا فإذا كان الأمر كذلك فلا خير في أموالنا ومواشينا، ومن الأفضل أن نبيعها ونهاجر عن آخرنا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم الله من أعمالكم شيئا (¬1). وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الجواب على أنه اجتماع المسلمين كلهم في "مركز الإسلام" وتضييقهم بذلك أرض الإسلام أمر غير مناسب، بل من الأفضل أن ينتشر المسلمون في البلاد البعيدة ويجب عليهم أن يعملوا على نشر دعوة الإسلام. والذين يتركون الآن بلادهم ويهاجرون إلي البلاد الإسلامية ويقيمون فيها، عليهم أن يتذكروا أن هذا يتعارض مع التعليم النبوي ويخالف مقتضى الدين الحنيف. وفد غامد: قدم هذا الوفد في السنة العاشرة للهجرة وكان يتكون من عشرة رجال، نزلوا خارج المدينة، فأبقوا على صبي مع رحالهم وحضروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلفتم على رحالكم؟ فقالوا، خلفنا صبيا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد نام فأتى شخص فأخذ عيبة أحدكم، فقال شخص: هي لي يا رسول الله، فقال النبي. لا تقلق لقد استيقظ الصبي وجرى خلف اللص ومتاعكم كله سالم. وحين عاد القوم من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، قص لهم الصبي ما حدث، فكان مثلما أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أسلم القوم من فورهم، وأمر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أبي بن كعب ليحفظهم القرآن الكريم ويعلمهم شرائع الإسلام، وحين رجع الوفد كتب لهم شرائع الإسلام في رقعة (¬2). وفد بني فزارة: حين رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك قدم عليه وفد من فزارة ضم ما بين عشرة وخمس عشرة رجلا، كانوا قد أسلموا، وكان من بين مطيهم جملا هزيلا ضعيفا، فسألهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن حال بلادهم، فقال أحدهم، يا رسول الله أسنت بلادنا، وهلكت مواشينا وجفت بساتيننا ومات أطفالنا جوعا، فادع لنا ربك يغيثنا واشفع لنا إلى ربك وليشفع لنا ربك إليك. ¬

(¬1) زاد المعاد المجلد الأول [ص:511]. (¬2) زاد المعاد المجلد الأول [ص:244] و 3/ 671.

وفد سلامان

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبحان الله، وبيده هذا إنما شفعت إلى ربي عز وجل، فمن الذي يشفع ربنا إليه: لا إله إلا هو العظيم وسع كرسيه السماوات والأرض. ثم دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء القوم بالمطر ومما حفظ من دعائه. "اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا طبقا واسعا عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء". وفد سلامان: ضم هذا الوفد سبع عشرة شخصا قدموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال سنة 10 هـ وكان فيهم حبيب بن عمرو، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أي الأعمال أفضل فقال: الصلاة في وقتها، ثم شكوا إليه جدب بلادهم، وطلبوا أن يدعو الرسول لهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم اسقهم الغيث في دارهم. فقال حبيب: يا رسول الله، ارفع يديك وادع، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفع يديه ودعا. وحين عاد الوفد إلى بلاده عرفنا أن المطر قد نزل في ذلك اليوم الذي دعا فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وفد نجران: يفهم من تدبر الأحاديث التي وردت تحت عنوان "وفد نجران" أن رؤساء نصارى نجران حضروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين، ونورد هنا هذا الأمر بالترتيب. في رواية أبي عبد الله الحاكم عن يونس بن بكير، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل نجران كتابا يدعوهم فيه إلى الإسلام، وحين قرأ الأسقف الكتاب ذعر ذعرا شديدا، وارتعد، فاستدعى على الفور شرحبيل بن وداعة وكان من قبيلة همدان، وما كان ليتخذ رأيا في موضوع هام دون أخذ رأيه. دفع الأسقف إليه الكتاب فقرأه. ¬

(¬1) زاد المعاد المجلد الأول، [ص:505]، و 3/ 654، وابن سعد 1/ 297.

ثم قال الأسقف، يا أبا مريم أخبرنا ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية (¬1) إسماعيل من النبوة، فيمكن أن يكودن هذا هو ذلك الرجل، لا يمكن أن يكون لي في النبوة رأي، لو كان الأمر من أمور الدنيا لأمكنني أن أنظر فيه وأقول فيه رأي. قال الأسقف، حسشا تفضل بالجلوس. ثم بعث الأسقف إلى شخص آخر يدعى عبد الله بن شرحبيل من قوم حمير، فأراه كتاب النبي وسأله عن رأيه فأجابه يمثل ما أجاب به شرحبيل، ثم بعث الأسقف إلى جبار ابن فيض بن الحارث بن كعب، فأراه الكتاب وسأله الرأي، فأجاب بما أجاب به من قبله. وحين رأى الأسقف أن أحدا منهم لا يعطيه الجواب الشافي أمر بضرب الناقوس، ورفع المسوح عن الكنيسة، وقد كان هذا دستورهم إذا ما ألم بهم خطب عظيم، يضرب الناقوس وترفع المسوح في النهار وفي الليل يضرب الناقوس وترفع النيران على الجبال. وكانت هذه الكنيسة تشرف على ثلاث وسبعين قرية تضم أكثر من مائة وعشرين ألف مقاتل. وطول الوادي بقسميه الأعلى والأسفل مسيرة يوم لفارس. وحين اجتمع أهل المنطقة، وكانوا كلهم من النصارى، قرأ عليهم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسألهم الرأي والمشورة، فرأوا أن يرسلوا شرحبيل بن وداعة الهمداني، ¬

(¬1) نجد في أسفار العهد القديم إحالات كثيرة عن وجود النبوة في بني إسماعيل. أولا: كان وعد الله لإسحاق وإسماعيل على حد سواء. ثانيا: أخبر كثير من الأنبياء عن آيات وعلامات لنبي يظهر بين العرب ولما كان العرب هم فقط بني إسماعيل فإن النتيجة التي نخرج بها من هذا الأخبار هي أن النبي الموعود يكون إسماعيليا. ثالثا: إن ما ورد عن موسى عليه السلام في هذا الصدد واضح جدا، فقد ورد في سفر التثنية (18) [أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوحيه به] ويتضح من سفر التثنية الإصحاح 18 أن إخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نبي كموسى، فهو صاحب كتاب وصاحب شريعة وهو مجاهد ومهاجر وغاز، والمقصود من عبارة الكلام في الفم هو حفظ أصل كلمات الوحي، وهذه خاصية قاصرة على القرآن الكريم ولم ينل هذه المنزلة أي سفر من أسفار العهد القديم أو العهد الجديد، ولنقرأ أيضا الخبر الثاني عن موسى عليه السلام: [جاء الرب من سيناء، وأشرف لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وعن يمينه نار شريعة لهم. جاء مع جنود الملائكة] سفر التثنية الاصحاح 33 وهنا ذكر اسم فاران وهو اسم جبل بمكة، ولعل شرحبيل لاحظ هذه الإحالات فتكلم بما قاله.

وعبد الله بن شرحبيل، وجبار بن فيض الحارثي فيأتوهم بتفصيل الأخبار. وصل هؤلاء الناس إلى المدينة، وبقوا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أيام، سألوه ماذا يقول في عيسى عليه السلام فنزلت الآيات الكريمة: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من المترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} (آل عمران: 59 - 61). وقد نادى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسن والحسين بعد نزول هذه الآيات وفاطمة سيدة نساء العالمين تمشي عند ظهره وذلك للمباهلة (¬1) (...). فانتحى النصارى جانبا للتشاور، وقال شرحبيل لصاحبيه: ليس من السهل اتخاذ أي رأي في هذا الشخص، ولو اجتمع الوادي أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي، فإن كان هذا الرجل ملكا فلا تصح مباهلته .. ولو كان نبيا مرسلا فلاعناه فلا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك، ولهذا أرى أن نقبل حكمه ونترك له تحديد مبلغ الجزية. واتفق صاحباه معه في الرأي فلقي شرحبيل رسول الله وأخبره بأنه من الأفضل أن يحكم النبي فيهم بحكم آخر خير من المباهلة في الصباح. وفي اليوم التالي ضرب عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزية وكتب لهم في المعاهدة التي خطها المغيرة وشهد عليها من الصحابة أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف ¬

(¬1) من تعاليم النصارى وأقوالهم أنه ينبغي الإيمان بالتثليث دون دليل إلا أن القرآن الكريم ذكر الدليل الأول وهو أنه لو كان عيسى ولد بلا أب فلا يعني هذا أنه إله أو ابن الله، ولننظر أمر آدم فقد ولد دون أب ودون أم، ولما كان من المؤكد أن هذا الدليل لن يجدي، فقد أظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - جانبا طريفا للبحث وهو دعاء الله تعالى أن يصيب الكاذب بلعنته، فلو كان المسيح إلها أو ابن الله فلا بد أنه سيدافع عن هؤلاء الناس الذين يوضحون للناس منزلته، ولو كان هذا خطأ فإن الله تعالى سيصدر حكمه، وقد دعا - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه المباهلة فقط لإثبات التوحيد ودعمه حين أغلق باب الاستدلال، فلا يجب أن نلجأ إلى المباهلة لحل الخلافات البسيطة. (...) وتذكر الروايات الأخرى وجود علي رضي الله عنه، وكان الغرض من هذا إخبار النصارى الاستعداد للمباهلة على الفور مع أن أولاد النصارى وزوجاتهم لم يكونوا معهم في المدينة في ذلك الوقت.

والأقرع بن حابس الحنظلي. وننقل هنا فقرة من المعاهدة توضح كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رحيما كريما مع النصارى مراعيا لحقوقهم: "لنجران جوار الله وذمة محمد النبي على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وتبعتهم، وأن لا يغيروا مما كانوا عليه، ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملتهم، ولا يغير كل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم ريبة، ولا دم جاهلية ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم الجيش ... الخ" وأخذ هؤلاء المعاهدة وانطلقوا عائدين إلى نجران، وقدم الأسقف وبعض كبار أهل نجران للقائهم على بعد منزل فدفع الوفد إلى الأسقف بكتاب النبي، فأخذ يقرأه وهو يمشي، وإذا بناقة بشر تكبو به (وكان بشر بن معاوية يكنى بأبي علقمة) فتعسر بشر، فقال له الأسقف عند ذلك قد تعست والله نبيا مرسلا، فقال بشر، لا جرم والله لا أحل عنها عقدا حتى آتيه، قال هذا وغير وجهته وانطلق إلى المدينة، وتبعه الأسقف بناقته وراح يقول له: إنما قلت هذا لتبلغ عن العرب مخافة ألن يقولوا إنا أخذنا حمقة أو نخعنا لهذا الرجل بما لم تنخع به العرب ونحن أعزهم وأجمعهم دارا. فقال بشر لا والله لا أقيلك ما خرج من رأسك أبدا، فضرب بشر ناقته وهو مول ظهره للأسقف وهو يقول: إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا في بطنها جنينها ... مخالفا دين النصارى دينها ... حتى قدم بشر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يزل معه حتى استشهد بعد ذلك، ولنرى حكاية بقية الوفد. حين وصل الوفد نجران سمع أحد رهبان كنيسة نجران القصة كلها وأن نبيا بعث في تهامة، وأنه كتب إلى الأسقف، وأقبل الوفد بالكتاب إلى الأسقف فبينما الأسقف يقرأه وبشر معه كبت ببشر ناقته فتعسه، فشهد الأسقف أنه نبي مرسل فانصرف أبو علقمة نحو المدينة يريد الإسلام، وحاول الأسقف منعه ولم يستطع، فقد بدأ الراهب الذي سكن في أعلى برج الكنيسة لسنوات في الصياح والصراخ أنزلوني وإلا رميت بنفسي فأنزلوه فحمل

الراهب بعض الهدايا وانطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقدم للنبي القعب والعصا والبرد (الذي ظل محفوظا حتى عهد الخلفاء العباسيين) وأقام الراهب بعد ذلك في المدينة المنورة فترة من الزمن يدرس تعاليم الإسلام، ثم استأذن من رسول الله في العودة إلى قومه على وعد بلقاء آخر، إلا أنه لم يعد حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وصل الأسقف أبو حارثة بعد هذا الوفد بفترة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان الأسقف أبو حارثة رئيس كنيسة وكان موضع احترام ملك الروم في القسطنطينية وكان أكثر الناس يقدرونه تقديرا خاصا لما له من كرامات تنسب إليه شخصيا كما كان يعد مجتهدا في الدين، حين وصل إلى النبي كان معه الأيهم وهو قاض وحاكم، وكان يلقب بالسيد، وعبد المسيح الملقب بالعاقب، وكان حاكما للمنطقة كلها وكان معهم أربعة وعشرون من الرؤساء المشهورين وضمت القافلة كلها ستين راكبا، وصلوا إلى المسجد النبوي وقت العصر وكان ذلك وقت صلاتهم أو لعله كان يوم الأحد فأذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة في المسجد، فصلوا في الجانب الشرقي من المسجد، وقد أراد بعض المسلمين أن يمنعوهم من الصلاة في المسجد النبوي ولكن النبي منع هؤلاء المسلمين من ذلك. وكان اليهود أيضا يأتون لرؤيتهم، وكانوا يتباحثون معهم أحيانا، وذات مرة قالت اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن إبراهيم كان يهوديا، وقال هؤلاء النصارى إنه كان نصرانيا، فنزلت في ذلك الآيات التالية {يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ... ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ... ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ... إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين} (آل عمران: 65 - 68). ومرة قالت اليهود (بهدف الاعتراض على المسلمين والنصارى): هل تريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال نصراني من نجران: أخبرنا يا محمد هل تنوي هذا وتدعونا إلى هذه العقيدة؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني. فأنزل الله تعالى هذه الآيات الكريمة:

{ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}. (آل عمران 79، 80). وفي رواية محمد بن سعد أن الآيات الثمانين الأولى من سورة آل عمران نزلت في وجود هذا الوفد، وحين هم الوفد بالعودة حصلوا من رسول الله على كتاب ورد فيه صراحة ذكر الكنائس والأساقفة وننقل هنا ما جاء في هذا الكتاب. "بسم الله الرحمن الرحيم - من محمد النبي إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم وأهل بيعهم ورقيقهم وملتهم وسوقتهم وعلى كل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، جوار الله ورسوله لا يغير أسقف من أسقفته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم، ولا مما كانوا عليه على ذلك جوار الله ورسوله أبدا ما نصحوا وأصلحوا عليهم غير منقلبين بظالم ولا ظالمين" (كتبه المغيرة بن شعبة) (¬1). وقالوا للنبي وقت انصرافهم: أرسل معنا رجلا أمينا نؤدي له الجزية (¬2)، فأرسل معهم النبي أبا عبيدة بن الجراح وقال: هو أمين أمتي. وقد انتشر الإسلام بجهود أبي عبيدة رضي الله عنه في تلك المنطقة (¬3). ¬

(¬1) فتوح البلدان [ص:99]. (¬2) لفظ جزية معرب من الفارسية - (كزية) ومع انتقال هذا اللفظ إلى العربية، انتقلت عادة فرض الجزية من إيران إلى العرب أيضا حين كانت بعض المناطق العربية خاضعة لإيران قبل الإسلام وكان بلاط إيران يعمل طبقا لقانون الإمبراطورية الرومانية في هذا الشأن، إلا أن الكثير من الاعتراضات توجه ضد فرض الجزية، كما كثرت الردود أيضا إلا أنني أحيل القارئ إلى رواية واحدة إيجازا، يفهم منها الأسس التي وضعت عليها قوانين الجزية في الإسلام، وكيف يحصل دافع الجزية على حقه كاملا متساويا في ذلك مع المسلم، فقد ورد في كتاب فقهي موثوق فيه لما يلي: "فإن بذلوها فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، لقول علي أمير المؤمنين: إنما بذلوا الجزية ليكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا (الهداية ط كلكتا [ص:413]) والترجمة الإنجليزية من تشارلز هلسن مجلد 2/ 142. (¬3) زاد المعاد المجلد الأول، [ص:95].

وفدالنخع

وفدالنخع: قدم وفد النخع على النبي - صلى الله عليه وسلم - في نصف المحرم من السنة الحادية عشرة للهجرة، ولم يحضر بعد ذلك أي وفد، وتضمن الوفد مائتي رجل كانوا قد أسلموا على يد معاذ بن جبل رضي الله عنه، فنزلوا في بيت الضيافة، وكان من بينهم رجل يدعى زرارة بن عمرو قال للرسول - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، إني رأيت في سفري رؤيا عجيبة، قال النبي: وما رأيت؟ قال: رأيت أتانا تركتها في الحي كأنها ولدت جديا أسفع أحوى. فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل تركت امرأة لك في حملها؟، فقال: نعم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنها ولدت غلاما وهو ابنك. فقال زرارة: فما باله أسفع وأحوى؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أدن مني، وسأله: هل في جسمك برص تكتمه؟ قال: والذي بعثك بالحق ما علم به أحد حتى اليوم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد أثر هذا على الطفل. وحكى زرارة رؤياه الثانية فقال ورأيت النعمان بن المنذر (¬1) عليه قرطان مدملجان ومسكتان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته. وقال زرارة، ورأيت عجوزا عليها شعر بعضه أبيض وبعضه أسود وقد خرجت من الأرض. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك البقية الباقية من الدنيا. قال زرارة: ورأيت نارا ظهرت من الأرض، فحالت بيني وبين ابني، وكانت النار تقول: لظى لظى بصير أو أعمى، أطعموني أنفسكم وأهلكم ومالكم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تلك فتنة آخر الزمان قال زرارة. وكيف ستكون الفتنة؟. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يقتل الناس إمامهم ويشتجرون اشتجار أطباق الرأس، كما تتخالف ¬

(¬1) زاد المعاد المجلد الأول، [ص:518].

أصابع اليد، يحسب المسيء فيها أنه محسن ويكون دم المؤمن عند المؤمن فيها أحل من شرب الماء. إن مات ابنك أدركت الفتنة وإن مت أنت أدركها ابنك. فقال زرارة: يا رسول الله ادع الله أن لا أدركها. فدعا رسول الله ألا يدركها. فمات زرارة وبقي ابنه، وكان ممن خلع عثمان رضي الله عنه (¬1). ¬

(¬1) زاد المعاد المجلد الأول، [ص:518].

الباب الرابع

الباب الرابع أهم أحداث العهد المدني (عشر سنوات) ووفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - •---------------------------------• لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة لم يطب له المقام نظرا لأن أعداء مكة دأبوا على حبك المؤامرات والقيام بالهجمات والحروب ضده مما كان يقلق المسلمين الذين بيعوه - صلى الله عليه وسلم -. ولأن كاتب هذا الكتاب قد سجل هذه الأحداث بعد الهجرة مباشرة لهذا اختل ترتيب الموضوعات. وفي هذا الباب أورد ذكر أهم الأحداث التي وقعت أثناء إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، ولضرورة الإيجاز تم اختيار حادثة واحدة على الأقل من كل سنة. ومطالعة هذا الباب بإمعان توضح للقارئ أمورا كثيرة تتعلق بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى ضوئها يجب على الأمة أن تصلح من أحوالها وأسلوبها. بناء المسجد النبوي: بني المسجد النبوي حيث بركت ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وصل إلى المدينة قادما من مكة، وكان هذا المكان ليتيمين يقوم على تربيتهما أسعد بن زرارة، وكان أسعد قد أقام في هذا المكان قبلا مكانا صغيرا للصلاة، وحين أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ هذا المكان مسجدا، رفض الغلامان اليتيمان أن يأخذوا قيمة الأرض، وأرادت قبيلة بني النجار أن يسمح لها بدفع قيمة الأرض، فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - وابتاعه من الغلامين بعشرة دنانير، ودفع الثمن أبو بكر الصديق، ثم سويت الأرض وبنى عليها المسجد، وكان طوله مائة ذراع. وشارك النبي - صلى الله عليه وسلم - في بناء المسجد فكان يحمل الطين والحجارة ويقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة (¬1) ¬

(¬1) صحيح البخاري عن أنس، كتاب الصلاة.

إسلام عبد الله بن سلام (سنة 1هـ)

وكان الصحابة أيضا ينقلون الحجارة ويرتجزون هذا الشعر: لئن جلسنا والرسول يعمل ... لذاك منا العمل المضلل وكان ارتفاع المسجد الذي بنيت جدرانه من الطين اللبن ثلاثة أذرع، وكانت أعمدته جذوع النخيل وسقفه من السعف. وقال الصحابة ألا نسقفه؟ فقال النبي: لا، هكذا أفضل كعريش موسى (¬1). وكان السقف إذا نزل المطر يتقطر منه الماء فيسقط الطين على أرضية المسجد، وكان المسلمون المؤمنون بربهم يسجدون فوق هذا الوحل (¬2). إسلام عبد الله بن سلام (سنة 1هـ): كان عبد الله من أحبار اليهود، يرتبط نسبه بيوسف الصديق، سمع وعظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: (يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام) فثبتت هذه الكلمات في قلبه فأضاء بنور الإيمان وفكر في أحوال النبي فوجد أن أخبار كتب الأنبياء السابقين تنطبق على ذاته المباركة، فحضر إلى النبي، وعرض بعض القضايا الصعبة التي كان يظن أنه لا يستطيع حلها سوى نبي الله وحين سمع الإجابة الصحيحة من النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله لقد جئت مسلما مؤمنا ولكني أريد قبل أن أعلن إسلامي أن تدعو قومي وتسألهم رأيهم عني، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أكابر اليهود، واختفى عبد الله بن سلام، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - القوم، أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ فقالوا: ¬

(¬1) زاد المعاد 1/ 308 (¬2) لم يحدث أبو بكر الصديق شيئا في المسجد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام عمر الفاروق رضي الله عنه فضم إليه بيت العباس، وقد وهب العباس داره للمسجد، أما عثمان الغني رضي الله عنه فقد بناه بالحجارة وجعل أعمدته من الحجارة وسقفه من الساج، (البخاري باب بنيان المسجد) وجعل أرضيته من حصباء العقيق. وأول من اتخذ فيه المقصورة مروان بن الحكم في عهده وجصص عليها، وقام الوليد ابن عبد الملك في عهد إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة بإعادة بناء المسجد من جديد، وأرسل من الروم والقبط من مصر والشام ثمانين مهندسا، وكان البناء من حجر الرمر، وزاد على البناء السابق قليلا، واكتمل سنة 7هـ أو 88هـ وقام المهدي العباسي بزيادة مساحة المسجد.

إسلام أبي قيس الراهب الفاضل (سنة 1هـ)

هو سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا (¬1)، وعندئذ خرج عليهم عبد الله وهو ينطق بالشهادة. وحين رأى اليهود أنه أسلم قالوا: إنه أجهلنا وابن أجهلنا وأذلنا وابن أذلنا. وبإسلام عبد الله بن سلام هذا الصحابي الجليل، أظهر الله الحجة على اليهود جميعا. إسلام أبي قيس الراهب الفاضل (سنة 1هـ): بعد إسلام عبد الله بن سلام أعلن أبو قيس صرمة بن أبي أنس إسلامه، وكان نصرانيا راهبا، فصيح اللسان، شاعرا واعظا وعالما باللاهوت وبإسلامه أقام الله الحجة على النصارى جميعا. الصلاة: في السنة الأولى للهجرة زيدت ركعتان في الصلاة المفروضة، فأقرت الركعتان في السفر، وجعلت صلاة الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات فرضا وأثناء الإقامة بمكة كانت الصلاة المفروضة ركعتين. ولو ورد هذا الخاطر على الذهن وهو كيف يصبح المسلم في مكة غريبا لمجرد إسلامه، وكيف أن أقاربه وأحبابه يصبحون غرباء عنه، وكيف كان كل مسلم على استعداد للهجرة من مكة في أي وقت؟ لقيل بأن كل مسلم في مكة كان في حالة سفر دائم وهذا هو السبب الذي من أجله اعتبرهم الله تبارك وتعالى مقيمين بعد وصولهم إلى المدينة. والصلاة هي أول ركن من أركان الإسلام يفرض على المسلم (فيستحب للطفل أن يصلي وهو في السابعة من عمره كما تفرض عليه الصلاة وهو في العاشرة)، وفرضية الصلاة مستمرة وقائمة على الإنسان حتى النهاية أي حتى لحظة الموت، ولا تسقط فرضية الصلاة على المسلم في أي حال من الأحوال، في الصحة أو المرض، في السراء أو الضراء، في السفر أو الحضر، أو في الخوف والخطر، ومهما كان هذا المسلم في بلد استوائي حار أو قطبي بارد، وليس هناك أي عارض من العوارض يسقط الصلاة عن المسلم. 1 - فالمداومة على عبادة الله طوال العمر مظهر لكمال ثبات العقيدة، والمحافظة ¬

(¬1) صحيح البخاري عن أنس بن مالك باب هجرة النبي.

المؤاخاة

على الصلوات الخمس بأوقاتها يوميا يعود المسلم على الالتزام بالمحافظة على الوقت، كما أن تطهير الجسم واللباس والمكان من الأوساخ والنجاسة خير وسيلة إلى صحة الجسم، هذا بالإضافة إلى أن تأدب القلب واللسان والجوارح أمام العظمة الإلهية وجلال الله وكبريائه هو نور مدهش يؤدي إلى التنوير الروحاني. 2 - وعلى قدر الالتزام بالصلاة تكون مبادرة الإنسان إلى النوم والاستيقاظ، وكأنه يخضع كل هذا إلى جدول زمني محدد، وهذا يعني أن الإسلام يقضي عن طريق الصلاة على أهواء النفس وشهواتها. 3 - إن حضور المسجد للصلاة، والتزام الجماعة هو روح التمدن والرقي، ومن أظهر الوسائل للاتحاد والانسجام وتبادل الأفكار والآراء فالأمي يسهل عليه أن يتعلم من خلال الأشباه والنظائر، كما يمكن للعالم أن يؤدي واجبه في الدعوة بسهولة ويسر، ويتلقى الغني بوقوفه جنبا إلى جنب في الصلاة درس المساواة، ويرضى الفقير نفسه وروحه بعدالة الإسلام حين يجد نفسه جالسا بجوار الغني. 4 - إن من يتركون الصلاة أو يتكاسلون في الحضور إلى المسجد أو التزام الجماعة يحرمون من هذه الفضائل الخلقية، ولا يخفى مصير الأمة التي يتجرد أفرادها من هذه المثل الأخلاقية: يقول تبارك وتعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر}. المؤاخاة: جعل الله تبارك وتعالى المسلم أخا للمسلم وهكذا قال: {فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}. 1 - ومن آثار هذه الأخوة أنه لو عقد مسلم معاهدة مع قوم معادين وجب على جميع المسلمين الالتزام بهذه المعاهدة التزاما كاملا. ولو ذهب مسلم إلى بلد بعيد فإن الأمة كلها تطلب له السلامة والعافية، ولو تعرض لظلم معتد، التزمت الأمة كلها برد هذا المعتدي والثأر منه. كما أن كل مسلم يرى أن قضاء حاجة اليتيم والأرملة وطالب العلم فرض عليه مثلما يلتزم بذلك تجاه أولاده وتجاه أولاد شقيقه وأرملته.

2 - وكانت هناك أخوة أكبر من هذه الأخوة وهي تلك التي أقامها النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أفراد المسلمين، وكانت هذه الأخوة في مكة بين أهل مكة، وفي المدينة بين المهاجرين والأنصار، وأيضا بين أهل المدينة فيما بينهم. وتلك الأخوة التي أقامها بين المهاجرين والأنصار هي أشهرها جميعا. وبمقتضى هذه المؤاخاة وصل تأثير العلاقة فيما بينهم إلى أنهم كانوا يتوارثون (¬1)، ففي الساعة التي تنعقد فيها المؤاخاة كان الأخ الغني يعطي أخاه الفقير نصف ماله ونصف ممتلكاته، وقد أثبت المؤرخون أسماء الأشخاص الذين توثقت بينهم صلة المؤاخاة المذكورة، نذكر منهم تيمنا: - محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع علي المرتضى رضي الله عنه. - أبو بكر الصديق مع خارجة بن زيد عقبي البدري. - عمر الفاروق مع عتبان بن مالك البدري. - عثمان بن عفان مع أوس بن ثابت البدري. - جعفر بن أبي طالب الهاشمي مع معاذ بن جبل البدري. - أبو عبيدة بن الجراح القرشي الفهري مع سعد بن معاذ البدري. - عبد الرحمن بن عوف الزهري مع سعد بن ربيع البدري. - زبير بن العوام الأسدي مع سلمة بن سلامة العقبي. - طلحة بن عبيد الله القرشي العدوي مع كعب بن مالك. - سعيد بن زيد القرشي العدوي مع أبي بن كعب العقبي. - مصعب بن عمير العدوي مع أبي أيوب العقبي. - أبو حذيفة بن عتبة مع عباد بن بشر. - عمار بن ياسر مع حذيفه بن اليمان. - سلمان الفارسي مع أبي الدرداء حكيم الأمة. ¬

(¬1) بقي التوارث قائما ما لم يشمل الغنى والثراء كافة القوم فعندئذ ينتقل الإرث إلى الورثة.

الأذان

- منذر بن عمرو مع أبي ذر الغفاري. رضي الله عنهم أجمعين (¬1). ولم يشهد العالم نموذجا للأخوة أسمى من ذلك النموذج الذي وجد في الإسلام. الأذان: بدأ الأذان في السنة الثانية للهجرة، وقد شعر بضرورته في البداية حتى يجتمع الناس ويصلون في وقت واحد، واستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه حتى يدلوه على الطريقة التي يمكن جمع الناس بها، فقال بعضهم يمكن إشعال النار من فوق مكان عال (كما كان عليه الحال عند المجوس) وقال البعض الآخر يمكن استخدام البوق (كما كان يفعل اليهود) ورأى البعض أنه يمكن استعمال الناقوس (كما كان يفعل النصارى)، فلم يقبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيا من هذه الآراء، وفي اليوم التالي قدم عبد الله بن زيد الأنصاري وعمر الفاروق واحدا بعد الآخر وذكر للنبي أنه سمع في المنام تلك الألفاظ التي تقال الآن في الأذان وهكذا أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينادى بهذه الألفاظ بصوت عال وكانت هذه الألفاظ تحقق رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي استهدفها في تشريع الأحكام والأذان هو إعلام بطريقة سهلة بسيطة تتلاءم مع الدين العالمي، وهو في الحقيقة إعلان ونشر لمبادئ الإسلام. إذ يقوم المسلم بإيصال هذه المبادئ إلى آذان سكان كل بلدة وما جاورها، يخبرهم عن طريق النجاة، ولا يمكن لعملية توزيع المنشورات أو النداء بمثل ما ينادى به للاجتماعات أن يصل إلى ما يمكن للأذان أن يحققه من نتائج. فالأذان يبرهن على أن الإسلام فضل الصوت الإنساني على الناقوس والمعدن، وهذا أيضا أسلوب للقضاء على الوثنية ودعم التوحيد. إسلام سلمان الفارسي: أسلم سلمان الفارسي في السنة الثانية من الهجرة، وكان من أهل أصفهان، وكانت ديانته القديمة هي عبادة الفرس الأبلق، خرج من بيته بحثا عن الدين الحق، ¬

(¬1) ويرى ابن خلدون وابن تيمية وابن القيم أن المؤاخاة كانت بين مهاجر وأنصاري ولهذا فلا يجوز أن نقول بأن النبي ضم علي بن أبي طالب إلى عقد المؤاخاة لأن عليا كان من المهاجرين إلا أن بقية العلماء لم يروا هذا الرأي وذكروا أمثلة من المؤاخاة ضم أصحابها مهاجرين فقط، وهذا هو الرأي الأرجح وضمن عملية المؤاخاة جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا أخاه، لأنه كان أخاه في القرابة، ولو آخى بينه وبين رجل آخر ليس أخا له في القرابة لنتج عن هذا مشكلات لا حصر لها.

تحويل القبلة

فوصل إلى بلاد العرب، فقبض عليه أحدهم وباعه إلى أحد اليهود، وبعد تنقله من مذهب إلى آخر، وبعد أن مر على عشرة مذاهب دخل في اليهودية. وكان اليهودي الذي أقام عنده سلمان كثيرا ما يذكر له أوصاف النبي الذي سيظهر قريبا. ولما رأى سلمان النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، عرفه من خلال العلامات والآثار والأخبار التي سمعها من سيده، فأعلن إسلامه وسمى باكورة ثمار بلاد فارس. تحويل القبلة: كان من عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوافق أهل الكتاب في الأمور التي لم يؤمر فيها بأمر من الله تعالى (¬1). وكانت الصلاة قد فرضت في أول النبوة، ولكن لم يرد حكم يتعلق بالقبلة، ولهذا اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيت المقدس قبلة طوال إقامته بمكة لثلاثة عشرة سنة، وعمل بهذا أيضا حين وصل إلى المدينة، إلا أنه في العام الثاني للهجرة أو بعد سبعة عشر شهرا (¬2) أنزل الله تعالى في هذا حكما، وكان هذا الحكم موافقا لرغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرغب من كل قلبه أن تكون قبلة المسلمين ذلك المسجد الذي بناه إبراهيم عليه السلام والذي أطلق عليه الكعبة لأن مبناه مكعب الشكل وقد سمى ببيت الله نظرا لأنه بني لعبادة الله فقط وسمى بالمسجد الحرام لعظمته وحرمته، والحكم الذي أنزله الله تعالى في القرآن يتضمن ما يلي: 1 - أن لله نسبة في جميع الجهات على حد سواء {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله}. 2 - وأن اتخاذ جهة من الجهات للعبادة معروف لدى جميع البشر {ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا}. 3 - وأن التوجه إلى جهة ما لاصلة له بأصل العبادة {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب}. 4 - وأن الهدف الأساسي من تحديد القبلة هو وضع علامة مميزة لأتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - {لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}. ¬

(¬1) عن ابن عباس رضي الله عنهما في تيسير الأصول ج 1 باب المسلم والفرق. (¬2) ابن خلدون ج 2 [ص:19].

وكان هذا هو سبب بقاء بيت المقدس قبلة للمسلمين طيلة إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة لأن مشركي مكة لم يكونوا يحترمون بيت المقدس كما أنهم أنفسهم جعلوا من الكعبة معبدهم الأكبر ولهذا كانت العلامة الواضحة لقبول الإسلام ونبذ الشرك في مكة هي التوجه إلى بيت المقدس لأداء الصلاة. وحين وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، كان معظم السكان هناك من اليهود والنصارى، ولم يكونوا يعظمون المسجد الحرام (الكعبة) في مكة، وكانوا يعتبرون بيت المقدس هو بيت [ايل] أو هيكل أو كليسيا ولهذا كانت العلامة الواضحة لقبول الإسلام وترك الدين المتوارث عن الآباء هي الاتجاه إلى المسجد الحرام بمكة المكرمة لأداء الصلاة. وطبقا للحكم الإلهي صار هذا المسجد قبلة للمسلمين على الدوام، وقد بين الله تعالى سبب هذا الحكم بقوله: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين} (آل عمران: 96). أي نظرا لسبقه الزمني وعظمته التاريخية كان من المناسب جعله قبلة للعالمين. {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} (البقرة: 127). أي أن مؤسس هذا المسجد وبانيه هو إبراهيم عليه السلام وهو الجد الأعلى لليهود والنصارى والمسلمين، فإن جعل مسجد جد هذه الأمم العظيمة قبلة إنما هو دعوة للوحدة الروحية بين هذه الأمم الثلاثة بتذكيرها بوحدتها في النسب والدم، وفي هذا إبلاع لرسالة الوحدة بين هذه الأمم: {ادخلوا في السلم كافة} (البقرة: 208). وإني على يقين أن أيا من المذاهب لا يمكن أن ينكر السبق الزمني والعظمة التاريخية للكعبة فاليهود والنصارى متفقون على أن داود عليه السلام هو مؤسس أورشليم وأن سليمان عليه السلام هو الذي بناها ومن هنا فإن بناء الكعبة قد سبق بناء أورشليم بنحو 925 سنة وقبل ظهور المسيح بألف وتسعمائة وواحد وعشرين سنة. وقد جمع مستر آر سي دت C. DATTR في كتابه "حضارة الهند القديمة" CIVILIZATION OF ANCIENT INDIA CIVIL شهادات عدد من العلماء واستنتج منها أن الدور الأول لحضارة الهند أي بداية عصر الفيد سبق المسيح عليه السلام بألف وأربعمائة

سنة، وكتب أيضا أنه لم يكن هناك أي معبد وثني (مندر) في ذلك الوقت (¬1) وهذا يثبت أنه لم يكن هناك أي دار للعبادة في الديانة الآرية وقت تعمير الكعبة، ويعرف من مجموعة الأناجيل أن الله تعالى كان قد أخبر أهل الكتاب بداية أن المسجد الذي سيتخذ قبلة في النهاية هو أرفع منزلة مما قبله. ونورد فيما يلي بعض الأمثلة والإحالات: أولا: الإصحاح الستون من سفر النبي أشعياء كل ما ورد فيه هو عبارات ثناء على مكة ولنرى الآية 5: 5 - "حينئذ تنظرين وتنيرين ويخفق قلبك ويتسع لأنه تتحول إليك ثروة البحر ويأتي إليك غنى الأمم. 6 - تغطيك كثرة الجمال، بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا، تحمل ذهبا ولبانا، وتبشر بتسابيح الرب. 7 - كل غنم قيدار تجتمع إليك، كباش بنايوت تخدمك، تصعد مقبولة على مذبحي وأزين بيت جمالي". ومن الواضح هنا أن التعبير "بيت جمال" هو ترجمة لفظية للبيت الحرام واسم الكعبة هذا ورد في القرآن الكريم، وهذا يصدق أيضا من الصحف السابقة، ومعنى تزين هذا البيت وتعظيمه هو جعله قبلة. ومما يوضح أن المراد ببيت جمال هنا هو الكعبة دون غيرها هو أن الآية السادسة والسابعة تذكران اجتماع أهل مديان وعيفا وسبا وقيدار وبنايوت وتقديمهما القرابين، وهؤلاء الخمسة أبناء إبراهيم أو أحفاده، وقد سكنوا في الجزيرة العربية ودخلت قبائل من نسلهم في دين محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط ولم يدخلوا النصرانية ولا اليهودية، وقد قاموا مجتمعين بتقديم قرابينهم في مذبح واحد فقط هو منى فأسماء الأمم، وعنوان منى وإسلام العرب قاطبة وحضورهم جميعا في حجة الوداع عند النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، كل هذه أحداث تاريخية تؤكد يقينا معنى الآيات السابقة. ¬

(¬1) الترجمة الأردية أي دى. أحمد جيبوري [ص:7]، 8.

ثانيا: في سفر النبي حجي (520 ق. م.) الإصحاح الثالث ورد ما يلي: "مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول، قال رب الجنود: وفي هذا المكان أعطى السلام (¬1) (الأمن أو السلم أو الإسلام) ثالثا: ورد في رؤيا يوحنا، الإصحاح الثالث ما يلي: "من يغلب فسأجعله عمودا في هيكل إلهي ولا يعود يخرج إلى خارج، وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي أورشليم الجديدة النازلة من السماء من عند إلهي واسمي الجديد من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس". فيوحنا هنا ذكر أورشليم الجديدة والاسم الجديد فالأول هو الكعبة. واسم الله الجديد الذي جعله العرب أيضا مع كونهم أهل العربية هو "الرحمن" (1) وقد أبرزه الإسلام، ونزول أورشليم من السماء يعني أن حكم اتخاذ القبلة قبلة ينزل من السماء وتشير إلى هذا آيات القرآن الكريم: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها} (البقرة: 144). رابعا: ورد في الزبور (84) ما يلي: (4) طوبى للساكنين في بيتك أبدا يسبحونك. (5) طوبى لأناس عزهم بك، طرق بيتك في قلوبهم. (6) "عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعا (أيضا) ببركات يغطون مورة" (عن الكتاب المقدس الطبعة العربية على نفقة الجمعية البريطانية والأجنبية لنشر الكتاب المقدس في مطبعة المدرسة اكسفورد 1871 م - الكتاب المقدس ط آرفن سكول مرزابور سنة 1870 م الترجمة الإنجليزية). من خلال ملاحظة العبارات السابقة التي وردت باللغات الثلاثة العربية والأردية والإنجليزية وهي من طبعات نشرتها جمعية تنصيرية واحدة يتضح ما يلي دون أدنى ¬

(¬1) وردت في الطبعة العربية للكتاب القدس، العهد القديم ط اكسفورد عام 1871 [ص:1339] كلمة "السلام" وفي الطبعة الأردية ط مرزابور سنة 1870 م سلامتي أي السلام ولهذا فمن حق المسلمين ترجمة هذه اللفظة بالإسلام لأنهم يستعملون هذا اللفظ في الدعاء بعد كل صلاة: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ربنا وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام".

خلاف: 1 - الآية الرابعة توضح أن لله بيتا وأهله مباركون وعلامتهم أنهم يسبحون الله دائما. 2 - الآية الخامسة توضح أن مصدر عزتهم وقوتهم من الله تعالى، لا من الأسباب الدنيوية. 3 - وحسب الآية السادسة فإن كلمة (بكا) موجودة في اللغات الثلاث العربيه والأردية والإنجليزية وهذا يدل على أنها اسم علم معرفة لا يتغير في أي لغة وطبقا لقواعد الكتابة الإنجليزية فاسم المعرفة يكتب أول حرف فيه كبيرا Capital ولهذا جاء الحرف الأول في بكا هكذا B. 4 - وردت كلمة الوادي بالعربية والأردية وكلمة Valley الإنجليزية وردت قبل كلمة بكا. 5 - ويظهر من العبارة في اللغات الثلاث أن القاطنين هناك سوف يقيمون بئرا في وادي بكا. والآن نعطي الدليل على ما ذكرنا سابقا. أ - ساكنو البيت المذكورون في الآية الرابعة هم إسماعيل وأبناؤه، ودعاء إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم. {رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم}. ب - والوادي الذي سبق وصفه في الآية بأنه غير ذي زرع، ورد اسمه في القرآن الكريم في آية أخرى "بكة" {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} وهكذا اتفق القرآن والزبور على أن اسم مكة عند الله هو بكة (¬1). ج - ويبقى هنا إثبات بناء البئر في وادي بكا. وقد ورد في صحيح البخاري (كتاب الأنبياء [ص:3]) حديث طويل (عن ابن عباس) ¬

(¬1) كان العرب غاضبون جدا من اسم الرحمن الذي ورد في القرآن الكريم، {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن} (الفرقان) {وهم بذكر الرحمن هم كافرون} (الأنبياء) ويوم صلح الحديبية قال سهيل: (وأما الرحمن فوالله لا نعرفه).

عن مجيء إسماعيل عليه السلام ووالدته وقد جاء في الفقرة رقم (20). "فلما بلغت (أي هاجرة) الوادي سعت". وفى الفقرة رقم (29): "وغمز عقبيه على الأرض، قال فانبثق الماء فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفر". وهكذا يرى القارئ أن ما ورد ذكره في الزبور عن هذا المكان هو بكة وأن المسجد الموجود بها هو بيت الله أيضا وتأكد وجود بئر بها أيضا وأن سكانهما مباركون يذكرون الله على الدوام. وهذا دليل كاف على ما ذكرناه بشأن تحويل القبلة. وأود الآن أن أشير إلى معنى الآية الخامسة الترجمة العربية وأبين المعنى الذي ورد في الأردية والانجليزية. ورد في العربية "طرق بيتك في قلوبهم" والمعنى الحرفي هو "الطرق المؤدية إلى بيتك في قلوبهم". لكن في الترجمة الأردية والإنجليزية حذفت كلمة "بيت" وجاءت الترجمة الأردية (طرقك) وفي الإنجليزية (طرقهم). وجاء في القرآن الكريم: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم 5 ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} (إبراهيم: 37). والأمر الثاني أن الجزء الأول من الآية الخامسة جاء في الترجمة العربية هكذا: "طوبى لأناس عزهم بك" أي جاءت كلمة أناس بصيغة الجمع، وورد أيضا ضمير الجمع في عزهم، إلا أنه في الترجمة الأردية ورد اللفظ مفردا "مبارك وه انسان جس مين قوت تجه سى هى". "مبارك ذلك الإنسان وجاء الضمير جس هنا للمفرد، ولو كان جمعا لاستعمل الضمير جن ضمير الجمع وحتى اللاحقة جاءت هى للمفرد وليس هين لاحقة الجمع. ونفس التعبير جاء في الإنجليزية فاستخدم Man واستخدم ضمير Whose للمفرد، وهذا يثبت صحة الترجمة العربية وخطأ الترجمتين الأردية والإنجليزية.

الزكاة

والفقرة: طوبى لأناس عزهم بك" في الترجمة العربية هي في الأصل صفة للفقرة الرابعة: طوبى للساكنين في بيتك". والنتيجة أن الموضوع الوارد ذكره في التوراة هو بالدليل القاطع عن بكة بيت الله، وزمزم، وأولاد إسماعيل - ولله الحمد. والحقيقة أنه من نعم الله أن جعل بيته الموجود في وادي بكا قبلة لنا، دون أورشليم لأن الدين (الإسلام) الذي قال الله في حقه (ليظهره على الدين كله) يناسبه أن تكون قبلته هذا البيت، وليس ذلك البيت الذي حطمه كل فاتح كافر وخربه ثم حوله في النهاية مبرز، واسترق سكانه مرة بعد مرة، فأسرهم أو نفاهم. وفي الآيات السابقة (4، 5) من الزبور بارك الله سكان بيت الله بوادي بكا، وظل هذا الأثر باقيا منذ آلاف السنين فالأمة التي سكنت الوادي أمة حرة والبيت الموجود في هذا الوادي لم يحدث أن وقع في قبضة أمة أخرى. الزكاة: من أعقد وأصعب قضايا علم الاقتصاد أو التمدن أو الاقتصاد السياسي إيجاد توازن بين أفراد الأمة من ناحية الفقر والغنى ومنذ عهد الحكيم سولون وإلى اليوم لم يتمكن أي عقل بشري من إيجاد حل لهذه المعضلة. وفي أوربا نشأت فرقة تهدف تحقيق المساواة بين أفراد الأمة في السيطرة والتحكم في الممتلكات والاستحقاقات ثم ظهرت بعدها الجماعة الشيوعية التي كانت تهدف إلى القضاء على الملكية الفردية لوسائل المعيشة (الاقتصاد) وتحويلها إلى ملكية الشعب. ثم ظهرت جماعة "الوطنين" وكانت تهدف إلى القضاء على السيطرة الفردية على ملكية الأراضي السكنية والزراعية وكذلك الإنتاج. وقد ظهرت هذه الجماعات كلها لتتمكن من حل هذه المعضلة سابقة الذكر. إن القضاء على حق التمليك أمر مستحيل إذ لم يطبق حتى الآن في أي منطقة في العالم. ولذا أصدر القرآن الكريم قراره في ذلك منذ البداية:

{والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء} (النحل: 71). والإسلام الذي يهدف إلى جعل المسلمين من أحسن الأمم في الدنيا، أولى هذه المسألة عناية فائقة وأوجد لها حلا نهائيا وهذا الحل يتمثل في فرض الزكاة. وقد فرضت الزكاة على المسلمين في السنة الثانية للهجرة، وكان قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - الرحيم متعاطفا مع المساكين رحيما بالفقراء مواسيا للمتألمين، والإسلام منذ البداية حث المسلمين بصفة خاصة على مؤازرة الفقراء والمساكين، فتعاطفهم هو أنيس الفقراء، وانطلاقا من هذه التربية الطاهرة كان المسلمون يقومون بعمل الشيء الكثير للفقراء والمساكين، ومع هذا لم تكن هناك قاعدة ثابتة مقررة يمكن اعتبارها قانونا يعمل به، ولذا كان ما يجود به الأغنياء نابعا من كرمهم وجودهم. ثم فرض الله تعالى الزكاة وجعلها الركن الثالث للإسلام (بعد الشهادة والصلاة)، والزكاة في الحقيقة هي اسم لتوظيف صفة التعاطف والرحمة الكامنة في قلب الإنسان بالفطرة تجاه أبناء جنسه، والفائدة التي تعود على المزكي من أداء الزكاة هي أن حب المال لا يمكن أن يطغى على الأخلاق الإنسانية، كما أن الإنسان من ناحية أخرى يتطهر من عيوب البخل والإمساك بالإضافة إلى أن الإنسان يعتبر الفقراء والمساكين جزءا لا يتجزأ من أمته، ولهذا لا يدفعه جمع ثروة لأحد لها إلى الكبر والغرور. ومن فوائد الزكاة أيضا أن طبقة الفقراء وهي طبقة عريضة تستأنس بدافع الزكاة وتحبه كما أنها تتعاطف معه وتطلب له المزيد من الثروة والغنى لأنهم يرون أن لهم نصيبا فيها، وكأن ثروة الغني المسلم ثروة شركة يشترك فيها المساهمون بأنصبة متفاوتة. أما الفائدة التي تعود على الأمة من الزكاة فهي انعدام عادة التسول تماما. وقد جعل الإسلام حق الفقراء في ثروة الأغنياء في الأموال النامية فقط، فلا يشق ذلك على الأغنياء، والأموال النامية هي التجارة والزراعة والمواشي (من الغنم والضأن والإبل والبقر) والنقود والمعادن والركاز. والمستحقون لهذه الأموال ورد ذكرهم في القرآن الكريم (¬1): ¬

(¬1) يمكن الرجوع لكتبه الفقه لمعرفة جنس الزكاة ومقدارها بالتفصيل لأن هذا خارج عن موضوع الكتاب.

{إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} (التوبة: 60). فمصارف الزكاة الثمانية التي ورد ذكرها في الآية الكريمة توضح كيف تفي فرضية الزكاة وفاء كاملا بحاجات الدولة والأمة والأفراد النوعية والشخصية. وينبغي أن نفكر في المصرف الخامس الوارد في الآية الكريمة السابقة (وفي الرقاب) لنعرف أن الإسلام قد وزع الدخل الكلي للدولة الإسلامية على ثمانية أقسام خص منها القسم الخامس لعتق الرقاب. والمطلعون على تاريخ العالم يعرفون جيدا أن الرق عرف في جميع الأمم المتحضرة كالصين والهند ومصر وروما وإيران منذ آلاف السنين والمسيح الرحيم لم ينطق بحرف ضد الرق. ولكن بولوس أكد على دعم الرق فهو يقول: "أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما للمسيح" (¬1). فالإسلام هو أول دين نادى بتحرير العبيد ونصرتهم واتخذ لذلك مراحل مختلفة: المرحلة الأولى: جعل تحرير الرقيق من أصول البر {والسائلين وفي الرقاب} (البقرة: 177). المرحلة الثانية: جعل تحرير الرقبة وسيلة للنجاة {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة} (البلد: 11 - 13). المرحلة الثالثة: جعل كفارة بعض الذنوب تحرير الرقبة: مثل القتل الخطأ (وهو ما يسميه القانون الحالي (1) قتلا يستوجب العقاب) وهو على ثلاثة أقسام: أ - أن يكون القتيل مسلما. ب - أن يكون القتيل مسلما من قبيلة محاربة. ¬

(¬1) العهد الجديد لرسالة بولس إلى أهل أفسس ([ص:318]) وانظر الأصحاح السادس من رسالته إلى تيموثاوس والإصحاح الثاني من رسالته إلى تيطس والأصحاح الثاني من رسالته إلى بطرس الرسول.

ج - أن يكون القتيل غير مسلم من أهل العهد. وفي أ، ب يجب تحرير الرقبة وفي ج تحرير الرقبة. [انظر النساء: 92]. د - نقض اليمين [المائدة: 95]. هـ - الظهار [المجادلة: 3]. و- الإفطار العمد في رمضان [البخاري 7/ 236]. ز - ضرب السيد لخادمه ضربا مبرحا [البخاري 7/ 236، ومسلم 1/ 782]. وكفارتها جميعا تحرير رقبة. وبعد هذا كله خصص الإسلام ثمن دخل الدولة الإسلامية بصفة دائمة لهذا الأمر. في القرن التاسع عشر الميلادي أنفقت انجلترا مئات الألوف من الروبيات على تحرير العبيد، وكان هذا فخرا لها، فلم تستطع أي دولة أوربية أن تحذو حذوها في هذا الأمر، ولكن انظروا إلى الحكم الإلهي في الإسلام الذي خصص لذلك ثمن الدخل الكلي للدولة قبل أربعة عشر قرنا، فهل لأحد من العقلاء أن ينكر هذا الفضل للإسلام؟!. ويجب أن نفكر أيضا في المصرف السادس للزكاة (والغارمين)، ففي زماننا هذا أنشئت البنوك للتسهيل على طالبي القروض، إلا أن نتيجة إنشاء هذه البنوك كان تحول المئات من ممتلكات الفقراء إلى البنوك ذاتها، وانتشر الإفلاس والبؤس بين عامة الناس دون أن ينال طبقة خاصة منهم، وصار الحصول على قرض غير ربوي من المحال، ونتيجة لهذه المشكلات احتال بعض الناس لتحليل الربا بشكل أو بآخر. ولكن انظروا إلى فضل الإسلام، كيف أنقذ من هدهم الدين وأرهقهم، وذلك بوضع نظام ناجح. ولاشك أن من حق الإسلام تحريم الربا، ذلك لأنه اتخذ خطوات حكيمة لإنقاذ المدينين، وهنا يجب أن نتذكر الحديث الشريف المتعلق بالزكاة: (إن هذه الصدقات من أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) ويشمل حكم التحريم هذا أسرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعمامه وعماته، وأولادهم جميعا ومواليهم، حتى لا توجد شائبة من شك من أي نوع في ذات النبي - صلى الله عليه وسلم -.

صوم رمضان (سنة 2 هـ)

صوم رمضان (سنة 2 هـ): فرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وتقرر أن يكون صوم شهر رمضان الركن الرابع من أركان الإسلام. - والصوم يحفظ على الإنسان صحته. - ويشعر الأغنياء بحالة الفقراء بصورة عملية. - ويقوي مبادئ المساواة في الأمة إذ يتساوى الغني والفقير في تحمل الجوع والعطش. - ويقوي ملكة الإنسان وشفافيته ويضعف من القوة الحيوانية. - وقد أوضح القرآن الكريم بصفة خاصة أن الصوم يرسخ في داخل الإنسان قوة التقوى والخوف من الله يقول تعالى {لعلكم تتقون} (البقرة: 183). ففي فصل الصيف الشديد الحر، يشعر الصائم بالعطش الشديد وأمامه الماء البارد وهو في البيت بمعزل عن الناس، لكنه لا يشرب قطرة واحدة. والصائم يشعر بالجوع الشديد ويشعر بالضعف يسري في جسمه نتيجة الجوع والطعام ميسر له ولا يراه أحد لكنه لا يأكل شيئا من الطعام وزوجته الحبيبة معه، وعواطف الحب تحثه على التمتع بجمالها والألفة جمعت بينهما ولكن الصائم يمتنع عن إتيانها، والسبب في كل هذا هو أن احترام حكم الله وتقديس هذا الحكم وإجلاله قد تمكن في قلبه بشكل لا يجعل عواطفه تتمكن من السيطرة عليه والصوم هو السبب في ثبات العظمة الإلهية والجلال الإلهي في قلب المسلم، ومن الواضح أن المؤمن لو تعود ترك عواطفه تجاه الحلال والطيب بناء على حكم الله، فإنه بالضرورة سيترك الحرام ويترك الفواحش بناء على حكم الله، أيضا، ولن يجرؤ على ارتكابه أبدا، هذا هو السمو الخلقي الذي يريد الإسلام إيجاده وترسيخه في الصائم، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" صحيح البخاري 2/ 228. وفي حديث آخر: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد فليقل إني امرؤ صائم" البخاري.

تحريم الخمر سنة 4 هـ

شرع صوم رمضان طبقا للتوقيت القمري، لأنه حين يكون نصف العالم شتاء فإن النصف الآخر يكون صيفا، ولما كانت بداية الشهر القمري متغيرة دائما فإن هذا يساوي بين مسلمي العالم جميعا، ولكن لو جعل الصوم طبقا للتوقيت الشمسي لكان مسلمو نصف العالم يتمتعون دائما بسهولة الصوم في الشتاء والنصف الآخر يعانون دائما في فصل الصيف وهذا يتنافى ومبدأ الدين العالمي. والصوم ليس بالأمر الصعب ولكن الشخص الشهواني الأفكار أو الذي يرى أن غاية الحياة هي الدعة والتنعم هو فقط الذي يرى الصوم أمرا غاية في الصعوبة (¬1). إن فرض صوم رمضان في الإسلام، بل وجعله ركنا أساسيا من أركانه يدل على مدى عناية الإسلام بتقوية ملكات الإنسان وطاقاته الإيمانية في مقابل أضعاف العواطف الجسدية والشهوانية. تحريم الخمر سنة 4 هـ: من أعظم بركات السنة الرابعة للهجرة إعلان تحريم الخمر: يقول أنس رضي الله عنه بينما كان بعض الناس يجلسون في بيت أبي طلحة أسقيهم الخمر فإذا بالمنادي يعلن تحريم الخمر، فقال أبو طلحة حين سمع ذلك وأخرج من تبقى من خمر فأهرقها، وكانت الخمر تجري في حارات وشوارع المدينة في ذلك اليوم. واليوم نشطت في مختلف دول العالم جمعيات لمكافحة الخمر، وهذه الأمم جميعها مدينة لتعاليم الإسلام لأنه الدين الذي حرم الخمر قليلها وكثيرها. لقد سمى الإسلام الخمرة "أم الخبائث" والأثر الذي تتركه الخمر من خلال التجربة والمشاهدة، على جسم الإنسان وسلوكه وأخلاقه، وعلى أمن البلاد ونظمه، وعلى عادات القبائل، وحتى سلوك الجيش فيما يتعلق بالطاعة وكذا القوة، يدل دلالة واضحة على صحة هذه التسمية وبلاغتها. ويقول بعض من يحاولون إخفاء الحق إن الإسلام يغري الناس بالدخول فيه بتحريك العواطف الشهوانية. وعلى هؤلاء أن يفكروا قليلا كم يكون الدين الذي يحرم ¬

(¬1) قال المسيح: وأما أنت فمتى صمت فأدهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائما بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية (إنجيل متى 6/ 17، 18).

ولادة الحسين (سنة 4 هـ)

الخمر شديدا في محاربته للعواطف الشهوانية، وكم من الناس من أصحاب النزعات الشهوانية هابوا الدخول في هذا الدين الذي يحرم الخمر. ولادة الحسين (سنة 4 هـ): في رمضان من السنة الثالثة للهجرة ولد الإمام حسن رضي الله عنه أول أبناء علي المرتضى، وفي شعبان من السنة الرابعة للهجرة ولد الإمام الحسين الذي استشهد في العاشر من محرم عام 61 هـ في كربلا بعد أن تعرض لظلم شديد وقد برهنت شهادته على أن فدائيي الإسلام المخلصين لا يجب عليهم أن يبالوا بالتضحية بالمال والنفس والجاه لإحقاق الحق وقد ضرب الإمام الحسين في هذه المعركة مثلا رائعا على الصبر والثبات والتوكل وإحقاق الحق واتباع الصدق، قل أن نجد له نظيرا في تاريخ العالم ولم يكن هذا إلا نتاج تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوجيهاته. إسلام ثمامة بن أثال النجدي سنة 5 هـ: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلا قبل نجد فجاءت برجل يدعى ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرخ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: - ماذا عندك يا ثمامة. فقال: عندي خير، يا محمد إن تقتلني تقتلني ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فترك حتى كان الغد ثم قال له: ما عندك يا ثمامة. فقال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال، عندي ما قلت لك، فقال: أطلقوا ثمامة. فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي وقال ثمامة، إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟،

صلح الحدبية (6 هـ)

فبشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبول إسلامه وأمره أن يعتمر فلما وصل ثمامة مكة قال له قائل: صبوت؟ فقال ثمامة: لا والله. ولكن أسلمت مع محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولتتذكرو اما يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولما وصل ثمامة إلى بلده منع الحبوب التي كانت ترسل إلى مكة وأقلق وقف إرسال الحبوب أهل مكة، فاضطروا إلى اللجوء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتب النبي إلى ثمامة ليسمح بإرسال الحبوب كالمعتاد (وكان أهل مكة في هذه الأيام أشد الناس عداوة للنبي). وتدل هذه القصة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عفا عن شخص كان يعتبر نفسه واجب القتل (¬2) وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يترك أثرا عميقا في قلوب الناس بسلوكه الطيب وأخلاقه السامية، لدرجة أن رجلا مثل ثمامة كان يحمل في قلبه عداء مستحكما للإسلام وللمدينة وللنبي يعلن إسلامه برغبة وقناعة خلال ثلاثة أيام فقط. وليس هذا فقط بل إن رحمة النبي وطبيعته الخيرة دفعته إلى السماح بإرسال الحبوب لأولئك الكفار في مكة الذين أخرجوه من دياره، وبذلوا كل طاقاتهم للقضاء على النبي والمسلمين في بدر وأحد والخندق، ولم يقبل النبي أن يضيق عليهم، وليس ذلك إلا دليلا على أنه رحمة للعالمين كافة. صلح الحدبية (6 هـ): وفي هذه السنة (6 هـ) قص النبي - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين رؤياه فقال: رأيت أني دخلت الكعبة مع المسلمين فطفنا بالبيت. ولما سمع المسلمون المهاجرون هذه الرؤيا، اشتاقوا بشدة إلى الطواف حول بيت الله فحملوا النبي على السفر إلى مكة هذا العام، ولم يأخذ المسلمون معهم من المدينة أسلحتهم بل ساقوا معهم الهدي، وكان السفر في شهر ذي القعدة، وهو من الشهور التي ¬

(¬1) انظر صحيح البخاري عن أبي هريرة، كتاب المغازي. (¬2) لم تبين هذه الرواية سبب اعتقال ثمامة رئيس نجد، ولكن المؤكد أن اعتقاله كان على أثر جريمة ارتكبها، لأنه بنفسه رأى أن قتله واجب، وحين أفرج عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - دون شرط أو معارضة، ولم يأمره بتغيير دينه، تأثر ثمامة كثيرا بخلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وإحسانه إليه، فكان سببا في إسلامه عن رغبة وطواعية.

حرمت فيها العرب القتال، حتى أن أعداءهم كانوا يأتون مكة دون خوف. ولما وصل النبي على بعد 9 أميال من مكة أرسل لقريش من الحديبية يطلعهم بوصوله ويسألهم الإذن لمواصلة السير. وكان عثمان بن عفان، الذي عرف في التاريخ الإسلامي بذي النورين، هو سفير رسول الله إلى قريش، وحدث أنه بعد ذهابه إلى قريش شاع بين المسلمين خبر مقتله أو اعتقاله من قبل قريش، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين إلى البيعة وهو تحت الشجرة، فبايعوه (¬1) على أن لا يفروا (¬2). وكان عدد الذين شهدوا بيعة الرضوان أربع عشرة مائة (¬3)، وجاء القرآن الكريم: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (الفتح: 18). وقد بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عثمان فوضع يده اليسرى على يده اليمنى وقال هذه عن عثمان، ولما بلغ قريشا خبر البيعة خافوا، وجاء رؤساؤهم الواحد تلو الآخر إلى الحديبية، وكان منهم عروة بن مسعود الثقفي (...) ولما رجع إلى قريش قال لهم: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه، لا يبصق بصاقا إلا وقع في كف رجل منهم فدلك بها وجهه، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها (¬4). وقد استعدت قريش للصلح بعد تفكير وروية وكان من شروط الصلح ما يلي: 1 - يكون الصلح لمدة عشر سنوات يسمح للجانبين بحرية التنقل. ¬

(¬1) البخاري 7/ 48، 49 عن عبد الله بن زيد وسلمة، وأحمد 1/ 59 وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار بيده اليمنى فقال هذه يد عثمان. (¬2) البخاري عن ابن عمر. (¬3) البخاري 6/ 63 عن براء وجابر بن عبد الله وابن هشام 2/ 315. (...) وعروة الذي جاء سفيرا لقريش يدخل الإسلام بعد سنوات ليكون سفير الإسلام يبلغ الإسلام بين قومه. (¬4) نقلا عن صحيح البخاري عن مسور بن مخرمة باب الشروط في الجهاد.

2 - من شاء من القبائل أن ينضم إلى قريش فله ذلك ومن شاء أن ينضم إلى المسلمين فله ذلك، وينطبق هذا أيضا على القبائل المعاهدة. 3 - يسمح للمسلمين بالطواف حول الكعبة في العام التالي على ألا يحملوا أسلحتهم وقت الطواف ويمكن أن يحملوها في السفر. 4 - من أتى النبي مسلما من قريش، فعلى النبي أن يرده إذا ما طلبته قريش، ولكن إذا ترك أحد الإسلام وانضم إلى قريش، لا تعيده قريش. وقد قلق جميع المسلمين بعد سماعهم هذا الشرط الرابع، وكان عمر بن الخطاب أكثرهم قلقا ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبله وهو يبتسم. وكان علي المرتضى قد كتب المعاهدة. فبدأها بكتابة "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل الذي كان مفوضا من قريش، أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب، (باسمك اللهم). فأمر النبي بكتابة هذه العبارة (¬1) ثم كتب علي رضي الله عنه، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فاعترض سهيل (¬2) على ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اكتب: "محمد ابن عبد الله". وظنت قريش أن الشرط الأخير في المعاهدة سيخيف الناس، ولن يدخل أحد في الإسلام مستقبلا. ولكن ما أن عقد هذا الشرط وكتب المعاهدة ولم يكد الطرفان يوقعانها حتى دخل أبو جندل (أمام سهيل بن عمرو الذي اختاره أهل مكة ليوقع المعاهدة نيابة عنهم) وكان أبو جندل قد أسلم في مكة، فأسرته قريش وحبسته فوجد فرصة للهرب فهرب وهو يرسف في أغلاله حتى وصل إلى معسكر المسلمين، فقال سهيل: ردوه إلي، فقال النبي، إنا لم نقض الكتاب بعد. فقال سهيل: فوالله إذ لم أصالحك على شيء أبدا، فرد النبي أبا جندل إلى قريش، ¬

(¬1) البخاري عن مسور بن مخرمة، باب الشروط في الجهاد. (¬2) هذا هو سهيل الذي يعترض اليوم على كتابة "رسول الله" مع اسم محمد، يسلم بعد عدة سنوات رغبة وشوقا وبعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - يلقى في مكة خطبة بليغة عن مصداقية الإسلام كانت سببا في تثبيت إيمان الآلاف من المسلمين، ولاشك أن هذا من التأثير العجيب للإسلام الذي يحول أعداءه اللدودين إلى مخلصين يفتدونه بأنفسهم.

فقامت قريش (في معسكر المسلمين) بربط يديه وقيدوا رجليه وسحبوه إلى مكة، وعندئذ لم يزد النبي عن قوله له: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا (¬1). وقد تحمس المسلمون وغضبوا بعد رؤيتهم لمذلة أبي جندل وظلم قريش، إلا أنهم صبروا لأن هذا كان حكما من النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - قائما في الحديبية حتى نزل ثمانون رجلا من جبل التنعيم مع صلاة الفجر والمسلمون منصرفون إلى صلاتهم، وقد جاء هؤلاء الرجال ينوون قتل المسلمين أثناء الصلاة فتم القبض عليهم جميعا، وقد عفا عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - رحمة وشفقة، ونزلت هذه الآية الكريمة عن هذه الواقعة: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} (سورة الفتح: 24). وخلاصة القول أن هذا السفر كان سفر خير وبركة، فقد أظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في معاهدته مع الأعداء كرما وعفوا، وبعد نظر كما كان في عفوه عن الأعداء الذين أرادوا قتله رحيما شفوقا. رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وبعد هذه المعاهدة نزلت سورة الفتح، فسأل عمر الفاروق: أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فتح هو؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - نعم إنه لفتح (¬2). وصل أبو جندل إلى سجن مكة، وبدأ يدعو إلى دين الحق، فكان يذكر محاسن التوحيد لكل من يتناول على حراسته، ويبين له عظمة الله وجلاله ويدعوه إلى الإيمان، وبتوفيق من الله نجح أبو جندل في هدفه وفي سعيه الصادق، فأسلم من دعاهم إلى الإسلام. وهكذا كان من نتيجة حبس أبي جندل في مكة إسلام ما يقرب من ثلاثمائة شخص في سنة واحدة. عندئذ شعرت قريش بالندم لأنهم اشترطوا في المعاهدة رد المؤمنين إليهم، ثم ¬

(¬1) البخاري باب الشروط في الجهاد عن أبي وائل 3/ 178، وابن هشام 2/ 318، 323. (¬2) صحيح البخاري عن أبي وائل (3/ 178).

الفائدة الحقيقية للصلح

أرسلوا من بينهم بعض الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعفونه من هذا الشرط الوارد في المعاهدة وطلبوا أن يستقدم عنده للمسلمين الجدد، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبى أن يخالف ما اتفق عليه في المعاهدة (¬1). وهنا عرف المسلمون جميعا أن الشرط الذي عارضوه بشدة ثم وافقوا عليه مكرهين كان مفيدا وفي صالحهم. ما هى العبرة في قصة أبي جندل: يستطيع كل عاقل صاحب بصيرة أن يدرك من خلال قصة أبي جندل كيف انتشر الإسلام بالقوة الإلهية وكيف تمكن من قلوب الباحثين عن الحق فلم يمنعهم عن الإسلام الغربة والابتعاد عن الوطن، وفراق الأقارب والأحبة، والحبس والذل والجوع والعطش والخوف واليأس، والسيف والصلب، والخلاصة أن أي شيء في الدنيا وأي عاطفة من العواطف أو رغبة من الرغبات لم تتمكن من منعهم من الدخول في الإسلام. الفائدة الحقيقية للصلح: يقول الإمام الزهري عن المادة الأولى من المعاهدة أن الفائدة التي حصلت من التقاء ¬

(¬1) وكان هناك رجل آخر مثل أبي جندل يدعى "أبو بصير" أسلم وأتى المدينة فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليردوه فرده النبي إليهم، وفي الطريق قتل أبو بصير أحدهم خدعة، فعاد الآخر إلى النبي وأخبره بالأمر، ووصل أبو بصير خلفه، فقال النبي إن هذا العمل إفساد، فخرج أبو بصير خوفا وأخرجت قريش أبا جندل ومن معه من المؤمنين من مكة. ولما كان أبو جندل لم يتلق الإذن بالقدوم إلى المدينة، لهذا قبض على تل يقع في الطريق بين مكة والشام تمر به قوافل قريش، فكان يسلب هذه القوافل (لأن قريش كانت من المحاربين) وانضم إليه أبو بصير أيضا. ومرة مرت بهم قافلة أبي العاص (زوج زينب بنت رسول الله) قادمة من الشام وكان أبو جندل ومن معه يعرفون أبا العاص وأنه زوج زينب بنت رسول الله (إلا أنه فرق بينهما لأن أبا العاص لم يسلم) فنهب أبو جندل القافلة، ولم يقتل أحدا لأن فيها أبو العاص - فانطلق أبو العاص إلى المدينة وأبلغ النبي (بواسطة زينب) بما حدث، فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في الأمر فحكموا لصالح أبي العاص، وحين علم أبو جندل بهذا الحكم أعاد إلى أبي العاص كل ما أخذه من مال ومتاع حتى الحبال وأزمة البعير، عاد أبو العاص إلى مكة وسلم الناس أموالهم وأمتعتهم ثم نادى في الناس أن من له عليه شيء فليأخذه فقال الجميع "إنك أمين" عندئذ قال أبو العاص، أذهب لأعلن إسلامي إني كنت خشيت أن أسلم قبل ذلك فيقول الناس غصبت أموالهم ثم دعا النبي أبا جندل وأصحابه إلى المدينة حتى لا يسلبوا الناس قوافلهم ...

طواف المسلمين بالكعبة وآثاره (سنة 7 هـ)

الناس بعضهم ببعض فبدأ الناس يختلطون بالمسلمين ومن هنا وجدوا الفرصة للتعرف على حقيقة الإسلام وعرفوا بذلك الحق من الباطل ولهذا السبب دخل في تلك السنة في الإسلام عدد كبير من الناس لم يدخل في الإسلام عدد مثله في أي سنة من قبل. طواف المسلمين بالكعبة وآثاره (سنة 7 هـ). كان الشرط الثاني من معاهدة الحديبية يقضي بأن من حق المسلمين الوصول إلى مكة وأداء العمرة ولهذا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ألفين من صحابته ووصلوا مكة ولم يوقف أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - من دخول مكة بل أغلقوا أبواب بيوتهم وخرجوا إلى جبل أبي قبيس حيث تقع مكة عند أقدامه وراحوا يشاهدون ما يفعله المسلمون من هناك. وبقى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة ثلاثة أيام للعمرة ثم رجع بمن معه إلى المدينة. وقد أثر المسلمون تأثيرا كبيرا في هؤلاء الكفار، وذلك بعاطفتهم الصادقه وطريقة عبادتهم البسيطة المؤثرة، وأمانتهم وطهرهم (فلم ينقص شيء من ممتلكات أحد رغم خلو المدينة من أهلها)، وقد أدى هذا بدوره إلى جذب المئات إلى الدخول في الإسلام. مؤامرة اليهود الرابعة - الاستعداد للهجوم على المدينة ودحرهم: غزوة خيبر (المحرم عام 7 هـ): تقع خيبر على ثلاث مراحل من المدينة ناحية الشام، وكانت هذه المنطقة خاصة بسكان اليهود، وكانت الحصون المنيعة قد أنشئت حول المناطق السكنية. ولم يكد يمر على وصول النبي من سفر الحديبية سوى أيام قلائل (أقل من شهر) حتى سمع أن يهود خيبر يعدون العدة لمهاجمة المدينة (¬1). ويريدون الانتقام لهزيمتهم في غزوة الأحزاب، وقد أعدوا لحرب ضارية تعيد إليهم مجدهم العسكري الضائع وقوتهم في المنطقة كلها. وكانوا قد ضموا إليهم أربعة آلاف من المقاتلين من قبيلة بني غطفان وعقدوا معهم معاهدة على أن يكون لهم نصف محصول خيبر إن فتحت المدينة. ولم يكن المسلمون قد نسوا شدة الحصار الذي واجهوه في غزوة الأحزاب، ولهذا ¬

(¬1) طبقات كبير لابن سعد [ص:7].

اتفق المسلمون جميعا على أن يتقدموا خارج المدينة لمواجهة الأعداء المهاجمين. وقد أذن النبي فقط أن يصاحبه في هذه الغزوة أولئك الصحابة الذين شرفوا ببشرى الآية الكريمة: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم} (الفتح: 18) وبالوعد الرباني {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها} (الفتح: 20). وكانوا ألفا وأربعمائة، منهم مائتا فارس وكان عكاشة بن محصن الأسدي (¬1) على مقدمة الجيش وعمر بن الخطاب رضي الله عنه على ميمنته وصحابي آخر على ميسرته، وضم جيش المسلمين عشرين صحابية للعناية بالمرضى والجرحى وتمريضهم. وصل جيش المسلمين ضواحي خيبر ليلا (¬2)، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتاد ألا يهاجم أحدا ليلا، فبات جيش المسلمين ليلة في مكان بناء على رأي الحباب بن المنذر وكان خبيرا بالحرب وفنونها، وكان هذا المكان بين أهل خيبر وغطفان (¬3) وكانت هذه الخطة تهدف إلى قطع الطريق على بني غطفان إذا ما خرجوا لمساعدة اليهود، فيعودون إلى بيوتهم. ¬

(¬1) كان عكاشة بن محصن رضي الله عنه من الصحابة الأفاضل وقد بشر النبي بأنه يدخل الجنة بلا حساب، شهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها واستشهد في خلافة أبي بكر الصديق عن خمسة وأربعين سنة. (¬2) مدارج النبوة [ص:290] والبخاري 5/ 73. (¬3) البخاري عن أنس رضي الله عنه 5/ 73 وابن هشام 2/ 0 23.

أصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يعسكر في هذه المنطقة الجزء الأكبر من الجيش وتقوم القوات المهاجمة بالتحرك تجاه العدو، وهكذا وعلى الفور تم إعداد مسجد في تلك المنطقة، واستمرت الدعوة وتبليغ الإسلام جنبا إلى جنب مع القتال. وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه مسئولا عن هذا المعسكر. وكان عدد حصون منطقة خيبر الواقعة على يمين ويسار المنطقة المأهولة عشرة حصون تضم بداخلها عشرة آلاف مقاتل (¬1). ـ[ويمكن أن نقسم هذه الحصون إلى ثلاثة أقسام]ـ: - حصون نطاة (نطاط) وكانت تضم حصن ناعم وحصن نطاة وحصن صعب بن معاذ وحصن قلعة الزبير. - حصون الشن (الشق) وكانت تضم حصن الشن وحصن البر وحصن أبي. - وحصون الكتبية وتضم حصن القموص والوطيح والسلالم ويقال له أيضا حصن بني الحقيق. عين محمود بن مسلمة رضي الله عنه قائدا للقوات المهاجمة فبدأ بمهاجمة حصن النطاة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الجيش المهاجم، بينما بقية الجيش كانت تحت إمرة عثمان بن عفان رضي الله عنه. استمر محمود بن مسلمة في هجومه على الحصن خمسة أيام ولكن الحصن لم يفتح، وفي اليوم الخامس أو السادس أراد محمود بن مسلمة رضي الله عنه أن يستريح قليلا في ظل جدار من جدران الحصن، فغافله كنانة بن أبي الحقيق اليهودي ورماه بحجر في رأسه فاستشهد، فحمل اللواء من بعده أخوه محمد بن مسلمة وقاتل ببسالة وشجاعة حتى الليل، وكان محمد بن مسلمة يرى أن يقطع نخيل اليهود لأنها كانت غالية عليهم كأولادهم وهكذا يمكن التأثير على أهل القلعة، وبينما بدأ المسلمون في تنفيذ هذه الخطة إذا بأبي بكر يحضر أمام الرسول ويقول أن أرض خيبر لابد مفتوحة بأيدي المسلمين فلماذا نخربها بأيدينا - وأعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الرأي وأصدر حكمه بمنع ابن مسلمة من قطع النخيل. ¬

(¬1) فتح الباري وقد ذكرت بعض الكتب أن عدد هذه الحصون كان ستة أو سبعة.

وفي المساء حضر محمد بن مسلمة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقص عليه حكاية شهادة أخيه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لأعطن [أو ليأتين] الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه" ولما سمع المقاتلون هذا تمنى كل واحد منهم أن يعطى الراية في اليوم التالي. وكانت حراسة الجيش في تلك الليلة في عهدة عمر بن الخطاب، فقبض على يهودي وأتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة التهجد، فلما فرغ من صلاته تحدث إلى اليهودي - فقال اليهودي إن اليهود سيرسلون الليلة نساءهم وأطفالهم إلى حصن الشن (الشق) ويدفنون أموالهم ومحاصيلهم وأمتعتهم في حصن نطاة وإني أعرف ذلك الموضع، وسوف أخبر المسلمين به بعد فتح الحصن، وقال: إن في حصن الشن آلات ومنجنيق وغيرها مما تهدم الحصون وقال إنه سيخبر المسلمين بمواضعها حين يفتح المسلمون القلعة. فأصبح الصباح فطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا رضي الله عنه، فقالوا له إنه يشكو ألما في عينيه، فحضر علي رضي الله عنه فمسح النبي - صلى الله عليه وسلم - بلعابه المبارك على عينيه ودعا له، فشفي من فوره واختفى احمرار عينيه وزال الألم منهما، وطلب من علي رضي الله عنه أن يذهب للجهاد في سبيل الله، وأن يدعوهم إلى الإسلام أولا. فإن أبوا قاتلهم وقال له: والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم. وبدأ علي رضي الله عنه قتال اليهود في قلعة ناعم فخرج رئيس الحصن للمبارزة وكان يدعى مرحب ويقال إنه يساوي في شجاعته ألف مقاتل وحين خرج من الحصن راح يرتجز هذا الشعر قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب أطعن أحيانا وحينا أضرب إذا الليوث أقبلت تحرب (تلهب) فخرج إليه عامر بن الأكوع وهو يرتجز هذا الشعر: قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر

فهجم عليه مرحب بسيفه فصده عامر بترسه وراح عامر يسفل له، إلا أن سيف عامر كان قصيرا فلم يتمكن من مرحب الذي أصاب عامر في ركبته إصابة بالغة فاستشهد. وخرج علي رضي الله عنه وهو يرتجز: أنا الذي سمتني أمي حيدره أكيلكم بالسيف كيل السندره كليث غابات شديد قسورة (¬1). وضربه علي رضي الله عنه بسيفه ضربة ففلق رأسه حتى رقبته. فخرج أخو مرحب ويدعى ياسر فقتله الزبير بن العوام، وفي ذلك اليوم قام الحباب ابن المنذر رضي الله عنه (¬2) ففتح حصن صعب بعد حصار استمر ثلاثة أيام، وغنم المسلمون غنائم كثيرة من الشعير والتمر والزبيب والزبد والزيتون والسمن وحتى الثياب وسد هذا ما كان الجيش الإسلامي يعانيه من قلة المؤونة ووجد المسلمون في هذا الحصن الآلات التي تحطم الحصون، والتي ذكرها قبلا الجاسوس اليهودي، مما سهل على المسلمين فتح حصن نطاة في اليوم التالي. ثم كان الهجوم على قلعة الزبير التي تنسب إلى مؤسسها وكانت تقع على تل مرتفع. وبعد يومين جاء أحد اليهود وأخبر المسلمين بأنهم لا يمكنهم فتح هذا الحصن ولا حتى بعد شهر وأنا أخبركم بالسر، فتحت هذا الحصن عيون يشربون منها تصل إليها الماء من نهر منخفض فإن قطع عنهم الماء أمكن فتح الحصن، قطع المسلمون عنهم الماء، فخرج أهل الحصن منه وحاربوا المسلمين فهزمهم المسلمون وفتحوا الحصن. وبدأ الهجوم على حصن أبي، ودافع عنه أهله دفاعا مستميتا، وخرخ منهم شخص يدعى غزوان للمبارزة، فخرج له حباب رضي الله عنه وقطع يده اليمنى ففر إلى الحصن. وخرج من الحصن شخص آخر للمبارزة فخرج له أحد المسلمين، واستشهد المسلم ¬

(¬1) الطبري ج3 [ص:93]. (¬2) الحباب بن المنذر الأنصاري الأسلمي يكنى بأبي عمرو ويلقب بذي الرأي كان عمره في غزوة بدر 33 سنة وقد أخذ النبي برأيه في غزوة بدر أيضا ومات في خلافة عمر رضي الله عنه.

إسلام خالد بن الوليد (سنة 8 هـ)

على يديه فخرج أبو دجانة رضي الله عنه وقطع رجله ثم قتله. وخيم الرعب على اليهود فامتنعوا عن الخروج من الحصن، فتقدم أبو دجانة وتبعه المسلمون فصعدوا إلى جدار الحصن وهم يكبرون ففتحوا الحصن وهرب أهل الحصن وغنم المسلمون من هذا الحصن الكثير من الأغنام والثياب والأمتعة. ثم هجم المسلمون على حصن البر، وقام أهل الحصن فأمطروا المسلمين بالسهام والحجارة حتى اضطر المسلمون إلى استخدام المنجنيق، وهو ما غنموه من حصن الصعب، وهكذا تمكن المسلمون من هدم جدران الحصن وفتحه. إسلام خالد بن الوليد (سنة 8 هـ): كان خالد بن الوليد من بين من آمنوا من المشركين وكان على رأس جيش الكفار في غزوة أحد فألحق بالمسلمين خسائر فادحة، وخالد بن الوليد هو الذي قاد جيش المسلمين فهزم مسيلمة الكذاب وفتح بلاد العراق كلها تقريبا ونصف بلاد الشام. إن إسلام هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يكنون العداوة للإسلام وأهله طواعية، لهو معجزة تشهد على أن الإسلام هو الدين الحق. إسلام عمرو بن العاص سنة 8 هـ: وكان من بين هؤلاء المؤمنين أيضا عمرو بن العاص، وهو الذي أرسلته قريش رئيسا لوفد المشركين إلى الحبشة وذلك لعدائه الشديد لمسلمين وكفاءته العالية في المعاملات الخارجية، فذهب إلى الحبشة كي يعيد المسلمين إلى قريش. وعمرو بن العاص هذا هو الذي فتح مصر في زمان خلافة عمر بن الخطاب وإسلام مثل هذا السياسي القدير والفاتح العظيم هو أيضا من معجزات الإسلام. ومن هؤلاء المؤمنين أيضا عثمان بن طلحة وهو حاجب الكعبة وحامل مفاتيحها، وحين وصل هؤلاء القادة من أصحاب الحسب والنسب بين العرب جميعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - "اليوم أخرجت مكة إلينا أفلاذ أكبادها". إسلام عدي بن حاتم الطائي سنة 9هـ: وحكاية إسلام هذا الرجل الشهير الذي كان رئيسا لقومه بدأت عام 9 هـ حين ثارت

قبيلة طيىء باليمن وكان علي رضي الله عنه حاكما على تلك المنطقة فقبض على الثائرين وأرسلهم إلى المدينة، وكان من بينهم ابنة حاتم الطائي الشهير بكرمه، فقدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت له: أنا ابنة رئيس القوم، كان أبي مشهورا بكرمه ورحمته، كان يطعم الغرباء ويرحم الفقراء، وقد مات، وانهزم أخي وهرب، فارحمني. فسمع النبي قولها وقال: كانت في أبيك صفات المؤمنين، ثم أفرج عنها ومن معها وكساهم وأجازهم. قال عدي: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني، فقد كنت نصرانيا وكنت رئيس قومي، كان قومي يؤدون إلي ربع الغنائم، فكنت أحدث نفسي بأني على دين صحيح، وكنت ملكا في منطقتي، ولهذا لم تكن بي ضرورة للإسلام، فقلت لغلام لي كان يرعى الإبل، أعد لي من إبلي جملين سراعا وأبقها بجواري على الدوام، فإذا سمع بقدوم جيش محمد إلى هذه المنطقة يخبره فورا. وأتاني ذات يوم وقال، لقد وصل جيش محمد إلى المنطقة فهيا افعل ما تريد، لأني قد رأيت رايات من بعيد، فطلبت منه أن يأتني بجمال وأخذت أهلي وعيالي وانطلقت إلى الشام، ووصلت أختي الذي أطلق محمد سراحها إلى الشام أيضا، فقصت علي قصتها كاملة وكانت أختي عاقلة وحكيمة فسألتها: ماذا ترين في هذا الرجل؟ قالت أرى والله أن تلحق به سريعا، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله وإن كان ملكا فلن تذل في عز اليمن وأنت وأنت. قال: فخرجت إلى المدينة فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مسجده، فسلمت عليه فقال: من الرجل؟ فقلت عدي بن حاتم، فقام رسول الله فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف لها طويلا تكلم في حاجتها قال فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك. ثم مضى بي رسول الله حتى إذا دخل في بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها إلي فقال: اجلس على هذه، قال قلت: بل أنت فاجلس عليها: فقال: بل أنت، فجلست عليها وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأرض فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ايه يا عدي بن حاتم ألم تك ركوسيا (¬1)، قلت بلى. قال: أو لم ¬

(¬1) ركوسي فرقة قديمة من فرق النصاري.

الحج

تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قلت بلى. قال، فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك. قلت أجل والله، قال، وعرفت أنه نبي مرسل، يعلم ما يجهل. ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول هذا الدين ما ترى من حاجتهم (أي ما كان عليه المسلمون من فقر) فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه. يا عدي لعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف. ياعدي ولعلك إنما يمنعك من دخول هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشك أن تسمع بالقصور البيض (¬1) من أرض بابل قد فتحت عليهم. يا عدي، أي تردد يمنعك من أن تقول لا إله إلا الله. يا عدي، أي عذر يمنعك من أن تقول الله أكبر. هل هناك من هو أكبر من الله؟ يقول عدي. فأسلمت بعد أن سمعت ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فظهر السرور والبشر على وجه النبي - صلى الله عليه وسلم -. يقول عدي: ومضت سنتان على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لي وبقيت الثالثة، ورأيت قصور أرض بابل قد فتحت، ورأيت العجوز تخرج من القادسية وتأتي مكة للحج وحدها وإني آمل الآن في الأمر الثالث (¬2) (ليفيضن المال حتى لا يوجد من يأخذه) الحج: الحج هو الركن الخامس في الإسلام. والجدير بالذكر أن الإسلام هو رسالة المحبة يجمع بين المتباعدين، ويوحد ما بين الغرباء ويجعلهم أصدقاء حميمين، وهذا هو أساس شرائع الإسلام أي إيجاد وحدة بين مختلف الأفراد لتشكيل أمة واحدة تجتمع على كلمة واحدة. ¬

(¬1) قصور كسرى أنو شيروان. (¬2) انظر تاريخ الطبري وأيضا ابن هشام 2/ 580 / 581. وقد مات عدي بن حاتم سنة 67 هـ عن عمر يناهز المائة والعشرين عاما.

(ألف) فقد وجبت صلاة الجماعة حتى يجتمع أهل الحي الواحد في المسجد خمس مرات يوميا حتى تنشأ بينهم المودة والمحبة والشعور بالاتحاد. (ب) ووجب الاجتماع في مسجد واحد لصلاة الجمعة مرة كل أسبوع لتحقيق المحبة ودعم علاقات الترابط بين أهل مدينة واحدة. ج - ولدعم علاقات المحبة والتعارف بين أهل المدينة الواحدة وضواحيها وكذلك المناطق الريفية القريبة منها، شرعت صلاة العيدين مرة كل سنة حيث يجتمع الناس يلاقون بعضهم البعض يعبدون الله مجتمعين. ولتدعيم رابطة الدين بين مسلمي العالم جميعا، ولجمع المسلمين من كل بلاد العالم المختلفة سواء في الجنس أو اللغة أو اللون. في وحدة واحدة فرض الحج مرة واحدة في العمر لمن يستطيع إليه سبيلا. ولأداء فريضة الحج أوجب على الجميع لباسا أبيض، هو لباس أب البشرية آدم عليه السلام حتى يظهر المؤمنون برسول واحد والمؤمنون بقرآن واحد وكعبة واحدة بمظهر واحد ولباس واحد وصعيد واحد حتى لا يوجد البتة أي اختلاف بين الشكل الظاهري للمؤمنين الذين ضمتهم الوحدة المعنوية. وقد تقرر للحج مكان بنى فيه إبراهيم عليه السلام جد الصابئين واليهود والنصارى والمسلمين أول بيت للعبادة في الدنيا، ونظرا لوجود مجموعة الأمم المذكورة قبلا، لهذا كان اختيار هذا المكان قائما على كثرة الآراء وقدم المكان معا. والمقصود بالحج أيضا إظهار قوة الإسلام ومن الأهداف الضمنية للحج أيضا ما يتحقق للمسلمين من فوائد أثناء سفرهم برا وبحرا. ومن الفوائد العظيمة للحج أيضا أنه بمثابة عقد مجلس عظيم للأمة يدعو إليه مليك الأمة وبمثابة لقاء كبير بين القائد وجنوده، وبمثابة اجتماع سنوي يضم وفود الأمة وبمثابة معرض دولي تعقده الغرفة التجارية للأمة، ويجد علماء الآثار القديمة وعلماء الجيولوجيا وخبراء علم اللغة وباحثو التاريخ والجغرافيا بغيتهم، وكل ما يبحثون عنه في أمور الحج كلها. وقد فرض الحج في السنة التاسعة من الهجرة، وفي ذلك العام جعل النبي - صلى الله عليه وسلم -

أبا بكر الصديق أميرا للحج وأرسل معه ثلاثمائة من الصحابة كي يحجوا بالناس، وأرسل بعد ذلك عليا رضي الله عنه حتى يعلن سورة البراءة وقد حج أبو بكر الصديق بالناس، وقرأ علي بن أبي طالب على الناس الأربعين آية الأولى من سورة البراءة مع بيان أحكامها وأوضح أنه لا يدخل بعد هذا العام بيت الله مشرك (¬1) ولا يطوف بالبيت عريان (¬2). وفي السنة العاشرة من الهجرة عزم النبي - صلى الله عليه وسلم - على الحج وأعلن في جميع الجهات أن النبي ذاهب للحج، وبعد هذا الإعلان تجمع خلق كثير وعظيم في المدينة المنورة، وضم هذا الحشد الضخم أناسا من كل الطبقات والأجناس. وأحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذي الحليفة ومن هناك راح يردد مع المسلمين بصوت مرتفع لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. ثم توجه إلى مكة محرما. وانضم إلى هذا الركب المبارك أفواجا من الناس من كل مكان (¬3) وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما مر بأكمة أو تل كبر ثلاثا بصوت مرتفع (¬4). ولما قرب من مكة لبث بذي طوى (¬5) قليلا ثم دخل بكل من معه مكة من أعلاها وطاف بالكعبة نهارا معلنا جلال الله تعالى (¬6). وبعد طواف الكعبة ذهب إلى الصفا ¬

(¬1) ورد في سفر اشعياه (35/ 8) لا يعبر فيها نجس بل هي لهم. (¬2) البخاري 2/ 164 عن أبي هريرة لا يطوف بالبيت عريان. (¬3) حجة الله البالغة [ص:253]. (¬4) عن جابر بن عبد الله. صحيح البخاري كتاب الشهادة [كتاب الجهاد [ص:265]]. وانظر سفر أشعيا 42/ 11 "لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سلع من رؤوس الجبال ليهتفوا". (¬5) وظهر حينئذ شأن هذا الركب كما ورد في قوله تعالى: {إنك بالوادي المقدس طوى}. (¬6) وبهذه المناسبة جاء في سفر أشعيا يقول الله تعالى مخاطبا بيت الله: "قومي استنيري لأنه قد جاء نورك، ومجد الرب أشرق عليك، لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض والظلام الدامس الأم، أما عليك فيشرق الرب ومجده عليك يرى فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك، ارفعي عينيك حواليك، وانظري فقد اجتمعوا كلهم جاءوا إليك، يأتي بنوك من بعيد وتحمل بناتك على الأيدي حينئذ تنظرين وتنيرين ويخفق قلبك ويتسع لأنه تتحول إليك ثروة البحر ويأتي إليك غنى الأمم تغطيك كثرة الجمال بكران مديان وعتيق كلها تأتي من شبا تحمل ذهبا ولبانا، تبشر بتسابيح الرب" =

والمروة فصعد على قمتيهما ووجه نظره إلى الكعبة ووحد الله وكبره ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده (¬1). وفي التاسع من ذي الحجة نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - وادي نمرة بعد طلوع الشمس، ويقع هذا الوادي بين عرفات والمزدلفة، ثم أتى عرفة بعد زوال الشمس، وكانت عرفة كلها تعج بالناس كل منهم يكبر ويهلل ويمجد الله ويقدسه (¬2) وقد بلغ عدد عباد الله في ذلك الوقت ممن شهدوا هذا الحدث مائة وأربعا وأربعين أو أربعا وعشرين ألفا. وصعد النبي - صلى الله عليه وسلم - جبل عرفة راكبا القصواء وبدأ خطبته الشريفة (¬3) هكذا: ¬

= كانت هجرة النبي من مكة وصمة عار لمكة وسببا في حسرة الكعبة، إلا أن دخوله الآن مكة بعظمة وجلال معلنا راية التوحيد الخالص وطوافه بالبيت كان سببا في جلب الفرح والمسرة لبيت الله، ذلك لأن أبناء الدين الذين تفرقوا اجتمعوا الآن كما أن الدين أصبح قويا ومن المعروف أن (مديان) وهو اسم ابن إبراهيم عليه السلام من زوجته قطورة وعيفة اسم لابن مديان، وشبا بن يقشان حفيد إبراهيم (سفر التكوين 25/ 1 - 4) وكلهم سكنوا الجزيرة العربية، وحضر هذا الحج قبائل من نسل مديان وعيفة وشبا ولهذا وضحت هذه النبوءة التي جاءت علاماتها صريحة واضحة. (¬1) حجة الله البالغة [ص:355]، ويلاحظ القارئ أن هذه الكلمات تتضمن تحميد الله وتقديسه، كما أنها تصور بشكل ملموس النصر الإلهي للماديين، فمنذ سنوات قلائل كان محمد - صلى الله عليه وسلم - وحيدا في مكة، وتبعه في دعوته قلة تعد على الأصابع وكانوا يجتمعون سرا في دار الصحابي ابن الأرقم الواقعة في حضن جبل الصفا، ثم زاد عددهم قليلا، ثم هاجر بعضهم إلى الحبشة، وبقي بعضهم في مكة فزج بهم في السجن، وظل محمد - صلى الله عليه وسلم - محصورا في الشعب ثلاثة أعوام، ولما صعب على المسلمين الإقامة بمكة هاجروا جميعا إلى المدينة فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنح الظلام لا يرافقه سوى صاحبه فأحزن خروجهما سالمين كفار مكة، فظلوا يهاجمون المسلمين طيلة تسع سنوات، وفي النهاية عجزوا وسكتوا، والآن محمد كما هو والعرب كما هي وقمم الجبال تهتز بنداء التوحيد، شخص واحد ينال هذا النجاح الباهر بعد كل هذه العداوات والخصومات والحروب والمؤامرات وهو نجاح يأتي تفسيرا لقوله "أنجز وعده ونصر عبده" وفي سفر أشعيا (42/ 11) جاء ما يلي: "لتترنم سكان سلع من رؤوس الجبال ليهتفوا ليعطوا الرب مجدا". (¬2) في سفر أشعيا (42/ 11) "غنوا للرب أغنية جديدة تسبيحة من أقصى الأرض". (¬3) ولينظر القارئ رؤيا يوحنا اللاهوتي (14/ 1 - 5) وينبغي أن نتذكر هذا الدرس المتعلق بالرؤيا الذي جاء فيه: "رؤيا يسوع المسيح التي أعطاه إياها الرب ليرى عبيده ما لابد أن يكون عن قريب". ويظهر من هذا أن الرؤيا التي وقعت بعد غياب المسيح عن هذه الدنيا تتعلق بالفترة التالية له، وهذا ما يعتقده النصارى أيضا. =

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ¬

= وقد جاء في الأصحاح الرابع عشر ما يلي: أ - ثم نظرت وإذا خروف واقف على جبل صهيون ومعه مائة وأربعة وأربعون ألفا. ب - لهم اسم أبيه مكتوبا على جباههم. ج - وسمعت صوتا من السماء كصوت مياه كثيرة وكصوت رعد عظيم وسمعت صوتا كصوت ضاربين بالقيثارة يضربون بقيثاراتهم. د - وهم يترنمون كترنيمة جديدة أمام العرش وأمام الأربعة الحيوانات والشيوخ. هـ - ولم يستطع أحد أن يتعلم الترنيمة إلا المائة والأربعة والأربعون ألفا الذين اشتروا من الأرض. و- هؤلاء هم الذين لم يتنجسوا مع النساء لأنهم أطهار. ز - هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب. ح - هؤلاء اشتروا من بين الناس باكورة لله وللخروف. ط - وفي أفواههم لم يوجد عنش لأنهم بلا عيب قدام عرش الله. ونقدم هنا شرحا موجزا لهذه الآيات: أ - المراد بمصطلح الخروف في الرؤيا هو ذلك الكائن العظيم الذي هو أكرم الجميع بعد الرب، والمقصود به هنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمقصود بصهيون الجبل المقدس، وهو هنا جبل عرفة وعدد مائة وأربعة وأربعون ألفا هو عدد الصحابة الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج وهو مذكور في الأحاديث. ب - هذه الآية ترجمة لقوله تعالى: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود}. ج - هنا ذكر للتسبيح والتحميد، لأن بني إسرائيلى كانوا يقرأون أدعيتهم بمصاحبة البربط وآلات العزف. د - المراد بالأغنية الجديدة اللغة العربية لأنها جديدة على أهل الكتاب وقوله كترنيمة يدل على أنه ليس بغناء بل تغني وترنم. هـ - كان عدد من شرفوا بسماع خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - هو 144 ألفا. و- ذكر الشراء في القرآن الكريم {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم}. ز - ورد وصف المؤمنين في القرآن الكريم بهذه الألفاظ {والذين هم لفروجهم حافظون}. ح - ورد وصف الصحابة في القرآن الكريم بهذه الألفاظ: {والذين معه} وأيضا {يتبعون الرسول النبي الأمي}. ط - وقد وردت هذه الصفة في القرآن هكذا: {والسابقرن الأولون من المهاجرين والأنصار}. كما وردت في الحديث هكذا: "ختارهم الله لرسوله". ي - وردت هذه الصفة في القرآن الكريم هكذا: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم}.

خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حجة الوداع

خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حجة الوداع (¬1) - يا أيها الناس إني لا أراني وإياكم نجتمع في هذا المجلس أبدا (¬2). - إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا، يضرب بعضكم رقاب بعض (¬3) - ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتله هذيل، وربا الجاهلية موضوعة، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله. - فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. - وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وسنة نبيه. - أيها الناس: إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم وتحجون بيت ربكم وأطيعوا ولاة أمركم تدخلوا جنة ربكم (¬4). - وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد ثلاث مرات (¬5). ¬

(¬1) هذا التقسيم من المؤلف. (¬2) معدن الأعمال رقم الحديث 1107 عن وابصة رضي الله عنه رواه ابن عساكر. (¬3) البخاري (2/ 191) عن أبي بكرة باب حجة الوداع. (¬4) معدن الأعمال رقم الحديث 1108 و 1109، عن أبي أمامة، رواه ابن جرير وابن عساكر. (¬5) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإمام جعفر الصادق عن الإمام محمد الباقر برواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

- ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه (¬1) وليطالع القراء هذه الخطبة النبوية بإمعان، وتفكير وتدبر، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أكد في خطبة حجة الوداع: - على ضرورة العمل بالقرآن والسنة، ووعد العامل بالقرآن الكريم بأنه لن يضل أبدا. - كما أكد على الحفاظ على حقوق المسلمين فيما بينهم وعلى أرواحهم وأموالهم وأعراضهم. - كما نبه على حقوق الزوجات بعبارات واضحة بليغة. - كما أشهد آباءنا وأجدادنا على ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - من لسنن طوال حياته. - وألزم - صلى الله عليه وسلم - كل مسلم بالاطلاع بمسئولية تبليغ الإسلام ونشره. هذه هي الأصول والأحكام التي يضمن العمل بها للمسلمين الرفعة والنجاح في الدنيا والآخرة، كما أن ترك العمل بها يؤدي بالمسلمين إلى الخسران المبين في الدنيا والدين. ولما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخطبة نزلت هذه الآية الكريمة في نفس المكان (¬2). ¬

(¬1) البخاري 2/ 191 عن أبي بكرة باب حجة الوداع. (¬2) صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب، ولنقرأ الآن رؤيا يوحنا الإصحاح الرابع عشر وقد سبق ذكر خمسة دروس منه قبلا ولنثبت هنا الدرس السادس: "ثم رأيت ملاكا آخر طائرا في وسط السماء معه بشارة أبدية ليبشر الساكنين على الأرض وكل أمة وقبيلة ولسان وشعب". وقد كتب الأسقف W. Hoper وهو الذي فسر هذه الرؤيا لطلاب علم الإلهيات وللمهتمين من عامة الناس ممن يرتادون الكنيسة وقد طبعت جمعية المعرفة النصرانية بالبنجاب هذا التفسير عام 1885م، كتب في صفحة 140 عن هذا الدرس أن: "فرقة النصارى المسماة بالفرنسيسكان، كانت تستنتج من هذا الدرس نبوءة وجود إنجيل أبدي، وكانت هذه الفرقة تقول إن الإنجيل الذي بين أيدينا ينسخ بذلك الإنجيل الأبدي مثل العهد القديم، ويظهر إنجيل أفضل من هذا الإنجيل، يطلق عليه اسم "الإنجيل الأبدي" وكان هؤلاء الناس يركزون على كلمة "أبدي" وكان معلمهم هو "نيوياقيم". والغرض هنا من ذكر رأي هوبر هو أن النصارى فهموا أن البشارة الأبدية تعني نزول كتاب آخر =

. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ¬

= والحمد لله، فهو القرآن الكريم، وبما أن الآية الكريمة: (اليوم أكملت لكم ... إلخ) نزلت يوم الحج فإن يوحنا رأى "البشارة الأبدية" في رؤيا ميدان الحج، ومعنى طيران الملك وسط السماء هو أن تعاليم القرآن الكريم تصل بسرعة إلى جميع البلدان الواقعة تحت الخطوط المستقيمة لمنطقة البروج، أي بلدان العالم المتحضرة والمأهولة بالسكان، أما البلاد الواقعة بالقرب من القطبين فتصلها هذه التعاليم فيما بعد في وقت متأخر. - لفظ "اليوم" لا يشير إلى زمان نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط بل يشير إلى امتداد زماني يصل إلى آلاف السنوات، ولفهم معنى هذا اليوم يرجع إلى أسفار العهد القديم والعهد الجديد، ففي سفر التثنية (سفر موسى الخامس) يبدأ الأصحاح الثالث والثلاثون هكذا: "وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، قال جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران وأتى من أبواب القدس وعن يمينه نار شريعة لهم .. ([ص:224]) (الأصحاح 33/ 1 - 3) وقد اتفق علماء النصارى على أن ذلك تنبؤ للمستقبل ويعترف المسلمون بهذا أيضا والنتيجة أن موسى عليه السلام رحل عن الدنيا بعد أن شوق أهل الدنيا إلى من أتي من بعده. وآخر أسفار العهد القديم سفر النبي ملاخي، وقد جاء بعد موسى بألف وأربع وخمسين سنة ويبدأ الإصحاح الثالث من هذا السفر هكذا: "هأنذا أرسلى ملاك فيهيئ الطريق أمامي ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تسرون به هو ذا يأتي قال رب الجنود" [ص:1356] ملاخي الأصحاح الثالث. ويفهم من ذلك أن آخر أسفار العهد القديم يتركنا منتظرين. ثم يبدأ العهد الجديد الذي يطلق عليه اسم الإنجيل ولنطالع الإنجيل. قال المسيح عليه السلام في آخر مواعظه (التي لم يعظ أمته بعدها بأية موعظة): "إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ذاك يمجدني" يوحنا 16/ 12 - 14 [ص:178]. يثبت من هذه الإحالات أن التوراة والإنجيل يتركانا مع كل الدنيا في مرحلة انتظار، والقرآن الكريم هو الكتاب الذي يضع خاتمة لمثل هذا الانتظار وهكذا يعلن النداء الرباني الأخير: {اليوم أكملت لكم دينكم} فلفظ اليوم يبشر الذين ينتظرون منذ آلاف السنين، ويفرحهم ويسرهم ببشارة الإتمام والتكميل. وحين يوضح علماء الجيولوجيا والعلوم أفكارهم فيما يتعلق بخلق العالم يقولون إن العالم الحالي قد وصل إلى صورته الحالية بعد آلاف التغيرات التي طرأت عليه بعد آلاف السنوات، وكأن الحالة التي عليها العالم الآن والتي لا يمكن أن نتصور أحسن منها جاءت نتيجة تهذيب وتعديل وتطوير، استمر آلاف السنين.

. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ¬

= وهكذ نقول بكل ثقة أن لفظ "اليوم" الذي ورد في القرآن الكريم يدل على أن هذه الصورة المكتملة للدين الأفضل للجنس البشري قد ظهرت بعد مئات من الشرائع التي اختصت بأماكن بعينها وأمم بعينها وأحكام صدرت في ظل أحوال خاصة وذلك بعد طي آلاف المراحل، والآن من حق هذا الدين أن يكون البشارة الأبدية للبشر جميعا في كل مكان وفي كل وطن، وأن يقدم للعصاة اليائسين بشرى رحمة أرحم الراحمين ومغفرة الغفور الودود ومحبته، وأن يفتح باب الأمن والبركة للجميع وأن يهيئ لهم نزول السرور الأبدي والرضوان الرباني وبعد توفر كل هذه الأسباب يعلن أن الدين قد أكمل اليوم، فاليوم تمت نعمة الله على أبناء آدم. وأود أن أعرض للقراء الكرام شيئا آخر عن نبوءة المسيح التي ورد ذكرها في السطور السابقة، وقد ناقشت عددا من الأساقفة فيما يتعلق وهذه النبوءة، ومن رفض منهم الاعتراف بأن هذه النبوءة إنما هي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول بأن هذه النبوءة قد تحققت بحواري المسيح الاثنى عشر وذلك في يوم الخميس الذي ورد ذكره في "أعمال الرسل" الباب الثاني [ولما حضر يوم الخميس كان الجميع معا بنفس واحدة وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى لما أعطاهم الروح أن ينطقوا] [ص:190]. وأجبت بأن ما وقع يوم الخميس قد بينه سانت بطرس قبلنا وقبلكم حيثما كانت روح القدس مع الحواريين جميعا ومع بطرس. كما ورد في سفر الأعمال نفسه (2/ 14 - 16) [[ص:191]]. فوقف بطرس مع الأحد عشر ورفع صوته وقال لهم: أيها الرجال اليهود والساكنون في أورشليم أجمعون ليكن هذا معلوما عندكم واصغوا إلى كلامي لأن هؤلاء ليسوا سكارى كما أنتم تظنون لأنها الساعة الثالثة من النهار بل هذا ماقيل بيوئيل النبي (أي يونس) " [ص:191]. وهكذا إذا كان سانت بطرس قد أخبر عن النصر من روح القدس فإن يوم الخميس يتعلق بنبوءة يوئيل النبي لا بنبوءة المسيح، ومن هنا فلا يحق لأحد الأساقفة أن يدعي أن هذا يتعلق بنبوءة المسيح عليه السلام. وهذه شهادة ظاهرة وواضحة جدا ونقدم الآن شهادة من خلال كلمات المسيح نفسه: 1 - يفيد الدرس الثاني عشر من الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا أن الأمور التي لم يبينها المسيح سيبينها روح الحق القادم، ولكن لم يظهر للحواريين يوم الخميس أي تعليم جديد. 2 - وفي الدرس الثالث عشر ورد أن روح الحق يخبر بأمور قادمة ولكن لم يظهر للحوارين أي تعليم جديد يوم الخميس من قبل روح الحق. 3 - وفي الدرس الرابع عشر ورد أن روح الحق يمجد المسيح ولكن الروح لم يورد حرفا يتعلق بالمسيح. والحق أن نبوءة المسيح عليه السلام في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - نبوءة واضحة جلية، وللمزيد من الإيضاح نورد هذه النقاط: أولا: قال المسيح في الدرس الثاني عشر: "إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن" =

. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ¬

= والأمور التي لم يبينها المسيح وبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة لا تعد وهذه الأمور تتعلق في معظمها بأمور: التفكر في ذات الله والتفكر في صفات الله والتفكر في أفعال الله والتفكر في أيام الله والتفكر في الموت وما بعد الموت، والتوحيد في العبادة والتوحيد في الاستعانة وتنزيه الحق وتقديس الرب والصديقية والمحدثية والشهادة والفناء عن النفس والبقاء بالحق وغير ذلك، ثم أحوال القبر وأحوال الحشر، وأبواب النجاة وبعدها تأتي أبواب المصالح وأبواب الارتفاقات وغيرها، والإنجيل كما نعرف لم يتطرق إلى هذه الأمور وإذا ما تطرق إلى القليل منها فهو يورده في شكل تمثيل أو تشبيه وبصورة غير واضحة. ثانيا: قال المسيح عليه السلام في الدرس الثالث عشر: "فهو يرشدكم إلى جميع الحق" ويوافق ذلك ما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: {هو الذي جاء بالصدق}. وقال تعالى: {يعلمهم الكتاب والحكمة}. والظاهر أن العلم الذي يعلم الشريعة والحكمة والدين والعقل يمتلك الصدق كله. وقال المسيح في الدرس المذكور: لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به". وقد وصف الله تعالى النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن الكريم بهذا الوصف فقال: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى} ثالثا: قال المسيح عليه السلام في الدرس الرابع عشر "ذاك يمجدني" والقرآن الكريم وكتب الأحاديث النبوية مملوءة بالألفاظ التي وردت على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عظمة المسيح وكان كثير من اليهود يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يقولون نحن على استعداد للإيمان بك ولكن لا يمكن أن نصدق المسيح، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم: "من لم يؤمن بالمسيح لم يؤمن بي، وكان من نتيجة هذا الإرشاد النبوي تعظيم المسلمين للمسيح وتكريمه من أعماق قلوبهم حتى اليوم وكذا إيمانهم به واعتباره أحد الرسل الخمسة أولي العزم، وهكذا فهناك اليوم أكثر من تسعمائة مليون مسلم يشهدون للمسيح في كل وقت مع أنه لم يكن للنصارى قبل الإسلام شاهد واحد من غيرهم، والآن فقط لا يشهد لهم سوى المسلمين بعفة مريم وولادة المسيح التي تمت بتدبير الله عز وجل فجاءت فوق مستوى فهم العقل البشري وكذلك يؤيد المسلمون أيضا معجزات المسيح، ومن هنا فيجب على النصارى أن يفكروا في عبادة المسيح "ذاك يمجدني" فأي تصديق لهذه العبارة أكبر مما ذكرناه الآن؟ " وبقيت فقرة في الدرس الثالث عشر، قال المسيح "ويخبركم بأمور آتية" كان علماء النصارى الذين لم يطالعوا القرآن الكريم والأحاديث النبوية يقولون إن نبينا عليه السلام لم يخبر عن الغيب ولم يخبر عن المستقبل، وإني أتأسف حين أسمع منهم هذا الكلام فهذا يدل على قلة معلوماتهم فيما يتعلق بكتبنا، وأتعجب أيضا على جسارتهم في ادعائهم هذا مع جهلهم، ولو أردت أن أفصل الحديث هنا عما أنبأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاحتجت لتأليف كتاب كامل، وإن شاء الله سأكتب بالتفصيل عن هذا الموضوع في كتاب مستقل وأكتفي هنا بإلقاء الضوء باختصار على هذا الموضوع لشرح ما ورد في الدرس 13 وتصديقا لقول المسيح عليه السلام. =

. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ¬

= ـ[التنبؤ الأول]ـ: كان أهل مكة من ألد أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين وبذلوا أقصى جهودهم للقضاء على الإسلام والمسلمين وكان عداؤهم هذا شديدا ومستمرا حتى إنه لم يكن من المتوقع أو حتى من المتصور أن يصبح هؤلاء ذات يوم من خدام الإسلام وأن يصبحوا أخوة للمسلمين يفدون النبي - صلى الله عليه وسلم - بأرواحهم وأنفسهم. ولكن القرآن الكريم كان قد أخبر بذلك قبلا فقد جاء في الآية الكريمة: {ولتعلمن نبأه بعد حين} وقد تحقق هذا القول في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم أهل مكة جميعهم، وكان فيهم أمثال خالد بن الوليد الذي أنزل الهزيمة بالمسلمين في غزوة أحد، وعمرو بن العاص الذي ذهب إلى نجاشي الحبشة ليعتقل المسلمين، وعثمان بن أبي طلحة الذي كان يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من دخول الكعبة للعبادة وغيرهم. ـ[التنبؤ الثاني]ـ: اتفقت جميع قبائل العرب وأهل الديانات جميعا على تكذيب الإسلام، وكان بين الوثنيين والمجوس والصابئة واليهود والنصارى خلاف شديد إلا أنهم جميعا اتفقوا على تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - والقضاء على الإسلام ولم تكن هناك إشارة واحدة تدل على أن أصحاب هذه الدعاوى والأهواء المختلفة المتباينة سيدينون ذات يوم للإسلام بالولاء ويعترفون بمصداقيته ولكن القرآن الكريم كان قد أخبر بذلك {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} وقد تحقق هذا التنبؤ بكل وضوح وجلاء، وقد اعترف أهل كل قبيلة وأهل كل دين في جزيرة العرب بصدق الإسلام في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمنوا به. ـ[التنبؤ الثالث]ـ: كانت إمبراطورية الفرس في نزاع دائم مع إمبراطورية الرومان، وانهزم الروم، وكان الفرس من عبدة النار، بينما الروم نصارى من أهل الكتاب، وكان أهل مكة من عبدة الأوثان يتعاطفون بحكم الفطرة مع الفرس بينما كان المسلمون يتعاطفوت مع الروم فلما انهزمت الإمبراطورية النصرانية فرح الوثنيون من أهل مكة وتفاءلوا بهذا وظنوا أنهم غالبون على المسلمين أيضا، هذا بينما حزن المسلمون كثيرا لما حدث، وقد أخبر القرآن بما يلي: {غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} ولم يكن أحد يصدق هذا الإخبار القرآني لأنه كان يتعارض مع العقل الإنساني وتجربته وكذا مع القرائن المتوفرة آنذاك، فقد هزم النصارى هزيمة لم تجعلهم يرفعون رأسهم لسنوات، وراح أبي بن خلف (أبو جهل) يهزأ بهذا التنبؤ القرآني قائلا، لو حدث هذا لتخليت عن ثلاثمائة بعير مما أملك، وقد عارضه أبو بكر في ذلك ليثبت مصداقية الإسلام. وفي العام الثامن لنزول هذه الآية وقع ما أخبر به القرآن الكريم، وكلمة بضع في اللغة العربية تعني الآحاد من واحد إلى تسع. ـ[التنبؤ الرابع]ـ: في بداية عهد النبوة، كان الوحي قد بدأ ثم انقطع، فبدأ الكفار يطعنون في النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولون أن =

. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ¬

= ربه قد قلاه وودعه، فنزلت آيات بهذه المناسبة تضمنت تنبؤا إذ يقول تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى} ولننظر إلى تحقق هذا التنبؤ فيما يتعلق بالوحي فمن المعروف أن السور المدنية مثل البقرة وآل عمران والمائدة والأنعام تفضل السور المكية من ناحية الأحكام والأسرار والتفصيل، إذ أن السور المكية تحتوي فقط على العقائد أو الأحكام المجملة. والآية الكريمة تبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتدرج إلى الرقي كما أن نجاحه يمضي تباعا خطوة بعد خطوة، وحياته - صلى الله عليه وسلم - إخبار واضح بهذا، ومن الواضح أن أحدا لا يمكن أن يتنبأ عن حياته بمثل هذا التنبؤ الواضح في وجود مثل تلك العداوة الشديدة والمعارضة، اللهم إلا إذا كان هذا الشخص مؤيدا من عند الله، ولما كان لفظ "الآخرة" يطلق على الحياة المقبلة أيضا التي تبدأ "يوم الحساب" لهذا آمن المسلمون بأن فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - يظهر بوضوح في هذا العالم - لأهل الدنيا جميعا، ولأن الإخبار التي ورد في القرآن الكريم قبلا يظهر صدقه في هذه الدنيا لحظة بلحظة، فإن إيمان المسلمين واعتقادهم سابق الذكر قائم على أساس صحيح وقوي. ـ[التنبؤ الخامس]ـ: توفي نجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل الأعداء يفرحون لأن محمدا لن يجد من يحمل اسمه من بعده، فورد في القرآن الكريم هذا الإخبار {إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحرء إن شانئك هو الأبتر}. والكوثر صيغة مبالغة من الكثرة، ويتضمن هذا اللفظ جميع العطايا والنعم الظاهرة والباطنة التي أعطيها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو سيعطاها في الجنة (ومنها حوض الكوثر) ويتضمن هذا اللفظ أيضا العدد العظيم للأمة المحمدية. وهو العدد الذي يصلي ويسلم على النبي عشرات المرات في اليوم الواحد. ويشهد له بالصدق وينشر اسمه الكريم في الدنيا أجمع، فلا تخلو قارة أو دولة أو محافظة من وجود المسلمين، أما أعداء الله ورسوله فقد إنمحت أسماؤهم فلم يعد يعرفهم أحد، وهكذا فإن هذا التنبؤ القرآني ينشر اليوم نوره أمام العالم بكل صدق. ـ[التنبؤ السادس]ـ: كان المسلمون يطردون من مكة، كانوا بلا مأوى، وبلا متاع، البلاد كلها تعاديهم وبدا كأنهم منتهون من هذه الدنيا بأسرع ما يمكن، وحينئذ جاء خبر القرآن الكريم: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم}. والأمة التي اصطفاها الله قبل أمة محمد كانت أمة بني إسرائيل والأرض التي وعد الله بها إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وداود عليهم السلام هي أرض الميعاد، وهي حتى الأبد من نصيب أولاد إبراهيم (سفر التكوين 24/ 7) واستمر هذا الوعد في بني إسرائيل بعد إبراهيم عليه السلام، فامتلكوا هذه الأرض وحكموها لآلاف السنين، وأخبر القرآن الكريم في هذه الآية أن الوعد المذكور سوف يتحقق مع الفرع الثاني لإبراهيم عليه السلام أي مع المسلمين، وهذا التنبؤ قد غير تاريخ آلاف السنين، فقد آلت أرض الشام إلى المسلمين في زمن خلافة أبي بكر وعمر، والآن يشهد تاريخ ثلاثة عشر قرنا على صدق هذا التنبؤ، وهذا دليل بين وواضح لكل جاحد ومنكر قإلى من آل ملك الشام وفي حق أية أمة تحقق وعد الله الأبدي المحتم. =

. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ¬

ـ[التنبؤ السابع]ـ: هاجم الأعداء المسلمين، وتخاذلت القبائل التي تحالفت مع المسلمين حين رأت كثرة الأعداء وقوتهم وغلبتهم. فأنقذ الله المسلمين من هجوم أعدائهم بنصره الغيبي، فجاءت القبائل المحالفة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلبت منه العفو عما بدر منها من تقصير في حق المسلمين، فنزلت فيهم الآية الكريمة {ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون} أي لو نصرتم في ذلك الوقت لعفونا عن هذا التقصير. وبعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حاولت الإمبراطورية الإيرانية إعادة سيطرتها على منطقة الجزيرة العربية الجنوبية، كما حاولت دولة الروم بدورها السيطرة على منطقة الجزيرة العربية الشمالية فرأي خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق إضعاف هاتين القوتين للحفاظ على كيان المسلمين، فحارب أولا الإمبراطورية الرومانية في العراق والشام ثم حارب الإمبراطورية الإيرانية في فارس وخراسان وقد اشتركت جميع القبائل العربية التي عرفت قبلا بعدائها للإسلام والمسلمين، اشتركت مع المسلمين في قتال الأعداء، وهي القبائل التي أجل القرآن الكريم إصدار العفو عن تقصيرها السابق مع رسول الله إلى أن تنصر الإسلام. ولنقرأ مع الآية المذكورة قوله تعالى: {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها}. وتحققت للمسلمين فتوحات عظيمة في البلدان سابقة الذكر وتحقق تنبؤ القرآن من عدة وجوه: 1 - نال المقصرون في حق الإسلام فرصة ثانية لإثبات مصداقيتهم. 2 - كانت الدول التي واجهها المسلمون دولا مهيبة وقوية بلا أدنى شك. 3 - أن النتيجة التي خرج بها المسلمون من معاركهم مع الأعداء قد أخبر بها القرآن الكريم، فقد هلك من باشر القتال، وتحققت للمسلمين فتوحات عظيمة ومغانم كثيرة، والذين أظهروا المودة أولا تيقنوا من صدق الإسلام وأسلموا وصدق هذا التنبؤ يتضح من مطالعة تاريخ الجزيرة العربية والشام وإيران وخراسان، ويمكن أن ندرج معها أيضا تاريخ مصر وبلاد أفريقية والأندلس أيضا. وأقدم الآن تنبؤا من كتب الأحاديث كنموذج فقط مع تذكير القراء بأن النصارى لا يقبلون الإحالة إلى الأحاديث، فهم يقولون ويرددون هذا القول بأن كتب الأحاديث جمعت بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليتهم يتعلمون من مسلك المسلمين حيال الأناجيل الأربعة، فنحن نسمع الإحالات المأخوذة منها ونسلم بها ونحيل إليها أيضا معترفين بها، لا لشيء إلا لأن النصارى يعترفون بها، وتتفق جميع كتب النصارى على أن جميع هذه الأناجيل ألفت بعد المسيح بفترة طويلة، ويختلف علماء النصارى تماما حول مؤلفيها وزمن تأليفها وحتى بعض عباراتها وأورد هنا الحديث الشريف وهو النموذج الذي أشرت إليه قبلا: " عن المستورد القرشي أنه قال عند عمرو بن العاص رضي الله عنه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو: أبصر ما تقول، قال أقول ما سمعت عن رسول =

{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. ونحر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ثلاثا وستين بدنة بيده المباركة، ونحر علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعا وعشرين بدنة، وكان ذلك في منى وكانت منحرا منذ عهد إبراهيم عليه السلام، وبعد النحر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيت الله، وطاف طواف الإفاضة، واقتدى الصحابة جميعا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتمت التضحية بآلاف من الإبل والغنم والضأن والبقر (¬1). ¬

= الله - صلى الله عليه وسلم - قال لئن قلت ذاك، إن فيهم لخصالا أربعا، منهم لأحلم الناس عند فتنة وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف وخامسة حسنة جميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك". ومن الواضح أن هذا الحديث ورد في صحيح مسلم والإمام مسلم توفي في المرن الثالث، ولذا فإن كل معارض لابد أن يعترف أن هذا التنبؤ شاع بين المسلمين في القرن 3هـ وهو الزمان الذي رفرفت فيه راية الإسلام على الدنيا كلها وتألق المسلمون في مجال العلم والحكمة والقوة والحضارة والسياسة وما إلى ذلك. والتنبؤ في مثل هذه الظروف بانتهاء هذه السيطرة والسيادة وذهاب شوكة المسلمين وسيطرة أمم أوربا المسيحية على الدنيا كان أمرا خارجا عن نطاق العقل والفكر، وهو فأل سيء للمسلمين، إلا أن الإمام مسلم رحمه الله أدرج الحديث في صحيحه لأنه عرف أنه حديث صحيح وهو من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي النهاية وبعد قرون ظهر صدق هذا الحديث، وليخبرنا اليوم أي إنسان عن بلد لا يخضع لسيطرة الدولة النصرانية أو لا يدور في فلك سياستها. ولهذا لا يمكن الطعن في صحة الخبر الذي ورد في الحديث، وإذا صح هذا فإن العلامة التي ذكرها المسيح عليه السلام فيما يتعلق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (إنجيل يوحنا 16/ 13) قد صحت أيضا. وهدفنا مما كتبناه هو أن يتبع الأخوة النصارى إرشادات المسيح عليه السلام فيتبعوا محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي ورد خبره بعلامات واضحة جدا في الإنجيل. (¬1) انظر سفر أشعياء (60/ 7) فقد ورد فيه: كل غنم قيدار تجتمع إليك، كباش نبايوت تخدمك، تصعد مقبولة على مذبحي وأزين بيت جمالي". ونبايوت وقيدار اسمان لابني إسماعيل (انظر سفر التكوين 25/ 13) وقبائل قريش من أولاد قيدار، ومعظم القبائل الأخرى من نسل نبايوت (أو نبيط أو نبيت أو نبايوت) وقد ورد في هذه الفقرة أن جميع قبائل العرب تضحي في ذلك الوقت. وقد ورد هنا أن المنحر مذبحه وبهذا أصبح واضحا أن هذا المنحر هو المنحر الذي يتقبل الله تعالى فيه قرابينه، وقد شرف هذا الموضع بكونه منحرا مقبولا عند الله تعالى - ثم تأتي الفقرة التي تقول: وأزين بيت جمال، ومن الواضح أن بيت الجمال ترجمة للبيت الحرام وقد أطلق الله تعالى هذا الاسم على الكعبة في القرآن الكريم حيث قال،: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس} وأسماء قبائل العرب، وعنوان منى، وذكر منى وبيت الله معا أمور تجعل التنبؤ هنا موجها فقط إلى حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سبق ذكر الأصحاح 60/ 1 - 6 من سفر =

خطبة الغدير

وكان هدف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحج تعظيم شعائر الله، وإحياء سنن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وإبطال عادات الشرك التي كان عليها الكفار، وإعلان التوحيد الخالص، ونشر تعاليم الإسلام بصورة عامة. ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ الأمة في هذه الحجة بآخر بلاغ، فقد سميت "حجة الإبلاغ" ولما كانت كلماته للأمة كلمات توديع لذا سميت "حجة الوداع". ورجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فرحا مبتهجا، بعد أن أعلن أمام جمع بلغ عددهم مائة وأربعا وأربعين ألفا من عباد الله الأخيار رسالة التوحيد، والعمل به وبعد أن بلغهم وودعهم. وفي الطريق شكا بريدة الأسلمي للنبي بعض أعمال علي المرتضى حين كان عاملا على اليمن، وذلك فيما يتعلق بتقسيم الغنائم وما إلى ذلك. خطبة الغدير: كانت هذه الشكوى في الحقيقة قائمة على قصور في الفهم، ولهذا ألقى النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبة بليغة فصيحة عند غدير خم، وفيها أوضح شأن ومنزلة أهل البيت رضوان الله عليهم، وأخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. وبعد هذه الخطبة قال عمر الفاروق لعلي: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم، وقد بقي بريدة على حبه وموالاته لعلي رضي الله عنه طوال حياته حتى استشهد في وقعة الجمل. السنة الحادية عشرة: هذه هي السنة التي انتقل فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جوار ربه بعد أن أدى حق الرسالة، وقبل وفاته بسته أشهر نزلت هذه السورة: ¬

= أشعيا فلتطالعوا بداية الإصحاح، فالدرس الخامس يذكر أسماء مديان وعيفة وشبا، وهذه القبائل كلها كانت حاضرة في ذلك الحج، كما ذكر أن شبا تحمل ذهبا ولبانا وشبا اسم لليمن أيضا لأن شبا (سبا) عمرها وسكنها والسنة التي حج فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - كان علي رضي الله عنه حاكما وداعية إلى بلاد اليمن وقدم من اليمن مباشرة للحج، وقدم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حصله من أموال اليمن وخيراتها، وهذا تنبؤ واضح وصريح لا يمكن لأصدقائنا النصارى أن يجدوا له أي تأويل آخر غير ما ذكرنا.

{إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} (النصر). ففهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مرتحل من الدنيا (¬1). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اعتكف في رمضان الأخير عشرين يوما، بينما كان يعتكف كل عام عشرة أيام وذكر لابنته الحبيبة فاطمة البتول أن السبب يرجع إلى دنو أجله (¬2) وفي خطبة حجة الوداع الشهيرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أنه مرتحل من الدنيا قريبا (¬3). وفي بداية شهر صفر سنة 11 هـ بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - يعد العدة للرحيل عن هذه الدنيا. فقدم جبل أحد ذات يوم، وصلى على شهداء أحد ثم عاد من هناك وصعد المنبر وقال: "أيها الناس: إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكني أخشى عليكم من الدنيا أن تنافسوها" (¬4) ثم انطلق إلى البقيع في منتصف الليل ودعا لأهله (¬5) وقال في الموضعين: "إنا بكم للاحقون" وكأنه بشرهم بقدومه، ثم جمع المسلمين يوما وقال: أيها المسلمون مرحبا بكم حياكم الله بالسلامة رحمكم الله، حفظكم الله، جبركم الله، رفعكم الله، وقاكم الله. أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم وأستخلفه عليكم وأحذركم الله، إني لكم منه نذير مبين، أن لا تعلوا على الله في عباده وبلاده فإنه قال لي ولكم: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}. ثم تلا هذه اللآية: {أليس في جهنم مثوى للمتكبرين}. وفي النهاية قال: ¬

(¬1) الطبراني، عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (إني مرتحل من الدنيا قريبا). (¬2) البخاري، عن عائشة، عن فاطمة رضي الله عنها 2/ 260. (¬3) في الصحيحين عن جابر. (¬4) صحيح البخاري عن عقبة بن عامر، كتاب المغازي، 41/ 210؛ وانظر أيضا مسلم (2/ 1904). (¬5) صحيح البخاري 5/ 29.

بداية المرض

"سلام عليكم وعلى من يدخل بيعتي بالسلام إلى يوم القيامة". بداية المرض: في يوم الاثنين التاسع والعشرين من صفر كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عائدا من جنازة أحد المسلمين، وفي الطريق شعر بألم في رأسه ثم لحقته حمى شديدة، يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: وضعت يدي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر". وما زال يصلي بالناس وهو مريض أحد عشر يوما وكانت أيام مرضه ثلاثة عشر أو أربعة عشر يوما. وفي الأسبوع الأخير قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أيامه في بيت عائشة الصديقة رضي الله عنها. قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا مرض دعا بهذا الدعاء ومسح جسده بيده: "أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما". وفي تلك الأيام كنت أدعو بهذا الدعاء وأردت أن أمسح بيدي على جسده المبارك فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يدي وقال: اللهم اغفر لي والحقني بالرفيق الأعلى". وكان ذلك يوم الأربعاء قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمسة أيام اشتد عليه الوجع فأهرقوا عليه سبع قرب من آبار شتى (¬1) ولما أفاق دخل المسجد وقال: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك". وقال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (¬2). وقال: اللهم لا تجعل قبري بعدي وثنا يعبد (¬3) ¬

(¬1) في الصحيحين عن عروة، عن عائشة. (¬2) البخاري 5/ 140. (¬3) موطأ مالك عن عطاء بن يسار.

وقال: اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وإني أنهاكم عن ذلك، اللهم هل بلغت ثلاث مرات. ثم صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس وطلع المنبر بعد الصلاة وكان هذا آخر خطبة له على المنبر (¬1)، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "استوصوا بالأنصار خيرا، فإن الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" (¬2). ثم قال: " إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله". فلم يفهم هذا القول إلا أبو بكر رضي الله عنه، فقال، بل نحن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأبنائنا (¬3). وفي يوم الخميس اشتد المرض على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للحاضرين: هلموا، اكتب لكم كتابا بألا تضلوا بعده" فقال بعضهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غلبه الوجع (¬4). وبعدها وفي نفس يوم الخميس أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث وصايا: 1 - أخرجوا اليهود من جزيرة العرب. 2 - أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. 3 - والوصية الثالثة لم ترد في رواية سليمان الأحول (¬5). ¬

(¬1) البخاري 5/ 137. (¬2) سيرة ابن هشام 2/ 649. (¬3) البخاري عن عائشة والدارمي ومسلم عن أبي سعيد الخدري. (¬4) جاء في البخاري عن عبيد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يوم حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فقال بعضهم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول قربوا من يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ومنهم من يقول غير ذلك فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوموا. البخاري 5/ 137، 138. (¬5) صحيح البخاري، سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

اليوم الأخير

إلا أن البخاري أخرج في كتاب الوصايا عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أوصى بالقرآن. وفي هذا اليوم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى بالمسلمين جميع الصلوات فصلى بالمسلمين صلاة المغرب وتلا سورة المرسلات والآية الأخيرة منها التي تدل على عظم شأن القرآن الكريم. {فبأي حديث بعده يؤمنون} (¬1) وفي صلاة العشاء أراد النبي أن يذهب إلى المسجد وكان كلما قام للوضوء أغشى عليه وحدث هذا ثلاث مرات، فأمر أبا بكر أن يؤم الناس (¬2) فصلى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويذكر أنه في يوم السبت أو الأحد وبينما كانت صلاة الظهر قائمة بإمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، إذا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يحضر إلى المسجد متحاملا على كتفي العباس وعلي رضي الله عنهما، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه ينكص فأومأ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا ينكص ثم جلس للصلاة بجانب أبي بكر، فكان أبو بكر الصديق يقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبقية الناس يقتدون بأبي بكر الصديق (¬3). وفي يوم الأحد أطلق جميع العبيد وبلغ عددهم طبقا لبعض الروايات أربعين، وكان في بيته سبعة دنانير نقدا فوزعها على الفقراء، وفي مساء ذلك اليوم (الليلة الأخيرة) استعارت الصديقة عائشة زيت المصباح من إحدى جاراتها ووهب المسلمين أسلحته (¬4)، وكان درعه رهنا عند أحد اليهود بثلاثين صاع من شعير (¬5). اليوم الأخير: وفي فجر يوم الاثنين، رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - الستارة التي كانت تصل بين عائشة الصديقة وبين المسجد، وكانت الصلاة تقام في ذلك الوقت، وظل النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى المصلين، ¬

(¬1) صحيح البخاري عن أم الفضل والدة ابن عباس باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) في الصحيحين عن عبيد الله بن عبد الله ورواية صحيح البخاري عن أبي موسى أن النبي كررها ثلاثا. (¬3) في الصحيحين عن عبيد الله بن عبد الله. (¬4) البخاري، عن عمرو بن الحارث أخو أم المؤمنين جويرية. (¬5) البخاري عن أسود عن عائشة الصديقة رضي الله عنها (5/ 145).

(ورد في صحيح مسلم عن أنس) وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف (¬1). وكاد الصحابة أن يفتتنوا من الفرح برؤية النبي، وظن أبو بكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خارج إلى الصلاة فنكص على عقبيه ليصل الصف، فأشار إليهم النبي أن ينهوا صلاتهم، وكانت هذه الإشارة راحة للجميع، وأسدل النبي الستارة، وأكمل أبو بكر الصلاة (¬2). ولم يأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك وقت لصلاة أخرى. ولما طلع الصباح دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته الحبيبة فاطمة البتول عليها السلام فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها بشيء فضحكت، تقول البتول، أخبرني في المرة الأولى أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت وفي المرة الثانية أخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت (¬3). وفي ذلك اليوم بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة الزهراء رضي الله عنها بأنها سيدة نساء العالمين (¬4). وقالت سيدة النساء بعد أن رأت حالة النبي - صلى الله عليه وسلم -: واكرب أباه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس على أبيك كرب بعد اليوم (¬5). ثم طلب الحسن والحسين عليهما السلام، فقبلهما وأوصى فيهما (¬6) ثم الأزواج المطهرات ونصحهن، ثم طلب عليا فوضع رأسه في حجره وأوصى له، وفي ذلك الوقت كان لعاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقع على وجه علي رضي الله عنه (¬7) وفي تلك المناسبة قال: ¬

(¬1) البخاري ومسلم عن أنس، وهذا التشبيه تشبيه عجيب وهو طاهر أيضا فورقة المصحف مكتوبة بالذهب ووجه النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غلبته صفرة المرض فشبه وجهه في اللون والإشراق بالذهب وفي القداسة بالقرآن الكريم. (¬2) البخاري ومسلم. (¬3) صحيح البخاري عن عروة عن عائشة. (¬4) البخاري عن عائشة الصديقة ويفهم من بعض الروايات أن هذه الواقعة لم تكن آخر يوم بل كانت آخر أسبوع في حياة النبي. (¬5) صحيح البخاري عن أنس باب مرض النبي. (¬6) مدارج النبوة. (¬7) الزرقاني نقلا عن ابن سعد وفي سنده الواقدي وحرام بن عثمان متروكان.

الاحتضار

"الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم". قال أنس رضي الله عنه وكانت هذه آخر وصية أوصى بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالت عائشة رضي الله عنها: ردد النبي هذا الكلام عدة مرات (¬1). الاحتضار: ثم كانت حالة النزع الأخير، الاحتضار، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستند إلى عائشة رضى الله عنها، وكان عنده قدح من ماء، يدخل فيه يده ثم يمسح وجهه، وكان وجهه يحمر أحيانا ويصفر أحيانا وفمه يردد، لا إله إلا الله إن للموت سكرات (¬2). وجاء عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، وبيده مسواك، فوقع نظر النبي على المسواك، فأخذته الصديقة عائشة ولينته للنبي بأسنانها فاستاك به ثم نصب يده فجعل يقول: "اللهم الرفيق الأعلى". ثم أغمض عيناه وتغيرت حدقته ومالت يده (¬3). وكانت وفاته يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول عام أحد عشر من الهجرة، وكان عمره المبارك آنذاك ثلاثا وستين سنة وأربعة أيام بالتوقيت القمري. إنا لله وإنا إليه راجعون. أفإن مت فهم الخالدون. وقد قالت فاطمة الزهراء عليها السلام عن مصابها هذا: يا أبتاه أجاب رباه، يا أبتاه إلى جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. ثم قالت: اللهم ألحق روح فاطمة بروح محمد، اللهم قر عيني برؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم لا تحرمني ثواب هذه المصيبة بشفاعة محمد يوم القيامة. وقالت عائشة رضي الله عنها في هذا الخطب الجليل: ¬

(¬1) صحيح البخاري عن أنس؛ والخصائص الكبرى. (¬2) صحيح البخاري عن ذكوان. (¬3) صحيح البخاري.

يا أسفا على النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي آثر الفقر على الغنى والمسكنة على الثروة. آه من النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لم ينم ليلة كاملة لأجل تفكره في عصاة أمته. والذي قاوم نوازع النفس باستقامة واحتساب والذي لم يلتفت قليلا إلى المنهيات. والذي لم يتغير ضميره ولم ينكدر بكثرة ما أصابه الأعداء من الإيذاء والإهانة. والذي لم تغلق أبواب بره وجوده يوما على البائسين والمحتاجين. والذي كسرت بالحجر رباعيته المماثلة للؤلؤ. والذي جرحت جبينه الغراء والذي لم يشبع يومين متتابعين ولو من خبز شعير يا أسفا إنه ارتحل اليوم من الدنيا (¬1). وقد حير نبأ وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة جميعا وذهب بلبهم فانطلق بعضهم إلى الصحراء ووقف بعضهم في مكانه حيران لا يعرف رأسه من رجليه. ولم يكن عمر الفاروق ليصدق بخبر الوفاة. وقدم أبو بكر الصديق فكشف عن وجه النبي ثم راح يقبله وبكى ثم قال: "بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها" (¬2). ثم قدم المسجد وأعلن وفاة النبي وخطب في الناس فقال بعد أن حمد الله وصلى على نبيه: " أما بعد. فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}. ¬

(¬1) مدارج النبوة لشاه عبد الحق المحدث الدهلوي. (¬2) صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس، باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الغسل والتكفين

الغسل والتكفين: وكان علي رضي الله عنه يغسل النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول: بأبي أنت وأمي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء، خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء، ولولا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشئون، ولكان الداء مماطلا والكبد مخالفا وقلالك ولكنه ما نملك رده ولا يستطاع دفعه، بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك، واجعلنا من مالك (¬1). وكفن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب (¬2). وضع جسد النبي حيث كانت وفاته، وصلى عليه أولا أهل بيته ثم الرجال فالنساء ثم الصبيان، ولم يكن هناك إمام في الصلاة، وكانت حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ضيقة لهذا كان يدخل عشرة أشخاص تباعا، ولهذا استغرقت الصلاة وقتا طويلا فتأخر دفنه إلى ليلة الأربعاء (¬3) أي دفن بعد الوفاة باثنتين وثلاثين ساعة. إنا لله وإنا إليه راجعون. وكان الناس يقرأون في الصلاة عليه هذا الدعاء: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما اللهم ربنا لبيك وسعديك صلاة الله البر الرحيم والملائكة المقربين والنبيين والصديقين والصالحين وما سبح لك من شيء يا رب العالمين، على محمد بن عبد الله خاتم النبيين وسيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين الشاهد البشير الداعي بإذنك السراج المنير وبارك عليه وسلم (¬4). ¬

(¬1) نهج البلاغة [ص:205] ط تبريز سنة 1227هـ. (¬2) شرح مسلم للنووي، وكتاب الأمم للإمام الشافعي رحمه الله. (¬3) يظهر من رواية الترمذي أن طريقة أداء الصلاة هذه كانت من اقتراح أبي بكر الصديق ووافق عليها علي رضي الله عنه. (¬4) الزرقاني (8/ 293) المطبعة الأزهرية بمصر 1328 هـ.

الباب الخامس

الباب الخامس الخلق المحمدي •---------------------------------• توضح الأحداث التي ذكرت قبلا بجلاء المشكلات التي واجهت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يعلن نبوته وينشر تعاليمه ويحفظ أتباعه. ولم يكن نشر الدعوة الإسلامية بالأمر السهل في بلد لم يعرف حكما ولا قانونا، بل كان سفك الدماء فيه والقتل أمرا عاديا، وكان أهله يشبهون السباع في الوحشية والهمجية بينما فاقوا في الجهل وعدم التعقل الأنعام، وهكذا كان تقديم الإسلام إليهم أمرا عجيبا وباعثا على اشتعال لهيب الخلاف بين جملة القبائل، كما أن انتشار هذه الدعوة وازدهارها وسط ظروف معارضة مئات الألوف من الناس الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم لسنوات طوال للقضاء عليها، ليس إلا دليلا واضحا على التأييد الرباني. ووسط الأحداث السابقة يتلألأ بريق أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحامده ومآثره. كما يتلألأ التبر الخالص وسط الرمال، ويتضح من هذه الأحداث أيضا أن الذي قضى حياته بين حالتي الضعف والقوة، والاضطهاد والانتصار على وتيرة واحدة من البساطة والتواضع إنما هو فقط إنسان سيطر على قلبه الناموس الإلهي فطهره من علائق الدنيا، إن سنن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - المباركة تمثل أسوة حسنة، ونموذجا رائعا للفرد والجماعة في كل بلد وفي كل جماعة. وانطلاقا من هذا أذكر هنا بإيجاز خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - "علمني ربي فأحسن تأديبي". وقد صارت عبارة "الخلق المحمدي" تشبيها جميلا لبيان أخلاق الصلحاء أهل التقوى والورع وعاداتهم وشمائلهم. وأنا هنا لا أذكر كمالات النبوة وخصوصياتها بل أقصد ذكر الأحوال البسيطة التي يمكن أن يتمسك بها ويمضي على سنتها من حالفه الحظ من المسلمين {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}. كان سيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أميا لا يعرف القراءة والكتابة، ولم تتيسر له

مصاحبة أي عالم من العلماء حتى زمان البعثة. وكان الرمي والفروسية والطعن، وقول السجع والشعر ومعرفة الأنساب من فنون ذلك العصر التي يتعلمها شباب الأشراف للحصول على الشهرة والعزة، ولم يكن لأحد أن يحصل على العزة والامتياز بين قومه بدون تحصيل تلك الفنون، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحاول اكتساب أي من هذه الفنون ولم يبد أي اهتمام بها. يقول المستشرق الفرنسي البروفيسر سيديو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - طلق الوجه، لين الجانب صامتا في الأغلب، ذاكرا لله، معرضا عن اللغو، بعيدا عن سفاسف الأمور، حصيفا عاقلا، كان القريب والبعيد سواءعنده في العدل يحب المساكن ويفرح بالفقراء، لا يحقر فقيرا لفقره ولا يعظم ملكا لملكه، وسلطانه، يؤلف من جالسه ويصبر على تصرف الجهلة، لا ينعزل عن أحد إلا أن يفترق هو، ويحب الصحابة كثيرا ويجلس على الأرض (دون فرش أو متكأ) ويخصف نعله بنفسه ويرقع ثوبه بيديه (¬1)، ويقابل العدو والكافر بوجه طلق سمح" (¬2). ويقول حجة الإسلام الإمام الغزالي: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلف دابته، ويعقل بعيره، وينظف بيته، ويحلب شاته، ويأكل مع الخادم ويعينه على عمله، ويشتري من السوق حاجته، ويحمله على ظهره، ويبادر في التسليم على الأدنى والأعلى والصغير والكبير، من صحبه مشى معه آخذا بيده، ولا يفرق بين العبد والمولى والحبشي والتركي ولا يغاير بين لباس الليل والنهار، ويجيب دعوة الرجل أيا كان، ويأكل ما يقدم له برغبة ولا يدخر من أكل الليل للصبح ولا من أكل الصبح للمساء، كان طيب الخلق كريم الطبع طلق الوجه غير ضحاك، متفكرا غير عابس، متواضعا غير دنيئ، مهيبا غير فظ، سخيا غير مسرف، يرحم كل واحد، ولا يطمع في شيء عند أحد ويطأطئ رأسه" (¬3). ويقول شاه ولي الله الدهلوي (¬4): ¬

(¬1) خلاصة تاريخ العرب. البروفيسر سيديو [ص:42]. (¬2) الشفا 1/ 60 (لقاضي عياض [ص:313]). (¬3) كيمائي سعادت للإمام الغزالي (المتوفي سنة 505 هـ[ص:280] ط نولكشور 1882 م). (¬4) حجة الله البالغة [ص:385] والعبارة لسيدنا علي رضي الله عنه.

"من رآه بديهة هابه، ومن خالطه محبة عشقه". "كان رؤوفا مع أسرته وخدمه، خدمه أنس عشر سنين فما قال له قط أف، ولم يكن فاحشا ولا متفحشا، ولا لعانا، صبورا على أذى غيره، رحيما بالخلق، ولا يصيب أحدا بيده ولسانه شرا يعتني بإصلاح الأسرة وخير القوم، يعرف منزلة كل شخص وكل شيء وينظر دائما إلى ملكوت السماء" (¬1) وقد ورد في صحيح البخاري: عن عبد الله بن عمر قال: والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبض الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - جامعا لجميع المحاسن، متصفا بجميع الأخلاق الفاضلة، لباسه سكينة، شعاره حسنة ضميره تقوى الله، كلامه حكمة، سيرته عدل، شريعته صدق، ملته إسلام، هديه الهداية، قامع الضلالة، رافع الخاملين، مبرز المجهولين، مغير القلة إلى الكثرة والفقر إلى الغنى (¬2). ¬

(¬1) حجة الله البالغة [ص:385]. (¬2) يراجع هنا سفر أشعيا (الإصحاح 42/ 1 - 7). "هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرت به نفسي مرضوضة، وضعت روحي عليه فخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته، قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خادمة لا تنطفئ، إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وتنتظر الجزائر شريعته، هكذا يتولى الله الرب خالق السماوات وناشرها، باسط الأرض ونتائجها، معطي الشعب عليها نسمة والساكنين فيها روحا أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك واحفظك وأجعلك عهدا للشعب ونورا للأمم، لتفتح عيون العمى لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة" والإصحاح كله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجدير بالملاحظة أن الأساقفة يقولون إن هذه الأوصاف خاصة بالمسيح - ولكنها لمن قال له الله "عبدي" والأساقفة لا يعترفون بعبدية المسيح بل يرفضون ذلك، ثم أن الإصحاح الحادي عشر يذكر البرية وفيه اسم قيدار جد نبينا عليه السلام.

السكوت والكلام

السكوت والكلام: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير السكوت، فلا يتكلم بغير حاجة وكان حلو المنطق، فصيح الكلام، غير متكلف فيه، وكان منطقه يأسر لب السابقين، وشهد له أعداؤه بذلك ويسميه الجاهلون منهم سحرا. وكان كلامه سلسلا يخلو من أي خلل في معناه ولفظه. وكان مفصلا مبينا يعده العاد، ليس بهذ مسرع لا يحفظ ولا منقطع تخلله السكتات بين أفراد الكلام (¬1). ضحكه وبكاؤه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحب الضحك المفرط ولم يكن هو نفسه يضحك، فقد كان جل ضحكه التبسم، وكان يبكي في معظم الأحيان في صلاة التهجد، وأحيانا ما كانت تدمع عيناه لوفاة عزيز، وحين توفي ابنه إبراهيم وهو في الرضاع دمعت عينا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يضعه في القبر وقال: "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون". ومرة بكى حين رأى ابن ابنته (زينب) وهو يحتضر فقد جاء في البخاري عن أسامة، أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قعد رفع إليه فأقعده في حجره ونفس الصبي تقعقع، ففاضت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال سعد، ما هذا يا رسول الله، قال "هذه رحمة يضعها الله في قلوب من يشاء من عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" (¬2). ومرة كان ابن مسعود يتلو على النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن فلما وصل إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كفى - فلما رفع ابن مسعود بصره رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعيناه تدمعان. ¬

= وكذلك فيه ذكر سلع وهو اسم المدينة الطيبة ولا يزال فيها جبل يسمى بهذا الاسم إلى الآن وفي الأصحاح الثالث عشر وصف ذلك المولود بأنه رجل حرب وفي الأصحاح السابع عشر قيل أن الوثنيين يلحقهم منه الخزي والندم، وجميع هذه العلامات لا تصدق على المسيح، بل هي خاصة بمحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان كعب الأحبار يجعل هذا الموضع خاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) زاد العاد مجلد 1 [ص:47]. (¬2) صحيح البخاري عن أسامة بن زيد كتاب الأيمان والنذور 7/ 223، 224.

إرشاداته - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بالطعام

إرشاداته - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بالطعام: كان - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن النوم جائعا، ويقول ترك العشاء مهرمة (¬1)، وكان ينهى عن النوم على الأكل (¬2). وكان يحبذ تقليل الطعام ويقول: فإن كان لابد فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه (¬3). وكان يستخدم الفواكه والخضروات بما يصلحها (¬4). المرض والمريض: كان - صلى الله عليه وسلم - يحترس من الأمراض المعدية ويأمر بأن لا يورد ممرض على مصح (¬5)، وكان يرشد إلى معالجة أحذق الأطباء (¬6). ويأمر بالحمية (¬7) ويمنع الطبيب الجاهل من المعالجة ويضمنه تلف المريض. وكان - صلى الله عليه وسلم - يمنع التداوي بالمحرمات ويقول: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" (¬8) عيادة المريض: كان - صلى الله عليه وسلم - يعود من مرض من أصحابه وكان يدنو من المريض ويجلس عند رأسه ويطمئنه ويقول: لا بأس طهور [أي كفارة] إن شاء الله" وكان يسأل المريض عما يشتهيه، فإن اشتهى شيئا وعلم أنه لا يضره أمر له به، وعاد - صلى الله عليه وسلم - غلاما يهوديا كان يخدمه (¬9). ¬

(¬1) زاد المعاد مجلد 2 [ص:78]. (¬2) المصدر نفسه مجلد 2 [ص:82]. (¬3) زاد المعاد مجلد 2 [ص:87]. (¬4) أيضا مجلد 2 [ص:35]. (¬5) زاد المعاد مجلد 2 [ص:50]. ومن المعروف أن ابن القيم قال عن حديث الترمذي "أخذ بيد مجذوم" إنه لم تثبت صحته وورد حديث أبي هريرة "لا عدوى ولا طيرة" في الصحيح ولكن تردد فيه أبو هريرة ولذا ترك رواية هذا الحديث. (¬6) زاد المعاد مجلد 2 [ص:46]. (¬7) نفسه [ص:35]. (¬8) زاد المعاد، مجلد 2 [ص:53] عن البخاري عن ابن مسعود. (¬9) زاد المعاد مجلد ا [ص:143].

العلاج

العلاج: كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أن يصف الدواء لنفسه إذا مرض ويصفه للآخرين أيضا قائلا: "ياعباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد، قالوا ما هو قال: الهرم (¬1). الخطابة في الناس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب وهو واقف على الأرض وكذا من فوق المنبر ومن على البعير، كان يفتتح الخطبة بحمد الله، ويتشهد بالشهادتين ويختمها بالاستغفار ويأتي في الخطبة بالقرآن، ويعلم قواعد الإسلام. "كان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم" (¬2). ولم تكن مثل هذه الخطب قاصرة على خطبة الجمعة بل كان كلما وجد فرصة وعظ الناس بالقرآن الكريم. وكان إذا ما قام يخطب توكأ على عصا أو قوس ولم يحفظ عنه أنه أمسك سيفا بيده أو توكأ عليه. يقول العلامة ابن القيم: يقول الجهلة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقف على المنبر ممسكا سيفا، إشارة إلى أن الدين انتشر بحد السيف، وهذا جهل قبيح من وجهين: 1 - أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه توكأ على سيف في خطبه. 2 - أن بداية الخطبة كانت في المدينة المنورة والمدينة فتحت بالقرآن لا بالسيف. ويقول العلامة ابن القيم "والدين إنما قام بالوحي" (¬3). الصدقة والهدية: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعمل شيئا من الصدقة أبدا، ولاشك كان يقبل الهدية، كان يقبل ما يرسله له صحابته المخلصون وكذا اليهود والنصارى من أشياء على سبيل الهدية وكان يرسل إليهم أيضا الهدايا، إلا أنه لم يقبل هدايا المشركين. ¬

(¬1) زاد المعاد مجلد 2 [ص:5] عن مسند الإمام أحمد المتوفي 241هـ. (¬2) زاد المعاد، مجلد 1 [ص:49]. (¬3) زاد المعاد، مجلد 1 [ص:49].

مدحه والثناء عليه

وأهدى إليه المقوقس متى ملك مصر بغلة فقبلها وركبها وكانت هذه هي البغلة التي ركبها يوم حنين، ولكنه رفض قبول الفرس الذي أرسله عامر بن مالك وقال: "إنا لا نقبل هدية مشرك" (¬1). وكان يوزع على أصحابه في معظم الأوقات ما تأتيه من هدايا ثمينة. مدحه والثناء عليه: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يمدح بما ينتقص من قدر غير من الأنبياء وكان يقول: لا تخيروا بين الأنبياء (¬2). وحضر النبي - صلى الله عليه وسلم - عرسا، فقامت فتيات صغيرات بإنشاد مدائح في الثناء على أهلهم من الصحابة وقلن أيضا "وفينا من يعلم ما في غدا" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين (¬3)." إظهار الحقيقة وإصلاح الزعم الحاطئ: يوم مات إبراهيم ابن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كسفت الشمس، فبدأ الناس يقولون إن الشمس كسفت لموت إبراهيم، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس وخطب فيهم وقال: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياة أحد (¬4). مراعاة المصلحة العامة: حيئ بنت قريش الكعبة قبل الإسلام، أخرجوا بعض ما كان داخل البناء الإبراهيمي، وجعلوا للبيت بابا واحدا عاليا حتى يحتاج الداخل إلى سلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما لعائشة رضي الله عنها: "لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون منه" (¬5). ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 161). (¬2) البخاري عن أبي سعيد الخدري [في الخصومات] (3/ 89). (¬3) البخاري عن ربيع بنت معوذ [في النكاح] (6/ 137). (¬4) البخاري عن مغيرة بن شعبة [الكسوف] (2/ 26). (¬5) البخاري عن ابن الزبير عن عائشة وقد ذكر البخاري باب هذا الحديث بهذه الألفاظ مخافة أن يقصر فهم بعض الناس. كتاب العلم (1/ 40).

البشرية والرسالة

ولما تمادى المنافقون في سعيهم ضد الإسلام، قال عمر الفاروق للنبي - صلى الله عليه وسلم - يجب أن نقتلهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا، فإن الناس سيقولون أن محمدا يقتل أصحابه. البشرية والرسالة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، يسعى جاهدا للتمييز بين أحكامه وأعماله كرسول وبين أفعاله وأقواله كبشر. 1 - قال مرة إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها (¬1). وشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - عند بريرة لزوجها مغيث الذي أعتقت منه، فقال: لو راجعته، فقالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: إنما أشفع: قالت: لا حاجة لي (¬2). وكان أهل المدينة يلقحون النخل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما ضرورة هذا؟ فترك أهل المدينة هذا العمل، ونتج عن هذا قلة المحصول، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنتم أعلم مني بأمور الدنيا، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوه. العطف على الصغار: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ما مر على بعض الصغار يقول لهم: السلام عليكم (¬3). وكان يمسح على رؤوسهم ويحتضنهم. الاهتمام بالعجائز: بعد فتح مكة أتى أبو بكر الصديق رضي الله عنه بوالده، وهو عجوز ضعيف فاقد البصر، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لماذا أتعبتم الشيخ العجوز أنا نفسي أمشي إليه. تكريم أهل الفضل: كان يهود بني قريظة حكموا سعد بن معاذ، وكان قد جرح جرحا عميقا في غزوة الخندق، وحين وصل إلى المسجد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه من الأوس: قوموا إلى ¬

(¬1) البخاري عن أم سلمة كتاب المظالم (3/ 101). (¬2) البخاري عن ابن عباس كتاب الطلاق (6/ 171) (¬3) البخاري عن أنس كتاب الاستئذان (7/ 131).

الدعاء للخادم

سيدكم، فذهبوا وأتوا به، وكان حسان بن ثابت ينظم الشعر تأييدا للإسلام ردا على المعارضين فكان - صلى الله عليه وسلم - يضع له منبرا في المسجد النبوي فيصعد عليه وينشد شعره. الدعاء للخادم: قام أنس بن مالك على خدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة لعشر سنوات وطوال هذه المدة لم يحدث أن سأله لماذا لم تفعل هذا، وفي يوم دعا له الله فقال: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته". الأدب والتواضع: - لم يحدث أن مد الرسول - صلى الله عليه وسلم - رجله في مجلس ما. - وكان يلقي السلام أولا على من يلقاه. - ويمد يده للمصافحة أولا. - ويدعو أصحابه بكناهم (وهذه طريقة التكريم عند العرب) - ولم يكن يقاطع أحدا أثناء الحديث. - وكان إذا صلى متطوعا وجاءه شخص اختصر صلاته وقضى حاجة ذلك الشخص ثم يعود إلى الصلاة مرة أخرى. - وكان - صلى الله عليه وسلم - كثير التبسم (¬1). - وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة يقال لها (عضباء)، لم تسبقها دابة، فجاء أعرابي فسبقها بدابته، فشق هذا على المسلمين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: "إن حقا على الله عز وجل أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه (¬2) " - وجاء رجل فناداه قائلا: "يا خير البرية"، فقال النبي "ذاك إبراهيم" (¬3). - وجاء رجل فارتعد هيبة حين رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) نقلا عن الشفاء [ص:54]. (¬2) البخاري في الرقاق (7/ 190). (¬3) مسلم في الفضائل 2/ 1839.

الشفقة والرأفة

"هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد" (¬1) الشفقة والرأفة: تقول عائشة الصديقة رضي الله عنها: - لم يكن أحد يساوي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخلق الحسن فإذا دعاه أحد من أهل بيته أو من الصحابة قال له: لبيك (¬2). - وكان - صلى الله عليه وسلم - يتنفل مختفيا حتى لا يشق على الأمة. - ولم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما (¬3). - ودعا ربه فقال: أيما رجل شتمته أو لعنته فاحجعله له كفارة لذنوبه ورحمة ومغفرة وقربة. - وقال: لا تسمعوني أحاديثكم فيما بينكم فإني أريد أن أرحل من الدنيا وقلبي نقي ليس فيه عن أحد شيء (¬4). - وكان يتخولهم بالموعظ مخافة السآمة (¬5)، - وكسفت الشمس مرة فصلى فكان يبكي ويقول في دعائه: رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون ونحن نستغفرك" (¬6) لكل نبي دعوة يدعو بها فاستجيب لها فجعلت دعوى شفاعة لأمتي يوم القيامة (¬7). ¬

(¬1) البخاري 8/ 16. (¬2) الشفا [ص:53]. (¬3) صحيح البخاري عن عائشة. (¬4) الشفاء [ص:55]. (¬5) صحيح البخاري عن ابن مسعود 7/ 169. (¬6) زاد المعاد مجلد 1 [ص:49]. (¬7) صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه كتاب الدعوات.

العدل والرحمة

العدل والرحمة: لو تخاصم إليه رجلان، عدل بينهما، ولو كان لأحد معه شيء رحمه. 1 - سرقت بمكة امرأة اسمها فاطمة فاستشفع الناس لها أسامة بن زيد لدى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "أتشفع في حد من حدود الله، لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها" (¬1). 2 - قال سواد بن عمر حضرت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أرتدي ثوبا مصبوغا بالورس فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: حط حط، وغمز بعصاه في بطني، فقلت أقتص منك يا رسول الله، فكشف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بطنه وقال اقتص (¬2). الرحمة بالأعداء: - وقع قحط شديد بمكة حتى أكل الناس الميتة والعظام، فجاء أبو سفيان بن حرب (وكان من غلاة أعداء الإسلام) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم وإن قومك هلكوا فادع الله، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسقط الغيث. - وفي الحديبية كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الفجر مع المسلمين فنزل سبعون أو ثمانون رجلا من جبل التنعيم، يريدون الفتك بالمسلمين، فقبض عليهم جميعا، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إعتقهم دون فدية أو عقاب (¬3). الجود والكرم: - ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرد السائل أو يقول له "لا" وإن لم يكن عنده ما يعطيه اعتذر كأنه يطلب العفو. - جاء رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال: ما عندي شيء ولكن اتبع فإذا جاءنا شيء قضيناه، فقال له عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرف البشر في وجهه وقال: بهذا أمرت، ذكره الترمذي (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها كتاب الحدود. (¬2) الشفاء لقاضي عياض [ص:311]. (¬3) صحيح البخاري، عن ابن مسعود باب إذا استشفع المشركون (2/ 19). (¬4) الشفا [ص:50] نقلا عن شمائل الترمذي.

الحياء

- جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله فاقترض له النبي - صلى الله عليه وسلم - نصف وسق، فجاء الرجل يتقاضاه فأعطاه وسقا وقال: نصف قضاء ونصفه نائل (أي كرم منا) (¬1). - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاءه ومن ترك مالا فلورثته (¬2). الحياء: يقول أبو سعيد الخدري، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من العذراء في خدرها (¬3) وكان إذا جاءه ما يكرهه عرف ذلك في وجهه. - وعن عائشة الطيبة رضي الله عنها كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بلغه ما يكرهه لم يقل: ما بال فلان يقول كذا ولكن يقول: ما بال أقوام يصنعون أو يقولون كذا، يكنى عنه ولا يسمى فاعله (¬4). - وكان - صلى الله عليه وسلم - يتحمل التعب بنفسه في العادات والمعاملات ولا يأمر أحدا بفعله حياء منه. - وإذا جاءه معتذر يطلب العفو لا يثبت بصره في وجهه بل طأطأ رأسه (¬5). - وقالت عائشة الطيبة ما رأيت فرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط. الصبر والحلم: جاء زيد بن سعنة اليهودي - قبل إسلامه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه دينا عليه، فجذب ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له ثم قال: إنكم يا بني عبد المطلب مطل، فانتهره عمر وشدد له في القول، فابتسم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر، تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي، ثم قال زيد رضي الله عنه مخاطبا الحضور: لقد بقي من أجله ثلاثة أيام، ثم أمر النبي عمر أن يقضيه ماله ويزيده ¬

(¬1) الشفا [ص:51] عن أبي هريرة. (¬2) صحيح البخاري كتاب الفرائض عن أبي هريرة. (¬3) صحيح البخاري في الأدب عن أبي سعيد (8/ 100). (¬4) الشفا [ص:52] رواه أبو داود. (¬5) الترمذي في الشمائل والشفا [ص:48].

العفو والرحم

عشرين صاعا لما روعه (¬1). - جاء أعرابي فجذب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية الرداء على عنقه، ثم قال: يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: المال مال الله، وأنا عبده، ثم قال ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي، فقال لا، قال لم؟ قال: لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر (¬2). - ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف يدعو الناس إلي الإسلام فقابله أهلها بالوحل والسب والحجارة حتى ابتل - صلى الله عليه وسلم - وغشي عليه، ومع ذلك قال: لا أريد هلاكهم فإنهم لو لم يؤمنوا أرجو أن يؤمن أولادهم (¬3). العفو والرحم: - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، منتصرا من مظلمة ظلمها قط. - في غزوة أحد كسر الكفار رباعيته - صلى الله عليه وسلم - وشجوا وجهه وجرحوا رأسه حتى أنه وقع في حفرة، فقال الصحابة: لو دعوت عليهم، فقال: إني لم أبعث لعانا ولكني بعثت داعيا ورحمة. اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون (¬4). - نام النبي - صلى الله عليه وسلم -، تحت شجرة وحده، وسيفه معلق فجاء غورت بن الحراث، فأخذ السيف وقال: من يمنعك مني، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الله، فسقط السيف من يده فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال من يمنعك مني؟ قال كن خير آخذ، فتركه وعفا عنه، فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس (¬5). - تعرض هبار بن الأسود لزينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين هاجرت فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها ففر ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - طالبا عفوه، فعفا عنه (¬6). ¬

(¬1) الشفا لقاضي عياض [ص:48]، رواه البيهقي، وقد أسلم زيد بعدها. (¬2) الصحيحين عن أنس والشفا [ص:48]. (¬3) صحيح البخاري. (¬4) الشفا لقاضي عياض [ص:47]. (¬5) صحيح البخاري باب غزوة ذات الرقاع والشفا [ص:47]. (¬6) زاد المعاد 3/ 411، وانظر بيان فتح مكة.

الصدق والأمانة

- قال - صلى الله عليه وسلم -: ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين، وأول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب (¬1). الصدق والأمانة: كان ألد أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - يعترفون بأنه صادق وأمين وكانوا يلقبونه منذ طفولته بالصادق الأمين، ولهذا كانوا يتحاكمون إليه - صلى الله عليه وسلم - في قضاياهم قبل الإسلام (¬2). - قال أبو جهل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم "إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به" (¬3). في ليلة الهجرة أجمع كفار قريش على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وراءه عليا رضي الله عنه حتى يؤدي أمانات الناس إليهم. العفة والعصمة: 1 - قال - صلى الله عليه وسلم -: ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته، قلت ليلة لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة سمعت عزفا بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم، فجلست أنظر فضرب على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت - ولم أقض شيئا، ثم عراني مرة أخرى مثل ذلك ثم لم أهم بعد ذلك بسوء (¬4). - يذكر أنه قبل عهد النبوة دعا زيد بن عمرو بن نفيل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سفرة لحم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه (¬5). الزهد: - كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: يا رب أجوع يوما وأشبع يوما، فأما اليوم الذي أجوع فيه ¬

(¬1) صحيح البخاري خطبة فتح مكة. (¬2) انظر الشفا قاضي عياض [ص:49] (1/ 78). (¬3) أيضا [ص:59] (1/ 79) (¬4) الشفا [ص:60] (1/ 80) (¬5) البخاري عن عبد الله كتاب الصيد والذبائح (6/ 225).

إعانة النساء ومراعاة راحتهن

فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك (¬1). - وقالت عائشة الصديقة رضي الله عنها. إنا كنا آل محمد لنمكث لشهرا ما نستوقد نارا، إن هو إلا التمر والماء (¬2). - وقالت ما شبع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام تباعا من خبز منذ قدم المدينة (¬3). - وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله (¬4). - ولما احتضر النبي - صلى الله عليه وسلم - استعارت عائشة زيت السراج من إحدى جاراتها (¬5). - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو الله قائلا: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا". والجدير بالذكر أن مظاهر الزهد هذه كانت اختيارية، ولم تكن اضطرارية، ولم يكن قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا الزهد هو صد الناس عن الانتفاع بالطيبات أو الاستفادة بالحلال وقد حدث فقط أن ترك تناول العسل لأن إحدى زوجاته لم تستطيب رائحته. فقال الله عز وجل لرسوله: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم} (التحريم: 1). إعانة النساء ومراعاة راحتهن: - كانت أم المؤمنين صفية مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكانت تركب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسة في الخلف وقد غطت جسمها بعباءة، فكانت إذا أرادت أن تركب كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس عند بعيره فيضع ركبته، فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب (¬6). - وقد عثرت مرة ناقته فسقطا معا، فأسرع طلحة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عليك بالمرأة" (¬7). ¬

(¬1) الشفا [ص:62] (1/ 82). (¬2) أيضا 1/ 83. صحيح البخاري، عن عائشة. (¬3) أيضا 1/ 82. صحيح البخاري عن عائشة كتاب الأطعمة. (¬4) صحيح البخاري عن عائشة. (¬5) صحيح البخاري عن عائشة (5/ 145). (¬6) صحيح البخاري باب يسافر بالجارية عن أنس (3/ 225). (¬7) صحيح البخاري باب استقبال الغزاة عن أنس.

اهتمامه بأسرى الحرب

- كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر وكانت النسوة في هوادج على الجمال، وكان الحادي يحدو حتى تسرع الجمال في سيرها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رفقا بالقوارير (¬1). وقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء بالقوارير إشارة إلى ما فيهن من نفاسة ورقة بالإضافة إلى ضعفهن ولهذا فهن يحتجن دائما إلى الراحة والهدوء. اهتمامه بأسرى الحرب: كان - صلى الله عليه وسلم - يهتم بأسرى الحرب اهتمامه بالضيوف، يقول أحد الأسرى الذين أسروا في غزوة بدر وأقاموا لدى المسلمين بالمدينة لمدة أيام: رحم الله المسلمين كانوا يطعموننا أحسن وأفضل مما يطعمونه أولادهم وكانوا يفكرون في راحتنا قبل أن يفكروا في راحة أهلهم وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهتم حين يأتيه الأسرى بكسوتهم أولا (¬2). التدريب على الشجاعة والرجولة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرغب في التدريب على الرجولة والشجاعة وكان أبو ركانة من أمراء العرب المشهورين بقوتهم فاشترط أن يصارعه النبي فإن صرعه أسلم فتغلب عليه النبي ثلاث مرات (¬3). الرمي: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث الناس على تعلم الرماية. ويوزع الناس في التدريب على الرماية إلى قسمين: قال مرة: ارموا وأنا مع هذا الفريق فيسمع ذلك الفريق الثاني فيمسكون عن الرمي، فيسألون، فيقولون، كيف نرمي ورسول الله مع ذلك الفريق، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ارموا فأنا معكم كلكم (¬4). سباق الخيل: كان سباق الخيل يتم بأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان السباق يتم على مسافة خمسة أو ستة أميال وأحيانا على مسافة ميل واحد (¬5). ¬

(¬1) صحيح مسلم والبخاري 7/ 608. (¬2) صحيح البخاري باب الكسوة للأسارى عن جابر رضي الله عنه. (¬3) الشفا للقاضي عياض [ص:34] (¬4) صحيح البخاري، عن سلمة بن الأكوع باب التحريض على الرمي. صحيح البخاري عن ابن عمر باب السبق بين الخيل. (¬5) صحيح البخاري عن حذيفة باب كتابة الإمام الناس (كتاب الشهادة).

الإحصاء السكاني

الإحصاء السكاني: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - اكتبوا إلي من تلفظ بالإسلام من الناس فنفذ حكم النبي فكان عدد المسلمين آنذاك ألفا وخمسمائة رجل، فشكر المسلمون الله على هذا العدد وكان المسلمون يقولون: أنخاف الآن ونحن ألف وخمسمائة، لقد مر علينا زمن لم يكن فيه الرجل يصلي وحده والجميع خائف فالأعداء من حولنا في كل طرف (¬1). وللأسف لا تخبرنا هذه الرواية عن السنة التي وقع فيها هذا الإحصاء ويفهم من الروايات الأخرى الواردة في صحيح البخاري أن هذا الإحصاء كان الإحصاء الثالث للمسلمين، وقد كان عدد المسلمين في الإحصاء الأول خمسمائة وفي الثاني بين ستمائة وسبعمائة. ¬

(¬1) صحيح البخاري عن حذيفة باب كتابة الإمام الناس (كتاب الشهادة).

توجيهات الرسالة

توجيهات الرسالة إن توجيهات النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بالعقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والعادات والمهلكات والمنجيات والإحسان وغيرها هي بحر لا ساحل له، وقد أسس فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمو الإسلام ورفعته على هذه التوجيهات، وأود هنا أن أعرض نماذج لا غير على أن يكون تفصيل ذلك فيما بعد إن شاء الله. حق الله على عباده، وحق العباد على الله: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله إذا فعلوه أن لا يعذبهم (¬1). الرحمة الإلهية: قال - صلى الله عليه وسلم -: لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي غلبت غضبي (¬2). بر الوالدين: قدم رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: أريد أن أجاهد في سبيل الله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لك أبوان؟ فقال نعم. قال: ففيهما جاهد (¬3). التناصر: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه" (¬4). من هو المسلم؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" (¬5). ¬

(¬1) صحيح البخاري عن معاذ بن جبل كتاب الرقاق. (¬2) صحيح البخاري عن أبي هريرة كتاب بدء الخلق. (¬3) صحيح البخاري عن عمر كتاب الأدب (7/ 69) (¬4) صحيح البخاري عن موسى كتاب المظالم (3/ 98). (¬5) صحيح البخاري كتاب الإيمان عن عبد الله بن عمر (1/ 8).

حلاوة الإيمان

كمال الإيمان: قال - صلى الله عليه وسلم -: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (¬1). حلاوة الإيمان: قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمن: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" (¬2). أحب الأعمال: سأل الصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحب الأعمال إلى الله، فقال: أدومه وإن قل، ثم قال: اكلفوا من العمل ما تطيقون (¬3). النهي عن المشقة في العمل: - دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيتا فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال، ما هذا الحبل؟ قالوا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد (¬4). - قيل للنبي عن امرأة من بني أسد أنها لا تنام الليل تعبدا فقال، مه علمكم ما تطيقون من الأعمال (¬5). - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمرو فقال، يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا (¬6). فضل الكسب وذم التسول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدا ¬

(¬1) صححيح البخاري كتاب الإيمان عن أنس (1/ 9). (¬2) صحيح البخاري، كتاب الإيمان عن أنس (1/ 9). (¬3) صحيح البخاري، كتاب الرقاق (7/ 172). (¬4) صحيح البخاري، كتاب النوافل عن أنس بن مالك (2/ 48). (¬5) صحيح البخاري، عن عائشة كتاب النوافل. (¬6) صحيح البخاري، عن عبد الله كتاب النكاح.

على من يقع الحسد

يعطيه أو يمنعه (¬1). على من يقع الحسد: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لاحسد إلا في اثنتن: رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله حكمته فهو يقضي بها ويعلمها (¬2). أفضل الخلق: قال - صلى الله عليه وسلم -: سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله (¬3). النهي عن الرذائل والأمر بالتآخي: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا " (¬4). حق الجار والضيف: قال - صلى الله عليه وسلم -: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه (¬5). الكلام والسكوت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت (¬6). الرسول يضمن الجنة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة (¬7). ¬

(¬1) صحيح البخاري عن أبي هريرة باب كسب الرجل وعمله بيده. (¬2) صحيح البخاري عن ابن مسعود كتاب الزكاة (3/ 113). (¬3) صحيح البخاري عن عائشة كتاب الرقاق (7/ 182). (¬4) صحيح البخاري عن أبي هريرة كتاب الفرائض (8/ 3). (¬5) صحيح البخاري عن أبي هريرة كتاب الرقاق (7/ 184). (¬6) البخاري عن أبي هريرة، كتاب الرقاق. (¬7) البخاري عن سهل بن سعد كتاب الرقاق (7/ 184).

الحث على الصبر والشكر

الحث على الصبر والشكر: قال - صلى الله عليه وسلم -: إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه (¬1). من هو المصارع: قال - صلى الله عليه وسلم -: ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب " (¬2). واجب دعاة الإسلام: قال - صلى الله عليه وسلم -: " يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا (¬3). أثر المحبة: قال - صلى الله عليه وسلم -: "المرء مع من أحب " (¬4). معاملة الأسرى والمساكين والمرضى: قال - صلى الله عليه وسلم -: فكوا العاني، وأطعموا الجائع وعودوا المريض (¬5). ثواب غرس الأشجار: قال - صلى الله عليه وسلم -: ما من مسلم غرس غرسا فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة (¬6). الرأفة بالحيوان: قال - صلى الله عليه وسلم -: بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا، يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجرا (¬7). ¬

(¬1) البخاري عن أبي هريرة كتاب الرقاق (7/ 187). (¬2) البخاري عن أبي هريرة كتاب البر والصلة. (¬3) البخاري كتاب البر والصلة. (¬4) البخاري عن ابن مسعود كتاب البر. (¬5) البخاري عن أنس كتاب الأدب. (¬6) البخاري عن أنس كتاب الأدب. (¬7) البخاري عن أبي هريرة (7/ 77).

ذكر تعليم الجواري

ذكر تعليم الجواري: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من كانت له جارية فعلمها وأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها كان له أجران (¬1). في تعليم البنات وتربيتهن: قال جابر للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أصيب عبد الله وترك جواري صغارا فتزوجت ثيبا تعلمهن وتؤدبهن. (¬2) من هو المنافق: قال - صلى الله عليه وسلم -: أربع من كن فيه كان مناقا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر (¬3). من هو المهاجر: قال - صلى الله عليه وسلم -: المهاجر من هجر ما نهى الله عز وجل عنه (¬4). من يظلهم الله بظله يوم القيامة: قال - صلى الله عليه وسلم -: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال، إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " (¬5). أمر إطاعة الإمام: قال - صلى الله عليه وسلم -: "من كره من أميره شيئا فليصبر عليه، فإنه من خرج من طاعة السلطان شبرا مات ميتة الجاهلية (¬6). ¬

(¬1) البخاري عن أبي موسى باب من أدب جارية وعلمها. كتاب العتق. (¬2) البخاري عن جابر باب الشفاعة. (¬3) البخاري عن عبد الله بن عمر باب الإيمان (1/ 14). (¬4) البخاري في الرقاق (7/ 186). (¬5) البخاري، عن أبي هريرة كتاب المحاربين. (¬6) البخاري عن ابن عباس كتاب الفتنة 8/ 87.

إنزال الكبار منازلهم في المعاملات

وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إنكم سترون بعدي أثرا وأمورا تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا لهم حقهم وسلوا الله حقكم؟ (¬1). إنزال الكبار منازلهم في المعاملات: قال - صلى الله عليه وسلم -: "فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم" (¬2). كبار القوم ينوبون عن الأمة: ونيابة عن القوم أخبر الكبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس قد طيبوا وأذنوا (¬3). حماية المعاهد الذمي: قال - صلى الله عليه وسلم -: من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد عن مسيرة أربعين عاما (¬4). منزلة الحياة: قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتمنين أحدكم الموت إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب (¬5). منزلة الصحة: قال - صلى الله عليه وسلم -: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ (¬6). فضل أداء الدين: قال - صلى الله عليه وسلم -: إن خياركم أحسنكم قضاء (¬7). تعريف الغنى: قال - صلى الله عليه وسلم -: " ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس " (¬8). ¬

(¬1) البخاري عن ابن مسعود كتاب الفتنة 8/ 87. (¬2) البخاري عن مسور بن مخرمة كتاب الأحكام 8/ 115، شروط الصلح في غزوة هوازن. (¬3) البخاري عن مسعود غزوة هوازن. (¬4) البخاري، عن عبد الله بن عمر كتاب الجزية والموادعة (4/ 65). (¬5) البخاري عن أبي هريرة كتاب الطب. (¬6) البخاري عن ابن عباس كتاب الرقاق. (¬7) البخاري عن أبي هريرة كتاب الاستقراض 3/ 84. (¬8) البخاري عن أبي هريرة كتاب الرقاق.

المساواة العامة

المساواة العامة: قال - صلى الله عليه وسلم -: لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى (¬1). الرحمة العامة: قال - صلى الله عليه وسلم -: من لا يرحم لا يرحم (¬2). فضل ترك المال للورثة: قال - صلى الله عليه وسلم -: إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ما في أيديهم (¬3). مثل المرأة: قال - صلى الله عليه وسلم -: المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتها وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج (¬4). منزلة المرأة في البيت: قال - صلى الله عليه وسلم -: المرأة راعية على بيت زوجها وولده (¬5). منزلة عالم القرآن: قال - صلى الله عليه وسلم -: الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة (¬6). الكلام المحبوب عند الله: قال - صلى الله عليه وسلم -: كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم (¬7). ¬

(¬1) زاد المعاد مجلد 2 [ص:185] ومسند أحمد 5/ 411. (¬2) البخاري عن جرير بن عبد الله (الأدب 7/ 75) (¬3) البخاري عن سعد بن أبي وقاص، كتاب الوصايا (3/ 186). (¬4) البخاري، باب النكاح (6/ 145) (¬5) البخاري عن ابن عمر في الأحكام 8/ 154. (¬6) البخاري، كتاب التوحيد 8/ 214. (¬7) البخاري عن أبي هريرة، خاتمة الكتاب (8/ 219).

القرآن الكريم

القرآن الكريم إذا أراد أحد من العلماء كتابة سيرة النبي المصطفى عليه أفصل الصلاة والسلام فمن الضروري له أن يتناول بالبحث علوم القرآن الكريم، إلا أن من يتناول السيرة العطرة بإيجاز، كما هو الحال في كتابنا هذا، فيلزمه أيضا أن يقدم نموذجا من تعاليم القرآن الكريم، مع ترك مباحث أسرار التنزيل وأحكامه وخصوصيات القرآن الكريم، ذلك لأن إغماض العين عن تقديم نموذج من تعاليم القرآن أثناء كتابة السيرة يجعل من كتاب السيرة النبوية كتابا ناقصا وقد سأل رجل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان خلقه القرآن الكريم. إننا نؤمن بأن كل كلمة من كلمات القرآن هي من كلام رب العالمين، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي عرف أهل الدنيا بهذا الكلام الرباني. نزل هذا الكلام المقدس على محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مدار ثلاث وعشرين سنة وجرى على الألسنة وتملك الأفئدة وسيطر على العقول في الدنيا كلها بنفس الألفاظ التي تلاها محمد رسول الله، وحفظ هذا الكلام المقدس داخل جميع طبقات المجتمع، يتلو من أجزائه مئات الآلاف من الناس في جميع أنحاء الدنيا في صلواتهم الخمس. ومنذ أن نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو ينتشر وينتشر في الدنيا، ومنذ أن سمعته أم المؤمنين خديجة الكبرى وحدها يكثر عدد المؤمنين به لحظة بلحظة ويوما بعد يوم. ولم يستطع وقف تقدمه وانتشاره ظروف الزمان أو المكان ولا حتى العادات والتقاليد، ولا تعضيد المؤمنين به أو معارضة المنكرين له أو الظروف الصعبة على مر الأزمنة. لقد ترجمت معانيه ترجمات خاطئة في مختلف البلاد وبمختلف اللغات، وكتبت الحواشي الخاطئة تعليقا على تعاليمه الواضحة الصادقة ولم تنجح الحيل في الحد من انتشاره بين الناس في جميع أنحاء العالم. إنه لا يزال منيرا مضيئا باللغة التي نزل بها أولا، والعالم كله لا يزال مضيئا بنوره، بينما فقدت هذه الميزة جميع كتب العالم المقدسة الأخرى: التوراة، الزبور، الإنجيل

ورسائل الفيد أو الزند والبازند، فاللغات التي نزلت بها هذه الكتب لا يوجد لها ولا لأهلها أثر في الدنيا. والقرآن الكريم نفسه يوضح جميع الاعتراضات التي وجهت إليه والاتهامات التي وجهت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - زمان نزوله ومن أجل هذا صار القرآن الكريم تاريخا صادقا لنفسه، عرض فيه جانبي الصورة، وما أوضحه القرآن الكريم بجرأة مصدرها الصدق والثبات لا نظير له في أي كتاب مقدس آخر في الدنيا. كما أن أحكام القرآن الكريم تتضمن الصدق الواضح حتى أن الأمم والأديان التي لم تؤمن به علانية راحت تدعي وجود تعاليمه في كتبهم التي سبقته بمئات السنوات أو حتى ظهرت بعده بمئات السنوات: وصدق الله العظيم: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خفله} ويتضح معنى هذه الفقرة للقارئ إذا ما درس أحوال اليهودية والنصرانية والموبدية والبوذية والهندوكية بفرقتيها (آريه دهرم، وسناتن دهرم)، وذلك قبل نزول القرآن الكريم، ثم ليفكر القارئ الكريم في التطورات التي أحدثت فيها حتى الآن، وليرى هل كان انتشار تعاليم الإسلام في هذا البلد قبل هذه التطورات أم لا؟ وسواء اعترف أحد الآن بفوائد القرآن الكريم كما هو حال مؤسس فرقة برهموسماج، أو كما اتهم الكاثوليك الزعيم لوثر بأن مبادئه مأخوذة من القرآن أو كما هو الحال عند الكثير من الفرق، إلا أن الواقع يشهد أنهم أخذوا الكثير من أحكامه وإرشاداته وسوف يأخذون وكل أمة ماضية على طريق التقدم مضطرة رغم أنفها للاقتباس من تعاليمه. وعلى حد علمي فإن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يبشر بقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. وأعرض فيما يلي آيات من القرآن الكريم لا أزيد عليها شيئا حتى يأخذ القارئ فكرة عن هذا الكتاب العظيم ويفكر المسلمون في النموذج الذي يريدهم القرآن الكريم أن يمضوا عليه. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

الإلهيات

الإلهيات معرفة ذات الله: 1 - {بسم الله الرحمن الرحيم}. 2 - {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} (سورة الأنعام: 103). 3 - {ليس كمثله شيء} (سورة الشورى: 11) 4 - {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} (سورة البقرة: 257). 5 - {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم} (سورة البقرة: 255). 6 - {كتب ربكم على نفسه الرحمة} (سورة الأنعام: 54). 7 - {قل هو الله أحد (...) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (...) ولم يكن له كفوا أحد} (سورة الإخلاص: 1 - 4). وصف الدين الحق: 1 - {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (سورة الروم: 30). 2 - {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة} (سورة البقرة: 138) 3 - {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (سورة الشورى: 13). المطلوب من العمل: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} (سورة الحج: 37).

غاية الشريعة

غاية الشريعة: 1 - {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} (سورة المائدة: 6). 2 - {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} (سورة العنكبوت: 45). وظيفة الرسول: 1 - {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} (سورة البقرة: 151). 2 - {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} (سورة الأعراف: 157) جزاء الأعمال في الدنيا وما بعد الموت: 1 - {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (سورة الأعراف: 96). 2 - {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} (سورة المائدة: 66). 3 - {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (سورة الشورى: 30). 4 - {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} (سورة السجدة: 17). سنن الله لا تتغير: 1 - {فلن تجد لسنت الله تبديلا} (سورة فاطر: 43). 2 - (ولن تجد لسنت الله تحويلا} (سورة فاطر: 43). 3 - {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور (...) ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير} (سورة الملك: 3 - 4).

مناط النجاح

مناط النجاح: 1 - {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (سورة النجم: 39). 2 - {وكان سعيكم مشكورا} (سورة الدهر: 22). 3 - {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} (سورة البقرة: 141). منزلة الصبر والتقوى: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} (سورة آل عمران: 186). منزلة الحكمة: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} (سورة البقرة: 269). جزاء الصبر: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} (سورة آدم السجدة: 24). قطع الطمع: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم} (سورة طه: 131). تذكر الآخرة: {ولا تنس نصيبك من الدنيا} (سورة القصص: 77). تجنب المهالك: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (سورة البقرة: 195). الافتراء والكذب: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله} (سورة النحل: 105). المحرمات القطعية: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (سورة الأعراف: 33). عبادة الله هو التعميد: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون} (سورة البقرة: 138).

تنويه بالكتابة

تنويه بالكتابة: {والقلم وما يسطرون} (سورة القلم: 1). آيات الله: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} (سورة البقرة: 164). منع الحلف: 1 - {ولا تطع كل حلاف مهين} (سورة القلم: 1) 2 - {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} (سورة البقرة: 224). 3 - {واحفظوا أيمانكم} (سورة المائدة: 89). دعوة إلى الصلح: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} (سورة البقرة: 208). الإصلاح بين الناس: 1 - {وتصلحوا بين الناس} (سورة البقرة: 224). 2 - {وأصلحوا ذات بينكم} (سورة الأنفال: 1). أمر بالعفو: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} (سورة النور: 22). الصدق يتضح بنفسه: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (حم السجدة: 53).

أصول الحكم

أصول الحكم توفر العلم: {وداود وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (...) ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} (سورة الأنبياء: 78 - 79). منع الفساد: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} (سورة الأعراف: 56). عاقبة الظلم: {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين} (سورة الأنبياء: 11). ثمرة الصلاح: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} (سورة هود: 117). الاستعداد للحرب خير وسيلة للوقاية منها: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} (سورة الأنفال: 60). أهمية المشورة: 1 - {وشاورهم في الأمر} (سورة آل عمران: 159). 2 - {وأمرهم شورى بينهم} (سورة الثورى: 38). 3 - {قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون} (سورة النمل: 32). التعليم والتعلم استماع القول: {فبشر عباد (...) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب} (سورة الزمر: 17 - 18).

تلقي العلم

تلقي العلم: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} (سورة الأنعام: 148). نظام الدعوة طائفة لابد من الدعاة: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (سورة آل عمر أن: 104). الداعية من كل فرقة: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (سورة التوبة: 122). تربية الخلق تعريف الأنثى: {أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} (سورة الزخرف: 18). تعريف الزوجين: 1 - {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} (سورة البقرة: 187). واللباس يقي الإنسان الحر والبرد، ويعطيه الحسن والجمال وهو ينم عن مدى تأدب صاحبه وتثقفه، ويستر عيوبه، وهكذا ينبغي أن تكون العلاقة بين الزوجين، فيكون كل منهما وقاية لصاحبة من الحر والبرد، وينمو جمالهما بالمودة المتبادلة ويعرف مدى ثقافة الزوج وتأدبه برؤية الزوجة، وبالعكس، ويكون كل منهما أمينا لسر الآخر. 2 - {أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} (سورة الروم: 21). حقوق الزوجين: 1 - {الرجال قوامون على النساء} (سورة النساء: 34). 2 - {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} (سورة البقرة: 228).

الإيمان هو الحب البالغ

الإيمان هو الحب البالغ: {والذين آمنوا أشد حبا لله} (سورة البقرة: 165). الإيمان والعلم سبب ارتفاع المنزلة: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (سورة المجاددة: 11). فضل الإنسان: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} (سورة الإسراء: 70). مكانة الإنسان ترد على الشرك: {قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين} (سورة الأعراف: 140). الاعتبار بكل شيء: {ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين} (سورة المائدة: 31). آية في كل شيء: {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} (سورة يوسف:105). أثر السياحة: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها} (سورة الحج:46). العمى الحقيقي: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (سورة الحج: 46). الحلال والحرام: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا} (سورة البقرة: 168).

منع ترك الطيبات

منع ترك الطيبات: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (سورة الحج: 46). تحقق الهدى: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا} (سورة الاسراء: 72) العلو بالإيمان: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} (سورة آل عمران: 139). المدنية التمدن في الخلائق: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} (سورة الأنعام: 38). الكون مسخر للإنسان: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} (سورة البقرة: 29) اختلاف في الكفاءات: 1 - {قل كل يعمل على شاكلته} (سورة الاسراء: 84) 2 - {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} (سورة الحج:18). 3 - {فأما من أعطى واتقى (...) وصدق بالحسنى (...) فسنيسره لليسرى (...) وأما من بخل واستغنى (...) وكذب بالحسنى (...) فسنيسره للعسرى} (سورة الليل: 5 - 10). مسئوليات متنوعة وكفاءات مختلفة: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} (سورة الأنعام: 165).

المساواة والعدل

المساواة والعدل: {ووضع الميزان (...) ألا تطغوا في الميزان (...) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} (سورة الرحمن: 7 - 9). مقياس الخيرية: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (سورة آل عمران: 110). أساس الأخوة: (إنما المؤمنون إخوة} (سورة الحجرات: 10). أهمية المال: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} (سورة النساء: 3). ذم الفقر: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم} (سورة البقرة: 268). ذم البخل: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (سورة التغابن: 16). مدح الاقتصاد: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (سورة الفرقان: 67). نفع التجارة البحرية: {والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} (سورة البقرة: 164). المستحقون للنعم الدائمة: {وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (...) والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (...) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (...) والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (...) وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن

عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (...) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (...) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (...) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} (سورة الشورى: 36 - 43).

الباب السادس

الباب السادس في نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - الفصل الأول الشجرة الطيبة •---------------------------------• يمكن تفريع الشجرة المباركة إلى ثلاثة فروع: ـ[الفرع الأول]ـ: يبدأ هذا الفرع من النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وينتهي إلى عدنان، وقد أثبت هذا الحافظ أبو عمرو بن عبد البر العمري القرطبي [ولد سنة ثمان وستين وثلاثمائة] في كتاب الاستيعاب بقوله: "هذا ما لم يختلف فيه أحد من الناس". وقد رأيت من الأفضل أن أبحث عن الأسماء المباركة لأمهاته العظام جنبا إلي جنب مع أسماء آبائه الكرام والحمد لله فقد وفقت في الاطلاع على أسمائهن من عبد الله إلى عدنان بالإضافة إلى أسماء آبائهن وقبائلهن، وعلى سبيل المثال وجدت مع اسم والدته آمنة اسم أبيها وأمها مع نسبهما، انظروا إلى سلسلة النسب هذه بأكملها فلعلكم لا تجدون أعظم ملوك الدنيا يعثر على نسبه بمثل هذا الوضوح لو قلب صفحات التاريخ من أولها إلى آخرها، ثم انظروا عظم شأن النسب في كل سلسلة من ناحية الأب والأم تجدوه يخلو من كل وهن أو ضعف، وهذا شرف لا يحظى به إلا من اصطفاه الله على العالمين منذ أزل الآزال وحفظ له النسل من آدم عليه السلام إلى ذاته المباركة. وقد رجعت في تحقيق أسماء أمهاته الكرام وسلسلة آبائهن إلى"التاريخ الكبير" للطبري، و"طبقات الكبير" لابن سعد كما استعنت أحيانا بـ "التاريخ الكامل" لابن الأثير. ـ[الفرع الثاني]ـ: أما الفرع الثاني من نسبه الكريم فهو ما يعلو "معد بن عدنان" ولم يذكره المحدثون رحمهم الله في كتبهم بالتفصيل الذي سنورده هنا، لأنهم صعبت عليهم رواية هذا الفرع نظرا لالتزامهم بالشروط الخاصة برواية الأحاديث الصحيحة. وكان هذا غاية ورعهم وتقواهم.

ومع هذا، فإن جملة المحدثين يذكرون ثمانية أو تسعة أسماء ليصلوا بنسبه الكريم إلى إسماعيل عليه السلام، وكان من عادة بني إسرائيل أيضا أن يذكروا أسماء بعض المشاهير بطريقة مختصرة على سبيل الإيجاز وحين نطالع إنجيل متى فيما يتعلق ونسب يسوع المسيح ابن داود بن ابراهام، نرى أن متى ترك بين المسيح وداود ستة وعشرين جيلا وبين داود وإبراهيم اثنا عشر جيلا على سبيل الاختصار. وقد تجرأت على ذكر الفرع الثاني لأنني لا أدري حقيقة صحة من قال: كذب النسابون ما فوق عدنان، هذا بالإضافة إلى أنني رأيت كثيرا من العلماء الذين يعتبرون أئمة في التاريخ والحديث يذكرون هذا الفرع من النسب. وقد ورد في "سبائك الذهب" للسويدي أنه "قد اختلف في كراهة النسب من عدنان إلى آدم فذهب ابن إسحاق وابن جرير وغيره إلى جوازه وعليه البخاري وغيره من العلماء". ونقل جلال الدين السيوطي في كتابه "رحلة الشافعي" المحادثة التي جرت بين الإمام الشافعي وهارون الرشيد: " فقال لي: بين لي عن نفسك، قال الشافعي: فبينت حتى ألحقت آدم عليه السلام بالطين". وبعد هذه الاقتباسات رأيت أن ذكر هذا الفرع هنا أفضل من تركه. وكنت رأيت هذا الفرع أولا في كتاب "الخطبات الأحمدية" لسيد أحمد خان غفر الله له. إلا أنه لم يذكر مصدره، وقد ذكر أيضا نسب برخيا كاتب أرمياه، ونسب الجيراه، ولم أتمكن من فهم المصدر الذي استقى منه السيد أحمد خان هذه المعلومات، وقد وجدت فيما بعد ذكر أرمياه والجيراه في "تاريخ أبي الفداء" ثم وجدت رواية للكلبي وردت في كتاب الإمام الطبري، قال عنها الطبري: " إنها توافق نسب أرمياه كل الموافقة، إلا أن هناك اختلاف في النطق راجع إلى اختلاف الألسنة، وهناك رواية أخرى للإمام الطبري نفسه أخذها من عالم أنساب عربي. ثم وجدت هذا الفرع من النسب في كتاب الطبقات الكبير للإمام ابن سعد، ولما قارنت بين هذه الكتب لم أجد فيها بعض الأسماء التي أوردها السيد أحمد خان وهي عدنان الثاني، وأدو الثاني، واليسع، وهميسع الثاني وسلامان الثاني وثابت وحمل

ومعد الأول، ولا أعرف من أي مصدر زادها، وقد أثبت الأسماء التي اتفقت عليها الروايات العديدة. ـ[الفرع الثالث]ـ: أ - اعتمدنا في ذكر الفرع الثالث من نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يبدأ من إسماعيل وينتهي إلى آدم عليه السلام على التوراة الحالية، أما إعراب الأسماء فمأخوذ من التوراة المشكلة المترجمة إلى اللغة العربية. ب - أثبتنا الأعمار أمام كل اسم وهي أيضا مأخوذة من التوراة وهي في الغالب صحيحة، إلا أنه ورد في التوراة أيضا أن فلانا ولد له ولد وهو في سن كذا، وهذا يوجد عدة إشكالات، وعلى سبيل المثال لنفكر في التصريحات التالية الواردة في التوراة (سفر التكوين). 1 - وعاش آدم مائة وثلاثين سنة وولد ولدا على شبهه كصورته ودعا اسمه شيثا (5/ 3) 2 - وعاش شيث مائة وخمسين سنة وولد أنوش (5/ 6) 3 - وعاش أنوش تسعين سنة وولد قينان (5/ 9) 4 - وعاش قينان سبعين سنة وولد مهللئيل (5/ 12). 5 - وعاش مهللئيل خمسا وستين سنة وولد يارد (5/ 15). 6 - وعاش يارد مائة واثنين وستين سنة وولد أخنوخ (5/ 18). 7 - وعاش أخنوخ خمسا وستين سنة وولد متوشالح (5/ 21). 8 - وعاش متوشالح مائة وسبعا وثمانين سنة وولد لامك (5/ 21). 9 - وعاش لامك اثنتين وخمسمائة سنة وولد ابنا ودعا اسمه نوحا (5/ 28). 10 - وعاش نوح اثنتين وخمسمائة سنة وولد ساما. (لم يذكر في سفر التكوين عبارة أن عمر نوح كان 502 سنة حين ولد له سام، ولكن جاء في سفر التكوين أن نوحا كان ابن ستمائة سنة حين جاء الطوفان وأن عمر سام بعد الطوفان بسنتين كان مائة سنة وولد له أرفكسد، وهذا يعني أن عمر نوح كان خمسمائة واثنين سنة حين ولد سام.)

11 - ولما كان سام ابن مائة سنة ولد أرفكشاد بعد الطوفان بسنتين (11/ 10). 12 - وعاش أرفكشاد خمسا وثلاثين سنة وولد شالح (11/ 12). 13 - وعاش شالح ثلاثين سنة وولد عابر (11/ 14). 14 - وعاش عابر أربعا وثلاثين سنة وولد فالج (11/ 16). 15 - وعاش فالج ثلاثين سنة وولد رعو (11/ 18). 16 - وعاش رعو اثنين وثلاثين سنة وولد سروج (11/ 20). 17 - وعاش سروج ثلاثين سنة وولد ناحور (11/ 22). 18 - وعاش ناحور تسعا وعشرين سنة وولد تارح (11/ 24) 19 - وعاش تارح سبعين سنة وولد أبرام (11/ 26) فلو سلمنا بصحة هذا الحساب لثبت بالضرورة رؤية شيث عليه السلام لنوح عليه السلام. ولكان عمر سيدنا إبراهيم عليه السلام ثمان وثمانون سنة في حياة سيدنا نوح، ولكان عمر سيدنا إسماعيل سنتين، وإذا ما حسبنا السنوات علمنا أن نوح عليه السلام عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، وولادة إبراهيم عليه السلام 262+86= 348 سنة أي بعد ثلاثمائة وثمان وأربعين سنة وولد إسماعيل حين كان عمر أبيه ستة وثمانين سنة، وهذه أمور لم يقل بها أحد من أهل الكتاب ولهذا ظل الشك يساورني فيما يتعلق بهذا الحساب. ثم حدث أن قرأت عن نفس الشيء في كتاب " تاريخ أبي الفداء " فسررت سرورا ممزوجا بالتعجب، لأن المؤرخ الفاضل يتفق في الرأي مع ما وصلت إليه من نتائج، وقد زادني ثقة أن الإمام أبا محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري (ت 456هـ) قد صرح بنفس الرأي في "كتاب الفصل". والحاصل أن الأسماء التي يضمها الفرع الثالث صحيحة أما المعلومات الأخرى ففي بعضها شك. ولما كانت صحة الأسماء هي المقصودة فيما يتعلق بتوثيق النسب لهذا يمكنني القول بأن هذا الفرع من النسب الشريف صحيح تماما.

شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء

وندرج هنا الشجرة المباركة بعد هذه التمهيدات الضرورية: شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. شجرة سيدنا ومولانا محمد رسول الله خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -. الفرع الأول ____ آباؤه الكرام ... أمهاته العظام ... عمومة الأمهات ... خؤولة الأمهات ____ 1 - عبد الله ... آمنة ... وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب (انظر مسلسل 6 آباء النبي) ... برة بنت عبد العزى بن عبد الدار بن قصى (انظر مسلسل 5 آباء النبى) 2 - عبد المطلب ... فاطمة ... عمرو بن عائد بن عمران ابن مخزوم بن يقظة بن مرة (انظر مسلسل 7 آباء النبي) ... صخرة (*) بنت عبد بن عمران ابن مخزوم بن يقظة بن مرة (انظر مسلسل 7 آباء النبي) 3 - هاشم ... سلمى ... عمرو بن زيد بن لبيد بن خدا بخش بن عامر بن عامر بن غنم بن عدي النجار (تيم الله) بن ثعلية الخزرجي ... عميرة {**) بنت صخر بن خبيب بن الحارث بن ثعلبة بن مازن بن النجار ساكن المدينة. 4 - عبد مناف ... عاتكة ... مرة بن هلال بن فالح بن زكوان بن ثعلبة بن بهنة ابن سليم بن منصور (انظر رقم 17 من آباء النبي) ... ماوية (...) (صفية) بنت حوزة بن عمرو بن صعصعة ابن معاوية بن بكر بن هوازن (رقم 17 من آباء النبي). 5 - قصي ... حبى ... خليل بن جثبية بن سلول ابن كعب بن عمرو بن ربيعة (وهو الخزاعي) ... هند (****) بنت عامر بن النضر بن عمرو بن عامر (من الخزاعة). ¬

(*) أم صخرة هي تخمر بنت عبد بن قصي، وجدتها هي سلمى بنت عامرة بنت عميرة بنت وديعة بنت الحارث بن فهر، وجدة جدتها هي عاتكة بنت عبد الله بن وامكة بن ظرب. (**) أم عميرة هي سلمى بنت عبد الأشهل والجدة هي ايثلة بنت رعورا. (...) أم ماوية هي رتاش بنت الأسحم وجدتها هي كبشة بنت الرافقي. (****) أم هند هي ليلى بنت مازن (من خزامة)

6 - كلاب ... فاطمة ... سعد بن سيل (حير) بن نوف بن عامر الحاؤ وكان أول من بنى جدار الكعبة فقيل أربع عماما، أزدشنوه ... ظريفية (*) بنت قيس بن أمية ذي الرأسين بن جيثم بن كنانة ابن عمرو بن القين بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن إلياس (انظر مسلسل 17 آباء النبي). 7 - مرة ... هند ... سرير بن ثعلبة بن الحارث ابن مالك (مسلسل رقم 12 آباء النبي) ... أمامة (¬1) بنت عبد مناة بن كنانة. (انظر مسلسل 14 من آباء النبي). 8 - كعب ... محشية ... شيبان بن محارب بن فهر (انظر مسلسل 11 آباء النبي) ... وحشية (¬2) بنت أوائل بن قاسط بن هنسب بن أقصى بن صعمى بن جديلة. 9 - لوى ... ماوية ... كعب بن القين (هو النعمان) بن حير بن شيع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ... . عاتكة بنت كاهل بن عذرة 10 - غالب ... عاتكة ... يخلد بن النضر بن كنانة (انظر مسلسل 13 آباء النبي) ... أنيسة (¬3) بنت شيبان بن ثعلبة ابن عكابة بن صعب بن على ابن بكر بن وائل. 11 - فهر الملقب بقريش ... ليلى ... حارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة (انظر مسلسل 12 آباء النبي) ... سلمى (¬4) بنت طانجة بن إدياس (انظرمسلسل 16 آباء النبي) ¬

(*) أم ظريفية هي صخرة بنت عامر. (¬1) أم أمامة هي هند بنت دودان بن الأسد خزيمة. (¬2) أم وحشية هي ماوية بنت صبيعة بن ربيعة بن نزار. (¬3) أم أنيسة هي تماخر بنت الحارث وجدتها هي رهم بنت كامل. (¬4) أم سلمى هي عاتكة بنت الأسد وجدتها هي زينب بنت ربيعة.

12 - مالك ... جندلة ... عامر بن الحارث بن مضاض بن زيد بن مالك الجرهمي ... هند بنت الطليم بن مالك الحارث الجرهمي. 13 - نضر ... عكرشة ... عدنان (الحارث) بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر (انظرمسلسل 17 آباء النبي) ... - 14 - كنانة ... برة ... مر بن أد بن طانجة (أخت تميم بن مر) [وطانجة أخ مدركة] ... - 15 - خزيمة ... عوانة - هند ... سعد بن قيس بن عيلان بن إلياس (مسلسل 17 آباء النبي) ... وعد بنت إلياس (انظر مسلسل 17 آباء النبي). 16 - مدركة ... سلمى ... أسلم بن الحاف بن قضاعة - ... - 17 - إلياس ... ليلى (خندف) ... حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ... ضرية بنت ربيعة بن نزار (مسلسل 19 آباء النبي). 18 - مضر ... رباب ... حيدة بن سعد (مسلسل 20 آباء النبي) ... - 19 - نزار ... سودة ... عك بن الريث بن عدنان ... مسلسل 21 آباء النبي. 20 - معد ... معانة ... جوشم بن جلهمة بن عمر بن برة بن جرهم ... سلمى بنت الحارث بن مالك ابن غنم (من جرهم) 21 - عدنان ... مهدد ... لهم بن جلحب بن جديس ابن جاثم بن أثرم (إرم) ... -

الفرع الثاني

الفرع الثاني نسبه - صلى الله عليه وسلم - إلى إسماعيل عليه السلام •---------------------------------• مسلسل ... رواية الطبري (¬1) ... رواية ابن سعد في (الطبقات) ... الملاحظات التي أثبتها الإمام الطبري فيما يتعلق بمن روى عنهم ... وأخبرني بعض النساب أنه وجد طائفة من علماء العرب قد حفظت لمعد أربعين أبا بالعربية إلى إسماعيل. ... واحتجت لقولهم ذلك بأشعار العرب وأنه قابل بما قالوا من ذلك أهل الكتاب فوجد العدد متفقا واللفظ مختلفا وأملى ذلك علي فكتبته عنه (ج 2/ 193). 22 ... أدو ... أدو ... - 23 ... هميسع ... هميسع ... - 24 ... سلامان ... سلامان ... وهو هميدع ويقال له أيضا الشاحب. 25 ... عوص ... عوص ... وهو منجر ويقال له أيضا نبيت. 26 ... بوز ... بوز ... وهو ثعلبة وإليه تنسب قبيلة الثعلبية. 27 ... قموال ... قموال ... وهو يوز ويقال له أيضا عشر الغناء وأول من سن العشيرة للعرب. 28 ... أبي ... أبي ... وهو سعد رجب وهو أول من سن الرجبية للعرب. 29 ... عوام ... عوام ... وهو قموال ويقال له أيضا بريح الناصب وكان في زمن سليمان عليه السلام. 30 ... ناشد ر ناشد ... وهو محلم ولقبه ذو العين. ¬

(¬1) حدثني الحارث، قال حدثنا محمد بن سعد، قال حدثنا هشام بن محمد، قال وكان رجل من أهل تدمر يكنى أبا يعقوب، من مسلمة بني إسرائيل قد قرأ من كتبهم وعلم علما، فذكر أن بروخا بن تاريا كاتب أرمياه أثبت نسب معد بن عدنان ووضعه في كتبه، وأنه معروف عند أحبار أهل الكتاب، مثبت في أسفارهم وهو مقارب لهذه الأسماء ما روى عن الكلبي محمد بن السائب، اذكره من بعده ولعل خلاف ما بينهم من قبل الألسنة لأن هذه الأسماء مترجمة عن العبرانية. (تاريخ الطبري ج 2 [ص:193]، المطبعة الحسينية بمصر).

مسلسل ... رواية الطبري ... رواية ابن سعد في (الطبقات) ... الملاحظات التي أثبتها الإمام الطبري فيما يتعلق بمن روى عنهم 31 ... حزا ... حزا ... وهو العوام. 32 ... بلداس ... بلداس ... ويقال له أيضا المحتمل. 33 ... تدلاف ... تدلاف ... ولقبه رائمة. 34 ... طابخ ... طابخ ... يقال له طاهب ولقبه العيقان. 35 ... جاحم ... جاحم ... ولقبه علة. 36 ... ناحش ... ناحش ... ولقبه علة. 37 ... ماخي ... ماخي ... وكانت العرب تطلق عليه الظريب خاطم النار. 38 ... عيفي ... عيفي ... يقال عافى وهو عبقر أبو الجن وإليه تنسب جنة عبقر. 39 ... عبقر ... عبقر ... يقال له إبراهيم جامع الشمل وإنما سمى جامع الشمل لأنه أمن في ملكه كل خائف وصارت الطرق آمنة. 40 ... عبيد ... عبيد ... يقال له إسماعيل ذو المطابخ وسمى بذلك لأنه حين ملك أقام بكل بلدة دار ضيافة للمسافرين. 41 ... الدعا ... الدعا ... يقال له يزن الطعان وهو أول من قاتل بالرماح. 42 ... حمدان ... حمدان ... يقال له إسماعيل ذو الأعوج وكان الأعوج فرسا له وإليه تنسب الأعوجية من الخيل. 43 ... سنبر ... سنبر ... يقال له بشمين وهو المطعم في المحل وكان يعد في قصره الطعام لكل شخص. 44 ... يثربي ... يثربي ... وهو يثرم والطمح لقبه. 45 ... يحزن ... يحزن ... اسمه نحزن ولقبه القسور. 46 ... يلحن ... يلحن ... اسمه يلحن ولقبه عنود. 47 ... ارعوي ... ارعوي ... ارعوى اسمه والدعدع لقبه. 48 ... عيضي ... عيضي ... لقبه عاقر. 49 ... ويشان ... ويشان ... ولقبه الزاعية.

مسلسل ... برواية الكلبي ... برواية ابن سعد ... الملاحظة التي رواها الإمام الطبري عن راويه 50 ... عيصر ... عيصر ... وهو عاصر النيدوان ذو الأندية وفي عهده حدثت الحرب بين نيبت وجاوان بني القادور. 51 ... اقناد ... اقناد ... اسمه قناد ولقبه أيامة 52 ... ايهام ... ايهام ... اسمه يهامي ولقبه دوس العتق وأجمل الخلق. 53 ... مقصى ... مقصى ... اسمه مقاصري ولقبه حصن نزال. 54 ... ناحت ... ناحت ... - 55 ... زارح ... زارح ... لقبه قمير. 56 ... سمى ... شمى ... اسمه سما ولقبه المحشر. 57 ... مزى ... مزى ... ويقال له أيضا هرمز. 58 ... عوص ... عوص ... ويلقب بالثمر والصفي أيضا. 59 ... عرام ... عرام ... - 60 ... قيدار ... قيدار (¬1) ... - ¬

(¬1) اسم زوجة قيدار حاضرة وهي من قبيلة جرهم.

الفرع الثالث

الفرع الثالث ------------------ مسلسل ... الاسم ... العمر ------------------- 61 ... إسماعيل عليه السلام (¬1) ... 137 سنة 62 ... إبراهيم عليه السلام ... 175 سنة 63 ... تارح (آذر) ... 205 سنة 64 ... ناحور ... 159 سنة 65 ... سروج ... 232 سنة 66 ... رعو ... 239 سنه 67 ... فالج ... 239 سنة 68 ... عابر ... 460 سنة 69 ... ارفكشاد ... 438 سنة 70 ... سام ... 602 سنة 71 ... نوح عليه السلام ... 950 سنة 72 ... لامك ... 777 سنة 73 ... متو شالح ... 969 سنة 74 ... أخنوخ إدريس عليه السلام ... 365 سنة 75 ... يارو ... 962 سنة 76 ... مهللئيل ... 895 سنة 77 ... قينان ... 910 سنة 78 ... آنوش ... 905 سنة 79 ... شيث عليه السلام ... 912 سنة 80 ... آدم عليه السلام ... 930 سنة ¬

(¬1) سيأتي بيان هاجر أم إسماعيل عليه السلام فيما بعد.

نسب يسوع المسيح عليه السلام

نسب يسوع المسيح عليه السلام بعد بيان نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - نود أن نثبت هنا نسب المسيح عليه السلام المذكور في إنجيل لوقا ومتى ليطلع القارئ على مزيد من المعلومات وينبغي أن نعلم أولا أن علماء النصارى وإن كانوا يوصلون نسب المسيح عليه السلام إلى داود عليه السلام إلا أنه ثبت من إنجيل يوحنا بالأصحاح الثامن / 48 أن اليهود المعاصرين للمسيح عليه السلام كانوا ينكرون له هذا الشرف الثابت وينسبونه إلى نسل السامري (¬1). الفرع الأول من يوسف (زوج مريم) (¬2) إلى زرو بابل ¬_ إنجيل لوقا ... إنجيل متى _ يوسف ... إنجيل متى هالي ... يوسف متثات ... يعقوب لاوي ... متهان ملكي ... - ينا ... - يوسف ... - متاثيا ... - عاموض ... -

_ (¬1) السامري من بني إسرائيل إلا أن داود عليه السلام لا يذكر اسمه في هذا النسب. (¬2) هذه عبارة الكتاب المقدس.

ناحوم ... - حسلى ... - نجاى ... - مآث ... المعرز متاثيا ... اليود شمعى ... اخيم يوسف ... صدوق يهوذا ... عازورا يوحنا ... الياقيم إيصا ... ابيود زربابل ... زروبابل المجموع 20 ... المجموع 11 1 - ذكر لوقا في إنجيله من يوسف إلى زروبابل عشرين جيلا وذكر متى أحد عشر جيلا. 2 - يختلف كل منهما في سلسلة النسب عن الآخر اختلافا شديدا إذ لا تشبه الأسماء التي وردت في إنجيل لوقا ومتى بعضها بعضا إلا في اسميمن فقط هما يوسف وزروبابل. 3 - أخبرني بعض علماء النصارى عن وجود نسب مريم عليها السلام في إنجيل لوقا ونسب يوسف في إنجيل متى أو بالعكس ولو كان الأمر كذلك لسررنا كثيرا ولكن من المدهش المحير أن سلسلة نسب الزوج والزوجة فيها تفاوت زمني جعل هنالك تسعة أجيال.

الفرع الثاني

4 - تنتهي سلسلة النسب الواردة في إنجيل لوقا إلى إيصا بن زروبابل، والواردة في إنجيل متى إلى أبيود بن زروبابل وقياسا فمن الممكن أن يكون يوسف ومريم من أصل إيصا وأبيود ابني زروبابل، ولكن لابد هنا أن نحقق: هل كان من ولد زروبابل من يسمى إيصا وأبيود أم لا؟ لقد وجدنا في الإصحاح رقم (3/ 19 - 25) من أخبار الأيام الأول أسماء ولد وابنة زروبابل ولكن مع الأسف ليس فيهم أحد يدعى إيصا أو أبيود. 5 - أن لوقا ومتى اتفقا على جعلهما زروبابل ابنا شألتئيل وأما أخبار الأيام الأول (3/ 18 - 19) فقد ورد فيه أن زروبابل كان ابن فدايا وابن أخي شألتئيل. الفرع الثاني وهذا يبدأ من شألتئيل وينتهي إلى داود، وبما أن سلسلة نسب شألتئيل توجد في التوراة لهذا أضفنا له عمودا ثالثا في هذا الفرع ليتضح مدى التطابق بين كتاب سماوي ثالث (التوراة) بالإضافة إلى إنجيل لوقا ومتى. إنجيل لوقا ... إنجيل متى ... الكتاب المقدس (¬1) التوارة شألتئيل ... شألتئيل ... سيالتي إيل نيري ... يكنيا ... يكونيا (يكنيا) ملكي ... - ... - أدى ... - ... يهو يقيم المودام ... آمون ... آمون عير ... ملنسى ... ملنسي يوسى ... حزقياه ... خرقياه (خرقياه) أليعازر ... أحاز ... آخز يوريم ... يوثام ... - ¬

(¬1) انظر [ص:637] الطبعة العربيته. الأيام.

متثاث ... عزياه ... عزياه (عزيا) لاوي ... - ... أمصياه شمعون ... - ... يوآس يهوذاه. ... - ... خزياه (آخزياه) يوسف ... يورام ... يهورام يونان .. ... يهوشافاط ... يهو سفط (يهوشافاط) الياقيم ... آسا ... اسا مليا ... أبياه ... ابيا (أميا) مينا ... - ... - متاثا ... رجعام ... رجعام ناثان ... ... سليمان ... سليمان داود ... داود ... داود المجموع 22 ... المجموع 16 ... المجموع 19 1 - وقد عد لوقا من أرسلاتي إيل إلى داود اثنين وعشرين جيلا ومتى ستة عشر جيلا والتوراة تسعة عشر جيلا. 2 - إن لوقا جعل شألتيل من أصل ناتن بن داود وأما متى والكتاب المقدس فإنهما نسباه إلى سليمان بن داود. وحدثني أحد النصارى أن سليمان هو ناتن، ولكن أشك في صحة هذا القول لما ورد في أخبار الأيام الأول (3/ 5) ونصه [وهؤلاء ولدوا له في أورشليم شمعى وشوباب وناثان وسليمان أربعة من بنت سوع بنت عمئيل". 3 - إن ما ذكره لوقا ومتى في إنجيلهما من أسماء بين شألتئيل وداود في هذا الفرع مختلفة تماما فيما بينها. ونفس الاختلاف موجود في الفرع الأول أيضا بأن أحد الأبناء لمريم والثاني لزوجها يوسف، ولكن اجتمع كلا النسبين بزر وبابل، ومن المستحيل أن يكون شألتئيل وحده نسبان اثنان، كما لا يمكن أن نجعل شألتئيل من أصل كل من ناتن بن

داود وسليمان بن داود. ويستنتج من هذا أن آباء المسيح عليه السلام سيعدون من سدنة بيت المقدس، إذا ثبت كون شألتئيل من أصل ناتن بن داود، كما أنهم سيعتبرون ملوكا، إذا صح انتماؤه إلى سليمان بن داود، ولكن مع الأسف لم يثبت صحة كل من النسبين. 4 - نحن نرجح هنا النسب الوارد في إنجيل متى على النسب الوارد في إنجيل لوقا، وذلك لأن الأصحاح الثالث من أخبار الأيام الأول يؤيد ويصدق النسب الوارد في إنجيل متى. بخلاف النسب الوارد في إنجيل لوقا فإنه لم يجد ما يدعمه، رغم قول لوقا "قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق" (لوقا 1/ 3). 5 - مما يبعث على السرور أن إنجيل متى والتوراة كلاهما يتفقان في كثير من الأسماء ولكن من المؤسف أنهما لا يتطابقان تماما. فتدبروا قليلا في سلسلة النسب، لم يذكر متى أي اسم بين يكنيا ويوشيا مع أن أخبار الأيام الثاني (36/ 5) ذكر بينهما اسما، ويظهر من دراسة هذا الأصحاح أن إلياقيم بن يوشيا هو الذي تولى عرش الحكم بعد أبيه يوشيا، وكان اسم إلياقيم الملكي يهويقيم. وكذلك إذا درست أخبار الأيام الأول (3/ 16) علمت أن يكونيا كان من أبناء يهويقيم لا من أبناء يوشيا كما يظهر من النسب الذي ذكره متى. 6 - يقول متى (1/ 9): "ولد يونام من غرياه" هذه الألفاظ تثبت أن يونام كان ابنا من صلب غرياه كالأسماء الأخرى الموجودة في هذا النسب فجميعها تدل على أن العلاقة علاقة الأب والابن. ولكن الذي يبدو من مطالعة الإنجيل هو: أن خزيا ولد من يورام (أو يهورام). وولد يوأس من أخزيا وولد أمصياه من يوآس وولد غرياه من أمصياه وهذا التصريح الوارد في الإنجيل أكد أن متى لم يذكر هنا أيضا أسماء ثلاثة أجيال. 7 - يقول بعض علماء النصارى أن متى كان ترك متعمدا أسماء خزياه ويوآس وأمصياه لأن أعمال هؤلاء الثلاثة وصلت من السوء درجة لا ينبغي معها أن يعطى لهم مكانا

في هذا النسب الكريم، ويمكن أن يكون هذا العذر صحيحا لأني وجدت أنسابا غيره حدث معها نفس الشيء. ولكن الذي يدعو إلى التفكير هو هل انتهج متى هذا النهج حقا؟ ففي أخبار الأيام الثاني تعليق موجز على كل ملك، فمثلا ورد عن هؤلاء الثلاثة ما يلي: أخزيا: وهو أيضا سلك في طرق بيت آحاب لأن أمه كانت تشير عليه بفعل الشر (أصحاح 22/ 2) يوآس: وتركوا بيت الرب إله آبائهم وعبدوا السواري والأصنام (أصحاح 24/ 18). أمصياه: وعمل المستقيم في عيني الرب ولكن ليس بقلب كامل (أصحاح 25/ 2). فإن رتبنا هؤلاء الثلاثة حسب الجريمة فإن يوآس أشدهم جريمة لعبادته الأصنام. وأخزيا أقل منه لأعماله السيئة، وأمصياه أقل منه لتجرد عمله الصالح من الإخلاص. وعلينا أن ننظر الآن هل يوجد أحد غير هؤلاء الثلاثة علق عليه بمثل هذا التعليق أو أشد منه؟ إن اسم آخز موجود في النسب الذي ذكره متى ويقول عنه الإنجيل: وعمل أيضا تماثيل مسبوكة للبعليم. (أخبار الأيام الأصحاح الثاني 2/ 28). ويقول عن آمون: وعمل الشر في عيني الرب (أخبار الأيام الأصحاح الثاني 22/ 33). ويقول عن ملنسي: وعمل الشر في عيني الرب حسب رجاسات الأمم (أخبار الأيام الثاني أصحاح 2/ 33). ويقول عن رجعام: ترك هو وبنو إسرائيل كلهم معه شريعة الرب. هذه الوثائق كلها تدل على وجود أمثال هؤلاء الثلاثة وقع منهم ذنوب ورغم هذا ذكر متى أسماءهم في النسب مما يدل أن متى لم ينهج ذلك المنهج الذي يقول به أصدقاؤنا

الفرع الثالث

اليوم. ومن هنا ظهر أن متى لم يوافق التوراة في ذكر النسب فيما يتعلق بالفرع الثاني. الفرع الثالث النسب من داود إلى آدم يمكن أن يكون فرعا ثالثا لنسب المسيح. ولكن الظاهر أن نسب ابن داود، وهو الذي يتصل بنسب داود وما فوقه، يعتبر نسب داود، وليس هناك خلاف في نسب داود الوارد في التوراة، كما أن أهل الكتاب لم يختلفوا في الفرع الثالث من نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يبدأ من قيدار بن إسماعيل وينتهي إلى آدم. ومع ذلك أثبت هنا النسب من داود إلى إبراهيم عليه السلام تيمنا وبركة. الاسم ... الملاحظة داود عليه السلام ... تولى الحكم وهو في الثلاثين من عمره ثم توفي سنة 1015 ق. م. بعد ما حكم أربعين عاما. وعلى هذا كانت ولادته قبل 945 سنة من مولد المسيح. يسى ... - عوبيد ... - بوعز ... اسم زوجته راعوث وقد ورد في الكتاب المقدس باب باسمها. سلمون ... هو الذي دخل الأرض المقدسة مع يوشع عليه السلام من بين أصحاب موسى. واسم زوجته راحب. نحشون ... هو من رؤساء بني إسرائيل الذين كانوا رؤساء الأسباط وهو الذي كان أحصى في برية سيناء بنى يهوذا بعد

الخروج من مصر بأربعة عشر شهرا بأمر موسى عليه السلام وكان عدد محاربي هذه الفرقة - الذين كانوا من ابن أربع وعشرين سنة فصاعدا - أربعة وسبعيئ ألفا وستمائة (كتاب الأصحاح الأول العدد 1/ 1 - 27) وكان هذا الحادث قبل هـ 149 ق. م. عميداب ... نطقه بالعربية (عمينا داب) آرام ... نطقه بالعربية أرام حصروم ... حصر ومن فارص ... وكان والده تمر وقد وردت قصته في كتاب التكوين يهوذا ... ونطقه بالعربية يهودا يعقوب عليه السلام ... - إسحاق عليه السلام ... - إبراهيم عليه السلام ... ورد ذكره في شجرة نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الفصل الثاني

الفصل الثاني أحوال موجزة لبعض أعلام الشجرة النبوية العالية {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} (سورة يوسف: 111) •---------------------------------• آدم عليه السلام: هو أبو البشرية وأول إنسان خلقه الله تعالى ليستخلفه في الأرض عمر تسعمائة وثلاثين سنة وكان آدم عليه السلام ابن مائة وثلاثين سنة حين ولد له شيث. (التكوين 6/ 4 - 5). وقد ورد في القرآن الكريم أن الله أسكن آدم في الجنة بعد ما خلقه. إلا أن علماءنا اختلفوا في تعيين هذه الجنة. فمال الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأبو القاسم البلخي. وابن قتيبة وأبو مسلم الأصفهاني إلى أنها مكان على وجه الأرض. أما من عداهم من المفسرين فقالوا إنها في السماء ومنهم من يقول هذه الجنة غير جنة الخلد. ومنهم من يقول بأنها هي جنة الخلد. وسوف يأتي ذكر الحقائق التي أوردها الإسلام عن آدم عليه السلام في هذا الكتاب ضمن باب فضيلة سيد المرسلين وباب أساطير الأولين. نوح عليه السلام: هو أول رسول من رسل رب العالمين. وفي التوراة لما كان نوح ابن ستمائة سنة حدث الطوفان على الأرض، يعني أن الطوفان بدأ في سنة ستمائة من عمر نوح في اليوم السابع عشر، وقد تفجرت ينابيع البحار، وانفتحت طاقات السماء، فنزل المطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. وكان طول السفينة التي صنعها نوح عليه السلام مائتي ذراع وعرضها خمسين ذراعا وارتفاعها ثلاثين ذراعا، وتتكون من ثلاث طبقات داخلية. وبعد مائة وخمسين يوما بدأ انخفاض منسوب المياه واستقرت السفينة ونزل نوح على الأرض في اليوم السابع من الشهر من عمر نوح البالغ 601 سنة. وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة (¬1). ¬

(¬1) ملخص عن التكوين الأصحاح 6/ 7 / 8.

وقد وصف نوح عليه السلام بآدم الثاني في التاريخ الإسلامي كما جاء في القرآن الكريم قال تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} (سورة الصافات: 77) وكان لنوح ثلاثة بنين، انتشر أولادهم في الأرض، فعمرت وازدهرت. أولاد سام (¬1) ـ[شجرة أولاد سام]ـ ¬

(¬1) أسماء ولد سام وحام ويافث مأخوذة من كتاب التكوين.

أولاد حام ـ[شجرة أولاد حام]ـ

أولاد يافث ـ[شجرة أولاد يافث]ـ وكان لنوح ابن رابع اسمه يام غرق في الطوفان لسوء عمله. حال سام أو (سم): هو أكبر أولاد نوح عليه السلام وقد ولد ونوح ابن اثنتين وخمسمائة سنة. كان سام أبا لجميع الأمم والشعوب والمعلم الأول لسائر الألسنة التي أطلق عليها المؤرخون الأوربيون جميعا اسم اللغات السامية. ويظهر من البحث والتحقيق أن اللغة السامية ما زالت حية في آسيا وإفريقيا على السواء، ومنها تفرعت اللغة الفولانية والآرامية والسريانية والأثيوبية. ومن المسلم به أن العبرية والعربية هما أغنى اللغات السامية، وتذخران بالخزائن العلمية.

وقد اعترف مؤرخان قديمان معروفان هما سبرنيجر وسكريدر مثلهما مثل من سبقهما من المؤرخين - بأن جزيرة العرب أول موطن لأولاد سام. ويؤيد رأي هؤلاء المؤرخين قول الله تعالى في القرآن {ولتنذر أم القرى ومن حولها} فإنه وصف مكة بأنها أم لجميع القرى. وقد ثبت تاريخيا أن بعض الشعوب نزحت من جزيرة العرب منذ أقدم العصور، فسكنت الأراضي الخصبة المجاورة لها. والدليل على ذلك أن العرب هم الشعب الذي بقيت فيه العادات والتقاليد السامية في صورتها الأصلية، إذ أن حياتهم البسيطة ما زالت تجري على نسق واحد. كما أن لغة العرب هي اللغة التي حفظت على مر العصور. أما العبرانية فحفظت لفترة من العصور القديمة، ولم يبق اليوم من آثارها في أيدي العلماء إلا نقوش ميشا أو سلوآرم. إن سقوط الإمبراطورية اليهودية وزواج اليهود من الأشدودين وأسر بني إسرائيل وخراب القدس وتيه اليهود في الأقطار المختلفة، كل ذلك من الأسباب الطبيعية التي لم تبق اللغة العبرية في صورتها الأصلية، كما أنها أحدثت انقلابا عظيما، فإذا كان هذا شأن العبرية فما بالنا باللغات السامية الأخرى؟ إن العلماء لم يطلعوا على اللغة الفولانية إلا بعد العثور على النقوش الحجرية التي اكتشفت قبل أربعة قرون من مولد المسيح عليه السلام. ولكنها نسيت حتى أن من قرأوا هذه النقوش لا يثقون أنفسهم في صحة ما قرأوا. كانت اللغة الآرامية في زمن ما لغة الكنعانيين جميعا وانتقلت معهم إلى جميع الأقطار التي وطؤوها من كنعان إلى تركستان الصينية سعيا وراء العشب والكلأ، ويزعمون أن كلمة "إرم" التي وردت في القرآن الكريم بكسر الأول وفتح الثاني، وفي التوراة بفتحتين هي من آثار هؤلاء القوم، ولم يبق لهذه اللغة اليوم عين ولا أثر. إن كتاب "بندلي لوك" يعتبر أثرا من آثار لغة سامر، وقد اعترف كل من بحث في لغته بأنها مشتقة من العربية والعبرية والآرامية والآراميكية. وهكذا فليس في مقدور العالم كله اليوم نطقها أو بيان مفرداتها ولأنها لم تكن قط لغة مستقلة بذاتها.

سيدنا إبراهيم عليه السلام

أما اللغة السريانية التي كان يتكلمها المسيحيون الأرمينيون الذين كانت أديسا عاصمتهم في القرنين الخامس والسادس، هذه اللغة الوليدة لم تعمر كثيرا قبل أن تموت. وبالجملة فإن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة التي بقيت حية سالمة من بين سائر اللغات التي علمها سام عليه السلام والتي لا تزال باقية حتى اليوم في سوريا والعراق ومصر وفلسطين والمغرب وتونس ويوجد ناطقون بها من أكسفورد إلى البرازيل. الأمور التي تشترك فيها اللغات السامية هي: (الف) وجود المصادر الثلاثية. (ب) المماثلة بين قواعد الاسم والفعل. (ج) الترابط بين الأسماء والضمائر والأفعال. (د) التشابه بين التراكيب النحوية. (هـ) التشابه فيما يتعلق بالفعل اللازم والفعل المتعدي. ويعلم كل من يتقن العربية وله خبرة بقواعد الصرف والنحو العربي ويعرف أدبها، يعلم جيدا ما فيها من كمال وشمول واتساع. وهذا مما يدل على أنها أم اللغات والألسنة التي عرفت على وجه البسيطة بعد الطوفان، كما كان سام بن نوح عليه السلام الجد الأكبر لجميع الشعوب التي وجدت على الأرض. سيدنا إبراهيم عليه السلام: كان سيدنا إبراهيم عليه السلام في الخامسة والسبعين حين خرج من مكان مولده وموطن أبيه، كما أمره الله - ليصل إلى أرض كنعان بن سام - كان معه زوجه سارة وابن أخيه لوط، وقد وعده الله بأن يكون ملك هذه البلاد لأولاده من بعده، ثم ذهب إلى مصر، وهناك أعجب فرعون بالسيدة سارة فأرادها لنفسه، ولما تعرض لعذاب الله ردها إلى إبراهيم عليه السلام، ثم رجع إبراهيم عليه السلام إلى أرض كنعان وفارقه لوط ونزل إلى سدوم عند نهر الأردن، وبعد فترة تقاتل كدر لا عمر ملك عيلام متحالفا مع ثلاثة ملوك، مع ملك سدوم الذي كان متحالفا مع أربعة ملوك، وقد انتصر في القتال وأسر لوطا مع عماله، فلما بلغ ذلك إبراهيم عليه السلام تبعهم حتى حوبة وتقع شمال دمشق وخلص لوطا عليه السلام وجميع أسراه بالإضافة إلى غنائم كثيرة.

وقابله في الطريق ملك سدوم "وملكي صادق" (¬1) ملك شاليم وكان كاهنا لله، فأعطى إبراهيم عليه السلام عشر الغنائم لملك شاليم، ورد بقية الغنائم كلها إلى ملك سدوم، ولم يأخذ لنفسه شيئا من الغنائم، إلا أنه أعطى جزءا من الغنائم لقبائل عاذ وأشكول وممرا، وهي القبائل التي حاربت معه. وحين ولد إسماعيل عليه السلام كان سيدنا إبراهيم عليه السلام في السادسة والثمانين (¬2)، ولما كان في التاسعة والتسعين ظهر له الرب في الرؤيا وأمره بأن يختن كل مولود يصل عمره ثمانية أيام، وتبقى هذه العلامة الخالدة في ذريته إلى عهد الله (¬3). وكان إبراهيم عليه السلام في التاسعة والتسعين من عمره بينما كان إسماعيل عليه السلام في الثالثة عشرة حين اختتن، ومن هنا بقي إبراهيم عليه السلام بين قادس وسور وأقام في جراره حيث أراد ملكها "أبي ملك" أن يستولى على سارة، إلا أنه ردها إلى إبراهيم بأمر من الله، وأكرم إبراهيم عليه السلام وأعزه. وكان إبراهيم عليه السلام قد بلغ مائة عام حين ولد له إسحاق ثم عقدت معاهدة وتحالف بين أبي ملك ملك جرار وإبراهيم عليه السلام، وعاش إبراهيم عليه السلام ردحا من الزمن في أرض الفلسطينين، ثم زوج إبراهيم ابنه إسحاق من ربقا حفيدة أخيه ناحور، وانتقل إبراهيم عليه السلام إلي الرفيق الأعلى وقد تجاوز مائة وخمسة وسبعين سنة (¬4). ويكنى إبراهيم عليه السلام بأبي محمد، كما يكنى أيضا بأبي الأنبياء لأنه لم يبعث من بعده نبي إلا من ذريته، يقول تعالى: {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب}. ولهذا لقب إبراهيم عليه السلام بعمود العالم الثالث، وسيأتي ذكر أحواله المباركة في الأبواب القادمة. ¬

(¬1) عقيدة النصارى فيما يتعلق بملكي صادق عقيدة عجيبة ففي رسالة بولس إلى العبرانين ورد أنه أب وبلا نسب، ليس له بداية ولا لحياته نهاية، وسيظل كاهنا إلى الأبد، والنصارى يشبهون هذا الكاهن الذي لا نسب له وأنه أزل بالله. (¬2) ورد في صحيح البخاري أنه كان في الثمانين. (¬3) سفر التكوين (الأصحاح 17/ 159). (¬4) دفن في مغارة مكفيلة وهي أمام ممرا.

أم المسلمين هاجرة عليها السلام

أم المسلمين هاجرة (¬1) عليها السلام: للسيدة هاجرة عليها السلام درجة عليا لأنها: - كبيرة مصر - وزوج الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام - ومحدثة (¬2) الملائكة. - وأم إسماعيل عليها السلام. - وأم العرب المستعربة. - ومؤسسة البلد الأمين مكة المكرمة. - وجدة النبي - صلى الله عليه وسلم -. اسمها بالعبرية " هاغار " وحين رأى فرعون مصر كرامة السيدة سارة، وهبها هاجر لتكون في خدمتها، ولهذا سميت آجر، أي أجر المصيبة التي عاناها إبراهيم عليه السلام والسيدة سارة من قبل الملك. ثم حين هاجرت إلى الله وجاءت إلى مكة ليعمر أولادها بيت الله الحرام، ثم تكون الدعوة إلى التوحيد، من هنا كانت تسميتها بهاجر (¬3)، ثم وهبت سارة إبراهيم عليه السلام فتزوجها فحملت منه في أول سنة، وبينما هي حامل في مولودها المسعود جاءها ملك من الملائكة فبشرها بأنهاستلد ابنا تسميه إسماعيل (¬4)، وأن ذريته ستكثر حتى يصعب عدها (¬5). وشاءت الإرادة الإلهية أن تصبح أمة إسماعيل أمة عظيمة وكان لذلك قصة، فحين رأت سارة هاجر حبلى، راحت محبتها من قلبها فقد ظنت أنها تزدريها وتستهين بها، ¬

(¬1) جاء في سورة النجم {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين} ومن هذه الآية كان لقب أم المسلمين السيدة هاجرة. (¬2) بفتح الدال أي من تحدثت معه الملائكة وقد ثبت من التوراة والأحاديث الصحيحة مجيء الملائكة إليها وتحدثهم معها. (¬3) ورد في سفر أشعيا (الأصحاح 54/ 1) ما يلي عن هاجرة " بنو المستوحشة أكثر من بني ذات البعل " والمستوحشة ترجمة لهاجرة وذلك لأن هذه الآية تحوي ذكر هاجر وسارة. (¬4) سفر التكوين 10/ 40. (¬5) التكوين الأصحاح 11/ 10 - 11.

فطلبت من الخليل أن يفصل بينها وبين هاجر، فكان أمر الله بجعل بني إسماعيل سدنة لبيته، وأوحى الله إلى إبراهيم ما في ذلك من حكمة، فسار بابنه الوحيد وزوجته الحبيبة إلى واد غير ذي زرع حيث توجد مكة اليوم، يقول القرآن الكريم: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة} (إبراهيم: 37). وفي صحيح البخاري: " ليس يومئذ بمكة أحد وليس بها ماء " (¬1). ولما ترك إبراهيم هاجر في هذا المكان وولى لها ظهره قالت الزوجة لزوجها. " إلى من تتركنا؟ "، قال: " إلى الله " - قالت: " رضيت بالله " (¬2). وجاء في سفر التكوين الأصحاح الواحد والعشرون (15/ 19): " ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار ... فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت فسمع الله صوت الغلام ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها مالك: يا هاجر لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو، قومي احملي الغلام وشدي يدك به لأني سأجعله أمة عظيمة وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء ". وفي صحيح البخاري: " فإذا هي بصوت فقالت أغث إن كان عندك خير فإذا جبريل وغمر عقبه على الأرض فانبثق الماء ". ففي هذه النصوص من الحديث والتوراة دلالة واضحة على منزلة هاجر عليها السلام العالية عند الله، فقد كلمها الملك طورا وناداها من السماء طورا آخر، وانبثق الماء مما لها من مكانة عظيمة عند الله. ومن المؤسف أن يغمض أهل الكتاب أعينهم عن هذه الفضائل ويقولون أنها أمة تقليلا من شأنها. والمسلمون يوافقون اليهود والنصارى في أن فرعون مصر أعطى السيدة هاجرة لخدمة السيدة سارة. ورد في صحيح البخاري - كتاب الهبة - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

(¬1) صحيح البخاري كتاب الأنبياء عن ابن عباس. (¬2) نفسه.

" هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة فأعطوها هاجرة فرجعت فقالت: أشعرت أن الله عز وجل كب الكافر وأخدم وليده " وقال ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " فأخدمها هاجر " (¬1). أما ما يفهم من الروايات الإسلامية من أن هاجرة كانت أمة أمر مستبعد، وحتى يطمئن أهل الكتاب نفصل الحديث أكثر. يقول ربي شلومو إسحاق أكبر مفسري التوراة عند اليهود في شأن هاجرة عند تفسيره للأصحاح السادس عشر في سفر التكوين ما نصه: " ابث برعه هابثا كشرا نسيم شغسوا سارة اهموا اطاب شتها بتي شفحه بيت زه ولو كبيره ببيت أخير " (¬2). ومعناه: إن هاجرة كانت بنت فرعون ولكنه لما رأى عظم أمر سارة قال: لأن تعيش ابنتي خادمة في ييتها خير من أن تعيش ملكة في بيت غيرها". يتضح من هذه الشهادة أن هاجرة كانت بنتا لملك مصر، وأن كرامة السيدة سارة وصلت عند ملك مصر درجة جعلته يعتبر وجود ابنته في خدمتها، باعثا على الفخر والعزة له ولأسرته. فما أسعد سارة التي افتخرت ابنة الملكة بأن تخدمها، وما أسعد هاجرة التى نشأت وترعرعت منذ نعومة أظفارها في رعاية خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام. وشهادة ربي شلومو مفسر التوراة السابق ذكرها، تغنينا عن أي تفصيل آخر، ولتوثيق هذه الشهادة نقول أن اللغة العبرية بها كلمات خاصة بأحوال العبيد والإماء: - فكلمة "شميبوت حرب" تطلق على من يؤسر في الحرب من عبيد وإماء. - وكلمة "مقنت كسف" تطلق على من يشترى بالمال. - وكلمة "ياليدبايث" تطلق على أولاد العبيد والإماء. ¬

(¬1) كلمة "فأخدمها" الواردة في الحديث الشريف مرادفة لكلمة "شفحة" العبرية وكان قد استعملها والد السيدة هاجرة. (¬2) نقلا عن البراهين الباهرة في حرية هاجرة، مولوي غلام رسول جرياكوني.

فإذا ما تصفحنا التوراة بأكملها لا نجد فيها كلمة من هذه الكلمات الثلاث أطلقت على السيدة هاجرة. ونحن نعترف بأن سارة عيرت هاجرة "بأمتي" كما ورد في التوراة، والأمة مدلولها بالعربية نفس مدلولها بالعبرية أي الجارية، ولكن من قلة الفهم أن نحمل كلمة ضرة لضرة أخرى، وهي في حالة غضب وحزن على معناها الحقيقي. وقد ذكرنا أن فرعون مصر قدم هاجرة لخدمة سارة، ومن الممكن أن يعتبر أصدقاؤنا هذا دليلا قاطعا على كون هاجرة أمة، ونحن نطلب منهم أن يقرأوا الأصحاح 30 من سفر التكوين: 1 - إن اسم أمة لياه - إحدى نساء يعقوب - زلفة وهي أم جد وآشر ابني يعقوب. 2 - واسم أمة راحيل - إحدى نساء يعقوب - بلها وهي أم دان ونفتالي ابني يعقوب. وهؤلاء الأربعة يعني جد وآشر ودان ونفتالي من أسباط إسرائيل الاثنى عشر، ممن دعا لهم يعقوب وداود وعيسى عليهم السلام حينا بعد حين، ولم يذكروا في التوراة بما يزري شأنهم إزاء إخوانهم الثمانية كما لم يوصفوا بأبناء الأمة. وإذا ما صرفنا النظر عن زلفة وبلها فإن لياه (ليئة) وراحيل ابنتي خال يعقوب، وزوجتي يعقوب كما تقول التوراة، تعترفان بكونهما أمتين: "فأجابت راحيل وليئة وقالتا له ألنا أيضا نصيب وميراث في بيت أبينا ألم نحسب منه أجنبيتين لأنه باعنا وقد أكل أيضا ثمننا" (¬1). إن راحيل ولياه (ليئة) هما السيدتان اللتان ولدتا موسى وداود تعترفان هنا بكونهما أمتين، فهل يمكن لأهل الكتاب بعد هذا أن يقولوا شيئا في شأن هاجرة بينما لا توجد في التوراة كلمة تشينها مثلما هو الحال عند راحيل ولياه. وليتأمل أهل الكتاب فقد جعلوا ملكة مصر أمة لأن أباها وهبها لخدمة العائلة النبوية، ولكن ماذا يقولون في حق يوسف الذي باعه المديانيون في مصر لفوطيفار (خصي فرعون رئيس الشرطة)؟ (¬2) ¬

(¬1) سفر التكوين الأصحاح 31/ 14 - 15. (¬2) سفر التكوين الأصحاح 37/ 36.

وعليهم أن يقرأوا أيضا الدرس السابع من الإصحاح التاسع والثلاثين من سفر التكوين حيث جاء: وحدث بعد هذه الأمور أن إمرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف" [ص:65]. ولنقرأ بعدها الدرس التاسع والعشرين من الأصحاح نفسه: "فكان لما سمع سيده كلام امرأته التي كلمته به قائلة بحسب هذا الكلام صنع بي عبدك أن غضبه حمى فأخذ يوسف سيده ووضعه في بيت السجن، [ص:66]. في الاقتباسات الثلاثة السابقة ذكر فوطيفار على أنه سيد يوسف. وورد في الأصحاح التاسع عشر من سفر التكوين: أن "نادت امرأة فوطيفار يوسف بالعبد" فهل صار يوسف عبدا في حقيقة أمره بإطلاق هذه الكلمات صفة له؟ فإن صح أن يوسف لم يصبح عبدا بشراء فوطيفار، له فيصح أيضا ألا تكون هاجرة أمة بخدمتها لسارة، ووصف سارة إياها بالأمة، والحمد لله على ذلك. ويجب على من يقرأ الروايات العربية أن يعلم أن كلمات: الوليد، والجارية والأمة في اللغة العربية تستعمل للابنة كما تستعمل للأمة، والأصل فيها أن الإسلام لا يخاطب الإماء إلا بالكلمات التي وضعت أصلا للبنات. ولهذا فإن رأوا كلمة من هذه الكلمات استعملت في حق هاجرة، فلا يجب أن يأخذوها دليلا على أن هاجرة كانت أمة، بل عليهم أن يتذكروا ما ورد في صحيح البخاري على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - من لفظ "فأخدمها" فالإنسان لا يصير عبدا لخدمته لإنسان آخر، وها هو أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه خدم النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنوات ولم يقل أحدا بأنه كان عبدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعى شيبة وهذا هو اسمه الحقيقي، ولكن ظل يسمي نفسه مدى حياته عبد المطلب اعترافا بجميل عمه الكريم المطلب عليه، حتى غلب هذا اللقب على اسمه الأصلي، ولم يذكر أحد من المؤرخين أنه كان عبدا للمطلب. وكذلك لما رجع يعقوب عليه السلام من خؤولته، بعث خدمه بالهدايا إلى أخيه عيسو وأمرهم بأن يقولوا له: "لعبدك يعقوب هذه هدية مرسلة لسيدي عيسو وها هو أيضا وراءنا" [ص:53].

سيدنا إسماعيل عليه السلام

ومع هذا فإن أحدا من النصارى لا يعتقد بأن يعقوب كان عبدا لعيسو، رغم ورود هذه الألفاظ. وفي بيوت دهلى العريقة ينادون الإبنة بالأمة ولكن لا يفهم أحدا من هذا النداء أن هذه البنت الإبنة أمة. وآمل ألا يبقى في ذهن القارئ أي إشكال بعد ذكر هذه الأدلة. سيدنا إسماعيل عليه السلام: سيدنا إسماعيل عليه السلام هو أول أبناء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، ولد من بطن السيدة هاجر، وسماه أبوه إسماعيل (التكوين (16/ 15) ويعني "سميع الله" وقد ورد هذا المعنى في التوراة في سفر التكوين هكذا: "وقد سمع الله لصوت الغلام حيث هو" التكوين 21/ 17. وقد ختن في ذلك اليوم الذي ختن في إبراهيم عليه السلام، لأنه صدر الأمر في ذلك اليوم، فقد قال الله لإبراهيم عليه السلام: "أما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك يختن منكم كل ذكر" (التكوين 17/ 10). وهكذا فإسماعيل هو أول من امتثل لعهد الله في أول يوم من نزول هذا العهد فصار "ابن العهد" وللأسف لا يتأمل المسيحيون فضيلة هذا المولود المبارك التي ذكرت هنا. وكان إبراهيم عليه السلام قد أسكن إسماعيل وأمه هاجرة في المكان الذي توجد فيه مكة اليوم، ثم قام إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام بعمارة الكعبة، وقد ورد في القرآن الكريم: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل}. وكان زواج إسماعيل عليه السلام من ابنة مضاض سيد قبيلة بني جرهم (¬1)، وكانت بنو جرهم من أشهر قبائل العرب القديمة، وكان مضاض هو الحاكم الأوحد في منطقته، وكان الزواج من سلسلة هذه الأسرة الكريمة بسبب الكرامة الذاتية للسيدة هاجر وفضيلتها الموروثة. وهو الأمر الذي لا يمكن أن يخفى على العرب الذين احترفوا التجارة وكانوا يذهبون ¬

(¬1) في صحيح البخاري "فمر ناس من جرهم فنكح فيهم امرأة".

إلى مصر في شتاء كل عام (¬1) ووردت في التوراة أن السيدة هاجرة زوجت إسماعيل من مصر ومن الممكن أن تكون له زوجة مصرية أيضا، ولكن من المتحقق أن جميع أولاده كانوا من زوجته العربية من قبيلة جرهم. وإسماعيل عليه السلام هو الذي لقب بذبيح الله، ويزعم أهل الكتاب أن الذبيح هو إسحاق عليه السلام، وعقيدة جمهور المسلمين على أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، وينكر جمهور المسلمين أن يكون إسحاق هو الذبيح، ولا يقوم إنكارهم هذا على الأسس التي يقوم عليها إنكار أهل الكتاب، إذ يعتبر هؤلاء إنكارهم لكل فضيلة من فضائله جزءا لا يتجزأ من عقيدتهم الدينية، أما المسلمون فهم يرون أن إسماعيل وإسحاق عليهما السلام سواء، والحديث الشريف يقول أن العم صنو أب، وأكثر من هذا أن عقيدة الإسلام تفرض على المسلمين الإيمان بكل نبي تماما كما يؤمنون بنبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام، ولهذا فلا يمكن لمسلم أن ينكر فضيلة نبي من أنبياء الله لمجرد الحسد والعناد - نعوذ بالله من ذلك -. وهناك قلة قليلة من علماء المسلمين يرون أن إسحاق هو الذبيح، فصرحوا برأيهم هذا بحرية، ونقل المتأخرون أقوالهم ومع هذا لم يطعن أحد في ذات هؤلاء العلماء بلفظ واحد. والأمر الصحيح والثابت لدى جمهور المسلمين، هو أن ذبيح الله كان إسماعيل عليه السلام ولا أدل على ذلك ولا أصدق من شهادة القرآن الكريم. {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين (...) رب هب لي من الصالحين (...) فبشرناه بغلام حليم (...) فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين (...) فلما أسلما وتله للجبين (...) وناديناه أن يا إبراهيم (...) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين (...) إن هذا لهو البلاء المبين (...) وفديناه بذبح عظيم (...) وتركنا عليه في الآخرين (...) سلام على إبراهيم (...) كذلك نجزي المحسنين (...) إنه من عبادنا المؤمنين (...) وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} (الصافات 99 - 112). ووجه الاستدلال بهذه الآيات هو: أولا: ورد في الآيات ذكر البشارة بغلامين اثنين مرتين، بشر أولا بغلام حليم، ¬

(¬1) كتاب الأنبياء "أخذت قافلة من قوافل العرب يوسف عليه السلام إلى مصر".

ومعه ذكرت قصة الذبح كلها، وبعد الفراغ من بيانها ورد ذكر البشارة بإسحاق، والآن إذا كان إسحاق هو الغلام الحليم فكيف يصح بعد ذلك قوله تعالى: {بشرناه بإسحاق}؟ ويؤيد هذا أيضا ما ورد في سورتي الحجر والذاريات حيث وصف إسحاق "بغلام عليم"، وكأن إسماعيل هو الغلام الحليم وإسحاق هو الغلام العليم، وقبل أن نفرغ من هذا الاستدلال نرى من الضروري أن نبين أن سفر التكوين حين أمر بذبح الابن، أمر بذبح الابن الوحيد، وقد ثبت أيضا من التوراة أن ولادة إسحاق عليه السلام كانت بعد ولادة إسماعيل عليه السلام بثلاث عشرة سنة، ولهذا فمن الواضح أنه لا يمكن القول بأن إسحاق عليه السلام هو الابن الوحيد بينما له شقيق أكبر منه، وفي القرآن الكريم وبعد بيان واقعة الذبح ورد قوله تعالى {وبشرناه بإسحاق} وهذا يدل على وقوع قصة الذبح قبل ولادة إسحاق، وبما أن إسماعيل كان إذ ذاك هو الابن الوحيد لأبيه فإن هذه الصفة تصدق عليه دون غيره. والوجه الثاني للاستدلال هنا هو أن الآيات المذكورة قبلا من سورة الصافات تقدم شهادة ذاتية داخلية على أن الذبح العظيم الذي وضع إلى الأبد في الأجيال السابقة قد جعل فدية ذبيح، والآن أمام العالم كله حالات أمة بني إسماعيل وحالات أمة بني إسحاق، ويمكن لكل إنسان أن يرى من يحتفل بذكرى الذبح منذ أكثر من خمسة آلاف سنة .. ، ومن ذا الذي لا يوجد عنده لهذه الذكرى عين ولا أثر؟!، ونقدم هنا نصا من التوراة لإثبات ذلك، فقد ورد في سفر أشعياء ما يلي: "تغطيك كثرة الجمال بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا تحمل ذهبا ولبانا وتبشر بتسابيح الرب، كل غنم قيدار تجتمع إليك، كباش نبايوت تخدمك تصعد مقبولة على مذبحي وأزين بيت جمال." الأصحاح 60/ 6، 7 [ص:1065]. ومديان وعيفة وشبا هم بنو قطورة، أي أبناء أخي إسماعيل ممن سكنوا اليمن، وليسوا بني إسرائيل، وكذلك قيدار ونبيت كلاهما ابنان لإسماعيل، فتقديم هذه الأمم كلها القرابين على مذبح واحد، وإخبار الله تعالى في القرآن بأنه مذبحه، وكذا وجود البيت الذي قال عنه أنه البيت الحرام، كل هذا يدل دلالة واضحة على أن مكان هذا المذبح كان في مكة حيث أقام إسماعيل عليه السلام، وحيث سكنت حولها ذرية ابنيه قيدار ونبيت، وإنكار هذا الدليل الواضح إنما هو إنكار للبديهيات.

بعث الله إسماعيل نبيا إلى جزيرة العرب بما فيها الحجاز وكذا اليمن وحضرموت، وكان وجوده المبارك مصدر التضامن والاتحاد بين مختلف الشعوب والبلاد، ولتفكروا كيف أن إسماعيل الابن البكر لإبراهيم عليه السلام الذي ولد بالعراق، وسكن الشام، كما أنه الابن البكر لهاجرة التي ولدت بمصر وارتحلت مع زوجها، حيث أقامت في أرض فلسطين والشام لسنوات ثم سكنت الجزيرة العربية، ثم كانت مصاهرة بني جرهم من أشهر قبائل العرب، أما مسكن إسماعيل عليه السلام فكان في مكان أحد جوانبه مصر حيث خؤولته، وفي الجانب الآخر العراق حيث آباؤه، وفي جانب الشام حيث أخوه إسحاق، وفي الجانب الرابع اليمن حيث انتشر أبناء أخيه قطورة، وصهره عيسى بن إسحاق الذي سيطر بأولاده الكثيرين على بلاد وصلت حدودها حتى ساحل إيطاليا. وتدبروا أيضا كيف أن لغة أم إسماعيل هي اللغة القبطية ولغة أبيه العبرية، وأصهاره يتحدثون العربية النقية الخالصة، ومنهم أجاد إسماعيل عليه السلام اللغة العربية (¬1). فالفرصة التي أعطتها القدرة الربانية لإسماعيل عليه السلام للدعوة إلى الدين الحنيف ونشر رسالة التوحيد في هذه البلاد وبجميع اللغات التي سبقت الإشارة إليها، توضح أنه هو الذي اصطفى الله ابنه لهداية العالمين جميعا ولقب برحمة للعالمين في كلام الله ثم على لسان الإنسان: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد». ويعترف أهل الكتاب عموما بأن إسماعيل بن إبراهيم من ناحية المولد، وينكرون بعد ذلك مكانته الروحية العالية. وأعتقد أن عدم مطالعتهم العميقة للتوراة، أو رفضهم حكمها، هو الذي أدى بهم إلى ذلك، ونذكر الآن من التوراة نصوصا لإفهام أهل الكتاب والمسلمين، وهي نصوص تجعلهم يعرفون أن إسماعيل عليه السلام يشارك إسحاق عليه السلام في جميع فضائله. أ - سمع الرب لمذلة هاجرة 16/ 11 التكوين ... • ... سارة 18/ 14 التكوين. ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء.

ب - شمس الله ابن هاجرة إسماعيل 16/ 11 التكوين ... • ... ابن سارة إسحاق 17/ 19 التكوين. ج - بارك الله إسماعيل ابن هاجرة 17/ 20 التكوين ... • ... إسحاق ابن سارة 7/ 19 التكوين. د - كان الله مع إسماعيل 21/ 20 التكوين ... • ... إسحاق 26/ 24 التكوين. هـ - خرج الملوك من إسماعيل 25/ 16 التكوين ... • ... إسحاق 17/ 6 التكوين. وكفى بما شهد به كتاب الله التوراة. وفي الحديث الشريف، كما في التوراة، أن إسماعيل عليه السلام كان راميا، جاء في صحيح البخاري أنه: "لما جاء إبراهيم إسماعيل يريد بناء البيت وافقه يصلح نبلا له" وهذا يدل على أن إسماعيل عليه السلام كان ماهرا في الحدادة، وقول زوجة إسماعيل لإبراهيم عليه السلام: "طعامنا اللحم وشرابنا الماء" يفهم منه أن إسماعيل عليه السلام قضى حياته كلها على الماء واللحم. وإذا ما تعمقنا في القرآن الكريم عرفنا كيف يشيد بإسماعيل عليه السلام. يقول تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (...) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا} (مريم: 54. 55). تذكر الآية السابقة أن إسماعيل عليه السلام كان صادق الوعد وتخبرنا الآية التالية عن هذا الوعد، يقول تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} (البقرة: 125). وهكذا تدل الآيتان الكريمتان على أن إسماعيل عليه السلام وفى بما عهده الله إليه، وأنه أرشد الناس إلى العقيدة الصحيحة والأعمال الصالحة، وأركان الدين المحكمة،

والشريعة النيرة والهدى المبين، وضرب مثلا في حقل الدعوة والإرشاد والتبليغ لا يتمكن منه إلا من هو في سموه وعلو شأنه. وتوضح التوراة أنه رغم قيام إسحاق في الشام، وإسماعيل في جزيرة العرب، إلا أنهما كان يقيمان معا، في أكثر الأوقات، في مكان واحد، فكان الواحد منهما، يشارك الآخر أفراحه وأتراحه، فقد قام الأخوان معا بدفن إبراهيم بعد وفاته (¬1). وهناك تشابه عجيب في أولاد إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، فقد ظهر نور النبوة في نسل قيدار الإبن الثاني لإسماعيل عليه السلام، كما استمرت النبوة في ذرية يعقوب الإبن الثاني لإسحاق، أما نبيت الإبن الأول لإسماعيل وعيسو الإبن الأول لإسحاق فلم ينالا هذا الشرف. وفي التوراة عمر إسماعيل سبعا وثلاثين ومائة سنة (¬2). وفي تاريخ مكة أن إسماعيل عليه السلام دفن في الحجر مع أمه فها هي دعوة إبراهيم لربه: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم} (إبراهيم: 37). قد بلغت من التأثير إلى حد أن هذه النفوس الربانية لم تفارق جوار بيت الله أي رحاب بيت الله الحرام بعد موتها. ويثبت من التوراة أن إسماعيل ولد له اثنا عشر ولدا (¬3) هم: 1 - نبيت. 2 - قيدار. 3 - أوبئيل. 4 - مبسام. 5 - مشماع. 6 - دومة. 7 - مسا. 8 - حدار. 9 - تيما. 10 - يطور. 11 - نافيش. 12 - قدمة (¬4). وجاء في التوراة "هؤلاء هم بنو إسماعيل وهذه أسماؤهم بديارهم وحصونهم اثنا عشر رئيسا حسب قبائلهم" (¬5). ونحن على يقين أنه حين كتبت هذه الكلمات في التوراة كانت ديار بني إسماعيل ¬

(¬1) التكوين، الأصحاح 35/ 9. (¬2) التكوين الأصحاح 25/ 17. (¬3) التكوين الأصحاح 25/ 13. (¬4) التكوين، الأصحاح 25/ 15. (¬5) التكوين الأصحاح 25/ 16.

عدنان

وحصونهم تعرف وتشتهر بتلك الأسماء المنسوبة إليهم، أما اليوم فلا أثر لها، أما تلك الديار التي لا تزال آثارها موجودة فهي تلك التي تقع في الجزيرة العربية، وتثبت صحة موقعها ببيان التوراة من أن إسماعيل أقام بصحراء فاران (التكوين الأصحاح 21/ 21). ويثبت منها أيضا أن فاران تقع في الجزيرة العربية وأن مكة تدعى أيضا فاران. وتوجد قرية بالقرب من ينبع تدعى نبتية وهي التي سكنها نبيت، وعلى مسافة قريبة منها توجد بلدة "الحضير" والضاد فيها نطقها قريب من نطق الدال ولهذا يمكن أن يكون اسمها القديم هو القدير. أما مبسام فآثارها في نجد، والدومة تقع بين الشام والمدينة المنورة في الجزيرة العربية، وكانت إمارة نصرانية في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت تعرف باسم دومة الجندل. ومسا في الغالب ذهب إلى اليمن إذ توجد هناك قرى باسم موسى. وتوجد قرية باسم حدار في جنوب الجزيرة العربية وقبيلة بني حدار قبيلة كبيرة. أما تيماء، فتوجد قرية بهذا الاسم حتى يومنا هذا، وقد قبل أهلها الإسلام مع أهل الفدك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع هذه القرية بالقرب من الفدك، بالقرب من طريق خيبر. أما قيدمة فربما كان في اليمن، فقد ذكر المسعودي قوم قدمان ونسبهم إلى بني إسماعيل. أما بقية القرى فلا يعرف عنها شيء على وجه الدقة (¬1) وهذا خارج عن موضوع بحثنا ولذا نكتفي بما ذكرناه من أحوال إسماعيل عليه السلام. عدنان: هو الجد الحادي والعشرون من أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتثبت كرامته عند الله إذا ما عرفنا أن بخت نصر لما هاجم العرب أول مرة أنذره أرمياه وبروخا عليهما السلام ألا يهاجم عدنان، أما القبائل الأخرى فأذن له من الله بالهجوم عليها فترك بخت نصر عدنان وهاجم القبائل الأخرى وأخذهم أسرى وأسكنهم وادي الفرات، وكان هؤلاء هم شجرة الذين أقاموا دولة العرب القديمة التي عرفت بالأنبار (¬2). ¬

(¬1) وسكن في برية فاران (التكوين 21/ 21). ملخصا من الخطبات الأحمدية. (¬2) تاريخ العرب، البروفيسر سيديو [ص:23].

معد

أنجب عدنان ولدين هما: معد المذكور اسمه في شجرة نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ووعك الذي خرج من الحجاز إلى اليمن وأقام بها دولته، وتدل على ذلك النقوش الحجرية التي عثرت عليها شركة الهند الشرقية في حصن الغرائب سنة 1834 الميلادية (¬1). معد: لما غزا بخت نصر الجزيرة العربية مرة ثانية انتقل بنو عدنان إلى اليمن أما معد فكان قد ذهب مع يرمياه إلى الشام فلما زال سلطان بخت نصر عن جزيرة العرب رجع معد وبحث عن بني جرهم فلم يجد إلا جرهم بن جلهمة فتزوج من ابنته التي وضعت له ابنه نزار. عاش أرمياه عليه السلام قبل مولد المسيح بثمان وثمانين وخمسمائة سنة كما يقول كبار المحققين النصارى. وبما أن معد بن عدنان عاصر أرمياه فلذا يثبت أن بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين عدنان 1158 سنة. وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدنان واحد وعشرون جيلا، وعلى هذا فمتوسط عمر كل جيل خمس وثمانون سنة. ولاشك في هذا لصحة شجرة هذا النسب من جهة، ولصحة تعيين زمن أرمياه من جهة أخرى. وقد ذكر السيد أحمد خان في كتابه "الخطبات الأحمدية" أن متوسط عمر كل جيل ثلاث وثلاثون سنة، ولذلك اضطر إلى تكرار بعض الأسماء في الجزء الثاني من شجرة نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويزول هذا الشك بما ذكرناه قبلا من أن متوسط كل جيل خمس وثمانون سنة وفيما يلي شجرة نسب أولاد معد (¬2) ـ[شجرة نسب أولاد معد]ـ معد - x نزار (¬3) - قنص (سميت أولاده بالقنصي) ¬

(¬1) الخطبات الأحمدية للسيد أحمد خان. (¬2) وقد ذكر ابن سعد الأسماء الآتية أيضا من أولاد معد: قناصة، سنام، عرف، عوف، شك حيدان، حيدة، عبيد الرماح، جنيد، جنادة. (¬3) الاسم الذي يأتي ذكره في عمود النسب النبوي أثبتناه في الدرجة الأولى ورمزنا له هكذا x، واتبعنا هذه الطريقة في هذا النسب إلى عبد الله.

نزار

نزار: يكنى أبا أياد وإلىه يجتمع نسب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. وفيما يلي شجرة نسب أولاده. ـ[شجرة نسب أولاد نزار]ـ كان نزار قد أعطى قبل وفاته الإبل والخيمة الحمراء لمضر، والخيل والسلاح لربيعة، والغنم والبقر لأياد، والحمير لأنمار وتوجد ذرية ربيعة ومضر في وسط جزيرة العرب، وذرية أنمار في نجد وضواحي الحجاز، وذرية أياد في الثغور وأطراف الجزيرة (¬1). مضر: هو أول من سن حداء الإبل، وكان أكثر بني عدنان الموجودين بالحجاز مالا وثروة، اشتهر في التاريخ باسم مضر الحمراء، لأن جميع ما ورثه من أبيه من الخيام والدنانير كانت حمراء، وكان مضر على الحنيفية. إلياس: يكنى أبا عمرو ولما مات حزنت عليه زوجته حتى لم تستظل بظل بعده. كان يلقب بكبير القوم، وإلياس بكسر الهمزة وفتحها. فيما يلي شجرة نسب أولاده. ¬

(¬1) والدة مضر وإياد سودة بنت عك، ووالدة ربيعة وأنمار خدالة بنت دحلان الجرهمية. راجع كتاب بكر وتغلب لمحمد بن إسحاق طبع نخبة الأخبار بمصر سنة 1305 هـ.

ـ[شجرة نسب أولاد إلياس]ـ

مدركة

مدركة: كان اسم مدركة عمرو وكنيته أبا هذيل وكان مع أخيه في إبل لهما يرعيانها فعدت عادية على إبلهما فتبعها عمرو فأدركها وطبخ أخوه الأصغر طعاما ريثما عاد، فلقب أبوهما الأول بمدركة والثاني بطابخة وغلب اللقب على الاسم. وفيما يلي شجرة نسب أولاده. ـ[شجرة نسب أولاد مد ركة]ـ

كنانة

كنانة: يكنى أبا النصر. وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم" وفيما يلي شجرة نسب أولاده: ـ[شجرة نسب أولاد كنانة]ـ النضر: اسمه قيس وسماه العرب بالنضر لجماله ونضارته. كان يكنى أبا يخلد. نضر > مالك (عرفوا ببني مالك) مالك بن النضر: يكنى أبا الحارث ونسبه كما يلي. ـ[شجرة نسب مالك]ـ

فهر

فهر: في زمنه خرج حسان حاكم اليمن بجيشه يغزو مكة وكان يريد أن يهدم الكعبة ويحمل أنقاضها إلى اليمن ليبني الكعبة هناك فقاتله فهر، وإخوانه فانهزم حسان وأسر وظل حبيسا ثلاث سنوات، ثم أطلق فهر سراحه فمات، وهو في طريقه إلى اليمن (¬1). وقد أقر العرب لفهر بالعظمة والرفعة بعد هذا النصر. ولقبت فهر بقريش. وقريش بلغة أهل الحجاز السمكة الأنثى التي تعد من أكبر الحيوانات في البحر. وقد سمى فهر وأولاده قريشا لأنهم كانوا أشد بأسا وأعظم شأنا بين جميع القبائل العربية ولنلاحظ هذه الأبيات: وقريش التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا سلطت بالعلو في لجة البحر ... على ساكني البحور جيوشا يأكل الغث والسمين لا يترك ... فيها لذي الجناحين ريشا هكذا في الأنام حي قريش ... يأكلون الأنام كشيشا ونسب أولاده كما يلي: ـ[شجرة نسب أولاد فهر]ـ غالب: يكنى أبا تيم، ونسبه كما يلي: ـ[شجرة نسب غالب]ـ ¬

(¬1) الكامل لابن الأثير.

لوئي

لوئي: يكنى أبا كعب. وهذه شجرة نسب أولاده ـ[شجرة نسب أولاد لوئي]ـ كعب: كان كعب كاسمه رفيع الشأن جليل القدر، وترجع سنة ولادته إلى حادث الفيل (نحو أربعة قرون). وكان يكنى أبا هصيص وهذه شجرة نسب أولاده: ـ[شجرة نسب أولاد كعب]ـ مرة: يكنى أبا يقظة وهو الجد السادس لأبي بكر رضي الله عنه. وهذه شجرة نسب أولاده: ـ[شجرة نسب أولاد مرة]ـ

كلاب

كلاب: كان اسمه حكيما وكنيته أبا زهرة، ولقب بكلاب لأنه كان يربي كلاب الصيد. يقول الشاعر في مدحه: حكيم بني مرة ساد الورى ... ببذل النوال وكف الأذى أباح العشيرة أفضاله ... وجنبها طارقات الورى وهذه شجرة نسب أولاده: ـ[شجرة نسب أولاد كلاب]ـ قصي: اسمه الأصلي زيد، مات أبوه وهو رضيع فتزوجت أمه ثانية من ربيعة بن خرام الخدري الذي كانت قبيلته تسكن ثغور الشام، فنشأ بها قصي في أحضان أمه، ولما شب قدم مكة، وكان أخوه الأكبر مكفوف البصر، فلما رأى أن صوت قصي يشبه صوت أبيه اعترف له بالأخوة، وأورثه مال أبيه.

كان أمر مكة في تلك الأيام بيد خزاعة، فزوج حليل رئيس مكة ابنته جبى من قصي وأعطاها حق ولاية البيت في نكاحها، وجعل أبا غبشان وليا لها. فلما هلك حليل، باع أبو غبشان قصي مفاتيح الكعبة بزق خمر، وصارت ولاية البيت إلى قصي، وأبت خزاعة أن تمضي ذلك لقصي فعند ذلك هاجت الحرب بينه وبين خزاعة، وكثرت القتلى في الفريقين جميعا. فحكموا يعمر بن عوف فقضى بينهم: 1 - بأن يدفع قصي دية كل من مات من بني خزاعة. 2 - وأن يترك بنو خزاعة أمر مكة، وأن يخرجوا منها، وأن يتولى أمرها قصي فجرى العمل بذلك (¬1). فلما ولي قصي أمر مكة، جمع قومه من بني فهر من منازلهم إلى مكة، وكانوا حينئذ اثنى عشر فرعا كلهم نزلوا بمكة بجهود قصي. وأخذت قريش (أولاد فهر) مأخذ الشرف والمجد في البلاد كلها. وسمى قصي قصيا لأنه كان بعيدا عن بلده منذ صباه، وسمى مجمعا لأنه جمع شمل قبائل قريش، قال الشاعر القديم حذافة بن غانم (¬2): قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر ولا يغبن عن البال أن المؤرخين غير المسلمين يغلون في بيان مآثر قصي ويقولون إنه هو الذي أقام الحكم على مبدأ الشورى ويقصدون بذلك بيان أن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من تعاليم كانت شرحا لهذا المبدأ. ¬

(¬1) كان أمر بيت الله قد صار بعد إسماعيل عليه السلام إلى بني جرهم وكانت بنو جرهم أصهارا لإسماعيل، بيدهم كان أمر مكة وولاية البيت عدة قرون، ثم أصبح أمر مكة وولاية البيت في حوزة العمالقة، ثم تولى بنو جرهم البيت وأمر مكة مرة ثانية. ولما ظلموا أخرجهم عمرو بن لحي الخزاعى الذي كان ابن أخت بني جرهم في مكة، واستمرت مظالم بني جرهم وروج عمرو بن لحي الوثنية سنة 207 م. وكان قد رأى العمالقة بمصر والشام يعبدون الأصنام، وسمع بأنها تقضي حوائجهم فحمل منها صنما يسمى هبلا فنصبه على الكعبة. ثم أكرم الله بني إسماعيل بولاية البيت في زمن قصي سنة 440 م، وأكرم البيت بحيث جعله قبلة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - الميمون، وهدمت الأصنام والأوثان كلها. (¬2) هذه القصيدة قالها ابن غانم في مدح عبد المطلب ومطلعها: بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه ... لفي ظلام الليل كالقمر البدر

عبد مناف

ولكن من يتدبر أسلوب قصي غير العادل في تقسيم الإرث بين أبنائه وتفضيله لابنه عبد الدار على بقية أبنائه مما أدى إلى ظهور الحروب والخصومات بينهم، وهي تلك الحروب التي يحكيها لنا التاريخ، فإنه يعلم أن قصيا كان بعيدا عن الشورى أو ما يطلق عليه البعض الديموقراطية أو مبدأ الإيثار. وهذه شجرة نسب أولاده: ـ[شجرة نسب أولاد قصى]ـ عبد مناف: اسمه الحقيقي المغيرة وقد عرف بعبد مناف لأن أمه أتت به أول ما أتت إلى مناة (وكان يسمى أيضا مناف) ولقب بقمر البطحاء لحسنه وجماله، وفي عهد رئاسته كان يوصي قريشا بتقوى الله والصدق والأمانة. أنشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه مرة الأبيات التالية أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعها وتبسم:

يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد مناف هياتك أمك لو نزلت برحلهم ... منعوك من علام ومن اقراف الخالطين غنيهم بفقيرهم ... حتى يعود فقيرهم كالكاف وفيما يلي شجرة نسب أولاد عبد مناف: ____ اسم الزوجة ... الأبناء ... البنات ____ عاتكة الكبرى بنت مرة بن هلال ... المطلب، هاشم، عبد شمس ... تماضر، برة، حنة، هالة، قلابة. واقد بنت عامر بن عبد ... نوفل، أبو عمرو، أبو عبيدة ... - ثقيفة ... - ... ريطة أما المطلب فكان أول أولاد أبيه، وقد عرفت أولاده بالمطلبي، وكان للحارث بن المطلب ثلاثة بنين، كلهم من الصحابة، وهم عبيدة أبو الحارث الذي استشهد في غزوة بدر، والطفيل والحصين اللذان توفيا سنة 32 هـ. ينتهي نسب الإمام الشافعي أحد الأئمة الأربعة إلى المطلب، وأما هاشم فسيأتي ذكره إن شاء الله. أما عبد شمس فإنه أمية، وقد عرفت أولاده ببني أمية، ومنهم كان عثمان ذو النورين رضي الله عنه. أما نوفل فعرفت أولاده بالنوفلين وإليه ينتهي نسب جبير بن مطعم رضي الله عنه. ومن حسناته القومية أنه حصل لقومه على مرسوم ملكي من هرقل، يقضي بحرية التجارة مع العراق، ولا يذكر التاريخ شيئا عن أحوال أبي عمرو وأبي عبيدة، حتى أن معظم المؤرخين لم يذكروا اسميهما، وفي صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب أن جبير بن مطعم أخبره قال: مشيت أنا وعثمان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن بمنزلة واحدة منك فقال: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد" قال جبير: ولم يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني عبد شمس وبني نوفل

شيئا، وبهذا المعنى روى الإمام الشافعي (¬1). وفي رواية أبي داود والنسائي أن بني نوفل وبني أمية طلبوا نصيبهم لإعطائه - صلى الله عليه وسلم - بني المطلب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا" وشبك بين أصابعه. ومن الواضح أن الدخل في الحكومة الإسلامية كان على ثلاثة أقسام (¬2): ـ[الأول: الزكاة]ـ: وقد صرحت الآية الستون من سورة التوبة بمصارف الزكاة الثمانية فقال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} (سورة التوبة: 60). ـ[الثاني: الغنيمة]ـ: وقد بينت الآية الواحدة والأربعون من سورة الأنفال مصارفها قال الله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} (سورة الأنفال: 41) قرر الله في هذه الآية أربعة حصص للغانمين وجعل الحصة الخامسة لنفسه حيث قال: {فأن لله خمسه}. ثم منح حق التصرف في نصيبه لهؤلاء الخمسة: للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، إن ذا القربى واحد من هؤلاء الخمسة ومنه يقال خمس الخمس. وفي حديث أبي داود عن علي رضي الله عنه قال: ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقسيم خمس الخمس عليا رضي الله عنه، وقد تولى علي رضي الله عنه ذلك في حياة أبي بكر وعمر. وفي "كتاب الخراج" للإمام أبي يوسف: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال سمعت عليا يقول: قلت يا رسول الله إن رأيت أن تولني حقنا من الخمس فاقسم في حياتك كي لا ينازعنا أحد بعدك فافعل، ففعل. قال: فولانيه رسول ¬

(¬1) إن بني عبد المطلب جعلوا ذوي القربى في كتاب الأمم (4/ 71) طبع المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر. وفي كتاب الأصول للكافي طبع نول كشور سنة 1302 هـ. (¬2) بما أن قضية استحقاق حقوق ذوي القربى وعدم استحقاقها تبدأ من أولاد عبد مناف، يجدر بنا أن نشير إلى هذه القضية في هذا المقام. قرأ المحدثون السيء بالسين المهملة ومعناه المساوي. وقد استمرت الخصومات بين هاشم وعبد شمس وكذا بين نوفل وعبد المطلب أما هاشم والمطلب فلم تكن بينهما خصومة قط. كان المطلب أكبرهم وهاشم أصغر منه والمطلب هو الذي تولى تربية عبد المطلب وحينما حوصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعب أبي طالب كان المطلب معه.

الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمته حياته ثم ولانيه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فقسمته حياته ثم ولانيه عمر رضي الله عنه فقسمته حياته. وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأخذ من الغنيمة قوت أهله لعام ويترك الباقي لمصالح المسلمين. وكان حق ذوي القربى للقرابة (¬1) لا للفقر أو الحاجة ولذا كان يقسم على الغني والمسكين على السواء. والحصص الثلاثة الأخرى كانت لليتامى والمساكين وابن السبيل وهذه الحصص التي قررها الله لم يكن يعطى منها نصيب أحد للآخر. ـ[الثالث: الفيء]ـ: وقد ذكر تعريف الفيء في الآية السادسة من سورة الحشر وكذلك ذكرت في الآية السابعة من نفس السورة وجوه صرفه أيضا: قال الله تعالى في تعريف الفيء: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء}. وقال تعالى عن تقسيم الفيء في الآية السابعة من سورة الحشر: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}. ثم ذكر سبب هذا التقسيم في نفس الآية فقال: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} وأوضح في الجدول التالي الحصص المذكورة في الآيات الثلاث. ¬

(¬1) إن حق القرابة في الإسلام لا يحصل للقربى إلا بعد وفاة الرجل ويسمى هذا الحق الوراثة. ومن خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أقرباءه أعطوا حق قرابتهم في حياته.

أحكام تقسيم الصدقات والغنيمة والفيء مع ثبت بالآيات القرآنية

أحكام تقسيم الصدقات والغنيمة والفيء مع ثبت بالآيات القرآنية الآية الواردة في الفيء ... الآية الواردة في الغنيمة ... الآية الواردة في الزكاة والصدقات ... - سورة الحشر الآية (7) ... سورة الأنفال الآية (41) ... سورة التوبة الآية (60) ... - ما أفاء الله على رسوله ... واعلموا أنما غنمتم من شيء ... إنما الصدقات للفقراء ... 1 من أهل القرى ... - ... - ... 2 فلله ... فإن لله خمسه ... - ... 3 وللرسول ... وللرسول ... - ... 4 ولذي القربى ... ولذي القربى ... - ... 5 واليتامى ... واليتامى ... - ... 6 والمساكين ... والمساكين ... والمساكين ... 7 - ... - ... والعاملين عليها ... 8 - ... - ... والمؤلفة قلوبهم ... 9 - ... - ... وفي الرقاب ... 10 - ... - ... والغارمين ... 11 - ... - ... وفي سبيل الله ... 12 وابن السبيل ... وابن السبيل ... وابن السبيل ... 13 للفقراء الهاجرين ... - ... - ... 14 والذين تبوءوا الدإر والإيمان ... - ... - ... 15 والذين جاءوا من بعدهم ... - ... - ... 16 اقرؤوا مع هذا الجدول الحديث الذي ورد في مشكاة المصابيح في كتاب الفيء عن مالك بن أوس بن الحدثان قال قرأ عمر بن الخطاب {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} حتى بلغ {عليم حكيم} هذه لهؤلاء ثم قرأ {واعلموا أنما غنمتم من شيء} حتى بلغ {وابن السبيل} ثم قال لهؤلاء، ثم قرأ {ما أفاء الله على رسوله} حتى بلغ {للفقراء} ثم قرأ {والذين جاءوا من بعدهم} ثم قال هذه استوعبت المسلمين. إذا تدبرنا هذا الجدول علمنا أن الصدقات قسمت إلى ثمانية مصارف متساوية ومنها

هاشم

مصرفان: {المساكين وابن السبيل} ولهما حق في الغنيمة والفيء أيضا، أما الست الأخرى فلها الحق في الصدقات فقط وليس لها حق في الغنيمة والفيء وهي "الفقراء والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله". أما الغنيمة فقد قسمت أولا إلى قسمين الأول للغانمين أربعة أخماس والثاني وهو الخمس جعله الله ملكه، وقسمه على الخمسة بالتساوي، وهم المساكين وابن السبيل ولهما حق في الصدقات أيضا، الثلاثة الباقية للرسول وأقرباء الرسول واليتامى. أما الفيء فقد جعله الله أولا ملكه ثم قسمه للمصارف على السواء فالمصارف الخمسة منها هي التي كان لها حق في الخمس من الغنيمة أما الثلاثة الباقية فهم الفقراء والمهاجرون وفقراء الأنصار ومن يأتي من بعدهم. وقد زيد في الفيء شرط ليس في الغنيمة وهو أن الفيء لا يعطى للأغنياء: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} ويجب أن نتذكر أن الخلافات التي توجد في الفرق الإسلامية حول وراثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هي في الفيء، والله أسأل أن يزول هذا الخلاف بالتدبر في القرآن. وقد ثبت من حديث صحيح البخاري: أن عمر كان ولى تقسيم الفيء في خلافته عليا والعباس كما كان تقسيم خمس الخمس بيد علي رضي الله عنه وحده في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. هاشم: اسمه عمرو، وكان يعرف بلقبه عمرو العلى، والمطلب ونوفل وعبد شمس كلهم إخوانه. ترأس هاشم قومه بعد وفاة أبيه عبد مناف فأبى له ذلك عبد شمس ابن أخيه فجعلا بينهما كاهنا من عسقلان فقضى لهاشم على عبد شمس. وسمى هاشما لأنه لما أصابت قريشا سنوات ذهبن بالأموال، خرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة، فهشم ذلك الخبز يعني كسره وثرده فسمى بذلك هاشما (¬1) وكانت قريش بعد ذلك إذا حضر الحج أكرموا زوار البيت ويثردون لهم الخبز واللحم، ويدل على ذكاء هاشم وفطنته أنه أخذ الحلف لقريش من قيصر على أن تدخل تجارتهم إلى بلاد الشام دون دفع ضرائب أو إتاوات. ¬

(¬1) ابن سعد، الطبقات الكبرى ج 1 [ص:45].

وقد انتقلت العداوة التي كانت نشأت في قلب أمية ضد عمه هاشم إلى الأجيال التالية، فكان بنو هاشم وبنو المطلب في جانب وبنو نوفل وبنو عبد شمس ابنا عبد مناف في جانب آخر. وهناك عشرات الأحداث وقعت نتيجة لتنافرهم وتباغضهم. وكان من بركة وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تلاشت العداوة التي ورثتها الأجيال وصدق عليهم قول الله {فأصبحتم بنعمته إخوانا} ولما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - استمرت الحروب بين بني أمية وبني العباس إلى سنة 133هـ. فيما يلي جدول أولاد هاشم: اسم زوجاته ... البنون ... البنات سلمى بنت عمرو بن زيد البخاري ... شيبة وهو عبد المطلب ... رقية ماتت صغيرة هند بنت عمرو بن ثعلبة الخزرجي ... أبا صيفي ... - قيلة اللقب وكانت تلقب بالجزور بنت عامر بن مالك بن جزعة ... أسد ... - أمية بنت عدي بن عبد الله بن دينار من قضاعة ... نضلة ... شفاء واقدة بنت أبي عدي من بني مازن ... - ... ضعيفة خالدة عدي بنت حبيب من بني ثقيف ... - ... حنة لا يذكر التاريخ عن أبي صيفي وأسد ونضلة إلا قليلا. وجل ما أثر عنهم أن أرقم بن نضلة وضحاك وعمروا ابني أبي صيفي كانوا قد اشتركوا في حلف بني خزاعة مع عمهم. ولرقية بنت أبي صيفي بن هاشم أبيات في مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم -: منا من الله بالميمون طائره ... وخير من بشرت به مضر مبارك الأمر يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر

عبد المطلب

عبد المطلب: اسمه عامر ولقبه بشيبة (ومعناه الهرم) لأنه ولد وفي رأسه شيبة وقيل قصد في تسميته بهذا الاسم التفاؤل له بطول العمر. كان عبد المطلب في أخواله في يثرب حين مات أبوه هاشم، قدم به عمه المطلب من يثرب إلى مكة وأحبه حبا لا يحبه ولده ورباه مثل أولاده. فكان المطلب يصف نفسه بعبد المطلب شكرا وإظهارا لفضله عليه ومعروفه إليه وقد غلب لقبه الأخير على اسمه الحقيقي حتى فهم عبد المطلب على أنه الاسم الحقيقي له. وكذلك عرف بشيبة الحمد، والفيض، ومطعم طير السماء، وسيد قريش، وشريف قريش، ولم يكن أحد من قريش ينكر له ذلك. وهو الذي اختار اسم الرسول - صلى الله عليه وسلم - "محمدا" وتولى تربيته ثماني سنوات وكان حادث الفيل في عهد رئاسته. وكان عبد المطلب يعظ الناس، فينهاهم عن الظلم والعدوان، ويحثهم على مكارم الأخلاق ومن فضائله أنه عاد إلى حفر بئر زمزم، وكان عمرو بن الحارث الجرهمي قد دفنها، ولم يكن أحد يعرف موضعها لطول الزمن، وذكر أن عبد المطلب رأى في المنام من يأمره بحفر زمزم ثلاث ليال سويا. وبين له شأنها ودله على موضعها، فحفر عبد المطلب وابنه الحارث زمزم فلما كان اليوم الثالث، وتمادى بهما الحفر وجدا فيها غزالين من ذهب وهما الغزالان اللذان دفنتها جرهم فيها حين خرجت من مكة، ووجدا فيها سيوفا ودروعا وغير ذلك (¬1). وظلت قريش في البداية تعتبر فعل عبد المطلب هذا عبثا فلما رأوا الأشياء المطمورة في زمزم تذكروها، وقالوا لعبد المطلب: يا عبد المطلب! لنا معك في هذا شرك وحق، قال: لا، بل خصصت بها دونكم. وهذه البئر التي يرتوي منها الآن كل زائر، والتي فجرها الله لسيدنا إسماعيل عليه السلام صارت تذكارا لعبد المطلب أيضا، وقد وهب الله لعبد المطلب ذرية كثيرة، نثبت أسماءهم في هذا الجدول: ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام.

____ اسم الزوجة ... البنون ... البنات ____ صفية بنت جنيدب بن حجير بن زباب بن حبيب ابن سوأة بن عامر بن صعصعة بن نضر (¬1) ... الحارث ... - فاطمة بنت عمرو بن عايد بن عمران بن مخزوم ... الزبير وأبو طالب ... أم حكيم والبيضاء ابن يقظة بن مرة (¬2) ... وعبدالكعبة وعبدالله ... وأميمة وبرة لبنى بنت هاجر من بطن خزاعة ... أبو لهب واسمه عبدالعزى ... وأروى وعاتكة هالة (¬3) بنت وميب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب (¬4) ... المقوم، وحجل والمغيرة والحمزة ... - تنيلة بنت خباب بن كليب من ربيعة بن نزار (¬5) ... ضرار وقثم والعباس ... - منعمة بنت عمرو بن مالك من بطن خزاعة ... الغيداق ومصعب ... - المجموع الكلي للزوجات ... البنون 15 ... البنات 6 يظهر من الجدول المذكور أعلاه أن عبد المطلب كان أبا لخمسة عشر ابنا وست بنات. ويذكر بعض المؤرخين أن الغيداق هو خجل وعبد الكعبة هو المقوم، ولم يكن أحد يسمى قثما، وعلى هذا كان عدد أبناء عبد المطلب اثنى عشر ابنا، وعدد أعمام الرسول أحد عشر عما، وهذا هو الصحيح. وقد اطلعنا على حياة العشرة منهم، فأحوال السبعة منهم تتعلق بتاريخ الإسلام أيضا، أما الثامن وهو الضرار فكان من فتيان قريش ومعروفا بالجود والجمال، وتوفي في بداية بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يخلف أحدا. أما المقوم فكان له أولاد من صلبه، ولكن لم يستمر نسله، وقد ذكر العلامة الذهبي: عبد الرحمن بن أبي عمرو بن هند بنت المقوم. ويوجد شعر قسري بن خجل في "طبقات الكبير" وقد سمى فيه أعمامه الاثنى عشر. ولم يذكر شيء في كتب التاريخ عن أحوال غيداق وقثم وعبد الكعبة ويمكن أن يسمى عبد الكعبة مقوما. ¬

(¬1) انظر الرقم (13) من شجرة النسب النبوي. (¬2) انظر الرقم (7) من شجرة النسب النبوي. (¬3) والدة هالة عيلة بنت عبد المطلب. (¬4) انظر الرقم (6) من شجرة النسب النبوي (¬5) انظر الرقم (9) من شجرة النسب النبوي.

أعمام وعمات للنبي - صلى الله عليه وسلم -

عاش عبد المطلب اثنتين وثمانين سنة فقد كان مولده في سنة 497م ووفاته في سنة 579م على سبيل التقريب (¬1). وبما أن أولاد عبد المطلب أعمام وعمات للنبي - صلى الله عليه وسلم - نذكر ههنا نبذة عن حياتهم، وحياة أولادهم (حسب قربهم من العصر النبوي) حتى لا يجهل القراء أحوال أهل البيت. الحارث عم النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو أكبر أولاد عبد المطلب وبه كان يكنى أبا الحارث، مات في حياة أبيه (¬2) أما أولاده الأربعة نوفل وعبد الله وربيعة وأبو سفيان مغيرة ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أسلموا ونذكر موجزا عن أحوالهم. (ألف) ـ[نوفل بن الحارث]ـ: شهد بدرا مع المشركين ثم أسلم أيام الخندق أو أيام فتح مكة. وأعان يوم حنين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة آلاف رمح. وكان أكثر آل هاشم تقدما في العمر في ذلك الوقت وتوفي بالمدينة سنة 25 هـ (¬3). وأبناؤه الثلاثة المغيرة بن نوفل وعبد الله بن نوفل والحارث بن نوفل كلهم من الصحابة. أما المغيرة بن نوفل فقد ولي قضاء المدينة في خلافة عثمان، وهو الذي قبض على عبد الرحمن بن ملجم المرادي، بعد أن ضرب علي بن أبي طالب بسيفه. وتزوج أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بناء على وصية علي رضي الله عنه، فولدت له يحي بن المغيرة. وأما عبد الله بن نوفل فاستعمله عمر رضي الله عنه على الكوفة وكان وجهه يشبه إلى حد كبير وجه النبي - صلى الله عليه وسلم -. عين عمر الفاروق رضي الله عنه الحارث بن نوفل حاكما على مكة ثم ذهب إلى البصرة وقد أراده أهل البصرة أميرا عليهم بعد يزيد. توفي الحارث بن نوفل سنة 63 هـ وكان ولده عبد الله المعروف بببة صحابيا. (ب) ـ[عبد الله بن الحارث]ـ: مات في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد سماه - صلى الله عليه وسلم - "سعيد". ¬

(¬1) تاريخ العرب لسيديو. (¬2) الطبقات الكبرى لابن سعد. (¬3) الاستيعاب لابن عبد البر (4/ 1512).

(ج) ـ[ربيعة بن الحارث]ـ: يكنى أبا أروى، هو الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: إن أول دم أضعه دم ابن ربيعة بن الحارث. وذلك أن الأعداء كانوا قتلوا رضيعا لربيعة بن الحارث فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المطالبة بدمه في الإسلام، ولم يجعل لربيعة في ذلك تبعة، وجعل له دية. توفي سنة ثلاث وعشرين للهجرة. وكان ابناه عبد المطلب والمطلب من الصحابة، أما عبد المطلب فمات في إمرة يزيد بدمشق، وأما المطلب فلم يبلغ الحلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (د) ـ[أبو سفيان مغيرة بن الحارث]ـ: ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أخا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، أرضعتهما حليمة السعدية، وكان من شعراء العرب المشهورين ومن الصحابة أيضا. في بداية الإسلام كان ضمن معارضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبتوفيق من الله أسلم قبل فتح مكة بأيام، وأعلن إسلامه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان من بين الصحابة الذين ثبتوا في غزوة حنين، ولم تفارق يده لجام بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذكرنا ما قاله من شعر بعد إسلامه في البداية من هذا الكتاب: وكثيرا ما أنشد أبو سفيان بن الحارث أشعاره في رثاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت هذه الأشعار مليئة بالحرقة والألم ومما قاله: أرقت فبات ليلي لا يزول ... وليل أخي المصيبة فيه طول فاسعد في البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل قد قبض الرسول وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل فقدنا الوحي والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كادت تسيل نبي كان يجلو الشك عنا ... بما أوحى عليه وما يقول ويهدينا فلا نخشى ضلالا ... علينا والرسول لنا دليل أفاطمه إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعي ذاك السبيل فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول

أبو طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم -

وكان رسول الله يحبه حبا شديدا فقال فيه: "أبو سفيان خير أهلي أو من خير أهلي" وقال أهل العلم: إن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كل الصيد في جوف الفراء" إنه أبو سفيان بن الحارث ابن عمه هذا (¬1). توفي سنة عشرين من الهجرة. وابناه عبد الله وجعفر كلاهما من الصحابة، شهد جعفر بن أبي سفيان حنينا ومات في خلافة معاوية رضي الله عنه. أبو طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم -: اسمه الحقيقي عبد مناف غلبت كنيته على اسمه وكان أبو طالب يحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبا شديدا، وظل حياته كلها (سنة 10 للنبوة) ينصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويفديه. له أربعة بنين وبنتان وكلهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا طالب الذي مات بعد وفاة أبيه ولم يسلم ولا يدري ما حاله ولا يعرف أين مات (¬2). (ألف) ـ[عقيل بين أبي طالب]ـ: كان أصغر من أخيه طالب بعشر سنين وأكبر من أخيه جعفر بعشر سنين. كان في صف الأعداء يوم بدر، فأسر ثم أسلم قبل الحديبية، وشهد غزوة مؤتة. وكان عقيل عالما بأيام العرب وأنسابها، وكانت له دراية خاصة بهذا العلم، يكنى أبا زيد. روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا أبا زيد إني أحبك حبين: حبا لقرابتك مني، وحبا لما كنت أعلم من حب عمي إياك" (¬3) توفي في خلافة معاوية وقد قدم مسلم ابنه إلى الكوفة نائبا للحسين رضي الله عنه واستشهد يوم الخميس في ثلاث خلت من ذي الحجة سنة 59 هـ واستشهد محمد وعبد الرحمن ابنا عقيل بن أبي طالب وعبد الله بن مسلم حفيد عقيل بن أبي طالب في كربلا. وفيما يلي شجرة نسب أولاد عقيل بن أبي طالب: ¬

(¬1) الاستيعاب (4/ 1512). (¬2) وفي صحيح البخاري رواية عن الترمذي أن عقيلا وطالبا هما اللذان ورثا أبا طالب. (¬3) الاستيعاب (3/ 1078).

ـ[شجرة نسب أولاد عقيل بن أبي طالب]ـ (ب) ـ[جعفر (الطيار) بن أبي طالب رضي الله عنه]ـ: شقيق علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان أكبر منه بعشر سنين، وكان أميرا على المهاجرين الذين هاجروا إلى أرض الحبشة

من المؤمنين، انتشر فيها الإسلام على يده انتشارا عظيما. وخطبته التي ألقاها أمام ملك الحبشة ذكرناها في البداية من هذا الكتاب. قدم من الحبشة إلى المدينة المنورة في السنة السابعة من الهجرة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج في غزوة خيبر، فانطلق جعفر للقاء النبي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا، أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟ " (¬1). وفي سنة 8 هـ شهد غزوة مؤتة واستشهد فيها، وقد وجدوا ما بين صدره ومنكبيه تسعين طعنه ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح. وقد قطعت يداه. قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أشبهت خلقي وخلقي ياجعفر" وكان عمره حين قتل إحدى وأربعين سنة. عن أبي هريرة قال: كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فيشقها فنلعق ما فيها (¬2). وكان لجعفر أربعة بنين: (1) عبد الله بن جعفر: وهو أول مولود ولد في الإسلام بأرض الحبشة، كان يسمى بحر الجود لسماحته وسخائه وكان كثير العبادة. توفي بالمدينة سنة ثمانين وهو ابن تسعين سنة، وكانت زينب بنت علي تحته. استشهد ابنه عدي في كربلا بعد أن قتله ابن نهشل التيمي. (2) عون بن جعفر. (3) محمد بن جعفر. واستشهدا بتستر. فيما يلي شجرة نسب أولاد جعفر: ¬

(¬1) أخرجه البخاري في باب غزوة مؤتة عن عمر رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري في باب مناقب جعفر رضي الله عنه.

ـ[شجرة نسب أولاد جعفر]ـ

ج - ـ[علي بن أبي طالب رضي الله عنه]ـ: إن فضائل ومحاسن هذا الإمام هادي الأنام أبي الأئمة العظام لا يحيط بها كتاب، ولو حييت لأكتبن مجلدا عن سيرته، ويرى ابن عباس وسلمان الفارسي أن علي بن أبي طالب كان أول من آمن من الناس بعد خديجة رضي الله عنها حينما كان عمره ثماني سنوات. ومن المعروف أنه هاجر وشهد بدرا والحديبية وسائر المشاهد وأنه أبلى ببدر وبأحد وبالخندق وبخيبر بلاء عظيما. وامتاز بالشجاعة وبفصل القضايا. وكان زوجا لفاطمة سيدة النساء وأبا للحسن والحسين رضي الله عنهما. يكنى أبا الحسن وكناه النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا تراب وما كان له اسم أحب إليه منه. بويع بالخلافة بعد مقتل عثمان في ذي الحجة سنة 35 هـ وقتله عبد الرحمن بن ملجم ليلة الجمعة في مسجد الكوفة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة أربعين. ولد له (من أزواجه الأخرى) ستة عشر ابنا علاوة على الحسن والحسين رضي الله عنهما. جمع الأطباء لعلي يوم الجرح الذي استشهد بسببه، وكان أبصرهم بالطب كثير بن عمرو السكوني وكان الطبيب الخاص لملوك إيران، فلما رأى جرح علي، وجد الضربة قد وصلت إلى أم رأسه فأخبر أنه لا يمكن دواؤه ولا يرجى شفاؤه. وأنشد بكر بن حماد القاهري في شهادته هذه الأشعار: قل لابن ملجم والأقدار غالبة ... هدمت ويلك للإسلام أركانا قتلت أفضل من يمشي على قدم ... وأول الناس إسلاما وإيمانا وأعلم الناس بالقرآن ثم بما ... سن رسولنا شرعا وتبيانا صهر النبي ومولاه وناصره ... أضحت مناقبه نورا وبرهانا وكان منه على زعم الحسود له ... ما كان هارون من موسى بن عمرانا وكان في الحرب سيفا صارما ذكرا ... ليثا إذا لقى أقران أقرانا ذكرت قاتله والدمع منحدرا ... فقلت سبحان رب الناس سبحانا إني لأحسبه ما كان من بشر ... يخشى المعاد ولكن كان شيطانا

أشقى مرادا إذا عدت قبائلها ... وأخسر الناس عند الله ميزانا كعاقر الناقة الأولى التي جبلت ... على ثمود بأرض الحجر خسرانا كأنه لم يرو قصدا بضربته ... إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا (¬1) ـ[فاطمة بنت أسد بن هاشم]ـ: هي أم علي وجعفر وعقيل أسلمت ثم هاجرت إلى المدينة وبها ماتت. ألبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه واضعطجع معها في قبرها وقال: لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة، واضطجعت معها ليهون عليها. ذكر المؤرخون عدة أقوال عن أولاد علي رضي الله عنه. 1 - كان له ثمانية عشر ابنا وثماني عشرة بنتا. 2 - كان له تسعة عشر ابنا توفي ستة منهم في حياة أبيهم واستشهد الستة في كربلا، ولا يوجد اليوم إلا أولاد أبنائه الخمسة الحسن والحسين ومحمد الحنفية وعباس وعمر الأطراف (¬2). فيما يلي جدول بأسماء أزواجه وأولاده: _____ اسم الزوجة ... البنون ... البنات _____ 1 - سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء رضي الله عنها ... الحسن والحسين (¬3) ... زينب وكلثوم 2 - أم البنين بنت حرام بن خويلد (من هوازن) ... عمر والعباس وجعفر وعبيد الله وعثمان ... x 3 - ليلى بنت مسعود (من بني تميم) ... عبيد الله وأبو بكر ... x 4 - أسماء بنت عميس الخشمية ... عون ويحيى ... x 5 - خولة بنت جعفر بن قيس ... محمد بن حفية أو محمد الأكبر ... x 6 - أمامة بنت أبي العاص من بطن زينب ... محمد وأوسط ... x 7 - أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي ... x ... أم الحسن رملة الكبرى 8 - أم حبيبة ننت ربيعة الثعلبية ... عمر ... رقية 9 - ممياة بنت إمرئ القيس الكلبي ... x ... حارثة ¬

(¬1) الاستيعاب (3/ 1128). (¬2) عمدة الطالب في نسل أبي طالب. (¬3) وهناك ابن ثالث وهو المحسن ولم يذكر هذا الاسم إلا أبو موسى في كتاب الأربعة في أسماء الصحابة. قال الذهبي تفرد بذكره أبو إسحاق عن هانئ عن علي.

وكانت له بنات من أمهات شتى لم يسم لنا أسماؤهن، منهن أم هاني وميمونة وزينب الصغرى ورملة الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة أم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة (¬1). وقد ذكرنا أولاد فاطمة ضمن ذكر أهل البيت وهنا نذكر أولاد علي رضي الله عنه: ـ[العباس بن علي رضي الله عنهما]ـ: بيده كان العلم في كربلا ويلقب بسقاء أهل البيت أيضا. استشهد (¬2) وهو في الرابعة والثلاثين من عمره وأولاده كما يلي: ـ[شجرة أولاد العباس]ـ ¬

(¬1) تاريخ الطبري (6/ 89). (¬2) اسم قاتليه زيد بن رقاد الجنبي وحكيم بن الطفيل السنبسي.

ـ[عمر (الأطراف) بن علي رضي الله عنهما]ـ: هو شقيق العباس حامل اللواء واختلف فيمن كان أكبر. توفي وهو في السابعة والسبعن من عمره. يروى أنه استشهد وهو يحارب المختار الثقفي لمصعب بن الزبير ونسب أولاده كما يلي: ـ[شجرة أولاد عمر بن علي]ـ ـ[أبو القاسم محمد بن علي المرتضى رضي الله عنه]ـ: أمه خولة الملقبة بالحنفية من قبيلة حنفية بن لجيم، وكانت القبيلة قد ارتدت في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فأسرت خولة في الحرب، فكانت من نصيب علي رضي الله عنه. ولد محمد بن علي رضي الله عنه سنة إحدى وعشرين من الهجرة في خلافة عمر رضي الله عنه، وتوفي في غرة محرم سنة إحدى وثمانين من الهجرة، تروى حكايات كثيرة عن زهده وعبادته وقوته وشجاعته. كان يحمل لواء جيش علي رضي الله عنه، قال له أحد مرة: ما لأبيك يقحمك كل عقبة، ولا يبعث الحسن والحسين في الحرب؟ فقال: هما عينا علي وأنا يده. وتعتقد طائفة من الشيعة أنه كان إماما بعد أبيه علي رضي الله عنه، وطائفة تعتقد أنه كان إماما بعد الإمام الحسن رضي الله عنه، وكلتا الطائفتين تتفقان أن الإمامة استمرت

في أولاده. ومختار الثقفي الذي أخذ الثأر من قاتلي الحسين رضي الله عنه كان يصف نفسه مختارا له. واسم غلام ابن الحنفية كيسان، وهو أيضا إمام إحدى الطوائف وتعتقد الكيسانية أن محمد بن علي رضي الله عنه تغيب في جبل رضوى (¬1) ويكلأ له الأسد والنمر وتفور بجواره ينابيع الماء والعسل. وهو الذي يظهر قرب الساعة باسم المهدي. كان لابن الحنفية بن علي أربعة وعشرون ولدا منهم أربعة عشر ذكر. وللثلاثة منهم ذرية. وفيما يلي شجرة أولاده: ـ[شجرة أولاد محمد بن علي]ـ ـ[محمد بن علي المرتضى رضي الله عنه]ـ: أمه السيدة أمامة بنت السيدة زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استشهد في كربلا بسهم أصابه من رجل من قبيلة إبان بن دارم. وسلسلة نسبه مفقودة. ـ[أبو بكر بن علي المرتضى رضي الله عنه]ـ: أمه ليلى بنت مسعود استشهد في كربلا، واختلف بعض الناس في شهادته. أما الأبناء الآخرون لعلي مثل عبد الله وعون ويحيى وعمر (ابن حبيبة) فلم تعرف أحوالهم. تسمى أولاد علي رضي الله عنه بالعلويين أيضا. ـ[أم هانئ بنت أبي طالب]ـ: هي شقيقة علي بن أبي طالب، أمها فاطمة بنت أسد، وهي ¬

(¬1) تتراءى قمم جبل رضوى من ميناء ينبع.

حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم -

أم طالب وعقيل وعلي وجعفر وجمانة وهند. اختلف في اسمها فقيل هند وقيل فاطمة (فاختة في الاستيعاب) كانت تحت هبيرة ابن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، ولدت أم هاني لهبيرة هانئا وعمروا ويوسف وجعد. أسلمت أم هانيء عام الفتح، فلما أسلمت هرب هبيرة إلى نجران، ولا توجد أي رواية عن عودته من نجران، وعن إسلامه. وقال حين فر معتذرا عن فراره: لعمرك ما وليت ظهري محمدا ... وأصحابه جبنا ولا خيفة القتل ولكنني قاسيت أمري فلم أجد ... لسيفي غناء إن ضربت ولا نبل وقفت فلما خفت ضيعة موقفي ... رجعت لعود كالهزبر إلى الشبل ـ[جمانة بنت أبي طالب]ـ: يأتي ذكر اسم جمانة ضمن أولاد أبي طالب ولكن لا يعرف عنها شيء اللهم إلا ما ذكر ابن اسحاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها من خيبر ثلاثين وسقا، ولم يكن ليعطيها إلا وهي مسلمة (¬1) وفيه دلالة على أنها عاشت إلى فتح خيبر. حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يلقب بأمير المؤمنين وأسد الله ورسوله، أسلم في السنة السادسة من البعثة، وظل يؤيد الإسلام وينصره طوال حياته، كان حمزة أخا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة، يكنى أبا عمارة وأبا يعلى كذلك، شهد حمزة بدرا وأبلى فيها بلاء حسنا مشهورا، وشهد أحدا بعد بدر فقتل يومئذ شهيدا، قتله وحشي بن حرب الحبشي من وراء صخر. ولقبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بسيد الشهداء إذ قال "حمزة سيد الشهداء". ووقف رسول الله على حمزة وقد قتل ومثل به فقال: "رحمك الله أي عم فلقد كنت وصولا للرحم فعولا للخيرات". قطعت هند كبده وجدعت أنفه وقطعت أذنيه وبقرت بطنه، فلم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أوجع لقلبه منه (¬2). ¬

(¬1) الاستيعاب (4/ 1801). (¬2) الاستيعاب (1/ 369).

وقد قال كعب بن أشرف (وقيل عبد الله بن رواحة) يرثي حمزة: بكت عيني وحق لها بكاء ... وما يغني البكاء ولا العويل على أسد الإله غداة قالوا ... لحمزة ذاكم الرجل القتيل أصيب المسلمون به جميعا ... هناك وقد أصيب به الرسول أبا يعلى لك الأركان هدت ... وأنت الماجد البر الوصول عليك سلام ربك في جنان ... يخالطها نعيم لا يزول ألا يا هاشم الأخيار صبرا ... فكل فعالكم حسن جميل رسول الله مصطبر كريم ... بأمر الله ينطق إذ يقول ألا من مبلغ عني لويا ... فبعد اليوم وائلة تدول وقبل اليوم ما عرفوا أذاقو ... وقائعنا بها يشفى الخليل نسيتم ضربنا بقليب بدر ... غداة أتاكم الموت العجيل غداة ثوى أبو جهل صريعا ... عليه الطير حائمة تجول وعتبة وابنه خلا جميعا ... وشيبة عضه النيف الصقيل ولد لحمزة ابنان وبنتان. أما الإبنان فهما عمارة ويعلى، ولعمارة ولد حمزة ولأخيه يعلى خمسة رجال لصلبه وماتوا كلهم. وأما البنتان فهما أم الفضل روى عنها عبد الله بن شداد قالت: " توفي مولى لنا وترك ابنة وأختا فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطى الإبنة النصف وأعطى الأخت النصف (¬1). وأمامة وهي التي اختصم في حق حضانتها علي وزيد وجعفر فقال زيد: هي ابنة حمزة الذي هو أخي من الرضاعة فأنا استحق حضانتها. وقال علي: أنا أخذتها لأنها بنت عمي وجاءت من مكة إلى المدينة في هودج فاطمة. وقال جعفر: هي بنت عمي وخالتها زوجتي فقضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم". ¬

(¬1) الإستيعاب (4/ 1950).

أبو لهب بن عبد المطلب

وقعت هذه الواقعة سنة ست من الهجرة وقد ذكرت في الصحاح مفصلا. تزوجت أمامة بسلمة بن أم سلمة رضي الله عنهما. أبو لهب بن عبد المطلب: كان يعادي النبي - صلى الله عليه وسلم - لدعوته إلى التوحيد. وإذا خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس في الأسواق قام إليه وراح يصيح: أيها الناس، لا تسمعوا له فإن به جنة. هلك بعد ثمانية أيام من غزوة بدر بالطاعون. وبقيت جثته ثلاثة أيام متعفنة ولما تأذى الناس لعفونتها أسقطه أهله من السرير بالخشب وأمطروا عليه بالحجارة حتى توارى فيها ووجدت النار وقودها من الناس والحجارة معا. كان له أربعة بنين. هلك منهم اثنان في الجاهلية وأسلم اثنان عقبة والمعقب عام الفتح وشهدا يوم حنين وبها ضاعت إحدى عيني المعقب وبقي الأخوان بمكة وأسلمت درة بنت أبي لهب وتزوجت مع الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ومن بطنها ولد عتبة ووليد وأبو مسلم. روت درة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا أنه سئل أي الناس خير؟ فقال: "أتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم لرحمه" وروت عنه"لا يؤذى حي بميت" (¬1). عباس بن عبد المطلب عم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ولد العباس قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنتين، أمه نتيلة بنت خباب، وهي أول عربية كست البيت الحرام بالحرير والديباج. كان العباس في الجاهلية رئيسا لقريش وإليه كانت عمارة المسجد الحرام والسقاية في الجاهلية، والسقاية معناها معروف، أما العمارة فتعني ألا يدع أحدا يسب في المسجد الحرام ولا يقول فيه هجرا (¬2). خرج العباس مع المشركين يوم بدر فأسر، وكانوا قد شدوا وثاقه فراح يئن من الألم ¬

(¬1) الاستيعاب (4/ 1835). (¬2) الاستيعاب.

فسهر النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة ولم ينم، فقال له بعض أصحابه: ما أسهرك يا نبي الله؟ فقال: "أسهر لأنين العباس" فقام رجل من القوم فأرخى من وثاقه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مالي لا أسمع أنين العباس؟ فقال رجل: أنا أرخيت من وثاقه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فافعل ذلك بالأسرى كلهم". والذي ثبت من حديث الحجاج بن علاط أنه قديم في الإسلام يكتم إسلامه وكان مقيما بمكة بأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - يكتب أخبار المشركين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يساعد المسلمين الفقراء في مكة، ثم أظهر إسلامه وشهد حنينا والطائف وتبوك. وحضر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العقبة الثانية قبل إظهار إسلامه ودفع يوم بدر فدية عقيل ونوفل ابني أخويه أبي طالب والحارث من ماله، وفي غزوة حنين ظل العباس بجوار بغلة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرم العباس بعد إسلامه ويعظمه ويجله ويقول: "هذا عصي وصنو أبي". وكان العباس جوادا مطعما وصولا للرحم ذا رأي حسن ودعوة مستجابة. توفي العباس لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب (أو رمضان) سنة اثنتين وثلاثين وصلى عليه عثمان ودفن بالبقيع وهو ابن ثمان وثمانين سنة (¬1). ولدت له أم الفضل: الفضل وعبد الله وعبيد الله ومعبد وقثم وعبد الرحمن وأم حبيب وولد له عون بن عباس من زوجة غير أم الفضل وولد له من زوجة ثالثة تمام وكثير ومن زوجة رابعة ولد له الحارث. 1 - فالفضل بن العباس أكبرهم وبه يكنى أبوه أبا الفضل وأمه لبابة الصغرى أم الفضل. غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنينا وشهد معه حجة الوداع وهو ممن غسلوا النبي بعد وفاته وكان يصب الماء على يد علي رضي الله عنه. ¬

(¬1) الاستيعاب (2/ 810).

استشهد في خلافة أبي بكر سنة 13 هـ أو في خلافة الفاروق 18 هـ. لم يخلف إلا أم كلثوم تزوجها الحسن بن علي رضي الله عنه، ثم فارقها فتزوجها أبو موسى الأشعري، روى عنه أخوه عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأبو هريرة رضي الله عنه (¬1) 2 - عبد الله بن العباس: هو أشهر أولاد العباس رضي الله عنه، كان يلقب بحبر الأمة ومربي الأمة، توفي بالطائف سنة ثمان وستين من الهجرة عن سبعين سنة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: "اللهم علمه الحكمة وتأويل القرآن". وورد في حديث آخر هذا الدعاء النبوي: "اللهم بارك فيه وانشر منه واجعله من عبادك الصالحين". قال مسروق: هو أجل الناس إذا رأيته، وأفصحهم إذا سمعت كلامه، وأعلمهم إذا سمعت مروياته. عينه علي رضي الله عنه حاكما على البصرة. شهد حرب الجمل والصفين ونهروان مع أبنائه الحسن والحسين ومحمد، وكف بصره في آخر عمره. وفي ذلك أبيات له يقول فيها: إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور قلبي زكى وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف ماتور كان إماما في علوم الشعر والأنساب وأيام العرب وتاريخهم والحديث والفقه والتفسير، والخلفاء العباسيون من أولاده وقد روى أكثر من ألف وخمسمائة (¬2). من سلالته كان خلفاء بغداد الذين استمر حكمهم من سنة 132 هـ إلى سنة 650 هـ. 3 - عبيد الله بن العباس: كان أصغر من أخيه عبد الله بن العباس بسنة، عينه علي ¬

(¬1) الاستيعاب (3/ 1269). (¬2) كتاب الفضل مجلد 4 لابن حزم [ص:138].

الزبير عم النبي - صلى الله عليه وسلم -

رضي الله عنه في عهد خلافته حاكما لليمن وأمره على الحجيج لسنتين فحج بالناس سنة ست وثلاثين وسنة سبع وثلاثين واشتهر بلقب أجود الناس (¬1). 4 - معبد بن العباس: ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستشهد في إفريقيا مجاهدا في سبيل الله في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه. لم يرو أي حديث عن النبي. 5 - قثم بن العباس: قال عبد الله بن جعفر: كنت أنا وعبيد الله وقثم ابنا العباس نلعب فمر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ارفعوا إلي هذا" - يعني قثم - فرفع إليه فأردفه خلفه وجعلني بين يديه ودعا لنا. وكان واليا لعلي بن أبي طالب على مكة فلم يزل واليا عليها حتى استشهد علي رضي الله عنه، خرج إلى سمرقند مع سعيد بن عثمان بن عفان زمن معاوية، مجاهدا واستشهد هناك. قال أحد الشعراء في مدح قثم بن العباس: كم صارخ بك مكروب وصارخة ... يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم وهو آخر الناس عهدا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أنه كان آخر من خرج من قبره ممن نزل فيه (¬2). 6 - كثير بن العباس: ولد قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأشهر، سنة عشر من الهجرة، وكان فقيها ذكيا فاضلا، وأمه هي رومية. 7 - تمام بن العباس: هو أخو كثير بن العباس من أمه، وأصغر أولاد العباس، كان شجاعا مغوارا، وكان واليا لعلي بن أبي طالب على المدينة. وله ذرية. 8 - عبد الرحمن بن العباس: ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستشهد في إفريقيا هو وأخوه معبد بن العباس. 9 - أم حبيب بنت العباس: تزوجها أسود بن سفيان عبد الأسد المخزومي، وسفيان شقيق لأم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها. الزبير عم النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن أربع وثلاثين سنة حين مات الزبير (¬3) وكان قد بذل جهدا كبيرا ¬

(¬1) الاستيعاب (3/ 1009). (¬2) الاستيعاب (3/ 262) طبعة دار الكتاب العربي، بيروت. (¬3) إنسان العيون (1/ 135).

أم حكيم البيضاء

لإقامة حلف الفضول (¬1) مما يدل على صلاحه ورحمته، وكان شاعرا فصيح اللسان ووصيا (¬2) لأبيه. ابنه عبد الله وبنتاه صباعة وأم حكيم من الصحابة (¬3). ـ[عبد الله بن الزبير]ـ: استشهد في أجنادين (¬4) التي وقعت في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ووجدت حول جثته جثث القتلى من الكفار، وذلك يدل على بلائه في الحرب بلاء حسنا. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يناديه بابن عمي وحبي. عمات النبي - صلى الله عليه وسلم -: أم حكيم البيضاء: هي شقيقة عبد الله وأبي طالب والزبير. تزوجت من كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف. ولدها عامر أسلم يوم فتح مكة وابنه عبد الله من الصحابة، استعمله عثمان على خراسان. وبنت أم حكيم أروى وهي والدة عثمان ذي النورين رضي الله عنه (¬5). أميمة: عمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، تزوجت من جحش بن رباب، وولدت من البنات زينب وأم حبيبة [وهي زوج لعبد الرحمن بن عوف] وحمنة ومن الأبناء عبد الله بن جحش. تزوجت حمنة أولا مصعب بن عمير رضي الله عنه، ثم تزوجها طلحة بن عبيد الله، فولدت له ابنين: محمدا وعمران اللذين يرويان عن أمهما. استشهد عبد الله بن جحش يوم أحد ودفن مع خاله حمزة رضي الله عنه. عاتكة: عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت رأت رؤيا قبل بدر بعدة أيام. ولما سمع بها الكفار استهزأوا بها وقالوا هاهن بنات هاشم بدأن في ادعاء النبوة، ولكن حدث ما كانت رأته في رؤياها، وهي أن راكبا قام على رأس أبي قبيس، ثم أخذ صخرة ورمى بها ركن الكعبة فتفتتت، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها علقة، إلا دار بني زهرة فإنهم عصموا منها (¬6). ¬

(¬1) انظر حلف الفضول في البداية من هذا الكتاب. (¬2) الطبقات الكبرى ج 1. (¬3) الاستيعاب (4/ 1874). (¬4) الاستيعاب (3/ 904). (¬5) الزرقاني والاستيعاب (4/ 1778). (¬6) الاستيعاب (2/ 733). وبنو زهرة لم يشهدوا غزوة بدر.

صفية

وعاتكة: معناها الطاهرة. صفية: عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي شقيقة حمزة رضي الله عنه، كان زواجها الأول من الحارث بن حرب بن أمية ثم هلك عنها، ثم كان زواجها الثاني من العوام بن خويلد بن أسد، وهو شقيق خديجة الكبرى، فولدت له الزبير فكان ابن أخي خديجة، وابن عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وولدت له السائب وكان السائب ممن شهدوا بدرا والخندق وأبلوا فيها بلاءا حسنا. وكانت صفية قد قتلت يهوديا في الخندق، فأعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصيبا من الغنيمة. وقد أثبتت كمال قوة إيمانها يوم أحد، حين رأت أخاها حمزة متلطخا بالدماء، وقد مثل به، فلم تبك، ولم تجزع عليه، بل دعت الله له وانصرفت. برة: عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجت من عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي، وولدت أبا سلمة عبد الله، أول زوج لأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها ويأتي ترتيبه العاشر من بين من أسلم من الرجال. ذكرت أحواله ضمن أحوال أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها. أروى: عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي شقيقة والد النبي - صلى الله عليه وسلم -. أثبت ابن سعد وابن القيم إسلامها، وروى الواقدي: أن طليبا ابنها لما أخبرها بإسلامه قالت له: "إن أحق من آزرت وعضدت ابن خالك، لو كنا نقدر على ما يقدر عليه الرجال لمنعناه وذبيناه عنه." وقالت أروى الأبيات التالية في وفاة الرسول: ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برا ولم تك جافيا كأن على قلبي لذكر محمد ... وما جمعت من النبي المحاويا (¬1) تزوجت أروى من عمير بن وهيب بن عبد بن قصي وكان ابنها طليب ممن أسلموا قبلا وهو يعد من المهاجرين الأولين، هاجر هجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة. يرى بعض ¬

(¬1) مولوي كرامت علي الدهلوي: "السيرة الطيبة".

عبد الله والد النبي - صلى الله عليه وسلم -

الناس أنه أول رجل أريق دمه في سبيل الله، ويقول بعضهم: إنه سعد بن وقاص، وشهد طليب بدرا واستشهد يوم أجنادين وليس له ذرية من بعده. عبد الله والد النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان أحب ولد عبد المطلب إليه. وكان عبد المطلب قد نذر لئن ولد له عشرة نفر لينحرن أحدهم لله عند الكعبة، فلما ولد له عشرة أراد إيفاء نذره فضرب بالقداح فخرج القدح على عبد الله، فأخذه عبد المطلب بيده، وأخذ الشفرة ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه فعارضه ابنه أبو طالب وقال: كلا ورب البيت ذي الأنصاب ... ما ذبح عبد الله بالتلعاب يا شيب إن الريح ذو عقاب ... إن لنا جره في الخطاب ... أخوال صدؤا كأسود الغاب ... (¬1) وعارضه أيضا أخوال عبد الله فقال مغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم: يا عجبا من فعل عبد المطلب ... وذبحه ابنا لتمثال الذهب كلا وبيت الله مستور الحجب ... ما ذبح عبد الله فينا باللعب (¬2) فانتهى الأمر إلى أن ينطلق به إلى عرافة فإن أمرته بذبحه ذبحه، وإن أمرته بأمر له فيه فرج قبله. فقالت العرافة: أن يقرب عبد الله ويقرب معه عشرا من الإبل ثم يضرب عليها وعليه بالقداح. فقرب عشرا من الإبل ثم عشرين ثم ثلاثين ثم أربعين ثم خمسين ثم ستين ثم سبعين ثم ثمانين حتى بلغت تسعين وكل مرة تخرج القداح على عبد الله، إلى أن وصلوا إلى مائة فخرجت القداح على الإبل فنحر مائة من الإبل إيفاء بنذره وفدية لابنه. لاشك أن التضحية بالأولاد من عادات الشعوب البدائية ولكنها كانت توجد حتى ذلك الزمن في بلاد كثيرة مثل الهند واليونان ومصر وإيران والصين وبلاد أفريقيا (¬3). ¬

(¬1) السيرة الطيبة مولوى كرامت علي الدهلوي. (¬2) نفسه. (¬3) هذه العادة لا تزال توجد حتى اليوم لدى الشعوب التي تعيش حياة البداء في نيبال وبورما وكذلك توجد في بلاد وسط أفريقيا أيضا.

إن امتاز عمل عبد المطلب هذا بشيء، فإنما يمتاز بأنه نذر خالص لله تعالى لا لإله غيره كما يفعل الذين يتبعون هذه العادة، ويقدمون نذرهم لغير الله، ويمكن أن يكون قد نشأ في نفس عبد المطلب ميل إلى تقليد إبراهيم عليه السلام، ولم يدرك الفرق بين المأمور، وغير المأمور وظن أن كل رجل حقيق بذبح ولده. لقد من الله على عبد المطلب إذ وفقه في الإيفاء بنذره، وكتب النجاة لعبد الله، كانت دية النفس في العرب عشرا من الإبل قبل هذه الواقعة فصارت بعدها مائة من الإبل. كأن إخلاص عبد المطلب وطاعة عبد الله لأبيه رفعت من شأن الإنسان وقيمته في البلاد كلها، والظاهر أن تكون نسبة أحداث القتل قد انخفضت بقدر الزيادة في الدية، وهكذا سببت هذه الواقعة اليمن والبركة للبلاد والناس جميعا. والابن الذي كان رحمة للعالمين لابد أن يكون آباؤه أيضا من المحسنين إلى البشرية. روى أبو نعيم والخرائطي وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قصة تدل على عفة عبد الله: وهي أن فاطمة بنت مر الخثعمية أظهرت له حبها وعرضت عليه مائة من الإبل ليلتفت إليها فأبى لها عبد الله ذلك وقال: أما الحرام فالممات دوفه ... والحل لاحل فاستبينه فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه (¬1) وكان عبد الله قد تزوج آمنة، ثم توجه إلى أرض الشام للتجارة. ولما عاد منها أقام بالمدينة على تجارة تمر لأبيه عبد المطلب وهناك مرض ومات. إن كل مؤرخ ينظر إلى أسماء أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - وينظر إلى تاريخ ذلك العصر، ليتعجب ويقول: كيف اختيرت هذه الأسماء الطاهرة في ذلك العصر. والحقيقة أن ذلك كان إرهاصا من إرهاصات النبوة. إن الطفل الذي تشرب العبودية الإلهية، من دم أبيه ورضع الأمان والسلام من لبن أمه، لا يستغرب أن يكون حميد الأفعال جميل الصفات ويجري ذكره على ألسنة الخلق جميعا، محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه وسلم. توفي عبد الله وهو في الخامسة والعشرين والنبي - صلى الله عليه وسلم - في بطن أمه. ¬

(¬1) الخصائص الكبرى 1/ 40.

آمنة

آمنة: هي أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان أبوها سيد بني زهرة، وكان شريفا في قريش، ترعرعت السيدة آمنة في حضانة عمها وهيب، وكان وهيب كأخيه سيد قومه ومطاعا كريما. ونسب آمنة كما يلي: _____ آباؤها ... أمهاتها ... - _____ وهب ... برة ... بنت أب: عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي (¬1) ... أم: أم حبيب (¬2) بنت أسد بن عبد العزى بن قصي (¬3). عبد مناف ... قبيلة ... بنت أب: وخير (¬4) بن غالب بن الحارث (من خزاعة). ... أم: سلمى (¬5) بنت لوي بن غالب (¬6). زهرة ... جمل ... بنت أب: مالك بن قصية بن سعد بن مليح (من خزاعة). كلاب ... فاطمة ... بنت أب: سعد بن سيل (من الأزد). ... أم: ظريفة بنت قبس. يتضح من هذه الشجرة أن زهرة وقصي بن كلاب كانا شقيقين. حملت آمنة بنور النبوة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في أول أسبوع من النكاح. يروى عنها أنها ¬

(¬1) انظر الرقم (5) من نسب آباء النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) والدة أم حبيب برة بنت عوف، وجدتها قلابة بنت الحارث، وجدة أمها أميمة بنت مالك، وأم جدة أمها دب بنت ثعلبة، وجدة جدة أمها عاتكة بنت غاضرة، وجدة أم جدة أمها ليلى بنت عوف ابن قصي. (الطبقات الكبرى لابن سعد). (¬3) انظر الرقم (5) من نسب آباء النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) والدة وخير سلامة بنت واهب، وجدته أمينة بنت قيس بن ربيعة، وجدة أمه تجعة بنت عبيد. (¬5) والدة سلمى ماوية بنت الكعبة بن ألقين. (¬6) انظر الرقم (10) من نسب آباء النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قالت: قلن لي (أي عجائز النساء) تعلقي حديدا في عضديك وعنقك، قالت ففعلت. قالت: فلم يكن ترك علي إلا أياما فأجده قد قطع فكنت لا أتعلقه (¬1). أمرت آمنة وهي حامل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسميه أحمد فسمته بأحمد، وسماه جده محمدا، فمحمد وأحمد كلاهما اسمان ذاتيان للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). واستيقنت آمنة بعد هذه الرؤيا أن ابنها سيكون ذا بركة وسعادة. فإن حليمة لما سمعت أنه يتيم أبت أن ترضعه فقالت لها آمنة: يا ظئير سلي عن ابنك فإنه سيكون له شأن. فلما أخذت حليمة الطفل أنشدت آمنة: أعيذ بالله ذي الجلال ... من شر ما مر على الجبال حتى أراه حامل الحلال ... ويفعل العرف إلى الموالي ... وغيره من حشوة الرجال ... ثم قدمت به حليمة على أمه بعد سنتين وقالت لها: لو تركت بني عندي حتى يغلظ فإني أخشى عليه وباء مكة فردته معها، وبعد خمس سنوات قدمت به حليمة على أمه، فأخذته أمه وسارت به إلى يثرب، في أخواله، ولعلها شاءت أن تزور قبر زوجها، وكانت معها في هذا السفر أم أيمن (¬3) أمتها، ثم أقامت بدار النابغة بالمدينة شهرا، ولما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد 47 سنة إلى المدينة، كان يتذكر صباه ويقول: كانت بها بنت تسمى أنيسة وكانت تلعب معي، وجعل قبر أبي في هذا الموضع، وكنت تعلمت السباحة في بركة بني عدي بن النجار، وفوق هذا الحصن كان طائرا يقف فيهشه الأطفال، وكانت أمي تجلس في هذا البيت. ولما رجعت السيدة آمنة بعد شهر إلى مكة ماتت وهي بالأبواء. ولعل الحزن الذي ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد. (¬2) روى ابن سعد عن محمد بن علي بن الحنفية أنه سمع أباه عليا رضي الله عنه يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سميت أحمد". وهذا الحديث مرفوع. (¬3) أم أيمن بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سلمة بن عمر بن النعمان. كانت خادمة عبد الله بن عبد المطلب، وصارت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرمها ويقول: أم أيمن أمي بعد أمي وكان يزورها، تزوجها عبيد الحبشي فولدت له أيمن، ثم تزوجها زيد بن حارثة فولدت له أسامة. وكان أبو بكر وعمر يزورانها في منزلها. استشهد أيمن في غزوة حنين. مدح عباس بن عبد المطلب ثباته وشجاعته يوم حنين في قصيدته وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب أسامة بن زيد، توفي أسامة سنة 54 هـ.

ساورها لرؤيتها قبر زوجها قد أثر فيها تأثيره، ولم يبقها كثيرا، وتحققت حكمة الله التامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتج إلى منة أبويه في تربيته. قالت آمنة هذه الأشعار في وفاة زوجها: عفا جانب البطحاء من ابن هاشم ... وجاور لحدا خارجا في الغماغم دعته المنايا دعوة فأجابها ... وما تركت في الناس مثل ابن هاشم عشية راحوا يحملون سريره ... تعايره أصحابه في التراحم فإن يك غالته المنايا وريبها ... فقد كان معطاء كثير التراحم (¬1) ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 100).

الفصل الثالث

الفصل الثالث آل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أبناء وأربع بنات نذكر أحوال كل منهم بإيجاز. أبناء النبي - صلى الله عليه وسلم -: 1 - القاسم عليه السلام: هو أول مولود ولد في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، من بطن خديجة رضي الله عنها وقد مات وهو لا يزال يحبو. باسمه يكنى النبي - رضي الله عنه - أبا القاسم. وفي الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الجمع بين اسمه وكنيته وأن يسمى أحد نفسه أبا القاسم محمدا، وقد خص البعض هذا النهي بعصر النبوة. 2 - عبد الله عليه السلام: هو الذي يلقب بالطيب والطاهر (¬1) ولد بمكة بعد بعثة النبوة وبها مات، وهو الذي نزلت في وفاته سورة الكوثر. كان الكفار يظنون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبق له أحد بعد وفاة ابنه، وما كانوا يعلمون أنه هو الذي ورد في شأنه في الزبور: "إني أذكر الأجيال كلها باسمك فيثنون عليك أبد الآبدين" (72/ 17). وأنه هو الذي ورد في شأنه: "يبقى ذكره للأبد ويشيع اسمه ما دامت الشمس مشرقة والناس يهنئون به، ويدعى له دائما ويهنأ كل يوم" (72/ 15). ومن تأثير بشارة الصحف السابقة، وإعلان القرآن الكريم أن أحدا لا يذكر أولئك الكافرين الذين كانوا يتفاخرون بأولادهم، بل ولا ينسب طفل من الأطفال نفسه إليهم. أما اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو يجري على جميع الألسنة، في الأذان والتكبير والتشهد والصلاة، والكلمة الطيبة (كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ويمتلك القلوب جميعا. 3 - إبراهيم عليه السلام: ولد بالمدينة المنورة. وكان أبو رافع (¬2) زوج ¬

(¬1) وفي رأيي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماه بالطيب ولقبته السيدة خديجة رضي الله عنها بالطاهر. (المؤلف). (¬2) كان مولى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

سلمى (¬1) مرضعة النبي قد بشر النبي بولادته فوهب له عبدا. وسماه باسم أبيه إبراهيم. وأرضعته أم بردة بنت المنذر بن زيد الأنصاري زوجة براء بن الأوس الأنصاري، فأعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرضا عليها نخل. وتوفي إبراهيم وهو ابن ثمانية عشر شهرا لتتم رضاعه حوريات الجنة رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، فأخذه في حجره وقال: "يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئا". ثم قال: "لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق أولنا، لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب" ووافق موته كسوف الشمس (¬2) وكان العرب القدماء يعتقدون أن الكسوف والخسوف يحدث لموت إنسان عظيم، فبدأ بعض المسلمين يقولون إن الشمس انكسفت لموته، فسمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا القول فخطبهم قائلا: "إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد من الناس، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموها فصلوا" (¬3). يقول أنس بن مالك: قد كان ملأ مهده ولو بقي لكان نبيا، ولكن لم يكن يبقى لأن نبيكم آخر الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن أبي أوفى: مات وهو صغير ولو قدر أن يكون بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي لعاش ولكنه لا نبي بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -. ووالدة إبراهيم هي مارية القبطية التي أرسلها ملك مصر لخدمة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قدم ملك مصر المعاصر لإبراهيم هاجرة لخدمة سارة. وليس بينهما فرق إلا أن الملك المعاصر لإبراهيم كان وثنيا جبارا، والملك المعاصر للنبي - صلى الله عليه وسلم - كان نصرانيا. وكان سكان مصر ¬

(¬1) هي مولاة لأم الزبير رضي الله عنهما وهي قابلة أولاد فاطمة رضي الله عنها كلهم غسلت هي وأسماء بنت عميس فاطمة رضي الله عنها وشهدت غزوة خيبر أيضا. (¬2) صحيح البخاري عن المغيرة. كتاب الكسوف. (¬3) صحيح البخاري عن ابن مسعود كتاب الكسوف.

منهمكون في تلك الأيام في دراسة النصرانية، وقد صدقت هذه الواقعة ما كان تنبأ به داود عليه السلام: "بنات الملوك من مكرماتك بل هن قائمات بيمينك (¬1) متزينات بذهب أوفير" (زبور 45/ 9). وأيضا تمت هذه البشرى: "ملوك ترسيس (¬2) والجزر يأتونك بالنذور وسلاطين سبا وسيبا يهدون إليك الهدايا" (زبور 72/ 10). وعلينا أن نتذكر أن الواقدي وابن سعد ذكرا أن ولادة إبراهيم كانت سنة ثمان من الهجرة ووفاته سنة عشر من الهجرة لعشر خلت من ربيع الأول وكذلك اتفق كلاهما على أن الشمس انكسفت يوم مات إبراهيم. فتاريخ الولادة وشهرها وسنتها، وكذلك تاريخ الوفاة وشهرها كلها غير صحيحة في الروايات، إلا ما روى عن أن وفاته كانت سنة عشر من الهجرة، وانكسفت يومئذ الشمس فهذا هو الصحيح. وذكر صاحب كتاب "المواهب اللدنية" أن وفاته كانت سنة عشر من الهجرة في الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين ولكنه أخطأ في تحديد الشهر. وبما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الكسوف آية من الآيات، فإن المؤرخ يستطيع أن يصحح بها التاريخ. وقد حسبنا فثبت لنا أن الكسوف في سنة عشر من الهجرة كان يوم الإثنين لتسع وعشرين ليلة خلت من شوال الموافق 27 - 30 من شهر يناير سنة 632 م وقد اعترف الجدول الكرونولوجي الهندي Chronology (¬3) وكذا التقويم الهندي أي زاركننكهم وتقرير ¬

(¬1) ينبغي أن نتدبر في كلمة "بيمينك" إنها ترجمة لكلمة "ملك اليمين" وقد ذكر المؤرخون كلهم أن مارية القبطية كانت ملك يمين. إن التنبأ المذكور قد أخبر فيه بأنها تكون ملكة وتأتي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوصفها ملك يمين. (¬2) ترسيس مدينة قديمة من مدن حلب والمراد بسبا الشعوب القاطنة باليمن. والمراد بسيبا الشعوب القاطنة بمصر، فتدبروا كيف أنهم اجتمعوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) علم تعيين التواريخ الدقيقة للأحداث وترتيبها وفقا لتسلسلها الزمني والجدول الكرونولوجي يبين ترتيب هذه الأحداث بحسب تسلسلها الزمني.

التقويم الهندي بنفس هذا التاريخ لكسوف الشمس، وكان التاريخ في الهند يومئذ 28 من شوال. ويمكن أن يكون بحساب العرب 29 من شوال، وهذا ما اختاره محمود باشا الفلكي في رسالته "نتائج الأفهام" (طبع في مصر سنة 1305 هـ[ص:10]). ولما تأكد أن الوفاة كانت في التاسع والعشرين من شوال سنة عشر من الهجرة ينبغي علينا أن نتأمل في رواية عائشة التي رواها البخاري في صحيحه، وفي رواية جابر التي رواها الإمام أحمد في مسنده. ففي صحيح البخاري: كان عمر إبراهيم وقت وفاته سبعة عشر أو ثمانية عشر شهرا. وفي المسند: ثمانية عشر كاملا. ونستطيع أن نحدد زمن الولادة بهذه الروايات الصحيحة فإذا حسبنا الأشهر السابقة للأشهر الثمانية عشر، وجدنا شهر جمادي الأولى سنة تسع من الهجرة هو الشهر الذي ولد فيه إبراهيم. وقد تبين بهذا البحث ضعف جميع الروايات التي وردت في عمر إبراهيم وتاريخ ولادته ووفاته. وروى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن سورة الكوثر (¬1) نزلت في حياة إبراهيم. وفي ضوء هذا الحديث نستطيع القول بأن سورة الكوثر تكرر نزولها في المدينة ويمكن أن يكون ذلك وقت وفاة إبراهيم. وانظروا إلى عظمة النبوة وقت وفاة إبراهيم حيث أخذه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجره وهو يلفظ أنفاسه فلقنه درس التوحيد بقوله: لا نغني عنك شيئا. وما أعجب ما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأدلة في الصبر على الموت من أنه أمر صدق ووعد حق وأن الآخر سيلحق بأوله، ثم بين ضعف الإنسان، وقوة الإيمان بالله بإظهار حزنه ورضائه بربه. وتدبروا كيف تغلب واجبه نحو إصلاح العقيدة على حزنه على الابن الفقيد، فأسرع إلى الناس يخطب فيهم ويعظهم، بينما الآخرون في العادة يحسبون أنفسهم في مثل هذه المصيبة مفجوعين وينوحون ويبكون. ¬

(¬1) فكروا في كلمة الكوثر ثم انظروا إلى فترة ما بين وفاة عبد الله ووفاة إبراهيم، إن هذا يدل على أن الإسلام في هذا الزمن نال كثيرا من الانتشار والرقي والازدهار، كما يدل أيضا على أنه ظهر بعد هذه الفترة في صورة أتم وأكمل. وسيحصل له الكمال إن شاء الله في عالم الآخرة أيضا.

جدول كسوف الشمس

وفي الختام نثبت هنا جدولا يمكن به معرفة تواريخ كسوف الشمس لثلاث وعشرين سنة ويظهر للقراء تاريخ كسوف الشمس في عصر النبوة، كما يساعد هذا الجدول العلماء في فهم الأحاديث التي وردت فيها أشكال مختلفة ومتعددة لصلاة الكسوف. جدول (¬1) كسوف الشمس لثلاث وستين سنة من العصر النبوي __ الرقم المسلسل ... التاريخ ... الشهر ... السنة الميلادية ... التاريخ ... الشهر ... السنة الإسلامية __ 1 ... 9 ... 4 ... 209 ... 28 ... 40 ... 40 من المولد النبوي. 2 ... 23 ... 7 ... 613 ... 29 ... 44 ... 44 من المولد النبوي. 3 ... 21 ... 5 ... 616 ... 28 ... 47 ... 47 من المولد النبوي. 4 ... 14 ... 11 ... 617 ... 28 ... 48 ... 48 من المولد النبوي. 5 ... 4 ... 11 ... 618 ... 28 ... 49 ... 49 من المولد النبوي. 6 ... 31 ... 3 ... 618 ... 28 ... 49 ... 49 من المولد النبوي. 7 ... 24 ... 10 ... 618 ... 28 ... 50 ... 50 من المولد النبوي. 8 ... 9 ... 3 ... 620 ... 28 ... 51 ... 51 من المولد النبوي. 9 ... 2 ... 9 ... 620 ... 28 ... 52 ... 52 من المولد النبوي. 10 ... 27 ... 12 ... 623 ... 28 ... 2 ... 2 من الهجرة. 11 ... 15 ... 12 ... 624 ... 28 ... 3 ... 3 من الهجرة. 12 ... 26 ... 10 ... 626 ... 29 ... 5 ... 5 من الهجرة. 13 ... 21 ... 4 ... 627 ... 28 ... 5 ... 5 من الهجرة. 14 ... 15 ... 10 ... 627 ... 28 ... 6 ... 6 من الهجرة. 15 ... 9 ... 4 ... 628 ... 28 ... 6 ... 6 من الهجرة. 16 ... 3 ... 10 ... 628 ... 28 ... 7 ... 7 من الهجرة. 17 ... 13 ... 8 ... 630 ... 28 ... 9 ... 9 من الهجرة. 18 ... 7 ... 2 ... 631 ... 29 ... 9 ... 9 من الهجرة. 19 ... 27 ... 1 ... 632 ... 28 (¬2) ... 10 ... 10 من الهجرة يوم ولادة إبراهيم عليه السلام. ¬

(¬1) أعد هذا الجدول الأخ الكريم القاضي عبد الرحمن سلمه الله تعالى وهو الذي صحح جداول السنين والشهور والأحداث العظيمة التي توجد في آخر الكتاب، فجزاه الله في الدارين خيرا. ومن الجدير بالذكر أنه يرتب في رمضان كل عام جدول أوقات الإفطار والسحور ويوزعه مجانا وهذا الجدول الذي يذكر فيه أوقات بلاد الهند الشهيرة يعد من أصح الجداول. (¬2) بعد 28 من شوال سنة 20 هـ لم يقع كسوف في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -

بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع، كلهن من بطن خديجة رضي الله عنها (¬1)، وكلهن ولدن بمكة. 1 - زينب وهي أكبر أولاد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا القاسم فهو أكبر منها. 2 - رقية وهي أصغر من زينب. 3 - أم كلثوم وهي أصغر من رقية. 4 - فاطمة وهي أصغر من أم كلثوم. وقد ثبت من القرآن الكريم أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث بنات أو أكثر. قال تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين} (سورة الأحزاب: 59). فقد قسمت هذه الآية الكريمة المؤمنات اللاتي عرفن في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ثلاثة أقسام: 1 - أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. 2 - بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -. 3 - نساء المؤمنين. ومن المسلم به أن البنات جمع بنت وصيغة الجمع في اللغة العربية تدل على أكثر من اثنين. ولنعلم الآن أن الله عز وجل قال في نفس سورة الأحزاب {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله}. (سورة الأحزاب: 5). وقد ورد هذا الحكم فيمن كانوا يدعون لغير آبائهم، ممن كان يتبناهم ويربيهم. وقد كان بعيدا عن الصدق والعدل أن يأمر الله عز وجل في سورة الأحزاب الآية (5) ادعوهم لآبائهم ثم يقول تعالى في نفس السورة (الركوع الثامن) للبنات اللاتي لسن في الحقيقة من دم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهن بناته، وقد استدل على كون القرآن الكريم كلاما إلهيا بأنه لا يوجد فيه اختلاف. ¬

(¬1) الشيخ أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي (المتوفي شعبان سنة 329 هـ) أصول الكافي طبع نول كشور. [ص:278].

السيدة زينب رضي الله عنها

ولا يجوز القول بأن القرآن الكريم وصف بنات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ببنات النبي - صلى الله عليه وسلم - مجازا. فإن المجاز لا اعتبار له إزاء الحقيقة، وكذلك لا قيمة للقياس البشري أمام المنطوق الإلهي. هذا ونطاق اللغة العربية متسع جدا. فلبنات الأزواج فيها لفظ مستقل، وقد استعمل القرآن نفسه لمثل هذه البنات كلمة الربائب (¬1). ولم يستعمل لهن كلمة البنات، ونقول باختصار قول الله عز وجل "بناتك" قد أكد وأيد بحث وتحقيق علماء النسب. والآن نذكر أحوال بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة واحدة. 1 - السيدة زينب رضي الله عنها: ولدت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنة ثلاثين من مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتزوجت بأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بمكة. وأمه هالة بنت خويلد شقيقة لخديجة الكبرى وكان هذا الزواج في حياة خديجة رضي الله عنها. أسلمت زينب رضي الله عنها مع أمها، أما زوجها أبو العاص فقد تأخر إسلامه وكان ممن شهد بدرا مع كفار قريش، وأسره عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري، فأرسلت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفدائه تلك القلادة التي كانت خديجة قد أعطتها إياها في زواجها، وكان قد أبى أن يطلق زينب حين مشى إليه مشركو قريش في ذلك. فشكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصاهرته وأثنى عليه بذلك خيرا. وكان أبو العاص قد وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أفرج عنه في بدر بأنه سيخلي لزوجته زينب سبيلها إلى الهجرة، فهاجرت زينب ¬

(¬1) ربائب النبي - صلى الله عليه وسلم - هن درة وزينب وأم كلثوم بنات أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، وحبيبة بنت أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها. ولم تكن لإحدى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بنت من الزوج الأول غير هاتين الزوجتين. وتذكروا أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج أم سلمة رضى الله عنها سنة 4 هـ وتزوج أم حبيبة سنة 6 هـ، وعلى هذا فالبنات المذكورات لم تحصل لهن درجة الربيبة قبل سنة 4 هـ. أما السيدة زينب بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ذكرها ورد في فداء أسرى بدر التي وقعت سنة 2 هـ بحيث أن زينب كانت أرسلت العقد (الذي أعطتها إياه أمها خديجة) في فداء زوجها وكذلك ورد ذكر أم كلثوم ورقية بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحداث التي وقعت قبل الهجرة (في أعمال أبي لهب) وتوفيت البنات الثلاث في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. أما الربائب الوارد ذكرهن فقد عشن بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لفترة طويلة وأقمن ببيوتهن وتفصيل ذلك مذكور في أحوالهن.

إلى والدها الكريم، ولما خرجت من مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمد لها هبار بن الأسود (¬1) ورجل آخر فدفعها أحدهما فيما ذكروا فسقطت على صخرة فأسقطت جنينها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في مدحها: "هي أفضل بناتي أصيبت في" (¬2). وكان زوجها أبو العاص محبا لها فقد قال في مدحها: ذكرت زينب لما ركبت أرما ... فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما بنت الأمن جزاها الله صالحة ... وكل بعل سيثنى بالذي علما خرج أبو العاص سنة 6 هـ بتجارة إلى الشام وكانت قريش يومئذ في حرب مع المسلمين فلما انصرف قافلا لقيته جماعة فيهم أبو بصير (¬3) وأبو جندل وغيرهما من المسلمين الذين كانت أسرتهم قريش لإسلامهم، فانفلتوا منها ولجأوا إلى جبل على حدود الشام فأخذوا ما في تلك العير من الأموال وأسروا ناسا منهم وأفلتهم أبو العاص هربا، ووصل إلى المدينة مباشرة وفي وقت صلاة الفجر سمع المسلمون السيدة زينب تقول: "أيها الناس قد أجرت أبا العاص بن الرفيع، فلما سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة فقال: "هل سمعتم ما سمعت؟ " فقالوا: نعم قال: "أما والذي نفسي بيده ما علمت بشيء كان، حتى سمعت منه ما سمعتم أنه يجير على المسلمين أدناهم" ثم انصرف - صلى الله عليه وسلم - إلى ابنته فقال لها: "أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له" فقالت: إنه جاء في طلب ماله فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخطب في الناس فقال لهم: "إن هذا الرجل منا بحيث علمتم، وقد أصبتم له مالا، وهو مما أفاءه الله عز وجل عليكم، وأنا أحب أن تحسنوا وتردوا إليه ماله الذي له، وإن أبيتم فأنتم أحق به" فردوا عليه ماله، فاحتمل إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله. ثم قال: يا معشر قريش هل لأحد منكم مال لم يأخذه؟ قالوا: ¬

(¬1) كان هبار بن الأسود قد أسلم بعد الفتح وغفر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطأه هذا. (¬2) الزرقاني (3/ 195) رواية عن الطحاوي والحاكم. (¬3) كان أبو بصير قرشيا أسلم. وكانت قريش قد طالبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد أبا بصير إليهم فرده إليهم، فانفلت منهم في بعض الطريق ونزل عند أبي جندل. وحين أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي جندل أن يرد أموال أبي العاص كان أبو بصير في مرض الموت فأخذ رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأطبق عينيه وهو يقرأها ثم دفن بذلك الجبل. وكان أبو جندل من غزاة الشام.

جزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيا كريما. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام إلا تخوف أن تظنوا أني آكل أموالكم فلما أداها الله عز وجل إليكم أسلمت. ثم خرج حتى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلما وحسن إسلامه، ورد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنته عليه على النكاح الأول (¬1) بعد فراق دام ست سنوات. توفيت السيدة زينب سنة ثمان من الهجرة في المدينة المنورة، وقد روى عن أم سليط رضي الله عنها، وهي الصحابية الشجاعة كيفية غسلها في الصحيحين. وتوفي أبو العاص في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وكان يعرف بجرو البطحاء. وولدت السيدة زينب عليا وأمامة. وكان أبو العاص قد جعل عليا رضي الله عنه (وهو سبط الرسول) في قبيلة للرضاعة ثم استرجعه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد رضاعته ورباه في كنفه. وعلي رضي الله عنه هو الذي ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - على ناقته يوم الفتح. توفي وهو في عمر الشباب (¬2). وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد (¬3) قال أرسلت ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إن ابنا لي قبض فأتنا فأرسل يقرئ السلام ويقول: "إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب". فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال فرفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبي ونفسه تتقعقع (¬4). وهذا الحديث في الغالب في وفاة علي رضي الله عنه سبط الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أما أمامة فهي حفيدته التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبها وكان يحملها على عنقه في الصلاة كما جاء في صحيح مسلم وسنن النسائي وأبي داود، وقال عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنها أحب أهلي إلي. وكانت السيدة فاطمة البتول قد أوصت عليا رضي الله عنه بأن يتزوج أمامة، فتزوجها بناء على هذه الوصية، وكان علي قد أمر المغيرة بن نوفل بن الحارث عم ¬

(¬1) الاستيعاب (4/ 1702 - 1703). (¬2) الاستيعاب. (¬3) كتاب التوحيد. (¬4) كتاب التوحيد.

السيدة رقية رضي الله عنها

النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج أمامة زوجته بعده، فتزوجت المغيرة بإذن الحسن رضي الله عنه، فولدت أمامة للمغيرة ابنا اسمه يحيى. وقد انقرض نسله. 2 - السيدة رقية رضي الله عنها: هي ثانية بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولدت ورسول - صلى الله عليه وسلم - ابن ثلاث وثلاثين سنة. تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه (¬1) بمكة وكان شاع يومئذ بين ¬

(¬1) هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. (انظروا الرقم 5 من نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - جدته البيضاء أم حكيم عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحد العشرة الذين بشرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة بأسمائهم وأحد الستة الذين أوصى عمر رضي الله عنه بصلاحهم للخلافة. وقعت بيعة الرضوان (التي ورد ذكرها في القرآن) لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان وجه عثمان إلى مكة في أمر فلما أتاه الخبر الكاذب بأن عثمان قتل، جمع أصحابه فدعاهم إلى البيعة فبايعوه وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عثمان حينئذ بإحدى يديه على الأخرى، ولما رأى أحد الصحابة هذا المنظر الغريب قال: يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعثمان خير من يد عثمان لنفسه. كان عثمان سخيا وجوادا، وكان أكثر الصحابة جهادا بالمال فهو الذي اشترى نصف بئر رومة باثني عشر ألف درهم، ثم اشترى النصف الآخر بثمانية آلاف درهم وجعله وقفا للمسلمين. وهو الذي جهز جيش العسرة في غزوة تبوك بتسعمائة وخمسين بعيرا وأتم الألف بسبعين فرسا بعدتها وعتادها، وكان رئيس معسكر المسلمين في غزوة خيبر وكانت عليه مسئولية إبقاء قبائل غطفان بعيدة عن اليهود، وألا يمكنهم من الانضمام إليهم، استخلف عثمان يوم السبت في غرة محرم سنة 24 هـ واستشهد يوم الجمعة في 17 من ذي الحجة سنة 35 هـ في دار الهجرة بالمدينة المنورة جائعا عطشا. وكان عمره حين استشهد 78 سنة. ولما بلغ نبأ شهادته عليا رضي الله عنه في المسجد النبوي قال: تبا لكم آخر الدهر. ومن قول علي رضي الله عنه: من تبرأ من دين عثمان فقد تبرأ من الإيمان. (الاستيعاب). وكانت القبائل حديثة العهد بالإسلام في مصر وغيرها ممن كانوا قتلوا عثمان رضي الله عنه قد أرغموا عليا رضي الله عنه أن يبلغ عثمان رضي الله عنه مطالب الثوار فخطبهم علي رضي الله عنه وقال: "والله ما أدري ما أقول لك ما أعرف شيئا تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ولا خلونا بشيء فنبلغك هو، وقد رأيت كما رأينا وسمعت كما سمعنا وصحبت رسول الله كما صحبناه. وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب أولى بعمل الحق منك، وأنت أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشيجة رحم منهما وقد نلت من صهره ما لم ينالا، (نهج البلاغة [ص:135]) ط أتبريز 1267هـ). وعبد الله بن سلام الصحابي الذي أخبر القرآن عنه بأنه عالم الكتاب كان قد قال للفئة الباغية: إن قتلتم عثمان رضي الله عنه ضرب المسلمون بعضهم عنق بعض في الإسلام .. فلم يعيروا لقوله أهمية فوقعت في الإسلام حوادث فاجعة من جراء ذلك، فهتكت حرمة الخلافة والحرم النبوي والشهر الحرام ولم تبق حرمة ولا كرامة لأي أمر كبير في نظر الثوار، والبغاة. إنا لله وإنا إليه راجعون. =

الناس بمكة أن أحسن زوجين رآهما إنسان رقية وزوجها عثمان. وقد قالت سعدى بنت كرز العبشية الصحابية الأبيات التالية في هذا النكاح: هدى الله عثمان الصفي بقوله ... فأرشده والله يهدي إلى الحق فبائع بالرأي السديد محمدا ... وكان ابن أروى لا يصد عن الحق وأنكح المبعوث إحدى بناته ... فكان كبدر مازح الشمس في الأفق فداؤك يا ابن الهاشميين مهجتي ... فأنت أمين الله أرسلت في الخلق والسيدة رقية أول من هاجرت من النساء مع زوجها إلى الحبشة، وفتحت لكل مهاجر باب الهدى للأبد. روى الحاكم في منقبتهما حديثا جاء فيه: "إنهما لأول من هاجر بعد لوط وإبراهيم". أصابت رقية الحصبة سنة اثنتين من الهجرة فماتت. تخلف عليها عثمان بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي مريضة حين خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر ودفنت يوم جاء زيد بن حارثة بشيرا بما فتح الله عليهم ببدر وكانت في الحادية والعشرين حين وافتها المنية. ¬

= قتل عثمان رضي الله عنه رومان الشقي وهو من قبيلة المراد، ومن أهله أيضا كان ابن ملجم الشقي الذي قتل أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه. كان عثمان يتلو القرآن حين استشهد فسقطت قطرة أو قطرات من دمه على المصحف على قوله عز وجل {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} والتاريخ شاهد على صدق هذا الأمر. كان عثمان رضي الله عنه رجلا موفقا في إدارة أمور الخلافة. إن كل من يتلو القرآن اليوم يدين له، فإليه يرجع فضل جمع القرآن. في عصره اتسعت فتوحات الإسلام ففتحت خراسان وما وراء النهر وتركستان والسند وكابل شرقا، والسودان والإسكندرية والمغرب وتونس وطرابلس غربا. وهو أول من أنشأ الأسطول البحري، وأباد به أساطيل هرقل وفتح الجزر الكبرى مثل قبرص وكريت ومالطا وغيرها. قال كعب بن مالك شاعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأبيات التالية وغيرها في شهادة عثمان: يا قاتل الله قوما كان أمرهم ... قتل الإمام الزكي الطيب الرون ما قتلوه على ذنب ألم به ... إلا الذي نطقوا زورا ولم يكن وينتشر نسل عثمان رضي الله عنه في الهند وغيرها من الأقطار الإسلامية بكثرة فمن نسله خواجة جلال الدين باني بتي، والقاضي ثناء الله باني بتي، وشمس العلماء مولوى رحمت الله مهاجر (مؤلف إزالة الأوهام)، وشيخ الهند مولانا محمود الحسن وغيرهم كثيرون.

السيدة أم كلثوم رضي الله عنها

ولدت عبد الله، فعاش عبد الله سبط الرسول لعثمان سنتين بعد وفاة أمه ولما بلغ ست سنين، نقر عينيه ديك فتورم وجهه ومرض ومات (¬1). 3 - السيدة أم كلثوم رضي الله عنها: هي ثالثة بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها عثمان رضي الله عنه في سنة ثلاث من الهجرة ولذلك لقب بذي النورين فقد تزوج بابنتي خاتم المرسلين واحدة بعد الأخرى. دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان رضي الله عنه يوم زواجه بأم كلثوم وقال: "هذا جبريل، يقول: أمرني الله بأن أزوجك ابنتي الثانية" (¬2). وكان عثمان حين توفيت رقية قد عرض عليه عمر بن الخطاب حفصة ابنته ليتزوجها فسكت عثمان عنه وعبر عمر رضي الله عنه عن أساه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أدل عثمان على من هو خير له منها وأدلها على من هو خير لها من عثمان". وبعدها نالت حفصة بنت الفاروق لقب أم المؤمنين ونال عثمان رضي الله عنه لقب ذي النورين. لم تلد السيدة أم كلثوم وتوفيت في السنة التاسعة للهجرة وأتم مراسم دفنها علي رضي الله عنه والفضل بن عباس وأسامة بن زيد رضي الله عنهم. وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل في حفرتها وجلس على قبرها. 4 - فاطمة عليها السلام: هي أصغر بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بطن خديجة الكبرى. ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). حين كانت السيدة فاطمة طفلة ذهب ¬

(¬1) الاستيعاب (4/ 1840). (¬2) نقلا عن إزالة الخفاء بتصرف ([ص:223]). (¬3) الاستيعاب (4/ 1893). وليعلم أن الشيخ محمدا الكليني قد ذكر في كتابه "أصول الكافي" أن ولادة السيدة فاطمة رضي الله عنها كانت في سنة 5 من النبوة وكان عمرها حين ماتت 18 سنة و75 يوما. أي بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - 75 يوما. وذكر أن ولادة الإمام الحسن كانت في سنة 2 هـ. وعلى هذا كان عمر السيدة فاطمة رضي الله عنها وقت ولادة الإمام الحسن عشر سنوات. وإذا فرضنا ولادة الإمام الحسن في سنة 3 هـ كما هو مذكور في رواية أخرى من هذا الكتاب فإن عمرها كان إحدى عشرة سنة. ولهذا رجحت رواية الاستيعاب. وقد ذكر المدائني أن ولادة السيدة فاطمة رضي الله عنها كانت قبل النبوة بخمس سنوات وأن عمرها وقت الوفاة كان 29 سنة.

النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة في الكعبة وكان هناك كثير من كفار قريش، وبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجد جاء عقبة بن أبي معيط بشيء فقذفه على ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يرفع رأسه فجاءت فاطمة فأخذته عن ظهره ودعت على عقبة (¬1). وكان زواج علي المرتضى بالسيدة فاطمة بعد غزوة بدر وقبل غزوة أحد. شهدت فاطمة أحدا ولما شاع في المدينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استشهد أتت فاطمة إلى ميدان القتال، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج من الغار فغسلت فاطمة جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما رأت أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فأنضفتها فاستمسك الدم (¬2). وعن عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد فاطمة وهي مريضة فقال لها: "كيف تجدينك؟ " قالت: إني لوجعة وإنه ليزيدني أني ما لي طعام آكله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا بنية أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين. قالت: يا أبت أين مريم بنت عمران؟ قال: "تلك سيدة نساء عالمها، وأنت سيدة نساء عالمك. أما والله لقد زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة". وعن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم يأتي بيت فاطمة ثم يأتي أزواجه. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سيدات نساء أهل الجنه بعد مريم بنت عمران فاطمة وخديجة ثم آسية بنت مزاحم امرأة فرعون". وعن عائشة أم المؤمنين قالت: ما رأيت أحدا كان أشبه كلاما وحديثا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فاطمة وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها ورحب بها كما كانت تصنع هي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: ما رأيت أحدا كان أصدق لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي ولدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) صحيح البخاري باب ما لقي النبي وأصحابه من المشركين. (¬2) صحيح مسلم: باب غزوة أحد.

وعن جميع بن عمير الصحابي قال: سألت عائشة أي الناس أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: فاطمة. قلت: فمن الرجال؟ قالت: زوجها إن كان ما علمته صواما قواما (¬1). وعن أسماء بنت عميس أن فاطمة رضي الله عنها قالت لها: يا أسماء إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء في الجنازة إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها فقالت أسماء: ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجرائد رطبة فجنتها ثم طرحت عليها ثوبا. فقالت فاطمة رضي الله عنها: ما أحسن هذا وأجمله تعرف به جنازة المرأة من جنازة الرجل فإذا أنا مت فاغسليني أنت وعلي ولا تدخلي علي أحدا. توفيت السيدة فاطمة ليلة ثلاث من رمضان سنة إحدى عشرة من الهجرة وطبقا لوصيتها غسلتها أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه (¬2) وصلى عليها العباس أو علي رضي الله عنهما وكانت أول لحوقا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل البيت. واختلف في عمرها وقت وفاتها فذكر الزبير بن بكار أن عبد الله بن الحسن بن الإمام الحسن دخل على هشام بن عبد الملك وعنده الكلبي فقال هشام لعبد الله بن الحسن: يا أبا محمد كم بلغت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عمرها؟ فقال: ثلاثين سنة. فقال هشام للكلبي: كم بلغت من عمرها؟ فقال: خمسا وثلاثين سنة. فقال هشام لعبد الله ابن الحسن: يا أبا محمد اسمع الكلبي يقول ما تسمع وقد غبن بهذا الشأن فقال عبد الله بن الحسن: يا أمير المؤمنين سلني عن أمي وسل الكلبي عن أمه. وعن عائشة قالت: دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة ابنته في شكواه التي قبض فيها فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها فضحكت، قالت: فسألتها عن ذلك فقالت: سأرني النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته أتبعه. فضحكت (¬3). ¬

(¬1) إن قول عائشة "إن كان ما علمته" الوارد في سنن الترمذي يدل على أن هذه المحادثة كانت بعد وفاة علي رضي الله عنه. انظروا إلى أم المؤمنين كيف تذكر للسائل فضائل السيدة فاطمة وعلي رضي الله عنهما وتظهر له أنهما أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) الاستيعاب (4/ 1862). ورد أن سلمة خادمة الرسول مولاة صفية بنت عبد المطلب كانت أيضا ضمن من أشرفوا على تغسيل السيدة فاطمة رضي الله عنها. (¬3) صحيح البخاري: باب مناقب فاطمة رضي الله عنها.

وقالت فاطمة الأبيات التالية في وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... وغاب مذ غبت عنا الوحي والكتب فليت قبلك كان الموت صادفنا ... لما نعيت وحالت دونك الكتب (¬1) وقد امتازت فاطمة بين أخواتها بأن استمر نسلها، وفيهم كانت الأئمة العظام الذين علت مكانتهم في الإسلام. ولدت فاطمة الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب وقد سبق ذكر أحوال الحسن والحسين. أما السيدة أم كلثوم بنت فاطمة فتزوجها عمر بن الخطاب وكان مهرها أربعين ألف دينار. ولدت لعمر بن الخطاب زيد بن عمر الأكبر ورقية ولما توفي عنها عمر، تزوجها بعده عون بن جعفر الطيار، توفيت أم كلثوم بنت علي المرتضى وابنها زيد بن عمر في وقت واحد، وكان زيد قد أصيب في نزاع بين بني عدي، وكان قد خرج ليصلح بينهم فضربه رجل منهم في ظلام الليل دون أن يعرفه فشجه وصرعه فعاش أياما ثم مات. وأما السيدة زينب بنت فاطمة فتزوجها عبد الله بن جعفر الطيار وكانت مع أخيها الإمام الحسين عليه السلام في كربلا. ولما أسر الحسن تحملت الشدائد بصبر وصمود واحتضنت أهل بيته، وردت أعداءه بالمثل، استشهد ولدها عدي بن عبد الله بن جعفر أيضا في ميدان كربلا. وقد زاد بعض الناس في أولاد فاطمة سيدة النساء فذكروا المحسن ورقية ولم يذكرهما معظم المؤرخين. والذين زادوا هذه الأسماء اعترفوا بأن المحسن ورقية مات كل واحد منهما صغيرا فلم يعرف عنهما شيئ في التاريخ. وقد اختلف في قبر فاطمة أيضا (¬2). فذكر بعض الناس أنها دفنت في بيتها وضم هذا المكان إلى المسجد النبوي بعد ما تم توسيعه وهذا ما ذكره الشيخ الكليني في "أصول الكافي". وقد ذهب أكثر المؤرخين إلى أن قبرها في البقيع. ويوجد بجوارها أيضا قبر الإمام ¬

(¬1) من كتاب حسن الصحابة. (¬2) من أراد التوسع في هذا البحث فليراجع كتابي "سفر نامه حجاز".

الحسن والإمام زين العابدين والعباس عم الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وذكر المسعودي في "مروج الذهب" أنه وجد في البقيع سنة أربع وثلاثمائة من الهجرة حجرا مكتوب عليه: هذا قبر فاطمة بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ـ[الأحاديث]ـ: 1 - روى الإمام النسائي حديثا عن ثوبان رضي الله عنه ما يوضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مرة على فاطمة رضي الله عنها فوجدها ترى هند بنت هبيرة سلسلة من ذهب لها، وتقول هذه أهداها إلي أبو الحسن فلما رأى النبي ذلك رجع ولم يقعد عندها فأرسلت فاطمة بالسلسلة إلى السوق فباعتها واشترت بثمنها غلاما فأعتقته فحدث بذلك فقال: "الحمد الله الذي أنجى فاطمة من النار". 2 - روت فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد صلى على محمد وقال: "رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك" وإذا خرج صلى على محمد وقال: "رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك" (بدلا من رحمتك) رواه الترمذي وقال ليس إسناده بمتصل لأن فاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى. 3 - وفي حديث صحيح روي في الصحاح جميعها ما عدا النسائي أن عليا قال يوما لابن عبد الواحد: ألا أحدثك عن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت من أجد أهله إليه، قلت: بلى، قال علي رضي الله عنه: إنها جرت بالرحى حتى أثر في يدها، واستقت بالقربة حتى أثر في نحرها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - خدم، فقلت: لو أتيت أباك فسألته خادما فأتته فوجدت عنده حداثا فرجعت فأتاها من الغد فقال: "ما كان حاجتك؟ " فسكتت فقلت: أنا أحدثك يا رسول الله جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، وحملت بالقربة حتى أثرت في نحرها، فلما أن جاءك الخدم أمرتها أن تأتيك فتستخدمك خادم يقيها حرما هي فيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اتقي الله يا فاطمة وأدي فريضة

أبناء فاطمة رضي الله عنها

ربك واعملي عمل أهلك فإذا أخذت مضجعك فسبحي ثلاثا وثلاثين واحمدي ثلاثا وثلاثين وكبري أربعا وثلاثين فتلك مائة فهي خير لك من خادم (¬1) " قالت فاطمة رضي الله عنها: رضيت عن الله وعن رسوله، وقال علي: ولم يخدمها. هذا الحديث يدل على اقتصاد أسرة علي وزهد فاطمة ورضاها عن الله والرسول، وبراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبراءة أهله من الدنيا وزخارفها. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما تحب وترضى له. 4 - وهناك حديث آخر رواه ابن عدي والبيهقي عن أنس مرفوعا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يافاطمة من يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله". أبناء فاطمة رضي الله عنها 1 - الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما: سبط النبي - صلى الله عليه وسلم - ولدته أمه فاطمة في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، واسم قابلته سودة بنت مسرح الكندية، وعق عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم سابعه، بكبش وحلق رأسه، وأمر أن يتصدق بزنة شعره فضة. وعن علي رضي الله عنه قال: كان الحسن أشبه الناس برسول الله ما بين الصدر إلى الرأس والحسين أشبه الناس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان أسفل من ذلك. وتواترت الآثار الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في شأن الحسن بن علي: "إن ابني هذا سيد، وعسى الله أن يبقيه حتى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". وقد روى الإمام أحمد في "مسنده" دعاء القنوت عن الإمام الحسن رضي الله عنه قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من ¬

(¬1) كلمة الخادم في اللغة العربية تشمل الذكر والأنثى والمراد هنا الخادمة.

واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت وصلى الله على النبي" وفي رواية الحاكم: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وتري. قال الإمام الترمذي: ولا نعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت في الوتر شيئا أحسن من هذا. وكان الإمام الحسن من المبادرين إلى نصرة عثمان، والذابين عنه. ولما قتل أبوه علي رضي الله عنه بايعه أكثر من أربعين ألفا من الشجعان، وكلهم ممن كانوا بايعوا أباه عليا على الموت. وكانوا من قبل أطوع وأحب للحسن، فبقى نحوا من أربعة أشهر خليفة بالعراق وما وراء خراسان. ثم سار إلى معاوية وسار معاوية إليه. فلما تراءى الجمعان، رق قلب الحسن فقد علم أنه لن تغلب إحدى الفئتين حتى تذهب أكثر الأخرى، فكتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه، على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشيء كان في أيام أبيه، وبعد مراسلات ومناقشات سلم الإمام الحسن رضي الله عنه الخلافة إلى معاوية وكان ذلك في الجامع المسجد بالكوفة في شهر جمادي الأول سنة 41 هـ. وفي الكوفة أتى الحسن شيخ من الكوفة يسمى أبا عامر سفيان بن ليلى فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين. فقال: لا تقل هذا يا أبا عامر فإني لم أذل المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلهم في طلب الملك. وذهب الحسن إلى المدينة المنورة، وحين مرض قال: لقد سقيت السم مرارا، وما سقيته مثل هذه المرة، لقد لفظت طائفة من كبدي، فرأيتني أقلبها بعود معي. فقال له الإمام الحسين: يا أخي! من سقاك؟ قال: وما تريد إليه! أتريد أن تقتله؟ قال: نعم. قال: لئن كان الذي أظن فالله أشد نقمة، ولئن كان غيره ما أحب أن تقتل بي بريئا. حفظ الإمام الحسن بن علي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث رواها عنه، منها حديث دعاء القنوت، ومنها: "إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة". وقد روى الإمام أحمد والترمذي والدارمي والنسائي عن الحسن مرفوعا: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة".

وروي أن الحسن بن علي لما حضرته الوفاة قال للحسين أخيه: قد كنت طلبت إلى عائشة إذا مت أن تأذن لي فأدفن في بيتها مع رسول الله. فقالت: نعم. وإني لا أدري لعل ذلك حياء منها، فإذا أنا مت فاطلب ذلك إليها فإن طابت نفسها فادفني في بيتها. وما أظن القوم إلا سيمنعونك إذا أردت ذلك، فإن فعلوا فلا تراجعهم في ذلك وادفني في بقيع الغرقد. فلما مات الإمام الحسن أتى الحسين عائشة فطلب ذلك إليها فقالت: نعم وكرامة. فبلغ ذلك مروان، فقال: كذب وكذبت، والله لا يدفن هناك أبدا، منعوا عثمان من دفنه في المقبرة ويريدون دفن الحسن في بيت عائشة (¬1). وهكذا مات الإمام الحسن في ربيع الأول سنة 59 هـ وهو في السادسة والأربعين، ودفن في جنب والدته (¬2). وفي حديث أبي بكرة في ذلك: "وإنه ريحانتي من الدنيا" (¬3). وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أنه قال في الحسن والحسين: "إنهما سيدا شباب أهل الجنة" وقال: "اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما" (¬4). ويذكر العلامة ابن القيم حكاية عن رأي شرعي للإمام حسن رضي الله عنه في إحدى القضايا: أنه أتى برجل وجد في خربة بيده سكين متلطخ بدم وبين يديه قتيل يتشحط في دمه. فسأله علي رضي الله عنه فقال: أنا قتلته، قال: اذهبوا به فاقتلوه. فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعا، فقال: يا قوم! لا تعجلوا، ردوه إلى علي، فردوه. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه، أنا قتلته. فقال علي للأول: ما حملك على أن قلت: أنا قاتله ولم تقتله؟ قال: يا أمير المؤمنين! وما أستطيع أن أصنع؟ وقد وقف العسس على ¬

(¬1) يظهر من قول مروان أن الظلم الذي تعرض له عثمان رضي الله عنه من قبل الثوار والبغاة شارك فيه أهل البيت أيضا، وهذا بهتان عظيم ويبدو أن هؤلاء الظلمة اتخذوا اسم عثمان الكريم جنة لإخفاء أعمالهم السيئة. وإلا ما كانوا من عثمان في شيء. (¬2) الاستيعاب (1/ 389). (¬3) الاستيعاب (1/ 385). (¬4) روى الإمام ابن عبد البر كلا الحديثين في كتابه "الاستيعاب".

أولاد الإمام الحسن عليه السلام

الرجل يتشحط في دمه، وأنا واقف وفي يدي سكين وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خربة، فخفت أن لا تقبل مني، وأن يكون قسامة فاعترفت بما لم أصنع. واحتسبت نفسي عند الله. فقال علي: بئسما صنعت، فكيف كان حديثك؟ قال: إني رجل قصاب خرجت إلى حانوتي في الغلس، فذبحت بقرة وسلختها، فبينما أنا أصلحها والسكين في يدي أخذني البول، فأتيت خربة كانت بقربي فدخلتها، فقضيت حاجتي، وعدت أريد حانوتي، فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه. فراعني أمره فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي فلم أشعر إلا بأصحابك، قد وقفوا علي فأخذوني فقال الناس: هذا قتل هذا، ما له قاتل سواه، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي، فاعترفت بما لم أجنه، فقال علي للمقر الثاني: فأنت كيف كانت قصتك؟ فقال: أغواني إبليس، فقتلت الرجل طمعا في ماله، ثم سمعت حس العسس، فخرجت من الخربة، واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصف فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس، فأخذوه وأتوك به. فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضا، فاعترفت بالحق. فقال الحسن: ما الحكم في هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين إن كان قد قتل نفسا فقد أحيا نفسا وقد قال الله تعالى: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}. (سورة المائدة: 32) فخلى علي عنهما وأخرج دية القتيل من بيت المال (¬1). أولاد الإمام الحسن عليه السلام كان له ـ[اثنا عشر ابنا]ـ هم: زيد والحسن المثنى والحسين وطلحة وإسماعيل وعبد الله وحمزة ويعقوب وعبد الرحمن وعبد الله أبو بكر والقاسم وعمر. وكانت له ـ[خمس بنات]ـ هن: فاطمة وأم سلمة وأم عبد الله وأم الحسين رملة وأم الحسن. واستمر نسل الإمام الحسن من خلال أبنائه الأربعة زيد والحسن المثنى والحسين الأثرم وعمر. فانقرضت أولاد الحسن وعمر، ولا يوجد في العالم اليوم إلا أولاد زيد والحسن. واستشهد من أولاده عمر والقاسم وعبد الله في كربلا. ¬

(¬1) ابن قيم الجوزية. "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية" طبع مطبعة الآداب بمصر. [ص:56].

(ألف) ـ[زيد بن الحسن عليه السلام]ـ (المتوفي سنة 120 هـ): أمه فاطمة بنت أبي مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري. وكان أبو محمد الحسن بن زيد أميرا على المدينة في حكومة المنصور. والسيد محمد كيسودراز خليفة الخواجة نصير الدين جراغ الدهلوي من أولاد زيد بن الحسن؛ يوجد ضريحه في كلبركة (الهند). (ب) ـ[حسن المثنى بن الحسن عليه السلام]ـ (المتوفي سنة 97 هـ): أمه خولة بنت منظور ابن ريان بن عمرو بن جابر بن عقيل بن مازن بن فزارة وهو الذي كان يقوم على صدقات علي رضي الله عنه. شهد كربلا فجرح جرحا شديدا ولما انتهت الحرب وجده الناس مشرفا على الموت فاستأذنت أسماء بن خارجة الفزاري من ابن سعد فعالجته فبرأ. تزوج فاطمة أخت الإمام الحسن، فولدت له إبراهيم الغمر والحسن المثلث وعبد الله المحض - وهؤلاء الثلاثة هم أول من كانوا فاطمي الطرفين، نسبا ولا يوجد هذا الشرف في أحد غيرهم - وكذلك ولدت له زوجته الرومية ابنين آخرين داود وجعفر: كان عبد الله المحض يلقب بشيخ بني هاشم وكان له خمسة أولاد: محمد ذي النفس الزكية وإبراهيم وموسى الجون ويحيى وسليمان وإدريس. فمحمد ذو النفس الزكية هو الذي كان ادعى الخلافة، وكان الإمام مالك قد أفتاه برفاقته. وكان إبراهيم بن عبد الله المحض أيضا قد ادعى الخلافة، فأمده الإمام أبو حنيفة بأربعة آلاف درهم واشتهر من نسله الحسن ابنه وعبد الله حفيده وله ذرية. وقد كثرت ذرية موسى الجون بن عبد الله المحض أيضا وإليه يرجع نسب الشيخ الجليل إمام الأولياء أبو صالح سيدي الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله (¬1). ¬

(¬1) يحسب عام ولادته من حساب حروف كلمة "عاشق" (471) وسنين حياته من حساب حروف كلمة "كامل" (91) وعام وفاته من حساب حروف كلمة "معشوق إلهي" (562). كان حنبليا، حكيت عنه روايات كثيرة متواترة تدل على كراماته، ينتهي إليه النسب القادري. ما وجدنا من مؤلفاته إلا قليلا. ذكر السيد عبد الوهاب الشعراني أن الشيخ عبد القادر الجيلاني قال: تراءى لي نور عظيم ملأ الأفق ثم تدلى فيه صورة تناديني يا عبد القادر! أنا ربك وقد حللت لك الحرمات. فقلت: اخسأ يا لعين، فإذا ذلك النور ظلام وتلك الصورة دخان ثم خاطبني ... يا عبد القادر نجوت مني بعلمك بأمر ربك وفقهك في أحوال منازلاتك ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق فقلت: لله الفضل. فقيل له: كيف علمت أنه شيطان؟ قال: بقوله قد حللت لك الحرمات. (لواقح الأنوار في طبقات الأخيار لعبد الوهاب الشعراني [ص:127]). وذكر الشعراني نسبه فقال: الشيخ عبد القادر بن موسى بن عبد الله بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن بن علي المرتضى رضي الله عنه (المؤلف).

الإمام الحسين بن علي سبط الرسول - صلى الله عليه وسلم -

لقب إبراهيم بن الحسن المثنى بالغمر لجوده ويكنى أبا إسماعيل، توفي سنة خمس وأربعين ومائة من الهجرة وهو ابن تسع وستين سنة. بدأ نسله من إسماعيل الديباج الذي يكنى أبا إبراهيم ويلقب بالشريف الخاص. بدأ نسل ابنه الحسن من ولديه: التنج وإبراهيم الطباطبا ابني الحسن، وكثر نسلهم، وإليه ينتهي نسب سادات بني معية ويوجد أولاد السيد عماد الدين محمد بن حسين بن قريش من بني معية في مدينة دهلي بالهند. يكنى الحسن المثلث بن الحسن المثنى أبا علي. وتوفي سنة خمس وأربعين ومائة من الهجرة، وله ذرية. داود بن الحسن المثنى أمه رومية. وكان هو والإمام جعفر الصادق أخوين من الرضاعة وهو الذي تولى صدقات علي رضي الله عنه. بدأ نسله من سليمان بن داود، وأم سليمان هي أم كلثوم بنت الإمام زين العابدين. استمر نسل سليمان من أبنائه الأربعة موسى وداود وإسحاق والحسن. يكنى جعفر بن المثنى أبا الحسن، توفي سنة سبعين من الهجرة، وكان ابنه الحسن الذي بدأ نسله من عبد الله وجعفر الملقب بالغدار ومحمد الشيلق ويوجد هذا النسل في قزوين وراوند ومراغة. 2 - الإمام الحسين بن علي سبط الرسول - صلى الله عليه وسلم -: هو الأخ الأصغر للإمام الحسن عليه السلام، ولد بالمدينة المنورة لخمس من شعبان سنة أربع من الهجرة، قال الواقدي وآخرون: استقر الحسين عليه السلام برحم أمه بعد مولد الحسن بخمسين ليلة. وروى الإمام جعفر الصادق عن أبيه قوله: لم يكن بين الحسن والحسين إلا طهرا واحدا (¬1). وفي رواية لمصعب الزبيري أن الحسين بن علي حج خمسا وعشرين حجة ماشيا وهذه رواية الاستيعاب. وفي "الكافي": حج الإمام الحسن عشرين حجة. وقد صحت عندي كلتا الروايتين الواردتين في الإمام الحسن والحسين. وصورة الجمع بينهما ¬

(¬1) إن قوله "لم يكن بين الحسن والحسين إلا طهرا واحدا" يدل على خطأ القول الشائع من أن الإمام الحسين كان لبث في بطن أمه ستة أشهر وذلك لأنه قد تعين تاريخ الحمل ..

أنهما حجا عشرين حجة معا ثم حج الحسين خمس حجات وكانت في الغالب بعد وفاة الحسن. وعن معاوية بن أبي مزرد عن أبيه قال سمعت أبا هريرة يقول: أبصرت عيناي هاتان، وسمعت أذناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بكفي الحسين وقدماه على قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "ترق عين بقة" قال: فرقى الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال له رسول - صلى الله عليه وسلم -: "افتح فاك - فقبله، ثم قال - اللهم أحبه فإني أحبه". وقد حدث الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". وعن الإمام الحسن رضي الله عنه قال: سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصافا عن حلية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر. قال الحسن فكتمتها الحسين زمانا ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه (¬1). وروى الإمام أحمد في "مسنده" وأبو داود في "سننه" عن الحسين مرفوعا: "إن للسائل حقا وإن جاء على فرس". وكان الإمام الحسين شاعرا، قال الأبيات التالية في زوجته الرباب بنت امرئ القيس الكلبي (¬2) وبنته ¬

(¬1) شمائل الترمذي ([ص:13]، 14). (¬2) روى صاحب الأغاني عن عوف بن خارجة المري أنه بينما كنت عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، إذ أقبل رجل أفحج أجلح أصفر، يتخطى رقاب الناس، حتى قام بين يدي عمر فحياه بتحية الخلافة، فقال له عمر: فمن أنت؟ قال: أنا امرؤ نصراني، أنا امرؤ القيس بن عدي الكلبي؛ فلم يعرفه عمر، فقال له رجل من القوم: بلى هذا صاحب بكر بن وائل الذي أغار عليهم في الجاهلية يوم فلج. قال فما تريد؟ قال: أريد الإسلام. فعرضه عليه عمر رضي الله عنه فقبله، ثم دعا له برمح فعقد له على من أسلم بالشام من قضاعة، فأدبر الشيخ واللواء يهتز على رأسه، فوالله ما رأيت رجلا لم يصل لله عز وجل ركعة فقط، أمر على جماعة من المسلمين قبله، ونهض =

سكينة (¬1) التي ولدت من بطن الرباب: لعمرك إني لأحب أرضا ... تحل بها سكينة والرباب أحبهما وأبذل جل مالي ... وليس لعاتب عندي عتاب فلست لهم وإن غابوا مضيعا ... حياتي أو يغيبني التراب كأن الليل موصول بليل ... إذا زارت سكينة والرباب (¬2) وكانت الرباب التي قيلت هذه الأشعار في مدحها وفية للحسين محبة له إذ لم تنكح أحدا غيره بعد شهادته رغم تقدم الكثير من الناس لخطبتها. روى صاحب الأغاني بسند متصل الأبيات التالية التي قالتها بعد شهادته: إن الذي كان نورا يستضاء به ... بكربلا قتيل غير مدفون سبط الرسول جزاك الله صالحة ... عنا وجنبت خسران الموازين قد كنت لي جبلا صعبا ألوذ به ... وكنت تصحبنا بالرحم والدين من لليتامى ومن للسائلين ومن ... يعنى ويأوي إليه كل مسكين والله لا أبتغي صهرا بصهركم ... حتى أغيب بين الرمل والطين كانت شهادة الإمام يوم الجمعة لعشر خلت من المحرم يوم عاشوراء التي يطلق عليها أيضا الطف. إنا لله وإنا إليه راجعون. {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (...) فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم ¬

= علي بن أبي طالب من المجلس ومعه ابناه حسن وحسين رضي الله عنهم حتى أدركه فأخذ بثيابه، فقال له: يا عم، أنا علي بن أبي طالب، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصهره وهذان ابناي من ابنته، وقد رغبنا في صهرك فأنكحنا. فقال: قد أنكحك يا علي المحياة وأنكحتك يا حسن سلمى وأنكحتك يا حسن الرباب. وهكذا تزوج الإمام الحسين الرباب. (مختار الأغاني لمحمد بن منظور الإفريقي المصري 5/ 247، 248). (¬1) سكينة على صيغة التصغير إسمها أميمة أو أمينة. تزوجت أزواجا فتزوجها عبد الله بن الحسن بن علي رضي الله عنه ثم تزوجها مصعب بن الزبير وأصدقها ألفا. وليس صحيحا أن سكينة ماتت في سجن الشام وهي صغيرة. (¬2) الأبيات الثلاث الأول نقلا عن "الأغاني" والبيت الرابع من "روض الأنف" للسهيلي.

الإمام زين العابدين رضي الله عنه

يحزنون (...) يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (...) الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم}. (سورة آل عمران: 169 - 172). وقد كنت كتبت مقالا حول واقعة كربلا وأردت أن أضمه إلى هذا الكتاب ولكن اقترح على أصدقائي نشره على حدة ليصل إلى أيدي الكثير من القراء لقلة ثمنه. وقد ذكرت في هذا المقال الأحداث بعد تحقيقها، والتأكد من صحة كل ما ذكرت بدقة كما ذكرت نصوص الرسائل الأصلية، وحققت أسماء الشهداء وقبائلهم. الإمام زين العابدين رضي الله عنه اسمه علي ولقب بزين العابدين والسجاد وذي الثقتات لكثرة عبادته. كان ابن ثلاث وعشرين سنة حين وقعت كربلا. ولد سنة ثمان وثلاثين من الهجرة وتوفي سنة خمس وتسعين من الهجرة. واسم أمه يزدجر كانت قد أسرت في خلافة عمر الفاروق. واستمر نسله من أبنائه الستة: محمد الباقر وعبد الله الباهر وزيد الشهيد وعمر الأشرف وحسين الأصغر وعلي الأصغر. وكانت له بنتان: أم كلثوم وخديجة. أما أم كلثوم فتزوجها داود بن الحسين المثنى، وولدت له سليمان، واستمر نسل سليمان من داود وإسحاق والحسن. وأما خديجة فتزوجها محمد بن عمر بن علي المرتضى، وولدت له عبد الله وعبيد الله وعمر واستمر نسله. ـ[عبد الله الباهر بن زين العابدين]ـ: هو شقيق الإمام الباقر. استمر نسله من محمد الأرقط. كان له ابن واحد هو إسماعيل، وكان لإسماعيل ابنان الحسن ومحمد وتوجد هذه الذرية في الري وقم وجرجان. ـ[زيد الشهيد بن الإمام زين العابدين]ـ: كانت أمه جارية ادعى الخلافة في عصر حكومة هشام، فبايعه أناس كثيرون، ومن الكوفة وحدها خمسة آلاف بالإضافة إلى من بايعه من المدائن والبصرة وواسط والموصل وخراسان والري وجرجان، فلما زحف إليهم يوسف الثقفي بجيشه فروا عنه، فقال لهم الإمام الشهيد: رفضونا اليوم، ومنذ ذلك اليوم شاعت كلمة الرافضي. استشهد لخمس عشرة ليلة خلت من صفر المظفر سنة إحدى

وعشرين ومائة من الهجرة بسهم أصابه في هذه الحرب. كان له أربعة بنين وهم يحيى الذي استشهد وهو ابن ثماني عشرة سنة، وأما الثلاثة الباقين الحسين ذي الدمعة، وعيسى موتم الأشبال (¬1). ومحمد، فقد تركوا من بعدهم ذرية. أما الحسين ذو الدمعة فتوفي سنة خمس وثلاثين ومائة من الهجرة. ويوجد له نسل كثير في كيتهل، وسنبهل وغيرها وهؤلاء يسمون بالترمذي. وأما عيسى موتم الأشبال فاستمر نسله من أبنائه الأربعة أحمد وزيد ومحمد والحسين العصارة. وينتهي نسب السادات الاثنتى عشرة ببلكرام إلى محمد بن عيسى. وإلى هذا الأصل يرجع حسان الهند مير غلام علي ازاد البلكرامي، المتوفي سنة 1200 هـ. ـ[عمر الأشرف بن الإمام زين العابدين]ـ: هو شقيق زيد الشهيد بدأ نسله من علي الأصغر، كان له ثلاثة بنين: القاسم وعمر الشجري وأبو محمد الحسن. وله ذرية كثيرة. ـ[حسين الأصغر بن الإمام زين العابدين]ـ: اسم أمه الساعدة وكانت جارية. توفي سنة سبع وخمسين ومائة من الهجرة ودفن ببقيع الغرقد، استمر نسله من عبد الله وعبيد الله الأعرج وعلي وأبي محمد الحسن وسليمان وهو يوجد في الحجاز والعراق والشام والمغرب. ـ[علي الأصغر بن الإمام زين العابدين]ـ: استمر نسله من أفطس واستمر نسل أفطس من علي الحوري وعمر والحسين والحسن المكفوف وعبد الله الشهيد. ـ[الإمام الباقر رضي الله عنه]ـ: اسمه محمد ويلقب بالباقر ويكنى أبا جعفر. كان باقر العلوم، وافر الحلم، جليل القدر، وله في صحيح مسلم رواية عن جابر رضي الله عنه فيما يتعلق بالحج يستخرج منها نحو مائتي مسئلة. وله روايات كثيرة في الصحاح والسنن. ولد بالمدينة المنورة سنة سبع وخمسين من الهجرة، وتوفي سنة أربع عشرة ومائة، ودفن بجنة البقيع. كان ابن ثلاث سنوات حين وقعت كربلا. استمر نسله من الإمام جعفر الصادق ¬

(¬1) كان أهلك الأسد بيده فسمى "موتم الأشبال".

وحده. والدته أم عبد الله بنت الإمام الحسن رضي الله عنه. ـ[الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه]ـ اسمه جعفر ويلقب بالصادق ويكنى أبا عبد الله. والدته أم فروة بنت القاسم الفقيه حفيد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ووالدة أم فروة أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولذلك كان الإمام جعفر الصادق يفتخر ويقول: ولدني أبو بكر مرتين. وكان الإمام جعفر الصادق غزير العلم كريما، له مرويات وفتاوى في الدواوين والأحاديث والسنن، ولد سنة ثلاث وثمانين من الهجرة وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائه من الهجرة ودفن بالبقيع، واستمر نسله من أبنائه الخمسة موسى الكاظم، وإسماعيل، وعلي العريضي، ومحمد المأمون، وإسحاق. 1 - أما ـ[إسماعيل]ـ فهو أكبر أولاد أبيه وتعتقد الفرقة الإسماعيلية بإمامته بعد الإمام جعفر الصادق، وإليه ينتهي نسب آغا خان. استمر نسله من ابنيه محمد وعلي. 2 - استمر نسل ـ[علي العريضي]ـ بن الإمام جعفر الصادق من أبنائه الأربعة محمد وأحمد الشعراني والحسن وجعفر الأصغر. وله ذرية كثيرة. 3 - ـ[محمد المأمون]ـ: ادعى الخلافة فأسره مأمون الرشيد ثم أفرج عنه. استمر نسله من علي الخارجي والقاسمي والحسين. ويوجد معظم ذريته في مصر. 4 - ـ[إسحاق بن جعفر الصادق]ـ: يلقب بالمؤتمن ويكنى أبا محمد وهو شقيق الإمام موسى الكاظم وتعتقد فرقة من الشيعة بإمامته. واستمر نسله من أبنائه الثلاثة محمد والحسن والحسين. ـ[الإمام موسى الكاظم رضي الله عنه]ـ اسمه موسى ويلقب بالكاظم ويكنى أبا إبراهيم. وأمه حميدة وكانت جارية. ولد سنة ثمان وعشرين ومائة بالأبواء، وتوفي لست خلت من رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة ببغداد.

ولد ثلاثة وعشرين ابنا وسبعا وثلاثين بنتا. وكان أبناؤه عبد الرحمن وعقيل والقاسم ويحيى وداود لم يلدوا ولدا. وكانت لسليمان والفضل وأحمد أولاد إناث فقط. واختلف علماء النسب في أولاد الحسين وإبراهيم الأكبر وهارون وزيد والحسن. واستمر نسل علي وإبراهيم الأصغر والعباس وإسماعيل وإسحاق وحمزة وعبد الله وعبيد الله وجعفر. ـ[الإمام علي الرضا رضي الله عنه]ـ اسمه علي، ويلقب بالرضا ويكنى أبا الحسن. ولد سنة ثمان وأربعين ومائة من الهجرة، وتوفي في شهر صفر سنة ثلاث ومائتين من الهجرة وهو ابن خمس وخمسين سنة. ويوجد ضريحه في المشهد. استمرت ذريته من محمد الجواد وحده. ـ[الإمام محمد الجواد رضي الله عنه]ـ اسمه محمد ويلقب بالجواد ويكنى أبا جعفر. ولد في شهر رمضان سنة خمس وتسعين ومائة من الهجرة. وتوفي في آخر ذي القعدة سنة عشرين ومائتين من الهجرة في سرمن رأى وكان ابن خمس وعشرين سنة حين مات. استمر نسله من علي الهادي وموسى المبرقع. أما موسى المبرقع فاستمر نسله من ابنه أحمد، وهؤلاء يوجدون في ضواحي لكهنو، وخير آباد وسفيدون وباني بت وسامانة. ـ[الإمام علي النقي رضي الله عنه]ـ اسمه علي، ويلقب بالعسكري ويكنى أبا الحسن. توفي بغارسرمن رأى وقد بلغ من عمره إحدى وأربعين سنة وستة أشهر. ولد في النصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومائتين من الهجرة. وتوفي في ست وعشرين ليلة خلت من جمادى الأخرى سنة أربع وخمسين ومائتين من الهجرة، استمر نسله من ابنيه أبي عبد الله جعفر الكذاب والحسن العسكري.

وقد لقب أبو عبد الله بالكذاب لأنه ادعى الإمامة بعد وفاة أخيه الحسن العسكري وتسميه أولاده جعفر التواب ويسمون أنفسهم الرضوى. ويلقب أبو عبد الله بأبي الكرين أيضا والكر ستون قفيزا، ولقب به لأنه كان أبا لمائة وعشرين ولدا، توفي سنة إحدى وسبعين ومائتين من الهجرة. وقد استمر نسله من أبنائه الستة فحسب وهم إسماعيل الحريف ويحيى الصوفي وهارون وعلي المختار وإدريس والطاهر. أما إسماعيل الحريف ويحيى الصوفي فأولادهم موجودون في مصر. وقد اشتهر سادات أمروهة (بالهند) بكونهم من أولاد هارون بن جعفر. وأما علي المختار فمن أولاده سادات بهكر. وإليه ينتهي نسب الخواجة قطب الدين البختيار كاكي المتوفي سنة خمس وثلاثين وستمائة من الهجرة. واستمر نسل إدريس بن جعفر من القاسم وتسمى أولاده بالقواسم. ـ[الإمام الحسن العسكري رضي الله عنه]ـ اسمه الحسن ويلقب بالعسكري ويكنى أبا محمد ولد في شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومائتين من الهجرة. وتوفي في ثمان خلت من ربيع الأول سنة ستين ومائتن من الهجرة بسرمن رآى. واسم والدته حديث وكانت جارية. ولد له محمد المهدي في النصف من شهر شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين من الهجرة ثم غاب في سرمن رأى، وهو ابن أربع سنوات وتعتقد الفرقة الاثنا عشرية أنه حي، وتلقبه بالإمام المنتظر، وإمام الزمان ومهدي العصر. اللهم صل على محمد وآل محمد كما تحب وترضى له

الباب السابع

الباب السابع أمهات المؤمنين رضي الله عنهن •---------------------------------• "اللهم صل على محمد وأزواجه وذرياته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذرياته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" (¬1). قبل أن نتناول بالحديث موضوع أحوال أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لابد من إزالة الشبهات والظنون التي يثيرها النصارى حول تعدد الزوجات. والظاهر أن بحث قضية جواز التعدد وعدم جوازه لا يمكن إلا من ناحيتين: 1 - الناحية القانونية (الشرعية). 2 - الناحية الدينية. أما من الناحية القانونية: فإن القانون يحكم في هذه القضية لأوربا غير حكمه فيها لآسيا. فالمحاكم العليا في الهند كلها تعترف بصحة وجود أكثر من زوجة في القوانين الجنائية والمدنية، كما أنها تعترف بحقوق زوجتين أو أكثر في القضايا المتعلقة بالأملاك وتصدر قرارها على أنهن من الورثة الشرعيين لأزواجهن. كما أن المحاكم العليا طبقا للمادة 494 من قانون العقوبات الهندي تعتبر المرأة التي تكون زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة آثمة، إذا ما تزوجت شخصا آخر في مكان آخر، كما تعتبر الشخص الذي يتزوج بها آثما أيضا. وهذا القانون المتفق عليه المعترف به في المحاكم العالية الهندية يختلف تماما عن قانون إنجلترا المسمى تعدد الزوجات Polygamy. والنتيجة أن قانون المحاكم الهندية العادلة يميز آسيا عن أوربا. ومن هنا ثبت أنه لا يجوز أن يوجه اعتراض إلى مسئلة التعدد من الناحية القانونية أيضا (¬2). ¬

(¬1) هذه العبارات رواها البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه. (¬2) وينبغي أن نضم إلى ذلك المادة رقم (363) والمادة رقم (366) والمادة رقم (498) المتعلقة بالمرأة المتزوجة. ولا يصح أن يقال في جوابنا أن المحاكم الهندية قد اتبعت في هذا الأمر العادات والتقاليد الهندية. لأن المشرعين لدينا لو اعتبروا التعدد هادما للأخلاق لمنعوه تماما حتى لو كانت العادات تؤيده، فبالنسبة للقضاء على العادات عملت الحكومة على القضاء على عادة إحراق النساء مع =

ونفكر الآن في هذه المسألة من الناحية الدينية. فآسيا لم تزل مهد الديانات، ومهبط الشرائع، والمسيح أيضا آسيوي فإنه ولد بأرض الشام. ونرى الديانات الشهيرة الشائعة بآسيا تؤكد تعدد الزوجات ففي الهند القديمة: 1 - كانت لمهاراجه دسرت والد رام جندر جي ثلاث زوجات: يت راني كوشليا ===== أم رام جندر جي الملكة سمترا ====== أم لجمن جي الملكة كيكئي ===== أم برت جي 2 - وكذلك كرشن جي كانت له مئات الزوجات (¬1). 3 - وكانت للملك باندو الذي هو أب للبراهمة زوجتان: كنتى ===== أم بدهشتر وبيم سين وأرجن مادري ===== أم نكل وسهديو 4 - وكانت للملك شنتن زوجتان: غنغا ===== أم بيكم ستيه وتى ===== أم جترانكد ويجترايرج ابني سنتين. وأم بياس ابن براسر كيتر. 5 - وكانت ليجتر ايرج زوجتان وأمة: أميكا ===== أم دهرتراشت ابن بياس جي أمبالكا ===== أم باندو ابن بياس جى الأمة ===== آم بدر ابن بياس جي ¬

= أزواجهن مع أن بعض الناس كانوا يجعلونها أساسا للدين. هذا هو موقف المحاكم تجاه التعدد، وإن كان الناس في هذه البلاد لا يزالون يستدلون بالعادات في مخالفته وهذا الدليل يوضح صحة وجهة نظرنا. (المؤلف). (¬1) إن الراحل "لالة لاجبت راي" لم يعترف في كتابه "كرشن جرتر" إلا بثماني عشرة زوجة، وحسبنا هذا العدد لتأييد موقفنا. (المؤلف).

منهاج النبوة وتعدد الزوجات

منهاج النبوة وتعدد الزوجات ينبغي أن ننظر الآن إلى هذه المسئلة بمنهاج النبوة. إن النصارى يعترفون لإبراهيم عليه السلام بالمجد (¬1) والشرف، ويعترفون بأن الله اصطفى يعقوب واستخلصه (¬2)، ويعتقدون أنه لم يقم نبي في بني إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجها لوجه (¬3). ونحن نجد في التوارة الجملة التالية في شأن داود: "قال له الرب أنت ابني وأنا أبوك اليوم" (¬4). ويعتقد النصارى في سليمان أن الرب قال له: "هو ذا أعطيتك قلبا حكيما ومميزا حتى أنه لم يكن مثلك قبلك ولا يقوم بعدك نظيرك" (¬5). كما يعترفون بقول الله في شأن سليمان: "هو يكون لي ابنا وأنا له أبا" (¬6). وبعد هذه الأدلة المذكورة أعلاه نستطيع القول بأن أفعال الأنبياء السابقين خير نموذج وأقوى دليل على صحة منهاج النبوة وثبوته. انظروا الآن إلى الأنبياء السابقين فقد كانت لإبراهيم ثلاث زوجات: 1 - السيدة هاجرة ... ... أم اسماعيل عليه السلام "التكوين 16/ 4" 2 - السيدة سارة ... ... أم إسحاق عليه السلام "18/ 15" 3 - السيدة قطورة ... ... أم زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق وشوخ "التكوين 25/ 1" وكانت ليعقوب إسرائيل أربع زوجات: 1 - ليئة ... أم رأوبين وشمعون ولاوي ويهوذا وآشكار وزبلون (التكوين 29/ 23). 2 - زلفة ... أم جد وآشر (التكوين 29/ 34). ¬

(¬1) رسالة يعقوب (2/ 23). (¬2) أخبار الأيام الأول (22/ 10)، والخروج (4/ 11). (¬3) التثنية (34/ 10). (¬4) زبور (2/ 7). (¬5) الملوك الأول (3/ 12). (¬6) أخبار الأيام الأول (22/ 10)

جواز تعدد الزوجات لموسى عليه السلام

3 - راحيل ... ... أم يوسف وبن يامن (التكوين 29/ 28) 4 - بلهة ... ... أم دان ونفتالي (التكوين 29/ 29) وكانت لموسى عليه السلام أربع زوجات: 1 - صفورة ... ... أم جرشوم والعيزر (الخروج 2/ 31). 2 - جيشية ... ... 3 - وزوجة أخرى كان اسم أبيها قيني (القضاة 1/ 16). 4 - وزوجة أخرى اسم أبيها حباب (القضاة 4/ 16). جواز تعدد الزوجات لموسى عليه السلام: "إذا خرجت لمحاربة أعدائك ودفعهم الرب إلهك إلى يدك وسبيت منهم سبيا ورأيت في السبي امرأة جميلة الصورة والتصقت بها واتخذتها لك زوجة فحين تدخلها إلى بيتك تحلق رأسها وتقلم أظفارها وتنزع ثياب سبيها عنها وتقعد في بيتك وتبكي أباها وأمها شهرا من الزمان بعد ذلك تدخل عليها وتتزوج بها فتكون لك زوجة" (التثنية: الأصحاح 21/ 10 - 13). وكانت لداود تسع زوجات من الحرائر وعشر من الجواري وأخرى من النساء اللاتي ورد ذكرهن في التوراة وفيما يلي بيان التوراة في ذلك. شجرة نساء داود عليه السلام اسم الزوجة ... المصدر ... أولادها 1 - اخنوعم ... صموئيل الأرل 23/ 26 ... ولدت أمنون البكر 2 - أبي جيلي ... صموئيل الأول 23/ 26 ... ولدت كلياب 3 - ميكل بنت ساول ملك إسرائيل ... صموئيل الأول 18/ 27 ... كانت عاقرا 4 - معكة بنت تلمي ملك جسور ... صموئيل الثاني الأصحاح الثالث ... ولدت ابسلوم 5 - حجيت ... صموئيل الثاني الأصحاح الثالث ... ولدت أبي سلوم وأوديناه 6 - أبيطال ... صموئيل الثاني الأصحاح الثالث ... ولدت سقطياه

_ 7 - عجلاه ... صموئيل الثاني الأصحاح الثالث ... ولدت قيرعام إن أبناء داود المذكورينأعلاه قد ولدوا بحبرون 8 - بنت سجع بنت أبيعام ... صموئيل الثاني اا / 3 - 26 ... ولدت سليمان 9 - أبي شاغ ... صموئيل الثاني ... x 10 - النساء السراري العشر لداود عليه السلام ... صموئيل الثاني (¬1) 20/ 30 ... x وأخذ داود أيضا سراري ونساء من أورشليم بعد مجيئه من حبرون (صموئيل الثاني 5/ 13). وكانت لسليمان عليه السلام ألف امرأة، سبعمائة من الأحرار، وثلاثمائة من السراري. (الملوك الأول 11/ 3). دلت هذه الإحالات كلها على أن الأنبياء السابقين، كانوا يعددون الزوجات، ولم يطعن فيهم أحد من النصارى، ولم يشنعوا عليهم في التعدد بين الزوجات. ونقدم أمثلة أخرى ففي كتاب النبي حزقيال: " وكان إلى كلام الرب قائلا يا ابن آدم كانت امرأتان ابنتا أم واحدة، وزنتا بمصر في صباهما، هناك دغدغت ثديهما وهناك تزغزغت ترائب عذرتهما واسمهما اهولة الكبيرة واهوليبة اختها وكانتا لي وولدتا بنين وبنات). (حزقيال: أصحاح 23/ 1 - 4). وقد ذكر الرب في هذا الكلام زواجه من أكثر من واحدة. ويمكن أن يقول النصارى هذا كلام ورد على سبيل التمثيل، ولكنه مع ذلك يدل على أنه لو كان التعدد بين الزوجات أمرا مكروها عند الرب لما نسبه إلى نفسه ولو على سبيل التمثيل. واقرأوا الأصحاح (رقم 25) (¬2) من إنجيل متى فقد ذكر فيه المسيح عشر عذارى حين ذكر قدومه، تزوج خمسا منهن ودخلن معه إلى العرس، وأغلق الباب على الخمس اللاتي تأخرن. ¬

والظاهر أنه لو لم يكن التعدد أمرا محمودا عند المسيح لما تمثل به. وبهذا التمثيل كان يستدل شاعر إنجلترا الشهير ملتن على جواز التعدد بين الزوجات. وإذا لم يتفق أحد مع موقفنا بعد هذه الأدلة، فعليه أن يقرأ الدرس الرابع من الإصحاح الثالث عشر من الرسالة إلى العبرانيين ففيه: "ليكن الزواج مكرما عند كل واحد والمضجع غير نجس، وأما العاهرون والزناة فسيدينهم الله" (¬1). هذا الدرس يذكر صورتين فقط. الأولى: الزواج. والثانية: الزنا. فالذي يقول إن التعدد مضجع نجس، هل في مقدوره أن يعترف بأن جميع الأنبياء الطاهرين الذين يؤمن بنبوتهم تصدق عليهم عبارة العبرانيين المذكورة في الاصحاح 13/ 4 ونحن نعلم ونعتقد أنه ليس هناك من النصارى الصادقين من يقول بذلك، ولذا نطالب النصارى والمؤمنين جميعا أن يتراجعوا عن الخوض من شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - كما فعلوا فيما يتعلق بإبراهيم ويعقوب وموسى وداود عليهم السلام. ¬

(¬1) الرسالة إلى العبرانيين 13/ 4.

الفصل الأول

الفصل الأول محمد - صلى الله عليه وسلم - وتعدد الزوجات. •---------------------------------• انظروا إلى حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقد قضى خمسا وعشرين سنة من حياته التي امتدت لثلاث وستين سنة دون زواج، فالذي قضى عهد يفوعته وشرخ شبابه تقيا ورعا طاهر الذيل، والذي استمال جمال رجولته حرائر من النسب العالي، فرغبن في الزواج به، ولم يتغلب على تجرده شيء طيلة ربع قرن من الزمان، أفلا يظن بمثل هذا الرجل خيرا؟. من قضى من عمره خمسا وعشرين سنة يعايش زوجة أكبر منه بخمس عشرة سنة، تزوجت قبله زوجين وولدت منهما أولادا، ومع ذلك لم تذبل وردة محبته لها طوال ربع قرن من الزمان، بل ظل يذكرها دائما حتى بعد موتها. هل يستطيع أحد أن يقول عنه بأنه تزوج بها لما يتزوج له الآخرون، أي للجمال ولإشباع الغريزة الجنسية؟ إن في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فترة (من سنة 55 هـ إلى سنة 59 هـ) تم فيها زواجه مع أزواجه الطاهرات، ولذا يجب على كل إنسان أن يفكر في العوامل والأسباب التي كانت وراء كل ما قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد خمس وخمسين عاما من حياته، ولا سيما حين نفكر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مالي في النساء من حاجة" (¬1). حتى يعلم أن تعدد زوجاته كان يهدف إلى كثير من الفوائد الدينية، والمصالح السامية للدولة الإسلامية، والأهداف النبيلة للأمة. وتحقيق هذه الفوائد والمصالح والأهداف في ذلك الزمن القديم، وفي تلك المنطقة المتخلفة في جزيرة العرب، إنما كان يتوقف على تعدد الزوجات (¬2). تأملوا مثلا في زواج أم المؤمنين صفية رضي الله عنها، فجميع الحروب التي وقعت قبله كانت تتحرك فيها أصابع اليهود سرا أو علنا، ولكن بعد أن تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم المؤمنين صفية لم يشارك اليهود في حرب من الحروب ضد المسلمين فما أوجب هذا النكاح!. ¬

(¬1) أخرجه الدارمي في النكاح عن سهل بن سعد ([ص:538]). (¬2) تأملوا في نكاح نابليون بونابرت الثاني الذي تم في حضرة البابا نفسه، والذي اعترفت بصحته أوربا كلها، ولم يكن ذلك إلا لإبقاء نسل نابليون. وهذه الحاجة ليست لها من الأهمية ما للمصالح المرتبطة بنكاح أنبياء الله ورسله.

وانظروا مثلا إلى زواج أم حبيبة رضي الله عنها، كان أبوها أبو سفيان من أشراف قريش يعقد لواء الحرب في بيته، وحين ينصب هذا اللواء، كان يتحتم على كل فرد من أفراد القوم أن ينضم تحت لوائه، عملا بسنة آبائه وعاداته وقيم قومه. فأبو سفيان هو الذي قاد الجيش في غزوة أحد وحمراء الأسد وبدر الأخرى والأحزاب وغيرها من الغزوات، ولكن بعد زواج أم حبيبة رضي الله عنها، لا نجده يقود حربا ضد المسلمين بل ينضم إلى لواء الإسلام بعد زمن قليل، فهل يستطيع أحد أن يقول أن هذا النكاح لم تكن له أهمية؟. وانظروا إلى زواج أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها، كان أبوها من قطاع الطرق، يضمر للمسلمين العداوة، وكانت قبيلة بني المصطلق المشهورة القوية الكثيرة البطون رهن إشارته تعمل بما يقول وما من حرب قامت ضد المسلمين قبل هذا الزواج إلا وانضمت إليها هذه القبيلة. أما بعد الزواج المبارك، فقد تلاشت هذه النزاعات، وتخلت القبيلة عن الإغارة والغزو، ولم تشترك بعد ذلك في حرب ضد المسلمين فما كان أوجبه من نكاح!. وانظروا إلى أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، كانت لها أخت تحت سيد نجد، مما جعل لهذا الزواج تأثيرا كبيرا على إحلال الأمن والسلام في منطقة نجد، ونشر الدين الإسلامي فيها، وكان أهل نجد قبل ذلك قد استقدموا سبعين واعظا وداعيا إلى الله، فاغتالوهم غدرا وهم الذين قاموا بإفساد الأمن وإثارة الفتن مرارا. وهكذا فإن من لا ينكر فوائد الأمن العام، وإصلاح شئون البلد، مضطر إلى مباركة هذا الزواج. وكان زواج كل من أم المؤمنين زينب بنت جحش وعائشة وحفصة رضي الله عنهن يقوم على تحقيق الأهداف الإسلامية والمصالح الدينية، فزواج زينب بنت جحش هدم أصنام التبني وجعل شجرة التثليث هشيما تذروه الرياح. ولم يكن هذا الإصلاح العظيم الذي يشمل المشركين وأهل الكتاب ممكنا إلا بذلك. وبعد زواج عائشة وطفية رضي الله عنهما ظهرت أعمال خارقة للعادة فيما تعلق بحفظ كتاب الله ونشر الأحاديث النبوية وتعليم النساء، ولعب زواج كل منهما دورا هاما في توطيد خلافة أبي بكر وعمر وجعلها أجدى وأنفع. وهذه كلها فوائد لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لتفوته حيلة تساعده على تحقيقها والحصول عليها. إن ما ذكرنا من فوائد إنما هي على سبيل المثال لا الحصر، وهي توضح الأغراض

والأهداف الدينية التي كان يهدف إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل زواج. وليس بمقدورنا أن نحصيها عددا. ولكن لما ظهر من هذا البحث الوجيز أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدد الزوجات، لأنه كان يريد العمل بسنة الأنبياء السابقين، كما أراد بذلك تحقيق المصالح الدينية طبقا لضروريات الدولة الإسلامية، فإن كل صاحب عقل وفهم سليم، لابد أن يقر ويعترف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أجدر وأحق بأن يفعل ذلك، ولو لم يفعل لحرم الدولة الإسلامية والأمة المسلمة والدين الإسلامي من الحصول على مصالح كثيرة وفوائد عديدة، وهو يتعارض مع شأن الداعي الأعظم الذي أرسله الله رحمة للعالمين جميعا.

الفصل الثاني

الفصل الثاني فضائل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - •---------------------------------• وبما أن فضائل أزواجه - صلى الله عليه وسلم - لا شعبة من شعب فضائله، وجب ذكر فضائلهن في السيرة النبوية، ونذكر هنا ما ورد من فضائلهن في القرآن الكريم، أما ما ورد في الحديث الشريف فسنذكره في موضع لاحق بإذن الله. ـ[الفضيلة الأولى]ـ: هي أن الله تعالى ذكرهن بلقب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - واستعمال كلمة "زوج" في العربية يكون للأشياء المتشابهة المتشاكلة المتساوية، كما يقال: زوجا خف وفي القرآن الكريم: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} (الصافات: 22) أي من كانوا على شاكلتهم. وفي موضع آخر: {وإذا النفوس زوجت} (التكوير: 7) أي قسمت كل مجموعة، فيجعل الصالح مع الصالح والعاصي مع العاصي، وهكذا لما وصف الله الأزواج بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - صار هذا الخطاب مظهرا لاتصالهن به اتصالا أبديا وتشاكلهن له تشاكلا كاملا. وإذا أردت المزيد من شرح هذا الأمر فتدبر في القرآن كله، فلن تجد موضعا وصف فيه رجل وامرأة بأنهما زوجان بعيدا عن فقدان الاتحاد الظاهري والباطني، والوحدة الزوجية والإيمانية معا. ومع بيان هذا الأمر يجب أن نتذكر أيضا أن القرآن الكريم، لم يتقيد بهذا، في استعماله لكلمة امرأة، بل ورد استعمالها في كل من الصور الأربعة الآتية: 1 - إذا كان كل من الزوج وزوجة كافرا مثلما ورد في ذكر أبي لهب وامرأته: {وامرأته حمالة الحطب} (سورة المسد: 4). 2 - إذا كان الزوج مؤمنا والزوجة كافرة كما جاء في قوله تعالى: {امرأت نوح وامرأت لوط} (سورة التحريم: 10). 3 - إذا كانت الزوجة مؤمنة وكان الزوج كافرا مثلما ورد في قوله تعالى: {امرأت فرعون} (سورة التحريم: 11).

4 - إذا كان الزوجان مؤمنين مثلما جاء في قوله تعالى على لسان زكريا في شأن امرته: {وكانت امرأتي عاقرا} (سورة مريم: 5). وفي قصة إبراهيم عليه السلام: {فأقبلت امرأته في صرة} (سورة الذاريات: 29). ففي الصورة الأولى لم تستعمل كلمة "زوج" لأنه خطاب كريم ولا يستحق أبو لهب أو امرأته هذا الخطاب، كما لم تستعمل في الصورتين الثانية والثالثة، لما في كلمة "الزوج" من مشاكلة ومساواة، والمرأة الكافرة لا تساوي ولا تشاكل رجلا مؤمنا، ولا الرجل الكافر يشاكل أو يساوي امرأة مؤمنة، كما لم ترد في الصورة الرابعة، لأنه قد ورد فيها ذكر حمل أزواج زكريا وإبراهيم عليهما السلام وولادتهن، وذكر هذا الأمر بكلمة "امرأة" أبلغ من ذكره بكلمة زوج، لأن كلمة "الزوج" تطلق على الرجل والمرأة كليهما. وقد ذكر الله امرأة زكريا في آية أخرى بكلمة "الزوج" ليزيل شبهة من قصر فهمه فقال: {وأصلحنا له زوجه} (سورة الأنبياء: 90). وقال في شأن امرأة إبراهيم على لسان الملائكة: {رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت}. (سورة هود: 73). والخلاصة أن التزام الحق تعالى بهذا الأمر في استعمال كلمة "الزوج" وعدم التزامه به في استعمال كلمة "المرأة" يؤيد دليلنا تأييدا كاملا. ويجب أن نتذكر الآن أن عبارة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وردت في "سورة مريم" مرتين وفي سورة "الأحزاب" أربع مرات. ومن هذا يظهر ما لهن من شرف وفضيلة. وـ[الفضيلة الثانية]ـ: قال الله تعالى: {لستن كأحد من النساء} (سورة الأحزاب: 32). إن كلمة "النساء" تشمل كل فرد من جنس الأنثى ولا تخرج منها شخصية أية امرأة. وزد على ذلك كلمة "أحد" التي تدل في النفي على القطعية كما في قوله تعالى: {ولم يكن له كفوا أحد} (سورة الإخلاص: 4). فاستعمال كلمة "أحد" للنفي لا يسع أي استثناء، فثبت أن منزلة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أسمى وأرفع من منزلة أي امرأة أخرى.

ـ[الفضيلة الثالثة]ـ: قال الله تعالى: {إنا أحللنا لك أزواجك} (سورة الأحزاب: 50). يكون الرجل والمرأة كل واحد منهما زوجا للآخر بعد النكاح، سواء تم هذا النكاح وفقا للشريعة الإسلامية أو وفقا لشريعة أخرى مما كانا يدينان بها وقت الزواج. لكن أحدا منهما لا يستطيع أن يدعي لنكاحه مكانة عند الله عز وجل. أما أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أنزل الله فيهن قوله {إنا أحللنا لك أزواجك} وأعلن أنهن أزواج للنبي باعتراف إلهي. ومن الواضح أن هذا الاعتراف فضيلة عظيمة لهن في الحقيقة. ـ[الفضيلة الرابعة]ـ: ذكر الله حسن عشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه فقال: {تبتغي مرضات أزواجك} أي: تهتم برضائهن. (سورة التحريم: 1). ومن الواضح أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - أعظم وأجل من أن يشوبها خطأ فابتغاؤه - صلى الله عليه وسلم - مرضات أزواجه واهتمامه برضائهن دليل على فضيلتهن. ولا ينبغي أن يشك أحد في هذا المفهوم إذ ورد قبله قوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} (سورة التحريم: 1). فإنه لا يخالف قول الله عز وجل {تبتغي مرضات أزواجك} ولا يؤثر عليه شيئا لأنه حينئذ يمكن أن يقول "يا أيها النبي لم تبتغي مرضات أزواجك" ولم يقل كذلك. فمعنى الآية: أنت تقوم بكل عمل لإرضائهن، ولكن لابد أن يكون له حد، وهذا الحد هو أن تقوم بما تريد لإرضائهن بشرط أن لا تحرم حلالا، مثلما أراد أن يحرم على نفسه العسل لاستكراه إحدى أزواجه رائحته. تبين من ذلك أن الله تعالى قد أذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمرضات أزواجه، والواقع أن هذا الإذن أساس لإدارة المنزل، وقوام لحسن العشرة، كما أن الحد الذي أقامه الله، له أهميته ووجوبه، حتى لا يحرم أحد حلالا لمجرد ابتغاء مرضات أزواجه، وإذا لم يؤذن لأحد بتحريم حلال، فتحليل حرام أولى بأن يكون غير مأذون به لأحد. ولهذا فقد انحلت هنا مسئلة عظيمة، وظهر للدنيا كلها السلوك الطيب، الذي اتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أزواجه، وعليه فيجب على كل زوج أن يتخذ من هذا النموذج مثلا يحتذيه في تعامله مع زوجته. وبالجملة فإن هذه الآية تشير إلى ما لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من فضيلة.

ـ[الفضيلة الخامسة]ـ: قال الله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (سورة الروم: 21). وإذا كان ما ورد في هذه الآية صفة للزوجين بوجه عام، فلابد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه مظهرا تتمثل فيهم هذه الصفة بالضرورة، وثبت بحكم علام الغيوب أن أزواجه - صلى الله عليه وسلم - كن مبعث سكون له، وكانت قلوبهن عامرة تجاهه بالحب والمودة، كما كان قلبه عامرا بالرأفة والرحمة لهن، ومن هنا اتضحت فضيلة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. ـ[الفضيلة السادسة]ـ: وهي أن الله تعالى امتحن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فخيرهن بين أمرين يخترن من بينهما ما شئن. فقال: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (...) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما}. (سورة الأحزاب: 28 - 29). تذكر الآيات أن لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جانب "الدنيا وزينتها" وفي جانب آخر "الله ورسوله والدار الآخرة" ففي الصورة الأولى كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسرحهن سراحا جميلا، وفي الصورة الثانية يعد الله لهن أجرا عظيما. ولما كان هذا حكما تبليغيا فلا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغه إلى أزواجه، وعلينا الآن أن نبحث عن النتيجة، فهل اختارت أزواجه الدنيا وزينتها؟ لو كان الأمر كذلك لسرحهن أو سرح إحداهن سراحا جميلا، امتثالا لأمر الله، ولكن كتب التاريخ الخاصة بجميع الفرق الإسلامية قد اتفقت على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسرح أيا من أزواجه. ومن هنا ثبت دخولهن في ما في الصورة الثانية من البشرى والأجر العظيم. وتؤيده آية أخرى إذ يقول الله تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن} (سورة الأحزاب: 52). ففي الآية الأولى خير النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسرحهن، أما في الآية الثانية فقد سلب منه هذا الخيار، فلم يعد يحل له أن "يتبدل بهن من أزواج" وهكذا أوضح أنه لما ثبت أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يردن الله ورسوله والدار الآخرة، اختارهن الله لنبيه للأبد، ولم يبق له خيار أن يتبدل بهن من أزواج. وظهر من هاتين الآيتين موقف أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من العقائد

مثلما ظهرت أحوالهن القلبية. ولتوضيح هذا الدليل أكثر يمكن أن ندرج الآية التالية: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما} (سورة الأحزاب: 53). وبما أن الآية الأولى تصرح بأن الصلة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أزواجه أبدية، لهذا ليس له أن يبدلهن، ومن هنا فإن هذه الآية تنص على أنه حرم على الأمة أن ينكحوا أزواجه من بعده. وفي الآية الأخيرة أمر هام يجب التفكير فيه وهو أن الله نهى المؤمنين عن إيذاء الرسول، وجاء ذكر حقوق أزواجه بوجه خاص. ومن هنا يتضح بجلاء أن أشد ما يمكن أن يؤذي الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو النيل من شأن أزواجه والإساءة إليهن. وذلك لأن القرآن خص هذا الأمر بالذكر حين ذكر إيذاء الرسول. ـ[الفضيلة السابعة]ـ: قال الله تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} (سورة الأحزاب: 34). أضيفت في هذه الآية كلمة "البيوت" إلى ضمير جمع المؤنث وهو "كن"، وفي الركوع السابع من نفس السورة ورد قوله تعالى: {لا تدخلوا بيوت النبي} وأضيفت فيها كلمة "بيوت" إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الدليل صريح على اتحاد الزوجين الطيبين، فقد وصفت هذه البيوت ببيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة، وبيوت أزواجه مرة أخرى. تأملوا في الآية السابقة فقد أثنى الله تعالى فيها على بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث جعلها مهبطا للوحي الإلهي، ومهدا للحكمة الربانية. ويعرف الجميع أن كرامة البيت، متوقفة على كرامة صاحبه، ولتقدروا الآن ما لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من كرامة وعزة عند الله، إنها لفضيلة عظيمة. ـ[الفضيلة الثامنة]ـ: أنزل الله في شأن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - آية التطهير. فقال: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (...) واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا} (سورة الأحزاب: 33 - 34).

إن المخاطب في هذه الآية من أولها إلى آخرها هم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذا يختص خطاب أهل البيت بهن كما اختص بهن خطاب بيوتكن. ويؤيده سياق الآية - وهو السياق المعجز لآيات القرآن الكريم - كما يؤيده العرف العام، فإن أهل البيت يطلق في العرف العام على الزوجة. ولمزيد من التأييد نوجع إلى القرآن الكريم وننظر هل ورد هذا اللفظ في آي من آياته لزوجة نبي من الأنبياء أم لا؟ في قصة إبراهيم عليه السلام - وهنا نستدل بقصته لأن بينه وبين النبي مشابهة تامة لقوله تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي} - قال تعالى: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (...) قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب (...) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} (سورة هود: 71 - 73). في هذه الآية خوطبت سارة زوج النبي إبراهيم بأهل البيت (¬1). وهكذا يفهم من الآية ما لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من فضيلة عظيمة حيث وعدهن الله بالتطهير، وليعلم بأن كلمة "الآل" و"الأهل" كلمة واحدة، ودليله أن كلمة "الآل" تصغر بالأهيل. والآية المذكورة وإن أريد فيها بأهل البيت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، ولكن كلمة "آل" أو "أهل" ورد استعمالها في الأحاديث الصحيحة بمعنى أوسع وأشمل. (ألف) ورد استعمال هذه الكلمة أيضا للأزواج. انظر رواية أبي نعيم محمد: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد". ورواية أبي حميد الساعدي: "اللهم صل على محمد وعلى أزواجه". فالرواية الثانية تفسير للأولى. (ب) كما ورد استعمالها لبني هاشم وبني المطلب جميعا ممن حرمت عليهم الصدقة. ففي الحديث: "إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد". (ج) وأيضا ورد استعمالها لذرية الرسول - صلى الله عليه وسلم -. روى البيهقي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: ... . فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسنا وحسينا فأجلس كل واحد منهما على فخذه وأدنى فاطمة من حجره وزوجها، ثم لف عليهم ثوبه - وأنا منتبذ - فقال: ¬

(¬1) ليعلم أن الرجل والمرأة كل منهما يكون صاحب البيت وأهله. وقد ورد في الآية: "عليكم أهل البيت" لأن إبراهيم عليه السلام أيضا داخل فيه.

"اللهم هؤلاء أهلي (¬1) ". وهكذا تدل هذه الأحاديث والآثار على اتساع معنى بني هاشم وبني المطلب وخصوصية معنى آل عباس فهم بموجب قول الرسول، يدخلون في معنى أهل البيت، كما أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - هن أيضا من أهل البيت، بموجب قول الله. وإنكار أي من هذه الأمور هو نوع من الجهل بالحديث وعدم الإلمام بنص القرآن. ـ[الفضيلة التاسعة]ـ: قال الله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} (سورة الأحزاب: 6) من الواضح أن الضمير في "أنفسهم" و"أمهاتهم" يعود على المؤمنين ولذلك لقبت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمهات المؤمنين ولم يلقبن بأمهات الأمة أو غيره من الألقاب (¬2). أما السر في استعمال كلمة "المؤمنين" في هذه الآية فهو بيان علامات وسمات، يمتاز بها المؤمن من غيره فوردت في الآية علامتان: الأول: المؤمن من كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من نفسه. الثاني: من يعترف للأزواج بالأمومة، وليست الأمومة الناتجة عن الولادة الحسية بل الأمومة التي ينال شرفها من خلال ولائه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والرسوخ في الإيمان. وبالجملة فإن هذه الآية تتضمن بيانا للفضيلة الكبرى لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - المطهرات حيث ذكر الله فيها شرف النبي - صلى الله عليه وسلم - وعظمته، وأتبعه بذكر شرف وعظمة أزواجه - صلى الله عليه وسلم - ولم يقتصر على قوله {أولى بالمؤمنين من أنفسهم} بل جعل من شروط الإيمان الكامل أن أزواجه أمهاتهم. وقد ورد في صحيح النسائي (¬3) حديث في فضيلة الأم: أن جابر - رضي الله عنه - جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: "هل لك من أم؟ " قال: نعم. قال لا فالزمها فإن الجنة تحت رجليها". ¬

(¬1) السنن الكبرى للبيهقي (2/ 152). (¬2) إن الأمة يدخل فيها الأشرار والأخيار على السواء، وقد وصفت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمهات المؤمنين لأن الأشرار لا يمكن أن يحظو بشرف هذه النبوة. (¬3) السنن للنسائي (6/ 11) باب الرخصة في التخلف لمن له والدة.

والغرض من ذكر هذا الحديث أنه إذا كان هذا أجر خدمة أم الإنسان، الذي حصل على أمومتها بالمولد، فأجر خدمة الأمم التي حصل على أمومتها بالإيمان والروح أكبر وأعظم، وذلك مما يسوغه العقل. نكتفي في هذا الفصل بذكر الفضائل التسعة فقط، ونفصل القول فيما بعد إن شاء الله تعالى.

الفصل الثالث

الفصل الثالث حسن سلوك النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أزواجه المطهرات. •---------------------------------• جاء في الحديث: "خيركم خيركم بأهله وأنا خيركم بأهلي". أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل زوج أن يكون دمث الخلق مع أهله. وكان من عادته - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل البيت أن يبادر بالسلام، وإذا سلم ليلا كان ذلك بصوت خافت حتى تسمعه زوجته إن كانت يقظة ولا تستيقظ إن كانت نائمة. وكان يعدل بين أزواجه في كل شيء من المأكل والملبس والمأوى والنفقة واللقاء، ويزور بيت كل واحدة منهن بعد صلاة العصر ويسأل عن حاجاتهن، ويجتمع بهن في بيت واحد لفترة قصيرة بعد صلاة المغرب، ويبيت مع كل واحدة منهن بالتناوب. وكان يكرم صواحب أزواجه ويرضي أقاربهن بحسن سلوكه. وإذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه فأيهن خرج سهمها أخذها معه. وكان لكل منهن بيت خاص بها. هذه البيوت التي سماها الله حينا "بالحجرات" وحينا "ببيوتكن" وحينا "ببيوت النبي"، كانت متصلة بعضها ببعض، وكانت صغيرة جدا. فحجرة عائشة رضي الله عنها، التي كانت نافذتها تطل على جناح المسجد النبوي الذي يسمى روضة من رياض الجنة، كانت صغيرة حتى أنها لم تسع عشرة رجال دخلوها للصلاة على جنازة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك كان الأثاث الذي تشتمل عليه هذه الحجرات قليلا، ففي حجرة حفصة رضي الله عنها كان فراش النبي مسحا تثنيه ثنيتين، وفي حجرة عائشة رضي الله عنها كان فراشه من أدم حشوه ليف. ولما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة رضي الله عنها أعطاها بيت زينب أم المساكين رضي الله عنها، وجميع ما وجدته أم سلمة رضي الله عنها من الأثاث في هذا البيت هو الرحى وعدة صاع من الشعير. وأخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن الماء في بيت خالته ميمونة رضي الله عنها كان يوضع في سقاية. وذكر أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت له كوب من خشب، تشرب بها صنوف الأشربة. ولما فتح خيبر جعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكل زوجة من أزواجه ثمانين

وسقا من تمر وعشرين وسقا من شعير لعام. وأعطى كل واحدة منهن ناقة ذات لبن لتشرب منها، وكانت أزواجه أيضا يتصدقن على الأرامل واليتامى بما زاد عن حاجتهن. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع حبه لأزواجه، لا يرضى أن تقول زوجة لضرتها كلمة تغض من شأنها الرفيع، ففي إحدى المرات عيرت زينب بنت جحش، صفية رضي الله عنها بأنها يهودية - ولاشك أن نسبها كان ينتهي إلى يهوذا بن يعقوب ولكن لهجتها كانت مهينة - فلم يذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيتها أياما حتى تابت إلى الله فتاب الله عليها. وحين نرى أن هذا الأمر البسيط قد ورد ذكره في الأحاديث نستيقن طهارة حياة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أنه لو قالت إحداهن كلمة أكثر قسوة من الكلمة البسيطة التي ذكرت قبلا لورد ذكرها في الحديث، ولم يكن هذا إلا نتيجة للتربية السامية التي سمت بأزواجه عن الغرائز الطبيعية والجنسية، وربطتهن برباط المحبة الإيمانية الصادقة. وقد عجز عن إدراك هذا السر من فهم أن حقيقة العلاقة بين الزوجين ما هي إلا إشباع للغريزة الجنسية، ولعل هذا هو السبب الذي جعل النصارى ينكرون استمرار العلاقة الزوجية بين الزوجين في الجنة. ـ[وظيفة أمهات المؤمنين]ـ: تعليم نساء الأمة، وعرض أمورهن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرح جوابه لهن، وتبليغ أفعاله وأقواله وعباداته، التي كانت تصدر منه في الحجرات، إلى الناس بدقة وإتقان، وتوجيه أبناء الأمة في المشكلات العلمية. ـ[مهور أمهات المؤمنين]ـ: ما كانت مهور أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وبناته أكثر من اثنتى عشرة أوقية وربع أوقية من الفضة (¬1). ¬

(¬1) سنن الدارمي وصحيح البخاري وصحيح مسلم.

الفصل الرابع

الفصل الرابع تقارب نسب الأزواج من نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -. •---------------------------------• بما أن أكثر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قريبات منه نسبا نثبت هنا جدولا يتضح منه تقارب نسب كل زوجة من نسبه - صلى الله عليه وسلم -. ___ جدول عمود النسب النبوي واتصال أنساب أمهات المؤمنين به ___ - ... - ... - ... - ... 20 - معد بن عدنان ... - ... - ... - ... - - ... - ... - ... - ... 19 - نزار ... - ... - ... - ... - - ... - ... - ... - ... 18 - مضر. ... - ... - ... - ... - - ... - ... - ... - ... 17 - إلياس. ... - ... - ... - ... عيلان - ... - ... - ... - ... 16 - مدركة. ... - ... - ... - ... قيس - ... - ... - ... - ... 15 - خزيمة. ... - ... - ... - ... خصفة - ... - ... - ... - ... 14 - كنانة .. ... - ... - ... - ... عكرمة - ... - ... - ... - ... 13 - نضر .. ... - ... - ... - ... المنصور - ... - ... - ... - ... 12 - مالك ... - ... - ... - ... هوازن - ... - ... - ... - ... 11 - فهر ... - ... - ... - ... بكر - ... - ... - ... - ... 10 - غالب .. ... - ... - ... - ... معاوية عدي ... - ... - ... - ... 9 - لؤي. ... - ... - .. ... الأسد ... صعصعة زراح ... - ... - ... - .. ... 8 - كعب .. ... عامر ... دودان ... عامر. ... - قرط ... تيم ... - ... - ... 7 - مرة ... - ... حسل ... صنم ... الهلال عبد الله ... سعد ... - ... - ... 6 - كلاب ... يقطة ... مالك ... كثير ... عبد الله رباح ... كعب ... - ... - ... 5 - قصي ... مخزوم ... نصر ... مرة ... روبية عبد العزى ... عمرو ... - ... عبد شمس ... 4 - عبد مناف ... عمرو ... عبدود ... صبيرة ... هرم نفيل ... عامر ... عبد العزى ... أمية ... 3 - هاشم ... عبد الله. ... عبد شمس ... يعمر ... يجير الخطاب ... أبو قحافة عثمان ... أسد ... حرب. ... 2 - عبد المطلب ... المغيرة ... قيس. ... ركاب ... حزن عمر ... أبو بكر ... خويلد ... أبو سفيان ... 1 - عبد الله ... أبو أمية. ... زمعة ... جحش ... الحارث حفصة ... عائشة ... خديجة الكبرى ... أم حبيبة ... محمد ... 5 - أم سلمة ... 6 - سودة ... 7 - زينب ... 8 - ميمونة

الفصل الخامس

الفصل الخامس تفصيل أحوال أمهات المؤمنين زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -: أم المؤمنين خديجة الكبرى رضي الله عنها: هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية. كان أبوها خويلد من كبار تجار العرب وأشراف قريش. أمها فاطمة بنت زائدة. ينتهي نسبها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من لؤي (انظر الرقم التاسع من شجرة نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -) زوجها عمها عمرو بن أسد من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان صداقها ست إبل، وكان عمرها آنذاك أربعين سنة (¬1) وعمر النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسا وعشرين سنة. كانت أولا تحت عتيق بن عابد المخزومي (¬2) فلم تلد منه ولدا، فلما مات تزوجها أبو هالة هند بن النباش التميمي. هذا أول نكاح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبت إليه خديجة وعرضت نفسها عليه وكان قد انقطع بعد هذا النكاح إلى التحنث والتعبد في غار حراء ومعه قربة من ماء وجراب من سويق. ثم يرجع إلى خديجة فتصنع له سويقا وزادا. كانت خديجة تلقب في الجاهلية بالطاهرة، وهي أول من أسلمت ولم يسبقها إلى الإسلام رجل ولا امرأة. ولما ذكر لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي قال لها وهو يفكر في مشكلات النبوة: "لقد خشيت على نفسي" فقالت له: كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم. وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق (¬3) ولكي يطمئن قلبها ¬

(¬1) روى الزرقاني عن المغلطائي أن خديجة كانت حينئذ في الثامنة والعشرين من عمرها، وهذه الرواية شاذة. والله أعلم. (¬2) اختلف المؤرخون هل تزوجها عتيق أولا أم أبو هالة؟ فقال قتادة: كانت خديجة تحت عتيق ثم خلف عليها بعده أبو هالة. وقال الجرجاني: كانت قبل عند أبي هالة. وافق صاحب الاستيعاب على قول الجرجاني. وقد اخترت قول قتادة لأن صاحب الاستيعاب ذكر هندا ربيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا لا يصح إلا إذا كان زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - معها بعد أبي هالة. (¬3) صحيح البخاري في باب بدء الوحي (1/ 3) عن عائشة. ليتدبر القراء كيف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان متصفا بالأخلاق الفاضلة حتى قبل بعثته، ثم لينظروا إلى فطنة خديجة وذكائها كيف تعمقت في رؤيتها لفضائل النبي - صلى الله عليه وسلم -.

أبناء خديجة الكبرى رضي الله عنها

وينشرح صدرها انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان نصرانيا وعالما كبيرا ومتبحرا في الإلهيات. فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى (¬1). والسيدة خديجة من الأربع اللاتي جعلهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن النساء في العالمين. وعن عائشة قالت: أثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خديجة فقال: "آمنت بي حين كفر بي الناس، صدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها وحرم ولد غيرها". وعن عائشة قالت: جاءت عجوز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: "كيف كنتم بعدنا؟ " فلما خرجت، قلت: يا رسول الله تقبل هذه العجوز هذا الإقبال، قال: "إنها كانت تأتينا أيام خديجة" (¬2). وقد روى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه (¬3) في باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة وفضلها، عن أبي هريرة قال: "أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام (¬4) من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب". أبناء خديجة الكبرى رضي الله عنها: هالة والطاهر وهند أولاد خديجة من أبي هالة وهم من الصحابة. 1 - ورد ذكر هالة بنت خديجة الكبرى في صحيح البخاري حين استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدخل عليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سمع اسمه: "اللهم هالة". وكان اسم ابن هالة هندا وكان يروى عن أبيه أيضا (¬5). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في بدء الوحي (1/ 3) عن عائشة رضى الله عنها. (¬2) الاستيعاب (4/ 1810). (ملخصا). (¬3) البخاري في باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة وفضلها (4/ 231)، ومسلم في فضائل الصحابة (2/ 1887 رقم 2432). (¬4) سلام رب العالمين عليها شرف لم يحصل لأحد من النساء في العالم سواها. (¬5) الاستيعاب (4/ 5145)

2 - طاهر بن خديجة الكبرى وهو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاملا على ريع اليمن وبقي عاملا هناك إلى وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت قبائل عك وكان الأشعريون تحت إمرته، وهم أول من ارتد من قبائل اليمن بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر أبو بكر رضي الله عنه طاهرا بقتالهم فقاتلهم طاهر مع مسروق بن الأجدع، وانتصر عليهم فخمدت هذه الفتنة على الفور. وفي ذلك قال طاهر هذه الأبيات: (¬1) فوالله لولا الله لا شيء غيره ... أما فض بالاجراع جمع العثاعث فلم تر عيني مثل جمع رأيته ... بجنب مجاز في جموع الأخابث قتلناهم ما بين قنة خاصر ... إلى القيعة البيضاء ذات النبائث وفئنا بأموال الأخابث عنوة ... جهارا ولم نحفل بتلك الهثاهث (¬2) 3 - هند بن خديجة الكبرى: هو ربيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مع علي بن أبي طالب يوم الجمل فقتل معه يومئذ. وكان فصيحا بليغا وصافا وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحسن وأتقن. 4 - هند بن هند: مات بالبصرة في الطاعون فخرجوا به بين أربعة لشغل الناس بموتاهم فصاحت امرأة واهند بن هنداه وابن ربيب رسول الله فازدحم الناس على جنازته وتركوا موتاهم ولم يقم سوق البصرة يومئذ. ـ[أقاربها]ـ: لخديجة الكبرى أخت، اسمها هالة بنت خويلد وهي صحابية وقد ولدت أبا العاص بن الربيع وهو زوج زينب رضي الله عنها، وأول صهر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولها أخت أخرى اسمها رقية، وهي التي ولدت أميمة بنت عبد وهي صحابية، روت عنها ابنتها حكيمة ومحمد بن المنكدر والعوام - شقيق لخديجة - وزبير بن العوام، أحد العشرة المبشرين بالجنة وسائب بن العوام كلاهما ابنا أخي خديجة رضي الله عنها. ـ[أولاد النبي - صلى الله عليه وسلم -]ـ: أولاد خديجة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرناهم تحت عنوان "آل النبي" توفيت خديجة رضي الله عنها في رمضان سنة عشر من النبوة بمكة المكرمة وأقامت ¬

(¬1) حسن الصحابة (1/ 198) طبع قسطنطنية، ومعجم البلدان. (¬2) الاستيعاب (4/ 1545).

أم المؤمنين سودة رضي الله عنها

معه أربعا وعشرين سنة وستة أشهر أو خمسا وعشرين سنة. أم المؤمنين سودة رضي الله عنها: هي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لوي. وأمها الشموس بنت قيس، وقيس أخ لسلمى زوج هاشم. يعني أن خؤولة سودة خؤولة لعبد المطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم -. كانت قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت السكران بن عمرو بن عبدود أسلمت ثم أسلم زوجها لترغيبها إياه في الإسلام. وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها وأمها. توفي عنها السكران بالحبشة فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة عشر من النبوة بعد وفاة خديجة لينقذها من بؤس الترمل وشر شماتة أهلها ولحماية عرضها. وجعلت سودة يومها لعائشة بعد سنوات، وأثرت حبيبة الحبيب على نفسها وامتازت بالإيثار في الحب. ـ[أقاربها]ـ: عبد الرحمن وعبد ابنا زمعة أخوان لسودة من الأب، وقرظة بن عبد عمرو أخ لها من الأم. وأما مالك بن زمعة فهو شقيقها، أسلم قديما وهاجر مع زوجته عمرة بنت السعدي العامرية إلى الحبشة. وقد نالت سودة رضي الله عنها مكانة أم المؤمنين لتقدمها هي وأسرتها في الإسلام وهجرتهم إلى الحبشة في سبيل الإسلام. وقد عرفت سودة رضي الله عنها بدماثة الخلق وحسن العمل منذ البداية. توفيت في آخر خلافة عمر رضي الله عنه. رويت عنها خمس روايات في كتب الحديث. رواية في صحيح البخاري وأربع روايات في السنن الأربعة. أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: هي صديقة بنت الصديق (¬1)، طيبة الزوج الطيب، ¬

(¬1) هو عبد الله بن عثمان يكنى أبا بكر ويلقب بالصديق وصاحب الغار وعلمه عتيق. وهو أول من أسلم من الرجال. وأسلم على يده بعض من العشرة المبشرين بالجنة. وهو أول من بنى المسجد في مكة في الوقت الذي لم يكن الكفار يسمحون للمسلمين بالدخول في الكعبة. هو الذي أعتق بماله سبعة رجال من أوائل من دخلوا الإسلام مثل بلال وعامر بن فهيرة. وهو الذي صحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غار ثور ليلة الهجرة، وهو الذي ورد ذكره في القرآن بصراحة، وهو الذي أنزله الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر في العريش معه، وهو الذي أعطاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الراية الكبرى في غزوة تبوك حين اجتمعت الأحزاب بكثرة، وهو الذي حج بالناس في أول سنة من وجوب الحج بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي =

حبيبة حبيب الله. أمها أم رومان زينب التي ينتهي نسبها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من كنانة. تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال المكرم سنة عشر من النبوة بمكة، وبنى بها في شوال المكرم سنة إحدى عشر من الهجرة بالمدينة. وهي التي تمتاز بين أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها ولدت من دم إسلامي، وترعرعت بلبن إسلامي، وكان أول نكاحها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وجاء في الحديث الشريف عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

= أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته (في مرض الموت) بأن يصلي بالناس، وهو أول من استخلف بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقب وحده بخليفة رسول الله ولقب الخلفاء الثلاثة غيره بأمير المؤمنين، وهو الذي قاوم أسود العنسي ومسيلمة الكذاب وطلحة الأسدي حين ادعوا النبوة وتاب طلحة ثم أسلم، وهو الذي تم في عصره فتح بلاد العراق وجزء من الشام، وهو الذي عاد بجهوده مانعو الزكاة إلى أداء الزكاة، وهو الذي أمر بكتابة القرآن في صحيفة واحدة وسماه بالمصحف. وردت في فضائله أحاديث صحيحة كثيرة كما وردت أبيات في مدحه. قال حسان في مدحه: إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس ممن صدق الرسلا وكان حب رسول الله قد علموا ... خير البرية لم يعدل به رجلا وقال خفاف بن ندبة السلمي: إن أبا بكر هو الغيث إذا ... لم يشمل الأرض سحاب بماء تالله لا يدرك أيامه ... ذو طرة صاف ولا ذو حذا من يسع كي يدرك أيامه ... يجتهد الشد بأرض فضاء وقال أبو محجن الثقفي: وسميت صديقا وكل مهاجر ... سواك يسمى باسمه غير منكر سبقت إلى الإسلام والله شاهد ... وكنت جليسا بالعريش المشهر وبالغار إذا سميت بالغار صاحبا ... وكنت رفيقا للنبي المطهر وورد في حديث التخيير قول علي رضي الله عنه "وكان أبو بكر أعلمنا به" وقال علي عن بيعة الخلافة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرض ليالي وأياما ينادي بالصلاة فيقول: مروا أبا بكر يصلي بالناس فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرت فإذا الصلاة علم الإسلام، وقوام الدين، فرضينا الدنيا، من رضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، فبايعنا أبا بكر. أولاد أبي بكر يوجدون في الهند من نسل محمد بن أبي بكر، إليه ينتهي نسب الشيخ شهاب الدين السهروردي رحمه الله. ونسب مير محمد عثمان علي خان ينتهي إلى الشيخ شهاب الدين السهروردي. أقوال علي رضي الله عنه مأخوذة من كتاب الاستيعاب.

"أريتك في المنام ثلاث ليال، جاءني بك الملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك، فاكشف عن وجهك فإذا أنت هي، فأقول: إن يك هذا من عند الله يمضه" (¬1) هذا الحديث يدل على أن نكاح عائشة الصديقة رضي الله عنها كان قد تقرر في حظيرة القدس وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل هذا النكاح من عند الله. ـ[امتحان الحب]ـ: وقد ابتليت عائشة رضي الله عنها بامتحان صعب في حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أبطأت ناقتها في الوصول إلى المعسكر في غزوة الأنمار، فقال المنافقون في حقها كلاما سيئا، ومثل هذا الأمر هو للنساء أمر صعب ومصيبة ما بعدها مصيبة. ولكن تجلت هنا قوة إيمانها ونقاء فطرتها في أروع مظاهرها. ولما سألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمرها قالت لأبويها: لئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني بريئة منه لتصدقوني فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حين قال فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون (¬2). وقالت: وايم الله لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأنا من أن ينزل الله في قرآنا ولكن قد كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نومه شيئا يكذب به الله عني، فبينما هم كذلك إذ نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي، وأنزل الله براءتها وجعلها طيبة، وأخبر بأن لها مغفرة ورزقا كريما وأن الإفك لم يغض من شأنها، بل زادها فضلا ورتبة حتى دوت لنقائها وطهارتها الأرض والسماء وأنزل الله فيها من القرآن ما يتلى في المساجد والمحاريب ويصلى به حتى تقوم الساعة. وكل من يتلو قول الله {الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات} ينظر إلى طهارة عائشة نظرته إلى طهارة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ووالله ليس ذاك إلا لما كان في عائشة من تواضع وإنكار الذات حتى أحقرت نفسها من أن ينزل فيها قرآن، وهي تعلم أنها بريئة مظلومة وأن هذا الأمر قد بلغ أذاه إلى أبويها، وتألم له قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلوب المؤمنين جميعا. ومع ذلك كله جعلت نفسها أصغر من أن ينزل الله فيها قرآنا، ولكن الله يرفع الذين يتوبون إليه درجات. ¬

(¬1) البخاري في النكاح (6/ 119)، وفي التعبير 8/ 75 - 76)، ومسلم في فضائل الصحابة (2/ 889 رقم 2438). (¬2) صحيح البخاري باب غزوة أنمار (5/ 59).

ـ[فضلها]ـ: وردت أحاديث كثيرة في فضل عائشة رضي الله عنها. فروى البخاري عن أبي موسى الأشعري قوله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كمل من الرجال كثيرا ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" (¬1). وقد روى البخاري هذه الرواية عن أنس بن مالك أيضا. ولم تنل عائشة هذا الفضل والشرف إلا لكمالاتها الروحية التي ارتفعت بها درجاتها واستنارت لأجلها بنور النبوة. وهذه الكمالات الروحية قد ورد ذكرها في رواية رواها البخاري عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها" (¬2). وهذا هو السبب الذي لأجله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة سيدة نساء العالمين بأن تحب عائشة ففي صحيح مسلم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة رضي الله عنها "أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ " فقالت: بلى، قال: "فأحبي هذه" (1). ويدل على فضل عائشة رضي الله عنها ما ورد في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "إن جبريل يقرأ عليك السلام" قالت قلت: وعليه السلام ورحمة الله (2). ومن منن عائشة على الأمة أنها سببت نزول آية التيمم ففي صحيح البخاري عن عائشة: أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول الله ناسا من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: جزاك الله خيرا فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجا، وجعل للمسلمين فيه بركة. وإليكم الآن قصتين أو ثلاثا تدل على حب عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) البخاري في الأنبياء (4/ 131 - 132، 139)، وفي المناقب (4/ 220)، وفي الأطعمة (6/ 205)، ومسلم في فضائل الصحابة (2/ 1886 رقم 2431)، والترمذي في الأطعمة (4/ 275 رقم 1834). (¬2) البخاري في مناقب الأنصار (4/ 221) والترمذي في المناقب (5/ 703 رقم 3879) والنسائي في "عشرة النساء" ([ص:43]- 44 رقم 11 - 13).

ففي صحيح مسلم عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه وطارت القرعة لعائشة وحفصة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث معها، فقالت حفصة لعائشة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك فتنظرين وأنظر؟ فقالت: بلى، فركبت فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جمل عائشة، وعليه حفصة فسلم عليها ثم سار معها، حتى نزلوا فافتقدته عائشة فغارت. فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وتقول: يارب! سلط علي عقربا أو حية تلدغني .. ولا أستطيع أن أقول له شيئا (¬1). يروى عن عائشة رضي الله عنها أنه بينما رسول الله يرقع نعليه وأنا أغزل بالمغزل إذا بي أرى العرق يتصبب من جبينه المبارك، وينبعث منه هذا العرق نورا وضاء يتلألأ، فتحيرت من هذا المنظر فنظر إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا عائشة مالي أراك في حيرة فقلت يا رسول الله، رأيت العرق يتصبب من جبهة رسول الله، وبداخله نور وضاء يتلألأ، والله لو رأى أبو كبير الهذلي (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم - لعرف أن ما رأيته هو مصداق لما قاله من شعر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي أشعار تلك فقرأت هذه الأشعار على النبي - صلى الله عليه وسلم -: ومبرئ من كل غير حيضة ... وفساد مرضعة وداء معضل وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان في يده، وقبل جبهة عائشة الصديقة رضي الله عنها وقال: ما سررت مني كسروري منك. 3 - ومن أمثلة حب عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما قد ظهر حين نزلت آية التخيير يقول تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (...) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما} (سورة الأحزاب: 28 - 29). أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في البداية الصديقة رضي الله عنها. فقال: "إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك" فقالت حين سمعت الآية: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله ¬

(¬1) مسلم في فضائل الصحابة (2/ 1894 - 1895 رقم 2445). (¬2) شاعر مشهور من شعراء الجاهلية.

والدار الأخرة (¬1) فاستن بها بقية أزواجه وقلن كما قالت وهذه فضيلتها ولاشك. قال عروة بن الزبير وهو كوكب بين الفقهاء السبعة: ما رأيت أحدا أعلم بمعاني القرآن وأحكام الحلال والحرام وأشعار العرب وعلم الأنساب من عائشة (¬2). كان الأكابر من الصحابة إذا أشكل عليهم الأمر من الدين استفتوها فيجدودن علمه عندها. وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تربي الفقراء والمساكين بجودها وسخائها كما كانت تربي أبناء الأمة بلبان العلم والمعرفة. قال عروة بن الزبير: رأيت عائشة الصديقة أنفقت سبعين ألف درهم في سبيل الله في يوم واحد. وبعث إليها عبد الله بن الزبير بمائة ألف درهم فوالله ما غابت عليها الشمس حتى فرقتها فقالت مولاة لها: لو اشتريت لنا من ذلك بدرهم لحما؟ فقالت: ألا ذكرتني؟ وكانت يومئذ صائمة فأمست وما عندها منه درهم وأفطرت في ذلك اليوم بزيت وخبز وقسمت المال كله حتى لم يبق عندها درهم تشتري منه لحما لإفطارها (¬3). ـ[فضائل خديجة وعائشة رضي الله عنهما]ـ: تكلم العلامة ابن القيم رحمه الله حول تفضيل خديجة على عائشة في كتابه "جلاء الأفهام" (¬4). فقال: فيه ثلاثة أقوال: ثالثها الوقف. وقال: سألت شيخنا ابن تيمية فقال: اختص كل واحد منهما بخاصية فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام، وكانت تسلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتثبته وتسكنه، وتبذل دونه مالها، فأدركت غرة الإسلام واحتملت الأذى في الله وفي رسوله وكان نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها. وعائشة تأثيرها في آخر الإسلام فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة وما قامت به من نشر العلم النبوي وما قدمته من فوائد علمية لأبناء الأمة لم ينافسها فيه أي من زوجات النبي الأخريات. ¬

(¬1) البخاري في التفسير (6/ 23)، ومسلم في الطلاق (2/ 1153 رقم 1475)، والترمذي في التفسير (5/ 351 رقم 3204). (¬2) جلاء الأفهام لابن قيم رحمه الله. وقد ترجم المؤلف هذا الكتاب إلى الأردية باسم "الصلاة والسلام". (¬3) مدارج النبوة (2/ 506) (¬4) جلاء الأفهام لابن قيم رحمه الله. وقد ترجم المؤلف هذا الكتاب إلى الأردية باسم "الصلاة والسلام".

وجميع الأحاديث التي روتها عائشة تبلغ 2210 حديث، منها مائة وأربعة وسبعون حديثا في الصحيحين، وأربعة وخمسون حديثا في صحيح البخاري فقط، وسبعة وستون حديثا في صحيح مسلم فقط، ومنها 2017 حديث في كتب الحديث الأخرى المعتبرة، وهذا عدا ما نقل عنها من الفتاوى الشرعية وحل المشكلات العلمية وبيان الروايات العربية والوقائع التاريخية (¬1). ـ[الجهاد في سبيل الله]ـ: عن أنس بن مالك قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وأنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقزان القرب على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملأنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم. وكان لواء النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر من مرط عائشة، أي أن الراية التي في ظلها خدم الملائكة الإسلام، والتي فتح الله بها للمسلمين لأول مرة كانت قد اتخذت من مرط عائشة وفي هذا دلالة على ما لعائشة من فضل (¬2). قال حسان بن ثابت (المؤيد بروح القدس) في شأن عائشة: حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل عقيلة أصل من لوى بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل مهذبة قد طهر الله خيمها ... وطهرها من كل بغي وباطل فإن كان ما قد قيل عني قلته ... فلا رفعت سوطي إلى أنامل وإن الذي قد قيل ليس بلائط ... بها الدهر بل قول أمرء متماحل فكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل رأيتك وليغفر لك الله حرة ... من المحصنات غير ذات الغوائل (¬3). ¬

(¬1) وقد عد الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري المتوفي سنة 457 هـ أحاديث غيرها من المكثرين في الرواية فعدد روايات عمر الفاروق (237) وعلي المرتضى (586) وابن مسعود (0 0 8) وبضعة أحاديث، وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس أكثر من (150) وابن عمر وأنس رضي الله عنهما كعائشة رضي الله عنها. (كتاب الفصل في الملل والنحل: الجزء الرابع). (¬2) سيرت طيبة (2/ 147). (¬3) سيرت طيبة (2/ 147).

وتتمثل في عائشة الصديقة رضي الله عنها غاية صدقها وعدلها حين تظهر رأيها عن ضرائرها. (ألف) فتقول في مدح زينب بنت جحش: 1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا" قالت: فكانت أطولنا يدا زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق. 2 - ما رأيت امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثا وأوصل للرحم وأعظم صدقة. (ب) وتقول في مدح صفية أم المؤمنين رضي الله عنها: ما رأيت صانعة طعام مثل صفية. (ج) وتقول في مدح سودة أم المؤمنين رضي الله عنها: ما من الناس أحد أحب إلى من أن أكون في سلاخه من سودة بنت زمعة إلا أن بها حدة. (د) وتصف جمال جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها فتقول: كانت جويرية عليها حلاوة وملاحة لا يكاد يراها أحد إلا وقعت في نفسه. ـ[أمومة الأمة]ـ: عن بشر بن عقربة قال: استشهد أبي يوم أحد فكنت جالسا أبكي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما ترضي أن تكون عائشة أمك وأكون أنا أباك" (¬1). خص النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرواية عائشة بالأمومة دون غيرها من نسائه - صلى الله عليه وسلم -. ـ[عثرة عائشة]ـ: ومن العثرات البشرية التي صدرت عن عائشة حضورها حرب الجمل (¬2) ¬

(¬1) الاستيعاب (1/ 176). (¬2) وقعت هذه الحادثة في 15 من جمادى الآخر سنة 36 هـ. استمرت الحرب من الصباح إلى ما بعد الظهيرة. كان الزبير قد خرج من الصف قبل نشوب الحرب. أما طلحة فجرح فمات وكان قد جدد بيعة علي رضي الله عنه قبل موته. قال ابن تيمية وابن حزم: لم يكن يريد كل من الفريقين البدء بالقتال، ولكن قتلة عثمان أغاروا ليلا على معسكر أصحاب الجمل، فظن أصحاب الجمل أن ذلك بأمر علي رضي الله عنه، فدافعوا عن أنفسهم حتى خالطوا عسكر علي فدافع أهله عن أنفسهم =

وقد سميت هذه الحرب بحرب الجمل لأن هودج عائشة كان على جمل اسمه العسكر. وكان خصمها في هذه الحرب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. ولما انتهت الحرب قالت عائشة: إن مثل ما بيني وبين علي مثل ما بين المرأة وحموها فقال علي، والله هذا لصحيح، قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} (سورة الحجرات: 9). وأرى أن هذه أول حرب تقاتلت فيها فئتان مؤمنتان، ونظرا إلى هذا ينبغي لنا أن نقرأ هنا إلى قوله تعالى {إن الله تواب رحيم} فهذا يزيل كثيرا من الشبهات والظنون. ويؤيد صدق عائشة وحبها لعلي وفاطمة ما ورد في الترمذي عن جميع بن عمير قال: دخلت مع عمتي على عائشة رضي الله تعالى عنها فسئلت: أي الناس كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: فاطمة. قيل من الرجال؟ قالت: زوجها" (¬1). وكذلك يؤيده حديث عائشة الذي رواه مسلم في صحيحه (¬2). وهو: {ليذهب عنكم الرجس أهل البيت}. والمراد بأهل البيت هنا الحسن والحسين وعلي وفاطمة. وفي الأيام التي بدأت فيها حرب الجمل كان عمار بن ياسر رضي الله عنه قد ألقى في مسجد الكوفة أمام رفقاء علي خطبة جاء فيها: إني لأعلم أنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها (¬3). وننقل هنا بعض ما قالته عائشة رضي الله عنها من الخصائص التي كانت تفتخر بذكرها "توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتي ونوبتي وبين سحري ونحري وجمع الله بين ريقي وريقه، قالت: دخل عبد الرحمن بسواك فضعف النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذته فمضضته ثم سننته". ¬

= وكل طائفة تظن أن الأخرى بدأ بها القتال. وبرهان ذلك أن أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن كان معهم ما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه شيئا يحط عن الإمامة، ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا جددوا بيعة لغيره. هذه الوجوه كلها تدل على أن الحرب كانت حادثا وقع عرضا لم يدبر لها أحد من الفريقين. (الفصل في الملل والنحل (4/ 158) ط مصر 1317هـ. (¬1) الترمذي في المناقب: باب فضل فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - (5/ 701 رقم 3874). (¬2) مسلم في فضائل الصحابة: باب فضائل أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - (2/ 1883 رقم 2424). (¬3) البخاري في فضائل الأصحاب: باب فضل عائشة رضي الله عنها (4/ 220).

ومن أقوالها أنها قالت: اقرعوا باب الجنة يفتح. قالوا: كيف نقرع؟ قالت: باحتمال شدة الجوع والظمأ. وسألها رجل مرة: متى أظن نفسي صالحة؟ قالت: حين ظننت نفسك سيئة. فقال: متى أظن نفسي سيئة؟ قالت: حين ظننت نفسك صالحة. وكانت عائشة بنت ثماني عشرة سنة حين مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، والعلوم العالية التي تعلمتها منه خلال تسع سنوات، قامت بتبليغها إلى الأبناء الروحيين نحو نصف قرن من الزمان. ـ[أقاربها]ـ: والدتها أم رومان الكنانية التي توفيت في شهر رمضان سنة ست من الهجرة. نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حفرتها، وقال: "اللهم لا يخف عليك ما لقيت أم رومان فيك وفي رسولك" وقال: "من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان" (¬1). 1 - عبد الرحمن بن أبي بكر شقيقها وكان من شجعان العرب، انتصر المسلمون في حرب اليمن بشجاعته وهو الذي قال لمعاوية: أهرقلية إذا مات كسرى قام كسرى مكانه لا نفعل والله أبدا؟ وذلك حين ذكر معاوية رضي الله عنه إمارة يزيد لجمع من الصحابة وفيهم الإمام الحسين عليه السلام وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه. وابن عبد الرحمن أيضا من الصحابة. وعلى هذا فأربعة أجيال من أسرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من الصحابة، وإن هذا الشرف لم يحصل لأحد من الصحابة غيره. وقد قالت عائشة الأبيات التالية في وفاته: وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا 2 - والطفيل بن سخبرة أخوها لأم. 3 - وعبد الله بن فضالة الليثي أبوها من الرضاعة يكنى أبا عائشة وكان قاضيا بالبصرة وعبد الله وفضالة كلاهما من الصحابة. 4 - وأسماء ذات النطاقين أختها من الأب. أسلمت بعد سبعة عشر نفرا، توفيت ¬

(¬1) الاستيعاب (4/ 1936). وأخرج البخاري حديثا عن مسروق التابعي عن أم رومان. ويظهر منه أن وفاة أم رومان كانت بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند البخاري.

في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين من الهجرة وهي بنت مائة سنة تقريبا. 5 - وعبد الله بن أبي بكر أخوها لأب، جرح في غزوة حنين فمرض ومات. وهو الذي كتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - كتابه إلى أهل نجران في حقوقهم (¬1). وله أخوات من بطن أسماء بنت عميس التي ولدت بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه بأشهر. 6 - ومحمد بن أبي بكر أخوها لأب وهو الذي كان ربيبا لعلي رضي الله عنه. استعمله علي رضي الله عنه على مصر في خلافته. 7 - وكانت لها أمة اسمها بريرة. قال عبد الملك بن مروان: كنت أجالس بريرة بالمدينة قبل أن ألي هذا الأمر فكانت تقول لي: يا عبد الملك إني أرى فيك خصالا وإنك لخليق أن تلي هذا الأمر، فإن وليت هذا الأمر فاحذر الدماء، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها بملأ محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق" (¬2). ـ[إيثار خدمة الإسلام ونسيان الألم الذاتي]ـ: كان معاوية بن خديج قد قتل محمد بن أبي بكر أخا عائشة رضي الله عنها، فكان بينها وبين معاوية بن خديج خلاف شديد، ولكن معاوية كان قد اشتهر بفتوحاته الإسلامية وخدماته الدينية في أفريقيا. عن عبد الرحمن بن شماسة المهري، قال: دخلنا على عائشة فسألتنا: كيف كان أميركم هذا وصاحبكم في غزواتكم تعني معاوية بن خديج؟ فقالوا: ما نقمنا عليه شيئا وأثنوا عليه خيرا. قالوا: إن هلك بعير أخلف بعيرا وإن هلك فرس أخلف فرسا وإن أبق خادم أخلف خادما. فقالت حينئذ: استغفر الله، اللهم اغفر لي إن كنت لأبغضه من أجل أنه قتل أخي، وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: 1 - "اللهم من رفق بأمتي فارفق به ومن شق عليهم فاشقق عليه" (¬3). 2 - وكانت عائشة تطوف بالبيت ومعها أم حكيم بنت خالد وأم حكيم بنت عبد الله فتذاكرتا حسان بن ثابت بالسب فقالت عائشة: ابن الفريعة تسبان؟ إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلسانه، أليس القائل: ¬

(¬1) كتاب الخراج لأبي يوسف المولود في 113 هـ المتوفي 5 من ربيع الأول 182 هـ. (¬2) الاستيعاب (4/ 1795). (¬3) الاستيعاب (3/ 1414)، ومسلم في الإمارة (2/ 1458 رقم 1828).

أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها

هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء فقالتا: أليس ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ فقالت: لم يقل شيئا (¬1). توفيت في سبعة عشر من رمضان سنة سبع وخمسين من الهجرة في سن ثلاث وستين ودفنت بالبقيع. أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها: هي بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كانت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي السلمي، وكان ممن تقدموا في الإسلام. هاجر هجرتين إلى المدينة، وشهد بدرا وأحدا وأصيب في غزوة أحد فتوفي بالمدينة، وكان أخوه عبد الله بن حذافة السلمي صحابيا وكان شجاعا وشاعرا. ولما تأيمت حفصة ذكرها عمر لأبي بكر وعرضها عليه فلم يرجع أبو بكر كلمة فغضب من ذلك عمر، ثم عرضها على عثمان حين ماتت رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عثمان: ما أريد أن أتزوج اليوم. فانطلق عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه عثمان وأخبره بعرضه حفصة عليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة". ثم خطبها إلى عمر فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقي أبو بكر عمر بن الخطاب فقال له: لا تجد علي في نفسك فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ذكر حفصة فلم أكن لأفشي سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو تركها لتزوجتها. ماتت أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين من الهجرة. وفي رواية: أن جبريل أثنى عليها فقال: إنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة (¬2). ¬

(¬1) اختلف الناس هل ساهم حسان في قصة الإفك أم لا؟ وبيت حسان الآتي خير دليل لدى على براءته. يقول في مدح عائشة وبراءة نفسه: فإن كان ما قد قيل عني قلته ... فلا رفعت سوطي إلى أناملي (¬2) الاستيعاب (4/ 1812)، والطبقات لابن سعد (8/ 84).

ولدت أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمس سنوات (¬1). ومجموع ما روي عنها ستون حديثا، أربعة أحاديث في صحيح البخاري وستة أحاديث في صحيح مسلم وخمسون حديثا في كتب الحديث الأخرى. يتباحث بعض الناس فيقولون: إن المراد ببعض الأزواج في قول الله عز وجل {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا} حفصة. وأرى أن الله لما لم يذكر اسما بالتحديد إكراما لأسرة حبيبه - صلى الله عليه وسلم - وإجلالا لها، فليس لنا أن نتجرأ على تحديده. وكذلك يتباحثون في بيان هذا الحديث الذي أسره النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض أزواجه، وأعتقد أنه لا يجوز لنا أن نكشف هذا السر ونتدخل فيه. ـ[أقاربها]ـ: 1 - أبوها عمر الفاروق الذي اشتهر ذكره في الإسلام، تولى الخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق سنة ثلاث عشرة سنة من الهجرة، ولم يخالفه فيها أحد، واستمرت خلافته عشر سنوات وستة أشهر. واستشهد في أربع وعشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة. ولما فتش عن قاتله وعلم أنه لؤلؤ النصراني قال: الحمد لله الذي لم يجعل قتلي برجل يحاجني بلا إله إلا الله. 2 - عبد الله بن عمر: هو شقيق حفصة، توفي بمكة سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، روي عنه 2210 رواية (¬2). 3 - والدتها زينب بنت مظعون، أسلمت قديما وتوفيت بمكة قبل الهجرة. ينتهي نسبها إلى كعب من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك نسب جدتها. 4 - خالها عثمان بن مظعون أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا وهاجر هجرتين، وهو أول رجل مات بالمدينة من المهاجرين. ولما غسل وكفن قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين عينيه ولما توفي إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) مدارج النبوة. (¬2) نسل عمر الفاروق يوجد في الهند بكثرة. قطب الأقطاب خواجة فريد شكر كنج، والمجدد الشيخ أحمد السرهندي، والإمام الرباني شاه ولي الله المحدث الدهلوي كلهم فاروقيون، وشاه أبو الخير عبد الله الدهلوي أيضا فاروقي ونسب الخواجة ضياء معصوم (كابل) أيضا ينتهي إلى عمر الفاروق رضي الله عنه.

أم المساكين زينب بنت خزيمة رضي الله عنها

"الحق بالسلف الصالح منا" (¬1). أم المساكين زينب بنت خزيمة رضي الله عنها: كانت تدعى أم المساكين في الجاهلية، تزوجها أولا طفيل ثم تزوجها عبيدة وهما ابنا الحارث بن عبد المطلب عم النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم تزوجها عبد الله بن جحش ابن عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخو زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها. فلما استشهد عبد الله بن جحش في غزوة أحد تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وعاشت بعد النكاح شهرين أو ثلاثة أشهر وهي أخت أم المؤمنين ميمونة لأم. أم المؤمنين أم سلمة (هند) رضي الله عنها: هي هند بنت أبي أمية المعروف بزاد الركب بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وينتهي نسبهما إلى عبد الله بن عمرو المخزومي. وهي ممن أسلموا قديما وأسلم أبو سلمة بعد عشرة رجال. وكانت أمه برة بنت عبد المطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمزة وأبو سلمة كلهم إخوة من الرضاعة. هاجرت مع زوجها إلى أرض الحبشة ثم عادا إلى مكة. ولما أراد أبو سلمة وأم سلمة الهجرة إلى المدينة مع ولدهما سلمة، انتزع أهل أبي سلمة من أبي سلمة ولده وقالوا: اذهب أنت وحدك وليس لك من الابن شيء فإنه منا. وكذلك انتزع منه أهل أم سلمة أم سلمة، وقالوا: ليس لك منها شيء. وكان أبو سلمة رجلا قوي الإسلام، راسخ العزم، فأبى إلا أن يهاجر إلى المدينة المنورة، فأخذ سبيله إلى الله والرسول، وبقيت أم سلمة في مكة، وكانت تخرج كل غداة وتجلس بالمكان الذي كانت فارقت فيه زوجها، وما زالت تبكي طوال السنة. ثم خرجت أم سلمة مهاجرة إلى المدينة وخرج معها عثمان بن أبي طلحة حامل مفاتيح الكعبة وكان يومئذ كافرا. فكان ينزل بناحية منها إذا نزلت، ويسير معها إذا سارت، ويرحل بعيرها وينتحي إذا ركبت، فلما نظر إلى نخل المدينة قال لها هذه الأرض التي تريدين. ثم سلم عليها وانصرف. شهد أبو سلمة بدرا وجرح يوم أحد جرحا اندمل ثم انتقض فمات منه - وذلك لثلاث مضين لجمادي الآخرة سنة ثلاث من الهجرة - وكان يقول: اللهم أخلفني في أهلي بخير. وقد خلف وراءه أطفالا صغارا. ¬

(¬1) الاستيعاب (3/ 1053).

ثم تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة لحبه لأبي سلمة الذي التزم بالصدق والاستقامة في سبيل الإسلام طوال حياته، هذا بالإضافة إلى ما تحملته أم سلمة من شدائد في سبيل الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة. وكان عمر وسلمة وزينب ودرة ربيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترعرعوا تحت رعايته - صلى الله عليه وسلم -. ـ[أقاربها]ـ: 1 - عمر بن أبي سلمة: ولد في السنة الثانية من الهجرة واستعمله علي رضي الله عنه على فارس والبحرين. وتوفي سنة ثلاث وثمانين. روى عنه سعيد بن المسيب وأبو أمامة بن سهل بن حنيف وعروة بن الزبير. 2 - سلمة بن أبي سلمة: زوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب. توفي في خلافة عبد الملك بن مروان ولم يرو له حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. 3 - زينب بنت أبي سلمة: تزوجها عبد الله بن زمعة بن الأسود الأسدي وكانت من أفقه نساء أهل زمانها، ولدتها أمها بأرض الحبشة، ويروى أنها دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يغتسل فنضح في وجهها. قال: فلم يزل ماء الشباب في وجهها حتى كبرت وعجزت. ولما كان يوم الحرة قتل ابنا زينب فحملا ووضعا بين يديها مقتولين فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون. والله إن المصيبة علي فيهما لكبيرة وهي علي في هذا أكبر منها في هذا، أما هذا فجلس في بيته فكف يده فدخل عليه وقتل مظلوما وأنا أرجو له الجنة، وأما هذا فبسط يده فقاتل حتى قتل، فلا أدري على ما هو في ذلك فالمصيبة به علي أعظم منها في هذا. 4 - أم كلثوم بنت أم سلمة: حديثها عند موسى بن عقبة عن أمه عن أم كلثوم بنت أبي سلمة قالت: لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة قال لها: "إني قد أهدي للنجاشي أواقى من مسك وحلة وإني لأراه قد مات ولا أرى لهدية إلا لترد إلي، فإذا ردت إلي لهي لك، فكان كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 5 - درة بنت أم سلمة: في صحيح البخاري أن أم حبيبة قالت: يا رسول الله إنا ¬

(¬1) الاستيعاب (4/ 1953).

تحدثنا أنك ناكح درة بنت أبي سلمة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعلى أم سلمة، لو أني لم أنكح أم سلمة لم تحل لي، إن أباها أخي من الرضاعة؟ ". 6 - زهير وعامر وعبد الله والمهاجر كلهم إخوة أم سلمة، وعبد الله ومعبد ابنا أخيها، وعبد الله بن زمعة ابن أختها. 7 - عبد الله: أمه عاتكة عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كان شديد العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم إنه خرج مهاجرا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلقيه بالطريق وهو يريد مكة عام الفتح فأسلم وحسن إسلامه وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة مسلما وشهد حنينا والطائف ورمى يوم الطائف بسهم فقتله. 8 - عامر: وهو من المؤلفة قلوبهم. 9 - المهاجر: أخو أم سلمة لأبيها وأمها، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن واستعمله أيضا على صدقات كندة والصدف، ثم ولاه أبو بكر اليمن وهو الذي افتتح حصن النجير بحضر موت. توفيت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها سنة تسع وخمسين من الهجرة وهي بنت أربع وثمانين سنة. وقيل توفيت سنة ستين من الهجرة. روى عنها في الصحيحين ثلاثة عشر حديثا، وفي صحيح البخاري ثلاثة أحاديث فقط. وفي صحيح مسلم ثلاثة عشر حديثا فقط. وفي كتب الحديث الأخرى ثلاثمائة وتسعة وأربعون حديثا والمجموع الكلي ثلاثمائة وثمانية وسبعون حديثا. وقالت أم المؤمنين أم سلمة الأبيات التالية في وفاة وليد ابن عمها: يا عين فابكي الوليد (¬1) ... ابن الوليد بن المغيرة قد كان غيثا في السنين ... ورحمة فينا وميرة ضخم له سعيه ماجدا ... يسمو إلى طلب الوتيرة مثل الوليد بن الوليد ... إلى الوليد كفى العشيرة ¬

(¬1) الوليد بن الوليد أخو خالد بن الوليد الأكبر وتقدمه في الإسلام هو الذي رغب خالد بن الوليد في الإسلام.

أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها

أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: هي زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر ابن صبيرة بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كانت قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت زيد بن حارثة الذي ينتهي نسبه إلى قضاعة ونسب أمه إلى معن بن طي. فكأنه كان نجيب الطرفين. لكن جماعة اختطفته وهو صغير وباعته في سوق الحباشة (القريب من مكة والذي يعقد مرة كل عام) فاشتراه منهم حكيم بن حزام لعمته خديجة الكبرى. فلما تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهبته له فقبضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج حارثة وكعب ابنا شرحبيل بفدائه، وقدما مكة فسألا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخلا عليه وقالا له: جئناك في ابننا عندك فامتن علينا، وأحسن إلينا في فدائه، فرضي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن زيد بن حارثة أبى أن يذهب مع أبيه (¬1) لكثرة أعطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإحسانه إليه. فلما رأى أبوه أنه حل منه محل الابن ولا يعيش عيشة العبيد انصرف عنه، وكان زيد يدعى زيد بن محمد لحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، وهذه الأمور كلها كانت قبل بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد النبوة كان من بين الأمور التي أصلها في المجتمع تحسين أوضاع العبيد فكان يقول: أيها الناس متى استعبدتموهم وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. وقد أثبت فعلا أن الاستعباد الزائف لا اعتبار له في الإسلام وأن الرجل لا يكون عبدا لرجل بمجرد أن أخذه قهرا وباعه لغيره بدراهم معدودة. وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضرب لذلك مثلا أعلى، فاقترح بأن يزوج زينب بنت جحش زيد بن حارثة، وكان غرضه من هذا النكاح أن يقضي على ذل العبودية للأبد، وأن لا يحرم أحد من حقوقه الإنسانية المشروعة لمجرد أنه بيع أو اشتري في رمن. أما الذين كانوا يفتخرون بعلو نسبهم وسمو مجدهم فما كانوا ليتفقوا مع المصلح الأعظم - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر، فقد أبت زينب أن تنكح زيد بن حارثة وأبى ذلك أقرباؤها معها (¬2). وقد استمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما أراد من إصلاح وضرب مثلا رائعا حتى أن الله قد أنزل عليه: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} (سورة الأحزاب: 36). ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 40 - 41). (¬2) سنن الدارقطني. طبع المطبعة الفاروقية بدلهي ([ص:416]).

وبعد نزول هذه الآية تركت زينب وأقرباؤها أفكارهم القومية والذاتية، وأصبح هذا النكاح منة عظيمة على البشرية كما استحقت زينب الثناء والمدح. وشاء الله أن يجعل من حياة زينب نفسها إصلاح أمر آخر: وهو أنه كانت قد جرت العادة في الأقطار المختلفة إذا لم يكن لأحد ولد أخذ ولد غيره ويقال له متبني، وكان التبني لا ينسب نفسه إلى أبيه الحقيقي بل ينسب إلى من أخذه وتبناه. وكانت هذه العادة خروجا على مشيئة القدرة الإلهية، فكأن من ظفر بولد غيره يقول بلسان حاله لربه: ها أنا ظفرت بولد وإن لم تعطني إياه، هذا بالإضافة إلى عدة أمور منها: (ألف) كان لهذه العادة تأثير سيء على حقوق الورثة الشرعيين، إذ أنهم كانوا يرثون المال بوثيقة شرعية ويرث معهم هذا الوارث المصطنع أيضا، فيغرس ذلك بذور العداوة والبغضاء داخل الأسرة وتنشأ نزاعات لا نهاية لها. (ب) والمتبني الذي كان بمثابة فرع منفصل عن شجرة الأسرة كان يتألم لأنه ليست بينه وبين هذه الأسرة الجديدة علاقة دم حقيقية وإنما هي عادة من العادات الشكلية، وكان يحسد إخوته الحقيقين لو كانوا في حالة طيبة بينما كان إخوته الحقيقيون يحسدونه لو كان في حالة طيبة. (ج) وكان الذي يتبنى ولدا يحبه في صباه ويربيه حتى يكبر وحين يراه بعد بلوغه لا يتصف بصفات أسرته وأنه غريب في طباعه على أقربائه أصيب باليأس والأسى. (د) وأيضا فإن أباه الحقيقي الذي احتمل الحرمان من ثمرة فؤاده وفلذة كبده والذي لا يمكن أن تنقطع عنه مودته الأبوية إذا رأى ابنه في مصيبة في بيت غيره تحسر وألقى باللائمة على فعله، وتأسف على ما فعل، وهذه الأمور كلها تدل على أن التبني كان ثمرة مرة في أي صورة من صوره، وكأنت هذه الحالة المصطنعة مثلها مثل الخضاب الذي يزول ويكشف ما أخفاه. وقد شاء الله أن يصلح هذه العادة السيئة ويبرهن رسوله بطلانها بنفسه، وهو رحمة للعالمين وهو المصلح الأعظم لأهل الأرض.

وكان الله قد أنزل قوله من قبل: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم}. (سورة الأحزاب: 40). وأيضا أنزل الله مثل ذلك قوله: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (...) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} (سورة الأحزاب: 4 - 5). وقد صرح الحق تعالى في هاتين الآيتن ببطلان هذه العادة الزائفة التي لم تكن العرب فريستها فحسب، بل كان العالم كله خاضعا لها. وبما أنها كانت قديمة عميقة الجذور تطلب إصلاحها نموذجا عظيم الهمة لهذا اختير النبي - صلى الله عليه وسلم - كنمودج لتحطيم صخرة هذه الجاهلية وردم بطلانها، وذلك لكونه الأسوة الحسنة {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} وقد تم ذلك حين لم ترض زينب بأن تعايش زيدا زوجها، وهو الذي كان يعايش بحلمه وتقواه أم أيمن التي كانت أكبر منه والتي كانت حبشية الأصل، ووصل الأمر إلى أنه شكى ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك عليك زوجك" وحثه على أن يحتمل ذلك فقال: "اتق الله" ولكن العلاقة بين الزوجين علاقة غريبة إذا ساءت لا يحسنها نصح ناصح، فطلق زيد زينب. أما ماذا كان تأثيره على زينب وأسرتها فأمر نستطيع أن نتصوره. إن زينب وأهلها ما كانوا يحسبون زيدا أهلا لهذا النكاح، وإنما فعلوا ذلك امتثالا لأمر الله ورسوله، ولم يكن يخطر لهم ببال أن زينب مع طاعتها لله ولرسوله ستواجه هوان الطلاق وأن الناس سيعيبونها بأنها لا تطيع زوجها. وماذا كان تأثير هذا الطلاق على النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ لقد أضر أولا بالمصلحة الدينية التي لأجل توطيدها كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اهتم بهذا النكاح، وأرضى امرأة لها مكانتها في أسرتها بأن تنكح رجلا كان عبدا في زمن، وكان ينادى بالمولى (¬1). وأحزن ذلك ثانيا قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد امتثلت لأمره زينب وأهلها فوقعوا في المصيبة. وفي مثل هذا الأوان الحرج أنزل الله الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بأن زينب قد أصبحت أم المؤمنين، وهكذا جبر الله تعالى خاطرها بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه. لقد أتى على زينب حين من الدهر امتنعت عن نكاح زيد نتيجة للتقاليد المتبعة، ثم ¬

(¬1) كانوا يسمون العبد المعتق مولى.

أتى على النبي - صلى الله عليه وسلم - حين تردد هو في نكاح زينب نظرا لما كان عليه المجتمع وتقاليده، ولكن تم أمر الله وقبلها النبي - صلى الله عليه وسلم - كزوجة له. فتمزقت أوصال التبني الذي اغتر به العالم زمانا وتحطمت أصنامه، لأن الإسلام كان حرم على الأب أن ينكح زوجة ابنه. والآن لما جعل القرآن زوجة زيد زوجة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبق مجال للتأويل في تأييد التبني. وليس غريبا أن يكون الكفار في ذلك الزمن قد بكوا على ما رأوا من انحلال عادتهم القديمة ووجهوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو القرآن كلمات من اللوم والوقيعة، ولكن الأغرب من ذلك أن النصارى في عصرنا هذا يبدون سخطهم على هذه الواقعة. ـ[لماذا يعترض النصارى على هذه الواقعة؟]ـ: لنا أن نفركر ما الذي جعل النصارى يتقلبون على الجمر لهذه الواقعة؟ هل جعل الكتاب المقدس التبني حقا أم أن المسيح عليه السلام اعترف بجوازه وقال في تأييده ولو كلمة؟ وإذا لم يكن ذلك فلماذا هم مهمومون؟. نعم! إنهم مهمومون لأن نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا لم يبطل التبني فحسب، بل أبطل عقيدة التثليث أيضا، لأنه إذا أثبت الإسلام أن القول بأن إنسان ما ابن لإنسان آخر دون وجود رابطة الدم هو مجرد كذب وافتراء وبهتان، فإنه يثبت بذلك أن القول بأن الإنسان ابن الله هو بالقطع باطل وافتراء كامل وبهتان صريح وكذب مكشوف، لأن الإنسان لا يشبه الله تعالى في شيء، فكيف يكون هذا الإنسان الذي ركب من جسم وروح وله حوائج بشرية وخلق يوما ولم يكن قبله وسيفنى يوما ابنا لله الحق القيوم صاحب الذات السرمدية وهو الأول والآخر. هذا ما جعل الدعاة النصارى يسخطون على هذه الواقعة. ولم يكن هدفنا هنا إلا ذكر سيرة زينب رضي الله عنها فلذا ينبغي أن نقصر حديثا على هذا الهدف، إن هذه الواقعة تدل على أن وجود زينب كان ذا بركة في نشر تعاليم الإسلام وإبطال العادات والتقاليد الضالة. ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقول في شأنها: "هي التي تساويني في المنزلة عند رسول الله". كانت زينب بنت ست وثلاثين سنة (¬1) حين تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن الحكم بالحجاب قد نزل يومئذ، هذان أمران إذا علمهما أحد لا يمكنه أن يصدق ما قد أشيع ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه لما رأى زينب فجأة افتتن بها، مع أن زينب بنت لعمته الحقيقية، ¬

(¬1) وذكر في كتاب "إنسان العيون" 35 سنة ولكن الصحيح هو 36 سنة على الحساب الصحيح.

ترعرعت بمرأى ومسمع منه، فكيف يمكن أن تخفى عليه صورتها ولا سيما أن الحجاب لم يكن قد صدر به الحكم بعد؟ ثم إن المرأة التي قضت من حياتها ستا وثلاثين سنة وهي من نساء البلاد الحارة كجزيرة العرب التي سرعان ما يزول فيها شباب المرأة، كيف نسلم في مثل هذه المرأة أن زيدا - وهو العبد المعتق - سئمها وضجر منها، أما النبي - صلى الله عليه وسلم - - وهو سيد الأنبياء، وإمام الأتقياء - فقد افتتن بها؟ إن العقل والتجربة والمشاهدة تكذب هذا الادعاء. توفيت زينب سنة عشرين من الهجرة (¬1) وهي في الثانية والخمسين من عمرها وهي تكنى أم الحكم (¬2). ـ[أقاربها]ـ: لها ثلاثة إخوة: هم عبد الله (المجدع في الله) وأبو أحمد عبد الله وعبيد الله، وثلاث أخوات هن: زينب وحمنة وأم حبيبة. 1 - عبد الله بن جحش: ممن سبق إسلامهم وهو ممن هاجر الهجرتين، أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اثنى عشر رجلا من المهاجرين إلى بطن النخلة ولقبه بأمير المؤمنين، شهد بدرا واستشهد يوم أحد ودفن هو وحمزة في قبر واحد. عن سعد بن أبي وقاص أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا تأتي فندعو الله فخلوا في ناحية فدعا سعد وقال: يا رب إذا لقيت العدو غدا فلقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك، ويقاتلني ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سلبه، فأمن عبد الله بن جحش ثم قال: اللهم ارزقني غدا رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقاتلني فيقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني. فإذا لقيت قلت: يا عبد الله! فيم جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك. فتقول: صدقت، قال سعد: كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرا من دعوتي لقد رأيته آخر النهار وإن أذنه وأنفه معلقات جميعا في خيط (¬3). وله أبيات تالية في وقعة بطن النخلة: تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد أرشد ¬

(¬1) الاستيعاب (4/ 1852). (¬2) مدارج النبوة لشاه عبد الحق رحمه الله. ولا نعرف سبب هذه الكنية وربما هي توصيفية. (¬3) الاستيعاب (3/ 879).

صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى الله في البيت ساجد فإنا وإن عيرتمونا بقتله ... وأرجف بالإسلام باغ وحاسد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقد (¬1) 2 - أبو أحمد، عبد الله. كان شاعرا، هاجر الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة ولم تكن له أعين ظاهرة في وجهه. كانت رفاعة بنت أبي سفيان تحته. توفي سنة اثنتين وعشرين من الهجرة بعد وفاة أختها أم المؤمنين زينب رضي الله عنها، وله أبيات تالية في الهجرة: لما رأتني أم أحمد غاديا ... بذمة من أخشى بغيب وأرهب تقول فأما كنت لابد فاعلا ... فيمم بنا البلدان ولتنأ يثرب (¬2) فقلت لها بل يثرب اليوم وجهنا ... وما يشاء الرحمن فالعبد يركب إلى الله وجهي والرسول ومن يقم ... إلى الله يوما وجهه لا يخيب فكم قد تركنا من حميم مناصح ... وناصحة تبكي بدمع وتندب ترى أن وترا فائتا عن بلادنا ... ونحن نرى أن الرغائب نطلب دعوت بني غنم لحقن دمائهم ... وللحق لما لاح للناس ملحب أجابوا بحمد الله لما دعاهموا ... إلى الحق دل والنجاح فأوعبوا وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى ... أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا كفوجين اما منهما فموفق ... على الحق مهدى وفوج معذب طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم ... عن الحق إبليس وخابوا وخيبوا ورعنا إلى قول النبي محمد ... فطاب ولاة الحق منا وطيبوا تمت بأرحام إلينا قريبة ... ولا قرب بالأرحام إذ لا تقرب ¬

(¬1) قوله "لما أوقد الحرب واقد" يدل على أن الحرب لم يتقدم فيها المسلمون بل تقدمت قريش. (¬2) قد ورد النهي عن تسمية المدينة بيثرب. وهذه الأبيات قيلت قبل النهي.

أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها

فأي ابن أخت بعدنا يأمنكم ... وأية صهر بعد صهري مرقب ستعلم يوما أينا إذا تزايلوا ... وزيل أمر الناس للحق أصوب (¬1). 3 - عبيد الله بن جحش وهو الذي توجه إلى الحبشة مع إخوته، كان يدمن الخمر، تنصر ومات بها. 4 - أم حبيب بنت جحش وهي التي اسمها حبيبة، كانت تحت زيد بن حارثة. 5 - حمنة بنت جحش وهي التي كانت تحت مصعب بن عمير (مقرئ الأنصار) فلما استشهد مصعب يوم أحد تزوجها طلحة بن عبيد الله، فولدت له ابنين محمدا وعمران. أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها: هي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب ابن عائذ بن مالك بن جديمة. وجذيمة هو المصطلق بن خزاعة سباها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم المريسيع في سنة خمس من الهجرة، وكانت قد وقعت في سهم ثابت بن قيس (¬2) بن شماس فكاتبته على نفسها فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستعينه على كتابتها فقالت: إني مسلمة (¬3)، ثم أخبرت أنها بنت الحارث بن ضرار سيد قومه. فقال لها: "هل لك في خير من ذلك؟ " قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: "أقضي كتابتك وأتزوجك" قالت: نعم، قال: "قد فعلت" وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج جويرية بنت الحارث. فقال الناس: صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلوا ما في أيديهم من سبايا بني المصطلق. قالت عائشة: فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها (¬4). وكانت قبله تحت مسافع بن صفوان المصطلقي، توفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين (¬5) وهي بنت خمس وستين أو سبعين سنة (¬6). ¬

(¬1) نقلا عن حسن الصحابة طبع قسطنطنية سنة 1324هـ. (¬2) ثابت بن قيس يقال له خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا". قتل يوم اليمامة شهيدا في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ولما انكشف الناس يوم اليمامة قال وهو يتحنط: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قاتل حتى قتل وكان عمره عشرين سنة حين كاتب جويرية رضي الله عنها. (¬3) مدارج النبوة. (¬4) أبو داود عن عائشة الصديقة رضي الله عنها. (¬5) الاستيعاب (4/ 1805). (¬6) مدارج النبوة.

وعن جويرية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة قال: "ما زلت على الحال التي فارقتك عليها" قالت: نعم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته" (¬1). وعن جويرية بنت الحارث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، قال: "أصمت أمس؟ " قالت: لا، قال: "تريدين أن تصومي غدا؟ " قالت: لا، قال: "فافطري". وفي الصحيحين "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو بعده" (¬2). وكانت جويرية عابدة زاهدة. روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، منها حديثان في "صحيح البخاري" وحديثان في "صححيح مسلم" وثلاثة أحاديث في كتب الحديث الأخرى. مجموعها سبعة أحاديث (¬3). وأخو جويرية عبد الله بن الحارث الذي كان قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في فداء أسارى بني المصطلق وغيب في بعض الطريق ذودا كن معه وجارية سوداء، فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فداء الأسارى فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فما جئت به؟ " قال: ما جئت بشيء. قال: "فأين الذود والجارية السوداء التي غيبت بموضع كذا" قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والله ما كان معي أحد ولا سبقني أحد، فأسلم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لك الهجرة (¬4) حتى تبلغ برك الغماد" (¬5). ولها أخ غير عبد الله بن الحارث اسمه عمرو بن الحارث. روى عنه أنه قال: "تالله ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته دينارا أو درهما ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء ¬

(¬1) أخرجه الخمسة والبخاري. (¬2) أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) مدارج النبوة. (¬4) الاستيعاب (3/ 884). (¬5) برك الغماد اسم موضع بينه وبين مكة خمسة منازل.

أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها

وسلاحه وأرضا تركها صدقة". واسم أختها عمرة بنت الحارث التي روت حديث "الدنيا خضرة حلوة" (¬1). أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها: هي أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف. وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية. كانت من بين من سبقوا في الإسلام، وكانت أولا عند عبيد الله بن جحش، وكان قد هاجر إلى أرض الحبشة مسلما، ثم تنصر هنالك وبقيت أم حبيبة مسلمة بأرض الحبشة. تركت أباها وإخوتها وعشيرتها ووطنها في سبيل الإسلام. وكان زوجها وسيلة لها في الغربة ولكنه ارتد فلم يكن لها أحد. ولما بلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل عمرو بن أمية الفهري إلى النجاشي بأن يبلغ أم حبيبة خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إليها النجاشي جارية له كانت تقوم على ثيابه ودهنه، وكانت أم حبيبة قد رأت في المنام أن أحدا يناديها بأم المؤمنين، ولما سمعت خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شكرت الله وأعطت الجارية سوارين من فضة كانتا عليها وخواتيم من فضة كانت في أصابعها سرورا بما بشرت به، وقد عقد النجاشي نفسه جلسة عقد الزواج وحضرها جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين، وخطب النجاشي فقال: "الحمد الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم -. أما بعد! فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلي أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبت ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أصدقتها أربعمائة دينار". ثم سكب الدنانير بين يدي القوم. فتكلم خالد بن سعيد وكان وكيل أم حبيبة، فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد! فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسوله عليه السلام. ودعا النجاشي بطعام فأكلوا وقد قال النجأشي إن سنة الأنبياء أن تعقد الوليمة بعد عقد انزواج. توفيت أم المؤمنين أم حبيبة سنة أربع وأربعين من الهجرة بالمدينة. ولما حضرتها الوفاة قالت لعائشة وأم سلمة: إن الضرائر لتكون بينهن مشادة، فإن قلت شيئا فاعفوا ¬

(¬1) الاستيعاب (4/ 1887).

عني. فقالتا: عفونا عنك. فقالت: رضيتا عني فرضي الله عنكما. وكانت أم حبيبة طيبة النفس حميدة الصفات، وكانت جوادة شجاعة. وعدد ما روي عنها من الأحاديث حديثان في "الصحيحين" وحديث في "صحيح مسلم" واثنان وستون حديثا في كتب الحديث الأخرى. وحبيبة ابنتها ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولدت بمكة وهاجرت مع أبيها إلى أرض الحبشة. ويدل على فضل أم حبيبة ما رواه ابن إسحاق إمام أهل السيرة وهو: أن أبا سفيان لما قدم المدينة دخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوته عنه، فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يمكن لمشرك أن يجلس عليه، قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر. الله أكبر هذا هو النموذج الأمثل على الإيمان الكامل والذي بسببه حباها رب العباد بالدرجة العليا فجعلها أم المؤمنين، وهذه هي محبة رسول الله التي لا يكتمل إيمان إنسان دون أن تعمر هذه المحبة قلبه يقول - صلى الله عليه وسلم - "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". ـ[أقاربها]ـ: أبو سفيان صخر بن حرب أبوها، وكان من أعداء الإسلام وأشراف قريش في الجاهلية، وكان رئيس جيش الكفار يوم أحد. وكانت إليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، أسلم قبل فتح مكة بيوم أو يومين وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنينا والطائف، وثبت يوم اليرموك وتقدم بالمسلمين إلى النصارى بجرأة وشجاعة. توفي سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة وعمره ثلاث وتسعون سنة، وكانت ولادته قبل عام الفيل بعشر سنين. ويزيد بن أبي سفيان شقيقها الذي يعرف بيزيد الخير، أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، استعمله أبو بكر رضي الله عنه فيمن استعمله على فتح الشام، توفي سنة تسع عشرة من الهجرة بدمشق وكان آنذاك أميرا على الشام. وكان معاوية أخاها من أم أخرى، وهو الذي تولى الإمارة التابعة للخلافة بأرض الشام عشرين سنة وحكمها نحو تسع عشرة سنة وأسس حكم بني أمية. توفي في اثنتين وعشرين مضت من رجب سنة ستين من الهجرة وهو حينئذ ابن ثنتين وثمانين سنة.

أم المؤمنين صفية رضي الله عنها

وحبيبة بنت أم حبيبة ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - رجعت من الحبشة مع أمها، ولم نجد لحياتها حادثا يذكر. أم المؤمنين صفية رضي الله عنها: هي صفية بنت حيىي بن أخطب بن شعبة بن ثعلبة من سبط هارون بن عمران وأمها برة بنت سموأل. كانت أولا عند سلام بن مشكم ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق فقتل يوم خيبر. وكانت صفية من سبايا خيبر، ولما جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبي خيبر جاءه دحية (¬1) فقال: أعطني جارية من السبي فقال: "اذهب فخذ جارية" فأخذ صفية بنت حيي، فقيل: يا رسول الله إنها سيدة قريظة والنضير ما تصلح إلا لك فأعتقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتزوجها. ويروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على صفية وهي تبكي فقال لها: "ما يبكيك؟ " قالت: بلغني أن عائشة وحفصة تنالان مني وتقولان: نحن خير من صفية، نحن بنات عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه. قال: "ألا قلت لهن! كيف تكن خيرا مني وأبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). صلى الله على سيدنا محمد، النبي وعلى هارون، وعلى موسى، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. وروى أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب، فقالت: إن صفية تحب السبت وتصل اليهود فبعث إليها عمر، فسألها فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أبدلني الله به يوم الجمعة وأما اليهود فإن لي فيهم رحما وأنا أصلها، قال: ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان. قالت: اذهبي فأنت حرة. وتوفيت صفية في شهر رمضان سنه خمسين من الهجرة (¬3). وعدد ما روي عنها من الأحاديث عشرة أحاديث. حديث في "الصحيحين" وتسعة أحاديث (¬4) في كتب الحديث الأخرى. وكان رفاعة بن سموأل خالها من الصحابة، وله ¬

(¬1) دحية بن خليفة بن فروة من بني كلب وهو من كبار الصحابة. التزم بالركاب النبوي في المشاهد كلها سوى بدر. هو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر رسولا سنة 6 هـ. توفي في إمارة معاوية رضي الله عنه. (¬2) أخرجه الترمذي عن أنس رضي الله عنه. (¬3) الاستيعاب (4/ 1872). (¬4) مدارج النبوة.

أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها

رواية في "كتاب الموطأ" للإمام مالك (¬1). أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها: هي ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بحير بن الهرم ابن روبية بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصوربن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر (¬2). كانت قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت أبي رهم بن عبد العزى، وكانت قبل أبي رهم بن عبد العزى عند حويطب بن عبد العزى، كانت قد تأيمت حين خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - معتمرا سنة سبع، فذكرها العباس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وـ[أخوات ميمونة لأبيها وأمها]ـ أربع: 1 - أم الفضل لبابة الكبرى وهي والدة ابن عباس مفسر القرآن رضي الله عنه. 2 - لبابة الصغرى وهي والدة خالد سيف الله رضي الله عنه (¬3). 3 - عصماء وهي التي كانت تحت أبي بن خلف الجمحي. 4 - عزة وهي التي كانت تحت زياد بن عبد الله بن مالك الهلالي. وـ[أخواتها لأمها]ـ أربع: 5 - سلمى بنت عميس، كانت تحت حمزة بن عبد المطلب فولدت له أمة الله، ثم خلف عليها بعده شداد بن أسامة بن الهادي فولدت له عبد الله وعبد الرحمن. 6 - أسماء بنت عميس، كانت تحت جعفر بن أبي طالب فولدت له عبد الله وعونا ومحمدا، ثم خلف عليها أبو بكر الصديق فولدت له محمدا، ثم خلف عليها علي بن ¬

(¬1) الإمام مالك بن أنس بن مالك الأصبحي يلقب بإمام دار الهجرة. ولد سنة 95 هـ وتوفي سنة 179 هـ وهو ابن أربع وثمانين سنة. ذكر الشاه ولى الله في شرح الموطأ إذا أسند حديث إلى مالك بلغ الذروة العليا من الصحة. والشافعي رحمه الله تلميذه ومحمد بن الحسن وابن وهب وابن القاسم ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق وهارون الرشيد ومأمون الرشيد كلهم من تلاميذه. يبلغ مشاهير تلاميذه ألفا وكانوا بعده أساتذة. (¬2) انظروا نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) خالد بن الوليد من أشهر المشاهير وكان صاحب القبة والأعنة في قريش. والمراد بالقبة الخيمة التي يجلس فيها ويعلن الحرب. والمراد بالأعنة رسالة الخيل. وقد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - دائما أمير الخيل وضابطهم.

أبي طالب فولدت له يحيى (¬1). 7 - سلامة بنت عميس كانت تحت عبد الله بن كعب بن منبه الخثعمي. 8 - أم المؤمنين زينب بنت خزيمة، كانت عند الطفيل بن الحارث ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث، ثم خلف عليها عبد الله بن جحش وكان آخر نكاحها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومجموع ما روي عنها من الأحاديث ستة وسبعون حديثا. منها سبعة أحاديث في "الصحيحين" وحديث واحد في "صحيح مسلم" وحديث واحد في "صحيح البخاري" وسبعة وستون حديثا في كتب الحديث الأخرى. ملحق جدول عن أحوال أمهات المؤمنين رضي الله عنهن التاريخية ___ الرقم المسلسل ... أسماء الأزواج ... عام النكاح ... سن أم المؤمنين وقت النكاح ... العمر ... المقبرة ... مدة الإقامة عند النبي (ص) ... عمر النبي (ص) وقت النكاح ... عام الوفاة ___ 1 ... خديجة الكبرى ... سنة 25 من مولد النبي ... 40 سنة ... 65 سنة ... مكة المكرمة ... نحو 25 ... 25 عاما ... سنة 10 من النبوة 2 ... سودة رضي الله عنها ... سنة 10 من البعثة ... 50 سنة ... 72 سنة ... المدينة المنورة ... 14 عاما ... 50 عاما ... سنة 19 من الهجرة 3 ... عائشة رضي الله عنها ... سنة 11 من البعثة ... 6 سنين ... 63 سنة ... المدينة المنورة ... 9 أعوام ... 54 عاما ... سنة 57 هـ في 17 رمضان 4 ... حفصة رضي الله عنها ... شعبان سنة 3 هـ ... 22 سنة ... 59 سنة ... المدينة المنورة ... 8 أعوام ... 22 عاما ... سنة 41 هـ من جمادى الأولى 5 ... زينب بنت خزيمة رضي الله عنها ... سنة 3 هـ ... 30 عاما ... 30 سنة تقريبا ... المدينة المنورة ... 3 أشهر ... 55 عاما ... سنة 3 هـ 6 ... أم سلمة رضي الله عنها ... سنة 4 هـ ... 29 سنة ... 80 سنة ... المدينة المنورة ... 7 سنوات ... 56 عاما ... سنة 60 هـ 7 ... زينب بنت جحش رضي الله عنها ... سنة 5 هـ ... 36 عاما ... 51 سنة ... المدينة المنورة ... 6 سنوات ... 57 عاما ... سنة 20 هـ 8 ... جويرية ... شعبان سنة 5 هـ ... 20 سنة ... 71 سنة ... المدينة المنورة ... 6 سنوات ... 57 عاما ... سنة 56 هـ من ربيع الأول 9 ... أم حبيبة ... سنة 6 هـ ... 36 سنة ... 72 سنة ... المدينة المنورة ... 6 سنوات ... 58 عاما ... سنة 44 هـ 10 ... صفية ... جمادى الآخر سنة 7 هـ ... 17 سنة ... 50 سنة ... المدينة المنورة ... 3/ 3 / 4 ... 59 عاما ... سنة 50 هـ 11 ... ميمونة ... ذي القعدة سنة 7 هـ ... 36 سنة ... 80 سنة ... بسرف بالقرب من مكة ... 13/ 4 ... 59 عاما ... سنة 51 هـ ¬

(¬1) الاستيعاب. وفي مدارج النبوة هو عون بن علي ولكن الصحيح هو يحيى.

الباب الثامن

الباب الثامن {ويومئذ يفرح المؤمنون (*) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (*) وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (سورة الروم: 4 - 6) •---------------------------------• الغزوات والسرايا بدأت سلسلة الحروب ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من قبل أعداء الإسلام حين هاجر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة المنورة. وعاش النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى الإسلام ويعظ عبدة الأصنام والأوثان أصحاب العقائد ويدعوهم إلى توحيد الله وحده لا شريك له. والدعوة إلى التوحيد هي التي أثارتهم فأبدوا عداءهم للمسلمين واتخذوا التدابير والوسائل المختلفة ليعرقلوا مسيرة الدعوة والإرشاد، فنظموا جماعة المستهزئين فكانت مهمتها الاستهزاء بكل ما يأتيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عمل والهمز واللمز، والوقوف أمام الناس القادمين إلى مكة، واستفزازهم ضد المسلمين، حتى لا يكلم أحد منهم رجلا من المسلمين، ولا يلاقي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان لهذه الجماعة لجان تبذل كل منها جهودها لأداء مهمتها تلك، فكانت مهمة إحدى اللجان أن تحدث الضجيج، وتنشر الفوضى بين الناس إذا قام فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - واعظا داعيا إلى الإسلام. بينما كانت مهمة لجنة أخرى أن تطرح على النبي - صلى الله عليه وسلم - الأقذار والأكدار إذا مر بها، وترميه بالحجارة وتضيق عليه الخناق إذا صلى، وتحفر في طريقه الحفر وتطرح أمامه الأشواك وتقذف على بابه الغائط في ظلمة الليل. هذا خلاف جماعة شريرة من الناس كانوا إذا سمعوا برجل أسلم أنبوه وعذبوه، وكانوا إذا تمكنوا من أحد أسلم قتلوه ورموا به في المغارات والكهوف. فلما رأى المسلمون ما يصيبهم من البلاء خرجوا إلى أرض الحبشة ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يئس بعد من أن يهتدي هؤلاء القساة متحجرو القلوب، فبقي في مكة، ولكن أعداء الإسلام تعاهدوا على أن لا يبيع أحد منهم المسلمين وأنصارهم شيئا مما يؤكل. وقد تحمل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الشدة ثلاث سنوات متصلة، ثم بدأ رحلاته إلى القبائل في ضواحي مكة يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ولكنهم كانوا حلفاء قريش فلم يستجيبوا لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وكان أهل مكة يفرحون لما يلاقيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من خذلان وفشل في أمره، ولكنهم تميزوا من الغيظ حين علموا بأن تعاليمه السمحة، بدأت تسحر قلوب أهل يثرب (المدينة) وأيقنوا أن فيها قوة مؤثرة إلى أبعد حد فأرادوا أن يطفئوا نور حياته.

وبديهي ألا يتصور أحد نجاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقاءه، وهو في بلد ليس فيه حكومة ولا قانون ولا توجد هناك وسيلة للحفاظ على النفس أو المال، بين أهله الذين كانوا مضرب المثل في الضراوة منذ قرون، ثم زد على ذلك أنهم اختاروا من كل قبيلة فتى شابا جلدا وأعطوه سيفا صارما في مواجهة إنسان أعزل من كل سلاح، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج سالما من بينهم. هذا حادث ينبغي أن يفكر فيه كل منكر وجاحد ليتسنى له الاعتراف بالقدرة الإلهية، وعلى كل مسلم أن يشكر الله على الحماية الإلهية التي ينعم الله بها على عباده الصالحين. وقد رأى الأعداء نجاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصوله إلى المدينة، مذلة لهم فتأججت نار الحقد في قلوبهم، وآلوا على أنفسهم أن يقضوا عليه، وعلى من معه من المسلمين. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عارفا بطبيعتهم الوحشية الضارية فرأى من الحيطة أن يقوم برصد تحركاتهم وإجهاض جهودهم الاستراتيجية واستعدادهم الحربي، ومضى على هذا فاتخذ احتياطاته اللازمة. ولكن ومع الأسف فإن كل محاولة قام بها المسلمون للدفاع عن أنفسهم أطلق عليها اسم الحرب دون معرفة أسباب الوقائع أو تفحص أهداف المسلمين وأعمالهم. وقد أدى ذلك ظن المسلمين السذج أيضا أن جميع التدابير التي اتخذها المسلمون إنما كانت للحرب. ويجب أن نتذكر أن أقدم المؤرخين المسلمين أطلقوا على هذه التدابير والتحركات اسم الغزوات والسرايا. ومن سوء الفهم أن يحسبها البعض في هذا العصر مرادفة للحرب مع أن معناها في اللغة القصد والسير. ويبدو أن المؤرخين المتقدمين رحمهم الله قسموا جميع تحركات المسلمين إلى قسمين. (ألف) التحركات التي قام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وأطلقوا عليها اسم الغزوة ويبلغ عدد الغزوات تسع عشرة غزوة كما روى الإمام البخاري من حديث زيد (¬1) بن أرقم رضي الله عنه. (ب) التحركات التي قام بها أحد (أو أكثر من واحد) من المسلمين وأطلقوا عليها اسم السرية. فيما يلي جدول لجميع الغزوات والسرايا. وقد راعينا في ذكر هذه الغزوات والسرايا الترتيب الزمني، وللرقم المسلسل في الجدول أهمية فإنا نحيل إلى هذا الرقم عند التعليق على كل غزوة. ¬

(¬1) صحيح البخاري في "المغازي" (5/ 2، 126، 145) وصحيح مسلم في "الجهاد والسير" (3/ 1447 رقم 1254).

جدول الغزوات والسرايا التي وقعت من سنة اثنتين من الهجرة إلى سنة تسع من الهجرة

جدول الغزوات والسرايا التي وقعت من سنة اثنتين من الهجرة إلى سنة تسع من الهجرة (خلال ثماني سنوات) _ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ 1 ... سرية سيف البحر رمضان سنة 1 ... 30 راكبا حمزة بن عبد المطلب ... 300 أبو جهل ... - ... - ... - ... - ... انصرف المسلمون بدون قتال ... بعثت هذه السرية لدراسة أحوال مكة وجد الأعداء أن المسلمين منتبهون فانصرفوا عنهم. --- 2 ... سرية الرابغ في شوال سنة 1 هـ ... 60 عبيدة بن الحارث (¬1) ... 200 أو عكرمة أبو سفيان ... - ... - ... - ... - ... انصرف المسلمون بدون قتال ... بعثت هذه السرية لتفقد أحوال أهل مكة فرأت جمعا عظيما من قريش بأسفل ثنية المرة. --- 3 ... سرية ضرار في ذي القعدة سنة 1 هـ ... 80 سعد بن أبي وقاص (¬2) ... - ... - ... - ... - ... - ... خرج حتى بلغ الجحفة ثم رجع ولم يلق كيدا --- 4 ... غزوة ودان وهي غزوة الأبواء في صفر المظفر سنة 2 هـ ... 70 النبي - صلى الله عليه وسلم - ... - ... - ... - ... - ... - ... عاهد عمرو بن مخشي الضمري على أن لا يعين قريشا ولا المسلمين ¬

(¬1) يوجد ذكره في شهادة كربلا. (¬2) هو أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة الذين جعلهم عمر رضي الله عنه أهلا للخلافة. فاتح فارس ومؤسس الكوفة وخال في سبيل الله وسابع الستة الذين أسلموا، توفي سنة 54 هـ.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ 5 ... غزوة بواط في ربيع الأول سنة 2 هـ ... 200 النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 100 أمية بن خلف ... - ... - ... - ... - رضوى ثم رجع إلى المدينة لقى في الطريق قريشا وأمية ... رضوى اسم جل بالقرب من ينبع. --- 6 ... عزوة سفوان أو غزوة بدر الأولى في ربيع الأول سنة 2هـ ... 70 النبي - صلى الله عليه وسلم - ... كرز بن جابر الفهري ... - ... - ... - ... - ... خرخ في طلب العدو حتى بلغ صفوان فلم يدركه كان كرز بن جابر قد أغار على مواشي لأهل المدية. --- 7 ... غزوة ذي العشيرة في جمادى الأخرى سنة 2 هـ ... 150 النبي - صلى الله عليه وسلم - ... - ... - ... - ... - ... - وادع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة ... ذو العشيرة موضع بين مكة والمدينة من بطن ينبع. --- 8 ... سرية النخلة فى رجب سنة 2هـ ... 12 عبد الله ابن جحش ... قافلة تحت قيادة بني أمية ... - ... - ... - ... - ... أطلق الأسيران وودى القتيل ... أرسلوا لاستطلاع قريش ووقع الصدام. --- 9 ... غزوة بدر الكبرى في رمضان 2هـ ... 313 النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 1000 أبو جهل ... - ... 22 ... 70 ... 70 ... انتصر المسلمون على العدو ... بين بدر ومكة سبعة منازل وبين بدر والمدينة ثلاثة منازل لما علم بخروج قريش إلى المدينة ارتحل دفاعا عن المسلمين.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ 10 ... سرية عمير بن العدي الخطمي في رمضان سنة 2هـ ... 1 عمير (¬1) ... 1 عصماء بنت مروان ... - ... - ... - قتلت عصماء - ... قتل عمير أخته التي كانت تحض قومها على الحرب ضد المسلمين. --- 11 ... سرية سالم بن عمير الأنصاري في شوال سنة 2 هـ ... 1 سالم (¬2) ... الخطمية 1 أبو عكفة اليهودي ... - ... - ... - ... قتل اليهودي ... - ... كان أبو عكفة اليهودي يستفز اليهود على المسلمين فقتله سالم. --- 12 ... غزوة بني قينقاع في شوال سنة 2 هـ ... النبي (ص) ... قبيلة بني قينقاع ... - ... - ... - ... - تم إجلاؤهم ... أتو بالشر في المدينة حين كان المسلمون في بدر فأجلوا لذلك. --- 13 ... غزوة السويق في ذي الحجة سنة 2 هـ ... 200 النبي (ص) ... 200 أبو سفيان الأموي ... - ... 2 ... - ... - خرخ النبي في طلبه فلم يدركه ... بعث أبو سفيان رجالا من قرلر إلى المدية فأتوأ ناحية منها فحرقوا في أسوار من نخل ووجدوا بها رجلين فقتلوهما. --- 14 ... غزوة قرقرة الكدر أو غزوة بني سليم في محرم الحرام سنة 2 هـ ... قبيلة بني غطفان وبني سليم ... - ... - 1 ... - ... خرخ العدو يغزو المدينة فانصرف حين رأى ... أسر عبد اسمه يسار فأطلق سراحه ¬

(¬1) هو أول من أسلم من بني خطمة كان إمام قومه وكانت عيناه ضعيفتين والده عدي بن خرشة شاعر شهير. (¬2) شهد بدرا وأحدا والخندق وكان يبكي خوفا كمن الله. توفي في إمارة معاوية.

الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... جمعا من المسلمين ... -. --- 15 ... سرية قرقرة الكدر في سنة 2 هـ ... غالب بن عبد الله الليثي ... قبيلة بني غطفان وبني سليم ... - ... 3 ... - ... - قتل الأعداء وفر الباقون ... بعثت هذه السرية اكمالا إذ اجتمع الأعداء مرة ثانية. --- 16 ... سرية محمد بن مسلمة في ربيع الأول سنة 3 هـ ... محمد بن مسلمة الأنصاري (¬1) الخزرجي ... 1 كعب بن الأشرف اليهودي ... 1 ... - ... - ... 1 ... - ... كان كعب بن الأشرف يحرض القبائل من اليهود ضد المسلمين ودعا قربشا إلى الحرب فوقعت غزوة أحد. --- 17 ... غزوة ذي أمر أو غزوة غطفان أو غزوة أنمار في ربيع الأول سنة 3 هـ ... 450 النبي (ص) ... بنو ثعلبة وبنو محارب ... ... - ... - ... - ... - اجتمعت بنو ثعلبة وبنو محارب للإغارة على المدينة فانصرفوا حين رأوا جمعا من المسلمين. --- 18 ... سريه قردة في جمادى الآخرة سنة 3 هـ ... 100 زيد بن حارثة رضي الله عنه ... أبو سفيان الأموي ... - ... - ... 1 ... - ... خرج زيد بن حارثة في بعث فتلقى قرشا في ... أسر فراة بن سفيان دليل القافلة التجارية فأسلم. ¬

(¬1) هو من كبار الصحابة، استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة على المدينة في غيبوبته، كان بمعزل عن الناس أيام الفتنة. توفي سنة 41 هـ بالمدينة وهو ابن سبع وسبعين سنة.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... طريقهم إلى العراق ... - --- 19 ... غزوة أحد في شوال سنة 3 هـ ... 650 راجل ... 2800 راجل 200 راكب 3000 أبو سفيان ... 40 جريحا ... 70 شهيدا ... - ... 30 قتيلا ... لحقت خسارة فادحة بالمسلمين ولكن فشل الكفار نتيجة لرعب أصابهمم. --- 20 ... غزوة حمراء الأسد في 7 من شوال المكرم سنة 3 هـ ... 540 النبي (ص) ... 2970 أبو سفيان ... - ... - 2 أبو عزة ومعاوية بن المغيرة ... - ... خرج النبي (ص) مرعبا للعدو ... لما كان الغد من يوم أحد خرج المسلمون إلى معسكر العدو لئلا يغير عليهم ثانية ظانا بهم ضعفا، أسر رجلان وقتل أبو عزة الشاعر لأنه كان وعد في بدر بأنه لا يظاهر أبدا على المسلمين ثم نقض عهده وحث المشركين على المسلمين. --- 21 ... سرية قطن أو سرية أبي سلمة المخزومي في غرة محمرم ... 150 أبو سلمة المخزومي ... طلحة وسلمة ... - ... - ... - ... - ... . لم يتمكنوا من الإغارة على المدينة بمظاهرة قام ... هو رئيس قطاع الطريق أراد الإغارة على المدينة ولكن

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ - ... الحرام سنة 4 هـ ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... بها المسلمون ... المسلمين تظاهروا فوصلوا إلى قطن وهو مسكنه فتفرق جمعه. --- 22 ... سرية عبد الله بن أنيس في 5 من محرم الحرام سنة 4 هـ ... 1 عبد الله بن أنيس الجهني الأنصاري ... 1 سفيان الهذلي ... - ... - ... - 1 ... سمع عبد الله بأن سفيان استنفر قوما ضد المسلمين بعرنة فوصل إليها وقتل بها أبا سفيان ... - --- 23 ... سرية الرجيع في صفر المظفر سنة 4 هـ ... 10 عاصم بن ثابت أو مرثد ابن الغنوي ... 100 قبيلة عضل والقارة ... - ... 10 ... - ... - ... استشهد عشرة من القراء ... كانت سلامة امرأة طلحة قد جعلت مائة ناقة لمن يقتل عاصما فقدم رهط من قبيلتها على رسول الله (ص) واستصحبوا عشرة من القراء فقتلوا منهم ثمانية وباعوا منهم اتنين بمكة فصلبهما أهل مكة وبقي جثمانهما على الخشبة أربعين يوما. وفي كتب

الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... السيرة أنهم كانوا ستة وفي البخاري أنهم كانوا عشرة. --- 24 ... سرية بئر معونة أو سرية طرز في صفر المظفر سنة 4 هـ ... 70 منذر بن عمرو ... جماعة كبيرة عامر بن مالك ... 1 ... 69 ... - ... - استشهد تسع وستون من الدعاة ... قدم عامر بن مالك على رسول الله (ص) وقال يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك فبعث رسول الله (ص) سبعين رجلا من أصحابه فلما نزلوا ببئر معونة غشيتهم قبائل من بني سليم من رعل وذكوان وقتلوهم إلا عمرو بن أمية الضمري فإنه كان في سرح القوم. --- 25 ... سرية عمرو بن أمية الضمري في ربيع الأول سنة 4 هـ ... 1 عمرو بن أمية الضمري ... 2 من قبيلة بني كلاب ... - ... - ... - 2 ... بما أن عمرو بن أمية الضمرى كان قتل رجلين من قبيلتين كان معهما عقد من رسول ... وجد عمرو بن أمية الضمري الذي كان يرجع إلى المدينة من بين السبعين قارئا رجلين في ظل فأمهلهما حتى إذا ناما قتلهما بظن أنهما من جماعة

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... الله (ص) ودى بهما رسول الله (ص) ... القاتلين. --- 26 ... غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة 4 هـ ... النبي (ص) ... قبيلة بني النضير ... - ... - ... - ... - ... تم إجلاؤهم بأنهم هموا بقتل الرسول (ص) ... كانت بنو النضير في المدينة أرادوا الغدر بالمسلمين أجلوا إلى أرض خيبر وقد وقعت غزوة خيبر جزاء شرهم. --- 27 ... غزوة بدر الأخرى في ذى القعدة سنة 4 هـ ... 1500 راجل 10 راكب 1510 النبي (ص) ... 2000 راجل 50 راكب 2050 أبو سفيان الأموي ... - ... - ... - ... - ... لم تحدث مواجهة ... خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل بناحية الظهران أو عسفان ولما علم النبي (ص) بقدومه خرج إليه فرجع أبو سفيان فرجع النبي (ص) أيضا. --- 28 ... غزوة دومة الجندل في ربيع الأول سنة 5 هـ ... 1000 النبي (ص) ... أهل دومة ... - ... - ... - ... - رجع رسول الله (ص) قبل أن يصل إليهما ولم يلق كيدا ... كان النبي (ص) سمع باجتماع حاشد بدومة الجندل للإغارة على المدينة فخرج إليها فعلم بكذبه فرجع ووادع عيينة بن حصين في الطريق.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ 29 ... غزوة بنى المصطلق أو المريسغ في 2 شعبان المعظم سنة 5 هـ ... النبي (ص) ... الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق ... - ... - 19 ... 10 ... انهزم العدو وأطلق الأسرى كلهم ... بلغ النبي (ص) أن المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار فبعث إليهم بريدة الأسلمي يأتيه منها بخبر فعلم بصحته فخرج إليهم فقاتله بنو المصطلق فقط وفر الباقون ... .. --- 30 ... غزوة الأحزاب أو الخندق في شوال المكرم أو في ذي القعدة سنة 5 هـ ... 3000 النبي (ص) ... 10000 أبو سفيان الأموي وغيره ... - ... 6 ... - ... 10 ... انقلب العدو خائبا خاسئا ... إن نفرا من اليهود دعوا قريشا والقبائل الأخرى للحرب ضد المسلمين فضرب المسلمون الخندق على المدينة دفاغا عن أنفسهم. فحاصرهم الأعداء شهرا ثم انشمروا راجعين إلى بلادهم. --- 31 ... سرية عبد الله ابن عتيك في ذي القعدة سنة 5 هـ ... 5 عبد الله بن عتيك الأنصاري ... 1 سلام بن أبي الحقيق من ... - ... - ... - 1 ... قتل العدو ... هو الذي تولى تحريض القبائل على المسلمين في غزوة الأحزاب.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ - ... - ... الخزرجي (¬1) ... يهود خيبر ... - ... - ... - ... - ... - وكان يدعو إلى جمع القبائل فقتله عبد الله في مضجعه ليلا. --- 32 ... غزوة بني قريظة في ذي الحجة سنة 5 هـ ... النبي (ص) ... بنو قريظة ... - ... 4 ... 200 ... 400 ... من الأعداء من قتل ومنهم من أسر ... كان لبني قريظة عقد مع المسلمين فلما أرادوا الغدر أسروا فحكم رسول الله (ص) في بني قريظة ليحكم بما أنزل الله فحكم بقتل أربعمائة رجل حسب التوراة التي كانوا يؤمنون بها وهذا العدد مروي عن جابر في الترمذي والنسائي وابن حبان. --- 33 ... سرية القرطاء في محرم الحرام سنة 6 هـ ... 30 محمد بن مسلمة الأنصاري ... 30 ثمامة بن أثال ... - ... - ... 1 ... - ... أسر ثمامة فأطلقه رسول الله (ص) ... رأى محمد بن مسلمة أن ثمامة يذهب إلى المدينة فحال دونه فأسره فجاء به إلى رسول الله (ص) فأطلقه رسول الله (ص) فاسلم لحسن ¬

(¬1) شهد أحدا واستشهد في غزوة اليمامة كانت قدمه قد انكسرت في السرية المذكورة فمسح الرسول - صلى الله عليه وسلم - يده عليها فبرأت.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... خلق النبي (ص) وكان ثمامة سيد نجد. --- 34 ... غزوة بني لحيان في ربيع الأول سنة 6 هـ ... النبي (ص) ... بنو لحيان من بطون هذيل ... - ... - ... - ... - تفرق العدو حين علم بقدوم النبي (ص) إليه ... كانت هذه الغزوة لتأديب أهل الرجيع الذين كانوا قتلوا عشرة من الدعاة الأبرياء (انظر رقم 22). --- 35 ... غزوة ذي قردة أو الغابة في ربيع الآخر سنة 6 هـ ... النبي (ص) مع سلمة بن الأكوع الأسلمي ... خيل من غطفان تحت قيادة عيينة الفزاري ... امرأة واحدة ... 3 ... - ... 1 ... أغاروا على لقاح لرسول الله (ص) فخرج المسلمون في طلبهم فلحقوا بهم ... عدت هذه العصابة من النهاب على لقاح لرسول الله (ص) وقتلوا رجلا واحتملوا المرأة على اللقاح فخرج رجال من أصحابه في طلبهم ثم لحقهم النبي (ص). --- 36 ... سرية عكاشة ابن محصن أو سرية عمر مرزوق في ربيع الآخر سنة 6 هـ ... 40 عكاشة بن محصن الأسدي (¬1) ... بنو أسد ... - ... - ... - ... - ... تفرق الأعداء ولم تكن المواجهة أسرت مائتا إبل لهم ... كان بنو أسد قد أجمعوا الإغارة على المدينة فبعثت إلهم هذه السرية. ¬

(¬1) هو من كبار الصحابة قتله المرتدون في خلافة أبي بكر وهو ابن اثنتين وأربعين سنة شهد المشاهد كلها من أحد وبدر وغيرها. كان بشره النبي (ص) بأنه يدخل الجنة بغير حساب.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ 37 ... سرية ذي القصة في ربيع الآخر سنة 6 هـ ... 10 محمد بن مسلمة ... 100 بنو ثعلبة ... 1 الجريح ... 9 ... - ... - ... استشهد تسعة من الدعاة وأصيب محمد بن مسلمة بجرح ... كان عشرة من القراء ذهبوا يبلغونهم وبيما هم نائمون إذ عمد إليهم بنو ثعلبة فقتلوهم ذو القصة اسم موضع. --- 38 ... سرية بنى ثعلبة في ربيع الآخر سنة 6 هـ ... 40 أبو عبيدة بن الجراح ... بنو ثعلبة ... - ... - 1 ... - ... انصرف العدو وغنم المسلمون ما كان لهم من المتاع ... بعثت هذه السرية لتصيب ثورة الذين استشهدوا في ذي القصة. --- 39 ... سرية الجموم في ربيع الآخر سنة 6 هـ ... زيد بن حارثة ... بنو سليم ... - ... - ... الأسرى 10 ... - ... أسر رجال فأطلقهم النبي (ص) وفيهم كان زوج المرأة المخبرة ... كانت امرأة يقال لها حليمة قد دلت زيدبن حارثة على محلة من محال بني سليم وقد ذكرنا عدد الأسرى على وجه التقدير. --- 40 ... سرية الطرف أول الطرق في جمادى الأخرى سنة 6 هـ ... 15 زيد بن حارثة ... بنو ثعلبة ... - ... - ... - ... - ... هرب الأعداء وأصاب المسلمون عشرين بعيرا ... بعثت هذه السرية لمعاقبة المجرمين بذي القصة. الظر الرقم (37). --- 41 ... سرية وادي القرى في ... 12 زيد بن حارثة ... سكان وادي القرى ... 1 الجريح ... 9 ... - ... - ... قتل من المسلمين ... كان زيد بن حارثة ذهب إليهم

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ - ... رجب سنة 6 هـ ... - ... - ... - ... - ... - ... - تسعة رجال وجرح واحد ... للجولة فحملوا عليه وعلى أصحابه. --- 42 ... سرية دومة الجندل في شعبان سنة 6 هـ ... عبد الرحمن بن عوف الزهري (¬1) ... قبيلة بني كلب الأصبغ ابن عمرو الكلبي ... - ... - ... - ... - ... تحقق نجاح ملموس في مجال الدعوة ... أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي وكان نصرانيا وأسلم معه ناس كثير من قومه. --- 43 ... سرية فدك في شعبان سنة 6 هـ ... 200 علي بن أبي طالب ... بنو سعد بن بكر ... - ... - ... - ... - ... هربت بنو سعد وأصاب المسلمون مائة بعير وألفي شاة ... بلغ النبي (ص) أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر فقام علي بن أبي طالب بالمظاهرة. --- 44 ... سرية أم قرفة في رمضان سنة 6 هـ ... أبو بكر الصديق رضي الله عنه ... بنو فزارة تحت قيادة أم قرفة ... - ... - 2 ... - ... انهزم العدو ... كانت بنو فزارة قد أغاروا على قافلة زيد بن حارثة التجارية بإيعاز من أم قرفة وابنتها معها وهرب الباقون. --- 45 ... سرية عبد الله أبن رواحة في شوال سنة 6 هـ ... 30 عبد الله بن رواحة 30 أسير بن رزام اليهودي ... 1 ... - ... - ... 30 ... وقع الاشتباك لسوء فهم الفريقين فقتل ... كان عبد الله بن رواحة في ثلاثين من أصحابه إلى أسير ليدعوه إلى رسول ¬

(¬1) هو أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة الذين جعلهم الفاروق رضي الله عنه أهلا للخلافة وكان تاجرا كبيرا وغنيا زاهدا أمينا في الأرض وأمينا في السماء. وكان يخدم أمهات المؤمنين بالأموال. جرح في غزوة أحد إحدى عشرة جرحة. صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وراءه في سفر. توفي سنة 31 هـ وهو أبن اثنتين وسبعين سنة.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... اليهود جميعا ... - الله (ص) فخرج أسير إلى رسول الله (ص) في ثلاثين رجلا من اليهود فتحامل المسلمون واليهود ليلا لسوء فهم. --- 46 ... سرية العرنيين في شوال سنة 6 هـ ... 20 كرز بن جابر الفهري (¬1) ... رجال من عكل وعرينة ... - ... 1 ... - ... 8 ... قتلوا الراعي واستاقوا الإبل فأسروا ومثل بهم ... استوخموا المدينة فشربوا من ألبان الإبل وأبوالها فصحوا ثم قتلوا يسارا راعي النبي (ص) واستاقوا الذود. --- 47 ... سرية عمرو بن أمية الضمري في شوال سنة 6 هـ ... 1 عمرو بن أمية ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... كان عمرو بن أمية قد جاء إلى مكة ليقتل رسول الله (ص) فأسلم لما قد رأى من حسن خلقه (ص). ثم رجع إلى مكة ودعا الناس بها إلى الإسلام يقول بعض أعداء الإسلام أن رسول الله (ص) كان أمره بأن يقتل أبا سفيان ولكن لا توجد أي ¬

(¬1) ينتهي نسبهه إلى النبي (ص) من فهر (انظر الرقم 11 من النسب النبوي) كان رئيس الكفار حين وقعت غزوة سفوان (6). استشهد يوم الفتح.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... رواية بهذا المعنى في الكتب الإسلامية. --- 48 ... غزوة الحديبية في ذي القعدة سنة 6 هـ ... 1400 النبي (ص) ... أهل مكة سهيل بن عمرو القرشي ... - ... - ... - ... - ... تم الصلح بين المسلمين وبين قريش لعشر سنوات ورجع النبي (ص) ... كان النبي (ص) خرج معتمرا فصده قريش عن البيت في الحديبية التي بينها وبين مكة أربعة عشر ميلا فتم وفيها الصلح. --- 49 ... غزوة خيبر في محرم الحرام سنة 7 هـ ... 1400 رجل 20 امرأة ممرضة 1420 النبي (ص) ... 10000 يهود خيبر كنانة بن أبي الحقيق ... 50 جريحا ... 18 ... - ... 93 ... فتح الله للمسلمين فتحا مبينا ... سبق لليهود أن قاتلوا المسلمين في أحد والأحزاب وكانوا يريدون بعدها غزو المدينة فخرج النبي (ص) إلى خيبر فأفسد عليهم نواياهم العدوانية. --- 50 ... غزوة وادي القرى في محرم الحرام سنة 7 هـ ... 1382 النبي (ص) ... اليهود من سكان وادي القرى ... - ... - ... - ... 11 ... - ... -. --- 51 ... غزوة ذات الرقاع في محرم الحرام سنة 7 هـ ... 400 النبي (ص) ... بنو غطفان وبنو محارب وبنو ثعلبة وبنو أنمار ... - ... - ... - ... - ... تفرق العدو ... كانت بنو غطفان قد جمعوا جموعا من بني محارب وبني ثعلبة وبني أنمار للإغارة على المسلمين. فلما

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... قام المسلمون بحشودهم تفرقوا جميعا. --- 52 ... سرية عيص في سفر سنة 7 هـ ... 72 أبو جندل وأبو بصير ... قافلة قريش ... - ... - ... 9 ... - ... أخذ أموال العدو ثم ردها إليه بأمر النبي (ص) ... كان أبو جندل قد أسلم بمكة فأسرته قريش فلبث فيهم حبيسا يدعو الناس إلى الإسلام فأسلم على يديه عدد كبير منهم ثم فر هو وأصحابه ونزلوا في جبل في الطريق بين مكة والشام وقطعوا الطريق على ركب قريش الذي كان فريقا محاربا. فرد النبي (ص) أموال قريش واستقدم أبا جندل إلى المدينة. --- 53 ... سرية الكديد في صفر سنة 7 هـ ... 60 غالب بن عبد الله الليثي ... بنو الملوح ... 1 ... - ... - ... - ... وقع اشتباك ... كانت بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سويد فبعثت إليهم هذه السرية للتوبيخ. --- 54 ... سرية فدك في صفر سنة 7 هـ ... غالب بن عبد الله الليثي ... أهل فدك ... - ... - ... - ... - ... - ... قتل ناس من العدو

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ 55 ... سرية حسمى في جمادي الأخرة سنة 7 هـ ... 500 زيد بن حرثة ... 102 الهنيد بن عوص الجزري ... - ... - ... 100 ... 2 ... انتصر المسلمون وقتل الهنيد مع ابنه وأطلق الباقون بعد توبتهم ... كان دحية الكلبي يرجع إلى النبي (ص) من عند قيصر بالهدايا والكسوة فلقيه الهنيد في ناس فقطعوا عليه الطريق فبعث زيد ابن حارثة إلى قطاع الطريق. --- 56 ... سرية تربة في شعبان سنة 7 هـ ... عمر بن الخطاب ... أهل تربة ... - ... - ... - ... - ... تفرق العدو ... بين تربة ومكة منزلان كان أهل تربة قد اصطلحوا مع بني غطفان فقام المسلمون بالمظاهرة في محالهم. --- 57 ... سرية بني كلاب في شعبان سنة 7 هـ ... أبو بكر الصديق رضي الله عنه ... بنو كلاب ... - ... - ... - ... - ... انتصر المسلمون سبي من الأعداء جماعة وقتل اخرون ... كانوا أجمعوا الهجوم على المسلمين مع بني محارب وبني أنمار. --- 58 ... سرية الميفعة في رمضان سنة 7 هـ ... غالب بن عبد الله الليثي ... أهل الميفعة ... - ... - ... - ... - ... وقع اشتباك ... كان حلفاء أهل خيبر. --- 59 ... سرية خربة في رمضان سنة 7 هـ ... أسامة بن زيد (¬1) ... أهل خربة ... - ... - ... - ... - ... - ... بينما أسامة وأصحابه يمشون ¬

(¬1) أسامه كان حبيبا لرسول الله، والدته أم أيمن التي يناديها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمي بعد أمي. والدة زيد بن حارثة الذي يناديه الناس بزيد بن محمد لشفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه. توفى سنة 54 هـ.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... في الطريق إذ هبط إليهم رجل من الجبل فقتله أسامة بعد أن قال لا إله إلا الله. --- 60 ... سرية بن مرة في شوال 7 هـ ... 30 بشير بن سعد ... بنو مرة بالقرب من فدك ... - ... - ... - ... - ... وقع اشتباك ... كانوا حلفاء أهل خيبر. --- 61 ... سرية بشير بن سعد الأنصاري (¬1) في شوال سنة 7 هـ ... 30 بشير بن سعد ابن ثعلبة الأنصاري ... بنو فزارة وعذرة ... 30 ... 2 ... - ... أصيب المسلمون كلهم بجروخ وأسر العدو رجلان ... كانت بنو فزارة وبنو عذرة قد ساعدوا اليهود في خيبر فبعث إليهم هذه السرية للترويع وكان الغرض منها حشد القوة فقط. --- 62 ... سرية ابن ابي العوجاء في ذي الحجة سنة 7 هـ ... 50 ابن أبي العوجاء ... بنو سليم ... 1 ... 49 ... - ... - ... أصيب ابن العوجاء بجرح واستهد الباقون ... قام المسلمرن بحشد قواهم في محالهم لأنهم كانوا يجمعون للإغارة على المدينة. --- 63 ... سرية ذات أطلح في ربيع الأول سنة 8 هـ ... 15 كعب بن عمير الأنصاري الغفاري ... أهالي ذات أطلح بنو قضاعة ... 14 ... - ... - ... استشهد المسلمون جميعا وبرأ واحد منهم ... كانوا يجمعون في عدد كبير للإغارة على المسلمين فبعث إليهم كتيبة لتخويفهم فاستشهد المسلمون جميعا ¬

(¬1) هو العقبى البدري وأول من بايع أبا بكر الصديق من الصف، استشهد بعين التمر.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... لكثرة عدد العدو. --- 64 ... سرية ذات عرق في ربيع الأول سنة 8 هـ ... 25 شجاع بن الأسدي (¬1) ... بنو هوزان أهالي ذات عرق ... - ... - ... - ... - ... لم يكن اللقاء أصاب المسلمون لعدوهم إبلا ... كانت بنو هوازن قد مدوا يد المعونة إلى أعداء المسلمين مرارا وكانوا قد اجتمعوا الآن في عدد كبير على بعد خمسة منازل من المدينة فاحتشد المسلمون لتخويفهم. --- 65 ... سرية مؤته في جمادى الأولى سنة 8 هـ ... 3000 زيد بن حارثة ... مائة ألف 100000 شرحبيل الغساني ... - ... 12 ... - ... لم نعرف عدد المفقودين ... انتصر المسلمون ... كان شرحبيل قد قتل الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله (ص) فوقعت لذلك الحرب. ومع أن الجيش الإسلامي أصيب بخسائر إلا أن ثلاثة آلاف هزموا مائة ألف. --- 66 ... سرية ذات السلاسل في جمادي الآخرة سنة 8 هـ ... 500 عمرو بن العاص القرشي السهمى (¬2) ... بنو قضاعة ساكنو ذات السلاسل ... - ... - ... - ... - ... هرب الأعداء بمظاهرة المسلمين ... كان جمع من قضاعة قد تجمعوا للإغارة على المدينة. والسبب ¬

(¬1) هاجر الهجرتين وشهد المشاهد كلها. بعثه النبي (ص) رسولا إلى الحارث الغساني وجبلة الغساني. استشهد في غزوة اليمامة. (¬2) أسلم في صفر سنة 8 هـ استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على عمان واستعمله عمر على فلسطين ثم فتح مصر. حكيت عنه أحداث عن واقعة التحكيم وحرب صفين.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... في جعل عمرو بن العاص أميرا أنه كان من سكان وادي هذا القوم وكان خبيرا بهذه المنطقة. --- 67 ... سرية سيف البحر في رجب سنة 8 هـ ... 300 أبو عبيدة بن الجراح ... قريش ... - ... - ... - ... - ... أقام المسلمون على الساحل أياما ثم انصرفوا ... كان الغرض من هذه السرية تشتيت همم قريش. --- 68 ... سرية محارب في شعبان سنة 8 هـ ... 15 أبو قتادة الأنصارى (¬1) ... بنو غطفان ساكنو خضرة الواقعة في نجد ... - ... - ... - ... - ... هرب العدو خئفا وأصاب المسلمون أنعاما ... بنو غطفان الذين هجموا مرارا على المسلمين كانوا يتجمعون الآن بخضرة فبعثت إليهم سرية مكونة من خمسة عشر رجلا للاستطلاع. --- 69 ... غزوة فتح مكة في رمضان سنة 8 هـ ... 10000 النبي (ص) ... قريش مكة ... - ... 2 ... - ... 12 ... انتصر المسلمون ... اختلف العلماء هل دخل النبي (ص) مكة فاتحا أم مصالحا والحقيقة أنه (ص) كان أمر الجيوش بأن تدخلها ولا ¬

(¬1) يلقب بفارس الرسول شهد المشاهد كلها زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن علي رضي الله عنه. توفي سنة 20 هـ بالكوفة صلى عليه علي بسبع تكبيرات.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... تستخدم الأسلحة مالم تتعرض لها جماعة مسلحة فدخلت الجيوش مكة بطرق متفرقة ولم تتعرض لها إلا كتيبة من الجنود فدخل النبي (ص) مكة وجعل الناس كلهم طلقاء لا تثريب عليهم. --- 70 ... سرية خالد في رمضان سنة 8 هـ ... خالد بن الوليد ... الصنم العزى ... - ... - ... - ... - ... - ... كانت العزى صنم بني كنانة فحطمها خالد بن الوليد رضي الله عنه. --- 71 ... سرية عمرو بن العاص في رمضان سنة 8 هـ ... عمرو بن العاص ... الصنم سواع ... - ... - ... - ... - ... - ... كانت سحل صنم بني هذيل فحطمها عمرو بن العاص رضي الله. --- 72 ... سرية سعد الأشهلي في رمضان سنة 8 هـ ... لسعد بن زيد الأشهلي الأنصاري ... الصنم مناة ... - ... - ... - ... - ... - ... كانت مناة صنم قبيلتي الأوس والخزرج فهدمها سعد الأشهلي رضي الله عنه.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ 73 ... سرية خالد بن الوليد في شوال سنة 8 هـ ... 350 خالد بن الوليد ... بنو جذيمة ... - ... - ... - ... 95 ... قتل خمسة وتسعون رجلا من بني جذيمة ممن كانوا أسلموا فكره رسول الله (ص) قتلهم وودى بهم الدية ... كان خالد بن الوليد بعث داعيا وكانت بنو جذيمة قد أسلموا من قبل فشك خالد في إسلامهم وقتل منهم رجالا. --- 74 ... غزوة حنين أو أوطاس أو هوازن في شوال سنة 8 هـ ... 12000 النبي (ص) ... بنو هوازن وبنو ثقيف وبنو معز وبنو أحسم ... - ... 6 ... 6000 ... 71 ... انتصر المسلمون ... أطلق النبي (ص) جميع الأسرى بدور عوض وأعطاهم الكسوة كذلك. --- 75 ... غزوة الطائف في شوال سنة 8 هـ ... 12000 النبي (ص) ... بنو ثقيف ... جمع كثير ... 13 ... جمع كثير ... - ... رجع النبي (ص) بعد محاصرة دامت شهرا ... لما رفع النبي (ص) عنهم الحصار قدموا عليه وأسلموا. --- 76 ... سرية عيينة بن حصين في محرم سنة 9 هـ ... 150 راكبا عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري (¬1) ... قبيلة بني تميم ... - ... - ... 62 ... - ... تم القضاء على الثور ... قامت هذه القبيلة بإغراء القبائل التابعة لها ومنعتها عن أداء الجزية ولما خرج إليهم عيينة هربوا فأسر ¬

(¬1) هو رئيس بني فزارة جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مطاعا. كان مجتهدا ولوعا بالجد، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: زوجتي جميلة لو شئت تزوجتها فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - متبسما.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... - ... منهم 11 رجلا و 21 امرأة و20 ولدا فأطلقهم النبي (ص) جميعا حين قدم عليه سيدهم. --- 77 ... سرية قطبة بن عامر في صفر 9 هـ ... 20 قطبة بن عامر ... قبيلة خثعم ... أكثر من نصف ... - ... أكثرهم ... - ... تفرقوا وانتشروا ... كانوا يدبرون مؤامرة ضد المسلمين فجاء قطبة ببعضهم أسيرا فأطلقهم رسول الله (ص) --- 78 ... سرية الضحاك ابن سفيان الكلابي في ربغ الأول سنة 9 هـ ... الضحاك رضي الله عنه ... قبيلة بني كلاب ... - ... - ... - ... - ... - ... بعث المسلمون إلى بني كلاب داعين فاعترض لهم الكفار فوقع اشتباك ولم نجد عدد أهل السرية في أي كتاب ربما كانوا قليلين. --- 79 ... سرية عبد الله ابن حذافة في ربيع الأول سنة 9 هـ ... 300 عبد الله بن حذافة (¬1) القرشي السهمي ... القراصنة من الحثميين ... - ... - ... - ... - ... هربوا ... كانوا قد اجتمعوا في ساحل جدة يريدون الإغارة على مكة فتفرقوا حين رأوا هذه السرية. ¬

(¬1) هو رسول رسول الله إلى كسرى وهو من المهاجرين الأولين هاجر إلى الحبشة، وكان ظريف الطبع. وقع في أيدي النصارى أسيرا بعد خلافة عمر رضي الله عنه وحاول هرقل أن ينصره فعصمه الله. توفي بمصر.

_ الرقم المسلسل ... اسم الغزوة أو السرية وتاريخ وقوعها ... عدد الجيش الإسلامي مع اسم قائده ... عدد جيش العدو مع اسم قائده ... خسارة المسلمين ج - ش ... خسارة العدو ج - ق ... النتيجة ... الملاحظة _ 80 ... سرية بني طيء سنة 9 هـ ... 150 علي المرتضى رضي الله عنه ... بنو طىء ... - ... - ... أسرت سفانة بت حاتم وغيرها من الناس ... أطلق النبي (ص) جميع الأسرى وودع سفانة بإكرام. --- 81 ... غزوة تبوك في رجب سنة 9 هـ ... 30000 الرسول (ص) ... هرقل قيصر الروم ... - ... - ... - ... - ... قام النبي (ص) بالتجمع مع أصحابه وأرهب الأعداء ثم رجع إلى المدينة ... كان بلغ النبي (ص) أن هرقل يريد الإغارة على المدينة ليغسل العار الذي لحقه في وقعة مؤتة فخرج النبي (ص) إلى الثغور فأصاب الذعر الأعداء فقعدوا عن الحرب. --- 82 ... سرية دومة الجندل ... 420 خالد بن الوليد ... أكيدر أمير دومة الجندل ... - ... - ... - ... - ... أسر أكيدر أمير دومة الجندل وقتل أخوه ... أطلق رسول الله (ص) أكيدر وعقد الحلف مع حكومات نصرانية أخرى.

نظرة تحليلية على هذه الغزوات والسرايا

نظرة تحليلية على هذه الغزوات والسرايا لينظر القراء بعين البصيرة إلى هذا الجدول: ـ[أولا]ـ: ورد فيه سرية سيف البحر رقم (1)، والرابغ رقم (2)، وسرية ضرار رقم (3)، والنخلة رقم (8) مع أن هذه الكتائب إنما كانت دوريات تفتيشية على الطرق التي تتجه من مكة إلى المدينة كي لا تهاجم قريش العدو اللدود المسلمين على حين غرة منهم. ـ[ثانيا]ـ: ورد في غزوة ودان رقم (4)، وغزوة بواط رقم (5)، وغزوة ذي العشيرة رقم (7) مع أن هذه البعثات كانت بهدف القيام بالدعوة والإرشاد وعقد المعاهدات مع القبائل كي لا تتخذ مع قريش ضد المسلمين. وفي هذا الجدول سرية دومة الجندل رقم (42) وهي رحلة لعبد الرحمن بن عوف للدعوة والتبليغ بين السكان النصارى وكان عبد الرحمن بن عوف قد نزل بدومة الجندل بصفة خاصة ووعظ أهلها ثلاثة أيام فأسلم رئيسها. وفي هذا الجدول سرية القرطاء رقم (33) وجل ما وقع فيها أن محمد بن مسلمة رأى رجالا فظن أنهم من الأعداء فأخذ ثمامة بن أثال سيدهم ثم أطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سراحه بعد التفحص فأسلم بعد أن أعجب بخلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي هذا الجدول وقائع تشبه في مصطلح القانون بالبنود رقم (302) أو رقم (395) أو رقم (396) من القانون الجنائي للهند. ـ[(الف) وفي الجدول أعمال ارتكبت ضد المسلمين]ـ فاستاق مثلا كرز بن جابر الأنعام من المدينة فلما بلغ ذلك المسلمين تبعوه ولحق بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سميت هذه الغزوة في الجدول بغزوة سفوان رقم (6) وينبغي أن نتدبر هل كانت هذه الواقعة في الحقيقة غزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضد الكفار ليسلموا؟. وكذلك كان عمرو بن أمية قد جاء إلى المدينة ليقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ما وجد فرصة لذلك، فلما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأى وجهه الكريم وسمع كلامه أسلم ثم انصرف. وقد سميت هذه الواقعة في الجدول بسرية عمرو بن أمية رقم (47). جاء بعض المرضى ((بالاستسقاء)) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرسلهم إلى عرينة حيث مرعاه وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها فلما صحوا وسمنوا قتلوا الراعي

واستاقوا الذود فتبعهم المسلمون فلحقوا بهم وفعل بهم كما فعلوا. وقد سميت هذه الواقعة في الجدول بسرية كرز بن جابر رقم (46). وكذلك هجم بنو غطفان بالغابة على الراعي واستاقوا زوجته ولقاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا، فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبعهم وقد سمى ذلك في الجدول بغزوة ذي قرد أو غزوة الغابة رقم (35). وكذلك كان الهنيد بن عوص الجزري وجماعته من قطاع الطرق وكانوا قد تعرضوا لدحية الكلبي رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راجع من عند هرقل قيصر الروم وانتهبوا الهدايا التي كان أرسلها هرقل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدا ليعاقبهم، وقد سمى هذا الحدث في الجدول بسرية الحسمى رقم (55). وكذلك قطع بنو فزارة الطريق على قافلة زيد بن حارثة التجارية فبعث إليهم أبو بكر رضي الله عنه فأسرهم. وقد سمى هذا الحدث في الجدول بسرية أم قرفة رقم (44). وكذلك بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثة لإرهاب جماعة من قطاع الطرق وقد سمي ذلك في الجدول بسرية قطن رقم (21). ـ[(ب) وفي الجدول وقائع واجه فيها المسلمون الكفار]ـ: فقتل مثلا عمير بن عدي امرأة من قبيلته اسمها عصماء وربما كانت زوجة أو أختا له في فترة من الفترات وهذه هي السرية رقم (10). وقتل محمد بن مسلمة مثلا كعب بن الأشرف اليهودي الذي كان أخاه من الرضاعة وهذه هي السرية رقم (16). وقتل عبد الله بن أنيس مثلا سفيان بن خالد الهذلي وهذه هي السرية رقم (22). وقتل عبد الله بن عتيك مثلا سلام بن أبي الحقيق اليهودي وهذه هي السرية رقم (31). وهذه كلها أحداث لا يطلق عليها اسم الحرب مع الاعتراف بأنها وقعت إما لأجل القصاص أو نتيجة لحماسة القاتلين الدينية. وفي هذا الجدول واقعة الرجيع أيضا وهي أن أناسا من الكفار استصحبوا معهم عشرة رجال من القراء فقتلوا منهم ثمانية وباعوا منهم اثنين وقد سمى ذلك في الجدول

بسرية الرجيع رقم (23). وبعد هذه الواقعة توجه إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مائتي راكب ليخوفهم. وقد سمى ذلك في الجدول بغزوة لحيان رقم (34). ومثل ذلك وقع بذي القصة حيث خرج عشرة من القراء للدعوة فلما ناموا ليلا هجم عليهم بنو ثعلبة فقتلوا منهم تسعة وأصيب واحد بجراح. وقد سمى ذلك في الجدول بسرية ذي القصة رقم (37). وكذلك بعث رئيسان لتخويف بني ثعلبة، وقد سمى ذلك في الجدول بسرية بني ثعلبة رقم (38) وسرية طرف أو طرق رقم (40). وكذلك بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نجد سبعين رجلا من الدعاة تحت رعاية عم والي نجد فحين وصلوا هناك هوجموا واستشهدوا جميعا، وأفلت منهم واحد فنجا جريحا. وقد سمى ذلك في الجدول بسرية بئر معونة رقم (24). وهناك أحداث نشأت عن سوء فهم، فمثلا كان أسير بن رزام اليهودي قدم إلى المدينة مع عبد الله بن رواحة في ثلاثين من رجاله. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد طلبه ليجعله رئيس قبيلته، وكان مع عبد الله بن رواحة أيضا ثلاثون رجلا، على كل إبل يهودي ومسلم معا. فلما وضع أسير يده خفية على سيف عبد الله ترجل عبد الله وضرب أسيرا وضرب أسير عبد الله أيضا، ولما رأى ذلك أصحابهما تقاتلوا فقتل المسلمون ثلاثين يهوديا. وقد سمى ذلك في الجدول بسرية عبد الله بن رواحة رقم (45). ولا يحملن أحد هذه الواقعة على أن المسلمين كانوا هم القاتلين وأن اليهود كانوا هم المقتولين، فقد وقع ذلك كثيرا بين المسلمين أنفسهم. فمثلا بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، وقد سمي ذلك في الجدول بسرية خالد رقم (73). ومثل ذلك وقع لأسامة بن زيد حين رأى رجلا مسلما في بلد كافر فظن أنه يبطن الكفر ويظهر الإسلام فقتله وقد سمى ذلك في الجدول بسرية الخربة رقم (59). ومثل ذلك وقع لعمرو بن أمية الضمري حين رأى رجلين بالقرب من بئر معونة فظن

أنهما ممن قتلوا القراء فقتلهما فودي بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد سمى ذلك في الجدول بسرية بئر معونة رقم (25). وأعجب من ذلك ما وقع في سرية خالد رقم (70)، وسرية عمرو بن العاص رقم (71)، وسرية سعد الأشهلي رقم (72)، ومؤداها أن هذه القبائل أعلنت إسلامها وهدمت الأصنام طواعية ولكن سمى ذلك في الجدول بالسرايا. إن الباحث يستطيع أن يعلم مما ورد مفصلا أننا لم نثبت تحت عنوان ((الغزوات والسرايا)) الحروب فحسب، بل أثبتنا جميع الرحلات التي قام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قام بها المسلمون أيضا. ولو عددنا الحروب الكبرى في هذا الجدول لوجدناها قليلة جدا. وهي بدر رقم (9) وأحد رقم (19)، والأحزاب رقم (30)، وخيبر رقم (49)، وحنين رقم (74)، ولكن حاولنا أن نزيد عدد هذه الحروب في الجدول. فغزوة حمراء الأسد رقم (20) مثلا أثبتناها منفصلة عن غزوة أحد رقم (19) مع أن أحدا اسم لحرب وقعت في اليوم الأول وغزوة حمراء الأسد اسم أطلق على مطاردة المسلمين للكفار في اليوم الثاني. فكيف يمكن أن تعد منفصلة؟ وهنا أريد أن أثبت جميع الغزوات والسرايا تحت عناوين مناسبة ليفهم القراء قصدي جيدا. ـ[الأول]ـ: رحلات الدعوة والتبليغ وعقد العهود وهى: غزوة ودان رقم (4)، وغزوة بواط رقم (5)، وغزوة ذي العشيرة رقم (7)، وسرية دومة الجندل رقم (42)، وغزوة الحديبية رقم (8). ـ[الثاني]ـ: استقصاء أحوال الأعداء المهاجمين مثلما في: غزوة سيف البحر رقم (1)، والرابغ رقم (2)، وضرار رقم (3)، والنخلة رقم (8)، وسرية القردة رقم (18)، وسرية أبي قتادة رقم (68). ـ[الثالث]ـ: جولات إلى حدود المهاجمين، كان الغرض منها تخويفهم ومنعهم من المهاجمة ثانية مثل: غزوة قرقرة الكدر رقم (14)، وسرية قرقرة الكدر رقم (15)، وغزوة ذي أمر رقم (17)، وغزوة بدر الأخرى رقم (27)، وغزوة دومة الجندل رقم (28)، وسرية قريظة رقم (33)، وغزوة بني لحيان رقم (34)، وسرية عمرو مرزوق رقم (36)، وسرية بني ثعلبة رقم (38)، وسرية جموم رقم (39)، وسرية طرف رقم (40)، وسرية وادي القرى رقم (41)، وسرية فدك رقم (43)، وغزوة وادي القرى

رقم (50)، وغزوة ذات الرقاع رقم (51) وسرية عيص رقم (52)، وسرية كديد أو سرية غالب رقم (53)، وسرية غالب رقم (54)، وسرية تربة رقم (56)، وسرية بني كلاب رقم (57)، وسرية الميفعة رقم (58)، وسرية بني حرة رقم (60)، وسرية بشير رقم (1 6)، وسرية ابن أبي العوجاء رقم (62)، وسرية كعب بن عمير رقم (63)، وسرية شجاع بن وهب رقم (64)، وسرية عمرو بن العاص رقم (66)، وسرية أبي عبيدة رقم (67)، وسرية أبي قتادة رقم (68)، وسرية عيينة رقم (76)، وسرية قطبة رقم (77)، وغزوة تبوك رقم (1 8)، وسرية دومة الجندل رقم (82). ـ[الرابع]ـ: بعثات كانت تهدف إلى معاقبة قطاع الطرق وهي: سرية الحسمى رقم (55)، وسرية أم قرفة رقم (44)، وسرية العرنيين رقم (46). ـ[الخامس]ـ: تعاقب مطاردة قطاع الطرف في مثل: غزوة سفوان رقم (6)، وسرية قطن رقم (21)، وغزوة ذي قردة أو غزوة الغابة رقم (35)، وسرية عبد الله بن حذافة رقم (79). ـ[السادس]ـ: غدر القبائل المعاهدين وخداعهم ومصيرهم في مثل: غزوة بني قينقاع رقم (12)، وسرية الرجيع رقم (23)، وسرية بئر معونة رقم (24)، وغزوة بني النضير رقم (29)، وسرية بني المصطلق رقم (29)، وغزوة بني قريضة رقم (32)، وسرية ذي القصة رقم (37)، وسرية بني طي رقم (80). ـ[السابع]ـ: سوء الفهم في مثل: سرية عمرو بن أمية رقم (25)، وسرية عبد الله بن رواحة رقم (45)، وسفر عمرو بن أمية رقم (47)، وسرية الخربة رقم (59)، وسرية خالد رقم (73)، وسرية ضحاك بن سفيان رقم (78). ـ[الثامن]ـ: هدم الأصنام في مثل: سرية خالد رقم (70)، وسرية عمرو بن العاص رقم (71)، وسرية سعد الأشهلي رقم (72). ـ[التاسع]ـ: الحروب وهي: بدر الكبرى رقم (9)، وغزوة أحد رقم (19)، وغزوة الأحزاب رقم (30)، وغزوة خيبر رقم (49)، وسرية مؤتة رقم (65)، وفتح مكة رقم (69)، وغزوة حنين رقم (74).

ـ[العاشر]ـ: مطاردة الأعداء في مثل: غزوة السويق رقم (13)، وغزوة حمراء الأسد رقم (20)، وغزوة الطائف رقم (75). ـ[الحادي عشر]ـ: الأحداث الداخلية محلية كانت أو شخصية في مثل: سرية عمير رقم (10)، وسرية سالم بن عمير الأنصاري رقم (11) وسرية محمد ابن مسلمة رقم (16)، وسرية ابن أنيس رقم (22)، وسرية ابن عتيك رقم (31). ونرجو أن نكون بهذا قد اختصرنا الجدول الطويل الذي يشتمل على الغزوات وحتى نحيط القراء علما بهذه المسئلة بجميع جوانبها ليكونوا على بصيرة وهدى، نقسم الغزوات والسرايا حسب الطوائف التي ضمتها حتى يمكن أن نعرف القبائل التي حدثت معها هذه المعارك وقد تركنا الأحداث الشخصية وعددها خمسة فقط. 1 - قريش مكة: سيف البحر رقم (1)، والرابغ رقم (2)، وضرار رقم (3)، وبواط رقم (5)، وسفوان رقم (6)، وذو العشيرة رقم (7)، وغزوة السويق رقم (13)، وذو قردة رقم (18)، وأحد رقم (19)، وحمراء الأسد رقم (20)، وبدر الآخرة رقم (27)، والأحزاب رقم (30)، وسرية عيص رقم (52)، وسرية عمرو بن أمية رقم (47)، والحديبية رقم (48)، وسيف البحر رقم (67)، وفتح مكة رقم (69). 2 - بنو غطفان وأنمار: قرقرة الكدر رقم (14 - 15)، وغزوة ذي أمر رقم (17)، ودومة الجندل رقم (28)، وغزوة بني المصطلق رقم (29) وغزوة الغابة رقم (35)، وغزوة وادي القرى رقم (41)، وسرية كرز بن جابر رقم (46)، وغزوة ذات الرقاع رقم (51)، وسرية تربة رقم (56)، وسرية الميفعة رقم (58)، وسرية الخربة رقم (9 5)، وسرية أبي قتادة رقم (68)، وسرية عبد الله بن حذافة رقم (77). 3 - بنو سليم: غزوة بئر معونة رقم (24)، وغزوة جموم رقم (39)، وسرية ابن أبي العوجاء رقم (63)، وغزوة بني ملوح وبني سليم رقم (53). 4 - بنو ثعلبة: غزوة ذي القصة رقم (37)، وغزوة بني ثعلبة رقم (38)، وغزوة طرف رقم (40)، وسرية الحسمى رقم (55).

5 - بنو فزارة وعذرة: سرية أبي بكر الصديق رقم (44)، وسرية فدك رقم (54)، وسرية بشير بن سعد رقم (61)، وغزوة ذات أطلح رقم (63). 6 - بنو كلاب وبنو مرة: غزوة قريظة رقم (33)، وغزوة بني كلاب رقم (57) وغزوة بني مرة رقم (60) وسرية ضحاك رقم (78). 7 - عضل والقارة: غزوة الرجيع رقم (23). 8 - بنو أسد وبنو قضاعة: سرية قطن رقم (21)، وسرية عمر مرزوق رقم (36)، وغزوة ذات السلاسل رقم (66). 9 - بنو ذكوان: غزوة بئر معونة رقم (24)، وقد اثبتناها ضمن بني سليم وهي واحدة اشترك فيها حيان. 10 - بنو لحيان: غزوة بني لحيان رقم (34). 11 - بنو سعد بن بكر: سرية فدك رقم (43). 12 - بنو هوازن: غزوة ذات عرق رقم (64) 13 - بنو تميم: سرية عيينة رقم (76). 14 - بنو ثقيف: غزوة حنين رقم (74)، وغزوة الطائف رقم (75). 15 - اليهود: غزوة بني قينقاع رقم (12)، وغزوة بني النضير رقم (26) وغزوة بني قريظة رقم (32)، وسرية ابن رواحة رقم (45)، وغزوة خيبر رقم (49) وغزوة وادي القرى رقم (55). 16 - النصارى: غزوة مؤتة رقم (65)، وغزوة بني طي رقم (79)، وغزوة تبوك رقم (80)، ودومة الجندل رقم (28، 42، 82). ويمكن للقارئ بعد اطلاعه على كثرة عدد هذه القبائل أن يفكر في الأسباب التي دعت مثل هذا العدد من القبائل إلى الحرب. ونذكر أولا علاقات القربى التي تجمع بين هذه القبائل ليعلم أن عددها لا يبلغ في الحقيقة ذلك المبلغ الذي يتبادر لذهن القارئ من أول وهلة، فقد كانت منخرطة في سلك نسب آبائها ومتحدة في جميع أمور الحياة والبقاء والحرب والسلم حتى صارت وكأنها قبيلة واحدة مع كثرتها.

فكان لإلياس بن مضر ثلاثة بنين: ـ[الأول]ـ: قيس عيلان وهو الذي كانت بنو غطفان وبنو ثعلبة وبنو محارب وبنو أشجع وبنو ذبيان وبنو فزارة كلهم من أولاد ابنه سعد بن قيس عيلان. ـ[الثاني]ـ: طابخة ومن أولاده بنو تميم. ـ[الثالث]ـ: مدركة وهو الذي كانت بنو أسد وبنو هون وبنو القارة وبنو عضل وبنو كنانة (الذين دخلت فيهم الأحابيش وبنو خزيمة يعني بنو المصطلق وقريش) من أولاد ابنه خزيمة. ويستطيع الباحث أن يعلم من هذه الشجرة أن جميع هذه القبائل كانت أولاد رجل واحد وهو إلياس بن مضر وهو الجد الأعلى لقريش. وأن جميع الحروب التي خاضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت نتيجة غضب إخوته من أجداده. أما اليهود فكانوا مع قريش حسب معاهدتهم معهم كما كانت تركيا مع ألمانيا في سنة 1914 الميلادية. ولما ظهر أن الغزوات والسرايا أي الحروب التي خاضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تقع إلا ضد رجال نسل واحد أي بني إلياس بن مضر وهو النسل الذي ينتمي إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضا، حينئذ لا يمكن لأحد أن يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أشعل نيران الحرب في العرب أو أنه خاض الحروب لإكراه الناس على اعتناق الإسلام، لأنه لو كان الأمر كذلك لوقعت حرب عدوانية أو دفاعية ضد أي قبيلة أخرى من مئات القبائل العربية، وهذا دليل واضح قاطع، وحقيقة ثابتة لا تحتاج معها إلى الأدلة التي أقامها علماؤنا الكرام ولا يزالون يقيمونها حتى اليوم لتبرير الغزوات النبوية وهي بذاتها تستحق القبول والتقدير، ولاشك أن فلسفة التاريخ الآن تتطلب منا أن نبين كيف كانت تشترك القبائل المذكورة قبلا في الحرب، وكيف ومتى صارت فريقا معارضا للمسلمين؟ بعد هذا الإيضاح يصبح دليلنا هو البرهان المبين. سبق أن ذكرنا أن بداية الغزوات والسرايا كانت بعد الهجرة. فكانت وقعة بدر أول غزوة أو حرب وقعت بعد السنة الثانية من الهجرة. ويجب أن نتفحص هنا القبائل التى انضمت إلى جيش قريش المقاتل. 1 - كانت قريش تريد الإغارة على المدينة ولكن بنو كنانة حالت دونها، فقد كانت بينها وبين قريش عداوة شديدة كابرا عن كابر. فكانت قريش تواجه مشكلتين في سبيل الهجوم على المدينة

(الف) لن تسمح بنو كنانة لجيش قريش بالمرور في أرضها. (ب) وإن وجد الجيش طريقا للمرور فكانت قريش تخشى أن تقطع بنو كنانة دابر الجيش المهاجم وتقوم بالهجوم على مكة وتستولي عليها حيث لا يوجد بمكة من يحمل السلاح. كانت هذه المخاوف من أشد ما اضطر قريشا إلى التراجع عن مطامع القتال. 2 - وسراقة بن مالك المدلجي الكناني رئيس هذه الأرض الفاصلة بين قريش والمسلمين، كان قد بلغه أيضا أن قريشا تراجعت عن قتال المسلمين لهذا السبب قدم بنفسه إلى مكة وتحالف مع قريش تاركا ما كان بينه وبينهم من عداوة قديمة. وتقرر أن يسمح سراقة لقريش بالمرور في أرضه إذا قدمت جيوشها للهجوم على المدينة، وألا يلحق بمكة ضررا بل يوفر الإمدادات لقريش ويساعدها ضد المسلمين. هذه هي المعاهدة الشيطانية التي جعلت من هذا الشخص سببا قويا لهجوم قريش على المسلمين. 3 - وكانت الأحابيش وبنو المصطلق أيضا قد اشتركوا مع سراقة في هذه المعاهدة فكانت وقعة بدر أول حرب اشتركت فيها الأحابيش وبنو المصطلق فعلا مع أعداء المسلمين قريش. وليعلم أن الأحابيش (¬1) هم بنو كنانة وتدخل فيهم القبائل الآتية: بنو نضر: أي أولاد نضر بن كنانة. بنو مالك: أي أولاد مالك بن كنانة. المطيبون: (¬2) أي أولاد حرث بن مالك. وبنو المصطلق يشتملون على القبائل الآتية: بنو الحرث: من الحرث بن لوي. بنو العوف: من العوف بن لوي. بنو كعب: من كعب بن لوي. ¬

(¬1) الأحابيش من الحبشي وهو جبل بالقرب من مكة وقد عقدوا به معاهدة فسموا الأحابيش. (¬2) تطيبوا مرة وقت المعاهدة فسموا المطيبين.

بنو عدي: من عدي بن كعب. بنو الهصيص: من الهصيص بن كعب. بنو جمح: من جمح بن كعب. بنو مرة: من مرة بن كعب. بنو سهم: من سهم بن كعب. بنو تيم: من تيم بن مرة. بنو كلاب: من كلاب بن مرة. بنو زهرة: من زهرة بن كلاب. بنو قصي: من قصي بن كلاب. ولما خسرت قريش معركة بدر أسف سراقة لأنه لم يمد قريشا ضد المسلمين إمدادا كاملا فاستدرك ما فاته وشارك في معركة أحد مشاركة فعلية. 4 - انظروا إلى وقعة أحد كان عدد جيوش قريش فيها ثلاثة آلاف من بينها ألفا من قريش والألفان الآخران من قبائل أبناء إلياس بن مضر. إن الإمام علي بن برهان الدين الحلبي (¬1) صرح بمشاركة بني المصطلق وبني هون ابن خزيمة في وقعة أحد كما أن الواقدي صرح بمشاركة بني ثقيف (¬2) فيها فسبق هذه القبائل إلى الوقوف في معركة أحد يقنع كل باحث بأن معاملة المسلمين هذه القبائل معاملة الفريق المحارب لم يكن إلا اتباعا للقوانين الحربية المسلمة في العالم. 5 - كانت أكبر حملة ساقها الأعداء ضد المسلمين بعد معركة أحد هي معركة الخندق التي سماها القرآن بغزوة الأحزاب. وليس أدل على اجتماع الأحزاب وضعف المسلمين واضطرابهم من قوله تعالى في القرآن الكريم: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا (...) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} (سورة الأحزاب 10 - 11). ¬

(¬1) إنسان العيون ج 2 [ص:218]. (¬2) الواقدي [ص:247].

وهنا ينبغي لنا أن ندقق في القبائل التي شكلت هذا الجيش الضخم. (ألف) قريش وأتباعهم: تحت قيادة أبي سفيان الأموي. (ب) بنو سليم: تحت قيادة سفيان بن عبد شمس (أبي الأعور الأسلمي). (ج) بنو أسد: تحت قيادة طليحة بن خويلد الأسدي. (د) بنو الأشجع: تحت قيادة أبي مسعود بن أخيلة. (هـ) بنو مرة: تحت قيادة الحرث بن عوف المري. (و) بنو غطفان وأتباعهم: أي بنو العيس، وبنو ذبيان، وبنو العشراء، وبنو سعد، وبنو الحسراء، وبنو شبيع. وبنو حجاش، وبنو فزارة، تحت قيادة عيينة بن حصين. (ز) يهود خيبر وضواحي فدك وأم القرى وتيماء، وهم 700 رجل تحت قيادة حي ابن أخطب. (ح) قبيلة هوازن تحت قيادة عامر بن الطفيل. هذه القبائل المذكورة أعلاه كانت قد انضمت إلى هذا الجيش. (ط) وقد أمد يهود بني قريطة (المقيمون في المدينة) الأعداء بأسلحة كثيرة من المساعي والكراوين والمقاتل (¬1). ولما ثبت أن هذه القبائل أصبحت مجتمعة الطرف المحارب ظهر للباحث جليا السبب المعقول، لماذا ظاهر المسلمون قبيلة كذا أو قبيلة كذا؟ ولماذا أسروا رجال قبيلة كذا؟ كما تفهم أسباب حدوث وقعة خيبر وفتح مكة ومعركة حنين والطائف. لأن هذه نفسها هي القبائل التي سبق لها قتال المسلمين في أحد والخندق. وبالجملة ليست هناك قبيلة أو طائفة سبق المسلمون إلى قتالها، وإنما قاموا بالرد عليها والدفاع عن أنفسهم حين تكررت الاعتداءات. وبعد كل هذه التفصيلات يزول إعتراض كل معترض، ولكن إذا بقي في قلبه شك ¬

(¬1) إنسان العيون (1/ 210).

بعد، فإني لأقول له أن يعتبر جميع أرقام الجدول، (82) حروبا، ويعتبر كل حرب حربا عدوانية، وأن المسلمين هم الذين بدأوا القتال كل مرة، ومع ذلك كله يجب أن نفكر في نتائج هذه الحروب. فالجدول الذي أثبتناه يوضح أن خسارة المسلمين وخسارة الفريق المحارب كانت كما يلي: --- اسم الفريق ... الأسير .. ... الجريح ... القتيل ... المجموع ... الملاحظة المسلمون ... 1 ... ... ... 127 ... 259 ... 387 ... عدد جرحى الفريقين ليس بصحيح المخالفون ... 6564 ... - ... 759 ... 7323 ... - المجموع الكلي ... 6565 ... 127 ... 1018 ... 7710 ... عدد الأسرى والقتلى صحيح تماما --- عدد قتلى كل من الفريقين 1018 قتيل، وإذا قسمناه على 82 خرج معدل حرب واحدة 8/ 41 ... 11. هل يمكن لعاقل أن يقول عن هذه الحروب أنها كانت ذات تأثير بالغ في إكراه الناس على ترك الأديان التي تعمقت جذورها في داخلهم واعتناق الدين الجديد ولا سيما في بلاد ضارية مثل جزيرة العرب؟ وعدد أسرى الأعداء يبدو كبيرا أي 6564 أسير، ولكن هذا العدد أيضا ضئيل بالنسبة لشبه جزيرة العرب. وبما أن العدد الكبير (6000) من جملة هذا العدد يتعلق بغزوة واحدة، غزوة حنين، فمعدل الأسرى في باقي الحروب يكون سبعا. وليس هذا العدد من القوة بحيث يكره البلاد كلها على ترك الدين. وقد ثبت بالتحقيق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد أطلق 6347 أسيرا من أصل 6564 أسيرا. شفقة ورحمة بدون شرط إلا الأسيرين اللذين قتلا جزاء بما كسبا من الجريمة وقد بقى 215 أسيرا لم أعرف مصيرهم. والأمل كبير في أن يكمل هذا البحث عالم ثاقب الفكر والنظر بعدي. وأنا متأكد ومؤمن بأن الرجل الكريم الذي أحسن إلى 6347 أسيرا لابد أن يكون قد تلطف مع الأسرى الآخرين الذين بلغ عددهم 215 أسيرا. والغالب أن يكون هؤلاء قد أسلموا وبقوا مع المسلمين فلم يعدوا من المعتقين.

العدد المذكور أعلاه يدل على أنه قد ضحى بثمانية عشر وألف نسمة لتحويل العرب الوحوش إلى عرب متحضرين، والعرب الملحدين الوثنين إلى عرب مسلمين موحدين، وللقضاء على أحداث القتل والنهب وتعزيز الأمن العام في بلاد تفوق مساحتها مساحة فرنسا بضعفين وإحلال الأخوة والروحانية محل العداوة والبغضاء المتوارثة، وإثبات الشورى مكان الاستبداد. وبالعكس من ذلك انظروا إلى العدد الهائل الذي ذهب ضحية في كل من فرنسا وأمريكا في سبيل إنشاء ما يسمى بالديمقراطية، وانظروا إلى الدماء التي سفكت في إنكلترا لبناء ما يسمى بالبرلمان، وانظروا إلى الخسائر التي نتجت عن الحرب العالمية التي استمرت من 14 من شهر أغسطس سنة 1914م إلى 3 من شهر مارس سنة 1917م على معظم أجزاء العالم المتمدن. ذكر أن إنكلترا إنما كانت تهدف بهذه الحرب إلى تأمين حرية الحكومات الصغيرة وكيانها، ولهذا الهدف البسيط هلكت آلاف النفوس، وفنيت الأموال الطائلة، وغرقت مئات الطائرات في البحر وتدهورت التجارة العالمية، وفسدت مرافق الحياة ومظاهر الترف، ومع ذلك كله فإن الشعب الإنجليزي مستعد بعد للتضحيات تحقيقا للغرض المنشود (¬1). وانظروا إلى مدى نجاح الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد ضحى بثمانية عشر وألف رجل فقط لتحقيق المصالح الروحية والخلقية والمادية والقومية التي لم تحققها أمة ولا دولة حتى اليوم. دعونا من حروب رجال الدنيا، ولنذكر ما يسمى بالحروب المقدسة، فهذه حروب مهابهارت لا يقل عدد المقتولين فيها عن عشرة ملايين نسمة، وكذلك أهلكت الهيئات الدينية المقدسة في أوربا نفوسا يربو عددها على مئات الآلاف. وقد ذكر المستر جان ديون بورت في كتابه ((- Apology of Muhammad and Qu ¬

(¬1) نشرت صحيفة همدم الصدرة في 17 / من ابريل سنة 1919م تعداد قتلى الحرب العالمية المستمرة من سنة 18 - 1914م حسب ما يلي: روسيا 170 ألف نسمة، وألمانيا 160 ألف نسمة، فرنسا 200 ألف نسمة، وإيطاليا 460 ألف نسمة، والنمسا 800 ألف نسمة: بريطانيا 800 ألف نسمة، وتركيا 250 ألف نسمة، وبلجيكا 102 ألف نسمة، وبلغارية 100 ألف نسمة، ورومانيا 100 ألف نسمة، وأمريكا خمسون ألف نسمة. المجموع الكلي أكثر من سبعة ملايين نسمة. ويشك كاتب المقال ويتساءل هل دخل عدد قتلى مستعمرات الهند وفرنسا في تعداد إنكلترا وفرنسا أم لا؟ ولكنه يعترف بأن عدد الجرحى والأسرى والضائعين لم يدرج في الأعداد المذكورة.

ran)) أن عدد من أعدمته محاكم التفتيش بلغ اثنى عشر مليون نسمة (¬1) كانوا مسيحيون قتلوا بأيد مسيحية. ودولة أسبانيا وحدها أهلكت ثلاثمائة ألف وأربعين ألفا من المسيحيين اثنان وثلاثون ألفا منهم أحرقوا (¬2) أحياء. ¬

(¬1) إعجاز التنزيل [ص:461]. (¬2) إعجاز التنزيل [ص:474].

فصل

فصل {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} (سورة النساء: 135) •---------------------------------• إبان الحرب العالمية التي بدأت سنة 1914م في أوربا رأيت الصحف الإنجليزية تنشر تحت عنوان ((Roll of honours)) أسماء الأبطال الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الدولة والملك، فشعرت من أعماق قلبي برغبة شديدة لذكر قائمة بالأسماء المباركة لأولئك المقدسين الطاهرين الذين تفانوا في سبيل الصدق والحق أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - والذين يقول القرآن الكريم في شأنهم: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (...) فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (...) يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} (سورة آل عمران: 169 - 171). والذين قال الله فيهم: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} (سورة الأحزاب: 23). ولم أجد في أي كتاب قائمة مرتبة لهذه الأسماء، فلذا رجعت إلى الكتب التي ألفت حول أحوال الصحابة وحياتهم وزينت كتابي بتلك الجواهر واللآلي المختارة والمنتقاة، تقبل الله عملي هذا. وأود أن أذكر أن قائمة بئر معونة ومؤتة لم تستكمل بعد وسأكملها إن شاء الله إذا كتب الله لي ذلك وإلا فليكملها من يأتي بعدي من العلماء. شهداء بدر رضي الله عنهم ورضوا عنه 1 - مهجع بن صالح: كان من قوم عك وكان مولى للفاروق عمر رضي الله عنه وهو

أول من استشهد في الإسلام، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يومئذ مهجع سيد الشهداء (¬1). 2 - عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي: هو القرشي المطلبي يكنى أبا الحارث أو أبا معاوية. استشهد في ثلاث وستين من عمره. وهو أول أمير لسرية إسلامية 3 - عمير بن أبي وقاص (مالك) بن أهيب بن عبد مناف: هو الأخ الأصغر لسعد بن أبي وقاص القرشي الزهري أحد العشرة المبشرين بالجنة. كان ابن ست عشرة سنة فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجعه لصغر سنه فبكى فأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - فشهد بدرا واستشهد فيها. 4 - عاقل بن بكير بن عبد ياليل: هو الليثي واسم أخيه خالد، مذكور في شهداء الرجيع. 5 - عمير بن عبد عمير بن نضلة: يلقب بذي الشمالين ويكنى أبا محمد وهو حليف بني زهرة. 6 - عوف أو عوذ بن عفراء: هو الأنصاري النجاري. أمه عفراء وأبوه الحارث. 7 - معوذ بن عفراء: هو شقيق عوذ بن عفراء (رقم 6). 8 - الحارث أو حارثة بن سراقة بن الحارث: أمها عمة لأنس بن مالك أصاب سهم حلقها. 9 - يزيد بن الحارث أو الحرث بن قيس بن مالك: هو الأنصاري النجاري كان أخا ذي الشمالين (رقم 5) في المؤاخاة. 10 - رافع بن معلى بن لوذان: هو الأنصاري. 11 - عمير بن حمام بن جموح بن زيد بن حرام: هو الأنصاري السلمي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عبيدة (رقم 2) واستشهدا في معركة واحدة ودخلا الجنة. كان يرجز في ميدان الحرب: ركضا إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على العباد ... وكل زاد عرضة النفاد ... غير التقى والبر والرشاد ... ¬

(¬1) الزرقاني (1/ 444) - من مساواة الإسلام أن العبد يتمتع بخطاب سيد الشهداء على لسان هادي الإسلام. هل يوجد نظير لهذا في أمة من الأمم أو لدين من الأديان؟

شهداء غزوة السويق رضي الله عنهم

12 - عمار بن زياد بن سكين بن رافع: هو الأنصاري الأشهلي. 13 - سعد بن خيثمة الأنصاري الدوسي أبو عبد الله: يكنى أبا عبد الله ويلقب بسعد الخير. كان نقيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال له أبوه: لا تذهب أنا ذاهب إلى الحرب. فأجابه: لا تمنعني من الدخول في الجنة. استشهد أبوه خيثمة في غزوة أحد. وعلى هذا كان سعد شهيد ابن شهيد وصحابي ابن صحابي. 14 - مبشر بن عبد المنذر بن الزبير بن زيد: هو الأنصاري الأوسي (¬1). شهداء غزوة السويق رضي الله عنهم 1 - معبد بن عمرو الأنصاري. 2 - حليف لمعبد المذكور أعلاه. شهداء أحد رضي الله عنهم (الف) المهاجرون 1 - حمزة بن عبد المطلب الهاشمي: عم النبي - صلى الله عليه وسلم - يلقب بأسد الله ورسوله وبسيد الشهداء. 2 - عبد الله بن جحش الأسدي القرشي: يلقب بالمجدع في سبيل الله وكان أخا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمته. 3 - شماس بن عثمان بن شريد القرشي المخزومي: هو البدري، هاجر هجرتين. كان عمره وقت شهادته أربعا وعشرين سنة. 4 - مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري: هاجر هجرتين وهو من المهاجرين الأولين. أسلمت قبيلتان بدعوته. كان بيده لواء النبي ¬

(¬1) في الزرقاني: استشهد يوم بدر من المسلمين أربعة عشر رجلا. الجزء الأول [ص:444]. الأسماء الواردة في هذه القائمة اتفق عليها الزرقاني والاستيعاب. وقد ذكر البعض أنهم 22 شهيدا وقد وجدت عدا هؤلاء أسماء سعد بن خولى، وصفوان بن بيضاء الفهري، وعبد الله بن سعيد بن عاص الأموي وعلى هذا يبلغ عدد الأسماء الواردة في القائمة 17 اسما.

الأنصار

- صلى الله عليه وسلم - في غزوتي بدر وأحد. ثم بعد شهادته أخذ اللواء علي رضي الله عنه. وهو من كبار الصحابة. يلقب بالمقرئ القاري. استشهد وهو في الأربعين من عمره. (ب) الأنصار 5 - أنس بن النضر النجاري: هو عم أنس بن مالك. جرح ثمانين جرحا ما بين ضربة بسيف ورمية بسهم وطعنة برمح. وهو من الذين أنزل الله فيهم {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} ولما هزم الجيش الإسلامي قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به المشركون. فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال: ((يا سعد! إني لأجد ريح الجنة)) فمضى فقتل. 6 - أنيس بن قتادة بن ربيعة بن خالد بن الحارث: هو البدري. 7 - أبو هبيرة بن الحارث بن علقمة النجاري: أبو هبيرة هو اسمه. وأخوه أبو أسيرة. وقد ذكر الواقدي وحده اسم أبي أسيرة في شهداء أحد ويرى العلماء أنه خطأ. 8 - أوس بن أرقم بن زيد بن قيس الخزرجي: من كبار الصحابة. 9 - إياس بن أوس بن عتيك الأشهلي: استشهد أخوه أنس في غزوة الخندق. 10 - أوس بن ثابت المزني: هو أخو حسان شاعر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 11 - رفاعة بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل: كان شيخا كبيرا وقت شهادته. 12 - ثابت بن وقش: هو شقيق رفاعة. 13 - عمرو بن ثابت بن وقش: هو ابن أخت حذيفة بن اليمان الصحابي. 14 - سلمة بن ثابت بن وقش. 15 - ثابت بن عمرو بن زيد النجاري: هو البدري. 16 - ثابت بن وحراح: من بني عجلان وهو الذي قال: إن كان محمد قتل فإن الله حي لا يموت. وتقدم بجماعة قليلة إلى الكفار وهو آخر شهيد في هذه الغزوة. 17 - ثعلبة بن سعد بن مالك الساعدي: هو عم أبي حميد الساعدي الصحابي الشهير.

18 - ثقب (أو ثقيب) بن فروة بن بدن الساعدي: كان عالما كبيرا بأنساب الأنصار. 19 - الحارث بن الأوس بن معاذ الأشهلي: هو البدري وابن أخي سعد بن معاذ، استشهد وهو في الثامنة والعشرين. 20 - عمرو بن معاذ الأشهلي: هو البدري وأخو سعد بن معاذ. استشهد وهو في الثانية والثلاثين. 21 - الحارث بن أنس بن رافع الأشهلي: هو البدري. 22 - الحارث بن عبد الله بن سعد بن عمرو الخزرجي. 23 - الحارث بن ثابت بن سفيان بن عدي الخزرجي. 24 - حارثة بن عمرو: من بني ساعدة. 25 - حبيب بن زيد بن تميم البياضي. 26 - حنظلة بن أبي عامر الأوسي: شاءت القدرة الإلهية أن يكون لقبه غسيل الملائكة وأن يكون لقب أبيه الفاسق. كان ابنه عبد الله صحابيا استشهد عبد الله يوم الحرة سنة 63 هـ. 27 - خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي: هو العقبي البدري، تعرف أسرته ببني أعز وكانت أخته عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقد وردت روايات عن تكلم ابنه زيد بن خارجة بعد الموت. جرح أكثر من عشر جراحات. آخى النبي بينه وبين أبي بكر الصديق. 28 - سعد بن ربيع الخزرجي: هو العقبي والبدري ونقيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ابن عم خارجة (رقم 27) دفنا في قبر واحد. وبقية أحواله مذكورة في البداية من هذا الكتاب. 29 - جناب بن قيظي بن عمرو بن سهل الأشهلي. 35 - صيفي بن قيظي بن عمرو بن سهل الأشهلي: شقيق جناب بن قيظي (رقم 29) وابن أخت أبي هشيح بن تيهان (رقم 48). 31 - خيثمة بن الحارث بن مالك الأوسي: اسم ابنه سعد مذكور في شهداء بدر (رقم 13).

32 - ذكوان بن عبد قيس بن خلدة الزرقي: هو العقبي والبدري كان من المهاجرين والأنصار أيضا، هو وأسعد بن زرارة أول من حملا الإسلام إلى المدينة. 33 - رافع بن مالك بن عجلان الزرقي الخزرجي: يكنى أبا مالك، وكان نقيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حضر بيعة العقبة الأولى (سنة 6) والثانية (سنة 12) والثالثة (سنة 70) كذلك. 34 - رافع مولى غزية بن عمرو. 35 - رفاعة بن عمرو بن زيد الخزرجي: هو العقبي والبدري. يكنى أبا الوليد. 36 - سعد أو سعيد بن سويد بن قيس بن أبجر: هو الخدري. 37 - سهل بن عدي بن زيد بن عامر الأشهلي. 38 - سهل بن قيس بن أبي كعب بن قيس: هو البدري والأسلمي. 39 - سبيع بن حاطب بن قبيس بن هبيشة: هو الأوسي. 40 - سوييق بن حاطب بن الحارث بن حاطب. 41 - صخرة بن عمرو (بشر): كان حليف بني الحليف من الخزرج. 42 - عبد الله بن جبير بن النعمان: هو العقبي والبدري. وكان في هذه الغزوة سيد الرماة. 43 - عبد الله بن عمرو بن وهب بن ثعلبة: هو الساعدي. 44 - عبد الله المجذر بن زياد البلوي: هو البدري وحليف الأنصار. 45 - عبادة بن خشخاش بن عمرو بن زمزة. 46 - نعمان بن عبد عمرو بن مسعود: هو البدري دفن هو وعبادة بن خشخاش وعبد الله المجذر في قبر واحد. 47 - عامر بن أمية بن زيد بن خشخاش النجاري: هو البدري، وابنه هشام من الصحابة. 48 - عبيد (عتيك) بن تيهان بن مالك: يكنى أبا شيخ وهو بدري وعقبي. 49 - يسار: هو مولى لعبيد بن تيهان بن مالك.

50 - عبيد بن معلى بن نودان بن حارثة: اسم أخيه رافع مذكور في شهداء بدر. انظر الرقم (12). 51 - عباس بن عبادة الخزرجي: هو من المهاجرين والأنصار. شهد العقبتين. آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبن عثمان بن مظعون. 52 - عامر بن مخلد بن الحارث النجاري: هو بدري وليس له عقب. 53 - عمرو بن إياس: أحد بني عوف. 54 - عمرو بن مطروف أو مطرف بن علقمة بن عمرو بن ثقف: هو أبو حمام. 55 - عتبة بن الربيع بن رافع: هو الخدري الخزرجي. 56 - عباد بن سهل بن مخرمة: هو الأشهلي الأوسي. 57 - عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي الخزرجي: هو البدري ونقيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكنى أبا جابر وهو والد جابر الصحابي الشهير. وفي الحديث أن الملائكة ظللوا جنازته بأجنحتهم وأن الله كلمه بعد شهادته. 58 - عمرو بن جموح بن زيد بن حرام (¬1): كان سيد الأنصار، وكان في رجله عرج فقال: أدخل بعرجتي الجنة. ولما خرج من بيته إلى الحرب قال: اللهم ارزقني الشهادة ولا ¬

(¬1) تذكر كتب السيرة كلها أن صحابية أصيب زوجها وأخوها وابنها يوم أحد، ومع ذلك سألت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما سمعت بوجوده قالت كل مصيبة بعدك جلل. إني لم أجد اسم هذه المرأة في كتاب من الكتب. ثم نظرت إلى نسب أقرباء شهداء أحد وكذلك بحثت في الصحابيات عن امرأة استشهد أقرباؤها مثل هؤلاء الثلاثة. قضيت عدة شهور باحثا عن هذه المرأة، ففزت وله الحمد. وهذه هي هند، فخلاد البدري ابنها، وعبد الله البدري ونقيب الرسول أخوها، وعمرو بن الجموح سيد الأنصار زوجها، وهؤلاء كلهم استشهدوا في أحد. كانت هذه السيدة قد حملت نعشهم على الجمل إلى المدينة ثم رجعت بهم إلى أحد لتضمهم إلى مجموعة الشهداء. إن مثل هذه المرأة القوية الإيمان لا تكون إلا من أسرة كريمة يمتاز كل فرد من أفرادها بالإيمان والعمل. وورد في رواية أصيب زوجها وأخوها وأبوها. وهذه المرأة لم أستطع تعيين اسمها، إن أسماء بنت يزيد بن السكن سيدة كريمة كانت قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولة للنساء، والدها يزيد بن السكن وأخوها عامر بن يزيد من شهداء أحد ولم أجد اسم زوجها في كتاب ولو كنت وجدته في رواية وكان اسمه في هذه القائمة لكانت تصدق هذه الرواية على أسماء بنت يزيد. فهي سيدة عالية الدرجة استشهدت يوم اليرموك وهي تقاتل الكفار.

تردني إلى أهلي خائبا. وكان سخيا جوادا قيل في شأنه هذا الشعر: إذا جاءه السؤال أذهب ماله ... وقال خذوه إنه عائد غدا دفن هو وعبد الله بن عمرو بن حرام في قبر واحد. وكانت أخت عبد الله بن عمرو ابن حرام هند تحت عمرو بن جموح بن زيد. 59 - خلاد بن عمرو بن جموح: هو بدري وابن لعمرو بن جموح. 60 - أبو أيمن: هو مولى لعمرو بن جموح. 61 - عمارة بن زياد بن سكن بن رافع (¬1): هو الأشهلي جرح في جسده أربع عشرة مرة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعل له رجله وسادة فمات وخده على قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 62 - يزيد بن سكن: يكنى أبا أسماء وهو عم عمارة (رقم ا 6) وقد استشهد ابنه عامر بن يزيد يوم استشهد هو أيضا. 63 - عمرو ولد قيس بن زيد بن سواد بن مالك: هو من بني النجار. 64 - قيس بن عمرو بن قيس: هو ابن لعمرو (رقم 63). 65 - قيس بن مخلد بن ثعلبة بن صخر: هو المازني البدري. 66 - مالك بن سنان: هو والد أبي سعيد الخدري. 67 - نوفل بن ثعلبة: هو السالمي الخزرجي البدري. 68 - يزيد بن حاطب بن عمرو: هو الأشهلي. 69 - وهب بن قابوس. 70 - الحارث بن عقبة بن قابوس: بينه وبين وهب (رقم 69) عمومة. كان قد حمل الغنم من جبل مزينة لبيعها في المدينة فلم يجد بها أحدا، ولما علم أنهم في أحد يقاتلون الكفار قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم على يده ثم قاتل فقتل. 71 - حسيل يمان بن جابر العبسي القطعي: هو والد حذيفة الصحابي الشهير. قتله المسلمون خطأ. ¬

(¬1) ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب عمار بن زياد في شهداء بدر رواية عن ابن الكلبي ولعله أخوه.

ملاحظة

ملاحظة: تركنا عدة أسماء مثل مالك بن أياس والحارث بن عدي بن خرشة وإياس بن عدي إذ لم يذكرها ابن إسحاق إمام أهل السير، أما ما ذكرنا من الأسماء فهى متقق عليها عند علماء السيرة وصحيحة تماما. شهداء يوم الرجيع رضي الله عنهم 1 - مرثد بن كنعان بن حصين الغنوي: ينتهي نسبه إلى سعد بن قيس بن عيلان. وكان مرثد يأتي إلى المسلمين الذين أسرتهم قريش بمكة لقبولهم الإسلام، فيتسور جدار السجن فيحمل كل مرة واحدا من المسلمين إلى المدينة وهكذا أنقذ كثيرا من المسلمين من أيدي قريش. 2 - خبيب بن عدي الأنصاري: ذكرنا أحواله في البداية من هذا الكتاب. 3 - عاصم بن ثابت بن أبي أفلح قيس الأنصاري: هو البدري الأوسي يكنى أبا سلمان. 4 - زيد بن الدثنة الأنصاري البياضي: هو البدري الأحدي، صلبه الكفار، ولما بدأوا صلبه قال: دعوني أصلي ركعتين. ومنذ ذلك اليوم سن النبي - صلى الله عليه وسلم - هاتين الركعتين لكل مقتول يقتل بعده. 5 - زيد بن مزين الأنماري البياضي. 6 - عبد الله بن طارق بن عمرو بن مالك البلوي. 7 - مغيث بن عبيد بن أبي إياس البلوي: هو وعبد الله بن طارق (رقم 26) أخوان للأم. 8 - خالد بن بكير بن عبد ياليل (¬1). ¬

(¬1) ذكر علماء السيرة عدد أصحاب الرجيع ستة، وفي أبيات حسان بن ثابت أيضا نجد ستة أسماء. وذكر البخاري عشرة وجدنا منهم ثمانية.

شهداء بئر معونة

شهداء بئر معونة 1 - منذر بن عمرو بن خنيس الأنصاري الساعدي: هو العقبي البدري نقيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقب بالمعتق للموت ويلقب أيضا بسيد الشهداء. آخى النبي - صلى الله عليه وسلم -، بينه وبين طلب ابن عمرو. 2 - حكيم بن كيسان مولى هشام المخزومي: أتى به أسيرا في سرية النخلة ثم أسلم وظفر بالشهادة. 3 - حرام بن ملحان (مالك) بين خالد الأنصاري: هو البدري الأحدي، أخته أم سليم والدة أنس بن مالك وصحابية شهيرة. وأخته الثانية أم ملحان وهي صحابية أيضا، ولما طعن أخذ دمه فنضحه على وجهه ورأسه وقال: فزت ورب الكعبة. 4 - سليم بن ملحان (مالك) بن خالد الأنصاري: هو شقيق حرام بن ملحان رقم (3). 5 - الحارث بن صمة الأنصاري النجاري: طعن بينما هو في طريقه للقتال في بدر فجرح. وهو من الذين ثبتوا يوم أحد. كان الكفار قد رشقوه بالسهام حتى استشهد. 6 - ثابت بن خالد النجاري: شهد بدرا وأحدا. 7 - عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه: كان من قوم أزد وكان أسود الظاهر، أبيض الباطن، له سبق في الإسلام، اشتراه أبو بكر رضي الله عنه وأعتقه، صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر الهجرة. استشهد وهو ابن أربعين سنة. يقول قاتله عامر بن الطفيل: لما طعنته بالرمح سطع لي من جسمه نور وبذلك أسلم عامر بن الطفيل. لم يوجد جثمانه حيث استشهد. 8 - عروة بن سماء بن الصلت: كان من بني سليم وكان قاتله أيضا من هذه القبيلة ولما أراد قاتله إجارته أبى أن يترك المسلمين. 9 - عائذ بن ماعص بن قيس بن خلدة: هو الأنصاري الزرقي البدري. 10 - معاذ بن عائص بن قيس بن خلدة: شقيق عائذ بن ماعص رقم (9) وكان بدريا وأحديا.

شهيد المريسيع

11 - مسعود بن قيس بن خالد: ابن عم معاذ بن عائص رقم (10). 12 - سفيان بن ثابت الأنصاري: من بني نبيت. 13 - مالك بن ثابت الأنصاري: شقيق سفيان بن ثابت الأنصاري رقم (12). 14 - سفيان بن حاطب بن أمية: هو الأنصاري الظفري شهد أحدا. 15 - سهيل بن عامر بن ثقف: الأنصاري. 16 - سعد بن عمرو بن ثقف: هو ابن عم سهيل بن عامر رقم (15). 17 - طفيل بن سعد بن عمرو بن ثقف: شهد أحدا وهو ابن سعد بن عمرو رقم (16). 18 - سهل بن عمرو بن ثقف: شقيق سعد بن عمرو رقم (16). 19 - قطبة بن عبد عمرو بن مسعود بن عبد الأشهل: أنصاري خزرجي. 20 - منذر بن محمد بن عقبة: هو الأنصاري الأوسي البدري الأحدي. 21 - نافع بن بديل بن ورقة: من بني سهم. 22 - أنس بن معاوية: من بني عمرو بن مالك. 23 - أبي بن ثابت بن المنذر: يكنى أبا الفتح. 24 و 25 - أبي بن معاذ بن أنس: هو الأنصاري النجاري البدري، وقد عده الواقدي هو وأخاه في شهداء هذه السرية. 26 - مسعود بن خلدة بن عامر بن زريق (¬1): هو البدري الأحدي. وقد عده البعض في شهداء خيبر. شهيد المريسيع 1 - هشام بن صبانة الليثي: أخو مقبس بن صبانة الليثي قتل بيد رجل من المسلمين خطأ. ¬

(¬1) ذكر أنس بن مالك عدد شهداء بئر معونة سبعين شهيدا، ولم أجد في صحيح البخاري إلا 26 اسما.

شهداء غزوة الخندق

شهداء غزوة الخندق 1 - أنس بن أوس بن عتيك بن عمرو: هو الأنصاري الأشهلي، شهد أحدا واستشهد بسهم أصابه. وكان أخوه إياس قد استشهد في غزوة أحد. 2 - عبد الله بن سهل بن زيد: هو الأنصاري الحارثي البدري. 3 - ثعلبة بن عتمة بن عدي: هو السلمي الخزرجي العقبي الأحدي. 4 - طفيل بن مالك بن النعمان: هو الأنصاري السلمي البدري جرح يوم أحد ثلاث عشرة مرة فبرأ فاستشهد يوم الخندق. 5 - كعب بن زيد بن قيس بن مالك: هو الأنصاري البدري وهو الذي نجا من بين السبعين قارئا في بئر معونة. 6 - سعد بن معاذ بن النعمان: هو الأشهلي الخزرجي سيد الأوس، أصابه سهم يوم الخندق فبقي شهرا جريحا، عالج النبي - صلى الله عليه وسلم - جراحه بيده مرتين. وفي شأنه قيل: اهتز له عرش الرحمن. شهداء غزوة بني قريظة رضي الله عنهم 1 - خلاد بن سويد بن ثعلبة: هو الأنصاري الخزرجي، شهد المشاهد كلها من العقبة وبدر وأحد والخندق. 2 - سنان بن محصن (¬1): قد أخذنا هذا الاسم من سيرة ابن دحلان. وفي الاستيعاب أنه سنان بن وهب بن محصن وهذا في الغالب هو الصحيح، وقد ذكر الواقدي وفاته في سنة 32 هـ. وهناك شك في صحة هذا التاريخ. شهداء غزوة الغابة رضي الله عنهم 1 - ذر بن أبي ذر رضي الله عنه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تنبأ باستشهاده. ¬

(¬1) وجدنا من شهداء بني قريظة اسم رجلين وأحوال ثلاثة رجال غير كاملة. وقد ذكر الواقدي أسماءهم أبو حيس والنعمان ومحيصة وحويصة وأبو بردة. ولكن الزرقاني أنكر صحة هذه الأسماء.

شهداء ذي القصة رضي الله عنهم

2 - محرز بن نضلة: كان من بني أسد، شهد المشاهد كلها من بدر وأحد والخندق. 3 - وقاص بن محرز: من بني مدلج. شهداء ذي القصة رضي الله عنهم 1 - سلكان بن سلامة بن وقش بن رغبة: هو الأنصاري الأشهلي يكنى أبا نائلة. 2 - الحارث بن أوس بن معلى بن لوذان: استشهد عمه رافع في غزوة بدر وعمه الآخر عبيد في غزوة أحد. 3 و 4 - رجلان من قبيلة مزينة. 5 - رجل من بني غطفان. شهيد سرية وادي القرى رضي الله عنه 1 - ورد بن مرداس. شهيد العرنيين رضي الله عنه 1 - يسار النوبي: كان مولى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. شهيد غزوة وادي القرى رضي الله عنه 1 - مدعم: كان عبدا حبشيا أعتقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. شهداء خيبر رضي الله عنهم 1 - أوس بن حبيب: أنصاري استشهد بحصن ناعم. 2 - أوس بن فاكة (أو فاتاك): أنصاري أوسي. 3 - أوس بن عائذ.

4 - أسلم: كان عبدا حبشيا لرجل من يهود خيبر، أسلم في خيبر واستشهد فيها، فحمل نعشه في خيمة، ولما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظره رجع في ساعته وقال: عنده زوجته من حور الجنة جالسة. 5 - ثابت بن واثلة. 6 - الحارث بن حاطب: أنصاري أوسي شهد أحدا والخندق والحديبية، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلفه بأمر فأصابه سهم من قلعة فانكسر عظم رأسه فاستشهد. 7 - رفاعة بن مسرح: هو من بني أسد وكان حليف بني عبد شمس. 8 - ربيعة بن أكثم بن سخبرة: أسدي مهاجر، يكنى أبا يزيد، شهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية، وكان قصير القامة عظيم الهمة. استشهد وهو في الرابعة والعشرين. 9 - سليم ولد ثابت بن وقش بن زغبة: شهد أحدا والخندق والحديبية، طعنه مرحب اليهودي فمات، وقد استشهد أبوه وأخواه في غزوة أحد. 10 - عامر بين الأكوع (سنان): بطل شهير وعم سلمة بن عمرو بن الأكوع الصحابي. 11 - عبد الله بن أبي أمية بن وهب: كان حليف بني أسد بن عبد العزى وابن أخته ولم يذكر اسمه إلا الواقدي. 12 - عبد الله بن هبيب بن أهيب: أسدي ليثي. 13 - عدي بن مرة بن سراقه بن خباب: هو البلوي، استشهد بسهم أصابه في صدره. 14 - عرة بن مرة بن سراقة: أنصاري. 15 - عمارة بن عقبة: من بني عصار بن بليل استشهد بسهم أصابه. 16 - أبو سفيان بن الحارث بن قيس: أنصاري. 17 - عمير بن ثابت: أنصاري أوسي يكنى أبا الضياح، شهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية

سرية الخربة

18 - مسعود بن سعد بن عامر بن عدي: أنصاري أوسي بدري. 19 - محمود بين سلمة (¬1). أنصاري حارثي، شهد أحدا والخندق، وبينما هو تحت جدار القلعة إذ سقطت عليه طبقة الرحى فمرض ثلاثة أيام ومات. سرية الخربة 1 - مرداس بن نهيك: كان من بني ضمرة. سرية ابن أبي العرجاء 1 - الأخرم بن أبي العرجاء. شهيد أطلح رضي الله عنه 1 - كعب بن عمير: هو الغفاري الأنصاري، كان من كبار الصحابة، وكثيرا ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤمره على السرايا، قال الدولابي وغيره: كان كعب بن عمير وحده قد نجا من بين العشرة. وقال ابن إسحاق: استشهد العشرة كلهم. ولم نجد اسم أحد منهم غيره. شهداء مؤتة رضي الله عنهم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى ملك الروم بالشام شرحبيل بن عمرو الغساني، فقام شرحبيل بتقييده، وأمر فضربت عنقه. فلما بلغ الخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهز الجند إلى مؤتة، وأمر عليهم زيد بن حارثة وقال: إن قتل زيد ¬

(¬1) ذكر علماء السيرة عدد شهداء خيبر 15 رجلا وقد بحثت عنهم فوجدت 23 اسما، 19 منهم مذكورون في القائمة. أما الأربعة الباقية فذكر الواقدي منهم اسم زنيف بن وائلة فقط وذكر الطبري اسم انيف بن حبيب فقط. وأما بشير بن براء بن معرور فمات بعد خيبر حين أكل من الشاة المسمومة التي كانت أرسلتها زينب اليهودية للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما بشير بن عبد المنذر ففيه روايتان: أ - أنه استشهد في بدر، ب - استشهد يوم خيبر. والأصح عندي الأولى.

فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون بينهم رجلا فيجعلوه عليهم. وفي رواية للواقدي أن نعمان اليهودي قال: إن كان محمد صادقا قتلوا جميعا، ثم توجه نعمان إلى زيد بن حارثة وقال له: أوص فإنك لن ترجع إن كان محمد صادقا، فقال زيد أشهد أنه رسول صادق. وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مشيعا وقال للجيش: ((اغزوا باسم الله، في سبيل الله، من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدا، ولا امرأة، ولا كبيرا فانيا، ولا منعزلا بصومعة، ولا تقربوا نخلا ولا شجرة، ولا تهدموا بناء)). فيما يلي الأسماء المباركة للشهداء وقد ورد في الزرقاني (2/ 273) أنهم كانوا اثنى عشر رجلا. 1 - زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي: ينتهي نسبه من جهة أبيه إلى قضاعة ومن جهة أمه سعدى بنت ثعلبة إلى بني طي. اختطفه قطاع الطرق من أمه وباعوه في سوق عكاظ فاشتراه منهم حكيم بن حزام لعمته خديجة الكبرى، فوهبته خديجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرباه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعطف وشفقة، ولما قدم أبوه وعمه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبانه، أبى أن يفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. شهد بدرا وأمر على الجيش في سبع سرايا. ذهب الزهري إلى أنه أول من أسلم من الناس. وهو الذي ورد اسمه في القرآن الكريم دون جميع المسلمين، قال الله تعالى في مدحه: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها} (سورة الأحز اب: 37). كان له ابن من بطن أم أيمن اسمه أسامة لقب بحب رسول الله. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين زيد بن حارثة، وبين حمزة رضي الله عنه، ولقب زيد بن حارثة بأخينا ومولانا في قضية حضانة بنت حمزة رضي الله عنه. وفي الاستيعاب أن زيد بن حارثة اكترى من رجل بغلا من الطائف فمال به المكري إلي خربة كانت فيها قتلى كثيرة. فلما أراد أن يقتله قال له: دعني أصلي ركعتين. قال: صل، فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئا قال: فلما صليت أتاني ليقتلني قال فقلت: يا أرحم الراحمين وكذلك فعل ثلاث

مرات فجاء جبريل وقتل المكري الذي كان يريد قتله. 2 - جعفر (الطيار) بن أي طالب بن عبد المطلب رضي الله عنه: ذكرنا أحواله بالتفصيل في الباب الأول من هذا الكتاب وذكرنا خطبته التي ألقاها أمام النجاشي في بداية هذا الكتاب أيضا. 3 - عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الخزرجي: هو أحد النقباء الاثنى عشر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد بيعة العقبة وبدرا وأحدا والخندق والحديبية وعمرة القضاء، وكان من صفوة شعراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ولوعا بالجد والعمل. عن أبي الدرداء قال: لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره في اليوم الحار الشديد حتى إن الرجل ليضع من شدة الحر يده على رأسه وما في القوم صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة. وحين خرج الجيش لغزوة مؤتة، دعا له المسلمون بالخير والعافية فقال ابن رواحة في البديهة: لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فزع تقذف الزبدا وطعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... يا أرشد الله من غاز وقد رشدا وكان قد تسلم قيادة الجيش بعد زيد وجعفر رضي الله عنهما وحينئذ أنشد الأبيات التالية في ميدان الحرب ثم كر على الكافرين واستشهد. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شاهد هؤلاء الأمراء الثلاثة جالسين على أرائك الجنة. يا نفس إن لم تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت 4 - جابر بن أبي صعصعة بن زيد المازني الأنصاري. 5 - أبو كلاب بن أبي صعصعة بن زيد المازني الأنصاري: هو شقيق جابر بن أبي صعصعة رقم (4)، وكان له أخ غيره اسمه قيس الذي أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - على جيش الساقة في غزوة بدر، وكان له أخ آخر غيره اسمه الحارث، وقد استشهد أخوان له في غزوه اليمامة.

شهداء فتح مكة رضي الله عنهم

6 - سراقه بن عمرو بن عطية الأنصاري النجاري: كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل من بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر وعمرة القضاء. 7 - عبادة بن قيس بن عبسة الأنصاري النجاري: شهد بدرا مع أخيه الأصغر سبيع بن قيس. 8 - وهب بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري: شهد أحدا والخندق والحديبية وخيبر. 9 - مسعود بن سويد بن حارثة القرشي العدوي: أحد السبعين رجلا من بني عدي الذين هاجروا إلى المدينة. 10 - مسعود بن الأسود بن حارثة القرشي العدوي: ابن عم مسعود بن سويد شهد بيعة الرضوان. 11 - عبادة بن قيس بن زيد بن أمية الأنصاري الخزرجي: شهد بدرا وأحدا والخندق وخيبر والحديبية. 12 - سويد بن عمرو: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين وهب بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري رقم (8). 13 - هويجة بن بجير بن عامر الضبي (¬1). شهداء فتح مكة رضي الله عنهم 1 - حبيش بن أشعر بن منقذ بن ربيعة: من قوم خزاعة. 2 - كرز بن جابر بن حيل الفهري القرشي: قاد أول حملة بعد الهجرة ضد المسلمين مع قريش ثم أسلم وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجيش في العرنيين. وكان حبيش أول من استشهد يوم الفتح فقام كرز فجعل جثته بين قدميه وهو يحارب فقاتل فقتل. ¬

(¬1) هذه القائمة صحيحة كاملة إن شاء الله. ذكر ابن دحلان 13 اسما. ويبلغ هذا العدد 14 إذا ضم إليهم الحارث رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

شهداء حنين رضي الله عنهم

شهداء حنين رضي الله عنهم 1 - أيمن بن عبيد الحبشي: هو أخو أسامة بن زيد لأم وكان ممن ثبتوا يوم حنين. 2 - حويرث بن عبد الله بن حلف: هو الغفاري الأنصاري يلقب بأبي اللحم، كان لا يأكل اللحم المذبوح على النصب منذ البداية. 3 - مرة بن سراقة. 4 - سراقة بن حباب: هو الأنصاري. 5 - سراقة بن الحارث بن عدي: هو من بني عجلان. 6 - يزيد بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب (¬1): هو ابن أخت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها كان من رؤساء قريش، وكانت قريش لا ترى بدا من استشارته في أمورها المهمة. شهداء غزوة الطائف رضي الله عنهم 1 - الحارث بن سهل بن أبي صعصة: هو الأنصاري النجاري من بني مازن، استشهد له ثلاثة أعمام؛ اثنان في غزوة مؤتة وواحد في غزوة اليمامة. 2 - حباب بن جبير. 3 - عرفطة بن حباب بن جبير: بينه وبين حباب بن جبير رقم (¬2) أبوة وبنوة وهو حليف بني أمية. 4 - صبيحة بن عبد الله بن الحارث: الليثي. 5 - رقيم بن ثابت: أنصاري أوسي. 6 - ثابت بن جذع: أنصاري، عقبي بدري. 7 - سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية: القرشي الأموي. 8 - عبد الله بن أبي أمية بن مغيرة: قرشي مخزومي وأخو أم المؤمنين أم سلمة رضى الله عنها لأب. ¬

(¬1) هذه القائمة كاملة إن شاء الله. (¬2) نفسه.

شهداء المشاهد المختلف فيها

9 - عبد الله بن الحارث بن عبد المطلب: قرشي هاشمي وابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 10 - السائب بن الحارث بن قيس بن عدي: قرشي سهمي. قال البعض إنه طعن يوم الطائف واستشهد يوم الفحل سنة 13 هـ. 11 - عبد الله بن عامر بن ربيعة: العدوي. 12 - عبد بن قوال بن قيس بن وقش بن ثعلبة: هو العدوي شهد أحدا والمشاهد كلها بعدها. 13 - منذر بن عبد بن قوال (¬1): هو ابن عبد بن قوال رقم (12). شهداء المشاهد المختلف فيها نذكر في هذه القائمة أسماء الشهداء الذين اتفق علماء السيرة على أنهم استشهدوا في العصر النبوي الزاهر ولكنهم اختلفوا في تعيين المشاهد التي استشهدوا فيها: 1 - قرة بن عتبة (عقبة) الأنصاري الأشهلي. 2 - مالك بن خلف بن عمرو الخزاعي: كان على طليحة أحد مع أخيه النعمان بأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -. 3 - مخيريق: كان عالما يهوديا من بني النضير أسلم يوم أحد وانطلق من ساعته إلى الجهاد، وكان قد أوصى بماله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 4 - ثابت بن النعمان بن أمية أبو حنة: بدري. 5 - سهل بن الرومي بن وقش بن زغبة: ذكر الواقدي اسمه ضمن شهداء أحد. 6 - يزيد بن سعيد الكندي والد السائب. 7 - بشر بن براء بن معرور الأنصاري: خيبري أكل من لحم مسموم فمات. 8 - طفيل بن النعمان بن خنساء الأنصاري. 9 - مسعود بن خلدة: أنصاري، زرقي. 10 - عبد الله (حكم) بن سعيد بن العاص بن أمية: قرشي بدري. 11 - مسعود بن الأسود بن حارثة: قرشي عدوي. 12 - هبار بن سفيان بن عبد الأسد: المخزومي. ¬

(¬1) هذه القائمة كاملة إن شاء الله.

الباب التاسع

الباب التاسع {يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين} (سورة الأنعام: 25) •---------------------------------• كان الكفار في جزيرة العرب إذا تليت عليهم آيات القرآن التي تتناول أحوال الأمم الغابرة وأخبار الأنبياء السابقين طعنوا في القرآن الكريم وقالوا ما هو بشيء ولا يقص علينا محمد إلا أساطير الأولين. والأساطير في المعجم هي القصص الخرافية التي تتضمن قليلا من الحقيقة وكثيرا من الطرافة والفكاهة. وكفار جزيرة العرب الذين كانوا بعيدين عن العلوم والمعارف لا يعرفون الخط والكتابة ويجهلون أمور العالم وأحواله لدرجة يرثى لها، ولكن العجيب هو أن يعجب أهل الكتاب بهذا اللفظ الصادر عن هؤلاء الجهلة المتوحشين عبدة الأصنام فرددوها في كتبهم مرارا وبأساليب مختلفة. حتى كتب بعض القساوسة أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - تلقى جميع هذه القصص من راهب نصراني ثم صاغها للناس بلغته. وسوف نقارن في هذا الباب بين قصة تكون قد وردت في الإنجيل الحالي، وورد ذكرها أيضا في القرآن الكريم، وسيعلم القراء بهذه الدراسة المقارنة مدى سمو تعاليم القرآن إزاء الكتب السماوية الأخرى. وإلى أي مدى يكون خطأ من يظن أن هذا الرجل الذي يتلو مثل هذا الكتاب الطاهر كان يستوحي من قصص الكتب السابقة ثم يتلوها بأسلوبه الخاص على الناس. ولما كان اعتراض النصارى هذا موجه إلى شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هنا وجب أن نلحق هذا الباب بالسيرة النبوية. آدم عليه السلام: ورد في سفر التكوين (الأصحاح رقم 2 - 3) ذكر ولادة آدم وإقامته في جنات عدن وأكله من شجرة معرفة الخير والشر وخروجه من الجنة. كما ورد في الدرس السابع عشر من الأصحاح الثالث من التكوين "ملعونة الأرض بسببك". ولم

قابيل وهابيل ابنا آدم عليه السلام

يذكر في أي موضع من الكتاب المقدس أن آدم قد غفرت له خطيئته هذه، أما فضائل آدم التي ذكرها القرآن وسكت عنها الكتاب المقدس فهي كما يلي: 1 - كان آدم قد نسي عهد الله حين أكل من الشجرة: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي} (سورة طه: 115). 2 - لم ينقض آدم عهد الله متعمدا: {ولم نجد له عزما} (سورة طه: 115). 3 - تاب الله على آدم وغفر له خطيئته هذه وهداه فيما بعد إلى الصراط المستقيم وجعله في جناب منه مريع: {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} (سورة طه: 122). 4 - نزل كلام الله على آدم: {فتلقى آدم من ربه كلمات} (سورة البقرة: 37). وهذه كلها فضائل لو جرد عنها أبو البشرية ما بقي فيه شيء من الفضيلة. والأمر الذي سكت عنه القرآن وذكره الكتاب المقدس عن آدم هذه الفقرة: " خلق الله آدم وجعله على شبهه ". (التكوين 5/ 1) وورد نفس الأمر في التكوين (التكوين 1/ 26) بهذه الألفاظ: " وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا " ليت شعري كيف يكون لأحد من أهل الكتاب بعد هذا البيان أن ينكر التجسيم لله وينزهه عن التحديد ويقنع الناس بأن ذاته تفوق البشر. طبعا لقد أثبت القرآن الكريم بترك هذا البيان أن ما علمه للناس من تقديس وتنزيه لله تعالى هو أعلى وأسمى مما علمهم غيره. قابيل وهابيل ابنا آدم عليه السلام: ورد في الكتاب المقدس: 1 - أن قابيل قام على هابيل أخيه وقتله. (التكوين 4/ 8). 2 - جعل الرب لقابيل علامة لكي لا يقتله كل من وجده. (التكوين 4/ 15).

نوح عليه السلام

3 - قال الرب كل من قتل قابيل فسبعة أضعاف ينتقم منه. (التكوين 4/ 15). لا يخفى ما في هذا النظام الذي وضع للقاتل من ضرر وخطر كبيرين على السلام العالمي. وقد ذكر القرآن هذه القصة فقال فيها: 1 - كان قابيل من أصحاب النار ومن الخاسرين لقتله أخاه: {فتكون من أصحاب النار} (سورة المائدة: 29). {فقتله فأصبح من الخاسرين} (سورة المائدة: 30). 2 - ثم بين ما للحياة الإنسانية من قيمة، وما في قتل الإنسان من عذاب وإثم شديد فقال: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} سورة المائدة: 32). وهنا يستطيع القارئ أن يدرك ما بين الكتاب المقدس وبين القرآن الكريم من فرق وما للقرآن من تفوق. نوح عليه السلام: يبدأ ذكر نوح عليه السلام في الكتاب المقدس من الأصحاح السادس من سفر التكوين، وفي الأصحاحين السابع والثامن جاء ذكر الطوفان وفي الأصحاح التاسع جاء ذكر نوح بعد الطوفان وفي الأصحاح العاشر جاء ذكر أولاد نوح عليه السلام. وعلى كل من يستطيع أن يقرأ الكتاب المقدس ويفهمه، أن يقرأه وليرى أنه: 1 - لم ترد فيه أية فقرة تشير إلى وعظ نوح عليه السلام لقومه. 2 - ولم يأت في أي موضع منه ذكر ذنب الذين أغرقوا في الطوفان. 3 - لم يرد فيه لماذا كان إهلاكهم هو العلاج الأخير. 4 - لم يرد فيه ذكر من بعث إليهم نوح عليهم السلام. 5 - ومن هم أولئك الذين أغرقوا في الطوفان. أما القرآن الكريم فإنه يشير إلى هذه الأمور جميعا. 1 - فقد أخبر القرآن أن نوحا عليه السلام بعث إلى قومه:

{إنا أرسلنا نوحا إلى قومه} (سورة نوح: 1). 2 - وأخبر أن نوحا عليه السلام وعظ قومه ألف سنة إلا خمسين عاما فقال: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} (سورة العنكبوت: 14) 3 - وأخبر أن نوحا عليه السلام دعا قومه فأعلن لهم وأسر لهم إسرارا. 4 - وأخبر أن قومه كانوا قد انغمسوا في معصية الشرك. 5 - وأخبر أنهم كانوا قد انغمسوا في الشرك إلى حد أنهم نصحوا أولادهم وأحفادهم وأصدقاءهم بالتمسك به: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} (سورة نوح: 23). 6 - وأخبر أنه لم يكن يرجى من أجيالهم اللاحقة أي صلاح {ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} (سورة نوح: 27). 7 - وأخبر أنه لم يغرق منهم إلا من تمادى في الشرك والغي والطغيان: {كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد (...) وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب (...) إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب} (سورة ص: 12 - 14). 8 - إن الأمور التي ذكرها القرآن عن نوح عليه السلام وسكت عنها الكتاب المقدس كثيرة جدا ومنها قصة ابنه العاصي التي أشير فيها إلى أن الرجل يجب عليه إيثار أمر الله على حب أولاده وأن علو النسب وعراقة المجد لا يغني عنه شيئا إن لم يكن صالحا: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} (سورة هود: 46). وكيف أن الأب الصالح يفارق العصاة من أولاده: {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم} (سورة هود: 47). 9 - وأخبر القرآن بأن نوحا كان معه رجال آمنوا به فأنجاهم الله من العذاب: {وما آمن معه إلا قليل} (سورة هود: 40). {يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك} (سورة هود: 48). 10 - وأخبر القرآن بأن ذرية نوح لا تنقطع أبدا:

إبراهيم عليه السلام

{وجعلنا ذريته هم الباقين} (سورة الصافات: 77) وهذه كلها أمور لم ينطق بها الكتاب المقدس. نعم هناك أمر ذكره الكتاب المقدس لم يرد ذكره في القرآن وهو: " شرب (نوح) من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه ". (التكوين 9/ 21 - 22). ولا ريب أن القرآن سكت عنه وما أحسن سكوته. إبراهيم عليه السلام: ذكرت قصة إبراهيم عليه السلام في سفر التكوين من الأصحاح الثاني عشر إلى الأصحاح الخامس والعشرين ومع ذلك فقد سكت الكتاب المقدس عن ما نطق به القرآن من فضائل إبراهيم عليه السلام. 1 - فقد ورد في القرآن بيان مفصل عن تفكر إبراهيم في ملكوت السماوات والأرض واستدلاله بذلك على أن النجوم والقمر والشمس لا تصلح لأن تكون إلها. ولنا في ذلك درس وعبرة فالسعداء هم الذين يصلون إلى مدارج المعرفة الإلهية بالتدبر في هذه الصحيفة الكونية. 2 - كما ورد في القرآن ذكر تحطيم إبراهيم الأصنام وأخبرت الآية الكريمة {فجعلهم جذاذا} أن إبراهيم ترعرع وشب كارها للشرك محبا للتوحيد. 3 - ورد في القرآن أيضا ذكر مناظرة إبراهيم قومه فيما يتعلق بالتوحي وعدم اكتراثه بمخالفتهم له في تمسكه بالعقيدة السليمة: {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان} (سورة الأنعام: 80). 4 - وورد في القرآن الكريم أيضا ذكر نصيحة إبراهيم لأبيه آذر: {إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} (سورة مريم: 42) وذكر القرآن الكريم تشدد الأب مع إبراهيم وهجره له: {يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا} (سورة مريم: 46). 5 - كما ذكر القرآن الكريم مناظرة إبراهيم عليه السلام الملك وكان الملك رأس المبطلين

لوط عليه السلام

وكان منكرا لوجود الله مستبدا برأيه فلما سمع أدلة إبراهيم الناصعة الدامغة احتار ودهش. {فبهت الذي كفر} (سورة البقرة: 258). 6 - ذكر القرآن الكريم مؤامرة قومه عليه وإلقائه في النار وإنقاذ الله له: {قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم} (سورة الأنبياء: 69). 7 - وذكر القرآن الكريم أيضا وجه الاستدلال الذي جعله إبراهيم نموذجا ومثالا لمن يتدبر في مسألة إحياء الموتى: {رب أرني كيف تحي الموتى} (سورة البقرة: 260). (الف) وإذا كان هناك ما ذكره الكتاب المقدس ولم يذكره القرآن فهو: " قال (إبرام) لسارة امرأته قولي إنك أختي " (التكوين 11/ 12). (ب) وقد ورد في الكتاب المقدس: أن إبراهيم كان طرد ابنه إسماعيل وزوجته هاجر من بيته بناء على طلب زوجته سارة. (التكوين 21/ 10 - 14). وهذا البيان يعني الطعن في عدل إبراهيم ورحمته. ولكن القرآن الكريم حين ذكر هذه القصة أخبر بأن إبراهيم لم يكن قد طرد ابنه وزوجته من بيته وإنما كان قد أنشأ مركزا لنشر رسالة التوحيد فبعث ذريته في البلاد النائية البعيدة لنشر تعاليم التوحيد {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} (سورة ابراهيم: 37). وهذه غاية نبيلة وغرض سام يرفع من شأن إبراهيم ويسمو به إلى القمة. وبعد هذا كله هل يستطيع أحد القول بأن موضوعات القرآن مستمدة من الكتاب المقدس؟ والخلاصة أن الكتاب المقدس ساكت عن جميع ما صرح به القرآن من الأمور حتى إنه لم يذكر ولو خدمة دينية واحدة قام بها إبراهيم عليه السلام. لوط عليه السلام: 1 - ورد ذكر لوط عليه السلام ومصير قومه في سفر التكوين (الأصحاح 19).

إسحاق عليه السلام

ويذكر الكتاب المقدس شيئا عن الجهود المكثفة التي بذلها لوط عليه السلام في سبيل الدعوة والإرشاد. أما القرآن الكريم فقد ذكر البراهين القاطعة التي استدل بها لوط في وعظه: {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} (سورة الأعراف: 80). 2 - ذكر الكتاب المقدس سبب تحول امرأة لوط إلى عمود من ملح، أنها كانت نظرت من ورائه (19/ 26) ولكن القرآن أخبر بأنها كانت تخون زوجها: {كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما} (سورة التحريم: 10). 3 - والموضوع الذي انفرد بذكره الكتاب المقدس هو قصة ابنتي لوط. انظروا الأصحاح رقم (19) أما القرآن الكريم فقد ترفع عن ذكر مثل هذه القصص. ونحن نستطيع إثبات بطلان هذه القصة القذرة بأدلة من الكتاب المقدس نفسه انظروا سفر التكوين (19/ 31 - 32) فالدليل الذي أقامته البكر على جواز الفاحشة هو قولها: " ليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض ". وهذا الدليل باطل تماما فقد ورد في الأصحاح التاسع عشر (20 - 23) ذكر وجود مدينة صوغر وبقائها فكيف تقول هذه الجواري ليس على الأرض رجل؟. وبذلك نستطيع التأكيد على أن هذه القصة لا أساس لها من الصحة. إسحاق عليه السلام: ورد ذكر إسحاق عليه السلام في الأصحاح (26) من سفر التكوين. والأمر الذي ورد هنا ولم يرد ذكره في القرآن الكريم هو: " أقام إسحاق في جرار وسأله أهل المكان عن امرأته فقال هي أختي " آية (6). ويستطيع القراء أن يفهموا هل ينقص عدم ذكر هذا البيان في القرآن من شأن إسحاق شيئا؟ يعقوب عليه السلام: يظهر من الأصحاح (25) من سفر التكوين أن يعقوب وعيسو كانا توأمين وكان عيسو أسبق ولادة من يعقوب. والآن فكروا وتدبروا فيما يلي: ـ[أولا]ـ: ورد في الدرس من التاسع والعشرين إلى الرابع والثلاثين: " طبخ يعقوب

طبيخا فأتى عيسو من الحقل وهو قد أعيا فقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت فقال يعقوب: بعني اليوم بكوريتك فقال عيس،: ها أنا ماض إلى الموت فلماذا لي بكورية. فقال يعقوب: أحلف لي اليوم فحلف له فباع بكوريته ليعقوب فأعطى يعقوب عيسو خبزا وطبيخ عدس فأكل وشرب وقام ومضى فاحتقر عيسو البكورية ". وليتدبر القراء قليلا هل في القصة المذكورة مدح وثناء على يعقوب الذي لم يعط شقيقه الخبز والعدس حتى أخذ منه ذلك الحق الذي أعطاه الله إياه؟ والحمد لله على أن هذه القصة لا توجد في القرآن. ـ[ثانيا]ـ اقرءوا الأصحاح (27) من سفر التكوين الذي جاء فيه: " دعا إسحاق عيسو ابنه الأكبر وقال له: يا ابني اخرج إلى البرية وتصيد لي صيدا حتى تباركك نفسي وأخذت رفقة (أم يعقوب) ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة التي كانت عندها في البيت وألبست يعقوب ابنها الأصغر وألبست يديه وملاسة عنقه جلود جديي المعزى وأعطت الأطعمة والخبز التي صنعت في يد يعقوب ابنها فدخل إلى أبيه وقال: يا أبي فقال: ها أنا ذا من أنت يا ابني؟ فقال يعقوب لأبيه: أنا عيسو بكرك قد فعلت كما كلمتني. قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركني نفسك ". فانخدع إسحاق به وبارك يعقوب بدل عيسو". والحمد لله أن هذه القصة أيضا لا توجد في القرآن الكريم. ـ[ثالثا]ـ: وفي الأصحاح (34) من سفر التكوين وردت قصة دينة ابنة يعقوب عليه السلام. وفي نفس الأصحاح أن بني يعقوب عاهدوا حمور الحوي رئيس الأرض يعطونهم بناتهم زوجات ويعطيهم بناته فحدث أن ابني يعقوب شمعون ولاوي أخوى دينة أخذ كل واحد سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف وأخذا دينة من بيت شكيم وخرجا ثم أتى بنو يعقوب على القتلى ونهبوا المدينة لأنهم بخسوا أختهم وغنمهم وبقرهم وحميرهم وكل ما في المدينة وما في الحقل أخذوه وسبوا ونهبوا كل ثروة وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما في البيوت ". والحمد لله أن القرآن لم يذكر لفظة تتعلق بهذا الأمر.

يوسف عليه السلام

ـ[رابعا]ـ: وفي الأصحاح (35/ 22) قصة راؤبين بكر يعقوب وقصة سرية أبيه. والحمد لله على أن هذه القصة أيضا لا توجد في القرآن. ـ[خامسا]ـ: وفي الأصحاح (38) من سفر التكوين قصة يهوذا ثالث بني يعقوب وقصة ثامار كنته. ولتبرئة يهوذا من التهمة يقول الكتاب المقدس: " لأنه لم يعلم أنها كنته " (آية 16). وبعد هذا العذر أيضا نجد يهوذا ملتبسا بجريمة نحو امرأة وهذه الجريمة أشد وأبشع بالنسبة إلى رجل يعد من أبناء النبي وأحفاده ويعتبر أبا بني إسرائيل - بعد قليل من الأنبياء - والحمد لله على أن القرآن لا يلصق مثل هذه التهم برجل من رجال هذه الأسرة الكريمة بل يمدحها فيقول: {وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل} (سورة الأعراف: 137). وبغض النظر عن هذه الأمور كلها فإن ما ذكره القرآن مما ليس في الكتاب المقدس يدل على عظمة يعقوب وعلى أنه كان جديرا بأن ينال لقب إسرائيل أي (عبد الله). 1 - أخبر القرآن الكريم بأن الله كان قد بشر إبراهيم مقدما بابن وحفيد صالحين: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} (سورة هود: 71). 2 - وأخبر كذلك بأن الله وهب ليعقوب وأبيه من رحمته وجعل لهما ثناء جميلا وذكرا حسنا في الدنيا: {وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا (...) ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا} (سورة مريم: 49، 50). هل يمكن لأحد بعد دراسة هذه النصوص القرآنية القول بأنها مستمدة من الكتاب المقدس؟ يوسف عليه السلام: ورد ذكر أحوال يوسف في سفر التكوين الأصحاح (37)، ثم من الأصحاح (39) إلى الأصحاح (50). وهذه الأصحاحات الاثنتا عشرة وإن كانت مليئة بمحاسن يوسف حافلة بمكارمه إلا أنها ألصقت به (تهمة) في جملة تقول: وأتى يوسف بنميمتهم الرديئة إلى أبيهم. (التكوين 37/ 2).

هذه الجملة تدل على أن يوسف نعوذ بالله من ذلك كان مشاءا بنميم وأن إخوته كانوا شريرين. 1 - ذكر القرآن أيضا قصة يوسف ولكنه كان أبلغ بيانا وأروع أسلوبا، مما كان عليه بيان الكتاب المقدس في كثير من الأمور. 2 - وفي القرآن أن يعقوب كان عبر رؤيا يوسف حين سمعها: {يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك} (سورة يوسف: 6). 3 - ورد في الكتاب المقدس ذكر الرؤيا ولكن لم يرد فيه ذكر هذا التعبير وإن كانت توجد فيه بعض المضامين التي يثبت منها أن التفسير الذي ذكره يعقوب تحقق كما ذكره تماما. 4 - وفي القرآن الكريم لما أجمع إخوة يوسف أمرهم وأرادوا إلقاءه في غيابة الجب أخبره الله مطمئنا إياه فقال {وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} (سورة يوسف: 15). لكن لا نجد ذكر هذا في الكتاب المقدس. 5 - وفي القرآن أن قميص يوسف كان قد قد من دبر بيد امرأة العزيز وحكم رجل من أهلها بأنه إن كان قميصه قد من قبل فصدقت ويوسف مجرم وإلا فالمرأة هي المجرمة، ومن هذه الحجة الدامغة وضحت براءة يوسف للعزيز، فطلب من يوسف الإعراض والعفو وقرر خطأ امرأته وقال لها استغفري لذنبك: {يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} (سورة يوسف: 29). والذي يثبت من الكتاب المقدس أن براءة يوسف لم تكن تحققت لعزيز مصر. 6 - ويظهر من القرآن أن كثيرا من نسوة مصر كن قد حاولن إرضاء يوسف بأمر امرأة العزيز وراودنه عن نفسه ففشلن في محاولتهن. وقد سكت الكتاب المقدس عن ذلك أيضا. 7 - وأخبر القرآن بأنه لما سأل أصحاب السجن يوسف عن تأويل رؤياهم بدأ يوسف بدعوتهم إلى التوحيد وأداء فريضة الدعوة:

موسى عليه السلام

{يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار (...) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (سورة يوسف: 39، 40). وذلك يدل على ما كان عليه يوسف من العزيمة، فلم يقصر في القيام بمهمة الدعوة إلى الله حتى في السجن، ولم يضيع فرصة تهيأت له لهداية الخلق. وهو نموذج رائع للراغبين في الاشتغال بالدعوة والإرشاد، إلا أن الكتاب المقدس لم يذكر هذا الأمر. 8 - وفي الكتاب المقدس طلب الملك يوسف ليفسر له رؤياه فانطلق يوسف إليه على الفور وفي القرآن الكريم أنه أبى أن يخرج من السجن وطلب من الملك أن يحقق أولا فيما وجه له من اتهام. {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} (سورة يوسف: 50). وهذه أحسن شهادة تدل على عصمة يوسف وتقواه وصموده واعتزازه بنفسه. 9 - وفي القرآن الكريم أن نسوة مصر شهدن ببراءة يوسف: {قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء} (سورة يوسف: 51). وأن امرأة العزيز هي الأخرى شهدت على صدق يوسف وطهارته: {قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (...) ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين (...) وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي}. (سورة يوسف: 51 - 53). وقد سكت الكتاب المقدس عن بيان هذه الأوصاف والمحاسن وغيرها مما تضمنته هذه السورة المباركة التي يستنتج منها عشرات القضايا والنكات. وينبغي الرجوع في ذلك إلى كتابي "الجمال والكمال" (تفسير سورة يوسف). وبدراسة البداية من هذا الكتاب سيعلم القارئ أن هذه السورة المباركة (سورة يوسف) بأكملها تضمنت أيضا ما تنبأ به القرآن الكريم عن أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - المباركة. بعد هذه الإفادات هل يصح القول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع موضوعات الكتاب المقدس ثم صاغها من عنده؟ موسى عليه السلام: لا يفيض الكتاب المقدس في ذكر أحد من الأنبياء مثل إفاضته في

ذكر موسى عليه السلام فسفر الخروج وسفر الأخبار وسفر العدد وسفر التثنية كل هذه الأسفار تضمنت ذكر أحواله. كما أن القرآن الكريم أيضا لم يذكر قصص أحد بقدر ما ذكر قصص موسى عليه السلام. ومع ذلك فإن مجموع ما ذكره لا يبلغ حجمه سفرا من أسفار الكتاب المقدس سابقة الذكر. ونقتبس هنا أكثر المواضع مرتبة طبقا لموضوعاتها: 1 - ففي سفر الخروج (4/ 14): " حمى غضب الرب على موسى ". وذلك حين أبى موسى أن يقبل الرسالة من الله. وقد أخبر القرآن في هذه المناسبة بأن الله خاطب موسى برفق ولين {يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون} (سورة النمل:10). 2 - وفي سفر الخروج (60/ 27): " وأخذ عمرام يكابد عمته زوجة له فولدت له هارون وموسى ". ولا ندري ماذا يعني الكتاب المقدس من هذا البيان فإن القرآن يشيد بذكر أم موسى عليه السلام: ألف - {وأوحينا إلى أم موسى} (سورة القصص: 7). وليعلم أن النساء اللاتي أوحى الله إليهن قليلات جدا في العالم ويظهر من القرآن أن هؤلاء هن أم موسى وعيسى وتحتل أم إسماعيل هذه المنزلة في الكتاب المقدس وقد جاء إليها الملك مرتين في حياة إسماعيل وبلغها رسالة الله وبشرها بما سيحدث في المستقبل. انظروا سفر التكوين (الأصحاح 16/ 7 - 11)، والأصحاح (21/ 17). ب - وقال تعالى في موضع آخر مشيدا بأم موسى {لولا أن ربطنا على قلبها} (سورة القصص:10). وهذا يدل على وجود الرابطة بين قلب أم موسى الطاهر وبين الرب جل وعلا. 3 - وفي سفر الخروج (7/ 1): " فقال الرب لموسى انظر أنا جعلتك إلها لفرعون ". وليتأمل القراء في كلمة " إله " أهكذا يتم تعليم التوحيد؟ إذا كان أحد يستطيع أن يكون مشابها لله فكيف تبقى إذن وحدانيته في الذات والصفات؟ قال تعالى في كتابه المجيد: {ليس كمثله شيء} (سورة الشورى: 11).

وقال: {فلا تضربوا لله الأمثال} (سورة النحل: 74). 4 - (ألف) في سفر الخروج (7/ 11 - 12): " كذلك طرح كل واحد من عرافي مصر عصاه فصارت العصى ثعابين ". (ب) وفي سفر الخروج (7/ 8): " وفعل كذلك العرافون وأصعدوا الضفادع على أرض مصر ". (ج) وفي سفر الخروج أيضا (8/ 16 - 17): " ضرب موسى عصاه على تراب الأرض. فكل تراب الأرض صار بعوضا في جميع أرض مصر ". وفي آية (18): " وفعل كذلك العرافون بسحرهم ليخرجوا البعوض فلم يستطيعوا". وفي آية (19): " فقال العرافون لفرعون هذا أصبع الله ". هذا ما ذكره الكتاب المقدس عن السحرة ولم يذكر مصيرهم. أما القرآن فيقول عنهم: {فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى (...) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى (...) قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا (...) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى} (سورة طه: 70 - 73). كما أن هذا النص القرآني يدل على أن معجزات موسى لم تكن من نوع السحر، وكذلك يعلم منها كيف شرحت الهداية الإلهية صدور السحرة للإسلام، ويعلم منها أيضا أنه لا ينبغي للرجل التردد في إظهار الإسلام خوفا من مصيبة أو خضوعا لضغوط وأنه إذا أكره على ترك الإسلام وعذب وأهين فعليه أن يخاطر بنفسه، ولا يترك الإسلام، لا يؤثر الدنيا الفانية على الآخرة دار البقاء. هذه كلها دروس رائعة لا يتناولها الكتاب المقدس بالذكر في أي موضع. 5 - واقرأوا الأصحاح (24) من سفر الخروج من الآية (9 إلى الآية 11): " ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل ورأوا إله

إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعته من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء في النقاوة ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل فرأوا الله وأكلوا وشربوا". وعلى القارئ هنا أن ينتبه إنهم رأوا قدم الإله وكذلك رأوا لونه الذي يشبه العقيق الأزرق وبذلك ظنوا أن جسمه كله يشبه في اللون العقيق الأزرق، ولعل الهنادكة درسوا هذا البيان وقالوا: إن إلههم كرشنا جي لونه أزرق. ونتساءل هل هناك شك في أن الإله الذي شوهد صفاء جسمه ولونه هو إله مجسم؟ هذه هي المرحلة التي تؤدي بالعباد إلى الشرك الجلي. إن القرآن الكريم يقدس الله سبحانه وتعالى ويجعله أجل من أن يكون مجسما فيقول: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} (سورة الأنعام: 103). وليتدبر القارئ هل يمكن بعد كل هذا أن تكون تعاليم القرآن مستمدة من تعاليم الكتاب المقدس؟ 6 - اقرأوا الأصحاح (34) من سفر الخروج من الدرس (4) إلى الدرس (6): " وصنع (هارون من أقراط الذهب) عجلا مسبوكا. فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر فلما نظر هارون بنى مذبحا أمامه ". هل من تهمة أشد وأنكى من أن نقول في نبي اختاره الله لنفسه وجعله إماما للبرية وموسى أخوه، بأنه صنع عجلا بيده وقرب له القرابين وجعله إلها لبني إسرائيل؟ إن المرتكب لمثل هذه الأعمال لا يستحق في نظر المسلمين أن يسمى مسلما عاديا فضلا عن أن يكون نبيا وإماما لبني إسرائيل. والحمد لله على أن الله قد أوضح في كتابه الطاهر أن هذا الخطأ فعل السامري: {فكذلك ألقى السامري (...) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى} (سورة طه: 87 - 88). وكذلك أخبر القرآن بأن موسى سأل هارون عن تقاعسه في منع الضالين عن ضلالهم وزيغهم: {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا} (سورة طه: 92). ثم ذكر أيضا ما أجاب به هارون موسى فقال:

داود عليه السلام

{إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} (سورة طه: 94). والحمد لله على أن القرآن الكريم طهر شأن هذا الرجل الكريم وإلا فأهل الكتاب كانوا يصفون إمامهم بأنه صانع للأصنام ودع إلى الوثنية!!!. وهل يقول عاقل بعد هذا كله أن القرآن يكرر موضوعات الكتاب المقدس في قصصه؟ داود عليه السلام: اقرأوا سفر صموئيل الثاني واقرأوا فيه الأصحاح الحادي عشر الذي ورد فيه ذكر شبع امرأة أوريا الحتى وذكر داود عليه السلام وفي آخره: " وضمها (داود) إلى بيته وصارت له امرأة. فقبح (هذا الفعل) في عيني الرب ". والحمد لله على أنه لا توجد في القرآن مثل هذه القصة عن داود بل على العكس يثني القرآن عليه: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق} (سورة ص: 26) ويقول بعض الناس إن قول الله: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب}. (سورة ص: 21). يتضمن قصة أورياه هذه. ولا يصدر مثل هذا القول إلا ممن استولت على مشاعره القصة الواردة في الكتاب المقدس. ذلك لأن القرآن الكريم لا توجد فيه حتى إشارة إلى هذه القصة. ومن الطريف أن القصة التي ذكرها القرآن عن قدوم هؤلاء الخصم وتسورهم المحراب لا يوجد لها ذكر في الكتاب المقدس وذلك يدل على أنهما قصتان تختلف إحداهما عن الأخرى تماما. فالقصة التي ذكرها القرآن يثبت منها أن يكون ولاة الأمر ورجال الحكم أكثر اهتماما بإقامة العدل وتعميم القسط منه بأداء النوافل، وأن يختاروا لمسكنهم موضعا يتسنى للمستغيث الوصول إليه ولا يواجه الفقراء من الرعايا العراقيل والعقبات في الاستغاثة بهم (¬1). ¬

(¬1) بعد كتابة المقال المذكور بأشهر اتفق لي أن قرأت كتاب الفصل لابن حزم وقد أبطل هذا الإمام ظن الذين يصفون هؤلاء الخصم ملائكة ويقولون إن المراد بالنعاج النساء وبقوله (إنما فتناه) صدور إثم عن داود. انظروا الجزء الرابع [ص:18].

سليمان عليه السلام

واقرأوا سفر صموئيل الثاني (الأصحاح 13/ 14 - 29) الذي تضمن قصة أمنون بن داود وأخته ثامار وكذلك قصة أبشالوم بن داود الذي كان شقيقا لثامات لأم ومفادها أنه دعا أمنون إلى المأدبة وأمر خدمه فقتلوه. 3 - وكذلك في سفر صموئيل (16/ 20 - 22) قصة أبشالوم بن داود مع رابته. والحمد لله على أنه لا توجد في القرآن مثل هذه القصص التي كرهنا أن نذكرها هنا مفصلة. سليمان عليه السلام: ورد في الأصحاح (3/ 5) من كتاب الملوك الأول: " تراءى الرب لسليمان في حلم ليلا وقال الله اسأل ماذا أعطيك ". وفي الدرس (9): " قال سليمان فأعط عبدك قلبا فهيما لأحكم على شعبك وأميز بين الخير والشر". وفي الدرس (12): " قال الرب هوذا أعطيتك قلبا حكيما ومميزا حتى إنه لم يكن مثلك قبلك ولا يقوم بعدك نظيرك ". وكذلك ورد في الأصحاح (6/ 11) من كتاب الملوك الأول ذكر نزول كلام الله على سليمان. ورغم كل هذه المحامد والمحاسن ورد أيضا في الأصحاح (11/ 4) من كتاب الملوك الأول: " وكان في زمان شيوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه فذهب سليمان وراء عشتورث إلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لألهتهن ". ليتدبر القراء وليحكموا هل يمكن أن يكون الرجل الذي شرفه الله بالمثول بين يديه وكلمه وأعطاه قلبا حكيما ما أعطى مثله قبله ولا بعده أحدا، والذي بنى بيت المقدس لعبادة الله هل يمكن أن يكون قد مال إلى عبادة الأصنام لأن أزواجه قالوا بذلك؟ كلا! وألف كلا! ونفسي فداء لتعاليم القرآن التي تقول: {وما كفر سليمان} وتقول أيضا {وورث سليمان داوود}. ويجب أن نعلم أن الله ذكر سليمان وحده وارثا لداود عليه السلام مع أن داود كان

أيوب عليه السلام

له سبعة عشر ابنا ذكورا (¬1). ومن هذا يتضح أن المراد بالوراثة هنا وراثة الكلام الإلهي لا وراثة الأموال والمتاع. وقد دعاني إلى ذكر هذه الآية هنا ما قد رأيته في كتاب الملوك الأول (11/ 4) في شأن سليمان: " أن قلبه لم يكن كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه ". فكلما قرأ القارئ بعد هذه الفقرة قول الله عز وجل {وورث سليمان داوود} ظهر له أن سليمان كان في طاعته لله ورضوانه والنبوة على ما كان عليه داود أبوه تماما وأنه هو الوارث لميراث النبوة عن داود. أيوب عليه السلام: استقل الكتاب المقدس بكتاب عن أيوب يشتمل على اثنتين وأربعين صفحة ببنط صغير أما في القرآن فقد ورد اسمه مرتين (في سورة النساء وسورة الأنعام) ضمن الأنبياء أوردت قصته في موضعين، وفي كلا الموضعين، انتهت هاتان القصتان في سطرين: ففي سورة الأنبياء: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (...) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين} (سورة الأنبياء: 83 - 84). وقد وصل الكتاب المقدس أيضا إلى نفس النتيجة بعد بحث شغل 42 صفحة كما يظهر من كتاب أيوب (41/ 10 - 15) ومن غريب ما ذكره الكتاب المقدس ولا يوجد إليه أي إشارة في القرآن هو البيان الوارد في كتاب أيوب (1/ 6): " وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب وجاء الشيطان أيضا في وسطهم فقال الرب للشيطان من أين جئت؟ ". وقد وردت نفس الألفاظ في الأصحاح (2/ 1 - 2). فتدبروا ما أصعب وجود الشيطان مع الأنبياء في حضور الرب جل وعلا إن لم يكن ¬

(¬1) أسماء أبناء داود الستة الذين ولدوا بحبرون مذكورة في كتاب صموئيل الثاني الأصحاح (3/ 2 - 5) وأسماء أبنائه الأحد عشر الذين ولدوا في يروشلم مذكورة في صموئيل الثاني. الأصحاح (3/ 12 - 16).

زكريا عليه السلام

ذلك مستحيلا، أليس فيه تذليل للأنبياء وإهانة للحضرة الإلهية؟ ولا أدري إلى أي منقبة من مناقب أيوب يشير هذا البيان. والحمد لله على أن القرآن لا توجد فيه هذه الفقرة. زكريا عليه السلام: 1 - أورد لوقا في إنجيله ذكر زكريا عليه السلام في الأصحاح (1/ 5 - 25) وورد ذكره في القرآن في الحزب الأول من سورة مريم. ولم يذكر لوقا نص دعاء زكريا الموجود في القرآن مع أن هذا الدعاء هو الذي يوضح سبب رغبته في "الولد" ... . ألتلك الأغراض التي لأجلها يبغي الناس الأولاد عامة أم لغرض ديني غير هذه الأغراض؟ ففي القرآن أن زكريا قال: {فهب لي من لدنك وليا (5) يرثني ويرث من آل يعقوب} (سورة مريم: 5 - 6). هذه الألفاظ تدل على أنه كان يتمنى ولدا نبيا يقوم معه وبعده، بنشر الدين الإلهي ويعمل على إسعاد الأمة والنهوض بها. وهذا هو السبب الذي جعل دعوة زكريا عليه السلام تستحق الإجابة من عند الله. ولا يغتر أحد بكلمة الإرث بأن زكريا يسأل وارثا يرث عنه الأملاك الثابتة وغير الثابتة، لأنه إذا كان هو المراد، فكيف يمكن لابن زكريا الوحيد أن يرث آل يعقوب الذين لا حصر لهم؟ إن كلمة آل يعقوب تتطلب مزيدا من التفكير حيث إن الله لم يقل بني إسرائيل وإنما قال آل يعقوب. فهذان الدليلان يدلان على أن زكريا لم يبغ من الله إلا ولدا نبيا ولذلك بشر به فور دعائه. وقد ذكر لوقا في الأصحاح (1/ 25) هذا الأمر بالكلمات التالية: " هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي فيها نظر إلي ينزع عاري بين الناس ". هذه الألفاظ إنما تدل على أن زكريا ما تمنى الولد إلا للأغراض والآمال التي يعقدها أهل الدنيا وبصفة عامة على أولادهم. 2 - جاء في إنجيل لوقا (1/ 20) أن جبريل كان قال لزكريا: " وها أنت تكون صامتا ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته". ويظهر من هذا أمران:

يحيى عليه السلام

(1) جعل الله زكريا أبكم جزاء لعدم تصديقه كلام جبريل. (2) كانت مدة بكمه إلى ولادة الولد الموعود به. وفي القرآن الكريم أن زكريا كان سأل ربه عن آية حين بشر بهذا الأمر فجعل الله آيته ألا يكلم الناس ثلاث ليال إلا رمزا. وهنا يستطيع القارئ أن يفهم هل يستمد القرآن هذه المضامن من كتاب قبله أم أنه يصلح خلل ما قبله وينفي عن زكريا ما ينسب إليه من عيب. يحيى عليه السلام: وصف يحيى في الإنجيل يوحنا أى " المعمد" ورد ذكره في إنجيل لوقا في الأصحاح (1/ 57 - 81)، ثم في الأصحاح (3/ 1 - 20)، ثم في الأصحاح (7/ 19 - 29). وورد ذكره في القرآن في سورتي مريم وآل عمران بإيجاز. ففي سورة مريم: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا (...) وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا (...) وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا} (سورة مريم: 12 - 14). وجاء وصفه في سورة آل عمران بهذه الألفاظ: {مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين} (سورة ال عمران: 39). هذه الصفات الاثنتا عشرة لا نجدها في إنجيل لوقا كله. ويفهم من هذا أن ما ذكره القرآن عن زكريا كثير رغم إيجازه ومن الخطأ أنه مستمد من الكتاب المقدس. عيسى المسيح عليه السلام: أخبر القرآن الكريم أن عيسى عليه السلام كان بشرا ويعتقد النصارى أنه إله. وكذلك أخبر القرآن أنه كان رسولا وهم يقولون: إنه ابن الله. وعلى ذلك لا يملك النصارى أن يقولوا إن ما ورد في القرآن الكريم عن أحوال المسيح مستمد من الأناجيل وهكذا لسنا بحاجة إلى أن نفصل القول في المسيح عليه السلام. إلا أن إحسان القرآن على النصارى سوف يبقى على الدوام، لأنه كذب اليهود ورفع من شأن عيسى بوصفه مريم بالصديقة، وهكذا صدقت على الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفقرة الواردة في الأصحاح (16) من إنجيل يوحنا وهى: " ذاك الذي يمجدني ".

الباب العاشر

الباب العاشر أفضلية سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - {وكان فضل الله عليك عظيما} •---------------------------------• الحمد لله الذي بعث في كل أمة شهيدا وجاء بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء شهيدا وصلى الله تعالى عليه وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين صلاة كثيرا كثيرا. أما بعد: فمسألة أفضلية شأن سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - إيمان كل مسلم بل هي روح الإيمان وهي مسألة لا تسهل معالجتها لمن يريد ذلك. فنرى في بعض الأحيان أن المسألة تعالج بأسلوب إما أنه يقدح في ذات الله سبحانه وتعالى وإما أنه يغض من شأن الأنبياء الآخرين عليهم السلام، فيؤدي ذلك إلى ما نهى عنه في الحديث من "التخيير بين الأنبياء" وهذا مما نهى عنه المسلمون. ويجب أن نتذكر أن علماء السلف لا يعتبرون حديث "لا تخيروا بين الأنبياء" (¬1) مانعا من بيان أفضلية النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أوضح الإمام أبو نعيم الأصفهاني (¬2) والقاضي عياض (¬3) المالكي وهما من المتقدمين في بيان هذه المسئلة بجلاء تام. يقول القرآن الكريم: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} (سورة البقرة: 253). قد ثبت من هذه الآية وجود التفاضل بين الرسل، فإذا ثبت فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - على جميع الرسل من القرآن فإن مسألة "التخيير بين الأنبياء" حينئذ لا تكون صادرة من قبل ¬

(¬1) أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) أبو نعيم مؤلف كتاب حلية الأولياء من أعلام المحدثين ولد سنة 336هـ وتوفي سنة 430هـ. اسمه أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق. (¬3) كان القاضي عياض قاضيا بغرناطة وكان إماما في الفقه والتفسير والحديث وسائر العلوم الإسلامية. وهو مؤلف كتاب "شارق الأنوار" وكتاب "الشفا". ولد سنة 476هـ وتوفي سنة 544هـ.

آدم عليه السلام

عبد من عباد الله وإنما هي بيان وتفسير لإرادة الله عز وجل، وهذا ما اتفق على جوازه العلماء بل جعلوه واجبا. ولهذا السبب عقدت العزم على التمسك فقط بالآيات القرآنية وأسأل الله تعالى أن ينجيني مما قد نهى عنه من التخيير كما ألتمس من العلماء الكرام أن يكملوا ما بدأه هذا العبد الفقير ليصلوا به إلى مدارج الكمال. وهذا البحث في صورته الحالية في رأي كاتب هذه السطور لا يزال ناقصا ويحتاج إلى شرح بعض الموضوعات الدقيقة التي أردت إلحاقها بالنهاية من هذا الكتاب. ولم نذكر هنا من الأنبياء إلا من وردت أسماؤهم في القرآن الكريم، ويمكن لبعض القراء أن يتساءلوا بعد قراءة جزء من البحث، كيف يثبت من هذا فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم إذا رأوا أن كثيرا من الفضائل التي اختص بها بعض الأنبياء والرسل تتجلى في النبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم - أيضا، علموا قول الشاعر: "أنت وحدك تمتلك جميع الفضائل التي يمتلكها جميع أهل الفضل". آدم عليه السلام: فضائل آدم كثيرة وهي مما اتصفت به شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 1 - قال تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها}. ذكر الله آدم في هذه الآية كتلميذ رباني، ولاشك أن تتصف النفس القدسية، التي تولى تعليمها الله بكمال العلم وقمة الفضل. وقال تعالى في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} (سورة البقرة: 151) ذكر الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية كأستاذ للعالم أجمع. وكلمة الكتاب في هذه الآية تشتمل على جميع الشرائع الإلهية كما أن كلمة الحكمة تتضمن سائر العلوم الفاضلة والمعارف النافعة. وقوله {ما لم تكونوا تعلمون} يدخل فيه جميع ما في عالم الملكوت من أسرار مكنونة وغوامض مكتومة مما لم يكن يعرفها العالم المادي إلى زمن البعثة النبوية - صلى الله عليه وسلم -. 2 - قال تعالى في آدم: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي} (سورة طه: 115)

وتظهر هذه الآية ما في آدم عليه السلام من صفة البشرية وأن النسيان من لوازم البشر فلا ينبغي لأحد أن يقدح فيه ويعيبه على ما صدر عنه من فعل أو ما ترك ناسيا. وقال تعالى في شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - {سنقرئك فلا تنسى} (¬1). إن كلمة {سنقرئك} في هذه الآية توضح ما في كلمة {وعلم آدم} من معنى كما تبين لنا أن الله تعالى هو مقرئ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد نفى النسيان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية وأخبر أن الرسالة المحمدية أعظم شأنا وأجل من الغوائل البشرية. 3 - وقال تعالى في آدم: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} (سورة البقرة: 37). يظهر من هذه الآية أن الله أكرم آدم عليه السلام بالوحي وطهره من الفعل السيء العاقبة. وذكر الله ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من يمن وبركة فقال: {ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور (...) وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} (سورة الشورى: 24، 25). وهكذا ورد في هذه الآية ذكر ما أعطاه الله النبي - صلى الله عليه وسلم - من كلمات وذكر ما فيها من تأثير وفيوض، تنتفع بها الأمة الإسلامية. 4 - وقال تعالى عن آدم: {ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (...) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} (سورة البقرة: 35، 36). هذه الآية ذكرت فيها الشجرة كشيء ابتلى به آدم وزوجه وكذلك ذكر فيها ظلمهما ¬

(¬1) ليعلم أن سهو النبي - صلى الله عليه وسلم - مذكور في ثلاثة أحاديث صحيحة. ففي حديث ذي اليدين أنه سلم على ركعتين وفي حديث ابن بحينة أنه قام من الركعتين وفي حديث ابن مسعود أنه صلى الظهر خمس ركعات. وهذه الأحاديث لا تعارض عندنا القرآن. فإن النسيان أمر والسهو أمر آخر، في النسيان يتعرض الذهن للذهول والغفلة والآفة وفي السهو لا يتعرض الذهن لهذه الأشياء وإنما هو شغل والآيتان المذكورتان قد ورد فيهما لفظ النسيان لا السهو. كما وأن النسيان يتعلق بالعلم والسهو بالفعل.

إدريس عليه السلام

لنفسيهما حين خالفا أمر الله، وخروجهما من الجنة وهبوطهما فكان بعضهم لبعض عدوا. وقد ذكر القرآن الكريم في أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - شجرة أيضا فقال: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (...) ومغانم كثيرة يأخذونها} (سورة الفتح: 18، 19). وهذه الشجرة هي أيضا موضع بلاء نتيجة هذا البلاء رضي الله عن المؤمنين: إخلاص القلب ونزول السكينة على المسلمين وفتوحاتهم في حاضرهم ومستقبلهم. 5 - أخبر الله عن آدم فقال: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا} (سورة البقرة: 34). ويظهر من هذه الآية علو شأن آدم وسمو مكانته. وأخبر الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} (سورة الأحزاب: 56). كلمة {يصلون} تدل على الاستمرار والدوام ويفهم منها أن الملائكة لا يزالون يصلون على النبي، وبما أن الله سبحانه وتعالى نسب الصلاة إلى ذاته المقدسة فإن ذلك سما بشأن النبي ورفع مكانته. إدريس عليه السلام: عاش إدريس عليه السلام في فترة ما بين زمان آدم ونوح. قال تعالى في شأنه: {إنه كان صديقا نبيا} وقال في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -: {والذي جاء بالصدق} وكذلك ورفى في إدريس: {ورفعناه مكانا عليا} وورد في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (ورفعنا لك ذكرك} وقد جاء تفسير ذلك في الحديث القدسي فكلما ذكر اسم الله ذكر معه اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - فليس هناك موضع من الأذان والتكبير والتشهد والخطبة والصلاة لم يذكر فيه اسمه - صلى الله عليه وسلم -. أما الدعاء فقد ورد فيه اسمه في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه كلها من مناسك

إلياس عليه السلام

الإسلام. وقد ذكر الأنبياء السابقون كثيرا عن مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومهجره وصفته ومكارم أخلاقه ومحاسنه مثل إبراهيم ويعقوب وموسى وداود وسليمان ويسعياه ويرمياه ودانيال وحزقى ايل وجلقوق وملاكي ويحيى وعيسى فهؤلاء كلهم نعتوا أوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في أساليب رائعة. وهذا مما يدل دلالة واضحة على سمو ذكره - صلى الله عليه وسلم -. وسنذكر التنبؤات المذكورة أعلاه في النهاية من هذا الكتاب مفصلا إن شاء الله. إلياس عليه السلام: ثبت برواية الإمام البخاري أن النبي إدريس هو إلياس ولذلك يرد ذكره مع إدريس. وقد ثبت من كتاب الله أن إلياس عليه السلام وعظ قومه وكره إليهم عبادة البعل ودعاهم إلى التوحيد. {إذ قال لقومه ألا تتقون (...) أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين} (سورة الصافات: 124، 125). إن تكذيب الصنم الإله بذكر اسمه يحتاج إلى جرأة وجسارة زائدة لأن ذلك يسبب مواجهته عداء شديد ومجابهة خصومة، وقد شنع النبي - صلى الله عليه وسلم - على آلهة العرب المشهورة بأسمائها وأقام بذلك الحجة على المشركين ودعاهم إلى التوحيد قال تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى (...) ومناة الثالثة الأخرى (...) ألكم الذكر وله الأنثى (...) تلك إذا قسمة ضيزى (...) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} (سورة النجم: 19 - 23). وقد تجشم النبي أنواعا من البلاء والمحن لأنه رفع صوته ضد كثير من الأصنام الآلهة. نوح عليه السلام: هو أول رسول مرسل من عند الله، ركز جهوده على الدعوة إلى التوحيد وتحمل في سبيل ذلك الشدائد راضيا منشرح الصدو. ورد ذكره في عدة مواضع في القرآن فمنها موضعان ذكر فيهما النبي نوح ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في آية واحدة، وفي كل من الموضعين قدم ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على نوح عليه السلام. ألف - {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} (سورة النساء: 163). ب - {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم}. (سورة الأحزاب: 7).

فالآية الأولى تخبر بأن الوحي إلى جميع الأنبياء واحد في حقيقته، والآية الثانية تخبر بأسماء أولي العزم من الرسل. وتأملوا أيضا فقد روعي في الأسماء التي ذكرت من نوح إلى عيسى الترتيب الزمني، أما اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقدم ذكره على سائر الأسماء، والترتيب يقتضي أن يذكر بعد عيسى بن مريم. 2 - قال تعالى في شأن نوح عليه السلام: {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه} (سورة نوح: 1). هذا وسورة التوبة والشعراء وص وهود كلها تبين أن نوحا لم يرسل إلا إلى قومه أما نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال الله في حقه: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو} (سورة الأعراف: 158). ويظهر من هذه الآية أن الله جعل رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - شاملة للعالم كله. 3 - حكى الله عن نوح عليه السلام قوله: {وما أنا بطارد المؤمنين} (سورة الشعراء: 114). ويفهم من هذه الآية ما كان عليه نوح من حسن خلق وتعطفه على المؤمنين وبذلك أمر الله النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا فقال: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} (سورة الأنعام: 52). 4 - قال الله لنوح عليه السلام: {يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك} (سورة هود: 48). تبين هذه الآية أن الله أنزل بركات على من كانوا مع نوح عليه السلام من الأمم لمصاحبتهم إياه. وقال الله مخاطبا أمة النبي - صلى الله عليه وسلم -: الف - {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} (سورة الأحزاب: 43). ب - {يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} (سورة المائدة: 6). ج - {ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام} (سورة الأنفال: 11).

هود عليه السلام

وفي كل من الآيات الثلاث وعد الله أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة عليهم وتطهيرهم وإتمام النعمة عليهم وإذهاب رجز الشيطان عنهم والربط على قلوبهم وتثبيت أقدامهم ودخل معهم في جميع ما وعدهم الله به {الذين اتبعوهم بإحسان}. وهذه البركات كلها نالتها أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لاتباعها وحبها لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. هود عليه السلام: (¬1) اعترض قوم هود عليه السلام على نبوته لأنه بشر وورد اعتراضهم في القرآن الكريم هكذا {ما نراك إلا بشرا مثلنا} (سورة هود: 27). وكان هذا هو اعتراض الكفار على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قالوا {أبعث الله بشرا رسولا} (سورة الإسراء: 94). وكان الأغنياء من قوم هود يقولون لهود: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي} (سورة هود: 27). ومثل ذلك كان يقول المتكبرون في مكة لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: {أنؤمن كما آمن السفهاء} (سورة البقرة: 13). والذين وصفهم هؤلاء الكفار المغرورون بالسفهاء رأي العالم أنهم هم الذين ملأوا الدنيا أمنا وسلاما ولقنوا درس المساواة وأمدوا جزيرة العرب ومصر وإيران والشام والعراق وفلسطين بالعلوم والحضارة. إذا كان هذا شأن اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف بالنبي ومنصبه الرفيع العلي؟ قال هود للكفار من قومه: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك} (سورة هود: 31). وقد وردت نفس الألفاظ في الآية رقم (50) من سورة الأنعام وجاء في أولها كلمة " قل " التي تدل على أن الله أمر نبيه بإبلاغ هذه الألفاظ للناس وذلك ليعلموا أن نبي الله لا يحب لنفسه السمعة الكاذبة بل يكفيه ما قدره الله له من ثناء صادق. صالح عليه السلام (¬2): أخبر الله تعالى بأن دعوة صالح عليه السلام إنما كانت تدور ¬

(¬1) عاش هود عليه السلام قبل إبراهيم عليه السلام. (¬2) عاش صالح عليه السلام قبل إبراهيم عليه السلام.

خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام

حول إثبات التوحيد وإبطال الشرك: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب} (سورة هود: 61) وكانت دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما أمره ربه: {قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (...) قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين (...) وأمرت لأن أكون أول المسلمين (...) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (...) قل الله أعبد مخلصا له ديني (...) فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين} (سورة الزمر: 10 - 15). فتدبروا في هذه الآيات التي شملت جوانب دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف كان يعلم التوحيد على أحسن وجه وأروع أسلوب. خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرب ما يكون إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام هو الذي دعا الله ليبعث في مكة رسولا. قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} (سورة النحل: 123). ولهذا علينا التفكير في الأمور التالية: 1 - ألقي إبراهيم في النار فذكر سبحانه وتعالى هذا بقوله: {يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم} (سورة الأنبياء: 69). وقال سبحانه وتعالى في شأن نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله} (سورة المائدة: 64). 2 - بنى إبراهيم الكعبة المشرفة: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} (سورة البقرة: 127). واختارها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلة له فأنزل الله حكمه بذلك حين رأى قلبه يميل إلى ذلك. {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها} (سورة البقرة: 144). 3 - حطم إبراهيم الأصنام:

{فجعلهم جذاذا} (سورة الأنبياء: 58). وكذلك طهر النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة من أرجاس ثلاثمائة وستين صنما وأبطل عبادتها إبطالا أبديا: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} (سورة الإسراء: 81). 4 - تزوج إبراهيم في أول عمره زوجة واحدة واكتفى بها ثم عدد في آخر عمره وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا بهذه السنة الإبراهيمية. 5 - أذن إبراهيم في الناس بالحج: {وأذن في الناس بالحج} (سورة الحج: 27). وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بفريضة الحج مع شروط الاستطاعة: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (سورة آل عمران: 97). 6 - جعل الله إبراهيم أسوة حسنة يتحلى بالصفة الجليلة ألا وهي البغض لله. {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله} (سورة الممتحنة: 4). وكذلك جعل الله النبي أسوة حسنة يتحلى بالصفة الجليلة ألا وهي الحب في الله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (سورة الأحزاب: 21). وبهاتين الصفتين يكمل الإيمان بالله تعالى وفيهما جعل الأب الأعظم، وسيد ولد آدم أسوة حسنة للعالم فعلى الناس أن يعرفوا سيرتهما وأقوالهما وأفعالهما حتى لا يصدر منهم إلا ما هو مقبول عند الله من قول أو فعل أو عمل. 7 - أشاد الله بخلق إبراهيم عليه السلام وأثنى عليه فقال: {إن إبراهيم لأواه حليم} (سورة التوبة: 114). وكذلك وصف القرآن الكريم خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - ونوه به فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم} (سورة القلم: 4). {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} (سورة آل عمران: 159).

لوط عليه السلام

8 - ذكر القرآن الكريم ما جرى بين إبراهيم وبين منكري وجود الله من مناظرة فقال: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} (سورة البقرة: 258). وكذلك ذكر القرآن الكريم ما أقامه النبي من حجج وبراهين على منكري البعث فقال: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (...) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون} (سورة يس: 79 - 80). وهناك وجه آخر للشبه التام بين واقعتين وهو أن البراهين التي أقامها إبراهيم كانت من الله آتاها الله إبراهيم كما قال تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم} (سورة الأنعام: 83) كما أن البراهين التي احتج بها النبي هي أيضا من الله أوحى إليه بها. وكلمة " قل " في الآية المذكورة تكشف عن هذا السر. لوط عليه السلام (¬1): هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام وأول من آمن بإبراهيم بعد سارة هاجر إلى الله حبا لخليل الرحمن، وتغرب في البلاد. 1 - هدده قومه بالنفي: {لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين} (سورة الشعراء: 167). وقد هم الناس بإخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك، أخبر بذلك القرآن الكريم: {نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول} (سورة التوبة: 13). 2 - أخبر الله سبحانه عن حال قوم لوط عليه السلام بهذه الألفاظ الجامعة. {كانت تعمل الخبائث} (سورة الأنبياء: 74) وقال تعالى يمدح النبي ويثنى عليه: {ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} (سورة الأعراف: 157). ¬

(¬1) عاش لوط قبل سنة 1898 من مولد المسيح عليه السلام ولا يعرف زمن وفاته.

إسماعيل عليه السلام

3 - ذكر القرآن الكريم نزول الملائكة لنصرة لوط عليه السلام وتدمير أعدائه: {يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك} (سورة هود: 81). وقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - يخبره عن إمداده إياه بالملائكة: {يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} (سورة آل عمران: 125). إسماعيل عليه السلام: يخبر القرآن عن صفة إسماعيل عليه السلام فيقول: {كان صادق الوعد} (سورة مريم: 54). وذكر الله سبحانه على لسان المؤمنين إنجاز ما وعد به النبي فقال: {قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} (سورة الأحزاب: 22). 2 - وكذلك أخبر عن صفة إسماعيل فقال: {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة} (سورة مريم: 55). هذه الآية تخبرنا بأنه يجب أن تبدأ الدعوة أولا بالأسرة والأهل. وقال تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أ - {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} (سورة طه: 132) ب - {وأنذر عشيرتك الأقربين} (سورة الشعراء: 214) ويفهم من هاتين الآيتين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ عشيرته الأقربين رسالته كما بلغها أهله. 3 - قال تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} (سورة البقرة: 125). والواضح أن إسحاق وذريته لا يدخلون في هذا العهد وابن إسماعيل وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعلن للناس أمر الله تعالى وهو ما ذكره القرآن الكريم: {فولوا وجوهكم شطره} (سورة البقرة: 144). ويتضح من هذا الحكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن الكعبة هي قبلة مساجد الدنيا كلها. إسحاق عليه السلام: فلما أفرد القرآن ذكر إسحاق عليه السلام مفردا وإنما يذكر اسمه

يعقوب عليه السلام

مع إبراهيم (¬1) أو إسماعيل أو يعقوب عليهم السلام. 1 - قال تعالى: {وبشرناه بإسحاق}. هذا يدل على أن إسحاق بشر بولادته قبل أن يولد وكفى به فضيلة وعلوا. 2 - وأخبر سبحانه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عيسى قال للناس فيه: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} (سورة الصف: 6). يعقوب عليه السلام: (¬2) ذكر القرآن الكريم وعظ يعقوب إلى بنيه: {إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون} (سورة البقرة: 133). وهذه هي الرسالة التي دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - العالم كله إليها: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} (سورة البقرة: 21، 22). 2 - وكان من تعاليم يعقوب عليه السلام: {ولا تيئسوا من روح الله إنه لا يايئس من روح الله إلا القوم الكافرون} (سورة يوسف: 87). وذلك أيضا هو تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} (سورة آل عمران: 139) ¬

(¬1) كان عمر إبراهيم مائة سنة كاملة حين ولد له إسحاق، وكان ابن أربعين سنة حين تزوج ربقة وهي حفيدة نحور أخي إبراهيم عليه السلام، وكان ابن ستين سنة حين ولد له توأمان عيسو ويعقوب. قضى معظم حياته في أرض فلسطين وتوفي وعمره 180 سنة ودفن بجنب أبيه. (¬2) لما بلغ أشده توجه إلى بيت خاله وتزوج ابنتين له. قضى هناك عشرين سنة ثم رجع إلى الشام ولقبه الله بإسرائيل في عودته. توفي إسحاق بعد عودته. وبعد وصوله إلى الشام ألقى إخوة يوسف يوسف في غيابة الجب ولما علم بوجود يوسف قدم مصر مع أبنائه وأحفاده وأزواجه الذين كانوا 68 رجلا. وقضى بها 17 سنة. وتوفي وعمره 147 سنة. حنطوا نعشه بالعطور أربعين يوما، حملوه إلى كنعان ودفنوه في مقبرة إبراهيم عليه السلام.

يوسف عليه السلام

3 - حضر بنو يعقوب الآثمون يطلبون منه أن يستفر لهم: {يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} (سورة يوسف: 97). فأجابهم يعقوب: {سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} (سورة يوسف: 98). خاطب الله تعالى جميع أهل الأرض وأخبرهم بمكانة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه رحمة للعالمين. {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} (سورة النساء: 64). ولكي نعرف مكانة الرسول العظمى علينا أن نقف وقفة تأمل أمام قول الله {واستغفر لهم الرسول} وهذا هو السر في ورود التأكيد على أن نصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الدعاء وآخره. فقد كان بإمكان الرعيل الأول الحضور إلى النبي ليسألوه أن يدعو لهم فلما انقضى ذلك العصر الميمون لم يبق للناس من طريق إلا أن يصلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستحقوا بذلك رحمة الله وبركاته. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد في الأولين والآخرين وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين. يوسف عليه السلام: وصف يوسف في الحديث الشريف بالكريم " الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ". ووردت في القرآن قصة رؤياه: {إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} (سورة يوسف: 4). تحققت رؤيا يوسف هذه بعد بضع سنوات وخر له إخوته سجدا حين ذهبوا للقائه وقد تحققت رؤياه ولكن بعد مدة طويلة لقى فيها يوسف شدائد ومحنا لعداء إخوته له وواجه إخوته أيضا مصائب كثيرة بعد فراق يوسف لأنهم ما كانوا يعلمون أن وجوده فيهم يمن وبركة لهم. وقد ذكر القرآن الكريم رؤيا النبي أيضا فقال: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون} (سورة الفتح: 27).

شعيب عليه السلام

تحققت هذه الرؤيا بعد سنة واحدة وقد عاش النبي - صلى الله عليه وسلم - ثماني سنوات بعيدا عن مكة، ونكب أهلها خلال هذه الفترة بالجدب والحرب، وإذا كانت رؤيا يوسف فيها شيء من الاستعارة فإن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضح وأظهر من أي استعارة فقد ظهرت عيانا وإلى ذلك تشير كلمة "بالحق" في الآية المذكورة. 2 - وجهت إلى يوسف التهمة باسم امرأة العزيز، ووجهت التهمة إلى النبي باسم امرأة زيد كذلك، وإذا كان هناك فرق داخلي بين الواقعتين فهو رمي يوسف بالفاحشة واتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه تزوج من زوجة ابنه. 3 - كانت مؤامرة إخوة يوسف ضد يوسف عليه السلام هى: {اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا} (سورة يوسف: 9). وكانت مؤامرة قريش ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - هى: {وإاذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} (سورة الأنفال: 30). نجحت مؤامرة إخوة يوسف فألقوه في غيابة الجب ولكن الله حفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - من شر أعدائه. 4 - دخل إخوة يوسف عليه يقولون له: {يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا} (سورة يوسف: 88). وكذلك ابتلى أهل مكة بالجدب ومسهم الضر بعد هجرة النبي إلى المدينة وهو ما ورد في الآية التالية: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ... يغشى الناس هذا عذاب أليم} (سورة الدخان: 10، 11) وبذلك فسر ابن مسعود رضي الله عنه هذه الآية كما في صحيح البخاري. 5 - أوفى يوسف لإخوته الكيل من مصر. وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمامة بن أثال أن يرسل الغلة من نجد إلى أهل مكة. شعيب عليه السلام: أرسل شعيب عليه السلام نبيا إلى قوم مشركين أغنياء مطففين الكيل ولذلك كانت مواعظه في معظمها خاصة في الأموال بعد دعوته لهم بالتوحيد.

1 - ذكر القرآن الكريم مواعظ شعيب لقومه فقال: {ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم} (سورة هود: 85) وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا أمته إلى ذلك كما تدل عليه الآيات التالية: {ويل للمطففين ... الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ... وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}. (سورة المطففين (1 - 3). 2 - وأخبر سبحانه عن شعيب عليه السلام: {قال الملأ الذين استكبروا من قومة لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا} (سورة الأعراف: 88). وكذلك ذكر القرآن الكريم ما لقيه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من نفي وما قاموا به من نصرة الله ورسوله فقال: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله} (سورة الحشر: 8). 3 - قال الكفار لشعيب حين أعجزتهم أدلته: {يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول} (سورة هود: 91). وحدث هذا للنبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار إذ تقول الآية الكريمة {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} (سورة فصلت: 5). وأجابه اليهود بمثلى ما أجابه المشركون: {وقالوا قلوبنا غلف}. (سورة البقرة: 88). 4 - قال قوم شعيب عليه السلام له: {يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} (سورة هود: 87). ومن المعروف أن هؤلاء القوم المرابين كانوا يتمنون أن يرضوا نبيهم بصلاتهم، ويستمروا أيضا في أكل الربا بالبقاء على شركهم الموروث، فإذا لم يتمكنوا من الجمع بين الصلاة وبين أكل الربا، تركوا مثل هذه الصلاة، وإذا لم يتمكنوا من الجمع بين هذه

كليم الله موسى عليه السلام

الصلاة والوثنية رفضوا مباشرة أي أمر لنبيهم، ومن الممكن أن يكون قد تمنى هذا رجل من الأغنياء في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا قبل أن يدخل الإسلام قلبه، فأنزل الله الآية التالية للقضاء على أمنية مثل هؤلاء حتى يكمل إيمان المسلمين. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} (سورة البقرة: 278، 279). ويرى كاتب هذه السطور أنه (إذا رفع أحد أمره إلى القاضي المسلم يطلب مبلغ القرض مع الربا فعلى القاضي أن يرفض دعواه كلية لأن الحصول على رأس المال إنما يتوقف على التوبة "إن تبتم". كليم الله موسى عليه السلام: يمتاز موسى عليه السلام بين أنبياء بني إسرائيل بميزة خاصة. وفي التوراة لم يرسل نبي إلى بني إسرائيل كموسى. (التثنية [ص:33]). 1 - يخيل إلى حين أدرس أخبار موسى عليه السلام أنه ولد يتيما. ويؤيد ظني هذا وحي الله إلى أم موسى أن تلقي موسى في اليم وقولها لابنتها قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون، وعدم ذكر أبي موسى في الموضعين، والله أعلم وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتيما كذلك قبل قدومه إلى هذه الدنيا. 2 - ربت آسية موسى فاستوجبت الفضيلة وكذلك عاملت حليمة السعدية النبي - صلى الله عليه وسلم - معاملة الأم لابنها فاحتلت مكانة " رضي الله عنها ". 3 - نجا موسى من أعدائه وكذلك نجا النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن حاصروه من المشركين وذر الرماد على عيونهم وأخذ طريقه إلى غار ثور. 4 - عرفت ابنتا شعيب موسى عليه السلام لما كان يتصف به من صفة القوة والأمانة وعرفت خديجة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يتصف به من صفة الصدق والأمانة ففدته بنفسها. 5 - ذكر الله تكليمه لموسى في قوله: {فلما قضى موسى الأجل وسار بأهل}: إلى قوله {رب العالمين} سورة القصص: 29، 30) جاء ذكر هذه الرؤية بكلمة النار والوادي والشجرة والنداء.

وجاء ذكر رؤية النبي أيضا في القرآن. وفيما يلي الآيات التي تتعلق برؤيته - صلى الله عليه وسلم -: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا} (سورة الإسراء: 1). وقال تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى} إلى قوله {من آيات ربه الكبرى} (سورة النجم: 13 - 18). وقال: {ما كذب الفؤاد ما رأى} (سورة النجم: 11). وقال: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} (سورة النجم: 10). ولا يعلم أحد على وجه الدقة ما في هذه الرؤية من الروحانية والمشاهد العينية واليقين القلبي إلا الله ورسوله، ولكن جزالة اللفظ وفخامة المعنى وعلو المفهوم يجعل هذه الكيفية متصورة متشكلة في العقل البشري، ويتلذذ بها القلب والعقل مع ما في هذا الأمر من استعجاب وحيرة. 6 - اتبع فرعون موسى وبني إسرائيل وكاد يدركهم إذ نادى بنو إسرائيل: (إنا لمدركون} (سورة الشعراء: 61). فأجابهم موسى: {كلا إن معي ربي سيهدين} (سورة الشعراء: 62). تدبروا قليلا، فموسى عليه السلام لم يدخل معه قومه في المعية الربانية فقد كانوا لا يزالون على المكانة المنحطة التي لا تؤهلهم لهذه المعية. ومثل ذلك وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو وأبو بكر في غار ثور والكفار قد وصلوا إليه، كان لسان أبي بكر لا ينطق، ولكن قلبه يموج حزنا وغما وهنالك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تحزن إن الله معنا) (سورة التوبة: 40). إذا تأملنا في قول موسى " معي " وقول النبي " معنا " علمنا ما يملكه النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوة العاطفة حيث أشرك صاحبه معه في المعية الإلهية التي كانت له وحده. 7 - كفر بنو إسرائيل بموسى حين أمرهم بالجهاد وأجابوه: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} (سورة المائدة: 24). فعاقبهم ربهم على ذلك وقال:

(فإنها محرهة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلاتأس على القوم الفاسقين} (سورة المائدة: 26). ثم غفر لهم خطيئتهم هذه بعد أربعين سنة، فجاهدوا مع يوشع بن نون بعد ما توفي موسى فانتصروا. ومثل هذا وقع للأعراب في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا} (سورة الفتح: 16). نزلت سورة الفتح سنة سبع من الهجرة ولم يدع هؤلاء المخلفون إلى الجهاد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن القرآن قد كان أخبرهم حين استأذنوا النبي للجهاد: {فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا} (سورة التوبة: 83). وفي السنة الحادية عشرة من الهجرة دعا أبو بكر جميع القبائل والأفراد إلى الجهاد فاجتمعوا له زرافات ووحدانا. وتبين منه فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كانت خطيئة بني إسرائيل وخطيئة المسلمين من الأعراب واحدة إلا أن بني إسرائيل غفر لهم ذنبهم بعد أربعين سنة قضوها حائرين متغربين، وغفرت للمسلمين خطيئتهم خلال أربع سنوات، كما ثبت منه أن دعوة أبي بكر إلى الجهاد كانت من أمر الله، وخلافته كانت كخلافة يوشع بن نون. ويكتمل وجه الشبه هنا حين نرى أن الأرض الموعودة بشر بها موسى قومه، وتمت هذه البشرى على يد يوشع بن نون وكذلك بشر النبي أصحابه بالأرض الموعودة وتم ذلك في خلافة أبي بكر وعمر. 8 - وذكر القرآن الكريم ما صار إليه أمر عداوة فرعون لبني إسرائيل وظلمه لهم فقال: {فأخرجناهم من جنات وعيون ... وكنوز ومقام كريم ... كذلك وأورثناها بني إسرائيل} (سورة الشعر اء: 57 - 59). وكذلك هجم الكفار بخيلهم ورجلهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين فذكر الله مصيرهم فقال: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا} - إلى - {وكان الله على كل شيء قديرا} (سورة الأحزاب: 25 - 27)

هارون عليه السلام

9 - لما بشر موسى بالنبوة قال: {رب اشرح لي صدري} (سورة طه: 25). وقال الله في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {ألم نشرح لك صدرك} (سورة الشرح: 1) 10 - لما اشتغل موسى بمهام النبوة سأل الله: {واجعل لي وزيرا من أهلي ... هارون أخي} (سورة طه: 29، 30). وقال الله في شأن نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {ووضعنا عنك وزرك ... الذي أنقض ظهرك} (سورة الشرح: 2، 3). 11 - قال موسى لربه حين أتاه: {وعجلت إليك رب لترضى} (سورة طه: 84). وقال الله في شأن نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (سورة الضحى: 5). إن الآية الأولى طلب فيها رضا الرب والآية الثانية تنطق برضا محمد - صلى الله عليه وسلم -. هارون عليه السلام (¬1): كان هارون شقيق موسى الأكبر، أكرم بالنبوة لدعاء موسى ربه وسؤاله له في ذلك. 1 - في التوراة أن هارون كان يتعهد المعبد ويؤم الناس جميعا. وثبت من القرآن الكريم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالناس بنفسه والناس يصلون معه. قال تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك} (سورة المزمل: 20). وقال: {الذي يراك حين تقوم ... وتقلبك في الساجدين} (سورة الشعراء: 218 - 219). ¬

(¬1) توفي هارون عليه السلام [بعد] موسى بسنتين سنة 1453 ق. م.

2 - قال الله على لسان موسى: {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا} (سورة القصص: 34). وذلك يدل على كمال فصاحة هارون وبلاغته. إن الفصاحة والبلاغة أمر وجداني يصعب تصويرها بالكلمات، ومن الجدير بالذكر أن الفصاحة والبلاغة تتعلق بالألفاظ كما تتعلق بالمعاني، وتتعلق بالأسلوب كما تتعلق بمناسبة الكلام، وكذلك فإن الفصاحة والبلاغة لها شأنها في كل من الألفاظ والمعاني، وأسلوب الكلام، ومناسبة هذا الكلام، وشأن القائل ومنزلة المستمع، فإذا تضمن الكلام هذه الأوصاف كلها فلا شك أنه يبلغ قمة الفصاحة والبلاغة. وهذه الأوصاف كلها توفرت في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - توفرا يجعل الناقد البصير يعترف بقصور باعه وقلة شأنه فيها. وأسوق هنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - نماذج من أقواله تبين ما فيها من وضوح البيان وإيجاز الكلام وجزالة اللفظ وجمال المنطق: «- ما هلك امرؤ عرف قدره. - حبك للشيء يعمي ويصم. - اليد العليا خير من اليد السفلى. - الخير كثير وقليله فاعله. - رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم. - ثلاث منجيات وثلاث مهلكات، فأما المنجيات فخشية الله في السر والعلانية، والاقتصاد في الغنى والفقر، والحكم بالعدل في الرضا والغضب؛ وأما المهلكات فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. - لا تزال أمتي بخير ما لم ترى الأمانة مغنما والصدقة مغرما». وأتطرق الآن إلى ما نحن بصدده: فأقول إن القرآن الكريم يشير إلى ما يملكه النبي من فصاحة وبلاغة فيقول على لسان أعدائه - صلى الله عليه وسلم -: {إن هذا إلا سحر يؤثر} (سورة المدثر: 24).

اليسع عليه السلام

ومهما قال عنه الأعداء إنه سحر أو غير ذلك فإن الواقع يشهد بأن كلامه لم يخرج من فمه إلا وأخذ بمجامع القلوب وتغلغل في النفوس. وباختصار اعترف العرب بكمال فصاحة النبي وبلاغته، وإذا كان هناك من أنكر نبوته إلا أن أحدا في جزيرة العرب لم ينكر له فصاحته، وقد قلت جزيرة العرب لأن العرب كانت توجد فيهم لهجات مختلفة ولغات متعددة، انظروا حوار النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهل الحجاز ثم حواره مع أهل المدينة وهلم جرا. وكذلك تأملوا الكلمات التي وجهها إلى وائل الكندي وقطن العليمي وطهفة النهدي وأبي ثور بن نمط الهمداني وغيرهم من ملوك اليمن وحضرموت لتعرفوا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في كل لهجة ولغة بحرا يزخر بالفصاحة ويموج بالبلاغة. اليسع عليه السلام (¬1): اليسع أو يسع هو الذي ورد في التوراة باسم يوشع بن نون. 1 - ووصف اليسع في سورة الكهف بفتى موسى وورد في القرآن ذكر فتى النبي أيضا وهو زيد. 2 - واليسع هو الذي ذكر في هذه الآية: {قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما} (سورة المائدة: 23). وقد جاء ذكر زيد كذلك في القرآن بهذه الكلمات: {أنعم الله عليه وأنعمت عليه} (سورة الأحزاب: 37). 3 - ورد اسم اليسع في سورة ص، وأخبر الله أنه من الأخيار. وذكر القرآن الكريم نزول الخير على النبي وبالتالي على أمته فقال: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} (سورة البقرة: 105). داود عليه السلام: داود عليه السلام هو الذي أعاد لبني إسرائيل عزتهم الضائعة وجعل من اثنتي عشرة أسباطا جماعة واحدة وجاهد الكافرين وحفظ لقومه وبلده العزة ¬

(¬1) توفي يوشع بن نون قبل 1466 سنة من مولد المسيح وعمره 110 سنوات وهو الذي فتح بعد موسى بخمس وأربعين سنة الأرض الموعودة بالخلافة والنبوة. (سفر يشوع 24/ 29).

والكرامة وجمع بين الحكومة والنبوة والدين والدنيا، إنه أشبه ما يكون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي بشر بني إسرائيل بقدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرهم بآثاره وعلاماته. 1 - قال تعالى يمدح داود ويثني عليه: {ولقد آتينا داود وسليمان علما} (سورة النمل: 15) ولاشك أن العلم نعمة ما فوقها نعمة، ولا سيما علم الأنبياء الذي يتلقونه مباشرة من رب العالمين ولذلك فقد صرح الله بذلك في قوله: (وكلا آتينا حكما وعلما} (سورة الأنبياء: 79). وقال تعالى في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وعلمك ما لم تكن تعلم} (سورة النساء: 113). وقال: {وقل رب زدني علما} (سورة طه: 114). الآية الأولى تنص على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألهم جميع المعارف والعلوم مرة واحدة ودلت الآية الثانية على أن علمه كان في تزايد مستمر كل حين بإذن ربه. قال تعالى في شأن داود عليه السلام: {ولقد آتينا داود منا فضلا} (سورة سبأ: 10) وقال في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وكان فضل الله عليك عظيما} (سورة النساء: 113). 3 - قال تعالى لداود: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى} (سورة ص: 26). اسم الأرض يطلق على أرض الميعاد وهذه هي الأرض التي جعل الله فيها داود خليفة وكتب الله الأرض الموعودة لذرية إبراهيم إلى يوم القيامة. وقبل أن يبشر داود بالخلافة في الأرض كان يرعى الغنم فرفع الله درجته وجعله خليفة في الأرض. في القرآن أخبر النبي أن الله سيستخلف الذين آمنوا في الأرض: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني

لا يشركون بي شيئا} (سورة النور: 55). إذا تأملنا هذه الآية وضحت لنا الأمور التالة: (الف) المخاطبون في هذه الآية هم من كانوا يتصفون قبل نزولها بصفة الإيمان والعمل الصالح. ب - وعد الله في هذه الآية باستخلاف المؤمنين في الأرض. ج - هذه الخلافة هبة من عند الله. د - هذا الاستخلاف إنما يكون في تلك الأرض التي استخلف الله فيها عباده الصالحين من قبل. هـ - من علامات هذه الخلافة تمكن دين الله الذي ارتضى لهم فيها. و- ومن علاماتها أيضا قيام الأمن والسلام وتلاشي الخوف والذعر. ز - الذين يتولون أمور الخلافة هم من عباد الله المخلصين العابدين. ح - دخل في هذا الوعد أكثر من مسلمين اثنين فإن الضمير في قوله " ليستخلفنهم " للجمع وصيغة الجمع في العربية تكون لأكثر من اثنين. ويجب هنا تعيين زمن نزول هذه الآية، فهذه الآية من سورة النور، وسورة النور مشتملة على قصة الإفك التي وقعت في غزوة المريسيع في سنة خمس من الهجرة. وأما السر في ذكر الخلافة بعد ذكر قصة الإفك فهو أنه لما أحزن المفترون الكذابون قلب أبي بكر، ونالوا منه، كان وعد الله بالخلافة، وفرج بذلك عن كربه وخفض من حزنه ولله الحجة الباقية، فكانت النتيجة أن الآية نزلت في السنة الخامسة من الهجرة وترتب عليها أن اختير للخلافة من الصحابة من سبقوا إلى الإسلام، واتصفوا بصفة الإيمان والعمل الصالح قبل السنة الخامسة للهجرة. فهؤلاء الخلفاء الأربعة أسلم كل منهم قبل السنة الخامسة بكثير فيدخل فيهم الحسن رضي الله عنه الذي كانت مدة خلافته تسعة أشهر لأنه تكرم بالإسلام في السنة الثالثة من الهجرة ومن الناحية التاريخية كان أبو بكر وعمر هما أول من استخلفا في الأرض في الإسلام، وبما أن الفضل في خلافة الخلفاء الأربعة يرجع إلى إيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإن آية الاستخلاف لا تدل إلا على فضل النبي - صلى الله عليه وسلم -.

سليمان عليه السلام

4 - قال تعالى في شأن داود عليه السلام: {وألنا له الحديد} (سورة سبأ: 10) وقال في شأن من آمن بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من كلام: {تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء} (سورة الزمر: 23). سليمان عليه السلام: هو أشهر أبناء داود وهو الذي خلف أباه فأحسن خلافته من بين سبعة عشر أخا وثماني عشرة أختا له ومن ثم خصه القرآن بقوله: {وورث سليمان داود} (سورة النمل: 16) 1 - إن ما جرى بين سليمان عليه السلام وبين رسل الملكة سبأ من حوار يدل على أن سليمان لم يكن يقيم لحطام الدنيا وزنا ولا يحسب له حسابا: {أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم} (سورة النمل: 36). وقال في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ووجدك عائلا فأغنى} (سورة الضحى: 8). 2 - قال الله في شأن سليمان: {ولسليمان الريح} (سورة سبأ: 12). وقال في شأن نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأحواله: {إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها} (سورة الأحزاب: 9). ذكرت هذه الآية من عمل الريح ما كان في تدمير أعداء الإسلام وتبديدهم وفي رواية لصحيح البخاري قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "نصرت بالصبا". وقد وردت كلمة الريح في القرآن لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أيضا وإن اختلف معناها في ذلك الموضع عن هذا المعنى. قال تعالى: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} (سورة الأنفال: 46). والحاصل أن سليمان كان يحكم الريح وكذلك بقيت هذه الريح في حوزة المسلمين الأولين ولما تنازعوا ذهبت هذه الريح وساءت أحوالهم. 3 - ذكر الله قوة سليمان وعظمته فقال: {وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير} (سورة النمل: 17).

يونس عليه السلام

وجاء ذكر هؤلاء الثلاثة في أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا. فقال الله في سورة الجن: {استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا ... يهدي إلى الرشد فآمنا به} (سورة الجن:2، 1). وقال في جنود من الإنس: {إذا جاء نصر الله والفتح ... ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا} (سورة النصر: 2، 1). وقال في ما كان للطير من خدمة وعمل: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف ماكول}. اتفق المفسرون على أن هذا الحدث كان إرهاصا للنبوة فهو أيضا من فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد استعمل القرآن صيغة الخطاب مرتين، مرة في قوله {ألم تر} ومرة في قوله {ربك} وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن بيان المفسرين رحمهم الله توضيح كامل لإرادة الله. يونس عليه السلام: (¬1) أرسل يونس رسولا إلى أرض نينوا، التي ضمت أكثر من مائة ألف نسمة، فكفر أهلها به، فغضب عليهم النبي يونس، وتولى عنهم، فتأسف الناس على ذلك ثم عاد إليهم يونس بأمر ربه فآمن به الناس جميعا. 1 - قال تعالى في شأن يونس عليه السلام: {فالتقمه الحوت} (سورة الصافات: 142). قضى يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام سويا. وقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا في بطن الغار ثلاثة أيام، ففي القرآن: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} (سورة التوبة: 40). دخل يونس في بطن الحوت بعد ما هجر الطغاة من قومه ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - في بطن الغار بعد ما هاجر من مكة. ¬

(¬1) عاش يونس بن متى نحو 862 سنة من مولد المسيح.

أيوب عليه السلام

2 - قال تعالى في شأن يونس عليه السلام: {فلولا أنه كان من المسبحين ... للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} (سورة الصافات: 143، 144). وفي هذا دلالة على أن يونس لم يكن غافلا عن ذكر الله حتى في بطن الحوت. وكذلك ما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - غافلا عن ذكر الله في الغار أيضا بل كان يتمتع بالمعية الربانية كما قال تعالى: {لاتحزن إن الله معنا} (سورة التوبة: 40). 3 - جاء ذكر ما سبح به يونس في القرآن وهو: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} (سورة الأنبياء: 87). تأملوا هذه الآية لقد جمعت بين تقديس الله وتقصير العبد. وقد اجتمع هذان الأمران في جواب الرسول للكفار وهو: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا} (سورة الإسراء: 93). وقد سبح النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية بحمد ربه وبرأ نفسه من أن يزكيها. وهناك آيات كثيرة جمعت بين هذين الأمرين منها: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} (سورة يس: 83). ومنها: {سبحانك فقنا عذاب النار} (سورة آل عمران: 191). 4 - وعد الله الذين آمنوا بالله ورسوله بالنجاة إذا دعوا الله ودعاء يونس: {وكذلك ننجي المؤمنين} (سورة الأنبياء: 88). أيوب عليه السلام: (¬1): من كبار الأنبياء، ورد اسمه في آخر حزب من سورة النساء ويتضح منه أنه نزل عليه الوحي من عند الله. 1 - قال تعالى في صفة أيوب: ¬

(¬1) يرى أهل الكتاب أن زمن أيوب عليه السلام كان قبل 1520 سنة من مولد المسيح، وبعد البلاء كان أيوب قد ملك من الماعز أربعة عشر آلاف ومن الجمال ستين ألفا ومن الثيران ألفا ومن الحمير ألفا. وكان أبا لسبعة أبناء وثلاث بنات، وعاش 140 سنة.

{إنا وجدناه صابرا} (سورة ص: 44). والصبر فضيلة عليا من الفضائل المحمودة. ولن يحتل أحد منصبا عاليا دينيا كان أو دنيويا ما لم تتحقق فيه صفة الصبر. وقوة الإرادة والصمود والاستقلال والتوكل على الله ما هي إلا فروع للصبر. قال الله في صفة نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {واصبر وما صبرك إلا بالله} (سورة النحل: 127). وتبين هذه الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم - صفتين صفة الصبر وصفة الإخلاص. وقال تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} (سورة الطور: 48). وهذه الجملة في دنيا المحبة تدخل السرور على القلب والبهجة على النفس. 2 - قال تعالى في صفة أيوب عليه السلام: {نعم العبد} (سورة ص: 44). وقد ثبت كمال عبودية النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواضع كثيرة، فالإسراء الذي هو مرتبة قصوى من مراتبه - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر الله فيه نبيه بكلمة العبد حيث قال: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} (سورة الإسراء: 1). وكذلك ذكر الله نبيه بكلمة العبد في صفة صلاته فقال: {أرأيت الذي ينهى ... عبدا إذا صلى} (سورة العلق: 9، 10). وقال: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه} (سورة الجن: 19). ولعل هذا هو السر في كون الصلاة معراجا للمؤمنين. 3 - قال تعالى في صفة أيوب: {إنه أواب} (سورة ص: 44). أما كيف كان أوابا إلى الله راجعا إليه فيوضحه القرآن فقال: {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب} (سورة ص:41). تبين من هذا أنه كان يدعو الله في المرض والصحة والشدة والرخاء وأنه كان يراعي الأدب في الدعاء، فلم يكن ينسب المرض والألم إلى الله عزوجل.

زكريا عليه السلام

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل لحظة من لحظات حياته يرجع إلى الله وذلك واضح من هذه الآية: {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالين ... لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (سورة الأنعام: 162، 163). زكريا عليه السلام: قال تعالى عن زكريا: {ذكر رحمت ربك عبده زكريا} (سورة مريم: 2). وقال عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا} (سورة الإسراء: 87). وقال في موضع آخر: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (سورة الأنبياء: 107). ذكر الله في هذه الآية النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه رحمة أي أنه قد جعل وجوده رحمة، وذلك شرف دونه كل شرف. ذكر الله دعاء زكريا عليه السلام لربه فقال: {إذ نادى ربه نداء خفيا} (سورة مريم: 3). وقد تقبل منه هذا الدعاء فبشر بابن اسمه يحيى. وذلك يشير إلى ما كان عليه زكريا من شرف وعز حيث تقبل دعاؤه، ورزق ولدا، رغم ما كان يفقده من أسباب ظاهرية مادية. قال الله عز وجل في شأن نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها} (سورة البقرة: 144). تدل هذه الآية على ما كان يتمتع به النبي - صلى الله عليه وسلم - من عز وشرف فقد تقبل الله منه ما دار بخلده وظهر على وجهه، مع أنه لم ينطقه بلسانه، ولاشك أن هذا كان أمرا عظيما، فهو يتعلق بتحويل قبلة صلى إليها ألوف الأنبياء واعترفوا بقداستها، ولكن الله آثر رضا نبيه - صلى الله عليه وسلم - على رضاهم، وقدم النزول عند رغبته على النزول عند رغبتهم فحول القبلة وقال: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} (سورة البقرة: 143). يحى عليه السلام: هو نتيجة لدعاء أبيه الهرم زكريا الذي دعا ربه في المحراب

ومحمد - صلى الله عليه وسلم - هو أيضا نتيجة لدعاء أبيه إبراهيم الهرم الذي دعا هو وابنه إسماعيل ربهما وهما يبنيان البيت: 1 - {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ... ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ... ربنا وابعث فيهم رسولا منهم} (سورة البقرة: 127 - 129). 2 - قال تعالى في شأن يحى عليه السلام: {مصدقا بكلمة من الله} (سورة آل عمران: 39). وصف القرآن عيسى بن مريم بكلمة الله وجعل يحيى مصدقا به. ومما لاريب فيه أن يحيى عليه السلام أخبر الناس بقدوم عيسى بن مريم وأطلعهم على فضائله. وسمى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - مصدقا لما بين يديه. ومنه يتبين أن تصديقه للأنبياء كان أوسع وأشمل. أ - أنبأ الناس بأسماء بعض الأنبياء وبين أخبارهم ممن لم يكن يعرفهم حتى أهل الكتاب مثل هود وصالح وشعيب. ب - صدق بنبوة بعض ممن كذبه أهل الكتاب مثل سليمان الذي كذبه اليهود والنصارى وعيسى بن مريم الذي كذبه اليهود. ج - أكبر من ذلك أنه أوضح مبدأ شاملا خفى عن أهل الأرض جميعا وهو أن بني إسرائيل كانوا يدعون بأن النبوة قاصرة على بني إسرائيل دون سواهم من الأمم، وكذلك البارسيون الذين ادعوا بأنه لم يؤت الله النبوة إلا أهل " مه " وهم من أصول فارسية، وبذلك ادعى الهنود وأهل الصين وأهل مصر من القدماء. فكان كل قوم يكذبون غيرهم فيما ادعوا به، وجر ذلك عليهم عداوة وبغضاء، فرقت بين الأمم والبلاد، فجاءالنبي - صلى الله عليه وسلم - مصدقا لما بين يديه، وفك هذه العقدة وكشف هذا السر، فتلا عليهم آيات كثيرة وردت بألفاظ مختلفة وأساليب متنوعة: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} (سورة فاطر: 24). {ولكل قوم هاد} (سورة الرعد: 7).

{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومة} (سورة إبراهيم: 4). {ويوم نبعث من كل أمة شهيدا} (سورة النحل: 84). وهذه التعاليم السمحة بقدر وسعتها وشمولها بقدر ما تزيد الشعوب والأمم حبا وودا وتتوطد العلاقات الأخوية فيما بينها. 3 - وصف الله يحيى عليه السلام بالسيد (آل عمران) وخاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم - أيضا بهذا الخطاب فقال: (يس) أي السيد (¬1). 4 - وصف الله يحيى بالحصور أيضا وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حصورا. الحصور في اللغة الممسك (بفتح السن) والمراد به من حفظه الله بنفسه. وقال الله في نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {والله يعصمك من الناس} (سورة المائدة: 67). وقد ذكر للحصور معنى آخر وهو الممتنع عن الانغماس في الشهوات مع قدرته عليها. ويعلم من له خبرة ومعرفة بالسيرة النبوية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج حتى بلغ الخامسة والعشرين من عمره ولما تزوج لم يكن ذلك برغبة منه وإنما كان برغبة من السيدة خديجة رضي الله عنها وقد استجاب لها لأنه لم يكن يرد سؤال أحد. وكذلك يعلم الخبير بالسيرة أنه لم يكن في بيته إلا زوجة واحدة حتى سن الثالثة والخمسين، كانت خديجة رضي الله عنها وحدها حتى الخمسين، وسودة وحدها إلى سن الثالثة والخمسين من عمره. وهاتان الزوجتان اللتان تزوجهما النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة بعد الأخرى، كانتا قد فقدتا شبابهما ولا يرضى بنكاح مثلهما إلا من يكون "محصورا " أي من لا تستهويه خصائص الجنس اللطيف. أما ما كان له من نكاح مع غيرهما فيجد القارئ بيانه فيما كتبنا تحت عنوان أمهات المؤمنين، ويتبين أن ذلك لم يكن تنقلا في الشهوات أو تقلبا في الرغبات. واقرأوا قول الله عز وجل: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي أتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة ¬

(¬1) روى هذا المعنى عن الإمام جعفر الصادق. انظر كتاب الشفا طبع مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر 1950م.

مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} (سورة الأحزاب: 50). إذا نظر مؤرخ هنا وجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج إلا النوع الأول من النساء، ويذكر البعض اسما أو اسمين ضمن النوع الثاني ولكن في هذا شك. ويمكن أن يقول البعض بأن زينب بنت جحش داخلة في النوع الرابع، فنقول نعم إنها بنت لخالته ولكنها معدودة في النوع الأول، وبالجملة فإن من لم يلتفت إلى هذه الأنواع من النساء رغم حصوله على إذن الله بهن وإحلال القرآن لهن، يكون دون أدنى شك إنسانا محصورا بالمعنى سابق الذكر. 5 - وصف القرآن يحيى عليه السلام بكونه نبيا. وقد خوطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بـ {يا أيها النبي} إحدى عشرة مرة في القرآن. 6 - قال الله مخاطبا ليحيى عليه السلام: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} (سورة مريم: 12). وقال في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {يعلمهم الكتاب والحكمة} (سورة الجمعة: 2). 7 - وقال في شأن يحيى عليه السلام: {وحنانا من لدنا} (سورة مريم: 13). وقال في شأن نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم} (سورة آل عمران: 159). 8 - وقال: {وزكاة} أي طاهرا نظيفا. وقال في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {ويزكيهم} (سورة البقرة: 129). 9 - وقال في صفة يحيى عليه السلام: {وكان تقيا} (سورة مريم: 13). وقال فيمن كانوا يصحبون النبي - صلى الله عليه وسلم -: {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها}. (سورة الفتح: 26). 10 - وأخبر الله بأن يحيى عليه السلام كان: {برا بوالديه}. (سورة مريم: 14).

عيسى المسيح عليه السلام

أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يتيما فلم تتحقق له فرصة التعامل مع والديه. إلا أنه قد عاشت في عصره أم أيمن رضي الله عنها وكانت مولاة حبشية ربت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرها فكان يكرمها إكراما ويزورها في بيتها ويناديها بأمي بعد أمي، ويجلس ابنها أسامة على فخذ والحسن على أخرى. وكان العباس عما للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيناديه بأبي وهذا كله يدل على ما كان يتصف به النبي - صلى الله عليه وسلم - من صفة البر والكمال. عيسى المسيح عليه السلام: إن سمو شأن المسيح عليه السلام واضح بين الأنبياء الكرام. وفي القرآن أن جدته كانت دعت الله وقت ولادة أمه مريم الصديقة: 1 - {إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} (سورة آل عمران: 36). وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا أن يستعيذ بربه ويقول: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ... وأعوذ بك رب أن يحضرون} (سورة المؤمنون: 97، 98). 2 - وورد في القرآن عن مريم وابنها عيسى عليهما السلام: (وآويناهما إلى ربوة} (سورة المؤمنون: 50). هذه الآية تتعلق بطفولة عيسى عليه السلام وهي تدل على أنه نشأ وترعرع في رعاية الله وكنفه. وقال تعالى في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {ألم يجدك يتيما فآوى} (سورة الضحى: 6). كان عيسى بلا أب وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا قد فقد أباه حين ولد فأمرهما سواء في الحرمان من العطف الأبوي والرحمة الأبوية. 3 - نقل كلام عيسى عليه السلام في القرآن الكريم وهو: {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} (سورة مريم: 30). وقال سبحانه في شأن نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ... قيما} (سورة الكهف:2، 1)

4 - ذكر القرآن الكريم قول عيسى عليه السلام فقال: (وجعلني مباركا أين ما كنت} (سورة مريم: 31). وأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا أمته إلى كيفية تحصيل هذه البركة وذكره القرآن فقال: {فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} (سورة النور: 61). 5 - ذكر عيسى عليه السلام الأحكام التي كان العمل بها واجبا في شريعته فقال: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا} (سورة مريم: 31). وقال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (سورة الحجر: 99). 6 - قال تعالى في شأن عيسى عليه السلام: {وأيدناه بروح القدس} (سورة البقرة: 87 و 253). وقال في شأن نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وأيده بجنود لم تروها} (سورة التوبة: 40). وقال: (هو الذي أيدك بنصره} (سورة الأنفال: 62). وقال: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} (سورة النحل: 102). ذكر القرآن هدف رسالة عيسى عليه السلام في الآية التالية: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بنى إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} (سورة الصف: 6). ذكر عيسى أن رسالته تهدف إلى أمرين: التصديق بالتوراة، والتبشير برسول يأتي من بعده اسمه أحمد. ونحن نبين هنا ما بذل عيسى عليه السلام من جهود تجاه هذين الأمرين: الف - التصديق بالتوراة: قال المسيح: " لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس (¬1) أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض ¬

(¬1) جاء في الترجمة التفسيرية ط 3 القاهرة سنة 1952 م " .. جئت لألغي الشريعة أو الأنبياء، ما جئت لألغي بل لأكمل ..

لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل (¬1). (إنجيل متى: الأصحاح (5/ 17 - 18). هذا الكلام المعجز القوي يوضح جيدا أن عيسى عليه السلام حقق الغرض الأول من رسالته على أحسن وجه. ب - التبشير بنبي اسمه أحمد: وهنا كلمتان في هذه البشرى تستحقان التفكير. الأولى كلمة " من بعدي " فهي توجب أن من أتى بعد عيسى ينبغي أن يكون هو الذي بشر به عيسى ولا يحول بينهما رجل آخر يدعى رسولا ويسمى أحمد لأنه لو كان كذلك لالتبس الأمر. وهذا المعنى الذي بيناه للآيات ليس مما اخترعناه فقد قال القاضي عياض في "الشفا" والإمام جلال الدين السيوطي في "الخصوصيات الصغرى" وابن دحلان في "إنسان العيون" إن أحمد اسم لم يسم به أحد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -. والكلمة الثانية التي تستحق التفكير هي قوله {اسمه أحمد} ونتساءل هل كان أحمد اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة؟ وهنا يجب أن نعلم أن له اسمين ذاتين أحمد ومحمد. أما أحمد فاختارته له آمنة أمه لما قد أمرت بذلك في الرؤيا التي رأتها. وأما محمد فاختاره له جده وكلاهما مشتقان من مادة حمد. فأحمد صيغة اسم التفضيل من " حمد" ومحمد على وزن مفعل من " حمد". قال ابن القيم رحمه الله في " جلاء الأفهام ": وقد ظن طائفة منهم أبو القاسم السهيلي وغيره أن تسميته - صلى الله عليه وسلم - بأحمد كانت قبل تسميته بمحمد قالوا ولهذا بشر به المسيح باسم أحمد. ونحن نسوق هنا أدلة على أن أحمد اسم للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ـ[الأحاديث]ـ: 1 - روى ابن سعد في الطبقات الكبرى: عن أبي جعفر محمد بن علي قال: أمرت آمنة وهي حامل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسميه أحمد. 2 - وكذلك روى مر فوعا: ¬

(¬1) ... أو نقطة واحدة من الشريعة حتى يتم كل شئ. [ص:12] الطبعة المذكورة.

عن محمد بن علي يعني ابن الحنفيه أنه سمع علي بن أبي طالب عليه السلام يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سميت أحمد ". 3 - وروى البيهقي في الخصائص الكبرى: عن ابن عباس قال قدم الجارود بن عبد الله فأسلم وقال والذي بعثك بالحق لقد وجدت وصفك في الإنجيل ولقد بشر بك ابن البتول. 4 - وروى ابن سعد في الطبقات الكبرى: عن سهل مولى عتيبة أنه كان نصرانيا من أهل مريس وكان يقرأ الإنجيل فذكر أن صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإنجيل وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد. ". 5 - وروى مسلم في صحيحه: عن جبير بن مطعم عن أبيه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي محا الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب الذي لا نبي بعدي ". 6 - وقد روى البخاري هذه الرواية في صحيحه أيضا. ينبغي لنا أن نتدبر حديث الصحيحين فقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى الماحي والحاشر والعاقب ولم يذكر معنى أحمد ومحمد وبذلك ثبت أن محمدا وأحمد اسمان ذاتيان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان واحد منهما اسما وصفيا له لذكر معناه مثل ما ذكر معنى الماحي والحاشر والعاقب. ـ[الشعر]ـ: إن الاستشهاد بشعر العرب الموثوق به في واقعة هو أمر يقيني عند أئمة التاريخ كما يعتبر أئمة اللغة الاستشهاد بشعر القدماء أمرا قطعيا في استعمال كلمة من الكلمات. ـ[الف - ما قيل من شعر قبل ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -]ـ: 1 - كان تبع الوارد اسمه في القرآن ملكا من ملوك اليمن حارب الأوس والخزرج واليهود في يثرب فكان أهل يثرب يحاربونه نهارا ويضيفونه ليلا. فلما مضت على ذلك ثلاث ليال ندم تبع وطلب منهم الهدنة فحكموا أجيحة بن الحلاج الأوسي وبنيامين

القرظي لعقد معاهدة الصلح. فقال أجيحة لتبع: لم حاربتنا ونحن من قومك (¬1) وأضاف بنيامين اليهودي: وأنت لا تستطيع أن تفتح هذا البلد فقال تبع: لماذا؟ قال بنيامين: هذا البلد مهبط بني قريش. فأنشد تبع الأبيات التالية: ألقى إلي نصيحة كي أزدجر ... عن قرية محجورة بمحمد ثم قال هذه الأبيات: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله بارئ النسم فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم وقال التلمساني بثبوت هذه الأبيات بالتواتر (¬2). 2 - كان قس بن ساعدة الإيادي أسقف نجران ومن حكماء العرب ومن شعره: الحمد لله الذي ... لم يخلق الخلق عبث أرسل فينا أحمد ... خير نبي قد بعث لم نحينا منه سدى ... من بعد عيش واكترث صلى عليه الله ما ... حج له ركب وحث. ـ[ب - ما قيل من شعر في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -]ـ: 1 - قال حسان بن ثابت المؤيد بروح القدس يصف النبي - صلى الله عليه وسلم -: متى يبد في الليل البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد فمن كان أو من قد يكون كأحمد ... نظام لحق أو نكالا لملحد هذه الأبيات موجودة في ديوان حسان بن ثابت رضي الله عنه. وقد حكى ابن عبد البر شهادة عائشة بهذه الأبيات في كتابه الاستيعاب، فقال: أنشدتها عائشة وقالت: كان والله كما قال فيه شاعره. 2 - كان كعب بن مالك الأنصاري من صفوة شعراء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم في القرآن. وله شعر في غزوة أحد: ¬

(¬1) نسب الأوس والخزرج ينتهي إلى أهل اليمن. كانوا قدموا المدينة بعد سيل العرم. (¬2) لولا قول التملساني هذا في هذه الرواية لما ذكرت هنا هذه الأبيات.

غداة أجابت بأسيافها ... جميعا بنو الأوس والخزرج وأشياع أحمد إذ شايعوا ... على الحق ذي النور والمنهج 3 - وقال عن غزوة خيبر: ونحن وردنا خيبرا وفروضه ... لكل فتى عاري الأشاجع ندد يرى القتل مجدا إن أصاب شهادة ... من الله يرجوها وفوزا بأحمد ـ[ج - ما قيل من شعر بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -]ـ: 1 - قال حسان في قصيدة له طويلة: أطالت وقوفا تذرف العين جهدها ... على الطل الذي فيه أحمد فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلاد ثرى فيه الرشيد المسدد 2 - لما قالت الخوارج لعلي بأن يجدد إيمانه أمامهم ويدخل في الإسلام من جديد أنشد علي رضي الله عنه: يا شاهد الخير على فاشهد ... إني على دين النبي أحمد من شك في الله فإني مهتدي (¬1) 3 - قالت فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - ترثى والدها: صبت علي مصائب لو أنها ... صبت على الأيام صرن لياليا ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا والغرض من هذه الأدلة كلها أن اسم النبي أحمد مازال معترفا به في كل زمان: قبل ولادته وفي حياته وبعد وفاته على السواء. فكان اليهود والنصارى في جزيرة العرب واليمن ونجران والشام يعرفونه بأحمد وتربط كل طائفة انتصارها بقدومه. وكذلك كان الصفوة من شعرائه وأقربائه ينادونه بأحمد في حياته وبعد موته. سبق أن ذكرت إن أحدا لم يسم قبل ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحمد لا في جزيرة العرب ولا في بلد آخر تكلم أهله بالعربية. أي أن الله صان بشارة عيسى بمحمد طوال مدة ستمائة ¬

(¬1) مأخوذ من كتاب الكامل لأبي العباس المبرد.

سنة إلا خمسا وعشرين فلم يسم أحد بهذا الاسم خلال هذه الفترة الطويلة. ونريد الآن أن نبين مدى استعمال هذا الاسم الميمون تبركا في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته. ولما ارتفع شرط " من بعدي " بقدوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وزالت مظنة الالتباس ولم يبق إلا التبرك باسمه اقتضت قدرة الله أنها كما حفظته قبل ولادته، فلا يكون له سمى فكذلك شاءت أن يشيع اسمه بعد وفاته ويثبت كل من سمى باسمه ظهور المبشر بهذا الاسم وصدق بشارة عيسى عليه السلام في هذه الدنيا. ولذلك أريد أن أثبت هنا قائمة تشتمل على من سموا باسم أحمد في الإسلام من المحدثين والمفسرين والفقهاء والعلماء والملوك والأمراء. ولو ذهبنا نستوعب هذه الأسماء لاحتجنا إلى كتاب مستقل بذلك ولذا نذكر هنا من هذه الأسماء ما يوافق عدد اسم أحمد بحساب الجمل وهو 53 (¬1). ـ[الأئمة المحدثون وعددهم 10]ـ: 1 - أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الله إمام أهل السنة والجماعة وأحد الأئمة الأربعة رحمهم الله. 2 - أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي. 3 - أحمد بن علي بن شعيب بن علي بن سنان (أبو عبد الرحمن الإمام النسائي). 4 - أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري المفسر المعروف بأبي إسحاق الثعلبي. 5 - أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الأصفهاني (الحافظ أبو نعيم). 6 - أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي (أبو الحسن رحمه الله). 7 - أحمد بن عدي بن ثابت بن أحمد الحافظ أبو بكر المعروف بالخطيب البغدادي. 8 - أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد سلفة الأصفهاني (الحافظ أبو طاهر). 9 - أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهمداني أبو الفضل الحافظ المعروف ببديع الزمان. 10 - أحمد بن عبد الحليم بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني الدمشقي شيخ الإسلام ابن تيمية أبو العباس. ¬

(¬1) 1=1+ح=8+م=40+ د=4 المجموع=53.

ـ[الفقهاء المحققون وعددهم 19]ـ: 11 - أحمد بن عمرو بن شريح (أبو العباس رحمه الله). 12 - أحمد بن أبي أحمد المعروف بابن القاص الطبري الفقيه (أبو العباس). 13 - أحمد بن عامر بن بشير بن حامد المروزي القاضي أبو حامد. 14 - أحمد بن محمد بن أحمد المعروف بابن القحطان البغدادي (أبو الحسين). 15 - أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك الأزدي الطحاوي (أبو جعفر). 16 - أحمد بن أبي طاهر محمد بن الأصغر الأميني (الشيخ أبو حامد). 17 - أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم الضبي المحاملي. 18 - أحمد بن محمد بن جعفر أبو الحسين المعروف بالقدوري. 19 - أحمد بن أبي داود فرح بن جرير الأيادي القاضي (أبو عبد الله). 20 - أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الهروي القاشاني (أبو عبيد). 21 - أحمد بن علي بن محمد الوكيل أبو الفتح المعروف بابن البرهان. 22 - أحمد بن محمد بن المظفر الخواني (أبو المظفر). 23 - أحمد بن موسى بن يونس بن محمد الأرملي (أبو الفضل شرف الدين). 24 - أحمد بن محمد بن أبي الفضل المعروف بابن الخازن أبي الفضل. 25 - أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد الرازي (أبو الحسين). 26 - أحمد بن محمد الحسين أبو بكر ناصح الدين. 27 - أحمد بن منير بن أحمد الطرابلسي (أبو الحسن مهذب الدين). 28 - أحمد بن علي بن إبراهيم الغساني الأسواتي (القاضي الرشيد). 29 - أحمد بن عبد الغني بن أحمد اللخمي المالكي (أبو العباس). ـ[أهل التقوى والعرفان وعددهم 4]ـ: 30 - أحمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي (أبو الفتح أخو الإمام الغزالي).

31 - أحمد السرهندي الشيخ الإمام مجدد الألف الثاني الفاروقي. 32 - أحمد المشهور بشاه ولي الله المحدث بن شاه عبد الرحيم (الفقيه الدهلوي). 33 - أحمد البريلوي السيد الإمام المجاهد في سبيل الله. ـ[الوزراء والأمراء وعددهم 6]ـ: 34 - أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن سهل الكاتب أبو العباس صاحب كتاب الخراج. 35 - أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي أبو الجلاء الموي. 36 - أحمد بن عبد الملك الأشجعي الأندلسي ذو الوزارتين الأعلى. 37 - أحمد بن هارون الرشيد بن المهدي الهاشمي (أبو العباس). 38 - أحمد بن طولون صاحب الديار المصرية (أبو العباس). 39 - أحمد بن المستنصر بن الظاهر (أبو القاسم). ـ[الشعراء والأدباء وعددهم 12]ـ: 40 - أحمد بن الحسين بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي الكوفي أبو الطيب المتنبي. 41 - أحمد بن محمد الدارمي المصفى المعروف بالنامي (أبو العباس). 42 - أحمد بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الطباطبا. 43 - أحمد بن محمد الأنطاكي (أبو حامد الشاعر). 44 - أحمد بن جعفر بن موسى البرمكي النديم. 45 - أحمد بن محمد بن العاصي بن محمد الأندلسي (أبو عمرو). 46 - أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب المخزومي الأندلسي القرطبي (أبو الوليد). 47 - أحمد بن محمد الخولاني الأندلسي المعروف بابن الآبار. 48 - أحمد بن يوسف السليكي (أبو نصر). 49 - أحمد بن محمد بن علي الثعلبي الدمشقي (أبو عبد الله).

50 - أحمد بن محمد بن أحمد الميداني النيسابوري (أبو الفضل). 51 - أحمد بن عبد الله بن أحمد اللخمي القاسمي (أبو العباس). 52 - أحمد بن علي بن أحمد بن إلهي (أبو العباس). ـ[النحاة وعددهم 2]ـ: 53 - أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس المرادي المصري (أبو جعفر). 54 - أحمد بن بكر بن بقية العبدي (أبو طالب). وبعد: فإن كل ما ذكرناه إلى الآن كان بيانا لفضيلة خاتم النبين مع بيان فضيلة الأنبياء المرسلين من رب العالمين. وهنالك صفات عالية ومحامد متكاثرة اختص بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنذكرها فيما بعد إن شاء الله. وقبل أن نختم هذا الباب نعالج هنا بحثا وجيزا حول آية قرآنية على أمل أن يجده القراء مناسبا لهذا الباب. قال تعالى يخاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ... وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} (سورة الأحزاب: 45، 46). ـ[شاهدا]ـ وصف القرآن الكريم محمدا - صلى الله عليه وسلم - مرة بالشاهد ومرة بالشهيد. تدبروا الآيات التالية: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} (سورة الأحزاب: 45). {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} (سورة الفتح: 8). {وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم} (سورة الحج: 78). {ويكون الرسول عليكم شهيدا} (سورة البقرة: 143). {وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} (سورة النساء: 41).

الشهادة تعني الإخبار بحقيقة الأمر وإقناع الشخص الآخر بذلك الأمر. والشهادة التي قام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبها وصل الناس إلى درجة التيقن، كانت تتعلق بإثبات وجود الله سبحانه وتقديس ذاته وتنزيه صفاته، وسلسلة الوحي والنبوة وبيان الأعمال وما يترتب عليها من الثواب والعقاب وبيان حقيقة الثواب والعقاب، وإثبات وجود عالم المعاد والأرواح وعالم الغيب، فهذه كلها أمور بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضوح، وكمال علم، ودلائل دامغة، وبراهن قاطعة. وجعل بقوله وعمله قلوب الملحدين والمنكرين والماديين، تؤمن بصدقها، وكان ذلك نصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده، ومن المعروف أن القدرة الإلهية والحكمة الربانية استشهداه أمام العالم. والحقيقة أن قلة الشهداء وكثرتهم لا تؤثر شيئا على ثبوت أمر أو نفيه. إذ أن ما يدعم الشهادة ويوصلها إلى درجة الصدق هو كون الشاهد ثقة وصادقا أمينا، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصدق والأمانة لدرجة أن الكفار حين سألوا أبا بكر رضي الله عنه عما حمله على أن يؤمن بمحمد رسولا؟ قال أبو بكر يرد عليهم: ليست هاتان الشفتان لكاذب. وكذلك قال هرقل مجيبا على أبي سفيان: إن الرجل الذي لم يكذب على الخلق لا يمكن أن يكذب على الله. وكان أبو جهل العدو اللدود قد قال: يا محمد! لا أظنك كاذبا ولكن قلبي لا يطمئن لما تقول. فسواء قبل الناس الشهادة أو لم يقبلوا لم يطعن أحدهم في صدق وأمانة الشاهد، واعتبروا أن النيل من شأنه والطعن في صدقه يرد عليهم شماتة وذلا. عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الشهادة على الجبال والوديان، وملأ ما بين السماء والأرض ابتداء بأشهد أن لا إله إلا الله، وانتزع من عقول الناس وأذهانهم الشكوك والشبهات والظنون الفاسدة. ياله من شاهد جاء بشهادة عظيمة، ونطق بها، فنطق بها الناس معه، من عجم وعرب، في شرق وفي غرب. ولم يقف الشاهد عند هذا الحد بل استمر في تبليغها حتى جعل الألوف المؤلفة من الناس يشعرون بواجبهم الذي أوجبه الله عليهم بقوله: {وتكونوا شهداء على الناس} وجعل الأسود والأحمر، والعبيد والملوك يلتزمون بقول الله: {كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} وارتحل من هذه الدنيا وقد شهد بصدقه آلاف من شهداء الغيب، واستنارت بنور شهادته البلاد والشعوب والجزر والوديان على السواء. وقال لهم جميعا وهو في آخر عهده بالدنيا:

" أنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ " قالوا: بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: " اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد". إن النفوس تتهالك على مثل هذا الشاهد الذي جاء وحيدا بالشهادة في هذه الدنيا وارتحل منها وحوله جم غفير، وجمع حاشد من الشهداء على الناس. والحقيقة أن الله وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشاهد والشهيد فاطلع الدنيا كلها على ميزة سامية للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ـ[مبشرا ونذيرا]ـ والصفة الثانية هي " مبشرا ونذيرا ". تصفحوا القرآن كله ولن تجدوا بين آياته نبيا من الأنبياء وردت في شأنه هاتان الكلمتان. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد وصف تارة بأنه بشير ونذير وتارة أخرى بأنه مبشر ومنذر. وهاتان الصفتان من أهم صفاته وهما تدلان على علو مرتبته من النبوة لأنهما خاصتان به دون غيره من الأنبياء. وقد بشر الله المؤمنين {بأن لهم من الله فضلا كبيرا} (سورة الأحزاب: 47). وقال: {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} (سورة يونس: 64). وقال: {فبشر عباد ... الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} (سورة الزمر: 17 - 18). هذه كلها بشارات روحية وخلقية حث الله عليها المؤمنين وأعدهم لها. إن الإنذار معناه التخويف. ولكن التخويف لا يؤدي ما للإنذار من معنى بل قد يغير معناه تماما. فالإنذار هو التحذير من شر يصيب المرء في مستقبله. وكان الأنبياء يحذرون قومهم من العواقب الوخيمة المترتبة على أعمالهم السيئة، وينبهونهم على سوء مصيرهم. إن صفة الإنذار تنشأ عن احتراق الفؤاد والتعاطف وتنمو وتترعرع بالرحمة والتقوى، وتزدهر وتنتشر بحب الجنس البشري. وحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - تدل على أنه كملت فيه هذه الصفات كلها، ومن هنا كان من الطبيعي أن ينبه القوم الضالين على ضلالهم ويحذرهم

من أخطاره. ورد في الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها فجعل الرجل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يقتحمون فيها " البخاري (7/ 176). ـ[داعيا إلى الله بإذنه]ـ بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته إلى الله بنشاط مكثف وبلغ بها إلى قمة النجاح وهذا نصيبه من عند الله. الف - انظروا إلى خطبته التي ألقاها على جبل الصفا مخاطبا العرب بقوله " يا آل فهر ويا آل غالب ". ب - وتصوروا تلك الخلوة التي كان يعلم فيها الناس سرا في دار الأرقم بن أبي الأرقم في ظل سفح الجبل بعيدا عن مكة. ج - وتذكروا الطائف حيث اختضب نعلاه بالدماء وهو يمضي في سبيل الدعوة إلى الله. د - وألقوا بنظرة على موسم عكاظ حيث كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينادي " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، وأبو لهب الظالم الشقي يمشي وراءه يؤذيه بألفاظ سيئة. هـ - وتصوروا شعب العقبة ساد فيه الظلام ولا يرضى مسافر من أن يقيم به خوفا من الأخطار، ولكن قافلة يثرب اضطرت إلى النزول به خوفا من صعوبة الطريق وأخطاره. فاتجه إليها الرسول الداعي - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا الظلام، وحيدا منفردا آملا أن يجد منهم من يصغى إلى دعوته. و- وأجيلوا بصركم في وادي جبل التنعيم حيث وجد العدو الماكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحيدا نائما فأخذ سيفه وأيقظه بوقاحة وتكبر فنظر إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإذا بيده سيف مصلت يسأله من يمنعك مني يا محمد؟ وفي مثل هذه الساعة الحرجة لم ينس الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبه نحو الدعوة إلى الله بل عرض عليه ذلك الاسم المبارك الذي يزيل عند سماعه الحجب

الكثيفة عن قلب المرء الغافل ويبعث في القلب الميت الحياة من جديد. ز - وسيروا في طريق الهجرة، رحلة تبلغ مئات الأميال ... ناقتان تسيران في الجبال الوعرة والمفازة القاحلة الجرداء من غير توقف، ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - مخلصان ووفى، وهم في خوف كل حين من أن يدركهم العدو وهذا الخوف يدفعهم إلى الأمام بخطى حثيثة. ومع هذا كله لم ينس الرسول - صلى الله عليه وسلم - فريضة الدعوة إلى الله فأم معبد الخزاعية وسراقة بن مالك المدلجي وبريدة بن الحصيب الأسلمي وأصحابه السبعون وغيرهم ممن شربوا ماء الحياة وسط هذه الصحراء القاحلة الجدبة ووجدوا فيها معين الحياة. ح - وصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى قباء بعد معاناة ثمانية أيام بلياليها، وأتعبت هذه الرحلة الشاقة حتى الراحلة البكماء القوية، ولكن رغبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله واهتمامه بها جعله في اليوم التالي، ينشغل ببناء المسجد الذي يعلو منه كل صباح ومساء نداء "حي على الصلاة " و"حي على الفلاح " يجوب الجبال يوقظ النائمين، ويدعو للصلاة من ملأ الشوق قلوبهم، ولا يزال المسجد يجدد نداء الداعي حتى اليوم. ط - يتوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - من قباء إلى المدينة المنورة وأهلها من الرجال والنساء والشيوخ والشباب واليهود والنصارى والصابئون كبيرهم وصغيرهم جميعهم مشتاقون إلى لقائه اشتياق المؤمنين وبينا هو يسير إذ تدركه الصلاة في الطريق فيتوقف للدعوة إلى الله ويصبغ قلوب بني سليم السمحة بصبغة التقوى ويبشرهم برضوان الله عليهم. ي - وقام بنو أشهل وبنو غفار والأوس والخزرج جميعا، ففرشوا عيونهم وقلوبهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة يقولون له: بأبي وأمي بأبي وأمي إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - يتوجه إلى عبد الله بن أبي بن سلول بهدف الدعوة إلى الله، ويجلس عنده على الأرض، وهو يشمخ بأنفه، ويغطي وجهه معرضا عنه ويقول: يا محمد! قد آذيتني بغبارك وآذتني ناقتك برائحتها، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتسم ويتلو عليه القرآن ويبلغه الدعوة. ك - ويدخل ذات ليلة على الربيع بنت معوذ وكانت حديثة عهد بالزواج فيجد عندها بنات صغيرات من بنات الأنصار يغنين أشعارا حماسية بفخر وعنجهية فيلقنهن العقيدة السليمة. ل - ويقدم على ابنته فيجد ابنتها تكيد بنفسها فيأخذها في حجره ويستمر في الدعوة إلى الله وكذلك يجلس أمام نعش ابنه إبراهيم ويعلم الناس معنى سخط الله ورضاه ويضرب لهم مثلا في الاستقامة.

م - وفي مرضه الأخير أفاق قليلا، ولكنه قد بلغ من الضعف مبلغا لم يمكنه من الوقوف على قدميه إلا أنه مع ذلك يظل متحمسا للدعوة إلى الله كما كان قبلا. فيحمله عباس وعلي رضي الله عنهما إلى المسجد، لم يكن بمقدوره الصعود إلى المنبر ليكمل الدعوة إلى الله فيجلس على سلمه الأول ليكمل الدعوة إلى الله، فينصح الناس بمواعظه المودعة ويعظهم بنصائحه البليغة. ن - وفي اليوم الأخير حين لم تبق لرحلته إلى الآخرة سوى خمس ساعات. المسلمون مجتمعون في المسجد لصلاة الفجر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لشدة ضعفه وصداعه مضطجع على فراشه الذي وطىء من ليف، إلا أن فريضة الدعوة إلى الله تبعث في قلبه الحرارة، فيكشف القناع الذي كان قد ضرب بين المسجد وحجرته، ويبتسم برهة ويشاهد ذلك المنظر: وقوف مئات المسلمين لعبادة إله واحد، بقلب واحد، ووجهة واحدة، ونداء واحد. ثم يتقدم إليهم متهاديا ويضرب لهم آخر مرة مثلا منيرا للدعوة إلى الله. س - في آخر لحظات حياته وأزواجه وبناته وأسباطه كلهم مجتمعون في حجرة ضيقة لا تسع أكثر من عشرة رجال. في مثل هذه اللحظات يردد لسانه الدعوة إلى الله والترحم بالعباد فيقول: " الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم ". ع - يلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنفاسه الأخيرة فيرفع بصره إلى السماء، ثم ينطق بالاسم الطاهر الذي استمر طوال حياته يدعو إليه الناس. ويطبق عينيه عن الدنيا الفانية وهو يقول: " اللهم الرفيق الأعلى ". إن التاريخ البشري عاجز عن الإتيان برجل قضى كل لحظة من لحظات حياته في الدعوة إلى الله، ولذا فإن الخطاب الرباني له " داعيا إلى الله " إنما هو خاص به وحده - صلى الله عليه وسلم - ولهذا السبب عرف الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصفة. ـ[سراجا منيرا]ـ وصف الله الشمس بالسراج في سورة الفرقان وسورة نوح وفي سورة النبأ وصفها بالسراج الوهاج. أما السراج المنير فلم يستعمل لأحد سوى النبي - صلى الله عليه وسلم -. إن للشمس شأنا في النظام الشمسي، لأنها هي مركز الدائرة الذي تدور حوله

جميع الأجرام الموجودة في هذا النظام، كما أن لهذا العالم المادي حاجة كبيرة إلى الشمس، فإن لضوء حرارتها تأثيرا بالغا على وجود كل شيء ونموه. هذه هي شمس العالم المادي وها هو الله قد أرانا شمس العالم الروحي في نوره (¬1) ووصف لنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه " سراج منير ". ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مدار أعظم، تدور حوله نجوم سماء النبوة، والصلة الأولى لدوام عالم الشريعة وبقائها - صلى الله عليه وسلم - على نبيه. إن الشمس تبدد ظلام الليل، وكذا السراج المنير قد بدد ظلمات الكفر والشرك. إن ضوء الشمس يسود النجوم ويواريها، وكذا شريعة السراج المنير قد سادت جميع الشرائع وسيطرت عليها. إن ضوء الشمس يحول دون ارتكاب الجرائم، وكذا نور السراج المنير قد حال دون ارتكاب المعاصي. إن الشمس لا تنير في وقت واحد إلا وجها واحدا من الكرة الأرضية. أما السراج المنير فقد بدد بأشعته في وقت واحد ظلمات الجاهلية، وغياهب الجهل، وسواد الكفر والشرك، وحلكة العادات والتقاليد الزائفة، وعتمة التقليد الأعمى، وملأ القلوب بنور الإيمان، وأفعمها بلمعات العقيدة السليمة، وأنار الأبصار بمطالعة الكتاب المبين، وأزال الشك المظلم بالأدلة الساطعة، وأباد الظنون الحالكة بالبراهين القاطعة. واستطاع كل إنسان من خلال هذا النور أن يعرف حقيقة الأشياء ويدرك به كوامن النفس، والذين كانوا قد نسوا حقيقة الإنسانية، أصبحوا الآن كما قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وأولئك الذين كانوا قد ضلوا الطريق أصبحوا الآن هداة على الطريق. إن الخفافيش لا تبصر إلا في الظلام، وكذا شأن الأشقياء، الذين لا يطيقون الأنوار المحمدية ولا يستنيرون بالرسالة النبوية. أما المؤمنون الصادقون فإنهم يضحون بأرواحهم في سبيل هذا السراج الرباني. ¬

(¬1) النور هو أيضا اسم من أسماء القرآن.

الباب الحادي عشر

الباب الحادي عشر (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} •---------------------------------• حين جعلت هذه الآية: عنوانا لهذا الباب رأيت من الواجب أن أراجع القرآن الكريم وأنظر ما هي الأشياء أو من هم الأشخاص الذين وردت في حقهم كلمة " العالمين "؟ وقد وجدتها في الآيات التالية: 1 - {إن هو إلا ذكرى للعالمين} (سورة الأنعام: 90). 2 - {إن هو إلا ذكرى للعالمين} (سورة يوسف: 104)، (سورة ص: 87). 3 - {وما هو إلا ذكر للعالمين} (سورة القلم: 52). 4 - {إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} (سورة الأنبياء: 71). 5 - {إن أول بيت وضع للنالم! للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين} (سورة آل عمران: 96). 6 - {فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين} (سورة العنكبوت: 15). 7 - {وجعلناها وابنها آية للعالمين} (سورة الأنبياء: 91). 8 - {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}. (سورة الروم: 22). إذا تدبرنا هذه الآيات ظهر لنا أن الآيات الثلاث الأولى ورد فيها القرآن بمعنى" ذكر للعالمين " ومما لا يختلف فيه اثنان أنه كلام الله الذي هو ذكر للعالمين جميعا. وقد اشتق اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا من هذا المصدر قال تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر} (سورة الغاشية: 21). وفي الآيتين الرابعة والخامسة ورد لفظ البركة أما في الآية الرابعة فقد وردت في بيت المقدس وفي الآية الخامسة وردت في البيت الحرام. والمسلمون يحترمون هذين

المسجدين كما أمرهم القرآن بذلك. وبما أن لفظ البركة يشملها جميعا، ولفظ الهدى خاص بالمسجد الحرام فقط فالمسجد الحرام أرفع درجة من بيت المقدس. وفي الآيات السادسة والسابعة والثامنة ورد لفظ آية ويختلف مصداق لفظ آية في كل من الآيات. في الآية السادسة لسفينة نوح أو أصحاب السفينة آية. وفي الآية السابعة مريم وابنها آية. وفي الآية الثامنة اختلاف الألوان والألسنة آية. وخلاصة ذلك كله: أن ذكر للعالمين فقط القرآن الكريم. وأن مبارك للعالمين: بيت المقدس وبيت الحرام. وأن آيات للعالمين يندرج تحتها: سفينة نوح، وأصحاب السفينة، ومريم، وابنها، واختلاف الألوان والألسنة للأمم. أما لفظ الرحمة فقد استعمل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحده ولم يستعمل لأحد غيره. ونرى أن الله تعالى يقول: {ورحمتي وسعت كل شيء} (سورة الأعراف: 156). فلما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين جميعا ثبت أن نبوته أيضا تشمل العالمين جميعا. واعلموا أنه لا يتصف برحمة للعالمين إلا ذلك الوجود الطاهر الذي بذل حياته المقدسة في سبيل إسعاد العالم بل العالمين، وفي سبيل رخائهم وفلاحهم، وخيرهم وصلاحهم، ونهوضهم ورقيهم لا يريد به عوضا ولا يبغى به بدلا. والذي وصل العباد بربهم. والذي طهر القلوب ونور الأرواح وصحح العقول ومهد الطبائع. والذي عززت تعاليمه السلام العالمي، ووطدت توجيهاته المصلحة العامة.

والذي وجه الإنسان في كل مرحلة من مراحله في فقره وغناه، وشبابه وهرمه، وحربه وسلمه وخوفه ورجائه، ورقه وسيادته، وطربه وورعه، وفرحه وترحه. والذي عرف الخلق بخالقهم، في علو السماء، وحضيض الأرض، وظلام الليل، وضوء النهار وأشعة الشمس، وتلألأ اليراعة، وتناثر الذرات، وطراوة القطرات. والذي جعلت تعاليمه السامية من الوحوش حيوانات أليفة، ومن الذئاب رعاة، وقاطعي الطريق قادة، والعبيد ملوكا، والملوك إخوانا ناصحين، والذي فجر ينابيع العلوم والمعارف في الصحراء القاحلة الجرداء. والذي جعل الطماعين الحريصين يؤثرون على أنفسهم في سبيل الله قومهم ووطنهم. والذي جعل أعداءه أفلاذ كبده، وهو محب الفقير، ورفيق المسكين، وتاج الملوك، وقائد القادة، ومحسن العبيد، ومعين الأيتام، ومأوى البائسين، وملجأ الشاردين، ودواء المنكوبين، وناصح الناصرين، ومؤيد المساواة، ومؤسس الأخوة، ومقدر الحب، وطالب الإخلاص، ومنبع الصدق، ومعدن الصبر، وقدوة التواضع، ومظهر الرحمة، وآخر الرسل. فالذي يجمع بين هذه الصفات كلها إن لم يلقب برحمة للعالمين فبأي شيء يلقب إذن؟ ألا إن رحمة للعالمين هو الذي قرب البلاد، وألف الشعوب وقضى على اختلاف الألوان والألسنة وملأ القلوب بعاطفة واحدة، والعقول بفكرة واحدة، وأنطق الألسنة بكلمة واحدة. ألا إن رحمة للعالمين هو الذي لا يجعل النبي " لاوي " وسيلة لقبول النذور مثل اليهود. ولا يعطي مفاتيح السماوات إلى رجل واحد مثل المجوس. ولا يمنح البراهمة حق إدخال الروح في الجنة أو النار. ولا يجعل أهل أرض خاصة أبناء ملكوت السماوات.

ولا يخصص رجال أسرة باصطفائهم عند الله. ولا يغلق أبواب الرحمة والفضل دون غيره مثل اليهود والنصارى والزرادشتية والبراهمة والجينيين والبوذيين. ألا إن رحمة للعالمين هو الذي يربط العبد بربه ويرشده إلى قوله {ادعوني أستجب لكم} ولا يجعل هناك واسطة بين العبد والرب. ألا إن رحمة للعالمين هو الذي يجلس جنبا إلى جنب مع عداس النينوائي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وضماد الأزدي، وطفيل الدوسي، وذو الكلاع الحميري، وعدي الطائي، وأثامة النجدي، وأبو سفيان الأموي، وأبو ذر الغفاري، وأبو عامر الأشعري، وكرز الفهري وأبو حارث المصطلقي، وسراقة المدلجي، وهل شوهد حول أحد هذا الجمع الحاشد الذي يضم شعوبا وقادة مختلفين، كل امرئ منهم يمثل بلده وقومه، ويملأ جيبه بالأزهار، بقدر سعة قلبه، ويعطر بها أنفاس بلاده. ألا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - "رحمة للعالمين" هو الذي يوجد بحضرته عثمان بن طلحة الذي احتل مكانة سامية بين العرب لتوليه مفاتيح الكعبة، مثل ما يكرم سادن كنيسة روما لتوليه مفاتيح السماء بزعمهم، ويوجد بحضرته عبد الله بن سلام أيضا الذي ينتهي نسبه إلى يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وإذا نظرت إلى وجاهته القومية وجدت أطفال بني قريظة وبني قينقاع وبني النضير وخيبر وفدك تقول إنه خيرنا وابن خيرنا. وإذا أردت أن تعرف فضيلته العلمية وعظمته القيادية فاعلم أن الربيين والأحبار كانوا يصفونه بسيدنا وابن سيدنا. فهذا هو الرجل العظيم يعتز ويفرح ويفتخر بجلوسه على عتبة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويوجد بحضرته صرامة بن أنس أيضا، وكان عالما بصحف الأنبياء، زار سوربا والقدس مرارا، درس التوراة والإنجيل باللغات القديمة، وكان معظما عند هرقل ملك الروم، معترفا بعظمته عند النجاشي ملك الحبشة، فكأنه أكبر أساقفة نصارى الحجاز، ولكنه يردد الآن قول الله تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول} ويستغرق في لذة التوحيد الخالص. ويوجد في حضرته آيضا سلمان الفارسي وهو بكر رجل من كبار أهل فارس، فارق المجوسية واعتنق المسيحمة الكاثوليكية، ولما لم يطمئن لها قلبه خرج باحثا عن الدين

الحق، ولم يزل يتنقل من الشام إلى العراق، ومن العراق إلى الحجاز، والآن جعل من روحه وقلبه فداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا سأله أحد عن اسم أبيه قال: سلمان بن إسلام بن إسلام ابن إسلام سبعين مرة. ويوجد بحضرته خالد بن الوليد الذي أبلى البلاء الحسن في تأييد الوثنية، ونصرة الأصنام وهزم الجيش الإسلامي يوم أحد، وكان ينبغي أن يزيده الفتح والغلبة كبرا ورعونة، لكن تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، فتح قلب هذا الفاتح، فيلجأ إليه بنفسه، ويطلب منه أن يهدم اللات والعزى. ويقدم إلى حضرته كتاب ملك الحبشة يريد أن يتنازل عن سلطنته ويحضر إليه. ويوجد أيضا ذو البجادين الذي فارق أهله وبيته وعليه كساء من صوف، وقميص مخيط من أشواك السمرة يبدو من فرط شوقه وسروره أنه أعظم من أي ملك. ألا إن رحمة للعالمين هو الذي يعاهد اليهود الأمة المخذولة المقهورة بهذه الألفاظ: الف - " أن يعود بني عوف أمة مع المؤمنين " ب - " وأن بينهم النصر على من حارب ". ج - " وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم " د - " وأن بطانة يهود كأنفسهم " هـ - " وأن النصر للمظلوم " (¬1). إن رحمة للعالمين هو الذي يعاهد النصارى المنهزمين دافعي الجزية بهذه الألفاظ: 1 - " لنجران جوار الله وذمة محمد النبي على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وتبعهم ". 2 - " وأن لا يغيروا لما كانوا عليه ". 3 - " ولا يغير حق من حقوقهم " 4 - " ولا يغير كل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير (¬2). ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 178). (¬2) فتوح البلدان للبلاذري.

إن رحمة للعالمين هو الذي يصرح للكافرين بقوله: {لكم دينكم ولي دين} (سورة الكافرون: 6). إن رحمة للعالمين هو الذي يعلم الدنيا كلها مبدأ دينيا وهو: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (سورة البقرة: 256). ثم يظهر مكانته في ذلك بصراحة: {ما على الرسول إلا البلاغ} (سورة المائدة: 99). إن رحمة للعالمين هو الذي يعلم البر بالناس والمعاملة الحسنة معهم فيقول: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} (سورة المتحنة: 8). إن رحية للعالمين هو الذي يعلم السلوك الحسن تجاه العدو فيقول: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (سورة فصلت: 34). إن رحمة للعالمين هو الذي يأمرنا بالتخلي عن عواطف العداوة والبغضاء في أمور العدل وبالقيام بالعدل فيقول: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (سورة المائدة: 8). ويقول: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب} (سورة المائدة: 2). إن رحمة للعالمين هو الذي حث الناس على الشهادة فقال: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} (سورة المائدة: 8). إن العدل يقوم على الشهادة لذا كرر تعليم الشهادة بهذه الألفاظ: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين

والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} (سورة النساء: 135). إن رحمة للعالمين هو الذي يعلم كل رجل كيف يعامل زوجته: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (سورة الروم: 21). إن رحمة للعالمين هو الذي جعل الرابطة الزوجية رابطة طاهرة فبشرهما بأن يكونا معا وقت دخول الجنة. {ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون} (سورة الزخرف: 70). إن رحمة للعالمين هو الذي بين حقوق الزوجن فقال: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} (سورة البقرة: 228). ثم أوضح قوامة الرجل فقال: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} (سورة النساء: 34). إن رحمة للعالمين هو الذي عرف قيمة نفس الإنسان بهذه الألفاظ: {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} (سورة المائدة: 32). إن رحمة للعالمين هو الذي أوقف الحروب الدامية وحرم الحرب من أجل بسط السيطرة أو تحقيق المطامع التوسعية أو إظهار قوة أو الثأر، وإنما جعلها آخر طريق لنصرة المظلوم، وآخر وسيلة لإنقاذ الضعفاء والبؤساء والأطفال والنساء من يد الظلم، وآخر وسيلة لإقامة العدل وإيجاد التوازن بين الأديان المختلفة، ولا يستطيع أحد مهما كان رحيما أن ينكر الحاجة إلى الحرب في سبيل هذه المبادئ، ولا يتردد رجل عادي في القول بأن هذه الحروب رحمة. واسمعوا الآن الأحكام التي بينها رحمة للعالمين حسب المبادئ المذكورة قبلا: 1 - {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ... الذين أخرجوا من

ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} (سورة الحج: 39، 40). 2 - {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} (سورة النساء: 75). هذه الأحكام تبين أن الإسلام اختار الحرب لا رغبة في السيطرة ولا طموحا إلى السلطان بل لتخليص المستضعفين من النساء والولدان من براثن الظلم والطغيان، واختارها لا لإكراه الناس على قبول الإسلام، بل لصيانة الصوامع والبيع والصلوات من أن تهدم. وهل جاء في كتاب مقدس لدين من الأديان ما ينص على أن قوما حاربوا لأجل حماية الأديان الأخرى وإقامة معابدها؟ إذا كان الجواب بالنفي - ونحن نثق بذلك - فلابد من الاعتراف بأن الرأفة التي اتصف بها رحمة للعالمين هي التي جعلت للحرب غاية نبيلة لا ينكرها دين من الأديان. وقد أوجب رحمة للعالين في حالة الحرب أن تكون مدة الإنذار الأخير طويلة حتى يتم فيها التفاهم وينجلي خطر الحرب. ففي القرآن الكريم: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} (سورة التوبة: 2). وهذه الفرصة التي أتيحت قبل الحرب ما هي إلا رحمة وقد استثنى الله أشياء بعد نشوب الحرب أيضا فقال: ألف - {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} (سورة النساء: 90). ب - {أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم} (سورة انساء: 90) فهؤلاء مستثنون من القتال وقد صرح القرآن بذلك: {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} (سورة النساء: 90). فانظروا كيف توضح هذه الأحكام أن هذه الحروب لا تقوم على إكراه الناس على قبول الإسلام. وإذا فكرتم وجدتم أن هناك قوما ذميين ليسوا من المسلمين، فلو كانوا مسلمين لما

جاء قوله بينكم وبينهم ميثاق، بل كانوا منهم في درجة {فإخوانكم في الدين}. ولهؤلاء القوم المعاهدين من الاحترام ما لو انضم إليهم أحد من الفريق المحارب لخرج عن حكم المحاربين، وكذلك يخرج عن حكم المحاربين من يعاهد المسلمين بالحياد، لا يتعصب للمسلمين ولا لخصومهم. فلو كانت الحرب على أساس إكراه الناس على اعتناق الإسلام لما قررت هذه المبادئ لغير المسلمين. إن رحمة للعالمين هو الذي لقن الناس دروس الأخلاق الفاضلة، والفضائل المحمودة والمحاسن الجميلة، والصفات الشاملة فيما يتعلق بالوالدين علمهم قوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} (سورة الإسراء: 24). أمرهم هنا بالطاعة والخدمة كما أمرهم بأن يدعوا لهما لأن كل إنسان يحتاج إلى رحمة الله احتياج الطفل إلى تربية أبويه. وحث على الصفح عن المخطئين فقال: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} (سورة النور: 22). إن العفو أمر يشق على الإنسان، ومن هنا أفهم الناس أنه إذا كان هو نفسه يطلب من الله العفو فما باله لا يحب أن يعفو عن غيره، فكأن الله يرشده إلى مبدأ "اصفح تصفح". وقد اختير نفس الأسلوب لبيان قبح الزنا قال تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} (سورة الإسراء: 32). إن الماجن وهو في حالته تلك قد لا يعتبر الزنا أمرا شائنا، ولكن ينبغي له أن يفكر أنه إن كان لا يكره أن يزنى بابنة غيره، ألا يكره ذلك لابنته، فإن كانت غيرته لا تسمح له بذلك، فليعلم أنه نفسه يمهد السبيل بعمله هذا لمثل هذه الفاحشة، وهذا السبيل سوف ينطلق مباشرة إلى بيته. إن رحمة للعالمين هو الذي بلغ تحريم الخمر والميسر إلى العالم كله وأوضح أن الخمر رجس من عمل الشيطان، وأنها أساس العداوة، مبعث البغضاء، ومجلب الغفلة،

ووسيلة البعد عن الله تعالى. وقد أصدر هذا الحكم في زمن كان العالم كله قد أشرب في قلبه الخمر، فأتباع بولس يرون شرب الماء بدونها حطا من شأنهم، وأهل إيران يعتبرون كأسها كأسا ملكية، وأهل الهند لا يجدون بدا من استعمالها للتقرب إلى الآلهة، وكانت معظم الطقوس الدينية والدنيوية لا تكتمل بدونها، وكان كلام الشعراء العرب لا يخلو من وصفها، لقد ظل العالم طيلة ثلاثة عشر قرنا يواجه هذا الحكم الذي جاء به الإسلام حتى كشفت الحرب العالمية الأولى (من سنة 1914 م إلى سنة 1918 م) عن حقيقته. فجورج الخامس ملك بريطانيا هو أول من كان قدوة لقومه في الإقلاع عن شرب الخمر واتبعته روسيا وإنكلترا وفرنسا في ذلك إلى حد ما. وعقدت أمريكا العزم على عدم صنع الخمر، والواقع أن تركها رحمة. إن رحمة للعالمين هو أول شخصية مباركة هدت العالم إلى هذه المسئلة، وهذا الحكم ومثله من الأحكام الواردة في الكتاب والسنة يبلغ عددها المئات. إذا أمعن القارئ النظر، علم أن جميع المسائل التي ذكرناها في هذا البحث، هي مما ينفع المسلمين وغير المسلمين على السواء، ولا يمكن لأحد أن يتصور قيام حضارة أو استمرار تمدن دون التمسك بها، ولهذا يضطر العالم إلى الاعتراف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان رحمة للعالمين بحق. إلا أن عطف النبي - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين أشد وأكبر، وهم يسعون للاستنارة بهذه الشمس أكثر فأكثر. ولهذا السبب وصفه الله بقوله {بالمؤمنين رؤف رحيم} فقد أضاف إليه صفة الرأفة مع صفة الرحمة. فهنيئا للذين يستفيضون من رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورأفته.

الباب الثاني عشر

الباب الثاني عشر حب النبي - صلى الله عليه وسلم - •---------------------------------• كثيرا ما يستعمل لفظ العشق في الغزل. ولا يخفى على الخبير بالكتاب والسنة أن هذه اللفظة لم ترد فيهما البتة (¬1). وفي القاموس: الجنون فنون والعشق من فنه يستجلبه المرء على نفسه باستحسان بعض الصور والشمائل. فلما كان العشق قسما من الجنون كان لابد أن لا يستعمل هذا اللفظ في كلام الله ورسوله ولا يعد من الفضائل الحميدة والمحاسن الجميلة. أما لفظ المحبة فلا شك أنه قد ورد في كل من الكتاب والسنة وذلك يدل على أن المحبة صفة من صفات الكمال البشري. والفرق بين المحبة والعشق أن المحبة عبارة عن رغبة طاهرة للروح وهذا الشرط غير واجب الوجود في العشق. وأما المحبوب فهو في الواقع من تجدر محبته لأجل كمالاته العالية وأما المعشوق من استحسنه إنسان ما. فالمحبوب محبوب سواء أحبه أحد أم لم يحب، ولكن المعشوق لا يكون معشوقا إلا إذا وجد. والمثل الفارسي الذي يقول " إن ليلى ينبغي أن ينظر إليها بعين المجنون (العاشق) يعبر عن نفس المعنى بأسلوب آخر. وقد ذكر بعض الناس معنى المحبة فقالوا هي الشوق إلى المحبوب. وذكر بعضهم أنها إيثار للمحبوب وقال بعضهم "هي مواطأة القلب لمراد المحبوب "، والحب عندي هو ما ذكرته أولا، وهذه المعاني إشارة إلى ثمرات المحبة فقط. إن الحب صفة نورانية للروح البشرية وجدت فيها قبل حلولها في جسم الإنسان. وإلى هذا المعنى يشير قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الأرواح جنود مجندة ". ومدارج المحبة تتوقف على مدارج المحبوب فالمحبة ترتفع درجتها بارتفاع درجة المحبوب وتشتد رغبتها فيه بقدر معرفتها له. ¬

(¬1) ولا يحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفظ العشق في حديث صحيح البتة. (زاد المعاد ج 2) - وليعلم أن حديث من عشق فعف فمات فهو شهيد أو حديث من عشق وكتم وعف وصبر الخ ليس بصحيح. فقد ذكرهما ابن الجوزي في الموضوعات ولم يرو هذين الحديثين إلا سويد بن سعيد وقد طعن فيه أئمة الحديث.

{يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} (سورة البقرة: 165). وليعلم أن هدفي بل وهدف جميع العلماء من تأليف السيرة النبوية هو أن ينال قلب القارئ الإيمان، وينال فؤاده اليقين وتنال روحه الراحة، وصدره الإنشراح. وأن يفوز بعبق الحب الطاهر الذي كان قد تجمد لغثاء العلائق، أو تعثر أمام صخور الجهل، فينطلق كالنافورة عاليا ضاربا الأمواج مطاولا السماء رفعة. إن الحب يدفع اليأس بعيدا ويواجه المصائب بسرور، وهو حياة للقلب ونجاح للحياة، به يتكلل الفوز بالبقاء، ثم يتبوأ هذا البقاء عرش الارتقاء. إن الحب صفة قال عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " المرء مع من أحب " (¬1). ذكرنا آنفا أن المحبة تقوم على أساس فضيلة سامية. فمئات الألوف من الناس يحبون حاتما الطائي، لا لأنهم قد وجدوا من ماله نصيبا بل لأنهم يحبون فيه صفة الجود والسخاء. ومئات الألوف من الناس يحبون أنوشيروان العادل، لا لأنه قد أغاثهم في مظلمة أو حكم لهم في قضية، بل لأنهم يحبون فيه صفة العدل والإغاثة. ومئات الألوف من الناس يتحمسون لقراءة قصص رستم وأسفنديار وينتشون لسماعها، لا لأنهم شاركوهم انتصاراتهم بل لأنهم يحبون فيهم صفة الفتوة والشجاعة. وعشرات الناس يذكرون سقراط وأفلاطون بحب وحنين، لا لأنهم تلقوا دروسا في مدرستهما الخاصة التي لم تزل أبوابها مغلقة دون عامة الناس، بل لأنهم يقدرون العلم، ويحبون الحكمة. وعشرات الناس يبذلون أقصى قدرتهم الكلامية لبيان فصاحة شكسبير وهومر والفردوسي والسعدي والمتنبي وبياس ووالميك ووصف بلاغتهم، لا لأن لهم فضلا في نشر صيتهم بل لأنهم يشتاقون إلى الاطلاع على أسرار الطبيعة البشرية، فيحبون الثناء على كل من يتصل بهذا الفن. أما الشخصية التي نتحدث هنا عن حبها فهي عظيمة ولكم أن تتصوروا قدر عظمتها هنا: ¬

(¬1) أخرجه البخاري عن أبي موسى في باب علامة الحب ضمن كتاب البر والصلة.

فإن آدم عليه السلام كشف سر الإنابة إلى الله. وإدريس عليه السلام قام بتدريس علوم الأولين والآخرين. ونوح عليه السلام دعا قومه فأعلن لهم وأسر لهم إسرارا. وإبراهيم عليه السلام سأل ربه العفو عن المجرمين. وإسماعيل عليه السلام جعل بيت الله معظما. ويعقوب عليه السلام عاهد الله فوفى بعهده. ويوسف عليه السلام تعطف على حاسديه. وموسى عليه السلام أكرم قومه بالعز والكرامة. وهارون عليه السلام كان إماما فصيحا. ويحيى عليه السلام كان داعيا متواضعا. وداود عليه السلام جمع شمل قومه. وسليمان عليه السلام بنى لله بيتا. صلى الله عليه وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين. نعم ما أعظم تلك الشخصية التي أخبر موسى عن نزول كلام الله عليها، نعم تلك الشخصية التي وصفها عيسى بروح الحق، نعم تلك الشخصية التي خوف داود بهيبتها الأعداء، نعم تلك الشخصية التي تغنى سليمان بجمالها في بيت المقدس، وتلك الشخصية التي ملأ حبقوق بحمدها ما بين السماء والأرض، وكرم ملاكي عليه السلام بتهنئة قدومها بيت الله، ورأى يوحنا لباسها وقرأ ما كان مكتوبا من أنه " ملك الملوك وسيد السادة ". أفلا يحب من وهب نور البصيرة والفؤاد أن يفدي بمهجته مثل هذا المحبوب والمحمود والمصطفى ومحمد ويعتبر ذلك غاية شرفه وكمال فخره؟. هذا هو السر الذي كشفت عنه هذه الآية: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره} (سورة التوبة: 24)

جوده وسخاؤه

إن الحب لجميع ما ذكره الله في هذه الآية من الأشخاص والرجال مسلم وطبيعي، ولذا نرى أن الله الذي فطر الناس عليه، ما نفى الحب عن هؤلاء، بل أمرهم بأن ينزلوا الأشياء منازلها وإلا ضلوا. وهذا هو السر الذي كشفه الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه في الصحيحين: " لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". وروى ابن خزيمة في صحيحه (¬1)." لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله ". ونحن نعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بمحبوب فحسب بل حبيب أيضا يعني أن صفاته العالية وفضائله المتكاثرة، ومحاسنه الجميلة أو نعوته الرفيعة التي جعلته محب الله، ومحبوب الخلق، خالدة باقية ثابتة مستقرة. وأريد أن أقدم هنا نماذج من حسن خلقه وشرف أفعاله وأبين من يرغب عن محبة هذا الرجل عظيم الصفات. جوده وسخاؤه: 1 - بلغت غنائم يوم حنين ستة آلاف أسيرا، وأربعا وعشرين ألفا من الإبل، وأربعين ألفا من الغنم، وأربعة آلاف أوقية من الفضة. ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ منها شيئا وعاد إلى بيته كما خرج منه بالخير والبركة. 2 - وعن عائشة قالت: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء. 3 - روى معلى بن زياد عن حسن أن سائلا حضر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه وقال له الله العاطي، ثم جاء آخر وجاء ثالث فأجلسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن لدى الرسول آنذاك ما يعطيهم إياه وبينما هم جلوس إذا برجل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربع أوقيات من فضة فأعطى النبي لكل من السائلين أوقية وراح ينادي لعله يجد من يأخذ الأوقية الرابعة، لكنه لم يجد أحدا، وجاء الليل ولم ينم النبي - صلى الله عليه وسلم - وظل يصلي ثم يرقد وينهض فيصلي ثم يرقد فاستفسرت منه أم المؤمنين عما يقلقه فقال لا فسألته هل تلقى من ربه أمرا جعله هكذا قال ¬

(¬1) الزرقاني (6/ 280).

عدله

لا فقالت ولم القلق؟، عندئذ أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - الفضة قائلا: هذا ما يقلقني، خشيت أن تبقى هذه لدي وألقى وجه ربي (يأتيني الموت) (¬1). 4 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من ترك دينا فعلي ومن ترك مالا فلورثته " (¬2). 5 - وعن جابر بن عبد الله الصحابي الأنصاري قال: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط فقال " لا " (¬3). وعن هذا المعنى عبر أحد الشعراء بقوله: ما قال لا قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نعم. إذا نظرتم إلى هذه الروايات وتدبرتم معناها علمتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بحق أجود الناس بالخير. عدله: 1 - اعترف أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصفة فعن الربيع بن خثيم قال: كان يتحاكم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية قبل الإسلام (¬4). 2 - ذكرنا في البداية من هذا الكتاب الاختلاف الذي حدث بين قريش في وضع الحجر، وما يجدر هنا بالذكر هو أنهم حكموا أول داخل عليهم فإذا به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذا محمد هذا الأمين قد رضينا به (¬5). وكان ذلك قبل نبوته. كم كان يقينهم بعدله محكما حتى أظهروا رضاهم بحكمه قبل أن يحكم. 3 - سرقت فاطمة بنت الأسود، فأخذت، فكلم فيها أسامة بن زيد النبي - صلى الله عليه وسلم - فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: " أتشفع في حد من حدود الله، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". ¬

(¬1) انظر النص في أعلام النبوة [ص:155]. (¬2) أعلام النبوة [ص:155]. (¬3) أخرجه الشيخان. (¬4) كتاب الشفا (1/ 78). (¬5) الشفا (1/ 78).

شجاعته ونجدته

شجاعته ونجدته: أما النجدة فهى ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت حيث يحمد فعلها دون خوف، وأما الشجاعة فهي كمال قوة الغضب الذي يحصل لانقياده للعقل. وقد حفظت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرات الروايات التي شهدها الرواة أنفسهم تدل على هاتين الصفتين له. 1 - من ذا الذي لا يعرف عليا رضي الله عنه ومواقفه وبطولاته وهو الذي قال: إنا كنا إذا حمى البأس واحمر الحدق اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. 2 - وهذا يوم حنين أمطر فيه الأعداء المسلمين بالسهام حتى غيروا وجهة الجيش الإسلامي الذي كان يضم اثنى عشر ألف رجل. وقد سأل رجل البراء بن عازب: أفررتم يوم حنين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفر، ثم قال: لقد رأيته على بغلته البيضاء وأبو سفيان آخذ بلجامها والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أنا النبي لا كذب ". إن ركوبه على البغلة البيضاء دليل على الثبات والصمود فإن الفار إنما يحب الجواد السريع واختياره البغلة البيضاء دليل على الشجاعة فإن الناس ليختارون في الحرب ركوبا يتوارى في الغبار، ويختارون للجنود بذلك غبراء لهذا الغرض. أما ثباته في ساحة الحرب بعد فرار اثنى عشر ألف جندي دليل على بسالته. وكذلك تنويهه بالسمه ليعرفه من ليس يعرفه وترديده لهم الكلمة المثيرة لبغضهم كل ذلك لا يتأتى إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وإلى هذا تشير رواية عباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركض بغلته نحو الكفار وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة أن لا تسرع وأبو سفيان آخذ بركابه. وفي صحيح مسلم: نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بغلته. إن من غاية الشجاعة أن يتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ببغلته نحو الذين فر عنهم اثنا عشر ألف جندي ويتقدم إليهم ماشيا حين أمسك رجلان من أهل البيت بغلته وهما عمه وابن عمه. 3 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس لقد فزع أهل المدينة ليلا فانطلق أناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعا قد سبقهم إلى الصوت، وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه وهو يقول لم تراعوا لم تراعوا.

تواضعه

4 - لعل القراء يعلمون سبب لقاء بيعة العقبة الأساسي حيث اضطر ركب إلى اللجوء إلى عقبة الجبل خوفا من وحشة الطريق وظلمة الليل، فاتجه إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا الأوان يدعوهم إلى الهدى وينقذهم من الضلال. 5 - إن القيام بإعلان المبادئ السلمية أمام العالم كله، وإعلان ضلال كل المذاهب في بلاد سادها حكم سفك الدماء، وعدم الاكتراث بغضب كسرى، وقيصر، وملوك الحبشة، والقبائل العربية الضارية، كل هذا يدل على شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورباطة جأشه، مما يندر وجود نظير له في التاريخ. تواضعه: أما التواضع فكان من صفاته اللازمة، كان من تواضعه - صلى الله عليه وسلم - أن يركب البغلة والحمار، ويحمل خلفه الآخرين، وكان يعود المساكين ويجالس الفقراء ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم، وحيثما انتهى به المجلس، جلس ويجيب دعوة العبيد، ويحمل بضاعته من السوق، ويعقل البعير ويعلف ناضحه، وكان في بيته في مهنة أهله. وعن أنس رضي الله عنه قال: حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رحل رث، وعليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل عليه أكاف من ليف وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخلت السوق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشترى سراويل وقال للوزان: " زن وأرجح " وذكر القصة قال فوثب إلى يد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلها فجذب يده وقال: " هذا تفعله الأعاجم بملوكها ولست بملك إنما أنا رجل منكم ". حياؤه: 1 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه. - متفق عليه. وكان من أثر هذه الصفة أنه لا يسمي أحدا فيه عيب. 2 - روى أنس رضي الله عنه أنه كان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل به أثر صفرة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكاد يواجه أحدا بشيء يكره فلما قام قال للقوم: " لو قلتم له يدع هذه الصفرة " (¬1). ¬

(¬1) شمائل الترمذي.

شفقته ورأفته

شفقته ورأفته: روى أن أعرابيا جاءه يطلب منه شيئا فأعطاه ثم قال: " أحسنت إليك! " قال الأعرابي: لا، ولا أجملت، فغضب المسلمون، وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفوا، ثم قام ودخل منزله وأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزاده شيئا، ثم قال: "أحسنت إليك " قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك " قال: نعم. فلما كان الغد أو العشي جاء فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضى أكذلك: قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مثلي ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه، فاتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفورا فناداهم صاحبها خلوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها منكم، وأعلم، فتوجه بها بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردها حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها، واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار". 2 - ومن شفقته - صلى الله عليه وسلم - أن دعا ربه وعاهده فقال: " أيما رجل سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة وصلاة وطهورا وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة ". 3 - روى الإمام أحمد والطبراني أنه جيئ إليه برجل فقيل هذا أراد أن يقتلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لن تارع، لن تارع، ولو أردت ذلك لم تسلط علي " (¬1). العفو والكرم: أما العفو فهو ترك المؤاخذة مع تحقق الجريمة والقدرة على معاقبة المجرم. وأما الكرم فهو السخاء والسماحة. 1 - عن أنس رضي الله عنه قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد غليظ الحاشية فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه ثم قال: يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ¬

(¬1) كتاب الشفاء [ص:48].

زهده في الدنيا

" المال مال الله وأنا عبده " ثم قال: " ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي " قال: لا، قال: "لم " قال: لأنك لا تكافىء بالسيئة السيئة، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أمر: " أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر ". 2 - وجاءه زيد بن سعنة اليهودي قبل إسلامه يتقاضاه دينا عليه فجذب ثوبه عن منكبه وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له ثم قال إنكم يا بني عبد المطلب مطل فانتهره عمر وشدد له في القول والنبي - صلى الله عليه وسلم - يتبسم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنا وهو كنا إلى غير هذا منك وأحوج يا عمر تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي " ثم قال: " لقد بقي من أجله ثلاث وأمر عمر يقضيه ماله ويزيده عشررين صاعا لما روعه" فكان سبب إسلامه (¬1). 3 - وقال أنس: هبط ثمانون رجلا من التنعيم صلاة الصبح ليقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذوا فأعتقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 4 - وقال لأبي سفيان بن حرب وقد سيق إليه وهو الذي جلب إليه الأحزاب وقاتل المسلمين في أحد وغيرها فلاطفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القول وقال له: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأوصلك وأكرمك ". 5 - ومن عظيم خبره في العفو عفوه عن اليهودية (¬3) التي سمته في الشاة بعد اعترافها على الصحيح من الرواية. زهده في الدنيا: إن وقائع زهده التي سنذكرها الآن تتعلق بزمن كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحكم فيه العرب كلها، وكانت كلمته هي النافذة من البحرين إلى الحبشة، وليعلم القراء أن زهده لم يكن لاضطرار وإنما كان باختيار منه. ولم يكن لفقر، وإنما كان لرقته الروحية، فما كان يهتم بالعلائق المادية. 1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يمتلئ جوف النبي - صلى الله عليه وسلم - لا شبعا قط، ولم يبث ¬

(¬1) الشفا (63 - 64) ورواه البيهقي مفصلا. (¬2) رواه مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي. (¬3) وهي زينب بنت الحارث بن سلام وكانت وضعت السم في اللحم تريد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - واعترفت بذلك.

أخلاقه العامة

شكوى إلى أحد. وكان الفقر أحب إليه من الغنى، وإن كان ليظل جائعا يتلوى طول ليله من الجوع، فلا يمنعه صيام يومه، ولو شاء سأل ربه جميع كنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها، ولقد كنت أبكي له رحمة، مما أرى به، وأمسح بيدي على بطنه، مما به من الجوع وأقول: نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك فيقول: " ياعائشة مالي وللدنيا إخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم فأكرم ما بهم وأجزل في ثوابهم فأجدني استحيي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غدا دونهم وما من شيء هو أحب إلي من اللحوق بإخواني وأخلائي " قالت: فما أقام بعده إلا شهرا حتى توفي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). اللهم داحي المدحوات وبارئ المسموكات وجبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفة تحننك على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق والفاتح لما أغلق والمعلن الحق بالحق والدامغ لجيشات الأباطيل كما حمل فاضطلع بأمرك لطاعتك مستوفزا في مرضاتك بغير نكل عن قدم ولا وهن في عزم داعيا لوحيك حافظا لعهدك ماضيا على نفاذ أمرك حتى أورى قبسا لقابس آلاء الله تصل بأهله أسبابه، به هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم وأبهج موضحات الأعلام ومنيرات الإسلام ونائرات الأحكام فهو أمينك المأمون وخازن علمك المخزون وشهيدك يوم الدين وبعيثك نعمة ورسولك بالحق رحمة (¬2). 2 - وعن علي رضي الله عنه قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سنته (أي طريقته) فقال: " المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والعجز فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حبسي، والجهاد خلقي، وقرة عيني في الصلاة " (¬3). أخلاقه العامة: شهدت خديجة الكبرى أم المؤمنين رضي الله عنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - بحسن ¬

(¬1) الشفا (83/ 1 - 84). (¬2) الحزب الأعظم. المنزل السادس. (¬3) الشفا (1/ 85 - 86).

الخلق قبل بعثته في ضوء تجربتها معه التي دامت خمس عشرة سنة فقالت: "إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق " (¬1). 2 - وعن أبي قتادة قال: قدم وفد النجاشي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام يخدمهم فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله؟ فقال: " إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافئهم ". 3 - قال أنس رضي الله عنه: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته. وعنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقا، فأرسلنى يوما لحاجة فقل: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرجت حتى أمر على الصبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قبض بقفاي من ورائي قال: فنظرت إليه وهو يضحك فقال: " يا أنس أذهبت حيث أمرتك " قال قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله، (¬2) 4 - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، وكان كلامه فصلا، لا فضول ولا تقصير، مجلسه مجلس حلم وحياء وخير وأمانة، وجل ضحكه التبسم وكان ضحك أصحابه عنده التبسم. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - معروفا بالصدق لدى الناس حتى قال النضر بن الحارث وكان من ألد الأعداء لقريش: قد كان محمد " منذ صباه " أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر. وباختصار إن الخوض في هذا البحر الزاخر محال، وغاية القول: هل يليق بنا أن نحب من يهدي إلى هذه الأخلاق الفاضلة ومن يحمل هذه المحاسن الجميلة وصاحب هذه الأقوال الشريفة ومصدر هذه السجايا الحميدة أم لا؟ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) أخرجه الشيخان.

أقول بكل ثقة، إن من لم يحب مثل هذا الرسول، ومثل هذا المحمود، ومثل هذا الوجود ذي الجود، ومثل هذا المصطفى، ومثل هذا المجتبى فكأنه حقا لم يحب هذه الأخلاق والصفات وبالتالي فإنه لا يصلح لأن يتصف هو بهذه الصفات ونعوذ بالله من هذا ... ... .. تعالوا نحبه ونتعلم الحب ممن اختارهم الله لمحبة حبيبه وصحبة نبيه. وليعلم أن المحبة هي التي تعلمنا الأدب والاحترام، وتحثنا على الطاعة والاستسلام، ولا يكون التعظيم تعظيما إلا إذا نشأ عن المحبة، ولا يكون الإكرام إكراما إلا إذا نبع عن المحبة. كانت قريش قد بعثت عروة بن مسعود رسولا إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوصته قبل صلح الحديبية بأن ينظر حال المسلمين ويخبرهم بها، فلما جاء عروة النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له. فلما رجع عروة إلى أصحابه حكى لهم ذلك وقال: أي قوم! لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه مثلما يعظم أصحاب محمد محمدا. عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي، وأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فانظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت عليه: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} (سورة النساء: 69). وفي حديث آخر: كان رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه لا يطرف فقال: "ما بالك؟ " قال: بأبي أنت وأمي، أتمتع من النظر إليه فإذا كان يوم القيامة رفعك الله بتفضيله، فأنزل الله: {ومن يطع الله والرسول ..} الآية.

وفي حديث أنس قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من أحبني كان معي في الجنة ". وفي بداية هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل " ثم قال: " يا بني وذلك من سنتي ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة " (¬1). وروى أن امرأة أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين. قالت: كل مصيبة بعدك جلل (¬2). وكان عبد الله بن أبي رئيسا للمنافقين وكان ابنه عبد الله من الصادقين، قال عبدالله ابن عبد الله للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو شئت لأتيتك برأسه يعني أباه، فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعن عمرو بن العاص قال: وما كان أحد أحب إلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجل في عيني وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له. وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس، فيهم أبو بكر وعمر، فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر وعمر، فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما، ويتبسمان إليه ويتبسم لهما. ومن هذا لما أذنت قريش لعثمان رضي الله عنه في الطواف بالبيت، حين وجهه النبي - صلى الله عليه وسلم - في القضية أبى وقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه كيف كان حبكم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن البارد على الظمأ. إذا أردت أن تعرف عواطف الحب والحنين فانظر حين يذكر صحابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقا، ولا مست خزا قط ¬

(¬1) رواه الترمذي. (¬2) الزرقاني ج 6. هذه السيدة هي هند زوجة عمرو بن الجموح الأنصارية.

ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شممت مسكا قط ولا عطرا كان أطيب من عرق النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ووصف جابر بن سمرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رجل: أوجهه مثل السيف؟ فقال: لا، بل كان مثل الشمس والقمر. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ (¬2). وعن جابر بن سمرة قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الأولى ثم خرج إلى أهله وخرجت معه فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا، وأما أنا فمسح خدي، قال: فوجدت ليده بردا أو ريحا كأنما أخرجها من جؤنة عطار (¬3). وعن علي رضي الله عنه قال: من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه. يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله (¬4). وعن ربيع بنت معوذ أن حفيد عمار بن ياسر قال: صفي لي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: لو رأيته لرأيت الشمس طالعة. وعن جابر بن سمرة قال: كانت ليلة البدر وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلته الحمراء، فأنظر إليه وأنظر إلى القمر فإذا هو أحسن عندي من القمر. إن كلمة " عندي " في هذه الرواية تظهر عجيب لذة اللقاء وذوق النظر. إن الوجه الذي أشرقت له عينا جابر قد أنار قلب عبد الله بن سلام. ففي حديث الترمذي قال: جئته لأنظر إليه فلما استبنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. وعن أنس عن أم سليم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيها فيقيل عندها، فتبسط له نطعا فيقيل عليه، وكان كثير العرق فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطيب والقوارير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا أم سليم ما هذا؟ " قالت: عرقك أدوف به طيبي. ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه الشيخان. (¬3) رواه مسلم في الفضائل. (¬4) رواه الترمذي.

وخرج عمر رضي الله عنه ليلة يحرس الناس فرأى مصباحا في بيت فإذا عجوز تنفش صوفا وتقول: على محمد صلاة الأبرار ... صلى عليه الطيبون الأخيار قد كنت قواما بكى بالأسحار ... ياليت شعري والمنايا أطوار هل تجمعني وحبيبي الدار فجلس عمر يبكي. والحكاية طويلة، والغرض هنا ذكر عواطف الحب والحنين فقط. وانظروا إلى هذه الأبيات التي قالها حسان بن ثابت على وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: حينا يقيك الترب لهفي ليتني ... غيبت قبلك في بقيع الغرقد أأقيم بعدك بالمدينة بينهم ... يالهف نفسي ليتني لم أولد فظللت بعد وفاته متلذذا ... ياليتني أسقيت سم الأسود أوحل أمر الله فينا عاجلا ... من يومنا في روحة أو في غد فتقوم ساعتنا فنلقى طيبا ... محضا ضرائبه كريم المحتد والله أسمع ما حييت بهالك ... إلا بكيت على النبي محمد صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد إن الصحابة كانوا يعرفون جيدا أن المحبة لا تثبت بالإيماء اللفظي وكيف وقد قال لهم ربهم: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} (سورة آل عمران: 31). ولذلك نراهم قاموا لآلاف السنين بأعمال تمثل بحق صدق الإسلام وإخلاص الصحابة وحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. تدل أحوال الصحابة على ما كان في قلوبهم من توقير للرسول - صلى الله عليه وسلم - وإجلال له. فعن المغيرة كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرعون بابه بالأظافر. وكذلك لا يرفع أحد منهم صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك من تعليم الله لهم: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} (سورة الحجرات: 2).

إن العلماء يقولون: إن هذا الحكم ثابت على الدوام فالحديث النبوي صوت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومع وجود الحديث النبوي إذا حاول أحد فرض رأيه، وتقديم أقواله، فإنه يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أثنى الله - مع هذا النهي - على الذين يلتزمون بهذه الآداب فقال: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} (سورة الحجرات: 3). فمن علامات الحب أن نحب قول الرسول من أعماق القلب، ولا نتردد في العمل بما صدر عنه من قول أو فعل مما أوجب الله علينا طاعته ولا نتعذر في تركه بأعذار واهية. ومن علامات المحبة أن يكون ذكره جاريا على لساننا دائما. ففي الحديث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من أحب شيئا أكثر ذكره " (¬1). ومن علامات المحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - محبة آله بقلب صاف. يحكى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما فرض لابنه عبد الله ثلاثة آلاف ولأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وخمسمائة، قال عبد الله لأبيه: لم فضلته فوالله ما سبقني إلى مشهد؟ فقال له: لأن زيدا كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبيك، وأسامة أحب إليه منك، فآثرت حب رسول الله على حبي. ومحبة الإمامين الشهيدين الحسن والحسين هي عين المحبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وكذا حفظ فضائلهما وبيانها واتباع طريقهما عين محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن علامات المحبة محبة الأنصار والمهاجرين الذين وردت أوصافهما الكثيرة في القرآن. ومن علاماتها اتباع جميع الصحابة واتباع سنة الخلفاء الراشدين. اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك. ¬

(¬1) الزرقاني ج 6.

الباب الثالث عشر

الباب الثالث عشر {ولتعلموا عدد السنين والحساب} •---------------------------------• يذكر كثير من الكتاب الكبار وقائع السيرة ويلاحظ أنهم إذا ما ذكروا اليوم والتاريخ فإنهم يخطئون في تعيين اليوم تارة، وفي تعيين التاريخ تارة أخرى. لذا رأيت أن أكتب موجزا عن السنة الهجرية، ليفيد ذلك في تصحيح اليوم والتاريخ الهجريين وتطبيقهما. وقد أعرضت عن المباحث الطويلة الزائدة عن موضوعنا. السنة الهجرية 1 - هذه السنة قمرية أصلا، وهي لا تقل عن 354 يوما ولا تزيد عن 355 يوما. وقد بدأت بعد مرور 1948439 يوما على سنة تقويم يوليان (¬1). 2 - قسم الفلكيون السنين القمرية إلى عهدين، صغير وكبير. فالعهد الصغير على مدى 30 سنة قمرية، والعهد الكبير (¬2) يتضمن سبعة عهود صغيرة أي 210 سنة قمرية. والعهد الصغير على مدى 19 سنة 354 يوما، وفيما يتعلق بعدد الأيام يتضمن ¬

(¬1) السنة الهجرية سنة قمرية والسنة الميلادية سنة شمسية، والتقويم الشمسي وضعه الرومان، وهم الذين وضعوا أسماء الأشهر الشمسية، وكانت السنة الشمسية عندهم تبدأ في أول مارس (في عام 46 قبل المسيح وضع الأمبراطور يوليوس قيصر تقويما حمل اسمه (تقويم جوليان) وبموجبه تبدأ السنة الشمسية في اليوم الأول من شهر يناير وتنتهي في الواحد والثلاثين من شهر ديسبر. وفي فرنسا كانت الكنيسة الكاثوليكية تعتبر أن السنة الميلادية تبدأ في عيد الفصح وهو يختلف موعده بين سنة وأخرى إذ أنه حدد في أول يوم أحد بل اكتمال القمر (البدر) بعد بدء فصل الربيع وبذلك يكون موعده بين 22 مارس كحد أدنى و 18 أبريل كحد أقصى وبقي هذا التقويم معمولا به حتى عام 1564م حينما قام الملك شارل التاسع بإصدار قانون جعل السنة الشمسية بموجبه تبدأ في الأول من شهر يناير. وهكذا يتبين اختلاف بدء السنة الشمسية فقد كانت تبدأ في أول مارس وصارت تبدأ في أول يناير. (¬2) العهد الأول الكبير من السنة الهجرية يكمل في سنة 210 هجرية. عشر سنوات منها من عصر النبوة والمئتان الباقيتان من حديث الآيات بعد المئتن.

طريقة استكشاف غرة السنة الهجرية

من العهد الصغير 10631 بينما يتضمن العهد الكبير 74417 يوما بما سبقه من السنوات والأشهر من العهد الصغير الأول. 3 - يشبه العهد الصغير مثيله بحيث أن الشهور القمرية كما تكون تسعا وعشرين أو ثلاثين يوما في العهد الأولى فكذلك تكون تسعا وعشرين أو ثلاثين يوما في العهد الثاني وبنفس الترتيب. كما أن جميع أشهر سنوات العهد الصغير الثاني تبدأ بالترتيب بعد خمسة أيام. 4 - ومن خصائص العهد الكبير أنه يوافق ماسبقه من عهد في السنالمن والأشهر. أي أن الأيام التي تبدأ فيها السنوات والأشهر وكذا عدد أيام هذه السنوات والأشهر يكون بالترتيب كما كان في العهد السابق. 5 - أثبتنا في الجدول الاتي اليوم الذي تبدأ فيه السنون الهجرية من السنة الأولى الهجرية إلى سنة لممبعيئ وأربعمائة بعد الألف من الهجرة حسب رؤية العرب. طريقة استكشاف غرة السنة الهجرية لمعرفة بداية السنة الهجرية من خلال الجدول المرفق اقسم تلك السنة على 210 ثم انظر السنن الباقية بعد التقسيم في عمود السنن الهجرية فاليوم المكتوب تحت عدد العمود (ب) الواقع بمحاذاة عدد العمود (ألف) هو بداية تلك السنة الهجرية. جدول غرة السنين القمرية الهجرية السنوات الهجرية (ألف) السنوات الهجرية 1 ... 9 ... 17 ... 25 2 ... 10 ... 18 ... 26 11 ... 19 ... 27 4 ... 12 ... 20 ... 28 5 ... 13 ... 21 ... 29 6 ... 14 ... 22 7 ... 15 ... 23 83 ... 16 ... 24 ... 30 هذا الجدول يوافق التقويم العهود الممتدة 30 سنة (ب) 210 ... 30 ... 60 ... 90 ... 120 ... 150 ... 180 الأحد ... الجمعة ... الأربعاء ... الاثنين ... السبت ... الخميس ... الثلاثاء الجمعة ... الأربعاء ... الاثنين ... السبت ... الخميس ... الثلاثاء ... الأحد الثلاثاء ... الأحد ... الجمعة ... الأربعاء ... الاثنين ... السبت ... الخميس السبت ... الخميس ... الثلاثاء ... الأحد ... الجمعة ... الأربعاء ... الاثنين الخميس ... الثلاثاء ... الأحد ... الجمعة ... الأربعاء ... الاثنين ... السبت الاثنين ... السبت ... الخميس ... الثلاثاء ... الأحد ... الجمعة ... الأربعاء السبت ... الخميس ... الثلاثاء ... الأحد ... الجمعة ... الأربعاء ... الاثنين الأربعاء ... الاثنين ... السبت ... الخميس ... الثلاثاء ... الأحد ... الجمعة

7 - لبيان مطابقة أشهر السنة الهجرية بأشهر الميلادية وتاريخهما نثبت فيما يلي جدولا عن عدد أيام السنين الهجرية. فإذا طلبت غرة سنة هجرية وما يوافقها من تاريخ ميلادي فانظر إلى ما مضى من السنوات الهجرية واستخرج أيامها من جدول تعداد أيام السنين الهجرية ثم زد إلى هذه الأيام المستخرجة 227515 يوما. كما بينا ضمنا السنة الميلادية الجديدة التي بدأت في أول يناير يوم الاثنن (السنة الأولى للميلاد) فحيث تنتهي هذه الأيام من السنة والشهر والتاريخ الميلادي، فذلك التاريخ الميلادي يكون غرة محرم من السنة المطلوبة للهجرة. جدول تعداد أيام السنين الهجرية عدد الأيام الميلادية من غرة يناير يوم الاثنين السنة الأولى الميلادية إلى غرة محرم من السنن المذكورة أدناه. 227514 227068 227723 228077 228431 238786 229142 229495 239850 235204 جدول تعداد أيام السنين الهجرية السنون الهجرية ... تعداد الأيام ... مجموع الأيام الزائدة 1 ... 10 ... 354 (2) ... 355 ... 709 3 ... 354 ... 1063 4 ... 354 ... 1417 (5) ... 355 ... 1772 6 ... 354 ... 2126 7 ... 354 ... 2480 (8) ... 355 ... 2835 9 ... 354 ... 3189 10 ... 354 ... 3543 عدد الأيام الميلادية من غرة يناير يوم الاثنين السنة الأولى الميلادية إلى غرة محرم من السنن المذكورة أدناه. 232330 232685 223039 233393 233748 234102 234102 234457 231565 235520 جدول تعداد أيام السنين الهجرية السنون الهجرية ... تعداد الأيام ... مجموع الأيام الزائدة 16 ... 355 ... 5670 17 ... 354 ... 6024 18 ... 354 ... 6378 19 ... 355 ... 6733 20 ... 3054 ... 7087 21 ... 2055 ... 7442 22 ... 354 ... 7796 23 ... 354 ... 8150 24 ... 355 ... 8505 25 ... 354 ... 8859

230558 235913 231267 234622 231976 (11) ... 355 ... 3898 12 ... 354 ... 4252 (13) ... 355 ... 2607 14 ... 354 ... 4961 15 ... 354 ... 5315 235874 236228 26 ... 354 ... 9313 27 ... 355 ... 9368 28 ... 354 ... 9922 29 ... 354 ... 10276 30 ... 355 ... 10631 جدول العهود الصغيرة القيرية مع تعداد الأيام ... العهود الكبيرة مع تعداد الأيام عدد السنين القمرية ... عدد لأيام ... عدد السنين القمرية ... عددالأيام 30 ... 10631 ... 420 ... 148834 60 ... 21212 ... 630 ... 223251 90 ... 31893 ... 840 ... 397668 90 ... 31893 ... 1050 ... 372085 120 ... 42524 ... 1260 ... 446502 150 ... 53155 ... 1470 ... 520919 180 ... 63786 210 ... 24417 8 - بدأ استخدام السنة الهجرية في الإسلام في خلافة عمر الفاررق - رضي الله عنه - وجعل حادث الهجرة النبوية بداية السنة بمشورة علي - رضي الله عنه - يوم الخميس في 30 من جمادى الآخرة سنة 17 هجرية الموافق 9/ 12 من يوليو سنة 638 ميلادية وجعل شهر محرم أول الشهور بمشورة عثمان ذي النورين رضي الله عنه. 9 - ومن خصائص السنة الهجرية أنها ما زالت تستمر على صورتها المعينة من أول يومها إلى يومنا هذا. وهذه ميزة قد لا توجد في سنة من السنوات المتداولة في العالم. ومن خصائصها أيضا أنها أقدم السنوات من حيث التداول والاستعمال. وإن كانت

بقية السنوات تبدو قديمة بأعدادها، وعلى سبيل المثال غرة محرم من السنة الأولى للهجرة توافق 6 من يوليو سنة 5335 جوليان. الف - فالسنة الجوليانية تبدو أنها أقدم من السنة الهجرية ب 5334 سنة مع أنها وضعت بعد السنة الهجرية ب 989 سنة في عام 1582 الميلادي. ب - وبالنسبة للسنة العبرية كانت غرة محرم من السنة الأولى للهجرة موافقة للثالث من شهر آب سنة 4382 العبرية. وعلى هذا يبدو أن السنة العبرية أقدم من السنة الهجرية ب 4381 سنة مع أنها وضعت في سنة 582 1 ميلادية. (انظر دائرة المعارف البريطانية). ج - وتبدو سنة كل جك أقدم من السنة الهجرية ب 1723 سنة ولكن المؤرخين الأوربيين والفلكيين يعترفون بأنها وضعت في القرن الرابع الميلادي أي أنها ظهرت إلى حيز الوجود بعد ما مر عليها 34 قرنا بحسابها. د - وسنة الإسكندر أقدم من السنة الهجرية ب 932 سنة ولكنها بوضعها الحالي مستحدثة لأنها في البداية ظلت ولعدة قرون تستعمل حسب الشهور القمرية ثم استبدلت الآن بالشهور الشمسية. هـ - وبالنسبة لسنة سمت بروشتة كانت غرة محرم من السنة الأولى للهجرة موافقة لست وعشرين من شهر ساون سنة 679 لسمت بروشتة. ولذا تبدو سنة سمت بروشتة أقدم من السنة الهجرية ب 678 سمة. ولكن ثبت من بحوث الهنادك والباحثين الأوربين أن سنة 898 لسمت بروشتة هي أول سنة سميت بسنة سمت بروشتة. وبما أن غرة شهر ببار سنة 898 لسمت بروشتة توافق 23 من جمادي الأولى سنة 226 هجرية فإن بداية سنة سمت بروشتة كانت بعد بداية السنة الهجرية ب 225 سنة. و- استخدام التاريخ بالنسبة لأول مرة في التاريخ سنة 478 م الموافق سنة 135 هـ (انظر القاموس الكلاسيكي - جي - جمرانز طبع لندن سنة 1831 م). ز - إن السنة الميلادية ظلت مستمرة في إنكلترا القديمة إلى الثاني من سبتمبر يوم الأربعاء سنة 1753 م الموافق الثالث من ذي القعدة سنة 1165 هـ. وفي الرابع من ذي القعدة يوم الخميس سنة 1165 هـ كتبت بالحساب الجديد 14 / من سبتمبر سنة 1752 م.

10 - إن نظام حساب السنة في الإسلام يجري على حساب القمر ولتطبيق هذا الحساب مع حساب الشمس لم يختر الإسلام (الأشهر الكبيسة) ولما كان الإسلام دين الفطرة كان لابد أن يختار النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحساب ما يوافق الفطرة السليمة والمصلحة الدينية. إن المساواة ميزة بارزة من ميزات الإسلام ومن ميزاته أن هذه المساواة شاملة عامة. ولصيانة هذه الميزات شاء الإسلام أن تقع الأشهر الإسلامية في فصول مختلفة متغيرة ولا يغلق باب تقلب الأيام بزيادة الكبيسة. فتدبروا قليلا شهر رمضان الذي هو شهر الصوم الركن الرابع من أركان الإسلام، لو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عين شهرا شمسيا للصيام أو أقر بالكبيسة في حساب القمر فماذا كانت النتيجة؟ إن الشهر المحدد من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - صيفا كان أو شتاء، كان يستلزم منه أن يكون المسلمون في يسر دائم في نصف العالم وفي عسر دائم في النصف الآخر. فإن الخبير بالجغرافيا لا يخفى عليه أن شهر ديسمبر الذي هو شهر بارد وأقصر الشهور يوما في شمال العالم هو شهر حار وأطول الشهور يوما في جنوب العالم في الوقت ذاته. فكان من مقتضيات مساواة الإسلام الشاملة أن تكون السنة الإسلاميه بحساب القمر ولا تعطل حركاته بزيادة الكبيسة التي هي من اختراع البشر. {ولله الحجة البالغة} (*) ¬

(*) ساق المؤلف بحثا تناول فيه التقاويم المختلفة: جوليان، العبري، نوح أو الطوفان، كل جك، إبراهيم، بخت نصر، الإسكندر، البكرمي، والتقويم الشمسي والقمري البكرمي والتقويم الميلادي القديم والجديد والتقويم القبطي الجديد وتقويم سنة جلوس أنوشيروان وعام الفيل ثم أثار المؤلف أنه طبقا لهذه التقاويم فإن مولد الرسول (ص) كان كما يلي: سنة 5284 في تقويم جوليان وسنة 4331 العاشر من آيار التقويم العبراني، وفي غرة شهر جيت سنة 3672 لسمت بروشتة وفق تقويم كل جك، وفي الثاني عشر من شهر توت سنة 1319 لتقويم بخت نصر، وسنة 882 في العشرين من نيسان وفق تقويم الإسكندر وفي غرة جيت سنة 628 لتقويم سمت بروشتة، ويقع مولده (ص) في يوم موهنى اكاوش وهو يوم مقدس عند الهنادكة (السنة الشمسية القمرية البكرمية) ووفق السنة الميلادية القديمة والجديدة كان مولده (ص) في 22 أبريل 571 م. وفي 25 برموده 278 طبقا للتقويم القبطي الجديد وطبقا لسنة عام الفيل كان مولده. في التاسع من ربيع الأول من السنة الأولى لعام الفيل (بتلخيص عن الأصل الأردي من ص 350 - 361 المجلد الثاني ط لاهور).

جدول بداية الشهور القمرية لثلاث وعشرين سنة من عصر النبوة مع تعيين اليوم وتطبيق التاريخ والشهر والسنة الميلادية السنون الإسلامية ... محرم الحرام ... صفر المظفر ... ربيع الأول ... ربيع الثاني من مولد النبي (ص) 41 ... الخميس 4/ 12 / 609 ... السبت 3/ 1 / 610 ... الأحد 1/ 12 / 610 ... الثلاثاء 3/ 3 / 610 42 ... الاثنين 23/ 11 / 610 ... الأربعاء 23/ 12 / 610 ... الجمعة 22/ 1 / 611 ... السبت 20/ 2 / 611 43 ... السبت 13/ 11 / 611 ... الأحد 12/ 12 / 611 ... الثلاثاء 11/ 1 / 612 ... الأربعاء 9/ 2 / 612 44 ... الأربعاء 1/ 11 / 612 ... الجمعة 1/ 12 / 612 ... السبت 20/ 12 / 612 ... الاثنين 29/ 1 / 613 45 ... الاثنين 23/ 10 / 613 ... الثلاثاء 20/ 11 / 613 ... الخميس 20/ 12 / 613 ... الجمعة 18/ 5 / 614 46 ... الجمعة 11/ 10 / 614 ... السبت 19/ 11 / 614 ... الاثنين 9/ 12 / 614 ... الأربعاء 8/ 1 / 615 47 ... الثلاثاء 30/ 9 / 615 ... الخميس 30/ 10 / 615 ... الجمعة 28/ 11 / 615 ... الأحد 28/ 11 / 615

السنون الإسلامية ... محرم الحرام ... صفر المظفر ... ربيع الأول ... ربيع الثاني 48 ... الأحد 19/ 9 / 616 ... الاثنين 8/ 10 / 616 ... الأربعاء 17/ 11 / 616 ... الخميس 16/ 12 / 616 49 ... الخميس 8/ 9 / 617 ... السبت 8/ 10 / 617 ... الأحد 6/ 11 / 617 ... الثلاثاء 6/ 12 / 617 50 ... الاثنين 28/ 8 / 618 ... الأربعاء 27/ 9 / 618 ... الخميس 26/ 10 / 618 ... السبت 25/ 11 / 618 51 ... السبت 18/ 8 / 619 ... الأحد 16/ 9 / 619 ... الثلاثاء 16/ 10 / 619 ... الأربعاء 14/ 11 / 619 52 ... الأربعاء 6/ 8 / 620 ... الجمعة 5/ 9 / 620 ... السبت 4/ 10 / 620 ... الاثنين 3/ 11 / 620 53 ... السبت 17/ 7 / 621 ... الثلاثاء 25/ 8 / 621 ... الخميس 24/ 9 / 621 ... الجمعة 23/ 10 / 621 1 هـ ... الجمعة 27/ 7 / 622 ... الأحد 15/ 8 / 622 ... الاثنين 12/ 9 / 622 ... الثلاثاء 12/ 10 / 622 2 هـ ... الثلاثاء 5/ 7 / 623 ... الخميس 4/ 8 / 623 ... الجمعة 2/ 9 / 623 ... الأحد 2/ 9 / 623 3 هـ ... الأحد 6/ 6 / 624 ... الاثنين 3/ 7 / 624 ... الأربعاء 22/ 8 / 624 ... الخميس 20/ 9 / 624

السنون الإسلامية ... محرم الحرام ... صفر المظفر ... ربيع الأول ... ربيع الثاني 4 هـ ... الخميس 13/ 6 / 625 ... السبت / / 625 ... الأحد / / 625 ... الثلاثاء / / 625 5 هـ ... الاثنين 3/ 6 / 626 ... الأربعاء 2/ 7 / 626 ... الخميس 21/ 7 / 626 ... السبت 30/ 8 / 626 6 هـ ... السبت 23/ 5 / 627 ... الأحد 21/ 6 / 627 ... الثلاثاء 21/ 7 / 627 ... الأربعاء 19/ 8 / 627 7 هـ ... الأربعاء 11/ 5 / 628 ... الجمعة 10/ 6 / 628 ... السبت 9/ 7 / 628 ... الاثنين 8/ 8 / 628 8 هـ ... الأحد 30/ 4 / 629 ... الثلاثاء 30/ 5 / 629 ... الأربعاء 28/ 6 / 629 ... الجمعة 28/ 7 / 629 9 هـ ... الجمعة 20/ 4 / 630 ... السبت 19/ 5 / 630 ... الاثنين 18/ 6 / 630 ... الثلاثاء 17/ 7 / 630 10 هـ ... الثلاثاء 9/ 4 / 631 ... الخميس 9/ 5 / 631 ... الجمعة 7/ 6 / 631 ... الأحد 7/ 7 / 631 11 هـ ... السبت 28/ 3 / 632 ... الاثنين 27/ 4 / 632 ... الأربعاء 27/ 5 / 632 ... الخميس 25/ 6 / 632

السنون الإسلامية ... جمادى الأولى ... جمادى الثانية ... رجب ... شعبان من مولد النبي (ص) 41 ... الأربعاء 1/ 4 / 610 ... الجمعة 1/ 5 / 610 ... السبت 30/ 5 / 610 ... الاثنين 29/ 6 / 610 42 ... الاثنين 22/ 3 / 611 ... الثلاثاء 20/ 4 / 611 ... الخميس 20/ 5 / 611 ... الجمعة 18/ 6 / 611 43 ... الجمعة 10/ 3 / 612 ... الأحد 19/ 4 / 612 ... الاثنين 8/ 5 / 612 ... الأربعاء 7/ 6 / 612 44 ... الثلاثاء 27/ 2 / 613 ... الخميس 29/ 3 / 613 ... الجمعة 27/ 4 / 613 ... الأحد 27/ 5 / 613 45 ... الأحد 17/ 2 / 614 ... الاثنين 18/ 2 / 614 ... الأربعاء 17/ 4 / 614 ... الخميس 16/ 5 / 614 46 ... الخميس 6/ 2 / 615 ... السبت 8/ 3 / 615 ... الأحد 6/ 4 / 615 ... الثلاثاء 6/ 5 / 615 47 ... الاثنين 26/ 1 / 616 ... الأربعاء 25/ 3 / 616 ... الجمعة 26/ 3 / 616 ... السبت 24/ 4 / 616 48 ... السبت 15/ 1 / 617 ... الأحد 13/ 2 / 617 ... الثلاثاء 15/ 3 / 617 ... الأربعاء 3/ 4 / 617

السنون الإسلامية ... جمادى الأولى ... جمادى الثانية ... رجب ... شعبان 49 ... الأربعاء 4/ 1 / 618 ... الجمعة 3/ 1 / 618 ... السبت 4/ 3 / 618 ... الاثنين 3/ 4 / 618 50 ... الاثنين 25/ 12 / 619 ... الثلاثاء 23/ 1 / 619 ... الخميس 22/ 1 / 619 ... الجمعة 22/ 3 / 619 51 ... الجمعة 14/ 12 / 620 ... السبت 12/ 1 / 620 ... الاثنين 11/ 2 / 620 ... الثلاثاء 11/ 3 / 620 52 ... الثلاثاء 2/ 12 / 621 ... الخميس 1/ 1 / 621 ... الجمعة 30/ 1 / 621 ... الأحد 1/ 3 / 621 53 ... الأحد 22/ 11 / 622 ... الاثنين 21/ 12 / 622 ... الأربعاء 20/ 1 / 622 ... الخميس 18/ 2 / 623 1 هـ ... الخميس 11/ 11 / 623 ... السبت 11/ 12 / 623 ... الأحد 19/ 1 / 623 ... الثلاثاء 8/ 2 / 623 2 هـ ... الاثنين 31/ 10 / 623 ... الأربعاء 30/ 11 / 623 ... الخميس 29/ 12 / 623 ... السبت 28/ 1 / 623 3 هـ ... السبت 20/ 10 / 624 ... الأحد 18/ 11 / 624 ... الثلاثاء 18/ 12 / 624 ... الأربعاء 16/ 1 / 625 4 هـ ... الأربعاء 9/ 10 / 625 ... الجمعة 8/ 11 / 625 ... السبت 7/ 12 / 625 ... الاثنين 16/ 12 / 625

السنون الإسلامية ... جمادى الأولى ... جمادى الثانية ... رجب ... شعبان 5 هـ ... الأحد 28/ 9 / 626 ... الثلاثاء 18/ 10 / 626 ... الخميس 17/ 11 / 626 ... الجمعة 6/ 1 / 627 6 هـ ... الجمعة 18/ 9 / 627 ... السبت 17/ 10 / 627 ... الاثنين 16/ 11 / 627 ... الثلاثاء 15/ 12 / 627 7 هـ ... الثلاثاء 6/ 9 / 628 ... الخميس 6/ 10 / 628 ... الجمعة 4/ 11 / 628 ... الأحد 4/ 13 / 628 8 هـ ... السبت 26/ 8 / 629 ... الاثنين 25/ 9 / 629 ... الأربعاء 25/ 10 / 629 ... الخميس 23/ 11 / 629 9 هـ ... الخميس 16/ 8 / 630 ... الجمعة 14/ 9 / 630 ... الأحد 14/ 10 / 630 ... الاثنين 12/ 11 / 630 10 هـ ... الاثنين 5/ 8 / 631 ... الأربعاء 4/ 9 / 631 ... الخميس 3/ 10 / 631 ... السبت 2/ 11 / 631 11 هـ ... السبت 25/ 7 / 632 ... الأحد 23/ 8 / 632 ... الثلاثاء 12/ 10 / 632 ... الأربعاء 21/ 11 / 632

السنون الإسلامية ... رمضان ... شوال ... ذو القعدة ... ذو الحجة من مولد النبي (ص) 41 ... الثلاثاء 28/ 7/ 610 ... الخميس 27/ 8/ 610 ... الجمعة 25/ 9/ 610 ... الأحد 15/ 10/ 610 42 ... الأحد 18/ 7/ 611 ... الاثنين 26/ 8/ 611 ... الأربعاء 15/ 9/ 611 ... الخميس 14/ 10/ 611 43 ... الخميس 6/ 7/ 612 ... السبت 5/ 8/ 612 ... الاثنين 4/ 9/ 612 ... الثلاثاء 3/ 10/ 612 44 ... الاثنين 25/ 6/ 613 ... الأربعاء 25/ 7/ 613 ... الجمعة 24/ 8/ 613 ... السبت 22/ 9/ 613 45 ... السبت 15/ 6/ 614 ... الأحد 21/ 7/ 614 ... الثلاثاء 13/ 8/ 614 ... الأربعاء 11/ 9/ 614 46 ... الأربعاء 4/ 6/ 615 ... الجمعة 21/ 7/ 615 ... السبت 2/ 8/ 615 ... الاثنين 1/ 9/ 615 47 ... الاثنين 24/ 5/ 616 ... الثلاثاء 22/ 6/ 616 ... الخميس 22/ 7/ 616 ... الجمعة 2/ 8/ 615 48 ... الجمعة 13/ 5/ 617 ... السبت 11/ 6/ 617 ... الاثنين 11/ 7/ 617 ... الأربعاء 10/ 8/ 616

السنون الإسلامية ... رمضان ... شوال ... ذو القعدة ... ذو الحجة 49 ... الثلاثاء 2/ 5/ 618 ... الخميس 1/ 6/ 618 ... الجمعة 30/ 6/ 618 ... الأحد 30/ 7/ 618 50 ... الأحد 22/ 4/ 619 ... الاثنين 21/ 5/ 619 ... الأربعاء 20/ 6/ 619 ... الخميس 19/ 7/ 619 51 ... الخميس 10/ 1/ 620 ... السبت 10/ 5/ 620 ... الأحد 6/ 6/ 620 ... الثلاثاء 8/ 7/ 620 52 ... الاثنين 30/ 3/ 621 ... الأربعاء 29/ 4/ 621 ... الخميس 28/ 5/ 621 ... السبت 2/ 6/ 621 53 ... السبت 20/ 3/ 622 ... الأحد 18/ 4/ 622 ... الثلاثاء 18/ 5/ 622 ... الأربعاء 16/ 6/ 622 1 هـ ... الأربعاء 9/ 3/ 623 ... الجمعة 11/ 12/ 623 ... السبت 7/ 5/ 623 ... الاثنين 6/ 6/ 623 2 هـ ... الأحد 26/ 2/ 624 ... الثلاثاء 8/ 4/ 624 ... الخميس 26/ 4/ 624 ... الجمعة 25/ 5/ 624 3 هـ ... الجمعة 15/ 2/ 625 ... السبت 16/ 3/ 625 ... الاثنين 15/ 4/ 625 ... الثلاثاء 14/ 5/ 625 4 هـ ... الثلاثاء 4/ 2/ 626 ... الخميس 6/ 3/ 626 ... الجمعة 4/ 4/ 626 ... الأحد 4/ 5/ 626

السنون الإسلامية ... رمضان ... شوال ... ذو القعدة ... ذو الحجة 5 هـ ... الأحد 25/ 1/ 627 ... الاثنين 23/ 2/ 627 ... الأربعاء 5/ 3/ 627 ... الخميس 23/ 4/ 627 6 هـ ... الخميس 25/ 1/ 628 ... الجمعة 12/ 2/ 628 ... الأحد 13/ 3/ 628 ... الثلاثاء 12/ 4/ 628 7 هـ ... الاثنين 14/ 1/ 629 ... الأربعاء 1/ 2/ 629 ... الخميس 2/ 3/ 629 ... السبت 1/ 4/ 629 8 هـ ... السبت 23/ 12/ 630 ... الأحد 21/ 1/ 630 ... الثلاثاء 2/ 2/ 630 ... الأربعاء 21/ 3/ 630 9 هـ ... الأربعاء 12/ 12/ 630 ... الخميس 10/ 1/ 631 ... السبت 9/ 2/ 631 ... الاثنين 11/ 3/ 631 10 هـ ... الأحد 1/ 12/ 631 ... الثلاثاء 31/ 12/ 631 ... الأربعاء 29/ 1/ 631 ... الخميس 17/ 3/ 632 11 هـ ... الجمعة 2/ 11/ 632 ... السبت 19/ 12/ 632 ... الاثنين 18/ 1/ 633 ... الثلاثاء 16/ 2/ 633

جدول الأحداث التاريخية المتعلقة بالسيرة النبوية الرقم المسلسل ... السنة الإسلامية القمرية ... السنة الميلادية الشمسية ... القمرية / الميلادية (¬1) ... الحادث ... اليوم ... التاريخ ... الشهر ... عام الولادة ... عام المبعث ... عام الهجرة ... التاريخ ... الشهر ... السنة ... ... الأحد ... 1 ... محرم ... 1 ... / ... / ... 15/ 2 ... فبراير ... 571 ... 588 1 ... الولادة النبوية ... الاثنين ... 9 ... ربيع لأول ... 1 ... / ... / ... ابريل ... 571 ... 588 2 ... البعثة ... الاثنين ... 9 ... >>> ... 41 ... 1 ... / ... 9/ 12 ... 2 ... 610 ... 628 3 ... وجوب صلاة الفجر والعصر على المسلمين ... الاثنين ... 9 ... >>> ... 41 ... / ... / ... 9/ 12 ... 2 ... 610 ... 628 4 ... بدء نزول القرآن ... ليلة الجمعة ... 17 ... رمضان ... 41 ... 1 ... / ... 14/ 17 ... 8 ... 610 ... 628 5 ... هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة ... / ... / ... رجب ... 45 ... 5 ... / ... / ... 610 ... 632 6 ... حصار النبي (ص) في شعب أبي طالب ... الثلاثاء ... 1 ... محرم ... 47 ... 7 ... / ... 30/ 3 ... 10/ 9 ... 615 ... 634 7 ... سفره إلى الطائف ... / ... / ... جمادي الثانية ... 50 ... 10 ... / ... / ... 2 ... 619 ... 637 8 ... الإسراء والمعراج وفرض الصلوات ... الاثنين ... ليلة 27 ... رجب ... . 50 ... 10 ... / ... ليلة 19 ... . 20 ... 619 ... 637 9 ... بداية إيمان أهل المدينة ... / ... / ... ذو إلحجة ... . 50 ... 10 ... / ... / ... 7 ... 619 ... 637 10 ... بيعة العقبة ... / ... / ... ذو الحجة 52 ... 12 ... / ... / 7 ... 631 ... 639 ¬

(¬1) في أغسطس السنة الأولى الميلادية يوم الأربعاء كانت غرة محرم الحرام وقد بدأنا السنة الميلادية القمرية من نفس التاريخ وقد وضعنا السنة الميلادية القمرية ليعلم الفرق بين السنوات الشمسية والقمرية خلال مدة معينة.

الرقم المسلسل ... السنة الإسلامية القمرية ... السنة الميلادية الشمسية ... القمرية / الميلادية ... الحادث ... اليوم ... التاريخ ... الشهر ... عام الولادة ... عام المبعث ... عام الهجرة ... التاريخ ... الشهر ... السنة ... الأولى ... / ... ... / ... ... / ... ... / ... ... / ... ... / ... ... / ... ... / ... ... / ... ... / ... 11 ... بيعة العقبة الثانية ... / ... / ... ذو الحجة ... 54/ 35 ... 13/ 14 ... / ... / ... 6 يونيو ... 622 ... 640 12 ... الهجرة من مكة والدخول في الجمعة ... ليلة الجمعة ... 27 ... صفر ... 54 ... 14 ... 1 ... ليلة 13 ... 910 سبتمبر ... 622 ... 641 13 ... الدخول في قباء ... الاثنين ... 8 ... ربيع أول ... 54 ... 14 ... 1 ... 23/ 30 ... 6 سبتمبر ... 622 ... 641 14 ... الدخول في المدينة المنورة ... الجمعة ... 12 ... >>> ... 54 ... 14 ... 1 ... 24/ 27 ... 10 أكتوبر ... 622 ... 641 ... ... الاثنين ... 22 ... >>> ... 54 ... 14 ... 1 ... 7/ 4 ... 10 أكتوبر ... 622 ... 641 (¬1) 15 ... بناء المسجد النبوي ... / ... / ... >>> ... 54 ... 14 ... 1 ... / ... / ... / ... / 16 ... الزيادة في صلاة الظهر والعصر والعشاء ... / ... / ... ربيع الثاني ... 54 ... 14 ... 1 ... / ... 10 أكتوبر ... 622 ... 641 17 ... تحويل القبلة ... السبت ... 15 ... شعبان ... 55 ... 15 ... 2 ... 14/ 11 ... 10 أكتوبر ... 624 ... 642 18 ... أول الصوم بعد وجوب رمضان ... الأحد ... 1 ... رمضان ... 55 ... 15 ... 2 ... 29/ 36 ... 20 فبراير ... 624 ... 642 19 ... وجوب الزكاة ... / ... / ... / ... 55 ... 15 ... 3 ... / ... / ... 624 ... 642 20 ... وجوب الجهاد ... / ... / ... / ... 55 ... 15 ... 2 ... / ... / ... 624 ... 642 21 ... يوم وقعة بدر ... الثلاثاء ... 17 ... رمضان ... 55 ... 15 ... 2 ... 16/ 13 ... 3 مارس ... 624 ... 642 22 ... تحريم الخمر ... / ... / ... / ... 56 ... 16 ... 3 ... / ... / ... 625 ... 643 23 ... نزول الحجاب ... الجمعة ... 1 ... ذو القعدة ... 57 ... 17 ... 4 ... 4/ 7 ... 4 أبريل ... 626 ... 644 ¬

(¬1) هذا التاريخ مذكور حسب تحقيق الإمام البخاري رحمه الله. وقد اختار غيره من علماء السيرة تاريخ الدخول في المدينة يوم الجمعة 12 من رسع الأول.

الرقم المسلسل ... السنة الإسلامية القمرية ... السنة الميلادية الشمسية ... القمرية / الميلادية ... الحادث ... اليوم ... التاريخ ... الشهر ... عام الولادة ... عام المبعث ... عام الهجرة ... التاريخ ... الشهر ... السنة 24 ... دعوة الملوك العظام إلى الإسلام ... الأربعاء ... 17 ... محرم ... 60 .... 20 ... 7 ... 14/ 11 ... 5 مايو ... 628 ... 647 25 ... الفتح المبين .... الخميس ... 20 ... رمضان ... 61 ... 21 ... 8 ... 14/ 11 ... 1 يناير ... 630 ... 648 26 ... وجوب الحح ... / ... / ... / ... 62 ... 22 ... 9 ... / ... / ... 631 ... 649 27 ... أول حجة في الإسلام في إمامة أبي بكر ... الاثنين أوالثلاثاء ... 9 ... ذو الحجة ... 62 ... 24 ... 9 ... 21/ 18 ... 3 مارس ... 631 ... 649 28 ... حجة الودع ... الجمعة ... / ... >>> ... 63 ... 63 ... 10 ... 9/ 6 ... 3 مارس ... 632 ... 650 29 ... بداية مرض النبي (ص) ... الاثنين ... 29 ... صفر ... 64 ... 24 ... 11 ... 28/ 25 ... 5 مايو ... 632 ... 651 30 ... الوفاة ... الإثنين في وقت الضحى ... 13 ... ربيع الأول ... 64 ... 24 ... 11 ... 11/ 8 ... 6 يونيو ... 632 ... 651 ... التدفين ... ليلة الأربعاء تم تدفينه بعد وفاته باثنتين وثلاثين ساعة ... 14 ربيع الأول ... 64 ... / ... 11 ... 12/ 9 ... 6 يونيو ... 632 ... 651 اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبرهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد

الباب الرابع عشر

الباب الرابع عشر خصائص النبي (ص) توجد للمتقدمين عدة كتب عن خصائص النبي (ص)، يمكن القول أنها تناسب طائفة خاصة في ذلك الزمان، ومع هذا فإن تكرار ما كتب قبلا لا يروي ظمأ الباحثين عن المزيد من المعارف، وإذا ما شئنا الكتابة بمزيد من التفصيل عن خصائص النبي (ص)، فإن هذا يحتاج إلى مجلد ضخم، ومن هنا فإن ما سيسطر هنا ما هو إلا تحصيل حاصل فاستنباط الخصائص في معظمه من خلال الآيات القرآنية، لأن الله تبارك وتعالى هو العارف بخصائص حبيبه، وهو واهب مفتاح هذا الكنز المخفي. وليغفر لي الله تعالى ما قد يصدر عني من خطأ بسبب نقص في العلم أو سوء في الفهم. ويتضمن هذا الباب فصلين، يشتمل الأول على خصائص النبي (¬1)، والثاني على خصائص النبوة، التي غمر فيضها العالم والعالمين. ويلي ذلك توضيح للسنة المحمدية من خلال حديث نبوي شريف ويختم هذا الباب بشرح معاني عدة أسماء مباركة. وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم. ¬

(¬1) أي وجوده الذاتي.

الفصل الأول الخاصية الأولى

الفصل الأول الخاصية الأولى {محمد رسول الله} (سورة الفتح: 29). تضمنت الآية السابقة اسم النبي (ص) ومنصبه أيضا، والآية السابقة من الناحيتين مظهر للخصائص النبوية. أ - لأن اسم النبي (ص) يحمل بداخله خاصية بيان وإظهار شأنه (ص). ومن الواضح أن أحدا من الأنبياء الكرام عليهم السلام لا يشهد اسمه له بكمالات النبوة، ونورد هنا بعض الأسماء على سبيل المثال: آدم: معنى آدم قمحي اللون، ويدل اسم أبي البشر هذا على لون بشرته. نوح: معنى نوح الراحة، فقد جعله أبوه موجبا للراحة. إسحاق: معنى إسحاق الضاحك، وكان هش الوجه بشوشا. يعقوب: معنى يعقوب، من يأتي من العقب، وقد ولد توأما مع أخيه عيسو. موسى: أي المخرج من الماء، وقد سمى بهذا الاسم حين أخرج صندوقه من الماء. يحيى: أي طويل العمر، وهذا تعبير عن آمال أبويه فيه وكانا عجوزين. عيسى: أي أحمر اللون، وسمى بهذا الاسم لحمرة وجهه. انظروا إلى الأسماء السابقة، وفكروا بإمعان في معانيها لتجدوا أنها لا تشير من قريب أو بعيد إلى عظمة المسمى الروحية أو نبوته. ولكن اسم ((محمد)) له شأن خاص. والاسم الذاتي للنبي (ص) هو محمد وأحمد أيضا. ومادة الاسمين الذاتيين واحدة، فهما مشتقان من ((حمد)). إذا اجتمع الكمال في الصفات، والجلال في النعوت، والإحسان إلى الغير في الفطرة وفضائل العلم الكثير، فإن هذا كله مجتمعا يعني الحمد، والحمد أيضا يشمل الثناء والتكريم ورفعة الشأن والذكر ومداومة الجود والعطاء وجملة صفات الحمد هذه وجدت بأكمل درجة في ذاته سبحانه وتعالى، وحرف اللام في ((الحمد لله)) يدل على

هذا ويكشف الاسم الطاهر (الحميد) عن هذا السر أيضا. وكأن سيدنا حسان (ابن ثابت) رضي الله عنه المؤيد بروح القدس قد أشار إلى هذا المعنى في البيت المشهور من قصيدته المشهورة. وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد محمد: مبالغة من حمد (مضعف) لأن النبي (ص) محمود عند الله تعالى، ومحمود أيضا عند الملائكة المقربين، ومحمود عند جميع الأنبياء والمرسلين، ومحمود عند أهل الأرض جميعا وأولئك الذين لا يقرون بنبوته يمتدحون أيضا السجايا والشيم التي لزمت وثبتت بأتم درجة في معنى اسم النبي (ص) وذاته الكريمة. نعم فهو صاحب ((المقام المحمود)) ورايته الخفاقة تسمى ((لواء الحمد)) ولكل هذا أطلق على أهل أمته ((الحمادون)). والفرق بين معاني محمد وأحمد، هو أن محمدا هو الذي أثنى عليه جميع أهل الأرض والسماء أعظم الثناء، وأحمد هو الذي حمد رب السماوات والأرض وأثنى عليه بأكثر من أهل الأرض والسماوات جميعا، ولهذا فإن اسمه المبارك علم وصفة، وهو بمعانيه دال على كمالات النبوة ومدلول عليها أيضا. وهذه هي الخصوصية التي لا توجد ولا تتوفر في أسماء سائر الأنبياء عليهم السلام. ب - ومع الاسم المبارك يوجد علم رسول الله (ص) في سورة الفتح آية 29 (¬1) وسورة آل عمران آية 144 (¬2) رسول، على وزن فعول بمعنى مرسل من عند الله فقط فلا يبلغ رسالة أحد غيره ولا ينقل كلام أحد غيره فهذا ليس من شأنه، وإذا ما ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم دون إضافة، ورد معرفا باللام، وهو ما يفيد هذا التخصيص. والآية {محمد رسول الله} (¬3)، والآية {وما محمد إلا رسول} (¬4) توضحان أن قوله تعالى {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (¬5) وكذا الآيات التي تحمل نفس المعنى في القرآن ¬

(¬1) {محمد رسول الله والذين معه} ... إلى قوله تعالى {مغفرة وأجرا عظيما} سورة الفتح: 29. (¬2) {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ....} إلى قوله تعالى {وسيجزي الله الشاكرين} سورة آل عمران: 144. (¬3) سورة الفتح: 29. (¬4) سورة آل عمران: 144. (¬5) سورة النساء: 59.

الكريم إنما قصد بها ذات النبي (ص)، الذي جعله رب العالمين مطاع العالم وسيد الأنبياء والأمم. وقد آمن بهذه المسألة جميع المسلمين عبر القرون الثلاث عشر الماضية، رغم أنه في زماننا استحدثت عقيدة مفادها أن المراد بالرسول في الآيات الإلهية هو القرآن، ولهذا فرضت طاعة القرآن، ولم تفرض طاعة محمد (ص). وفيما يتعلق بالآية الكريمة التي زينت عنوان هذا الفصل {محمد رسول الله} نقول يجب حل هذه المسألة بالقرآن الكريم نفسه، فإذا ما تدبر أهل الإيمان في القرآن الكريم وضح لهم بجلاء أن لفظ الرسول أطلق فقط على الأنبياء الكرام أو على الملائكة الذين يؤدون واجب الرسالة، إلا أن لفظ الرسول لم يطلق أبدا على أي كتاب، انظروا إلى الآيات التالية: ورد على لسان نوح عليه السلام: {يا قوم ليس بي ضلالا ولكني رسول من رب العالمين} (¬1). وعلى لسان هود عليه السلام: {يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين} (¬2). وعلى لسان موسى عليه السلام: {وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين} (¬3). {وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم} (¬4) وعلى لسان المسيح عليه السلام: {إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله} (¬5). {ما المسيح ابن مريم إلا رسول} (¬6). ¬

(¬1) سورة الأعراف: 61. (¬2) سورة الأعراف: 67. (¬3) سورة الأعراف: 104. (¬4) سورة الصف: 5. (¬5) سورة النساء: 171. (¬6) سورة المائدة: 75.

{وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم} (¬1). وعلى لسان جبريل عليه السلام: {قال إنما أنا رسول ربك} (¬2). وهكذا يتضح من الآيات السابقة أن كلا من نوح وهود وموسى وعيسى وجبريل عليهم الصلاة والسلام قد وصف في القرآن الكريم بالرسول. والأمر الذي يظل قيد البحث هو أن سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم قد وصف أيضا بأنه رسول، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا ورد لفظ الرسول بمعنى المبلغ، ولماذا لا يفهم هذا معنى بالنسبة لرسول الله (ص)؟. نذكر فيما يلي الآيات التي يثبت منها أن كلمة ((رسول الله)) لا يمكن أن تعني أي كتاب من الكتب ولو على سبيل التأويل. 1 - {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} (¬3). من الواضح أن الرؤيا مختصة بالإنسان لا بالكتاب، والرؤيا جاءت للنبي (ص) لا للقرآن الكريم. 2 - {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله} (¬4). وقد كان تردد المنافقين على النبي (ص) وكان هؤلاء الناس يخاطبون النبي (ص) كما كان خطاب الله تعالى موجه إلى النبي (ص) وحرف المخاطب الكاف موجود في ثلاثة مواضع. 3 - {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم} (¬5). الذهاب والإياب، والنجاة والتأهل، هذه الصفات لا يمكن أن تكون صفات للقرآن الكريم وانظروا فقد وصف الرسول هنا بالتأهل وأنه صاحب أهل وعيال، مثلما وصف بقية المؤمنين أيضا. ¬

(¬1) سورة الصف: 6. (¬2) سورة مريم: 19. (¬3) سورة الفتح: 27. (¬4) سورة المنافقون: 1. (¬5) سورة الفتح: 12.

ولنقرأ فيما بعد نجد آيات متعددة ورد فيها ذكر النبي (ص) متضمنا ذكر القرآن الكريم. أ - {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (¬1). ولاشك أن ما أنزل إليه ((هو القرآن الكريم، ومحمد النبي الأمي (ص) - هو الرسول المخاطب في الآية السابقة، وقد قيل له: بلغ، وفرض التبليغ هنا عائد عليه، وعلينا أن نفكر هنا أيضا، فالمخاطب هنا في ((إليك)) هو الرسول ليس إلا، فمن غيره نزل عليه القرآن!. ب - {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا} (¬2). آياتنا هي القرآن الكريم، ومن يصدق عليه قوله تعالى: أرسلنا رسولا، ثم قوله تعالى ((منكم))، لا يدع مجالا للشك أنه ينتمي إلى قريش حسبا ونسبا، وكلام الله، أي القرآن الكريم لا يمكن أن ينسب إلى حسب ونسب. ج - {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (¬3). فأي شخصية للقرآن تلك التي تشبه الجنس البشري؟ والخلاصة أن القرآن الكريم بعد أن بين اسم النبي (ص) وعلمه، بين أيضا حيثيته لرسول، كما بين أنه مطاع بإذن الله ومفترض الطاعة، ولم يرد في أي موضع من القرآن الكريم. أن ((القرآن رسول الله)) والنتيجة هي أن القرآن الكريم قد جزم وقطع بأن سيدنا محمد (ص) هو الرسول الكريم، اتباعه فريضة وإطاعته واجبة على أهل العالم وعلى العالمين جميعا وقد قال تعالى في حقه: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} (¬4). كما قال في حقه أيضا: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (¬5). وهذه خصوصية أثبتت علو شأن النبي (ص) وعظمته. وهكذا ثبت من الآيات السابقة أن محمدا (ص)، هو ابن عبد الله، ولدته آمنة، ¬

(¬1) سورة المائدة: 67. (¬2) سورة البقرة: 151. (¬3) سورة التوبة: 128. (¬4) سورة النساء: 64. (¬5) سورة النساء: 80.

الخاصية الثانية

وهو محمد المكي والمدني الأمي الهاشمي القرشي الكناني العدناني، فخر إسماعيل ذبيح الله، ودعاء إبراهيم خليل الله، وبشارة عيسى عليه السلام)). وقد وجبت طاعته على العالمين جميعا إلى الأبد، وهي فرض عين، وهذا الأمر يعد مما اختص به النبي (ص). الخاصية الثانية {رسولا منكم} (البقرة: 151) المخاطب في ((منكم)) هم قريش مكة الذين كان العرب كلهم يعترفون لهم بالطاعة والولاء، وهم أيضا جميع البشر. ولهذا فالجدير بالملاحظة هنا هو روعة وفائدة قوله تعالى ((منكم)). فمن المعروف أن الأمم الشهيرة قبل النبي (ص) كانت قد أنزلت أئمتهم فوق منزلة البشر. فعند الهنادكة ما يقرب من اثنين وثلاثين مصطلحا يلقبونهم بالأوتار ومعنى هذا اللقب أن الإله قد أتى في قالب هذا المصلح أي أنه اتخذ لنفسه شكلا ماديا فتلبس بلباس المخلوق سواء كان إنسانا أو أسدا أو خنزيرا أو سلحفاة أو غير ذلك، ومن ثم يبين عن مظاهر قدرته الإلهية. والنصارى أيضا أنزلوا المسيح منزلة الإله في شكل الإنسان. وأهل التبت وضعوا ((دلائي لاما)) في منزلة الخالق. وأهل إنجلترا جعلوا من كرسي الملك آرثر وسيلة لمعرفة المذنب من غير المذنب. وجعل أهل النرويج من الصنم المعروف باسم دودين إلها لأوربا. والتتار جعلوا من أبناء السيدة ((النقوا)) مجهولي النسب أبناء النور. ونساء مصر حين شاهدن جمال يوسف أنكرن بشريته واعتبرنه ملكا {ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} (¬1). ¬

(¬1) سورة يوسف: 1 3.

الخاصية الثالثة

ووسط هذه الظروف كان محمد (ص) هو الذي كشف هذه الحقيقة وجعل البشرية أفضل درجات الخلق معلنا أنه هو نفسه بشر فهذه الكلمة الشريفة ((منكم)) أوضحت من ناحية أن الإنسان ((أشرف ما كان)) ومن ناحية أخرى حولت قصار النظر إلى التحليق في الآفاق، وأزالت سحب الأوهام وكشفت ستارة الظنون، ومزقت حجب الجهل، ورسمت أنظمة الحقيقة على لوح القلب، الحقيقة القائلة بأن كل إنسان رغم أنه يمتلك المواهب والكمالات والقدرة الكاملة للسيطرة على الطبيعة فهو بشر. وسيدنا محمد (ص) هو سيد الكون لأن إتمام كمالات العبدية كان من خلال عنصره البشري الشريف، وقد ورد في القرآن الكريم على لسان النبي (ص) في موضع آخر: {هل كنت إلا بشرا رسولا} (¬1). وهكذا فإن كلمة ((منكم)) رفعت درجة البشرية وأثبتت أن ذات النبي (ص) أرفع وأعلى من التأويلات الخيالية لقصار النظر وبهذا يثبت أن النبي (ص) هو رسول رب العالمين وهو بشير للناس أجمعين. الخاصية الثالثة {وعلمك ما لم تكن تعلم} (¬2). ثبت من آيات عديدة من القرآن الكريم أن النبي (ص) لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة ويتضح من كلمة ((علمك)) أن الله تبارك وتعالى هو الذي علم النبي (ص). وفي الدنيا يتم تعليم ((التلميذ)) عن طريق السمع والبصر أي الحسيات وحين يستقر هذا التعليم في الحواس الإنسانية يطلق عليه اسم ((التعلم)). أما تعليم الأنبياء فيبدأ من القلب: {نزله على قلبك} (¬3) ولهذا فهناك فرق كبير بين تعليم الله وتعليم العبد، يقول الله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} (¬4). ¬

(¬1) سورة الإسراء: 93. (¬2) سورة النساء: 113. (¬3) سورة البقرة: 97. (¬4) سورة الأعلى: 6.

الخاصية الرابعة

وكون التعليم الرباني فوق النسيان فهذه خاصية لا يمكن أن توجد في أي معلم أو متعلم في الدنيا. وحين نتدبر القرآن الكريم ونطالع الأحاديث الشريفة بعمق وتمعن ندرك أنهما يتضمنان أحوال الماضي وأخبار المستقبل وأحكام الحاضر، وهنا يتأكد أن النبي الأمي تلقى تعليمه من الله عز وجل الذي عنده علم الماضي والحاضر والمستقبل وهذه الخاصية التي اختص بها النبي (ص) على درجة كبيرة من الأهمية إذ ولد في قوم كانوا يفخرون بأميتهم، ولد في بلد بعيد عن البلدان المتحضرة ثم بقى لأربعين سنة لا يعرف التعليم والتعلم، ولكن حين تولى رب العالمين تعليمه، قام (ص) فنشر جميع العلوم والمعارف والحقائق والمعاني - وكانت أول آية كريمة: {اقرأ باسم ربك الذي خلق (*) خلق الإنسان من علق} (¬1) فإذا دققنا النظر في هذه الآية عرفنا أن تعليمه بدأ بحقيقة خلق الإنسان، وهذه مسألة دقيقة احتار فيها حتى الفلاسفة المنتهون، ولهذا فإن الآية الكريمة مظهر لخاصية النبي (ص). الخاصية الرابعة {ألم نشرح لك صدرك} (¬2) هناك رواية تتعلق بشرح الصدر وردت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه وهذه الواقعة تتعلق بالنبي (ص) في صغره حينما كان في قبيلة حليمة السعدية رضي الله عنها يقول أنس: إنه كان رأى أثر المخيط في صدر النبي (ص) المبارك (¬3). وهناك رواية أخرى عن شرح الصدر في الصحيحين عن أنس بن مالك بن صعصعة جاء فيها أن واقعة شق الصدر كانت ليلة المعراج عند الحطيم (¬4). وشرح الصدر الذي ذكره القرآن الكريم يؤيد الروايات المشار إليها، وكذلك يدل على معنى أوسع فتدبروا قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن ¬

(¬1) سورة العلق: 2، 1. (¬2) سورة الشرح: 1. (¬3) صحيح مسلم. (¬4) مسلم والبخاري.

يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} (¬1). {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} (¬2). {ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله} (¬3). {ويضيق صدري ولا ينطلق لساني} (¬4). {قال رب اشرح لي صدري (*) ويسر لي أمري} (¬5). وشرح الصدر في الآية الأولى هو الحالة التي تتيسر فيها الهداية الإلهية والتوفيق والسداد، وتجيش في الصدر الرغبة والشوق إلى الدين الحق. وتفيد الآية الثانية إنه بعد الرغبة الصحيحة والشوق الأصيل ينال الإنسان الدين الحق ثم ينال بعدها أنوار بركات الدين. وتبين الآية الثالثة أن الذي يميل إلى الكفر يصدق عليه الشرح بالكفر ويستوجب الغضب الإلهي. والآيتان الرابعة والخامسة تتعلقان بموسى عليه السلام حينما أمر بالذهاب إلى فرعون للإنذار والتبليغ فنظر إلى هذه المسؤولية بتخوف وقال: إن صدري يضيق عن هذا، فهذه الحالة قللت من شجاعته، فلما طمأنه الله تعالى قام فدعا بما ورد في الآية الخامسة. وخلاصة هذه الآيات الخمس أن معنى شرح الصدر بالنسبة للمسلم أن يغلب الصدق والحق، ويطمئن القلب كلية بدرجة تجعله يفوز بالهدى والنور. ومعنى شرح الصدر بالنسبة للنبي (ص) أن ينال الهمة العالية والعزيمة الراسخة والاستقامة المحكمة من أجل الإبلاغ فلا تشوب قلبه شائبة من خوف نتيجة جبروت ملك أو تسلط كافر، ولا يساوره شعور بالوحدة والمسكنة والعوز. والآن اقرأوا الآية التي زينت هذا العنوان بعد ربطها بسيرة النبي (ص) الطاهرة حتى تعرفوا أن النبي (ص) حينما أمر بقوله تعالى: {قم فأنذر} (¬6) لم يلجأ (ص) إلى عذر ولم ¬

(¬1) سورة الأنعام: 125. (¬2) سورة الزمر: 22. (¬3) سورة النحل: 106. (¬4) سورة الشعراء: 13. (¬5) سورة طه: 25، 26. (¬6) المدثر: 2.

الخاصية الخامسة

يظهر نوعا من الخوف ولم يساوره أي شعور بالخوف من التكذيب أو الخوف من القتل. كان موسى عليه السلام مأمورا بالذهاب إلى فرعون واحد لكن أعداء النبي (ص) كانوا مئات الفراعنة، إن فرعون كان حاكما لدولة منظمة، ولهذا عرض قضية قتل موسى على مجلس دولته. {قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه} (¬1). ولكن سفاحي العرب لم يكونوا ملتزمين برأي مجلس ولا مشورة أحد، ومع ذلك قام النبي (ص) بالإنذار والتبليغ بعد أن أمر بذلك ومن فوره. والصدر الذي خلا آنذاك حتى من العلوم الدراسية صار مخزنا للنور والمعرفة ومجمعا للهداية والعرفان، وخرجت منه ألوف من أسرار العلوم والحكمة، فأخرجت أهل الدنيا من الظلمات إلى النور. فحينما ينظر من يتدبر في الآيات القرآنية، ويرى أن شرح الصدر هو المقام الرفيع الذي طلبه موسى، وأعطيه النبي (ص) قبل أن يطلبه، ثم أجاب على ذلك رب العالمين في صورة الاستفهام التقريري، اتضح أن الآية المذكورة تظهر خاصية عليا للنبي (ص). الخاصية الخامسة {ووضعنا عنك وزرك} (¬2) الوزر هو الحمل الثقيل، وحمل الوزر هو أن يخف الوزر عن أحد فيحمله بنفسه، وفي هذا المعنى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (¬3). والوزير هو صاحب المنصب الذي يرجع إليه في مهمات الدولة. ¬

(¬1) الشعراء: 34 - 36. (¬2) سورة الشرح: 2. (¬3) سورة الأنعام: 164.

ولما كلف موسى عليه السلام بعبء النبوة دعا: {واجعل لي وزيرا من أهلي (*) هارون أخي} (¬1). ومنه يظهر أن أداء فرائض النبوة لم يكن سهلا، ولذا دعا موسى الله في اليوم الأول من نبوته بأن يجعل له وزيرا، ولكن النبي (ص) دخل في هذا الميدان وحيدا، وغمر الكون مثل الشمس بنوره الساطع، إنه (ص) لم ينظر إلى كثرة النجوم ولا إلى الظلمة السائدة، بل رفع وحده راية التوحيد والتبليغ، وبعد هذا الإيثار والتضحية والطاعة تولى الله تعالى نصره وخفف وزره. والموازرة في لغة العرب تعني المعاونة، وازرت فلانا موازرة أي أعنته على أمره. فما كان ذلك الوزر؟ تعددت أقوال المفسرين في ذلك، ولابد أن يرجح بعضها على بعض، انظروا بدقة إلى ترتيب الكلام، إن هذه الآية وقعت بين آيتي {ألم نشرح لك صدرك} و {رفعنا لك ذكرك} ولذا فمن المعقول أن يكون زمن هذه الآية بين الحالتين. والآيات التالية توضح معنى هذا الوزر: 1 - {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} (¬2). 2 - {فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون} (¬3). إن التزام أهل الضلال بالكفر، وجمودهم على الشرك، ورفضهم للنظر في الدلائل السمعية والبراهين المرئية، وإصرارهم على تقليد الآباء، وفرارهم من تحقيق الحق، وكثرة الفواحش، وانتشار الأباطيل، وفقدان الإنسانية، وطغيان الوحشية، كل ذلك كان ثقيلا على سمع النبي (ص) وبصره، وكان قلبه يتألم كثيرا من جراء تلطخ قومه بمثل هذه النجاسات. وبعون من الله تعالى بدأت تعاليم النبي (ص) تنتشر، وتنقشع سحب الكفر والضلال، فقد بعث الله تعالى من أقطار البلاد أناسا صالحين جاءوا إلى رسوله (ص)، فصاروا السابقين الأولين في الإسلام، ولم يحصلوا على الغذاء الروحي لأنفسهم فقط، ¬

(¬1) سورة طه: 29 - 30. (¬2) سورة الشعراء: 3. (¬3) سورة يس: 76.

الخاصية السادسة

بل أخذوا من النبي (ص) العاطفة القلبية التي مسحت دموع المساكين وداوت المجروحين، فمثلا نشر أبو بكر رضي الله عنه الإسلام في قبائل بني أمية وفهر وتيم ومخذوم وأسد وعدي، وأدخل الشعب الحبشي والبربري والسوداني في جماعة {مسفرة ضاحكة مستبشرة} (¬1) ورفع خاتم الخلفاء على المرتضى صوت النصرة والمعية في آل هاشم وآل بني طالب، وبلغ طفيل بن عمرو الدوسي هذه الرسالة إلى البادية، وعروة بن مسعود الثقفي إلى قمم الجبال بالطائف، وأنشأ مصعب بن عمير في المدينة المنورة مدرسة للتبليغ، ورفع جعفر بن أبي طالب (الطيار) نداء الرسالة في بلاط النجاشي ملك الحبشة. وخفف هذا المشهد الميمون عن النبي (ص) العبء وأقر عينه، وصار له قوة في العضد وسندا للظهر وسكينة للقلب؛ والحقيقة أن ذلك كمال اختص به سيدنا محمد النبي الأمي .. الخاصية السادسة {ورفعنا لك ذكرك} (¬2) 1 - من ذا الذي لم يسمع صوت الأذان مع نسيم الصباح المنعش ممن يسكنون على امتداد الشاطئ الغربي للمحيط الأطلنطي وحتى الشاطئ الشرقي لنهر ((هوانكهو))؟ ومن ذا الذي لم يشعر في صمت الليل أن كلمة ((أشهد أن محمدا رسول الله)) تزيده حيوية ومتعة؟ (¬3). ¬

(¬1) سورة عبس: 38 - 39. (¬2) سورة الشرح: 4. (¬3) أخرج البغوي بإسناده عن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) أنه سأل جبريل عليه السلام عن هذه الآية (ورفعنا لك ذكرك) قال: قال الله تعالى: إذا ذكرت، ذكرت معي. وعن ابن عباس يريد الأذان والإقامة والتشهد والخطبة على المنابر. وفيه يقول حسان بن ثابت: أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي مع اسمه ... إذ قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد (معالم التنزيل على هامش لباب التأويل 7/ 219).

هذه هي الكلمات التي تمتع أسماع المستيقظين والنائمين بإخبارهم عن أجمل بداية ونهاية لكيانهم. فهل هناك مثال لرفعة الذكر أسمى من هذا؟ ولماذا لم يتيسر اليوم لملك في ملكه، أو لزعيم في أتباعه، أن يعلن اسمه الميمون ليلا ونهارا ليصل إلى الأسماع، سواء أحب سماعه أحد أو لا؟ إلا أن الإعلان السابق يصل بالضرورة إلى أعماق القلب مرورا بالأسماع. نعم إن هذه الخاصية السامية قد حصلت لذلك الاسم المختار وحده الذي رفع ذكره رب العالمين، والذي أخبر عنه في كتاب اشعياء بأن بورك له في اسمه. 2 - انظروا إلى توماس كارلايل، إنه نصراني من رأسه إلى أخمص قدميه، يعد بفضل معرفته للتاريخ واللغة من العلماء الأعلام في انجلترا كلها. ألف كتابه عن أبطال العالم، فلم يختر من بين الأنبياء عليهم السلام إلا اسم النبي محمد (ص). فهل ترون أنه نسى معجزات موسى عليه السلام، وأنه جهل أعماله التي حفظت في أمواج البحر الأحمر وذرات تراب فلسطين؟ ألا يعرف داود الذي جمع شمل أسباط بني إسرائيل بعد التشتت، وأنشأ دولة قوية لم يرها، بل لم يحلم بها أولاد يعقوب إلى الآن؟ ألم يعلم كارلايل أن داود عليه السلام جمع بين العبادة والموسيقى، فملأ الهواء بالنغمات والجو بالمناجاة؟ إن تشجيع داود للموسيقى كان من الواجب أن يهز قلب كارلايل الراقص هزا. هل تظنون أن كارلايل نسى تنبؤات أشعياء التي كانت مادة التأليف لأناجيل متى ويوحنا؟! هل تعتقدون أنه جهل بركات النبي دانيال التي حملت ملك بابل الكافر والجائر على المحافظة على اليهود وتكريمهم، والذي أنقذ مئات الألوف من المؤمنين من القتل والصلب، وكشف النقاب عن طلسم أحداث المستقبل لمئات السنين بمفتاح تعبير الرؤيا؟ وهل تعتقدون أن كارلايل جهل خدمات شالتي ايل الذي بنى بعد الخلاص من الأسر قصر أورشليم الذي لا يقل عن هيكل سليمان؟ وهل تظنون أن كارلايل لم يعلم كهانة زكريا أي إخباره بالغيب وزهد يوحنا المعمدان وعبادته ووعظه وتذكيره؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة كلها بالنفي. أيها الأعزة! إن الأستاذ توماس كارلايل مع علمه بهذه الأمور كلها، بل مع الإيمان بها، كان مضطرا لاختيار اسم النبي (ص) من بين الأنبياء جميعا عليهم السلام. ولا يظن هنا أن كارلايل كان ملتزما باختيار اسم واحد فقط من بين الأنبياء، ولذا اكتفى باسم النبي (ص) فقط لأن هذا المؤلف نفسه لم يتقيد بالعدد الواحد في أصناف الحكماء والشعراء والفلاسفة. وهكذا فلو أراد لأتى بأكثر من اسم في مبحث النبوة. وهذا يقوي دليلنا أكثر، ويوضح أن كارلايل حينما نظر في ضوء بحثه التاريخي إلى شمس النبوة المحمدية، لم يجد في سماء النبوة التي امتدرت لآلاف السنين كوكبا نبويا آخر يماثل محمدا (ص)، حتى يضعه في جنب هذه الشمس المنيرة في كتابه. هذا نموذج رفعة الذكر، نصراني صادق في نصرانيته وأستاذ في جامعة مثل كيمبردج تفتخر به انجلترا كلها، يؤمن بألوف الأنبياء ويعلم أسماء مئات منهم، وحينما أراد تقديم نمونج للنبوة قدم اسم سيدنا ومولانا محمد (ص) النبي الأمي، وبهذا تمت كلمة الرب تعالى في القرآن: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬1). 3 - ثم ينبغي أن نتذكر بيان المؤمنين لرفعة الذكر، فقد أثبتنا بالكتاب المقدس الحالي أن كل نبي من سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى يعقوب وموسى وداود وسليمان وأشعياء ويرمياه ودانيال وحرقيال وحبقوق وملاخي ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، قد بين المحامد المحمدية والصفات المصطفوية بأساليب بديعة وعلامات متنوعة. وهذا هو الأمر العظيم الذي لم يحصل لأي نبي آخر. إن مؤلف الإنجيل الأول القديس متى قد أشار إلى بعض التلميحات التي وردت في الصحف السابقة عن سيدنا عيسى المسيح عليه السلام. وعلى المنصف أن ينظر إلى تلك الإشارات المجملة ويفكر في طريقة استدلال متى التي استخرجها، ثم لينظر إلى الآيات البينات التي توجد في الكتاب المقدس نفسه وتصدق على ذات النبي (ص) المباركة. كان القديس متى محبا صادقا للمسيح، وكان مطلعا تمام الاطلاع على محتوى الكتاب المقدس وذلك يؤكد لنا أنه لم يكن ليترك تسجيل تنبؤ في إنجيله يتعلق بالمسيح. ¬

(¬1) الأحزاب: 21

الخصائص السابعة والثامنة والتاسعة

ونحن أيضا نؤمن بأن مصداق تلك الأخبار التي يذكرها متى هي ذات المسيح عليه السلام، ثم نتناول تلك التنبؤات التي بقيت إلى عصر متى كتنبؤات (أي أخبار مستقبلية) والتي لا تصدق إلا على النبي (ص). ويسمع اليهود والنصارى والمسلمون أن الكتاب المقدس الحالي مذكور فيه بوضوح اسم النبي (ص) المبارك ومولده ومهجره، والقبائل التي آمنت به، والأمم التي قاتلته بوضوح تام وهذا في الواقع تفسير قوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك) وبهذا كله يتضح كيف رفع الله تعالى ذكر النبي (ص) قبل قرون بإعلان واضح قوي. ولاشك أن أحدا مهما كان صالحا وعظيما، لم يشارك النبي (ص) في هذه الفضيلة العليا: {فلله الحجة البالغة} (¬1). الخصائص السابعة والثامنة والتاسعة {ما ودعك ربك وما قلى (*) وللآخرة خير لك من الأولى (*) ولسوف يعطيك ربك فترضى} (¬2). هذه الآيات الثلاث من سورة الضحى، وقد اتفق المفسرون على أن كلام الله تعالى نزل على النبي (ص) في ابتداء البعثة، وتأخر الوحي، ثم توقف فازداد طلب النبي (ص) وتطلعه والظاهر أن الطلب والشوق لا يمكن أن ينفصلا عن القلق والتردد، فكيف لا يتطلع النبي (ص) إلى الوحي الرباني الذي فتح على القلب والروح باب العلوم والحقائق؟ وكلما طال زمن الهجر نشأت في الشوق إلى الصادق تفسيرات وتأويلات. 1 - فالبداية كانت من عند الله. 2 - أكرمني برسالته. 3 - فكيف يكون هذا الصمت الآن؟ 4 - لا يصح أن ينسب الصمت إلى الحضرة الإلهية. 5 - ومن الأدب أن أنسب السبب إلى نفسي. 6 - هل أترك في هذه الحالة من القلق والاحتراق والعطش؟ 7 - متى تنتهي هذه الحالة؟ هذه هى الظنون التي قد تعتري قلب المحب الصادق، وفي النهاية انتهى زمن ¬

(¬1) سورة الأنعام: 149. (¬2) سورة الضحى: 3 - 5.

الانتظار وانتهت الظنون التي نشأت بسبب اجتماع الشوق والإرادة، أو اللوعة والاحتراق التي أحمت القلب. حبيبي ما هو الوداع؟ وأين القلى؟ الرب الذي رباك. والذي رعاك من آدم إلى الآن في أطوار {وتقلبك في الساجدين} (¬1). والذي أحصن وطهر ظهور وبطون آبائك الكرام وأمهاتك العظام. والذي حافظ عليك في اليتم كالدر اليتيم. والذي نجاك من متاعب العيال مع كثرتهم. والذي جعل لك جبل حراء طورا. والذي ملأ، بدون لمعان النار الظاهري، عينيك نورا وقلبك سرورا، وروحك راحة وإيمانك يقينا. لا يمكن أن ينسب إليه الوداع والقلى (¬2). والآن نزف إليك بشرى سارة، وهي أن الزمن القادم يكون أطيب وأحسن مما سبق (¬3). إن قوله تعالى {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (¬4) كان بداية لتلك المدرسة، حيث ¬

(¬1) سورة الشعراء: 219. (¬2) جاء في الصحيحين عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله (ص) فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثا، فأنزل الله عز وجل {والضحى والليل إذا سجى (*) ما ودعك ربك وما قلى}. ويتضح من هذا أن هذه المرأة استخدمت لفظة قلى فنزلت الآيات السابقة ردا عليها. (¬3) لاشك أن كلمة ((الآخرة)) في الآية أريد بها دار الجزاء، ولكن جاء إطلاقها بمعنى أوسع أيضا، كما في قوله تعالى: {ثم الله ينشئ النشأة الآخرة} (العنكبوت: 20) وفي قوله تعالى: {ما سمنا بهذا في الملة الآخرة} (ص: 7) فالآخرة يراد بها الزمن القادم أيضا. قال الخازن: وحمل الآخرة على ظاهرها من خيري الدنيا والآخرة معا أولى (لباب التأويل 7/ 215). (¬4) سورة العلق: 1.

تتفتح أبواب المعارف والحقائق، وتتنزل الأنوار والبركات والمشاهدات والتدليات، وتعلو علامة النصر والفتح. وتلمس وفرة العلوم وكثرة المؤمنين، وقد كان ذلك، فقد استمر كل هذا مع الترتيب والتنزيل. وقد كان هذا التنبؤ في الكتاب المقدس قبلا: حكم على حكم، قليل هنا وقليل هناك، ازدادت كمية العطاء والنوال برضا من النبي (ص) وموافقته، وتقدير العطاء لم يكن بقدر إزالة القلق والاضطراب، بل كان قدره قدر سعة الطلب والشوق ورضا القلب والروح. هذه هي غاية الفضل والكرم، الوصول إلى الكمال، وهذه هي خاصية النبي (ص)، فالعطاء يزداد حسب رضا النبي (ص) وإتماما لهذه الخاصية أكرم الله تعالى أصحاب النبي (ص) بخلعة الرضوان، فقال تعالى: ألف - {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (¬1). ب - {رضي الله عنهم ورضوا عنه} (¬2). ج - {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون (*) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم} (¬3). د - {ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} (¬4). ش - {ورضيت لكم الإسلام دينا} (¬5). ونحن على يقين وإيمان بأن هذا الأمر من شأن النبي (ص) وحده إذ أكرم الله الذين آمنوا به برضاه ولطفه. وهكذا تحقق الوعد الذي تضمنته الآية الذي صدرنا بها هذا العنوان: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (¬6). ¬

(¬1) سوره الفتح:18. (¬2) سورة البينة: 8. (¬3) سورة التوبة: 20، 21. (¬4) سورة التوبة: 72. (¬5) سورة المائدة: 3. (¬6) سورة الضحى: 5.

الخاصية العاشرة

وسوف يرى أهل الإيمان المشهد الكامل لذلك يوم الدين، حيث ينالون أكثر مما يطلبون ويسألون، وأكثر مما يتوقعون بمئات الدرجات. الخاصية العاشرة (النبي الأمي) (¬1) من المؤكد أن أحدا من الأنبياء لم يلقب بالرسول النبي الأمي سوى سيدنا محمد (ص) هذا، والاطلاع على الأقوال الطيبة التي ذكرها العلماء عن كلمة ((الأمي)) يزيد القراء فرحا وبهجة. ألف: الأمي نسبة إلى أم القرى، وقد سمى الله تعالى مكة أم القرى. {ولتنذر أم القرى ومن حولها} (¬2). وطبقا لقول المؤرخ الألماني المعروف ((سبرينجر)) و ((سكريدر))، فإن رأي المؤرخين الذي يجعلون البلاد العربية الموطن الأصلي لأبناء سام، سديد جدا، والروايات الإسلامية الصحيحة أيضا تدل على أن أول بلدة نشأت في الجزيرة العربية كانت مكة المكرمة، حيث أقامت القبائل الرحل وتحولت إلى حياة العمران والتمدن بعد حياة البربرية والوحشية، والحاصل أنه يثبت من التاريخ والرواية أن مكة هي أم القرى. ولنعرج الآن على دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي دعا به عند تأسيس مكة: {رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات} (¬3). ومن دعائه أيضا: {وابعث فيهم رسولا منهم} (¬4). ويتضمن دعاء الخليل أمرين عجيبين؛ الأول: طلب الفواكه والثمرات بكثرة لأهل البلدة التي عرفت بأنها غير ذي زرع. ومن تأثير هذا الدعاء أننا نرى أسواق مكة تتراكم فيها الفواكه والخضروات من مختلف الأنواع. وهذه العلامة الظاهرة تدل على أن الله تعالى شرف دعاء الخليل بالقبول. ¬

(¬1) سورة الأعراف: 157. (¬2) سورة الأنعام: 92. (¬3) سورة البقرة: 126. (¬4) سورة البقرة: 129.

والثاني: أن نفس هذا الدعاء يوضح أن أثره لم يقتصر على غذاء الجسم ولذة الفم، بل كانت كلمات الدعاء بالروحانية أقوى، فبعث رسول الوعد ورسول دعاء الخليل، بعث برفعة وشرف، فكان من أهل تلك البلدة تربطه بهم رابطة النسب، ولذا صح أن يقال له الأمي، نسبة إلى أم القرى. ب - اسم الأمي منسوب إلى الأمة ومعناه: النبي (ص) الذي يكون مخدوما ومطاعا لأمة كبيرة، وتاء الأمة سقطت بسبب النسبة، كما يقال ((مكي)) في النسبة إلى مكة، وعلى هذا فإن كلمة الأمي تفسيرها موجود في حديث رواه مسلم عن أنس، وفيه: ((أذا أكثر الأنبياء تبعا)) (¬1). ج - اسم النبي (ص) الأمي منسوب إلى الأم، بمعنى أن النبي (ص) مبرأ ومطهر من جميع العيوب والنقائص، بفطرته الطاهرة الزكية وبعصمة من الله تعالى، مثل الولد الذي يولد من بطن أمه. وانطلاقا من هذه المعاني أنشدت عائشة الأبيات التالية في النبي (ص)، وسر النبي (ص) بسماعها كثيرا (¬2): ومبرء من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مخيل وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت بروق العارض المتهلل د - الأمي نسبة إلى الأم، بمعنى أن النبي (ص) لم يرغب بعد الولادة في اكتساب العلوم والفنون، ولم ينقش في قلبه حرف كتابة أو قراءة، وهكذا كانت حالة العرب، فإنهم جهلوا الكتابة والقراءة، وكانوا يقضون حياتهم كلها على حالة الطفل الذي لم يذهب إلى مدرسة ولم يتلق دروسا ولم يمسك بيده قلما ولم يجر على لسانه درس. ولهذا سمى اليهود العرب بالأميين، {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} (¬3). وقد صار هذا الاسم علما على أهل الجزيرة العربية، يقول تعالى: {وهو الذي بعث في الأميين رسولا} (¬4). ¬

(¬1) مسلم عن أنس. (¬2) الخصائص الكبرى 1/ 67. (¬3) سورة آل عمران: 75. (¬4) سورة الجمعة: 2.

وأطلق الله تعالى هذا اللفظ على الأميين من أهل الكتاب: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب} (¬1). والحاصل أن لفظ ((الأمي)) يدل على أن النبي (ص) كان أرفع من طريقة أهل الدنيا في التعلم. وقد أبان الله تعالى عن هذا المعنى في موضع آخر فقال: {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} (¬2). وبملاحظة المعنى السابق ندرك أن اسم النبي (ص) الأمي معجزة كبيرة. وليعلم أن النبي من النبأ، وهو يطلق على الواقعة العظيمة والإعلام بأمر هام. أي النبي هو من يخبر أهل العالم بالعلوم العالية والوقائع العظيمة. وحينما يضاف هذا اللفظ إلى الله فهو يعني أن النبي يتلقى من الله مباشرة العلوم العالية والشرائع السامية والنواميس الربانية. وقيل إن النبي مشتق من النباوة أي المكان المرتفع، فالنبي (ص) احتل مكانة عالية لا يصل إليها إنسان بالكسب والاجتهاد والرياضة، بل سبب وصوله إليها هو الاصطفاء الرباني المحض. ووصفه بالنبي (ص) الأمي دل على أنه بعيد عن معرفة الحرف والكتابة، ومع ذلك صدرت مته باستمرار العلوم العظيمة والآيات الكاملة. ويعلم أهل السيرة أن النبي (ص) كان يلقب ويدعى بالنبي (ص) الأمي، وكان يفرح بذلك، ولننظر إلى حال أهل زماننا، إن أحدا منهم إذا علم وفهم قليلا أحب أن يلقب بالفاضل والأكمل واللوذعي والألمعي والعلامة وغير ذلك من الألقاب. وقد صار ذلك خاصة كل كاتب وخطيب، فإنه يريد أن يقدر علمه وفضله بأكثر مما هو عليه. ولكن سيدنا محمد (ص) كان يعترف دائما بأميته، ومع ذلك كان يأتي إليه ألوف من العلماء ومئات الحكماء ليتتلمذوا عليه (ص)، وكانوا يصرحون بأنه (ص) بحر في علمه وفهمه، وليس علمهم بجانب علمه إلا قطرة من هذا البحر. ¬

(¬1) سورة البقرة: 78. (¬2) سورة العنكبوت: 48.

الخاصية الحادية عشرة

انظروا! إن الذي لم يتتلمذ على أحد صار أستاذا للدنيا كلها، يعلمهم محاسن الأخلاق ومحامد الأعمال وتدبير المنزل وسياسة المدن والاقتصاد والسياسة والعمران والعلوم التي تنور العقل والقلب وتجلي الروح، وأبواب مدرسته القدسية لا تقفل أبدا، وليس للالتحاق بها مصروفات أو رسوم، ويجلس فيها البدوي والحضري والحكيم والعامي جنبا إلى جنب كل يستفيد حسب كفاءته وقدرته. وعلى هذا يحمل لقب الأمي معنى قوله (ص): ((علمني ربي فأحسن تأديبي)) (¬1) وتتحقق دعوى {ويعلمهم الكتاب} (¬2). 5 - وهناك سبب آخر لهذا اللقب، وهو أن جميع الأنبياء من آدم أبي البشر إلى عيسى بن مريم بينوا النعوت العالية والصفات الجلية للنبي (ص)، فألف الأمي ترمز إلى آدم، وميم الأمي ترمز إلى المسيح وياء النسبة تكشف هذا السر: أمي وكويا بزبان فصيح ... از ألف آدم وميم مسيح أي (أمي يتكلم بلسان فصيح ... من ألف آدم وميم المسيح) الخاصية الحادية عشرة {إنا أعطيناك الكوثر} (¬3) كوثر على وزن فوعل، وهو وزن المبالغة، والكثرة بنفسها تدل على الزيادة، وإذا استعملت على وزن المبالغة دلت على الزيادة فوق الزيادة، والكثرة فوق الكثرة، وجاء في البخاري عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر قلت لسعيد بن جبير إن أناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. ويصدق وجود الكوثر حديث أنس في الصحيحين، ولذا يصح التفسير المذكور بعد التيقن بوجود حوض الكوثر، فإن الآية التي بدأنا بها هذا العنوان تخبر عن نعم الله ¬

(¬1) قطعة من حديث علي أخرجه القاضي عياض في الشفا (1/ 85). (¬2) سورة البقرة: 129. (¬3) سورة الكوثر: 1.

تعالى غير المتناهية وعطاياه التي لاحدود لها، ويذكر أشياء كثيرة تحت هذا الخير الكثير، كما ذكر الإمام فخر الدين الرازي (¬1) منها: 1 - النبوة المحمدية، فإنه لم يعط أحد قبل ذلك هذه النبوة الجامعة والرئاسة العامة والدعوة الكاملة والهداية البالغة. ومن ثمار هذه النبوة قول الله تعالى في نبيه: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (¬2). وقوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} (¬3). فصاحب الكوثر هو الذي أمر الله بإطاعته. وصاحب الكوثر هو الذي جعلت طاعته طاعة الله تعالى. وصاحب الكوثر هو الذي سبقت نبوته تاريخ البشر، واتصلت نهايتها بنهاية العالم. انظروا في كلام رب العالين فهو أيضا يقول: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} (¬4). ويقول: {والله يعلم إنك لرسوله} (¬5). فشهادة رب المشرقين والمغربين تصدق وتؤكد الشهادتين، ولذا لا يبقى شك في كون النبوة المحمدية والرسالة المصطفوية خيرا كثيرا. 2 - ومنها أن المراد بالكوثر الإسلام، الإسلام الذي لن يقبل عند الله دين سواه، الإسلام الذي أعلم به الأنبياء عليهم السلام، الإسلام الذي يجمع سعادة الدارين، ويضمن فلاح الثقلين. ¬

(¬1) مفاتيح الغيب (498/ 8) وما بعدها. (¬2) سورة النساء: 80. (¬3) سورة النساء: 64. (¬4) سورة آل عمران: 18. (¬5) سورة المنافقون: 1.

3 - ومنها أن المراد بالكوثر كثرة الأمة، وهذه الكثرة تفوق الحد والعد وتنمو يوما بعد يوم. تقول الإحصائيات أن عدد المسلمين بالهند في عام 1881 م كان نحو أربعين مليونا، وفي عام 1921 م بلغ عددهم نحو سبعين مليونا، أي ضعف ما كانوا عليه قبل أربعين سنة، وهذا في الهند وحدها، ومن المؤكد أن عددهم قد ازداد في الأقطار الأخرى بمثل هذه النسبة. وفي مقابل ذلك نرى انتقاص العدد في أكثر الأمم، وأنها تمضي إلى بحر الفناء، فالإسلام هو الذي تمتد جذور شجرته الزكية إلى منابع الأرض وهو الذي تغشى غصونه الثمرة جو السماء. 4 - ومنها أن المراد بالكوثر القرآن الكريم، الكتاب المجيد، وهذا هو الخير الكثير الذي عجزت عن مدحه وثنائه أقلام غصون الأشجار ومداد قطرات البحار، ولو اجتمع عمر نوح وفهم جبرئيل لما أمكن حصر الأسرار القرآنية، إن هذا الكتاب قلزم الحقائق، وكوثر العلوم، ومطلع الأنوار، ومخزن الأسرار. كانت معجزات الأنبياء عليهم السلام تظهر في وقت خاص كما أن هذه المعجزة ظهرت في عهدهم المبارك فقط، فتحولت عصا موسى إلى ثعبان ثم عادت إلى سيرتها الأولى، مشهد شوهد في بلاط فرعون بعد جبل الطور، وتلك العصا صارت آلة انفجار الماء لبني إسرائيل، ولما انتهت الحاجة عادت العصا إلى حالتها الأولى، مجرد ((خشبة)) في يد الآخرين. ولكن القرآن معجزة سيدنا محمد (ص)، معجزة حية، معجزة خالدة أبدية، فإعجازه موجود ومشهود في كل وقت وآن، وبإمكان كل عالم أن يقدم البرهان على إعجازه في جميع الأحيان، فلا شك أنه الخير الكثير الذي كان لابد أن يتم إعلانه من الرب الرحمن. 5 - المراد بالكوثر هو الفضائل الكثيرة والمحامد الجميلة والصفات الكثيرة التي اندرجت تحت الوجود النبوي. ووجود النبي (ص) الكريم قد تجمع في ذاته ألوانا من الصفات الحميدة التي توفرت في ذوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مثل: إنابة آدم، واستقامة نوح، وحلم إسماعيل، وعلم الخليل، ودرس إدريس، وتنفيث شيث، وحقيقة إسحاق، وتبصر

الخاصية الثانية عشرة

يعقوب، ونور يوسف، وصلاح صالح، وهدى هود، وجمعية شعيب، ولطف هود، وعبرة عزير، وعظمة سليمان، وهم يحيى، وعدل داود، ودعاء يونس، وإياب أيوب، وذهاب زكريا، وإمامة هارون، وإيناس إلياس، وزهد عيسى، وعلو موسى، وإحسان لقمان، وقيادة الخضر، وسعي عيسى، وكفالة ذي الكفل هذه الألوان المتنوعة التي اجتمعت في شخصيته التي أشرقت كالشمس، فظهر لون شخصيته، ذلك اللون الذي احتوى بداخله جميع الألوان ليشكل منها اللون الخاص، لون رحمة للعالمين. 6 - المراد بالكوثر السيد الكثير الخير، وقد ذكر هذا المعنى صاحب الصحاح. ولاشك أن النبي (ص) سيد ولد آدم، وقد خاطبه الله تعالى بقوله (يس) ولاشك أنه (ص) سيد كثير الخير، وهو قنديل الهداية الذي بدد ظلام الكفر والشرك، وهو السراج المنير الذي أضاء العيون بالحقيقة؛ وهو الذي نور القلب والروح، وهو العبد الكامل الذي أجلس الإنسانية على عرش السيادة. والحاصل أن عطية الكوثر من خصائص النبي (ص)، وأدعو الله أن يتمتع عطي الأمة بلطف النبي (ص) يوم القيامة وأن يشربوا من حوض الكوثر فيفرحوا بما آتاهم الله، اللهم اجعلنا منهم. الخاصية الثانية عشرة {إنا فتحنا لك فتحا مبينا (*) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وينتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما (*) وينصرك الله نصرا عزيزا} (¬1) تخبر الآية عن وقع الفتح المبين، ثم ما ترتب عليه من النتائج من غفران الذنب المتقدم والمتأخر وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز. وقد فصل العلماء الكلام في الذنب المتقدم والمتأخر، وبينوا معنى غفرانه. ¬

(¬1) سورة الفتح: 1 - 3.

الف - فأراد البعض بما تقدم وما تأخر زمن ما قبل النبوة، وقالوا: أخبر في الآية عن غفران أمور الجاهلية واعترض على ذلك الإمام السبكي قائلا بأن النبي (ص) لم يتلبس حتى قبل النبوة، بأمر من أمور الجاهلية ولهذا فلا معنى لغفران ذنب لم يرتكبه. ب - وقد أراد الزمخشري والبيضاوي (¬1) بالذنب الزلات الصغيرة، وقالوا: إن الله تعالى جعلها موضع لطفه وعنايته. واعترض الإمام السبكي بأن مثل هذه الزلات أيضا لم تثبت في حق النبي (ص)، وقد اتفق علماء الأمة على عصمة الأنبياء عليهم السلام بحيث لا تصدر منهم صغائر ولا كبائر، ولهذا لا يستقيم التعليل المذكور. ج - ثم بين السبكي رأيه في الموضوع، واستحسنه الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي، فقال: إن الآية لا تخبر عن وقوع معصية أو ذنب في الحقيقة، بل تفيد التكريم والتشريف إذ إذا تصور أحد إمكان وقوع زلة فإنها أيضا مغفورة. بل المراد نفي الذنب مطلقا. ويقول: ليس مقصود الكلام إثبات ذنب ثم غفرانه بعد ذلك. د - وقد حمل القاضي عياض (¬2) رحمه الله لفظ المغفرة على التبرئة من العيوب. هـ - وقد أورد الخازن (¬3) في ((تفسيره)) قول عطاء الخراساني بأن المراد بما تقدم من الذنب ذنب أبويك آدم وحواء عليهما السلام، وبما تأخر منه ذنب الأمة. وللقراء أن يختاروا من هذه الأقوال ما شاءوا، ولكن الحقيقة أن هناك بقية من القول بعد ما ذكرناه في بيان العلماء وشرحهم. فالوجه الأول للإشكال أن قوله تعالى {ما تقدم من ذنبك وما تأخر} واضح في إثبات الذنب، وهذا مخالف لعقيدة جمهور الأمة بالإجماع. والوجه الثاني أن اللام في قوله ((ليغفر)) لام كي، ويكون الإشكال هنا هو ما هي العلاقة في جعل فتح مكة سببا للمغفرة؟ ¬

(¬1) أنوار التنزيل (317/ 2). (¬2) الشفا ج 2 ص 138. (¬3) لباب التأويل ج 6 ص 157. سورة الفتح.

وقد تبين لي بعد النظر في عديد من أقوال العلماء أن هناك مجالا لمزيد من التوضيح والتعليل. فالأمر الأول أن المراد بقوله {فتحا مبينا} هو فتح مكة خطأ ففد أخرج الشيخان والترمذي عن أنس أن قوله تعالى {إنا فتحنا لك} نزل عقب صلح الحديبية، فإن صحابة الرسول (ص) قد أحزنهم أن قريشا منعوا النبي (ص) وأصحابه من التقدم بعد الحديبية، فلم يتيسر لهم طواف الكعبة، ولم يبلغ الهدى محله، بل إنهم نحروا الهدي في ذلك المكان وأحلوا. وهنا انتاب المسلمين شعور الفشل، ولم يقدر كثير منهم الأهمية القانونية والأخلاقية للعهد الذي أبرم بين الفريقين في هذا المكان، فأظهر الله تعالى في القرآن الكريم هذه الأهمية، وأوضح الفوائد والبركات المترتبة على عقد هذا الصلح. فقد أخرج البخاري في باب عمرة الحديبية عن البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. وقد اتضح بهذه الرواية أن الفتح المبين هو صلح الحديبية وبيعة الرضوان، وهنا نسوق فقرات معاهدة الحديبية بعد الجمع بين الروايات العديدة: ((هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو: 1 - على أن يخلى بيننا وبين البيت فنطوف به من العام المقبل. 2 - ولا يدخل مكة بالسلاح إلا السيف في القراب، يخلون له مكة ثلاثة أيام. 3 - ولا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها. 4 - وعلى أن من جاء قريشا من المسلمين لم يردوه إلى المسلمين. 5 - ومن جاء المسلمين من قريش يردوه إلى قريش. 6 - وعلى أن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن دخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. 7 - وعلى أن الحرب توضع بينهم عشر سنين. 8 - وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة في صدور سليمة.

وهذه المعاهدة لو رآها سياسي في العالم لعرف أن المسلمين كانوا قد صالحوا بتنازل كبير أو على شروط مجحفة، ولكن هادي الإسلام جعل هذا الصلح فتحا مباركا، ووصفه القرآن الكريم بأنه فتح مبين، وذلك: الف - لأن قريشا، وهم أعداء المسلمين الحاقدون، وعدوا بالسكوت وعدم المحاربة لعشر سنوات. ب - وأن الفتح قد أتاح فرصة التنقل الحر للفريقين. ج - وتمكن المسلمون من نشر الدعوة في قبائل الكفار، ومتى فهم الناس حقيقة الإسلام زالت الشكوك الكاذبة، وبطلت الظنون الخاطئة. ولفظ ((الفتح)) يطلق على الانتصار في الحرب، وعلى حل المشكلات، وقد كان هذا بالنسبة للإسلام فتحا مبينا فقد أزيلت العقبات من طريق الدعوة الإسلامية. والآن ننظر إلى كلمة ((الذنب)) الواردة في آية العنوان: ألف - أنها تطلق على المعصية، والمعصية تطلق على مخالفة الأحكام الشرعية. ب - وتأتي بمعنى الإتمام، أي إتمام بالخروج على أحكام وطنية أو حكومية أو قومية، وإذا نظرنا إلى كلمة ((الذنب)) (بالفتحتين) بمعنى الذيل لعرفنا معنى ((الذنب)) (بفتح وسكون) أي التهمة التي ألصقت وراء أحد. والذنوب (بفتح الأول)، وهو الدلو الذي ربط في طرف الحبل، وهذا أيضا يرشد إلى المعنى اللغوي، ولذا لا يجب أن يفسر الذنب في الآية بالمعصية، ثم يظن أن هناك معصية ارتكبها النبي (ص). اسمعوا للقرآن يقول على لسان موسى: {ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون} (¬1). فمن الواضح أن موسى عليه السلام لم يرتكب معصية شرعية لدى فرعون وقومه، ولذا يصح أن نترجمها بالتهمة، وهناك فرق كبير بين التهمة والجريمة، فإن لفظ ((التهمة)) يطلق على الجريمة التي يعتقد المدعى أنها صدرت من شخص بمخالفة حكم القانون أو الدولة. والجريمة تطلق على فعل الشخص بعد ثبوت مخالفته للدولة أو القانون. ¬

(¬1) سورة الشعراء: 14

فأتباع فرعون كانوا ألصقوا بموسى تهمة القتل العمد، وكان عقاب ذلك بعد ثبوته القتل قصاصا. وكان موسى يفهم نظرة أتباع فرعون، ويعلم أنهم لا يراعون بفكرهم العادي شرط النية، ولا يفهمون أن اللطمة الواحدة لا تؤدي عادة إلى الهلاك، أو يغلب على ظن اللاطم كونها مؤدية إلى الهلاك علما أو احتمالا، ولو ضمت هذه النقاط القانونية الضرورية إلى إتمام موسى لكانت تهمة القتل الموجهة إلى موسى أقل مما هو مذكور في البند رقم (323) في القانون الجنائي للهند، أي مثل الفعل التأديبي فيما يتعلق بحسن النية وهكذا لا تكون هناك جريمة من وجهة نظر القانون. ج - ورد في الحديث: (إذا تصافحا لم يبق بينهما ذنب) (¬1). قال صاحب مجمع البحار (¬2) مبينا معنى الذنب هنا: أي غل وشحناء، فالذنب هنا بمعنى الحقد وضيق الصدر. د - ورد في آية أخرى من القرآن: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين} (¬3) فذكر ههنا ذنب واحد للنبي (ص) وللمؤمنين. وبالنظر إلى الأمور المذكورة أرى أن معنى الذنب في الآية إلصاق التهمة من القوم، والمراد بما تقدم زمن ما قبل الهجرة، وبما تأخر زمن ما بعد الهجرة. ويعلم علماء السيرة أن التهم التي وجهت إلى النبي (ص) من الكفار قبل الهجرة كانت مختلفة عن تلك التي وجهت إليه بعد الهجرة. ما اتهم به قبل الهجرة: أنه كاهن، وشاعر، ومجنون، وساحر، وأنه يختلق الأساطير بعد سماعها من الناس، وأنه يأتيه أحد من غير قومه فيدرسه، وغيرها كثير. ما اتهم به بعد الهجرة: إنه يفرق بين القوم، ويخرب مكة، ويفرق بين أخ وأخ، وبين الأم وولدها، ويهدد تجارتنا ويشتت شمل أمتنا وغيرها كثير. تهم موجهة إلى المؤمنين: وكانوا يتهمون المؤمنين بأنهم سفهاء، بادي الرأي، أراذل، عبيد لا يلتفت إليهم، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة: {تزدري أعينكم} (¬4) ¬

(¬1) مشكاة المصايح تحقيق الألباني (4694). (¬2) مجمع البحار (1/ 446). (¬3) سورة محمد: 19. (¬4) سورة هود: 31.

وأنهم لو لم يجدوا الأمل لتخلوا عن محمد (ص) كما أشارت الآية الكريمة: {لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى يفضوا} (¬1) وكان عروة بن مسعود وجه نفس التهمة إلى المسلمين حينما جاء إلى النبي سفيرا لقريش، فقال: إنهم مخلوك. فكان رد أبو بكر عليه ردا مفحما مخزيا. وعلى ما قلنا يكون معنى الآية أن أول ثمرة طيبة للفتح المبين بالحديبية أن التهم السابقة واللاحقة كلها تذهب وتنتهي بالتقاء المسلمين والكفار فيما بينهم، كأنها دفنت في التراب، وهذا هو المعنى اللغوي لكلمة ((غفر)) ويتجلى صدق الرسول (ص) وينفتح البصر وتضيئ البصيرة، والكفار أنفسهم يعترفون نادمين بتفاهتهم وسفاهتهم. والتاريخ يشهد على أن هذه النتائج قد تحققت في فترة وجيزة بالصلح. والبشارة الثانية في قوله تعالى: {ويتم نعمته عليك} (¬2) أي الثمرة الثانية لصلح الحديبية إتمام النعمة. وهذه الآية التي نزلت سنة ست من الهجرة، تضمنت الوعد بإتمام النعمة. والآية الكريمة {اليوم أكملت لكم دينكم} (¬3) نزلت في التاسع من ذي الحجة عام 10 هجرية، أخبرت بإيفاء ذلك الوعد. ويدخل في إتمام النعمة إتمام نشر الدين وكمال تبليغه وظهور ثمار هذا التبليغ. والتاريخ يشهد أن دعوة الدين التي توقفت في قريش وحلفائهم، قد عادت إلى مجراها، وبدأ الناس يفهمون الإسلام بزوال الموانع، ثم يدخلون فيه أفواجا. والبشارة الثالثة في قوله تعالى: {ويهديك صراطا مستقيما} (¬4) وهي الثمرة الثالثة للصلح. فقد كان أعداء الإسلام يصدون الناس عن هذا الصراط، ويحرمونهم الهداية الربانية، وبالصلح زال هذا الصد وتبين الصراط، فسنحت للنبي (ص) فرصة دعوة الناس إلى طريق الحق، والوصول بهم إلى الغاية السامية. والبشارة الرابعة قوله تعالى: {وينصرك الله نصرا عزيزا} (¬5) وهي النتيجة الرابعة الميمونة للصلح. أي تتحقق النصرة الإلهية بالقوة الكاملة والغلبة الواضحة، وتنشأ ¬

(¬1) سورة المنافقون: 7. (¬2) سورة الفتح: 2. (¬3) سورة المائدة: 3. (¬4) سورة الفتح: 2. (¬5) سورة الفتح: 3.

الجاذبية في القلوب، والذوق في الأرواح، وتقبل ألوف مؤلفة من الناس على الحق والصدق، حتى يرى الناس قول الله تعالى: {يدخلون في دين الله أفواجا} (¬1) واقعا متجسدا. وقد ذكرت الآية التالية النصرة الإلهية: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} (¬2). نعم من معجزات النصر الإلهي أن يكون النبي (ص) والصديق في الغار، والكفار واقفون على مدخله بحيث لو نظروا إلى موضع أرجلهم لرأوا ما في الغار، ولكن النصر الرباني كان يعمل عمله، فعمى الناس وهم مبصرون. ولم يكن الوصول إلى المدينة بعد الخروج من الغار سهلا، لأن قريشا كانوا أعلنوا عن جائزة لمن يأسر النبي (ص)، وكان عبدة الأصنام يتحرقون شوقا للانتقام، وهكذا كان الطريق إلى مكة محفوفا بالمخاطر والمهالك. إن طريقا طوله حوالي خمسمائة كيلومترا كان فيه مئات من أعداء الدين يصدون ويمنعون، ومع ذلك سار النبي (ص) وأبو بكر سالمين بنصر الله تعالى. وقد خاب وفشل رئيس بتي مدلج من بني كنانة في تعقبهما، وتعقبهما بريدة الأسلمي فأصبح من خدام رسول الله، وقد بشر أهل المدينة بقدوم النبي (ص) أحد اليهود، فيفوز أهل المدينة بالكمال بسبب هذه النعمة الإلهية، ويزداد أتباع الصراط المستقيم يوما بعد يوم، فتعشوا أبصار اليهود من المشهد الذي أخبر عنه حبقوق النبي. (¬3) وبعد ست سنوات أرادت القدرة الربانية والنصرة الإلهية إبراز نتائج صلح الحديبية في جنوب المدينة أي في أم القرى وما حولها. ويبدو من التفكر في هذه الآيات أن الفتح المبين وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصرة والعزة، كل ذلك يعني في سيرة الرسول الطاهرة دائما إزالة عراقيل الدعوة والقضاء على موانع التبليغ مما ينتج عنه إعلاء كلمة الحق وظهور الصدق وبروز الحقيقة. ولا شك أن هذه الوعود والبشارات تحققت في حياة الرسول (ص) الطيبة من الله تعالى. وعلى هذا فإن الآية الكريمة المزينة للعنوان، مظهر كامل لرفعة شأن النبي (ص) ¬

(¬1) سورة النصر: 2. (¬2) سورة التوبة: 40. (¬3) جاء في صحيفة حبقوق (3: 3) إن الله جاء من التيمان والقدوس من جبل فاران.

ومنصبه العظيم، وهي برهان على ما له من خصائص ينفرد بها عن غيره من الأنبياء والرسل. ولا يعني كلامنا هذا أن هناك ناحية سلبية لكون النبي (ص) مغفور الذنب، كلا ثم كلا، إن هذا الكلام توضيح مزيد لمدح الرسول (ص). فما معنى عصمة الأنبياء إذا لم يكن الرسول (ص) مغفور الذنب، الرسول الذي جعله الله قدوة للعالمين بقوله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} إني أؤمن بأن الرسول (ص) هو صاحب المقام المحمود، وهو صاحب الوسيلة وشفيع المذنبين، وله وحده الشفاعة الكبرى، وقوله: ((آدم ومن دونه تحت لوائي، ولواء الحمد بيدي)) (¬1). مرآة لكماله (ص). فآية العنوان تفيد العصمة الكاملة وتدل على منصب الشفاعة الكبرى للنبي (ص)، وكذلك تفيد إزالة التهم التي ألصقت بالنبي (ص) في حياته المباركة، وأن الشروط التي فرضها العدو الماكر وقت المعاهدة لتحقيق سيادته ولمنع انتشار الإسلام صارت مثل بيت العنكبوت، بل بالعكس دعمت موقف الإسلام واللمين والمسلمين في نشر الدين. كانت قرش تعتقد أن المسلمين الجدد حينما يصبحون بحكم المعاهدة متهمين أجانب فإن أحدا لن يدخل في الإسلام خوفا من بطش قريش واضطهادهم، كما أن الفرصة ستسنح للمرتدين عن الإسلام للالتجاء إلى قريش والتمتع بالحقوق المدنية دون أن يلحق المسلمون بهم أذى، وهكذا يرتد عشرات من المسلمين عن الإسلام، ولكن خابت هذه الظنون فكان انتشار الإسلام مخيبا لجميع حيلهم، وجعل الله العليم الحكيم نفس هذه المعاهدة فتحا مبينا ونصرا عزيزا. إن قصار النظر ما كانوا يتصورون أن من خرجا في ظلام الليل من بيتهما واختفيا في الغار هما الشمس والقمر في سماء روحانية العالم كله. ولاشك أن ظلمة الشرك والجهل تبددت بروحانية النبي (ص)، ووصل نور التوحيد إلى كل بيت، وبطل ادعاء النبوة الكاذبة للأسود العنسي ومسيلمة وسجاح بروحانية خليفة الرسول أبي بكر، واستأصلت جذور الضلالة والزيغ. وهكذا تماما لم يدرك قصار العقل من قريش وقت المعاهدة أن المسلمين الذين كانوا ¬

(¬1) مسند أحمد 1/ 281، الترمذي (3615)، ابن ماجة (4308).

الخاصية الثالثة عشرة

يحبسونهم لأنهم أجرموا بقبولهم الإسلام سوف يتحولون وهم في محبسهم إلى دعاة للإسلام وسوف يتمكنون من إدخال العشرات في الإسلام أيضا. فعلى الذين يوجهون إلى الإسلام التهمة الكاذبة القائلة بأنه انتشر بالسيف أن يفكروا في هذه المعاهدة، فرغم أن قريشا تعهدت بحماية المرتدين عن الإسلام وتوفير متطلبات الحياة لهم، إلا أن أحدا لم يقبل هذه الحماية ويرتد عن الإسلام. وبإيجاز فإن آية العنوان تبرز خصائص النبوة (ص) واضحة جلية. ولعل هذا القدر يكفي في هذا المقام، وصلى الله تعالى على نبيه وحبيبه وآله وأزواجه وذرياته وبارك وسلم. الخاصية الثالثة عشرة {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} (¬1) هذه الآية من سورة الأنفال، وقد روى سعيد بن جبير عن حبر الأمة ابن عباس: أن سورة الأنفال نزلت ببدر (¬2)، وهكذا ثبت أن الحادث الذي تشير إليه هذه الآية من أحداث غزوة بدر. وقد اتقق أهل السير والمغازي على أن النبي (ص) لما رأى جيش قريش قال (¬3): ((اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسلك، اللهم فنصرك الذي وعدتني)) فأتاه جبريل وقال: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم ثم انظر ماذا يفعل الله تعالى، فأخذ النبي (ص) قبضة من تراب فرمى بها وجوههم، وكان في هذا الجيش نحو من ألف بلغ بهم الكبر والفخر حدا ليس له نهاية، وقد وصل هذا التراب إلى عيون الجميع، وكشف لهؤلاء الذين عميت قلوبهم أن الذين يتعامون عن منزلة الرسول (ص) وشأنه يجدر بهم أن تعشو أبصارهم وتكتحل عيونهم بتراب قدم الرسول الكريم (ص). ¬

(¬1) سورة الأنفال: 17. (¬2) من الصحيحين. (¬3) لباب التأويل (3/ 15)، الطبري (277/ 2).

وكان غريبا أن تعمي حفنة من التراب عيون ألف من عميان القلب، ولذا كشف القرآن الكريم هذا السر فقال إن القدرة الإلهية لعبت دورها في ذلك، وقد حيرت أفعال هذه القدرة العقل الإنساني دائما وستبقى هكذا. وقد رأى البعض أن النفي في قوله ((ما رميت)) والإثبات في قوله ((إذ رميت)) والنتيجة في قوله ((ولكن الله رمى)) كل ذلك يوحي باتحاد الذات والحلول، ولذا رأوا أن هذه الآية تكشف النقاب عن وجه الحقيقة المحمدية، ولكن مثل هذا الفهم مجرد زعم واغترار. ويقال في حقائق هذه الآية أن واقعة الرمي كانت غريبة نادرة في عيون الأعداء أيضا، وبالنظر إلى خلق النبي (ص) الكريم وعفوه وحلمه ورأفته بأمته، فإنه (ص) لم يكن يجزي السيئة بالسيئة أبدا، ولم تكن يده الكريمة تمتد إلى أحد بالسوء والضر، وقد سمعه الناس بمكة ورأوه نحو ثلاث عشرة سنة لم تصدر عنه كلمة أف، ولم يكن يحرك لسانه فضلا عن يديه، فكيف بمحمد قد تغيرت عادته؟ هل تغيرت فطرته؟ وهل تبقى أخلاق محمد أسوة للناس بعد ذلك؟ إن رب العالمين لم يرض أن يقال مثل هذا الكلام، ولو رمزا في حبيبه محمد (ص)، ولذا أسرع بالرد والنفي فقال ((وما رميت))، وبذلك أوضح أن خلق محمد (ص) هو هو كما عرفته الدنيا، إذ ليس له علاقة بهذا الفعل، لا بذاته ولا بإرادته ونيته، بل النبي (ص) قد فعل امتثالا لأمر الله تماما كما يحدث للقوس في يد الرامي، فلا تتكلموا بكلمة في ذات رسول الله (ص)، بل تصوروا هذا الفعل واحدا من مظاهر جلال الله تبارك وتعالى. وإثبات الفعل في قوله ((إذ رميت)) من نفس الجهة التي أثبت فيها الرمي للقوس والنفي في قوله ((وما رميت)) حقيقته مثل الرامي بالنسبة إلى القوس. فالمحل الأصلي للآية هو الذب عن الرسول (ص)، ودرس للمسلمين بأنه يجب عليهم أيضا الرد على مطاعن الأعداء التي توجه إلى ذات النبي (ص) نتيجة قصور نظرهم وسطحيتهم فمن يقول بصحة الاتحاد والحلول بالنسبة للقوس والرامي وللبندقية ومطلقها؟!!! نعم إن الآية تبين حقيقة أخرى أيضا، اقرأوا في نفس سورة الأنفال ما طلبه كفار مكة من الله تعالى، {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} (¬1). ¬

(¬1) الأنفال: 32.

انظروا كيف ذهب عقلهم هنا، إنهم دعوا بأمطار الحجارة، ولم يدعوا بأن يفتح الله قلوبهم ويحملهم على قبول الحق إن كان محمد صادقا ودعوته حقة. وبعد الدعاء وجب إمطار الحجارة عليهم، لأنهم قد جعلوه شرطا لصدق الإسلام، فأمر الرسول (ص) برمي حفنة من التراب عليهم، وحينما تصل إلى عيونهم فإنها تتفتح فيعرفون حينئذ أن أمطار الحجارة من السماء أيضا ليس ببعيد. فالرمي معجزة وكذلك دليل على ما طالب به الجاحدون أنفسهم، وينبغي التذكر ضمن التصريح المذكور أن قصد الرامي من رمي الحجارة إعلان البراءة منهم أيضا، أي من الأشرار الذين ابتعدوا عن الحق والصدق بخبثهم الدفين، بحيث لا يرجى منهم رشادا ولا هداية. ورمي سيدنا إبراهيم في منى الشيطان المضل، ثم الاستعداد لتنفيذ الحكم الإلهي بكمال الرضى والرغبة كان على ذلك الأصل. وقد اتبع النبي (ص) نفس النمونج في بدر. إن سيدنا إبراهيم كان قد نجح في تخييب نفس شريرة. وفخر الأنبياء محمد (ص) قد رمى حفتة من التراب نحو ألف من الطغاة البغاة فخيب آمالهم وعزائمهم. وهكذا فآية العنوان مظهر خاصية معيتة من خصائص النبي (ص).

الفصل الثاني الخاصية الرابعة عشرة

الفصل الثاني الخاصية الرابعة عشرة {يتلو عليهم آياته} (¬1) لما أسلم عبد الله بن مسعود أراد أن يعمل في خدمة الإسلام وكان يريد أن يعمل عملا صعبا فأخبره الصحابة أن إسماع قريش هذا القرآن أمر صعب. فقال عبد الله: أنا، ثم أتى قريشا وقرأ عليهم القرآن، وعاد بعد فترة وجسمه ملطخ بالدماء وغيرت الجراح معالم وجهه. وتدل هذه الواقعة على مدى صعوبة تلاوة القرآن على الناس، ولكن النبي (ص) كان مستمرا في هذا العمل ليل نهار، كان يحضر إلى أهل مكة حيث يجتمعون فيتلو عليهم آيات القرآن، ويلقى كل شخص بمفرده فيبلغه الرسالة الإلهية، وكان يقف في كل طريق خارج مكة، ويلقى المارة في ضوء النهار وظلمة الليل، فيتلو عليهم القرآن الكريم ويسمعهم الحكم الإلهي، ولم يترك سوقا شهيرة أو عيدا معروفا من أعياد العرب إلا وذهب إليه فبلغ الدعوة وتلا آيات القرآن ونشر الدين، وتشهد لتلاوته (ص) كل ذرة من ذرات عكاظ، وكل ورقة من أوراق أشجار الطائف. تفكروا في جرأة تلك الشخصية الفذة وفتوتها ونجدتها وجلادتها فإنه أطلق لسانه في معترك العالم ضد جميع أفراد العالم بل أمم العالم، وأدان الجميع بحق، وكسر زجاج زعمهم بحجر البراهين، ورمى بأوثان الباطل على سندان الحق، لا يخاف الضرب ولا الضرر، بل يفتح قلبه وصدره للرمح والسهم، ولا يمسك لسانه عن إعلان التوحيد، إن نشاطه لا يجمد بجمود الناس، ولا يمكن لطمع المال والحكم أن يصده عن عمله، وهذا التفصيل يوضح مدى صعوبة وخطورة عملية تلاوة الآيات القرآنية، ومن خصائصه (ص) أنه قام بهذا العمل الشاق بأسلوب حسن، فبلغ نداؤه كل غافل وأيقظه من نومه، ثم أيقظ في النهاية الجميع. ومن يرى اليوم تلاوة القرآن عملا سهلا، عليه أن يدرك أن مسألة تلاوة القرآن ¬

(¬1) آل عمران: 164، الجمعة: 2.

الخاصية الخامسة عشرة

الكريم في زمرة المعارضين ليست سهلة اليوم أيضا، وما نراه اليوم من تسهيل في التلاوة هو من بركات تلاوة النبي (ص) وتأثيرها، تلك التلاوة التي تحمل في سبيلها أنواعا من المصائب والنوائب. وينبغي أن نعرف أن للتلاوة صورتين: ألف: تلاوة الرجل لنفسه، ولها آدابها، مثل تحسين الصوت وحضور القلب والتفكر في المعاني والتعمق في الحقائق والمعارف. ب: التلاوة على الآخرين، الآخرين من أعداء الدين، المعارضين للدين، الذين تنبو أسماعهم من الأصغاء له، وتأبى قلوبهم فيهم معانيه، فالمطلوب أن يتلى عليهم القرآن بحيث يتمثل أمامهم الثواب الأبدي، والعذاب الأخروي، والنعم الإلهية والرضوان الرباني، فترتعد أجسامهم وتخفق قلوبهم، وتنفتح عيونهم، وتتوقف طبائعهم عن أطوارها السابقة. إن هذا العمل كان من شأن النبي (ص) دون شك، والقرآن يشهد أنه (ص) قام به خير قيام، ولذا صار هذا الطريق من خصائصه (ص). الخاصية الخامسة عشرة {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} (¬1) الخطاب في الآية موجه إلى العالمين جميعا، والآية تبين شأن النبي (ص) فهو يعلم الدنيا كلها العلوم التي تجهلها. أما المسيح صادق اللهجة فقد سبر استعداد المخاطبين وأهلية المستمعين فأعلن: ((إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذلك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق)) (¬2). وقول المسيح يدل على أن القدر الذي علمه قومه كان أقل من التعليم الذي بقى، وتدل هذه الفقرة على أن هذه القلة لم تكن بسبب نقص في المسيح، بل سببه أن المستمعين ¬

(¬1) البقرة: 151. (¬2) إنجيل يوحنا (16/ 12 - 13). الطبعة العربية اكسفورد 1871 م.

كانوا في حالة بدائية لا تناسب التعليم الأعلى. ومثال ذلك أستاذ حاصل على الماجستير يقوم بتدريس طلاب الابتدائية، فلا يلقى إليهم كثيرا من المسائل العلمية لنقص فهمهم، فالواقع أن قدرا صالحا من تعليم المسيح، الأستاذ الصالح، لم يحصل للعالمين في ذلك الوقت. والآن نتساءل: هل أتم أحد هذا النقص في الدين النصراني في أي عصر من العصرر؟. وقد اتفق أن اتصلنا بعلماء النصارى بهذا الصدد، فقالوا: إنه قد أكمل هذا النقص يوم الخمسين الذي ورد ذكره في الأصحاح الثاني من سفر الأعمال (¬1). ويفهم من عبارته أن هذا الحادث وقع بعد رفع المسيح بخمسين يوما، أي في نفس العام الأول. وذكر معنى يوم الخمسين في كتاب الأحبار ((الكتاب الثالث لموسى)) في الباب الثالث والعشرين، بأنه تقديم قربان النذر أيام عيد الفصح. نعم، يظهر بكتاب الأعمال (¬2)، أن حواري المسح الاثنى عشر كانوا اجتمعوا ذلك اليوم، فسمعوا صوتا قويا، ورأى التلاميذ ألسنة النار على حدتهم فجلسوا عليها جميعا، وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى، فلما صار هذا الصوت اجتمع الجمهور وتحيروا وارتابوا قائلين بعضهم لبعض ما عسى أن يكون هذا، وكان آخرون يستهزؤون قائلين إنهم قد امتلأوا سلافة، فوقف بطرس ورفع صوته وقال لهم: إن هؤلاء ليسوا سكارى، بل هذا ما قيل يوئيل النبي: يقول الله: ويكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل بشر وبعد خطاب بطرس انضم إليه نحو ثلاثة آلاف نفس. وما وقع يوم الخمسين لا داعي للشك فيه، بل ينبغي أن نتأمله ونفكر فيه، والسؤال هنا متى تحقق تنبؤ المسيح عن إتمام ما بقى من تعليم الصدق؟ إن بطرس كان قد قال يوم الخمسين حينما كان ممتلئا بروح القدس: إن هذه الحالة هي التي ذكرت على لسان يوئيل النبي. وهنا يأتي دور العدالة، يصرح بطرس مع روح القدس بأن تنبؤ النبي يوئيل تحقق، ¬

(¬1) أعمال الرسل (1/ 2). (¬2) أعمال الرسل (2/ 2 - 41) ملخصا.

والقساوسة يقولون أن تنبؤ المسيح تحقق، فهل نصدق القساوسة في قولهم هذا، ونكذب بطرس؟ أقول: لا ثم لا، والحاصل أن تنبؤ المسيح لم يتحقق يوم الخمسين. ولا يسع علماء النصارى أن يذكروا يوما آخر سوى ذلك اليوم لتحقق تنبؤ المسيح. وخلاصة الدليل كله أن النصارى لم يتلقوا الكثير مما بقى من تعليم الصدق، وآية العنوان توضح أن محمدا (ص) هو الذي قام بتعليم العالمين ما لم يكونوا يعلمون. وصحة هذا الدليل تتجلى بشهادة ضمنية أيضا هي قول المسيح: إن روح القدس يعلم ذلك الصدق الكامل الذي لم يستطعه المسح. ولكن لم يتم يوم الخميس تعليم أمر جديد واحد، بل قال بطرس إن ذلك الحادث تنبؤ النبي يوئيل، أو ذكر حادث صلب المسيح، ولكن لم يتم أيضا تعليم شيء ما. وفي مثل هذه الحالات ثبت ما برهنا عليه من أن النصارى كانوا في حاجة لتعلم الكثير، أما اليهود الذين جلسوا في مجلس موسى معتدين بأنهم أهل الكتاب، ومفتخرين بفهمه، فقد خاطبهم القرآن الكريم: {وما أويتم من العلم إلا قليلا} (¬1). ولما ثبتت قلة علم الطائفتين من أهل الكتاب بشهادة المسيح وبإعلان القرآن الكريم وجب أن تلقن الدنيا مرة تعليما كاملا، وحان ذلك الوقت في عهد النبي (ص) الميمون لإتمام النقص الذي دل عليه قوله تعالى {مالم تكونوا تعلمون}. ولما تبين النقص في أهل الكتاب فإن الأقوام الأخرى بالضرورة كانت أقل علما منهم، فالخطاب في الآية للعالمين جميعا، ومنزلة النبي (ص) هي أن يعلم الجميع ما جعله العالم إلى الآن. ومما يحتاج إلى الشرح في تنبؤ المسيح أنه ورد فيه اسم روح الحق، ولم يرد هذا الاسم في غير هذا الموضع من الأناجيل الأربعة، بل ورد في المواضع الأخرى اسم روح القدس، واستعمل بطرس كلمة ((روح القدس)) حين ذكر يوم الخمسين أيضا، وهذا الفرق يدل دلالة واضحة على أن ((روح القدس)) شيء، و ((روح الحق)) شيء آخر. وادعاء ¬

(¬1) الإسراء: 85.

الأساقفة بأن روح القدس جزء ثالث في التثليث لا اعتداد به، لأن روح القدس لم يلقن أي نصراني تعليما جديدا، ولم يدع عالم نصراني أنه تلقى تعليم الصدق المتبقى الذي تركه المسيح ناقصا. ووضحت آية العنوان أن شرف تعليم العالمين كان من نصيب سيد الكون محمد (ص)، وهو من خصائصه المميزة. وللقراء أن يتساءلوا: ما هي الأمور الكثيرة التي لم تتوفر في تعليم المسيح، بل تخلوا منها أسفار اليهود أيضا؟ والإجابة على هذا السؤال يجدها القراء في مبحث ((خصائص القرآن)) فليراجعوه بروية. ويجب هنا التنبية على أنه قد ثبت من القرآن أيضا أن هناك بعض الصلحاء الآخرين قد أعطاهم الله تعالى من لدنه علما، فأمكن أن يتم أحد منهم هذا النقص. والجواب أن عصر أولئك الصلحاء كان قبل المسيح بفترة طويلة، فلا يمكن أن يكونوا مكملين لتعاليم المسيح. فالنبي (ص) هو زينة منبر العلوم الذي جلس على الأرض وأفاد الملائكة والجن والإنس بالعلوم التي جعلتهم نجوم سماء المعرفة تضيء العالم وأهله. وهناك فرق بين بين صحابة النبي (ص) وبين تلامذة المسيح عليه السلام، فعدد حواري المسيح اثنا عشر حواريا، ولكن الذين قاموا بتبليغ دعوته اثنان أو ثلاثة فقط، وعملهم لم يتجاوز نشر أحوال حياة المسيح. ولكن الجماعة التي أعدها النبي (ص) شملت أناسا كاملين من جميع نواحي الكمال، فنرى أن أبا بكر وعمر اختصا بتعليم السياسة والحكم، واختص أبو عبيدة وخالد بفتح البلدان وقيادة الجيش، ومعاذ وأبو الدرداء ببيان الدين والحكمة، وسلمان وأبو ذر بالزهد والقناعة، وعلي المرتضى وابن مسعود بالحقائق العلمية، وعثمان وابن عوف بتربية اليتامى وإعانة الأيامى، وزيد بن ثابت وأبي بن كعب بالفرائض الإلهية فرضي الله عنهم أجمعين. وقد ذكرنا هذه الأسماء على سبيل المثال لا حصر ولتقريب الفكرة لأذهان القراء.

وإلا فكل صحابي في ذلك الجناب المقدس كان سحابة رحمة لمزرعة العلوم. فحينما نرى أن مرويات عائشة بلغت (2210) رواية، ومثلها مرويات ابن عمر، وأنس بن مالك وأن مرويات أبي هريرة بلغت (5374) رواية، وغيرهم من الصحابة المكثرين مثل: ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم، تيقنا أن كل طالب في هذه المدرسة المحمدية الميمونة يستأهل أن يكون معلما للعالمين. ولا يغيىبن عن البال أن هؤلاء الصلحاء من العرب وصفوا بأنهم {أميون لا يعلمون الكتاب} (¬1) لكن تربية النبي (ص) جعلتهم يحتلون مكانة عليا في مجال العلوم والمعرفة، حتى أن أتباعهم الذين ورد فيه {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} (¬2) زينوا مجلس التدريس؛ فالحق أن جود النبي (ص) وعطاءه قد عمم العلم وبلغ به ذروة الكمال. وكان أتباعه هم الذين أنشأوا مئات من المدارس والكتاتيب في أسبانيا وغرناطة وبغداد وصقلية وتونس والجزائر والتركستان والصين وبلاد التتار، تلك التي كان يتلقى فيها الدراسة المسلم وغير المسلم دون تفرقة، ولذا تعترف أوربا دون أدنى إنكار بأن هذه البلاد الإسلامية لها دور الأستاذ والمعلم. ولو قارنا بين موقف الأساقفة من العلوم الجديدة ومعارضتهم لها، وبين موقف المسلمين من العلوم القديمة ونشرها بصدور مفتوحة، ثم استمرارهم في تأسيس العلوم الجديدة ودعمها وتأييدها لتبين لنا بوضوح أن المسلمين فقط هم الذين قاموا بنشر العلوم في العالم منذ البداية، وكان دأبهم هذا تمسكا بتوجيهات النبي (ص) الكريم (ص)، وهكذا صارت أعمال أتباع محمد (ص) أيضا بيانا لسنن هديه وبرهانا لأسوته الحسنة، وهذه خاصية توجد بكمالها في النبي (ص) وحده. وإتماما لهذا الحديث أذكر بإيجاز ضيق نظر النصارى في نشر العلوم الحديثة وسعة نظر المسلمين في نفس المجال. أبدى (دي رومانس) نظريته في ((قوس قزح)) قائلا بأنه انعكاس أشعة الشمس في المطر، ومن الخطأ أن نظنه قوس حرب للرب أو علامة انتقام منه، بسبب هذه النظرية ألقى ¬

(¬1) البقرة: 78. (¬2) الجمعة: 3.

القبض عليه، وأرسل إلى روما ولما مات في السجن أحرقت جثته وكتبه. والأمر الذي صدر في إحراق جثته كان يتضمن التصريح بأن إحراقه جاء نتيجة جهوده أيضا للمصالحة بين الكنيسة الرومانية والكنيسة البريطانية، فكأن الساعي إلى الصلح يستحق هذا المصير في نظرهم! وحبس ((برونو)) طويلا في عام 1600 م ثم أحرق حيا لمجرد قوله في الدنيا: إنها عالم الأسباب أو كأن قوله يشير إلى فكرة وحدة الوجود. إن كروية الأرض اكتشفت في عصر الخلافة العباسية، ولكن لم يحرك هذا الاكتشاف ساكنا في أوساط المسلمين، وحين وصلت نفس هذه المسألة إلى أوربا قامت قيامتها، وقتل عشرات من الفلاسفة الذين قالوا بكروية الأرض. والتطعيم ضد الجدري كان معروفا في القسطنطينية منذ مدة، وفي عام 1721 م ذهبت به السيدة (ماري مونتا) إلى أوربا، فعارضه الأساقفة أشد المعارضة، حتى رفع طلب إلى الملك بأن يحظر استخدامه بحكم سلطته الملكية. ولما عرف أهل أمريكا طريقة تخدير المرأة وقت الولادة عارضها جميع الأساقفة، وقالوا: توفير الراحة للمرأة وقت الولادة معارضة للعنة الله [التي توجد في الباب الثالث من كتاب التكوين] لذات المرأة!. وقد أحرق الكاردينال اكسيمنس ثمانية آلاف كتاب في غرناطة لأن محتواها كان يتعارض مع رأي الكنيسة. وتعتبر حركة البروتستانت حركة إصلاحية متطورة، ويقال عنها إنها منحت الناس حرية العقل والقلب، وإليكم الآن موقف هذه الحركة المتحررة: أصدر كلفان أمر إحراق السيرفيت لأنه اعتقد في ضوء تحقيقه دخول البدعة في دين المسيح قبل انعقاد ((مجلس نيقية))، وبهذا الذنب ألقى في النار الملتهبة التي شوته كالكباب. وبنفس الذنب أحرق فايتي في مدينة تلوز عام 1729 م. وكان الأسقف لوتير يصف أرسطو بالكذب ويقول إنه خنزير دنس. أما المسلمون فلم يقصروا في أخذ العلوم لأنها علوم أمم أو بلاد أخرى، ولم

الخاصية السادسة عشرة

يتضايقوا من نشرها لأن طلابها ليسوا على دينهم ومن أمتهم. ولإثبات هاتين النقطتين هناك ألوف من الوقائع التي يرويها مؤرخو الإسلام، وقد أورد عشرات منها ديون بورت، وليودبول، وايدواردكين. وقد وصل هذا النور إلى المسلمين من المنبع الذي ذكره الله تعالى بقوله: {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}. ويعلم القراء باستقراء تاريخ العالم أن اكليل هذه الخاصية يزين رأس صاحب المعراج (ص) وحده. الخاصية السادسة عشرة {ويعلمهم الكتاب والحكمة} (¬1) سبق أن ذكرنا أن الكتاب هو القرآن الكريم، وأن الأحاديث تندرج تحت تعليم الكتاب، ولذا يتحتم ذكر تعليم الحكمة تحت هذه الخاصية، يقول تعالى: {ومن يؤت الحكمة ففد أوتي خيرا كثيرا} (¬2). وتوضح هذه الآية أن الحكمة اسم للفضائل المحمودة والمحاسن الكثيرة، وقد ورد إطلاق لفظ الحكمة منفصلا عن منصب النبوة، يقول تعالى: {ولقد آتينا لقمان الحكمة} (¬3). والجدير بالتأمل هنا ما عبر عنه بالحكمة بعد ذكر الكتاب وتعليم الكتاب، فمن الواضح أن أحوال الناس مختلفو الأمزجة، تختلف عند العمل بالهداية الواضحة والبيان الراشد، وقد أتم النبي (ص) تعليم الصحابة جل الأمور المعقدة بطريقة عملية: 1 - فقد آخى النبي (ص) بين المهاجرين والأنصار أول قدومه المدينة، ثم عقد معاهدة بين المؤمنين ويهود يثرب، وهكذا ضمهم في اتحاد مدني، وتبدأ هذه المعاهدة هكذا: (¬4) ¬

(¬1) البقرة: 129، والجمعة 2. (¬2) البقرة 269. (¬3) لقمان: 12. (¬4) سيرة ابن هشام (3/ 147).

أ - هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة. ب - وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. ج - وأن بينهم نصرا على من حارب أهل هذه الصحيفة)). والمتأمل إذا تعمق كلمات هذه المعاهدة لأدرك أن هذا الفعل عين الحكمة. 2 - وقد شعر النبي (ص) بعد وصوله المدينة بضرورة عقد حلف مع القبائل التي كانت تسكن في الطريق بين مكة والمدينة، ومحالفته لبني ضمرة وبني مدلج مظهر لهذه الحكمة. 3 - كتب في صلح الحديبية ((محمد رسول الله)) فاعترض عليه سفير قريش، وأصر على معارضته، وأصر كاتب النبي (ص) على بقاء هذه الكلمة كما هي مثبتة على لوح قلبه، وكاد إصرار الفريقين على موقفهما أن يقضي على العهد. فقال النبي (ص): ((أنا محمد رسول الله، ومحمد بن عبد الله فاكتب محمد بن عبد الله)) وبهذه الحكمة انتهى النقاش كله. 4 - كتب كفار مكة إلى كفار يثرب بأن يبدأوا الحرب مع المهاجرين والأنصار، وإلا هاجم أهل مكة مخاطبيهم وقضوا عليهم، وقد خضع أهل يثرب للتهديد، فبدأوا يستعدون للهجوم على المهاجرين والأنصار، ولما بلغ ذلك النبي (ص) ذهب إلى أهل يثرب وقال (ص): ((إنكم لا تفهمون مكيدة أهل مكة، إنهم يريدون قتل أقاربكم {الذين أسلموا} بأيديكم ولو اضطررتم لقتال أهل مكة فإنه قتال مع غيركم)). وأثرت هذه الكلمة الموجزة تأثيرا بديعا، فتلاشى بها خطر الحرب الداخلية التي كادت أن تبدأ بين أهل المدينة، وقد أمنت هذه الحكمة مهجر المسلمين وقضت على جذور الفساد (¬1). 5 - هجم أهل الطائف وحنين على المسلمين، فانهزموا عند أوطاس وتحصن جيشهم ¬

(¬1) عون المعبود (235/ 8).

في حصن الطائف، فحاصرهم المسلمون، ولما اشتد الحصار على الكفار بدأوا يهربون بتسلق جدار الحصن، وهنا أمر النبي (ص) برفع الحصار، وقد أثر هذا الموقف الكريم في المحاصرين تأثيرا قويا، فلم تمض شهور إلا أسلم أهل الطائف جميعا (¬1). 6 - أراد هرقل الهجوم على العرب، ولم يرض النبي (ص) بأن تصبح الجزيرة العربية مسرحا لجيوش روما، فتقدم (ص) إلى نهاية حدود الجزيرة وأقام هناك. وكان في ذلك من الحكمة إذ كان وصول جميع المعونات إلى الجيش الإسلامي أمرا ميسورا. وقد أثرت هذه الخطوة الجريئة في هرقل تأثيرا كبيرا، فتخلى عن فكرة الهجوم على العرب (¬2). 7 - لما تم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة أخرج منها (360) صنما، ولكنه لم يحدث أي تغيير في بناء الكعبة الذي مر عليه خمس سنوات فقط، وكانت قريش قد نقصت من طول هذا. البناء لقلة المال والعتاد. وقد أبدى النبي (ص) رغبته في أن يكون البناء على قواعد إبراهيم، ولكنه تركه على ما كان عليه لكون الناس حديثي عهد بالإسلام، وذلك أن المساهمين في البناء بالمال والجهد ما زالوا على قيد الحياة، ولا شك أن هدم البناء يشق عليهم، ولذا آثر النبي (ص) البناء الداخلي ولم يهتم ببناية الحجارة واللبنات. وهذه الأمثلة وأشباهها توضح كيف استمر النبي (ص) في تعليم الحكمة في شئون التمدن والأخلاق والمصالح العامة. وينبغي أن يعلم أن من تعليم الحكمة أن النبي (ص) جعل أحكام الشريعة مبنية على الحكم والعلل. ثم بين علة هذه الأحكام وحكمتها، وكان ذلك ميزة عجيبة له (ص)، فإن الشرائع السابقة لم تهتم بذلك إلا قليلا، بل جعل العمل بالأحكام أمارة للطاعة، وعصيانها أمارة للعصيان فقط، حتى فهم الناس أن مثل الشريعة مثل سيد أمر عبده بنقل حجر من هنا إلى هناك، فلو نقل العبد الحجر صار مطيعا، ولو لم ينقله صار عاصيا، ومع أن السيد لم يقصد بأمره هذا شيئا، ولم يستفد العبد فائدة بطاعته أو عصيانه. وكذا ينبغي أن ندرك أن النبي (ص) نظم الشريعة لتكون بمثابة الطب الروحي، فذكر ¬

(¬1) سيرة ابن هشام (4/ 121)، البداية والنهاية (4/ 350). (¬2) انظر عن تبوك البخاري (المغازي) ومسلم الزكاة، والبداية (5/ 2).

الخاصية السابعة عشرة

الأمراض الروحية التي تلحق أي عضو من أعضاء الإنسان، ثم أرشد إلى علاجها وإلى استخدام الأدوية المفردة والمركبة في هذا العلاج، وحدد الأدوية التي تنفع في صحة القلب والحياة الروحية ونشاط الأعضاء الرئيسة، دواء بعد دواء. وبعد تكميل النفس يبدأ الدور الثاني لتعليم الحكمة من عند رسول الله (ص) ويتلقى الناس الأحكام المفصلة لتدبير المنزل وتربية العائلة. وفي الدور الثالث تبدأ دروس سياسة المدن، فبين (ص) واجبات الأمم والبلدان وحقوقها بتفصيل واف. وقام النبي (ص) بكل هذه المساعي بصفته معلما للحكمة، ولا يسع أهل البصيرة إلا أن يعترفوا بأن أحدا لم يؤد هذه الفريضة أفضل من النبي (ص). وليعلم أن من أسماء الله الحسنى ((الحكيم)) ونفس هذا الاسم أطلق على كتاب الله تعالى {يس والقرآن الحكيم} (¬1) وهذا الكتاب جعل النبي (ص) معلما للحكمة، ولهذا يعرف علو منزلة الحكمة والعلم والمعرفة، ومن هنا تتضح المكانة العالية للنبي (ص). وعن تعليم النبي (ص) الحكمة أسوق حديثا في ختام هذا المبحث، وهو يساعد في إدراك المعنى العميق للحديث وسعة تعليم النبي (ص) الحكمة، إذ يقول (ص). ((الحكمة ضالة المؤمن، إذا وجدها أخذها)) (¬2). الخاصية السابعة عشرة {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} (¬3) توضح الآية أن الناس كانوا تحت أحمال ثقيلة، وكانت أيديهم وأرجلهم مربوطة بالسلاسل، وتحريرهم من هذه الأغلال والسلاسل والقيود والروابط تم على يد النبي (ص)، وكان ذلك من لوازم نبوته العامة، ونبوته (ص) عامة للعرب والعجم، وقد ورد في دعوته (ص) ((كافة للناس)) ولهذا يجب لفهم معنى الآية المذكورة الاطلاع على القيود ¬

(¬1) يس: 1. (¬2) الترمذي (3687)، ابن ماجة (4169) ضعيف جدا. (¬3) الأعراف: 157.

والأغلال التي كبلت أمم العالم قبل بعثة النبي (ص)، ونحن نذكر هنا بإيجاز أحوال اليهود والنصارى والعرب، فهذه هي الأمم التي يمكن أن تحتل مكانة من حيث التمدن والحضارة: 1 - العرب: ما كانوا يستحيون من الزنا والفجور، بل يفتخرون بأفعالهم القبيحة ويذيعونها في أشعارهم وكلامهم، وكانوا يتعاطون الخمر والمسكرات الأخرى، ولم يكونوا يندمون على ما يصدر منهم من الأعمال القبيحة في حالة السكر. كانوا يربون القينات أي الجواري للرقص والغناء، وكسبهن بالزنا كان كسبا طيبا عند أصحابهن، وسبايا الحرب يتحولن عندهم إلى قينات، ولم يكن للمرأة أن تحلب ماشية، ولو فعلت امرأة ذلك لهانت الأسرة كلها، والميراث كان خاصا بالرجال البالغين، وكانت النساء والأولاد يحرمون تركة أقاربهم، وقريب الزوج المتوفى يلقى رداءه على الأرملة فتصير زوجة له طوعا أو كرها، وهكذا كان الابن يملك أمه غير الحقيقة، وكانت النساء يخرجن سافرات إلى المجامع العامة، ولم يتحرزن من كشف ما خفي من الجسم لعامة الناس، وكان الرجال والنساء يحفرون الوشم في أجسادهم، والنساء يصلن شعورهن ويتفلجن أسنانهن، ويأخذن طرق الزينة حتى يحسبهن الناس شابات. وكان الأشراف منهم يئدون بناتهم أو يلقونهم في البئر العميقة، يفتخرون بهذا الصنيع ويرونه أمارة الشرف، ولم تكن هناك قاعدة للزواج ولا طريقة للتفريق بين المحارم وغيرهن من النساء. وكان الميسر شغلهم الشاغل، وكانت بيوت مشاهيرهم بمثابة دور للقمار، وشاع بينهم الاعتقاد بالأرواح الخبيثة، فكان الناس يؤمنون بأن هذه الأرواح تتصرف في الإنسان، وكانت هناك آلهة خيالية وهمية اخترعوا لها أشكالا وأوثانا منحوتة يعبدونها في معابدهم، وكان لكل قبيلة صنم خاص يرونه مالكا لمصيرهم ولو قام عداء بين قبيلة وأخرى تعدى ذلك إلى الأصنام، وكانت عادة الرهان شائعة بينهم يراهنون بين ثلاثة أو سبعة فرس، وكان الخلاف ينشأ أحيانا في ترتيب الفرس فيؤدي إلى حرب تستمر سنوات. وكان تحرير العبيد مفخرة، ولكن حق التملك يستمر ثابتا للسيد، فله أن يبيع أو يهب هذا الحق.

وكانت الأصنام والأرواح تعبد ويسجد لها وتنذر النذور والقرابين، وكانوا يذبحون لها أول نتاج الإبل والبقر والغنم، ويخصصون أحسن قطعة من الأرض الزراعية للأصنام، فلو أتلفت آفة من الأرض أو السماء انتاج هذه القطعة عوضوه بانتاج قطعة أخرى من الأرض وكانوا يشربون دماء المواشي عند الجوع والقحط، ويأكلون لحوم الحيوان بعد قطعها منه وهو حي، ويتطيرون بحركات الحيوان وأصواتهم، ويرقون ويعلقون التمائم وهكذا سيطرت الأوهام على أفكارهم وعقولهم. وكانوا يحبون الثأر والحقد فيثأرون لما وقع قبل جيل أو جيلين ويرون ذلك شجاعة. وكانوا يقلدون فواحش وقباح الأمم المجاورة لهم بسرعة. وكانوا يغالون في الفخر بالأنساب، وكانت كل قبيلة تحتقر الأخرى، ويؤدي هذا الاحتقار أحيانا إلى العداء والحرب. وكانت تقاليد الأسرة مسيطرة عليهم أكثر من الدين والقانون وكانت حرية الرأي تختفي في ظل التقاليد، وكانت القبائل تحالف الأمم المجاورة للقضاء على أعدائها، وتحتال لغزو فارس والروم والأحباش لبلادهم. ومن أشهر أصنامهم: هبل: وكان طويلا موضوعا على شرفة الجدار الموازي للكعبة، وكانت جميع قبائل العرب تعظمه، وكان أبو سفيان هتف به في غزوة أحد فقال: أعل هبل (¬1). وقد رأيت عام 1339 هـ خارج باب السلام عمودا طويلا من الحجر يدوسه الناس قادمين رائحين، واشتهر بينهم أنه جزء من صنم هبل، ولم يكن في جوانبه الثلاثة تمثال. وكان من أحفاد شيث عليه السلام ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فاتخذ الناس لهم تماثيل، فكان بنو كلب يعبدون ودا، وبنو مدلج سواعا، وبنو مراد يغوث، وبنو همدان يعوق، وبطن من بني همدان نسرا. واللاة: تأنيث الله، ويقال لها ربة أيضا. ومناة: تأنيث المنان، وكان صنمه على جبل المشلل، وجميع العرب كانت تعترف بألوهية هذين الصنمين، وكانت هذيل ونزال والأوس والخزرج من عباد مناة خاصة. ¬

(¬1) البخاري (4043). والبداية والنهاية (24/ 4).

والعزى: مؤنث العزيز، وكانت بنو شيبان تعبدها خاصة وتعتقد أن الله يسكن في موضعها في الصيف، وكانت بنو كنانة على نفس الاعتقاد. ودوار: كان تمثالا لمرأة شابة، وكان الناس يطوفون حوله، وكان أساف بن يعلى ونائلة بنت زيد من جرهم من سكان اليمن، وكانت بينهما علاقة قذرة فارتكبا الفاحشة بعد الوصول إلى مكة المكرمة فعوقبا ووضعت جثتهما دون تدفين نكالا وعبرة، جثة أساف على الصفا وجثة نائلة على المروة، فلما بليت الجثث وصارت رفاتا جعل لهما تمثال عبده الناس بعد مدة (¬1). وعبعب: كان حجرا كبيرا في موضع تقديم القرابين. وعم أنس: إله الزراعة، وكما أن الناس في ولاية أوتار براديش بالهند اختلقوا اسم (خال ((الله بخش)) فكذلك اخترع اسم هذا الصنم. ومرة قدم في أيام المجاعة لهذا الصنم مائة ثور. وقد ذكر وفد خولان أحواله للنبي (ص) بعد إسلامهم. وذو الكفين: كان صنما من خشب يعبده دوس. ولما أسلم طفيل بن عمرو بن صعصعة أحرقه وجعله رمادا وفلس: كان صنما لطي وأحرق. وسعد: صنم بني ملكان بن كنانة. وذو الشرى: صنم بني حارث بن شكر. وبهم: صنم بني مزنية. وشعير: صنم بني عزة. وذو الخلصة: كان معبود خثم وبجيلة في صورة امرأة متكللة (¬2). والمصائب التي جعلت العرب فريسة لعبادة هذه الأصنام قد عبر الله عنها في الآية بالإصر والأغلال. وبالتعلم الطاهر للنبي (ص) نجا العرب كلهم من هذه الأغلال والقيود. والآن نستعرض حالة اليهود: 2 - اليهود: كان ينبغي أن تقتصر كلمة ((اليهود)) على القبيلة التي كانت من ولد يهودا ابن يعقوب عليه السلام، ولكن صار هذا الاسم يطلق الآن على أسباط بني إسرائيل البالغ عددها اثني عشر سبطا، وفيما يلي أسماء ولد إسرائيل (يعقوب عليه السلام) مرتبة حسب ميلادهم: ¬

(¬1) نقلا عن إغاثة اللهفان ص 310. (¬2) سيرة ابن هشام (1/ 78) وبعدها، البداية (2/ 190).

…الرقم…معناه…اسم الأم 1…روبين…انظر ابنا…السيدة لياه 2…شمعون…السمع…السيدة لياه 3…لاوي…الزوج (لا الفرد) …السيدة لياه 4…يهوذا…التحسين…السيدة لياه 5…دان…العادل…السيدة بلها جارية السيدة راحيل 6…نفتالي…المصارع…السيدة بلها جارية السيدة راحيل 7…جاد…العسكر…السيدة زلفة جارية السيدة لياه 8…أشير…الحظ…السيدة زلفة جارية السيدة لياه 9…إيساخر…الأجرة أو الجائزة…السيدة لياه 10…زيلون (زبرن) …الرفيق…السيدة لياه 11…يوسف…المزيد…السيدة راحيل 12…بن يمين ابن اليد اليمنى…السيدة راحيل وازداد اليهود كرامة وعزا منذ عهد داود عليه السلام، وفي عهد ابنه سليمان كان اليهود في أحسن أحوالهم. ولم تمض سنوات على ارتحال سليمان من الدنيا حتى اعتزل ابنه رجعام عشرة أسباط، فلم يبق حكم رجعام إلا على فرقتين، فأطلق على بني رجعام ملوك يهودا، وعلى الفرع الثاني ملوك بني إسرائيل. وبيت المقدس الذي قبله الله بيتا له صار مهجورا بعد أربعين سنة. اقرأوا تاريخ اليهود تعرفوا أنه قصة المصائب والمحن. وكانت الوثنية والخيانة بدأت فيهم منذ أواخر عهد سليمان، وقضى بختنصر على الفرعين معا، ومنذ ذلك الوقت امتلاء تاريخهم بالأسر والاضطهاد والنفي والرق. وكانت فلسطين في عهد نيرون (ملك روما) خالية من اليهود تماما، وصدق عليهم قوله تعالى {ملعونين أينما ثقفوا} (الأحزاب: 61).

ولما انتصر قسطنطين صار اليهود حبة بين طبقتي الرحى، لم يكن أحد يعترف ولم يعترف لهم بأي حقوق مدنية في أي بلد. وكانت حالتهم الدينية سيئة جدا، فقد كذبوا كل نبي من عند الله منذ عهد موسى كليم الله حتى عهد عيسى كلمة الله، ولم يكن بينهم كتاب التوراة، فاعتمدوا في معرفة الحلال والحرام والرضا والسخط على أخبار الأحبار وبيانهم، وقد اجترأ هؤلاء على أكل السحت والميتة وأخذ الربا فبيعت الفتاوى الشرعية، وكانت تفصل في قضايا الثرى والفقير حسب الرشوة. وقد أكثر الله تعالى من إرسال الرسل والأنبياء إلى هذه الأمة، ولكن اليهود لم يكرموهم ولم يعززوهم، بل لم يتحرجوا من قتلهم أحيانا، وقضت الأوهام على روح الديانة اليهودية، وجعل الزهد المصطنع الشريعة لعنة عليهم، قد وصفهم المسيح عليه السلام بالحية وأولادها. وصمم سيدنا محمد (ص) وضع الإصر والأغلال عن هذه الأمة المخذولة، وأراد أن يمنحهم منزلة كريمة وسط الأمم الأخرى في العالم، وبهذه النية الميمونة عقد النبي (ص) معاهدة عالمية بعد وصوله المدينة، وأكرم بها اليهود بمساواتهم في الحقوق المدنية بالمسلمين. وكذلك اعتنى بإصلاح حالتهم الدينية، فنجاهم من الفتاوى المصطنعة للأحبار، وعرفهم بالشريعة، وحكم في قضاياهم وفق الأحكام المبينة في التوراة. وكانت هذه الخطوات كلها لإنقاذ هذه الأمة من الإصر والأغلال. وكانت شريعة موسى أيضا تتضمن أحكاما صارمة، مثل الانتحار من أجل التوبة وتحريم الدية وتحريم الغنيمة وترك العمل يوم السبت وعدم جواز الصلاة خارج البيع وغير ذلك. والتسهيل في هذه الأحكام وتوسيعها كان أيضا من وضع الإصر والأغلال. 3 - النصارى: اختار المسيح لنفسه اثنى عشر حواريا، حتى يشهدوا لتعليم المسيح أمام أسباط بني إسرائيل الاثنى عشر، ومع وجود المعلم الكامل مثل المسيح سيطر عليهم النقص، حتى اضطر المسيح مرات لأن يقول لهم: لو كان فيهم حبة خردل من الإيمان لفعلوا كذا وكذا. وكان المسيح يلومهم لأنهم لم يستطيعوا أن يسهروا معه ساعة للاستغفار والدعاء.

وبعد ذهاب المسيح وقع تلاميذه الاثنا عشر في خلاف شديد حول العقائد والأعمال، وذلك مثل: 1 - هل يجب الالتزام بأحكام الشريعة (التوراة)؟ 2 - هل يجوز التبشير بالنصرانية في الأمم الأخرى أم لا؟ 3 - هل الاختتان خاص ببني إسرائيل، أم لكل من يدخل في النصرانية؟ وجرت مناقشات حادة حول كل مسألة من هذه المسائل. وبولس اليهودي، الذي لم يكن من الحواريين الاثنى عشر، بل كان يؤذي المسيح ومن آمن به حينذاك، دخل النصرانية فيما بعد، ولما كان أعلم من الحواريين، لذا غلبهم في الكتابة والخطابة، ثم أحدث لهم تعليما جديدا، بدل التعليم الذي أشهدهم عليه المسيح. وبولس هو الذي جعل رؤياه فوق الشريعة، وأحل ما حرم الله للجيل الجديد. وهكذا سن بولس في حياته سنة صارت حجة لمن أتى بعده، فكانت المجامع تنعقد واحدا بعد الآخر، ويتم فيها الاتفاق على العقائد الجديدة، ومن يعارضها كان يلقى حتفه دون تأخير. والأمر الذي تحتم لدى المجامع إصدار القضاء فيه هو ألوهية المسيح وبنوته أي أنه ابن الله، فجعل بعضهم المسيح صاحب ذاتين وروحا واحدة، وجعله بعضهم صاحب ذات واحدة وروحين، وجعله البعض الآخر بشرا في الحياة الدنيا، وابنا بعد الصلب، وقليل منهم بقوا على العقيدة القديمة فلم يجعلوا المسيح أكثر من كونه بشرا نبيا. والمجامع نفسها اخترعت عقيدة التثليث، اتباعا لتثليث أفلاطون، أي الله والعقل والنفس الكلي. فكانت مسائل أفلاطون عامة في اليونان، ولذا لم يعترض أحد على هذا التثليث، وانتشرت العقيدة القائلة به. وظهر الخلاف في أقانين التثليث أيضا، فجعل بعضهم أركانه: الله ومريم والمسيح، وبعضهم: الله ويوحنا والمسيح، وبعضهم جعل الله والمسيح أقانيم ثلاثة. ثم ظهر الخلاف حول روح القدس، فقال بعضهم: ولد المسيح بالله وروح القدس، وقال بعضهم: ولد روح القدس بالله والمسيح.

وكانت هذه الخلافات تشبه الجراثيم التي تقضي على شجرة النصرانية من جذورها. وكانت كنائس روما والقسطنطينية ومصر والقدس تدعي لنفسها الكرامة والشرف، وتتبادل فيما بينها فتاوى الفسق والكفر، وفي هذه الأيام ظهر فيهم اتجاه التمثل بمريم والمسيح، فترهب ألوف من الرجال والنساء، وكان وجودهم عبئا على العالم المتحضر ووصمة عار على جبين الكنيسة، وقضت عقيدة الكفارة (¬1) على الرغبة في الأعمال الصالحة، وأطلقت فكرة إنقاذ المسيح للملعونين وأهل النار عنان الطبائع الوحشية. كما أتاحت مسألة الكذب المقدس لكل فرقة فرصة تزويد الوثائق الهامة حسب أهوائها وقياساتها، وهذه المفاسد جعلت النصرانية مكروهة منفرة، كما أن الاضطهاد الذي لقيه النصارى على أيدي براسبير وآردين والأسقف ديكن قد أنسى الناس ظلم هيروديس ونيرو. وفي مثل هذه الظروف كانت بعثة النبي محمد (ص). وقد توفرت لنصارى الشام ومصر والعراق في ظل الإسلام حياة الأمن والسلام مع الإبقاء على معتقداتهم، وسلام الإسلام قد وضع عنهم الإصر والأغلال التي أثقلت رؤوسهم وأفكارهم. 4 - الأمم الهندوكية: أطلق المسلمون على سكان شرقي نهر إندو أو السند اسم إندو أو هندو، وتاريخ هذا البلد وهذه الأمة كان تاريخا مظلما، ولكن توجد آثار تدل على نهضة علمية في هذه البلاد أيضا. وانحطاط الأمة الهندوكية وبلادها ودياناتها وعلمها قد بدأ بحرب (مها بهارت) (¬2) وقد وقعت هذه الحرب قبل المسيح بنحو ألف وخمسمائة سنة (¬3)، ويحكى أنه لم يبق في الهند كلها شخص لا ينضم إلى أحد الفريقين (كورو-باندو) وقياسنا أن عدد السكان حين ذاك لم يكن أقل من خمسين مليونا، ولكن الحرب قد أتت عليهم، فلم يبق من الطرفين إلا اثنا عشر رجلا، ولما رأى الفاتحون هذا الوضع المقلق أسرعوا بالقضاء على حياتهم. ¬

(¬1) أي التكفير عن الذنوب. (¬2) ستيار ته بركاش. (¬3) تحقيق ما للهند من مقولة ص 200.

وقبل المسيح بستة قرون ظهرت ديانة بوذا (¬1) (بده) وقد اختار بوذا لغة (بالي) ومنع تعليم السنسكريتية وتعلمها، وبحلول الديانة البوذية مكان الديانة الفيدية انعدمت كتب الديانة القديمة حتى لم يبق أحد يعلمها. وقد ناظرهم (شنكرا جارج) وأثبت فضله العلمي، ولكنه مات في سن 33 سنة أو 34 سنة، إلا أن السنسكريتية احتلت بجهوده مكانتها في البلاط الملكي، ولكنها منيت بالغلو الشعري والاستغراق، وأسدلت ستائر الاستعارة على الحقائق والوقائع (¬2). ومن الكتب القديمة كتاب (مها بهارت) وهو الآخر لم يسلم من تصرف الناس، فقد قيل إن نحو عشرين ألف عبارة (اشلوك) مزورة أضيفت إلى هذا الكتاب (¬3). وقد استمرت قوة الديانة البوذية إلى عهد الملك ((أشوكا)) ثم دب فيها الانحطاط، ولم تكن مبادؤها تصلح أن تجارى العالم المتحضر، وجماعة الفقراء (بهكشو) التي أعدتها الديانة البوذية هي التي دفعتها إلى الانحطاط وخروجها من البلاد، وكذلك كان لديانة بوران يد في إخراجها أيضا. وبعد الديانة البوذية ساءت أحوال البلاد كثيرا، فعم الفجور وانتشرت الفواحش، وظهرت عشرات من الفرق مثل: جكرانت، وام مارغى، سهسر بهك، درشنان مكش، شاكت، ننوارك، آوك، رام أياسك، دندى، فقضت على الأخلاق والحضارة (¬4). سيطرت هذه الفرق على الهند كلها، ووضعت الخمر والميسر والفاحشة ضمن تعاليم الدين، وفي مثل هذه الحالة وصل دعاة الإسلام من السند والشمال الغربي ¬

(¬1) كان اسم بوذا الأصلي (سدهارته) والاسم العائلي (غوتم) ولقبه التعظيمي (بده) وهو الذي تحول بالعربية إلى بوذا، ومعناه اليقظ، ولد في (كبل وستو) بنيبال من بطن مايا في بيت سرودتا. وكان أبوه حاكما لقوم (ساكهيا) تزوج بوذا امرأة تسمى (سبودا) فولدت له ابنا سماه (راهولا) رهب بوذا في سن التاسعة والعشرين، وكانت ولادته (560 ق - م) وتوفى وهو ابن ثمانين سنة ويعد من كبار العالم. (¬2) ستيارته بركاش ص 373. (¬3) أيضا ص391. (¬4) انظر ستيارته بركاش (الباب الحادي عشر) خاص بالفرق المذكورة.

وجنوب الهند، فعرفوا البلاد بالحقائق والمعارف، فأدرك أهل البصيرة وضعهم السيء، فدخل أغلبهم في الإسلام، وبقى من بقى على الهندوكية. والحاصل أن هذه هي الإصر والأغلال التي أزالها خدام الإسلام وتعاليم الشريعة الحقة. 5 - المجوس: كانت دولتهم قائمة في إيران منذ عصر قديم، وقد حكموا نحو ثلث الكرة الأرضية العامرة بالسكان آنذاك، واستتب لهم الأمن بالحكم، وبالأمن مالوا إلى حياة الرغد والدعة، وقد أضعف الترف قلوبهم وأفكارهم وتزلزل أساس دولتهم. وقد قضت عقيدة ماني على الدستور القديم، وأورثت في طبائع الناس القلق والفوضى، بينما أعلن مزدك مبدأ شيوع المرأة والذهب والأرض، فكثر الظلم والفواحش والعصيان والتمرد، حتى أن الأبناء عشقوا أمهاتهم وسقطت الأميرات صاحبات العرش والسلطة ضحايا العواطف الجنسية البهيمية لضباط الجيش، وأعجب الناس بأدلة تزويج المحرمات الأبدية مكان المحصنات، واعتبر التعفف والطهر شيئا قذرا للجنسين، وخادم كفور مثل فرهاد صار منافسا لمليكه، وابن غاو مثل شيرويه عقر بطن أبيه ببالغ البهيمية ثم تملك شيرين، وجندى فاسد مثل بهرام جوبين اصطلى بنار غرام الملكة بوران دخت (¬1). والعداء القديم المستمر بين حكومتي روما وإيران، وغزو بعضها لبعض أظلم البلاد وأوحشها. فلم يبق أي كيان حقيقي للدين، وانعدمت الكتب المقدسة بهجوم الإسكندر، وفي مثل هذه الظروف أولى الإسلام هذه البلاد عنايته، وحرر تعليم النبي (ص) الطاهر سكان هذه البلاد الواسعة من يد الجور والأنانية والفحش والظلم (¬2). وليدرس القراء ما أوجزنا من أحوال العرب واليهود والنصارى والهنادك والمجوس مرة أخرى حتى يعرفوا ويقدروا كيف أن هذه الأمم القوية انقرضت وبادت بتطاول الدهر وتغيره، وكيف أنها منيت بالعجز والبؤس، وقد أنقذ النبي (ص) هذه الأمم الضائعة من ¬

(¬1) الطبري (2/ 136). (¬2) الطبري (2/ 56) وبعدها.

الخاصية الثامنة عشرة

مهاوى الخزي والهوان برحمته وجوده ونصحه وإخلاصه، وأكرمهم بالمدنية وحسن المعاشرة والأمن العام والعافية البالغة، وهكذا صدق عليه قوله تعالى: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} (سورة الأعراف: 157). الخاصية الثامنة عشرة {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (سورة التوبة: 128) 1 - الخطاب في قوله ((من أنفسكم)) للعرب ولقريش، وكان العرب يفتخرون كثيرا بالأنساب، ولا يقيمون وزنا لغير العرب، ويأنفون من طاعة أحد غير العرب، فامتن الله على العرب بأن الرسول العظيم - الذي كانت أولى مسئولياته هداية العرب - من بينهم لا من غيرهم. وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: ((بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت منه)). وأخرج مسلم عن وائلة بن الأسقع قال قال رسول الله (ص): ((إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)). وأخرج الترمذي في صحيحه عن العباس بن عبد المطلب قال قلت: يا رسول الله ان قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض، فقال النبي (ص): ((إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، من خير فرقهم وخير الفريقين، ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا، وخيرهم بيتا)). 2 - والخطاب في الآية كذلك للعالمين جميعا، ومعنى الآية: إن هذا الرسول الذي عظم شأنه بالرسالة من جنس البشر، فإنه لو كان من الملائكة لم يتحقق الاتحاد والتجانس لفقدان اتحاد الجنس، وأدى ذلك إلى صعوبة التعليم والتعلم، وأعظم نقص يشعر به حين

الخاصية التاسعة عشرة

ذاك هو الصعوبة التي يتعرض لها أتباع أسوة الرسول (ص) في اتباع الصفات الملائكية، ويسهل العذر لمن كفروا به فيتفوهون بما يريدون. ولما ثبت كون النبي (ص) من نسل بني آدم ومن الجنس البشري عظم بذلك شأن جميع بني آدم أيضا، وتشجع الحريصون على اتباعه (ص)، وحبب لهم اقتداء الرسول (ص). 3 - وقد ذكر البغوي والخازن أن ابن عباس والزهري وابن محيصن قرأرا ((من أنفسكم)) بفتح الفاء من النفاسة، ومعناه أنه من أشرفكم وأفضلكم (¬1). وبذلك يثبت كون النبي (ص) أفضل الخلق في طهارة الأصل ولطافة الطبع ونقاء الذات، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة. الخاصية التاسعة عشرة {عزيز عليه ما عنتم} (التوبة: 128). فعل ((عز يعز)) بفتح العين يعني الصعب والشاق.، ((عنتم)) من العنت بمعنى المشقة والفساد والهلاك والخطأ وغير ذلك. فمعنى الآية: يشق على النبي (ص) كل ما يشق ويصعب عليكم، ويؤلمه ما يؤلمكم. وكان النبي (ص) متساويا مع الكفار والمؤمنين في هذه الصفة. 1 - كان النبي (ص) يتألم كثيرا حينما يرى الكفار ملطخين بأعمال الكفر والشرك، ماضين إلى العاقبة السيئه، مصير كل كافر ومشرك، إنهم بإصرارهم على الشرك أشبهوا الشخص الذي يحفر حفرة ليقع فيها فيهلك. وربما ازداد به الألم حتى أنزل الله تعالى كلامه لتهدئته وتسليته (ص). يقول تعالى: {فلا يحزنك قولهم} (يس: 76). ويقول: {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} (آل عمران: 176). وورد في حادث بدر أنه لما أسر المشركون في بدر، وأتي بهم، بات النبي (ص) تلك ¬

(¬1) معالم التنزيل على هامش لباب التأويل (3/ 140).

الليلة ساهرا يتقلب في فراشه، فقال له أصحابه: ما لك لاتنام يا رسول الله؟ فقال: ((سمعت أنين عمي العباس في وثاقه، وهو يقلقني)) فقام رجل من الأنصار فأطلق وثاق العباس فارتاح ونام، فلما جاء الأنصاري إلى الرسول (ص) سأله ((ما بال العباس لا أسمع أنينه؟)) قال الأنصاري: قد أطلقت وثاقه، فقال (ص) ((اذهب وأطلق وثاق جميع الأسرى)) فأطلق وثاقهم جميعا وأخبر بذلك النبي (ص) فبات مستريح البال (¬1). وينبغي أن نقف هنا وقفة المتأمل، فإن هؤلاء الأسرى هم الذين آذوا المسلمين نحو ثلاث عشرة سنة متتالية، فألقوا بعضهم على النار، وأدموا بعضهم، ووضعوا الحجر الثقيل على صدر البعض الآخر، وقتلوا البعض بعد إيذائهم أذى بالغا، ومع ذلك كله وجدوا من النبي (ص) هذا اللطف واللين. إن العباس عم النبي (ص) كان قد اشترك في الحرب مكرها، كما تقول الروايات الموثوق بها (¬2)، ولكن العدالة النبوية لم ترض بأن تفرق بينه وبين الأسرى الآخرين، وقد بلغت الرحمة والرأفة بالنبي (ص) مبلغا حنى أنه (ص) لم يرتح ولم ينم إلا بعد ما بلغه أن جميع الأسرى قد ارتاحوا، وهكذا صدق عليه (ص) قول الله تعالى {عزيز عليه ما عنتم} وخاصة في حق الأعداء المتعطشين لدمائه ودماء المسلمين. 2 - ولما وصل النبي (ص) مهاجرا إلى المدينة، حقق الله تعالى قوله: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال: 33). في المشركين بمكة، فقد أصابتهم مجاعة شديدة أضعفت أبصارهم. فحضر أبو سفيان، عدو المسلمين المتحمس، إلى النبي (ص) وقال له: إنك تأمر بالإحسان وصلة الرحم، ونحن أقرباؤك نلتمس منك الرحم، فأحسن إلينا وادع لنا حتى ننجو من هذه المجاعة (¬3). فأمر النبي (ص) ثمامة بن أثال من أمراء نجد بإرسال الطعام إلى مكة فورا، وكان الطعام كثيرا في تلك المنطقة (نجد) وكان ثمامة قد قطع الميرة عن أهل مكة لعدائهم للنبي (ص)، فلما بلغه أمر النبي (ص) أطاعه وعادت الحياة إلى أهل مكة (¬4). ¬

(¬1) الطبري (2/ 288)، البداية (3/ 299)، ابن سعد (4/ 13). (¬2) ابن سعد (4/ 10)، الطبري (2/ 287). (¬3) البخاري (1007). (¬4) البخاري (4372)، ابن سعد (5/ 550).

وكان ذلك أيضا مظهرا من مظاهر رحمة النبي (ص) وتصديقا لقوله تعالى: {عزيز عليه ما عنتم}. 3 - كانت غزوة الطائف مع من وقع معهم قتال شديد في حنين والأوطاس، وكانوا قد تحصنوا في الطائف بعد انهزامهم في الموقعتين، وكانت قوتهم العسكرية شديدة، فحاصرهم النبي (ص) أياما، فلما بلغه أن الحصار اشتد عليهم وكادوا أن يموتوا جوعا أمر (ص) بفك الحصار فقال له الصحابة معلنين عن وجهة نظرهم العسكرية: إن الفتح قريب، ولكن النبي (ص) أصر على أمره، رحمة منه، ففك الحصار، وهذا هو النموذج الثالث لتحقيق قول الله عز وجل: {عزيز عليه ما عنتم} (¬1). وتدل هذه النظائر - وأمثالها كثيرة - على أن قلب النبي (ص) الرحيم كان يرق لحالة أعدائه السيئة فلم يكن يتحملها. ورحمته (ص) للمسلمين بلغت غايتها، فإننا نجد في العبادات والمعاملات أمثلة كثيرة لعنايته بالأمة وحرصه على أن لا تقع في المشقة. وهكذا كان يرى راحته في راحة الأمة، وتعبه في تعبها، فقد ورد في البخاري عن ابن حرام وأنس بن مالك عن النبي (ص) أنه قال: ((... فرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت بموسى، قال: فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعني فوضع شطرها، ثم رجع (ص) إلى موسى فقال له مثلما قال سابقا، وفعل ذلك مرارا إلى أن صارت خمسا)) (¬2). وهذه الواقعة تتمخض عن نتيجتين: الأولى: أن النبي (ص) كان في غاية الانقياد والإطاعة لأمر الله تعالى، فلما أمر بالصلوات الخمسين لم يتكلم بكلمة في ذلك. الثانية: أن النبي (ص) كان في غاية الرأفة بأمته، فلما أخبره نبي مجرب مثل موسى بأن أمته لا تطيق ذلك برزت فطرته الطاهرة الكامنة في قوله تعالى {عزيز عليه ما عنتم} فراجع الله تعالى مرة بعد أخرى، وقد أثمر حسن الأدب هذا والطلب المكرر بتخفيض عدد الخمسين إلى الخمس وبقى ثوابها على ما كان. ¬

(¬1) البخاري (4325)، مسلم (1778)، البداية (4/ 347). (¬2) البخاري (349)، ومسلم (162).

وأرى أن موسى عليه السلام لو حاول إقناع النبي (ص) بدليل آخر غير قوله ((إن أمتك لا تطيق)) لم يرض (ص) بمراجعة الله تعالى وطلب التخفيف في عدد الصلوات. ولم تكن الصلوات الخمسون كثيرة في نظر النبي (ص) بالتظر إلى كمال عبوديته وفرط شوقه ورغبته في العبادة، ولما كان قلبه الشاكر ولسانه الذاكر لا تفتر عن ذكر الله لحظة، فكيف يستكثر الركعات المعدودة في أوقات محدودة، ويستصعب أداءها؟ 4 - كان النبي (ص) في طريقه من المدينة إلى مكة في رمضان، وهو صائم، حتى إذا كان بعسفان طلب الماء ورفعه بيده ليراه الناس فشربه ولم يصم حتى وصل إلى مكة (¬1) وقد جاء ذلك في رواية ابن عباس عند البخاري، ولكن الروايات الأخرى صرحت بأن النبي (ص) أفطر لأنه عرف أن الصوم في السفر شق على أصحابه، وما شق على أصحابه شق على نفسه (ص) (¬2). 5 - ورد في الصحيحين والسنن عن عائشة في صلاة التراويح أن النبي (ص) صلى بالناس ليلتين ولم يخرج بالثالثة، ولما أصبح (ص) قال: ((قد رأيت صنيعكم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن يفرض عليكم)) (¬3). 6 - وفي صحيح مسلم عن أنس قال: كان رسول الله (ص) يصلي في رمضان، فجئت فقمت إلى جنبه، وجاء رجل آخر فقام أيضا حتى كنا رهطا، فلما حس النبي (ص) أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة (¬4). 7 - وروت أم المؤمنين عائشة فقالت عن عادته (ص): إن كان رسول الله (ص) ليدع العمل وهو يجب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم (¬5). ومجموع هذه الروايات تدل على رسوخ صفة (عزيز عليه ما عنتم) سورة التوبة: 128 في النبي (ص)، وأن تعب أمته كان يشق عليه كثيرا. ¬

(¬1) البخاري (4279). (¬2) كما أخرجه الطحاوي من طريق أبي الأسود عن عكرمة، انظر الفتح (4/ 181). (¬3) البخاري (1129)، ومسلم (761). (¬4) مسلم في كتاب الصيام (775/ 1 رقم 1104). (¬5) البخاري (1128).

الخاصية العشرون

وصفات الرحمة والرأفة التي توفرت في ذات النبي (ص) نحو أفراد أمته مع كثرتهم قد لا تتوفر في أب نحو أبنائه مع قلة عددهم. ومن هنا نقول: إن رحمة النبي (ص) أعلى وأقوى من رحمة جميع الراحمين سوى رحمة رب العالمين. الخاصية العشرون {حريص عليكم} (التوبة: 128) 1 - مادة ((حرص)) إذا تعدت بحرف ((على)) فإنها تدل على شدة الطلب، فالآية تصف النبي (ص) بأنه يرغب في نفع أمته غاية الرغبة، وهذا يدل على أمنيته البالغة نحو صلاح الأمة ونفعها ورخائها. يقول تعالى في سورة يوسف: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} (يوسف: 103). وهذه الآية أيضا تفيد أن منتهى نظر النبي (ص) وكمال أمنيته أن تخضع رقاب الناس كافة له وحده لا شريك له، فالدين الواحد للرب الواحد يوحد البشرية ويوفق بين أهلها. 2 - جاء عظيم قريش عتبة إلى النبي (ص) مرة فقال: ((إن أردت مالا فإني أستطيع أن أجمع لك الذهب والمال أكثر من غيرك، وإن أردت سؤددا فإننا نسودك، وإن أردت حكما فإني أخضع لك العرب كافة)). فقال النبي (ص): ((إني لا أريد المال ولا أرغب في سود وحكم، إنما أنا رسول رب العالمين، أبلغ رسالته إلى كل من سمع)) (¬1). 3 - ومرة ضرب أبو جهل النبي (ص)، فبلغ ذلك عمه حمزة، فمشى إلى أبي جهل فضربه ثم عاد إلى النبي (ص) وأخبره بأنه انتقم من أبي جهل، فقال النبي (ص): ليس لي علاقة بالانتقام وغيره، نعم، يسرني أن تسلم، فاقتنع حمزة بكلامه (ص) وأسلم (¬2). ¬

(¬1) سيرة ابن هشام (1/ 313). (¬2) سيرة ابن هشام (312/ 1)، دلائل النبوة (213/ 2، 214).

الخاصية الحادية والعشرون

وهذه الوقائع تدل على أن النبي (ص) كان نقي الذيل طاهر الجانب من كل غرض، ولم يكن تعليمه (ص) مبنيا على مصلحة ذاتية، بل كان بمعزل عن مثل هذه الصفات، كانت ذاته رحمة ومنفعة وخلقه لطفا ورأفة. انظروا إلى أدعيته التي كان يدعو بها حينا بعد آخر، وفي خطبة ألقاها قبل موته بشهر قال: ((مرحبا بكم حياكم الله بالسلام، رحمكم الله، حفظكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، رفعكم الله، نفعكم الله، أدامكم الله، وقاكم الله، أوصيكم بتقوى الله)) (¬1). {حريص عليكم). وهذه هي خاصية رسولنا (ص): فيا رب صل وسلم دائما أبدا على نبيك خير الخلق كلهم. الخاصية الحادية والعشرون {بالمؤمنين رءوف رحيم} (التوبة: 128) وصف النبي (ص) في هذه الآية بالرأفة والرحمة. و ((رءوف)) صيغة مبالغة من الرأفة و ((رحيم)) صغة مشبهة من الرحم. وينبغي أن نتذكر أن صيغ المبالغة (¬2) تدل على الكثرة والتوفر في المعنى، وصيغ الصفة المشبهة (¬3) تكون مظهرا للصفة اللازمة وللمعنى الثابت. وعلى هذا يكون معنى ((الرءوف)) كامل الرأفة والعطف، ومعنى ((الرحيم)) دائم الرحمة، وقد ورد في سورتي البقرة والحج قوله تعالى: ¬

(¬1) مجمع الزوائد (24/ 9)، ابن سعد (356/ 2). (¬2) أوزان المبالغة عشرة، والكلمات التالية وردت على هذه الأوزان: نجار، علامة، صديق، مسكن، مسعر، معطار، نصير، ضروب، حذر، فاروق. فالمبالغة تعطي معنى الفاعلية. (¬3) تأتي الصفة المشبهة من الفعل اللازم بمعنى الفاعل، وقد وردت الكلمات الآتية على أوزانها: حسن، طيب، صعب، جبان، شجاع، شفيع، مهد، أشيب، عطشان، كريم، وقور، فرح. وقد سميت بهذا الاسم لمشابهتها بالفاعل في المعنى والتصرف.

{إن الله بالناس لرءوف رحيم} (البقرة: 143، الحج: 65). ومما يشرف النبي (ص) ويكرمه أن الصفتين اللتين وصف بهما رسول الله قد استعملها رب العزة سبحانه وتعالى لنفسه. نعم، عمت الرحمة والرأفة الإلهية جميع العالمين، وتخصصت رأفة النبي (ص) ورحمته بالمؤمنين. وبعد إدراك هذا العموم والخصوص في المعنى يجب على المؤمنين الشكر لأنهم خصوا برحمة ورأفة مضاعفتين. وبالمناسبة نتساءل هل تحقق هذا الشرف للنبي (ص) في الأسماء الأخرى؟ يروى في شعر حسان بن ثابت البيت التالي: وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد ولو تم استنان سنة حسان بن ثابت المؤيد بروح القدس لوجدنا نحو ثمانين اسما من أسماء النبي (ص) توافق أسماء الله الحسنى. ومن عادة أئمة السيرة النبوية الأعلام أنهم: 1 - يصوغون اسما من المصدر أو الفعل الذي وصف به النبي (ص) في القرآن الكريم. 2 - ويعدون الصفة التي تم وصفه بها في الحديث النبوي اسما. 3 - ويجعلون الأعلام الواردة في الأشعار التي أنشدت بحضرة النبي (ص) ضمن أسمائه. وفعل أئمة السيرة هذا مستحسن، وهو يدل على حسن الأدب وعلى كماله .. والقائمة التي أوردها الزرقاني في ((شرح المواهب اللدنية)) (¬1) لأسماء النبي (ص) المباركة مرتبة حسب الحروف الأبجدية مبنية على الأصول الثلاثة المذكورة. وبعد التصريح بالأصول المذكورة ينبغي القول بأن أسماء النبي (ص) التي ورد التصريح بها في كلام الله تعالى تبلغ (92) اسما. والكلام عن معانيها سيأتي فيما بعد، ولكن نود إيجاز القول في الرأفة والرحمة وهما من أوصاف النبي (ص). ¬

(¬1) انظر المواهب اللدنية ج 1 ص 180 وما بعدها.

الخاصية الثانية والعشرون

وقد أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: كان رسول الله (ص) يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا (¬1). وكان مبدأ النبي (ص) هذا مبنيا على العطف والرأفة، فقد أراد (ص) أن يستمع له المستمعون بنشاط الطبع وحضور القلب حتى تبقى فيهم الرغبة والشوق. وكان من عادته (ص) أنه كان يتجوز في صلاته إذا سمع بكاء صبي كي تتفرغ له أمه (¬2). ومن عادته (ص) أنه لم يكن يسمح لأحد أن يمشي معه وهو راكب، والصحابة الذين كانوا يلحون عليه كان يركبهم معه أو يعيدهم (¬3). وكان (ص) يؤدي دين المسلم الديون إذا مات قبل دفنه من بيت المال، ولكنه (ص) لم يكن يقبل مال البيت أبدا (¬4). وكان يقول: ((لا تغتابوا أحدا أمامي فإني أود أن لا يتغير صفاء قلبي نحوه)) (¬5). وربما كان (ص) يدعو لأمته طول الليل، ويحب الأطفال ويسلم عليهم ويمسح رءوسهم، ويركبهم على دابته، ويأكل مع الغلمان على الأرض، وكانت هذه الأمور تصدر منه على سبيل الرأفة والعطف، وهذه الرأفة والرحمة كانتا من خصائصه. الخاصية الثانية والعشرون {وما أرسلناك إلا كافة للناس} (سبأ: 28). ورد في الأصحاح الثالث من كتاب الخروج (¬6). 1 - فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق. ¬

(¬1) البخاري (68، 70)، ومسلم (2821). (¬2) البخاري (707). (¬3) الشفا (1/ 70). (¬4) الشفا (1/ 71). (¬5) الشفا (1/ 72). (¬6) الخروج (3/ 2 - 10).

2 - فقال موسى: أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم، لماذا لا تحترق العليقة. 3 - فلما رأى الرب أنه مال لينتظر ناداه الله من وسط العليقة وقال: موسى موسى، فقال: ها أنا ذا. 4 - فقال: لا تقترب إلى ههنا، اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. 5 - ثم قال: أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب، فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله. 6 - فقال الرب: إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر، وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم، إني علمت أوجاعهم. 7 - فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبنا وعسلا، إلى مكان الكنعانيين والحتيين والأموريين والفرضيين والحويين واليبوسيين. 8 - والآن هو ذا صراخ بني إسرائيل قد أتى إلي ورأيت أيضا الضيقة التي يضايقهم بها المصريون. 9 - فالآن هلم فأرسلك إلى فرعون وتخرج شعبي بني إسرابل من مصر. وتظهر الفقرات (6، 7، 8، 9) هدف نبوة موسى عليه السلام ومقصدها بوضوح، وعمل موسى أيضا يؤيد ذلك، فإنه عليه السلام لم يتعرض إلا لتخليص بني إسرائيل والذهاب بهم إلى أرض الميعاد، ولم يفعل شيئا نحو أمم العالم الأخرى. وفي كتاب التثنية (كتاب موسى الخامس والأخير) (¬1): ((بناموس أوصانا موسى ميراثا لجماعة يعقوب)). وهذه الفقرة قد صرحت بأن شريعة التوراة خاصة ببني إسرائيل، ولو لم تكن هذه الفقرة لأمكن الادعاء بأن شريعة التوراة لكافة العالم، ومن المسلم به أن جميع الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى إلى عصر عيسى عليه السلام قد جاءوا لبني إسرائيل خاصة. ¬

(¬1) التثنية (4/ 33).

نعم، بقى علينا أن نصرح بالذين أرسل إليهم عيسى عليه السلام. فلندرس لذلك الأصحاح الخامس عشر من إنجيل متى، إنه يحكي قصة امرأة كنعانية لم تكن إسرائيلية وجاءت إلى المسيح ليشفى بقوته المعجزة ابنتها المجنونة، ولكن المسيح قال لها: ((لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. فأتت وسجدت له قائلة يا سيد أعني، فأجاب وقال: ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب)) (¬1). وهذه الواقعة بكاملها جديرة بالتأمل بقلب هادئ وفهم كامل، فالمسيح عليه السلام قال بوضوح: إنه لم يرسل إلى أمة سوى بني إسرائيل، ثم إنه شبه بني إسماعيل بالأولاد والأمم الأخرى بالكلاب. وحرمان الأمم الأخرى بركاته قد أوضحه بدليل أن خبز الأولاد لا يمنح الكلاب. وورد في إنجيل متى أن المسيح حينما أرسل تلاميذه الاثنى عشر للدعوة أوصاهم قائلا: ((إلى طريق أمم لا تمضوا إلى مدينة للسامريين لا تدخلوا)) (¬2). ويظهر من هذا أن الدعوة في الأمم الأخرى كانت محظورة البتة، ومنع الإسرائيليون أيضا من الذهاب إلى السامريين. وهذه الشواهد تكفي لاثبات أن نطاق نبوة المسيح عليه السلام ومسئولية حواريه الاثنى عشر في الدعوة كان محصورا في بني إسرائيل أنفسهم. وبعد أنبياء بني إسرائيل انظروا: أي دين في الدنيا توجد فيه ميزة الدعوة والإرشاد؟. لعل عامة الناس يظنون أن الدعوة العامة توجد في البوذية ولكن تاريخها الممتد عبر القرون يوضح أن البوذيين لم يبلغوا الدعوة إلى أمة أخرى حتى في عصر ازدهار البوذية، ولم يدخل أحد في دينهم من الإسرائيليين والبابليين والمصريين والحجازيين والمغربيين وغيرهم. وهذه شهادة قوية بأن البوذية كانت مختصة بأمة ومحصورة في منطقة، ولو ¬

(¬1) إنجيل متى (15/ 24 - 26). (¬2) إنجل متى (10/ 5).

سلمنا بقول الآريين يتضح أن البوذية لم تكن ديانة مستقلة، بل كان بوذا مجددا لديانة الفيدا (¬1). ولننظر إلى ديانة الفيدا، أنها ازدهرت قبل الحرب التي عرفت ب (مهابهارت) ولكن الفيد والكتب الستة (شاستر) ومنوسرتي لا تذكر أبدا أن ديانة الفيدا ديانة دعوية، وكذلك لا تذكر أنه تم تبشير أمة أخرى بها. وكتاب منو ((منو سمرتي)) تثق به الفرقتان، الآرية وسناتن، وهو يقسم جميع السكان إلى أربع طبقات. الأولى من بينها طبقة البراهمة، وهي مختصة بتحصيل العلم والفضل وقراءة الفيدا. وهذا التقسيم وما فيه من الإلزام والتقييد يدل على أن السيد منو وأتباعه الذين اجتمعوا لتعلم كتاب ((منوسمرتي)) لم يجعلوا ديانة الفيدا ديانة دعوية قط. ونترك هنا ذكر الأديان قليلة الانتشار في العالم ونشير إلى أن سلوك الأمم العظيمة المذكورة قبلا يؤكد ما قلنا. تأملوا في شريعة موسى عليه السلام التي لم تعترف قط لأحد من غير بني إسرائيل بالإمامة. وكنيسة روما التي لم ترض قط بأن يكون غير أوربي خليفة بطرس، وكذلك لم يعين آسيوي قط أسقفا، ولم يعين يهودي أو نصراني أو مغربي مرشدا أو سادن معبد في الديانة الهندوكية. وهذه التجارب العملية تبرهن على أن أغلب كبار هذه الديانات فهموا أن دياناتهم خاصة بمنطقة معينة وأمة محدودة. وكون بعثة النبي (ص) عامة لكافة البشر يثبت بآيات أخرى من القرآن الكريم غير آية العنوان هنا، يقول تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض} (الأعراف: 158). ¬

(¬1) قول الآريين هذا ليس صحيحا، فإن بوذا كان قد منع الناس من تدريس اللغة السنسكريتية ودراسة الفيدا، وقد اعترف بذلك مؤلفو البوذية أنفسهم.

الخاصية الثالثة والعشرون

الخاصية الثالثة والعشرون {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} (الفتح: 10) المبايعة من البيع، والبيع مطلقا في اللغة يعني المبادلة، وفي الشرع هو أخذ الثمن وإعطاء المثمن إذا تراضى الجانبان. والبيع كذلك يستعمل بمعنى الشراء وبالعكس، بالنظر إلى حالة الجانبين. والحاصل أن المبايعة لابد أن يوجد فيها من الجانبين الإعطاء والأخذ. والبيعة في الاصطلاح: هي تعهد الإنسان بطاعة الإمام، يلزمه بها نفسه والتزام وفاء العهد أيضا يدخل في هذه الكلمة. والبيعة التي ذكرتها الآية الكريمة كانت قد وقعت بموضع الحديبية تحت شجرة سمرة، يقول الله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (الفتح: 18). والحاجة إلى هذه البيعة وحقيقتها أن النبي (ص) كان قد أرسل عثمان بن عفان إلى قريش سفيرا له، وأرسل معه عشرة من الصحابة، وبعد وصولهم بيوم أو يومين بلغ النبي (ص) أن قريشا حبسوا عثمان وقتلوا أصحابه. وكان هذا خبر لو صدق لوجب القتال شرعا وخلقا لتأمين حرمة السفراء، والذين كانوا مع النبي (ص) في هذا السفر ممن جاءوا لأداء العمرة والطواف، ولم يخطر ببالهم أنهم سيواجهون الحرب وسوف يضطر المهاجرون لرفع السيف في وجوه أقاربهم وذويهم، ومن هنا وجبت البيعة المذكورة. ورد في رواية جابر التي أخرجها الشيخان (¬1) أن عدد المبايعين آنذاك كان أربعمائة وألفا. كان النبي (ص) جالسا في ظل شجرة وقد مد يده للبيعة، وكان عمر يسند يده (ص) بيده حتى لا تتعب، والناس يأتون ثم يرجعون بعد البيعة. قال سلمة بن الأكوع: إنه بايع على الموت. وقال جابر بن عبد الله: إنه بايع على عدم الفرار. ويستنبط بالجمع بين الروايات أن ألفاظ البيعة كانت باختيار المبايع ورضاه. ولاشك ¬

(¬1) البخاري (4153)، ومسلم (1856).

أن الإسلام يقرر مثل هذه الحرية التي لا يكون فيها إجبار وإكراه. وكان جد بن قيس الأسلمي هو الشخص الوحيد، في هذا الحشد الكبير، الذي توارى وراء إبله ولم يبايع، ومما يدل على حرية الإسلام أنه لم يقع عليه إكراه، نعم، قال (ص) لبيان كرامة المبايعين وشرفهم: ((أنتم خير أهل الأرض)) (¬1). وقد ورد ذكر هذه البيعة في آيات القرآن العديدة، وهذا يدل على أن هذه الواقعة مرتبطة برضوان الله تعالى ارتباطا قويا، قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} (التوبة: 111). وقال: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} (التوبة: 111). وقد ذكرت هذه الآية ضمن الخصائص النبوية لأنها تدل على فضل كبير وشرف عظيم للنبي (ص). تأملوا كيف جعل الله تعالى من بايع على يد النبي (ص) مبايعا على يده تعالى: إن هذا شرف لم يحصل لنبي غيره. ورد في آية العنوان ((يد الله فوق أيديهم)) وقال الإمام فخر الدين الرازي (¬2): يراد باليد في الموضعين معنى واحد، أو معنيان مختلفان. الف - فإن أريد به في الموضعين معنى واحد كان معنى الآية: إن منة الله تعالى فوق منتكم. قال تعالى في موضع آخر: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} (الحجرات: 17). وأيضا إن النصر والتأييد الذي ناله النبي (ص) من الله تعالى أرفع وأعلى من النصر والتأييد الذي ناله من الصحابة. وإطلاق كلمة ((اليد)) على الغلبة والنصرة والقوة معروف في لغة العرب، يقال: اليد لفلان. ¬

(¬1) البخاري (4154). (¬2) مفاتيح الغيب (7/ 540).

الخاصية الرابعة والعشرون

ب - وإن أريد معنيان مختلفان فإن كلمة ((يد الله)) (¬1) تعني حفظ الله، وكلمة ((أيديهم)) تعني الجارحة الإنسانية. ويكون معنى الآية أن حفظ الله ونصره يكون دائما مع هؤلاء المبايعين. ويؤيد ذلك ما ورد في هذه السورة نفسها بعد قليل، يقول تعالى: {فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (*) ومغانم كثيرة يأخذونها} (الفتح 18، 19). وكان الخلفاء الراشدون ومن تحتهم من الولاة والحكام وقواد الجيش وفاتحي الأمصار من هؤلاء المبايعين. وقد تم على أيديهم فتح بلاد حضرموت وعمان والعراق وفلسطين وسوريا ومصر وأفريقيا والسودان وتونس والجزائر ومالطة وكريت وإيران وخراسان. نعم، هؤلاء الصلحاء هم مظهر معنى الآية وما فيها من البشارة العظمى، فقد تم تمحيص قلوبهم وأنزل الله عليهم السكينة التي ورد ذكر نزولها في أحوال موسى أيضا وفي أيديهم كانت القوة التي أخضعت أيدي العالمين جميعا، ولم يغلب عليهم جيش مدرب لدولة. وكان ذلك أيضا مشهدا لقوله تعالى: {وكف أيدي الناس عنكم} (الفتح: 20). وهذه البيعة النبوية والاتباع المحمدي وصدقهم وإخلاصهم لذاته (ص) ولأسوته قد حقق لهم ما حازوه من الشرف والفضل والجاه والشوكة والثروة والرفعة ورحمة الله وبركاته. فهم كانوا تابعين، وهذه الخصائص كلها ترتبط أصلا بذات النبي (ص). وهذا الشرف من خصائصه (ص). الخاصية الرابعة والعشرون {ولكن رسول الله وخاتم النبيين} (الأحزاب: 40). الخاتم والختم بمعنى واحد، واللام في النبيين للجنس، ولذا يدخل في هذه الكلمة ¬

(¬1) لا يأول أهل الحديث كلمة ((اليد)) بأي شكل من الأشكال، ولكنهم ينزهون الله تعالى عن الجسم وما يلزمه، وهكذا يمتازون عن المجسمة والمعطلة. ومذهبهم في الصفات خال من كل تعقيد وتعسف.

جميع الأنبياء والرسل. وآية القرآن الكريم هذه تعلن أن سيدنا محمدا رسول الله (ص) ختم به النبوة. وهذا تنبؤ عجيب، وفيه قوة عجيبة من الله تعالى. انظروا إلى إيران، قد سمع فيها نداء الملك السماوي طوال آلاف السنين المتتالية عشرات من الصلحاء الطاهرين، والهند تدعي بأنها قد وجد فيها منذ ملايين السنوات أشخاص ألقى عليهم الضوء السماوي أنواره، واقرأوا أحوال بني إسرائيل، فقد وجد فيهم مثنى وثلاث ورباع من الأنبياء في وقت واحد، وقد ادعى المصريون والصينيون بأن النبوة والرسالة قد وجدت فيهم منذ مئات السنين، ولكن منذ أن أعلنت آية العنوان ختم النبوة رأينا أن أهل هذه الأديان أيضا أقفلوا أبوابهم. لماذا لا يجلس المجوس الآن أحدا على عرش اسب وزردشت؟! ولماذا لا يسمع أحد من الآريين حرفا من الصوت السماوي؟ ولماذا لا يعترف بنو إسرائيل في أمتهم وبلدهم بنبوة أحد؟ قرائي الأعزاء: هذا كله من تأثير القدرة الإلهية العظيم، فبعد أن جعل الله النبي (ص) خاتم النبيين، أخرج من أفكار أصحاب سائر الأديان وعقولهم فكرة أن يصفوا أحدا منهم بالنبوة والرسالة والإلهام. وموقف العالمين هذا وميلهم الطبيعي واتجاههم الفطري يبين مدى عناية الله تعالى، بتخصيص هذه الخاصية بالذات المحمدية، ولا يسع أي إنسان غير مسلم أن يدعي أن النبي (ص) قال ذلك لمدح ذاته، وذلك لما يأتي: أولا: إن الادعاء سهل، ولكن التحكم في الزمن المستقبل صعب، والقرون الأربعة عشر (¬1) وكذا الموقف الموحد للأديان العديدة يؤيد ما قلنا، والطبيعة إذا أيدت شيئا فلا حاجة فيه إلى التصنع. ثانيا: لو أراد النبي (ص) مفخرة لنفسه لأمكنه تكريم أتباعه بالنبوة، وإبراز مكانتهم وتعدادهم أكثر من موسى عليه السلام وقد اشتهر لدى العامة أن بعض الصوفية المعلمين ادعى الألوهية، ولكننا نشك في صحة هذه الروايات، ولو ثبت أن أحدا قال: ((أنا ¬

(¬1) في يوم 9 ربيع الأول عام 1347 هـ يتم أربعة عشر قرنا على مولد الرسول (ص) أي تضاف إلى وقت الهجرة 53 عاما مضت من عمر النبي (ص).

الحق)) أو ((سبحاني ما أعظم شأني)) فإنه يعني صريحا أنه رأى الادعاء بالألوهية سهلا، ولكن لم يجترئ على ادعاء النبوة. وقد اشتهر الشطر الآتي في مثل هؤلاء: ((باخذا ديوانه باش وبامحمد هوشيار)) أي كن مع الله ذاهلا، ولكن مع محمد (ص) يقظا. ونثبت فيما يلي الأحاديث التي رويت بإسناد صحيح عن النبي (ص) في تفسير آية العنوان: 1 - عن أبي هريرة قال قال رسول الله (ص): ((مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه وترك منه موضع لبنة وطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة، فكنت أنا سددت موضع اللبنة ختم بي البنيان وختم بي الرسل)) متفق عليه. وفي رواية: ((فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)) (¬1). 2 - عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي (ص) يقول: ((إن لي أسماء، أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي)) متفق عليه. 3 - عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: ((فضلت على الأنبياء بستة: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون)) رواه مسلم. 4 - عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال النبي (ص) في خطبة الوداع: ((أيها الناس إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم)) رواه ابن جرير وابن عساكر. 5 - روى أحمد والترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن أنس مرفوعا: ((أن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي)) الترمذي وأحمد، الزرقاني مجلد 5 ص 276. ¬

(¬1) البخاري (3535)، ومسلم (2286) مع خلاف في بعض الألفاظ في المصدرين.

6 - عن ثوبان قال قال (ص): ((سيكون في أمتي ثلاثون كذابا، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي)) رواه مسلم. 7 - عن عقبة بن عامر قال النبي (ص): ((لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب)) رواه الترمذي. وكلنا نعلم أن عمر الفاروق لم يكن نبيا فثبت أنه لا نبي بعده (ص). 8 - وفي غزوة تبوك خلف النبي (ص) عليا وراءه، فقال علي: تتركني مع النساء والولدان يا رسول الله؟ قال (ص): ((أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) البخاري ومسلم. كان موسى عليه السلام قد مكث في الطور أربعين ليلة لميقات ربه، وخلف بعده أخاه هارون، والنبي (ص) أيضا مكث في غزوة تبوك نحو خمسين يوما خارج المدينة. فالحديث المذكور يشير إلى ذلك، وليست فيه إشارة إلى الخلافة بعد وفاة الرسول (ص)، لأن هارون كان قد توفي قبل موسى بكثير. 9 - كان علي يقول حينما كان يغسل النبي (ص) غسله الأخير: ((بأبي أنت وأمي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك، من النبوة والأنباء وأخبار السماء)) (¬1). وقد صدقت القدرة الإلهية القاهرة هذه الروايات الإسلامية الصحيحة بإفحام أصحاب المذاهب الأخرى، وبذلك يتبين أن ختم النبوة خاصية خاصة بالنبي (ص) نفسه. ويبغي أن نقرأ مع هذه الآية تفسير قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} (المائدة: 3). حتى نعلم أن منصب ختم النبوة يناسب النبي (ص) الذي بشر بكمال الدين وإتمام النعمة أيضا. ¬

(¬1) نهج البلاغة. ص 205 ط تبريز 1227 هـ.

الخاصية الخامسة والعشرون

والحاصل أن آية العنوان توضح كون النبي (ص) ختم المرسلين بأقوى الأدلة وأوثق البراهين، فالحمد لله على ذلك. وبعد هذا إن زعم زاعم من المسلمين أنه نبي فينبغي له أن يقرأ حديث صحيح مسلم، ثم ليدخل في عداد الثلاثين إن رضي بذلك، وإلا فليكف عن زعمه الباطل وليدخل في الإيمان. الخاصية الخامسة والعشرون {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 107) مضى ألوف من الأعلام في الدنيا، وقد تلألأت أسماؤهم في سماء الشهرة مثل النجوم، وألقابهم تلقى ضوءا على شخصياتهم، فقد لقب بعضهم بالملك الكبير، وبعضهم أقوى الأقوياء وبعضهم ابن النور، وبعضهم اليقظان، وبعضهم مربي البقرة، وبعضهم ابن القمر وهكذا، وهذه الألقاب وأمثالها تدل على خاصية بارزة في أصحابها، ولكنها لا تدل على نسبتهم إلى خلائق العالم. ولكن ((رحمة للعالمين)) لقب يبين خاصية نسبة النبي (ص) إلى الخلق وعلاقته بالخلق. إن معنى الرحمة يشمل العطف واللين والرقة والمواساة والتعهد والمودة. ومن ذا الذي يستطيع أن يقول أنه ليس بحاجة إلى هذه المعاني، وأنه يستغني عن فيوضها؟ كلا لا نجد أحدا يقول هذا. و ((العالم)) مشتق من العلمية، أي كل شيء يصلح للبروز والنمو والظهور والاستمرار في الوجود، فهو جدير بأن يسمى بهذا الاسم. ويستعمل هذا اللفظ كثيرا في التمييز بين الأنواع والأصناف والأجناس، فيقال: عالم الجماد، وعالم النبات، وعالم الحيوان، والعالم العلوي، والعالم السفلي؛ ويستعمل على سبيل الاستعارة للمعنويات والعواطف والمشاعر، فيقال: عالم الوجد، وعالم الشوق، وعالم الشباب وغير ذلك.

والحاصل أن استعمال لفظ ((العالم)) يعم المخلوق المادي والذهني، والعالمين جميع العالم، وهي تحيط بجميع العوالم. والآن تأملوا وتفكروا في ذلك الشخص المقدس الذي يحب الجميع ويرثى لهم ويواسيهم، ومحبته عامة، يلبي حاجة الجميع بتعليمه، ويغلب بحقائقه على جميع الوساوس، ويضفى فيوضه على الماديات والمعنويات والتصورات والتصديقات، فيقومها ويصدقها. إن رب العالمين بوصفه محمدا (ص) ((رحمة للعالمين)) قد أظهر أن تعليم النبي (ص) عام للجميع ونافع، وأنه ليس هناك شيء يستغتى عن رحمته (ص)، كما أن ألوهية الرب عامة، ولا يستغنى شيء عن ربوبيته. قد يسهل على الأحمق أن يقول إنه لا يحتاج إلى الشمس وحرارتها، ولكن عالما صاحب فكر يصعب عليه أن يقول أنه لا يحتاج إلى تعليم النبي (ص) البتة. ولينظر إلى العالم وأممه كيف اقتبست هذه الأمم المختلفة بعد النبوة المحمدية من تعليم النبي (ص) مباشرة أو بواسطة، وكيف أنها تمتعت بهذه الثروة بعد تغيير أوضاعها؟ انظروا سيرة الرسول (ص)، وحاولوا فهم معنى كونه رحمة للعالمين من سيرته: 1 - إن ((رحمة للعالمين)) هو الذي رأى حرب الفجار حين كان عمره أربع عشرة أو خمس عشرة سنة، فكره منذ ذلك الوقت هجوم قوم على قوم وسخط إنسان على إنسان. 2 - وهو الذي أوجب بفطرته السليمة وطبعه الطيب أحكام حلف الفضول (¬1) وتسهيل الاستغاثة للمظلومين والمضطهدين وحماية الغرباء وإعانة البائسين. 3 - وهو الذي علم طريقة تحويل العدو إلى الصديق: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (فصلت: 34). 4 - وهو الذي منع المؤمنين من الانتقام من الأعداء الذين بالغوا في العداء، وحرموه ¬

(¬1) انعقد حلف الفضول في مكة المكرمة، وكان أعضاؤه يحلفون على نصر المظلومين ومنع النساء واليتامى والقضاء على القتل والنهب. وقد دعا إلى هذا الحلف ثلاثة من أشراف العرب اسم كل واحد منهم فضل، فسمى بحلف الفضول، انظر البداية (2/ 291)، ابن سعد (128/ 1).

الحقوق الشرعية ومنعوه من العبادة، وذلك حينما كان المؤمنون قادرين على الانتقام: {ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدو} (المائدة: 2). 5 - وهو الذي رأى ترهب الكهنة وانعزال النساك وفرقة لا مساس اليهودية وفرقة اليونان الكلبية ورهبان وراهبات النصارى ومصائرهم المخزية فتلا عليهم قوله تعالى: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} (الحديد: 27). ثم ميز المدنية والإنسانية بإكليل ((لا رهبانية في الإسلام)) رواه أحمد في مسنده. 6 - وهو الذي لم يخصص فرقة من اليهود كشعب الله المختار، ولم يسلم مفاتيح السماء فردا واحدا مثل الكاثوليك، ولم يجعل البراهمة وحدهم يملكون إرسال الإنسان إلى النعيم والجحيم. ولم يمنح لقب أبناء السماء بسب الولادة في منطقة خاصة كما فعل أهل الصين. وهو الذي لم يغلق أبواب الرحمة والفضل على غير المتبعين مثل ما فعل زعماء الزرادشتية والبوذية. 7 - وهو الذي جعل الرومي واليوناني والمصري والسوداني متساوين، ونرى في مجلسه مدعما السوداني وبلالا الحبشي وفيروز الخراساني وسلمان الفارسي وصهيبا الرومي وأثامة النجدي وعديا الطائي يجلسون جميعا جنبا إلى جنب. وكذلك نرى ملك الجندل وحاكم عمان وذا الكلاع الحميري المدعي للألوهية وكاهن اليمن ضمادا يجلسون كلهم فرحين في آخر صف بمجلسه (ص). 8 - وهو الذي منح اليهود المخذولين المغضوب عليهم منزلة أمة مستقلة وأكرمهم بحقوق مساوية في العهود، بعد أن أهانهم وأذلهم النصارى والوثنيون. 9 - وهو الذي حافظ على الشعوب النصرانية جميعا، حينما كان يلعن المجمع الديني الثاني الجميع الأول، والمجمع الثالث المجمع الثاني زمان تطبيق أمورهم الدينية. وكذلك حافظ على أموال النصارى وأرواحهم، حينما سفكوا الدماء في القدس وروما ومصر حول مناقشة موضع ((جسم المسيح في روح واحدة أو روحين)). 10 - وهو الذي أرشد تعليمه ((لوثر)) حتى أن معارضيه يتهمونه بالدخول في الإسلام سرا، ومع ذلك لا يتردد في الاستفادة من تعليم النبي (ص)، إلى أن يسوق أوربا من الاعتقاد بالألوهية إلى الاعتقاد بالبشرية ويبعد عن الكنائس عبادة المظاهر.

11 - وهو الذي قدم إلى أمم العالم ودولها تعريف الدين الصحيح: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} (الروم: (3). فهل يستطع أهل ررما بالرجع إلى كتبهم القدسة، والفلاسفة بارجع إلى توجيهات مرشديهم أن يقدموا هذا التعريف للدين الصحثح؟ وهناك أصل آخر عن الدين الصحيح، يقول تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج: 78). والأصل الثالث الذي قامت عليه شريعة المصطفى (ص): {ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} (المائدة: 6). وبعد التعريف المذكور والأصول السابقة قال: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256). 12 - وهو الذي ارتفعت تعاليمه عن اختلاف الألوان وتبلبل اللسان وتباين الأوطان، واعتبرت ادعاء الحسب والنسب المحض عار من الصدق. 13 - وهو الذي قدم دعوة دين (هو الله أحد) إلى الأقارب والأباعد بطريقة متساوية، وجعل من الأحمر والأسود والغربي والشرقي والمتدين وغير المتدين أمة واحدة، فكانت على لسانهم كلمة واحدة، وفي قلوبهم عزيمة واحدة، وفي عقولهم تفكير واحد. 14 - وهو الذي فرق بين الترهب والتبتل، وربى الزهاد وهم يتحملون مسؤوليات شئون البيت، وأنذر بسخط الرحمن من يقطع الأرحام خوفا من مصائب الدنيا. 15 - وهو الذي شرح أمراض القلوب، وبين أماراتها، وأرشد إلى طرق علاجها، وعرف القلب السليم، وأوضح وسائل إقرار الأمن والسلام. 16 - وهو الذي رأى أن الهندوسية تجعل المرأة توهب وتعطى مثل النقود والحبوب، والنصرانية - قبل القرن السابع عشر الميلادي - تجعل المرأة بدون روح أو شيطانا محضا، واليهودية تجعل المرأة آلة لأغراض الشهوانية، ومزدكية إيران ومانويتها تجعلها مطية الرجال مثل الأرض الميتة. وهكذا لم يهتم هؤلاء جميعا بشخصيتها وطبيعتها وحقوقها. وهنا بشر النبي (ص) بالمبدأ الرباني:

{ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} (البقرة: 228). إن ((اللام)) في علم النحو تأتي للاستحقاق والتخصيص والتمليك، فهي هنا في قوله ((لهن)) تعطى النساء كثيرا من الحقوق. وقال (ص): ((النساء شقائق الرجال)) رواه الترمذي وأحمد والدارمي وابن ماجة. وقال (ص): ((فاتقوا الله في النساء)) رواه أحمد وابن ماجة والدارمي. 17 - وهو الذي حرر الإنسان من قيود العادات وسلاسل التقليد الأعمى وأغلال التقاليد الموروثة. يقول تعالى: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} (الأعراف: 157). 18 - وهو الذي علم الأمم مبدأ الموالاة هع الأمم، وقرر حدود عدم الموالاة أيضا، حتى يكون الحد جامعا ومانعا، فتلا (ص) قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (المائدة: 2). 19 - وهو الذي كانت وظيفته تزكية الإنسان وتطهيره من جميع الخصال الرذيلة والأخلاق السيئة، يقول تعالى: {ويزكيهم} (آل عمران: 164). 20 - وهو الذي لا يرى منزلة الإنسان الرفيعة في توفر الثروة والمال، ولا ينفيها عند الفقر والإعدام، بل يجعل الإيمان والعلم مناط الإنسانية، ومدار الاتصاف بالآدمية. ولفظ الإيمان يحيط بالفرائض الإلهية، ولفظ العلم يشمل واجبات الوجود، انظروا إلى قوله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة: 11). ولتقرير فضيلة العلم في الأذهان قال (ص): ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)) رواه الترمذي. 21 - وهو الذي أطلع العالم على سر: ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق)) رواه أبو داود. وأفاد أن الطلاق مصير محتوم لحل المشاكل المعينة، وأنه يصير واجبا حين ذاك كقطع عضو من أعضاء الإنسان إذا تسمم مع أن قطعه أمر مكروه على كل حال.

إن الحديث النبوي ينبه المطلق بأنه مقدم على أمر خطير ليس مبغوضا عند الله فحسب، بل إنه من أبغض الحلال، ولذا يجب عليه أن لا يقدم على الطلاق إلا إذا انسدت عليه جميع الطرق لبقاء صحته وللحفاظ على دينه وعرضه. 22 - وهو الذي أوجب لسد باب الطلاق إجراءات يضمن العمل بها إنقاذ كل متسرع غافل عن العاقبة يغلبه غيظه من مفسدة الطلاق، عن طريق الإجراءات التالية: (الف) الإجراء الأول لفض النزاع بين الزوجين اختيار حكم من أهل الزوج وآخر من أهل الزوجة، حتى يستمعا إلى أحوال الزوجين وشكاويهما ثم يقضيا بينهما بقضاء عادل. (ب) إن لم يصلحا وظهر التقصير من الزوجة فعلى الزوج أن لا يضاجعها لمدة، وهذا الإجراء مؤثر جدا. ج - فإن لم يتحقق الصلاح فللزوج أن يضرب الزوجة ضربا خفيفا للتأديب ويتقي الوجه، وهذا الإجراء مؤثر في ناقصات الفهم. د - فإن لم ينفع الإجراء السابق فللزوج أن يطلق زوجته واحدة، ويتحين لذلك طهرها من الحيض، وهذا الانتظار أيضا في موانع الطلاق الأول. ويجب بعد الطلقة الأولى أن يسكن الزوجان في بيت واحد، ويبيتا فيه، وهذه المعاشرة تتيح دون شك للزوجين فرصة مراجعة النفس والنظر في الأعمال والمواقف والعادات التي أدت إلى سوء الفهم بينهما، وهكذا قد تسهل هذه المراجعة إصلاح المخطئ منهما لأخطائه ولو وقعت بينهما مجامعة، ولا يمنع منها الطلاق الأول فتكون النتيجة في الغالب زوال التنافر وعودة الانسجام. هـ - بعد مضي شهر إذا كانت المرأة في الطهر الثاني فللزوج أن يطلقها ثانية، ويظل الزوجان يعيشان معا كما كان بعد الطلقة الأولى. وهنا تكون أمامهما فرصة شهر أخرى يمكن أن يتراجعا فيها ويصلحا ما بينهما ويتخليا عن الغضب والتهور ويتعاملا برفق وتسامح، فلو نجحا في إعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي فإن الطلاقين السابقين لا يمنعانهما من ذلك. و- بعد ذلك يأتي وقت الطلقة الثالثة حينما تدخل المرأة في طهرها الثالث، وهنا

ينبه الشرع الزوج بأنه لو أصر على موقفه ولم يتخل عن إرادة الفراق فإن الزوجة تحرم عليه البتة بعد الطلقة الثالثة، فإن طلقها للمرة الثالثة دون روية فليس مصيره إلا الندم. فإن لم تستأصل جذور الكراهية بعد هذه التوجيهات وبقى الزوج مصرا على الطلاق فإن الشرع لا يكرهه ولا يجعل عقد الزواج طوق لعنة في عنقه مدى الحياة. إن تعاليم الرسول الأمين الذي هو رحمة للعالمين لا ترضي بأن تخرج زوجة وفية من البيت هكذا مرة واحدة بمجرد طعن صدر عن جاهل أجنبي، كما يحكى في أمر ((سيتا)) أو ينعزل الزوج عن الزوجة دون سبب، كما يفعل اليهود الذين يعتبرون المرأة مجرد خادم. وكذلك لا تقول هذه التعاليم باستحالة التخلص من المرأة مع سوء خلقها وقبح أعمالها إلا بتوجيه تهمة الزنا إليها، كما فهم من تعليم الإنجيل، نعم قد مهد رحمة للعالمين، بعد مراعاة حقوق الزوجين غاية المراعاة الطريق الوسط فلا إفراط ولا تفريط. 23 - وهو الذي قضى على عادة العرب في تقسيم إرث الميت بين أفراد الأسرة الذين يحملون السلاح، وحرمان المرأة والأولاد الصغار والبنت والأخت من الميراث، لقد منح (ص) المرأة حقها من مال الأب إن كانت بنتا، ومن مال الأخ إن كانت أختا، ومن مال الزوج إن كانت زوجة، ومن مال الأولاد إن كانت أما. وقد اختارت عدة أمم غير مسلمة تشريع النبي (ص) هذا في التوريث. 24 - وهو الذي أنقذ الأولاد من الفقر والبؤس بتشريع الوقف على الأولاد، وأنقذ المال من الضياع، والأسرة من الهلاك، وكان العالم قبل ذلك يجهل هذا المبدأ تماما. 25 - وهو الذي قيد جواز الحرب بشروط أولية وهي: الاضطهاد والظلم والحرمان من الحقوق الدينية والوطنية دون سبب، وعدم صيانة أموال المحافظين على الدين الحق وأنفسهم، وعدم استتباب الأمن العام، وتعرض الأديان وأماكن عبادتها للدمار والهدم. وهذه الحقيقة تتجلى بالآيات التالية: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (*) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع

وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} (الحج: 39، 40). 26 - وهو الذي حرم الخمر تحريما باتا، ووصفها بأم الخبائث ولم يسمح بقليل منها ((فإنه سيؤدي إلى الكثير)) كما سمح بولوس بمزج قليل منها مع الماء للتحميض، قال تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (المائدة: 90). وقد ورد تفسير هذا الحكم في قول رسول الله (ص): ((كل ما أسكر كثيره فقليله حرام)) (¬1). 27 - وهو الذي حرم أقسام الزنا كلها التي عرفت في الجزيرة العربية والهند وغيرها بأسماء شتى إخفاء لشناعتها، وأظهر هذا الحكم جيدا في الخطب والأحاديث، يقول تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون (*) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} (المؤمنون: 5 - 7). 28 - وهو الذي وضح أصول العفو عن أسرى الحرب ومعاملتهم برفق في حين أن التوراة قد حرمت إنقاذ أرواح بهائم الأعداء ونسائهم فضلا عن أرواحهم أنفسهم، وقالت إن ذلك يستوجب غضب الرب تعالى، قال تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنثموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء} (محمد: 4). إن أخذ الفدية والإحسان إلى العدو المعتدي الذي أسر بعد هزيمته لم تعرفه أقوام العالم جميعا، ولم يعمل به أحد، ولكن النبي (ص) عمل بذلك الأصل في أسرى بدر وأحد ومكة وحنين وقد كانوا من ألد أعدائه من قتلة المؤمنين ومحاربي الله والرسول (ص). 29 - وهو الذي عرف الأمة الأمية بالعلم، وأقام منزلته في قلوبهم وشوقهم إليه ثم رفعهم إلى منزلة المعلمين والمقرئين. وقد كانوا قبل ذلك يفتخرون بأميتهم ويرونها رمزا لأمية الطفل المولود حديثا. انظروا إلى قوله جل وعلا: ¬

(¬1) عون المعبود (10/ 121)، الترمذي (1865)، ابن ماجة (3292).

{هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (الجمعة: 2). وقوله: {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} (البقرة: 151). 30 - وهو الذي بين أمراض القلب، ودل على أماراتها وطرق علاجها، وعرف القلب السليم وأوضح وسائل استتباب الأمن. 31 - وهو الذي علم العاصي أسرار التوبة وشرح أجزاءها وخواص كل جزء منها وحقيقتها التركيبية. 32 - وهو الذي رتب أبواب تزكية النفس وتطهير الباطن وبين الأخلاق الفاضلة وأبواب الإحسان بعد التمييز بينه. 33 - وهو الذي عرف التقوى وخشية الله والانقطاع التام والأنس الكامل ومدارج الرجوع ومراتب الإحسان وحقيقة الورع والتوكل وروح الإخلاص والصدق ومقامات القرب والرضا. 34 - وهو الذي جعل بين العبد والمعبود صفة ((حبل الله المتين))، ودل على طرق وصول الضالين إلى الهداية السماوية. 35 - وهو الذي علم قطاع الطرق الهداية، والملوك الأخوة، ومنح المماليك الملوكية وأجلس رعاة الإبل على بساط كسرى. 36 - وهو الذي برهن على العلوم الغيبية بآثار الأنفس والآفاق، وعرف بالأعمال وعلاقتها مع الروح، ربالميزان وبالتوازن بين الحق والباطل. 37 - وهو الذي حرر شمال جزيرة العرب من عبودية روما، وجنوبها من عبودية فارس، وقضى على ملوك الطوائف، وعلى القتل والنهب، وجعل الدم الإنساني أغنى الأشياء في العالم، وأنقذ فارس من الفواحش وروما من الترف البهيمي ومد أجنحة الأمن إلى الدنيا كلها، ورفع بنيان السلام وبذل الجهود كلها: {حتى تضع الحرب أوزارها}. 38 - وهو الذي اتخذ الوسائل للقضاء على مساوئ العبودية، وأوجب المساواة بين

العبيد ومواليهم في المأكل والملبس وأمر بأن لا يكلف العبيد بما لا يطيقون، وهكذا جعل العبيد جزءا من الأسرة وأعضاء فيها. 39 - وهو الذي منح العبد حق المكاتبة بحيث يستطيع أن يطالب به في المحكمة ويكره مولاه على تحريره إزاء مل معين. 40 - ومن أمر الجميع بمعونة العبد المكاتب بالمال حتى يعتق نفسه وأمر بذلك حتى مولاه أيضا. 41 - وهو الذي خصص ثمن دخل الصدقات للحكومة الإسلامية للقضاء على الرق، قال تعالى: {وفي الرقاب} (التوبة: 60). 42 - وهو الذي أتاح فرصة تحرير العبيد في قانون الشريعة، وتفصيل ذلك موجود في أبواب الطهارة والصوم والحج. 43 - وهو الذي أخبر الموالي بأن تحرير العبيد عتاق من النار (¬1). 44 - وهو الذي ساوى بين المولى وعبده في الحقوق، وجعل السيد مولى العبد، والعبد مولى السيد. 45 - وهو الذي أورث الصلة والعلاقة بين العبد وبين مولاه بعد تحرره، صلة تثبه صلة الدم، أي أرشد إلى أن العبد يرث مولاه إذا لم يكن له وارث، وهكذا يرث المولى عبده مع الشرط السابق. 46 - وهو الذي منح العبيد حق المصاهرة والقرابة، وأخذ الإمارة والحكومة ونصب الإمامة والولاية، وإعطاء الأعداء الصلح والأمان. كان الرق شائعا قبل الإسلام في جميع البلاد والأمم والأديان. فهل بذل أحد قبل النبي (ص) الجهد للقضاء على الرق ورفع مكانة الأرقاء؟ في الهند يوجد المنبوذون بأعداد تفوق أعداد البراهمة والكشتريين والويش، وصفة المنبوذية قد التصقت بهذه الطبقة روحا وجسدا منذ مئات الأجيال وملايين السنوات. والشعوب المنبوذة حرمت جميع الحقوق الاجتماعية والعلمية والدينية وفق القوانين الهندوكية، ¬

(¬1) البخاري 2517، ومسلم 1509.

الخاصية السادسة والعشرون

وجعلت أموال المنبوذين تحت تصرف البراهمة، ولم يوجب القصاص على أحد من البراهمة في قتل المنبوذ. أما الإسلام فليس بين أهله منبوذا، فأموال الجميع وأرواحهم مصانة على حد سواء، والجميع سواء في الحقوق الاجتماعية والمدنية وكل يصلح أن يشغل منصب الحاكم والملك في أمور الدنيا، ومنصب الإمامة في أمور الدين. لقد طال بحثنا في هذه النقطة، وليس من منهج الكتاب تفصيل الكلام في كل نقطة من هذه النقاط، ولذا نختم هذا البحث الطريف هنا، ونود أن نوضح للقراء أن ((رحمة للعالمين)) ليس خاصية للنبي فحسب، بل اسم وعلم أيضا، ولم يقترحه أحد، ولا سماه به أبوه أو أمه، ولا تخيله شاعر، ولا نطق به عاشق حبيب، بل إنه حقيقة كشف عنها الله تعالى، ومنبع صدق، دل عليه النبي (ص) وبشارة تريد القدرة الربانية إيصالها إلى أذن كل مخلوق، ونداء سار يجعل العالمين يتطلعون إلى المنن الإلهية. الخاصية السادسة والعشرون {فبهداهم اقتده} (الأنعام: 90) معنى الاقتداء في اللغة موافقة الثاني للأول. ونظرة عابرة إلى معنى الآية توضح أنها تأمر النبي (ص) باتباع غيره، ومن الظاهر أن هذا المعنى يعارض اعتقاد كافة المسلمين من أنه (ص) إمام الأنبياء كلهم. ومن هنا نحتاج إلى تفسير معنى الآية، حتى يتضح أن الآية دالة على فضل النبي (ص). وينبغي للقراء أن يبدأوا التدبر من قوله تعالى {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات} (الأنعام: 75). إن الله تعالى ذكر في هذا الركوع ثماني عشر نبيا، وقد روعي في هذا الذكر ترتيب بديع غير الترتيب الزمني وترتيب المنزلة: الأول ترتيب حسب أصول النسب: وقد ذكر في هذا الصنف من الأنبياء: نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، فإن أنساب أنبياء العالم تنتهي إليهم، وأكثر الأمم تنتسب إليهم من ناحية النسل:

والثاني الترتيب حسب الملك والقدرة: وذكر منهم داود وسليمان عليهما السلام. والثالث الترتيب حسب مراتب الشكر والصبر: وذكر فيه أيوب ويوسف عليهما السلام. والرابع الترتب حسب المعجزات وظهور الآيات: وذكر فيه ذكر موسى وهارون. والخامس الترتيب حسب الزهد والإعراض عن الدنيا: وذكر فيه زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليهم السلام. والسادس الترتب حسب الدعوة في الأمم المختلفة: وذكر فيه ذكر إسماعيل واليسع ويونس ولوط. وهنا ينبغي أن نذكر أحوال هؤلاء الأنبياء بإيجاز. نوح عليه السلام: هو نوح بن لامك بن متوشالح بن أخنوخ بن يارد بن مهلل إيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام. وكان عمر نوح خمسمائة سنة حينما ولد له سام وحام ويافث، وعندما كان عمره ستمائة سنة بدأ الطوفان في السابع عشر من الشهر الثاني، فكان المطر ينزل من السماء وينبع الماء من الأرض أربعين يوما، ثم توقفت الزيادة، ونقص الماء في مائة وخمسين يوما، ورست سفينته على جبل أراراط في اليوم السابع عشر من الشهر السابع، ونزل نوح من السفينة إلى الأرض في سنة 601 من عمره، في السابع والعشرين من الشهر الثاني، أى بقى في السفينة عاما واحدا وأحد عشر يوما، وعاش بعد الطوفان 350 سنة. وقد ولد النبي (ص) بعد طوفان نوح بخمسة آلاف وثلاثمائة وخمس وسبعين سنة (¬1). إبراهيم عليه السلام: وهو إبراهيم بن آذر (تارح) بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالة ابن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام بن نوح عليهم السلام. وكان عصره قبل النبي (ص) ب (2585) سنة، وهاجر من وطنه وعمره 75 سنة، فوصل إلى كنعان، (بلد كنعان بن حام بن نوح.) وقد وعد الله تعالى أن يعطى هذه البلاد أولاده، ثم ذهب إلى مصر، ولما عاد منها أقام في كنعان، ومن هنا انفصل لوط عليه ¬

(¬1) سفر التكوين 6/ 9، أبو الفداء 10/ 1، قصص الأنبياء ص 45 وبعدها.

السلام الذي كان معه في الهجرة وسكن على شاطىء بحر بارون، وكانت هذه المنطقة للملك سدوم، وقد هجم عليه الملك عيلام مع حلفائه الثلاثة، فأخذوا معهم لوطا أسيرا، فحاربهم إبراهيم عليه السلام وخلص لوطا وفاز بغنائم كثيرة. ولما كان عمره ثمانين سنة ولد له إسماعيل عليه السلام من بطن هاجر بنت ملك مصر. وكان عمره 99 سنة حين نزل الأمر بالاختتان فاختتن وختن ابنه إسماعيل، وكان عمره مائة سنة حين ولد له إسحاق. أطلق على إبراهيم خليل الرحمن، ولقب بعمود العالم وآدم الثالث، ويكنى أبا محمد وأبا الأنبياء. وتوفى وعمره 175 سنة. ومن ذكريات نبوته الخالدة: الكعبة ومناسك الحج. وكان كل نبي بعد إبراهيم في أي بلد أو أمة من نسل إبراهيم (¬1). إسحاق عليه السلام: كان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق من سارة، وكانت من نسل جد إبراهيم ومن المؤمنين الأولين. وكان إسحاق ابن أربعين سنة حين تزوج بربقة، وكانت حفيدة شقيق إبراهيم ناحور، وقد ولدت لإسحاق توأمين: عيسو ويعقوب عليهما السلام. وتوفى إسحاق عليه السلام وهو ابن مائة وثمانين سنة (¬2). يعقوب عليه السلام: لقبه إسرائيل، وقد ولدت له زوجته ليئة ست بنين، وراحيل ابتين، وزلفة كذلك، وجاريته بلهة ابنين كذلك. ولما دعا يوسف يعقوب إلى مصر كان عمر يعقوب مائة وثلاثين سنة، وبقيا مجتمعين في مصر سبع عشرة سنة، وتوفى يعقوب في مصر، فحمل يوسف جنازته إلى كنعان بكل حفاوة كما يفعل بجنازة الملوك، فدفن بجنب إبراهيم وإسحاق، وقدرت وفاة يعقوب في 1686 ق. م. (¬3). يوسف عليه السلام: هو بكر راحيل زوجة يعقوب، ومعنى يوسف: المزيد، وذلك أن أمه قالت عندما ولدته: يزيد في الرب ابنا آخر. ألقى في الجب حينما كان ابن سبع ¬

(¬1) سفر التكوين 37/ 1 وبعدها، أبو الفداء 13/ 1، قصص الأنبياء ص 93. (¬2) سفر التكوين1/ 21 وبعدها، أبو الفداء 16/ 1، قصص الأنبياء ص 130. (¬3) سفر التكوين 25/ 24 وبعدها، أبو الفداء 16/ 1، قصص الأنبياء 154.

عشرة سنة، فأقام فيه ثلاثة أيام، وأقام ست سنوات في بيت عزيز مصر، ومكث في السجن سبع سنين. وتم له ملك مصر وعمره ثلاثون سنة، ولما كان ابن أربعين سنة لقي أباه يعقوب بعد فراق دام ثلاثة وعشرين عاما، وبعد حكم دام ثمانين عاما توفى وله من العمر مائة وعشر أعوام، ورأى أحفاده وأولادهم. وكان قد تزوج في مصر أستات بنت فوطى كاهن أون، فولدت له منسى وأفرايم (¬1). داود عليه السلام: هو داود بن يسى بن عوبيد بن بوغر بن سلمون بن نحشون بن عمينا داب بن أرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق، عليهم السلام. كان الابن السابع لأبيه، واشتهر أمره بالحرب التي شنها أهل فلسطين ضد بني إسرائيل. كان في جيوش الفلسطينيين رجل شجاع اسمه جليات (جالوت) طوله ستة أذرع وشبر، وعلى رأسه خوذة من نحاس، وكان لابسا درعا حرشقيا، وجرموقا من نحاس على رجليه. كان هذا الفلسطيني يتقدم مبارزا أربعين يوما، ولم يخرج إليه أحد من صفوف إسرائيل، وكان داود خرج إلى ساحة الحرب سائلا عن أخوته الثلاثة الذين اشتركوا في الحرب، فسمع هناك أن شاول ملك إسرائيل أعلن أن الذي يقتل هذا الفلسطيني يغنيه الملك غنى كثيرا ويعطيه بنته ويجعل بيت أبيه حرا في إسرائيل. فاستأذن داود الملك وخرج لمبارزة جالوت، ومد يده إلى الكنف وأخذ منه حجرا ورماه بالمقلاع وضرب الفلسطيني في جبهته فأصابه الحجر في جبهته وسقط على الأرض فأخذ داود سيفه وقطع به رأسه. ثم ارتقى داود وصار قائدا للجيش ثم صهرا للملك، ولكن الملك حسده على سطوع نجمه وارتفاع شأنه، فاختبأ داود ثم هرب خوفا على نفسه، وانتهى الأمر بشاول أن هزمه الفلسطينيون في موقع فما كان منه إلا أن انتحر، وكذا انتحر ولي عهده، وهنالك اتفق بنو إسرائيل على أن يكون داود ملكا عليهم، وملك أربعين سنة بنجاح ¬

(¬1) سفر التكوين 22/ 30. أبو الفداء 17/ 1، قصص الأنبياء ص 154.

وعدل ورفعة. وكان عدد زوجات داود تسعا وتسعين، وعدد أبنائه ثمانية عشر، وعدد بناته سبع عشرة، ولم يرثه منهم إلا سليمان، وكانت وفاة داود قبل النبي (ص) بست وثمانين وخمسمائة وألف سنة (1586) وكان عمره آنذاك سبعين سنة (¬1). سليمان عليه السلام: ولد من شبشبع بنت اليعام في أورشليم بعد حصول داود على الملك، وتزوج سليمان بنت فرعون مصر. وفي الشهر الثاني من السنة الرابعة من جلوسه على العرش بنى سليمان البيت للرب، فجعل طوله ستين ذراعا وعرضه عشرين ذراعا، وسمكه ثلاثين ذراعا، وبنى من حوله مبان كثيرة، وقد تم بناء البيت في سبع سنين. وقد حكم سليمان أربعين سنة بعز ورفعة ومجد، وقد عرف عهده بالأمن والعدالة، وكانت له ألف امرأة لفراشه ما بين حرة وجارية منها ثلاثمائة جارية. وكانت وفاته قبل النبي (ص) بست وأربعين وخمسمائة وألف سنة (1546) (¬2). أيوب عليه السلام: هو أيوب بن موص بن رازح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. ولد له سبعة بنين وثلاث بنات، وكانت مواشيه سبعة آلاف من الغنم وثلاثة آلاف جمل، وخمسمائة زوج من البقر وخمسمائة أتان وخدم كثيرون جدا، فكان هذا الرجل أغنى أهل المشرق. ولما نزلت بهم المصيبة كان بنوه وبناته يأكلون ويشربون في بيت أخيهم الأكبر، وإذا بريح شديدة جاءت عبر القفر فصدمت زوايا البيت الأربع فسقط على الغلمان. وهناك جاء رسول يخبر أن السبائيين أخذوا البقر والأتن وقتلوا الغلمان ولم ينج غيري. ثم جاء آخر يخبر أن نار الله سقطت من السماء فأحرقت الغنم والغلمان وأكلتهم ولم ينج غيري. ¬

(¬1) صموئيل الأول 17/ 12 وبعدها، قصص الأنبياء ص 361، أخبار الأيام الأول 18/ 14. (¬2) صموئيل الثاني الإصحاح الحادي عشر والملوك الأول، تاريخ ابن خلدون 144/ 1، قصص الأنبياء 377.

ثم جاء آخر يخبر أن الكلدانيين عينوا ثلاث فرق فهجموا على الجمال وأخذوها وقتلوا الغلمان ولم ينج غيري. وسمع أيوب ذلك كله وخر على الأرض وسجد وقال: عريانا خرجت من بطن أمي، وعريانا أعود إلى هناك. ثم أصيب أيوب بحكة في جسمه، كان يحك جلده فيتحول إلى قروح، وهكذا تقرح جسده كله، ولكنه لم يتكلم بكلام خاطئ، كان يجلس على الرماد. استمرت به هذه المصيبة عدة سنين، ثم نزلت به رحمة الله بعد أن تاب واستغفر فتعافى وشفى وكثرت ثروته وماشيته. ثم أنعم عليه الله بسبعة بنين وسبع بنات. فرأى أربعة أجيال من أولاده وعاش بعد البلاء مائة وأربعين سنة في سعادة ورخاء وعزة ثم توفى. وكان عصره قبل النبي (ص) بنحو واحد وعشرين قرنا (¬1). موسى عليه السلام: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب عليهم السلام. وقد ذكر البعض أن عمرام (عمران) ابن قاهث، ولم يذكر بينهما يصهر. وقد وردت أحواله مفصلة في القرآن الكريم والتوراة. عمر موسى مائة وعشرين سنة، وتوفى في وادي موآب ودفن هناك. وكانت وفاته قبل النبي (ص) بنحو 2022 سنة (¬2). هارون عليه السلام: كان شقيق موسى وأكبر منه بسنة. توفى قبل موسى بثلاث سنوات في جبل حور (¬3). زكريا عليه السلام: في مجموعة الكتاب المقدس كتاب خاص بزكريا. وهو معاصر لزروبابل ويبدو أن عصره قبل المسيح بخمسة قرون. أما زكريا الذي ورد ذكره في سورة آل عمران وسورة مريم من القرآن الكريم فإنه والد ¬

(¬1) سفر أيوب (كاملا) أبو الفداء 16/ 1. (¬2) العهد القديم 237 - 88، تاريخ الطبري 198/ 1، ابن خلدون 1/ 120، أبو الفداء 18/ 1، قصص الأنبياء ص 189. (¬3) الطبري 223/ 1.

يحيى، وفي بيته كانت خالة المسيح، وقد تم تعميد المسيح بيده. ومن هنا فإنه غير زكريا الذي ذكره الكتاب المقدس، بل تشابهت أسماؤهما فقط. وزكريا الذي ذكره القرآن الكريم كان إمام بيت المقدس وخادمه، وهو الذي كفل مريم ورباها. وقد ذكر إنجيل لوقا (الأصحاح الأول) زكريا وابنه يحيى. يحيى عليه السلام: سمى في الإنجيل بيوحنا المعمدان. هو ابن زكريا عليه السلام، وذكر القرآن قصة ولادته في سورة آل عمران وسورة مريم، وكانت تسميته من الله تعالى، وبعد بلوغه الرشد سكن في البرية يأكل عسلا بريا وجرادا، ويذكر ويعظ، وكان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب، وكان يعمدهم أي يغسلهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا، ومن هنا جرت عادة التعميد. وكان يحيى أكبر من المسيح بستة شهور، ولكنه بدأ التذكير قبل المسيح بست سنين. وكان الحاكم على اليهود في عهده رجلا روميا اسمه هيرودس، كانت له علاقة غير شرعية مع بنت أخيه فيليوس، فأراد أن يتزوجها ورضيت بذلك أم البنت أيضا، ولكن يحيى لم يرض به وعارضه وقال إنه محرم في شريعة اليهود، فحبس الحاكم يحيى. وكانت أم البنت تحرض الحاكم ضد يحيى، ولكنه لم ينزل عند رغبتها فألحت عليه وأخرجت فتاتها إلى عمها في زينتها ورقصت أمامه فسر منها وطلب إليها أن تطلب ما تتمناه ليحققه لها، فطلبت رأس يحيى ووفى لها عمها الحاكم بذلك وقتل يحيى في السجن وقدم رأسه إلى البنت فأهدته إلى أمها. وكان ذبح يحيى بعد مضي ثلاثين سنة من عمر عيسى، أي قبل مولد النبي (ص) بإحدى وأربعين وخمسمائة سنة (¬1). عيسى عليه السلام: كان اسم عيسى عليه السلام بالعبرية (يشوع) أي المخلص، وقد وافقت أسماء أفراد أسرته أسماء أفراد أسرة موسى عليه السلام. فاسمه يشوع كان يوافق اسم خليفة موسى الأول يوشع بن نون، واسم أمه مريم وافق اسم أخت موسى، واسم خاله هارون وافق اسم شقيق موسى هارون، واسم جد عيسى عمران وافق اسم أبي موسى ¬

(¬1) إنجيل يوحنا، تاريخ ابن خلدون 312/ 1 أبو الفداء 34/ 1، قصص الأنبياء ص440.

ذكر القرآن الكريم أن مريم لما كانت في بطن أمها نذرت الأم أن تجعل ما في بطنها من الحمل محررا لخدمة الهيكل. فلما وضعت أنثى تحيرت، فالبنت لم تكن تصلح لخدمة الهيكل، ولكن المرأة الصالحة ذهبت بمريم كما نذرت إلى بيت المقدس ووضعتها عند الأحبار فقرروا قبول البنت لخدمة الهيكل وكفلها زكريا. ولما بلغت مريم مبلغ النساء جاءها الملك يبشرها بولادة عيسى من بطنها وإن لم يمسسها بشر، وقد ولد المسيح كما بشر الملك وسمى عيسى (يشوع). قضى عيسى صباه في مصر، وفكر في أحوال اليهود إلى ثلاثين سنة من عمره، ثم بدأ يبلغ ويدعو الناس، وكان من اجتهاده في الدعوة أنه لم يكن يقيم في مكان واحد أكثر من ليلة؛ وهكذا أرسل صوته إلى كل قرية من قرى بني إسرائيل في فلسطين، وبعد ثلاث سنوات رفعه الله إلى السماء. وقد اتبع عيسى في هذه المدة اثنا عشر رجلا، منهم واحد تحول إلى الخيانة. ويرى لوقا مؤلف كتاب الأعمال أن عدد الذين آمنوا بالمسيح يبلغ 124 شخصا. واليوم عند كتابة هذه السطور يكون التاريخ الميلادي هو 11 سبتمبر 1929 م، ويقال أن التقويم الميلادي ابتدأ بولادة المسيح، ولكن ثبت بالبحث والتفحص أن مولد المسيح كان قبل تلك السنة بأربع سنين (¬1). وقد أوردنا المباحث العلمية حول رفع عيسى ونزوله في كتابينا ((غاية المرام)) و ((تأييد الإسلام)). إلياس عليه السلام: هذا هو الاسم الثاني لإدريس عليه السلام، ولكنه ليس المراد في الآية، فالآية تذكر ذرية نوح، وإدريس من آباء نوح. ونسبه هكذا: إلياس بن بنا بن فنحاص بن عميرا بن هارون. ولذا كان زمنه قبل النبي (ص) بنحو تسعة عشر قرنا، واشتهر لدى البعض أن إلياس لا يزال حيا إلى الآن، ولكن لم يثبت عن حياته أية رواية عن النبي (ص)، فالزعم المذكور لا أساس له (¬2). ¬

(¬1) إنجيل متى وإنجيل لوقا مواضع متفرقة، تارخ ابن خلدون 1/ 214، أبو الفداء 1/ 34، قصص الأنبياء ص443. (¬2) قصص الأنبياء ص 38، وذكر له نسبا خلاف المؤلف.

إسماعيل ذبيح الله عليه السلام: هو ابن سيدنا إبراهيم الخليل من بطن هاجر، ولد في فلسطين وهاجر إلى مكة وأخواله في مصر. وقام بالدعوة في الحجاز واليمن وحضرموت. ساهم في بناء الكعبة مع أبيه، وهو ذبيح الله حامي بيت الله. كان عصره قبل النبي (ص) بنحو 2240 سنة. أجاد اللغات المصرية والبابلية والفلسطينية والعربية. تزوج بواحدة في مصر وأخرى في الجزيرة العربية. رزق من الزوجة العربية اثنى عشر ولدا صار كل منهم رئيس قبيلته وحاكم منطقته. وزوج ابنته من ابن أخيه العيص بن إسحاق. ونبينا عليه السلام من أبناء قيدار وهو الولد الثاني لإسماعيل، وقد تردد ذكره في الكتاب المقدس وتساوى إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في البركات الإلهية، ومع ذلك امتاز إسماعيل ببعض الفضائل: 1 - إنه من بناة بيت الله وحماته، ولم تتحقق هذه الميزة لإسحاق. 2 - إنه ذبيح الله، ومع أن المسلمين وأهل الكتاب اختلفوا في من هو الذبيح، ولكن الأدلة والآثار القديمة تشهد بذلك لإسماعيل. 3 - إنه الابن الذي اشترك مع أبيه في العهد الذي عقده الله تعالى مع إبراهيم منذ بدايته ولما يولد إسحاق، ولذا فإنه ابن العهد (¬1). 4 - كانت دعوته على نطاق واسع، فبلغت دعوته جميع بطون العرب العرباء، ولكن لم يذكر شيء من ذلك عن إسحاق، لا في النصوص الإسرائيلية ولا الإسلامية. ولذا يغلب على الظن أن دعوته كانت على نطاق ضيق جدا، والعلم عند الله (¬2). اليسع عليه السلام: أظن أن المراد باليسع هو أشعياء الذي ورد باسمه كتاب في العهد القديم، وقد تضمن نبوءات كثيرة. وكان في أيام عزيا ويوثام. قبل النبي (ص) بنحو 1320 عاما. يونس عليه السلام: ورد ذكره في القرآن الكريم في سورة الصافات والأنعام والنساء ¬

(¬1) سفر التكوين (17). (¬2) سفر التكوين، تاريخ ابن خلدون 1/ 54، أبو الفداء 1/ 15، قصص الأنبياء ص 133.

مع سورة باسمه وقد ذكر النبي (ص) أمام عداس النينوى أنه: ((يونس بن متى أخي)) وقد سماه الله تعالى في سورة ن صاحب الحوت، وقصته مشهورة جدا (¬1). لوط عليه السلام: هو ابن أخي إبراهيم، هاجر معه إلى مصر وعاد إلى الشام ثم فارقه ونزل إلى سدوم في دائرة الأردن، وكانت منطقة دعوته. واشتد قومه بالفاحشة والعصيان، ولما حاولوا إهانته قلب الله عليهم قراهم وبيوتهم وأمطر عليهم حجارة من السماء (¬2). والآن تدبروا الآية القرآنية السابقة. لقد حصل للنبي شرف خاص على أساس أصول النسب، فتنقطع الأنساب كلها يوم القيامة ويبقى نسبه (ص). وتأملوا واضعين في أذهانكم أصول الحكمة، فقد أنقذ (ص) العرب من سيطرة الآخرين، وأوصلهم إلى الحكم. وآية العنوان تأمر النبي (ص) باستجماع الصفات العالية لجميع الأنبياء عليهم السلام، وهكذا يحصل التطابق الأخلاقي فكأنه قيل: ينبغي أن يكون النبي (ص) في نسبه أساس العالم، وأن يغني الناس عن الانتساب إلى نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب. وليوحد (ص) بين قبائل العرب العديدة والشعوب المختلفة مثل داود، حتى يصيروا أمة واحدة بل شخصا واحدا، ويصدق عليهم قوله (ص): ((هم يد واحد على من سواهم)) (¬3). وليجعل (ص) البلاد خصبة عامرة بالسلام والصلح مثل سليمان عليه السلام، وليبن لعبادة الله تعالى معبدا أقدس من بيت المقدس وأبعد من أيدي الأعداء. وليقدم (ص) نموذج صبر أيوب، فقد قال الله تعالى له: {واصبر وما صبرك إلا بالله} (النحل:127). ¬

(¬1) قصص الأنبياء ص 419. (¬2) سفر التكوين 11 , 19، تاريخ ابن خلدون 1/ 53، أبو الفداء 1/ 15، قصص الأنبياء ص 146. (¬3) أبو داود (2734).

وليقدم (ص) نموذج عفو يوسف للأعداء والأشقياء، حتى يذهب حقدهم وغلهم وتمتلئ قلوبهم بحب النبي (ص) ورغبة في اتباعه. وكان من وظيفة النبي (ص) أن يصلح مثل موسى نظراء فرعون المتمردين بالبراهين الصادقة والآيات الباهرة، ويفتح باب النجاة للسحرة، ويتم النعمة بشريعة منيرة بدلا من الطبيعة النارية. ومن شأنه (ص) أنه رفع المنبر بخطبه والمحراب بإمامته مثل هارون، وأحيى الميتين وعرف جذع النخلة الجاف ألم الحب. وهو الذي أخبر العالم عن قوة الدعاء مثل زكريا، وبين لأمته آداب الدعاء وأوقاته وألفاظه ومراتبه. وهو الذي جعل التمر والماء النقي غذاء له ولأهل بيته، كما كان يحيى يتقوت بالعسل البري والجراد، فلم تكن النار توقد في بيته (ص) شهورا. كان إلياس يشتهر بسقي العطشانين والمسافرين في الصحراء، ونبينا (ص) فجر ينابيع المعرفة في الأرض الصلبة، وقدم الكوثر إلى جميع العطاشى. وأتم إسماعيل عمارة بيت الله، والنبي (ص) جعلها قبلة فصارت مركز الجن والإنس للعبادة والإنابة إلى الله. ومكث يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام، والنبي (ص) استقر في الغار ثلاثة أيام ولياليها. وكان الاستغفار يرطب لسان يونس، ولسان النبي (ص) كان ينثر الدر بمعرفة معية الله. وكانت مواعظ لوط تحرم الخبائث، والنبي (ص) بذل أقصى جهده بهذا الصدد حتى حرم مقدمات الزنا وجميع الوسائل الأخرى التي تؤدي إلى الفجور، وهكذا قدم للأمة نموذجا رائعا للتقوى، بحيث يستطيع كل عبد من عباد الرحمن أن يكون إمام المتقين بعزيمته الصادقة وجهوده المتواصلة. وحينما يرى القراء أن آية العنوان جعلت النبي (ص) جامعا لجميع هذه الصفات العالية يدركون جيدا أن هذه المنزلة الجامعة أيضا من خصائص النبي .... ، وصلى الله تعالى على حبيبه الكريم.

الفصل الثالث

الفصل الثالث خصائص النبي في الحديث الشريف جاء في الصحيحين عن جابر قال قال رسول الله (ص): ((أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولا تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة)). وورد في رواية مسلم عن أبي هريرة ((فضلت على الأنبياء بست)) والأول في تلك الرواية: ((أعطيت بجوامع الكلم)) والسادس ((ختم بي النبيون)). والثاني: ((نصرت بالرعب))، والثالث: ((أحلت لي الغنائم))، والرابع: ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا))، والخامس: ((أرسلت إلى الخلق كافة)). وورد في حديث الصحيحين المتفق عليه عن أبي هريرة بعد قوله (ص): ((جوامع الكلم ونصرت بالرعب)) إعطاؤه (ص) في المنام مفاتيح خزائن الأرض. ويتحقق بالنظر في هذه الروايات مجتمعة أمور ثمانية: 1 - النصر بالرعب. 2 - كون الأرض مسجدا وطهورا. 3 - حل الغنائم. 4 - إعطاء منصب الشفاعة. 5 - البعثة العامة. 6 - عطية جوامع الكلم. 7 - ختم النبوة. 8 - وضع مفاتيح خزائن الأرض أمام النبي (ص) في المنام. وهذا بيان موجز عن كل منها: الأول: نصرت بالرعب: انظروا إلى العهد النبوي الممتد إلى 23 سنة، كان النبي (ص) يخرج للدعوة داخل

مكة وخارجها وحيدا في الليل والنهار، ولكن لم يجرؤ أحد على محاولة اغتياله. وكان (ص) يخرج إلى الأسواق والأعياد حيث يجتمع ألوف الناس وعشرات القبائل، فيدعو إلى التوحيد، فلم يجرؤ أحد من عباد الآلهة والأوثان على مهاجمته. وقام (ص) بجولات عديدة لدعوة القبائل البعيدة عن مكة والمعروفة بخشونة الأخلاق وسفك الدماء، ولم يكن معه أحد في هذه الأسفار سوى أبي بكر، وكما أنه لم يكن يعرف أحدا منها، كان (ص) يذهب إلى كل مكان للدعوة ويتم حجة الله على الجميع، ولكن لم يجرؤ أحد على التعرض له أو قتاله. وقبل سفر الهجرة بثلاثة أيام جمع أعداؤه فتى شجاعا من كل قبيلة، وحاصروا بيته (ص)، ولكن لم يجرؤ أحد منهم على الدخول في بيته فانتظروا طول الليل حتى يخرج النبي (ص) بنفسه ليهجموا عليه، ولما خرج (ص) وحيدا أغضبهم بقوله (ص): ((شاهت الوجوه، لا ينصرون)) (¬1) ورماهم بالتراب، ومع ذلك لم يرفع أحد منهم رأسه حتى يرى وجهه المشرق. اجتمع حاكم الطائف وأهلها على عدائه (ص)، ولكن انحصر هذا العداء في رميه بالحجارة ومنعه من الكلام. ثم وفي النهاية حضروا مع حاكمهم ابن عبد ياليل إلى المدينة ودخلوا في الإسلام. وتجلت أمثلة ((نصرت بالرعب)) في أحوال الدول الكبرى المعاصرة له أيضا فقد خرجت دولة اليمن من طاعة فارس، ودخلت في الإسلام دون قتال، ولم تتعرض لها دولة فارس بشيء فإن رعب النبي (ص) كان مستوليا على قلوبهم وعقولهم. خرج شمال الجزيرة العربية من طاعة روما، فأصدر ملكها أمره بحشد الجيوش والهجوم على الجزيرة العربية، وخرج النيي (ص) لصد هذا الهجوم إلى حدود تبوك، فدخل الرعب في قلب إمبراطور أورشليم الذي كان على بعد شهر، فأمر بإلغاء أوامره العسكرية وجلس لا يحرك ساكنا. ومن الدول القديمة في الجزيرة العربية إمارة الحيرة وغسان، ومن شعرائهما حسان ابن ثابت وكعب الأنصاري، ولكنهما تركا الملوك المتوجين وحضروا إلى النبي (ص) .. ثم ¬

(¬1) أحمد في مسنده 1/ 303، 368.

لم تستطع أن تظهر القوة لاستعادة الشاعرين، أو ترسل تهديدا إلى أتباع الرسول (ص). كانت دول ذي ظليم وذي يزن في ناحية اليمن على اتصال بمكة، وكان لدى كل منهما جيش منظم ومال وفير، ولكن لم تفكر واحدة منهما في العدوان، بل أسلمتا دون أن تخرجا من بيوتهما. وكان ذو الكلاع الحميري يجلس في بيته، ويسجد له نحو خمس عشرة ألفا من رجاله وهم يصفونه بالإله، ولكن قلبه يرتعد خوفا من رسول الله الذي أغرق عديدا من المتفرعنين، إن رعب صاحب الرسالة قد غلب على من زعم نفسه معبودا ومسجودا. وصفة النبي (ص) كانت متجلية في كل مكان قريبا كان أو بعيدا، فيروى عن علي أنه قال: من رآه بديهة هابه (¬1). كانت هذه هي النصرة الإلهية التي تمثلت في الرعب فزادت من عظمة النبي (ص). الثاني: كون الأرض مسجدا وطهورا: لم يكن اليهود والنصارى يصلون خارج كنائسهم، وكان المجوس لا يتعبدون إلا في بيت النار المقدسة، وهكذا كانت حال الهنادكة مع معابدهم. أما المسلمون فلم تكن صلاتهم في حاجة إلى محراب العبادة، ولم يكونوا هم في حاجة إلى إنسان لقبول التوبة، بل استغنت قلوبهم الحارة وعيونهم المضيئة عن حرارة النار وضوئها، ولذا كانت كل بقعة على وجه الأرض صالحة لسجودهم، ويصدق عليهم قوله تعالى: {يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} (¬2). ولهذا جعل الله تعالى الأرض مسجدا لهم. وقد امتاز بهذا الشرف (ص) الذي أدرك الحقائق فرأى أشياء الكون تترنم بالتوحيد، ورمال الصحراء تعكس الأنوار القدسية، ورأى في كل شيء مظهر الجمال الأزلي ومرآة الجلال القدسي، ودوت ني أذنيه أصوات تسبيح الأحجار وتحميد الأشجار، ورأى جو الماء والأرض مملوءا بالتكبير والتهليل فقد جعلت الأرض كلها مسجدا. ¬

(¬1) الترمذي (3638). (¬2) سورة آل عمران: 191.

والمراد بالطهور الوضوء، وهو غسل أطرافا البدن بالماء وفق توجيه الشرع، والوضوء شرط للصلاة، إلا أن ترك الصلاة لا يجوز في أي ظرف من الظروف. وقد يفهم أن فوت الشرط يفوت المشروط، فحيث لا يوجد ماء للوضوء لا تجب الصلاة، ولكن هل تسقط الصلاة عن الذين يسمعون من كل ورقة شجر صوت التوحيد، ويرون في جميع أوراق الأشجار كتاب المعرفة الإلهية؟ من هنا وجب أن يختار الإنسان وسيلة أخرى للحصول على الطهارة، إن الإنسان خلق من تراب، وهو صائر إلى التراب، والتراب هو مهد المخلوقات، وبه يحصل الكون على قوته، ولذا جعل التراب نفسه طهورا. أما الهنادكة فيلزم للعبادة عندهم ما يسمى ب ((هون)) وهو عبارة عن مجموعة تتكون من 36 عنصرا منها السمن، فيلقى منه في النار بقدر 16 ملعقة، بحيث تكون كمية كل ملعقة خمس غرامات (¬1)، ولما كانت الهندوكية تشترط للعبادة وجود ((الهون)) الذي يتكون من ستة وثلاثين عنصرا، حرم الهنادك العبادة بهذه الطريقة. أما التراب فيوجد في كل مكان، يوجد حيث لا يوجد الماء، ومسح الوجه باليد المتربة في التيمم يظهر ذلك العجز الذي ألجأ المؤمن إلى الطهور بالتراب، والحاصل أن من خصائص النبي (ص) أنه جعل تراب وجه الأرض طهورا لنا، وأنقذنا من هجران الحضرة الإلهية بالاضطرار. الثالث: حل الغنائم: كانت المغانم الحاصلة في انتصارات موسى ويوشع بن نون تحرق، حتى إنه ورد في التوراة ذكر إحراق البهائم والقرى. وغزوة بدر هي أول غزوة من غزوات النبي حصلت فيها الغنائم وقد جمعت ثم وزعت، ولكن كان هناك في الجيش الإسلامي من يتحرج من أخذ مال الغنيمة قياسا على شريعة موسى، ولطمأنتهم أنزل الله تعالى قوله: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (*) فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} (¬2) ¬

(¬1) ستيارته بركاش ص 57 باب 3. (¬2) سورة الأنفال: 68، 69.

وفي موضع آخر: {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقما (*) وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا} (¬1). والمغانم الكثيرة هي التي حصلت للمسلمين من فتوح دولتي فارس والروم. وكان الله تعالى قد وعدهم إياها، فتحقق هذا الوعد في عهد الخلافة الراشدة حينما رحل النبي (ص) إلى عالم البقاء. والوعد المذكور في الآية كان ثلاثة؛ الأول: المغانم. والثاني: كف أيدي الناس. وتحقيقا لهذا الوعد لم يتمكن أي عدو من الانتصار على الجيش الإسلامي زمن الخلافة الراشدة. والوعد الثالث: هداية الصراط المستقيم، وقد تحقق هذا الأمر أيضا ببركاته الظاهرة والباطنة، كما حدث في المثالين السابقين، وهذه الآية تدل على فضل عظيم لمن جاهد في عهد الخلافة الراشدة. الرابع: منصب الشفاعة: 1 - الشفاعة من ((شفع))، ومعناه ضم شيء مع شيء آخر من جنسه، يطلق في معظم الأحيان على إنجاز شخص ذي مرتبة عالية عملا من الأعمال مع شخص أدنى منه مرتبة. 2 - كان كفار العرب أيضا يقولون بالشفاعة، وكذلك اليهود والنصارى، وكان الكفار والنصارى يرون أن الشفيع يستطيع أن ينقذ من عذاب الله من شاء بعزه وكرامته وسيطرته وقدرته الشخصية، وأنه يمنح خاصته من الناس نعم الدنيا والآخرة وأصحاب هذه العقيدة لم يكونوا يذكرون وجود الله تعالى وقدرته، ولكنهم حسبوا أن القدرة الإلهية حاصلة لشفعائهم أيضا، ولذا تغنى عبادة الشفيع عن عبادة الله، ويقدم رضا الشفيع على رضا الله، لأن الله تعالى إن غضب على أحد له شفيع قوي فإن هذا الشفيع ينقذه من غضب الله، ولكن لو غضب الشفيع فإن الله تعالى لا يستطيع أن يجعل ذلك ¬

(¬1) سورة الفتح: 20، 21.

الشفيع رحيما بالعبد، ونظم هذا المعنى شاعر بنجابي فقال ما معناه: [لو سخط الله فهناك ملاذ، لكن لو سخط المرشد فلا ملاذ]. وقد قال الله تعالى فيهم: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (¬1). وقال فيهم في موضع آخر: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (¬2). كان النصارى يرون عيسى شفيعا لهم، ثم وصفوه بأنه إله (مثل الله) ويتضرعون إليه في الدعاء والمناجاة، ويسألونه حاجاتهم، ويقولون إنه جلس في يمين الله على عرشه، فمن يدعوه ويسأله فإنه يعصمه ويقضي حاجته عند الله ويحصل منه على مغفرته. والقرآن الكريم أبطل أولا عقيدة الكفار والنصارى هذه، ورد القرآن بأساليب مختلفة، ثم أثبت الشفاعة الكبرى وحصرها في أصلين: ألف: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} (¬3). {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن} (¬4). والأصل الأول يفيد أن حصول الإذن الإلهي قبل الشفاعة واجب. ب - {وقال صوابا} (¬5). هذا هو الأصل الثاني، ومعناه أن يكون الشفيع صادقا مستقيما يقول الصواب. وآية ((من أذن له)) تدل على أن الشفيع يكون واحدا. ونحن نؤمن بناء على أخبار القرآن والسنة أن ذلك الشفيع هو سيدنا محمد رسول ¬

(¬1) سورة يونس: 18. (¬2) سورة الزمر: 3. (¬3) سورة البقرة: 255. (¬4) سورة النبأ: 38. (¬5) وأيضا.

الله (ص). {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} (¬1). والمقام المحمود هو مقام الشفاعة، فمتى يقوم النبي (ص) هذا المقام يحمده الأولون والآخرون (¬2). وهناك حديث صحيح أخرجه الشيخان عن أنس يفسر هذه الآية، قال (ص): ((يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا ض مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الناس، خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، لتشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. قال فيقول: لست هناكم، قال ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نهي عنها، ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، فيأتون نوحا، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب سؤاله ربه بغير علم، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، قال فيأتون إبراهيم فيقول: إني لست هناكم، ويذكر ثلاث كذبات كذبهن، ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة وكلمه وقربه نجيا، قال فيأتون موسى فيقول: إني لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب قتله النفس، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته، قال فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدا (ص) عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني فيقول: ارفع محمد وقل يسمع واشفع تشفع وسل تعط، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة)). قال: فلا أدري في الثالثة أو الرابعة قال: ((فأقول يا رب، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود)) وفي رواية البخاري: ثم تلا {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: ((وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم)) (¬3). وهذا الحديث يدل على أن النبي (ص) هو الذي خص بمنصب الشفاعة، وكل من آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام يعتذرون عنها، ويحيلونها إلى النبي (ص). ¬

(¬1) سورة الإسراء: 79. (¬2) تفسير الخازن 143/ 4. (¬3) البخاري (7440)، ومسلم (193).

والحكمة في ذهاب الناس إلى الأنبياء الآخرين أولا أنهم لو لم يذهبوا إليهم لقال قائل: إنهم لو ذهبوا إلى غير محمد لشفع لهم، فلما ردهم كل نبي، ثبت باليقين أن منصب الشفاعة مختص بالنبي (ص) بحيث لا يشاركه فيه أحد من الأنبياء. وهذا الأمر هو مظهر لخاصية النبي (ص). الخامس: البعثة العامة: سبق أن كتبنا عن هذه الخاصية ضمن قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} (سبأ: 28). فليرجع إليها القارئ. السادس: عطاء جوامع الكلم: فهم بعض الكتاب بجوامع الكلم القرآن الكريم. ولا يستطيع أحد أن ينكر كون القرآن جامعا. ولكن الحقيقة أن المراد بجوامع الكلم في هذا الحديث: كلام تقدس نظامه ويعرف بالحديث النبوي. فمن أمعن في الكلمات الطيبة التي خرجت من قلب النبي (ص) ولسانه إلى آذان العالمين تيقن بأنه كلام النبوة، وذلك لإيجازه وسهولته ونقائه وصدقه كأنه خزينة المعاني وكنز الهداية. ذكرت أحاديثه (ص) في مواضع عديدة من هذا الكتاب. وتنكشف حال الكلام النبوي الجامع للقراء بعد التفكر، ويتضح جيدا أن هذا الكلام الصادق المرتب لا يخرج إلا من فم النبوة، ونورد هنا حديثا واحدا للتيمن والتبرك: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله تعالى، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه، إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، التقوى ههنا، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره - ألا لا يبيع بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) رواه مسلم والبخاري. خاصية المعراج: ورد ذكر المعراج في النصف الأول من هذا الكتاب، بأسلوبين

مختلفين، وينبغي أن نذكره ضمن خصائص النبي (ص) أيضا في هذا الموضع. وأسلوبه هنا يختلف عن السابق إن شاء الله. وليتذكر القراء أن المعراج من خصائص النبي (ص) التي لم يشاركه فيها أحد من الأنبياء والرسل، وأصل المعراج العروج، وقد ورد في الأحاديث قوله (ص) ((عرج بي)) ولذا اختص لفظ المعراج بهذه الواقعة المباركة، والمعراج يعني الدرجة والسلم، وبما أن العروج والارتقاء كان درجة بعد درجة حسن هذا التشبيه الظاهري للحادث الباطني. تعدد المعراج: من العلماء من قال بتعدد المعراج، وفرق بين معاني الإسراء والمعراج، وذكروا لهذه الوقائع سنين وشهورا مختلفة. ولكن المحقق الباحث الحافظ ابن كثير وضح في تفسيره أن القول بتعدد المعراج ليس له سند، كما أنه يتعارض مع الأحاديث الصحيحة. تحديد الزمن: في حديث أم المؤمنين عائشة في البخاري أن أم المؤمنين خديجة توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين. وفي رواية أخرى: أن وفاتها كانت قبل فرض الصلوات الخمس (¬1)، وثبت بذلك أن واقعة المعراج كانت بعد وفاة السيدة خديجة، ولا يمكن أن تسبق الهجرة بأكثر من ثلاث سنوات. يبتدئ ذكر الهجرة بلقاء العقبة الأول الذي قابل فيه ستة من الأنصار النبي (ص)، ولذا تتصل واقعة المعراج بالهجرة اتصالا قريبا. وذكر الإمام ابن عبد البر في مقدمة الاستيعاب (¬2): أن الهجرة وقعت في سنة 52 من المولد النبوي، وصرح بأنه فصل الكلام في ذلك في ((التمهيد)) وقال الزرقاني: إن الإمام ابن عبد البر والإمام ابن قتيبة الدينوري والإمام النووي (تبعا للرافعي) حددوا شهر رجب للمعراج. وقال الحافظ عبد الغني المقدسي (ت 600 هـ) أن الراجح هو السابع والعشرين من رجب، وذكر أن الاتفاق عملا كان على ذلك دائما (¬3). وخلاصة الأقوال السابقة أن واقع المعراج كان في السابع والعشرين من رجب عام 52 من ولادة النبي (ص). ¬

(¬1) الإصابة 283/ 4. (¬2) الاستيعاب (ص40 مقدمة). (¬3) انظر لهذا القول البداية والنهاية 3/ 109.

ويظهر بالتقويم الذي أعددته لأحداث السيرة المباركة المستغرقة لثلاث وعشرين سنة، أن اليوم الأول لشهر رجب من عام 52 للولادة النبوية كان جمعة، وعلى هذا يكون اليوم التالي بعد الليلة السابعة والعشرين يوم الأربعاء، وليلة الأربعاء هي ليلة المعراج بالطريق الإسلامي. رواة أحاديث المعراج ومن أخرجها من المحدثين: نذكر فيما يلي أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المعراج، وكتب الحديث التي وردت فيها: 1 - حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: * صحيح البخاري وابن جرير، بطريق شريك بن عبد الله عن أنس. * صحيح مسلم، بطريق ثابت عن أنس. * النسائي وابن ماجة، بطريق يزيد بن أبي مالك عن أنس. * ابن أبي حاتم، بطريق آخر عن يزيد بن أبي مالك. * ابن جرير وابن مردويه، بطريق عبد الرحمن بن هاشم عن أنس. * أحمد والترمذي والبيهقي وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم، بطريق قتادة عن أنس. * أبو داود وأحمد، بطريق عبد الرحمن بن جبير عن أنس. * ابن مردويه، بطريق قتادة وسليمان التيمي وعلي بن زيد عن أنس. * ابن سعد وسعيد بن منصور والبزار والبيهقي وابن عساكر، عن أبي عمران الجوني عن أنس. 2 - حديث جابر بن عبد الله، صحابي بن صحابي: * في الصحيحين، عن جابر. 3 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما: * الصحيحين، من طريق قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس. * صحيح مسلم، عن ابن عباس أيضا. * أحمد وأبو نعيم وابن مردويه بسند صحيح، من طريق قابوس عن أبيه عن ابن عباس.

* أحمد وأبو يعلى وأبو نعيم وابن مردويه، من طريق عكرمة عن ابن عباس. * أحمد والنسائي والبزار والطبراني والبيهقي وابن مردويه، من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس. * ابن مردويه، من طريق شهر بن حوشب عن ابن عباس. 4 - حديث ابن مسعود رضي الله عنه: * صحيح البخاري، من طريق علقمة عن ابن مسعود. * صحيح مسلم، من طريق مرة الهمداني عن ابن مسعود. * صحيح مسلم والبيهقي وأبو نعيم، من طريق زر عن ابن مسعود. * أحمد وابن ماجة وسعيد بن منصور والحاكم، من طريق مؤثر بن غفار عن ابن مسعود. * الترمذي وابن مردويه، من طريق عبد الرحمن عن ابن مسعود. * البزار وأبو يعلى والحارث بن أبي أسامة والطبراني وأبو نعيم وابن عساكر، من طريق علقمة عن ابن مسعود. 5 - حديث مالك بن صعصعة (¬1): * صحيح البخاري ومسلم وأحمد ومالك، من طريق قتادة عن أنس. 6 - حديث أبي ذر: * الصحيحين، من طريق الزهري عن أنس قال كان أبو ذر يحدث بسنده عن أبي ذر. 7 - حديث أبي هريرة: * صحيح مسلم وأحمد وابن مردويه، من طريق أبي سلمة. * أحمد وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن مردويه، من طريق أبي الصلت. * ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبزار وأبو يعلى والبيهقي، من طريق أبي العالية عن أبي هريرة. ¬

(¬1) قليل الرواية جدا، لم يرو عنه إلا هذا الحديث بطريق صحيح جدا.

* ابن مردويه، من طريق سليمان التيمي. * سعيد بن منصور وابن سعد والطبراني في الأوسط وابن مردويه، عن أبي وهب مولى أبي هريرة. 8 - حديث حذيفة بن اليمان: * عمار بن شيبة والترمذي والحاكم، وصححاه، والنسائي وابن جرير وابن مردويه والبيهقي، عن حذيفة. 9 - حديث سمرة بن جندب: * ابن مردويه، عن سمرة. 10 - حديث سهل بن سعد: * ابن عساكر، عن سهل بن سعد. 11 - حديث شداد بن أوس: * ابن أبي حاتم والبيهقي وصححه، والبزار والطبراني وابن مردويه، عن شداد. 12 - حديث صهيب: * الطبراني وابن مردويه، عن صهيب بن سنان. 13 - حديث ابن عمر: * أبو داود والطبراني في الأوسط والبيهقي، عن ابن عمر. 14 - حديث ابن عمرو بن شعيب: * ابن مردويه، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. 15 - حديث عبد الله بن أسعد بن زرارة، صحابي ابن صحابي: * البزار وابن قانع وابن عدي والبغوي وابن عساكر، عن عبد الله بن أسعد. 16 - حديث أبي أيوب: * ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن أبي أيوب. 17 - حديث أبي حبة: * الطبراني وابن قانع وابن مردويه، عن أبي حبة.

18 - حديث أبي العمراء: * الطبراني وابن قانع وابن مردويه، عن أبي العمراء. 19 - حديث أبي سعيد الخدري: * ابن جرير وابن منذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر، من طريق أبي هارون العبدي. * ابن مردويه، من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد. * ابن مردويه من وجه آخر، عن أبي نضرة. * ابن مردويه من وجه آخر، عن أبي نضرة. * ابن مردويه من وجه آخر، من طريق نقمة عن أبي سعيد. 20 - حديث أبي ليلى: * الطبراني في الأوسط وابن مردويه، من طريق محمد بن عبد الرحمن. 21 - حديث عائشة: * ابن مردويه والحاكم (وصححه) والبيهقي، من طريق الزهري عن عروة. 22 - حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق: * ابن مردويه من طريق يحيى بن عباد. 23 - حديث أم هانئ بنت أبي طالب: * ابن إسحاق وابن جرير، عن الكلبي عن أبي صالح عن أم هانئ. 24 - حديث عمر الفاروق: * أحمد عن عبيد بن آدم، عن أمير المؤمنين عمر. * ابن مردويه، من طريق المغيرة بن عبد الرحمن. 25 - حديث أبي سفيان الأموي: * أبو نعيم عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي سفيان بطريق اليميا (موقوفا). 26 - حديث أمير المؤمنين علي: * الطبراني، من طريق الحسين عن أبيه.

* أبو نعيم، من طريق محمد بن الحنفية. * ابن مردويه، من طريق زيد بن علي عن آبائه عن علي. 27 - حديث عبد الرحمن بن قرط الثمالى: * سعيد بن منصور والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم (في المعرفة) عن عبد الرحمن بن قرط. 28 - حديث بريدة: * الترمذي والحاكم (وصححه) وأبو نعيم وابن مردويه والبزار، عن بريدة والصحابة الذين رووا الحديث منهم مكي مهاجر ومدني أنصاري. وواقعة المعراج وقعت بمكة المكرمة. ولكن لا يصح الرأي القائل بأن ما ذكره الأنصار بهذا الصدد كان مسموعا من المهاجرين. وذلك أن الصحابة الرواة قد صرحوا بأنفسهم برفع الحديث إلى النبي (ص). وهذا دليل كاف، وطبيعي أن الأنصار لما سمعوا من إخوانهم المهاجرين عن المعراج اشتاقوا إلى أن يسمعوه من رسول الله (ص) أيضا، كما أن الرغبة في علو الإسناد وجدت في المحدثين دائما. وليس ذلك قياسا فقط، بل صرحت بذلك بعض الروايات أيضا، ففي حديث شداد بن أوس، قلنا: يا رسول الله كيف أسري بك؟ إن قوله ((قلنا)) صريح في أن هذا السؤال كان من جمع من الصحابة، وفي رواية مالك بن صعصعة في الصحيحين: أن النبي (ص) حدثهم، فأحاديث المعراج المرفوعة، سواء رواها المهاجرون أو الأنصار، كلها مسموعة من النبي (ص) ومن الصحابة من روى عن النبي (ص) مباشرة وبواسطة صحابي أيضا، مثل ابن عباس وأنس وغيرهما. فالروايات على نوعين، وهذه التفرقة بين المرويات أيضا تدل على أنهم لم يجرؤوا على وصف المرسل بالمرفوع. ومما يزيد الطمأنينة والثقة أن أحاديث الصحيحين عن المعراج أكمل وأكثر تفصيلا.

سرد وقائع المعراج

سرد وقائع المعراج 1 - ورد في حديث صحيح مسلم من طريق ثابت عن أنس: ((فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين -إلى أن قال-: ثم عرج بي إلى السماء الدنيا)) (¬1). 2 - وفي رواية لابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك عن أنس ورد التصريح عن الصلاة في بيت المقدس هكذا: ((فلم ألبث إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير ثم أذن مؤذن فأقيمت الصلاة، قال: فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل عليه السلام فقدمني فصليت بهم، فلما انصرفت قال جبرئيل: يا محمد أتدري من صلى خلفك؟ قال: قلت لا، قال: صلى خلفك كل نبي بعثه الله عز وجل)) (¬2). 3 - وورد التصريح التالي عن بيت المقدس في رواية الإمام أحمد عن عبيد بن آدم: سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟ فقال: ان أخذت عني صليت خلف الصخرة، فقال عمر: لكن أصلي حيث صلى رسول الله (ص) (¬3). 4 - وورد حديث مالك بن صعصعة عن طريق أنس في الصحيحين أيضا (¬4). ومالك بن صعصعة قليل الرواية جدا، حتى يرى أكثر المحدثين أنه لم يرو عنه سوى هذا الحديث. وطبيعي في مثل ذلك أنه حفظ الحديث بإتقان ورواه بدقة، فإنه ثمرة حياته وحصيلة عمره. والغالب أن أنسا رأى في رواية الحديث عن ابن صعصعة، بعد روايته مرفوعا، مبعث سرور وفخر. وهنا نثبت نص حديث مالك بن صعصعة، قال: إن نبي الله حدثه عن ليلة أسرى به قال: ((بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجعا إذا أتاني آت فشق ما بين هذه إلى هذه، أي من ثغرة نحره إلى شعرته، فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب ¬

(¬1) مسلم (162)، تفسير ابن كثير 241/ 4. (¬2) تفسير ابن كثير 4/ 246. (¬3) تفسير ابن كثير 266/ 4. (¬4) البخاري 3207، 3393، 3430، 3887، ومسلم 164.

مملوءة إيمانا، فغسل قلبي ثم حشى ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: ومن هو معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه، قال نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجئ جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، ففتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح ففتح فلما خلصت إذا يوسف قال: هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح ففتح، فلما خلصت فإذا إدريس فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح ففتح، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح فلما خلصت فإذا موسى قال: هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم رفعت لي سدرة المنتهي، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك، ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني

والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي)). 5 - وزاد في حديث الشيخين عن أنس قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله (ص) قال: ((إن آدم إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى - أخبر جبريل النبي (ص) بأن - هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى)) (¬1). 6 - قال ابن شهاب الزهري: فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال النبي (ص): ((ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام)). وبعد تحديد الصلوات الخمس أتيت سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها حبائل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك (¬2). ¬

(¬1) البخاري 349، ومسلم 163. (¬2) نفسه.

سر لقاء الأنبياء الثمانية في السماوات السبع

سر لقاء الأنبياء الثمانية في السماوات السبع تضمن لقاء النبي (ص) مع مختلف الأنبياء عليهم السلام في السماوات المختلقة الكثير من النصائح الدينية. 1 - فكما أن ملوك العالم يعينون أمراء لاستقبال ضيوفهم ابتداء من حدود الدولة وحتى بلاطهم الخاص تكريما للضيوف، فكذلك تم تعيين الأنبياء الكرام لاستقبال النبي (ص) من السماء الأولى إلى السماء السابعة. 2 - آدم أبو البشر وأول الأنبياء، ولذا كان لصلته بالسماء الأولى معنى خاص، لقد قاسى ألم ترك الجنة ولكنه لما هبط إلى الأرض، وأكرم بخلافة الأرض، وعمرت الأرض بولده، تحول ألمه إلى سرور، والنبي (ص) كان قد ترك ((أحب البلاد عند الله))، إلا أن إقامته بالمدينة الطيبة كانت سبب انتشار الدعوة الإسلامية ونشر العلوم، فمن هنا ارتفعت أعلام الفتح والانتصار، وصارت هذه البلدة مقرا لخلفائه أيضا. 3 - بين يحيى وعيسى عليهما السلام قرابة، وكان اصطباغ المسيح قد تم على يد يحيى، فهما متماثلان في الزهد والجهد، ومن هنا كان اجتماعهما في مكان واحد، بهدف اطلاعهما على زهد النبي (ص) وتوكله، وإعراضه عن الخلق، وأحواله في المستقبل؛ وكان يحيى قد فوض أمره إلى عيسى، وبشر عيسى بأن إتمام الصدق والحق يتم على يد النبي (ص) ولهذا وجب أن يرى هذان الصالحان إتمام أمانيهما. 4 - تماثل أحوال يوسف عليه السلام تماما أحوال النبي (ص)، فكلاهما صاحب جمال وكمال، وكلاهما واجه الابتلاء، وامتاز بفرط العفو والكرم، وبشرا الأعداء الظالمين: {لا تتريب عليكم اليوم} وآل إليهما الملك والأمر، وارتجلا عن الدنيا بفوز ونجاح وعزة وكرامة. 5 - قابل النبي (ص) إدريس عليه السلام في السماء الرابعة ولإدريس منزلة خاصة في كثرة الدرس والتبحر في التعليم والإرشاد والاعتناء بالتدريس، وهكذا كانت حال النبي (ص)، كما بين القرآن الكريم: {يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} (آل عمران: 164).

6 - وفي السماء الخامسة لقي (ص) هارون، وكان مكرما محبوبا لدى قومه، وإماما في المسجد، وكان يكره الفرقة والتشتت؛ وهذه هي الصفات العالية التي تتجلى في سيرة الرسول (ص). 7 - ولقي (ص) في السماء السادسة موسى، وكان صاحب شريعة وكتاب ومجاهدا وغازيا ومهاجرا ومناظرا. وهو أشبه بالنبي (ص) في هذه الصفات، وله ميزة خاصة بين أنبياء السماوات الخمسة للمحاسن المذكورة. 8 - وقابل (ص) في السماء السابعة إبراهيم عليه السلام، وهو باني الكعبة، والقائم على هذا البيت المعمور، وهو إمام الخلق، وخليل الرحمن، وقد طهر الله تعالى الكعبة من الأرجاس والأوثان للنبي (ص)، وجعلها قبلة للأمة المحمدية حسب رغبة نبيه (ص)، والنبي (ص) أحيا الملة الحنيفية، وأحكم مناسك الحج وفق سنة إبراهيم، وأضاف اسمه مع اسمه في الصلاة. وكانت صورته (ص) أشبه بصورة إبراهيم. وهكذا كانت رفعة مكانة النبي (ص) فوق مقام إبراهيم {البيت المعمور}، وبهذا تبين أن النبي (ص) هو صاحب المقام المحمود، وهو الذي يستحق أن يقول: ((آدم ومن دونه تحت لوائي)) (¬1). ¬

(¬1) مسند أحمد 281/ 1، 295، الترمذي 3615.

القرآن الكريم والمعراج

القرآن الكريم والمعراج ذكر القرآن الكريم واقعة المعراج في سورتين: 1 - الأولى: سورة بني إسرائيل وجاء في بدايتها قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} (الإسراء: 1). إن كلمة ((سبحان)) تستعمل للتنزيه، وأتى بها في بداية الكلام للدلالة على أن الوقائع التي ذكرت بعدها لا تعجز قدرة الله تعالى عن إحداثها وإيجادها، وتنوين ((ليلا)) يدل على الجزء القليل من الليل. وقوله ((باركنا حوله)) يبين أن قرب ذلك المكان تكثر الأشجار المثمرة والأنهار الجارية وشجرة الزيتون المباركة. وكان ما حوله مهبط وحي كثير من الأنبياء ومصدر معجزاتهم الباهرة. ويراد بقوله ((من آياتنا)) الآثار المرضية التي تردد قصة كرامة وعز بني إسرائيل ومهانتهم وذلهم. وتدخل فيها الآيات التي رآها النبي (ص) بعد عروجه من المسجد الأقصى في ملكوت السماوات والأرض. 2 - الثانية: سورة النجم، انظروا إلى الآيات التالية: الف - {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} (النجم: 18). فسرت ((الآيات الكبرى)) برؤية النبي (ص) جبريل في صورته الأصلية، أو الأنوار القدسية التي غشيت سدرة المنتهى في صورة التجلي، أو الجنة والنار بهيئة وجودهما، أو عجائب الملكوت بتفاصيلها، ولكن كل ذلك جميعا أقل مما دلت عليه الكبرى، ولذا يصعب حصرها وتفصيلها. ب - {ما زاغ البصر وما طغى} (النجم: 17). تبين هذه الآية تطلع النبي (ص) إلى الرؤية، وكذا مراعاته لحسن الأدب، وثباته

ورزانته وتحمله واستعداده للرؤية. وذكر القرآن الكريم في حال موسى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا} (الأعراف: 143). والنبي (ص) رأى تلك الأنوار رؤية تامة دون أن يزيغ بصره ويطغى؛ إن القوة الربانية متجلية في أعظم تجليها والبصر المحمدي رهن المشاهدة بكامل قوته. ج - {ما كذب الفؤاد ما رأى} (النجم: 11). في معظم الأوقات نرى أن العين السليمة المبصرة ترى شيئا، والفؤاد يكذب ما رأته، ومثال ذلك أننا نرى كل صباح أن الشمس تطلع مثل صحن مذهب من المشرق، ويبدو حجمه أصغر بملايين المرات من حجم الكرة الأرضية. ولكن الفؤاد يقول: هذا الزعم خداع البصر، فالشمس أكبر من الأرض بملايين المرات، وليس في ذلك شك. ونرى الأشياء الساقطة على الأرض فتبدو بارزة، ولكن الحقيقة أن ذلك من خداع البصر. ونرى ضوء الشمس فنحسبه أبيض نقيا، ولكن الفؤاد يخبر بأنه مجموعة مكونة من سبعة ألوان. وما دام هذا الاختلاف موجودا بين العين والقلب، فمن الخطأ أن نظن أن العين تبصر الحقيقة الأصلية. ولكن لو اجتمع يقين البصر والفؤاد وثقتهما على أصل الحقائق وحقيقة الانكشافات فلاشك أن هذا المشهد يزيد البصر والبصيرة والله تعالى يريد أن يعرف الناس معرفة حقة أن رؤية النبي (ص) بعيدة عن جميع الظنون والشكوك، ومتملكة لجميع الحقائق والصدق. د - {فأوحى إلى عبده ما أوحى} (النجم: 10). إن الآية السابقة ذكرت كيفية البصر والفؤاد، وهذه الآية تذكر حقائق السمع والقلب. إن قوله: ما أوحى ليس للإجمال بل للتفخيم، ويراد به تفخيم الوحي، ومن يوحى إليه أيضا، وتكمن عظمته الأصلية في كلمة ((عبد)) وكذا تبرز وتتجلى. ولاشك أن حادث المعراج واحد من منازل النبي (ص) العليا، وقد استعمل الله

تعالى كلمة ((العبد)) في ذكر هذا الحادث في السورتين، حتى يتأكد الناس تماما أن أعلى منزلة لخير خلق الله نبيه محمد (ص) هي منزلة العبدية، وأمرنا جميعا بأن نتقدم في تلك المنزلة كل حسب كفاءته وصلاحيته {ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (البينة: 5). ومعنى: ((الصلاة معراج المؤمنين)) أيضا يتضح بهذه النكتة، لأنه ليس هناك شيء أقوى وأكبر من الصلاة لإظهار العبودية وبيان العجز والافتقار وإبراز التعبد والابتهال لله عز وجل. مبحث اليقظة والمنام: رأى بعض العلماء أن الآية الكريمة {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} (الإسراء: 60) تشير إلى المعراج، والتعبير عنه بالرؤيا يدل على أن وقائع المعراج حدثت في المنام. وقد حل هذا الإشكال إمام اللغة ابن دحية حيث قال: إن الرؤية والرؤيا يستعملان بمعنى واحد، يقول أهل اللغة: رأيت رؤية ورؤيا، مثل قربة وقربى. وبذلك زال الوهم بأن الرؤيا تستعمل للمنام وحده. وقال الزمخشري (¬1) (وهو من أئمة اللغة والمعاني والبيان) في تفسيره ((الكشاف)) تحت هذه الآية: إن هذه الرؤيا تختص بوقعة بدر حيث دل النبي (ص) على مصرع كل كافر، والكفار كانوا يستهزءون بقوله (ص) هذا. ثم أورد بلفظ ((قيل)) ما يأتي: إنما سماها رؤيا على قول المكذبين حيث قالوا له لعلها [أي حادثة المعراج] رؤيا رأيتها وخيال خيل إليك. ومثال ذلك في الآيات التالية: 1 - {فراغ إلى آلهتهم} (الصافات: 91). 2 - {أين شركائي} (النحل: 27). 3 - {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان: 49). ولنستمع الآن إلى المحدثين، أورد الإمام البخاري في كتاب التفسير من صحيحه تحت الآية {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} (الإسراء: 60) عن عكرمة عن ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله (ص) ليلة أسرى به (¬2). ¬

(¬1) تفسير الكشاف 1/ 533. (¬2) البخاري 4716.

إن ابن عباس خير هذه الأمة وخير من فسر القرآن بدعاء النبي (ص)، وإنه كذلك من أئمة اللغة والأدب الكبار، ومن قوله: ((أؤمن بأن معراج النبي (ص) كان في اليقظة وبجسمه)). وهذا هو معتقد أكثر أئمة أهل السنة من المحدثين وفقهاء الصحابة والتابعين. ومن استمر بعد الدليل الواضح على الزعم بأن الإسراء كان في المنام فعليه أن يتأمل الحديث التالي: عن الشيخين عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (ص): ((لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)) (¬1). والظاهر أن النبي (ص) لو حكى واقعة الإسراء في صورة المنام لما تسنى للكفار السؤال عن آيات بيت القدس، ولما كانت هناك حاجة إلى أن يجلي الله بيت المقدس للنبي (ص)، وأن يرد النبي (ص) على أسئلتهم بالنظر إليه. بل كفاه أن يفحمهم بأنه يحكي ما رآه في المنام، وسبحان الذي أرى عبده آياته الكبرى وذهب به إلى ما وراء الآفاق. ¬

(¬1) البخاري 3886، ومسلم 170.

الفصل الرابع

الفصل الرابع المعجزات النبوية (ص) المعجزة مشتقة من العجز، وهي مقابل القدرة، وأخذ هذا المعنى من العجز، وهو مؤخر الإنسان، ويلاحظ هذا المعنى في قوله تعالى: {كأنهم أعجاز نخل منقعر} (القمر: 20). ويفهم منه التأخر في أمر، ثم عدم القدرة والعجز. والعجوز (رجلا كان أو امرأة) من عجز عن كثير من الأمور بسبب تقدم السن. والقرآن حكى قول قابيل حين رأى غرابا يواري غرابا آخر في التراب: {يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب} (المائدة: 31). وقال الله تعالى لطغاة الكفار: {واعلموا أنكم غير معجزي الله} (التوبة: 2). وبعد هذا المعنى اللغوي انتشر استعمال كلمة ((المعجزة)) في أفعال نبوة أنبياء الله التي تظهر شأن نبوتهم. ولا يعرف تاريخيا متى استعملت هذه الكلمة في المعنى المذكور، ومن أول من استعملها بهذا المعنى، ولكن الذي أطمئن إليه هو أن هذه الكلمة لم تستعمل في المعنى المذكور في كلام الله ولا في كلام النبي (ص) ولا في كلام نبي آخر. والآن ننتقل إلى تعريف المعجزة: فالذين أرادوا بالعجزة المعنى المذكور قالوا: المعجزة هي الأمر الخارق للعادة. وبعد ذلك يقعون في بحث: ما إذا كان من الممكن خرق العادة؟ وتفسر ((العادة)) باستمرار قوانين الطبيعة، ويفسر ((الخرق)) ببطلان الاستمرار المذكور، وينقسم الكتاب عند هذه النقطة إلى أقسام:

الأول: من يقول بوجود قانون محدد للطبيعة. وهؤلاء يتعرضون لمطاعن أهل المعقول كثيرا. والثاني: من يقول بقوانين الطبيعة، ولكن لا يجوزون خرقها ونسخها، وهؤلاء ينقسمون إلى صنفين: * من ينكر خرق العادة، وينكر كذلك وجود أو إمكان حادث ثبت وجوده. * من يؤول الحادث المتحقق وجوده تأويلا يصحح وقوع خرق العادة والثالث: من يعترف بوجود استثناء في قوانين الطبيعة، ولذا يعترف بكل حادث موجود على أنه قانون الطبيعة، وذلك لأن الاستثناء أيضا كان في هذه القوانين. ويندرج تحت هذه الأقسام الثلاثة كل من أنكر المعجزة أو أولها أو قال بها، وتتعلق هذه الأقسام بلفظ ((خرق العادة)) ولكن هناك من لا يستعمل لفظ ((خرق العادة)) في تعريف المعجزة، بل يقول: إن المعجزة فعل نبي الله الذي يعجز الآخرين عن الإتيان بمثله في ذلك الحين، وفي هذا التعريف مخاطر فإذا ما قدر شخص غير نبي على ذلك الفعل في وقت لاحق، فإن ذلك يوجد التباسا في الأمر، والمحققون من العلماء يتجنبون هذه التعقيدات اللفظية فيقولون: إن كلمة ((المعجزة)) و ((خرق العادة)) لم ترد في الصحف السماوية، ولذا فلا حاجة بنا للسير في هذا الطريق الشائك. إن القرآن الكريم استعمل كلمة ((الآية)) ووردت في التوراة والإنجيل كلمة العلامة، ولهذا فسوف نستعمل نحن أيضا كلمة ((الآية))، وهناك فوائدة أخرى في استعمال كلمة ((الآية)). إن كلمة ((الآية)) واسعة المعنى جدا، فقد جاء إطلاقها على الماديات أيضا، إذ وصف الله تعالى سفينة نوح بالآية فقال: {فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين} (العنكبوت: 15). وجعل تعالى الليل والنهار آيتين فقال: {وآية لهم الليل} (يس: 37).وقال: {ومن آياته الليل والنهار} (فصلت: 37). وخلق الإنسان من التراب أيضا آية، قال:

{ومن آياته أن خلقكم من تراب} (الروم: 20). ووصف لمعان البرق ورعد السحاب بالآية: {ومن آياته يريكم البرق} (الروم: 24). والوضع الحالي للسماء والأرض مع استقامتهما آية: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} (الروم: 25). ووصف الأمن العام والسعة والرغد والترف والخصب بالآية: {لقد كان لسبإ في مسكنهم آية} (سبأ: 15). ووصف جثة فرعون التي هي عبرة للعالم بالآية: {لتكون لمن خلفك آية} (يونس: 92). وأطلق على ناقة صالح أيضا الآية: {هذه ناقة الله لكم آية} (هود: 64، الأعراف: 73)، وهذه الكلمة أطلقت أيضا على عصا موسى ويده حينما تحولتا إلى الثعبان والبيضاء وقت الاختبار. والماديون لا يلتفتون إلى كون هذه الأشياء المادية آيات حينما يسمعون الآية الأولى، ولكن لو ذكرت لهم مقابل هذه الوقائع واقعة أخرى أقل غرابة منها لأسرعوا إلى إنكارها ووصفوها بخرق العادة. وإني أقول: إن كل واقعة توصف بالمعجزة لدى العامة هي في الواقع آية، كما أن هذه الوقائع آيات، ولكن قصور الفهم أو قلة التدبر حالت دون اعتبارها آية. تأملوا، ألم تكن سفينة نوح آية إلهية؟ إن نجاة سفينة صغيرة مع ركابها في طوفان أغرق الجبال أيضا آية دون شك. أليس وجود الليل والنهار آية؟ كيف لا يكون ظلام الليل ورهبته وسكونه راحة الإنسان والطير والحيوان فيه آية؟ وكيف لا يكون النهار وضوؤه وانشغال الناس فيه بالأعمال وخروج كل حي من مأواه وسعيه في طلب الرزق والتوغل فيه آية؟ أليس خلق الإنسان من التراب آية الله؟ إن الإنسان يصنع لنفسه كثيرا من الأشياء بالتراب أو يجدها في التراب، فالمعادن والفلزات والجواهر والطوب والحجر والذهب

والفضة والعشب والرزق والفواكه والبيوت والقصور، كل ذلك من التراب؛ والإنسان إن لم يكن من التراب لم تكن له هذه الحقوق فيه. أليس لمعان البرق آية؟ الجو صاف في النهار، والهواء ساكن، فمن يسكن الهواء ويأتي بريح أخرى من ناحية مقابلة مع السحب فتخفي الشمس ويظلم الجو وتتصادم السحب ويصدر عنها أصوات الرعد، كأن عشرات من الأسود تزأر، فيخاف الصغار، ويرجع الناس إلى بيوتهم تاركين نشاطهم وعملهم، وإذا البرق يلمع فيضيئ مئات الأميال، فيخاف المسافر، ويفرح الفلاح ويرجو الخير فالسماء ستمطر والأرض ستنبت، وبذلك تقضي حاجاته في الدنيا؟ شيء واحد أحدث آثارا مختلفة. فالبرق نفسه يسبب الإرسال السلكي واللاسلكي، وهو يستخدم في الأشعة فيظهر أعصاب الجسم وعظامه المختفية وراء اللحم، ومن يدري ما هي الأوجه الأخرى التي يبدو فيها أثر البرق، وما هي العلوم التي يتجلى فيها البرق آية؟ أليس قيام هذه الأرض آية؟ إن كانت حقيقة الأرض أنها قطعة منفصلة عن الشمس، فكونها في الماضي جزءا من الشمس، وكونها على هذا الأساس حامية مضيئة، آية دون شك، ثم تحولها من الحرارة والضوء وظهورها في صورة مختلفة أخرى آية أخرى دون شك. فهل هذه الآية أقل من آية الثعبان والعصا؟ أليس وجود العالم العلوي وقيامه آية؟ أليس وجود مئات من الثوابت والسيارة وقيامها وسيرها بنظام منضبط، ثم تغير المواسم واختلاف الليل والنهار آية؟ نعم، كل مظهر من مظاهر القدرة الإلهية آية، وحينما تعجز أفهام العامة عن فهمها آية، فإن بيان الأنبياء عليهم السلام يوضح لهم كيف تكون هذه المظاهر آية. وإني لا أتردد في الاعتراف بهذه المعجزات التي ثبتت بالقطع، وإن عجز فهم عالم من العلماء [الطبيعيين] عن إدراك علتها وأسبابها؟ والخواص التي أودعها الله في المخلوقات (غير المادية) يعجز الإنسان عن الإحاطة بها، ولم يدع أيضا أي إنسان ذلك قط. إن الله تعالى يكشف أسرار الكون لرسله المصطفين، إنهم يعلمون ويخبرون

بالتغير الكيماوي الذي يحول القليل إلى الكثير، والهواء إلى ماء، ولكن لا يكون علمهم ولا تكون خبرتهم مدينة للآلات والمختبرات والعلم التدريجي. وإننا نقول كل ذلك لنقرب إلى الأفهام معجزات الأنبياء ولكن الإيمان يكون في قدرة قائل {كن فيكون} (البقرة: 117)، وفي نصرته لأنبيائه، وحينما يريد الله تعالى إعلام الناس اصطفاءه لأحد فهو يبرز تلك القوة والقدرة بوساطة الأنبياء، وهذا ما يطلق عليه الآيات الإلهية أي المعجزات، ومعجزات النبي (ص) التي ثبتت بروايات صحيحة تفوق الحصر وهي أكثر من معجزات كل نبي، وشأنها أعلى من شأن معجزاتهم، ونذكر فيما يلي بعض المعجزات حتى يزداد بها إيمان المؤمنين، وتبرز بها عظمة النبي (ص) ويرسخ عن طريقها حبه في القلوب. ولما كنت في سبيلي إلى تأليف كتاب مستقل حول المعجزات، اكتفي هنا ببيان بعض الوقائع بإيجاز تحت عناوين مختلفة: نبع الماء: ورد في القرآن الكريم: {وإذ استقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} (البقرة: 60). وهكذا جاء في سورة الأعراف (الآية: 160) ووردت فيها كلمة ((فانبجست)) بدل كلمة ((فانفجرت)) ولفظ الانبجاس يشعر بأن خروج الماء أولا كان قليلا، ولفظ الانفجار يدل على أنه كثر فيما بعد، والآية تدل على أنه حينما كان يندر الماء وييأس القوم من الحياة والراحة حينئذ كانوا يرجعون إلى نبي الله، فكان يدعو الله فينزل الماء برحمة منه وبركة. ويمكن القول بعد الرجوع إلى كتاب الخروج في التوراة إن هذه الحادثة وقعت في صحراء سور بعد سفر استمر ثلاثة أيام (¬1). والكتاب المذكور لم يذكر انفجار اثنتي عشرة عينا بعد ضرب موسى بعصاه، بل إنه يبين أنهم وجدوا في موضع ايليم المكان الذي كانت فيه اثنتا عشرة عينا وسبعون نخيلا (¬2). وخبراء تأويل المعجزات من المسلمين أولوا معجزة موسى بأن جريان الماء من الجبل أمر عادي، وغور عين أو نبع لأسباب خارجية أيضا أمر عادي، فحينما سأل موسى الله ¬

(¬1) سفر الخروج (15/ 22). (¬2) سفر الخروج (15/ 27).

محرم عام 7 هـ

تعالى الماء دله تعالى على العيون المختفية تحت الأرض الصخرية، فأخرجت العيون بالعصا فجرت، ومهما كان هذا التأويل بعيدا عن ألفاظ القرآن، لكن لا يتحقق به نفي المعجزة، إذ من المسلم به أن الهداية تحققت بعلم الله تعالى، والبركة ظهرت بفعل موسى، أما عهد النبي (ص) ففضله أن الماء هنا نبع من الجلد واللحم، بدل الأرض الصخرية، وهذا من أبدع المعجزات، وليعلم أن فوران الماء وفيضانه وقع بذات النبي (ص) مرة بعد أخرى وبأساليب مختلفة، ويمكن تعيين هذه الوقائع بتتبع الأحاديث. محرم عام 7 هـ 1 - أخرج مسلم عن جابر قال: سرنا مع رسول الله (ص) في غزوة ذات الرقاع حتى نزلنا وادي أفيح، فقال رسول الله (ص): ((يا جابر ناد بوضوء)) قال، قلت: يا رسول الله ما وجدت في الركب من قطرة، قال: ((انطلق إلى ابن فلان الأنصاري)) قال: فانطلقت إليه فنظرت فلم أجد إلا قطرة في عزلاء شجب منها، فأتيت رسول الله (ص)، فقال: ((اذهب فأتني به)) فأتيته به، ثم قال: ((يا جابر ناد بجفنة)) فأتيته بها تحمل، فوضعتها بين يديه، فقال رسول الله (ص) بيده في الجفنة هكذا، فبسطها وفرق بين أصابعه ثم وضعها في قعر الجفنة، وقال: ((خذ يا جابر فصب علي وقل: بسم الله)) قال جابر: فصببت عليه فرأيت الماء يفور من بين أصابع رسول الله (ص) ثم فارت الجفنة ودارت حتى امتلات، فقال: ((يا جابر ناد من كان له حاجة بماء)) قال: فأتى الناس فاستقوا حتى رووا، فرفع رسول الله (ص) يده من الجفنة وهي ملأى)) رواه مسلم. وكما ذكرنا في الوسط من هذا الكتاب كان عدد أصحاب النبي (ص) في هذه الغزوة (وهي غزوة ذات الرقاع) أربعمائة نفر. ذو القعدة عام 6 هـ 2 - أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال: عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله (ص) بين يديه ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، فقال رسول الله (ص): ((ما لكم؟)) قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك، قال: فوضع النبي (ص) يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوضأنا؛ قال سالم (الراوي) لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة

عام 9 هـ

ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة)) رواه البخاري. 3 - وقد روى جابر قصة أخرى وقعت في الحديبية أيضا وقد ذكرها البخاري. وبما أن النبي (ص) كان قد أقام بالحديبية أسبوعا، قلنا جمعا بين الأحاديث أن القصة الأولى وقعت أول يوم، ثم كانت الحاجة إلى الماء بعد ذلك فأتى النبي (ص) بئر الحديبية فجلس على شفيرها فدعا بماء فمضمض ومج في البئر، فمكثنا غير بعيد ثم استقينا (¬1). كان هذا النظام ثابتا مستقلا لجيش بلغ عدده ألفا وخمسمائة. وقد روى البخاري هذه القصة عن البراء أيضا، وفيها: ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا (¬2). ويبدو من رواية أحمد أن البئر ساحت، يعني جرت نهرا، قال: فلقد رأيت أحدنا أخرغ بثوب خشية الغرق (¬3). عام 9 هـ: 4 - عن عمران بن حصين أنهم كانوا مع النبي (ص) في مسير (¬4) فأدلجوا ليلتهم ثم عرسوا فغلبتهم أعينهم حتى ارتفعت الشمس وصلوا صلاة الصبح حينئذ، وجعلني رسول الله (ص) في ركوب بين يديه وقد عطشنا عطشا شديدا، فبينما نحن نسير إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين، فقلنا لها: أين الماء؟ قالت: إنه لا ماء، فقلنا: كم بين أهلك وبين الماء؟ قالت: يوم وليلة، فأتينا بها إلى النبي (ص) فحدثته أنها مؤتمة، فأمر بمزادتيها فمسح في العزلاوين، فشربنا عطاشا أربعين رجلا حتى روينا فملأنا كل قربة معنا وإداوة غير أنه لم نسق بعيرا، وهي تكاد تنض من الملء، ثم قال: هاتوا ما عندكم، فجميع لها من الكسر والتمر حتى أتت أهلها، قالت: لقيت أسحر الناس، أو هو نبي كما زعموا، فهدى الله ذاك الصرم بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا (¬5). إنها لمعجزة عجيبة رأتها امرأة غير مسلمة، وذكرت النبي (ص) فقالت ((أسحر الناس)) ولكن الذين سمعوها تيقنوا فورا أن السحر ليست فيه قوة تسقى العطشانين وتملأ آنيتهم بالماء. ¬

(¬1) البخاري 3577 عن البراء بن عازب. (¬2) البخاري 4150. (¬3) مسند أحمد 4/ 292، البداية والنهاية 95/ 6. (¬4) وهو سفر تبوك كما في فتح الباري ومعارج النبوة. (¬5) البخاري 3571 ومسلم 682.

إن السحر تعطيل العين وتحويلها، والساحر يؤثر بقوة السحر في مخيلة المشاهدين وعيونهم، فهم يرون الأشياء على خلاف حقيقتها، ولكن يحدث هذا التغير في عيون الناظرين ومخيلتهم، أما الأشياء فتبقى على أصلها، وأقرب مثال للسحر على من ظنه حية فخاف منه الشخص في الظلام الحبل فيظنه حية، وبهذا الظن تطرأ عليه آثار الخوف والذعر وكأنه رأى حية حقيقية، والواقع أن الحبل حبل، وليس له تأثير. أما معجزات الأنبياء فهي معجزات حقيقية وأصلية، وبذلك يسمو النبي على الساحر فهو أطهر منه وأزكى. وقصة سحرة موسى موجودة في القرآن، ويبدو أنهم كانوا مهرة في فنهم، ولذا قال الله فيهم: {وجاءوا بسحر عظيم} (الأعراف: 116). ولنعلم الآن ماذا كان ذلك السحر العظيم؟ {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} (طه: 66). ومن نتيجة هذا السحر أنهم {واسترهبوهم} (الأعراف: 116). أي خوفوهم. وهذا هو غاية ما يستطيع الساحر الوصول إليه، إنه يعرض عليهم فنه حتى يخوفهم. وهنا أمر الله تعالى موسى أن يلقي عصاه فإذا هي ثعبان يلقف ما أفكوا، ولو كانت حقيقة معجزة موسى مجرد تحول العصا إلى ثعبان في أعين السحرة فقط، لأثرت في قلوب السحرة مثل ما أثرت في قلب فرعون كما حكى عنه تعالى قوله: {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} (طه: 71). ولكن السحرة أدركوا فورا أن عمل موسى فوق السحر وذلك أنهم رأوا أن مئات الحبال والعصي فقدت حقيقتها وتيقنوا أن مشهد لقف ثعبان موسى للحبال والعصي لم يكن تخييلا بل حقيقة وصدقا. وبعد إدراك هذه الحقيقة تاب السحرة فورا، وآمنوا بموسى، ولم يخافوا - بعد معرفتهم للحقيقة - صلب فرعون لهم، ولا قطعه أيديهم وأرجلهم ولم يمتنعوا عن الإسلام. انظروا إلى رحمة الله تعالى، إن السحرة حينما جاءوا لمبارزة موسى كانوا مخذولين مقهورين عند الله تعالى، وبعد قليل صاروا لديه من المحبوبين والمنصورين.

ومثل ذلك حال المرأة التي ورد ذكرها في الحديث السابق الذي أخرجه الشيخان، وقد وردت هنا رواية البخاري وزاد فيه البيهقي (¬1): أن رواة الحديث أرسلهم النبي (ص) نفسه وقال لهم: إنكما ستجدان امرأة بمكان كذا وكذا، امرأة معها بعير عليه مزادتان إلخ. وعلى هذا تكون الرواية متضمنة لمعجزة وتنبؤ معا. 5 - أخرج البخاري عن أنس قال: حضرت الصلاة، فقام من كان قريب الدار من المسجد يتوضأ، وبقى قوم، فأتى النبي (ص) بمخضب من حجارة فيه ماء فوضع كفه فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه، فضم أصابعه فوضعها في المخضب، فتوضأ القوم كلهم جميعا، قلت: كم كانوا؟ قال: ثمانون رجلا (¬2). وفي رواية البيهقي: أن النبي (ص) وضع في المخضب أربعة من أصابعه. وقال أنس: رأيت الماء يفور من بين أصابعه، وقد وقع ذلك في قباء. وأخرج الشيخان عن أنس بن مالك قال: أتى النبي (ص) بإناء وهو بالزوراء، فوضع يده في الإناء، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ القوم. قال قتادة: قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة (2). 6 - وأخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع رسول الله (ص) في سفر فقل الماء فقال: اطلبوا فضلة من ماء فجاءوا بإناء، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: حي على الطهور المبارك، والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله (ص) (¬3). وقال النبي (ص) عن هذا الماء: إنه طهور ومبارك، واتفق علماء الأمة على أن الماء الذي نبع من أصابع النبي (ص) كان أكثر بركة وحرمة من ماء زمزم. وهناك وقائع أخرى مثلها. وبالنظر في خصائص الروايات يتضح أن واقعة انفجار الماء من بين أصابع النبي المباركة تعددت وكثرت. والحقيقة أن هذه المعجزة لو لم تقع في بلد حار جاف مثل الجزيرة العربية، وفي أسفارها الغزوات الطويلة لأدى ذلك إلى هلاك كثير من المجاهدين الذين كانوا يواجهون قلة ملموسة في المال والعتاد. ¬

(¬1) انظر لهذه الزيادة الخصائص الكبرى 2/ 42. (¬2) البخاري 3575. (¬3) البخاري 3572، ومسلم 279.

بركة اللبن

وأقول أن معجزة شبيهة بهذه توجد في نزول المن والسلوى في عهد موسى عليه السلام، ولكن منزلة المعجزة المحمدية تفوق معجزة موسى تفوق الماء على الطعام في بقاء الحياة. وأضيف أيضا أنه وجد في كلام الأنبياء السابقين التنبؤ بمعجزة النبي (ص) هذه وخاصيته هذه، فقد ورد في إشعياء: إن الله يفجر العيون في الصحراء الجافة. وليست بنا حاجة إلى تأويل هذه الألفاظ، فالواقع أن معجزة نبع الماء قد فجرت الينابيع في الفلوات التي خلت من ماء الشرب، ولله الحمد. بركة اللبن الشيء الذي يلي الماء في المنزلة هو اللبن، ورد في حديث المعراج أن النبي (ص) أتى بقدح اللبن والخمر في السماء، فاختار النبي (ص) اللبن، فقال له جبريل: اخترت الفطرة. ولذلك شبه الإسلام أيضا باللبن. وكل مولود للإنسان يتغذى باللبن، ولن نجد طفلا تغذى بالخمر، وبذلك يثبت أن اللبن سر الفطرة الإنسانية. وقد ربى داعي الإيمان وهادئ الإسلام (ص) أمته بلبن تعليمه الطاهر، وسقاهم اللبن المعجز أيضا، وكثر ذلك في حياته (ص). أولا: عقد الإمام البخاري بابا: كيف كان عيش النبي (ص) وأصحابه، أورد فيه حديث أبي هريرة الذي هو مظهر المعجزات النبوية، كما يوضح حقيقة كيف كانت حياة سيد الكون حياة زهد وورع. يقول أبو هريرة: إني كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإني كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا يشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا يشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم (ص) فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: ((يا أبا هر الحق)) ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنا في قدح فقال: ((من أين

هذا اللبن؟)) قالوا: أهداه لك فلان، قال: ((أبا هر! الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي)) قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أخد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت وما هذا اللبن في أهل الصفة، كتت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله به، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: ((يا أبا هر خذ فأعطهم)) فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد على القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي (ص) وقد روى القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم فقال: ((أبا هر بقيت أنا وأنت)) قلت: صدقت يا رسول الله، قال: ((اقعد فاشرب)) فقعدت فشربت، فقال: ((اشرب)) فشربت، فما زال يقول: ((اشرب)) حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له ممسكا. قال: ((فأرني)) فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة)) (¬1). وهذا حديث واحد ولكنه جمع عدة آيات وعلامات للنبوة كأن أنهار اللبن تجري. * لا يوجد في بيت سيد العالمين أثر من الغذاء الجسمي. * والهدية التي أهديت له (ص) ليست إلا قدح لبن لا تكفي إلا ما يشبع رجلا واحدا. * والرسول يدعو على هذا القدر اليسير أصحاب الصفة جميعا الذين ضحوا في سبيل الدين بأهلهم، ومالهم، وأعرضوا عن ثروة الدنيا إلى المدرسة النبوية. إن ذلك مظهر بارز من مظاهر الخلق المحمدي (ص). * ومن آيات النبوة في هذا الواقع أن كل فرد شبع بهذا اللبن وبقى اللبن في القدح كما كان حتى أن أبا هريرة حلف للنبي (ص) بأنه لم يبق في بطنه موضع لمزيد من اللبن. * وهل يظن أحد أن عددا أكبر كان يمكنه أن يأتي على اللبن؟ كلا، لو كانوا مائة ألف أو مليونا لشبعوا جميعا. إن القدرة على تفريغ القدح كان بإمكان من كفى اللبن ببركته ويمنه الجميع. ¬

(¬1) البخاري 6452.

* أعيدوا النظر إلى الحديث، إن النبي (ص) حمد الله تعالى حينما أخذ القدح في يده، هذا هو الشيء الذي يعد روح تعليم النبوة. * يمكن أن يرى أي شخص آخر غير النبي (ص) هذا الأمر العجيب فيشعر بالعظمة، ويمكن أن يعده البعض من الكمالات الشخصية، أما النبي (ص) فإنه لم يذكر به إلا مالكه والقادر عليه، ونسب النعم والعطايا كلها إلى ذاته تبارك وتعالى الذي تجلت ربوبيته بمثل هذه الأمور. ثانيا: مر النبي (ص) في سفره للهجرة بأم معبد عاتكة بنت خالد بن خليد الخزاعية، وكانت امرأة متقدمة في السن تجلس أمام خيمتها وتسقي المارة وتبيع التمر وغيره؛ وكان أبو بكر مع النبي (ص) حينذاك، وكان يركب خلف النبي (ص) على الناقة. وعلى الناقة الأخرى كان عامر بن فهيرة (¬1) وعبد الله بن أريقط، وكان خبيرا بهذا الطريق استأجره النبي (ص) في هذا السفر. وتوقف ذلك الركب الميمون عند خيمة أم معبد للاستراحة. وسألوا المرأة هل عندها شيء من الأكل؟ قالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، وإذا القوم مرملون مسنتون. وقال حبيش بن خالد (¬2) (أخو أم معبد) قتيل البطحاء: فنظر رسول الله (ص) فإذا شاة في كسر خيمتها فقال: ((ما هذه الشاة يا أم معبد؟)) فقالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. قال: ((تأذنين لي أن أحلبها؟)) قالت: إن كان بها حلب فاحلبها، فدعا رسول الله بالشاة فمسحها ومسح ضرعها وذكر اسم الله ودعا بإناء لها يربض الرهط فحلب فيه ثجا حتى ملأه فسقاها وسقا أصحابه فشربوا عللا بعد نهل، حتى إذا رووا شرب آخرهم، ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء فغادره عندها ثم ارتحلوا)) (¬3). إن آية النبوة سقت الناس اللبن، ومعجزة الخلق المحمدي أن النبي (ص) كان يسقي رفاق السفر قبله ويشرب بعدهم، ثم يترك بقية كافية لأصحاب البيت. ¬

(¬1) كان غلاما أسلم، عذب في الله فاشتراه أبو بكر وأعتقه. قتل يوم بئر معونة سنة أربع من الهجرة ولم يعثروا على جثته. (¬2) أسلم وشهد الفتح مع رسول الله (ص) فقتل يوم فتح مكة هو وكرز بن جابر ولهذا يقال لهما ((قتيل البطحا)). (¬3) البداية والنهاية 3/ 192، أسد الغابة 451/ 1.

البركة في الطعام

البركة في الطعام يراد ببركة الطعام المعجزة التي يكفي بها الطعام القليل عددا كبيرا. ويظهر من مطالعة الإنجيل أن هذه المعجزة ظهرت من المسيح أيضا، فإنه قد أشبع جماعة كبيرة بأربعة أرغفة وثلاث سمكات. وفي معجزات النبي (ص) ورد ذكر مثل هذه الوقائع غي الأحاديث الصحيحة بكثرة: 1 - فعن أنس قال جئت رسول الله (ص) فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم وقد عصب بطنه بعصابة. وفي رواية: يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء وقد ربط على بطنه حجرا من الجوع. فأخبر أنس بذلك والده فذهب فأجر نفسه بصاع من شعير، فعمدت أم سليم إلى نصف مد من شعير فطحنته وعملت منه الخبز ظنا منها أن النبي (ص) لو جاء وحده لشبع جيدا، وإن جاء أحد معه كفانا. قال أنس: ثم أرسلتني إلى رسول الله (ص)، وفي رواية: قال أبو طلحة لأنس: اذهب فقم قريبا من رسول الله (ص) فإذا قام فدعه حتى يتفرق أصحابه ثم اتبعه حتى إذا قام على عتبة بابه فقل له: إن أبي يدعوك. قال: فذهبت به فوجدت رسول الله (ص) في المسجد ومعه الناس، فقال لي رسول الله (ص): ((أرسلك أبو طلحة؟)) فقلت: نعم، قال: ((بطعام؟)). قلت: نعم، فقال رسول الله (ص) لمن معه: ((قوموا)) فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة: أم سليم قد جاء رسول الله (ص) بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله (ص) وقال: يا رسول الله ما عندنا إلا قرص. فلما وصل رسول الله (ص) قال: ((هلمي يا أم سليم ما عندك)) فأتت بذلك الخبز فأمر به ففت وعصرت عليه أم سليم عكة لها فأدمته، ثم قال فيه رسول الله (ص) ما شاء الله أن يقول. وفي رواية قال: ((اللهم أعظم فيها البركة)) ثم قال: ((ائذن لعشرة)) فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. وهكذا شبعوا كلهم، والقوم ثمانون رجلا (¬1). 2 - عن جابر أن أباه توفى وعليه دين فأتيت النبي (ص) فقلت: إن أبي ترك عليه دينا ¬

(¬1) البخاري 2578. وانظر فتح الباري 329/ 2.

وليس عندي إلا ما يخرج نخله ولا يبلغ ما يخرج سنين ما عليه، فانطلق معي لكي لا يفحش علي الغرماء، فمشى حول بيدر من بيادر التمر فدعا ثم جلس عليه، فقال: ((انزعوه)) فأوفاهم الذي لهم وبقى مثل ما أعطاهم. وفي رواية: وأنا والله راض أن يؤدي الله أمانة والدي ولا أرجع إلى أخواتي تمرة، فسلم والله البيادر كلها حتى أني أنظر إلى البيدر الذي عليه رسول الله (ص) كأنه لم ينقص تمرة واحدة (¬1). 3 - عن جابر أن أباه توفى وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فكلم النبي (ص) اليهودي ليأخذ تمر نخله بالتي له فأبى، فدخل رسول الله (ص) النخل فمشى فيها، ثم قال لجابر: ((جد له فأوف له الذي له)) فجد له بعد ما رجع رسول الله (ص) فأوفاه ثلاثين وسقا، وفضلت له سبعة عشر وسقا، فأخبر جابر عمر فقال له عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله (ص) ليباركن فيها (¬2). 4 - عن جابر أن أم مالك كانت تهدي للنبي (ص) في عكة لها سمنا، فيأتيها بنوها فيسألون الأدم وليس عندهم شيء، فتعمد إلى الذي كانت تهدى فيه للنبي (ص) فتجد فيه سمنا، فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته، فأتت النبي (ص) فقال: ((عصرتيها؟)) قالت: نعم، قال: ((لو تركتيها ما زال قائما)) (¬3). 5 - عن بنت خباب قالت: خرج خباب في سرية فكان رسول الله (ص) يتعاهدنا حتى يحلب عنزا لنا في جفنة لنا، قالت: وكان يحلبها حتي تطفح وتفيض، فلما رجع خباب حلبها فرجع حلابها (¬4). 6 - عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كنا مع النبي (ص) ثلاثين ومائة، فقال النبي (ص): ((هل مع أحد منكم طعام؟)) فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن، ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها، فاشترى منه شاة، فصنعت وأمر النبي (ص) بسواد البطن أن يشوى، وايم الله ما في الثلاثين والمائة إلا وقد حز النبي (ص) له حزة من ¬

(¬1) البخاري 2395، 2405، 2781، 3580. (¬2) في الشيخين برواية وهب بن كيسان عن جابر. (¬3) مسلم 2280. (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 290 - 291، مسند أحمد 372/ 6.

التأثير في النباتات

سواد بطنها، فجعل منها قصعتين، فأكلوا أجمعون وشبعنا، ففضلت القصعتان فحملناه على البعير (¬1). التأثير في النباتات حنين الجذع: الحنين في اللغة صوت المشتاق الذي يخرج من فمه من أجل فراق المحبوب. والجذع أصل النخل المقطوع. والحديث الذي نورده هنا أخرجه من المحدثين الإمام البخاري ومسلم وابن خزيمة وابن حبان والشافعي في ((مسنده)) وأحمد والنسائي والترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي والطبراني وأبو يعلى. والذين شاهدوا هذه المعجزة ورووا من الصحابة المصلين هم: سيد القراء أبي بن كعب (ت 19 هـ)، جابر بن عبد الله الشهيد (ت 72 هـ)، خادم الرسول أنس بن مالك (ت 92 هـ)، عاشق السنة عبد الله بن عمر (ت 73 هـ)، ابن عم النبي عبد الله بن عباس (ت 88 هـ)، سهل بن سعد الساعدي (ت 91 هـ)، أبو سعيد سعد ابن مالك الخدري (ت 78 هـ)، بريدة بن الخطيب الأسلمي (ت 63 هـ)، أم المؤمنين أم سلمة (ت 59 هـ)، مطلب بن أبي وداعة القرشي رضي الله عنهم. وقصة ذلك أن المسجد لما بني بالمدينة لم يكن فيه منبر، فكان النبي (ص) يقوم يوم الجمعة إلى نخلة، فاتخذ تميم الداري (¬2) للنبي (ص) منبرا بعد إذنه، صنعه له غلام امرأة من الأنصار، وكانت له ثلاث درجات، إحداها للجلوس واثنتان للصعود. فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي. وفي رواية جابر بن عبد الله: سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار، حتى نزل النبي (ص) فوضع يده عليها فسكت. وفي رواية: ثم أمر به فدفن (¬3). وقد أخرج ابن أبي حاتم في كتاب ((آداب الشافعي ومناقبه)) عن عمرو بن سواد ¬

(¬1) البخاري 2618، ومسلم 2056. (¬2) هو تميم بن أوس بن خارجة، ينسب إلى الدار وهو بطن من لخم، كان نصرانيا فأسلم. (¬3) البخاري 918، 3583، 3584، 3585.

السرحي: قال لي الشافعي (¬1): ما أعطى الله ما أعطى محمدا (ص) فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى (¬2). فقال: أعطى محمد حنين الجذع الذي كان يقف يخطب إلى ¬

(¬1) هو محمد بن إدريس القرشي المطلبي، أحد الأئمة الأربعة، ولد سنة 150 وتوفي سنة 202 هـ ودفن بمصر. انه قرب الأئمة إلى النبي (ص) نسبا. (¬2) إننا نؤمن بأن الله تعالى أكرم عيسى بمعجزة إحياء الموتى بإذن الله، وقد ذكر القرآن الكريم خاصته هذه فقال {أحيي الموتى بإذن الله} فهل ظهرت هذه المعجزة على يديه قط؟ ذكر صاحب معالم التنزيل: قال ابن عباس: قد أحيى أربعة أنفس: عازر صديق المسيح أخرجه من قبره بعد ثلاثة أيام. وابن العجوز، مر ميتا على عيسى فأحياه فنزل عن أعناق الرجال ورجع إلى أهله. وابنة العاشر ماتت قبل يوم فأحياها. وسام بن نوح (معالم التنزيل على هامش الخازن 1/ 294). وينبغي أن يعلم أن صاحب المعالم أورد هذه الرواية بغير إسناد، ولذا لا يعتد به عند المحدثين. فلنرجع إلى الأناجيل الأربعة حتى نعرف هل نسب فيها شيء مثل هذا إلى عيسى؟ 1 - ورد ذكر عاذر (لعاذر) في إنجيل يوحنا (18، 2/ 11) فقط وهو فيه أخو مريم التي دهنت الرب بطيب. يقول يوحنا: إن ذلك وقع على بعد ميلين واشتهر في نفس الوقت، فالعجب كيف خفى ذلك على مؤلفي الأناجيل الآخرين؟ 2 - أن الأناجيل ساكتة عن ابن العجوز. 3 - إن ابنة العاشر التي ذكرت في رواية ابن عباس قد ذكرها لوقا ومرقس بأنها بنت رئيس المجمع (لوقا 8/ 49، مرقس 5/ 35) يقول مؤلفو الأناجيل: ((جاءوا من دار رئيس المجمع قائلين: ابنتك ماتت، قال المسيح إنها لم تمت، وجاء إلى بيت رئيس المجمع ورأى ضجيجا، فقال: لم تمت الصبية لكنها نائمة، ثم قال لها: قومي، وللوقت قامت الصبية ومشت. ونحن المسلمون نصدق قول المسيح، ونؤمن بأن البنت لم تكن قد ماتت بل أصيبت بسكتة أو ضعف ثم شفيت ببركة المسيح. 4 - أما قصة إحياء سام بن نوح فإنها لم ترد في الأناجيل. وقصدي من ذكر هذه الإحالات هنا هو الدلالة على أن الأناجيل ساكتة عن قدرة المسيح على إحياء الموتى. أما واقعة حنين الجذع فقد رويت بتواتر وتوفرت لها شهادات. أما المجاميع الإسلامية فإنها قد أوردت رواية أصح وأنبأ من رواية الأناجيل، ذكرها الطبراني وأبو نعيم وابن مندة وابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك، وقد ذكرها الإمام ابن عبد البر في ((الاستيعاب))، والقاضي عياض في ((الثناء)) والقسطلاني في ((المواهب اللدنية)) تقول هذه الرواية: ((إن زيد بن خارجة خر ميتا في بعض أروقة المدينة وكان ذلك في خلافة عثمان، فرفع وسجى إذ سمعوه بين العشائين (الطبراني بين الظهر والعصر) والنساء يصرخن حوله يقول: أنصتوا، أنصتوا، فحسر عن وجهه فقال: محمد رسول الله النبي الأمي وخاتم النبيين، كان ذلك في كتاب الأول، صدق صدق، وذكر أبا بكر وعمر وعثمان ثم قال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته)) (الشفا 1/ 211). وفي الاستيعاب (2/ 548): =

التأثير على الحيوان

جنبه، فلما هيئ له المنبر حن الجذع حتى سمع صوته، كما ورد في رواية النسائي (¬1) والصحيحين وغيرها (¬2). وكاتب السطور يقول: إن المراد بإحياء الموتى إعادة الحياة إلى أجسام الموتى، التي كانت موجودة فيها قبل. أما بكاء النخل فإنه أعجب، لأنه عبارة عن حدوث صفة إنسانية في جسم نباتي، وليست هذه الصفة عبارة عن مجرد البكاء والارتعاد والارتعاش بل فيها إحساس وشعور بفراق الحبيب وفقدان الشرف، حتى كأن لونا من العشق والحب دخل في هذا الجذع. وكان الحسن البصري (ت 110 هـ) يذكر هذا الواقع فيقول: أيها الناس، هذه حالة جذع في فراق الرسول، فانظروا إلى أحوالكم. ولنتذكر أن النبي (ص) أمر بدفن هذه النخلة لأنها صارت مظهرا للصفات الإنسانية. وهذه النكتة تقوي دليل الإمام الشافعي أكثر. التأثير على الحيوان 1 - ورد في صحيح مسلم عن جابر قال: غزوت مع رسول الله (ص)، فتلاحق بي النبي (ص) وتحتي ناضح لي قد أعيا، فقال لي: ((ما لبعيرك؟)) قلت: عليل، فتخلف رسول الله (ص) فزجره ودعا له، فما زال ¬

= ((ثم قال: أحمد أحمد في الكتاب الأول، صدق صدق أبو بكر الصديق، الضعيف في نفسه، القوي في أمر الله، كان ذلك في الكتاب الأول. صدق صدق عمر بن الخطاب، القوي الأمين في الكتاب الأول، صدق صدق عثمان بن عفان على منهاجهم، مضت أربع سنين وبقيت اثنتان، أتت الفتن، وأكل الشديد الضعيف، وقامت الساعة، وسيأتيكم خبر بئر أريس وما بئر أريس)). وليعلم أن هذه الرواية أصح مما ذكرته الأناجيل دون شك. وزيد بن خارجة وأبوه كلاهما من الصحابة ومن رؤساء الأنصار. وهناك تنبؤ في قصر بئر أريس، وذلك أن خاتم النبي (ص) كان في يده (ص)، حتى قبض، وفي يد أبي بكر حتى قبض، وفي يد عمر حتى قبض، وفي يد عثمان فبينما هو عند بئر أريس إذ سقط في بئر، فأمر بها فنزحت فلم يقدر عليه. (البخاري 5872)، أبو داود (4215) ومنذ ذلك اليوم قامت الفتنة واختلت الخلافة. (¬1) سنن النسائي 2/ 102. (¬2) آداب الشافعي ومناقبه ص 83.

بين يدي الإبل قدامها يسير، فقال لي: ((كيف ترى بعيرك؟)) قلت: بخير قد أصابته بركتك (¬1). 2 - وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن النبي (ص) بعث رجلا فأتاه فقال: يا رسول الله قد أعيتني ناقتي أن تنبعث فأتاها فضربها برجله، قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لقد رأيتها تسبق القائد (¬2). 3 - وروى أحمد عن بنت لخباب قالت خرج خباب في سرية وكان رسول الله (ص) يتعاهدنا حتى كان يحلب عنزا لنا، فكان يحلبها في جفنة لنا فكانت تمتلئ حتى تطفح، قالت: فلما قدم خباب وحلبها عاد حلابها إلى ما كان (¬3). 4 - وروى البيهقي عن جعيل الأشجعي قال: غزوت مع النبي (ص) في بعض غزواته وأنا على فرس له جعفاء ضعيفة، فكنت في أخريات الناس فلحقني رسول الله (ص) فقال: ((سر يا صاحب الفرس)) فقلت: يا رسول الله جعفاء ضعيفة فرفع رسول الله (ص) مخفقة معه فضربها بها وقال: ((اللهم بارك له فيها)) قال: فلقد رأيتني ما أمسك رأسه إن تقدم الناس، قال: فلقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا (¬4). 5 - وروى ابن سعد وأبو يعلى والبيهقي وأبو نعيم والحاكم وصححه عن سفينة مولى رسول الله (ص) قال: ركبت سفينة في البحر فانكسرت فركبت لوحا منها، فأخرجني إلى أجمة فيها أسد، إذ أقبل الأسد، فلما رأيته قلت: يا أبا الحارث، أنا سفينة مولى رسول الله (ص)، فأقبل نحوي حتى ضربني بمنكبه ثم مشى معي حتى أقامني على الطريق، قال: ثم همهم ساعة وضربني بذنبه فرأيت أنه يودعني (¬5). ¬

(¬1) مسلم 3/ 1221، دلائل النبوة للبيهقي 6/ 151. (¬2) مسلم 2/ 1040 رقم 1424، دلائل النبوة للبيهفي 6/ 154. (¬3) مسند أحمد 5/ 111، 372. (¬4) دلائل النبوة للبيهقي 153/ 6، الخصائص الكبرى 63/ 2. (¬5) دلائل النبوة للبيهقي 5/ 6 4، الخصائص الكبرى 2/ 65.

التأثير على الأفلاك ومعجزة شق القمر

التأثير على الأفلاك ومعجزة شق القمر معجزة شق القمر من أشهر معجزات النبي (ص). كان الكفار قد سألوا علماء اليهود: ماذا ينبغي أن نسأل محمدا (ص) كدليل على صدقه؟ قالوا: إن أثر السحر ينحصر في الأرض، فقولوا له يريكم القمر شقين، فلعله لا ييتطيع ذلك. وبعد ذلك سأله الكفار شق القمر (¬1). وروى أحاديث شق القمر عبد الله بن مسعود، وأمير المؤمنين علي المرتضى، وجبير بن مطعم النوفلي، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم. فقد أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله (ص) فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله (ص): ((اشهدوا)) (¬2). وورد في الرواية لفظ (اشهدوا) بسبب أن شق القمر كان قد وقع بعد طلب الكفار على طريق المعجزة، وإلا ما معنى تأكيد الشهادة؟ وجاء في الصحيحين برواية أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله (ص) أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما (¬3). وفي رواية الصحيحين عن ابن مسعود ورد التصريح التالي: انفلق القمر ونحن مع رسول الله (ص) (¬4). وهكذا ورد التصريح بذلك في رواية جبير بن مطعم عند البيهقي وأبي نعيم، فقال: انشق القمر ونحن بمكة (¬5). ويتضح بهذه التصريحات أن ثلاثة من أجلة الصحابة، وهم: علي وعبد الله بن ¬

(¬1) أعتقد أن اليهود أخذوا فكرة شق القمر من فلق البحر الذي كان أكبر معجزات موسى عليه السلام، فقطعوا باستحالة معجزة مثل معجزة موسى لغيره، فكيف إذا كان بين المعجزتين من التفاوت ما بين الأرض والسماء. (¬2) البخاري 3636، ومسلم 2158/ 4. (¬3) البخاري 3637، ومسلم 2159/ 4. (¬4) البخاري 3869، ومسلم 2158/ 4. (¬5) دلائل النبوة للبيهفي (2/ 268)، ولأبي نعيم (96/ 1).

مسعود وجبير بن مطعم النوفلي شهود عيان لهذه المعجزة. وحديث عبد الله بن عباس وأنس بن مالك من مراسيل الصحابة. وفي رواية عبد الله بن عمر عند مسلم احتمالان، والظن الغالب أنه أيضا من شهود العيان، فقد ورد في نهاية روايته: فقال رسول الله (ص): ((اللهم اشهد)) (¬1). والقرآن الكريم يصدق هذه المعجزة فيقول: {اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} (القمر: 2، 1). والعلماء يعلمون أن استعمال ((اقترب)) مكان ((قرب)) لتأكيد الواقعة والمراد بالساعة إما القيامة - وهذه الوقائع من شق القمر وغيره تنبئ عن قرب وقوعها، كما أن الشمس والقمر والنجوم والكواكب والجبال والأرض كلها تتلف - وإما الوقت المحدد الذي كان في علم الله لواقعة شق القمر. وإطلاق هذا المعنى ثبت في القرآن بالآيات التالية: {لم يلبثوا إلا ساعة} {ما لبثوا غير ساعة}. ولكن الساعة وردت في هذه المواضع دون لام التعريف. والمشككون ينتهزون كل فرصة للتشكيك، فقد قالوا هنا: إن القمر لم ينشق في الحقيقة، فقد ورد في رواية أنس قوله: ((أراهم)) وهو يعني أن عيون الكفار رأت القمر فرقتين، ولم يقع ذلك في الحقيقة، وليتهم رأوا في نفس الرواية قبل قوله ((أراهم)) كلمات ((سألوا أن يريهم آية)) هل كان الكفار يريدون بسؤالهم أن يريهم القمر منشقا سواء انشق أم لا؟ كلا، لم يريدوا ذلك، فلفظ ((أراهم)) إخبار عن وقوع ما طلب بقوله ((يريهم)). والآخرون قالوا: في الآية إخبار عن المستقبل بأن القمر سينشق ولكن ((اقتربت وانشق)) من صيغ الماضي. ثم إن الكفار لما رأوه قالوا: ((سحر مستمر)) فلو كان متعلقا بالمستقبل كيف عبروا بقولهم ((سحر مستمر))؟ ومع التشكيك والإيراد صحت واقعة شق القمر صحة تامة. ¬

(¬1) توفي عبد الله بن عمر عام 73 هـ وعمره 86 عاما، وهكذا كان عمره وقت الهجرة 13 سنة، وكان إسلامه مع أبيه سنة ست من النبوة، وحادث شق القمر وقع سنة تسع من النبوة، وعلى هذا فشهادته شهادة عين.

والمشككون القدامى المستنيرون بالهيئة القديمة كانوا يبحثون موضع إمكان خرق الأجرام السماوية والتئامها وعدمه. ولكن الآن لم تبق أرضهم تلك ولا سماؤهم، وبذهابهما ذهبت شبهاتهم واعتراضاتهم، وليتهم اتعظوا بالزلزلة الأرضية، كيف تنشق الأرض بهزات الزلازل وتحدث فيها مغارات، ثم تتحول إلى استوائها الأول بهزة أخرى!. ومن المطاعن التي نسمعها في عصرنا: لو انشق القمر لورد ذكره في كتب الهنادك والنصارى، واعتراض الهنادكة يصح لو كان عندهم كتاب في التاريخ، ولكن البلد الذي لم يوجد فيه تاريخ البتة ولا مذكرة لوقائع البلد والأمة، كيف يطالب أمة أخرى بذكر وقائعها في تاريخه وكتبه؟ انظروا إلى المصريين، دعاويهم في الحضارة مثل دعاوى الهنادكة بل أكثر، ولكن وقائع موسى لم توجد في كتبهم. فالبلد الذي يخلو تاريخه من مثل هذه الأمور الأرضية لا يتوقع منه أن يدون جميع الوقائع السماوية أيضا. أما اليهود والنصارى فيؤمنون بصحة كتاب يشوع: قال يشوع: ((يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر على وادي أيلون، فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه ... فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل)) (¬1). فما أعجب توقف الشمس والقمر عن سيرهما مدة اثنتى عشرة ساعة. إن انشقاق القمر حدث بالليل حينما كان الناس ينامون في كثير من البلاد، وألوف منهم كانوا داخل البيوت. ولكن توقف الشمس اثتتى عشرة ساعة أمر كبير من شأنه أن يحرك العالم كله، ومع ذلك لم يرد ذكره في الكتب المعاصرة ليشوع، وأنتم تؤمنون بصحة هذه الواقعة!. والآن نريد أن نبين أن انشقاق القمر لو وقع في مكة المكرمة في التاسعة ليلا، فماذا كان الوقت في بلدان العالم الكبرى؟ ¬

(¬1) العهد القديم، سفر يشوع (10/ 12).

البلد…الساعة…الدقيقة الهند…12…50 بعد منتصف الليل موريشس…11…20 قبل الظهر رومانيا وبلغاريا…8…20 قبل الظهر وتركيا واليونان وألمانيا…=…= ولكسمبورع والدنمارك…=…= والسويد…=…= آيس لاند، مديريا…5…20 نهارا البرازيل الشرقية…2…20 بعد منتصف الليل البرازيل الوسطى وشيلي…2…20 بعد منتصف الليل كولمبيا البريطانيه…10…20 قبل الظهر كولون…9…24 قبل…الظهر بورما…1…50 بعد منتصف الليل أرض الصومال…10…20 ليلا ومدغشقر…10…20 ليلا اتحاد ماليزيا…2…20 بعد منتصف الليل جزر سندوك…7…50…صباحا انجلترا وأيرلندا وفرنسا…6…6 صباحا وبلجيكا وأسبانيا…6…6 صباحا والبرتغال وجبل طارق…6…6 صباحا والجزائر…6…6 صباحا بيرو، بنما، جاميكا…1…20 بعد منتصف الليل جزر البهامن، أمريكا…1…20 بعد منتصف الليل سموا…6…20…صباحا نيوزيلندا…6…50…صباحا تسمانيا، فكتوريا…5…22…صباحا الجنوب الجديد…5…22 صباحا استراليا الجنوبية…4…50 صباحا اليابان وكوريا…4…20 بعد الظهر استراليا الغربية…3…20 بعد الظهر بورنيو الشمالية، …جزر الفلبين…3…20 بعد الظهر هونج كونج، الصين…3…20 بعد الظهر وهذا الجدول وفق التوقيت العام المعتمد عليه.

القسم الثاني من المعجزات وهو الاطلاع على الأخبار والأحداث المستقبلية

القسم الثاني من المعجزات وهو الاطلاع على الأخبار والأحداث المستقبلية لا علم لأحد من البشر عن الزمن المستقبل، قال تعالى: {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا}. (لقمان: 34). والغيب لا يملكه إلا رب العالمين: {له غيب السماوات والأرض} (الكهف: 26). وإنه تعالى يطلع رسله وأنبياءه على الغيب إذا أراد: {فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} (الجن: 27، 26). إن الجاحدين للمعجزات المادية والمرتمين في أحضان الشكوك والأوهام كثيرون، ولكن مثل هؤلاء الناس لا يستطيعون أيضا تأويل مسألة الإخبار الصحيح بالأحداث المستقبلية، ولذا يدخل هذا أيضا في المعجزات، وهذه قضية أخرى أن تحتل مسألة إظهار أخبار الغيب لدى البعض منزلة أكبر. وقد أخرج الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله (ص) من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (¬1). والناحية التي تفضل بها رؤيا الأنبياء على رؤيا الصالحين أن رؤيا غير الأنبياء تكون في لون التمثيل أيضا، بينما رؤيا الأنبياء تتجلى فيها الحقيقة وقد ورد في القرآن الكريم ذكر رؤيا إمام الخلائق إبراهيم عن ذبح ابنه إسماعيل، قال إبراهيم عليه السلام لابنه إسماعيل: {يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى} (الصافات: 102). وأجاب ابن خليل الرحمن الراغب في لقب ذبيح الله: ¬

(¬1) البخاري 3 بدء الوحي، مسلم 139/ 1 رقم 252.

الإخبار عن بعض أحداث المسقبل

{يا أبت افعل ما تؤمر} (الصافات: 102). فلنتأمل لقد اعتبر الصورة المرئية في المنام أمرا إلهيا، ومن هنا وجب تنفيذ هذا الأمر. وقد ذكر الله تعالى رؤيا للنبي (ص) أيضا في سورة الفتح، يقول: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين} (الفتح: 27). وكان المسجد الحرام والحلق والقصر في هذه الرؤيا أيضا في معانيها الأصلية الحقيقية وبعد الرؤيا تأتي مشاهدات النبي (ص) واطلاعاته التي تلقاها من الله عز وجل ثم أخبر بها العالم. ونذكر هنا بعض الأمثلة بإيجاز. الإخبار عن بعض أحداث المسقبل 1 - عن حذيفة قال (لقد خطبنا النبي (ص) خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه وجهله من جهله، إن كنت لأرى الشيء قد نسيت، فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل، إذا غاب عنه فرآه فعرفه) (¬1). وزاد في صحيح مسلم برواية أبي زيد قال: صلى بنا رسول الله (ص) الفجر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم خطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا. إخبار عن الجهاد البحري 2 - عن أنس أن النبي (ص) دخل على أم حرام فنام في بيتها ثم استيقظ، وهو يضحك فقالت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ((ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة)) قالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا رسول الله (ص) ثم ¬

(¬1) البخاري 6604 القدر، مسلم 4/ 2217 الفتن.

تنبؤ عن أحداث في المستقبل

وضع رأسه، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: ما يضحكك يا رسول الله (ص)؟ قال: ((ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله)) كما قال في الأول، قالت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: ((أنت من الأولين)) فركبت البحر في زمن معاوية بن أبي سفيان، مع زوجها عبادة بن صامت، فصرعت عن دابتها حين خرجت في العودة، من البحر فهلكت)) (¬1). تنبؤ عن أحداث في المستقبل 3 - أخرج البخاري عن عدي بن حاتم الطائي قال: بينما أنا عند النبي (ص) إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: ((يا عدي، إن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله)) قلت فما بيني وبين نفسي: فأين دعار طى الذين قد سعروا البلاد؟ ((ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى)) قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: ((كسرى بن هرمز)). ((ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه)). قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم (ص) يخرج ملء كفه (¬2). قال البيهقي: وقد صدق الله تعالى قول رسوله (ص) في هذه الثالثة في زمن عمر بن عبد العزيز، حيث إن الرجل يخرج بمال زكاته فلا يجد له من الفقراء من يقبله فيرجع به إلى بيته (¬3). ¬

(¬1) البخاري 6/ 10 رقم 2788، ومسلم 3/ 1518 رقم 1912. (¬2) البخاري 6/ 610 رقم 3595. (¬3) دلائل النبوة للبيهقي 323/ 6.

التنبؤ بفتوح البلدان

التنبؤ بفتوح البلدان 4 - أخرج البيهقي وأبو نعيم عن البراء بن عازب الأنصاري قال: لما كان حين أمرنا رسول الله (ص) بحفر الخندق، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا ذلك إلى النبي (ص)، فلما رآها أخذ المعول وقال: ((بسم الله)) وضرب ضربة فكسر ثلثها فقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله)) ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر فقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض)) ثم ضرب الثالثة فقال: ((بسم الله)) فقطع بقية الحجر فقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة)) (¬1). وجاء هذا التنبؤ حينما هاجمت جيوش الكفار المدينة، وكان العمل يجري في حفر الخندق اتقاء منهم، والإخبار عن فتح تلك البلاد العظيمة في حالة الضعف هذه لا يكون إلا من نبي الله، وقد صدق الله تعالى هذا التنبؤ تماما. التنبؤ بفتح مصر 5 - قال النبي (ص): ((إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما، إذا رأيتم رجلين يقتتلان في موضع لبنة فأخرج منها)). كان أبو ذر رأى فتح مصر وسكن بها وقال عن خروجه منها: فرأيت عبد الرحمن ابن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة فخرجت منها (¬2). وقد ورد شرح قوله ((ذمة ورحما)) في حديث كعب بن مالك أخرجه البيهقي وأبو نعيم: بأن أم إسماعيل كانت منهم أي من مصر وقال الزهري: من الناس من يقول: هاجر كانت قبطية هي أم إسماعيل. ومن الناس من يقول: مارية أم إبراهيم قبطية، ¬

(¬1) دلائل النبوة للبيهقي 3/ 421، وانظر تحفة الأشراف 2/ 65. (¬2) مسلم 4/ 1970 رقم 2543.

التنبؤ بقطع البلاد المفتوحة علاقها مع الجزيرة العربية

وهكذا ورد في حديث البيهقي وأبي نعيم اسم مصر صراحة (¬1). التنبؤ بقطع البلاد المفتوحة علاقها مع الجزيرة العربية روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله (ص): ((منعت العراق درهما وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر أردبها ودينارها (¬2)، وعدتم من حيث بدأتم)) (¬3). قال يحيى: خرج لفظه على لفظ الماضي لأنه ماض في علم الله عز وجل، وفي إعلامه بهذا قبل وقوعه ما دل على إثبات نبوته (¬4). والحديث المذكور إخبار عن الزمن الذي انقضى فيه عهد الخلافة الراشدة في المدينة المنورة، وقامت الدولة الأموية في دمشق، فلم يكن المال يأتي إلى الحجاز من تلك البلاد في صورة النقود ولا الحبوب. وهذا التنبؤ لا يزال صادقا منذ اثنى عشر قرنا. التنبؤ بسوار كسرى يلبسه سراقة الأعرابي روى البيهقي من طريق ابن عتبة قال قال النبي (ص) لسراقة: ((كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟)) (¬5). وفي رواية أخرى للبيهقي أن عمر الفاروق أتى بسواري كسرى (من غنائم إيران) فألبسهما سراقة بن مالك فبلغا منكبيه فقال الحمد لله، سواري كسرى بن هرمز في يدي ¬

(¬1) دلائل النبوة للبيهقي 6/ 322. (¬2) القفيز: مكيال معروف لأهل العراق؛ قال الأزهري: هو ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف (2 ونصف رطل أو رطلان) وهو خمس كيلجات. والمدي: على وزن قفل، مكيال معروف لأهل الشام، قال العلماء: يسع خمسة عشر مكوكا. والإردب: مكيال معروف لأهل مصر يسع أربعة وعشرين صاعا. (¬3) مسلم 4/ 2220 رقم 2896. (¬4) دلائل النبوة للبيهقي 329/ 6 ونسب فيه هذا القول إلى أبي عبيد الهروي، وهو القاسم بن سلام (ت 224 هـ). (¬5) الخصائص الكبرى 113/ 2، ودلائل النبوة للبيهقي 325/ 6.

القسم الثالث من المعجزات

سراقة بن مالك، أعرابي من بني مدلج. قال الشافعي: وإنما ألبسهما سراقة تصديقا لقول النبي (ص) لسراقة: ((كأني بك قد لبست سواري كسرى ومنطقته وتاجه)) (¬1). تأملوا الحديث المذكور رغم إيجازه قد اشتمل على ثلاث تنبؤات: 1 - صدق خلافة الفاروق رضي الله عنه، فقد تحقق فيها إخبار النبي (ص). 2 - فتح إيران. 3 - بقاء سراقة على قيد الحياة إلى فتح إيران. ويتضح مما ورد في كتاب الاستيعاب (¬2) أن سراقة توفي عام أربعة وعشرين (24 هـ) من الهجرة، أي عاش بعد فتح إيران عدة سنوات فقط. القسم الثالث من المعجزات والآن نذكر التنبؤات التي سبق تدوينها في كتب الحديث، وقد انتشرت بين الناس في العالم الإسلامي، ثم تحققت هذه التنبؤات فيما بعد. ويدل ذلك على أن الوهم لا يمكن أن يتطرق إلى مثل هذه التنبؤات، وكذلك يدل على أن شروط الساعة التي ورد ذكرها في الأحاديث والتي لم تتحقق إلى الآن (1348 هـ) (*) سوف تتحقق في أوقاتها التي قدرها الله لها، وهكذا يزداد بها إيمان المؤمنين. التنبؤ بما حدث سنة 393 هـ. ورد التنبؤ عن غزوة الهند في سنن النسائي والبيهقي بألفاظ تالية: عن أبي هريرة قال وعدنا رسول الله (ص) غزوة الهند (¬3). ¬

(¬1) المصدر المذكور. (¬2) الاستيعاب 3/ 582. (*) تاريخ تأليف الكتاب. (¬3) سنن النسائي (2/ 56 رقم 3175)، ودلائل النبوة للبيهقي (6/ 336).

التنبؤ بما حدث سنة 654 هـ

وليعلم أن هذا الحديث أورده الإمام النسائي في صحيحه وقد ولد النسائي عام 215 هـ وتوفي عام 303 هـ. وأول هجوم على الهند قام به السلطان محمود الغزنوي كان عام 393 هـ، أي بعد نحو قرن من نشر كتاب سنن النسائي. وكذلك ينبغي أن نتذكر أن الهند في كتب المسلمين اسم نهر اتك، وعلى هذا سموا الأمم الساكنة ما وراء اتك ((هندو)) ومن هنا سمى الإنجليز الهند ((انديا)) بلغتهم. وعلى هذا يصدق الحديث على نفس الغزوة التي يتم فيها عبور نهر اتك. التنبؤ بما حدث سنة 654 هـ ((لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى)) (¬1). ورد هذا الحديث في صحيح البخارى وصحيح مسلم، وتوفى البخاري في عام 256 هـ، وتوفى مسلم في عام 261 هـ، وكانت كتبهما قد انتشرت في جميع البلدان الإسلامية في زمان حياتهما، وكانت لها نسخ يتداولها الناس فيما بينهم درسا وتدريسا في الأقطار الإسلامية وتحقق قول النبي (ص) في جمادى الأخرى عام 654 هـ، أي بعد وفاة الشيخين بنحو أربعة قرون، وشهود العيان لهذه النار التي ابتدأت ببركان الجبل، ألفوا كتبا مستقلة، وقد شهد الشيخ صفي الدين المدرس بدرسة بصرى أن اليوم الذي ظهرت فيه هذه النار في الحجاز رأى بدو بصرى إبلهم في ضوئها في تلك الليلة وعرفوها، وقد اندلعت هذه النار غرة جمادى الآخرة من الجبل، وفي اليوم الثاني أحس الناس سرعة في حركة الزلزال وقد اشتدت في اليوم الثالث، وفي اليوم الرابع سمع رعد مع الزلزال، كأن الأفلاك ترعد، وفي اليوم الخامس غطى الدخان السماء والأرض والأفق، وبدأ اللهيب يرتفع، والحجر يذوب، فكان المرأى كأن نهرا أحمر ينصب من الجبل، وكان اتجاه النار إلى المدينة يوما بعد يوم، وقد قضى أهل المدينة ليلة الجميعة في المسجد النبوي يذكرون الله ويتضرعون إليه، فلما أصبحوا رأوا أن اتجاه النار قد تغير، والعجيب أن الهواء الذي كان يأتي إلى المدينة عند اشتداد النار في هذا الوقت كان نسيما باردا. ¬

(¬1) البخاري (78/ 13 رقم 7118)، ومسلم (4/ 2227 رقم 2902).

التنبؤ بما حدث سنة 656 هـ

التنبؤ بما حدث سنة 656 هـ أخرج الشيخان أن النبي (ص) قال: ((لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة)) (¬1). وهذا إخبار عن فتنة التتار، كانت جيوش هولاكو خان قد دمرت خراسان والعراق ونهبت بغداد، ثم انهزموا في آسيا الصغرى هزيمة نكراء. وهذا حدث في سنة 656 هـ، ولكنه سجل في الصحيحين قبل خمسة قرون. التنبؤ بما حدث سنة 700 هـ وقد أخرج الطبراني وأبو نعيم عن ابن مسعود قال قال النبي (ص): ((اتركوا الترك ما تركوكم إن أول من يسلب أمتي ملكهم)) (¬2). التنبؤ بما حدث سنة 855 هـ وورد ذكر فتح القسطنطينية في مسند الإمام أحمد (¬3) وصحيح مسلم (¬4) عن أبي هريرة، وفي سنن أبي داود عن معاذ بن جبل. وتوفى الإمام أحمد بن حنبل في عام 241 هـ، وكان كتابه ((المسند)) أمام علماء الأمة وأئمة المحدثين منذ تاريخ التدوين. والسلطان محمد الفاتح فتح القسطنطينية عام 855 هـ = 1453 م، أي بعد كتابا (المسند) بستة قرون ورأى العالم مشهد ((نعم الأمير ونعم الجيش)) كما كان النبي (ص) قال وذلك بعد الهجرة بثمانية قرون ونصف. ¬

(¬1) البخاري 1046، 604 رقم 2928، 3587، ومسلم 2233/ 4 رقم 2912). (¬2) الطبراني في الكبير. 1/ 224 رقم 10389، وفي الأوسط أيضا. (¬3) أحمد في مسنده (5/ 232، 234، 245). (¬4) مسلم 2221/ 4 رقم 2897، وأبو داود 482/ 4 - الملاحم.

التنبؤ بما حدث سنة 1348 هـ

التنبؤ بما حدث سنة 1348 هـ كان النبي (ص) قال لشيبة بن عثمان وعثمان بن طلحة في فتح مكة يوم الخميس 20 رمضان 8 هـ، إذ أعطاهما مفتاح بيت الله: ((خذها خالدة تالدة لا ينزعها يا أبا طلحة منكم إلا ظالم)) (¬1) وهذه الكلمات الموجزة تتضمن ثلاثة تنبؤات: 1 - بقاء نسل أبي طلحة في الدنيا باستمرار. 2 - ارتباط الحفاظ على مفتاح بيت الله وخدمته بهم. 3 - تسمية من ينزع منهم المفتاح ظالما. وعن الأول والثاني يعلم العالم كله أن المفتاح باق في بني شيبة إلى الآن، ونسلهم لا زال باقيا. وعن الثالث قال المؤرخون أن يزيد سلب المفتاح منهم وبعد ذلك مضت 1333 سنة ولم يجترئ أحد على سلبه منهم حتى لا يلقب بالظالم وهو اللقب الذي ذكره رسول الله (ص) لمن يسلبه مفتاح الكعبة من نسل أبي طلحة. تنبؤ بأحداث واقعة في الزمن الحاضر أخرج مسلم في صحيحه: قال المستورد القرشي أمام عمرو بن العاص: سمعت رسول الله (ص) يقول: ((تقوم الساعة والروم أكثر الناس)) فقال له عمرو: أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعت من رسول الله، قال: لئن قلت ذلك (¬2). فليتأمل القراء أن صحابي الرسول (ص) حدث هذا الحديث حينما كانت عساكر الإسلام ظافرة منتصرة في أقطار العالم كلها، ولم ينهزموا في موقعة في العراق والشام ومصر وخراسان وإيران والسودان، وكانت الهزيمة والانسحاب من نصيب النصارى في ¬

(¬1) الطبراني 11/ 120 رقم 11234. (¬2) مسلم 2222/ 4 رقم 2898.

تنبؤ بما يحدث في الزمن المعاصر

جميع البلاد، ولم يكن هناك علة مفهومة لكثرة الأمم الأوربية وغلبتها لدى العقل أو الوهم أو القياس. وكان العالم الإسلامي على هذه الحالة في حياة الإمام مسلم (ت 261 هـ) ولكن الصحابي يروى الحديث المذكور، والإمام يثبته في كتابه بكامل اليقين والإيمان بصحته. وعلى العالم أن ينظر أحوال أمريكا (وهي في أصلها أوربية) وبريطانيا وإيطاليا والبرتغال والسويد والنروج وسويسرا وأسبانيا وألمانيا وغيرها. تنبؤ بما يحدث في الزمن المعاصر أخرج البيهقي والحاكم عن أبي هريرة ومعاوية والطبراني عن عوف بن مالك الأشجعي أن النبي (ص) قال في حديث طويل: ((تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)) (¬1). كان لكل فرد من أفراد الأمة المحمدية منفردا ومجتمعا عند نزول القرآن اسم واحد وهو المسلم، كما ورد في القرآن الكريم {هو سماكم المسلمين} (الحج: 78). وكان هذا الاسم علما للمسلمين إلى بداية عهد أمير المؤمنين علي، ولما خرجت الخوارج ظهرت فرق جديدة وأسماء جديدة، وكل فرقة تفتخر باسمها، وهذا التنبؤ تحقق وصدق ولا يزال يصدق، وملايين المسلمين ودعاويهم المتنوعة يؤيد ما قلنا. وكان قصد المؤلف بيان معجزات النبي (ص) الخاصة بالأخبار عن الغيب، وما سبق بيانه على سبيل المثال يحقق ولله الحمد، هذا القصد، والحصر صعب وعسير. القسم الرابع من المعجزات النبوية من صفات رب العالمين السامية قبول دعاء العباد، وهو الرؤوف الرحيم يقبل دعاء كل عبد إذا دعاه باعتقاد واضطرار، يقول تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} (النمل: 62). ¬

(¬1) سنن البيهقي 208/ 10، مستدرك الحاكم 128/ 1، الطبراني 17/ 18 رقم 129.

دعاء يحفظ من القتل

وهو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة يقبل خاصة دعاء المطيعين من العباد: {أجيب دعوة الداع إذا دعان} (البقرة: 186). وهو العزيز الحكيم يقبل دعاء عباده سريعا حتى يرسخ في قلوب العالمين صدق وعده وكرامة رسوله (ص) وحرمته، وحتى تصير هذه العلامة نفسها معجزة لا يستطيع العالم أن يأتي بنظيرها، وهداية لطلاب طريق الحق، وآية تقرب إلى الله تعالى. وهناك مئات من النظائر لأن النبي (ص) تكلم بكلام حققه الله تعالى بكامل معانيه ومحتواه. إن إحصاء مثل هذه النظائر عسير، ولكن واجب مؤلف السيرة أن يعطر نفوس القراء بشذا رياض السيرة العطرة. 1 - أخرج الشيخان عن أنس بن مالك قال: أصابت الناس سنة على عهد النبي (ص)، فبينما النبي (ص) يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا، فرفع يديه، وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته (ص)، فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي فقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع يديه فقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا)) فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وصارت المدينة مثل الجوبة وسال الوادي قناة شهرا، ولم يجئ أحد من ناحية الأحدث بالجود (¬1). دعاء يحفظ من القتل 2 - روى الطبراني في الأوسط أن ضمرة بن ثعلبة أتى النبي (ص) فقال: ادع الله لي بالشهادة، فقال النبي (ص): ¬

(¬1) البخاري 413/ 2 رقم 933، ومسلم 612/ 2 رقم 897، ودلائل النبوة للبيهقي6/ 141، وقد روى البيهقي وابن عساكر كلمات دعاء النبي (ص) التي استسقى به، وهي: ((اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا غدقا طبقا عاجلا غير رائث نافعا غير ضار تملأ به الضرع وتنبت به الزع وتحيي به الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون)).

دعاء العفة

((اللهم حرم دم ابن ثعلبة على المشركين)) (¬1). فكان هذا الصحابي يحمل على المشركين دون خوف ويخوض صفوفهم ثم يرجع سالما. دعاء العفة 3 - أخرج أحمد في ((مسنده)) والبيهقي في ((شعب الإيمان)) عن أبي أمامة قال: إن فتى شابا أتى النبي (ص) فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا مه مه، فقال: ((ادنه)) فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: ((أتحبه لأمك؟)) قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم)) قال: ((أفتحبه لابنتك؟)) قال: لا والله، يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم)) قال: ((أفتحبه لعمتك؟)) قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لعماتهم)) قال: ((أفتحبه لخالتك؟)) قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم)) قال: فوضع يده عليه، وقال: ((اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه)) فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (¬2). كان النبي (ص) في حواره هذا يهدف إلى إقناع الرجل بأن الشرع لو سمح بالزنا فالزانية لابد وأن تكون بنتا أو أختا أو أما أو خالة أو عمة لغير الزاني، وهذه القرابات القريبة لا يتحمل أحد من الناس أن يوجد فيها الزنا، فطلب السماح بالزنا كما أنه ينافي فطرة الإنسان الغيور هو ينافي كذلك فطرة جميع أفراد البشر، ولذا لا يحب أحد الزنا. وبعد توضيح هذه النكتة دعا النبي (ص) للسائل. 4 - أخرج البخاري عن ابن عباس أن رسول الله (ص) بعث بكتابه رجلا، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فدعا عليهم رسول الله (ص) أن يمزقوا كل ممزق (¬3). ¬

(¬1) مجمع الزوائد (379/ 9). (¬2) مسند أحمد 5/ 256 - 257. (¬3) البخاري 1/ 154 رقم 64، ودلائل النبوة للبيهقي 388/ 4.

دعاء للسائب بن يزيد

فانظروا إلى الأمة المجوسية وتشريدها من الوطن وكيف أنها تعيش عيشة الفوضى والتشتت. أخرج البيهقي عن عبد الرحمن بن عبد القاري أن رسول الله (ص) قال: ((مزق كسرى ملكه)). فابحثوا الآن على وجه الأرض، هل تجدون فيها كسرى منذ أن أهلك الله بجيش أمير المؤمنين عثمان بن عفان آخرهم؟ وهل تجدون حكما أو سلطانا في الأمة المجوسية؟ كانت نهاية خسرو مفجعة، فقد عشق ابنه زوجة أبيه شيرين وقتل أباه حسدا وغيرة. 5 - أخرج البيهقي عن عبد الله بن أبي بكر أن بجير بن بجرة وكان من طي أنشد النبي (ص) قوله عن وقعة دومة الجندل: تبارك سائق البقرات إنى ... رأيت الله يهدي كل هاد فمن يك حائدا عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد فقال له النبي (ص): ((لا يفضض الله فاك)) فأتى عليه تسعون سنة فما تحرك له ضرس ولا سن (¬1). دعاء للسائب بن يزيد أخرج البخاري عن الجعيد بن عبد الرحمن: رأيت السائب بن يزيد ابن أربع وتسعين جلدا معتدلا، فقال: قد علمت ما متعت به سمعي وبصري، إلا بدعاء رسول الله (ص) (¬2). دعاء لعبد الرحمن بن عوف أخرج الشيخان عن أنس أن النبي (ص) رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، فقال: ((بارك الله لك)) (¬3). ¬

(¬1) دلائل النبوة للبيهقي 5/ 251. (¬2) البخاري 6/ 560 رقم 3540. (¬3) البخاري 9/ 221 رقم 5155، ومسلم 2/ 1042 رقم 79.

دعاء لأنس بن مالك

وزاد البيهقي عن أنس أيضا قول عبد الرحمن بن عوف: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا أو فضة (¬1). دعاء لأنس بن مالك أخرج الشيخان عن أنس بن مالك قال: دعا لي النبي (ص) فقال: ((اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته)). قال أنس فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم (¬2). وقد روى الترمذي والبيهقي أن أنسا كان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيها ريحان يجيء منها ريح المسك (¬3). دعاء لمالك بن ربيعة السلولي أخرج ابن مندة أن النبي (ص) دعا له (مالك بن ربيعة) أن يبارك له في ولده، فولد له ثمانون رجلا (¬4). عاقبة الكبر أخرج مسلم عن سلمة بن الأكوع أن أباه حدثه أن رجلا أكل عند رسول الله (ص) بشماله، فقال: ((كل بيمينك)) قال: لا أستطيع، قال: ((لا استطعت))، ((ما منعه إلا الكبر)) قال: فما رفعها إلى فيه (¬5). ¬

(¬1) دلائل النبوة للبيهقي 6/ 219. (¬2) البخاري 11/ 144 رقم 6344، ومسلم 4/ 1928 رقم 141. (¬3) الترمذي 5/ 683 رقم 3833، ودلائل النبوة للبيهقي 6/ 195. (¬4) الإصابة 3/ 345. (¬5) مسلم 3/ 1599 رقم 2021.

دعاء لجبر العظم المنكسر

دعاء لجبر العظم المنكسر أخرج البخاري عن البراء بن عازب أن عبد الله بن عتيك سقط من السلم حينما كان نازلا بعد قتل أبي رافع فانكسرت ساقه، قال عبد الله: فانتهيت إلى النبي (ص) فحدثته فقال لي: ((ابسط رجلك)) فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط (¬1). ¬

(¬1) البخاري 7/ 340 رقم 4039.

الفصل الخامس

الفصل الخامس أسماء الرسول (ص) اسم سيدنا وإمامنا ونبينا ((محمد))، وهذا الاسم آية عظيمة من آيات القدرة الإلهية على أن مسماه إمام الأنبياء وسيد الكون وما فيه، وقد سبق شرحه تحت آية {محمد رسول الله}. وينبغي أن نشير إلى أسماء بعض أهله، هي بمثابة إرهاص لنبوته (ص)، اسم والده (عبد الله) واسم والدته (آمنة) واسم مرضعته (حليمة)، أي أن قدسيته (ص) تأتي من أن جسده الأطهر تكون بدم العبودية، وأتم مراتب الوجود في بطن الأمن، وارتضع لبن الحلم والأناة، فهل تم اجتماع هذه الأسماء بمحض الصدفة؟ كلا، بل تبرز القدرة على علو شأن هذا المولود السعيد، وتدل على أن المولود الذي تجتمع في كيانه هذه الفضائل لابد أن يكون محمدا حقا. والآن تأملوا كيف أن المعنى اللغوي لاسم النبي (ص) يتضمن تنبؤا، فإن عالم الغيب والشهادة أظهر للعالمين أن مسمى هذا الاسم يمدح ويثنى عليه في الدنيا بالتوالي وباستمرار وأكثر من أي إشارة في العالم، فمن ذا الذي تتحرك باسمه ألسنة ملايين الناس وتخفق أفئدتهم؟ ومن ذا الذي يصدح باسمه على منارات المساجد العالية فيهز الأسماع؟ ومن ذا الذي تهدى سيرته المقدسة العباد في كل لحظة من لحظات الحياة وعلى كل مستوى وفي كل مكان؟ ومن ذا المحمود في أفعاله ومحمود في تعاليمه؟ ومن ذا الذي وصلت رفعته من الأرض إلى عنان السماء؟ ومن ذا الذي وسع تعليمه البر والبحر؟ 1 - لاشك أنه محمد، اسمه محمد، ومسماه أيضا محمد، وللحمد نسبة خاصة بذاته الطيبة. فاسم مقام شفاعته مقام محمود، ولقبت أمته بالحمادون، وافتح كتابه بالحمد لله رب العالمين.

نعم اسمه أحمد، وهو أيضا نابع من منبع ((الحمد)) فبين الاسمين اتحاد تام واشتراك كلي من ناحية المنبع والمصدر، وكذلك يختصان بأنوار وبركات خاصة. إنه محمد، ولذا تمدحه وتثني عليه كل ذرة من ذرات الكون. إنه أحمد، ولذا حمد وأثتى على مالكه وخالقه ورازقه وهاديه ومعطيه، أكثر من قطرات المطر وذرات الرمال. نعم إنه محمد، وجميع العالم من مادحيه .. إنه أحمد، حمد ربه أكثر من العالم كله. نعم إنه محب، أحب العدو والصديق جميعا .. إنه حبيب زين إكليل المحبة بالكمال. 1 - إنه محبوب، ولكنه غني عن المحبين. 2 - إنه مطلوب ولكنه غني عن الطالبين. 3 - إنه متبوع، واتباعه يجعل المتبعين مطاعين. 4 - هو نبي وقد أزالت نبوته ألوف الحجب عن عيون البصيرة. 5 - هو رسول ورسالته ميزت نوع البشر بإتمام النعمة وإكمال الدين ورضوان الرحمن. 6 - هو عبد وعبوديته أحلت العبودية في عرش الخلافة. 7 - هو معلم وتعليمه حقق قول المسيح عليه السلام وأمله في أنه يعلم الصدق كله. لقد فتع مدرسته المقدسة، ولم يأخذ على تعليمه أجرا؛ ولم يعلم بالرموز والتمثيلات، ولم يجعل بينه وبين خواص تلاميذه إشارات معينة، بل حملت مدرسته لوحة {يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} (البقرة: 151)، إن دروسه تبدأ بغاية العلوم والمعارف التي يعرفها الإنسان. 8 - إنه أمين، واسمه هذا ذكر ليوحنا في رؤياه (¬1) وبه انطلقت ألسنة قريش (¬2)، وبه تظهر حشمته ووقاره، وبه يتضح كونه (ص) أمينا لوحي السماء، وإلى هذا المعنى ¬

(¬1) رؤيا يوحنا 11/ 19 - العهد الجديد. (¬2) ابن هشام 209/ 1.

يشير حديث أبي سعيد في صحيح مسلم (¬1). ومن شعر كعب بن أشرف أمين محب للعباد مسوم ... بخاتم رب قاهر للخواتم 9 - إنه أمي، وكرامة وعزة أم القرى تحققت بالانتساب إليه. إنه أمي ومعصوم في جميع الأفعال والأقوال مثل وليد رفيع سعيد ... إنه أمي وتعليمه لا يحتاج إلى الحروف الكتابية والنقوش المرئية. 10 - إنه برهان فقد ورد في القرآن {قد جاءكم برهان من ربكم} (النساء: 174). وفسر سفيان بن عيينة البرهان في الآية بالنبي (ص) (¬2). نعم إنه برهان وحجة لله ..... إنه برهان وذاته السعيدة (ص) بنفسها دليل واضح. 11 - إنه بشر توجه الله بقوله {إنما أنا بشر} (الكهف: 110) ويحق لآدم أن يعتز ببشريته لأن محمدا بشر، نعم إنه بشر وجماله الظاهر وحسنه الأطهر يجسد لأهل اللغة هذا المعنى اللغوي. 12 - إنه بشير خاطبه الله تعالى بقوله: {إنا أرسلناك بالحق بشيرا} (البقرة: 119). إنه مبشر، صدقت نبوة المسيح ببشارته، قال تعالى: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} (الصف: 6). وإنه مبلغ آلاف البشارات بعد الآلاف إلى أهل الإيمان والإيقان. 13 - إنه بينة، أي مجموعة الآيات الباهرة والعلامات الواضحة والدلائل الحقة، ووجوده صدق كله، وكيانه حق كله، وهذه البينة بددت ظلمات أهل الكتاب والمشركين ونورت العالم المظلم، وعليه يصدق المثل القائل: ظهرت الشمس دليلا على الشمس. 14 - إنه حبيب الله وصاحب التقرب الذي ورد ذكره في الحديث، للعبد العابد الساجد بهذه الألفاظ: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ولسانه الذي ينطق به (¬3). 15 - إنه حليم، والحليم من الحلم بالضم يدل على وفرة العلم، وكمال العقل، ¬

(¬1) مسلم (742/ 2 - الزكاة). (¬2) نسب إلى سفيان الثوري في القرطبي (6/ 27). (¬3) البخاري 6502.

ومن الحلم بالكسر يدل على أنه متحمل المصائب، يقذفه الأعداء بالحجارة فينثر لهم الدر، ويشتمونه فيرد عليهم بالدعاء. واسم النبي (ص) هذا كان معروفا لدى الناس قبل النبوة، يقول أبو طالب: حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلها ليس عنه بغافل 16 - إنه خازن، فقد ورد في رواية أحمد: أنا الخازن أضع حيث أمرت (¬1). نعم، إنه صاحب خزينة الرب وكنز الرحمن؛ فالعطايا الإلهية تقسم من بيته، ويده المباركة تنثر الدرر. 17 - إنه خليل الرحمن، ونشير هنا إلى أن مراتب الحب عند العرب عشر: (1) العلاقة وهي تعلق القلب الخفيف. (2) الإرادة، أي الميل الذي ينشأ بعد العلاقة. (3) الصبابة، وصب يصب يعني جريان الماء، وهنا يراد به فرط الشوق. (4) الغرام، أي الدين أو الغرامة، وهو هنا الحب اللازم الذي يلصق مثل الدين فلا ينفك. (5) الوداد، وهو الإخلاص في الحب ولب الحب، وقد وصف الله تعالى ذاته بالودود. (6) الشغف، والشغاف غلاف القلب، والشغف هو الحب الذي يصل إلى قعر القلب. (7) العشق، وهو مشتق من العشقة وهي نبات أصغر يلتصق بالشجرة فيجففه، وتأثير العشق يكون هكذا للعاشق، وكان ابن عباس يستفيد بهذه الحالة. (8) اليتم وهو الانكسار، والعجز التام، وسمى اليتيم يتيما، لتواضعه وعجزه. (9) التعبد، وذلك حينما يتخلى المحب من دعوى تمليك النفس والمال والعرض ويصير عبدا للغير بقلبه وروحه. (10) الخلة، وذلك حينما يخلو القلب من الوسوسة، والعقل من تعقل الغير، والنية والعزيمة من تعبد الغير، والتشوق إليه؛ وقد أكمل هذه المرتبة سيدنا إبراهيم وسيدنا محمد (ص). ¬

(¬1) مسند أحمد 324/ 2.

والمعروف عند العامة أن منزلة الخلة لإبراهيم، وهو خليل الرحمن، ومنزلة الحب لسيدنا محمد (ص)، وهو حبيب الله، ولكن ورد في الأحاديث الصحيحة اتصاف النبي (ص) أيضا بالخلة: إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. ((ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الرحمن)) (¬1). 18 - إنه خطيب الأنبياء فقد ورد في حديث الشفاعة: ((كنت إمام النبيين وخطيبهم)) (¬2). الف - الخطيب من خطب بمعنى فصاحة اللسان، فالخطيب هو الفصيح والبليغ. وقد ورد في القرآن أن موسى ذكر صفة فصاحة أخيه هارون فقال {هو أفصح مني} (القصص: 34). وفي الحديث المذكور أن هذا الشرف مختص بالنبي (ص) بين الأنبياء. وفي حديث صحيح مسلم: ((أوتيت جوامع الكلم)) (¬3). ومن كمال الفصاحة إبداع المعاني العالية العميقة، الدقيقة الألفاظ، البسيطة والتراكيب الجيدة والعبارات الوجيزة. من هنا كان النبي (ص) خطيب الأنبياء. ب - والخطيب من الخطابة، والمراد بها من يبين الأوامر والنواهي والمواعظ والأمثال. ج - والخطيب هو أيضا الشيء الذي يتضمن ألوانا متنوعة، فالخطيب هو الماهر في أنواع الكلام وأساليب الخطاب. 19 - إنه خافض، وهذا المعنى يستنبط من آية القرآن التالية: {واخفض جناحك للمؤمنين} (الحجر: 88). انظروا إلى الطيور كيف تحافظ على بيضها وتربي أفراخها ببالغ العطف والشفقة والذكاء والحذر بعد وضعها تحت جناحيهما. وعطف النبي (ص) على أهل الإيمان ورحمته بهم أقوى وأكبر من هذا المثال. ¬

(¬1) البخاري 3656، ومسلم 4/ 1854 - الفضائل. (¬2) الترمذي 3613. (¬3) مسلم 371/ 1 - الصلاة.

20 - إنه خيرة الله، والخيرة بكسر الخاء وفتحها بمعنى الخير، فالنبي (ص) خير الناس، وخير البرية، أي أفضلهم وأكثرهم في أفعال الخير. 21 - إنه داع إلى الله، وحق الدعوة لا يحصل إلا بعد الإذن من المدعو إليه. ومثال ذلك الخادم يدعو شخصا من تلقاء نفسه لتناول الطعام فإذا وصل إلى منزل المضيف تبين له وللمضيف أن ما حدث تصرف شخصي من الخادم تصوروا كيف تحل الندامة في هذا الموقف بالضيف والمضيف، وكيف يتألمان من هذا الصنيع؟ ولكن الله تعالى إذ سمى نبيه داعيا إلى الله زاد في هذا الاسم قوله ((بإذنه)) وأوضح للعالمين أن محمدا (ص) أعطي سلطة كاملة للقيام بالدعوة وله الحق في أن يستضيف عباد الله في بيته ويدعوهم إلى التقرب والرضوان؛ فهذا الاسم من الأسماء الخاصة للنبي (ص). 22 - إنه رحمة، وقد أطلق عليه (ص) في القرآن ((رحمة للعالمين)) (الأنبياء: 107). ووصف الله تعالى نفسه ب {رب العالمين} الفاتحة. وقيل للقرآن {ذكر للعالمين} (يوسف: 104). والكعبة {مباركا وهدى للعالمين} (آل عمران: 96) وجعل سفينة نوح ومريم وعيسى آية للعالمين. ولكن لم يطلق ((رحمة للعالمين)) إلا على النبي (ص). وانظروا إلى قوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} (الأعراف: 156) .. ثم تفكروا في السعة التي تضمنها قوله ((رحمة للعالمين)) وفي البركة والفيض. رحمته (ص) انتفع بها أهل الإيمان فصاروا في الدنيا حاكمين واستحقوا في الآخرة المغفرة والرضوان، وانتفع بها أيضا المنكرون والخاسرون فأمنوا بدعائه (ص) عذاب الدنيا والغرق والحرق والهلاك والدمار. وكذلك نفعت هذه الرحمة الأطفال والأيتام والأرامل والمسافرين والأسرى والعبيد والإماء والرعية وطبقة الحكام والأمراء، فقد سن لهم (ص) قوانين محكمة وتشريعات نافعة ودستورا واضحا كما وضع أصول المدنية والسياسة، ثم عمل بها في حياته الطيبة وألزم الأمة بها. وقد عمت رحمته (ص) الطيور والوحوش والمراكب والمواشي التي سن لها قواعد الذبح والصيد والتربية. ووصلت رحمته (ص) إلى الشوارع والطرق والمشارب والموارد، فقد أصدر (ص) توجيهات لتأمينها وتطهيرها من الأنجاس والأرجاس والقاذورات. وهكذا لم يحرم

رحمته () عدو استحق القتل والذبح. ومن هنا يثبت كون النبي (ص) رحمة للعالمين دون شك. 23 - إنه روح الحق، وقد استعمل هذا اللقب أولا المسيح في آخر خطابه الذي ألقاه إلى خلفائه قبل تركه الدذيا (¬1). ولنتذكر أن اسم روح القدس استعمل عامة في الأناجيل الأربعة، والمراد به الشخصية الملكية التي يسميها المسلمون جبريل، وهو الذي يطلق عليه النصارى أقنوما من الأقانيم الثلاثة وركنا من أركان التثليث، مع أنهم لا يعرفون شيئا عن وجوده. نعم هذا هو الموضع الوحيد الذي استعمل فيه لقب روح الحق، وبذلك أعلم عن وظيفته ومنزلته وأماراته. إنه روح الحق من خصائصه تعليم الصدق كله. إنه روح الحق، يرفع الطلاب من الحضيض إلى أعلى مكان في الحياة. إنه روح الحق على لسانه الكلام الذي يمنح الحياة، إنه روح الحق، ومن واجباته إحياء القلوب الميتة حياة روحية، وتعليمه يطهر الظاهر والباطن، ويجلي الفكر وينور القلب. 24 - إنه سيد، خلق للسيادة، وهو غني عن الوصف بهذا اللقب. إنه سيد ويرضى بأن يوصف بعبد سيده (الله تعالى). إنه سيد، وأسباطه وصفوا بالسيادة: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)) (¬2). إنه سيد، ووزراؤه أيضا مشرفون بهذا اللقب: عن أنس قال قال رسول الله (ص) لأبي بكر وعمر: ((هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين)) (¬3). إنه سيد، وتلاميذه وأصحابه أيضا عرفوا بهذا الاسم، فقد قال (ص) حينما رأى راحلة سعد بن معاذ: ((قوموا إلى سيدكم)) (¬4). إنه سيد ولد آدم (¬5)، والواضح أن كل مبشر من الأولين والآخرين من ولد آدم، وآدم ¬

(¬1) إنجيل يوحنا 16/ 13. (¬2) الترمذي 3768. (¬3) الترمذي 3664. (¬4) البخاري 6262. (¬5) سنن أبي داود 426/ 12 - عون المعبود.

أيضا يدخل تحت هذا العموم، فقد ورد في حديث صحيح: ((آدم ودونه تحت لوائي)) (¬1). والحديثان يزيداننا بصيرة في هذا الباب. 25 - إنه شارع، وبيان الشريعة ليس سهلا، كان موسى صاحب شريعة، ولم يكن بعده في بني إسرائيل أحد صاحب شريعة إلى ألفي سنة. فقال المسيح: لا تظنوا أني جئت لنسخ التوراة، بل جئت لإحكامها (¬2). ولدى الهنادكة كان متو الكبير صاحب كتاب سمرتي في القانون. وإني أرجو جميع المجالس التشريعية والحكومات الواضعة للأصول والمبادئ في العالم أن ينظروا في هذه الشرائع الثلاث ثم يقدموا تقاريرهم ويبينوا أيا منها أكمل وأشمل للفروع والأصول وحاجيات الإنسان وأصلح وأقوى للمساهمة في الحضارة؟ وحينما يتم فحص شرائع العالم الموجودة في ضوء هذه المبادئ يتضح نفوق شريعة محمد فداه أبي وأمي (ص) على جميع الشرائع دون شك. 26 - إنه شافع، ولكن بعض الناس أساء فهم معنى الشفاعة، فقال: الشفيع هو الذي يغفر الذنوب بقدرته واختياره وأصحاب هذه العقيدة النصارى الذين يرون أن الشفيع بمعنى الغفور. ولكن لفظ الشفيع لا يتحمل هذا المعنى. وقال البعض: هذا تحميل معنى الشفاعة لأكثر مما يستحق، ولذا أنكروها. أما الإسلام فقد بنى الشفاعة على أصلين: 1 - من أذن له الرحمن. 2 - وقال صوابا. (النبأ: 38). وهذان الأصلان يميزان الشفاعة الإسلامية ويصونانهما من إفراط وتفريط الفريقين ويعدلانهما تعديلا. نعم إنه (ص) صاحب المقام المحمود والتميز بخصائص الشفاعة الكبرى. 27 - إنه شاهد، والشاهد الخير الصادق هو الذي تخرج شهادته الوقائع الصحيحة ¬

(¬1) الترمذي 3615. (¬2) إنجيل متى 5/ 17.

من الكتمان إلى الظهور، وتجعل الجاهل عالما والغائب شاهدا. إنه شاهد، لأنه أعلن شهادة أن لا إله إلا الله أمام العالم كله، وأثبت بشهادته استحقاق الرب تعالى للألوهية والعبودية. إن كثيرا من الأديان والمذاهب ضلت واضطربت في أمر العبادة والاستعانة بغير الله، ولكن النبي (ص) أوضح الحقائق الخفية في هذا الباب. إنه (ص) أعلن شهادة أن محمدا رسول الله. واتضحت بذلك خصائص النبوة والرسالة وحقيقة الوحي وتم بشهادة النبي (ص) بيان علاقة الأعمال بالروح وترتب الجزاء عليها لزوم الشريعة واستقرار الشرائع والنواميس الإلهية، فالله أكبر، ما أكبر الشهادة التي قام بها الشاهد وما أصدقها. إنه جاء إلى محكمة العالم بشهادته وحيدا، وأقام على شهادته هذه ألوفا من الناس قبل ارتحاله، بل جعلهم شهداء على من يأتي بعدهم، وأكرمهم بسند {وتكونوا شهداء على الناس} (الحج: 78). 28 - إنه صاحب، وقد ذكر المسيح علامة النبي (ص) بأنه يصحبكم. وبهذا يثبت خلود نبوة النبي (ص)، فإنها تستمر مع البشرية إلى بقائها. وكان كفار مكة أيضا يصفون النبي (ص) بأنه صاحب قريش، ومهما كانت نيتهم في استخدامهم لهذا اللفظ إلا أن الله تعالى استعمله في معنى طيب فقال: {وما صاحبكم بمجنون} (التكوير: 22). وقد وجد في الأنبياء عليهم السلام من كره أفعال قومه القبيحة واعتزلهم وتنحى عنهم. ولكن الله تعالى مدح النبي (ص) على صبره واستقامته وبين أنه (ص) لا ييأس من إصلاح العصاة ولا يطردهم ولا يحب اعتزالهم، بل إنه صابر، وصبره يتوقف على نصر الله ومعيته. وكذلك أخبر الله تعالى أنكم تقولون له اليوم صاحبكم، وغدا تكون صحبته شرفا وكرامة. 29 - إنه صادع، والصدع هو البيان الواضح الجلي للأمر الإلهي دون مبالاة أحد، ودون إقامة وزن لضغط وتهديد، ودون خوف من مكائد الأعداء وحيلهم. إنه صادع، لأنه قال بصراحة للعرب الوثنيين والبدائيين السفاكين: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} (الأنبياء: 98). إنه صادع، لأنه أوضح لأمة مثل اليهود المسيطرين على تجارة العرب والمالكين

لرقابهم بديونهم الربوية، وللنصارى الذين امتدت حكومتهم إلى الشام ومصر واليمن وآسيا الصغرى وأوربا: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم} (المائدة: 68). نعم إنه صادع لأنه قال بوضوح لأتباعه أيضا: {قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا} (الجن: 21). وقال: {قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا} (الجن: 22). نعم إنه صادع، فإنه بلغ أقاربه وأعزته قول الله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (الشعراء: 214). 30 - إنه صادق، وللصدق منزلة أعلى في المنازل الروحية، فالصدق روح الأعمال ومعيار الأحوال، وهو الباب الذي يوصل إلى جناب ذي الجلال، وهو أساس الدين وعليه يقوم اليقين، وهو الذي سأله خليل رب العالمين: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء: 84). وهو الذي انعقد مجلسه قرب مقام الملك الحقيقي: {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} (القمر: 55). والصادق هو النبي (ص)، واسم النبي (ص) هذا ذكر ليوحنا في رؤياه، إنه صادق وقد عرف بهذا الاسم في وطنه وحواليه قبل النبوة، وفيه ورد قوله: {والذي جاء بالصدق} (الزمر: 33). وهو الذي احتل متبعوه منزلة الصديقية والمحدثية. 31 - إنه مصدوق، يشهد بصدقه السماء والأرض والبر والبحر، وقد لهج بصدقه رهبان النصارى وأحبار اليهود والأئمة والربيون، واعترف بصدقه عباد اللات ومناة والعزى وشهدوا بكذبهم، وامتلأت بصدقه صحف ذي الكفل ودانيال واشعياء ويرمياه وحبقوق وحرقيل وحجي وملاخي وزكريا ويحيى عليهم السلام. قال العباس بن مرداس (وكان أسقف النصارى قبل إسلامه) في قصيدته التي مدح بها النبي (ص):

فآمنت بالله الذي أنا عبده ... وخالفت من أمسى يريد المهالكا ووجهت وجهي نحو مكة قاصدا ... وبايعت بين الأخشبين المباركا نبي أتانا بعد عيسى بناطق ... من الحق فيه الفضل منه كذالكا 32 - إنه طه، وهو بعيد عن زهرة الحياة الدنيا، ربى بالنعم الباقية، وأتى مع وثيقة {ورضي له قولا} (طه: 109) ورب العالمين يرعى راحته ورضاه. 33 - إنه طيب، فقد تطهر وتزكى أصله ونسبه وأزواجه وذريته وجسده وعنصره من الأرجاس والأنجاس والعيوب والنقائص والقبائح والرذائل. وهو زكي طاهر يثني عليه الطيبون ويصلي عليه القدوسيون، قال حسان بن ثابت: صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد 34 - إنه طاهر، وعالي الحسب والنسب، والآباء الأولون الذين حملوا نوره كانوا طاهرين من السفاح، ومن الرق وعبودية الغير. إنه طاهر ومطهر أيضا، علم الطهارة وطهر أتباعه في ظاهرهم وباطنهم، فتعليمه كون جماعة ورد فيهم قوله تعالى: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} (التوبة: 108). وجعل غاية أحكامه وأفعاله. {تطهرهم وتزكيهم} (التوبة: 103). 35 - إنه عبد الله، والعبودية هي كمال الإنسانية، وتكتمل العبودية في منازل النبوة، والله تعالى حينما يذكر نبيا من أنبيائه بأسلوب الحب والقبول يأتي بلفظ ((العبد)): {واذكر عبدنا داود ذا الأيد} (ص: 17). {واذكر عبدنا أيوب} (ص: 41). {ذكر رحمت ربك عبده زكريا} (مريم: 2). وعبودية النبي (ص) شجرة طيبة أثمرت ثمارا حلوة: ألف - {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} (الفرقان: 1). ب - {أليس الله بكاف عبده} (الزمر: 36). ج - {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} (الإسراء: 1).

د - {فأوحى إلى عبده ما أوحى} (النجم: 10). وقد ثبت أن المسيح أيضا قال في حجر الصديقة مريم: {إني عبد الله} (مريم: 30). ووصف النبي (ص) أيضا بالعبودية في قوله تعالى: {وإنه لما قام عبد الله} (الجن: 19). والفرق بين الموضعين واضح، فالمسيح وصف نفسه بقوله ((إني عبد الله))، وهذا القول لم يصحبه الفعل بعد. ولكن النبي (ص) أطلق عليه الرب تعالى بذاته ((عبد الله)) وذكر في نفس الوقت قيامه (ص) للعبادة والدعوة. نعم إنه عبد الله، وشهد بعبوديته المعبود والمسجود. إنه عبد الله، ونجاحه في الدعوة إلى العبودية أكبر. إنه عبد الله، اقترن اسمه المبارك المحمود في كلمة التوحيد مع كلمة رسول ((عبده ورسوله)) صارت العبارة مع كلمة رسول جزءا غير منفك؛ فلا يمكن أن يقرأ أحد كلمة التوحيد ولا يقرأ مع اسم الجلالة ((وحده لا شريك له)) ومع اسم محمد (ص) ((عبده ورسوله)). فاللهم إني أيضا أكرر كلمة الشهادة في هذا الموضع، وأفوضها إلى خزائن رحمتك أمانة: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد (ص) نبيا، وبالقرآن إماما. 36 - إنه عفو، والعفو من أسماء الله الحسنى أيضا، وصفات النبي (ص) ظلال الصفات الإلهية، ومحاسنه (ص) مظاهر العطايا الربانية. 1 - فهو الذي عفا عن أعداء جبل التنعيم الثمانين الذين هاجموا جماعة المسلمين أثناء أداء الصلاة. 2 - وهو الذي عفا عن زينب بنت الحارث التي قدمت له (ص) لحما مسموما واعترفت بجريمتها هذه. 3 - وهو الذي عفا عن رؤساء قريش بعد انهزامهم مع أنهم هم الذين قاوموا الدعوة

إلى الإسلام ثلاث عشرة سنة، وأذاقوا من دخلوا في الإسلام صنوفا من الظلم والعذاب. 4 - وهو الذي عفا عن رئيس المنافقين أبي بن سلول وجماعته في يثرب مرات عديدة وصفح عن مواقفهم المخزية. 5 - وهو الذي أطلق سراح ستة آلاف شخص من أسرى حنين بمجرد طلب شفوي، يقول حسان: عفو عن الزلات يقبل عذرهم ... فإن أحسنوا فالله بالخير أجور وتاريخ العالم عاجز عن تقديم مثل هذه النظائر للعفو والصفح. 37 - إنه فاتح، وإن كان معنى الفتح فتح البلاد والسيطرة على الممالك فلاشك أن سيرة النبي (ص) لا تحتوي على نماذج كثيرة لذلك، وغزوات النبي (ص) الشهيرة التي وقع فيها القتال أيضا هي: بدر وأحد والأحزاب وخيبر وحنين. وفي غزوة خيبر فقط من بين هذه الغزوات تم الاستيلاء على الأراضي التي بقيت تحت سيطرة الأعداء المنهزمين بينما انتقلت ملكيتها إلى المسلمين. أما بقية الغزوات الأربع فقد كانت غزوة أحد والأحزاب في أرض المسلمين، وفي بدر وحنين لم تتم السيطرة على أي منطقة. ومن هنا وجب البحث في اسم الفاتح؛ في القرآن الكريم وفي سورة الفتح أخبر النبي (ص) بالفتح المبين والنصر العزيز وهذا الفتح كان عبارة عن تأمين أمر واحد هو عدم تدخل قريش في الدعوة إلى الإسلام فيما بعد. نعم، إنه فاتح لأنه شرح بتعاليمه صدور الجاهلين وأوضح الأسرار الروحية وأزال الموانع التي اعترضت سبيل متبعي الصراط المستقيم، وأعطاهم حريتهم ومتعهم بحريتهم الدينية. كان ملوك عمان وأكيدر والحبشة واليمن والشام يحكمون ويسوسون الناس في بلادهم، ولكن النبي (ص) ملك قلوبهم، وسيطر على أفكارهم فكانوا يفتخرون بافتدائه دون أن يلقبوا بالملوك والحكام. إنه فاتح القلوب والمسيطر عليها وهو روح سارية وقوة قاهرة. 38 - إنه قاسم، فقد ورد في حديث البخاري: ((أنا قاسم والله المعطي)) (¬1). ¬

(¬1) البخاري 3116.

ويصعب حصر الفيوض والبركات التي عممها (ص)، والتجلي الذي عم البصائر، والنعم التي متع بها العالمين، والعطايا التي ميز بها أهل دينه. إن الجزيرة العربية التي تعطشت للعلوم والحقائق قد ارتوت بما قسمه النبي (ص)، وقد أخرج (ص) نعم أهل زرادشت وآلاء بني إسرائيل ومقدسات الهنادك من حوزتهم وقسمها على العرب الذين لم يكونوا قد ملكوا شيئا سوى رمال الصحراء وأحجار الجبال، ثم إنهم وزعوا عطاياهم فيما بعد على جميع الناس وبسطوا موائدهم لكل صادر ووارد، وهيأوا مرافق الأكل والشرب للمساكين وأبناء السبيل من الشرق إلى الغرب، تعاملوا معهم على أساس الأخوة والمساواة، وكسبوا الأعداء إلى صفوفهم، وهكذا صار العالم كله اليوم من المنتفعين بعطايا النبي (ص) والمدينين لتعليمه (ص)، ومن لم يفعل حرم هذه الحقائق والمعارف. 39 - إنه المصطفى، وهو من أسمائه الخاصة المباركة فكأنه علم له، وآيات القرآن توضح أن آدم ونوحا وإبراهيم وموسى عليهم السلام من الأنبياء الصالحين الذين أطلق عليهم كلمة ((الاصطفاء)) بصفة خاصة، وكان سبب الاصطفاء أو وسيلته نزول الوحي الرباني والكلام الإلهي، والصفات التي امتازوا بها وجدت في النبي (ص) على أكمل وجه. ورد في كتاب التثنية ميزة خاصة للنبي (ص) وهي: ((وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به)) (¬1). والتفاصيل التي وردت في القرآن الكريم عن نزول الوحي وتواصل التنزيل وكيفية التكميل لم توجد في كتاب آخر، ولهذا فالنبي (ص) هو الشخصية المصطفاة المسماة بالمصطفى واصطفاؤه (ص) أعلى وأفضل من اصطفاء الجميع. ورد في القرآن الكريم: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} (آل عمران: 33). ويدخل في آل إبراهيم سيدنا إبراهيم نفسه وآل نبينا (ص) كلاهما، والإتيان بهذا الأسلوب إنما هو للدلالة على أن اصطفاء آل إبراهيم مبني على انضمام النبي (ص). 40 - إنه مطاع، إن ذات الله سبحانه وتعالى هي المقعودة بالذات من الطاعة. والله ¬

(¬1) التثنية 18/ 18.

جعل أمارة أهل طاعته إطاعة أنبيائه، ومن عصاهم عصى الله تعالى، وقد سجل الله هذا المبدأ في محكم كتابه فقال: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} (النساء: 64). وبعد هذا المبدأ العام خصص النبي (ص) فقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء: 80). ثم قال: {وإن تطيعوه تهتدوا} (النور: 54). وقال في صفة جبريل {مطاع ثم أمين} (التكوير: 21). وقال في سورة التحريم: {وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرا} (التحريم: 4). ومعنى ذلك أن ذلك المطاع السماوي وأمين الوحي الرباني يدخل في أنصار النبي (ص) مثل الملائكة الآخرين وجملة المؤمنين، وبالآيتين اتضح أن النبي (ص) هو أفضل مطاع. ومن هنا يتضح أن أحدا من الأنبياء والرسل أو الملائكة أو الأئمة أو المرشدين أو الشهداء لا يستطيع الآن أن يدعي أنه مطاع أمام النبي (ص)، أو أن طاعته بدون طاعة النبي (ص) تكون هادية ومقربة إلى الله تعالى، ويكشف عن هذا السر قول النبي (ص): ((لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي)) (¬1). نعم، يؤمن كل مسلم بأن الوسيلة الوحيدة للتقرب إلى الله تعالى والحصول على مرضاته ومغفرته والنجاة من العذاب هي إطاعة محمد (ص). ونحن نقر بأن أحدا لو ادعى إطاعة موسى واستغنى بذلك عن إطاعة النبي (ص) فإنه يظل بعيدا عن المغفرة والنجاة ومنازل القرب والرضوان. فالنبي (ص) هو المطاع، وطاعته (ص) هي طاعة الله تعالى. ومنزلة أئمة الدين والأصحاب الكرام أعلى وأرفع من سائر الخلائق، لأنهم أقوى وأكمل في إطاعته (ص). 41 - إنه ماحي، فقد أخرج الشيخان عن جبير بن مطعم أن النبي (ص) قال: ¬

(¬1) مسند أحمد 87/ 3.

((إن لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي يوم القيامة، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي)). فإنه (ص) محا الكفر والضلال والشرك وعبادة غير الله، وقضى على العادات والتقاليد وأهواء النفس والكفران والخذلان والعصيان والطغيان. وإنه (ص) نكس ثلاثمائة وستين صنما للعرب، وتلا عليهم قوله تعالى: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} (الإسراء: 81). وبتوجيهاته (ص) امتنع النصارى عن إطلاق ((والدة الله)) على السيدة مريم. وهو الذي أنقذ فارس من أرجاس ماني ومزدك، وقضى على فواحش الفرق الهندوكية مثل وام ماركي وجترانكدي، وهو الذي أنقذ البنات المعصومة من الوأد، والعرائس البريئة من الإحراق حية. وهو الذي جعل الخمر والقمار رجسا ونجسا، وبين حقيقة أن كل مسكر ضار بصحة البشر، وهكذا كان القضاء على المفاسد والرذائل والمكاره والمآثم من خصائص تعليمه الطيب (ص)، ومن هنا حق له (ص) أن يسمى ماحيا. 42 - إنه حاشر، أول من يرفع رأسه من القبر يوم القيامة، ويشاهد كيفية إحياءالموتى، وأول من يلبي منادي الرب تعالى، ويشفع للمذنبين من أمته. 43 - إنه عاقب، جاء بعد الجميع، واجتمع الأنبياء حين إمامته، وهو عديم النظير وعديم المثال، ونهاية بداية النبوة وإتمام غاية الرسالة. 44 - إنه نور، ومن اتبع دينه امتاز ببشارة القرآن {فهو على نور من ربه} (الزمر: 22)، والكتاب الذي جاء به عرف بأنه نور {واتبعوا النور الذي أزل معه} (الأعراف: 157). واسمه المبارك في سورة المائدة النور {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} (المائدة: 15). فقد ورد في تفسير الخازن والمعالم تفسير النور بذات النبي (ص). فهو (ص) نور في وضوح الأمر وتبين النبوة، وتعليمه (ص) نور ينور القلوب. تأملوا دعاء النبي (ص)، وانظروا ماذا كان يسأل ربه كل يوم؟ وهل يرد الله تعالى سؤال أحد؟ كان (ص) يقول: ((اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني نورا، ويساري نورا، وفوقي نورا، وتحتي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، واجعل

لي نورا، وفي لساني نورا، وفي دمي نورا، وفي عصبي نورا، وفي شعري نورا، وفي بشري نورا، اللهم اعطني نورا، اللهم أعظم لي نورا، اللهم اجعلني نورا)) (¬1). وقال كعب بن زهير في قصيدته: ((بانت سعاد)): ((إن الرسول لنور يستضاء به)). 45 - إنه المدثر، والتدثير هو إصلاح الطائر لعشه. وبيت النبي (ص) يشبه العش بالنسبة إلى منزلته العالية. وإتمام النبي (ص) وإحكامه لهذا العش إنما هو إكمال حاجات العالمين المادية والخلقية والروحية، وقد تم هذا الإكمال بالإنذار والتهليل وبتطهير الخلائق من العلائق المادية والقلبية، ومن أعمال المدثر تطهير العالمين في ظاهرهم وباطنهم من الرجز والرجس. 46 - إنه المزمل، لأن عينه لا تتحمل النظر إلى الوجه الكالح للعالم المظلم، وأذنه لا تستطيع الصبر على كذب وبهتان دنيا الزور، فيلجأ إلى غار حراء يخلو فيه، وهناك تتجلى له الأنوار القدسية حسب فطرته الطاهرة، وتنكشف له مظاهر الملكوت الأعلى، ويمتع الكلام الأزلي سمعه ثم ينكشف سر الترهب والتبتل. ومعظم الذين سئموا هذا العالم المظلم، اختاروا طريق الفرار منه. فقد فضل أعلام التاريخ من أمثال بوذا وديوجانس وصاحب الفيد بياس وغيرهم هذا الطريق، واعتبر الآلاف من الرهبان والراهبات بنية صادقة الرهبانية وسيلة ناجحة للتخلص من الدنيا الغادرة، وضحى ألوف الدروايش من الصينيين بحياتهم في سبيل هذه الرياضة. ولكن القدرة الربانية أرشدت ذلك المزمل إلى سر وصفة التبتل فقام طوال يومه يعمل في هداية البشر وحل مشاكلهم، وقضى طوال ليله في التضرع إلى الله ودعائه. قرب إلى أذهان البعض عاقبة آل فرعون، وسهل تبشيره للبعض عبور بحر الهلاك بسلام وعافية. نعم إنه مزمل، لأنه جاء لآل فرعون بعظة مثل موسى، وللمؤمنين بيقين مثل عيسى، ولسيئ العاقبة بهدى محمد (ص). 47 - إنه مشهود، قال القرطبي: إن الأنبياء عليهم السلام شهداء، ومحمد (ص) مشهود، وقوله هذا صواب، فإن كلا من يعقوب وموسى وداود وسليمان وإشعياء ¬

(¬1) البخاري 3533، ومسلم 1828/ 4 - الفضائل.

ودانيال ويرمياه وحبقوق ويوحنا وعيسى عليهم السلام شهدوا للنبي وبشروا بمقدمه، وذكروا صورته ومكان ولادته وهجرته ونزول كلام الله عليه وتعليمه للحق والصدق. فهو امشهود على ألسنة هؤلاء الأنبياء جميعا. فالكتاب المتحررون الجريئون من أمثال كارلايل والسير ميور واشنطون وجون ديون وايوردجين أثتوا عليه (ص) في يقظة ضميره وحبه لخير البشرية وعيشته الطاهرة وحياته الرزينه ووسائله النزيهة لتحقيق أهدافه السامية. وكذا تشهد بمشهوديته السماء والأرض اللتان تسمعان كل يوم خمس مرات النداء الملكي لعبوديته ورسالته (ص). 48 - إنه رءوف ورحيم، وهذان الاسمان من أسماء الله الحسنى، وقد ورد في وصف النبي (ص) في كلامه تعالى بالاسمين فقال تعالى: {بالمؤمنين رءوف رحيم} (التوبة: 128). وربما للإيجاز يكفي هذا السند. 49 - إنه مذكر، يتقدم في ظلمة الليل حيث لا يجترئ الركب على التقدم، ويذكر المضطجعين على بسط الرمال والحجارة فيرددون بقلوبهم وألسنتهم الاسم المبارك الذي ذكروا به. إنه يذهب إلى مجالس المعارضين وإلى الأسواق السنوية والأعياد البهيجة فيذكر الناس بقوله: ((يأيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) (¬1). ويذهب إلى الجبال ويرمى بالحجارة ويستمر في تبليغ الغافلين ذكر اسم الله عز وجل. وكذلك يظل يذكر الناس رغم حصارهم له وإصابتهم له في عضده ورأسه وأسنانه بجروح دامية. إنه ملازم فراشه لا تفارقه الحمى لحظة، وفي رأسه صدع وفي جسمه ضعف، ومع ذلك كله يواصل التذكير، ويفكر في مستقبل الأمة فيذكر بوصاياه ونصائحه، وذكر باسم الله، فهو مذكر، وبه ينتهي التذكير. ¬

(¬1) البخاري 6316، ومسلم 1/ 528.

50 - إنه مبارك، ولفظ البركة مشتق من ((برك البعير)) أي جلس يتمكن، هذا هو المعنى اللغوي لهذا اللفظ. ويتضمن لفظ ((البركة)) معنى الاستقرار والدوام، إنه مبارك فالدين الذي بلغ باق إلى الأبد، وشريعته بعيدة عن النسخ، وهو هادي الجميع إلى يوم القيامة. والإسلام استقر حيث وصل، وجميع البلاد بلاده، وكل موطن في العالم موطنه. وقد أورد حسان بن ثابت هذا الاسم في شعره فقال: صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد وقال سيدنا عباس بن مرداس- وكان نصرانيا - في قصيدته التي مدح بها النبي (ص). ووجهت وجهي نحو مكة قاصدا ... وبايعت بين الأخشبين المباركا 51 - إنه مهاجر، والقرآن الكريم مملوء بمدائح الأنصار والمهاجرين وفضائلهم وللمهاجرين فضل خاص على الأنصار فالمهاجرون هم الذين أتموا إقامة النبي (ص) فقد تركوا بيوتهم وأهلهم ووطنهم وديارهم، لكنهم لم يتركوا معية النبي (ص)، وهجرة المهاجرين قبلت عند الله تعالى بهجرة النبي (ص). وهو (ص) مهاجر مثل إبراهيم ولوط وإسماعيل وموسى وهارون عليهم السلام فقد كانوا جميعا مهاجرين. 52 - إنه هاد، وللهداية معنيان: الأول: إلقاء الهداية في القلب، كما ورد في قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص: 56). والثاني: الدعوة إلى الإيمان واليقين وتدعيم هذه الدعوة بالدلائل والبراهين الروحية أو العقلية وبالأفعال الحميدة والأقوال الحكيمة، وأداء الفريضة دون غرض وطمع وبكل أمانة ونصح. ويتم هذا المعنى بذات النبي (ص) كما ورد في القرآن: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى: 52). وكان النبي (ص) قد جمع جميع طرق الهداية والدعوة إلى الحق، فكانت طلاقة وجهه (ص) ودماثة خلقه تنسي الأعداء عداوتهم، كما جعل وضوح بيانه وعذوبة لسانه، كلامه يصل إلى أعماق القلوب. ولم يسلك النبي (ص) في إيراد الأدلة والبراهين مسلك أهل المنطق والفلسفة، ولم

يركن إلى أساليبهم المعقدة وألفاظهم المغلقة ومذاهبهم الجدلية، بل اختار (ص) أدلة الآفاق والأنفس، وعرض أمام الإنسان فطرته حتى يحتكم إليها، وجعل بيئته دليلا يهتدى به. وكان الله تعالى قد كشف لنبيه (ص) قوانين الفطرة التي فطر الناس عليها، ولذا كانت أدلته (ص) تخاطب الطبيعة البشرية وتوقظها وتوجهها. ثم كان أسوة كاملة للجنس البشري، فكانت أفعاله تصدق أقواله، وهذا التوافق بين الظاهر والباطن والأفعال والأقوال قد جعل النبي (ص) هاديا صادقا للبشرية. وقد ورد في قصيدة ضرار بن الخطاب الفهري التي أنشدها أمام النبي (ص) يوم فتح مكة: يا نبي الهدى إليك لحاجي ... قريش ولدت حين بحاء وقال النابغة الجعدي: أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى ... ويتلو كتابا كالمجرة نيرا 53 - إنه ياسن وسيد، سيد الناس وسيد البشر، وقد ثبت صدقه وأمانته للجميع، سواء أقروا بذلك أم لا. وقد أرسل في القرون الماضية ثلاثة أنبياء إلى بعض الأمم، واحد بعد الآخر، ونجحوا في إدخال نسمة طيبة واحدة فقط في الجنة. ولكن هذا السيد وحده نجح في إخراج المئات والألوف من الظلمات إلى النور. إنه لم يخرج من الجزيرة العربية قط، ولكن دعوته سيطرت على جميع قارات العالم. فهو نور للعمى، وضياء للمبصرين، ومزيل لحجب القلوب، وموصل نداء الحق إلى الآذان الصماء، وقاض على التنافر بين بني إسرائيل وبني إسماعيل، ومؤلف بين العرب والعجم، وسيد الأحرار ومولى العبيد. إن دولة بني أمية وبني العباس والفاطميين والأخشيديين والمغول والأتراك والأفارقة والمغاربة والجزائريين والحجازيين لم تكن الواحدة منها ترى لنفسها مثيلا، وتنكر كل منها أبهة الأخرى وعظمتها، ولكنها جميعا كانت تعتز باتباع النبي (ص)، وترى أن موضع شبر عند عتبته (ص) خير من عرش الملك، فالحق أنه (ص) سيد وسيد الكون. 54 - إنه خاتم النبيين، فقد ورد في القرآن: {ولكن رسول الله وخاتم النبيين} (الأحزاب: 40). إن هذه الآية تحتوي على قوة كهربائية عظيمة، ولها سيطرة بديعة على الطبائع

البشرية. فقبل نزولها آمنت بنو إسرائيل بألوف الأنبياء والرسل، وآمنت الهند بألوف الآلهة، وأعلنت الصين وإيران نزول الملائكة وأنوارهم على الألوف ولكنهم جميعا سكتوا بعد نزول هذه الآية، وتلاشى تصور النبوة والادعاء بها من أذهان الأمم وقلوبها في جميع البلدان، وقد أقفل الجميع أبواب النبوة في دارهم، وصرحت كل ديانة بصحة معنى الآية واعترفعت لذلك بعملها. فهذا هو النصر الرباني والكلام الإلهي، نزل فاعترف الجميع به وصدقوه بعملهم. قال العباس بن مرداس (¬1): يا خاتم النبأ إنك مرسل ... بالحق كل هدى السبيل هداكا وهنا أختم هذا البحث الموجز عن أعداد اسم أحمد المبارك (54) وفي فرصة أخرى أزيده إلى أعداد محمد (92) إن شاء الله، وهناك أفصل الكلام في شرح المعاني ولطائفها مع الاعتراف بتعذر الإحاطة بها واستقصائها. ¬

(¬1) تاريخ دمشق (ص 248) ترجمة العباس بن مرداس.

الفصل السادس

الفصل السادس السنة النبوية والطريقة المحمدية أورد القاضي عياض في كتاب ((الشفا)) (¬1) الحديث الآتي عن علي رضي الله عنه، وفيه تتضح محاسن أخلاق النبي (ص) ومكارم عاداته، ومنزلة القاضي عياض في الحديث تتضح من خلال كتابه ((الإكمال)) في شرح صحيح مسلم وكتابه ((مشارق الأنوار))، وعنايته ببيان فضائل النبي (ص) وشيمه وخصائله تتضح بكتابه ((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)) وأمانته في الدين وثقته تكفي لتوثيق الحديث، ومع ذلك تصدق الروايات العديدة الأخرى من خلال الكلمات الواردة في هذا الحديث. وقد ظفرت عند شرح الحديث بكتاب العلامة أبي عبد الله محمد بن بكر بن أيوب ابن سعد الزرعي الدمشقي الفقيه الحنبلي المفسر الأصولي المعروف بابن قيم الجوزية، وهو ((مدارج السالكين)) في شرح منازل السائرين للعلامة الحافظ عبد الله بن محمد بن علي الصوفي الهروي. فقد استفدت من الكتابين في هذا الشرح، جزاهما الله عنا خير الجزاء. وفيما يلي متن الحديث: عن علي رضي الله عنه قال: سألت رسول الله (ص) عن سنته فقال: ((المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والعجز فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عيني في الصلاة)). 1 - المعرفة رأس مالي: رأس المال هو المال الذي لا يمكن بدونه البدء بالتجارة، فبه يبدأ التاجر تجارته. والحديث المذكور وصف المعرفة برأس المال. ¬

(¬1) الشفا 1/ 80.

والمعرفة في اللغة هي العرفان والعلم، وفي اصطلاح العرفاء تطلق على الهداية والنهاية أيضا. وبداية المعرفة تكون بمعرفة النفس الإنسانية لذاتيتها، فالسعيد من يبدأ بالشعور بمعرفة عيوبه. ورد في القرآن الكريم وفي الإنجيل عن سيدنا آدم أنه عرف بعد الإدراك فورا أنه عار ثم جمع أوراق الشجر فتستر بها. وكان هذا هو الدرس الأول من أبينا آدم يعلمنا أن الإنسان حينما يرى عيبا أو نقصا فعليه أن يسارع بإزالته. وهناك كلمتان تأتيان في اللغة والشرع للدلالة على معنى العرفان، وهما: المعرفة والعلم. والعلم أعلى منزلة من المعرفة عند العلماء، وعند المتصوفين المعرفة أعلى من العلم. يقول الله تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} (المائدة: 83). وقال تعالى: {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم} (يونس: 45). وقال تعالى: {وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم} (يوسف: 58). وقال تعالى: {الذين آتيهناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} (البقرة: 146). وفي هذه الآيات الأربع استعمل لفظ المعرفة، وفاعلها إنسان. وورد لفظ العلم في الآيات التالية: قال تعالى: {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} (هود: 14). وقال تعالى: {أنزله بعلمه} (النساء: 166). وقال تعالى: {قل رب زدني علما} (طه: 114). فالعلم نسب في هذه الآيات إلى ذات رب العالمين. والفرق بين المعرفة والعلم باعتبار المعنى أن المعرفة تطلق على علم ذات الشيء، والعلم يطلق على معرفة أحواله

الداخلية. ولذا يمكن وصف المعرفة بالتصور ووصف العلم بالتصديق. وإطلاق رأس المال على المعرفة في الحديث إشارة إلى السلوك في بدايته حينما تبدأ معرفة الإنسان لكونه عبدا ولكون رب العالمين مالكا. وهذه المعرفة مع الشعور تصبح هاديا للإنسان. وقد فصل أهل التصوف الكلام على أمارة المعرفة وشواهدها يقول شبلي: ليس لعارف علاقة، ولا لمحب شكوى، ولا لعبد دعوى (¬1). وسئل الجنيد عن العارف فقال: لون الماء لون إنائه (¬2). ومعنى هذا القول أن ألوان العبودية تعتور على العبد، فحينا يصبر على ابتلاء الرب تعالى، وحينا يشكر له على نعمائه، وقد يهتز قلبه ببشارة الوعود الصادقة، وقد يتضرع ويخشى بوعيد الله جل جلاله. يقول ذو النون: علامة العارف ثلاث: 1 - يغلب نور الورع نور المعرفة. 2 - لا تعارض عقيدة الباطن حالة الظاهر. 3 - لا يتردى في محارم الله بكثرة النعم الإلهية (¬3). والحقيقة أن المعرفة تورث الهيبة التي فيها الأنس والانشراح. جاء في الحديث الصحيح: ((أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية)) (¬4). فالمعرفة نور يودع قلب المؤمن حتى يفهم الصفات ويستخدم الشواهد والبراهين. والعارف يؤمن بالصفات ويراها فوق التشبيه، وينفي التشبيه ويجتنب التعطيل، ولا يفرق بين الذات والصفات، ثم يستغني عن جميع الوسائل والوسائط والبراهين ¬

(¬1) مدارج السالكين 3/ 338. (¬2) نفس المصدر 342/ 3. (¬3) مدارج السالكين 338/ 3. (¬4) نفس المصدر 342/ 3.

2 - العقل أصل ديني

والشواهد، ويفوض قلبه وروحه إلى إنعام مالكه، وهنا يحصل له من المعرفة ما يناسبه. ويشير إلى هذا السر قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم} (الفاتحة: 7). 2 - العقل أصل ديني: يعتقد النصارى أن العقل لا يتدخل في الدين، وكانوا يقولون عن عقيدة التثليث: إن أساسها فوق فهم البشر. ويقولون للتلاميذ حينما يعلمونهم التثليث: ابتلعوا هذه اللقمة سواء أحبتها قلوبكم أم لا. ولكن الإسلام لا يصدر مثل هذه الأحكام، وقد تجلى فضل العقل والعقلاء بآيات القرآن جليا: {كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون} (الروم: 28). {ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون} (العنكبوت: 35). وذم القرآن من خرج عن العقل: {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} (يونس: 100). وبين أن العلم والعقل متلازمان، وبامتزاجهما تظهر النتائج الصحيحة: {وما يعقلها إلا العالمون} (العنكبوت: 43). فمن يدرس أحكام الشريعة ويتأمل الحكم التي شرعت لأجلها يتأكد أن علاقة الأحكام الشرعية بالعقل وثيقة جدا. فقد ورد عن الصلاة: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} (العنكبوت: 45). وورد عن الصوم: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة: 183). وقال عن حكمة الزكاة: {لئن شكرتم لأزيدنكم} (إبراهيم: 7). وعن فوائد الحج قال: {يشهدوا منافع لهم} (الحج: 28).

3 - الحب أساسي

وقال عن أثر القصاص في الجاني: {ليذوق وبال أمره} (المائدة: 95). وقال عن نفعه لصاحبه: {ولكم في القصاص حياة} (البقرة: 179). وكذلك وصف العقل في موضع بالفطرة الإنسانية، والعقل يدرك تفوق البرهان ولذا قيل للمعارضين: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادين} (النمل: 64). والعقل يعارض الجبر والإكراه، ولذا صرح القرآن بقوله: {لا إكراه في الدين} (البقرة: 256). وتوضح هذه الشواهد أن شجرة الإسلام الطيبة غرست في أرض العقل وتم إرواؤها بماء العلم. وقول النبي (ص): ((العقل أصل ديني)) دليل على أن الدين من الله تعالى: {وما يذكر إلا أولوا الأباب} (البقرة: 269). وقد نرى في شباب الإسلام أنهم يريدون بالعقل عقلهم وفهمهم، وهذا دليل على جهلهم. فالذين يعجزون عن فهم قوانين الحكومة، والمخترعات الإنسانية كيف يسوغ لهم أن لا يعترفوا بعقل فوق عقلهم، وأن يروا فهمهم أعلى من فهم صاحب الشريعة؟ 3 - الحب أساسي: يكثر في الغزل والتشبيب، استعمال لفظ العشق، ولكن لم يرد هذا اللفظ ومشتقاته في القرآن والسنة. وهذا يدل على ابتذاله وسقوطه وبعده من معنى الحب. جاء في القاموس: الجنون فنون والعشق من فنه. ولذا ينبغي النظر في لفظ الحب وقد ورد استعمال هذا اللفظ على خمسة أوجه في لغة العرب: 1 - حبب الأسنان، أي صفت وجلت.

2 - حبب الماء، أي صفا وطاب، وعلى هذا المعنى يقال لما ارتفع وصفا من الماء حباب. 3 - حب البعير، أي وضع ركبته. ولوحظ في هذا الاستعمال معنى اللزوم والثبوت. 4 - حب، أي أصل الشيء وجذره، ومن هنا جاءت تسمية السويداء حبة القلب. ويجمع الحب على الحبوب. 5 - حب الماء، أي البركة التي تجمع فيها الماء. وقد لوحظ هنا معنى الحفظ والرعاية. وانظروا الآن إلى هذه المعاني لأصل المادة، ثم لاحظوا أن الحب إذا ورد اسما ورد بضم الحاء، والضمة أقوى الحركات. والقصد من ذلك أن يوجد في الحب وصف الصفاء والبهاء والعلو والارتقاء واللزوم والثبات، ويجعل الحب أصلا لجميع الفضائل، ويعتبر الحفاظ عليه والتمسك به متاع الحياة الإنسانية، إذ يتضمن الحب جميع هذه الأوصاف ويحتوي عليها. قال الله تعالى في كتابه عن إثبات الحب: {يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} (البقرة: 165). وقال تعالى عن حبه لعباده وعن حبهم له، أي عن ثبوت الأمرين: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} (المائدة: 54). وقد ورد بيان هذا الأمر بوضوح في الأحاديث الشريفة أيضا: 1 - ((إن أحب الأعمال إلى الله الإيمان بالله ثم الجهاد)) (¬1). 2 - ((أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه)) (¬2). 3 - ((إن الله يحب أن يؤخذ برخصه)) (¬3). 4 - ((أحب الأعمال إلى الله الصلاة على أول وقتها)) (¬4). ¬

(¬1) البخاري 5/ 148، ومسلم 89/ 1. (¬2) البخاري 294/ 11، ومسلم 811/ 2. (¬3) مسند أحمد 108/ 2، ابن حبان 545، 914 الموارد، ابن خزيمة 2027. (¬4) البخاري 9/ 2؛ 3/ 6، ومسلم 89/ 1 وأبوداود 94/ 2.

والأحاديث السابقة تناولت ذكر حب الله لأعمال عباده، والآية التالية تصرح بحب العباد لذاته تبارك وتعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره} (التوبة: 24). أثبت في هذه الآية حب الإنسان للأشياء المذكورة فيها، كما ذكر بأن هذا الحب طبيعي قد فطر عليه الإنسان. وتخبر الآية بعد ذلك أن حب الله ورسوله إن كان غالبا على حب ما ذكر قبلا فهذا هو الصواب المطلوب، ولكن الأمر يصعب إن حدث العكس، والله تعالى يأتي بأمره فيه. وقد كشف القرآن الكريم في الحكم السابق سر المدنية والتبتل، وأقام الطريق الوسط بين الإفراط والتفريط بعد ترك الترهب. وحقيقة حب الله تعالى تكشف بكلمة واحدة هي العبودية، فهي منبع محاسن الأعمال كلها، فبالحب تنشأ صفة الإنابة إلى الله، وهو معدن الخوف والرجاء، والحب ينزل الإنسان في موضع الرضا حينا، وموضع الشكر حينا آخر. والصبر: هو الصبر الذي ينشأ على الحب، وإلا فهو العجز. والزهد: هو الزهد الذي ينشأ عن الحب، وإلا فهو عدم القدرة على الحصول على ما يريده المرء. والحياء: هو الحياء الذي تولد بالحب، ونما في جو الأدب والتعظيم، وإلا فهو خجل الطبع. والفقر: هو الفقر الذي يكون نحو الحبيب، فيتجذب القلب بجميع قوته إلى جود الحبيب ونواله، وإلا فهو ضيق ذات اليد. والحاصل أن الحب هو قوة القلوب، وغناء الأرواح، وقرة العيون، وحياة الأبدان، وحياة القلوب، ونجاح الحياة. وهو الذي يجعل الفوز دائما ومستمرا، ويضع الدوام فوق عرش الرفعة.

والآن نذكر مدارج الحب: 1 - تبدأ المحبة بالعلاقة، أي علاقة القلب التي تنشأ بشكل ما. 2 - والإرادة تقوي هذه العلاقة. 3 - ثم ينشأ الميل، فينجذب المحب إلى الحبيب، كما ينجذب الماء من تلقاء نفسه إلى المكان المنحدر. 4 - ثم تنشأ الحرقة فيظل القلب محترقا دائما. 5 - ثم يتدرج الحب فيعرف القلب صفة الوداد. 6 - ثم يترقى فيسيطر على شغاف القلب ويصل أثر المحبة إلى أعماق القلب. فتهون المصائب وتخف الموانع فتقضى الأيام والليالي في اتخاذ وسائل القرب وإصلاح سبل الوصل، وتنقطع الأفكار إلا فكر المحبوب، ويسود تصوره الجسم فيحكم حبه القلب. 7 - ثم تأتي حالة العشق، وهذا اللفظ مشتق من العشقة وهو نبات متسلق أصفر يلتوي على الشجر فيصيبه بالاصفرار والهزال وهكذا تصير حالة من أصيب بهذا المرض. 8 - ثم تأتي منزلة التيم بمعنى التعبد والتذلل، وفي هذه الحالة يصير الإنسان عبدا لآرائه وأفكاره، ولا يمكنه التخلص منها. 9 - وأعلى المنازل العبودية، وهنا يتخلى المحب عن كل ادعاء، ولا يبقى شيء في العالم ملكا له، لا جسمه ولا قلبه ولا روحه ولا أمنيته ولا مراده، وهو نفسه يترك هذه الأشياء كلها، ويكتفي بكون الله معبودا بكل سرور ثم يقتنع بذلك بل يشكر الله على أنه استحق الوصف بالعبودية. 10 - وأرفع مما سبق منزلة الخلة، وهنا يظهر الهدف الأسمى للمحب في كل شعرة من الجسم وفي كل نبضة من نبضاته وفي كل دقة من دقات قلبه، وتنعدم العواطف والأماني، ويكون رضا الحبيب الواحد غاية وقصدا للقلب والفكر والروح، بحيث لا يكون الهدف هو الحب بل المحبوب والمطلوب لا يكون إلا مطلوب المحبوب. والفهم البشري لا يستطيع الوصول في الأغلب إلى هذه الكيفية، وقد وصل إلى هذه المنزلة سيدنا إبراهيم عليه السلام وسيدنا محمد (ص). وفي الصلاة في التحيات ورد هذان الاسمان كمعشبه ومشبه به، وأحدهما قدم على الآخر، والآخر يفضل بالإتمام:

((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)). وينبغي أن نذكر هنا الأسباب التي تجلب المحبة، حتى ينالها من يريد من السعداء. فأسباب بقاء المحبة الإلهية ورقيها هي: 1 - قراءة القرآن الكريم، ويدخل فيها تدبر المعاني وفهم المراد الإلهي. 2 - المواظبة على النوافل والإكثار منها بعد المحافظة على الفرائض. 3 - دوام الذكر، ويراد به ذكر اللسان والقلب كليهما، وكذلك يدخل في ذلك الذكر بالمال وبالعمل. 4 - مطالعة أسماء الله وصفاته ومشاهدتها بالقلب. 5 - تذكر نعم الله تعالى الظاهرة والباطنة، ونعمه المادية والروحية. 6 - وقوف القلب بكمال الأدب والحضور التام في مقامات العبادة. 7 - انكسار القلب التام في اتجاه الحضور. 8 - إشار الحكم الرباني على الأهواء. 9 - مجالسة المحبين الصادقين. 10 - النفور من الأسباب التي تؤدي إلى ابتعاد العبد عن ربه. وبالمواظبة على هذه الأمور يرجى أن ينفجر منبع الحب الكائن في قلب الإنسان الذي كان قد انغلق بالعلائق، فتروى بساتين الأماني: ((اللهم ارزق حبك وحب منيقربتيإلى حبك)) (¬1). وعلى قارئ الكتاب أن يعيد النظر إلى قول النبي (ص): ((والحب أساسي)) مرة أخرى، حتى يعرف كيف يكون البناء الذي تأسس على الحب وكيف يكون ساكنه؟. وهذا هو الدرس الذي ينبغي أن يتذكره كل دارس للسيرة النبوية. ¬

(¬1) الترمذي 5/ 522، وأبو نعيم 226/ 1 نحوه.

4 - والشوق مركبي

4 - والشوق مركبي: لم يرد لفظ الشوق في القرآن الكريم واستعمل مكانه لفظ اللقاء. ولعل السبب في ذلك تساؤل علماء الأدب عن الشوق هل يبقى بعد حصول الرؤية أم لا؟ يرى البعض: أن الشوق يطلق على السفر الذي يأخذ المحب إلى الحبيب، فإذا وصل المحب إلى الهدف المنشود فلابد أن ينتهي السفر من تلقاء نفسه. إلا أن هذا اللفظ ورد في الحديث الشريف، كما رأينا في الحديث الذي نحن بصدده، وكذلك في حديث صحيح آخر: ((أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك)) (¬1). وجعل الشوق في الحديث الذي نشرحه مركبا، وهذا يعني أن الشوق أثر من آثار الحب، ودرجته أقل من الحب لأن الشوق متولد عنه. فالشوق جذوة تدفئ القلب، وشرارة تنبعث من القلب. والشوق يجعل الأعضاء والجوارح تنقاد للأعمال وتداوم عليها، وهو الذي يجعل نعم الآخرة أكثر قربا من نعم الدنيا، ويحمل العجزة على السعي المتواصل، وهو الذي يسبر أعماق المغارات، ويرتقي إلى قمم الجبال. وهو الذي ينور طريق الحب الصادق، ولا يترك سالك طريق الحب يستريح قبل الوصول إلى الغاية. وينبغي أن نتذكر أن مقدار الشوق مبني على مقدار الحب، فيستحيل أن يكثر الحب ويقل الشوق، أو يقل الحب ويكثر الشوق. فالحق أن السالك ليس له مركب فوق الشوق. والشوق هو المركب الذي يعبر العقبات، ويجتاز جسر الاختبار الصعب بسهولة ونجاح ثم يصل إلى جنة اللقاء، فطوبى للمشتاقين، وطوبى للمحبين. 5 - ذكر الله أنسي: يقول الإمام ابن القيم: (¬2). منزلة الذكر هي منزلة القوم الكبرى التي منها يتزودون، والذكر منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم، الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، ومأواهم الذي ¬

(¬1) منسد أحمد 5/ 191، والنسائي 3/ 55. (¬2) مدارج السالكين 423/ 2.

يطفئون به التهاب الطريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب: فإذا مرضنا تداوينا بذكركم ... فنترك الذكر أحيانا فننتكس إن القرآن الكريم تناول الذكر على عشرة أوجه: 1 - أمر بالذكر أمرا مطلقا مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} (الأحزاب: 41). وأمرا مقيدا كما في قوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة} (الأعراف: 205). وقوله: {وسبحوه بكرة وأصيلا} (الأحزاب: 42). 2 - نهى عن نسيان الذكر مثل قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} (الحشر: 19). 3 - علق الفلاح والنجاة على كثرة الذكر، مثل قوله تعالى: {واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} (الجميعة: 10). 4 - أثنى على أهل الذكر مثل قوله تعالى: {والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما} (الأحزاب: 35). 5 - أعلن عن خسران الغافلين عن الذكر، مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} (النافقون: 9). 6 - بين أن الذكر أفضل وأعلى من جميع الأعمال، مثل قوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} (العنكبوت: 45). 7 - يتضح بتدبر القرآن أن جميع الأعمال الصالحة تختتم بالذكر، كقوله تعالى في الأمر بالصلاة: {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} (النساء: 103). وقوله تعالى في الأمر بما يجب عمله بعد قضاء صلاة الجمعة:

{فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} (الجمعة: 10). وقوله بعد الأمر بالصيام: {ولتكبروا الله على ما هداكم} (البقرة: 185). وقوله بعد الأمر بالحج: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله} (البقرة: 200). ولو كانت نهاية الحياة بالذكر لتحقق للذاكر الوعد بدخول الجنة كما ورد في الحديث النبوي: ((أدخله الله الجنة)) (¬1). 8 - وصف الذاكرون بالعقل والفهم، مثل قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (*) الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} (آل عمران 190 - 191). 9 - ذكر الله موجود مع جميع الأعمال الصالحة، وبهذا يعلم أن الذكر هو روح الأعمال، فقد ورد عن الصلاة: {أقم الصلاة لذكري} (طه: 14). وقد ورد في الحديث ذكر عدة أعمال ثم بين أنها شرعت لذكر الله، كما في قوله (ص) ((وإنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)) (¬2). وقد ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة تسمية أهل الذكر بالمفردين، أي أهل التفريد والتوحيد (¬3). وأخرج الإمام أحمد في المسند عن أبي الدرداء أن النبي (ص) قال: ¬

(¬1) أبو داود 8/ 385. (¬2) أبو داود 5/ 341 رقم 1871. (¬3) مسلم 2062/ 4 رقم 2676.

((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخيرتكم من إنفاق الذهب والفضة وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربون أعناقكم؟)) قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: ((ذكر الله عز وجل)) (¬1). وجاء في صحيح مسلم أن النبي (ص) قال: ((لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله في من عنده} (¬2). وأخرج أيضا عن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: الله ما أجلسكم إذا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك قال: إن رسول الله (ص) خرج على حلقة من أصحابه فسألهم واستحلفهم كما فعلت ثم قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة)) (¬3). سأل أعرابي النبي (ص): أي الأعمال أفضل؟ فقال (ص): ((أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله)) (¬4). وقال رجل: أحكام الإسلام كثيرة فدلني على شيء واحد، فقال: ((لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله)) (¬5). وروى في المسند (¬6) وغيره عن جابر أن النبي (ص) جاء فقال: ((أيها الناس! ارتعوا في رياض الجنة.)) قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: ((مجالس الذكر (¬7)، اغدوا وروحوا واذكروا من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة ¬

(¬1) مسند أحمد 5/ 195. (¬2) مسلم 4/ 2074. (¬3) مسلم 4/ 2075. (¬4) حلية الأولياء 6/ 112. (¬5) الترمذي 5/ 485. (¬6) عن أنس في مسند أحمد 3/ 150. (¬7) الترمذي 5/ 510.

الله عنده، فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه)). وقد ورد في الترمذي والمسند وغيره أن النبي (ص) روى عن أبيه إبراهيم أنه قال: ((اقرأ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) (¬1). وقد ورد في الصحيحين عن أبي موسى أن النبي (ص) قال: مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت)) (¬2). وفي الصحيح أن النبي (ص) قال فيما يرويه عن ربه: ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)). وليعلم أن للذكر ثلاث طرق: أن يذكر اللسان وحده، وهذا أدنى درجة. أن يذكر القلب وحده، وهذا هو الدرجة الوسطى. أن يذكر اللسان والقلب معا، وهذا هو أعلى درجة. وليعلم أن أقسام الذكر أيضا ثلاثة: ذكر أسماء الله وصفاته ومعانيها، أي الثناء على الرب وتوحيد الله. والأمر والنهي، أي ذكر الحلال والحرام. وبيان إنعام الله وإكرامه وإحسانه وعطائه. وكذلك مراتب الذكر أيضا ثلاث: الذكر الذي يقضي على الغفلة والنسيان. والذكر الذي يخلص من القيود ويؤدي إلى بقاء الشهود. والذكر الذي ينسي الإنسان ذكر نفسه ويربطه بذكر الحق. فطوبى لإنسان استهواه ذكر ربه. وطوبى لمؤمن تعلم درس فناء العالم ببقاء رب العالم. ¬

(¬1) البخاري 11/ 208 رقم 6407، وفي مسلم 539 ((مثل البيت)). (¬2) البخاري (384/ 13 رقمه 7405)، ومسلم (2061/ 4).

6 - الثقة كنزي

6 - الثقة كنزي: والأصل في ذلك واقعة أم موسى، يقول الله تعالى: {فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني} (القصص: 7). فالظاهر أن تلك المرأة المؤمنة لو لم تثق بوعد الله تعالى ثقة تامة لم تلق وليدها في النهر بيدها. ولذا ينبغي أن نفهم أن الثقة إنسان عين التوكل، ومركز دائرة التفويض، وسويداء القلب السليم. وتتحقق هذه الثقة وقت اليأس، فيعتمد الإنسان على ربه عند المصائب، فلا ينطق بحرف ضده ولا تخطر على باله وسوسة. وتتحقق الثقة وقت الرجاء فتنكشف للإنسان حقيقة الربوبية السابقة لله تعالى، كما تنكشف للإنسان أيضا حقيقة عدم استحقاقه. وليعلم أن مثل هذه الثقة تتحقق بفتح عين البصيرة على جميع نظام العالم بأكمله، حينما يشاهد الإنسان أن كل ذرة من الجماد وكل ورقة من النبات وكل جزء من الأرض والسماء متمتع في جوهر وجوده بإنعامه تعالى وغمور بإحسانه. 7 - والحزن رفيقي: إن الخوف والخشية مرادفان للحزن في الأردية، ولكنها متباينة المعنى في العربية، فالخوف يطلق في الأغلب على الأشياء الحية، والخشية يكثر استعمالها في الأشياء غير الحسية. والحزن هو هم القلب الذي يزخر في القلب لخير الغير وفلاحه، وإن لم ينطق به اللسان. وقد كثر استعمال الحزن في كتاب الله في شأن الأنبياء والأصفياء. قال الله تعالى في النبي (ص): {فلا يحزك قولهم} (يس: 76). وذلك أن النبي (ص) كان كثير الرأفة والعطف على الناس، فكان يحزن على العصاة إذا فكر في عواقبهم، ولذا أرشده الله تعالى إلى عدم الحزن عليهم. وقد ورد في القرآن الكريم قول النبي (ص) لرفيقه في الغار أبي بكر {لا تحزن إن الله معنا) (التوبة: 40) وذلك حينما رأى أن قلبه مهموم متقطع خوفا على النبي (ص). والحكمة في هذا القول هي قصد تفضيل معية الله التي شملت النبي (ص)

8 - والعلم سلاحي

والصديق، وهذا الحزن أفضل وأسمى من الحزن الذي جعله العشق حزنا مخيفا على سلامة الحبيب. وليعلم أن المعية التي تكمل يتضمنها الاسم الأعظم ((الله)) أعلى كثيرا من ظلال جميع الأسماء الحسنى، وتكمل كمالات العارف بالسير في اسم ذات جميع الأسماء ورفعتها، وتسقط أسباب الكون وعلله كلها تتلاشى. وقد كان الوحي الذي جاء إلى أم موسى هو: {ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} (القصص: 7). تأملوا الآية، إنها تضمنت شارة ضد الخوف الحسي، وبشارة ضد الخوف المعنوي. فالأولى أن الطفل الذي تلقيه في اليم يرده الله تعالى إليها، والثانية أن الطفل يكرم بنعمة النبوة التي لا تدرك بالحواس. وبعد تدبر هذه الآيات يتضح معنى الحديث المذكور في العنوان، وهو أن الحزن الذي كان يلازم قلب النبي (ص) يتعلق بمغفرة الآثمين من الأمة أو هدايتهم. كان قلبه (ص) مفعما بحب خلق الله والتعاطف مع عامة الناس والعطف عليهم وكان يفكر في نجاة كل فرد من أفراد الأمة كالراعي الذي يحمل هم كل رأس من غنمه، وهو يعلم أنه لو تخلفت واحدة منها عن القطيع لصارت فريسة للذئاب، ومن هنا يتبع كل غنمه ينقذها من مهاوي الهلاك. ولم يفارق هذا الحزن قلبه (ص)، فربما كان يقضي الليل كله داعيا لأمته، وقد وقع أن قضى (ص) ليلته كلها يردد الآية الكريمة: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة: 118). 8 - والعلم سلاحي: اعلم أن أهل الزهد والتقوى من المتأخرين جعلوا منزلة العلم أقل من منزلة الحال، ولكن الأمر على العكس من هذا. فالعلم حاكم والحال محكوم، والعلم هاد والحال تابع، والعلم إمام والحال مأموم، والعلم وسع الدنيا والآخرة، والحال منحصر في صاحبه، والحال كالسيف القاطع يقطع صاحبه إذا لم يحفظه العلم، والحال كالنار التي لا يسيطر عليها أحد، وهو فرس جامح يقع مع صاحبه في الهلاك إذا لم يلجم بالعلم.

ولكن العلم حياة القلوب ونور البصائر وشفاء الصدور، ورياض العقول، ولذة الأرواح ومؤنس المتوحشين. والعلم هو الميزان الذي توزن به الأقوال والأحوال والأعمال، وهو الحاكم الذي يحكم بين الشك واليقين والضلال والرشد، وبه تحصل معرفة الله تعالى وتحميده وتمجيده وتوحيده. وبه يفرق بين الحلال والحرام، وتظهر مدارج المواريث والأرحام. قال الإمام أحمد بن حنبل (¬1): الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب مرة أو مرتين في اليوم، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه. وفي البحث عن العلم اختار كليم الله موسى عليه السلام سفرا طويلا جعل من ثمرته ثلاث مسائل. والعلم هو ما أمر الله نبيه (ص) بطلبه والدعاء له فقال: {قل رب زدني علما} (طه: 114). انظروا إلى الكلب والصقر اللذين يربيان للصيد ويوصفان في العربية بالمعلم كيف يصلان بالعلم القليل إلى درجة أن صيدهما يكون حلالا وصيد غيرهما حرام. فهذا الكلب المعلم أو الصقر المعلم يستحق أن يشبه بالجارحة الإنسانية حين يبقى أبناء جنسه نجس العين فلماذا حصلا على هذه المنزلة لقد حصلا عليها بالعلم وحده لا لشيء غيره. وتذكروا أن العلم هو العلم الذي جعلت علامته الأولى إقامة الدليل وهويته الأخيرة رفع الجهل. وللعلم ثلاث درجات: 1 - العلم الذي يحصل بقوة البصر والسمع وبالخبرة المتواترة. 2 - والعلم الذي ينشأ في الأجسام الزكية والباطن الطاهر، ويحصل لأنفاسهم الصادقة لأهل الهمم العالية حينما يخيم السكوت في كل ناحية. ¬

(¬1) مدارج السالكين (2/ 470).

3 - العلم الذي يسمى بصفة عامة بالعلم اللدني، وهذا العلم ثمرة العبودية ونتاج اتباع الأحكام الحقة، حينما ترسخ مادة الانقياد التام وترقى رغبة الاستنارة بمشكاة النبوة تنفتح المعارف الإيمانية والحقائق الأصلية التي لا يصل إليها خيال أهل المنطق والفلسفة من عند الكريم الجواد المطلق. وهذا العلم دليل نفسه ومدلول غيره. ولابد هنا من وقفة لتنبيه المعارضين والمعترضين الذين يرددون القول بأن الإسلام نشر بقوة السيف. تأملوا كيف جعل النبي (ص) العلم سلاحه وجعل الفتوح العظيمة التي حصلت له ثمار العلم فالحقيقة أن مفخرة نبي الله (ص) ليست هي الاستيلاء على بنايات الجص والطوب والحجر والخنادق، فمثل هذه اللعبة قد عرضت أمام العالم كثيرا من جانب الاسكندر وتيمور وهولاكو وبونابرت إلا أن ما تفرد به نبي الله (ص) هو أنه كان يفتح حصون القلوب ويستولي على الطبائع. وقد شهد الناس يوم خيبر الجيش الإسلامي يفتح بعض حصون اليهود الذين أشعلوا نيران العداوة والحرب ضد المسلمين في طول البلاد وعرضها، وفد في تلك الأيام على النبي (ص) رؤساء بلاط ملك الحبشة ممن دخلوا في الإسلام، وفي تلك الأثناء أيضا جاء عدة مئات من المسلمين من اليمن، وقد أراد الله تعالى بذلك أن يرى اليهود بأم رؤسهم أنهم يعتمدون في عدائهم لله ولرسوله على حصون الطوب والحجر في تجبرهم واستكبارهم على النبي (ص)، بينما دخل علمه (ص) وراء البحر في الحبشة. ورفرفت رايته على قمم جبال اليمن، مع العلم بأن هذه البلاد لم تخضع قط للحجاز. والحبشة هي البلد التي فتح جنرالها أبرهة الأشرم اليمن، ثم خرج مع ستين ألفا من الجنود لفتح مكة وهدم الكعبة المشرفة، فألقى رحله على بعد أربعة أميال من مكة. ووقعت الواقعة التي ذكرها القرآن الكريم بواقعة أصحاب الفيل قبل مولد النبي (ص) بخمسين يوما فقط (¬1). وما أدرى هؤلاء المهاجمين أن مليكهم سوف يتمنى في يوم من الأيام الخضوع للنبي ¬

(¬1) ابن هشام 47/ 1.

9 - والصبر ردائي

(ص) ويسجد أهل بلادهم جميعا نحو هذه الكعبة عابدين لله تعالى. معشر المسلمين! لابد لفتح أمة أو قهرها بالسيف أن يكون لدى المهاجمين رجال عرفوا بقوة السيف والبطش، حتى يضطر الناس لترك دينهم خوفا منهم. وهنا نتساءل: كيف انقاد للنبي (ص) شجعان أقوياء مثل ضرار بن الأزد وشرحبيل بن حسنة وعدي بن حاتم وعكرمة بن أبي جهل ومقداد بن الأسود الكندي والمقدام بن معدي كرب وخالد بن الوليد والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم. وكيف استولى على سيوفهم راعي الغنم اليتيم الفقير والذي لا يملك سلاحا؟ لاشك أن الشجعان المذكورين لم يتركوا دينهم خوفا على أرواحهم ولم ينقادوا للنبي (ص) خوفا من السيف، وهكذا يتضح أن النبي (ص) كان يملك قوة تقهر الشجعان وتسخر الأبطال، ومن هنا لم يكن في حاجة إلى إعمال السيف ضد الثعالب والذئاب. والتفكر في هذا الأمر يدل بكل وضوح على أن قول النبي (ص) ((العلم سلاحي)) مظهر حقيقة لا ترد. والنجاح الذي حققه النبي (ص) كانت وسيلته العلم الذي منحه الله إياه. العلم الذي يبدد الظلمة ويخرج السائرين فيها إلى النور. العلم الذي ينور الأبصار ويبصر القلوب. العلم الذي ينطبق عليه قوله تعالى: {هذا بصائر للناس} (الجاثية: 20). 9 - والصبر ردائي: ورد لفظ ((الصبر)) في القرآن الكريم في تسعين موضعا، وقد أثنى الكتاب الحميد على الصبر بست عشرة طريقة نذكرها بإيجاز: أولا: أن الله تعالى أمر بالصبر فقال: {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا} (الأعراف: 128). {واستعينوا بالصبر والصلاة} (البقرة: 45). {اصبروا وصابروا} (آل عمران: 200). {واصبر وما صبرك إلا بالله} (النحل: 127).

ثانيا: أنه تعالى نهى عن ترك الصبر فقال: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم} (الأحقاف: 35). {فلا تولوهم الأدبار} (الأنفال: 15). {ولا تهنوا ولا تخزنوا} (آل عمران: 139). ثالثا: أنه تعالى مدح الصابرين فقال: {والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} (البقرة: 177). رابعا: أنه تعالى أثبت حبه للصابرين فقال: {والله يحب الصابرين} (آل عمران: 146). خامسا: أنه تعالى أثبت معيته للصابرين، كما في قوله تعالى: {إن الله مع الصابرين} (البقرة: 153). وليعلم أن هناك معية عامة، وتكون بالعلم والإحاطة، وهناك معية خاصة ينتج عنها الحفظ والنصرة والتأييد، هي المقصودة في الآية المذكورة: سادسا: أنه تعالى جعل الصبر خيرا لأهله فقال: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} (النحل: 126). {وأن تصبروا خير لكم} (النساء: 25). سابعا: أنه تعالى أعلن حسن الجزاء لأهل الصبر فقال: {ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل: 96). ثامنا: أنه تعالى أخبر أن أهل الصبر يعطون دون حساب. فقال: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} (الزمر: 10). تاسعا: أنه تعالى بشر أهل الصبر فقال: {وبشر الصابرين} (البقرة: 155). عاشرا: أنه تعالى ضمن لأهل الصبر النصرة فقال:

{بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} (آل عمران: 125). وورد في الحديث: ((واعلم أف النصر مع الصبرا) (¬1). حادي عشر: أنه أخبر أن أهل الصبر هم أهل العزم كما في قوله تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} (الشورى: 43). ثاني عشر: أنه تعالى بين أن أصحاب العمل الصالح. والحظوظ العظيمة هم أهل الصبر فقال: {ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون} (القصص: 80). {وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} (فصلت: 35). ثالث عشر: أنه تعالى بين أن أهل الصبر هم ينتفعون بآيات الله ويعتبرون فقال: {أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} (إبراهيم: 5). {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام (*) إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} (الشورى 32 - 33). رابع عشر: أنه تعالى أخبر أن الفوز بالمطلوب والمحبوب والنجاة من الخوف والدخول في الجنة إنما هو لأهل الصبر كما في قوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (*) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} (الرعد: 23، 24). خامس عشر: أنه تعالى أخبر أن أهل الصبر يحتلون منصب الإمامة كما في قوله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} (السجدة: 24). سادس عشر: أنه تعالى ذكر الصبر في القرآن الكريم مع الإسلام والإيمان واليقين والتقوى والتوكل والشكر، وبذلك تتضح منزلة الصبر عند الله تعالى. ¬

(¬1) مسند أحمد 307/ 1.

وبعد ذكر الأقسام الستة عشر نشير إلى أن الصبر للإيمان مثل الرأس للبدن، فأين الحياة إذا فقد الجسم الرأس، وهكذا إن لم يكن مع الإيمان صبر فأين الإيمان؟ وقال سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه: خير عيش أدركناه بالصبر (¬1). وفي الحديث الصحيح: ((عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا لمؤمن، إن أصابته سراء شكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) (¬2). ومعنى الصبر في اللغة الحبس، يقال: قتل فلان صبرا. وهذا هو معناه في الآية الكريمة: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه} (الكهف: 28). والمناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي أن في الصبر يحبس الإنسان قلبه عن البكاء، ولسانه عن الشكوى، وجوارحه عن الجزع. وهكذا نعلم أن الصبر يتقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: الصبر على طاعة الله. والثاني: الصبر عن معصية الله. والثالث: الصبر على ابتلاء الله. وفي الصنفين الأولين يد لكسب الإنسان، أما الصنف الثالث فليست فيه يد للكسب الإنساني. ويمكن أن نقول بعد التأمل في أحوال سيدنا يوسف عليه السلام أن الصبر على فراق الأب وعلى الإلقاء في البئر من مقامات الصبر أيضا، ولكن رفض طلب امرأة العزيز هو أعلى أقسام الصبر وبخاصة إذا ما نظرنا إلى الأمور الآتية: 1 - الشباب. 2 - المكان الخالي. 3 - التجرد. 4 - توفر مشتهى النفس. 5 - الغربة حيث لا أقارب ولا حياء منهم. ¬

(¬1) مدارج السالكين 2/ 155. (¬2) مسلم 4/ 2295 رقم 2999.

6 - المحكومية. 7 - دعوة امرأة جميلة. 8 - المكر والخداع بكل وسيلة مع الطلب المذكور. 9 - الإغراء والتملق. 10 - التهديد. فهذه هي الأمور التي يرفع وجودها منزلة يوسف الصديق كثيرا. قال ابن تيمية: إن منزلة الصبر على الطاعات أكمل وأفضل من الصبر عن اجتناب المحارم، فإن النبي (ص) كان يحب فعل الطاعة أكثر من ترك المعصية، وخسارة عدم الطاعة أفظع من خسارة وجود المعصية (¬1). ثم ينبغي أن يعلم أن للصبر ثلاث حالات: 1 - الصبر بالله. 2 - الصبر لله. 3 - الصبر مع الله. 1 - فمعنى الصبر بالله أن لا يكون الصبر لنفس الإنسان بل لله تعالى، كما في قوله تعالى: {واصبر وما صبرك إلا بالله} (النحل: 127). 2 - ومعنى الصبر لله أن يكون الدافع إلى الصبر هو حب الله وإرادة التقرب إليه، لا إظهار قوة النفس والرغبة في مدح الناس وثنائهم. 3 - ومعنى الصبر مع الله أن يجعل العبد نفسه مطيعة لأوامر الله تعالى ومحارمه فيسير حيث يؤمر بالسير، ويقف حيث يؤمر بالوقوف. وهذا هو صبر الصديقين وهو أصعب أقسام الصبر. وسئل جنيد البغدادي عن الصبر فقال: الصبر تجرع المرارة من غير تعبس (¬2). وقال يحي بن معاذ: إن صبر المحبين أصعب من صبر الزاهدين فإن الصبر عن الحبيب أعجب كما قيل: الصبر يسد في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يحمد (¬3). وقد أخرج إمام المحدثين البخاري في كتاب الآداب عن النبي (ص) أنه سئل عن ¬

(¬1) فتاوى ابن تيمية 10/ 575، 576. (¬2) مدارج السالكين 2/ 157. (¬3) أيضا 2/ 158.

10 - والرضا رغبتي

الإيمان فقال: ((الصبر والسماحة)). وينبغي أن نعلم هنا أن شرح العبد حالته أمام الله لا يدخل في عدم العجر، فقد حكى القرآن عن يعقوب عليه السلام: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} (يوسف: 86). ومن دعاء أيوب: {إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} (الأنبياء: 83). وقال الشاعر العربي: وإذا عرتك بلية فاصبر لها ... صبر الكريم فإنه بك أعلم وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم ويعلم قراء سيرة الرسول (ص) مدى ما قاساه النبي في تبليغ الأحكام الإلهية وتعليم المؤمنين ومن معاملة أهل الكفر وتدبير شئون أهل الدنيا وإعلاء كلمة الحق، وكيف تحمل رسول الله (ص) المصائب وصبر على الهموم والأحزان! .. فكان القذر يلقى حينا لدى بابه فكان هذا يؤذيه ويحزنه، وكانت الحفر تحفر حينا في طريقه وتغطى بالألواح الخشبية الرقيقة بعد أن تملأ بالأشواك، حتى يقع فيها (ص) حينما يخرج للصلاة ليلا، وكانوا يشدون عنقه بالرداء ويضعون بعر الإبل على ظهره وهو يصلي ويضحك الكفار عليه ويسخرون منه، كما كان يرمى بالحجارة ويمنع من قراءة القرآن. وقد مضى عليه (ص) زمن حبس فيه في شعب ومنع منه الأكل والماء، ولكن النبي (ص) صبر على ذلك صبرا أثنى عليه الله تعالى بقوله {وما صبرك إلا بالله} (النحل: 127). فالأجدر بمثل هذا الرسول أن يجعل الصبر لباس التجمل والعظمة والوقار فيقول: ((الصبر ردائي)). صلى الله تعالى على حبيبه بقدر صبره على بلائه وشكره على آلائه وبارك وسلم. 10 - والرضا رغبتي: من الواضح أن أقوال أئمة الزهد والتقوى عن الرضا ثلاثة: 1 - يقول أهل خراسان: إن الرضا أيضا اسم من أسماء المقامات، وهو منتهى التوكل، ويحصل للعبد بالاكتساب. 2 - ويقول أهل العراق: إن الرضا من جملة الأحوال، وليس من المكاسب بل من المواهب.

3 - والفريق الثالث حاول الجمع بين القولين فقال: إن الرضا في بدايته كسبي ومن جملة المقامات، وفي نهايته مجرد عطية ربانية ومن جملة الأحوال. ودليل الفريق الأول أن الله تعالى مدح أهل الرضا وأثنى عليهم ورغبهم فيه، فلو لم يكن هذا المقام كسبيا وكان خارجا عن مقدور البشر لما فعل ذلك. قال النبي (ص): ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا)) (¬1). وقال أيضا: ((من قال بعد ما سمع الأذان، رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، غفرت ذنوبه)) (¬2). وهذان الحديثان من النصوص التي تتوقف عليها مقامات الدين، والتأمل فيهما يؤدي إلى ثبوت ما يأتي: أ - الرضا بألوهية الله وبربوبيته. ب - والرضا برسالة النبي (ص) وبإطاعته. ج - والرضا بدين الله. د - والاعتراف والتسليم بدين الله والانقياد له. ويمكن أن نقول: إن من اجتمعت فيه هذه الأمور الأربعة فهو صديق. نعم، إن الادعاء باللسان سهل، ولكن النجاح في الاختبار صعب، وخاصة إذا كان هوى النفس يتعارض مع ما يردده اللسان. وليعلم أن معنى الرضا بالألوهية هو أن يتحقق التوحيد في الحب والإنابة والتبتل إلى الله. فإن خاف العبد خاف الله وحده، وإن رجا رجا منه وحده، وتنجذب إليه قواه الكلية، ويكون قصد عبادته هو التوحيد في الإخلاص. ومعنى الرضا بالربوبية أن يتحقق التوحيد في تدبير الله وفي التوكل والاعتماد والاستعانة، ويتقبل العبد كل فعل من أفعال الله برضا وسرور. ¬

(¬1) مسلم 1/ 62، مسند أحمد 1/ 208. (¬2) مسلم 1/ 290.

ومعنى الرضا برسالة محمد (ص) أن تكون طاعة محمد (ص) نصب عينيه في جميع أحكامه، ويكون تعظيم النبي (ص) مع حبه مقدما على نفسه وروحه، فيتلقى الهداية والحكم والقضاء من عتبته (ص)، ولا يرضي بحكم الغير، وخاصة في علوم الإلهيات حيث لا يكون هناك أي مجال لذلك. ومعنى الرضا بالإسلام أن يقبل بانشراح تام كل حكم للإسلام من أمر أو نهي، ويرفض كل ما يعارض هذا الحكم حتى لو صدر عن عالم معروف ومشهور. وربما تجدون الكثير من العلماء والمتصوفين والدراويش والمشايخ يعارضون الأصل المذكور، ولكن الرضا بالإسلام يقتضي أن لا يصدق المؤمنون حكما ليس من الإسلام في شيء وألا يطمئنوا في شيء إليه. واعلموا أن منزلة الرضا تأتي بعد التوكل والتفويض والتسليم، ولما كان حصوله صعبا لم يجعله الله فرضا، بل شوق إليه ورغب فيه. سئل يحيى بن معاذ: كيف ينال المسلم مقام الرضا؟ فقال: بكماله في أربعة أمور: 1 - أن يقبل العطاء. 2 - ويرضي بعدم العطاء. 3 - ويعبد في الانقباض. 4 - ويحضر أمام الله في الانشرخ (¬1). وقيل للحسن بن علي أن أبا ذر يقول: إن الفقر أحب إليه من الغنى، والمرض أحب إليه من الصحة. فقال: رحم الله أبا ذر، إني أقول: من اعتمد على حسن اختيار الله له لم يتمن سوى ما اختاره الله تعالى (¬2). وقال فضيل بن عياض لبشر الحافي: منزلة الرضاء أعلى من الزهد، لأن من رضي لا يتمنى فوق منزلته (¬3). ومما كتب عمر الفاروق رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترض وإلا فاصبر (¬4). ¬

(¬1) مدارج السالكين 174/ 2. (¬2) أيضا 177/ 2. (¬3) مدارج السالكين 174/ 2. (¬4) نفسه.

11 - والعجز فخري

وقال الله تعالى في كتابه الكريم: {يا أيتها النفس المطمئنة (*) ارجعي إلى ربك راضية مرضية (*) فادخلي في عبادي (*) وادخلي جنتي} (الفجر: 27 - 30). وهذا هو ما يقال للعبد عند رحيله من الدنيا وبهذا القول يسر المؤمن يوم القيامة إذ يدخل ضمن جماعة عباد الله المصطفين، ويدخل في الجنة، إذ ينال النعمتين كما يشير إلى قوله: {راضية مرضية}. 11 - والعجز فخري: العبارة المشهورة عامة هي العجز فخري إلا أن علماء الحديث صرحوا بأن عبارة الفقر فخري لم تثبت عن النبي (ص). ذكر صاحب مجمع البحار أيضا عبارة ((والعجز فخري)) (¬1). ومعنى العجز الضعف، ويدخل تحت هذا المعنى أنها عدم القدرة على الفعل المفوض ولا يمكن أن يتناسب هذا مع ذات النبي (ص) لأن حياته كلها سعي واجتهاد ونموذج للجد والعمل الكامل. فالمراد بالعجز هو العجز لدى الواحد الأحد وهذا المعنى يصدق على جلال رب العالمين وعلى أحوال خاتم النبيين. انظروا إلى الأثرياء، كيف يكون تكابرهم واغترارهم بعد قليل من النجاح. ثم انظروا إلى سيرة الرسول الأكرم (ص)، الرسول الذي نال النصر من كل ذرة في الأرض وكل نجم في السماء، وخضعت لحكمه النفوس، وارتج لعظمته ما بين السماء والأرض ومع هذا فهو يعترف بعجزه ويتضرع إلى الله الأحد الصمد، كل لحظة وساعة، وهذا العجز هو مغخرة له (ص). انظروا إلى الكلمات الزاكيات لأدعية الرسول (ص)، التي تزيل غفلة القلب وحجاب الروح، فيستيقظ بها قلب الغافل ويسجد أمام سطوة الله وجبروته. وكنموذج أذكر دعاء واحدا حتى يتدبر القراء أسلوبه ويدركوا علو منزلته، ويقدروا عجز القلب الذي خرجت منه هذه الكلمات، ويروا كيف أنه يعتز بافتقاره ويربي عليه أتباعه: ¬

(¬1) مجمع البحار 2/ 351.

12 - والزهد حرفتي

((اللهم إنك ترى مكاني وتسمع كلامي وتعلم سري وعلانيتي ولا يخفى عليك شيء من أمري وأنا الرجل المشفق والمقر المعترف بذنبي وأنا المستغيث، المستجير، أسالك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير ودعاء من خضعت لك رقبته وفاضت لك عبرته، وذل لك جسمه، ورغم لك أنفه أن لا تجعلني بدعائك شقيا، وكن لي رءوفا رحيما يا خير المسئولين ويا خير المعطين)) (¬1). الله أكبر! هذا هو درس المعرفة الذي لو حضر به المؤمنون بقلوبهم وألسنتهم متضرعين إلى الله لأدركتهم رحمة الله عز وجل وأنار طريقهم الحب ورفعهم الإخلاص والصدق إلى منزلة القبول والكرامة، فطوبى لهم. 12 - والزهد حرفتي: الحرفة هي الصنعة أو وجه كسب يتقوت به الإنسان. والزهد في أصل اللغة عدم الرغبة، قال؛ تعالى في سورة يوسف: {وكانوا فيه من الزاهدين} (يوسف: 20). وفي مصطلح الشرع يطلق الزهد على عدم الرغبة في الدنيا ومالها ومتاعها. وقال البعض: الزهد هو عدم الاعتماد على الموجود، وعدم التأسف على المفقود (¬2). وقال إمام المحدثين أحمد بن حنبل (¬3): الزهد على ثلاثة أقسام: 1 - ترك الحرام، وهذا زهد العامة. 2 - ترك الزائد من الحلال، وهذا زهد الخاصة. 3 - ترك كل شيء يمنع من التوجه إلى الله، وهذا زهد العارفين. والآن ننظر إلى ألفاظ الحديث نظرة تأمل: الحرفة طريقة يلتزمها الإنسان لمعاشه، وقد جعل النبي (ص) في الحديث ((الزهد)) حرفته، فمعنى ذلك أن تصرف العناية عن الأشياء والأسباب والوسائل المؤدية إلى غير الله، ويتوجه إلى الله بكل اهتمام وهمة مع عدم المبالاة بالوسائل والوسائط، فالثقة ¬

(¬1) المعجم الكبير للطبراني 1/ 184. (¬2) مدارج السالكين 2/ 10. (¬3) أيضا.

13 - واليقين قوتي

بالرب لا تجعل المتاع الحاضر موجبا للطمأنينة، وفقدان هذا المتاع نفسه لا يشوش القلب، وهذا هو أعلى منزلة الزهد، ولا يعترض عليه بأنه يمنع وسائل الكسب، أو يعارض أصول المدنية. 13 - واليقين قوتي: من الواضح أن ذكر اليقين وأهله تردد في عديد من آيات القرآن الكريم: {الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (*) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} (البقرة: 4 - 5). فالفلاح والهداية ثمرة لليقين. {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} (السجدة: 24). أي الإمامة في الدين نتيجة اجتماع الصبر واليقين. {وفي الأرض آيات للموقنين (*) وفي أنفسكم} (الذاريات: 20، 21). وهكذا أكدت الآيات السابقة على ضرورة النظر في الآيات الربانية والتأمل في العلامات الإلهية وأن الانتفاع بهذا النظر والتأمل لا يتحقق إلا لأهل اليقين. والحاصل أن منزلة الروح من الجسم هي منزلة اليقين من الجسد الإيماني، فاليقين هو روح أعمال القلب، وهو حقيقة المصداقية. واختلف العلماء في كون اليقين كسبيا أو وهبيا. وإني أرى أنه كسبي بالنظر إلى الأسباب، ووهبي بالنظر إلى أصله. قال سهل التستري: إن البداية بالمكاشفة، ثم يتدرج الإنسان في مدارج المعاينة والمشاهدة حتى يصل إلى اليقين. وقال ذو النون المصري: إن علامات اليقين ثلاث: 1 - قلة مخالطة الناس في العشرة. 2 - وعدم مدح الناس على عطاياهم. 3 - وعدم ذمهم على منع العطية. وقال: حقيقة اليقين أن ينظر العبد في كل شيء إلى الله، وأن يرجع إليه في كل أمره، وأن يستعين به في كل حالة (¬1). ¬

(¬1) مدارج السالكين 398/ 2.

وليعلم أن مراتب اليقين ثلاث إذا فصلت: فالمرتبة الأولى تتضمن الأوامر والنواهي وعلم المعاد وعلم الأسماء والصفات. وحينما يثق العبد بصدق هذه العلوم وحقيقتها تحصل له هذه المرتبة. والمرتبة الثانية لا تبقى فيها حاجة الاستدلال، بل يعتبر الدليل عبثا، وتحل الرؤية مقام السمع، وهذا هو عين اليقين. والمرتبة الثالثة تتجلى بها شمس الحقيقة، وتزول كلفة اليقين، ويتجلى الحق بكماله. وهذا هو حق اليقين، وهو خاص بالأنبياء عليهم السلام، فتنكشف أمام عيونهم جميع الأسرار والخفايا، وتظهر لهم علوم المعاد مثل ظهور الأشياء المادية للآخرين (¬1). وتأملوا فقد جعل النبي (ص) في حديث العنوان ((اليقين)) قوته أي غذاءه، ومن الظاهر أن نمو الجسم يتوقف على الغذاء وبه يتم تربية الجسم، واتضح من هذا مدى بعد النبي (ص) عن الأسباب المادية. وحتى نعرف قوة يقين النبي (ص) ينبغي أن نعرف قوة يقين الصحابة رضي الله عنهم. تأملوا حال ذلك الصحابي في غزوة أحد الذي أمسك بحبات العنب وجلس يأكلها حتى يستعد للمعركة فسمع النبي (ص) وهو يعد الشهداء بالجنة ألقى حبات العنب قائلا: إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه الحبات ودخل المعركة وقاتل بشجاعة حتى استشهد فكتبت له الجنة. ومثله حال النقيب المحمدي عبد الله بن رواحة الأنصاري، الذي راح يقاتل أعداء الإسلام، فأتاه ابن عم له بعرق من لحم، قال: شد بهذا ظهرك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، أخذه من يده ثم سمع الحطمة في الناس فقال: وأنت في الدنيا! ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل (¬2). حقا يمزق اليقين حجاب الشك والوهم، فتتجلى الحقيقة، وترتفع درجة الرؤية ¬

(¬1) نفسه 398 وما بعدها. (¬2) الاستيعاب (3/ 899، ابن هشام 4/ 21).

14 - والصدق شفيعي

الإيمانية إلى الرؤية العينية، يرى صاحب اليقين المغيبات مثل المشاهدات، ويحصل على الحقائق الأصلية والمعارف الروحية. 14 - والصدق شفيعي: حينما يتفق شخص مع آخر فيتحالف معه في الأهداف والأغراض يقال له الشفيع. والشفيع في اللغة في معنى الزوج، كما في قوله تعالى: {والشفع والوتر} (الفجر: 3). والصدق أصل كل شيء وكمال قوته، انظروا إلى الألفاظ التالية: 1 - العزم الصادق هو الإرادة التي تتصف بالقوة والتمام. 2 - والحب الصادق هو الحب الذي يكون كاملا وأصليا. 3 - والخبر الصادق هو الإعلام الذي تكون جميع عناصره كاملة قوية. والقرآن الكريم قد ذكر عدة مقامات للصدق: 1 - فقد لقن النبي (ص) هذا الدعاء: {رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا} (الإسراء: 80). فهذا الدعاء يوضح مسألة سؤال مدخل الصدق ومخرج الصدق، والمراد بمدخل الصدق هو توجه العبد إلى الله وإلى الأحكام الإلهية، على أن لا يشوب الريب والشك هذا التوجه له وأن لا يكون له نهاية. ويدخل في مدخل الصدق هذا دخول النبي (ص) في المدينة المنورة وهو ما كانت بركاته وأنواره غير متناهية. والمراد بمخرج صدق هو عزيمة العبد الذي يعرض عن الهوى ومقتضى الطبع والنفس، وينفض ذيله من الأمور الترابية المادية. وليس هناك حجاب أو تقليد أو رجاء نفع أو خوف ضرر يمنع العبد من خروج الصدق هذا. ويدخل في مخرج الصدق هذا هجرة النبي (ص) من مكة وابتعاده عن الوطن وانقطاعه عن العلائق ومضيه في طريق الهجرة.

15 - والطاعة حسبي

2 - {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) (يونس: 2). وهذه الآية تخبر عن وجود قدم صدق وتبشر بها. والمراد بقدم صدق هو الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة التي أتى بها العبد المطيع في حياته الفانية وقدمها إلى جانب رب العزة قبل رحيله إلى القبر. إن تقديم الأعمال يكون من المؤمن والكافر ومن المطيع والفاسق جميعا، ولكن قدم صدق لا يطلق إلا على أعمال المؤمن. 3 - ورد في دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء: 84). ورد في هذه الآية الدعاء بلسان صدق، والمراد بلسان صدق هو الثناء الحسن، وهو يعطي كجزاء حسن للعبد الذي تتصف أفعاله وأعماله وأقواله عند الله تبارك وتعالى بالتمام والكمال وفق معيار الصدق. 15 - والطاعة حسبي: معنى الطوع الذي اشتقت منه الطاعة هو انقياد الأمر واتباع الحكم، حينما يقوم المطيع باتباع الحكم مع انشراح الصدر ونشاط القلب. والحسب هو المجد الذي يحصل بالمال أو الدين أو الصفات الحسنة والأخلاق الفاضلة أو الجود والسخاء. والحديث المذكور يتضمن صنعة التضاد، أي يحسب الناس عامة أن الأشياء التي يتم بها التفوق على الآخرين تؤدي إلى المجد والكمال. ولكن النبي (ص) جعل الطاعة والعبودية موجبا للتفوق والعلو. ولاشك أن هذه هي الخاصية التي تتجلى بكمال في حياة الأنبياء عليهم السلام عامة وفي حياة النبي (ص) خاصة. وكان من شروط الكفار في الحديبية أن من لحق من قريش بالمسلمين يجب رده إلى قريش، ولكن من انضم من المسلمين إلى قريش لا يجب رده. وبدا هذا الشرط بظاهره مذلة للمسلمين، فرأى عمر الفاروق رضي الله عنه وأسيد ابن حضير وسعد بن عبادة وسهل بن حنيف من المسلمين الغياري الذين كانوا يرددون دعاءهم بقولهم ((أعز الإسلام والمسلمين)) أن هذا الشرط ينافي حمية المسلمين وعز الإسلام.

16 - والجهاد خلقي

ولما صرحوا للنبي (ص) بمشاعرهم في هذا الأمر لم يرد (ص) أدلتهم ولم يضعف أقوالهم بل قال (ص): ((إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري)). وبهذا تبين مدى طاعة النبي (ص) وانقياده للرب، فلم تكن الحمية والحماية الظاهرة والعزة المشهودة وتأليف المسلمين الجدد وتعزير المرتدين لتمنعه (ص) من الإطاعة والانقياد. وقد أثاب الله تعالى نبيه على هذا العمل العظيم أجرا عظيما مثله أو أعظم منه فجعل طاعته (ص) فرضا على العالمين جميعا: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء: 80). وقال: {إن تطيعوه تهتدوا} (النور: 54). 16 - والجهاد خلقي: الجهاد هو استفرع الجهد في عمل ما وأعمال الفكر واستخدام الطاقة في أمر ما، والخلق هو الطبيعة والجبلة والخصلة الخلقية. والجهاد الشرعي على قسمين: جهاد بالمال، وجهاد بالنفس. يقول الله تعالى: {وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} (الصف: 11). إن الجهاد بالمال والتضحية به صعب جدا، والإيثار بالنفس أيضا مثله. ورب إنسان لا يبالي بمال في سبيل الحفاظ على النفس، ورب إنسان يخاطر بالنفس في سبيل الحصول على المال. وعباد الله هم الذين يوفون ويضحون بالمال والنفس معا. وربما يحول المال والنفس بين الإنسان وبين أداء الواجب الشخصي والاجتماعي والخلقي، ولكن عباد الله المخلصين يضحون بكل شيء في سبيل مرضاة الله تعالى، يقول تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده} (الحج: 78). والمراد بهذا الجهاد تحصيل العلم الإلهي والرضا الرباني والتقرب الإلهي وارتقاء الروح، ويقتضي هذا الجهاد القوة وإخلاص التوجه بالمعنى اللغوي والإيمان والعمل الصالح بالمعنى الشرعي بجميع الوجوه. ومن معنى الجهاد إخضاع أعداء الله، وإعداد الوسائل المادية والمعنوية لإعلاء كلمة الله.

17 - وقرة عيني في الصلاة

وسيرة الرسول (ص) تدلنا على أنه (ص) فاق أمته في جميع أقسام الجهاد هذه. فكانت عزيمة النبي (ص) وإرادته ونيته وأمنيته وراحته وقيامه من أجل الجهاد في سبيل الله. أما الدعة والراحة التي تخص أهل الحكم، والوهن والضعف الذي يلحق الأمراء، والكسل والجمود الذي يحبه المترفون، فقد كان (ص) بعيدا عنه كل البعد. كان الجهد والسعي والطلب والرقي والسمو والتحرق والتألم والحزن والشوق من شمائل النبي (ص). وبفضلها وتأثيرها سهل على الصحابة رضي الله عنهم التخلي عن الأهل والأسرة والضياع والأمتعة والراحة والدعة، وانقطعوا للجهاد في سبيل الله. وبهذه الصفة العالية تركوا الوطن واعتبروا الحياة الدنيا حياة دنيئة، فهجروا الوطن، وعلموا الدنيا كلها درس الهمة العالية والعزم الراسخ والطلب الصادق والسعي الموفور، حتى ارتجت أرجاء الشرق والغرب بنداء {كلمة الله هي العليا} (التوبة: 40). وبأسوته (ص) أدرك الناس أن الدنيا دار العمل، وحاسبوا فيها أنفسهم، وتمثلت أمام عيونهم الحياة الروحية التي تتبع الحياة الدنيوية. وبهذا التعليم والتوجيه تحققت الفوائد الكثيرة والفتوح العظيمة والغنائم الوافرة والنتائج العالية. فليت أهل الإسلام حسبوا ذلك العلم والعمل مآل الحياة، وجعلوا السعي والطلب طبيعتهم وجبلتهم، حتى يستحقوا لقب الأمة الحية بين أمم العالم الحية. لا، لا، إن أهداف الأمم التي توصف اليوم بالأمم الحية أهداف منحطة جدا، والواجب على أهل الإيمان السمو والنهوض وذلك بإخلاص النية والعمل، حتى يكونوا مع النبيين والصديقين والشهداء، ويوضع على رءوسهم إكليل سعادة الدارين وهو ما يطلق عليه إكليل الخلافة أيضا. 17 - وقرة عيني في الصلاة: الحج مرة في العمر، كما أن تحديد يوم معين في السنة يكفي لأداء الزكاة، ويأتي صوم رمضان بعد أحد عشر شهرا. ولكن الصلاة فرضت في اليوم الواحد خمس مرات، والطفل إذا بلغ سبعا يؤمر بالصلاة، ويضرب إذا تركها إن بلغ عشرا.

ولا تسقط الصلاة في السفر والحضر والمرض والفقر والغنى والعبودية والحرية والحبس والرق، بل تبقى فريضة كلما كان العبد عائلا. وتفرض الصلاة قبل الأعمال الأخرى وتبقى فريضة بعدها جميعا، وأول ما يسئل عنه العبد يوم القيامة هو الصلاة. والصلاة هي عماد الدين، وعظمة الإسلام، وعلى هذا الأساس قام بناء الإسلام، تبنى المساجد ويعلن الآذان، ويعين الخطباء والأئمة ويكرم الحفاظ ويزين المحراب من أجل الصلاة ويبدو فضل علماء الدين فوق المنابر. والصلاة تعلم درس الاجتماع ودرس التنظيم، وتعود الناس على المحافظة على الأوقات، وتجمع مختلفي الاتجاهات في مركز واحد، وتعلم إطاعة الأمير الذي انتخبه القوم. والصلاة تحمل العبد على تطهير الجسم واللباس والمكان، وتعلمه الاستيقاظ وقت السحر، وتحافظ على صحة الإنسان وماله ووقته بإبعاده عن الملاهي والمسارح ومواضع الفجور، وهي تورث في القلب شعورا وإحساسا يجذب قلب العبد إلى رب العالمين. والصلاة تكرم الإنسان بالحضور في جانب رب العالمين، وتكشف سر مناجاة العبد لربه، وهي كمال العبودية وتمام الإنسانية، وهي التي تهدي إلى الأخلاق الحسنة وتنهي عن العادات السيئة، وهي المغفرة والرحمة والنور والبرهان، وبها يرسخ يقين علم رب العالمين وقدرته، وبها تقوى صلة الأخوة العالمية بين المسلمين، وبها تقطع مراتب الإحسان وتشع أنوار الرسالة المحمدية. والدين الذي لا صلاة فيه ليس دينا، وقد جاء وصف الصلاة بأنها معراج المؤمنين. ووصف العبد في حالة السجود بكونه أقرب ما يكون إلى الله. وقد أدرك صلحاء الأمة أن النفس القلقة تجد سكينتها في الصلاة، والقلب الغارق في التفكير يجد لذة الإنابة إلى الله في الصلاة، والصلاة هي التي تؤثر في جسم الإنسان وقلبه وذهنه ونفسه وروحه وسره وعلنه، والصلاة تجعل الإنسان في حالة الخائف الراهب ملكوتي الصفات. ومن أدلة فضل الإسلام على جميع الأديان أنه هو الدين الذي يأتي بالعبد إلى جناب الله خمس مرات، ويتيح أمامه فرصة التكلم والمناجاة مع الله دون واسطة. وإذا كانت هذه البركات لصلوات عامة المسلمين فلا شك أن صلاة النبي (ص) فاقت صلوات

العالمين نورانية وصفاء. وهل يمكن المقارنة هنا بأي شكل من الأشكال بين عبادة العبد المذنب الذليل الخائب الخاسر وبين عبادة النبي المصطفى المجتبى وسيد الورى حبيب رب العالمين؟!. إن الحديث المذكور يلهم المسلمين أن يجعلوا قرة أعينهم في الصلاة، كما جعلها النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.

الباب الخامس عشر

الباب الخامس عشر خصائص القرآن القرآن هو الكتاب المقدس الذي تلاه النبي (ص) بلسانه حرفا حرفا على أنه كلام الله تعالى، ولذا يجب على مؤلف السيرة النبوية أن يقدم المباحث اللازمة عن القرآن مع السيرة النبوية. وقد سبق أن قدمنا عدة صفحات حول هذا المبحث في الجزء الأول من هذا الكتاب. وهنا نقدم للقراء عدة مباحث أخرى مفصلة. بلغ عدد أسماء القرآن الكريم أيضا 99 اسما مثل الأسماء الحسنى، ولكن أخص أسمائه هو ((كلام الله)) وأشهرها ((القرآن)). قال الإمام ابن القيم في كتابه (¬1) ((المشوق إلى علوم القرآن)): ((أما القرآن فاشتقاقه فيه قولان، أحدهما: التتبع والجمع من قولهم: قرأت الماء في الحوض، إذا تتبعته وجمعته فيه، فهو جامع لما في كتب الأولين المنزلة على سائر النبيين. والثاني: أنه مشتق من الإظهار والبيان، لأنه أظهر سائر العلوم المحتاج إليها في أمر الدين والدنيا وجمع بينهما)). وفيما يلي نقدم بعض المباحث تحت عناوين شتى: ¬

(¬1) المشوق إلى علوم القرآن (الفوائد) ص 244.

الفصل الأول ضرورة القرآن

الفصل الأول ضرورة القرآن من أراد معرفة ضرورة القرآن الكريم عليه أن يتدبر تاريخ ذلك العصر وأحوال العالم. كان مجوس إيران غارقين في بحر الشرك، حتى أنهم تعدوا حدود الإنسانية وأباحوا للإنسان أمه وبنته وأخته. وابتلى نصارى كنيسة روما بالوثنية الصريحة، وسفكوا دماء مئات الألوف من البشر فسالت أنهارا في سبيل نشر عقيدة الشرك. وكانت الصين غارقة في عبادة القبور والعفاريت والغيلان، ثم ادعى أهلها بأنهم من أبناء السماء ووقعوا في براثن الفجور والفسق وجعلوا الخمر أحسن أفعال الإنسان وأقاموا تماثيل لعورات الإنسان واعتبروا وأد البنات والميسر علامة الكرامة الإنسانية. وكان العرب قد سبقوا أهل البلاد الأخرى في بعض القبائح المذكورة. وهكذا كان الظلام مخيما على جميع المعمورة، وكانت الكتب المنزلة إلى الوقت غير كافية للقضاء على الزيغ والضلال، وكيف نتوقع لها تأثيرا في القضاء على فساد العالم كله إذا كانت الأمة التي نزلت عليها هذه الكتب قد خرجت على تعاليمها. وهكذا كانت هناك حاجة إلى كتاب مهيمن يستطيع إصلاح العالم كله، ويسع في طياته جميع الكتب السابقة، ويغني بمجموعه العالم كله عن الأوراق الأخرى المبعثرة. فكما ينزل غيث الرحمة ينزل بعد الحر الشديد، وتطلع الشمس المنيرة بعد ظلام الليل الحالك، فكذا أظهرت الظلمة السائدة على العالم كله ضرورة القرآن الكريم والنور المبين، وأشعرت بها قلوب العالمين. ولذا أنزلت الرحمة الربانية التي خلقت الإنسان من عدم وجعلت من النطفة إنسانا كاملا، هذا النور وهذه الهداية لسد حاجتنا الروحية. ومن سوء الحظ وجدت في الهند طائفة تعتقد أن الله هو أرحم الراحمين، ولكنها

تنكر ضرورة نزول كلام الله إلى الدنيا، إن هؤلاء العمي يعترفون بأن نور السماوات والأرض منح العيون الرؤية فخلق لها ألوانا كثيرة، وخلق الأسماع فخلق لها أصواتا متنوعة، وخلق الأرجل فجعل لها الأرض تمشي عليها، وخلق الفم واللسان فجعل لهما ألوانا من اللذائذ والرغائب. والحاصل أنه خلق عالما مستقلا لجميع الحواس الظاهرة والقوى الباطنة في جسم الإنسان. ولكنها مع الاعتراف بذلك كله تنكر وجود عالم مستقل للروح الإنسانية التي تعتبر مخزنا للفطرة الإنسانية وحاكمة في دنياها. ولو أنها أنكرت الروح لما تأسفنا عليها هذا التأسف، ولكن الاعتراف بالروح وإنكار العالم الخاص بها من قبل الرحمة الإلهية، لا يدل إلا على الجهل بأسرار الفطرة. هذا، ونضع لإثبات ضرورة القرآن الكريم تاريخ العالم أمام أهله، وكذلك كل ما تحقق لدين من أديان العالم من رقي ونهضة بعد نزول القرآن الكريم وانتشاره بين الناس، وكذلك الإصلاح الذي تحقق للأمم غير المسلمة في عهد الرسالة المحمدية التي صار لها الآن نحو 1352 سنة (¬1)، بعد الاستفادة من القرآن، وبعد الاطلاع على هذه النهضة والإصلاح نرجو أن يعترف كل مؤلف بالضرورة بأن العالم كان في أمس الحاجة إلى نزول القرآن الكريم. ¬

(¬1) سنة تأليف هذا الكتاب.

فصاحة القرآن وبلاغته

فصاحة القرآن وبلاغته من أراد معرفة فصاحة القرآن وبلاغته فعليه أن يتذكر أن معرفة اللغة معرفة تامة شرط أساسي لذلك، ثم المهارة التامة في علم المعاني والبيان والبديع بالإضافة إلى الفهم السليم والطبع المستقيم، ولو توفرت هذه الصفات وهذه الوسائل لأحد فسوف يعلن أن فصاحة القرآن الكريم وبلاغته فوق الطاقة البشرية. الف - كان جهلاء العرب محبي اللغة وكانوا مولعين بحسن البيان، ولذلك تمكنوا من إنشاء الأساليب الغريبة والقصائد العجيبة والرجز الفاجر والسجع الموجز والخطب البليغة، ومجرد وجود هذه الصلاحية جعل كبار اللغويين والخطباء والشعراء يعترفون ويقرون بأن القرآن ليس كلام البشر. تأملوا هل وقع في بلد من بلاد العالم أن ادعى أحد ادعاء (لا مثيل له في العالم كما فعل خاتم النبيين ورسول كافة الناس ورحمة للعالمين ومطاع العالم (ص)) وقدم في إثبات دعواه كتابا جعله معيارا لصدقه وكذبه، وقرع أسماع المنكرين بنسبتهم إلى الضلال والعماية وساق لهم وعيد الخلود في النار والخزي في الدنيا والآخرة؟ وفي مثل هذه الحالة آثر أهل بلاده الذين يتكلمون بلغته السكوت وأبدوا الدهشة والتحير! إننا نؤمن بأن التاريخ يعجز عن الإتيان بنظير ذلك. إن صاحب القرآن، فداه أبي وأمي، قد حدد المعارضين في ستة أقسام، وأعجز أصحاب هذه الأقسام جميعا، مقيما برهانا جليا مثل الشمس على صدقه. فالقرآن الكريم مع كونه بلسان عربي مبين قد فاق كتب العالم فصاحة وبلاغة. ب - والآن ينبغي أن نلاحظ أن فردوسي وهومر وسعدي وشكسبير ووالميك وملتن وجوته وبيكن والنابغة وسسرو وامرؤ القيس وخسرو وغيرهم قد حازوا ثناء حارا من أمم شتى بلغات مختلفة، لقد كان حماسهم لتلك الكتب التي تضمنت أساسا الصور الخيالية والحكايات الأسطورية التي استخدم فيها مؤلفوها بحرية كاملة التشبيهات والاستعارات من كل نوع ولم يلتزموا بترك الغلو أو حتى التمسك بالصدق.

ولو كلف هؤلاء الأدباء بكتابة قواعد وأصول قانونية أو كتابة سطور في بيان حقائق الإلهيات وأسرار الطبيعة والكون، لأدرك العالم مدى ركاكة أسلوبهم وسماجته وتفكك العبارات وابتذال الألفاظ في كتاباتهم. ولكن إعجاز القرآن الكريم أنه يسوق الآيات حول أحكام الشريعة والمواعظ والأمثال والأخبار والإنذار وقصص الماضي وأحوال المستقبل، ومع ذلك يظل الكلام على مستوى درجة الصدق والروحانية، ولا يبتعد عن أساس الفصاحة والبلاغة. ج - ولابد أن نتذكر أن هناك اختلافا في مجالات الأدب وميادين البيان بين أدباء العالم المعترف بهم وذلك فيما يتعلق بتقييم الفصاحة والبلاغة فنصائح سعدي تشق سبيلها إلى أعماق القلب، ولكنه لا يستطيع أن يفرش بساط المتعة ويفتح أبواب الوصال، وقارئ ملحمة فردوسي يتخيل أنه يشاهد رواية، إلا أن قلم الفردوسي السيال يتعرج في طريق المواعظ والأخلاق، وهكذا حال شعراء وأدباء العرب: امرئ القيس وعنترة وأبي نواس وأبي العتاهية، ونفس هذا التفاوت يوجد لدى أدباء ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وانجلترا من الشعراء والروائيين والمحررين واللغويين والمدرسين والمحاضرين. إن ((رينالد)) لا يمكن أن يحل أبدا محل ((غبن)) وإن ((كار لايل)) لن يتحول إلى شكسبير، ولن يكون لكل من هربرت سبنسر ونارث بروك أسلوبا واحدا أو لغة متشابهة. اقرأوا القرآن الكريم، إنه يستخدم الأدلة الساطعة والبراهين الواضحة عن الموجودات والماهيات والكيفيات، ويلقي ضوءا على رقي الأمم السابقة وانحطاطها وأسبابهما، ويتكلم عن المذاهب والأديان وعقائد الإنسان ومسلماته، ويكشف أسرار الروح والمادة والأعمال. ويضع قوانين ومبادئ التدبير المنزلي وسياسة المدن وحقوق الأفراد وواجبات الأمم، وتطلب ذلك أقسام البيان المختلفة وأساليب الكلام المتنوعة، ولكن القرآن الكريم يحافظ في كل ذلك على جزالة الكلام وحسن المعاني وبهاء الألفاظ، كما كان شأنه في تقرير التوحيد ورد الشرك وإبطال الباطل وإحقاق الحق. ومواقع الكلام هذه لا يدركها إلا من أفنى عمره الطويل في التطلع إلى الفهم والتوصل إلى التذوق. د - إن للفصاحة والبلاغة علاقة بجزالة الألفاظ ورشاقة المعاني، ونسوق هنا آيات

حتى يتدبرها القراء ويدركوا مدى إحاطتها لشئون تهذيب الأخلاق والنفس وتدبير المنازل وتحصين الأمم وسياسة المدن، وبهذا العدد من الآيات يتيسر قياس 6666 آية من القرآن وما فيها من العلوم والمعارف. ولا يحسبن أحد بذكر هذه الآيات أنها هي التي تصلح أن تكون نموذجا بين آيات القرآن، كلا ... ثم كلا. إننا الآن مثل قاطف الأزهار الذي ذهب أيام الربيع إلى الحديقة ثم رجع منها حاملا معه عدة أزهار. فهل يستطيع أحد أن يدعي أنه لم يبق هناك زهرة بعد ذلك؟ أو أن الذي بقى ليس مثل المقطوف من ناحية اللون والرائحة واللطافة والرقة؟ لاشك أن الإجابة على السؤال بالسلب: 1 - أصول العبادة: {وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون} (يس: 22). 2 - شرف الإنسانية: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} (الإسراء: 70). 3 - أوامر يجب فعلها: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإتاء ذي القربى} (النحل: 90). 4 - نواه يجب اجتنابها: {وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} (النحل: 90). 5 - المحرمات: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون؟ (الأعراف: 33). 6 - التعاون: {تعاونوا على البر والتقوى} (المائدة: 2). 7 - عدم التعاون: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (المائدة: 2). 8 - مسئولية الجوارح الإنسائية عن أعمالها: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} (الإسراء: 36).

9 - وزن الأعمال: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يراه (*) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (الزلزلة: 7، 8). 10 - العدل والرحم: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله} (الشورى: 40). 11 - العدل والرحم والعفو: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (*) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (*) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} (الشورى: 41 - 43). 12 - العفو العام: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} (النور: 22). 13 - تحويل العدو إلى الصديق: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (فصلت: 34). 14 - حرية الدين: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256). 15 - قول بلا عمل: {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 3). 16 - مسئولية الأعمال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164). 17 - مجاهرة السوء: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} (النساء: 148). 18 - تعليم الحلم والتواضع: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} (الفرقان: 63). 19 - عادات غير مرضية: {إن الله لا يحب كل مختال فخور} (لقمان: 18).

20 - التنفير من الغيبة: {ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا} (الحجرات: 12). 21 - ضرورة النفع وفضله: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران: 92). 22 - تعليم الأخوة العامة: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10). 23 - مساواة في حقوق الرجل والمرأة: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} (البقرة: 228). 24 - اتحاد الزوجين: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} (البقرة: 187). 25 - النصح بإمساك الزوجة: {أمك عليك زوجك واتق الله} (الأحزاب: 37). 26 - الأمر بالشكر وفائدته: {لئن شكرتم لأزيدنكم} (إبراهيم: 7). 27 - ما به الابتلاء: {أنما أموالكم وأولادكم فتنة} (الأنفال: 28). 28 - تعليم التواضع: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} (يوسف: 53). 29 - وسيلة تجنب الحرب: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}. (الأنفال: 60). 30 - جميع المحامد للرب تعالى: {الحمد لله رب العالمين} (الفاتحة: 2). 31 - تعريف الدين الإلهي: {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} (الروم: 30).

32 - هدف الدين الصحيح: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} (المائدة: 6). 33 - الرحمة بالمؤمنين: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} (الأنعام: 54). {وهو الغفور الودود} (البروج: 14). {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} (البقرة: 257). 34 - قيمة نفس الإنسان: {أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} (المائدة: 32). 35 - النهي عن الفساد: {فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} (الأعراف: 74). 36 - أصول المصارف: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (الفرقان: 67). 37 - الانتفاع بالمال: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك} (القصص: 77). 38 - معونة الفقراء والمساكين: {فأت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون} (الروم: 38). 39 - عدم الثقة بالحالف: {ولا تطع كل حلاف مهين} (القلم: 10). 40 - دعاء الله تعالى: {فادعوا الله مخلصين له الدين} (غافر: 14). 41 - حمد الخالق ومدح المخلوق: {الحمد لله وسلام على عباده} (النمل: 59).

كلما تدبرنا هذه الجملة القصيرة وتقسيم الدرجات انكشفت الحقائق، ففيها التوحيد وفيها رد الشرك وفيها بيان الدرجات العليا لعباد الله المصطفين. 42 - التناسب في النظام: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور} (الملك: 3). 43 - القرآن وبيت العنكبوت: {إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} (العنكبوت: 41). إن الإتيان بالعلم في فاصلة الآية هو للإشارة إلى وجود خطاب لأهل العلم فيما يتعلق ببيت العنكبوت ذلك لأن بيت العنكبوت يتضمن عجائب تستحق اهتمام أهل العلم. يقول الأساتذة الألمان: إن كل خيط في بيت العنكبوت تتضمن أربعة خيوط وكل من هذه الأربعة يكون منسوجا (مفتولا) من ألف خيط فكأن كل خيط يتضمن أربعة آلاف خيط، فليتأمل العلماء كيف أن الله تعالى منح العنكبوت الباني لأوهن البيوت الفهم والفراسة والقدرة على النسج والخياطة!. 44 - القرآن والنحل: {وأوحى ربك إلى النحل} (النحل: 68). إن خلية النحل تتضمن القاعدة المتينة للنظام القومي، والتقسيم المنفرد لأهل الصنعة للجيش وللشغالين، ومواضع الأسر المنفصلة بعضها عن بعض، وحكومة الملكة الولادة، والمجموعة القائمة على تربية الأولاد، وذخيرة العسل، وطرق الحفاظ عليها، وجميع عصارة الزهور لإفراز العسل، وكون بيوت الخلية متساوية في الحجم، والشكل، جميع هذه الأمور تبرهن على عظمة الوحي الرباني إذا توجه بالاهتمام إلى كل ذي روح. والقرآن مثل الوحي إذا توجه إلى جسم وروح الإنسان العاقل الفاهم الناطق المدبر رفعه إلى منازل عالية. 45 - القرآن وتمثيل النمل: {قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} (النمل: 18). فسبحان الله! إن النمل يملك المساكن التي إذا دخلها لم تضره جنود سليمان!

إن هذه الآية تعلم كل أمة ضعيفة دروس الحفاظ على كيانها أمام الأمم القوية، وأول درس في ذلك الاتحاد والاتفاق، أي إطاعة كل فرد رئيسه في كل أمر. والدرس الثاني: توفير وسائل الأمن الذاني في كل وقت. والدرس الثالث: عدم مواجهة القوة العليا. والدرس الرابع: عدم توجيه اللوم في حالة التضرر إلى من لم ينو إلحاق الضرر. والدرس الخامس: أن المسلمين إذا صاروا في حالتهم الاجتماعية مثل النمل فعليهم أن يدخلوا في حماية القرآن. والدرس السادس: أن الإنذار بالخطر القادم واجب الأمير. والدرس السابع: أن مخلوقا ضعيفا مثل النمل يستحق البقاء إذا أراد ذلك، فليس ضعف أمة دليلا على فنائها. 46 - القرآن والاعتبار بما في الأرض والسماء: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} (يونس: 101). وهذه الآية أصل جميع الاكتشافات، فالتفكر والاعتبار في مخلوقات الله والاطلاع على خواصها وماهياتها يوصلان الإنسان إلى مدارج الرقي، ولكن للأسف فرط المسلمون في الإتيان بهذه الأوامر تفريطا بالغا. 47 - القرآن وفوائد البحر: {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} (النحل: 14). تشير الآية الكريمة إلى منافع البحر التالية: 1 - اللحم الطري، فمن اطلع على تجارة البحر وصيد السمك عرف أن أمم العالم تربح ملايين الدولارات بهذه التجارة، ولكن المسلمين الذين خوطبوا بالآية مباشرة جهلوها وحرموها تماما. 2 - الدر والجواهر، فهما من زينة الإنسان ولباسه، وتجارتهما تدر ملايين الجنيهات. وكانت البحرين تحت سيطرة المسلمين في العهد النبوي وعهد الخلفاء

الراشدين، ولكننا فقدناها (¬1). 3 - الملاحة، إنها شرط أولي لملك العالم، وأنشأ أمير المؤمنين عثمان بن عفان أول أسطول بحري إسلامي، فتم فتح جزائر كريت ومالطه وطرابلس وغيرها. وفتح موسى بن نصير والقائد طارق بن زياد الأندلس، وفرض خير الدين باربروسا سيطرة تركيا على أوربا بأسرها، ولكن المسلمين استهانوا بالملاحة البحرية فحرموا حكومة العالم. 4 - التجارة البحرية، وفيها منافع كثيرة. 5 - وبعد الثروة المذكورة وتوفر القوة الحاكمة تحقق شكر نعمة الله والاجتهاد في نشر الإسلام في الأرجاء النائية. وقد نشر تجار العرب في عهد الخليفة الأموي عبد الملك الإسلام في جنوبي الهند، وأسلم على أيديهم سكان آسام وبورما والبنغال الشرقية، حينما كان المهاجمون من ناحية الشمال الغربي للهند (مثل محمود الغزنوي وغيره) يجهلون الهند تماما. ¬

(¬1) في زمن تأليف الكتاب.

الفصل الثاني المعاني البديعة والمضامين البارعة

الفصل الثاني المعاني البديعة والمضامين البارعة ينظر إلى المضمون عادة من ناحيتين: الأولى: السعة، والثانية: الجودة. 1 - إن القرآن بذاته صرح عن السعة فقال: {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} (الأنعام: 59). وبناء على هذا التصريح يستطيع عالم مسلم أن يخاطب العالم كله ويقول: هاتوا مسألة تتعلق بتهذيب النفس وتزكية الروح وصفاء القلب وحصول النجاة، سواء كانت مبنية على الفلسفة العليا أو الكشوف القديمة والجديدة أو التجربة، أو أخذت من إلهيات الإشراقين أو إشراقات الإلهيين، نأتي لكم ببيانها مع وضوح بالغ وصحة تامة من القرآن الكريم، يقول تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} (الفرقان: 33). 2 - إن أمم العالم التي تؤمن بوجود الباري تعالى، تقول بمسألة التوحيد من الناحية العلمية، فنرى الوثني والقائل بالتثليث أيضا يسعى لإثبات الوحدة في الكثرة. والآن انظروا إلى هذه المسألة (التي استحسنها العالم كله وحاول كل دين من أديانه إثباتها في كتبه) إنها لم تعرض بطريقة أفضل وأحسن مما عرضت في القرآن الكريم. فعرض هذه الأديان لمسألة التوحيد هو بالنسبة لعرض القرآن يشبه الماء المكدر بالنسبة للماء الزلال. ولو شك أحد في هذا فليأت بكتابه المقدس وليفتحه في أي موضع شاء، وليفتح القرآن هكذا وليترجم جزءا جزءا بعد ذلك الموضع، وتقدم الترجمة إلى صاحب دين ثالث، حتى يحكم في الكتابين أيهما أكمل وأوضح في بيان التوحيد وشرحه؟ ثم ليعلم أن قوله تعالى {لا يأتون بمثله} (الإسراء: 88) يعني الأسلوب البديع والألفاظ العالية والترتيب الفريد والطريقة الفريدة وإعجاز الفصاحة والبلاغة وجزالة

الأسلوب، وأكثر من هذا كله يعني معاني القرآن المقدسة التي تضمنتها الألفاظ تضمن الحلل البديعة للدرر الفريدة. إن المعاني البديعة التي يحتوي عليها القرآن وتعد من خصائصه، هي البصائر التي تزيل حجب العيون القاصرة وتنور الأبصار، يقول تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (*) وإلى السماء كيف رفعت (*) وإلى الجبال كيف نصبت (*) وإلى الأرض كيف سطحت} (الغاشية: 17 - 20). أشارت الآية الكريمة هنا إلى الإبل والسماء والأرض والجبال، أفلم تكن هذه الأشياء بمرأى ومشهد من كل بدوي؟ وأنه مع رؤيته إياها لم يهتم بالنظر في خلقها ورفعتها ومكانتها وفسحتها. ولما فتح القرآن الكريم عيونهم أدركوا كيفية هذه المعاني، وتجلت في كل شيء قدرة الخلق للخلاق المطلق، ورفعة رفيع الدرجات ذي العرش، وعزة العزيز الحكيم، وحكمته في خلق السكون والحركة، وتوفر الفوائد المتنوعة في صلابة الأجسام ولينها. وهكذا صارت بوادي العرب المخيفة وأوديتها المهيبة أوراقا للفهم والعبرة أمام طلاب صحف الفطرة. نعم، إن القرآن علم بالنظر إلى معانيه {أنزله بعلمه} (النساء: 166). وخزينة العقل للسمع والبصر والفؤاد، وهداية للقوى المدركة والحواس الجارحة، إنه حياة القلب ونور الروح وراحة العاشقين وهداية الطالبين، تخدمه العظمة والثروة والتمكن في الأرض والسلطة، وتتبعه راحة القلب وأنس النفس وقرة العين وضياء البصيرة، ويحمل رايته العلم والحقيقة والصدق والهدى، ويرفع حاشيته القرب والانشراح والخير والفلاح. وتمنح خلع النجاة الأخروية والفوز الروحي والرضوان الإلهي من بين طياته. فليت أصحاب العيون فتحوا له العيون، وأصغى لندائه أصحاب السمع، وأزال أصحاب القلوب الغشاوة عن قلوبهم وفتحوا أقفالها المغلقة، حتى يتجلى لهم نور جمال القرآن وضياؤه وهداه.

الفصل الثالث تأثير القرآن

الفصل الثالث تأثير القرآن رجل مثل عمر، الذي سمته أوربا ((الجنرال عمر)) خرج متسلحا من بيته كي يقضي على محمد (ص)، ولكن سيفه يسقط من يده بعد سماع آيات من القرآن الكريم، فخرج من بيت أخته خاشعا منكسرا فحضر مجلس النبي (ص) فأكرم بلقب ((الفاروق)) (¬1). وخرج سعد بن معاذ رئيس المدينة الشهير من بيته متسلحا كي يطرد مصعب بن عمير أول دعاة الإسلام من المدينة، وبمجرد أن سمع عدة آيات من القرآن أسلم على يدي مصعب (¬2). وكان ثمامة بن أثال مفرطا في بغض النبي (ص) ومدينته، ولكنه وجد فرصة للاستماع إلى القرآن الكريم يومين فقط، فوصل صوت الرشد والهدى من السمع إلى أعماق القلب، حتى إنه لما تم الإفراج عنه دون قيد أو شرط حضر إلى النبي (ص) بنفسه فأسلم وقدم قلبه وروحه هدية متواضعة إلى رسول الله (ص). وسمع خالد بن عقبة القرآن الكريم فاندهش أولا، ثم أفاق فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطراوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر (¬3). . وكان الوليد بن المغيرة شيخا كبيرا من قريش، وكان يكره الإسلام كراهية شديدة، ولكنه اعترف بأن القرآن تضمن حلاوة بديعة ليس لها نظير (¬4). وكان ذو البجادين راعيا من الرعاة، وكان يسمع آيات القرآن من المارين المسلمين، ¬

(¬1) ابن هشام 1/ 367. (¬2) ابن هشام 1/ 435 (¬3) الاستيعاب 2/ 433، والإصابة 1/ 410. (¬4) ابن هشام 1/ 288.

وفي يوم من الأيام ترك الأهل والبيت والمال والمتاع والأم والعم وحضر إلى النبي (ص) فأسلم (¬1). ولمعرفة تأثير القرآن يحسن الاطلاع على أحوال الذين تمكنوا من فهمه فقد كانوا قبلا يقدمون على القتل إزاء درهم، ولكنهم فيما بعد استهانوا بالأهل والمال في سبيل الدين الحق. إن الذين عبدوا طوال حياتهم نحو 360 صنما، تحولوا بأنفسهم دعاة إلى التوحيد. والذين تعودوا على أكل أموال اليتامى وخداع الأرامل هم الذين لقنوا الناس درس إعانة اليتامى ومواساة الأيامى. إن القبائل الأبية التي لم تخضع قط لشخص أو قانون انقادت لشرائع الله تعالى، حتى أن أفرادها قدموا أنفسهم لتنفيذ الحدود الشرعية في قضايا القصاص والزنا والسرقة وشرب الخمر فهل توجد نظائر ذلك في بلد متمدن، وهل يوجد احترام للقانون لدى المجرمين في مكان مثل هذا؟ إن قراءة القرآن الكريم وتلاوة آياته قد أثرت في الناس حتى كسدت سوق الفصحاء المبرزين، وجمد نشاط سوق عكاظ، فرجع الناس إلى القرآن لتنشيط طبائعهم وللحصول على اليمن والبركة، والحاصل أن تأثير القرآن المجيد في قلب الإنسان ولسانه وطبعه وفكره وحواسه وقواه قوى جدا، سواء كان ذلك للفرد أو الأمة وللقرية أو المدينة. ¬

(¬1) الإصابة 338/ 2.

الفصل الرابع نموذج التعليم

الفصل الرابع نموذج التعليم من أراد أن يعرف نموذج تعليم القرآن وتأثيره في النفوس البشرية عليه أن ينظر إلى أحوال الصحابة والتابعين وأئمة الدين وأن يطلع على مدى صبرهم على المصائب وتحملهم للنوائب وشكرهم على النعم، وأن يعرف تواضع المسلمين وخشيتهم لله ومواساتهم للناس وإخاءهم فيما بينهم ونفعهم لغيرهم وتعففهم وتساميهم وإكرامهم للضيوف، وأن يحيط علما بأصول الهدف والغاية عند المسلمين وأصول مدنيتهم وأصول حكومتهم. إن جميع هذه النماذج من إعداد القرآن وتوجيهه. قال القبطان (ايزال تيلر) في خطابه الذي ألقاه أمام المؤتمر الألماني للكنيسة في دولور همتين يوم 12 مايو 1887 م بصراحة: ((إن المناطق الهمجية التي أظلها الإسلام في أفريقيا قد انعدم منها إلى الأبد الزنا والميسر ووأد البنات ونقض الوعد والقتل والنهب والخرافات وشرب الخمر وغيرها. ولكن ديانة أخرى غير الإسلام إذا دخلت في جزء آخر من هذه المناطق رسخت الفواحش المذكورة بين أهلها وسكانها)) (¬1). إن القرآن الكريم بنفسه يصرح عن نموذجيته: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} (آل عمران: 110). اقرأوا أحوال صهيب، كان حدادا ولما منعته قريش من الهجرة إلى المدينة سلم لهم جميع ما ادخره ومضى لسبيله. فمن علمه هذا الإيثار (¬2). فكروا في سيرة أم سلمة، حيل بينها وبين زوجها، وسلب ولدها منها، ولكنها آثرت في سبيل الله سفر ثلاثمائة ميل وهي وحيدة، وانطلقت إلى مدينة الرسول (ص)، فمن أين جاءتها هذه الجرأة والتضحية والعاطفة (¬3). ¬

(¬1) ملخص من جريدة ((سانت جيمس جازيت)) لندن، 8 / اكتوبر 1887 م. (¬2) الاستيعاب 2/ 728. (¬3) ابن هشام 2/ 112.

كان عمر الفاروق يرعى إبل أبيه الخطاب، خائفا من فظاظته وغلظته (¬1)، ثم صار يحكم أيام خلافته على رقعة بلغت مساحتها نحو ثلاثة ملايين كيلو مربعا، وكانت عدالته في الحكم ومراعاته للشعب وتمسكه بالدين مضرب المثل وموجب الغبطة. تأملوا في كفاءته للحكم وصلاحيته لفتح البلاد، لقد أخضع ثلاث قارات لحكمه، ولم يتيسر له ذلك إلا بالعمل بتعليم القرآن الكريم. وكان خالد بن الوليد قد هزم في غزوة مؤتة بمساعدة جنوده المتطوعين جنود روما النظاميين خبراء الحرب، وكان عددهم يزيد على جيش المسلمين بخمسين ضعفا. انظروا كيف نشأت فيهم هذه العزيمة والهمة والثبات والشجاعة والتضحية والفداء. لو بحثنا بالفكر الصحيح والرغبة الصادقة لعرفنا أن السبب الحقيقي لهذه الإنجازات هو القرآن الكريم، الذي جاء به الرسول (ص) إلى محبي الإيمان هؤلاء. قبولية القرآن وتأثيره: من القبولية التداول بين الناس وكثرة الانتشار بينهم. تأملوا، لا يوجد الآن على وجه الأرض كتاب يقرأه ويسمعه يوميا أربعمائة مليون (¬2) شخصا خمس مرات، صحيح أن ثروة أوربا زادت كثيرا في عدد الأناجيل المطبوعة، ولكن لا يكفي هذا الأمر وحده في التداول والانتشار، إذ إن معنى التداول استخدام الشيء في الغرض الذي أعد له، وهذه الصفة لا تتحقق إلا في القرآن الكريم وتعني القبولية العظمة والاحترام الذي رسخ في القلوب نحو الكتاب. كان أصحمة النجاشي نصرانيا، وتلا عليه جعفر بن أبي طالب سورة مريم وكان أصحمة على عرشه، فجعل يبكي ويروي بدموعه رياضه في الجنة (¬3)، وكان عمر الفاروق أيام خلافته ذاهبا إلى المجد مرة إذ وقع مريضا فاتكأ إلى جدار وجلس ثم حمل إلى البيت، وعلم بعد السؤال عما أصابه فجأة، أنه سمع قارئا للقرآن يقرأ آية العذاب فتغيرت حالته (¬4). كان لبيد العامري شاعرا مبدعا يضرب المثل بأشعاره، وقد قيل فيها: اكتبوها على الحناجر ولو بالخناجر، وقيل إنه جاء مرة ليقابل عمر، فأكرمه أمير المؤمنين واستنشده ¬

(¬1) طبقات ابن سعد 3/ 266. (¬2) ازداد عددهم اليوم فبلغ أكثر من 900 مليون. (¬3) ابن هشام 1/ 360. (¬4) حلية الأولياء 1/ 51.

الشعر، فقال لبيد: أمير المؤمنين، ما أحببت الشعر منذ أبدلني الله به القرآن، وقد سر عمر بإجابته وزاد في راتبه خمسمائة درهم سنويا (¬1). وسمع أبو طلحة الأنصاري قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران: 92). وكانت عنده حديقة يبلغ دخلها خمسين ألف درهم سنويا، فحضر مجلس النبي (ص) وأنفقها في سبيل الله (¬2). ولو جمعنا مثل هذه النظائر لبلغت مئات. وكانت آية من القرآن تقضي على شدة الغضب والانتقام لدى الملوك العظام مثل محمود وصلاح الدين يوسف وعبد الرحمن الداخل والمنصور العباسي، آية واحدة من القرآن يتلوها أحد من المسلمين فكانت تغير أحوال الجبابرة وتهدئ حدتهم كأن جرة من الماء أسكنت شرارة من نار. وهذه الوقائع هي التي تدل على قبولية القرآن وتوضح مدى سيطرة عظمته وحرمته على القلوب. خصائص القرآن الكريم إن الخصائص التي تميز هذا الإمام المبين من الصحف السابقة وتعلي منزلته عليها كثيرة نذكر منها ما يأتي: 1 - سعة تعليم القرآن وعمومه للعالم كله. وهذه الميزة خاصة بالقرآن وحده. ومن يقرأ في التوراة في مئات المواضع عبارة ((رب بني إسرائيل)) ثم ينظر في القرآن كلمة ((رب العالمين)) يدرك فضل القرآن على التوراة جيدا. والقرآن نفسه يصرح عن ميزته هذه فيقول: {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين (*) لتنذر من كان حيا} (ص: 69 - 70). إن لفظ ((من)) يأتي في العربية لذوي العقول، ولذا يشمل كل فرد من أفراد الإنسان، ¬

(¬1) الاستيعاب3/ 1337، والإصابة 3/ 326. (¬2) البخاري رقم 1461.

ثم جاء وصفه بقوله ((كان حيا)). وهكذا يمكن للقارئ أن يقدر عمومية الآية وسعتها. فكل من دخل في ذوي العقول واتصف بكونه حيا، كفل له القرآن التذكير والتقريب إلى الله وإنذاره من عواقب الأمور، فهل نجد هذه الدعوى لدى كتاب آخر؟ إن المسيح جعل بشارته وإنجيله مثل الخبز، وجعل بني إسرائيل أولاده، والأمم الأخرى كلابا، يقول متى: ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب (¬1). 2 - شمولية تعاليم القرآن الكريم: إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل وصحف الأنبياء الآخرين الواردة في الكتاب المقدس، ورأيت بعض تراجم كتاب القيد وعرفت تاريخ ترتيبه وتأليفه، واستخرجت من الكتب المختلفة مبادئ كونفوشيوس مصلح الصين والبوذية التي أسسها بوذا وأصولها، وعرفت أحكام زرادشت وجاماسب، فوجدت أنها جميعها لها شكل واحد ولون واحد. وتوخيا للسهولة انظروا إلى الكتاب المقدس فقط، تجدوا في التوراة مجرد الأخبار والأحكام، وفي الزبور مجموعة المناجاة وفي الإنجيل الأمثال والمواعظ. والآن انظروا إلى القرآن الكريم، لقد تضمن المواعظ والأحكام والأخبار والأمثال والإنذار والبشارة، وفيه بيان الصفات الإلهية وإثبات الذات الربانية وطريقة الوصول إلى التقرب والتوحيد والتوكل والتفويض وتفصيل أيام الله وذكر الحياة والمماة ووجود العالم والفطرة البشرية وأسرار القدرة الإلهية ونتائج السطوة الربانية وبدائع النصرة الإلهية بأسلوب فريد يعمل على تطهير النفس البشرية من الرذائل وإنقاذها من آثار الحياة المادية، وخضوع الإنسان للخالق، وتحصيل نور اليقين، والتجرد من العلائق الدنيوية، والتشبه بالصفات الملكية. وهو أسلوب يعلو ولا يعلى عليه. 3 - يختص القرآن الكريم بين الكتب السماوية بأن نهري العلوم الأخروية والعلوم العقلية يزخران فيه جنبا إلى جنب، ومع أن معانيه العالية وردت بأسلوب بديع إلا أن الأدنى والأعلى معا يستطيعان التمتع بها. لقد كانت آية واحدة من القرآن هي التي حيرت الفيلسوف اليهودي إسحاق بن حنين، وهي نفسها التي ملأت جيب قلب الوحشي الافريقي بالدر المطلوب، والآية التي ¬

(¬1) إنجيل متى 26/ 1.

أعجز تفسيرها الرازي والغزالي، اهتدى بها بدوي تهامة إلى حل مشكلاته. فالحق أن القرآن الكريم بحر عميق بداخله الدر والنفع وأمواجه تقذف بزبد الشبهات والشكوك إلى الساحل وتأسر ألفاظه الألسنة وتمتلك معانيه القلوب، فهل سمعتم عن كتاب نثر غيره يحفظه الإنسان من أوله إلى آخره، ولا يسأم من إعادة تلاوته ولا تتقضي أسراره ولطائفه؟! 4 - ومن خصائص القرآن الكريم أنه هداية الدين والدنيا لأهل الشرق والغرب، وهو أيضا تشريع مدني لأهل الشمال والجنوب. وليس تعليمه خاص بأمة أو بلد أو لسان، كما أن توجيهاته لا تتعارض مع الفطرة البشرية الصحيحة، إنه لا يجعل الجنة اقطاعا لجنس واحد مثل اليهودية، ولا يجعل العالم كله مفتقرا إلى أسرة واحدة للتقرب إلى الله، ولا يعلم الإنسان أحكاما فوق جبلته مثل النصرانية، ولا يجعل نفسه مجموعة لأحكام غير صالحة للعمل ولا يخرج الأغنياء عن ملكوت السماء. ولا يعيب على عباد الله التزوج والتأهل. فهل يوجد كتاب غيره نجح في حكم أخصب المناطق على وجه الأرض حكما شرعيا، وأفاد جميع بني آدم بفوائده بعد القضاء على فروق اللون والوطن والنسل واللغة؟ 5 - ومن خصائص القرآن أنه يثتي على جميع الأديان المقدسة الطاهرة ويمدح دعاتها وهداتها وتوجيهاتهم. إنه لا يريد تكذيب صدق أبدا، ومن محاسنه حب السلام والأمن والعدالة والصدق. وسمى القرآن نفسه {مصدقا لما بين يديه} (البقرة: 97) وجعل تصديق الصادقين هدفه الأول. 6 - ومن خصائص القرآن أنه ((قول فصل))، يصدر قراره الحاسم في جميع القضايا المعقدة التي عجزت عن حلها الكتب السماوية. ومن هذه القضايا والأمور: قضية معرفة الذات والصفات، وقضية الوجود والشهود، ومسألة بقاء الروح وارتقائها، ماهية النجاة وكيفية الرضوان، والفرق بين الخالق والمخلوق، والرازق والمرزوق، ومسألة

الشفاعة والأعمال، ومسألة العقاب والجزاء، ومدارج الصبر والشكر، ومنازل التوكل والتفويض، وماهية العبادة والاستعانة، وروحانية الأنس والمحبة، وحقيقة النصرة الإلهية والمعية الربانية، ومسألة المعصية وحقيقة التوبة، ومراتب الدعاء وقبوله، وقضية الرهبانية والتأهل، ومسألة الطلاق والوراثة، وحقوق الأولاد والجيران، وحقوق الوالدين والزوجين، وحقوق الجسد وحقوق الإنسانية، وحقوق العمران، وعلم الفرائض، وأحكام الشفعة، وحقوق الأمة، والحكم الفردي والشورى والإمارة، وماهية الفساد وفيوض الأمن، والتمكن في الأرض والتمكن في الدين، وحدود العدل، وسعة الرحم، وقضية الراعي والرعية، وأصول الاستبداد والأثرة وغيرها. والأحكام التي أصدرها الإسلام في هذه القضايا وأمثالها، تعرف قيمتها ومنزلتها حين تسمع حجج المتخاصمين قبل القضاء. الله أكبر، إنه أعاد إلى نقطة الاعتدال كثيرا من قضايا الإفراط والتفريط، وهدى إلى الصراط المستقيم من ضل وبين الطرق الملتوية المعوجة، فلاشك أنه فعل القادر المطلق الحكيم، الذي أحاط علمه بالماضي والحال والمستقبل، وعلم فطرة الإنسان علما كاملا، وقدر على تربيته قدرة تامة. 7 - ومن خصائص هذا الكتاب الذي لا ريب فيه أن مقدمه شخص واحد رسول الله (ص). انظروا إلى كتاب القيد، يكتب مع كل آية ثلاثة أسماء. والتحقيق الحالي للآريين أن اسما واحدا منهما للمصلح الذي أعطى هذه الآية. وبتعبير إسلامي هو الشخص الذي نزل عليه الكلام، فلو عددنا هذه الأسماء لبلغت مئات، وثبت بذلك أن كتاب القيد قام بتقديمه مئات ض المصلحين، وتتفاوت أزمنتهم تفاوتا يصل إلى مئات السنين أيضا. وانظروا إلى كتاب ((العهد القديم)) إنه مجموعة إلهامات أو مؤلفات (موسى) و (يسوع) و (القضاة) و (صموئيل) و (الملوك) و (مؤلف التواريخ) و (عزرا) و (يحمياه) و (مصنف كتاب ردت) و (مؤلف كتاب آستر) و (أيوب) و (داود صاحب الزبور) و (سليمان صاحب الأمثال) و (غزل الغزلات) و (الواعظ) و (اشعياء) و (ارمياه) و (حرقي ايل) و (داني ايل) و (هو سيع) و (يوايل) و (عاموس) و (عبدياه) و (يونا) و (ميخة) و (نحوم) و (حبقوق) و (ضفياه) و (حجي) و (زكريا) و (ملاخي).

وهكذا العهد الجديد من عمل تلاميذ المسيح: (متى) و (مرقس) و (لوقا) و (يوحنا) و (بولس) و (يعقوب) و (بطرس). ولكن معلم القرآن الأول ومبلغه واحد (ص)، به بدأت هذه الصحيفة، وبه اختتمت، ومع ذلك اتصف بالكمال في معانيه ودعوته وتفرده في الدعوة إلى الله وفي الرشد والهداية، ولم يكن بحاجة في إتمام موضوعه ومفهومه إلى كتاب آخر، مع أن (رك فيد) يحتاج إلى (يجرفيد) و (سام فيد)، ويحتاج (أتهرفيد) إلى الثلاثة. ولا يكتمل العهد الجديد دون العهد القديم، وتبقى مطالب الأناجيل الأربعة ناقصة دون كتاب الأعمال، وأعمال الرسل ضرورية ضرورة الأناجيل. وبذلك يتضح سمو القرآن الكريم وشموله وكماله، وإن أردنا القياس الدقيق فلابد من الاطلاع على معانيه ومطالبه اطلاعا كاملا. 8 - ومن خصائص القرآن الكريم أن أسلوبه نقي نزيه لم ترد فيه كلمة فحش أو عبارة تنافي الحياء. اقرءوا كتاب حرقي ايل الذي قص فيه الرب على العباد قصة زوجتيه أهولة وأهوليبة. ويرى أفاضل النصارى أن هذه القصة وضعت للتمثيل ليس إلا، ولكن هل يترك هذا التمثيل زوجا على حسن ظن في زوجته؟ هل تتمنى الأسرة البشرية نموذجا أعلى من هذين الزوجين النورانيين؟ نعم انظروا إلى بذاءة الألفاظ: 1 - في نشيد الأنشاد يبدي شاب حبه نحو فتاة، وكذلك الفتاة تبدي عواطفها الغرامية نحو الشاب. 2 - ومن حسن تصرف النصارى أنهم جعلوا الفتاة أوروشليم وجعلوا الفتى المسيح، مع أن كلمة من كلماتها لا تشير إلى ذلك، بل الرجل يخاطب حبيبته بالأخت العروس (¬1). هل يرضي أهل هذا العصر بهذا الأسلوب، وهل كان اليهود في الماضي يتخاطبون فيما بينهم بهذه الطريقة؟ ¬

(¬1) نشيد الأنشاد 4/ 9، 10.

3 - في جميع كتب العهد القديم جعل فجور اليهود فجور أروشليم، ثم افترض أنها امرأة واستعملت كلمات نابية فاضحة لا تصلح أن تقرأ في الكنيسة أمام السادة والسيدات. 4 - اقرءوا الدرس العشرين من الأصحاح (23) لكتاب حزقي ايل، لن أقول أو أذكر الأخت أو الأم أو الابنة بل أسأل هل يمكن لامرأة شريفة أن تقرأها أمام زوجها وهل يمكن لرجل شريف أن يقرأها أمام زوجته. وهل يمكن أن يخبرها بمقصود هذه الألفاظ؟ وهل يدرس أستاذ تلميذته مع التزام الحياء ويشرح الأجزاء التالية في يجرفيد: باب 19 درس (منتر) 77 وباب 19 درس 88 وباب 20 درس 9 وباب 25 درس 7 أما القرآن الكريم فإنه يستعمل الألفاظ بلطف لم يعهد له نظير، فيعبر عن فراغ الإنسان من الحاجة بقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (النساء: 43). والغائط هو الأرض المنخفضة التي يتستر فيها الإنسان لقضاء الحاجة. وهكذا بلغ القرآن غاية السمو والرفعة في هذا الباب.

الفصل الخامس منزل القرآن الكريم

الفصل الخامس منزل القرآن الكريم هناك مثل معروف يقول: كلام الملوك ملوك الكلام. والقرآن الكريم هو كلام الملك الحقيقي مالك الملكوت الذي خلق الكلام وعلم قطعة اللحم النطق، وعلم العظم السمع، وعلم الأعصاب إدراك الكلام، والذي نشأ بأمره وإرادته اختلاف الألسنة وتباين اللغات في أولاد أب واحد وأم واحدة. إن بعض الكتاب النصارى الذين يخفون التعصب تحت ستار البحث يعترفون بكثير من محاسن القرآن الكريم، ولكنهم بعد ذلك يدعون أنه كلام محمدي. ونسأل مثل هؤلاء الناس: 1 - أليس اتصاف الإنسان بكونه مؤلفا لكتاب مثل القرآن هو الشرف الأعلى، فلماذا حرم النبي (ص) نفسه شرف كونه مؤلفا لمثل هذا الكتاب الأسمى؟ 2 - أيتلطخ مؤلف كتاب مثل القرآن برذيلة مثل الكذب؟ وهل الكتاب الذي علم ألوفا من الناس الصدق، وغير أحوال العرب في سنوات قلائل، وأثبت في القلوب عقيدة وجود الله الحي القيوم أحيا مئات الألوف من الناس، يخرج من قلب ولسان رجل لا يكون بنفسه صادقا؟ فكروا في النقطتين، إن موقف مؤلفي العالم كله يؤيد ما قلنا، وتصدق فلسفة الفطرة الإنسانية هذه الحقيقة. والآن نتوجه إلى إنجيل النصارى، فمنه يتضح أن خبر إرسال كلام الله إلى الدنيا كان قد جاء قبل آلاف السنين. 1 - جاء موسى إلى قومه بألواح الوصايا العشر فشك فيها القوم. 2 - طلب القوم أن يكلم رب إسرائيل موسى بحضرتهم. 3 - ذهب موسى بمن اختارهم من قومه إلى الطور، فغشيهم الظلام هناك، وظلل الغمام وهبت الريح بسرعة وشدة ولمع البرق واشتد الرعد وزلزلت الأرض واضطربت الجبال.

4 - ولما رأى بنو إسرائيل هذه الحالة صرخوا قائلين لموسى: ((تكلم أنت معنا فنسمع، ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت)) (¬1). 5 - ثم طلب بنو إسرائيل أن يضع الرب كلامه في فم موسى وهو يسمعهم إياه. 6 - وأجاب الله طلبهم هذا، وأخبرهم بأن كلامه يوضع في فم نبي آخر يكون من إخوان بني إسرائيل، وهو يقول للناس ما يسمعه من الله، ومن لا يسمع كلامي الذي يقوله ذلك النبي باسمي يحاسبه الله (¬2). وليلاحظ اليهود والنصارى تلك الوقائع الآن ثم يخبرونا: من هو النبي الذي وضع في فمه كلام الله سوى سيدنا محمد (ص)، ومن هو النبي (ص) لذي أخبر بأن كلام الله في فمه؟ ونحن نقول لهم جميعا: إنهم لن يستطيعوا الدلالة على النبي الذي صرح بلسانه بأن كلام الله في فمه، فضلا عن إسماع كلام الله. وهذه هي حجة رب العالمين على كاتمي الحق من أهل الكتاب وعليه تقوم محكمة الله يوم الدين. وقبل الإجابة يجب أن يتذكروا عبارة أشعياء (انظروا أعطى الأمي كتابا) وعلى اليهود والنصارى أن يدلوا على الأمي صاحب الكتاب. أيها اليهود أيها النصارى: ذلك الأمي هو محمد رسول الله (ص) الذي كان يلقب دائما بالنبي الأمي، ولم يلقب نبي غيره بالنبي الأمي ولا عرف بهذا اللقب. ¬

(¬1) سفر الخروج 10/ 19 وسفر التثنية 16/ 16. (¬2) سفر التثنية 18/ 18، 19، 20.

الفصل السادس تنبؤ القرآن ذي الذكر

الفصل السادس تنبؤ القرآن ذي الذكر هل يستطيع من يجعل القرآن من تأليف محمد (ص)، ولا يؤمن بنبوته، تعليل إخبار القرآن عن المغيبات القادمة، وإعلانه عن الزمن المستقبل؟ وإتماما للحجة على المنكرين وشرحا لصدور المؤمنين نذكر تلك التنبؤات الثابتة بالقرآن الكريم. والزمن الطويل الممتد عبر القرون الأربعة عشر يشهد بصدق تلك التنبؤات بدقة منذ نزول القرآن إلى اليوم أمام العالم كله. سبعة تنبؤات عن القرآن الكريم التنبؤ الأول: عدم الإتيان بمثل القرآن. قال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} (الإسراء: 88). إن عظمة ألفاظ الدعوى وقوتها بادية بالتأمل في الآية السابقة. عصر النبوة: على الذين يزعمون أن القرآن كلام محمد (ص) أن يتأملوا كيف أخزى التحدي المذكور زهيرا والنابغة وامرئ القيس وعنترة؟ إنهم كانوا يستكتبون كلامهم بماء الذهب على جلد الظبي ويعلقونه على جدران الكعبة أيام الحج، فكيف لم يقبلوا هذا التحدي؟ كان أبو لهب وأبو جهل وكعب بن أشرف وسلام بن مشكم من القرشيين واليهود قد ضحوا بالمال والنفس والولد في سبيل القضاء على الإسلام، فلماذا لم يلتفتوا إلى أمر يسير ووسيلة سهلة؟ ما أعجب الأمر! رجل تربى وترعع فيهم وتكلم بلغتهم، ثم استخدم كلمات مستنفرة لهممهم وموقظة لحماسهم في دينهم وعاداتهم وتقاليدهم وآلهتهم، وقدم لتأييد

دعواه دليلا بكلام جرى على لسانه. وفي مثل هذه الحالة لم يستطع أحد أن يتكلم بمثل كلامه وأن يبطل تحديه بإتيان كلام مثل كلامه!. العصر الحاضر: وإذا ما صرفنا النظر عن ذلك الزمن ونظرنا إلى عصرنا وجدنا مئات الألوف من اليهود والنصارى في سوريا وبيروت ودمشق ومصر وفلسطين، لغتهم الأم العربية، ويقدرون على إنشاء النثر العربي، ويصدرون الجرائد والمجلات، فلماذا لا يقفون أمام تحدي القرآن؟ إن فيهم الأدباء واللغويين الذين قاموا بتأليف المعاجم الشهيرة مثل: قطر المحيط والمنجد وأقرب الموارد والمحيط وغيره. فلماذا لم يسعوا لتأليف كتاب مثل القرآن ولو بعشر سور أو بسورة؟ والحقيقة أن الرجل كلما كان متفوقا في العربية وصاحب يد طولى في الأدب كلما تملكه رعب القرآن. إن الملايين تنفق اليوم في نشر النصرانية بسخاء، ولكن لم يظهر من يقبل تحدي القرآن الكريم. ويمكن أن يقول معترض أن النبي (ص) كان قد أتى بالتحدي المذكور بعد الاطلاع على كفاءة أدباء عصره، ولكن ماذا يقال عن الأدباء الذين جاءوا بعد عصره (ص)؟ التنبؤ الثاني: هو أن القرآن الكريم سيظل محفوظا إلى الأبد. قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 9). تتجلي قيمة هذا الوعد وعظمة حفظ القرآن إذا ما عرفنا شيئا من أحوال الصحف السابقة. 1 - كان اللوحان اللذان أعطيهما موسى مكتوبين على جبل الطور وهما أصل التوراة، وكانا قد تحطما حين جاء موسى إلى الميدان فوجد قومه يعبدون العجل، فأقلق موسى هذا الأمر كثيرا فرمى الألواح وأخذ أخاه. وبعد هذا الحادث تمت كتابة الوصايا العشر وغيرها في حياة موسى ووضعت في تابوت عهد الرب (¬1). وهذه هي النسخة التي يعتقد أنها كانت محفوظة إلى عهد داود في ¬

(¬1) التثنية (24، 9/ 31).

خيمة العبادة. ولكن الأصحاح الثامن من الملوك الأول يوضح أن تابوت العهد حينما أتى به من خيمة العبادة إلى هيكل سليمان لم يكن فيه سوى اللوحين الحجريين المنكسرين (¬1). والآن علينا أن نفترض دون أي سند كيف جمع سليمان شريعة التوراة ثم وضعها في صندوق العهد. لكن من المسلم به أن النسخة التي كانت في الهيكل قد أحرقت سنة 586 ق. م. على يد بخت نصر مع الهيكل، وفي عهد الملك دارا ملك إيران بنى الهيكل من جديد (زروبابل) وغيره من رؤساء بني إسرائيل، وتم البحث عن الكتاب ولكن لم يعثر عليه (كتاب عزرا). وهنا أعد عزرا بذاكرته وبمعونة حجي وزكريا الكتاب الذي يطلق عليه اليهود اسم ((التوراة)) (وهو الذي ترجم إلى اليونانية بأمر ابن توكس) وكان ذلك في عام 200 ق. م. وحينما هجم ابن توكس الرابع على مصر أحرق قائده تلك النسخة والهيكل، وتم البحث عن جميع كتب اليهود وأحرقت وأمر اليهود بالوثنية، وكان ذلك في عام 166 ق. م. وكان شيخ كاهن قد فر مع أبنائه الثلاثة إلى موطنه في مدينة مودن، وكتب أحد أبنائه ويدعى مقاييس كتابا في مجلدين عرف باسمه، وتعتقد عدة فرق من اليهود أنه هو الكتاب السماوي. انظروا إلى النقاط السابقة ولاحظوا أنه لا أساس لوجود ألفاظ الكتاب الأصلي. 2 - والآن اسمعوا قصة الإنجيل، اشتهر لدى النصارى أربعة كتب باسم الإنجيل وهي: إنجيل متى وإنجيل مرقس وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا. وحكاية إنجيل متى هي أنه كتب أولا بالعبرية في مدينة يهوذا بالشام، ولكن لا وجود لهذه النسخة العبرية الآن في العالم، وتوجد لها ترجمة يونانية، ولكن لا يستطيع أسقف نصراني أن يذكر الترجمة أو شخصية المترجم، أما حال الكتاب الحالي فيقول عنه شارح الإنجيل الأستاذ نورتن أن الباب الأول والثاني منه لا يصح نسبتهما إلى إنجيل لوقا، واعترف بأنهما من تأليف المؤلف الأصلي (كتاب الإسناد ص 53، النسخة المطبوعة 1837 م). ومؤلف الإنجيل ((لوقا)) تلميذ بولس، وهو لم ير المسيح، وخالف أستاذه المسيح ¬

(¬1) سفر الملوك (6/ 8 - 9).

في حياته. وألف لوقا إنجيله في مدينة انطاكية باللغة اليونانية، وقد صرح في بداية إنجيله أنه يؤلف الوقائع بعد التحقق من صحتها. وكان هناك أمل في صحة الوقائع التي وردت في إنجيله بعد هذا التصريح ولكن يقول الفاضل نورتن شارح الأناجيل: إن المعجزات التي أوردها لوقا دخلتها روايات كاذبة، وقد بالغ كاتبها مبالغة الشعراء، ويصعب التمييز بين الصدق والكذب في هذا العصر. (كتاب الإسناد ص 61). ولنتفكر هنا كيف يوصف الكتاب الذي يصعب فيه التمييز بين الصدق والكذب بأنه محفوظ؟ ومرقص تلميذ شمعون بطرس، ألف هو أيضا كتابه في انطاكية باليونانية، ويوجد خلاف بين موضوعات مرقس ولوقا. ولعل إنجيل يوحنا آخر الأناجيل تأليفا، وهو أيضا مؤلف باليونانية، ويقال إنه كان تلميذ المسيح، ولكن إنجيله احتوى على أثر كبير من العقيدة اليونانية القديمة. وما أجمع عليها النصارى كلهم هو أن إنجيلا من الأناجيل الأربعة لم ينزل على المسيح من الله، بل إنها من تأليف المؤلفين الذين نسبت إليهم. ثم أضيفت عليها صفة التقديس فذكروا أن مؤلفيها ألفوها بتأييد روح القدس، ولو صح ذلك لما كان هناك تناقض بين مطالبها ومضامينها، ولكنها تحتوي على تناقض يصعب بعده التطبيق. إن من شراح الأناجيل المعروفين (آدم كلارك) و (نورتن) و (هارون)، وهم متفقون على تعذر التطابق بين المعاني المتناقضة في الأناجيل. وقد اعترف الأسقف فرنج أن التحريف دخل في أربع أو خمس آيات من الأناجيل، وكذلك اعترف بأنها تتضمن نحو ثلاثين ألف خطأ ما بين صغير وكبير. ومجموعة الأناجيل الأربعة لا تزيد على مائة صفحة، ووجود نحو ثلاثين ألف خطأ في مائة صفحة ينفي تصور كونها محفوظة. ولا نريد الزيادة على هذا في هذا البحث. 3 - واسمعوا الآن حال كتاب المجوس، إن الأمة الإيرانية أمة قديمة، ولعل كتبها وجدت في زمن من الأزمان، ولكن كتاب (الزند) (¬1) كان قد فقد قبل عهد زرادشت. ¬

(¬1) ومعنى الزند وتكتب الزاي بثلاثة نقط زند الحجر الذي تخرج منه النار وقد أطلق عليه هذا الاسم لأن بداخله نور وشرحه موجود في الأوستا التي ذكرها المؤرخون العرب أيضا باسم الأبستاق.

ويقال إن كتاب الزند كان قد احتوى على خمسة وعشرين بابا، ويوجد منها الآن الباب التاسع عشر فقط واسمه (فنديداد) وبعد كتاب الزند حل محله كتاب يازند، ولكنه فقد أيضا بعد فتح الاسكندر المقدوني لإيران. وبعد الاسكندر استمرت طوائف الملوك نحو ثلاثة قرون وساءت الحالة الدينية أيضا. ولما ولي اردشير بن بابك ملك إيران تم تأليف الدساتير مكان كتاب الزند وكتاب اليازند، وأنزل منزلة الكتاب السماوي، ولما أنشأ ماني دينه قضى على الدساتير وبعد ماني أسس مزدك دينه، فقضى على كتب المجوس الدينية قضاء تاما، ووقع ذلك كله قبل الإسلام. ويقول المحققون عن الدساتير إنها مجموعة الأدعية فقط، التي تردد صباح مساء. ويشتهر عن كتاب الأفستا (الأبستاق) أنه ألف بعد نزول القرآن، وأثبت في بدايته ترجمة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وهذا المعنى أثبت باللغة الدرية (¬1) حتى يظل قائما. وهذه الأحوال تدل على أن الأمة الإيرانية لم توجد لديها بعد غزو الاسكندر صحيفة تستحق وصفها بأنها سماوية. 4 - من أقدم كتب الهند (القيد) وتدين له بالاحترام والتعظيم فرقتا الهنادك: آريا وسناتن دهرم. وبعد الاتفاق على احترامه تختلفان، فتقول فرقة آريا: إن القيد اسم لمنتربهاك (متن القيد) فقط، وتقول سناتن دهرم: إن برهمن بهاك أيضا القيد الأصلي، وهو ضعف (منتر بهاك) في الحجم. وقد أدى هذا الخلاف إلى أن الأمم المؤمنة بالقيد إما تخرج ثلثي القيد من الأصل، أو تدخلهما في القيد الأصلي. والصورتان تدلان على عدم حفظ كتاب القيد. وفي العصر الحاضر يقول جميع الهنادكة أن القيد أربعة، ووردت في سمرتي منو الكبير أسماء ثلاثة من كتب القيد ولم يرد فيه اسم أثر قيد. وهناك كتب قديمة أخرى بالسنسكريتية وردت فيها ثلاثة أسماء فقط، ولكن هناك بعض الكتب القديمة الأخرى التي أطلقت على نحو 32 كتابا اسم القيد. والهنادكة كلهم يعتقدون أن القيد ض عمل الله، ولكن مؤلف كتاب ((نيائروشن)) ¬

(¬1) أي اللغة الفارسية التي ظهرت بعد دخول الإسلام إلى إيران.

يدعى أن ((غوتم قيد)) من كلام الإنسان. وغوتم منزلته كبيرة، فكتابه من الكتب الستة المقدسة التي يؤمن بها كل من آريا وسناتن دهرم. ومن أديان الهند القديمة الجينية، وأتباعها لا يرون كلمة واحدة من القيد صحيحة، ولا يؤمنون بكونه نداء سماويا. وهم يدعون وجودهم من قبل القيد، ويرون كتبهم أقدم منه. والآن آمل أن يكون القارئ قد عرف من خلال هذا العرض الموجز أن العناية الإلهية لم تصحب واحدا من الكتب المذكورة بالحفظ والصيانة، ولذا شك في وجود كل كتاب شكا كليا أو جزئيا، أتباع دين ذلك الكتاب نفسه. فكما أن القدرة الإلهية لم تحفظ تلك الكتب، فقد انصرفت عن حفظ اللغة التي نزلت بها. فانظروا أولا هل تستعمل الآن اللغة العبرية القديمة لغة التوراة، والخالدية لغة المسيح، والدرية لغة زند ويازند، والسنسكريتية لغة القيد في أي قطر من أقطار العالم؟ فالقدرة الإلهية أصدرت حكمها بإعدام هذه اللغات وأصدرت قرارها بأن البشرية لم تعد في حاجة إلى هذه الكتب التي نزلت باللغات المذكورة. ثم قدروا العناية الإلهية التي أحاطت بالقرآن الكريم ثانيا، فكل حركة من حركات حروفه وكل حرف من حروفه وكلماته ثابت بالتوالي والتواتر، حتى إننا نجد أن جميع حروفه في الصين هي هي كما نجدها في مراكش. ولو لم يتول الله حفظ هذا الكتاب لوجب وجود آلاف الأخطاء فيه، فقد وصف بقوله تعالى: {ولا تخطه بيمينك} (العنكبوت: 48). فالدليل المذكور قطعي في حفظ الله له. وبالمناسبة نقدم مذكرة عن حروف القرآن، وذلك لأن عدد السور والأضراب والآيات يثبت في كل مصحف على وجه العموم.

كشف تعداد حروف الهجاء الحرف…عدد ورودها في القرآن أ…48992 ب… 12228 ت… 2404 ث… 3105 ج… 4232 ح… 4120 خ… 2105 د… 5972 ذ… 4739 ر… 12640 ز… 3580 س… 5976 ش… 2115 ص… 20083 ض… 682 ط… 1307 ظ… 782 ع… 9274 غ… 9211 ف… 4418 ق… 6612 ك… 10628 ل… 33520 م… 26515 ن… 44190 و… 25589 هـ… 16070 ي… 25909

أمير المؤمفين عثمان وحفظ رسم القرآن وفي ختام هذا البرهان تنبغي الإشارة إلى أن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه قام أيضا بخدمة جليلة في حفظ قراءة وكتابة القرآن، فقد استكتب تحت إشراف كاتب الوحي زيد بن ثابت سبع نسخ من القرآن الكريم، وأرسلها إلى أمرائه السبعة وأثبت عليها توقيعه وأمهرها بختم الرسالة. وكان الهدف من ذلك أيضا حفظ القرآن الكريم، حتى لا ينشأ تغير في رسم الخط أيضا. ولا شك أن نسخة القرآن بقلم كاتب الوحي وتوقيع الخليفة الراشد وختم الرسالة ذات قيمة كبيرة للكتبة التاليين من أجل توخي الصحة والنقل والمقابلة. النقل وطريق الإيجادة: تعتمد النقود اليوم على الإجادة، أن معيار الصحة لكتاب ما هو أن يكون نسخة طبق الأصل من النسخة التي نسخ منها، وهنا يبقى السؤال عن مدى ثبوت صحة النقود عنه، وللقضاء على الشك والاختلاف في النقل والصحة وضع الخليفة الراشد ((الأصل)) الذي يرجع إليه عند الحاجة. وذلك من خصائص القرآن الكريم، وهي خاصية لم تكن من نصيب أي كتاب مقدس في العالم. اعتراض: أراد معارضو الإسلام تشويه واقعة حفظ القرآن المشار إليه للحصول على غرضهم فقالوا: إن عثمان قد تصرف في القرآن. ولكنهم بقصور نظرهم لم يعلموا حالة البلدان الإسلامية في ذلك العهد ولا انتشار القرآن الكريم فيه. وكذلك جهلوا العلاقة بين عثمان وتلك البلاد، ولو اطلعوا على ذلك لما تفوهوا باعتراضهم. الصلاة والقراءة: من المعلوم أن الصلوات الخمس فرض في الإسلام، وفي ثلاث منها يجهر بقراءة القرآن، وبما أن المصلي مخير في أن يقرأ مما يشاء وما شاء، فإن ملايين المصلين في مئات المناطق والأمكنة يقرأون عديدا من آيات وسور القرآن كل يوم، الإمام يقرأ ومئات من المأمومين يسمعون، ومنهم كثيرون يحفظون ما يقرأه الإمام، وهذه الطريقة مستمرة منذ عهد النبي (ص) حتى الآن ومعمول بها في كل مدينة وقرية ونجع. انتشار نسخ القرآن: كان عدد قراء القرآن قد بلغ قبل خلافة عثمان الملايين، وكانت توجد ألوف النسخ في القرى والأمصار، فلم يكن في مستطاع عثمان أن يزيد حرفا أو ينقصها باستيلائه على ألسنة الناس وعقولهم وما لديهم من نسخ.

عثمان واختلافه مع الجمهور: نعم، نحن نعلم المسائل الفقهية التي اختلف فيها الصحابة مع عثمان، مثل إتمام الصلاة في منى، وأكل المحرم من صيد غير المحرم فإذا كان الصحابة قد اختلفوا معه في مثل هذه المسائل الصغيرة وبقوا على اجتهادهم، فكيف يتصور سكوتهم على تغيير يصدر عن سيدنا عثمان رضي الله عنه في القرآن؟ عثمان وخروج أهل مصر: وأكثر من ذلك نرى أن المصريين انتقدوا بعض أفعال الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، فاتهموه بالإسراف في بيت المال وبإعطائه المناصب أقرباءه، ولهذا ثاروا عليه حتى انتهى الأمر إلى شهادته. ومع ذلك لم نجد أحدا من المصريين ولا غيرهم يقول كلمة عن جمعه للقرآن. خلافة علي ومصحف عثمان: ولي علي الخلافة بعد عثمان، وطيلة خلافته لم يغير في ترتيب عثمان للقرآن، ولا قال كلمة في معارضته، بل كان يقرأ دائما من ذلك المصحف في الصلوات وغيرها. رفع المصحف في صفين: وقعت حرب صفين بين علي ومعاوية، فرفع أهل الشام المصاحف وقالوا: هذا هو الحكم بيننا وبينكم، فلم يقل أحد من أصحاب علي أنه لا يثق بمصحف أهل الشام، مع أن الفريق المحارب لو وجد سعة لكلمة لأبطل حيلة الخصم، ولكن الاتفاق تم على مصحف أهل الشام وانعقد الصلح الموقت بين الفريقين، وتدل هذه الوقائع على أن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه قام بخدمة عظيمة لحفظ القرآن اتفق عليها المسلمون، ولم يشك فيها عالم أو جاهل أو صديق أو عدو، وهذا الاتفاق تحقق للقرآن وحده، فصار خاصية قوية وميزة قوية لحفظ الكتاب المجيد. التنبؤ ايالث: عن جمع قراءة القرآن. قال الله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه (*) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} (القيامة: 17 - 18). نزلت أحكام القرآن في أوقات مختلفة، لذلك كان ترتيبه وجمعه أمرا صعبا، ولكن الله رب العالمين تولى هذا الأمر مثلما يتولى كل مؤلف في الدنيا ترتيب كتابه بنفسه، ولذا لم يحصل تقديم ولا تأخير في آية فيما بعد، فأهل العالم جميعا في الشرق والغرب يقرأون القرآن الكريم بنفس الترتيب. واتضح بالتنبؤ المذكور أن صورة الجمع والترتيب الموجودة في جميع أنحاء العالم توافق نفس الترتيب والقراءة الخاصة بالعلم الإلهي والقراءة السماوية.

فالزعم أو الوهم بأن أحدا من أفراد الأمة قد تصرف في القرآن زعم خاطيء باطل. ووهم لا أساس له من الصحة. التنبؤ الرابع: عن حفظ القرآن. قال تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} (العنكبوت: 49). إن فكرة حفظ الكتاب كله فكرة بديعة، ذلك لأنه لم يحفظ كتاب بكامله قبل القرآن الكريم، فمجرد ظهور هذه الفكرة دليل على كونها إلهاما. وطبقا لهذا التنبؤ يوجد عدد كبير من حفاظ القرآن في كل بلد وإقليم ومديرية ومدينة. وهم يتلون القرآن تلاوة صحيحة وبإتقان ويقين حتى أن الكتابة تصح طبقا لقراءتهم وليس العكس، لم يحتاجوا قط لتصحيح قراءتهم بنسخة مطبوعة أو مخطوطة. ولو شك حافظ في قراءته لرجع إلى حفاظ آخرين لتصحيح قراءته. وهذا التنبؤ تنبؤ قوي عجز العالم عن الإتيان بنظيره، ونظام الحفظ هذا من عند الله، وليس له مثيل. التنبؤ الخامس: عن مهولة حفظ القرآن. قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} (القمر: 17). ذكرنا قبلا أن فكرة حفظ الكتاب كله فكرة بديعة. ومن الظاهر أن ألوفا من المسلمين لما أسمعوا القرآن عن ظهر قلب لأمم العالم ظهرت لديهم فكرة تقليد هذا الأمر في كتبهم أيضا فأمامهم نظير لذلك. لكن لم نجد أحدا من اليهود أو النصارى أو المجوس أو الهنادك حفظ كتاب دينه المختار، وقد أفصح القرآن نفسه عن علة ذلك فقال إن الله تعالى أودع القرآن الكريم ميزة تيسر حفظه. انظروا فالله تعالى لم يضع هذه الميزة في أي كلام آخر حتى لو كان منزلا من السماء في أي زمان، فكيف يتيسر لأتباع ديانة حفظ كتاب دينهم، وكيف يجرؤ هؤلاء على إسماع كتابهم عن ظهر قلب بصحة وتيقن كما يفعل حفاظ القرآن؟

أربعة تنبؤات عن الإسلام

هذه هي قوة القدرة الإلهية العظيمة، وسر إرادة الفطرة الإنسانية، السر الذي وقف العالم أمامه عاجزا عن الإتيان بمثله. التنبؤ السادس: عن استمرارية كتابة القرآن وتزايد نشره وطبعه في صورة كتاب. قال تعالى: {وكتاب مسطور (*) في رق منشور} (الطور: 2 - 3). الرق هو الجلد المرقق الذي يعد للكتابة، وكذا الصحيفة الرقيقة البيضاء النقية التي تعد للكتابة. وأطلق في الآية على القرآن كلمة الكتاب والمسطور ثم المنشور، ومعنى النشر هو البسط والامتداد، وهو الذي نعبر عنه اليوم بالانتشار والذيوع. التنبؤ السابع: عن عدم وقوف الباطل أمام القرآن. قال تعالى: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت: 42). بذلت الفلسفة القديمة (باطل من بين يديه) والفلسفة الجديدة (باطل من خلفه) أقصى الجهود ولكنهما لم تستطيعا الوقوف أمام القرآن، ولم تقاوما أصلا من أصوله ولا معنى من معانيه، أي لم تنقص الفلسفة القديمة فيه شيئا، ولا زادت الفلسفة الجديدة فيه شيئا، فالقرآن كتاب كامل لا يسع تدخلا من أحد. أربعة تنبؤات عن الإسلام التنبؤ الاول: عن غلبة هدى الإسلام مع كره الكفار. قال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} (التوبة: 33). جنوب الجزيرة العربية والنصرانية: من أحوال الجزيرة العربية السياسية، زمان البعثة المحمدية أن سلطتة الحبشة كانت في جنوبها، وكانت روما تسيطر على القطاع الشمالي منها، وكانت الدولتان تدين بالنصرانية التي دخلت الجزيرة العربية في عام 320 م،

واعتنقها بنو غسان، ثم انتشرت تدريجيا في العراق والجزيرة العربية والبحرين وصحراء فاران ودومة الجندل. يقول الأستاذ سيديو: إن جهودا كبيرة بذلت لنشر النصرانية في الفترة ما بين 395 م إلى 513 م ولكن الإسلام سيطر على هذه المناطق جميعا في عدة سنوات فدخلت هذه البلاد في الدين الحق. الجزيرة العربية واليهودية: قدم اليهود إلى جزيرة العرب حينما طردهم اليونان والسريان من بلادهم، فانتشرت ديانتهم في الحجاز ونواحي خيبر والمدينة وقويت. وبمجئ الإسلام انتهت أيضا سيطرة اليهودية التي دامت نحو أربعة قرون. شرق الجزيرة العربية والمجوسية: كان الجزء الشرقي من الجزيرة العربية تحت سيطرة فارس، فكان حاكمها يعين من قبل ملك إيران وبموافقته، وقد انتشرت في هذا الجزء من الجزيرة العربية عبادة النار وتقاليدها على مستوى كبير. وقد نعتت كتب التاريخ العرب الذين تزوجوا البنت والأخت بأتباع المجوسية، ولم تصمد المجوسية أيضا مقابل تعليم الإسلام الطاهرة الزكية. وسط جزيرة العرب والوثنية: كان عمرو بن لحي قد أتى من الشام إلى الحجاز بصنم، فانتشرت الوثنية بين القبائل المشهورة وسط الجزيرة العربية قبل الإسلام بثلاثة قرون. أديان أخرى: وكانت هناك أديان أخرى في الجزيرة العربية مثل الصابئية والدهرية والمادية وإنكار القيامة وعبودية النفس وغير ذلك. وبلغ عدد أتباعها المئات أو الألوف. إلا أن الإسلام أنقذ هؤلاء جميعا من عبودية الباطل، وهكذا تحقق معنى قوله تعالى {ليظهره على الدين كله} في حياة نبي الإسلام (ص). التنبؤ الثاني: عن إتمامه وإكماله. قال تعالى: {والله متم نوره ولو كره الكافرون} (الصف: 8). موسى لم يدخل في أرض الميعاد: تأملوا سيرة موسى، لقد ظهرت على يديه آيات باهرة ليس لها نظير، فقد أهلك الله فرعون مصر، وجعل لبني إسرائيل طريقا في البحر يبسا. وأنزل عليهم المن والسلوى، وهداهم في النهار بزوبعة التراب، وأنار لهم بها خيامهم في الليل، كل ذلك تحقق ولكن لم يتحقق الهدف الأصلي في حياة موسى، ألا وهو إدخال بني إسرائيل في أرض الميعاد.

داود لم يمكن من بناء بيت الله: انظروا في سيرة داود، إنه أعطى الحكم على أسباط بني إسرائيل الاثنى عشر، وقتل جالوت، وهزم صموئيل، وبنى السور والحصون، ولكن لم يؤذن له ببناء بيت الله. جهد المسيح وانتقاص تعليمه: ادرسوا حياة المسيح، لقد استمر في الدعوة ليلا ونهارا، حتى لم تتيسر له الإقامة في مكان واحد ليلتين طوال أيام الدعوة التي استمرت ثلاث سنوات، ومع ذلك أعلن في كتاب يوحنا (¬1) أنه لم يتم تعليمه ولم يعلم الصدق كله. وفي مثل هذه الحالة يعلن القرآن أن الإسلام سيبلغ مدارج التمام والكمال ويصل نور الإسلام إلى هدفه. وقد نزلت الآية المذكورة حينما كان المهاجرون والأنصار خائفين وهم يتأولون طعامهم ويؤدون صلاتهم وكانوا مهددين من قبل أعدائهم في اليقظة والمنام، ولكن جاء وقت تحقق فيه الوعد، وطلعت شمس ذلك اليوم السعيد الذي أعلن فيه نبي الله (ص) في ساحة عرفة من على جبل الرحمة - وهو على ناقته القصواء كأنه واضع رجله على رأس أقصى علو العالم المادي - البشري الربانية فتلا قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة: 3). وهكذا رأى القراء التنبؤ ثم رأوا تحققه وصدقه. التنبؤ الثالث: عن ازدياد قوة الإسلام وانتشاره. قال تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (*) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} (إبراهيم 25، 24). قوله تعالى ((ثابت)) اسم الفاعل الذي يدل على الاستمرار، و ((السماء)) من السمو بمعنى الرفعة والشوكة والعزة والكمال. والشجرة التي امتدت جذورها في الأرض تكون أقوى وتحصل على غذاء أكثر. ¬

(¬1) إنجيل يوحنا 12/ 16 وما بعدها.

والشجرة التي تستمر في النمو وتبقى طراوتها تمتد فروعها وتتأرجح في الفضاء وترتفع إلى السماء وتتغذى ببركات السماء من الندى والمطر وتنال من بركات الأرض من ماء الأنهار والعيون يكون جذعها واحدا في تجمعها ولكن تعدد فروعها، وهذا هو التشبيه البليغ لكلمة الإسلام الطيبة، لقد قامت ودامت حيث بذرت بنورها، وامتدت فروعها إلى الصين وبلاد أفريقيا وانجلترا وأمريكا. يحكى عن الأمة الهندوكية أنها جاءت من وسط آسيا، ويقال إنها انحدرت من التبت، فاذهبوا إلى التبت وتركستان وما وراء النهر واسألوا الناس هناك، وانظروا هل تجدون أحدا يصدق هذه الدعوى؟ كلا، وهذا يعني أن جذورها لم تثبت، وهكذا حال أكثر أمم العالم. كانت أرض فلسطين قد أعطيت لبني إسرائيل على أنهم لو بقوا على اتباع الشريعة لسلمت لهم مملكتهم وحكومتهم إلى الأبد، ولكن هل ثبتت جذورهم في أرض الميعاد تلك؟ في الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918 م) قدم اليهود قروضا سخية إلى الدول الكبرى حتى تجعل أرض الميعاد وطنا قوميا، ولكن سكان تلك الأرض لم يسمحوا باستقرارهم فيها. ولو أثمرت جهود انجلترا وتحققت مملكتهم لما كانت المملكة التي تم وعدها مع إبراهيم وموسى وداود عليهم السلام، بل كانت طاعة عبودية كتلك التي سمحت لليهود بالإقامة في تلك الأرض من قبل بخت نصر وكشتاسب، حينما كانوا في عهد المسيح تحت تبعية الروم. إن الوطن القومي للأمة المجوسية هو إيران، ولكن لا نجد الآن من يسأل عنهم هناك، فهل يصدق على مثل هذه الأمم قوله تعالى ((أصلها ثابت))؟ وهل تدعى الأمة اليهودية والهندوكية والمجوسية وغيرها في جمودها الحالي وانحصارها داخل بلادها أنها مصداق قوله تعالى ((فرعها في السماء))؟ أما الإسلام فليست شجرته مدينة لبيت أحد أو فنائه أوحديقته، بل الخلاء الواسع تحت السماء مكانها وهي تمتد وتنتشر فيه. أعيدوا النظر إلى الآية، إنها تبين خمسة محاسن للإسلام:

1 - شجرة طيبة. فليعلم أن الإسلام يمتاز بتعليم الوحدة ومساواة الحقوق، ولذا جاء تشبيهه بالشجرة التي يكون لها أصل واحد وفروع وأوراق كثيرة تشبيها رائعا، فهي كلها تستفيد وتنتفع في الغذاء والنماء بذلك الأصل. 2 - وهي طيبة، ويدخل فيها جمال المنظر، ولها ظل وثمر. وكذا حال الإسلام فإنه يجذب القلوب بشكله الجميل ومظهره الطيب، وإنه طيب لتعاليمه الطيبة الزكية. 3 - أصلها ثابت. 4 - فرعها في السماء، وقد سبق أن تكلمنا عن ذلك في الدليل الأول. 5 - تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. إن وقت إثمار الشجرة محدد فبعضها يثمر في الصيف وبعضها في الشتاء وبعضها في الربيع وبعضها في الخريف. والله تعالى وصف الإسلام بأنه يثمر في كل وقت. انتشار الإسلام أثناء إقامة النبي (ص) بمكة: انظروا إلى بداية عهد الإسلام حينما كان النبي (ص) يقيم بمكة، وكان المسلمون يلجأون إلى البلدان المختلفة حفاظا على أرواحهم وإيمانهم، فانتشر الإسلام في اليمن والحبشة في ذلك الوقت. انتشاره أيام إقامته بالمدينة: وانظروا إلى الدور الثاني حيث كان النبي (ص) يقيم في المدينة، فقد دخل الإسلام في تلك الفترة أهل البحرين وعمان ودومة الجندل وثغور الشام. وانظروا إلى الدور الثالث حينما احتجبت شمس النبوة، فانكسرت قلوب المخلصين وتشجع المنافقون. انتشاره في عهد الصديق: كان المعاهدون قد أعلنوا نقض المعاهدة، وجمع المتخاصمون جيوشهم على حدود العراق وإيران. فتقدم الأعراب تحت قيادة أبي بكر الصديق خليفة الرسول (ص) فاستنار ضعاف القلوب بنور الإسلام. انتشاره في عهد الخلافة الراشدة: وفي الدور الرابع جاءت خلافة عمر الفاروق رضي الله عنه وعثمان الغني رضي الله عنه، فوصل الإسلام من شرق سيبيريا إلى غرب تونس. وفي العصر الأموي تخطى الإسلام جبل الطارق وعبر البحر حتى سيطر على الأندلس.

إسلام المغول: وبعد نهضة دامت نحو سبعة قرون دب الضعف والانحطاط في الدولة الإسلامية حتى تعرضت بغداد للدمار والهلاك، ولكن في نفس تلك الأيام تحول المغول، الذين كانوا يقطعون شجر الإسلام ويستأصلونه، إلى حماة للإسلام وصاروا من ثمار شجرته الطيبة. فلسفة اليونان وأوهام الهنادكة: والحاصل أن الإسلام تقدم وانتشر أيام الشدة والاضطهاد وأيام النهضة واليسر على حد سواء. وقد تعرض هذا الدين لهجمات الفلسفة اليونانية والأوهام الهندية والترف الإيراني والتوحش البربري، ولكنه استمر في الانتشار والتقدم مع هذه العراقيل. السياسة الأوربية والفلسفة الجديدة: وفي عصرنا هذا تصوب الفلسفة الجديدة سهام نقدها إلى الإسلام بالإضافة إلى ما أحدثته القوى الأوربية من شتات فكري، وتعرضت دول الإسلام للهلاك، وتقلص ظل تركيا التي كانت دولة عظمى، وتحول المغرب من دولة عظيمة إلى دولة مستضعفة، وافتقرت حكومات شبه الجزيرة العربية والعراق إلى الأجانب، واختل أمر تنظيم الأمة، ومع ذلك فالإسلام يبسط ظله على انجلترا وألمانيا وأمريكا، فتدخل في كنفه كبار الشخصيات. نهضة الإسلام في العهد الحالي: تضاعف عدد المسلمين في الصين وأفريقيا في عشر سنوات، فانظروا إلى هذه الأحوال واعتبروا، وتصوروا مدى صدق قوله تعالى: {تؤتي أكلها كل حين}. إن الإنسان حينما ينظر إلى نهضة الإسلام والمسلمين في حين واحد يدرك قوة الأمر الإلهي وحكمة الرب الكريم. التنبؤ الرابع: عن تقدم الإسلام بأدلته الحقة، واهتداء الناس بآيات الأنفس والآفاق إليه. قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (فصلت: 53). هذا هو الأمر الذي جذب العرب إلى الإسلام ودفعهم إلى قبوله فتدبروا هل يرفض رجل سليم العقل شهادة صدق أمر اجتمعت عليه آيات القدرة الداخلية والخارجية؟ وحينما تتوفر أمام السمع والبصر والفؤاد البراهين الساطعة - التي ترتفع بالحواس

الظاهرة والباطنة إلى قمة التصديق - فكيف يتيسر لأحد إبطالها؟ إن الله تعالى أرى من خاطبهم النبي (ص) الآيات التي شهدت بها ضمائرهم، والآيات التي أيدتها حوادث الأرض والسماء وتقلباتهما، وهناك أقروا بصدق الإسلام وتساقطوا مثل الفراش على مصباح الهداية، ونثروا مثل الزهور أنفسهم وأموالهم حول منبع الأنوار. إن أغلب آيات موسى التسع كانت تتعلق بالآفاق، فقامت حجة الله على آل فرعون، ولكنهم بقوا منعزلين عن الهداية. أما الآيات القرآنية فكانت تتعلق بالأنفس والآفاق معا، ولذا اقترب مخاطبو النبي (ص) من نور الحق، واستناروا به حتى ساروا نورا للآخرين، وهذا هو تأويل قوله (ص) ((أصحابي كالنجوم)). تنبؤ عن غلبة المسلمين: قال الله تعالى: {وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 173). تعرض المسلمون لأنواع من الظلم والاضطهاد طوال المدة التي لم يؤذن لهم فيها بالقتال والدفاع الحربي، ثم رحمهم الله تعالى بسبب اضطهادهم وتضعضعهم فأذن لهم بالقتال، وانتظمت جماعة المسلمين بالتنظيم العسكري حتى صح إطلاق لفظ ((الجند)) عليهم، ومنذذ ذلك الوقت لم ينهزم المسلمون في موقعة، بل توالت عليهم الفتوح وحالفهم النصر والظفر، واقرأوا عن حروب العراق وفلسطين والشام وإيران وخراسان وتركستان ومصر والسودان حتى تعرفوا أن المسلمين لم ينهزموا في موقعة من هذه المواقع، بل تمت لهم الغلبة والنصرة في كل مكان. ومثل هذا التنبؤ لا يصدر إلا عن الذات التي تملك إذلال الأمم وإعزازها، الذات التي أحاط علمها بالمستقبل أكثر من إحاطة الإنسان بالعهد الماضي. وقوله تعالى ((جندنا)) يتطلب مزيدا من التأمل، ومعناه الجيش الإلهي، والظاهر أن هدف مثل هذا الجيش لا يكون إلا إعلاء كلمة الله، بعيدا عن فتح الكنوز وتملك الخزائن، فإذا تغير هذا الهدف لا يليق بهذا الجيش أن يتصف بهذه الصفة وإذا لم يتصف جيش بهذه الصفة ينهزم ويتراجع أمام الأمم الأخرى. وإذا كان المسلمون قد حرموا الغلبة التامة في القرون المتأخرة فسبب ذلك هو ابتعادهم عن كونهم جندا لله، وعلى هذا فإن الآية الكريمة المذكورة تضمنت تنبؤين:

- لن ينهزم المسلمون ما دام هدفهم إعلاء كلمة الله. 2 - إن وعد الله المذكور لا يصدق ما لم يبق المسلمون على هدفهم المذكور. تنبؤ عن خلافة الأرض: قال تعالى: {ويجعلكم خلفاء الأرض} (النمل: 62). في هذه الآية خطاب لعامة المسلمين. وقد تحقق هذا التنبؤ إذ حكم بنو أمية في دمشق نحو ألف شهر، ثم سيطروا على غرناطة وغيرها، ودام حكمهم على الأندلس قرونا عديدة. ومن تحققه أن خضعت مصر لحكم المسلمين منذ العصر الفاروقي إلى الآن، وتعاقبت على عرشها أسر عديدة. ومن تحققه أن بني العباس حكموا في بغداد بعد انقراض الدولة الأموية نحو ستة قرون. وكذلك حكم المماليك في التركستان وخراسان وغيرها، ثم فتح فرع منهم القسطنطينية فحكموا أوربا، وحكم فرع آخر الهند قرونا عديدة. والحاصل أن حكم الأمويين والعباسيين والأتراك والأكراد والمماليك والآفغان لبلاد فراعنة مصر وأكاسرة إيران وقياصرة روما تحقيق للتنبؤ المذكور، ومن الواضح أن مثل هذا التنبؤ لا يكون إلا من عند الله تعالى عالم الغيب. تنبؤ عن حالة المؤمنين في الدنيا: قال تعالى: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين} (النحل: 30). هذه الآية من سورة النحل، وهي مكية، ومن المعلوم أن المؤمين كانوا في مكة في ضيق وشدة وفقر وعسرة، حتى إن البعض لم يكن يجد ملبسا كاملا، وواجه البعض الأسر والحبس بسبب إيمانه، وكان البعض يلقى على الأرض الحامية ويوضع الحجر الثقيل على صدره ويوضع اللجام في فم البعض ويضرب بالسوط ويساق مثل الفرس، ويلقى البعض على النار، وكان الكفار يحسبون أن يبقى المسلمين على هذه الحالة دائما. ولكن الله تعالى أخبر بكلامه أن هذه الحالة سوف تتغير وتتحسن حالة المؤمنين. ورأى العالم بعد الفتوح أن مسلمي القرون الأولى قد استمتعوا بالنعيم والترف والعزة والكرامة، حتى اعترف الكفار بصدق تنبؤ القرآن وإخباره عن هذا الأمر. أخرج أبو داود عن جابر قال قال لي رسول الله (ص):

((أتخذتم أنماطا؟)) قلت: وأنى لنا الأنماط؟ فقال: ((أما إنها ستكون لكم أنماطا) (¬1). ثلاثة تنبؤات عن المهاجرين: 1 - قال الله تعالى: {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة} (النساء: 100). 2 - وقال تعالى: {فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيأتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب} (آل عمران: 195). 3 - وقال تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون (*) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم (*) خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم} (التوبة: 20 - 22). هذه الآيات الثلاث عن المهاجرين الطيبين خاصة، والوعد في الآية الأولى خاص بالدنيا، بينما هو في الآية الثانية والثالثة عن الدنيا والآخرة كليهما. كان المهاجرون قد تركوا الأهل والوطن والمال وهاجروا مع رسول الله (ص) إلى المدينة، فملكهم الله تعالى حسب الآية الأولى صناعات كبيرة، وتجارات واسعة. أما وعد الجنات والنعيم المقيم فقد تحقق جزء منه في الدنيا، تأملوا إن الذين فتحوا العراق والشام وإيران ومصر وخراسان والسودان كانوا من المهاجرين، ومن القادة الكبار خالد بن الوليد سيف الله، وأبو عبيدة بن الجراح أمين الأمة وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي سرح، وهم الذين نشروا نور الإسلام في البلاد المذكورة، وعمموا نعيمها المقيم لأهل الإيمان. تنبؤ عن غنى المسلمين: قال الله تعالى: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} (التوبة: 28). إن كلمة ((سوف)) تدخل على المضارع فتجعله بمعنى الاستقبال البعيد، فقد تحقق هذا التنبؤ بعد انقراض عصر النبوة، فقد كثرت ثروة الصحابة بحيث لم يستطيعوا تقديرها. فلما توفي عبد الرحمن بن عوف القرشي ترك ألف إبل وثلاثة آلاف من الغنم ومائة ¬

(¬1) أبو داود في اللباس 11/ 203 - عون العبود.

فرس ناهيك عن النقود والأمتعة وقد استحقت إحدى زوجاته سهما بمعدل (8/ 3) وقد بلغ (83000) دينار (¬1). وكان عند الزبير بن العوام ألف غلام يأتون إليه بما يكسبون، وكان الزبير ينفقه كله في الصدقات ولا يمسكه حبة (¬2). تنبؤ عن انعدام الوثنية: قال الله تعالى: {ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته} (الشورى: 24). المراد بالباطل الأصنام، كما دل عليه النبي (ص) بنفسه، فقد أخرج البخاري (¬3) عن عبد الله قال: دخل النبي (ص) مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل}. ومن تحقق التنبؤ المذكور وصدقه أن البلاد العربية بمعزل عن الوثنية إلى الآن فلا نكاد نجد صنما في أي جزء منها. وقوله ((بكلماته)) يتطلب التفكير مرة أخرى، فإن وظيفة القضاء على الباطل وإحقاق الحق هي للكلمات الإلهية، ومن تأثير كلام الله أن الباطل لا يقف أمامه. كانت الصين والهند وآسام وغيرها من البلاد الوثنية، وإعراض ألوف العباد من سكانها عن الوثنية كان نتيجة تأثير كلام الله تعالى، فحيثما انتشر الكلام الرباني انعدمت الوثنية، وظهور فرقة البروتستانت في النصرانية من هذا التأثير نفسه. فأتباع هذه الفرقة لا يعبدون الصور ولا ينصبون في كنائسهم تماثيل المسيح ومريم ويوحنا، ولا يسجدون لها. تنبؤ عن المهاجرين المظلومين ومصيرهم: قال تعالى: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} (النحل: 41). وحتى نعرف الذين تنعموا بالنعم الربانية وفق هذه الآية الكريمة ينبغي أن ننظر إلى ¬

(¬1) الاستيعاب 2/ 847. (¬2) الاستيعاب 1/ 563. (¬3) البخاري 8/ 15 رقم 4287.

أسماء المهاجرين ونطلع على أحوالهم ونقارن بين نجاحهم في الدنيا وأجرهم العظيم في الآخرة. إن آية صغيرة أعلنت عن مصير مئات من الصالحين، وهي وحدها دليل واضح على كون القرآن كلام الله تعالى وعلى فوز المهاجرين في الدنيا والآخرة. وذكر سعادة الدنيا والآخرة ورد في ذكر يوسف أيضا، فقال الله تعالى: {قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} (يوسف: 90). والآية المذكورة تدل على أن الله تعالى كان قد جمع للمهاجرين سعادة الدارين، مثلما جمع ليوسف عليه السلام. تنبؤ عن تقدم الصحابة ببطء وبالتدريج حتى يملوا إلى الكمال فيما بعد: قال تعالى: {كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} (الفتح: 29). ذكرت الاية ست وقائع ومدارج: * خروج شطأ الزرع من الأرض. * قوة هذا الشطأ. * وكان هذا في مكة المكرمة. * استغلاظ هذا الشطأ. * استواؤه على سوقه. تحقق هذا في المدينة المنورة. وبعد المدارج الأربعة يأتي ذكر نتيجتين خارجيتين. * فرح الزراع برؤية ذلك الزرع، وهذا رضوان من الله تعالى. وقد جاء إعلانه في آية الإكمال. * موت الكفار غيظا وحسدا برؤية ذلك المشهد. وهذا عن الأفراد والأمم الذين لم يعجبهم وصول المهاجرين إلى هذه المكانة العالية.

وهكذا تضمنت الآية المذكورة ستة تنبؤات. وينبغي أن ننظر إلى هذا التنبؤ مع التنبؤ الذي شبه فيه الإسلام بالشجرة الطيبة. تنبؤ عن زيد بن حارثة: كان جبير بن مطعم (¬1) اشترى زيد بن حارثة لخديجة الكبرى من سوق عكاظ، ولما تزوجت خديجة النبي (ص) أمرت زيدا بخدمة النبي، ولما بعث النبي (ص) آمن به زيد في اليوم الأول الذي آمنت فيه خديجة وآمن فيه علي وأبو بكر رضي الله عنهم، فهو من السابقين الأولين، وقال الله تعالى عنه: {إذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه} (الأحزاب: 37). وبهذه الآية علمنا أن زيدا ممن أنعم الله عليهم. وتم تحديد المنعم عليهم في آية أخرى، يقول تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} (النساء: 69). والنتيجة أن الشهيد منعم عليه من الله، والمنعم عليه إن لم يكن نبيا أو صديقا فلابد أنه شهيد أو صالح. وهكذا أخبرت الآية الكريمة عن زيد بن حارثة بشهادته، وقد استشهد في غزوة مؤتة عام 8 من الهجرة وهو قائد الجيش، وبذلك تحقق التنبؤ المذكور. تنبؤ عن إسلام الأمم الأخرى: قال تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} (محمد: 38). في الآية خطاب للذين أعرضوا عن الجهاد، كما يتضح من العبارة المذكورة للقرآن، والآن انظروا إلى الذين جاهدوا في إفريقيا والأندلس وخراسان والسند والهند فقد كانوا من الأمم التي لم تتعلق بهؤلاء المنافقين في الحسب والنسب. والخدمات التي قام بها الأتراك والمغول والخلجيون والسوريون والغوريون لإعلاء كلمة الله تندرج كلها تحت هذا التنبؤ. ¬

(¬1) في الاستيعاب 2/ 543 أن حكيم بن حزام اشترى زيدا، وكذا في الإصابة 563/ 1.

تنبؤات عن المؤمنين

تنبؤات عن المؤمنين التنبؤ الأول: عن الخلافة الراشدة، وقد وردت فيه أمارتها بوضوح، وهذا التنبؤ الواحد يتضمن ستة تنبؤات. والآية الكريمة التالية تضمنت ستة تنبؤات، ووعيدا واحدا. قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات، 1 - لسيتخلفنهم في الأرض، 2 - كما استخلف الذين من قبلهم، 3 - وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، 4 - وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، 5 - يعبدونني لا يشركون بي شيئا، 6 - ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} (النور: 55). وهذا الوعد هو للذين يمثلون تعليم النبوة ويتصفون بالعمل الصالح. وهو يتضمن التنبؤات الستة الآتية: الأول: الخلافة في الأرض: ألف: قوله تعالى قد تفرد دائما بإقامة الخلافة، فقال عن خلافة آدم: {إني جاعل في الأرض خليفة} (البقرة: 30). وقال عن خلافة داود: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض} (ص: 26). وقال حينما وعد المؤمنين: {لسيتخلفنهم}. وبذلك ثبت أن أسماء الخلفاء الراشدين قد وضعت في القرآن الكريم وأن تعيينهم وانتخابهم كان من الله تعالى. ب - نزلت الآية في العام الخامس من الهجرة، إذ ذكرت قصة الإفك في سورة النور التي منها هذه الآية، وهذه القصة وقعت في العام الخامس من الهجرة باتفاق علماء السيرة. ومن هنا علم أن الوعد المذكور يدخل فيه كل من آمن قبل العام الخامس الهجري

ولذا ورد قوله ((آمنوا وعملوا)) بصيغة الماضي. وينتج عن هذا الوعد أن من أسلم أو ولد بعد نزول الآية المذكورة وادعى الخلافة الراشدة التي يتم تحديدها من الله تعالى لم تصح دعواه. ج: لقوله ((الأرض)) معنى عام وخاص، فإن كان معناه أرض الميعاد كان خاصا، وإن كان معناه مطلقا كان عاما. وقد ورد إطلاقه في القرآن على الصورتين، فقوله تعالى: {له ما في السماوات وما في الأرض} (البقرة: 255). يراد فيه بالأرض جميع الكرة الأرضية. ويراد في قوله: {وكذلك مكنا يوسف في الأرض} (يوسف: 56). (أرض مصر). ويراد مثلا بالأرض في قوله تعالى: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} (المائدة: 21). أرض الميعاد التي قال تعالى عنها؟ {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} (الأنبياء: 105). وهكذا يراد بالأرض في الآية أرض الميعاد، وهي تخبر أن أرض فلسطين التي أعطاها الله تعالى أولاد خليله إبراهيم، وكان بنو إسرائيل يملكونها منذ آلاف السنين، يسيطر عليها الآن خلفاء الأمة المحمدية. وعلى هذا المعنى أيضا تتضمن الآية تنبؤا صريحا، فلم تكن هناك علامات وقرائن حين نزول القرآن وكذا طيلة الحياة النبوية على أن المسلمين تمتد سيطرتهم خارج الجزيرة إلى الأرض المقدسة. فكان الأعداء (وخاصة دولة روما المسيطرة على الأرض المقدسة) يستعدون للهجوم الشامل المفاجئ على الجزيرة بعد وفاة النبي (ص) بينما يهاجم ملوك مصر والحبشة أصحاب الجزية من بلادهم، ويتقدم قيصر من جهة الشام، وبهذه الخطة تتم السيطرة على الجزيرة كلها في وقت واحد، ويقضي على هذا الدين الجديد الذي سيطر على النصرانية في الجزيرة العربية، وزلزل بالأدلة العلمية أسس التثليث في عيون العالم كله.

ومع استعداد الأعداء المذكور يصرح القرآن الكريم بأن أرض الميعاد ستكون للمؤمنين، وفعلا تحقق ما ورد ذكره، وتحقق تشبيه قوله ((كما استخلف)). ويمكن أن يراد بالأرض عامة البلاد، فإن العراق وفلسطين والشام وآسيا الصغرى ومصر وإيران والبحرين وخراسان والمغرب وتونس والسودان وغيرها من البلاد التي كانت انضمت إلى الأعداء المهاجمين قد دخلت كلها في حوزة الخلفاء. الثاني: أن الآية لو اقتصرت على الفتوح المكية لقال قائل: إن الخلافة الموعودة كانت تتضمن البركات الدنيوية فقط، ولكن التعمق في قراءة الآية يوضح أن الآية تتضمن كذلك وعد التمكين للدين وعزته وشوكته. ويمكن أن يقول قائل: إن التعبير بالدين قد جاء عن غير الإسلام أيضا، كما في قوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} (الكافرون: 6)، ودفعا لهذا القول زاد الله تعالى قوله {الذي ارتضى لهم}، وقوله تعالى {ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة: 3) - في آية الإكمال يفسر ما أجملته الآية المذكورة {الذي ارتضى لهم}، ثم تأتي آية أخرى عن الإسلام فتقول: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران: 19). وهذه الآيات البيات توضح بقوة أن دين الخلفاء هو الدين المرضي المختار عند الله تعالى. الثالث: قوله تعالى: {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}. وهذا المقطع من الآية يخبر عن الأمن الشامل والراحة التامة والرخاء الكامل الذي تحقق في عصر الخلفاء الراشدين. وكذلك تحقق فيه التنبؤ الذي ذكره النبي (ص) لعدي بن حاتم من أن امرأة من صنعاء تحج البيت وحدها ولا تخاف إلا الله. فهذه الكلمات الطاهرة من الآية تدل على النظام الداخلي والخارجي، كما أن الكلمات السابقة تبين فتح البلاد وتملك الأرض ويتعذر اجتماع الوصفين في عصر فاتح من فاتحي العالم. فقد خرج الاسكندر من مقدونية ودمر إيران وأخضع مصر وقضى على بابل ووصل إلى آسيا الصغرى، وخرج تيمور من تاتارستان وسيطر على التركستان واحتل عرش كابل

وحكم على الهند وخرب بغداد وأمر السلطان بايزيد يلدرم في أنقره، وأخضع روسيا ثم عاد إلى تاتارستان. إن الصين كانت تخافه وتقدم له دولتا منغوليا وكوريا الخراج، ولكن نظام بلادهما لم يكن شيئا يذكر. وتنبؤ القرآن يصرح بأن الخلافة تكون جامعة للوصفين العاليين، وتضرب مثالا للحكم تعجز عن تقليده ديمقراطية فرنسا وأمريكا. الرابع: قوله ((يعبدونني)) شهادة وتصديق لإخلاص الخلفاء في الطلب وصدقهم في الإرادة وثباتهم في العلم والعمل، فإن إخبار الله عن قبوله لعبد منتهى العزة والفخر، وكان القرآن قد خصه بالأنبياء، والآية قد أشركت فيه الخلفاء الراشدين أيضا. الخامس: قوله: ((لا يشركون بي)) هذا المقطع من الآية يكمل ما سبقه. والصفات العالية تقسم بين الإثبات والسلب، ففي قوله تعالى: {قل هو الله أحد (*) الله الصمد} صفة موجبة، وفي قوله {لم يلد ولم يولد (*) ولم يكن له} صفة منفية وهكذا الآية الكريمة نفت الشرك فاتضح جيدا كمال التوحيد ورسوخ العقيدة وسلامة الإيمان ودوام العمل. السادس: من قوله ((شيئا)) يعني نفي الشرك الخفي مع الشرك الجلي، وانتهت بهذا شائبة الرياء والسمعة وظهر نور الصدق والصفاء كاملا. السابع: وأخبر بعد هذه العلامات أن إنكار بركات الخلفاء أو الشك في التنبؤ المذكور يؤدي إلى عاقبة أسوأ ويستوجب لعنة الله على المنكر المتشكك. فليتدبر القراء أن الخلافة التي أخبر عنها والنصر والسلام والتدين والصدق الذي تم التنبؤ عنه قد تحقق كله في الخلافة الراشدة بالتمام والكمال، ولم يشهد بذلك تاريخ المسلمين فقط، بل شهدت به كتابات الأعداء الأخرى غير المسلمة وتاريخ البلاد أيضا. وعلينا أن نعيد النظر إلى الآية حتى نعرف هل تنبئ عن عدو الخفاء أم لا؟ وأقول: نعم إنها تنبئ عن ذلك، وذلك أن الله تعالى استعمل صيغة الجمع في قوله ((ليستخلفنهم وارتضى لهم)) وأقل الجمع في العربية ثلاثة، وهو يدل على أكثر من ذلك. ولكن إذا كان العدد أقل من ثلاثة فتستخدم صيغة التثنية لا الجمع، ولذا صح ما ذهب إليه المسلمون من أن الخلفاء الراشدين أربعة؛ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، أو خمسة بإضافة الحسن. ومن بلاغة القرآن أن علامة ((آمنوا وعملوا الصالحات)) منطبقة تماما على الأربعة أو الخمسة وقت نزول الآية.

وكان قصدنا من هذا البحث كله ذكر تنبؤات القرآن عن الخلافة الراشدة، وقد بدأت الخلافة بعد وفاة النبي (ص) حينما انقطع الوحي، ولذا كان على الله إنشاء هذه الخلافة وتدعيمها وفق تلك العلامات والأمارات والبشارات، فهو الذي أنزل كلامه على رسوله واصطفى من أمته (ص) عدة نفوس زكية للخلافة، وكانت أقوالهم وأفعالهم مصداقا لكتاب الله تعالى، وكان كتاب الله تعالى مصدقا لهم. تنبؤ سابق عن فتنة تقع بين مخاطبي القرآن الأوائل: قال الله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} (الأنفال: 25). إن هذه الآية تخبر عن فتنة عامة تشمل الظالمين وغيرهم. ولاشك أن فقدان القومية واختلال نظام الأمة مصيبة تؤثر على الجميع. إن شهادة عثمان ووقعة الجمل ووقعة صفين وشهادة علي وحادثة كربلا هي الأحداث التي صدقت بوقوعها ذلك التنبؤ. واشترك في هذه الأحداث عدد كبير من مخاطبي القرآن الكريم الأوائل، ولذا جاء ضمير المخاطب في قوله تعالى ((منكم))، ووقوع هذه الفتنة بعد الخلافة الراشدة التي جمعت بين بركات الدنيا وأنوار الآخرة لم يكن في الحسبان، ولكن علم الله تعالى ومع الأحداث المستقبلة، وكلامه ذخيرة لها، ولذا أخبر بألفاظ واضحة أن الفتنة تعم الظالم وغيره. ولم يقل أن يشترك الناس في الفتنة، بل أمرهم بأن يجتنبوها ويتقوها، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة عن الفتنة ما يأتي: ((ستكون الفتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي)). ولا نود تفصيل تلك المآسي والأحداث المحزنة المقلقة بل القصد هو إثبات تنبؤ القرآن الكريم عن هذه الوقائع، وهذا هو الدليل على كونه كلام الله. تنبؤ ضد مستهزئي مكة: قال تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (*) إنا كفيناك المستهزئين} (الحجر 94 - 95). سبق أن ذكرنا في البداية من هذا الكتاب طائفة المتهزئين، وكان قصد هذه

الطائفة الضحك على النبي (ص) وتقليد أفعاله والتشويش عليه وإحداث الضجة في وعظه وتحقيره والنيل منه. انظروا إلى أعمال هذه الطائفة القبيحة وتصوروا كيف يسطيع أحد القيام بالدعوة والإرشاد في تواجد هذه الموانع؟ ولكن الآية الكريمة تأمر النبي (ص) بالاستمرار في وظيفته في الدعوة والإرشاد والإبلاغ والإنذار، أما المستهزءون وموقفهم فالله يخبر أنه يكفي رسوله إياهم. وحتى يتبين صدق هذا التنبؤ نذكر هنا أسماء المتهزئين ومصيرهم. 1 - أبي بن خلف: كان رأس الكفر يؤذي سيدنا بلالا، فأذاقه الله الموت على يده وأوصله دار البوار. 2 - العاص بن وائل: خرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبارقة فدخلت في أخمص رجليه شوكة فقتلته. 3 - النضر بن الحارث: قتل بأيدي المسلمين، وكان على رأس المستهزئين. 4 - عتيب: كان حفيد أسود بن المطلب. 5 - حارث بن زمعة: كان ابن عم عتيب. 6 - طعيمة بن عدي: كان بذئ اللسان. 7 - أسود بن عبد المطلب: كان يمثل أفعال النبي (ص) سخرية، نام في ظل شجرة ثم قام قلقا مضطربا يقول كأن شوكة تشاك في عينيه. 8 - العاص بن منبه: ركب حمارا إلى الطائف فأصابته شوكة مات بسمها. 9 - منبه بن الحجاج: عمي ثم هلك متألما. 10 - أبو قيس بن ناكة: كان يرتاح بإيذاء النبي (ص). 11 - أمية بن أبي خلف: عرف ببذاءة اللسان. 12 - أبو جهل: كان رأس الأشرار. 13 - عقبة بن أبي معيط: كان ألقى الحبل في عنق النبي (ص). 14 - الحارث بن قيس: (أدعيطل) أخذ الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه، فمات منها.

15 - الوليد بن المغيرة: مر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا له فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش في رجله ذلك الخداش وليس شيء فانتقض به فقتله. 16 - أبو لهب: أصيب بالطاعون فهلك، ولم يمس أقرباؤه وأصدقاؤه جثته، بل رموا عليها أحجارا من السطح فغطته وصارت قبرا له. 17 - الأسود بن عبد يغوث: خرج في رأسه قروح فمات منها. 18 - زبير بن أمية: مات موبوءا. 19 - الحارث بن الطلاطل: امتحض قيحا فقتله. 20 - ركانة بن عبد يزيد: مات في بؤس وخيبة. انظروا كم من شخص تضمن هذا التنبؤ هلاكه، وكيف لقى كل منهم مصيره في حالة يرثى لها. وقد سبق أن ذكرنا الآيات الأخرى الخاصة بالنبي (ص) في مبحث خصائص النبي (ص). تنبؤ عن مودة رؤساء قريش: قال تعالى: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة} (الممتحنة: 7). ولهذا التنبؤ أيضا أمثلة، وينبغي أن نتذكر أن كلمة ((عسى)) تدل على رجاء أمر مرغوب. 1 - كان عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ابن عمة النبي (ص)، ومن شدة عدائه للإسلام أنه قال للنبي (ص): فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى منه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك (¬1). وقد حالفه التوفيق الإلهي فحضر في العام الثاني من البعثة إلى النبي (ص) وأسلم. فليتصور الخبراء، ما الذي أدى إلى إسلام عبد الله؟ لابد وأنه رأى أمرا أعظم من الصعود إلى السماء والنزول منها ونزول الملائكة وشهادتها بصدق النبي (ص). ¬

(¬1) البداية والنهاية 3/ 51.

2 - كان ثمامة بن أثال سيد اليمامة، وكان يقول: ((يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، وما كان دين أبغض إلي من دينك)) فبقى أسيرا بالمدينة ثلاثة أيام، ولما أطلقه النبي أسلم وأخلص في إسلامه حتى صار وجه محمد (ص) أحب الوجوه إليه (¬1). 3 - كان عمرو بن العاص نشطا في معاداة الإسلام، حتى أن قريشا أرسلته سفيرا إلى النجاشي لاستعادة المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة لاجئين: وبعد سنوات حضر إلى النبي (ص) مطرق الرأس خجلا، ثم ذهب داعية إلى الإسلام فعاد ببشرى إسلام ملك عمان، ثم صار فاتح مصر الأول (¬2). 4 - كان أبو سفيان صخر بن حرب قد هاجم المسلمين في أحد وغزوة السويق والأحزاب، وجميع الجموع الكبيرة ضد المسلمين. ولكنه لما أسلم ثبت ضد الردة وساهم في فتوح المشام وغيرها مساهمة فعالة (¬3). 5 - كان أبو سفيان بن حارث ابن عم النبي (ص) شاعرا قديرا، وهجا المسلمين والإسلام في أول الأمر، ثم تشرف بالهداية الربانية ولقب ب ((سيد فتيان أهل الجنة)) (¬4). 6 - كان سهيل بن عمرو سفير قريش في صلح الحديبية، ولما أسلم ألقى خطبة بعد وفاة النبي (ص) على أهل مكة فمنحتهم ثباتا وطمأنينة، ثم ارتحل من الدنيا شهيدا (¬5). 7 - كان عكرمة بن أبي جهل في أول أمره معاديا للإسلام ومدافعا عن الكفر أكثر من أبيه. ولما دخل في أتباع النبي (ص) أحبه وأخلص في حبه، وكان الساعد الأيمن لخالد بن الوليد، وكان وحده أقوى على ألفي كافر (¬6). 8 - عاش حكيم بن حزام القرشي الأسدي ستين عاما في الكفر، وبذل جهدا كبيرا ضد المسلمين في بدر، ثم أسلم وخدم الإسلام ستين عاما، وقد حج مرة فنحر مائة إبل ¬

(¬1) الاستيعاب 1/ 215. (¬2) الاستيعاب 3/ 1185. (¬3) الاستيعاب 2/ 714. (¬4) نفسه 4/ 1674. (¬5) نفسه 2/ 670. (¬6) نفسه 3/ 1082.

تنبؤات عن كفار العرب بصفة عامة

وألف شاة، وأعتق مائة رقبة (¬1). 9 - كان عبد ياليل قد حرض الغلمان والأوباش على النبي (ص) حينما ذهب إلى الطائف للدعوة، فرموه بالأحجار والأوحال. وبعد أعوام عديدة جاء إلى المدينة مع رؤساء قريش فآمن وعاد إلى قومه يبلغهم دعوة الإسلام حتى أسلمت قبيلته كلها في يوم واحد (¬2). 10 - كان بريدة الأسلمي خرج من بيته مع سبعين راكبا للقبض على النبي (ص) طمعا في جائزة قريش بمائة إبل، ولما وقعت عينه على وجه النبي (ص) وسمع صوته أنزل عمامته من رأسه وجعل منها علما فصار صاحب علم الرسول (ص) (¬3). ويمكن أن نقدم مئات من الأمثلة من هذا القبيل، وهي كلها دليل واضح على صدق ما تنبأت به الآية الكريمة السابقة. والحق أن الله هو القادر على أن يخبر عن عواطف قلوب الألوف من الناس ومصائرهم. تنبؤ عن منع كفار مكة من دخول الكعبة: قال تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين} (البقرة: 114). وكان إعلان منع المشركين من دخول مكة على يد أبي بكر الصديق عام تسع من الهجرة. واستمر هذا الحكم إلى الآن، والذين يذهبون هناك متنكرين في زي إسلامي يظلون خائفين على أرواحهم. تنبؤات عن كفار العرب بصفة عامة التنبؤ الأول: قال تعالى: {واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين} (التوبة: 2). نزلت هذه الآية حينما وجه إنذار الأربعة أشهر إلى جميع ناقضي العهد من الكفار. وهنا يتساءل الإنسان: كيف يوجه المسلمون وحدهم هذا الإنذار إلى هذه القبائل ¬

(¬1) نفسه 1/ 362. (¬2) ابن هشام 4/ 182. (¬3) الاستيعاب 1/ 185.

والأقوام، وما نتيجة هذا الإنذار؟ والله تعالى أخبر هنا عن أمرين: 1 - إن الكفار لا يستطيعون مع قوتهم وطاقتهم وكثرة عددهم هزيمة المسلمين، وهنا أخبر الله تعالى بأن هزيمة المسلمين هزيمة للدين الإلهي، لأن عداء الكفار للمسلمين إنما هو بسبب عدائهم لدين الله وبسبب البغض الإلهي الكامن في قلوبهم. 2 - سيهزم الكفار ويلحق بهم الذل، فقد كانوا يعدون أعظم المحاربين الشجعان في جزيرة العرب، لكن مواجهة المسلمين لهم تكشف عن حقيقة شجاعتهم ومدى بسالتهم، وحينئذ يلحق بهم الذل والهوان في الجزيرة العربية كلها، ويتبين لنا مدى صدق هذا التنبؤ حينما نطلع على نتائج مهاجمة قبائل بني الأسد وبني غسان وبني غطفان وغيرها. التنبؤ الثاني: قال تعالى: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} (آل عمران: 151). إن المعارك الصغيرة التي تعرض لها المسلمون في عصر النبي (ص) كانت مع قريش أو مع حلفائها، ومني فيها الأعداء بالهزيمة واشتبكت القبائل المذكورة مع المسلمين مرة أو مرتين، والقبيلة التي قاومت مرة لم تجترئ مرة أخرى على المقاومة، حتى عم السلام جميع البلاد في فترة قصيرة لم تتراوح السبع سنوات. والقبائل التي داومت على الحرب والقتال وكأنها تدفع بخيلها إلى حلبة رهان لمدة خمسين سنة، ظنا منها أن الحرب شيء تافه جدا أصيبت من المسلمين برعب أقعدها إلى الأبد، بل إنها تخلت عن مناوأة المسلمين بعد نقض عهدهم مع القبائل المتحاربة. وكل ذلك كان بالتنبؤ الذي ذكر الله تعالى فيه أنه ألقى الرعب في قلوب الكفار. ولاشك أن هذا السكوت عن المسلمين والابتعاد عن الحرب في بلد مولع بالقتل وسفك الدماء كان نموذجا حيا للقدرة الإلهية. تنبؤان عن أهل مكة: ألف: نفقاتهم تكون حرة عليهم. ب - إنهم جميعا يتغلبون. قال الله تعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون} (الأنفال: 36).

نعلم مدى إنفاق الكفار بما أنفقوا في غزوة أحد وحدها، فقد ورد أنهم أنفقوا خمسين ألف مثقال ذهب، وألف رأس إبل. وكان كل رئيس يطعم الجيش يوما. ولكن جميع هذه الجهود لم تسفر إلا عن الألم والخيبة والحرمان، إذ لم يستطيعوا منع تقدم الإسلام ولا ردوا أحدا من المسلمين، بل رأوا بأم أعينهم أن عادات آبائهم قد اختفت وضلالهم قد انتهي. تنبؤ عن أبي لهب: قال تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب (*) ما أغنى عنه ماله وما كسب (*) سيصلى نارا ذات لهب} (المسد 1 - 3). حضر أبو لهب بن عبد المطلب جد النبي (ص) أول دعوة للنبي (ص) على جبل الصفا. ولما سمع النبي (ص) يدعو إلى الإيمان بالحياة بعد الموت، ويخبر أن النتائج مستقبلا تترتب على الأعمال، أشار بيده إلى النبي (ص) إشارة تحقير وقال: تبا لك سائر اليوم، ألهذا دعوتنا؟. ولما كان النبي (ص) صابرا عفوا لم يشأ أن يرد على أبي لهب، ولكن الله تعالى لم يسكت على هذه الكلمات القبيحة ضد حبيبه (ص) فرد على أبي لهب وأخبر بمصيره المخزي. وقد تضمن هذا التنبؤ أمورا ثلاثة: 1 - فشل جميع حيله ضد الإسلام والنبي (ص). 2 - عدم نفع أولاده وماله إياه. 3 - كونه وقودا للنار. كان لأبي لهب أربعة أبناء، مات اثنان منهم كافرين في حياة أبي لهب، فلم تحصل منهما له فائدة بل تألم بموتهما، وحزن لفراقهما، أما الآخران وبنت واحدة فدخلوا في الإسلام وخيبوا أمل أبيهم. وهلك أبو لهب بالطاعون، وكان العرب يخافون الطاعون فلم يحملوا جسده من بيته وفتحوا فتحة في السقف وراحوا يلقون الحجارة على جثته القذرة حتى واروها، فكان الأمر كما أخبر به القرآن، ورأى الكفار ذلك بعيونهم بعد نزول الآية بخمس عشرة سنة.

تنبؤات عن المنافقين

تنبؤ عن امرأة أبي لهب: قال تعالى: {وامرأته حمالة الحطب (*) في جيدها حبل من مسد} (المسد 5، 4). كانت هذه المرأة شديدة العداوة للرسول (ص)، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك فتنثرها بالليل في طريق النبي (ص) لإيذائه. قال الخازن في تفسيره (¬1) ماتت هذه المرأة كما أخبر القرآن الكريم، كانت حزمة الحطب على رأسها وتعبت في الطريق فأسندت الحزمة إلى حجر حتى تستريح، ولما أرادت استئناف المشي وقح ذلك الحبل في عنقها وتعلقت حزمة الحطب إلى جانب الظهر فصار الحبل مشنقة لها فماتت وقد أخبر القرآن عن موتها بهذه الطريقة البشعة من قبل. تنبؤات عن المنافقين 1 - قال تعالى: {وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} (التوبة: 74). كانت القبائل العربية تستعين بدولة الروم أو الفرس في الحروب الداخلية. ولكن حين جاء خبر إخراج المناففين من المدينة، جاء التنبؤ بعدم قدرة أي دولة على نصرهم. فبعد هزيمتهم في غزوة أحد بذل الراهب فالق أقصى جهده للحصول على مساعدة دولة الروم وأساقفتهم، لكن خاب سعيه ولم يحصل على أية مساعدة، واتصل جبلة بن الأيهم الغساني بعد ارتداده ببلاط هرقل سنوات عديدة، ولكنه لم ينجح في الحصول منه على معونة يستخدمها ضد المسلمين، وهكذا كانت أحوال أغلب المعارضين فصدق التنبؤ بألفاظه ومعانيه. 2 - قال تعالى: {سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} (التوبة: 101). هذه الآية عن المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد دون سبب، وكان عذابهم الأول أنهم اضطروا إلى الكذب من أجل تقديم الأعذار الكاذبة فصاروا في عيون القوم من الكافرين الغادرين ولم يبق لهم في نظر الجميع مكانة تذكر. وهذا العذاب النفسي يكون شديدا، فالضمير الإنساني يؤلم دائما. والعذاب الثاني هو الحرمان مما تركوا الجهاد ¬

(¬1) تفسير الخازن / 263.

لأجله وهو المال والولد. وقد ذاقوا العذابين في حياتهم، أما العذاب الأليم وهو الثالث فإن موعده الآخرة. 3 - قال تعالى: {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} (المجادلة: 19). يبين سياق الكلام أن هذا التنبؤ خاص بالمنافقين الذين أحبوا اليهود وصادقوهم، والآية أخبرت أن التودد إلى أعداء الله والانضمام إليهم من عمل الشيطان، وأن هؤلاء سوف يلقون الخسران. وقد صدق هذا التنبؤ على المنافقين بعد غزوة الأحزاب حيث كانوا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. 4 - أخبر الله تعالى أولا عن المنافقين وعن مكانهم فقال: {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق} (التوبة: 101). والحكمة في هذا الإخبار عن العيب أن لا يتهم من صحابة رسول الله (ص) أحد في الزمن الآتي بالنفاق بمجرد رأي أو ظن أو تعصب. فالشرط الأول بوصف أحد بالنفاق هو أن يكون من سكان المدينة، فلا يشك في يمني أو شامي أو مكي أو حضرمي من الصحابة بأنه منافق. وبعد هذه العلامة الواضحة قال تعالى: {فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (العنكبوت: 3). وفسر هذا التنبؤ بآية أخرى فقال: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا (*) ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا} (الأحزاب: 60، 61). وهذا التنبؤ يخبر عن مصير المنافقين مع تحديد مدة هذا المصير وأيامه. وهذه الآية من سورة الأحزاب، وغزوة الأحزاب وقعت عام 5 هـ، وكان أكثر من ثلاثمائة منافق من طائفة أبي بن سلول على قيد الحياة، فأخبرت الآية أنهم جميعا ينقرضون في حياة الرسول (ص)، يتم إخراجهم من المدينة، ثم يلقون حتفهم بذل ومهانة، وهكذا حدث، فقبل أن يغمض الرسول الأكرم سيد ولد آدم (ص) عينيه عن مشهد العالم رأى المدينة وقد طهرت من الأشرار، وهذا هو السر في تسمية النبي (ص) المدينة ((طيبة)) في العام التاسع من

الهجرة في حديث تميم الداري الذي ذكره على المنبر. والآية الثانية للتنبؤ تتضمن الأمور التالية: 1 - لنغرينك بهم. 2 - لا يجاورونك فيها إلا قليلا. 3 - ملعونين. 4 - أينما ثقفوا أخذوا. 5 - قتلوا تقتيلا. ويعلم خبراء التاريخ الإسلامي أن المنافقين لم يتقرضوا إلا بعد تحقق التنبؤات الخمسة المذكورة. تنبؤان عن المتخلفين عن الجهاد: التنبؤ الأول: قال تعالى: {فرح المخفلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} (*) فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون (*) فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستئذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} (التوبة: 81 - 83). ذكرت الآيات الأقوام الذين تركوا الخروج مع النبي (ص) للجهاد، ثم جاء على سبيل التنبؤ أن طائفة منهم تأتي بعد عودة النبي (ص) وتستأذن للاشتراك في الجهاد. ثم أخبر بحسم وتأكيد أنهم لن يتشرفوا بالجهاد مع رسول الله (ص) بعد ذلك. وقد ورد ذكر هذه الواقعة في سورة الفتح. قال تعالى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل} (الفتح: 15). وبالآيتين يتحدد زمن نزولهما، فقد نزلت سورة الفتح في غزوة الحديبية، وبدأ حصول المغانم الكثيرة بخيبر، فهؤلاء هم الذين رفضوا الذهاب معه. وقت الحديبية، ثم ذهب إلى خيبر من شهدوا الحديبية، وهؤلاء المخلفون لم يستطيعوا أبدا مصاحبة النبي

وقد عاش النبي (ص) بعد نزول هذه الآيات نحو خمس سنوات. وتحقق هذه التنبؤات على النحو الذي بيناه لا يكون إلا في كلام رب العالمين. التنبؤ الثاني: قال تعالى: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا إليما} (الفتح: 16). تدبروا هذه الآية في ضوء الآيتين السابقتين: 1 - حرم المخلفون دائما معية الرسول (ص). 2 - أخبر بدعوة المخلفين بعد الرسول (ص) في زمن قريب للجهاد. 3 - وأخبر باتصاف الأعداء بالبأس الشديد. 4 - وأخبر أن مصير الحرب هو القتال أو استسلام الأعداء. 5 - الأجر الحسن على إجابة الدعوة. 6 - العذاب الأليم على رفض الدعوة. وانظروا الآن إلى عصر أبي بكر، واقرأوا دعوته العامة التي أوردها الواقدي، وتعرفوا على أسماء الجند الذين قدموا إلى أبي بكر، ومن الاطلاع على أسماء القبائل والشعوب تبين لنا أنها أسماء من لم تسنح لهم الفرصة بالجهاد في معية الرسول الكريم (ص). ثم إنكم ترون أنهم أرسلوا لمواجهة دولة مثل روما التي كانت تحكم نصف العالم وقد أثبت هؤلاء كفاءتهم الحربية وخبرتهم العسكرية بإخضاع دولة إيران التي كانت تحكم نصف العالم الشرقي بجيوشها المنظمة ونظامها الحربي المتقدم، وقد اضطرت إلى البقاء في بلادها لمجرد الدفاع لا أكثر، أما المسلمون فكانوا أهل بادية بعيدين عن بلادهم، ولم يتوفر لديهم عتاد الحرب أو الأسلحة والوسائل الحربية الأخرى، وكانت نتيجة القتال القضاء على الأعداء، وانتفعت الرعية بالصلح فدخلت الألوف في الإسلام، وهذه الآية توضح بجلاء التطور الذي حدث في جزيرة العرب والشام وفتوح الأعراب ومجتمع روما ومصير روما فيما بعد.

ثلاثة تنبؤات عن بعض الغزوات النبوية الخاصة

وهي تخبر عن طاعة أبي بكر وعمر لله تبارك وتعالى، وتوعد من يعصى بالعقاب، والأجر الحسن ليس خاصا بالآخرة بل إنه يتضمن الدنيا أيضا، وهو تنبؤ مستقل عن بلوغ جنود أبي بكر وعمر المكانة السامية للحضارة والمدنية وإن إمارتهم ستكون أيضا ذات محاسن. وتحقق هذا التنبؤ ويصدقه تاريخ البلاد والأمم بوضوح مما يعد دليلا قطعيا على كون القرآن الكريم كلام الله. ثلاثة تنبؤات عن بعض الغزوات النبوية الخاصة تنبؤ عن غزوة بدر: قال تعالى: {وإن يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتوذون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} (الأنفال: 7). اشترك في غزوة بدر من المسلمين من لم يتمكن من إعداد العدة للحرب، ومن هنا ودوا أن تتم مواجهتهم مع العدو غير المتسلح حتى تكون الكفتان متساويتين، ولكن الله تعالى جاء بالأعداء المدججين بالآلات الحربية، وكانوا قد تقدموا ثماني مراحل متجهين للحرب معلنين بوضوح أنهم يريدون الهجوم على المدينة، وكان عددهم ثلاثة أضعاف عدد المسلمين، ولم يكن من سبيل للمقاومة في الظاهر، ولكن صدق كلام رب الجنود، وانتصر أهل الحق، وانهزم الكفار هزيمة نكراء وقطع دابرهم، وأخبرت الآية التالية أيضا عن غزوة بدر: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} (القمر: 45). وقد أخرج البخاري عن عكرمة أن عمر قال: لما نزلت ((سيهزم الجمع ويولون الدبر)) جعلت أقول: أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبي (ص) يثبت في الدرع وهو يقول: ((سيهزم الجمع)). تنبؤ عن غزوة خيبر: وهو يتضمن تنبؤ عمن بايعوا بيعة الرضوان، قال تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} (الفتح: 18). هذه الآية عن صلح الحديبية، وقد رأى فيه المسلمون أنهم منعوا حق العبادة (أي

العمرة) الذي كان يتمتع به أهل العالم جميعا، كما رأى المسلمون أن المكان الذي حرم فيه إيذاء الأعداء أيضا، ولم يتعرض فيه الإنسان لقاتل أبيه أو ابنه، منع فيه بنو إبراهيم من العبادة على سنة الخليل. كان يتردد إلى بيت الله وأرض الحرم بمرأى من المسلمين عباد اللات ومناة والعزى وذو الخلصة، والساجدون للأحجار والأشجار والتماثيل والنصب، وعباد النجوم وأصحاب التثليث والإلحاد وأتباع الهوى والنفس. ولكن عباد الله الذين جاءوا محرمين ومعهم الهدي منعوا من التقدم إلى الكعبة. كان المسلمون يواجهون هذا الموقف الصعب إذ جاء إليهم أبو جندل يرسف في قيوده ودقات قلبه تسرع بداخل صدره فذكر أن المشركين حبسوه بإسلامه، فأفلت منهم وجاء إلى المسلمين يطلب الملاذ، ولكن الكفار أصروا على إعادته كشرط لعقد الصلح. إن مصلحة الأمة المسلمة اقتضت التضحية بحرية فرد منها. وقد سر أبو جندل كثيرا برؤية النبي (ص) وبشارته حتى لم يشق عليه العودة كثيرا. والحاصل أن المسلمين صاروا في حاجة ماسة إلى كثير من الصبر وضبط النفس والهدوء والحلم، ولم يتيسر لهم ذلك إلا بنزول السكينة الربانية والعناية الإلهية، كان ذلك ابتلاء، ونجح المسلمون فيه ثم وصلوا إلى المدينة، وبعد ذلك بأسبوعين أتى أمر الله بأن يخرج هؤلاء المسلمون أنفسهم لمواجهة يهود خيبر الذين كانوا قد أحكموا تسعة حصون فيها، وكانوا خبراء في استخدام المنجنيق وغيره من آلات الحرب التي لم يعرفها العرب، ولكن المسلمين أبلوا بلاء حسنا في هذه الحرب، وفتحوا الأراضي الواسعة والحصون المحاطة بالخنادق العريضة والجدران الحجرية المتينة، لم يمنعهم شيء مما تحصن به يهود خيبر. والتنبؤ السابق ذكر للمسلمين الصفتين معا، وأوضح للناس أن تحمل المسلمين لأنواع الظلم والأذى لم يكن عن عجز، بل عن مصابرتهم على الدين الحق، وبذلك تمكنوا من نشر دعوة الإسلام وإعلان الحق أمام الأمم التي كانت تفوقهم في العدد والعدة وتملك كثيرا من الشجاعة والخبرة العسكرية ووسائل الحرب. لقد قطع النبي (ص) مسافة 250 ميلا ووصل إلى حدود مكة ثم اضطر للعودة وهو على بعد خمسة أميال فقط، ولعل الكفار وسائر العرب ظنوا حينئذ أن المسلمين المساكين البائسين كانوا عاجزين أمام قريش.

تنبؤ عن عهود اليهود والمنافقين

ولكن هؤلاء المسلمين أنفسهم حينما خرجوا إلى اليهود المفسدين الماكرين الناقضين على بعد ثمانية أميال وهزموهم تبين للناس جميعا أن خشوعهم وخضوعهم مرده إلى التقوى، وعجزهم ومسكنتهم من أجل العمل بأحكام الدين الحقة، وهم كالأسود التي لاتهاجم أحدا إلا إذا تعرضت لمعاكسة أو مناوشة. والحاصل أن التنبؤ المذكور تحقق إبراز صفتين متعارضتين حميدتين للمؤمنين. وقوله تعالى: {أنزل السكينة عليهم} في الآية المذكورة يتطلب مزيدا من التدبر، فمن تأثير السكينة الإلهية أن لا يتزلزل القلب في الزمن الآتي أبدا، وهكذا فإن ذلك تنبؤ بأن أهل بيعة الرضوان هم المؤمنون الذين لا يتزلزل إيمانهم أبدا. تنبؤ عن غزوة الأحزاب: كان الهجوم في هذه الغزوة شديدا على المسلمين، فقد اشتركت فيه قبائل اليهود وقريش ونجد وكنانة، ثم إن يهود المدينة كانوا متواطئين مع المهاجمين، وكانوا يخبرونهم بمواطن ضعف المسلمين وتحركاتهم لحظة بعد لحظة، وبلغت القلوب الحناجر، وقد حملت هيبة الكفار وقوتهم المسلمين على التفكير العميق، وذلك أن جيوش الأعداء ضمت عساكر عديدة، وسمى كل منها حزبا، ومجموع العساكر جندا، وكانوا مغترين باتحادهم ضد المسلمين وباستعدادهم الحربي العظيم. فاستمعوا إلى كلام الله تعالى، يقول: {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} (ص: 11). ويقول: {أم يقولون نحن جميع منتصر (*) سيهزم الجمع ويولون الدبر} (القمر: 44 - 45). ووفق هذا التنبؤ وقعت الفرقة بين أحزاب القبائل المحاصرة بعد نزول الآية المذكورة بخمسة وعشرين يوما، فهرب الجميع في الليل. وبعد هذه الواقعة لم يجرؤ أحد على الهجوم على المدينة. تنبؤ عن عهود اليهود والمنافقين: قال تعالى: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم} (الحشر: 11).

أخبار عن كفر اليهود وإسلام قوم لن يكفروا أبدا

وقد صدق قوله تعالى، فأجلى بنو النضير ولم ينصرهم المنافقون ولم يخرجوا معهم. وقد أوضح القرآن أيضا: {ولئن نصروهم يولن الأدبار ثم لا ينصرون} (الحشر: 12). فقد نصر المنافقون يهود بني قريظة، ولكنهم لم يثبتوا أمام أسود الإسلام، وهكذا ذهبت قوة المنافقين أيضا مع قوة اليهود، وتحقق الجزء الأخير للتنبؤ أيضا. أخبار عن كفر اليهود وإسلام قوم لن يكفروا أبدا: قال تعالى: {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين} (الأنعام: 89). هذه الآية من سورة الأنعام وهي مكية نزلت حينما كان الإسلام في بدايته في مكة لم يخرج منها، وأخبرت الآية بأن اليهود المرابين إن لم يؤمنوا فلا بأس، لأن القبائل الكبيرة التي استبدت بالحكم ولم تبال بأحد، سوف تخضع وتنقاد لك، مثل أياد وقضاعة وربيعة ومضر وغيرها. وكذلك يخضع لك شهر بن باذام ملك صنعاء، والمنذر بن ساوى ملك البحرين، وجيفر وعباد ابنا جلندي ملكا عمان، وأصحمة النجاشي ملك الحبشة، وأكيدر صاحب دومة الجندل، وذو الكلاع الحميري الذي كان يسجد له رعيته ويسير خلقه ألف عبد له، وذو ظليم وذو زود وذو مران وذو عمرو أصحاب التيجان الذين استمر الحكم في أسرهم منذ الأجيال. ادرسوا أحوال هذه الملوك، كانت منطقة حكمهم أكبر من الحجاز، وجيوشهم أكثر من أصحاب النبي (ص)، ولم يكونوا خائفين من أحد، ولا يطمعون في المال والثروة، ولم يصل إلى بلادهم أحد من الغزاة والمجاهدين سوى دعاة الإسلام، ومع ذلك انشرحت صدورهم للإسلام فقبلوه طائعين راغبين. ولم يكن كل ذلك إلا بقدرة الله تعالى وفضله، إن اليتيم، ابن الأرملة خافه الملوك فارتعدت فرائصهم، والمتواضع الفقير أحبه الناس حبا سهل لهم التضحية بالمال والنفس في سبيل الحق.

تنبؤ عن الارتداد وعن زيادة عدد المسلمين

ثم تدبروا كلمة ((وكلنا)) في الآية، إنها تضمنت تنبؤين، الأول: انقياد قلوبهم، والثاني: رؤية النبي (ص) هذا التغير. وقد كان كذلك أي دخلت البلاد التي تقع بين الخليج العربي والبحر الأحمر والبحر الأبيض وجبال الشام في الإسلام، وارتفعت أصواتها جميعا بكلمة ((لا إله إلا الله)) تعمل بالتوحيد وأحكام الدين الحنيف. انظروا سعة التنبؤ وصدقه وكيف تحقق خلال اثتى عشر عاما من نزول الآيات! تنبؤ عن الارتداد وعن زيادة عدد المسلمين: قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} (المائدة: 54). هذه الآية أخبرت على سبيل التنبؤ أن من المسلمين من يرتد، ثم أخبرت بأن الله تعالى يجعل الأقوام الكبرى محبة للإسلام تعويضا عن النقص العددي الناتج عن الارتداد، ويكون أمرهم مع الله أمر الحب والإخلاص، ومع المؤمنين أمر التواضع واللين، ويعاملون أعداء الدين معاملة العزة والفتح والانتصار والكرامة، ويترفعون عن ثناء الدنيا وهجوها الكاذبين، ويبدون المشجاعة والتضحية في سبيل الحق، وتجلى صدق هذه الآية منذ نزولها إلى الآن وسيتجلى هكذا على مر الأيام إن شاء الله تعالى. بعد ارتحال النبي (ص) ظهر مسيلمة الكذاب، وتبعه آلاف الناس، وكان ارتدادهم غريبا، فكان مسيلمة وأتباعه يعترفون بنبوة محمد (ص) بطريق خفي، ثم يثبتون النبوة لمسيلمة أيضا. وقد أقام الله تعالى في قوم مسيلمة نفسها ثمامة بن أثال الحنفي وأمثاله، فقاوموا المرتدين دون مراعاة للقومية أو للقرابة. وادعى الأسود العنسي النبوة، فأقام الله له فيروز وذازويه الفارسيين صاحبي الفضل والكمال، فكسرا شوكة الأسود وقوته. وتنبأ أيضا طليحة وسجاح، ولكن ضيق عليهما أقوام منطقتهما وقبائلهما حتى تابا عن الارتداد وأخلصا الطاعة للإسلام ثم لم يقصروا في خدمة الدين الحنيف. ولما طغى وتجاوز بعض بني أمية أقام الله تعالى أهل خراسان فقضوا على الدولة الأموية وآل أمر المسلمين إلى بني العباس.

وتهاون العباسيون في الجهاد فبعث الله سلاطين الأندلس في المغرب وآل بويه واسبكتغين في الشرق لإعلاء كلمة الله تعالى. وفي محنة بغداد وقف المسلمون أنفسهم في جانب الكفار، وسببوا دمار عروس البلاد (بغداد) بأيدي التتار، ثم أدخل الله الإسلام في الترك أنفسهم، الذين خربوا بغداد وأفسدوا فيها، حتى أن طرقاتها احمرت بالدماء ومياه دجلة اسودت بمداد الكتب. فهؤلاء الأتراك رفعوا راية الإسلام في أوربا، واعتزوا بلقب (خادم الحرمين الشريفين) بدل السلطان ابن السلطان. وقام الآريون بحركة (شدهي) التي تهدف إلى هندكة المسلمين، فبعث الله منهم أمثال (كنور عبد الوهاب خان) فقاموا بنشر الإسلام بين الهنادك وأعلن الإسلام شمس الإسلام محمد أمين وخالد لطيف وغيرهما من المحامين والمثقفين، وبايع على الإسلام العديد من دعاة الآريين أنفسهم وتم ذلك على أيدي علماء مسلمين بررة. وفي أوربا أشهر إسلامه (سر جورج هملتن) قريب الملك جورج، وهكذا اقترب الإسلام من عرش انجلترا، وتشرف بأخوة الإسلام اللورد هيدلي ومحمد بكتال وخالد شيلدر وأمثالهم من العلماء الأفاضل. وإن انهدم مسجد قديم في منطقة دهلي، فقد بني مسجد جامع في باريس عاصمة فرنسا، وفي ألمانيا أنشئ مسجد كبير أظل نحو ثمانية آلاف من المسلمين، وقد تم الحصول على الأرض لبناء مسجد في لندن نفسها، وقريبا يبدأ البناء. إن قلة من الناس في (ملكانه) الجاهلة ارتدوا عن الإسلام، ولكن دخل فيه الملايين من سكان الصين وأفريقيا، وازداد عدد المسلمين في القسطنطينية ازديادا ملموسا. وهذه الآثار الطيبة المباركة كلها تدخل تحت التنبؤ المذكور في الآية الكريمة، وسوف يستمر الحال على هذا إلى قيام الساعة بإذن الله، يرتد عن الإسلام واحد، ويدخل فيه عشرة، ولن تنفع الناس أمنيتهم بأنهم لو أدخلوا الأجانب في ديانتهم لقاوموا المسلمين: {والله متم نوره ولو كره الكافرون} (الصف: 8).

تسعة تنبؤات عن اليهود

تسعة تنبؤات عن اليهود 1 - قال تعالى عن اليهود: {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} (آل عمرن: 111). كان اليهود يتآمرون سرا، ويحرضون قبائل العرب ضد المسلمين ويتجسسون ضدهم، ويمدون الثائرين على المسلمين بالمال والسلاح، ولكن لم يشف كل ذلك صدورهم فجاهروا بالحرب والقتال. كانوا أعلم بفنون الحرب، فكانت لديهم وحدهم آلات هدم الحصون، وكانوا وحدهم يستخدمون المنجنيق، ولذلك كانت قبائل العرب كلها تخشاهم وتطيعهم، ولذا كان التنبؤ عن انهزامهم بعيدا عن تصديق الكفار، ولكن ما حدث مع يهود بني قينفاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر وفدك وتيماء ماثل أمام المؤرخين، فقد لقيت كل قبيلة منها المصير الذي تنبأت به الآية. وهذه الآية تضمنت ثلاث تنبؤات: 1 - لن يضر اليهود المسلمين شيئا أكثر من الإيذاء. 2 - ولو قاتلوا المسلمين للحقتهم الهزيمة وكان النصر حليف المسلمين. 3 - وبعدها لا ينصرون. ومثل هذا التنبؤ عن اليهود المنتشرين في مئات الأميال من الأرض لا يصدر إلا عن رب العالمين الذي يملك مشارق الأرض ومغاربها وينصر من يشاء. 2 - قال تعالى عنهم: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (*) ولا يتمنونه أبذا بما قدمت أيديهم} (الجمعة: 6؛ 7). كان ادعاء اليهود العام أنهم أبناء الله وأحباؤه، فطالبهم القرآن بتمني الموت إن صدقوا في ادعائهم، ولاشك أن الحياة الدنيا حجاب لأولياء الله، ولو زال هذا الحجاب لواجه الحبيب الحبيب.

ومن الأمثال العربية: الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب. ومعنى تمني الموت من ولي هو طلب الوصال، ومن لوازم المحبة والولاية تكرار مثل هذا الطلب والإصرار عليه. والآية طالبت اليهود يتمني الموت ولو مرة واحدة، ثم قالت على سبيل التنبؤ إنهم لن يفعلوا ذلك، وذلك أنهم يرسلون ادعاءاتهم العريضة بالألسنة فقط ولكن قلوبهم لا ترضى بذلك، فإن معاصيهم وسيئاتهم قد تمثلت أمامهم وسيطرت الأفعال القبيحة على قلوبهم وأفكارهم، فهم يكرهون الموت ويهربون من المثول بين يدي الله تعالى فإن كان اليهود صادقين لبادروا إلى تكذيب القرآن وبيان صدقهم وتمنوا الموت ولو مرة واحدة حتى يسمعه المسلمون. ولكن التنبؤ المذكور كان من الله ولذا لم يستطيعوا التصريح بالتمني، وقد ضحك الكفار والمشركون أيضا على حالة اليهود هذه. وكان مقصد التنبؤ المذكور كشف حقيقة ادعاء اليهود بأنهم أولياء الله وأبناؤه، والدلالة على أن أحدا لا يستطيع أن يتكابر في القول أمام الله الذي يملك الموت ويتصف بالجبروت. 3 - قال تعالى عنهم: {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس} (آل عمران: 112). وهذه الآية تدل على: 1 - أن اليهود لا يستطيعون أن يعيشوا في الدنيا كأمة حرة فيما يأتي من الزمن. 2 - وأنهم يتعرضون للذل والمسكنة ولا تكون لهم دولة. 3 - وأنهم إما أن يدفعوا الجزية للمسلمين، وقد عبر عنه بحبل الله فإنه تعالى منح الذميين حقوقهم. 4 - وإما أن يدفعوا الضريبة إلى أقوام أخرى، وقد عبر عنه بحبل من الناس. فالآية الواحدة تضمنت أربع تنبؤات. انظروا إلى الزمن التالي لنزول الآية، هل قامت لليهود دولة حرة في أي قطر من الدنيا؟ هل وجد فيهم أحد لا يدفع الضريبة لقوم غير قومه؟

ثلاثة تنبؤات عن النصارى

وبمدلول قوله تعالى: ((بحبل من الله)) يوجد اليهود في تركيا وإيران والمغرب وتونس تحت إمرة المسلمين يدفعون لهم الجزية. وبمدلول من قوله تعالى: ((بحبل من الناس)) يسكنون في روسيا وأمريكا وفرنسا وانجلترا خاضعين لأقوام أجانب، دافعين الضرائب العديدة. وقد أنفق اليهود في الحرب العالمية الأولى (14 - 1918 م) ملايين الدولارات على الاتحاديين حتى يعترفوا لهم بدولة صغيرة حرة في بقعة من الأرض وظنت كل دولة كانت تأخذ منهم الذهب أن مطلب اليهود يمكن تحقيقه في المناطق المهزومة، فلما انتهت الحرب وحان موعد الوفاء طلب من اليهود أن يسكنوا فلسطين ويؤسسوا لهم دولة تابعة فيها، ولم يتحقق هذا الشرط بأكمله إلى الآن، ولم يعترف سكان فلسطين السابقون بسيادة اليهود. وبصرف النظر عن الصورة العملية نلاحظ ماذا يقدم لليهود؟ لا شيء سوى معونات لدولة تابعة، واقرأوا الآن آيات القرآن الكريم بتمعن، إن عبارة ((بحبل من الناس)) عبارة تحمل معنى واسع جدا. إن كلبا يكون عند غني يتمتع باللبن واللحم وغيره، ولكن القيد لا يفارق عنقه، فهل يبلغ منزلة يظن فيها نفسه أعلى من إنسان فقير حر، لمجرد أن الإنسان لا يجد من الغذاء ما يجده ذلك الكلب؟ إن هذا الوضع نفسه هو وضع يهود فلسطين، إن قيد ((بحبل من الناس)) لن يفارق رقابهم. وهذا تنبؤ عظيم أعجز دبلوماسية وزراء دول أوربا كلها. تنبؤ عن تباغض اليهود: قال تعالى: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} (المائدة: 14). يوجد الآن لدى اليهود اثنتان من التوراة، الأولى: يونانية، والثانية: سامرية. ويكفر أتباع توراة أتباع توراة أخرى بصورة قاطعة، ولا يسمحون بأن يتكلم أحد من أتباع توراة مع أحد من أتباع توراة أخرى. وحسب تنبؤ القرآن يستمر بينهم هذا البغض والعداوة. ثلاثة تنبؤات عن النصارى التنبؤ الأول عن ثروتهم: قال تعالى: {قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض

إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون (*) قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (*) متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم} (يونس: 68 - 70). تشير الآية بوضوح إلى النصارى الذين يزعمون أن المسيح ابن الله، وقيل فيهم ((متاع في الدنيا)) وعامة الناس حينما يرون لدى النصارى كثرة الثروة ووفرة المال يتحيرون كيف تمتعت الأمة التي تعبد الأقانيم الثلاثة بهذه النعم والألطاف! ولكن الآية توضح أن ذلك ليس لطفا ولا فضلا، بل هو متاع في الدنيا وقد لحق قوله تعالى: ((لا يفلحون)) هذا المتاع. ويمكن أن يتمنى هذه الثروة قصار النظر، ويقولوا مثلما قال معاصرو قارون: {يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون} (القصص: 79). ولهذا يمكن القول بكل اطمئنان وثقة أن المؤمن لن يرضى أن تصدق عليه عبارة ((متاع في الدنيا)) وهو ما يخسر معه الفلاح والنجاح. ولكن هل يود أحد أن ينال ثروة قارون مع مصيره أيضا؟ لا أظن عاقلا يود ذلك، على كل حال هذا بحث آخر، ويكفي أن أقول إن غنى النصارى وتنعمهم قد تنبأ به القرآن الكريم، ويكفي هذا الأمر دليلا على كون القرآن من الله. التنبؤ الثاني عن المعاداة بين فرق النصارى: قال تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} (المائدة: 14). وكل من يطلع على العداء والخلاف والبغض والتكفير بين فرق النصارى من الكاثوليك والبروتستانت واليونيتيرين والكنيسة الإغريقية والآسيوية والانجليزية والأمريكية، يصدق الآية المذكورة جيدا، ويعلم أن هذا الكتاب من الله تعالى. التنبؤ الثالث عن مودة النصارى للمسلمين وعداء اليهود والمشركين لهم: قال تعالى: {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} (المائدة: 82). ويدخل ضمن هذا التنبؤ دخول نصارى العراق والشام من الملوك وغيرهم مثل أصحمة النجاشي والأكيدر وعدي بن حاتم وأبي مريم الغساني وانتشار الإسلام الذي نراه اليوم في انجلترا وألمانيا وأمريكا يندرج تحت هذه الآية.

تنبؤ عن الروم والفرس وقريش والمؤمنين

تنبؤ عن الروم والفرس وقريش والمؤمنين: قال تعالى: {الم (*) غلبت الروم (*) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (*) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (*) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم} (الروم: 1 - 5). * المراد بالأرض أرض الميعاد فلسطين، وبأدنى الأرض منطقة الشام وآسيا الصغرى حيث هزم خسرو برويز الروم وأخرجهم من تلك البلاد ومن مصر. وكان كلام الله قد أخبر بأن الروم يغلبون الفرس في ظرف تسع سنين مرة أخرى. وكان هذا التنبؤ في ذلك الزمان خلاف القياس والظن تماما، فإن التغلب على أمة غالبة عظيمة بعد تلك الهزيمة الكبرى في ظرف تسع سنوات كان مستحيلا في نظر أهل الدنيا، ومن هنا جعل أبي بن خلف هذه الآية معيارا لصدق القرآن الكريم، وكذبه، وأوعز لأبي بكر أن يراهن على ذلك لو كان مؤمنا بالقرآن. وكان هذا الحادث وقع في العام السابع من البعثة، وقبل أبو بكر هذا الرهان لأن النهي عنه لم يكن نزل بعد (¬1). وبعد نزول الآية بسبع سنين وقع ما جاء فيها، فقد انتهت الحرب الأهلية والفوضى الداخلية بروما بتبوؤ هرقل عرش الحكم، فاستعاد البلاد التي فقدها الملوك السابقون، ودخلت مصر والشام وفلسطين وآسيا الصغرى تحت حوزة سلطنة القسطنطنية. وكانت الكلمات القرآنية قد تضمنت بشارة في بشارة، وذلك أنها ذكرت أن المؤمنين أيضا يتمتعون بالنصر في ذلك الحين، وتحقق ذلك أيضا، فإن انتصار أهل الكتاب على المجوس وقع في الوقت الذي انتصر فيه أهل التوحيد على المشركين في وقعة بدر. ومما يجدر بالذكر أن عبارة قرآنية قصيرة قد تنبأت عن أربعة أمم وأربعة بلاد ودولتين عظيمتين بألفاظ صريحة وبتحديد السنة، وتحقق ذلك التنبؤ كما ورد في الآية. فهل يقدر إنسان على ذلك بعلمه وقدرته؟ كلا. وهذا يثبت بوضوح أن القرآن كلام الله عز وجل. ¬

(¬1) تفسير ابن جرير 11/ 11 تفسير سورة الروم.

فصل

فصل سبق أن عرضنا كبرهان ذكر القرآن الكريم الأخبار المستقبلية، وهكذا فذكره للأخبار الماضية أيضا دليل قوي على كونه كلام الله تعالى. إن ذكر قوم هود وقوم صالح لم يوجد في صحيفة إسرائيلية، ولكن القرآن الكريم قد بين أحوالهما. وهكذا ذكر عاد إرم وعاد الأولى ووقعة سيل العرم العظيمة. وهو الذي أخبر بحكم بني إسرائيل مدة على مصر بعد غرق فرعون، أما التوراة فقد سكتت عنه، كما سكت تاريخ مصر عن وقع معجزات موسى في مصر. إن أعمال المسيح لم تذكر في تاريخ روما ولا تصدقها كتابات اليهود. ولم يكن النصارى يعلمون ولا يصدقون أن مريم الصديقة كانت تعتبر أقنوما من أقانيم التثليث، وبعد إخبار القرآن بهذا، بحث هذا الأمر محققو النصارى فعلموا صدق القرآن في إخباره عن ذلك. وكون الكعبة أول مسجد بني في الدنيا كان قد خفي على المؤرخين، ولكنه صار الآن أمرا مسلما به. وإخبار القرآن بأن الله تعالى أرسل رسوله إلى كل أمة، فبلغوهم الرسالة بلغتهم، وقامت عليهم حجة الله، كان كنزا مخفيا لأهل الأديان جميعا. ولذلك كان الإسرائيليون يكذبون المجوس، والمجوس يكذبون الإسرائيليين، وهم جميعا كذبوا أهل الهند، وأهل الهند كذبوهم كلهم. ثم هؤلاء الثلاثة كذبوا أهل مصر، وأهل مصر كذبوهم كلهم، والأربعة كذبوا أهل الصين واليابان، وهؤلاء كذبوا أولئك، وهكذا أحاط التكذيب أهل الدنيا جميعا، ولكن القرآن الكريم كشف عن هذا السر، ودل على طريقة التقارب بين الأقوام والبلاد. ثم إنه أخبر بانتهاء هذه السلسلة وجعل محمدا. خاتم النبيين، وبذلك علمهم درس الاتحاد الكلي ووحدة الأمة. وبمجرد أن أعلن القرآن ختم النبوة على محمد (ص) سكت اليهود والنصارى والمجوس والهنادكة والمصريون والصينيون، ولم يدع أحد منهم تلقي الوحي الرباني من

السماء بواسطة الملك. وهذا هو أقوى الأدلة على كون القرآن كلام الله تعالى. وهنا نختم باب خصائص القرآن، وأكتفي بذكر آية واحدة منه تكفي ليتبدر أهل الفكر والفهم، يقول تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} (محمد: 24).

الباب السادس عشر

الباب السادس عشر خصائص الإسلام الفصل الأول الإسلام دين التوحيد ثبت للعالم اليوم أن مسألة التوحيد هي معيار صدق كل دين ودليل حقيته. ونرى الآن أن الوثنيين يضطرون أثناء مناظرتهم لأن يصفوا آلهتهم بالوسائط، ويحاول أهل التثليث والثنويون إثبات التوحيد في التثليث والثنوية، وأهل ويدانت يعتزون بالقول ب ((دوتياستي)). لكن الحقيقة أن الإسلام هو الدين الواحد والوحيد الذي بين التوحيد على الوجه الأكمل. فالإسلام يعلن أن دعوة جميع الأنبياء والرسل قامت على مبدأ التوحيد وحده، قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبياء: 25). وقال: {وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} (الزخرف: 45). ومن تعليم الإسلام وحده: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} (النساء: 36). ويبين التوحيد فيقول: {أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي} (الشورى: 9). وقال عن توحيد الخلق وتوحيد القدرة: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (*) ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز} (الحج: 73، 74).

وندرك بالنظر والتعمق في الآيات السابقة أنها تثبت الألوهية والربوبية والرحمة والولاية والقدرة لله تعالى وحده لا شريك له، وبذلك ينتفي الشرك الجلي والخفي. وتوحيد الإسلام هو الذي يثبته كلام الله العزيز، ويؤكده العلم والعقل والسمع في كل موضع وخطوة. وتوحيد الإسلام هو الذي شيدته براهين الفطرة الصحيحة والعقل السليم، وخوطب به كل قلب سليم متمتع بالحياة الروحية. وليس توحيد الإسلام كتثليث النصرانية الذي يصفه القساوسة بأنه أعلى من الفهم والعقل، ويوجبون الإيمان به دون فهم، إذ الإسلام يقيم حجته في بداية الدعوة على كل إنسان فيقول: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج: 46). تضمنت هذه الآية ألفاظ القلوب والعقول والآذان والسمع والأبصار والعمى، وبذلك يثبت أن الإسلام يخاطب العقل والسمع والبصر والقلب والبصيرة، وعلى هذه البراهين يكون أساس إثبات التوحيد. والإسلام هو الذي أفرد، لبيان التوحيد بصورة كاملة، عناوين التوحيد في العبادة، والتوحيد في الاستعانة، والتوحيد في القدرة، والتوحيد في التصرف والتوحيد في الذات، والتوحيد في الصفات ودعم كل عنوان وما ورد فيه من المسائل بآيات القرآن وأحاديث النبي (ص). فتدبروا الآيات التالية بتعمق حتى يزداد علمكم بعناوين التوحيد السابقة ويقوى الإيمان واليقين، قال تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}. قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: وتقديم المفعول لقصد الاختصاص أي تقديم قوله إياك على نعبد ونستعين يفيد أن العبودية والاستعانة تختصان بالله تعالى (¬1). وقال عن التوحيد في الاستعانة في سورة يوسف: {والله المستعان} (آية: 18). ¬

(¬1) الكشاف ص 9.

وقال في سورة الأنبياء: {وربنا الرحمن المستعان} (آية: 112). وورد في الحديث الشريف: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) (¬1). وقال تعالى عن توحيد العلم على لسان الملائكة: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} (البقرة: 32). ويصرح عيسى عليه السلام يوم الحشر أمام الخلائق بحضرة الرب تعالى: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام العيوب} (المائدة: 116). وقال: {وعنده علم الساعة} (الزخرف: 85). وقال: {أنما أنزل بعلم الله} (هود: 14). وقال: {وعنده مفاتح الغيب} (الأنعام: 59). ومن أسماء الله الحسنى اسم العليم. وإذا نظرنا في القرآن لمعرفة اقتران اسم العليم بالأسماء الحسنى الأخرى عرفنا أنه استعمل في الصور الآتية: عليم قدير، وعليم خبير، وعليم حكيم، وواسع عليم، وعليم حليم، والخلاق العليم، وعزيز عليم، وفتاح عليم، وسميع عليم، وشاكر عليم، وبذلك يثبت أن كمال العلم مستوجب للقدرة والخبرة والحكمة والسعة والحلم والخلق والعزة والفتح والسمع والشكر. والعلم المقرون بهذه الصفات أرفع وأعلى من علم الإنسان والملائكة مهما كان علمهما أعلى وأرفع. واقرأوا الآيات التالية عن التوحيد في القدرة: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (القمر: 49). {وبارك فيها وقدر فيها أقواتها} (فصلت: 10). ¬

(¬1) عون المعبود 384/ 4.

{وأنزلنا من السماء ماء بقدر} (المؤمنون: 18). {والله على كل شيء قدير} (البقرة: 284). {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} (الشورى: 29). إن هذه الآيات تبين أن تكوين كل شيء تم تقديره، وإعدامه أو إيجاده مرهون بقدرته تعالى، وقدرته هي المسيطرة على بركات السماء وقوى الأرض، والمادة والروح من مخلوقاته وتحت قدرته، والنصرة والهزيمة والرقي والانحطاط وتغير الأزمان والفصول وخواص الجماد والنبات والحيوان والإنسان والملائكة وأحوالها وكوائفها تحت قدرته. وهذه هي القدرة التي لا يحيط بها قانون القدرة الذي عرفه الإنسان، ولا يمكن لتجارب الإنسان وعاداته حصرها. فالله تعالى هو الذي تفرد بهذه الصفة وتوحد بها. وقد توسع في بيان التوحيد في الذات والصفات فقال تعالى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا} (طه: 14). {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} (آل عمران: 18). {الله لا إله إلا هو الحي القيوم (*) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل (*) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان} (آل عمران: 2 - 4). {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} (آل عمران: 6). {تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم (*) غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول} (غافر: 3، 2). {وقال ربكم ادعوني استجب لكم} (غافر: 60). {الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس} (غافر: 61). {ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو} (غافر: 62). {الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين (*) هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين} (غافر: 64، 65).

{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} (الأنعام: 103). {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (*) له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم} (الشورى: 11، 12). {فلا تضربوا لله الأمثال} (النحل: 74). {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم} (البقرة: 255). {قل هو الله أحد (*) الله الصمد (*) لم يلد ولم يولد (*) ولم يكن له كفوا أحد} (الإخلاص: 1 - 4). أيها القراء! إني جمعت هذه الآيات هنا، ولو تكلمت عن معانيها وفوائدها لاحتاج ذلك إلى كتاب ضخم. ومن يتدبر يعرف أن التوحيد الذي يعلمه الإسلام ويقدمه القرآن أرفع وأعلى من توحيد الفلاسفة، الذي هو مجموعة الألفاظ والأشكال الفرضية مثل الجوهر والعرض والقديم والحادث والهيولى والمادة وهو التوحيد الذي لا تبقى فيه ذات الله وصفاته. وكذلك يرتفع توحيد الإسلام عن عقيدة التجسيم التي تصف كلماتها الله تعالى شيئا مجسما. ومن عقيدة التنزيه التي تعتبر نفي الصفات تقديسا، إن الآيات القرآنية تعطي المعرفة الصحيحة، وبهذه المعرفة يضيء القلب السليم بنور اليقين، كما أن أسلوب الإسلام هذا في بيان التوحيد له ميزة خاصة.

الفصل الثاني الإسلام دين الروحانية

الفصل الثاني الإسلام دين الروحانية 1 - إن الجوهر البارز للدين من حيث هو دين هو أن توجد فيه الروحانية، والدين الذي يخلو من الروحانية لا يستحق أن يسمى دينا، بل هو جمعية أو هيئة ولا يوجد دين من الأديان القديمة إلا وادعى الروحانية فيه، لكن إلى أي مدى تصح هذه الدعوى وبصرف وجوه النظر عن هذا هل فهم مفهوم الروحانية بطريقة صحيحة. ومن المسلم به أن الإنسان عبارة عن روح وجسم. وحاجات الجسم تتحقق بالأشياء بالجسمانية والمادية، فالأشياء التي توصف بالترف والتنعم والرخاء والراحة والرغد والمسرة كلها جسمانية، واللذة التي تحصل باستعمالها تتصف أيضا بالمادية. وهنا يأتي التساؤل: ما هي الأشياء التي يتحقق بها سرور الروح وفرحها؟ وبأي شكل يتحقق هذا السرور الروحي؟ والخطاب هنا لا يوجه إلى الذين ينكرون وجود الروح ويجهلون الروحانية، فإن قصدنا تقديم الإسلام إلى أديان العالم، وليس نقد آراء منكري الأديان. ألف: لم يذكر بوذا الروحانية بألفاظ واضحة، وهو يرى أن الكمال الأعلى للإنسان وروحه يتمثل في التحرر من قيود الراحة والألم ويتضح بعد التعمق في تعليمه أن دروسه لم تجاوز بيان الأخلاق الإنسانية. ب - إن تعليم موسى عليه السلام يتضمن بيان التوحيد، ولكن بالقدر اللازم لمراتب الإيمان البدائية. ويتضمن تعليمه رد الشرك، ولكن بالقدر الذي يلزم لرد الشرك الأعظم. وبعد ذلك لا يوجد ذكر للروحانية والسبب هو هبوط فطرة أفراد الأمة وإقبالهم على الدنيا. ج - إن زبور داود فتح باب المناجاة، وعلم العباد طريقة التضرع في جناب الله تعالى والإنابة إليه، ولكن الهدف الأكبر في هذه المناجاة أيضا هو الانتصار على الأعداء وإبادتهم وسحقهم، وتلونت جميع المناجاة بهذا اللون إلا القليل منها.

د - وأسمع المسيح عليه السلام كلمة حكومة السماء وملكوتها، وهذه الألفاظ تدل على الروحانية دون شك، وذكر حب الإنسان لخالقه بقلب بسيط، وكان ذلك درسا للروحانية المحضة، لكن للأسف لم يرزق أتباعه الذوق والوجدان والتحمل، فاضطر أن يصرح بأن ((روح الحق)) سوف يكمل هذا الأثر (¬1). 2 - والحديث الشريف سمى تعليم الروحانية ((الإحسان)) وورد شرح معناه في حديث أبي هريرة عند الشيخين (¬2) وحديث عمر الفاروق في صحيح مسلم (¬3): ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). وهذا الحديث ذكر مقامين: الأول: أن يصل الإنسان بنفسه إلى المقام الذي يكون فيه مهبط الرحمة. والثاني: أن يحتل المقام الذي يشاهد فيه أنوار المعرفة. وعلم بهذا الحديث أن مقصود الروحانية أن تصبح رابطة القلب ونسبة الروح مع رب العالمين، ويتحقق هذا المقصود بالعبودية لله والذي بينه الإسلام في شرح هذا المقصود وتوضيح كيفية الوصول إليه كثير جدا ولا يساوي ما ذكرته الأديان الأخرى بالنسبة له. ولذا صح أن نقول: إن الإسلام هو دين الروحانية. العبودية: بين الإسلام بوضوح تام العبودية، لأن بناء الروحانية يقوم على هذا الأساس. فذكر أن مظهر العبودية هو القلب واللسان والجوارح، وإليكم بيان هذا باختصار شديد: ألف: واجبات القلب خمس: 1 - النية، وهي الفارق بين العادة والعبادة، وبها تفاوت مراتب العبادة. 2 - الإخلاص، ومقصده وحدة المطلوب. ¬

(¬1) إنجيل يوحنا 16/ 13. (¬2) البخاري 1/ 114 - الإيمان، ومسلم 1/ 39 - الإيمان. (¬3) مسلم 1/ 37 - الإيمان.

3 - الصدق، ومقصده وحدة الطلب. 4 - الإنابة، وهي الرجوع إلى الله مع السعي والتوجه الكاملين، والتوبة هي المرحلة الأولى للإنابة. 5 - المحبة، وبها تروى حبة القلب، وهذه الحبة تزهر وتثمر فتنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. ب - وواجبات اللسان خمس: 1 - الشهادة بالوحدانية والرسالة. 2 - دوام الذكر. 3 - التزام الدعاء، وينبغي أن يتضح أن الدعاء لقصد خاص شيء، والتزام الدعاء لأداء فريضة العبودية شيء آخر، وهذا هو المطلوب هنا. 4 - الدعوة، وتتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5 - التعليم، ويدخل فيه إعلام الجهال وتثقيفهم ونشر العلوم الشرعية. ج - ومن واجبات الجوارح: 1 - واجبات السمع، وهي الإصغاء لكلام الله وأوامر رسوله، والاستماع للنصح وكلمة الحق. 2 - واجبات البصر، وهي مشاهدة الكون بعين العبرة والخبرة، واستخدام البصر والبصيرة. 3 - واجبات الذوق، وهي أكل الحلال، واجتناب الحرام والمسكرات. 4 - واجبات الأعضاء، وهي الخضوع والخشوع. 5 - واجبات الجسم، وهي إطاعة القلب وعدم استخدام عضو ضد الضمير الطاهر. فهذه الأقسام الخمسة عشرة تسمى في مجموعها بالعبودية. الفناء والبقاء: ينبغي شرح الكلمتين لإيضاح مفهوم الروحانيات. والمقام الأول الذي أشار إليه الحديث بقوله ((فإنه يراك)) يسمى عند أهل التقوى مقام الفناء، وليس المراد بهذه الكلمة الفناء اللغوي، بل هو إزالة غير الله والوصول إلى شهود الحق بعد التغيب عن الأنانية.

ويدخل في هذا الفناء: التوبة والتذكرة والورع والزهد والإخبات والتبتل والخوف والرجاء. والبراهين السابقة توضح أن الإسلام يعرض أمام مشاهد الإنسان وفكره وتدبره كل ذرة من الكون لإثبات مسألة التوحيد. وهو ينور مصابيح العلم والعقل والتجربة والمشاهدة في طريق الذوق السليم والوجدان الصحيح، ثم يذهب بسالك هذا الطريق إلى المراحل التالية: {والذين اهتدوا زادهم هدى وأتاهم تقواهم} (محمد: 17). {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} (مريم: 76). {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا} (التوبة: 124). وبعد الوصول إلى الغاية المقصودة يبشره بالبشارة العظيمة: {يا أيتها النفس المطمئنة (*) ارجعي إلى ربك راضية مرضية} (الفجر: 27، 28). والشرك ضد التوحيد وقد ذكر أدلة رد الشرك على حدة: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء: 22). {أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم} (الأنبياء: 24). والإسلام هو الذي أخبر أن الدعوة الأولى والأخيرة لجميع الرسل هي هذه الكلمة: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (الأعراف: 59). وهذه هي الكلمة المقدمة التي تثبت ألوهية رب العالمين في القلوب، وهي الكلمة التي تطهر القلوب من شرك الغير. وهذه هي الكلمة التي تمنح الإيجاب بقاء، والسلب فناء، وقد تكررت هذه الآية في سورة الأعراف أربع مرات، وفي سورة الأنعام مرتين، وفي سورة آل عمران مرتين أيضا. وقال تعالى في بيان التوحيد: {قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض} (الأنعام: 14).

فهل تبقى حاجة لاتخاذ غير الله وليا ونصيرا؟ وهل يعقل أن يملك أحد غيره القلوب؟ كلا، يقول تعالى: {قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء} (الأنعام: 164). وقال: {ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص: 88). والذين يدعون غير الله، سواء دعوا من الأنبياء عيسى وعزيرا عليهم السلام وغيرهما من الصالحين، أو دعوا الآلهة الخيالية أخبروا من عند الله ما يخبر بينه تعالى وبين غيره. والنصراني الذي يؤمن بأن المسيح أخذ وصلب ودفن قامت عليه حجة الله بأنه لا يكون إلها. والمسلمون الذين يؤمنون بأن الحسين عليه السلام استشهد في كربلا جائعا عطشان وأهين جسده، قامت عليهم حجة الله تعالى بأن مثل هذا الشخص لا يكون معبودا. و (كرشن مهاراج) الذي رأى بعينيه عاصمته تنهب وتخرب، وقد أهلك نفسه بإلقائها في الثلج حزنا على ذلك، لن يكون معبودا أبدا. وسدهارت كوتم الذي عرف ب ((بوذا)) أي اليقظان، وأحرقت جثته في سهول نيبال بموضع (كسن آراء) وقسم رماده إلى ثمانية مواضع، وبنى في كل منها معبد، لن يكون معبودا مقدسا (¬1). ورسو لنا محمد (ص)، الذي بقي مريضا من 28 صفر سنة 11 إلى 13 ربيع الأول، وتوفي عشية ذلك اليوم، ودفن في القبر في 14 منه بعد المغرب، والذي وصف بإمام الأنبياء وسيد المرسلين، لن يكون معبودا ومسجودا، والحاصل أن الآية المذكورة بمعانيها قد أحكمت التوحيد إحكاما. والفناء يتضمن الرغبة وتعظيم الأوامر والنواهي والتصفية والتهذيب والاستقامة ¬

(¬1) يقدم كل بوذي الزهور أمام تمثال بوذا، ويردد نشيدا في مدح بوذا، بلغة (بالي) وهو يتضمن خمس عشرة كلمة في الثناء على بوذا، منها (بهكوا) أي المعبود، و (ارهم) أي المقدس.

والصبر والتفويض والثقة والتسليم والإخلاص والتواضع والفقر والغنى والتأسف والحزن والاغتراب والغيبة. ويندرج تحت البقاء الحياء والرضا والشكر والصدق والإيثار والفتوح والمروءة والانبساط والأدب والأنس والذكر والعلم والحكمة والتعظيم والسكينة والطمأنينة والغيرة والشوق والذوق والشهود والسرور والتمكين والمكاشفة والحياة بالعلم والحياة بالوجود والبسط والصحو والمعرفة واليقين والصدق والتحقيق (¬1). وتعريف هذه المقامات وتفصيل أحوالها، وشرح علاقتها بالنفس والقلب والروح، ونتائج هذه العلاقة، يحتاج إلى كتاب ضخم. ثم إن ماهيتها أرفع من البيان، وهي تتعلق بالأحوال. وبهذا الإجمال يفهم القراء أن الدين الذي يحتوي على القدر المذكور من الروحانية هو الذي يستحق أن يسمى دينا روحانيا. لقد تركت هذه المباحث الدقيقة، لأن القراء يستطيعون أن يفهموا المنزلة الخاصة التي احتلها الإسلام في بيان الروحانية. ¬

(¬1) ينبغي ألا توقع ألفاظ المقامات التي ورد ذكرها تحت الفناء والبقاء في شبهة أو خطأ لأن المراد من هذه الألفاظ المعاني اللغوية فقط وهي مصطلحات علم الإحسان (التقوى والورع) التي يدرك معانيها علماء هذا العلم إدراكا جيدا، كما أن هذه الألفاظ تثبت بكتاب الله وسنة رسول الله (ص).

الفصل الثالث الإسلام معلم الأخلاق الحميدة

الفصل الثالث الإسلام معلم الأخلاق الحميدة قال النبي (ص): ((بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال)) (¬1). وبين الإسلام أن منبع الأخلاق الرذيلة أربعة: الجهل والظلم والشهوة والغضب. 1 - ومن تأثير الجهل أنه يبرز الشيء الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، ويقدم الكمال في صورة النقص، والنقص في صورة الكمال. وقد حكى القرآن قول يوسف عليه السلام: {أصب إليهن وأكن من الجاهلين} (يوسف: 33). 2 - ومن تأثير الظلم وضع الشيء في غير محله. وذلك أن يوضع السخط موضع الرضا، والبخل موضع الجود، والبذل موضع البخل، والشدة موضع اللين، واللين موضع الشدة، والكبر موضع التواضع، والتواضع موضع الوقار. أي الإساءة في استخدام الحقوق، وبالتالي دعوى الاستحقاق على هذه الإساءة. قال تعالى في القرآن: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: 13). أي غصب حقوق الله ووضعها لغيره ظلم عظيم. 3 - ومن تأثير الشهرة أنها تمنى الحرص والبخل وضيق القلب، والتهجم على حقوق الغير، وتذهب الوقار وعفة النفس. وقد ورد في الحديث: ((إن الله أعطى كل ذي حق حقه)) (¬2). ¬

(¬1) مسند أحمد 2/ 381. (¬2) الترمذي 4/ 433 - الوصايا.

وقال تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} (الإسراء: 32). 4 - ومن تأثير الغضب أنه يورث الكبر والحقد والحسد والبغي والسفه. قال رجل للنبي (ص): عظني، قال (ص): ((لا تغضب)) ثلاثا (¬1). وقد بين الإسلام أن منبع الأخلاق الحميدة أربعة: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل. 1 - ومن نتائج الصبر تحمل المصائب وكظم الغيظ والكف عن الأذى والحلم والتواضع ورباطة الجأش وعدم التحامل. وقد ورد ذكر الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعا، وأمر بالصبر في ستة عشر موضعا. وقال الإمام أحمد بن حنبل: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصفه الآخر (¬2). 2 - ومن نتائج العفة اجتناب الرذائل والقباح، والطهارة في القول والعمل. ومن العفة ينشأ الحياء، وهو يؤثر في كل خلق حسن، والعفة تقضي على الكذب والبخل والفجور. 3 - ومن نتائج الشجاعة احترام النفس وطلب مكارم الأخلاق وإعانة الآخرين بالمال والنفس والابتعاد عن الطيش والغضب وإعطاء العقل زمام النفس. ورد في الحديث الشريف: ((ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) (¬3). 4 - ومن نتائج العدل اعتدال الأخلاق والاقتصاد في الأمور بالابتعاد عن الإفراط والتفريط. ويقرر العدل أن الجود والسخاء ما كان بين البخل والإسراف، ويقرر العدل أن الحياء ما كان بين الذل والاستهتار، ويقرر العدل أن الشجاعة ما كان بين الجبن والتهور، ويقرر العدل أن الحلم ما كان بين الكبر والهوان، والتصريحات السابقة تبين مدى مساهمة ¬

(¬1) البخاري 519/ 10 - الأدب. (¬2) مدارج السالكين 2/ 152. (¬3) البخاري 518/ 10 - الأدب، ومسلم في البر والصلة 2014/ 4.

الإسلام في شرح مفهوم الأخلاق الحميدة وقد جاء في القرآن: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) (الأعراف: 199). وأخرج مسلم عن النواس بن سمعان أنه (ص) قال: ((البر حسن الخلق)) (¬1). وفي الصحيحين: ((خياركم أحاسنكم أخلاقا)) (¬2). وأخرج الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء أن النبي (ص) قال: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وأن الله ليبغض الفاحش البذيء)) (¬3). وأخرج الترمذي عن جابر أن رسول الله (ص) قال: ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون)) (¬4). وورد في رواية الترمذي: ((إن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة)) (¬5). ويثبت بهذه الأحاديث أن اكتمال الإيمان والقرب من الرسول (ص) ورضا المولى يتوقف على الخلق الحسن، وينبغي أن نذكر في معرض الحديث عن الخلق الحسن أنه يتعلق بذات الإنسان نفسه وبأبناء جنسه وبرب العالمين أيضا، فتعلقه بذاته أن يرى نفسه ناقصا ويعتقد أن عمله أيضا ناقص، وينتج عن ذلك دوام السعي والاستمرار في تحسين الخلق، وتعلقه بأبناء جنسه يجعله يتحمل أذى الآخرين ولا يسعى لإيذائهم، وتعلقه برب العالمين يجعله يرى معاملته مع رب العالمين مستوجبة للشكر، ولا ينطق بقلبه ولسانه غير كلمة الأدب والشكر تجاه أحكام الله وأفعاله. ¬

(¬1) مسلم في البر والصلة 4/ 1980. (¬2) البخاري 10/ 456 - الأدب، ومسلم 4/ 1810 - الفضائل. (¬3) سنن الترمذي 4/ 362 - البر والصلة. (¬4) سنن الترمذي 4/ 370 - البر والصلة. (¬5) أيضا.

هذه هي الأخلاق الحسنة التي أتمها الإسلام قولا وعملا، وإليكم مزيدا من التفصيل: * يوجب الإسلام نصيب الفقراء والمساكين في مال الزكاة، ويقرر أن يصرف إليهم ثمن هذا الدخل. * ومن خمس الغنيمة يصرف الخمس إلى المساكين واليتامى وجوبا. * وكذلك يصرف خمس الفيئ إلى المساكين واليتامى. * ويعطى أبناء السبيل أيضا من هذه الأبواب الثلاثة، وبهذا النظام يصير عالم الإسلام كله بيتا للمسافر. * والدولة الإسلامية مسئولة عن الغارمين وديونهم. * وخصص ثمن الزكاة لتحرير العبيد، وفي نفس الصيغة أوجب التبرع. فإن وجدت ديانة تصدر أوامر بتخصيص جزء معين من ميزانيتها لصالح الفقراء والمساكين واليتامى والأيامى والعبيد والغارمين، فليخبر بها العالم من يعرفها. والإسلام يؤكد الالتزام بالعهود، ويمهل لمدة أربعة أشهر بعد نقض المعاهدة من الجانب الآخر إذا اقتضى الأمر البلاغ الأخير، والإسلام لا يدعو إلى الخلق الحسن رياء وتظاهرا، بل إنه يلزم به القلب والفكر مثل الجوارح، تدبروا الأحكام التالية: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} (الأعراف: 33). والحكم الثاني: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} (النحل: 90). والحكم الثالث: {وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامي والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} (النساء: 36). وروى البخاري أن النبي (ص) قال:

((والله لا يؤمن)) (ثلاثا) قيل من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) (¬1). وفي مسلم: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)) (¬2). وفي الصحيحين: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)) (¬3). وأخرج البخاري عن سهل بن سعد أن النبي (ص) قال: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)) وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا)) (¬4). وأخرج أبو داود عن علي أن من آخر كلام النبي (ص): ((الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)) (¬5). وقال الله تعالى: {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور (*) واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} (لقمان: 19، 18). ومن توجيه الإسلام الخلقي نحو الأمة والوطن: 1 - {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} (الحجرات: 9). 2 - {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب} (الحجرات: 11). 3 - {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا} (الحجرات: 12). ونحو أتباع الأديان الأخرى: 1 - {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} (الممتحنة: 8). ¬

(¬1) البخاري 10/ 433 - الأدب. (¬2) مسلم 1/ 68 - الإيمان. (¬3) البخاري 10/ 437 - الأدب، ومسلم 4/ 2286 - الزهد. (¬4) البخاري 9/ 439 - الطلاق. (¬5) أبو داود 14/ 64 رقم 5134.

2 - {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} (النساء: 58). وهناك عشرات الأحكام مثل ذلك، وهذه الأخلاق تمسك بها المسلمون في القرون الوسطى، وبلغوها غيرهم من الناس بالعلم والعمل. أما تاريخ الأديان الأخرى غير الإسلام فهو بلا شك معلوم لدى أهل النظر.

الفصل الرابع حل الإسلام مشكلة العدل والرحمة

الفصل الرابع حل الإسلام مشكلة العدل والرحمة النصرانية المعاصرة قائمة على أصلين: 1 - أن آدم أخطأ، وتلوث بنوه جميعا بذلك الخطأ. 2 - وشاءت رحمة الله أن يطهر الناس من الذنوب، ولكن قضت عدالة الله أن يتحمل الإنسان عقاب ذنوبه. وحل الله تعالى هذه المشكلة فأرسل ابنه إلى الدنيا فصار ملعونا ودخل جهنم وتحمل الألم والعقاب فصار كفارة للعصاة، وهكذا تم مقتضى العدل، فغفر الله الرحيم عندها للعصاة عصيانهم. وقد صحح الإسلام الأصلين: الف: فقال عن خطأ آدم إنه تم العفو عنه بالتوبة وتطهر آدم من الذنب، ولذا لا يصح تحميل بني آدم الذنب: 1 - {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} (البقرة: 37). 2 - {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} (طه: 122). ب - وبين الإسلام فيما يتعلق بالعدل والرحمة أن معاقبة البرئ بدل المذنب ظلم، ولذا لا يصح دخول المسيح الطاهر جهنم ملعونا. وعلى هذا يتنافى أمر عقاب البرئ بغية الرحمة بالعصاة. 1 - يعفى عن التقصير في حقوق الله بالتوبة، والله تعالى يكتب الرحمة على نفسه في حقوقه ويعامل بالرأفة والشفقة. 2 - أما حقوق العباد فإن الله تعالى يعامل فيها بالعدل، وتقريرا لهذا المبدأ قال النبي (ص): ((يغفر كل ذنب للشهيد إلا الدين)).

وينبغي أن نتذكر أن تقسيم الحقوق على هذا الأساس ووضع كل قسم تحت نظام العدل والرحمة هو القرار الذي تفرد الإسلام بإصداره، أما النصرانية المعاصرة والتائهون في وادي التناسخ فإنهم قد عقدوا هذه المسألة تعقيدا. ومن خصائص الإسلام أنه أقام العدل بعيدا عن الإفراط والتفريط.

الفصل الخامس الإسلام هو حامي العلم والعلماء

الفصل الخامس الإسلام هو حامي العلم والعلماء شرح فضيلة العلم وذكر أدلة شرفه في العصر الحاضر تحصيل حاصل، لأن جميع الأمم والدول في العالم في هذا العصر اعترفت نظريا وعمليا بأن العلم لا تساويه صفة إنسانية أخرى، لكن حينما بدأ الإسلام في الحجاز والجزيرة العربية كان العالم كله غافلا عن سر فضيلة العلم بل جهل العالم الكتابة والقراءة، وكان أهله يفتخرون بهذه الحالة، وكذلك اليهود والنصارى كانوا بعيدين عن الدراسة، والتعليم الذي وجد لدى الأساقفة لم يتجاوز تعلم حروف الإنجيل ولم يدخل فيه الترجمة والتفسير. وبجانب هذا حلت الأساطير محل العلم الحقيقي وكتبت عند اليهود في صورة الرواية ثم اكتسبت منزلة الوحي. وكانت الهند تحت سيطرة (شري مد بهاكوت) والبرانات الثمانية عشر، وفي حالة أرقى كانت ملحمة (مها بهارت، ورامائن) منتهي العلم، وهكذا كانت حال الصين وإيران، أما أوربا فكانت مسكن الجهل، وجاء الإسلام فحمى العلم وصار مأمن العلماء وملجأهم. 2 - إن كتب الهنادك واليهود مليئة بتقديس الآلهة والملائكة، والإنسان أمامهم دائما يوضع في صورة العابد والناسك، لكن الإسلام أخبر بأن أبا البشر مسجود الملائكة والآلهة أيضا، وسبب ذلك هو تفوقه عليهم في صفة العلم. والتوضيح الذي ورد في سورة البقرة يهدف إلى إبراز فضل العلم نفسه. وانظروا الآن في تفسير الآية {وما علمتم من الجوارح مكلبين} (المائدة: 4)، إن الكلب الذي كان نجس العين اكتسب منزلة الجارحة الإنسانية في الاصطياد بعد التعلم، ويكون صيده في حكم صيد الإنسان. وبالتدقيق في المثالين، ونعلم أن الإسلام جعل كلب الصيد مساويا لجارحة الإنسان بالتعليم، وجعل الإنسان مسجود الملائكة بفضل العلم، وهذا يوضح لنا مدى إبراز الإسلام لفضيلة العلم.

قال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة: 11). فالعلم هنا ذكر مع الإيمان في علو المنزلة، وجاء في بداية الوحي القرآني: {إقرأ وربك الأكرم (*) الذي علم بالقلم (*) علم الإنسان ما لم يعلم} (العلق: 3 - 5). تدبروا كيف حث الإسلام بأسلوب رزين على العلم، وبين كون القلم ذريعة لنشر العلوم وكون الإنسان قابلا للتعليم وتلقيه العلوم الناشئة المتجددة، وكيف تم ترغيب الإنسان في التزود بالعلوم بعد استخدام وسائل القراءة والتحرير. والقرآن الكريم بين لنا صفة أدعية بعض الأنبياء فذكر أن نوحا عليه السلام دعا فقال: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات} (نوح: 28). وإبراهيم عليه السلام دعا فقال: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} (إبراهيم: 35). ودعا سليمان عليه السلام ربه: {رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي} (ص: 35). ودعا زكريا عليه السلام: {رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} (آل عمران: 38). ولكن نبينا محمدا (ص)، الذي هو خلاصة الكون وسيده، دعا الله تعالى دعاء مزيدا جامعا فقال (ص): {رب زدني علما} (طه: 114). وبذلك يتبين أن درجة العلم أعلى من جملة النعم، والنبي (ص) لقب في القرآن بخاتم النبيين ورحمة للعالمين. وبجانب ذلك وصف الله رسوله فقال: {ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} (البقرة: 151). والآيتان تدلان بوضوح على فضل العلم. فلا شك أن الإسلام علم العلوم عامة، وهو الذي بلغ بصدر رحب علوم السابقين

الأولين والأنصار والمهاجرين لمن دخل في الإسلام من الناس والبلاد، تدبروا الأمثلة التالية: إن الإمام أبا عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة صاحب الصحيح الذي يحتل المنزلة الأولى بين الكتب الستة، كان من سكان بخارا، والمغيرة هو أول من دخل في الإسلام من أجداده، والإمام الهمام أبو حنيفة نعمان بن ثابت من أهل فارس، وكان جده قد دخل في الإسلام، ولم يكن سيبويه وأبو علي والزجاج وهم أئمة اللغة والنحو من العرب، ولم يكن إمام اللغة إسماعيل بن محمد الجوهري والأستاذ مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي من سكان الجزيرة العربية، وكان أبو الفرج الذي زادت شهرة مؤلفاته بالعربية من سكان مالطة. وولد ابن خلدون مؤسس فلسفة التاريخ والعمران في تونس - والمؤرخ الشهير برهان الدين من الموصل. وولد المقريزي في بعلبك. والإمام مسلم صاحب الصحيح، والإمام أبو داود صاحب السنن وإن كانا من أصل عربي ولكنهما لم يسكنا الجزيرة العربية. ويتضح بهذه النظائر أن الإسلام بتعهده للعلم وعنايته به قد فتح من البداية أبواب العلم على جميع الأمم، فافتتحت مدارس العلم من وسط الهند إلى آخر السودان، ومن بلاد خراسان إلى حدود المغرب في خير القرون. وقد عبر الله تعالى عما تحقق من الشرف والكرامة للأنبياء عليهم السلام على جملة الخلائق عبر عنه بالعلم، فقال تعالى: {يا أبت إني قد جاءني من العلم} (مريم: 43)، وقال تعالى: {ولقد آتينا داود وسليمان علما} (النمل: 15). وقال: {وإنه لذو علم لما علمناه} (يوسف: 68). والناس يستشهدون على ثبوت التأكيد لطلب العلم بالمقولة المشهورة: ((اطلبوا العلم ولو في الصين)) وهذه الألفاظ لم تثبت عن النبي (ص) بالسند الصحيح، ولكن القرآن الكريم أورد واقعة موسى عليه السلام، الذي كان من الرسل أولي العزم، وصاحب كتاب، ووصل لتعلم بعض المسائل إلى الخضر عليه السلام، وأبدى رغبته بقوله: {على أن تعلمن مما علمت رشدا} (الكهف: 66). والله تعالى قدم العلماء أيضا لإثبات دلائل التوحيد، كما أنه أكد هذا الأمر بشهادته وشهادة الملائكة، قال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم

قائما بالقسط} (آل عمران: 18). وذكر الله تعالى شهادة علماء أهل الكتاب لإثبات النبوة المحمدية أيضا: 1 - {أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماؤا بني إسرائيل} (الشعراء: 197). 2 - {ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} (الرعد: 43). فكما أن أدلة الإسلام مبنية على العلم، فكذلك طولب أتباع الأديان الأخرى بأن يبرهنوا على دعاويهم بالعلم، قال تعالى: 1 - {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} (الأنعام: 148). 2 - {نبئوني بعلم إن كنتم صادقين} (الأنعام: 143). وقد شنع الإسلام على أهل الزيغ بأنهم يتقولون دون علم: 1 - {فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} (آل عمران: 66). 2 - {ولا تفف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} (الإسراء: 36). وتمسكا بهذه الآيات والأحكام أنجز المسلمون عبر القرون ما شهد به أهل أوربا كلها. وحينما قامت الدولة العباسية في بغداد، والدولة الأموية في الأندلس والدولة الفاطمية في مصر، جرى بينها التنافس في سبيل العلم وحماية العلماء، فكانت كل دولة تسعى أن تتفوق في نشر العلم والعناية به. وقد وجد مرصد في سمرقند مقابل مرصد الأندلس، وقد نشرت بغداد العلوم والفنون في الهند والصين وتتارستان، وكذلك نشرتها الأندلس في إيطاليا وفرنسا وألمانيا وأثرت هذه البلاد بالعلم. وكان الفلاسفة من اليهود والنصارى والهنادكة والمصريين وأهل الصين واليونان في بلاط ملوك الإسلام محترمين ومكرمين، مثل أهل الحجاز وحضرموت واليمن وأبناء المهاجرين والأنصار، وكانت العلوم الرياضية والفلسفة والهيئة منتشرة مثل العلوم النقلية والأدب والنحو، كانت المدارس في بلاد الشرق والغرب وافريقيا متاحة لعامة الشعب، وكانت في كل مدرسة مكتبة وسكن للطلاب. وكانت في بغداد المدرسة النظامية التي أنشأها الوزير نظام الملك، وكانت توفر الطعام لنحو 6000 طالب، وتقاس عليها المدارس الأخرى.

والطريقة التي قدم بها الإسلام العلم إلى الخلائق كانت مجهولة لدى الأمم الماضية. فالإسلام يقسم العلوم إلى قسمين: ألف - الجلي، ويحصل بثلاث وسائل: 1 - البصر، فتحصل به العلوم التي تتعلق بالمعاينة والاكتشاف. 2 - والسمع، وتحصل به العلوم التي تنبني على الاستفاضة. 3 - والقلب، وتحصل به العلوم التي هي مجموعة التجارب الإنسانية. ب - الخفي، ويحصل أيضا بثلاث وسائل: 1 - الإيمان، ويمنح اليقين في الجزء المجهول. 2 - الفراسة الصادقة، وهي تطلع على سر الأمور الخفية بعد الحواس العشر. 3 - المعرفة، وتبدأ بنهاية الماديات. وقد ذكر الإسلام علما آخر أيضا، وهو وهبي وليس كسبيا، ويقال له العلم اللدني، وهو خاص بالأنبياء عليهم السلام. ويتلقى طالب هذا العلم درسه برحمة المبديء الفياض الخاصة، ويكون علمه سلطانا على العلوم والبراهين الأخرى، وتكتمل في ظل هذا العلم: العبودية والمتابعة والصدق ونتيجة هذا الكمال هي نفي الادعاء، وصاحب هذا العلم إذا أنجز عملا اعترف بقوله ((ما فعلته عن أمري)). وإنه يتكلم في جملة العلوم بالنطق الميمون، ويوضع على رأسه تاج: {وما ينطق عن الهوى (*) إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 443). والمولعون بالمادة لم يطلعوا إلى الآن على حقيقة المادة، ولا على سبب حركتها، ولكن صاحب العلم المذكور يكشف عن حقيقة الروح، ويصرح بقوله: {الروح من أمر ربي} (الإسراء: 85). وإنه ليطلع على حقائق عالم الأمر فوق عالم الخلق، وينور عين البصيرة بتعليم تلك الحقائق، وينزل غير المحسوس في مكان المعلوم. وبالنظر في هذا المبحث كله يتضح أن الإسلام هو دين العلم، وهو حامي العلم. تذييل: وموضوع كون الإسلام حامي العلماء يكتمل بالنظائر التي توضح مواقف

الحكام المسلمين الذين عرفت منزلتهم من الناحية الدينية أيضا من العلماء. هؤلاء أكرموا العلماء غير المسلمين أيضا. كان الخليفة العباسي المنصور عالما كبيرا بالقرآن والسنة. عين في بلاطه جرجيس بن بختيشوع طبيبا خاصا له وعين من بعده الحسن بن شهلا ثار (وهما نصرانيان)، واحتل نوبخت وأبو سهل (وهما مجوسيان) منزلة عالية. وكان يتوفل اللينائي (وهو صابئ) من كبار الضباط في بلاط المهدي. واحتل بختيشوع وجبريل (وهما نصرانيان) منصبا عاليا في بلاط هارون الرشيد، وكان يوحنا بن ماسويه مدير قسم السريانية، وشغل البطريق يوحنا وسهل بن سابور (وهما نصرانيان) مناصب عالية في بلاط المأمون، وكان سلموية بن بنان النصراني طبيبا خاصا للمعتصم، وكانت لحنين بن إسحاق النصراني منزلة خاصة في بلاط المتوكل، وكان يوزن له الذهب الخالص مقابل الأوراق التي يترجمها من اللغات الأخرى. غير راتبه الذي يتقاضاه شهريا عن عمله بالإضافة إلى الجوائز الملكية أيضا. وكان في بلاط الراضي بالله طيفور النصراني والأسقف متى بن يونس النسطوري، وفي بلاط المعتضد كان إبراهيم وسنان ابني ثابت بن مرة وأبي الحسن حفيد ثابت من الموثوق بهم، وكان الناس يحسدون قسط البعلبكي ويحيى بن عدي بن حميد (وهما نصرانيان) على منزلتهما في بلاط الخلافة، وهكذا تطول هذه القائمة كلما بحثنا. وينبغي أن نفكر هل تحققت مثل هذه المنزلة لعالم مسلم تحت رعاية حكومة نصرانية أو حكومة غير مسلمة أخرى؟ بالعكس من ذلك نجد أمثلة كثيرة تبين اتجاها مضادا، فقد أخرج اليهود من الأندلس في 20 مارس عام 1452 م بجريمة أنهم درسوا كتب الفيلسوف المسلم ابن رشد. وفي فبراير عام 1503 م تم نفي المسلمين من اشبيلية ونواحيها لنشرهم العلوم بين الناس. وقد يظن أحد أن إجلاء اليهود والمسلمين يمكن أن يكون نتيجة للتعصب الديني والقومي، دون العداء للعلم والمعرفة. ولذا نعرض أمثلة أخرى تدل على أن نفس المعاملة السيئة واجهها علماء النصارى حينما نشروا العلوم العقلية أو اخترعوا علوما جديدة. حبس البروفيسور برونو حينما بين مسألة وحدة الوجود، وأحرق حيا في عام 1600 م بعد حبس طويل، وسفكت دماء كثيرة في أوربا حول مسألة كروية الأرض،

وصرح الأستاذ غليلو بانتظام حركة النجوم فأدى ذلك إلى هلاكه، وأتت السيدة ماري مونتا إلي أوربا عام 1721م من القسطنطينية بعد أن تعلمت التطعيم ضد الجدري، فتقدمت الكنيسة بطلب إلى ملك انجلترا تطلب منع المعالجة بالتطعيم بالمرسوم الملكي، واكتشفت في أمريكا طريقة تخدير المرأة عند الولادة لتخفيف الألم عنها، ولكن الأساقفة رأوا فيها مخالفة الأمر الرباني الذي يقضي بأن تتألم المرأة في حالة الوضع، فقامت ضجة كبيرة ضد الطريقة المذكورة. وصرح (البلاج) بأن الموت كان يطرأ على الحيوان قبل آدم أيضا فقتل أثر هذا التصريح، وأمر بقتل كل من رأى رأيه، وبين (دي رومانس) أن قوس قزح ليس قوس الله الحربي، بل إنه ينشأ لوقوع أشعة الشمس على قطرات الماء، فحبس أثر هذا التصريح وقتل ثم أحرقت جثته مع مؤلفاته، وتم إحراق مكتبة الاسكندرية في عهد قيصر يوليوس (48 ق. م.)، بحجة أنها احتوت على الكتب التي تعارض الدين. وأحرق ما بقي من كتبها عن طريق يتوفيل مأمور الاسكندرية، وأحرق كردينال اكسيمس ثمانية آلاف مخطوطة من تراث المسلمين في مكتبة غرناطة، وبهذه الوقائع والتصريحات يتضح جليا أن الإسلام هو حامي العلم والعلماء، وهذه الصفة من خصائصه العليا ..

الفصل السادس الإسلام دين العمل

الفصل السادس الإسلام دين العمل ذكرنا في الفصل السابق أن الإسلام دين العلم، ولكن العلم إذا تجرد من العمل فلا فرق بين وجوده، من عدمه، ولذلك قال النبي: ((اللهم إني أسألك علما نافعا وعملا متقبلا)). ولما رأى بعض الناس أن الإسلام يدعو إلى التوكل ظنوا أنه ضد العمل. ووقع في هذا الخطأ البعيدون عن الإسلام والقريبون منه أيضا على حد سواء، والسبب الأساسي الأول لهذا الخطأ يرجع إلى عدم فهم معنى التوكل، ولما كان العصر الحاضر عصر الجد والسعي، كره الناس الجمود والكسل، وحينما ظنوا أن الإسلام يدعو إلى مثل هذا الجمود وعدم الشعور بالمسئولية أسرعوا إلى القول بأن الإسلام لا يمكن أن يكون دينا إلهيا. ولكن الحقيقة أن الإسلام لم يفهم على وجهه الصحيح، ولم تدرس سيرة النبي (ص) وأتباعه بطريقة سليمة. لقد تأثر المسلمون بالأمم المجاورة ورأوا النساك والرهبان والأساقفة، فحسبوا أن الوصول إلى أعلى منزلة من الزهد لا يمكن أن يكون إلا بترك الأفعال والأعمال، ولكن هذا هو فهمهم ونظرتهم، أما الإسلام فإنه يعلم الناس ما يأتي: 1 - {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون} (التوبة: 88). 2 - {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (*) وأن سعيه سوف يرى} (النجم: 39، 40). 3 - {فلا كفران لسعيه} (الأنبياء: 94). 4 - {ولكل درجات مما عملوا} (الأنعام: 132). والعمل على قسمين: عمل للدنيا، وعمل للآخرة. والإسلام رغب في كل منهما. قال تعالى: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة: 201).

وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)) (¬1). وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص أنه مرض فعاده النبي (ص) فقال له سعد: إني أريد أن أتصدق فبين له النبي (ص) هذا الأصل: ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)) (¬2). ومع هذا الحديث ينبغي أن ننظر إلى أحكام التوريث في القرآن الكريم حتى نعرف كيف حدد الله تعالى الحصص لتقسيم إرث الميت. أصول الإرث والمواريث: إن الحصص في أصول الإرث من النسب والنكاح والولاء وفي الفرائض ستة وهي: النصف والربع والثمن والثلثان والسدس. فالمستحق للنصف خمسة: الزوج من تركة الزوجة إن لم يكن لها ولد، والبنت من الملب إذا كانت وحيدة، أو بنت الابن والأخت الواحدة من الأب والأم، أو الأخت الواحدة من الأب، إذالم يكن ابن من الأب والأم. والربع يستحقه اثنان: الزوج مع ولد الزوجة، والزوجة بعدم الولد. والثمن تتحقه الزوجة مع الولد. ويستحق الثلثين أربعة: الزوجتان فأكثر، أو بنات الابن، والأخوات من الأب والأم، أو الأخت من الأب. ويستحق الثلث ثلاثة: الأم إذا لم يكن للميت ولد وأخوة وأخوات، أولاد الأم، اثنان فأكثر، ويستوي فيه الذكر والأنثى والجد مع إخوة الميت إذا لم يكن هناك صاحب فريضة آخر. والسدس يستحقه سبعة: الأب إذا كان للميت ولد، والأم إذا كان للميت ولد أو ولد الولد أو أخ وأخت، والجد مع ولد الميت ومع الأخوات إذا كان هناك صاحب فرض، والجدة أو الجدات، وأولاد الأم، وبنات الابن مع البنت من الصلب، والعمات مع الأخت الحقيقية. ¬

(¬1) مسلم 2053 - القدر. (¬2) البخاري 363/ 5 - الوصايا، ومسلم 3/ 1250 - الوصايا.

انظروا إلى هذا التقسيم الإجمالي الخاص بعلم الفرائض، ثم تفكروا في موقف الإسلام من المال، وفي الأحكام المفصلة التي شرعها الله تعالى في الإرث، فإن لم يكن بذل الجهد لكسب المال وترك المال للورثة خيرا، فكيف شرعت هذه الأحكام من الله تعالى؟ وبعد تقسيم السهام المذكورة أوجب القرآن الوصية أي إذا كان في المال وفرة، يقول تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} (البقرة: 180). وهناك أمر آخر يخص حفظ المال، يقول تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} (النساء: 5). وأحكام البيع والشراء والتجارة التي وردت في القرآن والسنة تدل أيضا على أن الإسلام دين العمل. ويعلم جميع كتاب السيرة أن المهاجرين الأولين من أهل مكة كانوا جميعا أهل تجارة، والأنصار الأولون أهل زراعة، ولذلك جاءت آيات الثواب والجهاد في القرآن الكريم في صورة التمثيل بالتجارة والزراعة، ولا يخفى على العاقل احتياجها إلى العمل والجهد. ولقياس ثروة التجار من الصحابة ينبغي النظر فيما يلي: الف - كان عبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرة، أنفق في سبيل الله في عهد النبي (ص) المبالغ الآتية: 1 - في المرة الأولى أربعة آلاف درهم، وكانت ربع ماله حينذاك. 2 - وفي المرة الثانية أربعين ألف درهم. 3 - وفي المرة الثالثة أربعين ألف دينار. 4 - وفي المرة الرابعة خمسمائة فرس. 5 - وفي المرة الخامسة خمسمائة ناقة. 6 - وبعد النبي (ص) أعطى أمهات المؤمنين بستانا بيع بأربعمائة ألف.

7 - وأوصى عند موته بخمسين ألف دينار في سبيل الله. 8 - وكذلك أوصى بتقديم أربعمائة دينار لكل صحابي بدري، وكان عددهم حينذاك مائة. 9 - وأعطى كذلك ألف فرس في سبيل الله. 10 - ولدى تنفيذ الوصية وجدت كمية كبيرة من الذهب الخالص تعبت أيدي الناس في قطعه. 11 - وبعد الذهب كان عدد الإبل ألفا والفرس مائة والشاة ثلاثة آلاف. 12 - وكانت له أربع زوجات رضيت كل منهن بثمانين ألف درهم (¬1). ب - كان الزبير ابن عمة النبي (ص) قد أوصى في ماله بأن يقضى منه دينه أولا، ثم يتصدق بالثلث، ثم يقسم على الورثة. وبلغ الدين مليونا وأربعمائة ألف، وكانت النقود عنده قليلة، والأراضي الزراعية والسكنية كثيرة، كان له أحد عشر بيتا في المدينة، وبيتان في البصرة، وبيت في مصر، وقطعة أرض تم شراؤها بأكثر من سبعة ملايين، فلما تم بيع جميع ذلك حصل مبلغ خمسين مليونا ومائتي ألف، فقضى الدين ونفذت الوصية ونودي أربع سنوات في موسم الحج بأن من له دين على الزبير فليأخذه، ثم قسم ماله. وكان من جوده أنه استعمل ألف خادم في التجارة، وكان ينفق ربحه الشهري في سبيل الله (¬2). وليس قصدي بيان مثل هذه النظائر بالاستيعاب، بل المطلوب هو بيان كيف حبب تعليم الإسلام إلى السابقين الأولين العمل للدنيا والآخرة. فهل تثبت إزاء ذلك ميزة للبوذية التي شجعت التسول؟ أو لتعليم الفيد الذي أوجب على الإنسان في الربع الأخير من عمره الترهب؟ أو يوجد تعليل لدى النصرانية لتعليمها الذي يقول أن ولوج الجمل في سم الخياط أسهل من دخول الغني في ملكوت السماوات. ¬

(¬1) ابن سعد 124/ 3 وبعدها، أسد الغابة 480/ 3 وبعدها. (¬2) ابن سعد 3/ 108، والاستيعاب 514/ 2، وسير أعلام النبلاء 1/ 65، وتهذيب الأسماء 196/ 1.

والذين رباهم تعليم الإسلام على خير وجه ووردت صفاتهم بهذه الكلمات: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} (النور: 37). وهذه الصفة برزت في الإسلام وحده، وقد عبر أحدهم عن هذا المعنى بقوله: اليد في العمل والقلب في ذكر الحبيب، والاهتمام بالعمل إلى الآن من ناحية الاقتصاد والتمدن، والعناية التي أولاها الإسلام الأعمال الصالحة من ناحية التقرب والتدين أمر لم يسبق له نظير، تدبروا الآيات التالية: 1 - {فاستبقوا الخيرات} (المائدة: 48). 2 - {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا (*) ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا} (الإنسان: 25، 26). 3 - {واسجد واقترب} (العلق: 19). 4 - {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} (الأحزاب: 41). 5 - {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} (المزمل: 8). إن النظر في الكون، وتنوير القلب والعين بصنع الله، وتدبر خصائص البر والبحر وتصريف الأرض والسماء، كل ذلك جزء من العبادة في الإسلام، ومن قام بهذه العبادة نال الدرجة الرفيعة عند الله، يقول تعالى: {إن في خلق السوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} (البقرة: 164). وثبت بهذه الأحكام أن الإسلام دين العمل، إنه يأمر أهله بالعمل لصالح الدنيا وبالعمل لصالح الآخرة. وهذه الأحكام وشمولها من خصائص الإسلام.

الفصل السابع الإسلام مؤسس الأخوة

الفصل السابع الإسلام مؤسس الأخوة من الأخوة ما يكون بين شخصين برابطة الدم، ولسنا في حاجة إلى توضيحها في هذا المقام، ويعترف في هذه الأخوة بحق الأخ من ناحية القانون والعرف والأخلاق، ويكون الأخ مجبولا على عون أخيه منذ طفولته ومع هذا لا يكون نطاق هذه الأخوة جد واسع، إذ توجد في التاريخ أمثلة كثيرة لمعاداة أخ لأخيه بحيث لا تصفو العلاقة بينهما طول العمر. أوردت التوراة كما أورد القرآن الكريم قصة قابيل وهابيل التي تبين أن قتل النفس الإنسانية بدأ بين أخوين. وهناك أخوة أخرى تقوم على وحدة العقيدة، وهذا هو ما نقصده هنا في هذا الفصل. إن الأخوة التي تحققت بين المسلمين بفضل النبي (ص) أعلى وأرفع، ومن العبث أن نبحث لها عن نظير في تاريخ العالم، فإن السماء والأرض عجزتا عن الإتيان بنظيرها، وتحقق العمل بالمؤاخاة في مكة والمدينة كليهما. وكان الهدف منها في مكة إيجاد الرابطة بين الصحابة، والنصرة على الحق، والمواساة، بينما كان الهدف منها في المدينة إيجاد الوحدة بين الأصحاب المكيين والأصحاب المدنيين. وكان أساسها توسيع دائرة الحب ودعم أواصر المودة. مؤاخاة مكة محمد رسول الله (ص) …علي بن أبي طالب أبو بكر الصديق…عمر الفاروق حمزة بن عبد المطلب…الزبير بن الحارثة الزبير بن العوام…عبد الله بن مسعود عثمان بن عفان…عبد الرحمن بن عوف

مؤاخاة المدينة

مؤاخاة المدينة بعد الهجرة بخمسة أو ستة شهور، في تلك الأيام كان المسجد النبوي في طور البناء، تم عقد المؤاخاة بين مهاجر وأنصاري لتقوية القلب وشد العضد، وانعقدت المؤاخاة أولا بين خمسين زوجا من الرجال في المسجد النبوي. ثم انعقدت بعدها في دار أنس، إذ يقول أنس: حالف بين المهاجرين والأنصار في دارنا مرتين أو ثلاثة. وفي رواية ابن اسحاق أن النبي (ص) قال: ((تآخوا في الله أخوين أخوين)) ويبدو أن النموذج الذي أقامه النبي (ص) عمل به الصحابة بعده باستمرار إلى أن تم فتح مكة المكرمة وزالت الوحشة من بين القادمين من مكة مهاجرين، وفيما يلي قائمة مؤاخاة المدينة: المهاجرون…الأنصار 1 - أبوبكر الصديق خليفة رسول الله (ص) …خارجة بن زهير 2 - عمر الفاروق أمير المؤمنين…عتبان بن مالك 3 - عثمان بن عفان، أمير المؤمنين…أوس بن ثابت الأنصاري 4 - علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين…سلمان الفارسي ورسوله الله (ص). 5 - عبد الرحن بن عوف…سعد بن الربيع 6 - أبو عبيدة عامر بن الجراح…سعد بن معاذ 7 - طلحة بن عبد الله القرشي، أحد العشرة المبشرة…كعب بن مالك الأنصاري الخزرجي، شاعر النبي (ص). 8 - سعد بن زيد بن عمرو…أبي بن كعب الأنصاري 9 - الزبير بن العوام…سلمة بن سلامة 10 - زيد بن حارثة…أسيد بن حضير

أثر المؤاخاة

11 - بلال…أبو رويحة الخثعمي 12 - جعفر بن أبي طالب، نزيل الحبشة…معاذ بن جبل 13 - عمار بن ياسر…حذيفة بن اليمان 14 - مصعب بن عمير…أبو أيوب الأنصاري 15 - أبو الدرداء…سلمان الفارسي 16 - عبيدة بن الحارث بن المطلب…عمير بن حمام بن جموع 17 - زيد بن خطاب…معن بن عدي العجلاني 18 - وهب بن سعد بن أبي سرح القرشي…سويد بن عمرو الأنصاري 19 - أبو مرثد الغنوي…عبادة بن الصامت الأنصاري 20 - ذو الشمالين عمير بن عبد عمير الزهري…يزيد بن حارث بن قيس 21 - عثمان بن مظعون…عباس بن عبادة الخزاعي ذو العقبتين 22 - طليب بن عمير بن وهب القرشي…منذر بن عمرو بن خنيس الساعدي 23 - أبو حذيفة بن عتبة…عباد بن بشير. 24 - معاوية بن أبي سفيان…الحتات بن يزيد (¬1) رضي الله عنهم. أثر المؤاخاة: كان كل أنصاري يذهب بأخيه في الدين إلى بيته، ويعرض أمواله وأمتعته وأراضيه الزراعية والسكنية، ثم يقسمها قسمين، له ولأخيه. فذهب سعد بن الربيع بعبد الرحمن بن عوف إلى بيته، وكانت له زوجتان فقال لعبد الرحمن اختر إحداهما حتى أطلقها فتتزوجها (¬2). ¬

(¬1) ابن هشام 2/ 150. (¬2) ابن سعد 3/ 124 وبعدها.

وإن مات منهم أحد الأخوين ورثه الآخر في ماله، ولما بنى المهاجرون بيوتهم وكسبوا المال بالتجارة واستغنوا عن معونة الأنصار انتهى التوارث بين المهاجرين والأنصار. ذكر المؤاخاة في القرآن: والقرآن الكريم أورد ذكر هذه المؤاخاة في عدة مواضع، قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران: 103). وقد أشار القرآن بقوله ((كنتم أعداء)) إلى جميع الحروب التي يذكرها الصحابة جيدا، والتي شاركوا فيها هم أو أقاربهم وأحباؤهم وأبناؤهم. وهذه الحروب هي التي كانت تروى أرضا غير ذي زرع بالدماء. 1 - المخاصمة بين بني هاشم وبني أمية في مكة نفسها. 2 - والخصومة بين قريش ومضر. 3 - وقريش وحرب الفجار. 4 - والقتال بين كنانة وبني قيس. 5 - العداء بين عبد مناف وحلفائها من بني زهرة وبني أسد وبني تميم وبني الحارث وبين بني عبد الدار وحلفائها من بني سهم وبني جمح وبني مخزوم وبني عدي. 6 - العداء بين ملوك كندة وملوك غسان وملوك الحيرة في الجزيرة، ثم سيطرة فارس على جزء من الجزيرة، وسيطرة الروم على الأخرى، وسيطرة الأحباش على الثالثة، ثم الحرب والتزامات الدائرة بين هذه الدول فيما بينها وتأثير هذه الحرب والنزاعات على القبائل العربية من ناحية خضوعها لهذه القوى تأثيرا مضادا. 7 - الحروب بين الأوس والخزرج في يثرب. 8 - مؤامرة يهود بني النضير وبني قيتقاع وبني قضاعة وخيبر وفدك وتيماء، لإشغال القبائل العربية بالحروب المستمرة. 9 - دسائس نصارى دومة الجندل ونجران والبحرين. 10 - حروب القبائل الوثنية انتصارا لآلهتها.

11 - خطط الزنادقة والدهريين وتلونهم. 12 - الخلاف الشديد بين فرق النصارى الثلاث من الكاثوليكية واليعقوبية والبولوسية، والإضرار بالعرب فى نشر هذا الخلاف وتوسيعه. فهذه هي الأمور التي تدخل ضمن قوله تعالى: {كنتم أعداء}. ثم انتهاء هذه الخلافات والمنازعات، وانعدام الحروب، وذهاب الحقد وروح الانتقام، واستقرار الأمن والسلام، وتوحد أهل الجزيرة واتفاقهم على كلمة واحدة واتجاه واحد وعقيدة واحدة وهدف واحد وإله واحد، وتحول الظالمين إلى أهل عدل محافظين على الأموال والأنفس، وتحول الأعداء الألداء إلى أخوة متحابين بالإيمان، كل ذلك من النعم التي ذكرها الله تعالى في القرآن ومن بها على عباده، وهي أيضا دليل على شرف الإسلام وفضله. وقد أثنى الله تعالى على طرفي هذه المؤاخاة فقال عن المهاجرين: {الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} (الحشر: 8). دلت هذه الآية على كون المهاجرين مظلومين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وثباتهم مع ذلك ثم ابتغاءهم فضل ربهم، واستمرارهم في نصر الله ورسوله مع تجردهم من جميع وسائل العيش. ثم بينت الآية على سبيل الحصر أن هؤلاء هم الصادقون. وفي موضع آخر أمر الله تعالى العالمين جميعا بقوله: {وكونوا مع الصادقين} (التوبة: 119). وقد تم تحديد الصادقين والتعريف بهم في الآية السابقة. وقال عن الأنصار في نفس الموضع: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر: 9). ذكرت الآية السابقة قيام دار الهجرة وعراقة الإيمان وحب المهاجرين، ووصفت الأنصار بالاستغناء عن القلة والكثرة في العطية وبالإيثار في الشدة والعسر. والآيتان

جديرتان بالرجوع إليهما ثانية وإعادة النظر في محتوى كل منهما: الف - من إيثار المهاجرين أنهم تركوا الوطن والأهل في سبيل الله ورسوله. ومن فضائل الأنصار أنهم سبقوا إلى الإيمان قبل الهجرة، وذلك بعد بيعة العقبة. ب - ومن فضائل المهاجرين أنهم ابتغوا رضوان الله. ومن فضائل الأنصار أنهم أحبوا المهاجرين وأخلصوا في حبهم هذا على نصرة الله ورسوله وأخلصوا وصدقوا في ذلك. ومن فضائل الأنصار أنهم آثروا في العسر واستحقوا الفلاح. وهذه هي الأخوة الإسلامية التي أنشأها الإسلام ونماها وقواها. وهذا هو الحب الإيماني الذي لم يؤسس على النفع المالي ولا على لذة النفس فهو حب بعيد عن الأغراض وأسمى من الماديات. وينبغي أن ننظر هنا إلى غزوة أحد حتى نرى زوجة سيد العالمين وأم المؤمنين عائشة تحمل قربة الماء على كتفها وتسقي الغزاة، وتقطر الماء في أفواه الجرحى (¬1) فهل رأينا مثل هذا العمل من زوجة ملك في الدنيا؟ استمعوا إلى هذا الصحابي يقول حذيفة العدوي إنه خرج من ميدان اليرموك يبحث عن أخيه الجريح، وكان قد حمل معه الماء فوصل إلى أخيه وبينما هو يسقيه الماء سمع صوت جريح آخر فإذا بأخيه يشير إليه ليسقي هذا الجريح أولا فوصل إليه فوجد أنه هشام ابن العاص رضي الله عنه فبدأ يسقيه الماء لكنه سمع صوت جريح ثالث. فقال له هشام اسقيه أولا، فلما وصل إليه وجده فارق الحياة فعاد إلى هشام فوجده قد انتقل إلى الرفيق الأعلى فرجع إلى أخيه فوجده قد فارق الحياة أيضا. إننا لن نرى هذا الإيثار إلا في الإسلام، حيث يقدم الإنسان أخاه على نفسه في ساحة الحرب وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. ولم تنحصر مثل هذه الوقائع في العهد النبوي، بل وجدت في عصور أخرى أيضا، فقد ذكر أن الزهراء جارية خليفة الأندلس، وهي التي سمى باسمها قصر الزهراء، ¬

(¬1) البخاري (78/ 6 - الجهاد).

قد أوصت عند موتها بأن تخصص تركتها لتحرير المسلمين الذين وقعوا أسرى في أيدي غيرهم، وتم البحث عن الأسرى المسلمين لتطبيق الوصية في أوربا وافريقيا وآسيا، ولكنهم لم يظفروا بأسير واحد، وهنا تم إنفاق مال الجارية في بناء القصر المذكور. وقدرت تكاليف بنائه في تلك الأيام بمبلغ 450 مليونا (¬1). ويقال إن أتباع الماسونية ينادي أحدهم الآخر في مقرها بكلمة ((الأخ)). ولكن المقارنة بين أخوتهم وأخوه الإسلام تبين الفرق بينهما وتوضح أن الأخوة الحقة من خصائص الإسلام. ¬

(¬1) نفح الطيب (523/ 1).

الفصل الثامن الإسلام رفع مكانة الإنسان

الفصل الثامن الإسلام رفع مكانة الإنسان ينبغي أن ننظر هنا في العقائد التي اعتقدها الناس قبل الإسلام لدى مؤسسي الديانات الكبرى في العالم. كان اليهود يعتقدون في أن كلا من يعقوب وداود وعزير عليهم السلام أبناء الله أو أن الواحد منهم هو ابنه الأول، واعتقد النصارى في أن عيسى عليه السلام ابن الله المحبوب والقادر المطلق وثالث أقانيم الألوهية واعتقد الهنادك في 33 إلها (¬1). وهي تسمى ((أوتار)) على معنى أن الله ((يرميشور)) بنفسه قد تقمص الجسم المادي وظهر في صورة مادية، وجاء في ((مها بهارت)) عن ((كرشن مهاراج)) أنه بذاته خالق العالم وأهله، واعتقد المجوس أن زرادشت كان من عالم الملكوت، واعتقد البوذيون أن بوذا هو الذات المقدسة، وادعى أتباع ((سناتن دهرم)) من الهنادكة أن الباندو الخمسة كانوا أبناء الكواكب النورية وادعى التتار أن أبناء السيدة آلنقوا كانوا أبناء النور، ويبدو أن هؤلاء رأوا وجوب التمادي في مدح وتكريم أجدادهم وأسلافهم. ولكن الحقيقة أن العقيدة المذكورة تجعل مكانة الإنسانية أقل وأحط من أن يوجد فيها أمثال يعقوب وداود وعيسى كرشن ورام جندر وزرادشت وبوذا، بل هذه المنزلة العالية التي أوجدوها إنما هي لأشخاص ليسوا بشرا في الحقيقة. وعلى المنصف من أتباع الديانات المذكورة أن يفكر كيف أهانوا الإنسانية وحطوا من ¬

(¬1) ركويد آدي بهاشيا بهومكا (ص 44). أولها أنش، وقد تجلى تسع مرات، ويتجلى مرة كذلك في صورة الإنسان، وثانيها متشه، ويتجلى في صورة السمك، ظهر ببلاد الدكن، وبعد ظهوره جاء فيضان عظيم فبقيت الأرض تحت الماء نحو مليون وسبعمائة وثماني وعشرين ألف سنة، وثالثها: الإله كتش، وعلى ظهره أرسى جبل هندو وانفجر البحر. وقد استخرجت منه أشياء نادرة بلغ عددها أربعة عشر وهي في شكل عروس وفي شكل جوهرة نادرة، وفي شكل زهرة لا يأتي عليها خريف وفي شكل شراب وفي شكل طبيب وفي شكل قمر وفي شكل فيل أبيض له أربعة قرون وفي شكل ماء الحياة وفي شكل امرأة حسناء .. الخ.

شأنها. ولما كانت البشرية لن تنفك عنهم في الحقيقة، فإن العقيدة المذكورة أساءت إلى مكانتهم، فالإسلام هو الذي رفع مكانة الإنسانية، وأثبت البشرية لعباد الله المختارين فرفع مكانتهم من الناحية الروحية إن الإسلام يفند بقوة الزعم القائل بأن الإنسان لن يصل إلى منزلة الهداية والإرشاد إلا إذا حلت الألوهية في جسمه البشري، ونشأ عن فساد هذا الأصل الخاطئ أن اختار كل ظالم جبار في العالم لنفسه المنزلة التي أثبتها أتباع الديانات الكبرى لمؤسسيها، فقال فرعون مخاطبا رعيته: {أنا ربكم الأعلى} (النازعات: 24)، وقال لأهل بلاطه: {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} (القصص: 38)، ولما بين له موسى كليم الله توحيد الله وتقديسه وأوضح له أن رب العالين هو الذي يملك السماء والأرض وما بينهما، لم يؤمن بذلك، ولما بين له أن رب العالمين هو الذي خلق آباءكم الأولين، لم يذهب جنونه، ولما بين له أن رب العالمين هو الذي خلق الكون كله من الشرق والغرب، لم يستقم عقله. ولذا قال بعد الاستماع إلى جميع الأدلة المذكورة: {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين} (الشعراء: 29). وهكذا ادعى جبار أحمق أمام إبراهيم عليه السلام أنه يملك الموت والحياة، وكان يزعم أن صلب البرئ يعني القدرة على الموت، والعفو عن مستحق القتل يعني الحياة، ومنشأ هذا الخطأ كله هو الجهل الإنساني. والإسلام يهدي إلى الحفاظ على علو الألوهية، وإلى رفع منزلة الإنسانية إلى وضعها السليم، ولذا صرح القرآن الكريم بأن جميع المتبوعين والمقدمين بشر وعباد قد خلقهم الله تعالى. {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إلهيم} (الأنبياء: 7). {وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين} (الأنبياء: 8). {بل عباد مكرمون (*) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} (الأنبياء: 26 - 27). فقد صرح إثباتا لبشريتهم أنهم لم يستثنوا من الأكل والشرب، وولدوا في وقت محدد، ثم ارتحلوا إذا جاء أجلهم، ودل على فضلهم بأنهم كانوا أهل وحي ورسالة، ولهم درجة ومنزلة، عند الله تعالى. وقد بين معاملتهم مع الله فألسنتهم وجوارحهم كانت خاضعة لأمر الله وتوجيهه، فلم يكونوا ينطقون بحرف دون إذنه، ولا يتأخرون في امتثال أمره.

وقد ذكرت هذه الآيات القوة العلمية والعملية أيضا، وأظهرت مراتبهم الروحية. وهذه هي الأمور التي تدل على رفعة هؤلاء المقدسين وتفوقهم على غيرهم مع كونهم بشرا. وقد دل التوضيح المذكور على علو مكانة البشرية، لأنها هي التي استحقت الرسالة وخطاب الله وكلامه، وعليها نزل العلم الإلهي فصارت منبعا له، وهي التي نجحت في اختبار تكميل الأعمال وتطبيقها. وإبراز هذا الأمر من خصائص الإسلام دون شك، والإنسانية مدينة له بذلك.

الفصل التاسع الإسلام دين التسامح

الفصل التاسع الإسلام دين التسامح وجهت إلى الإسلام تهم كاذبة كثيرة للتشهير به من قبل أعدائه، ومنها أمور وجدت في الطاعنين أنفسهم، ولكنهم مكروا وكادوا فنسبوا إلى الإسلام أعمالهم المخزية، ثم حملوا الإسلام مسئولية أعمال الجهلة من المسلمين قائلين بأنها من نتاج تعاليم الإسلام. الف - من معاني التعصب أن يعطى أحد فوق حقه وينقص من حق الآخر. ب - ومنها فرض قيود غير مشروعة على الناس في سبيل الحرية الفكرية والحرية الدينية. ج - ومنها حرمان الأديان الأخرى حق البقاء تأييدا لدين. د - ومنها أن يزعم الإنسان أن أتباع دينه هم المستحقون لبركات دينه وأنواره، والآخرون مبعدون عنها. ونحمد الله تعالى على أن تعليم الإسلام بعيد عن هذه النقائص، وقد ذم القرآن الكريم والرسول (ص) أقسام التعصب هذه، وطهرا ذيل الإسلام من هذه النقيصة إلى الأبد. ويتأكد نفي أقسام التعصب الأربعة بما يأتي من آيات القرآن ومعاملة المسلمين: 1 - {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (المائدة: 1). 2 - {ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} (المائدة: 2). 3 - {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (المائدة: 2). 4 - {وقد آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير} (الشورى: 15). 5 - {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على

ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (المائدة: 8). 6 - {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بضعنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} (آل عمران: 64). 7 - {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256). هذه هي بعض آيات القرآن، فهل يستطيع أحد أن يقدم من كتاب مقدس آخر مثل هذه التوجيهات؟ إن نماذج التسامح وصور الحياد التي برزت في عصر النبوة وخلفائه الراشدين والملوك العظام، لا تزال موجودة في الكتب الإسلامية. والحلف الذي عقده النبي (ص) مع اليهود بعد الوصول إلى المدينة جدير بالنظر والتفكير، مع ملاحظة أن اليهود لم يروا إحسانا قط من حكومة بابل الوثنية، ولا رحمة من حكومة مصر، ولا رعاية أمة المسيح الذي نشأ في نسل يهوداه. ومعاهدة النبي (ص) مع النصارى تستحق أيضا التفكير، وقد ذكرناها في البداية من هذا الكتاب، وهي دليل قوي واضح على حياد الإسلام ورسوله (ص) وعلى التسامح، ومن أدلة التسامح والحياد موقف أهل السلطة في عهد بني أمية وبني العباس والأندلسيين والفاطميين من الأمم الأخرى التي تمتعت بكافة الحقوق والحريات، وكذلك تمتع اليهود والنصارى في تلك العصور بالمناصب المهمة دون تفريق. ثم انظروا إلى الهند، كانت كلمة ((آريا)) تطلق على الأمم العالية على أنها أعلى نسبا من غيرها، ولكن المساحة التي خصصت في كتاب ((ستيارته بر كاش)) ل ((آريه ورت)) (¬1) لم تدخل فيها منطقة مدراس والبنغال والولايات الواقعة في الشمال الغربي، وكذلك خرجت منها معظم مناطق ولاية بيهار. وقد حرم هذا التصنيف ملايين الناس لقب ((الأمة الكريمة)) أو ((الآريا)) ومن كرم المسلمين أنهم اعتبروا نهر اندو (اتك) حدا طبيعيا، ولقبوا من يسكن وراءه ب ((هندو)) وقد انضوى تحت هذا اللقب جميع الأمم التي سكنت هذه المنطقة، وهكذا تحقق بينهم الاجتماع، ولم تكن هناك حاجة إلى تسمية أحد باسم وضيع. ¬

(¬1) ستيار ته بر كاش (356)، معنى آرياورت: العالم الذي كان يحكمه قوم آريا من الهنادكة.

ولما تم تعامل المسلمين مع سكان هذه البلاد لقبوهم ب ((لاله)) ومعناه الأخ الكبير، ولا تزال هذه الكلمة تستعمل في نفس المعنى في ولاية سرحد ((الثغور)) وهناك قرية ومحطة سكة الحديد تسميان ((لاله موسى)) وهو اسم وجيه مسلم في هذه المنطقة. لقد اتهم أورنكزيب بالتعصب، ولكن قائمة أسماء رجال بلاطه الهنادكة تضم عددا أكثر مما تضم قائمة أسماء رجال بلاط أكبر الذي اتفق الناس على تسامحه وحياده، ولم يضم أورنكزيب ولاية (راجبوتانه) الهندوكية إلى مملكته، حينما فتح أربع ولايات مسلمة في منطقة الدكن وضمها إلى مملكته، وكذلك لم يتدخل في عادة حرق الزوجة نفسها مع جثة زوجها، وعادة الزواج في سن مبكرة، ولم يزل عدد السكان الهنادكة حول عاصمتي آكره ودهلى أكثر من عدد السكان المسلمين. وانظروا إلى الألقاب التي منحت للحكام (راجا) الهنادكة، أنها ألقاب عظيمة، وقد خصصت لهم أيضا قطعة أرض مع كل لقب، وينبغي من ناحية أخرى أن ننظر إلى معاملة الهنادكة للمسلمين أيضا، فقد اعتبروا المسلمين دائما منبوذين، ولكن المسلمين لم يعتبروا أحدا منبوذا، وتركوا التجارة للهنادكة، وأقطعوا الأراضي للمعابد الوثنية والملاجئ، وأنشأوا المساكن للفقراء والبائسين، وأنهم آثروا أرض الهند فجعلوها ملاذ حياتهم ومماتهم على موطنهم الأصلي واختاروا لغة هذه البلاد وفضلوها على لغتهم الأم وجعلوها لغة البلاط والقصور. فهل يسع معترضا أن يقدم بقوله وفعله نماذج للتسامح وعدم التعصب أكثر وأقوى مما ذكرنا؟ إن التجارة الخارجية كانت بأيدي العرب وأهل الصين، ولما تقدمت الأمم الأوربية إلى الهند رحب بهم ووضعت الضريبة الجمركية عن بضائعهم، ولذا صرح علماء السياسة المعاصرة بأن تسامح المسلمين وعدم تعصبهم هو الذي أدى إلى انتهاء سيطرتهم وزوال ملكهم. وقد يتحمل مسلم سمح هذا الاعتراض، ولكنه لا يسلم بأن الإسلام يدعو إلى التعصب. ولعل أحدا يقرأ هذه السطور فيشير إلى غزوات الإسلام وسراياه وإلى حروب العرب ويجعلها علامة للتعصب الديني. ولكن الحقيقة أن مثل هذا الزعم مبني على جهل

التاريخ وعلل الوقائع. وقد استوفينا مبحث الغزوات والسرايا في الوسط من هذا الكتاب، وأوضحنا أن غزوات النبي (ص) كانت من الأمة والأسرة التي كان ينتمي إليها النبي (ص) والسابقون الأولون من المسلمين. وقد بالغت أمة النبي (ص) في عداء الإسلام ومحاربته، فوقعت الحروب، ومثل هذا الجدال العائلي لا يمكن أن يكون دليلا على التعصب الديني. وأود هنا أن أصرح بأن حروب الإسلام لم تكن لنشر تعاليم الإسلام ولا لإكراه الأديان الأخرى، وقد ذكر القرآن الكريم علة الحروب الإسلامية فقال: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (الحج: 40). وصوامع جميع صومعة وهي في اللغة المبنى الذي يكون مدببا في أعلاه، وكانت خلوات رهبان النصارى على هذه الصورة، وكذلك كانت معابد الهنادكة التي يطلق عليها اسم (مندر) وبيع جمع بيعة وهي كنيسة النصارى، وصلوات معربة صلوة بالعبرية، أي معابد اليهود، والمساجد هي معابد المسلمين المؤمنين. والآية المذكورة تدل على أن المسلمين أذن لهم بالقتال لتأمين حريات الأديان جميعا، وليقضوا على الفساد، حتى لا تهدم معابد النصارى واليهود والمجوس ومساجد المسلمين. وطالب التاريخ المبتدئ يعلم أن الفرس حين سيطروا على آسيا الصغرى في عهد برويز هدموا كنائس النصارى، وبعد عشر سنوات تحقق الانتصار للنصارى فأفنوا معابد المجوس (¬1). وصوامع اليهود كلها هدمت على أيدي الملوك الروم ظلما وتعصبا، حتى إن أرض أورشليم التي هدم بناءها ملك الروم يزدن عام 80 م، قد جعلت مزبلة بأمر من والدة الملك قسطنطين أول ملك نصراني. أما مساجد المسلمين فلم تكن في أمن من هؤلاء لأنهم كانوا جميعا مجوس ونصارى يحملون العداء الشديد للمسلمين. أقام الله تعالى المسلمين، وحملهم مسؤولية الحفاظ على معابد العالم فأدوا هذه المسؤولية على أحسن طريق، والآية المذكورة تضمنت تنبؤا أيضا، وهو أن حروب ¬

(¬1) ابن خلدون 223/ 3، تفسير ابن كثير 5/ 341 وما بعد.

المسلمين حينما تكون للمبادئ المذكورة يتحقق لهم النصر من الله تعالى، فينتصرون على كل أمة تهدم معابد دين آخر، ومن تأثير هذا الكلام الرباني وإعجازه أن الجيش الإسلامي لم ينهزم في موقعة واحدة في زمن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، بل تحقق له الانتصار في كل حرب، وصدق قول الله تعالى: {وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 173). وقد أثبتت هذه الانتصارات أن حروب المسلمين وقعت تحقيقا لمبدأ الحفاظ على معابد أديان العالم واحترامها. فهل يبقى بعد ذلك اعتراض على الحروب الإسلامية؟ وأقول إن من عزيمة المسلمين أنهم تحملوا الحروب وضحوا بأنفسهم غفي سبيل الحفاظ على معابد غيرهم، فهل هناك أمة تستطيع الدلالة على تسامحها بهذه الطريقة؟ اسألوا التاريخ كيف حافظ أعيان النصرانية وملوك الكنيسة في الشام وفلسطين والعراق ومصر قبل الفتح الإسلامي، على أرواح الناس وأموالهم، بل على أرواح أفراد الفرق الأخرى من النصرانية وأموالهم؟. إن القضايا التي دار حولها سفك الدماء في فرق النصارى على مدى القرون كانت كالتالي: 1 - هل كان المسيح صاحب جسم واحد وروح واحدة. 2 - هل كان المسيح صاحب جسم واحد وروحين؟ 3 - فإن كان صاحب جسم واحد وروح واحدة، فهل كانت هذه الروح إنسانية أم إلهية؟ 4 - فإن كانت فيه روح إنسانية فمتى بدأت ألوهيته وكيف؟ 5 - وإن كان المسيح صاحب جسم واحد وروحين (إنسانية وإلهية) فأي الروحين كانت غالبة؟ 6 - هل كان هناك تغالب بين الروح الإنسانية والروح الإلهية حينا أو آخر؟ 7 - وصلب المسي هل وقع مع الروح الإلهية أو بدونها؟ 8 - وإن لم تكن معه الروح الإلهية وقت الصلب فكيف تحملت الروح الإنسانية ذنوب المذنبين؟

9 - وإن كانت معه الروح الإلهية هل وقع صلب الألوهية أيضا؟ والحاصل أن مثل هذا التعنت والتقعر لوث تعليم المسيح الصافي والصادق وعقده غاية التعقيد، فظهرت بدع جديدة وفرق عديدة زعمت أن رضا المسيح إنما هو في قتل أتباع الغرق الأخرى. وانتشار الإسلام هو الذي أوقف هذه المأساة الدموية على جزء كبير من الدنيا فقد كانت إيران تحت حكم مبادئ المزدكية، ولم يكن هناك للمرأة حق في الحياة إلا إذا جعلت نفسها شيئا مشاعا للأمة، ولما حاولت بوران دخت وإيران دخت وكانت في الحكم إلغاء العمل بالمبادئ المذكورة وصلت كل منهما من عرش الحكم إلى مقصلة الموت. والحكم الإسلامي هو الذي حافظ على أرواح الناس وأموالهم، وتسامح الإسلام هو الذي وهبهم الحياة. وقد أورد كتاب ((ستيارته يركاش)) الأفعال والترانيم الفاحشة الماجنة ل ((كوشائين وبيراكي وجيرانكت آجاري، وويشنوآوك، ووام ماركى، وفرق مارك)) ووجود مثل هذه الفرق بين الهنادكة كان سببا للقتال والشجار. والأمم الهندوسية التي دخلت في الهند جعلت سكانها المفتوحين منبوذين، ولا يزال الأمر على ذلك إلى الآن، والأعمال التي قام بها أتباع البوذية والجينية في إبادة أجيال الهنادكة والأعمال التي قام بها أتباع ديانة ((شنكر أجارج)) لإخراج البوذيين من الهند، هي كلها قصة دموية للتعصب. ومن جراء هذا التعصب والعناد لم ينجح ملك هندوكي في حكم جميع الهند، بل ظلت كل حكومة صغيرة فيها في عراك لع حكومة صغيرة أخرى. ومن تسامح الإسلام أنه علم جميع الفرق والحكومات البقاء في حدودها، ونفس هذا التوجيه تلقته بريطانيا وبه تمكنت من ذلك في انجلترا وويلز وأيرلندا واسكتلنده، مع أن سكانها كانوا من فرقتي البروتستانت والكاثوليك. وخلاصة البحث أن الإسلام لم يقر التعصب أبدا بل دعا دائما للتسامح.

الفصل العاشر الإسلام دين المحبة

الفصل العاشر الإسلام دين المحبة تدبروا كيف يعلم الإسلام معرفة الله؟ 1 - الله رب العالمين، أي أنه يراعي ويربي كل شيء توجد فيه صلاحية للنمو ويقبل النماء ويتحرك بمحرك، ويقيم كيانه ويحافظ على خواصه، ويميزه بماهيته وكيفيته، ويوفر له حاجياته، هذا الرب في الإسلام هو الله. 2 - هو الرحمن، وهذا اللفظ من ناحية اللغة لفظ مبالغة من الرحمة، ومعناه كامل الرحمة. ومن نتائح هذه الرحمة استمرار الوحي ونزول بركات السماء وانعكاس أنوار المعرفة. وبأمره تقوم السماء والأرض وما بينهما من الخلاء والفضاء ومن منح الرحمن بقاء الطيور والدواب. والرحمن هو الذي يمنح كل عاجز قوة، ويهدي كل ضال، والاستعانة به توصلنا إلى رحمته؛ ورحمته تتصرف وتقدر على كل ما هو موجود من الثرى إلى الثريا. 3 - هو الرحيم، والرحيم لغويا صفة من الرحم، وصيغ هذا الوزن تتضمن من ناحية معانيها الدوام والاستمرار. وعلى هذا تدل كلمة ((الرحيم)) على أن الرحم من صفات الله الكاملة اللازمة الدائمة، وقد ورد في حديث الترمذي أن امرأة سألت النبي (ص): أليس الله أرحم بعباده من الأم بولدها؟ قال (ص): ((بلى هو كذلك)). وورد في حديث: ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) (¬1). وقال الرسول (ص): ((لا يرحم من لا يرحم)) (¬2). ولكونه تعالى رحيما جعل ذوي الأرحام (أي الأقرباء من ناحية الأم) ورثة في مال الميت وبرحمته أظهر هذا الحكم على لسان نبيه. ¬

(¬1) سنن الترمذي 4/ 324 - البر والصلة. (¬2) البخاري (426/ 1 - الأدب، والترمذي 318/ 4.

والرحم من الرحمن، فمن لا يصل رحمه مع الأقارب يقطع صلته مع الرحمن. 4 - هو الجبار، والجبار في الأسماء الحسنى لا يدل على المعنى الذي تفهمه عامة الناس من الظلم والقهر، بل إن معناه جبر القلوب المنكسرة وكسر آلام البائسين والمتفجعين. 5 - هو القهار، وليس القهر هنا في معنى الغيظ والغضب، بل في معنى الحكم، كما قال تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} (الأنعام: 61). 6 - هو البر، أي محسن ومنعم. 7 - هو المجيب، أي يقبل دعاء عباده. 8 - هو الرقيب، أي يحفظ عباده. 9 - هو التواب، أي يقبل توبة العصاة ويفرحهم بالألقاب الجديدة. 10 - هو الوهاب، أي يعطي النعم دون إحصاء. 11 - هو المقيت، أي يعطي الرزق. 12 - هو النور، فمنه ضوء وضياء السماء والأرض والشمس والقمر، وهو الذي منح العيون البصر، وبنوره تنور قلب المؤمن. 13 - هو الفتاح، أي يفرج مصائب الإنسان ويحل مشكلاته. 14 - هو الرءوف، أي يحب العبد ويؤلف قلبه. 15 - هو الحي، أي يحي ويهب الحياة. 16 - هو القيوم، أي دائم يهب البقاء. 17 - هو العفو، أي يعفو مرة بعد أخرى ويحب العفو. 18 - هو الولي، أي محب. 19 - هو الهادي، أي يوصل السالكين إلى الغاية. 20 - هو المغني، أي يمنح الغنى ويحفظ العباد من الافتقار إلى الغير. 21 - هو المعطي، أي يمنح ويعطي بغير حساب.

22 - هو الكريم، أي غني عن العوض بعد العطية. 23 - هو الرزاق، أي يعطي من في البر والبحر ما يحتاج إليه لبقاء الجسم والروح ويعطي الغذاء المناسب لكل من يتنفس تحت الثرى. 24 - هو الغفور، أي يستر الذنوب والخطايا ويمحوها. وقد بلغت الأسماء الحسنى في الإسلام 99 اسما (¬1). وقد ذكرنا منها 34 اسما، وهي تدل على المحبة وآثارها. 25 - ثم هو الودود، والود في العربية أعلى قسم للحب، وهناك آية جمع الله فيها الرحمة والود فقال: {سيجعل لهم الرحمن ودا} (مريم: 96) وقد جمع في آية أخرى الغفور مع الودود فقال: {وهو الغفور الودود} (البروج: 14). ¬

(¬1) وقد تحدثت في كتاب لي مطبوع عن شرح أسماء الله الحسنى فمن أراد التوسع فليطالعه.

ثم انظروا إلى الحب ومشتقاته التي استعملت كثيرا في كلام الله تعالى ورسوله (ص). وقد أثبت الله تعالى في جملة قصيرة من القرآن حب العباد مع الله وحب الله مع العباد، فقال: {يحبهم ويحبونه} (المائدة: 54). ثم أظهر لبيان المقصود نوعية العباد الذين يستحقون محبة الله: {إن الله يحب المحسنين} (البقرة: 195). {إن الله يحب المقسطين} (المائدة: 42). {إن الله يحب المتقين} (التوبة: 4). {إن الله يحب التوابين} (البقرة: 222). {والله يحب الصابرين} (آل عمران: 146). {والله يحب المطهرين} (التوبة: 108). ويعلم بهذه الآيات أن صفات الإحسان والتوبة والعدل والقسط والتقوى والصبر والطهارة وسيلة لحب الله تعالى، وهناك آيات تبين الذين يحرمون حب الله، قال تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول} (النساء: 148). {إن الله لا يحب المعتدين} (البقرة: 190). {إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} (النساء: 36). {إن الله لا يحب الخائنين} (الأنفال: 58). {إن الله لا يحب الفرحين} (القصص: 76). {إن الله لا يحب المفسدين} (القصص: 77) {فإن الله لا يحب الكافرين} (آل عمران: 32). {إنه لا يحب المسرفين} (الأعراف: 31). {إنه لا يحب الظالمين} (الشورى: 40). أفادت هذه الآيات أن المجاهرة بالسوء والاعتداء والاحتيال والخدع والخيانة والكفران ونكران الجميل والاختيال والغرور والإفساد والكفر والإسراف والظلم أخلاق ذميمة يحرم مرتكبها حب الله تعالى؛ وهذا البيان الكامل للحب يدل على أن الإسلام دين الحب.

ولنسمتع الآن إلى أحاديث النبي (ص): 1 - ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا)) رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة. 2 - ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير أورد هذا الحديث ثلاث كلمات هي التواد والتراحم والتعاطف. فالتواد يدل على أن يصل الإنسان في طلب الخير وابتغائه درجة يسهل عليه بعدها التضحية بأغراضه ومقاصده في سبيل مقاصد صديقه. والتراحم يقتضي أن يشعر الإنسان في قلبه بمصيبة أخيه. والتعاطف يعني أن يسعى الإنسان للوقوف مع أخيه في آلامه ويحاول تفريجها عنه. 3 - ((إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى)) قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: ((هم قوم تحابوا بروح الله على أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس))، وقرأ هذه الآية: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} أخرجه أبو داود عن عمر الفاروق. يبين هذا الحديث أن الولاية الربانية ثمرة التحاب الإيماني الذي يؤدي إلى القرب من الله تعالى. 4 - يقول الله عز وجل يوم القيامة: ((أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي)) رواه مسلم ومالك عن أبي هريرة. كلنا نعلم كيف يجلب ظل الوالدين الراحة والدعة، وكيف يجلب ظل الحاكم العطوف الجاه والثروة، وينبغي أن نقيس على ذلك ظل الله ومنزلته الرفيعة وآثاره الطيبة، وإن لم نستطع قياس تلك النعم التي لم ترها عيوننا ولم تسمعها آذاننا ولا فهمت القلوب ماهيتها إلى الآن.

5 - ويقول الله تعالى: ((وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في)) أخرجه مالك عن أبي إدريس الخولاني عن معاذ بن جبل. وقد بين النبي (ص) آثار المحبة وموجباتها فقال: 1 - ((المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يكذبه ولا يظلمه، وإن أحدكم مرآة أخيه، فإن رأى أذى فليمط عنه)) رواه الترمذي عن أبي هريرة. 2 - ((من ذب عن عرض أخيه رد الله النار عن وجهه يوم القيامة)) أخرجه الترمذي عن أبي الدرداء. 3 - ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة. وقبل أن أختم هذا البحث أود التصريح بأن لفظ الحب لم يتحدد للدلالة على معنى المحبة في اللغة العربية إلا بعد النظر إلى الأقوال التالية: * حبب الماء، أي صفا ونقا، وحب البعير، أي جلس وأثبت ركبتيه. * والحباب هو الصفاء المصحوب بالسمو. * والحب: هو ما يتقوت به الإنسان ويعيش به. ولما اشتهر اجتماع حرفي (الحاء والباء) للدلالة على معاني الصفا والنقاء والسمو والاستقرار وسببية الحياة، ثم تقويته بالضمة وهي أقوى الحركات، فجعل لفظ ((الحب)) مادة للمحبة، فإن كان لدى أحد مثل هذا التعليم الخاص بالمحبة من غير الإسلام فليبينه، أو ليثبت على الأقل وجود هذه المعاني الدقيقة في كلمة (بريم) بالهندية، أو كلمة " Love" بالانجليزية. والحاصل أن الإسلام هو دين المحبة، وأنه بهذه الخاصية يصير محبوبا للقلوب ومطلوبا للجمهور.

الفصل الحادي عشر الإسلام مؤسس المساواة

الفصل الحادي عشر الإسلام مؤسس المساواة لا تعني المساواة أن يتساوى جاهل مع عالم، وغادر مع وفي، وكسول عاطل مع من يتحمل المسئولية، فإن ذلك يعني هدم حقوق الإنسانية وحقوق الأخلاق بل المساواة هي أن تحصل لكل واحد من ناحية الشريعة والقانون والأخلاق جميع الحقوق التي حصلت لغيره ممن يعيش نفس البلد أو في ظل نفس الدين. تضم الراية الملكية الإنجليزية تحتها أقطار انجلترا وويلز وسكوتلنده وأيرلندا، ولكن ليس لأحد من سكان أيرلندا أن يرشح نفسه أو ينتخب رئيسا للوزراء، وينقسم سكان انجلترا من الناحية الدينية إلى قسمين كبيرين، وهما: البروتستانت والكاثوليك. ولكن لم يصل إلى الآن أحد من الكاثوليك إلى منصب رئيس الوزراء، ولم يسمح إلى عام 1947 م برفع قضية ضد حاكم للهند، وكانت هناك قوانين خاصة للحفاظ على حقوق الأمبراطور الملكي تختلف عن قوانين المحكمة!!! والذين يدفعون الضرائب يتمتعون بحقوق أكثر من غيرهم في انتخاب أعضاء البرلمان وغيره. وكانت هناك تفرقة جلية سواء في أجر الشحن أو القوانين الخاصة بالأجرة والقوانين الخاصة بتصدير البضائع التجارية من الهند إلى انجلترا وبين تلك الخاصة بتصديرها من انجلترا إلى الهند، ثم هناك تفاوت بارز في الحقوق بين أتباع ديانة واحدة، فقد خصصت مقابر خاصة وكنائس خاصة للنصارى الأوربيين، وهكذا تم التفريق بين النوادي والجمعيات. ويتم انتخاب البابا دائما من الأوربيين، فلم ينتخب في القرون العشرين الماضية بابا واحد من سكان الأرض التي ولد عليها المسيح، ولم ينتخب كذلك الأسقف الأعظم لكنيسة كانتربري من الهند أو مستعمرة أخرى، ولم يعين قط قائد من الأمم الآسيوية في الهند أو في مستعمرة أخرى أو انجلترا. إن الإسلام نظر إلى هذه الأمور، وقضى على جميع الاحتمالات الداعية إلى عدم

المساواة، واعتبر كل من دخل في الإسلام مساويا للجميع في جميع الحقوق مهما كان ينتمي إلى بلد أو شعب ما. 1 - إن البرامكة كانوا مجوسا، ولكنهم وصلوا بعد إسلامهم إلى منصب الوزارة في عهد هارون الرشيد. 2 - والإسلام يمنح كل حر وعبد وغني وفقير حق الانتخاب. 3 - ونفس هذا الحق ثابت للمرأة. 4 - وللمرأة والعبد حق إجارة عدو، وعلى القائد مراعاة ذلك. وكان هناك وزراء من الشيعة لملوك أهل السنة في حكومات بغداد والهند ومصر. 5 - ولم تكن هناك تفرقة في التجارة بين أموال العرب وغيرهم ولم يحصل أحد على دعم خاص به. 6 - ولم يفرق بين الغني والفقير في المساجد والمقابر أيضا. 7 - ومما يدل على مساواة الإسلام قصة عمر الفاروق إذ سافر غلامه إلى الشام. فكان عمر وغلامه يتناوبان البعير، فإن خلفه كانت عليه غرارتان في إحداهما سويق وفي الأخرى تمر، وبين يديه قربة مملوءة ماء، فلما حان وقت دخول الخليفة في معسكر المسلمين في نهاية سفره وقفت الجيوش مع قوادها لاستقبال الخليفة، وقد اجتمع عدد من الأقوام الأخرى لمشاهدة أبهة الخليفة وشوكته، وبينما هم كذلك إذ رأوا بعيرا خرج من وسط الغبار وتقدم إليه القواد، وقد تعجبوا من ذلك وسأل أحدهم مسلما: هل الراكب خليفتكم؟ فرد عليه المسلم بأن الخليفة من أمسك بزمام البعير يمشي، والراكب غلامه (¬1). وأعظم من ذلك ما وقع في غزوة بدر إذ كانت الرواحل قليلة يقول ابن سعد عن ابن مسعود قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة وعلي زميلي رسول الله (ص)، فكان إذا كانت عقبة النبي (ص) قالا: اركب حتى نمشي عنك، فيقول: ((ما أنتما بأقوى على المشي مني وما أنا أغنى عن الأجر منكما)) (¬2). ¬

(¬1) رويت قصة سفر عمر إلى الشام في عدة مصادر، انظر الطبري 4/ 158، وفتوح الشام 1/ 143 وموطأ محمد ص 387 باختصار، حلية الأولياء 1/ 47، مصنف ابن أبي شيبة 13/ 39، 363. (¬2) ابن سعد 2/ 21، البداية والنهاية 3/ 260.

والجدير بالذكر هنا أن كل واحد من المجاهدين كان يفدي رسول الله (ص) بنفسه وماله ويرى ذلك كرامة وشرفا له، فكيف كانوا يتحملون أن يمشي رسول الله (ص) على رجليه ويركب غيره إذا جاءت نوبته؟ والجواب أن رسول الله (ص) كان يريد في هذا الموقف الحرج أن يعلم الناس درس المساواة بعمله، وكان بذلك قد تحقق معنى الأمر فوق الأدب ولو لم يكن تعليم النبي هذا لما سجل لنا التاريخ قصة عمر مع غلامه. ويتعرض التزام مبدأ المساواة لأقسى صور الاختبار حينما يطالب رجل ذو حسب ونسب بتزويج بنته مع رجل أقل منه في النسب. ونجد في تاريخ الإسلام وقائع كثيرة لكسر حواجز النسب، فقد زوج النبي (ص) بنت عمته وهي زينب بنت جحش القرشية من زيد بن حارثة وهو عبد اشتراه حكيم بن حزام ابن أخت خديجة الكبرى من سوق عكاظ (¬1)، وتزوج أبو حذيفة غلام سالم فاطمة بنت الوليد بن عتبة القرشية، وهي امرأة بارزة من قريش وقد هاجرت (¬2). وهذان مثالان لنساء قريش، ولننظر الآن إلى أهل المدينة كان الأنصار يشددون في تزويج بناتهم، فقد رغب سيد قريش هاشم بن عبد مناف، وهو الذي اعترف العرب كلهم بعلو شأنه، رغب أن يتزوج ليلى فقبلت أسرتها ذلك شريطة ألا تذهب إلى مكة (¬3) , وكان من حال هذه القبيلة الأبية في الإسلام أن بلالا أعلن يوما في المسجد قائلا: أيها الناس: إني عبد حبشي فقير، وإني في حاجة إلى الزواج، فهل يزوج أحد بنته؟ وبمجرد أن سمع الناس هذا الطلب عرض عشرات منهم أن يقبل بلال مصاهرتهم (¬4). كان أسامة بن زيد عبدا وابن عبد، ولكن الإسلام رفع شأنه حتى صارت زينب بنت حنظلة زوجته، وكانت زينب هذه من أسرة كريمة عظيمة وكان امرؤ القيس الشاعر المشهور ممن مدحوا جدها، في الإسلام اعتزت حفيدته بخدمة أسامة (¬5). ووقع لعلي في خلافته أنه أعطى غلامه دراهم يشتري بها ثوبين متفاوتي القيمة له ¬

(¬1) تفسير الطبري 9/ 22. (¬2) الاستعياب 2/ 568. (¬3) ذكر ابن سعد هذا الزواج في طبقاته 1/ 79 واسم المرأة فيه سلمى، وليس ليلى، وكذا لم يورد شرط عدم ذهابها إلى مكة. (¬4) ابن سعد 3/ 237. (¬5) ابن سعد 4/ 72.

ولنفسه، فاختار الغلام لنفسه ثوبا رخيصا خشنا ولأمير المؤمنين ثوبا غاليا ناعما، فلما أحضرهما إلى علي أخذ الثوب الرخيص لنفسه وأعطى الغلام الغالي وقال له: أنت أحق مني بأجودهما لأنك شاب تميل نفسك للتجمل، أما أنا فليس لي رغبة في التجمل. وتجادل مرة الصحابي أبو ذر مع أحد الزنوج واشتط به الغضب فقال له: يا ابن السوداء. فقال له النبي (ص): ((طف الصاع، طف الصاع، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح)). وقد ندم أبو ذر على فعلته وأثرت كلمات الرسول (ص) في نفسه، فألصق خده بالأرض وقال للأسود: قم فطأ على خدي)) (¬1). وقال أبو مسعود البدري: كنت أضرب غلاما لي بالسوط فأتى النبي (ص) وقال: ((إن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)) فقلت: لا أضرب مملوكا بعده أبدا)) (¬2). وكان رسول الله (ص) يعدل صفوف أصحابه يوم بدر، فمر بسواد بن غزية وهو مستنتل من الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال: ((استو يا سواد)) فقال: يا رسول الله (ص) أوجعتني فأقدني، فكشف رسول الله (ص) عن بطنه وقال: ((استقد)) قال: فأعتنقه فقبل بطنه وقال: أردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله (ص) (¬3). ومهما كانت نية هذا الرجل فإن قصته توضح نموذج التعليم الإسلامي في المساواة، فالنبي (ص) استعد حتى يقتص منه أحد من أمته وقدم له جسده الشريف، تلك هي المساواة الحقيقية. وكان المسلمون المخلصون يتحملون كل خسارة في تحقيق هذه المساواة وحمايتها، ولا يرضون بنقص في هذا المبدأ. كان جبلة بن الأيهم أمير مملكة غسان نصرانيا، ودخل في الإسلام في عهد عمر فكان عمر يكرمه؛ وعرض له يوما أن كان يطوف بالكعبة فزاحمه أعرابي من العامة، ¬

(¬1) مع خلاف في البخاري 1/ 84 - الإيمان. (¬2) مسلم 3/ 1281. (¬3) ابن هشام 3/ 278، البداية والنهاية 3/ 271.

وداس ثوبه غير قاصد، فاستشاط الأمير غيظا ولطم الأعرابي على وجهه. ورفعت إلى عمر القضية، فحكم بالقصاص إلا أن يعفو الأعرابي، فقال جبلة مستنكرا: كيف وهو سوقة وأنا ملك؟ فقال عمر قولته الحاسمة: إن الإسلام سوى بينكما. وطلب الأمير الغاضب مهلة يراجع فيها نفسه فر أثناءها إلى أرض الرومان، راجعا إلى النصرانية مرتدا عن الإسلام (¬1). إنه رأى مساواة الإسلام بين الأمير والبادي نقصا، ولكن أمير المؤمنين كان معتزا بأن رجلا وضيعا وأميرا من الأسرة المالكة كلاهما متساويان أمام المحكمة الإسلامية. ويمكن أن يمر قراء الكتاب بهذه الوقائع مرورهم بالقصص والحكايات، ولكن تبدو قيمتها حينما ننظر إلى تاريخ العالم ويتبين لنا بعد البحث خلو هذا التاريخ من أمثالها، وما أكثر هذه النظائر في الإسلام. ¬

(¬1) فتوح البلدان ص141، البداية والنهاية 8/ 63.

الفصل الثاني عشر الإسلام أشرك الرعية في الحكم (الشورى)

الفصل الثاني عشر الإسلام أشرك الرعية في الحكم (الشورى) ورد في إنجيل متى قول المسيح المعروف: أعطوا ما لقيصر لقيصر (¬1). وهذا هو النموذج الذي علمه المسيح للحكم، ولم يجعل للشعب حقا في الحكم سوى رفع الضريبة، وفي يجرويد وسام ويد يوجه فيها الخطاب دائما إلى الملك وبيان نطاق سلطته، وما ورد فيهما يقويان الحكم الشخصي، ولا نجد في الكتابين إشارة إلى حكم الشورى أو إشراك الرعية في الحكم. أما الإسلام فقد صرح بوضوح {وأمرهم شورى بينهم} (الشورى: 38). وعلى هذا الأساس تم انتخاب الخلفاء الراشدين. وقد ألقيت لدى انتخاب كل منهم كلمات حرة، وجرت مناقشة حول كون الخلافة في الأنصار أو في قريش. ثم الترجيح بين أفراد قريش بعضهم بعضا، وقدم كل واحد دلائله وآراءه لتأييد من يرى أحقيته بالخلافة، جرى كل ذلك بحرية تامة، وتم إحصاء الآراء وانتخب الأفضل بكثرة الآراء وألقيت إليه مقاليد الأمور السياسية. وكان هناك مجلس مكون من الأنصار والمهاجرين لتنظيم أمور الخليفة، ومجلس آخر مكون من الذين أسلموا بعد الفتح ومن المسلمين الآخرين. ولم يكن للخليفة أن يفرض ضريبة جديدة على الرعية، وكان المجلسان يناقشان كل ضريبة مفروضة. وكان هناك استشارة عامة حول تعيين القادة العسكريين الكبار، وبداية الحرب ونهايتها وحدث هذا حين بعث أبي بكر الجيش الإسلامي لفتح العراق والشام ومصر، وقيادة خالد وأبي عبيدة، وخلافة عمرو بن العاص في عهد عثمان. وكان سفر الخليفة بصفته خليفة إلى أي بلد مفتوح يتطلب موافقة المجلس ومثال ذلك سفر عمر إلى حرب الفرس وحرب الروم. ¬

(¬1) إنجيل متى 21/ 22.

وكان للخليفة راتب، يقرر على أساس السبق إلى الإسلام وخدماته في سبيل الإسلام، ولم يكن هناك راتب خاص لإدارة شؤون الخلافة، وكان عمر يأخذ راتب البدريين لا أكثر. وكان على الخليفة أن يعلن خطته المتعلقة بالحكم وأصوله، ونرى ذلك في خطب أبي بكر وعمر أمام المسلمين، كما كان الخليفة مسئولا أمام المسلمين عن أعماله وأفعاله، فكان يستجوب مرة بعد أخرى. وحدث ذلك كثيرا في عهد عمر وعلي، وإذا كان أقدم البرلمانات في أوربا هو برلمان إنجلترا فقد سبقته الخلافة الإسلامية بنحو ثمانية قرون، واتفق العالم اليوم على محاسن حكم الشورى، والناس مدينون في ذلك للإسلام، فإنه أرشدهم إلى هذا النوع من الحكم، ولم يستثن الإسلام أحدم مهما كانت مكانته، من حكم الشورى، وهكذا أمر الله تعالى رسوله. فقال: {وشاورهم في الأمر} (آل عمران: 159). انظروا إلى النبي (ص) الذي هو متبوع الكل وسيد العالم وصاحب الكتاب والشرع والذي لا ينطق إلا با يوحى إليه، يؤمر بالمشاورة، وذلك حتى لا يظن في أحد بكماله وقدسيته أنه مستثنى من هذا الحكم، وفيما يلي بعض وقائع عصر النبوة: 1 - تم إيفاد السفير في الحديبية إلى قريش بعد التشاور والاتفاق على ذلك. 2 - تم اختيار جبل أحد ساحة للقتال بعد المشاورة، وقد حزن رئيس المنافقين أبي من أن رأيه لم يعط له وزن بازاء رأي الأغلبية. 3 - عرضت شروط المهاجمين في الأحزاب على رئيسي الأنصار، وهما سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وتم الأخذ برأيهما. 4 - عرض أمر رفع حصار الطائف على قواد الجيش، ورفع الحصار بعد أن أشاروا بالموافقة. 5 - جرى التشاور حول مصير أسرى بدر، ونفذ ما اتفقوا عليه. 6 - وكانت هناك حرية تامة لقاضي قضاة المحكمة العليا، وكان هذا القاضي له مطلق الحرية، ولا يخاف الدولة، وكامل السلطة ولا يوجد عليه أي ضغط. واليوم يتبع جميع رؤساء الحكومات الدستورية هذه المبادئ، وهي الطريقة المفضلة للحكم. ومن هنا يظهر أن الإسلام هو الذي هدى أمم العالم إلى هذه المبادئ ومتعهم ببركاتها.

الفصل الثالث عشر الإسلام فوق القومية

الفصل الثالث عشر الإسلام فوق القومية هناك ثلاثة أمور، تحكم بصفة عامة جميع الأديان وجملة بلاد العالم حكما لا يجرؤ أحد على الخروج عليه. وهي: 1 - النسل أو العرق. 2 - اللغة. 3 - اللون. 1 - فالحقوق التي منحت للبراهمة بالهند منحت لهم على أساس العرق دون غيرهم من الكشتريين والويش والمنبوذين، والحقوق التي منح بنو لاوي من الناحية الدينية على بني إسرائيل، والحقوق التي تمتع بها بنو يهوذاه بين أولاد يعقوب في مجال الحكم، والتفوق الذي تحقق لقريش على سائر قبائل العرب، كل ذلك معروف ومسلم به لدى الجميع. 2 - تحقق لكل لغة نوع من التفوق على غيرها من اللغات بفضل دعم حكومتها فغلبت السنسكريتية على لغة (براكرت وتامل)، والعبرية على غيرها، واللاتينية على لغات أوربا، والإنجليزية على لغات مستعمرات الإنجليز، والفارسية على لغات الهند وكابول وخراسان وتركستان حينما كانت هذه البلاد خاضعة لأهل الفارسية، والعربية على جميع لغات العالم حينما كان العرب يصفون غيرهم بالعجم. وقد تم تقسيم الحقوق الإنسانية على أساس الاشتراك في اللغة أو الاختلاف فيها. 3 - وكانت هناك تفرقة في الحقوق والمناصب على أساس اللون أيضا، مثل الأحمر والأصفر والأسمر والأبيض والأسود، والمعاملة التي عامل بها الحكام والملوك من يختلف معهم في اللون يبكي عليها تاريخ العالم دما لا دمعا. ولكن الإسلام، وهو دين الله الواحد هدم أسس هذه التفرقة، ورفع المنحطين، وقدم دينا واحدا لجمع شمل الأمم والبلاد. 1 - فقد قال عن التفرقة على أساس النسل والأصل: {وبدأ خلق الإنسان من طين (*) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} (السجدة: (8,7).

وهكذا أوضح الإسلام للناس أنهم لا يستحقون ميزة على أساس العرق، وكذلك أبوهم آدم عليه السلام. ثم قال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13). 2، 3 - وقال كلمته الرائعة عن اللغة واللون: {واختلاف ألسنتكم وألوانكم} (الروم: 22). أي ليس هناك مجال لأحد في الافتخار باللغة أو اللون. وهكذا ثبت أن أساس توجيهات الإسلام ليس على اختلاف العنصر أو اللغة أو اللون، بل على معرفة الله تعالى؛ ولكل واحد حرية في اختيار طريقة التقرب إلى الله تعالى، ولا شك أن ذلك من خصائص الإسلام.

الفصل الرابع عشر الإسلام باق في مهده حتى اليوم

الفصل الرابع عشر الإسلام باق في مهده حتى اليوم إن الموضع الذي ولد فيه زرادشت وبدأ منه وعظه وتبليغه. والموضع الذي ولد فيه بوذا ومارس فيه رياضته الشاقة، وألقى أول خطبة حول مبادئه. والوادي أو البئر الذي شاهد في أتقياء الهنادكة محتويات الويد، ومصر والطريق بينها وبين فلسطين، وفلسطين نفسها التي ارتبطت بها معجزات موسى ويوشع بن نون وفتوحهما وحيث مقر خلافة داود وسليمان، وحيث حكم الأسباط الاثنا عشر. والجبل والصحراء التي انعقدت فيها مجالس بارس ناته. وهكذا جميع معادن الأديان القديمة وخزائنها صارت تحت سيطرة الغير، وتلاشت آثارها في منابتها، أو تداخلت فيها الأديان والأمم الأخرى وحصلت فيها على الحقوق المدنية مثلها مثل أصحاب الأديان الناشئة فيها، وهكذا لم تبق هناك ميزة في تلك الأرض للأديان التي نشأت فيها. ويتبين مدى صحة قولنا بالنظر إلى ما حدث في اصطخر وبلخ ونيبال وبنارس وآريه ورت (بنجاب منطقة البنجاب ومعظم مناطق يوبي) وأبو وألموره وجكن ناته جي وست نرائن وكنكا وجمنا. وبعد تذكر هذا الدرس الذي يدعو إلى العبرة ننظر إلى الحجاز لنجد أن كل موقع له علاقة تاريخية أو دينية مع نبي الإسلام. لا يزال في حيازة المسلمين، بحيث لم يسيطر عليه أحد غير المسلمين منذ بداية الإسلام إلى الآن. ولاشك أن للسيطرة الأجنبية تأثيرا ظاهرا أو حيا في اللغة والعادات والمآثر والأديان. إن صحف المجوس المقدسة لم تبق عندهم. والظاهر أن الإسكندر المقدوني لو لم يسيطر على إيران ولو لم تتعرض إيران لملوك الطوائف والحروب الأهلية لما يئس ملك مثل

اردشير بن بابك من وصول تلك الصحف إليه قبل ثلاثة قرون من الإسلام، ولو لم تسقط مصر في عصر كليوبترا تحت سيطرة الرومان لما أحرقت مكتبات مصر القديمة. ولو لم تقع مصر تحت سيطرة دولة قسطنطنية النصرانية بعد سيطرة روما الوثنية لما حرقت مكتبة الإسكندرية الشهيرة على يد البطريق، ولو لم يفرض بوذا حظره على تعلم السنسكريتية، ولو لم يبذل الملك أشوك وخلفاؤه جهودهم لإعدام الكتابات والمؤلفات السنسكريتية لما ضاعت لغة الويد من العالم، ولو لم يكن هناك إجراء قوي من قبل أتباع ((الأصول السلمية)) (¬1) للقضاء على كتابات المصلحين القدامى لما دخلت في صحف الهندوكية في كتاب مثل مها بهارت نحو عشرين ألف عبارة (¬2) غير أصلية. وهكذا وجد الانتحال سبيله إلى منوسمرتي بحيث أعجز علماء الهندوكية وخاصة (رشى ديانند) عن معرفة الكلام المنتحل من غيره والتمييز بين الأصلي والموضوع. وقد أشرنا إلى هذه الخسائر ضمن إقامة الدليل على الآثار التي تحدثها السيطرة الأجنبية على دولة ما أو بلد ما. والآن ينبغي أن ننظر إلى البلاد والأماكن التي تشرفت بقدوم الرسول (ص) ودخل أهلها في الإسلام، إنها لا تزال تحت سيطرة المسلمين، ولغتها هي لغة النبي الكريم (ص)، ومدنيتها هي مدنيته، وكتابها هو الكتاب الذي جاء به الرسول (ص)، وقد ورد في القرآن الكريم تشبيه الإسلام بالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، والحقيقة أن الإسلام لا يزال على هذه الصفة، فهذا الأمر أيضا من خصائص الإسلام. وقد سبق نفسير هذه الآية في باب خصائص القرآن الكريم. ¬

(¬1) مرنجان مرنج. (¬2) اشلوك.

الفصل الخامس عشر الإسلام دين المدنية

الفصل الخامس عشر الإسلام دين المدنية يعترف المطلع على سر الطبيعة الإنسانية والخبير بإشباع الحاجات الإنسانية بأن الإنسان مدني الطبع. ولكننا نتعجب إذا رأينا أن عديدا من الأديان جعلت المدنية معارضة للروحانية وعدوة لها. فحين نرى الأمير غوتم (بوذا) يترك زوجته الشابة ووليده الوحيد نائمين في البيت، ويهرب ليلا إلى الغابة حيث يمارس أنواعا من الرياضات الشاقة فهل نعتقد أن هذا الرجل اليقظ كان خبيرا بطبيعة الإنسان وأنه مدني بطبعه، وحين نرى الويدي (بياس جي) ينفر من العمران عن الأبوين، فهل نقرر بأنه درس واجبات المدنية؟ ونقرأ في الإنجيل الحوار الذي يذكر الاختصاء في سبيل الله، فهل نرى أن أتباعه نظروا إلى آدم وحواء نظرة تبجيل وتكريم، ونرى ألوفا من الراهبات معرضات عن واجب التناسل في ظل كنيسة روما السماوية، فهل نتصور أنهن حققن أمر الله تعالى بأن يتصل الإنسان مع زوجته بحكم الطبيعة البشرية؟ ونرى في غابات (آريه ورت) ومغارات جبالها وقممها أشخاصا خرجوا من بيوتهم في أواخر حياتهم بأمر من (منوسمرتي) واضطروا في سبيل الرزق إلى الاعتماد على الوسائل المجهولة، وفقدوا أنيسهم في حالة الضعف وتقدم السن والحاجة، فهل نقضي بأن من وجه هذا الأمر المذكور راعى حقيقة التمدن في هذا الأمر؟ ونرى المصلحين والنساك والرهبان والعباد يحلون بعيدين عن العمران ويوقدون النيران، ويرسلون الشعور، ويمارسون الرياضة، فهل نحكم بأنهم يقدمون المثل الأعلى للإنسانية؟ ونرى مئات البنات تزف إلى تمثال حجري في المعابد، ويتم القضاء على النسل تحت هذا الستار المقدس، فهل نقطع بأن هؤلاء المشرعين عرفوا السر الأكبر لتعمير العالم؟ لاشك أن ذلك كله ناتج من التعليم الذي لم يفهم طبيعة الإنسان، ولم يعرف حكمة طبائعه، ولم يشجع العمل بها.

والإسلام وحده يزيل تلك الأوهام، ويقضي على تلك الظنون، ويبعد الظلم والجور، ويرفع البشرية إلى سماء المدنية والحضارة، ويوفق بين قوتي الكهرباء الموجبة والسالبة، ويضيء بيت المدنية بأنواره الساطعة. والإسلام هو الذي يعلن أن ترك التمدن بدعة، فيقول: {ورهبانية ابتدعوها} (الحديد: 27). حقوق النساء: منح الإسلام المرأة مكانة مساوية في الحضارة، وضمن لها حقوقا مثل حقوق الرجال. قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن} (البقرة: 228). حقوق الأطفال: قال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} (الإسراء: 31). حقوق الوالدين: قال تعالى: {وبالوالدين إحسانا} (البقرة: 83). حقوق الدولة: قال تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (النساء: 59). مجال التعاون: قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} (المائدة: 2). مجال عدم التعاون: قال تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (المائدة: 2). الأمر بإيفاء العهود: قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (المائدة: 1). التزام العدل في حالة العداء الوطني: قال تعالى: {ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله} (المائدة: 8). الأمر بالحياد فيما بين الذمي المعاهد وبين المسلم غير المعاهد: قال تعالى: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم

من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم لنصر إلا على قوم بينكم وبينهم مثاق} (الأنفال: 72). لهاتين الطائفتين حق الولاية بينهما كما يشير إليه قوله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا}. ذم الفساد: قال تعالى: {والله لا يحب الفساد} (البقرة: 205). وقال: {ولا تبغ الفساد في الأرض} (القصص: 77). علامة الخلافة الراشدة: قال تعالى: {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} (النور: 55). الأمر بأداء الحقوق: قال تعالى: {فآت ذا القربا حقه والمسكين} (الروم: 38). صفات عباد الرحمن الحسنة الخاصة بحقوق المدينة. قال تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} (الفرقان: 63). وقال: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (الفرقان: 67). وقال تعالى: {ولا يزنون} (الفرقان: 68). وقال تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} (الفرقان: 72). فرض شهادة الصدق: قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} (النساء: 135). تحريم إخفاء الشهادة: قال تعالى: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} (البقرة: 283).

وبالنظر في هذه الأحكام نعلم مدى عناية الإسلام بشؤون الحضارة والمدنية وسن القواعد الأساسية للحفاظ عليهما وتأمين منافعهما. وهكذا نرى أن الإسلام قد امتاز بالجمع بين الناحية الروحية والناحية المدنية في تشريعاته وأحكامه يريد أن يكون المسلم عبدا صادقا لله، مواسيا لأهل دينه، برا بالوالدين، محافظا على المدنية، مواطنا طيبا وفيا صادقا، محبا للسلم، كارها للفساد، صديقا للجنس البشري.

الفصل السادس عشر الإسلام هو الدين النافع انتفعت به أمم العالم بالواسطة

الفصل السادس عشر الإسلام هو الدين النافع انتفعت به أمم العالم بالواسطة الإسلام دين علمه رحمة للعالمين، الرسول الأمين، ولذا وجب أن تكون أحكامه رحمة للأمم وللعالم. ولو كانت أحكام النبي (ص) خاصة بالمسلمين لصعب انتفاع الأمم الأخرى بها، ولكن التاريخ يدلنا على أن الإسلام منذ أن نشر تعاليمه وقدم إلى الصديق والعدو مائدة النعمة ودعاهم إليها، بدأ انتفاع الأمم بها وإن ادعت ابتعادها عن الإسلام. كان المجوس يعتقدون منذ العهد القديم أن (يزدان) خالق النور، و (أهرمن) خالق الظلمات، ولم يكونوا يرون بأسا من الاعتقاد في شخص ما بأنه خالق مثل يزدان، وهم يرون أن جنود يزدان وأهرمن في قتال دائم، كما هو الحال في (آريه ورت) فآلهة الخير وآلهة الشر تتحارب وتتعارك دائما، ولكن أهل الديانتين يعترفون اليوم بتفوق يزدان على أهرمن، وتفوق آلهة الخير على آلهة الشر، وكان المجوس قد تخلوا منذ مدة عن حدود المحرمات الأبدية، فكان بهمن هو والد الملك الإيراني داراب، وكان جده من أمه أيضا، بينما كانت أم داراب، واسمها هما، بنت بهمن نفسه!!. ولم يعترض البلاط الإيراني على هذه القرابة العجيبة ولا على وارث الحكم بها، ولم يتعجب شعب إيران من هذا الموقف، بل وضع تاج بهمن بعد موته على بطن ابنته هما، وأقر الناس بالملك لمن لم يولد بعد راضين طائعين. (¬1). ولما سقط دارا بن داراب جريحا بأيدي الجيش اليوناني وكاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة وصل إليه الاسكندر بن فيلب، فأخذ رأسه ووضعه في حجره، وهنا باح دارا بوصيته للاسكندر، وهي أن يتزوج الاسكندر روشنك بنت دارا التي كان دارا يربيها لنفسه؛ فالجدير بالتفكير أن دارا نفسه اعترف بأنه كان يربي ابنته لنفسه، اعترف بذلك في أحرج ساعات حياته. وهذا يدل على أن هذه العادة القبيحة كانت عامة في إيران، ولشيوعها ¬

(¬1) الطبري 3/ 2.

لم يستحي الناس ولم يتحرجوا من ذكرها ومن العمل بها (¬1). والمزدكية لاقت القبول السريع في إيران وانتشرت بمجرد أن الناس كانوا قد فقدوا احترام المحرمات الأبدية من ذي قبل. فالمزدكية ترى أن المرأة لا تنسب لرجل معين، بل هي مشاع يحق لكل رجل أن يتمتع بأي امرأة شاء (¬2). وقد أورد البندت ديانند سرسوتي عند ذكر فرق الهندوسية في كتابه ((سيتيارته بركاش)) أسماء (وام ماركي وجكرانكت وغيرها) ومنها أسماء قذرة لا يستطيع المسلم أن يخطها بقلمه، ويوضح هذا البيان أن الهند تفوقت على إيران في هذه الإباحية، فلا يزال يوجد في مدينة مقدسة مثل كاشي معبد يعرف باسم (الحلقة النيبالية) إنه يدعو الزوار إليه من على ارتفع 150 قدما، وتضيء أشعة الشمس الساطعة هذه التماثيل التي عجزت عن تقليدها باريس ونيويارك، ويعبد البراهمة هذه التماثيل، ويتحدثون عن كل تمثال منها دون مبالاة باستحياء السامع، وينطقون بكلمات تصم آذان الإنسانية وتعمى أبصارها. والمؤرخ العادل يعترف بأن الإسلام طهر إيران من تلك اللعنات، ومنح الهنود أبصارا وآذانا، وقضى على الشاهد المفزعة في مسرحيات (ايمفي) بدولة روما التي عرفت بقساوة القلب ووحشية الذئاب. وهذه الحقائق تبرهن على أن الإسلام لعب دورا هاما في رفع تفكير هذه الأمم وتطهير عقولها ونشر الحضارة بينها. كان بنولاوي من اليهود قد خصصوا لأنفسهم حقوقا في قرابين النذور والخطايا والقربات. وكان بابا روما خليفة بطرس قد خصص لنفسه مفاتيح أبواب ملكوت السماء، فيفتحها لمن شاء ويغلقها في وجه من شاء. وكان البراهمة قد ادعوا لأنفسهم قوة إدخال أرواح الموتى في دار الرحمة أو العذاب. والإسلام هو الذي أنقذ الناس من هذه المهالك والمخازي، فبتعليمه انفصلت السامرية عن بني لاوي وكره البروتستانت الكاثوليك الرومان، وكره الآريون بابوات البراهمة. ¬

(¬1) أيضا 7/ 2. (¬2) الملل على هامش الفصل 86/ 2.

فهل يستطيع إثبات من يرفض هذه الحقيقة، سبق هذه الإصلاحات على ظهور الإسلام؟ وهل يستطيع أن يبرهن على أن أعمال الإسلام العلمية والعملية لم تكن أمام عيونهم وقلوبهم قبل الحصول على هذه الحرية؟ والحقائق المذكورة تدل على أن الإسلام أفاد سكان أوربا وآسيا فمنحهم رقي الفكر وحرية الشعور والتفرقة بين النافع والضار. يسمى اليهود الملك زوج مائة امرأة وحيد الإله. ويصف بنو إسرائيل الملك صاحب ألف امرأة بأن قلبه يشبه قلب الله. ويمدح الهنادكة (كرشنا) الذي كان يداعب 16 ألف امرأة بأنه صاحب ست عشرة زينة، ويعتقد الآرية ورت أن (درويدي) وحدها كانت زوجة شرعية لستة من الباندو، ومن هنا وجب على الجميع أن يفكروا كيف استقامت أفكارهم في تعدد الزوجات. وهل يزعم أحد أن ذلك ناتج عن تعليم النصرانية أو سلوك النصارى؟ كلا، فإن النصرانية ساكتة في التعدد، ونموذجها العملي كان نتيجة القانون الشرعي الذي تأخر صدوره كثيرا عن الحكم الإسلامي، وفرض على الأوربي ذي الدم البارد الاكتفاء بزوجة واحدة. ولو رجعوا إلى التاريخ لوجدوا أن القرآن نطق بقوله (فواحدة) قبل تنفيذ ذلك القانون بكثير، فحرك قلب كل عاقل لسن مثل هذا القانون. وبهذه النظائر يجب الاعتراف بأن الإسلام قد منح جميع الأقوام بركات كثيرة بواسطة. كان الفرس يفتخرون بكأس (جم) الملوءة خمرا، ويرون الكأس المسكرة كأس تصوير العالم. وكان الآريون يشربون الخمور نذورا على الآلهة ... وكان النصارى يحكون باعتزاز فعل عيسى بتحويل آنية الماء إلى جرات الخمر ... وكان البولسيون يمنعون استعمال الماء الخالص، ويلزمون مزجه بقليل من الخمر .. وكان الإيطاليون والعرب والافريقيون يحمون ساحات الحرب بحرارة الخمر .. وكان الرومان قد تخلوا عن مسؤولية القيادة مقابل جرعة واحدة للخمر من كليوبترا. فهل يذكر أحد من هؤلاء معروف الإسلام الذي أسداه إلى أمم العالم وأديانه بتحريمه الخمر؟ كلا ثم كلا، إن الإسلام هو الذي جعل الخمر أم الخبائث، ووصفها بعدو الروحانية ومبعث الشر والعداء، وهو الذي جعلها من عمل الشيطان وإبليس وأهرمن.

وفي الحرب العالمية الأولى (1914 م - 1918 م) اضطرت انجلترا وروسيا وأمريكا، واحدة بعد الأخرى، إلى تركها، أفليس هذا كله من فيوض الإسلام غير المباشرة؟ كان سكان آريه ورت يقصرون الملوكية على أولاد (بهارت الأعظم) ومن هنا أراقوا دماء الهنود كلهم في أرض (كوروكشتير)، وكان المجوس يخصون (كيان ايران) بالملكية، ومن هنا قضوا على حكومات التتار واليونان وبابل، وكان الصينيون يصفون أسرة (شو) بأبناء السماء ويرون أنهم فوق سكان العالم وسكان الصين، وكان الفرنسيون يقولون بتفوقهم على أوربا ويبدون استحقاقهم في السيطرة عليها، ومن هنا رأوا أنهم أحق بإصدار ميثاق الحكم على البشر. وعلى هؤلاء جميعا أن يفكروا في نوعية الحكم الذي أرشد الإسلام إلى محاسنه بقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} (آل عمران: 159). وبقوله: {وأمرهم شورى بينهم} (الشورى: 38). وهكذا أرشدهم إلى مبدأ الحفاظ على بني الإنسان، والتعاون بين أبناء الوطن. يقال إن برلمان انجلترا أقدم برلمانات العالم، ولذا يلقب به ((البرلمان الأم)). وأقول إن ذلك صواب، ولكن هو أقدم من أحكام القرآن المحكمة؟!. إن التاريخ يجيب بلا ثم لا، ولذا يجب الاعتراف بأن جميع الحكومات الديمقراطية في العالم مدينة للإسلام في هذا الأمر، كان في العالم مكان آريه ورت الذين رفعوا راية (برهما، وبشن، ومهيش) وكان هناك الأفلاطونيون الذين آمنوا بحكم الله والعقل الكل والنفس الكل وأهل الكنيسة الإنجليزية الذين آمنوا بالإله الأب وبالإله الابن وبروح القدس، وأهل الكنيسة الروسية الذين آمنوا بالإله الأب وبالإله الابن وبالروح، واليونانيون القدامى الذين آمنوا بالإله الأب وبالإله الابن وبمريم وسموهم الأقانيم، والآريون الذين آمنوا بقدم (برماتما، وآتما، وبرانو). إن هؤلاء جميعا كانوا منشغلين بنشر تثليثهم، ولكنهم اليوم يعترفون بسمو عقيدة التوحيد ويفتخرون بها، ويصفون تثليثهم بأنه يؤدي إلى التوحيد ويستدلون على ذلك. والمسلمون يفرحون بهذا التقدم من إخوانهم في الإنسانية، ويأملون أن يعترفوا يوما بمعروف الإسلام هذا حبا للخير وإيثارا للعدل، وبعد الوصول إلى هذه الحقيقة يفتحون أذهانهم وقلوبهم للانتفاع من بركات الإسلام والاستنارة بأنواره، فتجد قلوبهم وأرواحهم سعة وفرحا، ثم تقر بهذه الخاصية للإسلام.

الفصل السابع عشر الإسلام عمم الهداية الإلهية للعالم كله مثلما عمم ربوبية الخالق

الفصل السابع عشر الإسلام عمم الهداية الإلهية للعالم كله مثلما عمم ربوبية الخالق يدعي بنو اسرائيل أن شرف الوحي الإلهي مختص بأسباط يعقوب، ولم تمنح أمة في العالم هذا الشرف، ويدعي الفرس أن نداء الملك السماوي وصل إلى سلالة ايرج فقط، ونالت أسرة زرادشت وجاماسب فقط هذه الكرامة وحرمتها سائر البلدان، ويدعي سماك (آريه ورت) أن نداء السماء توجه إلى سكان أودية كنكا وجمنا فقط، وحرمته جميع أمم العالم منه، ويدعى أهل الصين أن سكان بلادهم هم المكرمون بكونهم أبناء السماء، ولم يحصل لأحد هذا النور في الشرق الأقصى. إن هذه الدعاوى عظيمة دون شك، ولها تأثير كبير في إبراز عظمة أمة واحدة فقط، أما نتائج هذه الدعاوى بالنسبة إلى سائر الأمم فهي كما يلي: أولا: كذبت أمة واحدة أمة أخرى بين يديها وأبطلت ما عندها من الصدق، فلما خص بنو إسرائيل أنفسهم بالوحي الرباني، كذبوا بذلك أديان العالم كلها، وحين ادعى المجوس ما ادعوه فإنهم بذلك كذبوا العالم كله بما فيه بنو إسرائيل، وهكذا يكذب سكان آريه ورت العالمين كلهم وفيهم بنو إسرائيل والمجوس، وادعاء أهل الصين، بأن تعاليم كونفشيوس السماوية خاصة بهم يعني أن بلاد الهند وإيران وكلدان وإسرائيل كلها كانت تتخبط في الظلام. وهكذا لا يبقى دين يصدقه دين آخر، ولا أمة وصفتها الأمم الأخرى بالصدق. ولما اتهمت كل أمة الأمم الأخرى فكيف يحق لها أن تنجو هي من التهمة؟ إن هذه الأمم جميعا لوثت بصنيعها الجو الصافي وحسبت نفسها بمنجاة من هذا التلوث. وبعد هذه الدعاوى ضيقت هذه الأديان الشهيرة نطاقها، فخصص بنو إسرائيل منصب الكهانة بأولاد هارون وحدهم وجعل (أتباع سناتن دهرم) نساك (بهويه وهردوار وكاشي) خزنة الجنة والنار (سورك ونرك)، ومنح الكاثوليك الرومان مفاتيح ملك

السماء البابا لأنه رئيس تلك الكنيسة التي بناها بطرس الذي أعطاه المسيح الخيار التام لملكوت السماء. وابتعدت كل أمة عن الأخرى، واعتزلتها، فضاع الحب الإنساني وانفصلت الأمم عن بعضها إلى الأبد، كما دخلت الخصائص الوطنية والعادات القومية في المبادئ الدينية عند الجميع، وتدرجت هذه المبادئ إلى الضعف أمام تلك العادات حتى تلاشت. وجاء الإسلام ليقضي على هذه المفاسد كلها، ويعلن أمام الأمم المذكورة سنة إلهية بقوله تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} (فاطر: 24). فلماذا يحقر بنو إسرائيل صلحاء الهنادك، ويكذب الهنادك أنبياء بني إسرائيل، ويبطل الفرس دعاوى الإسرائيليين والهنادكة، ويكذب أهل الصين نور الشمس بتكذيبهم علوم هذه الأمم) وحضاراتها؟ تعالوا اتحدوا وتبادلوا بينكم الاحترام (*)، وعظموا دعاة الأديان وهداتها، وانظروا إلى الناموس الإلهي الذي اختار موضعا قرب البحر الأبيض لتوحيد العالم كله، فتيسر نشر الدعوة منه في كل موضع من العالم، وتحقق استخدام وسائل السفر برا وبحرا بعد الإقامة فيه. إن القدرة الإلهية أرست أساس هذه الحركة منذ خمسة آلاف سنة، وأعدت أمة سكنت في واد غير ذي زرع، واستغنت عن الأرض الخصبة واكتفت من النفائس المادية بما يسد الرمق، واستهدفت الحفاظ على المعبد ورأت سدانتها فخرا لها، حتى بعث الرسول الأمي الكريم (ص) الذي بدل الاختلاف ائتلافا، والافتراق اتفاقا، وكان ذلك في العصر الذي عاشت فيه الأمتان اللتان صور الله تعالى حالتهما بقوله: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب} (البقرة: 113). إن قوله تعالى ((وهم يتلون الكتاب)) يتعلق بالنصارى الذين سموا سفر اليهود بالعهد القديم والكتاب المقدس، ومع ذلك يقولون في اليهود أنهم ليسوا على شيء. ¬

(*) (قل يا أهل الكتاب تعالو إلى كلة سواء بيننا وبينكم ... الآية).

وكذلك يتعلق باليهود الذين رأوا في الإنجيل أنه يصدق توراة موسى ومع ذلك ينكرون الإنجيل. وعلى كل ردد الفريقان (وفد نجران من النصارى وعلماء يثرب من اليهود) القول المذكور وشهدوا على أنفسهم بالتسرع والجهل فحكم الله تعالى عليهم بقوله: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (*) قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين} (المائدة: 67 - 68). كان عدد اليهود والنصارى في ذلك الوقت أكثر من المسلمين بكثير، فقد كان المسلمون يشكلون نسبة 2% بينهم، وكان اليهود أصحاب مال وتجارة، وكانت لهم سيطرة على الجزيرة العربية كلها، وكان المسلمون والوثنيون مدينين لهم. وكان النصارى أصحاب جيش وقوة وحكم. ولم يكن إصدار حكم حاسم يقضي على المكانة الدينية للفريقين أمرا سهلا، ومن هنا حثت الآيات الكريمة في بدايتها النبي (ص)، وأخبرت أن اليهود والنصارى لن يضروك شيئا بعد الحكم المذكور مهما سخطوا وتضجروا، فالله تعالى يعصمك منهم. والحكم هو أن يتخلى اليهود عن تعصبهم ضد النصارى، ويتخلى النصارى عن حقدهم وحسدهم ضد اليهود، وليتبع الاثنان التوراة والإنجيل. والدليل الذي عند النصارى على دعوة اليهود إلى دين المسيح تتوقف صحته على أن النصارى يصدقون بنبيهم موسى عليه السلام وكتابهم التوراة، ونفس هذا الدليل بيد المسلمين بإزاء اليهود والنصارى جميعا، فإن المسلمين يؤمنون بالكتابين ومن جاءا بهما. إن النصارى يستخرجون لليهود التنبؤات عن المسيح من التوراة، ويخطئونهم. وهكذا يستخرج المسلمون تنبؤات الكتاب المقدس عن النبي (ص) لليهود والنصارى معا، ويقيمون عليهم الحجة. وجاءت الخلاصة بأن اليهود صاروا مغضوبا عليهم لرفضهم تعليم المسيح، في حين أن المسيح آمن بالتوراة، وصار النصارى ضالين لجحودهم شريعة موسى التي صدق بها

المسيح، وفي مثل هذه الحالة ليس الفريقان على شيئ لأنهم أنكروا الكتاب والنبي الذي وعد به موسى في الكتاب الخامس، والذي ورد خبره في أنجيل يوحنا (¬1). والحاصل أن الإسلام هو الذي يمتاز بتوحيد الله تعالى وأنه وحده إله العالمين جميعا، ويجعل الرب الواحد رب العالمين جميعا، ويقدم إلى العالمين كلهم دينا واحدا هو الإسلام، ويجعل جميع الأمم والأوطان تستحق نعم الله تعالى وأنواره على السواء، إنه لا يكذب صالحا، ولا يبطل دينا سابقا، بل يوحدها جميعا بإرجاعها إلى أصولها ويحملها على الإيمان بالألوهية الكاملة مثل الربوبية الخالقة. فما أيمن الإسلام الذي مد يده إلى جميع الأمم والأقوام ليؤلف بينها، ويوحدها! وما أسعد الأمم التي استجابت لدعوة الداعي المقدس، والتزمت مبدأ الحب العام! ¬

(¬1) سفر التثنية 15/ 18 - 19، إنجيل يوحنا 12/ 16 - 16.

الفصل الثامن عشر الإسلام دين البر

الفصل الثامن عشر الإسلام دين البر اتفق فلاسفة يونان القديمة وأوربا الحديثة بعد النظر في الديانة البشرية على أن أساس الدين الصحيح ينبغي أن يقوم على الأصول التالية: 1 - البر. 2 - الصدق. 3 - والحسن. ومراعاة للعنوان أقول كلمة عن البر فقط. قال الله تعالى في القرآن: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} (البقرة: 177). وقال: {أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} (الممتحنة: 8). وقال: {ولكن البر من اتقى} (البقرة: 189). وقال: {وتعاونوا على البر والتقوى} (المائدة: 2). وقال: {وأوحينا إليهم فعل الخيرات} (الأنبياء: 73). وقال: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون (*) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون (*) والذين هم بربهم لا يشركون (*) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (*) أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (المؤمنون: 57 - 61). والأحكام التي أصدرها النبي (ص) عن أنواع البر تقوم على الأصول التالية: 1 - الشعور بعظمة الله، ثم تأثر القلب بأدب ممزوج بالاحترام. 2 - تذكر النعم الإلهية، ثم التحير بعد هذا التذكر، وضعف الآثار الحيوانية بالتحير. 3 - التعايش من الأقرباء والجيران والأيامى واليتامى وأهل القرية والوطن بالعشرة

الحسنة والأخلاق الكريمة. والبر: اللقاء بوجه بشوش، وإماطة الأذى عن الطريق، والسقي من البئر، وإرشاد الضال، والتنوير في الظلام، والإعانة على الحمل، والنداء بالاحترام، والتأني في القول (¬1). وتعليم الأب ابنه صدقة (¬2). ووصف الحديث بالخير من هو خير لأهله (¬3). ومن أحسن تربية البنات والأخوات استحق الجنة (¬4). ومن عذب هرة دخل النار (¬5) ومن سقى كلبا غفر له (¬6). وأكمل هذا العنوان بقول النبي (ص): ((في كل كبد رطبة أجر)) (¬7). وبهذه الأحكام يتضح أن الإسلام هو دين البر. ¬

(¬1) سنن الترمذي 340/ 4 - البر والصلة. (¬2) سنن الترمذي 4/ 337 - البر والصلة. (¬3) سنن الترمذي 5/ 709 - المناقب. (¬4) سنن أبي داود 14/ 56 - عون المعبود. (¬5) البخاري 5/ 41 - المساقاة، ومسلم 2/ 622. (¬6) سنن أبي داود 7/ 222. (¬7) البخاري 5/ 41.

الفصل التاسع عشر الإسلام دين التقوى

الفصل التاسع عشر الإسلام دين التقوى ألف: الخمر هي أكثر ما يفسد التقوى، ولكن بولوس قال لا تشربوا الماء الصافي، بل اشربوا قليلا من الخمر لإصلاح المعدة وإبعاد أكثر الضعف (¬1). إن الأمر بشرب الخمر والنهي عن شرب الماء الصافي قد أديا بأوربا وأمريكا إلى أن نسي الناس شرط ((القليل)) وصارت الخمر أم جميع الخبائث كما صرح القرآن وذكرت السنة. ب - وقد فندت الصحة تعليل بولس أيضا، وصرحت بأن الخمر تحدث تأثيرا سيئا في المعدة والكبد والقلب والمخ، وتزيل قوة الأعصاب. فقد تم حظر الخمر في الحرب العالمية (1914 - 1918م) على الجنود حفاظا على قوتهم الجسمية، وقد أراد الملك جورج أن يكون نموذجا لجيشه واتبعه قيصر روسيا. وقد منعت أمريكا صنع الخمر في البلاد، وفرضت الحظر على بيعها وشرائها. وقد صرح خبراء علماء الأخلاق بأن الخمر تفسد الأخلاق، ويقول علماء الاقتصاد أن الخمر تؤدي إلى الفاقة وإضاعة المال، وقال قضاة المحاكم العليا إن الجرائم البشعة مثل القتل والزنا بالإكراه وقطع الطريق تقع في الأغلب من السكارى مدمني الخمور. ج - وفي الهندوسية أيضا تقدم الخمر لإرضاء الآلهة أو الآلهات، ومن الطبيعي أن العباد والنساء يقبلون على الشيء الذي يرضي الآلهة، وقد سمى بعض الهنادك الخمر ((ماء الكنك)) إشارة إلى قدسيتها (*). والإسلام هو الدين الأول الوحيد الذي وصف الخمر بأنها رجس من عمل الشيطان وأم الخبائث. وحرم منها القليل لأن كثيره مسكر. وبذلك يثبت أن الإسلام دين التقوى. ¬

(¬1) رسالة بولس الأولى إلى تيموثاؤس في العهد الجديد 5/ 23. (*) نهر الكنك مقدس لدى الهنادكة.

والزنا حرام في الإسلام، وقد أكد القرآن تحريمه فقال: {ولا تقربوا الزنى} (الإسراء: 32). وبهذا الحكم تم تحريم الأسباب وكل ما يؤدي إلى الزنا، مثل اختلاط الرجال والنساء والمزاح والتفكه ومشاركة الرجال والنساء غير المحارم مكان واحد، ووسائل اختلاب القلوب وإبراز مفاتن الجسد وغير ذلك، ولبيان شدة الحرمة المذكورة قال الله تعالى: {وساء سبيلا} (الإسراء: 32). وأفاد أن الذي يزني فإنه يمهد السبيل للزنا أن يدخل بيته، والطريق الذي يسلكه للوصول إلى الآخرين، هو الطريق الذي يسلكه الآخرون للوصول إلى بيته، قال تعالى: {ولا متخذات أخدان} (النساء: 25). وقال: {ولا متخذي أخدان} (المائدة: 5). وللحفاظ على العفة والتقوى أرشد القرآن الكريم إلى وسيلتها وأوجب العمل بها فقال: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} (النور: 30)، وقال: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} (النور: 31)، وقال بعد الأمر المذكور أيضا: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} (الأعراف: 33). صرحت الآية الكريمة بتحريم الفواحش، ولكن هناك حكم آخر يصف فيه الإسلام المراحل التي تسبق الفواحش بالإثم، يقول تعالى: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} (الأنعام: 120). ونتعجب من الذين منحوا الرجال والنساء حرية فاحشة لشرب الخمر، ومن الذين يمتعون أبصارهم بجمال الخدود في المعابد، ومن الذين يصورون عراة لإبراز الجمال، ومن الذين يغتسلون في الحمامات المشتركة بين الرجال والنساء، ومن الذين يغتسلون عراة في موارد الماء إذ لا يعترف هؤلاء بتقوى الإسلام وعفته، ولعل ذلك خوفا منهم من الانكشاف أمام الناس. ولو قصد الإسلام زيادة عدد أتباعه بإثارة العواطف النفسية لما أمر بحرمة الخمر، ولو فعل ذلك لما كان مورد اعتراض، لأن الشيء الذي تعودت على استعماله البلاد والأديان لن يعد السكوت عليه موضع طعن، وكذلك لم يأمر بأحكام صارمة للقضاء

على الزنا، ولو فعل ذلك لما طعن أحد من الأمم التي تبيح الزواج بواسطة المحكمة، وتسمح للمتزوجين بالزواج المؤقت لغرض الحصول على الأولاد، ولكن الإسلام ضرب مثلا رائعا للتعفف والتقوى، ذلك لأنه دين العفاف والتقى، وكل ما يعترض به الناس على الإسلام هو أنه أباح تعدد الأزواج. ولكن انظروا كيف لا يعترض أحد على داود الذي يصفونه بأنه ابن الله الوحيد إذ جعل في بيته مائة زوجة؟ وعلى سليمان الذي يصفونه بصاحب قلب مثل الله إذ كان عنده ألف زوجة؟ وعلى إبراهيم خليل الرحمن إذ كانت عنده زوجات وإماء؟ وعلى كرشن الذي يصفونه بالموحي إليه والمصلح إذ اتخذ لنفسه أخدانا بلغ عددهن 16108 خدنا؟ ولماذا لا يعترض زعماء العصر الحاضر على كرشن الذي يصفونه بالمصلح الأعظم اتخذ لنفسه ثماني ملكات؟ إن هؤلاء لا يحق لهم أن يعترضوا على الإسلام في إباحته التعدد. والشخصيات المكرمة التي ذكرناها لم يوجد في دياناتهم شرط لتعدد الأزواج يمنعهم افتقاده س التعددية ولكن الإسلام شرط التعدد بالعدل، ولو فقد هذا الشرط أو كان هناك خوف على عدم القدرة على تطبيقه فإن الإسلام يأمر في مثل هذه الحالة بالواحدة فيقول: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} (النساء: 3). فهل ورد في الكتاب المقدس لدين ما كلمة ((واحدة)) أو كلمة تشبه هذا المعنى؟! وهل هناك دين يثبت أن معنى ((واحدة)) ورد في كلام المسيح أو موسى أو كرشن أو رام جندر؟ وإن لم يكن ذلك فعلى الجميع أن يعترفوا بأن ذلك أيضا من خصائص الإسلام، وحكم وجود زوجة واحدة الذي تفتخر به أوربا، إنما هو خلاصة مبتورة لحكم ورد في القرآن الكريم.

الفصل العشرون الإسلام دين الصدق

الفصل العشرون الإسلام دين الصدق عرف علماء الإسلام الصدق بما يأتي: 1 - التوافق بين العمل والعلم صدق. 2 - التطابق بين القلب واللسان صدق. 3 - التساوي بين السر والعلانية صدق. 4 - اعتبار الصدق الذي فيه مظنة الخراب خيرا من الكذب الذي فيه الخلاص صدق. وهنا ينبغي النظر في الآيات والأحاديث التالية: ألف: الصدق من صفات الله تعالى: {قل صدق الله} (آل عمران: 95). ب - الصدق من صفات الله ورسوله: {وصدق الله ورسوله} (الأحزاب: 22). ج - ارتفعت منزلة مريم بسبب الصدق: {وصدقت بكلمات ربها} (التحريم: 12). د - ومنزلة الصحابة بسبب الصدق: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} (الأحزاب: 23). هـ - فضل النبي (ص) بسبب تعليم الصدق وتصديقه: {والذي جاء بالصدق وصدق به} (الزمر: 33). و- ورد حديث ابن مسعود عن الصدق في الصحيحين والموطأ وأبي داود والترمذي: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن

الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) (¬1). ز - وفي سنن النسائي، وقد صححه الترمذي، أن أبا الحوراء سأل الإمام الحسن: ماذا تعلمت من النبي (ص)؟ قال: تعلمت وحفظت منه قوله (ص): ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة)) (¬2). ح - وأمر الله المؤمنين: {كونوا مع الصادقين} (التوبة: 119). ط - اشتقت من مصدر الصدق في العربية ثلاث صيغ للفاعل وفق مدارجه العليا، وهي: الصادق، والصدوق، والصديق. والصديق له منزلة عالية حتى أن الأنبياء قد وصفوا به. فقد قال الله تعالى في إبراهيم: {إنه كان صدسقا نبيا} (مريم: 41). وكذلك وصف يوسف بالصديق. ووصفت مريم البتول في سورة المائدة بقوله تعالى: {وأمه صديقة} (المائدة: 75). وورد في سورة النساء وسورة الحديد وصف البارزين من أمة محمد (ص) بالصديقية، قال تعالى: {أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} (الحديد: 19). وبهذه السطور اتضح أسلوب الإسلام البديع الذي اختاره لإبراز المنزلة الرفيعة للصدق. وبذلك يتحقق طلب فلاسفة العصر الحاضر بضرورة وجود الصدق في دين الفطرة، والحمد لله على أن الإسلام يظهر خصائصه منذ أربعة عشر قرنا. ¬

(¬1) البخاري 10/ 507 - الأدب، ومسلم 4/ 2012 - البر والصلة. (¬2) الترمذي 4/ 668 - صفة القيامة، وفي النسائي 8/ 327 إلى قوله ((ما لا يريبك)) فقط.

الفصل الحادي والعشرون الإسلام دين الحسن والجمال

الفصل الحادي والعشرون الإسلام دين الحسن والجمال سمى الناس ملامح المرأة ودلالها فقط حسنا، ولكن ذلك قصور نظر موجه لفترة أيام الشباب فقط، ثم إن مقياس الجمال مختلف متفاوت لدى سكان البلاد المختلفة في العالم، ومن هنا تعسر الوصول إلى تعريف للحسن متفق عليه، ففي شمال روسيا تعتبر العيون الصافية الزرقاء مثل السماء في غاية الجمال، ولكن العرب يكرهون العيون الزرقاء، وأهل أوربا يمدحون الشعر الذهبي، وأهل آسيا يرون الضفائر السوداء حسنة، وأوربا تفتخر باللون الأبيض، ولكن الحبشة يحصرون الجمال فى اللون الأسود. وليس قصدنا من عنوان ((دين الحسن والجمال)) إن الإسلام ينظر إلى ذلك الجمال النسائي ويمجده ويصوره، نعم، يضع الإسلام الجمال في منزلة عالية، ويعتبره صنعا ربانيا حسنا. وهذا العالم كله مظهر الجمال، وكل شيء فيه جميل في نظر الإسلام. الجمال البشري: قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (التين: 4). ويعم لفظ التقويم التكوين الداخلي والخارجي. ويعلم علماء التشريح أن مخ الإنسان وقلبه وكبده وأحشاءه وأعصابه أحسن وأعلى بكثير من سائر الحيوان. وقد اجتمعت في أسنانه وأمعائه صفات الحيوان الذي يأكل النبات والذي يأكل اللحم. المظهر الحسن: قال تعالى: {وصوركم فأحسن صوركم} (غافر: 64). إن قوله ((فأحسن صوركم)) يتضمن ما يمتاز به الإنسان، زنجيا كان أو فرنجيا، بين سائر الحيوان من صفاء البشرة ونعومة الجلد واستواء القامة ووسامة الوجه. صفات الزوجة: قال تعالى: {لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} (الروم: 21).

جمال المواشي والأنعام

فلكون الزوجة سكنا للزوج ووجود المودة والتجاذب بين الزوجين خير لكليهما. وقال تعالى: {عربا أترابا} (الواقعة: 37). وهذه هي الميزة التي تميز صنف المرأة. جمال المواشي والأنعام: قال تعالى: {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} (غافر: 6). إن الناس ينظرون إلى البهائم التي تحلب والتي تجر السواقي والعجلات، وهي تجتمع خارج القرية صباح مساء، والناس يمدحون هذه المواشي وأصحابها، وبذلك يفرح هؤلاء الأصحاب فتتهلل وجوههم بشرا. وإلى هذه الحالة تشير الآية المذكورة. في حيوان الركوب زينة: قال تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} (النحل: 8). إن استخدام هذه الحيوانات لحمل الأمتعة والأشياء وللركوب معروف. ولكن الإسلام أشار بزيادة كلمة ((زينة)) إلى أنه يهتم بجمال كل شيء أيضا ويحث على تقديره. الزينة في سائر الأشياء الأرضية: قال تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} (الكهف: 7). فالإسلام هو الذي أبرز كون الأشياء زينة وجمالا للأرض. فالخضرة النابتة على وجه الأرض زينة، والأشجار المرتفعة إلى السماء وأغصانها المتمايلة وأوراقها المورفة كلها تزين الأرض وتزيدها بهاء والأزهار المختلفة اللون والثمار المتنوعة والأوراق الغريبة الأشكال والجبال ذات الخواص المختلفة والثلوج المتراكمة على قمم الجبال والرمال المنبسطة على وجه الأرض وشلالات الماء والمراعي الخصبة والغابات الكثيفة والأودية والأنهار والمعمورة والفلوات، كل ذلك يزيد الكرة الأرضية جمالا وبهاء بأمكنتها وأحوالها وأشكالها. هذه الأشياء كلها زينة وحلية للأرض. والإسلام هو الذي أبرز محاسنها وجمالها، فهو دين الحسن والجمال، والآية المذكورة تتضمن مع إبراز جمال الصنع الرباني مقارنة أيضا، وهي إشارته إلى العمل الحسن للعبد، فالقدرة الإلهية التي خلقت الإنسان جميلا، وجعلت كل شيء مخزنا للجمال والزينة، كيف لا تتطلب من الإنسان

جمال كل شيء في خلقه

أن يحسن عمله؟ إذا دخل أحد قصرا ملكيا، ورأى ما فيه من الأثاث الفاخر الثمين، وشاهد مظاهر التزيين والتحسين، توقع منه الجميع أن لا يفسد فيها شيئا، ولا يرمي فيه القمامة. وهذا هو المتوقع من الإنسان في هذا العالم. وحيث إن الإنسان متمتع بالجمال في نفسه، وفي المكان الذي يسكن فيه، فمن الطبيعي ألا يقدم الإنسان إلا أحسن الأعمال ولا يطلب إلا الحسنة في الدنيا والحسنة في الآخرة. جمال كل شيء في خلقه: قال تعالى: {أحسن كل شيء خلقه} (السجدة: 7). هناك ألوف من الطيور والأزهار والأشجار والحيوان الذي يسكن داخل الأرض والذي يزحف ويجري على القوائم ويسكن في البحر. إنها جميعا تتمتع بالحسن والجمال في ألوانها وأوضاعها وخواصها وأصواتها وأفعالها، بحيث يتعسر التفاضل بينها، فتبارك الله أحسن الخالقين.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع 1 - قرآن مجيد 2 - موطأ إمام مالك طبع دهلي سنة 1293م. 3 - كتاب الأم، تأليف الإمام الشافعي طبع بولاق مصر سنة 1326 هـ. 4 - كتاب الخراج، قاضي القضاة أبو يوسف، طبع مصر. 5 - صحيح البخاري، طبع بومباي سنة 1268 هـ. 6 - صحيح مسلم طبع دهلي سنة 1294 هـ. 7 - سنن أبي داود طبع دهلي سنة 1305 هـ. 8 - سنن النسائي طبع دهلي سنة 1262 هـ. 9 - شمائل الترمذي طبع مصر سنة 1318 هـ. 10 - سنن الدارمي، مطبوعة دهلي سنة 1262 هـ. 11 - الدارقطني، مطبع فاروقي دهلي. 12 - دلائل النبوة حافظ الكبير أبو نعيم أصفهاني ط دكن سنة 1320 هـ. 13 - تاريخ الأمم والملوك - ابن جرير الطبري ط حسينية مصر. 14 - الطبقات الكبير لابن سعد ط ليدن سنة 1322 هـ. 15 - الأصول الكافي شيخ الكبير محمد بن يعقوب كليني - ط نول كشور سنة 1202 هـ. 16 - الاستيعاب ابن عبد البر، ط دكن سنة 1318 هـ. 17 - كتاب الفصل في الملل والنحل، أبو محمد علي بن أحمد بن حزم، ط مصر 1320 هـ. 18 - كتاب الشفا قاضي عياض غرناطي، ط صديقي بريلي سنة 1287 هـ. 19 - زاد المعاد ابن القيم الجوزي الدمشقي. ط نظامي كانبوري سنة 1298 هـ. 20 - جلاء الأفهام لابن القيم. ط الكتاب السنة امر تسر.

21 - الطريق أمية لابن القيم. ط مصر 1317 هـ. 22 - نهج البلاغة. سيد شريف من كلام أمير المؤمنين علي مرتضى ط تبريز ستة 1267 هـ. 23 - كتاب الكامل، أبو العباس مبرد ط بيروت سنة 1317 هـ. 24 - معجم البلدان، ياقوت حموي، ط مصر سنة 1309 هـ. 25 - كتاب بكر وتغلب محمد بن اسحاق ط بولاق سنة 1317 هـ. 26 - فتح الباري، ط حسينية مصر سنة 1314 هـ. 27 - أبو الفداء، ط حسينية مصر سنة 1325 هـ. 28 - كتاب الإرشاد، شيخ مفيد ط، تبريز سنة 1270 هـ. 29 - أعلام النبوة. 30 - تيسير الوصول، ابن اثير ط لكناؤ. 31 - مدارج النبوة شيخ عبد الحق محدث دهلوي ط شاهدرة سنة 1281 هـ. 32 - الزرقاني. ط ازهريه مصر سنة 1328 هـ. 33 - إنسان العيون - علامة علي الحلبي. ط مصر سنة 1338. 34 - السيرة المحمدية تلخيص عيون الأثر مولوي كرامت علي دهلوي. ط دكن. 35 - تاريخ العرب السيد سيدو ط مصر 1309 هـ.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات الموضوع ............................................................... الصفحة كلمة الناشر ............................................................. 5 مقدمة المترجم ........................................................... 7 القاضي محمد سليمان المنصورفوري - حياته وآثاره ....................... 9 مقدمة ................................................................... 18 محمد (ص) حياته وبعثته ................................................ 33 التفكير في التجارة ........................................................ 36 الزواج ................................................................... 36 انعقاد حلف إقامة الأمن ومراعاة الحقوق ................................... 36 الصادق الأمين ........................................................... 37 قرب زمن البعثة .......................................................... 40 البعثة والنبوة .............................................................. 41 خديجة في أخلاق النبي (ص) الحميدة ..................................... 41 شهادة العالم النصراني ورقة بن نوفل عل نبوة رسول الله .................... 42 بداية الصلاة .............................................................. 43 بداية الدعوة ............................................................... 43 أهداف النبوة .............................................................. 44 مراحل الدعوة الخمس ...................................................... 44 أحوال العالم وقت البعثة ................................................... 45 الدعوة في عشيرته ........................................................ 47 موعظة جبل الصفا ودعوة أهل مكة ....................................... 47 جهود النبي (ص) في الدعوة ............................................. 48 أعظم ما في دعوته ...................................................... 48 معارضة قريش .......................................................... 48

ظلم قريش للمسلمين ......................................................... 49 إساءة قريش للنبي ........................................................... 50 لجان الإيذاء ................................................................. 51 جماعة المستهزئين ........................................................... 52 عجز الأعداء عن وصف الرسول ............................................. 52 الهجرة إلى الحبشة ............................................................ 53 فضيلة سيدنا عثمان رضي الله عنه ............................................ 53 قريش تتابع المسلمين حتى الحبشة ............................................. 53 خطبة جعفر عن الإسلام ....................................................... 53 إسلام حمزة .................................................................... 58 إسلام عمر الفاروق رضي الله عنه ............................................. 59 حصار النبي مع عشيرته في شعب أبي طالب لثلاث سنوات .................... 59 وفاة أبي طالب وخديجة ......................................................... 60 خروج النبي (ص) لدعوة القبائل ................................................. 61 خروج النبي (ص) للدعوة في مناطق مختلفة ..................................... 63 إيمان سويد بن صامت .......................................................... 63 الدعوة في سفارة يثرب وهداية إياس بن معاذ ...................................... 63 المعراج ......................................................................... 64 إسلام طفيل بن عمرو الدوسي ................................................... 67 إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ............................................ 67 أسباب الهجرة ................................................................... 69 بيعة العقبة الأولى .............................................................. 69 مصعب بن عمير .............................................................. 70 بيعة العقبة الثانية .............................................................. 70 إسلام أسيد بعد سماعه دعوة مصعب ............................................ 71

إيمان سعد بن معاذ بعد سماعه دعوة مصعب .......................................................................................................................... 71 إسلام القبيلة كلها في يوم واحد ........................................................................................................................................ 72 وعظ الرسول في العقبة الثانية ......................................................................................................................................... 72 نقباء النبي (ص) ..................................................................................................................................................... 73 قريش تقبض على مسلمين من يثرب .................................................................................................................................. 73 الإذن للمسلمين بالهجرة ................................................................................................................................................ 74 مصاعب الهجرة ....................................................................................................................................................... 75 الهجرة ................................................................................................................................................................. 76 تشاور رؤساء قريش لقتل النبي (ص) .................................................................................................................................. 77 مؤامرة قتل النبي (ص) ................................................................................................................................................ 78 التدبر الإلهي في مواجهة التدبر الإنساني ............................................................................................................................... 78 القوة الإيمانية لأسماء بنت أبي بكر ..................................................................................................................................... 79 الخروج من الغار ....................................................................................................................................................... 80 استراحة النبي (ص) في خيمة أم معبد .................................................................................................................................. 81 صفة رسول الله ........................................................................................................................................................ 82 ثلاث عشرة سنة في مكة ............................................................................................................................................... 83 مكانة السابقين الأولى .................................................................................................................................................. 83 إسلام بريدة ومعه 70 شخصا ........................................................................................................................................... 84 وصول النبي (ص) إلى قباء ............................................................................................................................................ 84 الخطبة ................................................................................................................................................................. 85 دخول المدينة ........................................................................................................................................................... 86 مقارنة بين أحوال مكة والمدينة ........................................................................................................................................... 88 نصارى المدينة والنبي الموعود ........................................................................................................................................... 90 الباب الأول: معاهدة بين الأمم لاستتباب الأمن، مؤامرات قريش وهجماتها على المسلمين، نقض العهود للعهد، نجاح المسلمين، وحرية الدعوة إلى الإسلام .................... 93

دخول قبائل ضواحي المدينة في المعاهدة ............................... 94 قريش والهجوم على المسلمين في المدينة ................................ 95 المؤامرة الأولى ضد المسلمين ........................................... 95 المؤامرة الثانية .......................................................... 95 هجوم قريش على المسلمين ............................................. 96 عدد جيش قريش والتأكد من إرادته ....................................... 96 عدم الإذن للمسلمين بالقتال .............................................. 97 ضرورة الحكم بالجهاد .................................................... 97 الحكم الأول بالإذن بالجهاد .............................................. 97 هجوم قريش الثاني على المسلمين أو غزوة بدر .......................... 98 مؤامرة قريش الثالثة والاستعداد لقتل النبي (ص) .......................... 100 هجوم قريش الثالث وغزوة السويق أو قرقرة الكدر ......................... 101 هجوم قريش الرابع (غزرة أحد) ........................................... 102 تضحية أنس بن نضر ................................................... 103 رسالة سعد بن الربيع للمسلمين عند وفاته ................................. 103 عمارة بن زياد ولذة الموت ................................................ 104 شجاعة أبي دجانة وحنظلة وعلي وطلحة .................................. 104 قوة إيمان امرأة من بني دينار .............................................. 104 رحمة للعالمين وعفوه ...................................................... 104 مؤامرة قريش الرابعة وقتل عشرة من دعاة الإسلام ........................... 105 خبيب وزيد في الأسر ..................................................... 105 مقارنة بين حب النفس وحب الرسول ...................................... 106 مؤامرة أخرى وقتل سبعين من دعاة الإسلام ................................. 107 هجوم قريش الخامس ونقض العهد أو فتح مكة ............................. 107 خطبة النبي (ص) بعد فتح مكة أمام المهزومين الأعداء .................... 112

بيعة المسلمين وشروطها .................................................................................................................... 112 نتائج فتح مكة وأسباب انتشار الإسلام السريع ............................................................................................... 115 الدفاع ضد هجوم ثقيف وهوازن (غزوة حنين شوال 8 هـ) .................................................................................... 117 نموذج للإخلاص ........................................................................................................................... 120 فصل: كيد اليهود ونقضهم للعهود، هجومهم على المسلمين ................................................................................... 121 المكيدة الأولى وإخراج بني القينقاع .......................................................................................................... 121 المكيدة الثانية مؤامرة قتل النبي (ص) أو إجلاء بني النضير ................................................................................. 122 مؤامرة اليهود الثالثة (العصيان العام) وما نتج عنها من غزوة الأحزاب أو الخندق .............................................................. 122 نهاية بني قريظة ........................................................................................................................... 124 فصل: قتال النصارى ...................................................................................................................... 127 الثأر لداعية الإسلام أو غزوة مؤتة في جمادى الأولى 8 هـ .................................................................................. 127 سفر تبوك رجب 9 هـ ...................................................................................................................... 128 وفاة ذي البجادين ........................................................................................................................... 131 امتحان شديد لكعب بن مالك رضي الله عنه ................................................................................................. 133 أسرى الحرب ............................................................................................................................... 137 الباب الثاني - إرسال الرسل إلى الملوك من أتباع الديانات الأخرى في مختلف البلادللدعوة إلى الإسلام ومواقفهم من الدعاة .................... 141 إسلام بعض حكام المناطق المختلفة ......................................................................................................... 150 الباب الثالث ............................................................................................................................... 153 وفد بني دوس .............................................................................................................................. 153 إرشادات هامة للدعوة إلى الإسلام ........................................................................................................... 154 وفد صداء ................................................................................................................................. 154 وفد ثقيف .................................................................................................................................. 155 وفد عبد القيس ............................................................................................................................. 159 وفد بني حنيفة ............................................................................................................................. 160

وفد طيء ................................................................................. 161 وفد الأشعريين ............................................................................. 162 وفد الأزد .................................................................................. 162 ذكر قدوم فروة بن عمرو الجذامي ........................................................... 163 وفد همدان ................................................................................. 163 وفد طارق بن عبد الله ...................................................................... 164 وفد تجيب ................................................................................. 165 وفد بني سعد هذيم ......................................................................... 166 وفد بني أسد ............................................................................... 166 وفد بهراء .................................................................................. 167 وفد عذرة ................................................................................... 167 وفد خولان .................................................................................. 168 وفد محارب ................................................................................. 168 وفد غسان .................................................................................. 169 وفد بني الحارث ............................................................................ 169 وفد بني عبس .............................................................................. 169 وفد غامد ................................................................................... 170 وفد بني فزارة ............................................................................... 170 وفد سلامان ................................................................................ 171 وفد نجران .................................................................................. 171 وفد النخع .................................................................................. 177 الباب الرابع - أهم أحداث العهد المدني (عشر سنوات) ووفاة النبي (ص) .................... 179 بناء المسجد النبوي ......................................................................... 179 إسلام عبد الله بن سلام ..................................................................... 180 إسلام أبي قيس الراهب الفاضل ............................................................. 181

الصلاة ................................................................... 181 المؤاخاة ................................................................... 182 الأذان ..................................................................... 184 إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه ........................................ 184 تحويل القبلة ............................................................... 185 الزكاة ...................................................................... 191 صوم رمضان (سنة 2 هـ) .................................................. 195 تحريم الخمر (سنة 4 هـ) ................................................... 196 ولادة الحسين (سنة 4 هـ) ................................................... 197 إسلام ثمامة بن أثال النجدي (سنة 5 هـ) .................................... 197 صلح الحديبية (6 هـ) ...................................................... 198 الفائد الحقيقية للصلح ....................................................... 202 طواف المسلمين بالكعبة وآثاره (سنة 7 هـ) ................................... 203 مؤامرة اليهود الرابعة الاستعداد للهجوم على المدينة ودحرهم .................... 203 غزوة خيبر (سنة 7 هـ) ..................................................... 203 ويمكن أن نقسم هذه الحصون إلى ثلاثة أقسام ............................... 205 إسلام خالد بن الوليد (سنة 8 هـ) ........................................... 208 إسلام عمرو بن العاص .................................................... 208 إسلام عدي بن حاتم الطائي ................................................ 208 الحج ...................................................................... 210 خطبة النبي (ص) يوم حجة الوداع ........................................ 215 خطبة الغدير .............................................................. 224 السنة الحادية عشرة ........................................................ 224 بداية المرض .............................................................. 226 اليوم الأخير ............................................................... 228

الاحتضار ................................................ 230 الغسل والتكفين ........................................... 232 الباب الخامس - الخلق المحمدي ......................... 233 السكوت والكلام .......................................... 236 ضحكه وبكاؤه ............................................ 236 إرشاداته (ص) فيما يتعلق بالطعام ........................ 237 المرض والمريض ........................................ 237 عيادة المريض ........................................... 237 العلاج ................................................... 238 الخطابة في الناس ........................................ 238 الصدقة والهدية ........................................... 238 مدحه والثناء عليه ........................................ 239 إظهار الحقيقة وإصلاح الزعم الخاطىء .................... 239 مراعاة المصلحة العامة .................................... 239 البشرية والرسالة ........................................... 240 العطف على الصغار ...................................... 240 الاهتمام بالعجائز .......................................... 240 تكريم أهل الفضل ......................................... 240 الدعاء للخادم ............................................. 241 الأدب والتواضع .......................................... 241 الشفقة والرأفة ............................................. 242 العدل والرحمة ............................................ 243 الرحمة بالأعداء .......................................... 243 الجود والكرم ............................................. 243 الحياء ................................................... 244

الصبر والحلم ............................................... 244 العفو والرحم ................................................. 245 الصدق والأمانة .............................................. 246 العفة والعصمة ............................................... 246 الزهد ........................................................ 246 إعانة النساء ومراعاة راحتهن ................................. 247 اهتمامه بأسرى الحرب ....................................... 248 التدريب على الشجاعة والرجولة .............................. 248 الرمي ....................................................... 248 سباق الخيل ................................................. 248 الإحصاء السكاني ........................................... 249 توجيهات الرسالة ............................................ 250 حق الله على العباد، وحق العباد على الله .................... 250 الرحمة الإلهية .............................................. 250 بر الوالدين ................................................. 250 التناصر ................................................... 250 حلاوة الإيمان .............................................. 251 أحب الإيمان .............................................. 251 النهي عن المشقة في العمل ................................ 251 فضل الكسب وذم التسول .................................. 251 على من يقع الحسد ........................................ 252 أفضل الخلق .............................................. 252 النهي عن الرذائل والأمر بالتآخي .......................... 252 حق الجار والضيف ....................................... 252 الكلام والسكوت ........................................... 252

الرسول يضمن الجنة .................................. 252 الحث على الصبر والشكر ............................. 253 من هو المصارع ....................................... 253 واجب دعاة الإسلام .................................... 253 أثر المحبة ............................................ 253 معاملة الأسرى والمساكين والمرضى .................... 253 ثواب غرس الأشجار .................................. 253 الرأفة بالحيوان ........................................ 253 ذكر تعليم الجواري .................................... 254 في تعليم البنات وتربيتهن ............................. 254 من هو المنافق ....................................... 254 من هو المهاجر ...................................... 254 من يظلهم الله بظله يوم القيامة ........................ 254 أمر إطاعة الإمام ..................................... 254 إنزال الكبار منازلهم في المعاملات ..................... 255 كبار القوم ينوبون عن الأمة ........................... 255 حماية المعاهد الذمي .................................. 255 منزلة الحياة .......................................... 255 منزلة الصحة ........................................ 255 فضل أداء الدين ..................................... 255 تعريف الغنى ........................................ 255 المساواة العامة ....................................... 256 الرحمة العامة ........................................ 256 فضل ترك المال للورثة ............................... 256 مثل المرأة ............................................ 256

منزلة المرأة في البيت ..................................... 256 منزلة عالم القرآن ......................................... 256 الكلام المحبوب عند الله .................................. 256 القرآن الكريم ............................................. 257 الإلهيات ................................................. 259 معرفة ذات الله ........................................... 259 وصف الدين الحق ....................................... 259 المطلوب من العمل ...................................... 259 غاية الشريعة ............................................ 260 وظيفة الرسول ........................................... 260 جزاء الأعمال في الدنيا وما بعد الموت .................... 260 سنن الله لا تتغير ........................................ 260 مناط النجاح ............................................. 261 منزلة الصبر والتقوى ..................................... 261 منزلة الحكمة ............................................ 261 جزاء الصبر ............................................. 261 قطع الطمع .............................................. 261 تذكر الآخرة .............................................. 261 تجنب المهالك ........................................... 261 الافتراء والكذب .......................................... 261 المحرمات القطعية ....................................... 261 عبادة الله هو التعميد ..................................... 261 تنويه بالكتابة ............................................ 262 آيات الله ................................................ 262 منع الحلف .............................................. 262

دعوة إلى الصلح .......................................... 262 الإصلاح بين الناس ...................................... 262 أمر بالعفو ................................................ 262 الصدق يتضح بنفسه ...................................... 262 أصول الحكم .............................................. 263 توفر العلم ................................................. 263 منع الفساد ................................................. 263 عاقبة الظلم ................................................ 263 ثمرة الصلاح ............................................... 263 الاستعداد للحرب خير وسيلة للوقاية منها .................... 263 أهمية المشورة .............................................. 263 التعليم والتعلم .............................................. 263 استماع القول .............................................. 263 تلقي العلم ................................................. 264 نظام الدعوة ............................................... 264 طائفة لابد من الدعاة ...................................... 264 الداعية من كل فرقة ....................................... 264 تربية الخلق ............................................... 264 تعريف الأنثى ............................................. 264 تعريف الزوجين ........................................... 264 حقوق الزوجين ............................................ 264 الإيمان هو الحب البالغ ................................... 265 الإيمان والعلم سبب ارتفاع المنزلة ......................... 265 فضل الإنسان ............................................ 265 مكانة الإنسان ترد على الشرك ............................ 265

الاعتبار بكل شيء ............................... 265 آية في كل شيء ................................. 265 أثر السياحة ...................................... 265 العمى الحقيقي .................................... 265 الحلال والحرام .................................... 265 منع ترك الطيبات ................................. 266 تحقق الهدى ...................................... 266 العلو بالإيمان ..................................... 266 المدنية ............................................ 266 التمدن في الخلائق ................................ 266 الكون مسخر للإنسان .............................. 266 اختلاف في الكفاءات .............................. 266 المساواة والعدل .................................... 267 مقياس الخيرية .................................... 267 أساس الأخوة ...................................... 267 أهمية المال ....................................... 267 ذم الفقر ........................................... 267 ذم البخل .......................................... 267 مدح الاقتصاد ..................................... 267 نفع التجارة البحرية ................................ 267 المستحقون للنعم الدائمة ........................... 267 الباب السادس في نسب النبي (ص) الفصل الأول - الشجرة الطيبة .................... 269 الفرع الأول ....................................... 269 الفرع الثاني ....................................... 269

الفرع الثالث ....................................................................... 271 جدول شجرة محمد رسول الله (ص) ................................................ 273 الفرع الأول ....................................................................... 273 الفرع الثاني ....................................................................... 276 الفرع الثالث ....................................................................... 279 نسب يسوع المسيح عليه السلام .................................................... 280 الفرع الأول ........................................................................ 280 الفرع الثاني ........................................................................ 282 الفرع الثالث ........................................................................ 286 الفصل الثاني - أحوال موجزة لبعض أعلام الشجرة النبوية العالية .................... 288 آدم عليه السلام .................................................................... 288 نوح عليه السلام ................................................................... 288 شجرة أولاد سام .................................................................... 289 شجرة أولاد حام .................................................................... 290 شجرة أولاد يافث ................................................................... 291 حال سام .......................................................................... 291 الأمور التي تشترك فيها اللغات السامية ............................................. 293 سيدنا إبراهيم عليه السلام .......................................................... 293 أم المسلمين هاجر عليها السلام .................................................... 295 ومعناه ............................................................................ 297 إسماعيل عليه السلام ............................................................. 300 عدنان ............................................................................ 306 معد .............................................................................. 307 نزار .............................................................................. 308 مضر ............................................................................ 308

إلياس .......................................................................... 308 مدركة .......................................................................... 310 خزيمة .......................................................................... 310 كنانة ........................................................................... 311 النضر ......................................................................... 311 مالك بن النضر ................................................................ 311 فهر ............................................................................ 312 غالب .......................................................................... 312 لؤي ............................................................................ 313 كعب ........................................................................... 313 مرة ............................................................................. 313 كلاب .......................................................................... 314 قصي .......................................................................... 314 عبد مناف ...................................................................... 316 الزكاة ........................................................................... 318 الغنيمة .......................................................................... 318 الفيء ........................................................................... 319 أحكام تقسيم الصدقات والغنيمة والفيء مع ثبت بالآيات القرآنية .................... 320 هاشم ............................................................................ 321 عبد المطلب ..................................................................... 323 الحارث عم النبي (ص) .......................................................... 325 أ - نوفل بن الحارث ............................................................. 325 ب - عبد الله بن الحارث ......................................................... 325 ج - ربيعة بن الحارث ............................................................ 326 د - أبو سفيان مغيرة بن الحارث ................................................... 326

أبو طالب عم النبي (ص) ............................................ 327 أ - عقيل بن أبي طالب .............................................. 327 ب - جعفر (الطيار) بن أبي طالب رضي الله عنه .................... 328 ج - علي بن أبي طالب رضي الله عنه ............................... 331 فاطمة بنت أسد بن هاشم ............................................. 332 العباس بن علي رضي الله عنهما ..................................... 333 عمر (الأطراف) بن علي رضي الله عنهما ............................ 334 أبو القاسم محمد بن علي ............................................. 334 محمد بن علي ....................................................... 335 أبو بكر بن علي ..................................................... 335 أم هانىء بنت أبي طالب ............................................ 335 جمانة بنت أبي طالب ............................................... 336 حمزة عم النبي (ص) ................................................ 336 أبو لهب بن عبد المطلب ............................................ 338 عباس بن عبد المطلب .............................................. 338 الزبير عم النبي (ص) ............................................... 341 عمات النبي (ص) .................................................. 342 أم حكيم البيضاء .................................................... 342 أميمة ............................................................... 342 عاتكة .............................................................. 342 صفية .............................................................. 343 برة ................................................................. 343 أروى ............................................................... 343 عبد الله والد النبي (ص) ............................................ 344 آمنة (أم الرسول) ................................................... 346

الفصل الثالث - آل النبي (ص) .................................... 349 أبناء النبي (ص) ................................................... 349 جدول كسوف الشمس ............................................... 353 بنات النبي ......................................................... 354 السيدة زينب رضي الله عنها ........................................ 355 السيدة رقية رضي الله عنها ......................................... 358 السيدة أم كلثوم رضي الله عنها ..................................... 360 السيدة فاطمة عليها السلام .......................................... 360 الأحاديث .......................................................... 364 أبناء فاطمة رضي الله عنها ........................................ 365 الإمام الحسن بن علي ............................................. 365 أولاد الإمام الحسن رضي الله عنه .................................. 368 زيد بن الحسن رضي الله عنه ...................................... 369 حسن المثنى بن الحسن رضي الله عنه ............................. 369 الإمام الحسين بن علي سبط الرسول (ص) ......................... 370 الإمام زين العابدين ................................................. 373 الإمام جعفر الصادق ............................................... 375 الإمام موسى الكاظم ................................................ 375 الإمام علي الرضا .................................................. 376 الإمام محمد الجواد ................................................. 376 الإمام علي النقي ................................................... 376 الإمام الحسن العسكري .............................................. 377 الباب السابع - أمهات المؤمنين رضي الله عنهن .................... 379 منهاج النبوة وتعدد الزوجات ......................................... 381 جواز تعدد الزوجات لموسى عليه السلام ............................. 382

شجرة نساء داود عليه السلام ............................................................. 382 الفصل الأول - محمد (ص) وتعدد الزوجات ............................................. 385 الفصل الثاني - فضائل أزواج النبي (ص) .............................................. 388 الفصل الثالث - حسن سلوك النبي (ص) مع أزواجه المطهرات .......................... 396 وظيفة أمهات المؤمنين .................................................................. 397 مهور أمهات المؤمنين ................................................................... 397 الفصل الرابع - تقارب نسب الأزواج من نسب النبي (ص) ............................... 398 الفصل الخامس - تفصيل أحوال أمهات المؤمنين زوجات النبي (ص) .................... 399 أم المؤمنين خديجة الكبرى ............................................................... 399 أبناء خديجة الكبرى ..................................................................... 400 أقاربها .................................................................................. 401 أولاد النبي (ص) ........................................................................ 401 أم المؤمنين سودة رضي الله عنها ........................................................ 402 أقاربها .................................................................................. 402 أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ...................................................... 402 امتحان الحب .......................................................................... 404 فضلها ................................................................................. 405 فضائل خديجة وعائشة رضي الله عنهما ................................................ 407 الجهاد في سبيل الله ................................................................... 408 أمومة الأمة ........................................................................... 409 عثرة عائشة ........................................................................... 409 أقاربها ................................................................................ 411 إيثار خدمة الإسلام ونسيان الألم الذاتي ................................................ 412 أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها .................................................... 413 أقاربها ................................................................................ 414

أم المساكين زينب بنت خزيمة رضي الله عنها ........................................................ 415 أم المؤمنين أم سلمة (هند) رضي الله عنها ............................................................ 415 أقاربها ............................................................................................... 416 أم المؤمتين زينب بنت جحش رضي الله عنها ......................................................... 418 لماذا يعرض النصارى على هذه الواقعة ................................................................ 421 أقاربها ................................................................................................ 422 أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها .................................................................... 424 أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها ................................................................... 426 أقاربها ................................................................................................. 427 أم المؤمنين صفية رضي الله عنها ...................................................................... 428 أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها ..................................................................... 429 جدول عن أحوال أمهات المؤمنين رضي الله عنهن التاريخية ............................................ 430 الباب الثامن - الغزوات والسرايا ........................................................................ 431 جدول الغزوات والسرايا التي وقعت من سنة اثنتين من الهجرة إلى سنة تسع من الهجرة .................... 433 نظره تحليلية عن هذه الغزوات والسرايا .................................................................. 457 أ - وفي الجدول أعمال ارتكبت ضد المسلمين .......................................................... 457 ب - وفي الجدول وقائع واجه فيها المسلمون الكفار ..................................................... 458 فصل {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالسط شهداء لله} ................................................ 471 شهداء بدر رضي الله عنهم ورضوا عنه ................................................................ 471 شهداء غزوة السويق رضي الله عنهم ................................................................... 473 شهداء أحد رضي الله عنهم ............................................................................ 473 أ - المهاجرون ........................................................................................ 473 ب - الأنصار ........................................................................................ 474 شهداء يوم الرجيع رضي الله عنهم ..................................................................... 479

شهداء بئر معونة .......................................................... 480 شهيد المريسيع رضي الله عنه .............................................. 481 شهداء غزوة الخندق رضي الله عنهم ........................................ 482 شهداء غزوة بني قريظة رضي الله عنهم ..................................... 482 شهداء غزوة الغابة رضي الله عنهم .......................................... 482 شهداء ذي القصة رضي الله عنهم ........................................... 483 شهيد سرية وادي القرى رضي الله عنه ....................................... 483 شهيد العرنيين رضي الله عنه ................................................ 483 شهيد غزوة وادي القرى رضي الله عنه ........................................ 483 شهداء خيبر رضي الله عنهم ................................................. 483 سرية الخربة ................................................................. 485 سرية ابن أبي الوجاء ......................................................... 485 شهيد أطلح رضي الله عنه .................................................... 485 شهداء مؤتة رضي الله عنهم .................................................. 485 شهداء فتح مكة رضي الله عنهم ............................................... 488 شهداء حنين رضي الله عنهم .................................................. 489 شهداء غزوة الطائف رضي الله عنهم .......................................... 489 شهداء المشاهد المختلف فيها رضي الله عنهم .................................. 490 الباب التاسع {يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين} .................... 491 آدم عليه السلام ............................................................... 491 قابيل وهابيل ابنا آدم عليه السلام .............................................. 492 نوح عليه السلام ............................................................... 493 إبراهيم عليه السلام ............................................................ 495 لوط عليه السلام .............................................................. 496 إسحاق عليه السلام ........................................................... 497

يعقوب عليه السلام .......................................... 497 يوسف عليه السلام .......................................... 499 موسى عليه السلام .......................................... 501 داود عليه السلام ............................................ 505 سليمان عليه السلام ......................................... 506 أيوب عليه السلام ........................................... 507 زكريا عليه السلام ........................................... 508 يحيى عليه السلام ........................................... 509 عيسى المسيح عليه السلام ................................... 509 الباب العاشر أفضلية سيد المرسلين (ص) .................... 511 آدم عليه السلام .............................................. 512 إدريس عليه السلام ........................................... 514 إلياس عليه السلام ............................................ 515 نوح عليه السلام .............................................. 515 هود عليه السلام .............................................. 517 صالح عليه السلام ............................................ 517 خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام .............................. 518 لوط عليه السلام .............................................. 520 إسماعيل عليه السلام ......................................... 521 إسحاق عليه السلام ........................................... 521 يعقوب عليه السلام ........................................... 522 يوسف عليه السلام ........................................... 523 شعيب عليه السلام ........................................... 524 كليم الله موسى عليه السلام ................................... 526 هارون عليه السلام ........................................... 529

اليسع عليه السلام ..................................................... 531 داود عليه السلام ....................................................... 531 سليمان عليه السلام .................................................... 534 يونس عليه السلام ..................................................... 535 أيوب عليه السلام ...................................................... 536 زكريا عليه السلام ...................................................... 538 يحيى عليه السلام ...................................................... 538 عيسى المسيح عليه السلام .............................................. 542 الأحاديث ............................................................... 544 الشعر .................................................................. 545 أ - ما قيل من شعر قبل ولادة النبي (ص) .............................. 545 ب - ما قيل من شعر في حياة النبي (ص) ............................. 546 ج - ما قيل من شعر بعد وفاة النبي (ص) .............................. 547 الأئمة المحدثون ........................................................ 548 الفقهاء المحققون ........................................................ 549 أهل التقوى والعرفان ..................................................... 549 الوزراء والأمراء .......................................................... 550 الشعراء والأدباء ......................................................... 550 النحاة ................................................................... 551 وصف النبي بالشاهد .................................................... 551 وصف النبي بالمبشر والنذير ............................................ 553 وصف النبي بالداعي إلى الله بإذنه ...................................... 554 وصف النبي بالسراج المنير ............................................. 556 الباب الحادي عشر {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} ..................... 559 الباب الثاني عشر حب النبي (ص) ..................................... 569

جوده وسخاؤه ....................................................................................................................... 572 عدله ............................................................................................................................... 573 شجاعته ونجدته .................................................................................................................... 574 تواضعه ............................................................................................................................ 575 حياؤه ............................................................................................................................... 575 شفقته ورأفته ........................................................................................................................ 576 العفو والكرم ......................................................................................................................... 576 زهده في الدنيا ....................................................................................................................... 577 أخلاقه العامة ........................................................................................................................ 578 الباب الثالث عشر {ولتعلموا عدد السنين والحساب} ................................................................................... 585 السنة الهجرية ....................................................................................................................... 585 طريقة استكشاف غرة السنة الهجرية .................................................................................................. 586 جدول غرة السنين القمرية الهجرية .................................................................................................... 586 جدول تعداد أيام السنين الهجرية ...................................................................................................... 587 جدول بداية الشهور القمرية لثلاث وعشرين سنة ....................................................................................... 591 جدول الأحداث التاريخية المتعلقة بالسيرة النبوية ....................................................................................... 600 الباب الرابع عشر خصائص النبي (ص) .............................................................................................. 603 الفصل الأول الخاصية الأولى (محمد رسول الله) ....................................................................................... 604 الخاصية الثانية (رسولا منكم) .......................................................................................................... 609 الخاصية الثالثة (علمك ما لم تكن تعلم) ................................................................................................ 610 الخاصية الرابعة (ألم نشرح لك صدرك) ................................................................................................. 611 الخاصية الخامسة (ووضعنا عنك وزرك) ................................................................................................ 613 الخاصية السادسة (ورفعنا لك ذكرك) .................................................................................................... 615 الخصائص السابعة والثامنة والتاسعة (ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى) .................... 618

الخاصية العاشرة (النبي الأمي) ............................................................ 621 الخاصية الحادية عشرة (إنا أعطيناك الكوثر) ............................................... 624 الخاصية الثانية عشرة (إنا فتحنا لك ..... نصرا عزيزا) ..................................... 627 الخاصية الثالثة عشرة (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) .................................. 635 الفصل الثاني الخاصية الرابعة عشرة (يتلوا عليهم آياته) ..................................... 638 الخاصية الخامسة عشرة (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) ...................................... 639 الخاصية السادسة عشرة (ويعلمهم الكتاب والحكمة) .......................................... 645 الخاصية السابعة عشرة (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) .................... 648 العرب ..................................................................................... 649 اليهود ..................................................................................... 651 النصارى .................................................................................. 653 الأمم الهندوكية ............................................................................ 655 المجوس .................................................................................. 657 الخاصية الثامنة عشرة (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) ....................................... 658 الخاصية التاسعة عشرة (عزيز عليه ما عنتم) .............................................. 659 الخاصية العشرون (حريص عليكم) ........................................................ 663 الخاصية الحادية والعشرون (بالمؤمنين رؤوف رحيم) ........................................ 664 الخاصية الثانية والعشرون (وما أرسلناك إلا كافة للناس) .................................... 666 الخاصية الثالثة والعشرون (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) ............................. 670 الخاصية الرابعة والعشرون (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) .................................. 672 الخاصية الخامسة والعشرون (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ............................... 676 الخاصية السادسة والعشرون (فبهداهم اقتده) ................................................ 686 نوح عليه السلام .......................................................................... 687 إبراهيم عليه السلام ....................................................................... 687 إسحاق عليه السلام ....................................................................... 688

يعقوب عليه السلام .................................................... 688 يوسف عليه السلام .................................................... 688 داود عليه السلام ...................................................... 689 سليمان عليه السلام ................................................... 690 أيوب عليه السلام ..................................................... 690 موسى عليه السلام .................................................... 691 هارون عليه السلام .................................................... 691 زكريا عليه السلام ...................................................... 691 يحيى عليه السلام ...................................................... 692 عيسى عليه السلام ..................................................... 692 إلياس عليه السلام ...................................................... 693 إسماعيل ذبيح الله عليه السلام .......................................... 694 اليسع عليه السلام ...................................................... 694 يونس عليه السلام ...................................................... 694 لوط عليه السلام ........................................................ 695 الفصل الثالث - خصائص النبي في الحديث الشريف .................... 697 الأول: نصرت بالرعب .................................................. 697 الثاني: كون الأرض مسجدا وطهورا ...................................... 699 الثالث: حل الغنائم ...................................................... 700 الرابع: منصب الشفاعة .................................................. 701 الخامس: البعثة العامة ................................................... 704 السادس: عطاء جوامع الكلم ............................................. 704 خاصية المعراج ......................................................... 704 تعدد المعراج ............................................................ 705 تحديد الزمن ............................................................ 705

رواة أحاديث المعراج ومن أخرجها من المحدثين .................... 706 سرد وقائع المعراج ................................................ 711 سر لقاء الأنبياء الثمانية في السماوات السبع ...................... 714 القرآن الكريم والمعراج ............................................. 716 مبحث اليقظة والمنام ............................................. 718 الفصل الرابع: المعجزات النبوية (ص) ............................ 720 نبع الماء ........................................................ 724 بركة اللبن ....................................................... 729 البركة في الطعام ................................................ 732 التأثير في النبات ............................................... 734 التأثير على الحيوان ............................................ 736 التأثير على الأفلاك ومعجزة شق القمر .......................... 738 القسم الثاني من المعجزات ...................................... 742 الاطلاع على الأخبار والأحداث المستقبلية ...................... 742 الإخبار عن بعض أحداث المستقبل ............................ 743 أخبار عن الجهاد البحري ...................................... 743 تنبؤ عن أحداث في المستقبل .................................. 744 التنبؤ بفتوح البلدان ............................................ 745 التنبؤ بفتح مصر .............................................. 745 التنبؤ بقطع البلاد المفتوحة .................................... 746 التنبؤ بسوار كسرى ............................................ 746 القسم الثالث من المعجزات ..................................... 747 التنبؤ بما حدث سنة 393 هـ .................................. 747 التنبؤ بما حدث سنة 654 هـ .................................. 748 التنبؤ بما حدث سنة 656هـ ................................... 749

التنبؤ بما حدث سنة 700 هـ ....................................... 749 التنبؤ بما حدث سنة 855 هـ ....................................... 749 التنبؤ بما حدث سنة 1348 هـ ..................................... 750 تنبؤ بأحداث واقعة في الزمن الحاضر ............................... 750 تنبؤ بما يحدث في الزمن الحاضر .................................. 751 القسم الرابع من المعجزات النبوية ................................... 751 دعاء يحفظ من القتل ............................................... 752 دعاء العفة ......................................................... 753 دعاء للسائب بن يزيد ............................................... 754 دعاء لعبد الرحمن بن عوف ......................................... 754 دعاء لأنس بن مالك ................................................ 755 دعاء لمالك بن ربيعة السلولي ....................................... 755 عاقبة الكبر ......................................................... 755 دعاء لجبر العظم المنكسر ........................................... 756 الفصل الخامس - أسماء الرسول (ص) .............................. 757 الفصل السادس - السنة النبوية والطريقة المحمدية .................... 778 المعرفة رأس مالي .................................................... 778 العقل أصل ديني .................................................... 781 الحب أساسي ........................................................ 782 والشوق مركبي ....................................................... 787 ذكر الله أنيسي ....................................................... 787 الثقة كنزي ........................................................... 792 والحزن رفيقي ........................................................ 792 والعلم سلاحي ........................................................ 793 والصبر ردائي ....................................................... 796

والرضا رغبتي ....................................................... 801 والعجز فخري ........................................................ 804 والزهد حرفتي ........................................................ 805 واليقين قوتي ......................................................... 806 والصدق شفيعي ...................................................... 808 والطاعة حسبي ....................................................... 809 والجهاد خلقي ......................................................... 810 وقرة عيني في الصلاة ................................................. 811 الباب الخامس عشر خصائص القرآن .................................. 815 الفصل الأول - ضرورة القرآن ......................................... 816 فصاحة القرآن وبلاغته ................................................ 818 الفصل الثاني - المعاني البديعة والمضامين البارعة .................... 827 الفصل الثالث - تأثير القرآن .......................................... 829 الفصل الرابع - نموذج التعليم ......................................... 831 قبولية القرآن وتأثيره ................................................... 832 خصائص القرآن الكريم ................................................ 833 الفصل الخامس - منزل القرآن الكريم .................................. 839 الفصل السادس - تنبؤ القرآن ذي الذكر ............................... 841 سبعة تنبؤات عن القرآن الكريم ........................................ 841 الأول: عدم الإتيان بمثل القرآن ....................................... 841 عصر النبوة ......................................................... 841 العصر الحاضر ..................................................... 842 الثاني: حفظ القرآن إلى الأبد ......................................... 842 كشف تعداد حروف الهجاء ........................................... 847 أمير المؤمنين عثمان وحفظ رسم القرآن ............................... 848

النقل وطريق الإيجادة ................................... 848 اعتراض ................................................ 848 الصلاة والقراءة .......................................... 848 انتشار نسخ القرآن ....................................... 848 عثمان واختلافه مع الجمهور ............................. 849 عثمان وخروج أهل مصر ................................ 849 خلافة علي ومصحف عثمان ............................. 849 رفع المصحف في صفين ................................. 849 الثالث: جمع قراءة القرآن .................................. 849 الرابع: حفظ القرآن ........................................ 850 الخامس: سهولة حفظ القرآن ............................... 850 السادس: استمرارية كتابة القرآن ............................ 851 السابع: عدم وقوف الباطل أمام القرآن ...................... 851 أربعة تنبؤات عن الإسلام .................................. 851 الأول: غلبة هدي الإسلام مع كره الكفار .................... 851 جنوب الجزيرة العربية والنصرانية ........................... 851 الجزيرة العربية واليهودية ................................... 852 شرق الجزيرة العربية والمجوسية ............................ 852 وسط جزيرة العرب والوثنية ................................ 852 أديان أخرى .............................................. 852 الثاني: إتمامه وإكماله .................................... 852 موسى لم يدخل في أرض الميعاد ......................... 852 داود لم يتمكن من بناء بيت الله .......................... 853 جهد المسيح وانتقاص تعليمه ............................. 853 الثالث: ازدياد قوة الإسلام وانتشاره ........................ 853

انتشار الإسلام أثناء إقامة النبي (ص) بمكة ......................... 855 انتشاره أيام إقامته بالمدينة ........................................... 855 انتشاره في عهد الصديق ............................................. 855 انتشاره في عهد الخلافة الراشدة ....................................... 855 إسلام المغول ........................................................ 856 فلسفة اليونان وأوهام الهنادكة ......................................... 856 السياسة الأوربية والفلسفة الجديدة ..................................... 856 نهضة الإسلام في العهد الحالي ...................................... 856 الرابع: تقدم الإسلام بأدلته الحقة ...................................... 856 تنبؤ عن غلبة المسلمين .............................................. 857 تنبؤ عن خلافة الأرض ............................................... 858 تنبؤ عن حالة المؤمنين في الدنيا ...................................... 858 ثلاثة تنبؤات عن المهاجرين ........................................... 859 تنبؤ عن غنى المسلمين ............................................... 859 تنبؤ عن انعدام الوثنية ................................................ 860 تنبؤ عن المهاجرين المظلومين ومصيرهم .............................. 860 تنبؤ عن تقدم الصحابة ببطء وبالتدرج ................................. 861 تنبؤ عن زيد بن حارثة ................................................ 862 تنبؤ عن إسلام الأمم الأخرى .......................................... 862 تنبؤات عن المؤمنين .................................................. 863 تنبؤ سابق عن فتنة تقع بين مخاطبي القرآن الأوائل .................... 867 تنبؤ ضد مستهزئي مكة ............................................... 867 تنبؤ عن مودة رؤساء قريش ........................................... 869 تنبؤ عن منع كفار مكة من دخول الكعبة .............................. 871 تنبؤات عن كفار العرب بصفة عامة .................................. 871

تنبؤان عن أهل مكة ............................................................. 872 تنبؤ عن أبي لهب ............................................................... 873 تنبؤ عن امرأة أبي لهب .......................................................... 874 تنبؤات عن المنافقين ............................................................. 874 تنبؤان عن المتخلفين عن الجهاد .................................................. 876 ثلاثة تنبؤات عن بعض الغزوات النبوية الخاصة .................................. 878 تنبؤ عن غزوة بدر ............................................................... 878 تنبؤ عن غزوة خيبر .............................................................. 878 تنبؤ عن غزوة الأحزاب ........................................................... 880 تنبؤ عن عهود اليهود والمنافقين ................................................... 880 أخبار عن كفر اليهود وإسلام قوم لن يكفروا أبدا .................................... 881 تنبؤ عن الارتداد وعن زيادة عدد المسلمين ......................................... 882 تسعة تنبؤات عن اليهود ........................................................... 884 تنبؤ عن تباغض اليهود ........................................................... 886 ثلاثة تنبؤات عن النصارى ......................................................... 886 الأول: عن ثروتهم ................................................................. 886 الثاني: عن المعاداة بين فرق النصارى .............................................. 887 الثالث: عن مودة النصارى للمسلمين وعداء المشركين واليهود لهم .................... 887 تنبؤ عن الروم والفرس وقريش والمؤمنين ............................................ 888 فصل .............................................................................. 889 الباب السادس عشر خصائص الإسلام .............................................. 891 الفصل الأول: الإسلام دين التوحيد .................................................. 891 الفصل الثاني: الإسلام دين الروحانية ................................................ 896 العبودية ............................................................................ 897 الفناء والبقاء ........................................................................ 898

الفصل الثالث: الإسلام معلم الأخلاق الحميدة ..................................... 902 الفصل الرابع: حل الإسلام مشكلة العدل والرحمة .................................. 908 الفصل الخامس: الإسلام هو حامي العلم والعلماء ................................. 910 الفصل السادس: الإسلام دين العمل .............................................. 917 أصول الإرث والمواريث .......................................................... 918 الفصل السابع: الإسلام مؤسس الأخوة ............................................ 922 مؤاخاة مكة ...................................................................... 922 مؤاخاة المدينة ................................................................... 923 أثر المؤاخاة ..................................................................... 924 ذكر المؤاخاة في القرآن .......................................................... 925 الفصل الثامن: الإسلام رفع مكانة الإنسان ....................................... 929 الفصل التاسع: الإسلام دين التسامح ............................................ 932 الفصل العاشر: الإسلام دين المحبة ............................................. 938 الفصل الحادي عشر: الإسلام مؤسس المساواة ................................... 944 الفصل الثاني عشر: الإسلام أشرك الرعية في الحكم (الشورى) .................... 949 الفصل الثالث عشر: الإسلام فوق القومية ........................................ 951 الفصل الرابع عشر: الإسلام باق في مهده حتى اليوم ............................. 953 الفصل الخامس عشر: الإسلام دين المدنية ...................................... 955 حقوق النساء ................................................................... 956 حقوق الأطفال ................................................................. 956 حقوق الوالدين ................................................................. 956 حقوق الدولة ................................................................... 956 مجال التعاون .................................................................. 956 مجال عدم التعاون ............................................................. 956 الأمر بإيفاء العهود ............................................................. 956

التزام العدل في حالة العداء الوطني .............................................. 956 الأمر بالحياذ فيما بين الذمي المعاهد وبين المسلم غير المعاهد .................... 956 ذم الفساد ....................................................................... 957 علامة الخلافة الراشدة ........................................................... 957 الأمر بأداء الحقوق ............................................................. 957 فرض شهادة الصدق ............................................................ 957 تحريم إخفاء الشهادة ............................................................ 957 الفصل السادس عشر: الإسلام هو الدين النافع .................................. 959 الفصل السابع عشر: الإسلام عمم الهداية الإلهية للعالم كله ...................... 963 الفصل الثامن عشر: الإسلام دين البر .......................................... 967 الفصل التاسع عشر: الإسلام دين التقوى ....................................... 969 الفصل العشرون: الإسلام دين الصدق .......................................... 972 الفصل الحادي والعشرون: الإسلام دين الحسن والجمال .......................... 974 الجمال البشري ................................................................. 974 المظهر الحسن ................................................................. 974 صفات الزوجة ................................................................. 974 جمال المواشي والأنعام ......................................................... 975 في حيوان الركوب زينة ........................................................ 975 الزينة في سائر الأشياء الأرضية ............................................... 975 جمال كل شيء في خلقه ...................................................... 976 المراجع والمصادر ............................................................. 977 فهرس الموضوعات ............................................................ 979

§1/1