رحلة بنيامين التطيلى

بنيامين التطيلي

أولا رحلة بنيامين التطيلى، دراسة وتعليقات

رحلة بنيامين التطيلى دراسة وتعليقات د. عبد الرحمن الشيخ بدأ بنيامين التطيلى رحلته التي نحن بصددها في حدود سنة 1165 م الموافقة لسنة 561 هـ أو قرابة سنة 4926 من بدء الخليقة حسب التقويم العبري. وهذا يعني أنه حين بدأ رحلته خارجا من سرقسطه (سراكوزه) لم تكن سرقسطه تحت الحكم الإسلامي، فقد كان قد مضى- وقت خروجه منها- خمسون عاما على سقوطها في أيدي القوى المسيحية. وإذا كان بنيامين يهدف في الأساس إلى زيارة العالم الإسلامي زيارة تعرّف ومعرفة- كما ذكر المترجم الأستاذ عزرا حدّاد في مقدمته- باعتبار العالم الإسلامي- وهذا صحيح- كان هو الملجأ والملاذ ليهود شبه جزيرة أيبيريا* الذين كانوا يشهدون أيّاما سودا في كل منطقة ينتهي فيها الحكم الإسلامي، وباعتبار العالم الإسلامي هو الملجأ والملاذ ليهود سائر أوربا في العصور الوسطى الذين كان الأوربيون يعاملونهم معاملة دونها بكثير معاملة الأنعام، وينظرون إليهم نظرة ملؤها الكراهية والاحتقار. لكن إذا كان التعرّف على العالم الإسلامي هو هدفه، فلماذا لم يتجه جنوبا ليجول في شبه الجزيرة الأيبيرية؟ ولماذا لم يعبر بحر الزقاق (مضيق جبل طارق) ليصل إلى طنجة أو سبتة ثم يتخذ طريقه عبر المغرب العربي إلى مصر فسائر أنحاء العالم الإسلامي؟ ألم يكن هذا الطريق يبدو منطقيا أكثر من اتجاهه

شمالا فشمالا بشرق ثم اتجاهه إلى إيطاليا فالدولة البيزنطية، ليهبط بعد ذلك جنوبا إلى سائر بلاد العالم الإسلامي التي زارها أو قال إنه زارها، ثم يتجه إلى الصين ليعود إلى شواطئ الهند فسواحل شبه الجزيرة العربية ثم يعبر البحر الأحمر ليصل إلى أسوان ويستمر هابطا مع نهر النيل ليصل إلى القاهرة والفسطاط ويزور صحراء شبه جزيرة سيناء ثم يعود إلى قوص في صعيد مصر ثم يرجع الفسطاط ثم يصل بطريق ما إلى الإسكندرية ومنها إلى صقلية. لماذا هذا الطريق الذي لا يبدو أنه الأسهل؟ ثم لماذا تردده أكثر من مرة على مواضع بعينها في مصر التي قطعها من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال أكثر من مرّة؟ إن لدينا إجابة واضحة لتخلّى بنيامين عن الاتجاه جنوبا داخل شبه جزيرة أيبيريا. فقد أجمع كلّ المؤرخين الأوربيين واليهود أنّ حضن الحكومات الإسلامية كان هو الحضن الوحيد الذي لا يأمن اليهود لحضن سواه طوال العصور الوسطى، وطوال قرنين في التاريخ الحديث (بعد سقوط غرناطة) ، وكان الحكم الإسلامي يتراجع في شبه الجزيرة الأيبيرية تراجعا واضحا منذ القرن الحادى عشر للميلاد، وحتى لا تطول هذه الدراسة أكثز مما هو مقدّر لها نكتفي بتتبع الحال في الأندلس منذ قيام دولة الموحدين إلى قيام مملكة غرناطة (552- 630 هـ/ 1157- 1232 م) لأنّ بدايات هذه الفترة تسبق بقليل رحلة بنيامين كما أن نهايتها تتأخر بقليل بعد نهاية رحلته. وقد اعتمدنا في كثير مما نقدمه بهذا الصدد على أطلس تاريخ الإسلام لحسين مؤنس وإن

كانت الكتابات في هذا الموضوع كثيرة. بعد وفاة خليفة الموحدين الرابع محمد الناصر تصدّعت قوى الدولة الموحّديّة أو دولة الموحّدين- وهى الدولة التى خلفت دولة المرابطين في حكم المغرب والأندلس- وكان سبب هذا التصدّع هو الصّراع الذي نشب حول الخلافة، وذلك لأن الخليفة الموحّدي الخامس وهو المستنصر عيّن أخاه أبا العلا إدريس المأمون على الأندلس، وكان أبو العلا المأمون قصير النظر إذ إنّه عندما وجد أخاه أبا عبد الله محمد والي مرسّيّه يعبر إلى المغرب ويطالب بالخلافة ويتلقّب بالعادل، سارع هو بدوره وجمع قواته وأعلن نفسه خليفة وتلقّب بالمأمون قرابة سنة 633 هـ/ 1236 م وعبر إلى المغرب تاركا الأندلس دون غطاء عسكري مما فتح الباب واسعا أمام تقدّم ممالك أسبانيا النصرانية. والواقع أنّ اهتزاز الحكم الإسلامي وبداية انحساره في الأندلس كان قد بدأ حتى منذ أيام المرابطين أو قبل ذلك، فقد كانت مملكة قشتالة وليون النصرانية قد تطوّرت من مجرّد وحدة سياسية متنافسة مع غيرها من الوحدات إلى أكبر دولة في شبه جزيرة أيبيريا، نتيجة استيلائها على إمارة طليطلة، فتضاعف ثراؤها وقوتها، وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى أرجون التي لم تكن في بدايتها سوى دويلة صغيرة من الدويلات المسيحية في الركن الشمالي الغربي من شبه الجزيرة، فأصبحت مملكة كبيرة غنية بعد استيلائها على سرقسطة وضمّها بلاد الثغر الأعلى الأندلسي إلى أراضيها، وتم ذلك في سنة 512 هـ/ 1118 م أى أيام المرابطين، وكان القائم بهذا الجهد العسكري الكبير هو

ألفونسو المحارب Alfonso I Battalador وقد سقطت سرقسطة دون حرب بسبب صراع أسرة بنى هود الحاكمة. وقد دخل الموحّدون الأندلس في أواخر سنة 555 هـ/ 1160 م كما أسلفنا، ولاقوا معارضة من بعض قبائل الأندلس من بقايا المرابطين (بنى غانية) ورغم أنّ التاريخ شهد لهم بانتصارات عظيمة (كمعركة الأرك المشهورة،Alorocos) إلّا أن الخطّ العام للوجود الموحّدى في الأندلس كان مائلا للانحدار. ما كان بنيامين التطيلى اليهودي ليسلك هذا الطريق الجنوبي المضطرب. لكن أكان بنيامين يتوقع أن يسود الوجود الإسلامي في شرق أوربا أو في الممتلكات البيزنطية في أوربا عامة، فاتخذ- لهذا- الطريق الشمالي؟ ربما، خاصة وأن هذا الوجود أو هذا الامتداد الإسلامي في الأناضول وشرق أوربا كان متزامنا مع التراجع الإسلامي في شبه جزيرة أيبيريا بطريقة تدعو للدهشة والتأمّل، فمنذ أواخر القرن الحادي عشر للميلاد كان الوجود الإسلامي في تقهقر واضح في شبه جزيرة أيبيريا، ففي سنة 1085 سقطت طليطلة، وفي الفترة نفسها تقريبا كان ألب أرسلان السلجوقي (1063- 1072) يطرد البيزنطيين من معظم آسيا الصغرى، وطوال هذه الفترة وما بعدها كان الأتراك يهاجرون غربا إلى آسيا الصغرى بالذات متتبعين خطى السلاجقة، أبناء عمومتهم، ومن الطرف الآخر للعالم الإسلامي سقطت قرطبة في سنة 1236 ثم استمر الزحف المسيحي فسقطت إشبيلية في سنة 1248. لقد بدا الإسلام في أيبيريا أو الطرف الغربي للعالم الإسلامي مضعضعا

على وشك الانهيار. وفي سنة 1453 سقطت القسطنطينية في يد المسلمين الأتراك، ففزعت أوربا كلها واستدارت تاركة الانتصارات المسيحية في أيبيريا. إن الإسلام من هذا الباب القسطنطيني أصبح أقرب لأوربا من حبل الوريد. ففي الفترة التي قام فيها بنيامين برحلته كانت بشائر المد الإسلامي في الأناضول وشرق أوربا قد هلّت ولم يكن سقوط القسطنطينية هو بداية هذا المد. ليس مستبعدا إذن أن يكون هذا الوجود الإسلامي الفعلي أو المرتقب هو دافع بنيامين لاتخاذ هذا الطريق الشمالي.. إنه البحث عن الحضن الإسلامي، وحتى لا تبدو هذه الأقوال من قبيل المبالغة نفضّل هنا الرجوع إلى مراجع كتبها يهود فالأستاذ عزرا حداد يذكر لنا بعد الرجوع للموسوعة اليهودية jewish Encyclopaedia في طبعتها الصادرة سنة 1902 وغيرها من المصادر أن اليهود في سرقسطة زاد عددهم في ظل الحكم الإسلامي وازدهرت أحوالهم وكثرت معابدهم، وبعد خروج المسلمين منها (أى سرقسطة) شهدوا أياما سودا وبلغت مأساتهم فيها الذروة في سنة 1391، وكانت سرقسطة- كما هو معروف- قد خرجت من أيدي المسلمين في سنة 1118 م (512 هـ) لم تكن بلدة بنيامين (تطيلة (Tudela ولا سرقسطة التي بدأ منها رحلته ضمن نطاق الأندلس أو أسبانيا المسلمة يوم خرج منها بادئا رحلته التي نظن أن هدفها هو تقديم تقرير للمسئولين الدينيين اليهود في شبه جزيرة أيبيريا لتوضيح الأماكن التي يمكن أن يلجأ اليهود إليها هروبا من الاضطهاد المسيحي. وهذا ما سيتضح في أكثر من سياق في

هذه الدراسة لقد كان اليهود من بين العناصر التي رحّبت بالفتح الإسلامي للأندلس بل ومدّوا له يد العون، لذا فقد ظلّ مسيحيو الأندلس يعادونهم عداء مريرا، بل إن هناك من الدراسات ما يؤكد أنّ السلطات المسيحية بعد سقوط غرناطة- وطوال قرن ونيف- كانت لا تتهاون في إخراج اليهود بالذات ولم تكن تقبل منهم حتى التحوّل إلى النصرانية، أما على المستوى الشعبي فقد كان شعب إسبانيا غير راض عن طرد المسلمين لأنهم كانوا يمثلون طاقة عاملة لها شأنها بل كانت الأسر النصرانية تخبئ المسلمين مما جعل السلطات المسيحية مضطرة لجلب جنود من أوربا من خارج إسبانيا للمعاونة في التفتيش على المسلمين وطردهم. نعلم أن هذه الفترة خارج نطاق الفترة الزمنية التي قام فيها بنيامين برحلته، لكن منهجنا في كتابة التاريخ أو بالأحرى فهمه لا يكتفى بالرجوع للوثائق والمصادر الروائية، وإنما بالإضافة إلى ذلك يستعين بالأحداث التاريخية التى وقعت بعد الفترة التي نؤرّخ لها، ويستعين باللغة المتداولة الآن، والوقائع الجارية الآن، والمعاني المبثوثة الآن لتفسير وقائع مضت، فحوادث التاريخ سيل مستمر، وتقسيمها إلى قديم ووسيط وحديث من فعل البشر لا من فعل طبيعة الأحداث.. وكان هذا التقسيم لأسباب عمليّة لا لأسباب علمية خالصة أو لأسباب فلسفية محضة. لكن لا بد على أي حال من وضع بعض المحاذير على هذا المنهج حتى لا تختلط الأمور. لذا فإننا نجتزئ بعض الصفحات من مبحث يتناول موقف أهل شبه

جزيرة أيبيريا من كلّ من المسلمين واليهود، بعد سقوط غرناطة، ولا ننفي أنّ تكون المشاعر ذاتها كانت موجودة في أوقات سبقت: «لا يتناول هذا البحث أفكارا ... عن موقف الإسبان من المسلمين عقب سقوط غرناطه وطوال القرن السادس عشر وحتى أخرجوا من ديارهم نهائيا في مطلع القرن 17. وتثبت هذه الدراسة من خلال وثائق منشورة. أن عامة الناس وأصحاب الأراضي والمصانع خاصة لم يؤيدوا إخراج المسلمين لما في ذلك من أضرار اقتصادية ستحيق بالبلاد، وهذا ما أثبته التاريخ بعد ذلك. لم يكن إخراج المسلمين عقب سقوط غرناطة- إذا- مطلبا شعبيا وإنما مطلب كنسي عارضه العامة، وعارضه حكام الولايات ... فقد كان عداء الإسبان لغير المسيحيين منصبا في الأساس على اليهود لأسباب دينية وعرقية واقتصادية والذين أجبروا على الخروج ولم يقبل منهم حتى التحول للمسيحية هم اليهود وليس المسلمين الذين ترك لهم في البداية حرية الاختيار بين الإقامة والرحيل ثم ما لبث الكنسيون أن فرضوا رأيهم فأصبح الخيار محصورا بين الرحيل أو قبول التعميد، وفي مطلع القرن 17 أجبروا جميعا على الرحيل» .

كما لم يطل بنيامين المكوث في الأرض الأيبيرية التي فيها درج وشبّ، نجده لم يطل أيضا في الأرض الفرنسية التي كانت تشهد حقبة الملكية الإقطاعية إذ استطاع ملوك كابيه في فرنسا في الفترة من 1100 إلى 1223 أن يجعلوا من أنفسهم ملوكا إقطاعيين، وكان ملوك أسرة كابيه يعتبرون أنفسهم- وهم بالفعل كذلك- خلفاء لشارلمان (الأسرة الكارولنجية التي خلفت الأسرة الميروفنجية) على مملكة الفرنجة الغربيين (الفرنجة الشرقيون كونوا فيما بعد الإمبراطورية الرومانية المقدسة) لكنّهم في البداية كانوا ملوكا ضعافا، ولم يكن الكونتات (المفرد: كونت) موظفين عندهم بل كانوا سادة أقوياء وخرج من أيدى الملوك ما كان للكارولنجيين من أراض خاصّة، ولم يبق للملك سوى الهيبة التي بسطتها عليه الكنيسة الكاثوليكية في روما، وساعدت الكنيسة أسرة كابيه في تسلسل وراثة العرش بأن جعلت من حق الملك أن يتوّج أكبر أبنائه ملكا في أثناء حياته. وعلى أية حال لم يكن ملوك أسرة كابيه من القوة بحيث يثيرون مخاوف السّادة الإقطاعيّين. لكن منذ فيليب الأول (1060- 1108) أدرك الملوك الفرنسيون أنّه ليس بمباركة الكنيسة ووراثة العرش وحدهما يكونون ملوكا أقوياء وإنما بالرجال والمال (الضّياع) ومن هنا بدأ نمو الملكية الإقطاعية. تلك هى الظروف التاريخية التي كانت عليها فرنسا عندما زار بنيامين أربونة وبيزيه Bezier ومونبلييه Monrpellier ولونل Lunel وبوسكيار Posquieres ونوغرس sr.Giles وآرل Arles ومرسيليا

Marseilles وكلها جنوب شرق فرنسا أو في أطرافها مما يشير إلى أنها كانت مجرّد منطقة عبور ولا تزيد تعليقات بنيامين على هذه المدن عن ذكر عدد اليهود بها- كما هو الحال في غالب تعليقاته. ومن مرسيليا اتّجه بنيامين بحرا إلى شبه الجزيرة الإيطالية، وأبدى*

كثيرا من الملاحظات المفيدة والتي لا يمكن فهمها وتذوقها إلا بتتبع أصولها التاريخية في الأحداث السابقة عليها، وتتبع دلالاتها الأنثروبولوجية في الأحداث التي تلتها، وعادات الشعوب وتوجهاتها حتى في هذا التاريخ المعاصر. ونبدأ الآن بوضع شبه الجزيرة الإيطالية «1» . لم يكن فريدريك بارباروسا واقعيا في نظرته لحدود حكمه المركزي، فقد أرسل في أواخر أيامه إلى صلاح الدين الأيوبي يقول: «أتزعم أنّك لا تعرف أنّ أثيوبيا وموريتانيا وفارس وسوريا وبارتيا ويهوذا والسامرة وبلاد العرب وكلديا ومصر ذاتها، أتدعي أنّك لا تعرف أنّ أرمينية ذاتها وأن عددا لا حصر له من البلاد، خضعت لسلطاننا ... » وهذه الفقرات تفسر دعاويه في إيطاليا إذ طالب بأن تكون له من الحقوق ما كان للإمبراطور الروماني الحقيقي ... لقد أراد أن يعود إلى الزّمن الغابر ليبعث أمجاد الإمبراطورية القديمة، لكنّ الظروف كانت قد تغيّرت والإمكانات لم تكن تساعد، فأثار بذلك عداوة القوى الثلاث الكبرى في إيطاليا في القرن الثاني عشر وهي النورمان والبابويه والكيانات اللومباردية، (وفي ظل إيطاليا التي تحكمها هذه القوى كانت رحلة بنيامين لإيطاليا)

شبه الجزيرة الإيطالية في أيام رحلة بنيامين لم يكن يربطها بالإمبراطورية الرومانية المقدسة سوى رباط شكلى، فكان كل كيان من كياناتها يعمل لحسابه.

« ... وفشل فريدريك في تحقيق خططه، ومع أنّه استولى على روما في سنة 1167 فإنّ معظم أوربا لم تقبل البابا الذي نصّبه.. ولم يعد بوسعه الاستيلاء على صقلية النور مندية كما أنّ البابا اسكندر الثالث نجح في حمل القومونات اللومبارديّة على أن تنبذ العداوات الإقطاعية وأن تتحد من أجل حريتها، وفي سنة 1167 تألف حلف من ست عشرة مدينة منها فيرونا وبدوا والبندقية فضلا عن المدن اللّومباردية- وعرف هذا الحلف بالعصبة اللّومباردية Societas Lombardia وكان يهدف إلى الاحتفاظ بحرية القومونات. غير أنّه لم يشأ أنّ يدمّر نهائيا سلطة الإمبراطور. وفي سنة 1167 حلّت الهزيمة العسكرية بالإمبراطور في مواجهة اللّمبارديين، فصالح البابا اسكندر الثالث والنورمان واللمبارديين وتخلّى عن كلّ دعاويه في إيطاليا. كان البابا الذي حدّثنا عنه بنيامين في رحلته هذه هو البابا اسكندر الثالث المستقل عن الإمبراطور والمختلف معه، بل والذي خاض الحرب ضدّه. إلى هنا نكتفي بالعرض التاريخي البسيط لتوضيح دلالات الرحلة ولنستطرد بعد ذلك في معان أعمق. أوّل ما يستوقفنا قلّة عدد اليهود في المدن الإيطالية من ناحية، والتزامه بذكر عددهم في كل مدينة وهو مالم يفعله عند حديثه عن شبه جزيرة أيبيريا وجنوب شرق فرنسا، فلم يكن في جنوة إلّا يهوديان، ولعلّهما كانا متخفّيين أي لم يعلنا هويتهما اليهودية. وعرض المعلومات هنا بصورة جدولية يجعلها أكثر وضوحا ويساعدنا على مزيد من الاستنتاجات:

مسلسل- المدينة- عدد اليهود 1- جنوة 2 2- بيزة 20 3- لوكه -4 40 Lucca روما 200 5- كابوه 7 6- فوزولى -7 (؟) Pouzzuoli نابل -8 500 Neapolis سلرن 600 9- أمالفى 20 10- بنفنتو 200 11- مالفى 200 12- أشقولى -13 400 Ascoli ترانى -14 200 Trani نيقولاس دى بارى- 15- طارنت -16 500 Taranto برنديزى 10 17- أوطرنت -18 500 Otranto جزيرة قرفو) corfu رغم وقوعها قبالة الساحل اليوناني إلا أنها من ممتلكات البندقية 1 الإجمالي 3399

خط سير بنيامين في شبه الجزيرة الإيطالية

وبطبيعة الحال ليس هذا كل ما في شبه الجزيرة الإيطالية من يهود، وإنما في المدن التي زارها فقط. ويلاحظ على هذه الأرقام أنّ عدد اليهود يزداد كلما اتجهنا جنوبا أي أنه ينقص كلما اتجهنا شمالا، وتفسير ذلك أنّ كثيرا من مناطق الشمال الإيطالي كانت قد حرّمت على اليهود الإقامة فيها في فترات سابقة، ولم تكن ترحب بإقامتهم في كلّ الأحوال، ولعلّ جنوة خير مثال على ذلك فقد حظرت فيها إقامة اليهود- على ما يظهر- في بداية القرن الحادي عشر للميلاد فيما يذكر الأستاذ عزرا حداد مترجم الكتاب. كما أنّ الخروج من شبه الجزيرة الإيطالية هربا إلى أي مكان آخر كان أسهل من ناحية الجنوب الإيطالي، والأهم أن جنوب إيطاليا أقرب إلى العالم الإسلامي الذي هو الملجأ والملاذ ليهود أوربا عند الضرورة، في العصور الوسطى، وفي العصر الحديث بدءا من سقوط غرناطة وبعد قيام الدولة العثمانية على نحو خاص «1» ملحوظة ثانية وهي أنّ مترجم الكتاب (عزرا حدّاد) أوضح في تعليقاته أنّ العرف جرى أن يحصي الباحثون والمؤرخون اليهود عددهم بالبيت أو الأسرة لا بعدد الأفراد، فلا يحصى في هذه الحال إلّا رب الأسرة فقط، ومعنى هذا أن عدد اليهود- حتّى لو لمّ يكونوا موجودين إلا في المدن الواردة آنفا- أكثر بكثير من رقم 3200 خاصة

إذا علمنا أنّ زيادة الإنجاب هى توجّه يهودي كما كان في وقت من الأوقات توجها إسلاميا، مع فارق غير كبير في العوامل الكامنة خلف هذا التوجّه، ففي حالة المسلمين تروى أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث على التناكح لأنّه يؤدي إلى التناسل، مما يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يباهي بالمسلمين الأمم يوم القيامة، وبصرف النظر عن إساءة التفسير فقد ظل هذا بالإضافة لطبيعة الاقتصاد الزراعي قبل الميكنة عاملا موجها، أما في حالة اليهود فقد كان إحساسهم بقلة عددهم وأنهم شعب مختار دافعا لهم للتناكح والتناسل، لكنه لم يؤت النتيجة المرجوّة ربما بسبب التزاوج الداخلي أي داخل الجماعة العرقية الواحدة، لكثرة الخلافات العقائدية بين اليهود مما يجعل كل جماعة لا تعترف بالزواج الشرعي أو التلمودي من كثير من الجماعات أو الأعراق اليهودية الأخرى، مما جعل أحد الباحثين اليهود يتوقّع انشقاقا عرقيا أو قيام مجتمعين منفصلين داخل كيان إسرائيل بسبب نظم الزواج «1» والملحوظة الثالثة هي أنه ربما كانت هذه الأرقام التي ذكرها بنيامين غير حقيقية أو أنها مكوّدة؟ أو مشفرة بحيث لا يفهمها إلا اليهود، ذلك أن كتابه هذا لا يمكن أن يدخل في أدب الرحلات بمعناه المتعارف عليه، فالرجل كما سبق القوّل لا يرى في المناطق التى زارها إلا اليهود، ولم يسجّل تقريبا إلا أعدادهم وما

ذكره من أشخاصهم لم يترجم لهم وإنما ذكر أسماءهم ومهنهم ومناصبهم في سلك الكهنوت اليهودي على الأكثر، وكأنّ لسان حاله يقول: من أراد مزيدا من المعلومات فعليه الاتصال بفلان في بلدة كذا.. إنّ كتابه هذا بمثابة دليل تعارف بين يهود العالم، إذا حان وقت الهجرة أو الرّحيل. ملحوظة أخرى تفسر تفاوت أعداد اليهود في مدن شبه الجزيرة الإيطالية وهى أنّها لم تكن كيانا سياسيا واحدا كما سبق أن أشرنا، وربما كان اختلاف مواقف الحكومات في شبه الجزيرة وراء هذا التباين، ولم يكن أهل جنوة وكل المدن التجارية يرتاحون لليهود لأسباب أخرى غير دينية، كما كان أهل أسبانيا في أثناء فترة تقدمهم لا ينظرون لأهل المدن الإيطالية، والجنوبيين منهم خاصة نظرة ارتياح، وإذا كنّا قد تعرضنا في فقرة سابقة إلى أنّ إخراج المسلمين من الأندلس، لم يكن عملا مرغوبا على المستوى الشعبي؛ وإنما كان توجها سياسيا حكوميا أيدته كنيسة روما الكاثوليكية- بعكس الحال بالنسبة إلى اليهود الذين لم يقبل الإسبان- حكومة وشعبا- منهم إلا الرّحيل، فإن أهل جنوة كانوا ينافسون اليهود في الكراهية التي حظوا بها عند أهل شبه جزيرة أيبيريا لاشتغالهم بأعمال السمسرة والصرافة وهي أمور لم يكن الإسبان- وغالبهم فلاحون- يفهمون فيها، ولسبب آخر يضيفه بنيامين التطيلى نعرفه لأول مرة منه، وهو أنّ أهل جنوة كانوا يعملون في هذا الوقت الباكر (الثاني عشر للميلاد، وقبل ذلك) بالقرصنة ولم يكونوا ليميزوا بين سفن المسيحيين والمسلمين،

وإنما كان رجالهم يهاجمون كلّ ما كان يتاح أمامهم. يقول بنيامين: «والجنويون مسيطرون على البحار، يجوبونها بسفنهم الخاصّة المسمّاة غاليش Galleys ويقومون بأعمال القرصنة على الروم والمسلمين، فيعودون إلى جنوة بالأسلاب والغنائم الوفيرة» وليس أدلّ على أن التاريخ لا يموت من أنّ هذه الفكرة عن أهل جنوة لا زالت كامنة في الضمير الأسباني حتى الآن- فكرة التاجر الجشع الذي هو على استعداد لأن يبيع العالم لا تمنعه قيمة دينية ولا وازع رحمة، وهي فكرة لا تختلف كثيرا عن الفكرة التي شاعت في وقت من الأوقات في تراث الشعوب وآدابها عن اليهوديّ الصراف المرابي- وإن كانت هذه الفكرة بدأت تتلاشى مع زيادة احتكاك الشعوب والثقافات. ولم تكن هذه الفكرة قاصرة على جنوة دون غيرها من المدن التجارية الإيطالية، وإنما كانت شائعة بالنسبة للبندقية أيضا، لكننا نركّز على جنوة لأنها كانت هى الأقرب لشبه جزيرة أيبيريا (بلد بنيامين التطيلى) لذا فقد كان توجّههم التجاري والمالي نحو شبه جزيرة أيبيريا، بينما كان للبنادقة ميادين أخرى ربّما كانت أوسع. ولأنّ توجهات الشعوب- بصرف النظر عن السياسات الرسمية- تعد من المسائل الأساسية للتفسير الأنثروبولوجي للتاريخ، نفضّل هنا إيراد فقرات من البحث الآنف ذكره، خاصّة أنّ بنيامين لم يجد في جزيرة كورفو Corfo التابعة للبندقية إلا يهوديا واحدا. « ... كانت حركة جهاد البحر والحروب العثمانية في البحر المتوسط أحد العوامل الرئيسية التي وجهت أهل جنوة للعمل على استثمار

أموالهم في إسبانيا والبرتغال، وكان لهذا نتائج خطيرة في كل من جنوة والبرتغال وإسبانيا ... ولم تكن جنوة- وكذلك البندقية- تقيم وزنا للمسائل العقائدية، فالمال والمال وحده هو المحرّك لهم في توجهاتهم السياسية بل والعسكرية. لقد تعاونوا مع المسلمين والمسيحيين على سواء، وقدموا العون للعثمانيين والأوربيين على سواء، مما دفع البابا بيوس الثاني في القرن الخامس عشر لأن يصف كل بندقي، وكل جنوي بأنه عبد للاستعمار التجاري «الوسخ sordid «وذلك على حد تعبير البابا. وقد عانى أهل إسبانيا بالذات من تجار وصيارفة جنوة، فقد كانوا- أي أهل إسبانيا- فلا حين لا يتقنون ألاعيب الصيارفة. ألا يفسر هذا ما علّق به بنيامين على حال أهل جنوة رغم قلة تعليقاته في كتابه هذا الذي يعدّ بمثابة تقرير عن يهود العالم في عصره (القرن الثاني عشر للميلاد) ، ورغم أنّ تعليقه صحيح من الناحية التاريخية إلا أنه (أي بنيامين) لم يكن هكذا في كل المواقف حريصا على التعليق، ربما كان هذا ليؤكد المثل القائل (عدوّك ابن كارك) . أما عن اليهود في روما- عقر دار المسيحية- فلم يكن اليهود ليتخلوا عن موقعهم فيها، فمنهم دائما نفر في موقع كل سلطة كبرى لا يتخلون عنه إلا إذا أجبروا على ذلك، فحول بعض الخلفاء العباسيين وجدناهم، وحول معظم الخلفاء الفاطميين وجدناهم، وفي بلاط الباباوية لابد أن نجدهم، وما كان هذا ليروق للمجامع الكنسيّة غالبا، لكنّ المصالح غالبا ما تغلب فقد كان يحيئيل سليمان اليهودي مستشارا للبابا اسكندر الثالث (نص

كلمات عزرا حداد: وزيره) وكان منهم «شاب حسن المنظر على جانب من الذكاء وحصافة الرأى كثير التردد على قصر البابا بصفة كونه ناظر الأملاك الخاصة» وكان لليهود دور سياسى في روما إذ أيدوا البابا اسكندر الثالث رغم خلافه مع الإمبراطور، وعندما انتصر البابا وعاد من منفاه استقبله يهود روما حاملين أسفار التوراه! ويركز بنيامين على أنّ معظم يهود روما كانوا رابيين* وعلماء في التوراة والتلمود. أما الخرافات التي ردّدها بنيامين من حيث نسبة تأسيس مواضع بعينها ليهود أوائل، فقد فندها عزرا حداد بأسلوب علمي ما كنا لنقدر على مجاراته فيه لتنوع مصادره، ولأنّه ابن الدار وهو أدرى بمساربها وما فيها. أما السبب الأخير- ولعله الأهم- الذي جعل يهود شبه الجزيرة الإيطالية يتركزون وقت رحلة بنيامين في جنوب إيطاليا أكثر من تركزهم في شمالها. فهو في الواقع أن هذه المنطقة كانت قد كادت منذ وقت غير بعيد (القرنين العاشر والحادي عشر للميلاد) أن تصبح تحت حكم المسلمين، واليهود- كما سبق القول- كانوا يتتبعون المناطق التي يسودها الحكم الإسلامي للعيش في رحابه. كان ذلك طوال العصور الوسطى وشطر من التاريخ الحديث. وإذا كان اليهود قد ساعدوا المسلمين في فتح الأندلس، فإنهم لم يقفوا من مسلمي

صقلية موقف عداء، كما لم يكونوا مستائين من محاولات المسلمين فتح جنوب إيطاليا. ولم يتحالفوا مع الغزاة الصليبيين ضد العالم الإسلامي.. على كل حال لم يكد ينقضى القرن الحادي عشر حتى كان المسلمون قد خرجوا من صقليه، وبالتالي ضاع أملهم في الاستيلاء على جنوب إيطاليا، ذلك الأمل المفقود لهم ولليهود على سواء فكل الشواهد التاريخية تؤكد أن اليهود كانوا في هذه الفترة سيتخذون جانب المسلمين بشكل أو بآخر في أثناء صراعهم مع أوربا العصور الوسطى.

أولا رحلة بنيامين التطيلى، دراسة وتعليقات

بنيامين في الدولة البيزنطية: بعد أن غادر بنيامين كورفو -Corfu التابعة للبندقية رغم وقوعها على الساحل اليوناني- يكون قد دخل كيانا سياسيا كبيرا آخر. إنه الدولة البيزنطية ونبدأ الآن بإيراد أعداد اليهود في المدن والقرى البيزنطية من خلال جدول، لنتمكّن من الوصول إلى بعض النتائج: مسلسل المدينة والقرية عدد اليهود 1- أرته (قرية) 100 2- أخيلوس 10 3- أناطوليكه- 4- بتراس 50 5- ليبنتو 100 6- كريسه 200 7- قورنث 300 8- طيبة 2000 9- نفروبنت 200 10- يابشتريسة 100 11- رابنكه 100 12- شينون بوتامس 50 13- غرديكى 10 (؟) 14- أرميروس 400

15- بسينه 100 16- سلانيك 500 17- متريزي 20 18- درامه 140 19- كرستوبولس 20 20- أبيدوس- 21- القسطنطينية 1500 22- رودستو 400 23- غليوبولى 200 24- كالس 50 25- جزيرة مدلى 100 (؟) 26- جزيرة خيوس 400 27- جزيرة صاموس 300 28- جزيرة رودس 400 29- جزيرة فبرس 100 (؟) 30- فوريقوس- 31- ملمستراس---- الإجمالي 7850

وبطبيعة الحال فهذه الأرقام لا تمثل كل اليهود في الدولة البيزنطية وإنما في المدن التي زارها بنيامين فقط، ومع هذا فإنها لا تخلو من مؤشّرات نحاول استخلاصها فيما يلي: - في 31 مدينة وقرية بيزنطية وجد 7850 بينما وجدنا أن في 18 قرية ومدينة رومانية (في الإمبراطورية الرومانية المقدسة- إيطاليا بالتحديد) 3200 يهودي، ومعنى هذا أننا يمكن أن نستنتج مطمئنين أنّ يهود الدولة البيزنطية أكثر عددا من يهود الدولة الرومانية المقدّسة، فلو كانت النسبة واحدة لكان ينبغي أن يكون عدد يهود المدن البيزنطية 5511 أو أن يكون عدد يهود المدن الايطالية (التي زارها بنيامين) : 4558 فهل زيادة عدد اليهود في الدولة البيزنطية متمشية تمشيا طبيعيا مع زيادة عدد السكان فيها بشكل عام (فالدولة البيزنطية بشكل عام كانت أكثر سكانا من الممالك الإيطالية أو الجزء الجنوبي من الإمبراطورية الرومانية المقدسة) أم أن وراء هذه الزيادة أسبابا عقائدية كأن يكون اليهود أقل تعرضا للإهانة في رحاب الدولة البيزنطية؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل هناك أسباب عقائدية تكمن خلف ذلك؟ ولا يمكن بطبيعة الحال اعتبار المدن والقرى التي أوردها بنيامين سواء في شبه الجزيرة الإيطالية أم في الدولة البيزنطية عينة عشوائية، تتيح لنا رقما دقيقا أو قريبا من الدقة عن العدد الفعلي لليهود، ذلك أنه من الواضح أنّ بنيامين كان يتحرّى المناطق التى بها تجمعات يهودية، ولم يكن طريقة في رحلته هذه للعلم خالصا أو للسياحة خالصة.. فقد كان الرجل يتشمّم رائحة اليهود، وأينما اشتم ريحهم توجّه.

وهناك مؤشر آخر يؤكد أنّ تركز اليهود في الدولة البيزنطيّة كان أكثر من تركّزهم في الإمبراطورية الرومانية المقدسة ومقر الباباويه، ذلك أنّ عدد اليهود في القسطنطينية (العاصمة) كما أورد بنيامين هو 1500 بينما هو في روما 200 فقط، وإذا أضفنا لهذا أن يهود روما كانوا في غالبهم في خدمة البلاط الباباوى اتضح لنا أنّ الوجود الحر- إن صحّ التعبير- في القسطنطينية كان أكثر بكثير، فيهود القسطنطينية يعيشون في جيتو، ويمتهنون مختلف المهن. أما بالنسبة إلى حركة بنيامين في الدولة البيزنطية فيلاحظ أنه لم يتوغل في البر البيزنطي أو داخل البلاد وإنما كان دائما إما في الموانيء أو في جزر بحر إيجه وغيرها حتى وصل إلى القسطنطينية، ومنها عاد أيضا سالكا طريق بحر إيجة مارّا بجزره حتى قبرص ومنها عاد إلى طرسوس أو طرشيش (أو ترشيش) على شاطيء المتوسط ومنها اتجه إلى أنطاكيه على الشاطئ الغربي للمتوسط وبذلك يكون قد دخل في حدود دولة المسلمين- الدولة العباسية لكن المنطقة التي جابها كانت- للأسف- تحت حكم الاستعمار الأوربي الصليبي، ومنها انطلق إلى دمشق وغيرها من بلاد الشام التي كانت تحت حكم الأيوبيين ذوى الولاء الاسمي للدولة العباسيّة، وهو ما سنتناوله في الصفحات التالية. ****

تحليل بنيامين للأوضاع في الدولة البيزنطية:

تحليل بنيامين للأوضاع في الدولة البيزنطية: لم ينعم اليهود في ظل الدولة البيزنطية- بشكل عام- بمعاملة حسنة، وكانوا يصلون إليها من موانئ البحر المتوسط- خاصة الإسكندريّة- للتجارة، وفي أواخر القرن التاسع للميلاد أجبر الإمبراطور باسيلوس (باسيل الأول 867- 886 من الأسرة المقدونية) يهود القسطنطينية على التحوّل إلى المسيحية، وقتل عددا كبيرا منهم ممن رفض التحول، ولم يكن هذا قصرا على اليهود وإنما جرى في إطار خطة عامة اتبعها باسيل لنشر المسيحية في أرجاء إمبراطوريته. «وفي زمن باسيل جرت محاولات لنشر المسيحية بين الشعوب الوثنية كما جرت محاولات لتحويل المخالفين للمذهب الكاثوليكي إلى الكاثوليكية، والراجح أنه حدث في عهده أن حاولت الإمبراطورية البيزنطية أن تحوّل الروس إلى المسيحية، إذ يشير مصدر تاريخي إلى أنّ باسيل حثّ الروس على أن يقبلوا التنصير، وأن يقروا رئيس الأساقفة الذي سامه لهم (عيّنه لهم) أجناتيوس على أنه من العسير أن نقرر أية طائفة من الروس يشير إليها المصدر التاريخي، على أنه حدث أيضا في زمن باسيل الأول أن اعتنق المسيحية الجانب الأكبر من القبائل الصقلبية التي تنزل البيلوبونيز، وكذا الصقالبة الوثنيون الذين يقيمون بجبال تايجيتوس Taygetus واعتنق المسيحية أيضا في زمن باسيل الصقالبة الذين أقاموا في غرب شبه جزيرة البلقان،

فخضعوا بذلك لنفوذ بيزنطه وسلطانها، وألزم باسيل اليهود على اعتناق المسيحية» «1» من هذا النص الذي أورده المؤلف الباز العريني اعتمادا على Avasiliev في كتابه -The Byzantine Empire يتّضح أنّ الدعوة إلى المسيحية وفقا لسياسة باسيل الأول اتخذت شكل المفاوضات السياسية والتبشير الديني باستثناء اليهود، فهم الذين كما قال عزرا حداد في تعليقاته: كانوا أمام خيارين لا ثالث لهما إمّا اعتناق المسيحية وإما القتل. على أن الجدير بالملاحظة أن شدّة وطأة مسيحيي أوربا على اليهود كانت متزامنة مع توتر علاقاتهم أي علاقات مسيحيي أوربا مع المسلمين، وكانت الحملات الصليبية المتوجّهة إلى العالم الإسلامي على سبيل المثال، تذبح من تقابلهم من اليهود في طريقها، باعتبارهم مخالفين لهم في الدين. هذا جائز. وباعتبارهم حلفاء للمسلمين. هذا جائز ويكاد يكون مؤكّدا. باعتبارهم (أي اليهود) أقرب- عقائديا- إلى المسلمين. هذا أيضا جائز. ولأن التاريخ سيل مستمر بحاضره وماضيه ومستقبله، فليس خروجا عن المنهج التاريخي السليم أن ندلل على ذلك بأحداث لاحقة، فقد وجدنا أن أحد الرحالة الأوربيين في القرن السابع عشر للميلاد، يصف نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بأنّه من أهل السبت sabarhero يقصد أنه يهودي، كما كان

الحرب ضد المسلمين في الشرق:

يشير للمسلمين بأنهم من أهل السبت، وعندما هرب من الجزائر إلى تركيا كان أخشى ما يخشاه أن يموت هناك فيتم دفنه في مقابر أهل السبت، ويقصد المسلمين «1» . لا يمكننا إذن الفصل بين قتل اليهود في الدولة البيزنطية وإجبارهم على اعتناق المسيحية، وحروبها مع المسلمين في الشرق، وهو ما نفضل نقله من أحد المراجع المتخصصة في الدولة البيزنطية- أعنى مزامنة حروب باسيل مع اليهود من ناحية، وحروبه مع المسلمين من ناحية أخرى. الحرب ضد المسلمين في الشرق: الواقع أنه تهيأ لباسيل من الأحوال المواتية لقتال المسلمين مالم يتهيأ لإمبراطور قبله، فإلى جانب ما يربطه من علاقات سلمية مع جيرانه المسيحيين (أرمينيا، روسيا وبلغاريا، والبندقية والإمبراطورية الغربية) ، سادت الفتن الداخلية في أنحاء العالم الإسلامي، فازداد نفوذ الترك في دار الخلافة العباسية ببغداد، واستقل أحمد بن طولون بمصر سنة 868 م، ونشبت الحرب الداخلية في شمال أفريقية واشتد الصراع بين المسلمين والمسيحيين في الأندلس، ومع ذلك لم يتحقق للإمبراطورية البيزنطية كل ما تصبو إليه من آمال، وواصل البيزنطيون الزحف نحو

الشرق. فاندفع باسيل بجيشه، حتى بلغ إقليم الفرات، فاستولى سنة 873، على زبطرة وسموساط، ومع ذلك تعرض باسيل لهزيمة ساحقة، حين حاول الاستيلاء على حصن ملطية الذي يعتبر من المعاقل الهامة. وعلى الرغم من أن باسيل اكتفى بهذا الانتصار الجزئي في هذه الحملة، وفيما تلاها من الحملات التي توجهت إلى أقاليم الفرات وإلى أطراف طوروس، فإن عمله يعتبر بداية مرحلة جديدة من مراحل الزحف والتقدم المنتظم، التي قامت به الإمبراطورية البيزنطية على الأطراف الشرقية. يضاف إلى ذلك أن ما أصاب الدولة الإسلامية من الضعف، أسهم في نمو أرمينيا، إذ اعترف بسلطة آشوت الأول وقرر اعتباره ملكا، كل من الخليفة، سنة 885، والإمبراطور البيزنطي سنة 887، فكان ذلك الاعتراف بداية مرحلة من مراحل توسع أرمينية زمن الأسرة البغراطية Bagratuni الوطنية» . وكانت الدولة البيزنطية بعد ذلك هي السبب الظاهر على الأقل لانطلاق حركة الحروب الصليبية ضد المسلمين، ونفضل هنا نقل التحليل الموجز الذي أورده حسين مؤنس في عمله المهم (أطلس تاريخ الإسلام) ، يقول مؤنس: «تعتبر الحروب الصليبية من أعاظم الحوادث في التاريخ الإسلامي العام، وهي كذلك من أكبر حوادث التاريخ العالمي، لأن الذي فكر في الحروب الصليبية وقام بها هو الغرب المسيحي بتوجيه أولي من البابوية، بغرض الاستيلاء على المقدسات المسيحية في فلسطين وخاصة مدينة القدس وقبر المسيح عيسى بن مريم في بيت لحم القريبة من القدس.

والحركة بدأت في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، واستمرت في عنف إلى التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي» . « ... وقد ذكرنا في فصل سابق كيف أن السلطان السلجوقى ألب أرسلان انتصر على الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع في موقعه ملاذ كرد سنة 1071 م في أقصى شمالي أذربيجان، وفتح الطريق أمام قبائل الأتراك لتدخل آسيا الصغرى التي كانت معتبرة إذ ذاك أراضي الدولة البيزنطية، بما في ذلك جزء كبير من بلاد الأرمن، وكان الأرمن حينذاك منتشرين على مساحات واسعة تمتد من شرق البحر الأسود جنوبا إلى شمالى بلاد الجزيرة والموصل، وعقب انتصار ملاذكرد تدفقت جموع من الأتراك السلاجقة فدخلت آسيا الصغرى، واستقرت في شرقها، وأنشأت فيها سلطنة سلجوقية عرفت باسم سلطنة سلاجقة الروم، وأولهم قلج أرسلان، وأخذت هذه السلطنة تمتد شرقا حتى استحوذت على النصف الشرقي من آسيا الصغرى، وجعلت عاصمتها في مدينة قونية، وأخذت تزحف إلى الغرب، وهذا هو الخطر الذي جعل ألكسيوس كومتين يستغيث بالبابوية، على الرغم من أنه كان هناك انشقاق ديني وسياسي بين الدولة البيزنطية والكنيسة الكاثوليكية في روما سنة 1054 م. وهذا هو الانشقاق الديني الواسع الذي يوصف بالكبير The Great وبدلا من أن يبادر البابا جريجوري بالاستجابة لما طلبه الإمبراطور البيزنطي فكر في استنهاض همم الرهبان الكونيين وبقية رجال الكنيسة في الغرب للدعوة إلى توحيد الغرب الأوربي تحت لواء

البابوية وإنشاء مملكة مسيحية دينية واحدة يسيطر عليها البابوات.» . لقد قام بنيامين برحلته في القرن الثاني عشر للميلاد وكانت الدولة البيزنطية كلما تقدم بها الزمن ازدادت وهنا على وهن، وهو (بنيامين) يقدمها لنا على أنها دولة واهنة في سبيلها للموت، ويقدم لنا الحياة الاجتماعية فيها حياة مترفة ناعمة خادعة كاذبة لا يمكن أن تثمر عزا وسؤددا.. وفي ضوء ما أوردناه آنفا عن الظروف السيئة التي كان يعاني منها اليهود في رحاب هذه الدولة، قد يظن القارئ أن بنيامين كان متحاملا في وصفه لأوضاع الدولة البيزنطية في القرن الثاني عشر، لكن هذا غير صحيح بالمرة فقد وصف بنيامين أمور هذه الدولة بدقة، وحدّد بوضوح أسباب انهيارها بعد ذلك بشكل دقيق، وسنورد فيما يلي عرضا لأهم هذه الأسباب كما أوردها: * البذخ الشديد والترف الزائد عن الحد، وإنفاق الأموال في غير مواضعها، ومراعاة الشكليات الزائفة ومظاهر الأبهة، ويعطي بنيامين أمثلة لهذا مما كان شائعا في عصر مانوئيل الأول قومنينوس Commnens ManuelI الإمبراطور البيزنطي (1120- 1180) الذي زار القسطنطينية في عهده، ففي البيع والكنائس كنوز لا حصر لها ... وبظاهر القصر الملكي الملعب المعروف باسم إيبودرمي) Hippodrome ملتقى أرباب الحكم والطبقات الراقية) ... وفي هذا الملعب أقيم مهرجان كبير في عيد الميلاد احتفالا بزواج الإمبراطور مانويل قومنينوس من مارية ابنة أمير أنطاكية ... وبضاحية القصور الملكية قصر منيف شيده الملك مانويل لسكناه على شاطيء البحر، وهذا

القصر يعرف باسم بلاشرنس أو بلاط مانويل Emanuellis Palatium فيه الأساطين والحيطان الموشّاة بالتّبر الخالص والنقوش البديعة ... وفي القصر عرش من خالص الذهب مفصص بالأحجار الكريمة يتدلى من أعلاه بما يحاذي هامة الرأس تاج من ذهب معلّق بسلاسل من ذهب خالص مرصع بالجواهر النادرة الثمينة.. والروم (البيزنطيون) في هذه المملكة (الدولة البيزنطية) معروفون بالغنى والمال الكثير من ذهب وجواهر، يرتدون الحلل الزاهية من حرير مقصّب بالذهب وسائر المعادن النفيسة حتى لتحسب الواحد منهم وهو ممتط جواده أميرا خطيرا ... * والأهم من ذلك أن هذا الترف الزائد عن الحد جعل أهالي البلاد «واهني العزيمة كالنساء» كما أن هذا الترف أقعدهم عن الحرب والقتال، فكانت جيوشهم تضم كثيرا من العساكر المرتزقة إذ إن الروم (البيزنطيين) يستأجرون جماعات من الأجانب «البربر» يستعينون بهم في مناجزة السلاجقة الأتراك الذين يسميهم بنيامين باسم التوغرميين وهو اسم لا يستخدمه غير اليهود ويشرح عزرا حداد هذا المسمى قائلا إن اليهود يسمون التركمان بهذا الاسم نسبة إلى توغرمة أو توجرمة أحد أحفاد يافث بن نوح كما ورد في سفر التكوين: «وهذه مواليد بني نوح. سام وحام ويافث. وولد لهم بنون بعد الطوفان بنو يافث جومر اشكناز وريفاث وتوجرمة. وبنو ياوان أليشة وترشيش وكتيم ودودانيم. من هؤلاء تفرقت جزائر الأمم بأراضيهم كل إنسان كلسانه حسب قبائلهم بأممهم»

* حركة بنيامين في مناطق الوجود الصليبي بالشام:

ويرجح حداد أن بلاد توغرمة هذه كانت في الجهة الشمالية الشرقية من آسيا الصغرى (تركيا الحالية) ، ويقول إن لفظة التوغرميين العبرية محرفة من لفظ (تراكمين) بالكاف الفارسية (التي هي عوان بين الكاف والشين) . **** حركة بنيامين في مناطق الوجود الصليبي بالشام: لا نكاد نجد يهودا في مناطق الوجود الصليبي في الشام في أثناء رحلة بنيامين اللهم إلا الطائفة السّامرية في طرابلس وهؤلاء لم يكن اليهود يعترفون بهم كيهود، وإنما ينظرون إليهم كطائفة تكاد تكون على دين مستقل هو الدين السامري، فالتوراة غير التوراة، والتلمود لا يقيم له السامريون وزنا، وبنيامين لا ينظر إليهم بود، ومترجم الكتاب في ملحقة لا يتعاطف معهم، فليس بمستبعد أن يكون الصليبيون قد وضعوا ذلك في الاعتبار، لذا وجدنا أكبر تجمع يهودي في البلاد التي كان فيها وجود صليبي هو التجمع السامري في نابلس، ويحدثنا عبد اللطيف البغدادي الذي زار مصر في حكم صلاح الدين الأيوبي أنّ السامريين يعتقدون أنّ نابلس وليس القدس هي موضع المعبد المقدس- وربما أيضا كان لهذا أثره في عدم اضطهاد الصليبيين لهم في عصر كانت الأفكار الدينية يمكن توجيهها ببساطة لخدمة أغراض سياسية. ثم إننا علمنا من المصادر (ذكرنا ذلك آنفا) أنّ الحملات الصليبية كانت تقتل اليهود في المدن والقرى الأوروبية التي كانت تمر بها.

فكيف بقي هذا العدد القليل من اليهود في ظل الحكم الصليبي؟ ثم كيف تحرك بنيامين بحرية في هذه المناطق؟ أيمكن أن يكون بنيامين قد اجتاز هذه المنطقة متنكرا كمسيحى؟ ربما أو حتى كمسلم؟ ربما أيضا خاصة وأن الحروب الصليبية كان قد مضى على بدايتها أكثر من ستين عاما (بدأت 1098) ويشير الباحثون إلى أن العلاقات التجارية بين الصليبيين والمسلمين، بل والعلاقات الاجتماعية لم تنقطع بين فترات الحروب، وتناولها بعض الباحثين (د. عاشور مثلا) كصفحة متكاملة من (العلاقات) فيها الجوانب الحربية والاقتصادية والاجتماعية. فلم يكن محظورا في ظل ظروف معينة أن يتجول المسلم في مناطق الحكم الصليبي. وما كان بنيامين ليستطيع أن يكتب كل آرائه، أو يبث آلامه من معاملة الصليبيين في رحلتة هذه لأسباب لا تخفى، لكن تعليقات عزرا حداد أكملت هذا النقص، أما نحن فلجأنا إلى لغة الأرقام نستفتيها ونخلص منها بالنتائج وهذا واضح في الصفحات التاليات.

مسلسل اسم المدينة أو القرية عدد اليهود 1 أنطاكية 10 2 الليكة (الاذقية) 200 3 جبلة- 4 جبيل 150 5 بيروت 50 6 صيدا 20 7 صرفنده- 8 صور الجديدة 400 9 عكاء 200 10- حيفا- 11 كفرناحوم-- 12 قيسارية 200 13 قاقون (كيلا) - 14 اللّد 1 15 سبسطية (السامرة القديمة) -- 16 نابلس 1000 17 جبل جلبوع-- 18 وادي أيلون-- 19 جبل المورية-- 20 بيت المقدس 200

21 بيت لحم 11 22 الخليل-- 23 بيت جبرين 3 24 قلعة الحصن 300 25 سنت صموئيل (سيلون) -- 26 بيسان-- 27 بيت النبي 2 28 الرملة 300 29 يافا 1 30 إيلين-- 31 أشدود-- 32 عسقلان 200 33 زيدين (زرين) 1 34 صفورية-- 35 طبرية 100 36 تبنين-- 37 جوش 20 38 ميرون-- 39 علمه--- 40 قادس-- 41 بلنياس-- المجموع 3369

من هذا الجدول يتضح ما يلى: * أنّ عدد اليهود في المدن والقرى التي زارها بنيامين فيما يعرف اليوم بلواء الإسكندرونة والسواحل السورية ولبنان وفلسطين بمعناها الجغرافي الواسع، كان قرابة 3368 يهودي في 41 مدينة وقرية، ولأنّ بنيامين كان يتحرّى التجمعات اليهودية فيمكننا القول: إنهم في المناطق الآنف ذكرها جميعا (فلسطين وسواحل المتوسط) لم يكونوا ليزيدوا عن ذلك كثيرا. وإذا علمنا أن عدد اليهود في التجمعات السكنية التي زارها في الدولة البيزنطية كان 7850 في 31 تجمعا (قرية أو مدينة) اتضح بجلاء أنّ نسبة الوجود اليهودي في الدولة البيزنطية كان أعلى بكثير من نسبة وجودهم في فلسطين وسواحل المتوسط الشرقية في ظل الحكم الصليبي، فلكي تكون النسبة واحدة كان من المفترض أن يكون عدد اليهود في التجمعات التي زارها بنيامين في فلسطين وسواحل المتوسط الشرقية هو 7850 على الأقل. * أنّ عدد اليهود في فلسطين التاريخية كان ضئيلا جدا في ظل الحكم الصليبي لا يتعدى الألفين، في 35 تجمعا سكانيا (إذا حذفنا التجمعات السكنية التي مر عليها بنيامين في مناطق ما يعرف الآن باسم لبنان والساحل السوري ولواء الإسكندرونه التركي) * وإذا أضفنا لهذا أنّ هناك ألفا من أهل نابلس رفض بنيامين أن يعتبرهم يهودا وهم من طائفة الكوتيين (السامريين) الذين يتبعون أسفار موسى ولا يؤمنون بغيرها أي يرفضون التلمود وغيره من كتابات

الرابيين (الحاخامات) والمفسرين وهم لا يتزوجون من غير بنات نحلتهم ولا يختلطون مع اليهود الآخرين ... ويقول بنيامين مؤكدا أنهم غرباء عن بني إسرائيل.. وهم يبتعدون عن كل ما يدنّسهم أى يبالغون في الطهارة.. وإذا قصدوا الصلاة خلعوا ثيابهم واغتسلوا بالماء واستبدلوها بثياب غيرها.. وهذا جاري عادتهم يوميا. نقول: إذا حذفنا الألف سامري آخذين في اعتبارنا ما يقوله بنيامين لأصبح عدد اليهود على طول مناطق الساحل الشرقي للبحر المتوسط بما فيها فلسطين لا يزيد عن الألف يهودي في ظل الحكم الصليبي. هذا عجيب!! أين ذهب اليهود؟ نؤجل هذا السؤال مؤقتا لحين الحديث عن طائفة السامريين (الكوتيين) الذين رفض بنيامين اعتبارهم يهودا؟ والذين تلاشوا بعد ذلك حتى أن عزرا حداد مترجم هذا الكتاب قال: في الملحق الذي أعده عنهم ما يفيد أنّهم أصبحوا كالبقايا الأثرية ولم يعد لهم بعد ذلك وجود. فواضح أيضا أن عزرا حداد- مثل بنيامين من قبله- لا يحبهم. إن هؤلاء السامريين في نابلس لم يتعرضوا لاضطهاد شديد من المسيحيين لأن اليهود لم يكونوا يعترفون بهم كنسل إسرائيل أو كيهود. أيكونون قد أثبتوا أنهم لم يكونوا في فلسطين يوم (صلب) المسيح كما فعل اليهود القرّاءون الموجودون في محيط مسيحي لينجوا من الاضطهاد؟ ربما، خاصة وأنهم يعتقدون أن المسيح (المنتظر) سيكون من نسل يوسف (عليه السلام) وليس من نسل داود كما يعتقد سائر اليهود، وبالتالي فقد كانوا مستقرين في مصر ولا علاقة

لهم (بصلب) المسيح عليه السلام؟ ربما، لكن يبقى السؤال الكبير: أين هم؟ لماذا- دون سواهم من اليهود- انقرضوا؟ هنا نستعين بالدليل المنطقي والأنثروبولوجي. فالسامريون (الكوتيون) كانوا يبالغون في الطهاره. إنهم- قبل الصلاة- كانوا يتجردون من لباسهم تماما ليلبسوا لباسا جديدا خاصا بالصّلاة، وكانوا يستحمون ولا يكتفون بالوضوء. ونحن نعلم أنه إلى عهد قريب (في القرن العشرين) كان عدد كبير من المسلمين في شمال اليمن أو جنوب الجزيرة العربية يفعلون شيئا كهذا. فأنت ترى المسلم من هذا النوع وقد غسل نصفه الأسفل جيدا وتوضأ، ثم خلع سرواله (لباسه) وحمله بيده ودخل المسجد وسرواله (لباسه) في يده، ثم هو يطرح سرواله (لباسه) أمامه في المسجد ويبدأ في الصلاة، حتى إذا ما انتهى من صلاته لبس سرواله (لباسه) مرة أخرى في المسجد، وفي حالة الصلاة الجامعة في المسجد تجد الصورة كالتالي: المسلمون يقفون صفوفا وأمام كل منهم لباسه (سرواله) ، فهم لا يصلّون في سراويلهم خشية أن يكون قد أصابها ما جعلها غير طاهرة.. وبعد انتهاء الصلاة والتسليم ترى روّاد المسجد كلهم وقد انهمك الواحد منهم في رفع ثوبه وارتداء سرواله، وكلّ حريص يستدير للحائط مرة ولأحد الأعمدة مرة أخرى حتى لا يرى أحدّ عورته ... وفي الجيل الماضي كنا نرى بعض الفلاحين في مصر إذا شرع أحدهم في الصلاة في الحقل خلع سرواله.. فإذا رأيته وقف على حين غفله وخلع سرواله، فلا تظنّن السّوء.. إنّه سيصلّى.

هذه الظواهر التي وجدت في وقت لاحق وظلّ بعضها إلى عهد قريب جدا، ألا يمكن أن تكون دليلا على أنّ الكوتيين (السامريين) قد تحولوا إلى الإسلام تدريجيا وانتشروا في العالم الإسلامي، في اليمن وفي مصر وفي غير اليمن ومصر، وإلا كيف نفسّر هذا التشدد الشديد في مراعاة الطهارة عند الصلاة في دين يسمح بالصلاة بمجرد التيمم إذا عزّ الماء؟ وبالاستجمار بحجر أو سواه لتطهير قبله ودبره بعد قضاء الحاجة إذا عزّ الماء! ولم نسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته كانوا يصفون سراويلهم أمامهم في المسجد. أليست هذه بقايا ممارسات قديمة للمتحولين إلى الإسلام. أهذا التفسير أفضل أم القول بأن السّامريين (الكوتيين) قد انقرضوا لعدم إيمانهم بالتلمود وكتب الحاخامات الأخرى مكتفين بأسفار موسى*. إنّ تأمل ملامح الحاضر يعد دليلا تاريخيا لا يقل في أهميته عن الوثيقة والأثر، وعلى هذا سنضمّن هذه الدراسة وثيقتين تشيران إلى حركة بين اليهود أنفسهم للتحول للإسلام في القرنين السادس والسابع الهجريين (12، 13 للميلاد) لأسباب تاريخية سنوضّحها. لقد شهدت مرحلة إخراج المسلمين من الأندلس، وتوغل الإسلام- في المقابل- في آسيا الصغرى وشرق أوربا، ومرحلة الاحتكاك الحضاري العنيف بين الشرق والغرب ممثلا في الحروب الصليبية- شهدت تأثيرا وتأثرا بين الأديان الثلاثة، بل وأدّت إلى ظهور عقائد

مركبة من أكثر من دين، فقد أسّس درزي الداعية الاسماعيلي الفاطمي ومبعوث الحاكم بأمر الله العقيدة الحاكمية أو الدرزية التي هي مزاج من الإسلام والمسيحية بالإضافة لجانب غيبى سرّي، فهم فيما تقول دائرة المعارف الإسلامية (مادة دروز) مسلمون مع المسلمين ومسيحيون مع المسيحيين، ولا زال المثل الشعبي الشامي قائما شاملا في محتواه المضامين التاريخية (مثل الدرزي*، مع الحيط القائم) .. ولم يتعرض الدروز لاضطهاد الصليبيين في أثناء فترة الحروب الصليبية، وربما كانت ظروف العصر بالإضافة لأسباب أخرى هى التي أدّت لظهور هذه التركيبة الدينية.. أعنى أنه كان عصر صراع ديني لا يرحم بين أتباع الدين الواحد (المذاهب المختلفة في أوربا المسيحية وإلى حد ما في الشرق الإسلامي) ويبدو أنّ بنيامين قد بالغ كثيرا في ذكر عيوب الدروز فذكر أنهم «في خصام مستمر مع أهل صيدا، وأنهم لا دين يعرف لهم ... وهم إباحيون.. ومن عقائدهم السقيمة أن الروح الزكية إذا فارقت الجسم عند الوفاة حلّت في جسم طفل آدمي يولد في تلك اللحظة، أمّا الروح الشريرة فتحل في جسم كلب أو حمار.. وعلاقتهم طيبة باليهود» وقد علّق المترجم اليهودي عزرا حدّاد على ذلك بأن ذكر أنّ دروز اليوم براء من ذلك ففيهم كلّ مزايا العرب، ونحن نردد بدورنا ما قاله حدّاد. ويشير بنيامين إلى قلعة جبلة التي تقيم بظاهرها طائفة الحشيشيين

(الحشاشين) ، ويعلق حداد على ذلك بأنهم الطائفة الإسماعيلية المعروفة ويصفهم بنيامين بأنّهم زنادقة لا يؤمنون بدين محمد ويتبعون تعاليم شيخهم (حمدان قرمط) وهم في نزاع مستمر مع النصارى من الإفرنج وأمير طرابلس الشام. * نعود لحديث الأرقام فإنه إذا كان بنيامين قد وجد في القدس 200 يهودي فقد قلّ عددهم بعد رحيله بوقت غير طويل فعزرا حداد ينقل عن رحّالة يهودي آخر هو فتاحية زار القدس بعد بنيامين بعشر سنوات فلم يجد فيها إلا يهوديا واحدا يدعى إبراهيم الصباغ كان- فيما يقول فتاحيه يؤدي للملك ضريبة فادحة ليسمح له بالبقاء، أما فيلكس فابرى Felix Fabri الحاج المسيحي الذي زار القدس بعد أن استعادها صلاح الدين الأيوبي في سنة 1187 فوجد فيها 500 يهودي وزهاء ألف مسيحي.. لقد عاد اليهود إذن في ركاب المسلمين فيما يقول عزرا حداد. ليس غريبا إذن أن ينظر مسيحيو هذه الفترة وحتى القرن السابع عشر للميلاد- على الأقل- للمسلمين واليهود على أنهم حلفاء، فهل التحالف الأوروبي اليهودي اليوم نوع من تصفية الحسابات التاريخية؟ وهل هو حقا تحالف سيدوم؟

بنيامين في الدولة الإسلامية (العباسية) :

بنيامين في الدولة الإسلامية (العباسية) : اتجه بنيامين بعد ذلك إلى دمشق فدخل بذلك بلادا يحكمها نور الدين زنكي مع ولاء شكلى للخليفة العباسي في بغداد، وكان نور الدين هو القوة الأساسية في الشام في الفترة من 541 إلى سنة 569 هـ/ 1135- 1163 م، وكان الخليفة العباسي الذي زار بنيامين البلاد في عهده هو المستنجد العباسي 555- 566 هـ/ 1160- 1170 م وربما يكون قد عاصر شطرا من حكم الخليفة التالي له وهو المستضئ 566- 575 هـ/ 1170- 1180 م وإن كان هذا غير مؤكد، فحديثه في الغالب عن المستنجد، وكان كلا الخليفتين مهيض الجناح لا تأثير لهما في مجريات الأمور كما سنوضح فيما بعد. ويهمنا هنا تزايد أعداد اليهود بشكل رهيب مقارنة بأعدادهم في سواحل الشام التي كانت تحت حكم الصليبيين وفي مملكة بيت المقدس. ولغة الأرقام هنا تساعدنا على استخلاص النتائج.

مسلسل المدينة عدد اليهود ملاحظات 1 دمشق 3000 من اليهود التموديين فقط+ 200 من القرائين ولا يعتبرهم بنيامين يهودا+ 400 من السامريين ولا يعتبرهم بنيامين يهودا 2 جلعد 60 3 صرخد-- 4 بعلبك-- 5 تدمر 2000 6 القريتين 1 7 حمص 20 8 حماه-- 9 شيزر 10 لطمين-- 11 حلب 1500 12 بالس 10 13 قلعة جعبر 1000 14 الرقة 700 15 حران 20

16 رأس العين 200 17 نصيبين 1000 18 جزيرة ابن عمر 4000 19 الموصل 700 20 الرحبة 1000 21 قرقيساء 500 22 الأنبار 1000 23 حربى 000/15 24 عكبرى 000/10 25 بغداد 000/40 26 جاهيجان 000/5 27 خرائب بابل-- 28 الحلّه 000/10 29 برس نمرود-- 30 نفاحة 200 31 مرقد حزقيال؟ 32 الفوسنان 300 33 عين شفاثه-- 34 كفر الكرم-- 35 الكوفة 7000 36 سورا--

37 شفياثيب-- 38 مدن وصحاري شبه الجزيرة العربية 000/300+ 39 مدن وصحارى شبه الجزيرة العربية 000/100+ 40 مدن وصحاري شبه الجزيرة العربية 000/50+ 41 مدن وصحارى شبه الجزيرة العربية 3000 42 واسط 000/10 43 البصرة 000/10 44 نهرسمره 1500 45 خوزستان 7000 (شرق شط العرب) 46 رودبار 000/20 47 نهاوند-- 48 مواطن الحشاشين 4000 49 العمادية 000/25

50 همذان 000/50 51 طبرستان 000/4 52 أصبهان 000/15 53 شيراز 000/10 54 خيوه 000/8 55 سمرقند 000/50 56 نيسابور 000/5 (؟) 57 جزيرة قيس 500 58 القطيف 5000 الإجمالي 811/782

قرابة ثلاثة أرباع المليون يهودي في ظل الحكم العباسي والدول الإسلامية التابعة له اسميا، وإذا أخذنا بملاحظة عزرا حداد التي مؤداها أن المؤرخين والكتاب اليهود جرى العرف لديهم على الإحصاء بعدد أرباب البيوت لا بعدد الأشخاص لكان هذا الرقم أكثر بكثير. يا إلهي، لكأنما يهود العالم كله قد تجمعوا في ديار المسلمين طلبا للأمان وإذا وضعنا في الاعتبار أن هذا الرقم المهول لا يشمل يهود اليمن ومصر لأن بنيامين تعرض لهم في موضع آخر وهو في طريق عودته لأوربا، اتضح لنا كم هو كبير هذا الرقم، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بالظروف التاريخية وهو ما سنتعرض له ولغيره في نقاط كالتالي: - كأنما كانت الحروب الصليبية مكنسة كبيرة كنس بها الصليبيون يهود العالم المعروف وقتئذ من الغرب ليلقوهم في الشرق. ولا تفسير لهذا العدد الكبير من اليهود في الشام والعراق والدويلات التابعة- اسما- للخلافة العباسية سوى ذلك. - في الفترة من 334 هـ إلى 447 هـ/ 946- 1055 م كان سلاطين بني بويه الشيعة المغالين هم الحكام الحقيقيين في كل العراق، بلاد الخليفة العباسي السني، وكان الخلفاء ألعوبة في أيديهم، ومع أنهم شيعه فقد رفضوا إقامة خلافة فاطمية في بغداد خوفا من أن يستأثر الفاطميون بالحكم دونهم وأبقوا على الخلافة العباسية. في ظل هذه الظروف هل يسمح للخليفة بأن يتحرك بحرية أو يكون له بطانة أو حاشية من المسلمين؟ هذا بالطبع خطر على السلاطين البويهيين، لكن لا مانع من أن تكون له بطانة أو صحبة بيهود أو مسيحيين يدارسهم

ويقارن معهم الأديان.. فهذا لا خطر منه على بنى بويه. وقد وجدنا شيئا كهذا مع اختلاف الظروف والبواعث في الدولة الفاطمية في مصر التي وجد خلفاؤها أنهم في محيط سني، فجمعوا حولهم اليهود والمسيحيين واستعانوا بهم كثيرا مما كان له نتائج مهمة جدا سنتحدث عنها في حينه. - رغم استيلاء السلاجقة الأتراك على ملك بني بويه في العراق، واستيلائهم قبل ذلك على الولايات الغربية للدولة الغزنوية، ودخولهم بغداد في سنة 447 هـ إلا أن أحد الأمراء وهو الحارث أرسلان البساسيري انتهز ضعف الخليفة العباسي وانشغال طغرل بك أول ملوك السلاجقة بفتح بعض بلاد العراق فدخل بغداد في سنة 450 هـ وأقام الخطبة للخليفة المستنصر الفاطمي أي أنه أعلن تبعيته للخلافة الفاطمية، وهكذا أصبح الخليفة العباسي في قبضة الشيعة، وسار البساسيري في بغداد سيرة الفاطميين في مصر بالتحبب إلى الناس وتقديم الطعام والاموال، لكن الخليفة العباسي استنجد بطغرل بك الذي قدم بغداد وقتل البساسيري، وبذلك أصبح الخليفة العباسي في قبضة السلاجقة يتصرفون معه كما يشاءون. - والآن وقد أصبح الخلفاء العباسيون تحت سيطرة السلاجقة فقد سيطر نوابهم العسكريون على الحكم في العراق وأرسلوا حملاتهم إلى الشام لاستعادة ملك بني العباس (أو بالأحرى مد سلطان السلاجقة) في المناطق التي سيطر عليها الفاطميون، فأصبحت الرملة وبيت المقدس ثم بعد ذلك دمشق في قبضتهم وكان الخلفاء في هذه الأثناء يشرفون

على بناء القصور والاستماع إلى الغناء ومجالسة العلماء، وقد تزاوج السلاطين السلاجقة من بنات الخلفاء وحدث العكس أيضا فتحسنت العلاقة لكن هذا لا يمنع من أن السلاجقة كانوا يراقبون شعبية الخليفة العباسي واتصالاته، خوفا من ازدياد جماهيريته. وانقسم ملك السلاجقة إلى أتابكيات (إمارات صغيرة) منها في الشام عدة أتابكيات. وفي ظل هذه الظروف كانت زيارة بنيامين إلى الشام والعراق. - نحن إذا لا نستنكر ما قاله بنيامين عن الخليفة العباسي المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفى لأمر الله العباسي من أنه كان يعيش عيشة هنية في قصر فخم واسع الأرجاء ذي حديقة غناء بها موضع لصيد الطير وبرك لصيد الأسماك، وأن له حاشية تضم بعض اليهود علموه اللغة العبرية قراءة وكتابة.. لقد كانت علاقة الخلفاء بالسلاطين السلاجقة في هذا الوقت- كما سبق أن ذكرنا- قد تحسنت كثيرا نسبا وصهرا وأغرقهم السلاجقة في الفراغ والملذات، ووقروهم وشرفوهم ورفعوهم شريطة ألا يكون لهم سلطان سياسي. وحكاية أن المسلمين لا يشاهدون الخليفة إلا مرة في العام مسألة معقولة، فهي تدبير احترازي اتخذه السلاجقة لإبعاده عن الجماهير، وليست مسألة لها علاقة بالتوقير أو الاحترام كما توهم بنيامين. إنه نوع من العزل السياسي المهذب. لكن ليس هناك خطورة سياسية كما سبق القول من اندماج الخليفة

بغير المسلمين، لذا نرى رأس الجالوت أى رئيس الجالية اليهودية عندما يقابل الخليفة تحفة الحاشية والفرسان ويجلس قبالته مباشرة. ورأس الجالوت هذا يدبر أمور 000/40 يهودي في بغداد وحدها. - وما ذكره بنيامين عن يهود في شبه جزيرة العرب يثير حساسية شديدة، لذلك أراح الأستاذ المترجم عزرا حداد نفسه بالتشكك في زيارة بنيامين لشبه الجزيرة العربية، والواقع أن الظروف التاريخية للحروب الصليبية تجعلنا لا نستبعد ذلك مع بعض الإيضاحات، أولها أن هؤلاء اليهود الذين توغلوا في البادية هربا من الحروب الصليبية قد يكونون تحولوا للإسلام فعلا أو تظاهروا بذلك ثم- وهذا طبيعي- أسلم أبناؤهم حقا بمرور الأيام، خاصة أن بني ركاب الذين ذكرهم بنيامين كانوا ذوي طبيعة بدوية خالصة، وأنهم كانوا يخرجون مع القبائل العربية الأخرى للغزو والكسب في الأماكن البعيدة.. لقد ذابوا إذن مع العرب الآخرين، فالظروف الاجتماعية المتشابهة، خاصة إذا كانت بقوة الظروف البدوية غالبا ما تؤدي إلى توحيد العقائد، وقد أشار الرحالة فاريتما (الحاج يونس) إلى وجود بدو يهود في جبال قريبة من المدينة المنورة، ووصفهم وصفا بشعا، لكن الحقيقة أنّ ما ذكره ينطبق على بعض القبائل ذات الطابع الانعزالي أي التي لا تحب الاختلاط بالآخرين، وقد تصف بعض القبائل القبائل التي تكرهها أو تغار منها بأنها يهود.. على أية حال فيبدو أن الصحراء صهرت هؤلاء اليهود وجعلتهم من المسلمين خاصة أن الخلاف في العقائد الأساسية

ليس كبيرا فيما عدا حكاية الشعب المختار. - التحالف بين الحشاشين الإسماعيلية واليهود الذي أورده بنيامين عند حديثه عن أرض الملاحدة، أمر مقبول تماما، ولأن بنيامين رجل غريب وافد فهو- فيما يبدو- لم يكن يدرك التبادل الثقافي والعقائدي بين الإسماعيلية واليهود.. وهو ما سنشير إليه في موضع آخر. ****

خط سير بنيامين في الهند وشرق آسيا:

خط سير بنيامين في الهند وشرق آسيا: فيما يلي جدول بأعداد اليهود كما ذكرهم في المدن التي زارها (أو قال إنه زارها) المدينة العدد خولام (كولم) أقل من مائة جزيرة كندي (سيلان) 3000 الصين لم يذكر البنغال 1000

خط سير بنيامين إلى جنوب اليمن ثم مصر:

خط سير بنيامين إلى جنوب اليمن ثم مصر: 1- خولان-- 2- عدن عدد غفير ولم يحدد، والمترجم يعلق بأنه خلط بين عدن وموقع آخر بعيد 3- أسوان-- 4- حلوان 300 5- الزويله-- 6- قوص 000/30 وعلق المترجم بما يفيد أن هذا خطأ من الناسخ 7- مصر (العاصمة) 2000 8- بلبيس 3000 9- عين شمس-- 10- أبو تيج 200 11- بنها 60 12- سمناط (سمنود) 200 13- الدميرة (قرب دمياط) 700 14- المحلة 500 15- الاسكندرية 3000 16- دمياط 200 17- سنباط-- 18- إيلة-- 19- حصى الخطاطين--

- كانت حركة بنيامين في مصر مريبة نحوا ما، فقد زار بعض المدن أكثر من مرة، كما أن خط سيره فيها معقد أو مركب كما هو واضح من الخريطة. لقد خرج من أسوان إلى قوص ولما وصل إلى شمال مصر عاد مرة أخرى إلى قوص، ثم إنه لما وصل إلى الإسكندرية عاد فتوجه إلى دمياط، ووصل إلى خليج العقبة فطور سيناء، فدمياط فقوص مرة أخرى، فالإسكندرية فدمياط، وهو قد اتخذ طريقه إلى غرب أفريقيا (إمبراطورية غانه الوسيطة وهي غير دولة غانا الحالية، فالإمبراطورية الوسيطة كانت إلى الغرب من مملكة مالي الوسيطة ولم تكن دولة ساحلية- انظر الخريطة) . أهذه حركة سائح؟ أم تراه كان ينقل رسائل بين يهود البلاد أو يوزع عليهم تعليمات؟! - وقد لا حظ بعض الباحثين المصريين (سلسلة تاريخ المصريين- أهل الذمة في العصر الفاطمي) أن عدد اليهود في مصر في مطلع الدولة الأيوبية وأواخر الدولة الفاطمية قد تناقص كثيرا، وذلك اعتمادا على الأرقام التي أوردها بنيامين التطيلي في رحلته هذه والتي صنفناها بطريقة جدولية فيما سبق. وهي ملاحظة جديرة بالتأمل وفي حاجة إلى تفسير. -- أيمكن أن يكون السبب هو أن الرحالة والمؤرخين اليهود قد تعودوا أن يحصوا عدد اليهود وفقا للأسر أو أرباب البيوت وليس وفقا لعدد النفوس وهو مالا يأخذ به الباحثون والرحالة المسلمون عند ما يذكرون أرقاما عن عدد السكان؟ الواقع أن هذا لا يصلح تفسيرا للظاهرة فالنسبة ستظل ثابتة إذا قورنت بعدد اليهود في الشام والعراق،

فهو عند ما ذكر أعداد اليهود في الشام والعراق وغيرهما اتبع الطريقة نفسها في الإحصاء.

أيمكن أن يكون اليهود قد تعرّضوا لاضطهاد شديد في مصر في أثناء الدولة الفاطمية فهاجروا منها هجرات جماعية؟ والحقيقة أن المراجع التي تناولت التاريخ الفاطمي أو الأيوبي لم تشر إلى مثل هذه الهجرة الجماعية. أما فيما يتعلق باضطهاد اليهود والمسيحيين في أثناء الحكم الفاطمي، فهو بالتأكيد حديث خرافة. فقد شغل اليهود والقبط أرقى المناصب، وكان منهم زوجات الخلفاء الفاطميين وأمهاتهم.. أما ما يقال عن هدم الكنائس وما إلى ذلك، فلا يستطيع فهمه إلا من فهم طبيعة المذهب الإسماعيلي الشيعي (الفاطمي) ، فقد كانت بعض الكنائس يؤمر بهدمها ثم بعد فترة يؤمر بإعادة بنائها.. يبدو أنها الكنائس الآيلة للسقوط هي تلك التي يؤمر بهدمها. وكانت هناك أوامر بتحول يهود أو مسيحيين قسرا للإسلام ثم أوامر بالسماح لهم بالعودة لدينهم.. وكل هذا لا يمكن فهمه إلا من خلال مبدأ (اكتم ذهبك ومذهبك وذهابك) وإلا من خلال أنّ الفاطميين الشيعة كانوا يحكمون غالبية من السنّة؟ ولم تكن مثل هذه الأوامر الشكلية تحقق غرضها وإنما كانت إرضاء ظاهريا لبعض متعصبي السنة. وكيف يفقد الفاطميون مودة اليهود والنصارى وهم يحكمون شعبا من السنة تقبل ببساطة شديدة إلغاء كل مظاهر التشيع ممثلة في إضافة (حي على خير العمل) في الأذان وغير ذلك بمجرد قيام الدولة الأيوبية؟ ولم ينتحب لإلغاء الدعاء للخليفة الفاطمي في خطب صلاة الجمعة؟ ... الخ. وكيف يفقد الفاطميون مودة اليهود والنصارى والمناصب الكبيرة فيهم، والطبيب منهم، وأمين الخزانة

منهم، وقيم الأموال منهم ... أنصدق كلمات يرويها مؤرخون لم يتعمقوا في الأمور والعوامل الكامنة وراءها ونكذب ما نراه رأي العين؟ ولا زالت الكنائس التاريخية قائمة أمامنا في غالبها شاهدا على ذلك! لنستبعد- إذا مسألة الاضطهاد الديني هذه كسبب لقلة عدد اليهود في مصر في أواخر عهد الدولة الفاطمية وبداية الأيوبية! -- والحقيقة أنّ العصر الفاطمي شهد- فيما يبدو- نوعا من المفاوضات أو المساومات لإيجاد دين وسط بين اليهودية والإسلام من ناحية، وبين المسيحية والإسلام من ناحية أخرى، أو بتعبير آخر التوصل عبر مفاوضات ومناقشات ومراعاة للمصالح- لإيجاد صيغة دينية وسطية مقبولة للطرفين (المسيحي الإسلامي أو اليهودي الإسلامي) . فعلى سبيل المثال بماذا نفسر الظواهر الآتية: * قائمة المحرمات التي حرمها الحاكم بأمر الله الفاطمي في الطعام كانت تشمل الأسماك التي لا قشور لها وهو محرّم بالفعل في العهد القديم- سفر التثنية، ألا يمكن أن يكون هذا طلبا أو شرطا وضعه يعقوب بن كلس الوزير اليهودي ذو الشأن الكبير لكي يتحول للإسلام، ولم يجد الحاكم غضاضة في قبول هذا الطلب من ابن كلس أو من حاشيته من اليهود للوصول إلى قائمة محرّمات مشتركة فيما يتعلق بالأطعمة تكون محرّمة من الطرفين، وبذلك يتحول اليهود للإسلام دون أن يفقدوا شريعتهم. * عندما أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي أمره بألا يعمل أحد بالنهار، وأن العمل لا يكون إلا ليلا، لم يسأل أحد من الباحثين الذين

كتبوا عنه نفسه: لماذا أمر الحاكم بهذا الأمر؟ قال المدافعون عنه إن ذلك لأن القاهرة كانت حارة نهارا، وأن الجو ليلا كان جميلا، وما أحلى العمل على ضوء الفوانيس! وقال المهاجمون له إنه مجنون. الواقع أنه ليس مجنونا، كما أن إبطال العمل نهارا معناه أيضا اضطراب أمر الصلاة نهارا، ولابد أن الناس سينامون بالنهار ليتمكنوا من السهر ليلا. لا بد من سبب آخر: إنه شرط بين الحاكم أو المسلمين الإسماعيلية من ناحية، واليهود من ناحية أخرى، لمراعاة حرمة يوم السبت، الذي هو اليوم الذي (استراح) فيه الرّب بعد خلق السماوات والأرض، وله- أي لهذا اليوم- حرمة كبيرة عند اليهود، لم يتم التهاون فيها جزئيا إلا في أوقات لاحقة، لكن لماذا بقية الأيام أيضا؟ إذن ماذا كنتم تظنون أيخص الفاطميون السبت وحده وبذلك تستنتج العامة أنهم تركوا الإسلام وتحولوا لليهودية. وكيف يدوم السلطان؟ لابد إذن أنّ حوارا على هذا النحو تم بين اليهود من ناحية والسلطان والدعاة الإسماعيلية من ناحية أخرى: ابن كلس (واليهود) : لكن للسبت عندنا حرمة كبيرة الدعاة الإسماعيلية: نحترم السبت وتحترمون الجمعة ابن كلس (واليهود) : نحن لا نعمل يوم السبت. الدعاة الإسماعيلية: يحرّم الإمام العمل يوم السبت. لكن كيف؟ ابن كلس (واليهود) : الجو في القاهرة حار، ليكن ذلك هو السبب في ألا يعمل الناس نهارا، والليل سكون نحن أدرى كيف نقضيه الدعاة الإسماعيلية: عظيم! لكن لماذا السبت بالذات أليست

الحرارة في نهار السبت كالحرارة في الأيام الأخرى؟! ابن كلس (واليهود) : لماذا لا يعمّم مولانا الإمام ذلك بالنسبة لكل الأيام. الدعاة الإسماعيلية: بارك الله فيكم.. هذا هو الحل، وبذلك نراعى حرمة السبت، وتشهدون صلاة الجمعة، وسيجزل لكم مولانا الإمام العطاء ابن كلس (واليهود) : أدام الله عمر الإمام، سرّ الله سليل النبي! وبمفاوضات على هذا النّسق ثم تسوية المسائل الخلافية الظاهرية، وهي المهم، أما المسائل العقائدية فالاعتقاد في الله واحد، وحكاية (عزيز ابن الله) هذه لم تكن هي عقيدة غالب اليهود، أو كانت عقيدة الجهلة منهم ثم تخلصوا منها. ومحرّمات الزواج تكاد تكون واحدة، والتمسك بالطهارة تكاد تكون واحدة. ونحن نميل دائما لاستخدام الدليل الأنثروبولوجي في البحوث التاريخية أي تأمل الوضع الحاضر للخلوص منه- دون تعنت- بأدلة لإثبات وقائع تاريخية. أليس عدد كبير من الفلاحين- بل وبعض سكان المدن- كانوا إلى عهد قريب- وربما إلى الآن- يأنفون من أكل لحم السمك الثعبان. والقراميط بل والجمبري (الربيان) إنهم مسلمون الآن، لكنّ هذا تراث توارثوه من أجداد يهود أسلموا بناء على اتفاقات في عهد الدولة الفاطمية أما حرمة السبت فقد تلاشت بالتدريج بحكم ضرورات الحياة حتى عند عدد كبير من اليهود المعاصرين. ثم أليس (الفطير المشلتت) أو (الفطير) عموما لازال مرتبطا في

بعض بيوت الريف التقليدية بالأعياد والمناسبات السعيدة؟! أليس هذا تقليدا يهوديا بالنسبة لبعض الأعياد حيث يستعاض عن الخبز (ذي الخميرة) بالفطير (الذي لم يختمر عجينه) ؟! إنها بقايا اتفاقات الصيغة الوسطية بين الدّينين اليهودي والإسلامي. لقد كان الفاطميون حريصين على إيجاد مسلمين جدد يعتمدون عليهم بدلا من الأغلبية السنية المعادية لهم، وبالفعل نجحت سياستهم نجاحا مذهلا حتى إننا لا نستطيع أن نقول: إن الإسلام قد أصبح دين الغالبية العظمى من سكان مصر إلا في عهدهم. وعلى النحو نفسه جرى الأمر بالنسبة للمسيحيين لكن هذا ليس موضوعنا الآن. كانت هناك إذن حركة تحول جماهيرية بين اليهود المصريين للإسلام وفقا لهذه الصيغة الوسطية، وهذا هو التفسير الوحيد للملاحظة التي أوردها بعض الباحثين المصريين المعاصرين من أن الأرقام التي أوردها بنيامين عن عدد اليهود في مصر أقل بكثير مما أورده المؤرخون الذين تحدثوا عن اليهود في بداية الدولة الفاطمية. أما لماذا لم تكن حركة التحول اليهودية هذه للإسلام مشهورة معروفة، فالسبب بسيط وهو أنه كان مما يقلّل كثيرا من قيمة الشخص- على المستوى الشعبي- أن يعرف أن (أصله يهودي) بما تنطوي عليه هذه العبارة من مفاهيم كامنة في الفكر الشعبي- وإن كان هذا بطبيعة الحال أمرا لا مبرر له. ولأن بعض المشتغلين بالتاريخ قد لا يفهمون كثيرا مسألة الدليل

الأنثروبولوجي هذه، فإننا نسوق لهم وثيقتين، يتضح منهما بشكل جلي محاولة المواءمة بين الدينين للخلوص بصيغة وسطية لا تمنع التحول للإسلام. الوثيقة الأولى لشموئيل بن يهوذا، والصيغة العربية للاسم شموئيل هى السموأل، ويتضح لنا من السياق أنه كان من الدعاة الإسماعيلية فهو يحدّثنا عن «الإمام» وظلّ الله في الأرض ... الخ. وكتابه هو (بذل المجهود في إفحام اليهود) واسمه كاملا هو السموأل بن يهوذا يحيى بن عباس المغربي الأندلسي الطبيب والفيلسوف. قدم أبوه إلى الشرق الإسلامي وتضلع السموأل في الرياضيات والطب والأديان. وطاف مع أبيه بلاد المشرق واستقر في بغداد فترة ثم رحل إلى أذربيجان حيث أقام في مراغة، وفيها أسلم، وكان قبل إسلامه قد بلغ درجة عالية في الكهنوت اليهودي. وله كتاب آخر غير الكتاب الذي نحن بصدده وهو (الديانة اليهودية) . وكان السّموءل من بيت دين، فقد كان أبوه فيما يقول هو هو الرّاب يهوذا بن أيوب من مدينة فاس التى بأقصى المغرب. والرّاب لقب ليس باسم، وتفسيره الحبر، وكان عالما بالتّوراة وشاعرا ينظم الشعر بالعبرية، وكان اسمه المدعو به بين أبناء العربيه هو أبو البقاء بن يحيى بن عباس ذلك أنّ كثيرا من اليهود بالمغرب والأندلس كان لهم اسمان، واحد عبري وآخر عربي، وإن كان الاسم العربي غالبا ما يكون قريبا من الاسم العبري لأنه مشتق منه. وتزوّج والد السموأل من أمّ السموأل ببغداد وأصلها من البصرة وكانت بارعة في علوم التوراة وبارعة

بالكتابة بالخط العبري وهى بنت إسحاق بن إبراهيم البصرى اللاوي أعنى سبط لاوي. يقول السموأل «وكان إسحاق هذا ذا علوم يدرّسها ببغداد، وكانت أمه نفيسة بنت أبي نصر الداودي المصري، وهذا الداودي من رؤسائهم المشهورين وذريته إلى الآن بمصر، وكان اسم أمي على اسم أم شموائيل (السموأل) النبي عليه السلام. وللسموءل كتب أخرى منها: الطب، الجبر والمقابلة وكان خبيرا بالجواهر والأحجار الكريمة. وتوفى بمراغه من أعمال أذربيجان سنة 570 هـ

وفيما يلي نص طويل من هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله عدة للقاء الله أما بعد الحمد لله على ما ألهم به من الهداية، وعصم عنه من الغواية. والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين. فإن سبيل من فضل من العباد بالفطانة والرشاد، أن يجد في البحث عن أحوال المعاد، والتأمل لما أخذه عن الآباء والأجداد، بين الامتحان والانتقاد، فإن رآه فضيلة سما لإدراكها، وإن ألفاه رذيلة نجا من أشراكها، لتضحى حقائبه بطانا من الزاد، فإن هاتف الموت لبالمرصاد، ولن تحمد العقبى لمضيع في تحصين شرعه، وموزع مواقيته على ما ينقاد إليه بطبعه. ولن يظفر بضالة الحق إلا ناشدوها، ولن يهدج الأباطيل على أنفسهم إلا معتدوها. والغرض الأقصى من إنشاء هذه الكلمة: الرد على أهل اللجاج والعناد، وأن يظهر ما يعور كلمتهم من الفساد، على أن الأئمة- ضوعف ثوابهم- قد انتدبوا لذلك، وسلكوا في مناظرتهم اليهود أنواع المسالك، إلا أن أكثر ما نوظروا به لا يكادون يفهمونه أو لا يلتزمونه. وقد جعل الله إلى إفحامهم طريقا مما يتداولونه في أيديهم: من نص تنزيلهم، وإعمالهم كتاب الله عند تبديلهم، ليكون حجة عليهم موجودة في أيديهم. وهذا أول ما ابتدئ به من إلزامهم.

النسخ من نص كتابهم وما تقتضيه أصولهم:

النسخ من نص كتابهم وما تقتضيه أصولهم: أقول لهم: هل كان قبل نزول التوراة شرع أم لا؟ فإن جحدوا كذّبوا بما نطق به الجزء الثاني من السفر الأول من التوراة. إذ شرع الله على نوح عليه السلام القصاص في القتل، ذلك قوله تعالى: نص التوراة: (شوفيخ دام ها أذم باذام دامو يستافيخ كى يصيلم ألوهيم عاسا إت هاذام) . تفسيره: سافك دم الإنسان فليحكم بسفك دمه. لأن الله تعالى خلق آدم بصورة شريفة. وما يشهد به الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة. إذ شرع على إبراهيم ختان المولود في اليوم الثامن من ميلاده. وهذه وأمثالها شرائع، لأن الشرع لا يخرج عن كونه أمرا ونهيا من الله لعباده، سواء نزل على لسان رسول، أو كتب في أسفار، أو ألواح أو غير ذلك. فإذا أقروا بأنه قد كان شرع. قلنا لهم: ما تقولون في التوراة؟ هل أتت بزيادة على تلك الشرائع أم لا؟ فإن قالوا: لا. فقد صارت عبثا. إذ لا زيادة فيها على ما تقدم، ولم تغن شيئا، فلا يجوز أن تكون صادرة عن الله. فليزمكم أن التوراة ليست من عند الله تعالى. وذلك كفر على مذهبكم. وإن كانت التوراة أتت بزيادة، فهل في تلك الزيادة تحرم ما كان مباحا أم لا؟ فإن أنكروا ذلك بطل قولهم من وجهين: أحدهما: أن التوراة حرمت الأعمال الصناعية في يوم السبت بعد

أن كان مباحا، وهذا بعينه هو النسخ. والثاني: أنه لا معنى لزيادة في الشرع إلا تحريم ما تقدمت إباحته، أو إباحة ما تقدم تحريمه. فإن قالوا: إن الحكيم لا يحظر، أي لا يحرم شيئا، ثم يبيحه، لأن ذلك إن جاز مثله كان كمن أمر بشيء وضده. فالجواب: أن من أمر بشيء وضده في زمانين مختلفين غير متناقض في أوامره، وإنما يكون كذلك لو كان الأمران في وقت واحد. فإن قالوا: إن التوراة حظرت أمورا كانت مباحة من قبل، ولم تأت بإباحة محظور، والنسخ المكروه هو إباحة المحظور. لأن من أبيح له شيء فامتنع عنه وحظره على نفسه فليس بمخالف. وإنما المخالف من منع من شيء فأتاه باستباحته المحظور. فالجواب: أن من أحل ما حظره الشرع في طبقة المحرم لما أحله الشرع. إذ كل منهما قد خالف المشروع. ولم يقرأ الكلمة على معاهدها. فإذا جاز أن يأتي شرع التوراة بتحريم ما كان إبراهيم عليه السلام ومن تقدمه عن استباحته، فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل ما كان في التوراة محظورا. وأيضا: فلا تخلو المحظورات من أن يكون تحريمها مفترضا في كل الأزمنة، لأن الله سبحانه يكره ذلك المحظور لعينه. وإما أن لا يكرهه الله لعينه، بل نهى عنه في بعض الأزمنة. فإن كان الله نهى عن عمل الصناعات في يوم السبت لعين السبت، فينبغي أن يكون هذا التحريم على ابراهيم ونوح وآدم أيضا، لأن عين السبت كانت أيضا موجودة في

زمانهم وهى على التحريم. وإذا كان ذلك غير محرم على إبراهيم ومن تقدمه فليس النهى عنه لعينه، أعني في جميع أوقات وجود عينه، وإذا لزمكم أن تحريم الصناعة في يوم السبت ليس تحريما في جميع أوقات السبت، فليس يمتنع أن ينسخ هذا التحريم في زمن آخر وإذا ظهر قائم بمعجزات الرسالة وأعلام النبوة في زمن آخر بعد فترة طويلة فجائز أن يأتي بنسخ كثير من أحكام الشريعة، سواء حظر مباحاتها أو أباح محظوراتها. وكيف يجوز أن تحتاج بالبينة باعتراض فيما ورد به من أمر ونهي، سواء وافق العقول البشرية أو باينها، ولا سيما أن الخصوم قد طالما تعبدوا بفرائض مباينة للعقول، كطهارة أنجاسهم برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها قبيل أوان الحج، ونجاسة ظاهرهم بذلك الرماد بعينه. على أن الذي يروم تنزيله منزلة هذا أقرب كثيرا إلى العقل فإن الأفعال والأوامر الإلهية منزهة عن الوقوف عند مقتضى العقول البشرية. وإذا كانت التعبدات الشرعية غير عائدة بنفع لله عز وجل، ولا دافعة عنه ضررا لتنزيهه سبحانه وتعالى عن الانتفاع والتأذي بشيء، فما الذي يحيل أو يمنع كونه تعالى يأمر أمة بشريعة، ثم ينهى أمة أخرى عنها، أو يحرم محظورا على قوم ويحله لأولادهم ثم يحظره ثانيا على من يجيء بعدهم؟ وكيف يجوز للمتعبد أن يعارض الرسول في تحليله ما كان حراما على قوم، ويستدل بذلك على كذبه بعد أن جاء بالبينة، وأوعب العقلاء تصديقه وتحكيمه، أليس هذا تحكما وضلالا، وعدولا عن الحق؟.

إفحام اليهود والنصارى بالحجج العقلية وإلزامهم الإسلام:

إفحام اليهود والنصارى بالحجج العقلية وإلزامهم الإسلام: لا يسع عاقلا أن يكذب نبيا ذا دعوة شائعة، وكلمة قائمة، ويصدق غيره. لأنه لم ير أحدهما، ولا شاهد معجزاته. فإذا خص أحدهما بالتصديق، والآخر بالتكذيب، فقد تعين عليه الملام والإزراء عقلا. ولنضرب لذلك مثلا: إذا سألنا يهوديا عن موسى عليه السلام، وهل رآه وعاين معجزاته فهو بالضرورة يقر بأنه لم يشاهد شيئا من ذلك عيانا. فنقول له: بماذا عرفت نبوة موسى وصدقه؟ فإن قال: إن التواتر قد حقق ذلك، وشهادات الأمم بصحته دليل ثابت في العقل كما قد ثبت عقلا وجود بلاد وأنهار لم نشاهدها وإنما تحققنا وجودها بتواتر الأنباء والأخبار. قلنا: إن هذا التواتر موجود لمحمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام، كما هو موجود لموسى عليه السلام، فيلزمك التصديق بهما. وإن قال اليهودي: إن شهادة أبي عندي بنبوة موسى هى شبه تصديق بنبوته. قلنا له: ولم كان أبوك عندك صادقا في ذلك، معصوما عن الكذب؟ وأنت ترى الكفار أيضا يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك إما تعصبا من أحدهم لدينه، وكراهية لمباينة طائفته، ومفارقة قومه وعشيرته، وإما لأن أباه وأشياخه نقلوه إليه فتلقنه منهم، معتقدا فيه الهداية والنجاة. فإذا كنت يا هذا قد ترى جميع المذاهب التي تكفر بها قد أخذها أبناؤها عن آبائهم كأخذ مذهبك عن أبيك وكنت عالما

أن ما هم عليه ضلال وجهل. فيلزمك أن تبحث عما أخذته عن أبيك من أن تكون هذه حالتك. فإن قال: إن الذي أخذته عن أبي أصح مما أخذه الناس عن آبائهم. لزمه أن يقيم البرهان على نبوة موسى من غير تقليد لأبيه لأنه قد ادعى صحة ذلك بغير تقليد. وإن زعم أن العلة في صحة ما نقله عن أبيه أنه رجح أباه على آباء الناس أصدق والمعرفة كما يدعي اليهود في حق آبائهم، لزمه أن يأتي بالدليل على أن أباه أعقل من سائر آباء الناس، وأفضل. فإن هو ادعى ذلك فقد كذب فيه. لأن من ادعى مثل هذا يجب أن يستدل على فضائله بآثاره، وقول اليهود باطل. فإنهم ليس لهم من الآثار في العالم ما ليس لغيرهم مثله، بل هم على الحقيقة لا ذكر لهم بين الأمم الذين استخرجوا العلوم الدقيقة ودونوها لمن يأتي بعدهم وجميع ما نسب إليهم من العلوم ما استفادوه من علوم غيرهم لا يضاهي بعض الفنون الحكمية التي استخرجها حكماء اليونان، والعلوم التي استنبطها النبط وأما تصانيف المسلمين فيستحيل لكثرتها أن يقف أحد من الناس على جميع ما صنفوه في أحد الفنون العلمية لسعته وكثرته. وإذا كان هذا موقعهم من الأمم فقد بطل قولهم إن آباءهم أعقل الناس وأفضلهم وأحكمهم. ولهم أسوة بسائر آباء الناس المماثلين لهم من ولد سام بن نوح عليهما السلام. فإذا أقروا بتأسّي آبائهم بآباء غيرهم، وقد علموا أن آباء غيرهم قد لقنوهم الكفر. لزمهم أن شهادة الآباء لا يجوز أن تكون حجة في صحة الدين. فلا يبقى لهم حجّة في نبوة موسى إلا شهادة التواتر،

وجه آخر في إثبات النسخ وأصولها:

وهذا التواتر موجود لعيسى ومحمد، كوجوده لموسى. وإذا كانوا قد آمنوا بموسى لشهادة التواتر بنبوته، فقد لزمهم التصديق بنبوة المسيح والمصطفى عليهما السلام. وجه آخر في إثبات النسخ وأصولها: نقول لهم: فهل أنتم اليوم على ملة موسى عليه السلام؟ فإن قالوا: نعم. قلنا لهم: أليس في التوراة «أن من مس عظما، أو وطئ قبرا، أو حضر ميتا عند موته، فإنه يصير من النجاسة في حال لا طهارة له منها، إلا برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها» فلا يمكنهم مخالفة ذلك، لأنه نص ما يتداولونه. فنقول لهم: فهل أنتم اليوم على ذلك؟ فيقولون: لا نقدر على ذلك. فنقول لهم: فكيف جعلتم أن من لمس العظم والقبر والميت فهو طاهر يصلح للصلاة وحمل المصحف، والذي في كتابكم خلافه؟ فإن قالوا: لأنا عدمنا أسباب الطهارة، وهى رماد البقرة، والإمام المطهر المستغفر. قلنا: فهل ترون هذا الأمر مع عجزكم عنه مما تستغنون عنه في الطهارة أم لا؟ فإن قالوا: نعم. قد نستغنى عنه. فقد أقروا بالنسخ لتلك الفريضة لحال اقتضاها هذا الزمان.

وإن قالوا: لا نستغنى في الطهارة عن ذلك الطهور، فقد أقروا بأنهم الأنجاس أبدا، ما داموا لا يقدرون على سبب الطهارة. فنقول لهم: فإذا كنتم أنجاسا على رأيكم وأصولكم، فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام، اعتزالا تفرطون فيه إلى حد أن أحدكم لو لمس ثوبه ثوب المرأة الحائض لاستنجستموه مع ثوبه؟ فإن قالوا: لأن ذلك من أحكام التوراة. قلنا: أليس في التوراة أن ذلك يراد به الطهارة؟ فإذا كانت الطهارة قد فاتتكم فإن النجاسة التي أنتم فيها على معتقد كم لا ترتفع بالغسل كنجاسة الحيض، فهى كذلك أشد من نجاسة الحيض، لما أنكم ترون أن الحائض طاهر إذا كانت من غير ملتكم، ولا تستنجسون لامسها، ولا الثوب الذي تلمسه، وتخصيص الأمر، أعني نجاسة الحائض لطائفتكم مما ليس في التوراة، فهذا كله منكم نسخ أو تبديل. فإن قالوا: إن هذا وإن كان النص غير ناطق به فقد جاء في الفقه. قلنا لهم: فما تقولون في فقهائكم. هل الذي اختلفوا فيه من مسائل الخلاف والمذهب- على كثرتها لديكم- كان ثمرة اجتهاد واستدلال منقولا بعينه؟ فهم يقولون: إن جميع ما في كتب فقهنا نقله الفقهاء عن الأخبار عن الثقات من السلف، عن يوشع بن نون عن موسى الكليم عليهما السلام عن الله تعالى. فيلزمكم في هذه المسألة الواحدة التي اختلف فيها اثنان من فقهائكم أن يكون كل واحد

منهما ينقل مذهبه فيها نقلا مستندا إلى الله عز وجل. وفي ذلك من الشناعة اللازمة أن يجعلوا الله قد أمر في تلك المسألة بشيء وخلافه وهو النسخ الذي يدفعونه بعينه. فإن قالوا: إن الخلاف غير مستبعد، لأن الأولين كانوا بعد اختلافهم في المذهب في المسألة يرجعون بها إلى أصل واحد هو المقطوع به. قلنا: إن رجوعهم بعد الاختلاف إلى الاتفاق على مذهب واحد إما لأن أحدهم رجع عما نقل أو طعن في نقله، فيلزمه السقوط عن العدالة، ولا يجوز لكم أن تعاودوا الالتفات إلى نقله، وإما أن يكون الفقهاء اجتمعوا على نسخ أحد المذهبين، أو تكون رواية أحدهما ناسخة لرواية الآخر، وما من الفقهاء إلا قد ألغى مذهبه في مسائل كثيرة، وهذا جنون ممن لا يقر بالنسخ «1» ، ولا يرى كلام أصحاب الخلاف اجتهادا ونظرا، بل نقلا محضا.

إلزامهم النسخ بوجه آخر:

إلزامهم النسخ بوجه آخر: نقول لهم: ما تقولون في صلواتكم وصومكم، هل هى التي فارقكم عليها موسى عليه السلام. فإن قالوا: نعم قلنا: فهل كان موسى وأمته يقولون في صلاتهم كما تقولون: (تقاع شوفار كاذول لحيروا ثلتوو سانيس لقبو صينو وقصلنو باحدّ تياره باع كنفوث ها ارص ال نوى قد شيخا يا روح أنا أدوناى مقبيص ندحى عموا يا روح برائل) . تفسيره: اللهم اضرب بطوق عظيم لعنقنا، واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك يا جامع تشتيت قوم بنى إسرائيل. أم هل كانوا على عهد موسى عليه السلام يقولون كما تقولون في كل يوم: (هاشيب شوفطينو كبار شيونا ويوعصينو كبتحلا وبن أشير برشا لايم عير قد شخا يحيتوونا حمينو بلسنا نا ياروخ أنا أدوناى بوى بروشا لايم) تفسيره: رد حكامنا كالأولين، ومسراتنا كالابتداء، وابن يروشليم قرية قدسك في أيامنا وأعزنا ببنائها. سبحانك يا باني يروشليم. أما هذه فصول شاهدة بأنكم لفقتموها بعد زوال الدولة؟ وأما صوم إحراق بيت المقدس وصوم حصاره وصوم كداليا الذي جعلتموه فرضا، هل كان موسى يصومها وأمر بها هو أو خليفته يوشع

إثبات النسخ على وجه آخر:

بن نون؟ أو صوم صلب هامان، هل هذه الأمور مفترضة بالتوراة، أو زيدت لأسباب اقتضت زيادتها في هذه الأعصار؟ فإن قالوا: وكيف يلزمنا النسخ بهذه الآي. قلنا: لأن التوراة بهذه الآية نطقت، وهي: (لوثوا سيفوا عل هدّا بارا شيرا نوضى مصوى أتخيم ولو تغر عد ممينو) . تفسيره: لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا، وإذا زدتم أشياء من الفرائض فقد نسختم تلك الآية. إثبات النسخ على وجه آخر: نقول لهم: أليس عندكم أنّ الله اختار من بني إسرائيل الأبكار ليكونوا خواص في الخدمة للأقداس. فيقولون: بلى. فنقول لهم: أليس عندكم أيضا أن موسى لما نزل من الجبل ومعه الألواح ووجد القوم عاكفين على العجل، وقف بطرف العسكر ونادى: «من كان لله تعالى فليحضرني» فانضم إليه بنو لاوى ولم ينضم إليه البكور، على أن مناداته وإن كان لفظها يقتضي العموم لم يكن أشار بها إلا إلى البكور، إذ هم خاصة الله يومئذ، دون أولاد لاوي. فلما خذله البكور ونصره أولاد لاوى قال الله لموسى: (واأقاح اث هلويم ثاحث كل نحور بنى إسرائيل) . تفسيره: وقد أخذت اللاوين عوضا عن كل بكر في بني إسرائيل.

إلزامهم نبوة المسيح (عليه السلام) :

وفي عقيب نزول هذه الآية أليس إن الله عزل الأبكار عن ولاية الاختصاص وأخذ أولاد لاوي عوضا عنهم؟ فهم لا يقدرون على إنكار ذلك. وهذا يلزمهم منه القول بالبدء أو النسخ. إلزامهم نبوة المسيح (عليه السلام) : نقول لهم: أليس في التوراة التي في أيديكم: (لو باسنور شيبط منجهوزا ومحوقق مين دغلاو) تفسيره: لا يزول الملك من آل يهود أو الراسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح، فلا يقدرون على جحده. فنقول لهم: أما علمتم أنكم أصحاب دولة وملك إلى ظهور المسيح ثم انقضى ملككم. فإن لم يكن لكم ملك فقد لزمكم من التوراة أن المسيح قد أرسل. وأيضا: فإنا نقول لهم: أليس منذ بعث المسيح عيسى عليه السلام استولت ملوك الروم على اليهود وبيت المقدس، وانقضت دولهم، وتفرق شملهم، فلا يقدرون على جحد ذلك إلا بالبهتان، ويلزمهم على أصلهم الذي في التوراة: أن عيسى ابن مريم هو المسيح الذي ينتظرونه.

إلزامهم نبوته ونبوة المصطفى عليهما السلام:

إلزامهم نبوته ونبوة المصطفى عليهما السلام: نقول لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فيقولون: ولد يوسف النجار سفاحا. كان قد عرف اسم الله الأعظم. فاستخدم كثيرا من الأشياء «1» . فنقول لهم: أليس عندكم في أصح نقلكم: أن موسى عليه السلام قد أطلعه الله تعالى على الاسم المركب من اثنين وأربعين حرفا، وبه شق البحر، وعمل المعجزات؟ فلا يقدرون على إنكار ذلك. فنقول لهم: فإذا كان موسى قد عمل المعجزات بأسماء الله تعالى، فلم صدقتم نبوته وكذبتم نبوة عيسى؟ فيقولون: لأن الله تعالى علم موسى الأسماء، وعيسى لم يتعلمها من الوحى، ولكنه تعلمها من حيطان بيت المقدس. فنقول لهم: فإذا كان الأمر الذي يتوصل به إلى عمل المعجزات قد يصل إليه من لا يختصه الله به، ولا يريد تعليمه إياه. فبأي شئ جاز تصديق موسى، فيقولون: لأنه أخذها عن ربه؟ فنقول: وبأي شئ عرفتم أنه أخذها عن ربه؟ فيقولون: بما تواتر من أخبار أسلافنا؟ وأيضا فإنا نلجئهم إلى نقل أسلافهم، ونقول لهم: بماذا عرفتم نبوة موسى؟ فإن قالوا: بما عمله من المعجزات. قلنا لهم: وهل فيكم من

رأى هذه المعجزات؟ أليس هذا لعمري طريقا إلى تصديق النبوة، لأن هذا كان يلزمكم منه أن تكون معجزات الأنبياء عليهم السلام باقية من بعدهم، ليراها كل جيل بعد جيل، فيؤمنوا به وليس ذلك بواجب، لأنه إذا اشتهر النبي في عصر، وصحت نبوته في ذلك العصر بالمعجزات التي ظهرت منه لأهل عصره، ووصل خبره لأهل عصر آخر، وجب عليهم تصديق نبوته واتباعه. لأن المتواترات والمشهورات مما يجب قبولها في العقل. وموسى عليه السلام ومحمد وعيسى صلوات الله عليهم في هذا الأمر متساوون. ونقول: تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمد عليهما السلام. لأن شهادة المسلمين والنصارى بنبوة موسى ليست إلا بسبب أن كتابيهما يشهدان له بذلك، فتصديقهم بنبوة موسى فرع عن تصديقهم بكتابيهما. وأما معجزات القرآن فإنها باقية، وإذا كانت باقية فتلك فضيلة زائدة لا تحتاج إلى كونها سبب الإيمان. فأما من أعطي ذوق الفصاحة فإن إيمانه بإعجاز القرآن إيمان من شاهد المعجزات، لا من اعتمد على الخبر، إلا أن هذه درجة لم يرشح لها كل أحد. فإن قالوا: إن نبينا يشهد له جميع الأمم، فإن التواتر به أقوى، فكيف تقولون إنه أضعف؟ قلنا: كل اجتماع شهادات الأمم صحيح لديكم؟ فإن قالوا: نعم. قلنا: فإن الأمم الذين قبلتم شهاداتهم مجتمعون على تكفيركم وتضليلكم. فيلزمكم ذلك، لأن شهادتهم عندكم مقبولة.

فصل فيما يحكونه من عيسى عليه السلام:

فإن قالوا: لا نقبل شهادة أحد. لم يبق لهم تواتر إلا من طائفتهم، وهي أقل الطوائف عددا. فيصير تواترهم وشرعهم لذلك أضعف الشرائع. ويلزمهم مما تقدم أن كل من أظهر معجزات شهد بها التواتر مصدق في مقالته ويلزمهم من ذلك: التصديق بنبوة المسيح والمصطفى عليهما الصلاة والسلام. فصل فيما يحكونه من عيسى عليه السلام: هم يزعمون أنه كان من العلماء، وأنه كان يطبب المرضى بالأدوية، ويوهمهم أن الانتفاع المنال حصل لهم بدعائه. وأنه أبرأ جماعة من المرضى من أسقامهم في يوم السبت فأنكرت عليه اليهود ذلك، فقال لهم: أخبروني عن الشاة من الغنم: إن وقعت في البئر يوم السبت، أما تنزلون إليها وتحلون السبت لتخليصها؟ قالوا: بلى. قال: فلماذا أحللتم السبت لتخليص الغنم، ولا تحلونه لتخليص الإنسان الذي هو أكبر حرمة من الغنم؟ فأفحمهم ولم يؤمنوا. وأيضا، فإنهم يحكون عنه: أنه كان مع جماعة من تلاميذه في جبل، ولم يحضرهم الطعام. فأذن لهم في تناول الحشيش في يوم السبت. فقال لهم أرأيتم لو أن أحدكم كان وحيدا مع قوم على غير ملته، وأمروه بقطع النبات في يوم السبت وإلقائه لدوابهم ألستم تجيزون له قطع النبات؟ قالوا: بلى. قال فإن هؤلاء القوم أمرتهم بقطع النبات ليأكلوه لينقذوا به أنفسهم، لا للطعن في أمر السبت كل ذلك

ذكر الآيات والعلامات:

ملاطفة منه لعقولهم التي لا ينطبع فيها النسخ. لئن كان كل ما يحكونه من ذلك صحيحا، فلعله كان في ابتداء أمر المسيح عليه السلام. ذكر الآيات والعلامات: التي في التوراة الدالة على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إنهم لا يقدرون على أن يحجدوا هذه الآية من الجزء الثاني من السفر الخامس من التوراة: (لاهيم وهى تابى أقيم مقارب احيحيم كاموخا ابلا وشيماعون) . تفسيره: نبيا اقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك به فليؤمنوا. وإنما أشار بهذا إلى أنهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم. فإن قالوا: إنه قال: من وسط إخوتهم، وليس في عادة كتابنا أنه يعني بقوله «إخوتهم» إلا بني إسرائيل. قلنا: بلى، قد جاء في التوراة «إخوتهم» لبنى العيص. وذلك في الجزء الأول من السفر الخامس وهو قوله: (ايم عوبريم بقبول احيحيم بنى عيسى وهيوشيم بسيعير) . تفسيره: أنتم عابرون في تخوم إخوتكم بنى العيص المقيمين في سعير، إياكم أن تطمعوا في شئ من أرضهم. فإذا كان بنو العيص إخوة لبنى إسرائيل، لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق، فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم.

الإشارة إلى اسمه صلى الله عليه وسلم في التوراة:

وإن قالوا: إن هذا القول إنما أشير به إلى شموائيل النبي عليه السلام. لأنه قال «من وسط إخوتهم مثلك» وشموائيل كان مثل موسى لأنه من أولاد لاوى، يعنون من السبط الذي كان منه موسى عليه السلام. قلنا لهم: فإن كنتم صادقين فأي حاجة بكم إلى أن يوصيكم بشموائيل، وأنتم تقولون: إن شموائيل لم يأت بزيادة ولا نسخ؟ أشفق من أن لا تقبلوه: لأنه إنما أرسل ليقوي أيديكم على أهل فلسطين، وليردكم إلى شرع التوراة. وبين صفته؟ فأنتم أسبق الناس إلى الإيمان، به لأنه إنما يخاف تكذيبكم لمن ينسخ مذهبكم، وبغير أوضاع ديانتكم، فالوصية بالإيمان به مما لا يستغني مثلكم عنه. ولذلك لم يكن بموسى حاجة إلى أن يوصيكم بالإيمان بنبوة أرميا وأشعيا وغيرهما من الأنبياء. وهذا دليل على أن التوراة أمرتهم في هذا الفصل بالإيمان بالمصطفى وأتباعه صلى الله عليه وسلم. الإشارة إلى اسمه صلى الله عليه وسلم في التوراة: قال الله تعالى في الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة، مخاطبا لإبراهيم الخليل عليه السلام: «وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك، قد باركت فيه وأثمره وأكثره جدا جدا» . ذلك قوله (وليشماعيل أشمعتيخا هنى بيراختى اوثو وهفريتى اوثو

وهربيتى بمادماد) فهذه الكلمة «بمادماد» إذا عددنا حساب حروفها بالجمل وجدناه اثنين وتسعين، وذلك عدد حساب حروف «محمد» صلى الله عليه وسلم. فإنه أيضا اثنان وتسعون. وإنما جعل ذلك في هذا الموضع ملغزا. لأنه لو صرح به لبدلته اليهود وأسقطته من التوراة. كما عملوا في غير ذلك. فإن قالوا: إنما يوجد في التوراة عدة كلمات مما يكون حساب حروفه متساويا لعدد حساب حروف اسم زيد، وعمرو، وخالد، فيكونون أنبياء؟ فالجواب: أن الأمر كما يقولون لو كان لهذه الآية أسوة بغيرها من كلمات التوراة، لكنا نقيم البراهين والأدلة على أنه لا أسوة لهذه الكلمة بغيرها في سائر التوراة. وذلك أنه ليس في التوراة من الآيات ما حاز به إسماعيل الشرف كهذه الآية. لأنها وعد من الله تعالى لإبراهيم بما يكون من شرف إسماعيل، وليس في التوراة آية أخرى مشتملة على شرف لقبيلة زيد وعمرو وخالد وبكر، كما أنه ليس في هذه الآية كلمة تساوي «بمادماد» التي معناها «جدا جدا» وذلك أنها كلمة المبالغة من الله سبحانه وتعالى، فلا أسوة لها من كلمات الآية المذكورة. وإذا كانت هذه الآية أعظم الآيات مبالغة في حق إسماعيل وأولاده، وكانت تلك الكلمة أعظم مبالغة من باقي كلمات تلك الآية، فلا عجب أن تتضمن الإشارة إلى أجل أولاد إسماعيل شرفا، وأعظمهم قدرا صلى الله عليه وسلم. وإذ قد بينا أنه ليس لهذه الكلمة أسوة بغيرها من كلمات هذه

ذكر الموضع الذي أشير فيه إلى:

الآية، ولا لهذه الآية أسوة بغيرها من آيات التوراة فقد بطل اعتراضهم. ذكر الموضع الذي أشير فيه إلى: نبوة الكليم والمسيح والمصطفى عليهم السلام وهو: (وامارادوناى اتكلى وريفور يعاريه سيعير انخرى لانا استخى بعبوريته على طوردفار ان وعمه ربوان قد يشيز) . تفسيره: قال الله تعالى «من سيناء تجلى، وأشرق نوره من سيعير، واطلع من جبال فاران، ومعه ربوات المقدسين» . وهم يعلمون أن جبل سيعير هو جبل الشراة الذي فيه بنو العيص الذين آمنوا بالمسيح عيسى عليه السلام. بل في هذا الجبل كان مقام المسيح عليه السلام. وهم يعلمون أن سيناء هو جبل الطور، لكنهم لا يعلمون أن جبل فاران هو جبل مكة. وفي الإشارة إلى هذه الأماكن الثلاثة التي كانت مقام نبوة هؤلاء الأنبياء للعقلاء أن يبحثوا عن تأويله المؤدى إلى الأمر باتباع مقالتهم. فأما الدليل الواضح من التوراة على أن جبل فاران هو جبل مكة: فهو أن إسماعيل لما فارق أباه الخليل عليهما السلام سكن إسماعيل في برية فاران، ونطقت التوراة بذلك في قوله: (وبيثب بمديار فاران وتقاح لواموا أشامنا يرص مصرايم) . تفسيره: وأقام في برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر. فقد ثبت من التوراة أن جبل فاران مسكن لآل إسماعيل. وإذا

في إبطال ما يدعون من محبة الله تعالى إياهم:

كانت التوراة قد أشارت في الآية التي تقدم ذكرها إلى نبوة تنزل على جبل فاران لزم أن تلك النبوة على آل إسماعيل، لأنهم سكان فاران. وقد علم الناس قاطبة أن المشار إليه بالنبوة من ولد إسماعيل هو محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه بعث من مكة التي كان فيها مقام إبراهيم وإسماعيل. فدل ذلك على أن جبال فاران هى جبال مكة، وأن التوراة أشارت في هذه المواضع إلى نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبشرت به، إلا أن اليهود- لجهلهم وضلالهم- لا يجوزون الجمع بين هاتين العبارتين من الآيتين، بل يسلمون بالمقدمتين ويجحدون النتيجة، لفرط جهلهم. وقد شهدت عليهم التوراة بالإفلاس من الفطنة والرأي وذلك قوله تعالى: (كى غوى أو باذ عيصون هما وابن باهيم تسونا) تفسيره: إنهم لشعب عادم الرأي، وليس فيهم فطانة. في إبطال ما يدعون من محبة الله تعالى إياهم: هم يزعمون أن الله سبحانه وتعالى يحبهم دون جميع الناس، ويحب طائفتهم وسلالتهم، وأن الأنبياء والصالحين لا يختارهم الله تعالى إلا منه، ونحن نناظرهم على ذلك. فنقول لهم: ما قولكم في أيوب النبي عليه السلام؟ أتقرون بنبوته؟ فيقولون: نعم. فنقول لهم: ما تقولون في جمهور بني إسرائيل، أعنى التسعة أسباط والنصف الذين أغواهم برعام بن نباط الذي خرج على ولد سليمان بن داود، ووضع لهم الكبشين من الذهب وعكف على

عبادتهم جماعة من بني إسرائيل وأهل جميع ولاية دار ملكهم الملقب يومئذ شورمون، إلى أن جرت الحرب بينهم وبين السبطيين والنصف الذين كانوا مؤمنين مع ولد سليمان ببيت المقدس، وقتل معهم في معركة واحدة خمسمائة ألف إنسان. فما تقولون في أولئك القتلى بأسرهم، وفي التسعة أسباط ونصف، هل كان الله يحبهم لأنهم إسرائيليون؟ فيقولون: لا، لأنهم كفار. فنقول لهم: أليس عندكم في التوراة، أنه لا فرق بين الدخيل في دينكم وبين الصريح النسب منكم؟ فيقولون: بلى، لأن التوراة ناطقة بهذا: (ككيركا از راخ كاخيم بيهى لقي أدوناي) تفسيره: إن الأجنبي والصريح النسب سواء بينكم عند الله. (توراحات ومتنفاط ايحاد يهى لاخيم ولكيرهكار بتوححيم) . تفسيره: شريعة واحدة وحكم واحد يكن لكم وللغريب الساكن فيما بينكم. وبهذا اضطررناهم إلى الإقرار بأن الله لا يحب الضالين منهم ويحب المؤمنين من غير طائفتهم، ويتخذ أولياءه وأنبياءه من غير سلالتهم، فقد نفوا ما ادعوه من اختصاص محبة الله سبحانه وتعالى لطائفتهم من بين المخلوقين.

فصل في ذكر طرف من كفرهم وتبديلهم

فصل في ذكر طرف من كفرهم وتبديلهم إن سبيل ذوي التحصيل أن يجتنبوا الرذائل، وينفروا مما قبح في العقول السليمة، ورجح زيفه عند الأفهام المستقيمة. ولهذه الطائفة من الفنون الضلالية والاختلال ما تبنو عن مثله العقول، ويخالفه المشروع والمعقول. فمن ذلك: أنهم مع ذهاب دولتهم وتفرق شملهم وعملهم بالغضب الممدود عليهم، يقولون كل يوم في صلواتهم: إنهم أبناء الله وأحباؤه، وذلك قولهم كل يوم في الصلاة: (اهباث عولام اهبثانو أدوناي الوهينو) . تفسيره: الدهر أحبتنا يا إلهنا. (هثبيوا بينو التور انخينا) . تفسيره: ارددنا يا أبانا إلى شريعتك. (أبينوا ملكينو الوهينو) . تفسيره: يا أبانا باملكنا يا إلهنا. (أنا أدوناي أبينوا كوالينوا) . تفسيره: أنت اللهم أبونا منقذنا. (وايث كل رود في يانخا واويبى عدا شخا كوالام كساموا أيام إيجاد ميهم لونوا اثار) تفسيره: وجميع الذين اقتفوا أثر نبيك واعدا جماعتك كلهم عبروا البحر واحد منهم لم يبق.

ويمثلون أنفسهم بعناقيد العنب، وسائر الأمم بالشوك المحيط بأعالي حيطان الكرم. وهذا من قلة عقولهم ونظرهم، فإن المعتني بمصالح الكرم إنما يجعل على حيطانه الشوك حفظا وحياطة للكرم. ولسنا نرى لليهود من بقية الأمم إلا الضرر والذل والصغار، وذلك مبطل لقولهم. وينتظرون فإنما يأتيهم من نسل داود: إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم ولا يبقى إلا اليهود وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به. وقد كان الأنبياء عليهم السلام ضربوا لهم أمثالا أشاروا بها إلى جلالة دين المسيح عليه السلام وخضوع الجبارين لأهل ملته وإتيانه بالنسخ العظيم. فمن ذلك قول أشعيا في نبوته: (وغار زائب عم كبيش يحذا ويربضوا شنيهيم وفارا واذوب ترعينا وارباكبا فارابوخل تبين) . تفسيره: أن الذئب والكبش يرعيان جميعا ويريضان معا، وأن البقرة والدب يرعيان جميعا، وأن الأسد يأكل التبن كالبقرة. فلم يفهموا من تلك الأمثال إلا صورها الحسية دون معانيها العقلية، فتأولوها على الإيمان بالمسيح عند مبعثه، وأقاموا ينتظرون الأسد يأكل التبن، ونصح لهم حينئذ العلائم بمبعث المسيح. ويعتقدون أيضا أن هذا المنتظر متى جاءهم يجمعهم بأسرهم إلى القدس، وتصير لهم الدولة ويخلو العالم من سواهم، فيحجم الموت عن جنابهم المدة الطويلة. وسبيلهم أن يعولوا على متابعة الأسود في غاباتها، وطرح التبن بين أيديها، ليعلموا وقت أكلها إياه.

وأيضا، إنهم في العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة، يقولون في صلاتهم: (الوهيبود الوهي ايوثينو ماوخ على كل بوشي تبيل أرصيحا ويماركول اشبرنشا ما باقو أدوناي الوهي بسرائيل مالاخ وملخو ثو ايلول ما شالا) . تفسيره: يا إلهنا وإله آبائنا املك على جميع أهل الأرض ليقول كل ذي نسمة الله إله إسرائيل قد ملك ومملكته في الكل متسلطنة. ويقولون في هذه الصلوات أيضا: وسيكون لله الملك وفي ذلك اليوم يكون الله واحد. ويعنون بذلك أنه لا يظهر أن الملك لله إلا إذا صارت الدولة إلى اليهود الذين هم أمته وصفوته. فأما ما دامت الدولة لغير اليهود فإن الله خامل الذكر عند الأمم، وأنه مطعون في ملكه، مشكوك في قدرته. فهذا معنى قولهم: اللهم املك على جميع أهل الأرض ومعنى قولهم: وسيكون الملك لله. ومما ينخرط في هذا السلك قولهم: (لا ما يومر وهو كوييم إلى أنا الوهيم) . تفسيره: لم تقول الأمم أين إلههم؟) (وقولهم عور إلا ما يشنان أدوناي هاقيصا مشاثيخا) . تفسيره: انتبه، لم تنام يا رب؟ استيقظ من رقدتك؟. وهؤلاء إنما نطقوا بهذه الهذيانات والكفريات من شدة الضجر من الذل والعبودية والصغار، وانتظار فرج لا يزداد منهم إلا بعدا، فأوقعهم ذلك في الطيش والضجر، وأخرجهم إلى نوع من الزندقة والهذيان

الذي لا تستحسنه إلا عقولهم الركيكة. فتجرؤوا على الله بهذه المناجاة القبيحة، كأنهم ينخون الله بذلك لينخى لهم ويحمى لنفسه، لأنهم إذا ناجوا ربهم بذلك فكأنهم يخبرونه بأنه قد اختار الخمول لنفسه وينخونه للنباهة واشتهار الصيت، فترى أحدهم إذا تلا هذه الكلمات في الصلاة يقشعر جلده، ولا يشك في أن كلماته تقع عند الله تعالى بموقع عظيم، وإنه يؤثّر في ربه، ويحركه بذلك، ويهزه وينخيه. وهؤلاء على الحقيقة ينبغي أن يرحم جهلهم وضعف عقولهم. وأيضا، فإن عندهم في توراتهم: أن موسى صعد الجبل مع مشايخ أمته فأبصروا الله جهرة، وتحت رجليه كرسى منظره كمنظر البلّور، ذلك قوله: (وتراءى ويث الوهي يسرائيل وثاحث رعلاى كراى كيناث هشيفير وخعيصم هشامايم لاطوهره) . ويزعمون أن اللوحين مكتوبين بأصبع الله، ذلك قولهم (بأصباع الوهيم) ويطول الكتاب إن عددنا ما عندهم من كفريات التجسيم، على أن أحبارهم قد تهذبوا كثيرا عن معتقد آبائهم بما استفادوه من عندهم، بما يدفع عنهم إنكار المسلمين عليهم، ما تقتضيه الألفاظ التي فسروها ونقلوها، وصاروا متى سئلوا عما عندهم من هذه الفضائح استتروا بالجحد والبهتان، خوفا من فظيع ما يلزمهم من الشناعة. ومن ذلك: أنهم ينسبون الله تعالى إلى الندم على ما يفعل. فمن ذلك قولهم في التوراة التي في أيديهم:

(ويناجم أدوناي كى عاسااث أذام أرض ويتعصب ال لبو) تفسيره: وندم الله على خلق البشر في الأرض وشق عليه. وقد أفرط المترجم في تعصبه وتحريفه للألفاظ عن موجب اللغة، وفسر (ويناجم أدوناي وناب أدوناي تميمريه) يعني. غار الله في رأيه. وهذا التأويل أيضا وإن كان غير موافق اللغة فهو أيضا كفر، مناقض لما يدفعونه من البدء والنسخ. وأما الدليل على تفسيره (وبتعصيب ال لبوه) وشق عليه. فهو ما جاء في مخاطبة حواء (بتعصيب تيلدي بانيم) تفسيره: بمشقة تلدين الأولاد. فقد تبين أن «العصيب» عندهم في اللسان العبراني: هو المشقة. وهذه الآية عندهم في قوم نوح، زعموا أن الله تعالى لما رأى فساد قوم نوح، وأن شرهم وكفرهم قد عظم ندم على خلق البشر وشق عليه. ولا يعلم البله أن من يقول بهذه المقالة يلزمه أن الله كان قبل أن يخلق البشر لم يكن عالما مما سيكون من قوم نوح وغير ذلك من النقص تعالى الله عما يكفرون. وعندهم: أن الله تعالى قال لشموائيل النبي عليه السلام (ات أول لميلخ على يسرائيل) . تفسيره: ندمت إذ وليت شاءول على يسرائيل. وفي موضع آخر من سفر شموائيل (وأدوناي يخام كى همليح اث شاءول على يسرائيل) .

تفسيره: والله ندم على تمليكه شاءول على إسرائيل. وأيضا فإن عندهم في كتابهم أن نوحا النبي عليه السلام لما خرج من السفينة بدأ ببناء مذبح لله تعالى وقرب عليه قرابين. ويتلو ذلك (ويارح أدوناي ايث ريخ هينحمورح ويومز أدوناي ال لبوا اوسيف عود لقليل اث لماذا ما ياعيور هااذام كى يبصر كيب هااذام راغ منعورا وو لو اوسيف عوز لهكوث اث كل حاى طااشير عاسيثى) . تفسيره: فاستنشق الله تعالى رائحة القتار. فقال الله تعالى، في ذاته: لن أعاود لعنة الأرض بسبب الناس لأن خاطر البشري مطبوع على الردة. ولن أعاود إهلاك جميع الحيوان كما صنعت. ولسنا نرى أن هذه الكفريات كانت في التوراة المنزلة على موسى عليه السلام ولا نقول أيضا: إن اليهود قصدوا تغييرها وإفسادها بل الحق أولى ما اتبع ونحن نذكر الآن حقيقة سبب تبديل التوراة ... الخ وهكذا يستمر شموئيل (السموأل) المتحول للإسلام بلهجته عالية النّبرة هذه. لكن لدينا وثيقة أخرى ليهودي آخر أسلم وراح يبرر لغيره من اليهود سبب إسلامه، إذ يبدو أنهم أنبوه على ذلك، وكان هذا اليهودي المتحول وهو الحبر إسرائيل بن شموئيل (السموأل) الأورشليمي خفيف الظل حقّا، ووثيقته كما هو واضح من لهجتها تشير إلى اتجاه للتحول للإسلام، كان قبله، كما كان قائما في زمانه.. وإليكم هذه الوثيقة التي تعود إلى القرن الثالث عشر للميلاد:

الرسالة السبيعية الحاوية الضوابط الإرشادية بإبطال الديانة اليهودية للحبر إسرائيل بن شموئيل الأورشليمي

الرسالة السّبيعية الحاوية الضوابط الإرشادية بإبطال الديانة اليهودية للحبّر إسرائيل بن شموئيل الأورشليمي «الحمد لله الذي اختص لذاته العلية بقوله السامى (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) وجعل الناس أحزابا وفرقا، وقد تراهم بجهل وعلم كافة إليه يسألون (؟) وأرسل إليهم رسلا وأنبياء جمة، وأحصى معناهم بمحمد خاتم المرسلين. وأمرنا بالصلاة والسلام عليهم وعلى آلهم وأصحابهم أجمعين. أما بعد فهذه الرسالة المسمّاة بالسبعينية، الحاوية لسبعين من القضايا التنبيهية قد تتعلّق بجواب يفيد المعرفة، واستدلالا لزوميا للأحكام التوراتية بالشّرائع القرآنيّة، على سؤال يرد من أحبار اليهود البواقي من الملّة الإسرائيلية إلى رجل مهتد إلى الديانة المحمديّة. صورة السؤال: ألا يا حبيبى: ما الذي ألجأك إلى أن تترك دين آبائك وأجدادك وتوراتهم وشريعتهم وتنتقل إلى دين الكوثيم دين الإسلام، الذي كنت تبغضه وتشنؤه، كما نحن الآن جماعة اليهود ونكره الدخول فيه؟ صورة الجواب: ألا يا بنى إسرائيل، يا أقربائي وبنى جنسي: إني أعلمكم أن الذي ألجأني إلى أن أترك ما عندكم وأدخل في دين الإسلام هو مركب من سبعة قضايا: أولها: أنّي فحصت الفحص البليغ وتركت الغرض والعناد القبيح

فوجدت كلام الأنبياء عليهم السلام وإشاراتهم عن هذا النبي العظيم محمد الذي اتبعته هى منطبقة عليه من كل الجهات، ثم هذه النبؤءات التي رأيتها في كتب الأنبياء وسمعتها. فعلى ظني أنّه ليس عليها مرد مطلقا ولا ناقص بوجه الحق، وهي من سيدنا موسى وأشعيا وداود وزكريا وغيرهم ثم مفردات هذه الشهادة مفنّدة في محلات كثيرة من كتب المباحثات والمجادلات في هذا المعنى مأخوذة من التوراة عينها. فمن جملة ما ذكرت التوراة في سفر التكوين المسمى بالعبراني «باراشيب» بأن لسيدنا إسحاق جد الأنبياء بركة واحدة وذكرت لسيدنا إسماعيل جملة بركات، وعليكم يا أحبائي بمراجعتها. وثانيها: أنّه قبل مطالعتي لهذه البراهين كان دائما يخطر لفكري- كما الآن يخطر لفكركم- وكنت أقول لذاتي بأن توراتنا وزبورنا ونبوّات أنبيائنا لم يوجد فيها أدنى إشارة إلى نبي المسلمين. ولكن بعد مدّة مديدة من الزمان راجعت ذاتي وقلت في عقلي: ويّه.. ويّه. كيف نبي مثل هذا الذي تبعته ألوف وكرّات ومليونات وشعوبه وأمته أكثر بكرّات من شعوب موسى، وتبشيره للناس وإنذاره بترك الكفر والحث على الإيمان بالله ومجاهدته وغيرته الشهيرة، أيهمل ويترك، وينسى من الذكر عند أنبياء بني إسرائيل؟ فهذا القول بهذا الشكل الذي يعلمنا فيه أحبارنا والحاخاميم هو مضاد لكل عقل سليم، بحيث أن أنبياء بني إسرائيل أنبأوا عن أشياء كثيرة وكلية وجزئية، والإشارة عن هذا النبي (محمد) هي من الأشياء الكلية

اللازمة، فكيف يتركونها وينسونها ويه.. ويه.. أنا لا يقبل عقلي كلام الحاخاميم الباطل وتأويلهم. فالتزمت عندما امتلأ فكري من هذا الميزان أن أفتّش وأفحص بزيادة عما كنت أفحص من قبل، فوجدت كما قدّمت. وقلت إن معاني كثيرة وإشارات غزيرة موجودة في التوراة تشير إلى هذا النبي العظيم محمد، وهذه هي التي كانت من جملة الأسباب التي أحوجتني أن أترك الشريعة التوراتية وأتبع الشريعة القرآنيّة المهندمة بغاية الهندام، والمنتظم إليها أخص ما يوجد في الشرائع السابقة. وثالثها: اعلموا يا أقربائي وبني جنسي، أني أخبركم أن الذي حملني بعد ذلك أن أتبع هذا النبي الجليل محمد: من كوني نظرت أنّ جماعة اليهود على بكرة أبيهم في كل مصر ومكان عائشون بغير شريعة التوراة ولا عاملون بأحكامها اللازمة كونهم لا يستطيعون العمل بها، لا، بل ممتنع، وقد تصرمت عنهم بالطبع وتلاشت وهي باقية بالورق فقط، ويظهر من ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد استخدمها إلى أزمنة معلومة محدودة غير راض بخلودها. لا، بل إنه راض بانقضائها وتبديلها. والبرهان على ذلك هو من المشاهدات والمتواترات والتجربيات والحدسيّات والأوليات. إذ إننا نرى أن أعمدة وأركان هذه الشريعة الموسوية التي كانت مسندة عليها وفيها قوامها واستيلاؤها قد انهدمت بالكلّية وعدمت، مثل إبادة الملك والرياسة وعدم وجود الأنبياء وإبطال الكهنوت وخراب الهيكل السليماني وهدم المذبح واندثار الذبائح

ومحق الأسباط وما يتعلق بهم لأن هذه الأعمدة والأركان قد ربط بها الله سبحانه وتعالى جميع ما يلزم من القضايا الدينية المشروعة في التوراة حتى الأحكام المدنية، لكي- إذا عدمت هذه اللوازم الركنية بطلت- (كما هو مشاهد الآن) - نستدل من انعدامها على بطلان الديانة جميعها، بحيث تعلق الدين بها، والبرهان على ذلك واضح جدا وأجلى من ضياء الشمس بضحاها ومشاهد تحت حواسنا بفناها. إذ إنّ الله سبحانه قد نزع الملك منكم والاستيلاء الذي به كنتم تجرون الأحكام الدينية والمدنية وأبطل وجود الأنبياء من سلسلتكم على الإطلاق التي كانت تسوسكم وتنصحكم وتعلمكم وتنبئكم على ما كان وما يكون وتصنع المعجزات لكي تثبت لكم أن الذي كانت تخاطبكم- هو وحي من عند الله. وهذه الكثرة من الأنبياء قد كانت موجودة خاصة عند أمتكم بالحصر، وليست عند من سواها، وآباء الكهنة ورؤساء الكهنة والكهنوت الذي كان لا يتم الخلاص لليهود ولا الغفران إلا بهم وعلى أيديهم، وحتى لا يجوز العمل الذي كانوا يعملونه في الاستغفارات والتخلص من السيئات إلّا بواسطتهم، وهدم المذبح والهيكل الذي عمّره سليمان اللذين كانا لا تتمّ أعمال القرابين إلا بهما. ومحق الله سبحانه وتعالى وهدم معرفة الأسباط ورتبهم ووظائفهم المتعلقة بالخدمات الدينية والأحكام الحرسية والملكية. ورابعها: وهي الأغرب من كلّ ما ذكرناه- أن «أشداي أصباؤت أهيه شراهيه» حين وضع شريعة التوراة وفرضها قد جعل على الأمة اليهودية شرائع ووصايا يجمع عددها ستمائة وثلاث عشرة وصية،

وهذه الوصايا الحاوية على هذا العدد قد ربطها، وحكم حكما صارما على من لم يعملها بستمائة وثلاث عشرة لعنة، لأنه يقال في سفر التثنية، الاشتراع في الإصحاح السابع والعشرين والثامن والعشرين «ملعونا يكون من لا يعملها واحدة واحدة» ثم إن هذا الإله سبحانه وتعالى الذي من جملة أسمائه بالعبرانى «الألوهيم» «الأدوناى» قد وضع على من يخالف هذه الوصايا ولا يعمل بها واسطة للتخلص من تلك اللعنة المترتبة على المخالف: تطهيرات وتكفيرات وغفرانات وذبائح وقرابين بأعداد من الحيوانات والطيور المعلومات. وحصر هذا الألوهيم الياهو في هذه المذكورات أن تصنع وتقرب ضمن الهيكل والمذبح ورسم أيضا بأن من يقدّم قربانا خارج الهيكل يقتل. وأمر بأن تكون القرابين مقدمة له تعالى على أيادي الأحبار ورؤساء كهنتهم. وكان كل من يتعدى ويخالف وصية من هذه الوصايا وتلزمه لعنة من هذه اللعنات يخلص منها بواسطة الكهنة ورؤساء الكهنة والهيكل والمذبح وباقي المذكورات. كما سبق القول. وأما الآن يا أقربائي وبنى جنسي، قد رأيت أن عامة اليهود الباقية من بنى إسرائيل عندما يخالفون وصية من هذه الوصايا وتلزمهم لعنة من هذه اللعنات المشروحة من سيدنا موسى في التوراة ليس لهم وجهة للتخلص منها مطلقا. وهم حزنانين* من كونهم لا يمكنهم العمل بكامل الوصايا المشروحة، ومتحققون أنهم تحت مخالفتهم، وثقيل عليهم حمل اللعنات الموضوعة عليهم. ويمتنع أيضا فرارهم بالتطهيرات والتخلص

من قصاصها ما داموا تحت نيرها، لأن الباب مسدود بواسطة ما أنا عازم على شرحه. ويه.. ويه..! يا أسفاه.. يا حسرتاه، لأن الهيكل الذي عمّره سليمان الذي هو مثال القبّة الموسوية مع المذبح اللذين لا تكون هذه القرابين إلا بهما قد خربا وانهدما، والذبائح والقرابين مع الكهنة ورؤساء الكهنة الذين كانوا يعملونها في الهيكل والمذبح للفداء والتطهير مع باقي ما ذكرناه من النبوة والملك والأسباط ومتعلقاتهم قد اضمحلوا وتلاشوا وما بقي لهم أثر بالكلية، فمن انعدام ما ذكرناه إفرادا وإجماعا، وبطلانه ما عاد يمكن للباقي من الشعب الإسرائيلي التخفف من الخطايا ومن المرتب عليهم من القصاصات. لا، بل وممتنع عليكم يا أحبائي التقرب إلى الله، بحيث التزمتم تبعة لعنات شريعتكم التوراتية مع عدم مكنتكم أيضا التطهيرات المربوطة عليها، وهذا القول ليس هو قولي ولا يجوز عندي أن ألعن، بل هي لعنات شريعتكم وتوراتكم.... وخامسها: يا أحبائي، ليس خافيكم أن في الزمان الماضي قد جاء سيدنا عيسى فاستكبرتم ... وقد وعد سيدنا عيسى بمجئ محمد وأشار إليه بإشارات كثيرة. إنه قد سماه «الفارقليط» وهي كلمة يونانية، وترجمتها للعربي الداعي، وبسبب هذه الإشارات أسلم عبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهما كثير. وسادسها: وإذ رأى الأحبار والحاخاميم الكثير من جماعتهم اليهود الموجودين في تلك الأعصار تابعين لدين هذين الرجلين النبيين العظيمين، وما بقى عندهم إلّا القليل من الناس كما هو مشاهد، فقد

شرعوا في عمل تحريفات وتأويلات وتفسيرات مخالفة لمضامين الشهادة الواردة في التوراة بحقهما. واخترعوا آراء مستحدثة، حتى قد رأوا أن يبقوا الباقين في دينهم إلى الآن. ومع ذلك لما كنت أتردد عندكم كنت أرى أن بعضا منكم مذبذبين ومنقسمة آراؤهم في الكثير مما ذكرته، وهم من الناس العقلاء، وبعض منهم عارفون الحق ولكنهم مربوطون في وظائفهم الدينية والأموال والأولاد والعيال، وبعضهم مغفّلون غير مبالين من دخولهم تحت هذه اللعنات المذكورة التي يلتزم الدخول تحت نيرها جمهورهم بلا محالة بحيث لا يمكنهم عمل الوصايا المربوطة على من لم يعملها هذه اللعنات، مع عدم إمكان عمل الوسائط بالقرابين التي كانت تخلّص الناس منها. ثم ومن أقوى هذه الآراء المستحدثة قد اخترعوا لهم رأيا أبتر ليس له سند من التوراة مطلقا، لا من موسى ولا من موسى وهو التقميص. أعنى أن الإنسان اليهودي عندما يموت وهو غير مكمل الوصايا المشروحة، ومدين إلى الكثير منها ووقع تحت هذه اللعنات فيلزمه الرجوع للدنيا ثاني مرّة أو ثالث مرة أو إلى أكثر من ذلك إلى أن يكمل كل الوصايا ويتخلص من جرثومة هذه اللعنات رويدا رويدا، ثم لما فحصت ودققت واتصلت إلى معرفة هذه القواعد الدينية ورأيت أنها حديثة ولا سند لها من التوراة قلت لنفسي: ويه! ويه! ما الذي يحملك على القعود في هذه الشريعة ... وسابعا: أني قلت لنفسي: يا ترى ما الذي يمنعني من اتباع الحق؟ فقلت: لا مانع

ثم قلت: وما هو الفرق الحاصل فيما بين ديانتي وبين الديانة المحمدية؟ فأجبت ذاتي وقلت: إن الفروقات الباقية اللازمة والضرورية في هذا المعنى غير المتقدم شرحهنّ سبعة: الفرق الأول: هو ترك فرائض المأكولات التي حرمتها الحاخاميم وأثقالها. الثاني: التخلص من هذه اللعنات ونكباتها. الثالث: أن أطرح التجديف الذي كنت أتكلمه بحق عيسى وأمه وغيرهما من حوارييه وتعليماته. الرابع: أن أقر أن عيسى نبي ورسول من عند الله برسالة معلنة بأفرادها. الخامس: أن أقلع البغضة المزروعة في قلبي بحق الأمم من الناس وهي معي عن آبائي وأجدادي، وبحق محمد المصطفى بنوع أبلغ الحاوي أكثر المحامد وصفاتها. السادس: الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. السابع: أعترف بأنه جاء بشريعة عدلية وفضيلة كاملة حاوية معنى جوهريات ما جاء في الشرائع السابقة.. هذا هو الذي يزيد علىّ ويلزمني إذ إن إيماني بوحدانية الله هو هو وختاني بمطهوري هو هو، وبعدي عن المرأة في أوقات معلومة هو هو وتطهيراتي وإسقاط غسلي هي هي وكثير من الأحكام التوراتية، كأوجه الزواج المربوط بالقرابات عدا وجهين زائدين هي هي، واعترافي بموسى ونوح وإبراهيم وباقي الأنبياء هوهو. والشرائع العدلية كالعين

بالعين والسن بالسن هي هي. وقد رأيت كل ما يلزم ويتعلق اتباعه لذلك هو هو.. ومن بعد وقوفكم على جوابي هذا أرجو أن تعذروني وإن كان يغيب عنكم شئ اطلبوا إلى الله تعالى أن يرشدكم ويأتيكم بالبيان. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ***** ويشير توماس أرنولد في كتابه الشهير (الدعوة للإسلام) * إلى عدد من المتحولين للإسلام ممن كتبوا كتبا، لكنه لم يحدد بالنسبة لبعضهم إن كان قد تحول من المسيحية أم من اليهودية ****

ثانيا مقدمة عزرا حدّاد مترجم النص من العبريّة

ثانيا مقدمة عزرا حداد مترجم النص من العبرية

مقدمة المترجم منازل قوم حدثتنا حديثهم ... ولم أر أحلى من حديث المنازل «أبو العلاء المعري» - 1-[هذا كتاب «رحلة بنيامين» ] هذا كتاب «رحلة بنيامين» * أقدمه إلى الناطقين بالضاد تلبية لرغبة أبداها عدد من إخواني أدباء العراق ومؤرخيه، لما احتوته هذه الرحلة من معلومات مهمة عن أحوال العالم عامة والشرق الإسلامي خاصة، في عصر من أخطر العصور التأريخية في الشرق والغرب- القرن السادس للهجرة والثاني عشر للميلاد- مما يجعلها في مصاف أهم الرحلات القديمة، وأوثق المصادر التأريخية المعروفة. ولقد كانت كتب الرحلات ويوميات الأسفار، ولا تزال، من أهم الوثائق المعول عليها في كتابة التأريخ قديمه وحديثه. وروايات الرواد وحكايات الجوابين من أخص ما يعنى به المؤرخون عند تدقيقهم وتمحيصهم الحوادث التأريخية في كل زمان ومكان. فالرحالة بفضل مشاهدته الأماكن والبقاع التي يرتادها عيانا، واتصاله اتصالا قاصدا بأهل الأقطار التي يجوبها، واطلاعه عن كثب على أحوالها وسير أمورها وإدارتها؛ ليعطينا عن أوضاع الأمم سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، في مختلف العصور، صورة واضحة قريبة من الواقع، تسهّل مهمة المؤرخ المعتكف بين جدران خزانته، يجوس خلال الكتب والسجلات والوثائق.

وكتب الرحلات، على ما قد يتخللها من نقائص وهفوات، وعلى ما قد يشوبها أحيانا من مبالغات وأخذ الأمور بشكلها السطحي الظاهر؛ لا تقل أهمية لطلاب التأريخ عن كثير من الوثائق المحفورة على أحجار الأوابد وجدران القصور والمعابد الأثرية التي يعمل النقابون على اكتناه أسرارها وحل رموزها وطلاسمها، واجتلاء خباياها وما تعقّد من معضلاتها. لأن بعض هذه الكتابات قد تكون بعيدة عن كبد الحقيقة أو قد تكون موحى بها من ملك متنفذ أو أمير متحكم أراد أن يشيد بعظمته ويقص على المتأخرين أحاديث فتوحاته وغزواته، وأقاصيص سؤدده وسلطانه؛ بعبارات كلها أو جلها إغراق وإسفاف في التصوير. والمؤرخ إذا أخذ مثل هذه الكتابات على علاتها من غير تمحيص وروية وتدقيق؛ شذ عن جادة الصواب وحاد، غير قاصد، عن محجة الحقيقة التي يجدّ في طلبها. أما الجوّابون*، وأكثرهم لا يمت إلى ذوي السلطان بصلة، فكان شأنهم عند تسجيل مشاهداتهم غير ذلك. فهم لم يركبوا الأهوال ويتجشموا مشاق السفر إلى الأقطار السحيقة، في عصور تباعدت الشقة بين بلدانها ووعرت المسالك وعسرت طرق المواصلات؛ لنظم قصائد المديح ونسج عبارات الثناء لأرباب القصور وأصحاب التيجان. إنما كانوا يعنون بالدرجة الأولى، في دراسة أحوال البلدان التي يجوبونها ومعرفة سهلها ووعرها وجبالها وحزونها وأوديتها وأنهارها وخيراتها وغلتها والوقوف على محاسنها ومساوئها وتقدمها أو

2 - جغرافيو المسلمين وروادهم في القرون الوسطى

انحطاطها وسيرة أهليها وعقائدهم ودرجة حضارتهم ومدنيتهم وطرق معيشتهم وأسباب رزقهم وما اتصفوا به من أخلاق وعادات وخمول ونشاط وقعود ونهوض، وما إلى ذلك من أحوال لها الأثر المباشر في سير التأريخ وتطور الأحداث. فتراهم يمتدحون ما يجدر بالمدح ويشجبون ما يستحق الذم من غير ما خوف أو رقابة، فتخرج لنا الصورة التي يرسمونها للبلدان والأقطار التي ارتادوها، في غالب الأحيان، قريبة من الواقع، دانية من الحقيقة، وبذلك كانت خدمتهم للتأريخ والمؤرخين عظيمة وافية. 2- جغرافيو المسلمين وروادهم في القرون الوسطى في عصور الإسلام الزاهرة، امتدت الفتوحات العربية والغزوات الإسلامية إلى الهند وتخوم الصين شرقا وجبال البرانس وشواطئ بحر الظلمات (الأطلنطي) غربا. فلما هدأت تلك الموجبة الجارفة من الغزوات، واستقرت الحدود بعض الاستقرار في القرن الرابع للهجرة (العاشر للميلاد) كانت حدود مملكة الإسلام، كما يعينها ابن حوقل، تمتد «من الهند وبحر فارس شرقا ومملكة السودان الذين يسكنون على المحيط الأطلسي غربا وبلاد الروم وما يتصل بها شمالا وبحر فارس جنوبا «1» وكان طبيعيا، بل نتيجة محتومة، أن تتضعضع الوحدة السياسية في هذه الأقطار الشاسعة بعد أن دامت ردحا من الزمن، وأن

تتجزأ مملكة الإسلام إلى دول صغيرة أو كبيرة بمقتضى الأحوال والظروف وتغلّب الأمراء. وانتهت الإمبراطورية العربية إلى مثل ما انتهت إليه من قبلها امبراطورية الإسكندر وإمبراطورية الرومان، فلم يعد من الميسور إدارة تلك الرقعة الشاسعة التي لم تكن تقطع من شرقيها إلى غربيها- على ما يرويه المقدسي- بأقل من عشرة أشهر، من حكومة مركزية واحدة. وقد يكون لتباين الأهواء والمشارب السياسية والميول المذهبية أثر كبير نضيفه إلى المؤثرات الجغرافية والإقليمية لتعيين أسباب هذا التجزؤ أو التعجيل به على الأقل. لكنه قد حدث فعلا؛ وقبل مسلمو تلك الأجيال الأمر الواقع وسلّموا به. على أن هذه الأقطار الشاسعة التي فرّقت ما بينها الحدود الإدارية المصطنعة والتخوم السياسية المستحدثة، كانت تربطها أواصر وحدة روحية تخطت الحدود المرسومة والحواجز الموهومة. تلك هي رابطة الدين، وصلة المعتقد والعرف، وقرابة الدم والعنصر ووشائج العقل والفكر واللغة والثقافة. فقد استطاعت الفتوحات الإسلامية- وهذا ما يميزها عن غيرها من غزوات الأقدمين- أن تسبك تلك الأقطار المترامية في قالب روحي محكم البنيان، وتلحمها بلحمة دين موحد لم تستطع تقلبات الأحداث السياسية فصم عروته الوثقى أو تفريق كلمته المثلى. فكان المسلم، حيثما تنقل داخل حدود هذه المملكة، يجد نفسه بين إخوان له، يظله ما يظلهم من دين ويسري عليه ما يسري عليهم من شرع وعرف وعادات. وأينما ألقى عصا الترحال من أصبهان وبغداد شرقا والقاهرة وغرناطة غربا، وجد الجامع الذي يؤدي

فيه فريضة الصلاة. والرباط الموقوف على إيوائه وإطعامه إذا جاع، والمدرسة التي يتلقى فيها علوم الدين والدنيا، والمارستان الذي يعالجه إذا ما ألم به مرض. مثل هذه العناية التي كان المسلم يلقاها أو يتوقع أن يجدها في مختلف الأقطار الإسلامية، والرغبة الملحة التي كانت تحمل الكثير من المسلمين إلى الاطلاع على شؤون تلك الرقعة التي تربط ما بينها وشائج الدين والقربى ودرس أحوالها عن كثب، كانت الحافز المهم لشد الرحال للسفر والتجوال بين تلك البلدان المتباعدة شرقا وغربا. فمنهم من كان يرحل للعلم والوقوف على جغرافية الممالك الإسلامية والتعرف إلى أصول إدارتها ودرجة رفاهة أهليها وخيرات بلادهم وزروعهم وصناعتهم وتجارتهم؛ وبالإجمال درس أحوالهم العمومية من كافة الوجوه. ومنهم من كان يرحل للتجارة والبيع والشراء وتبادل السلع فدوّن عدد منهم وصف البلاد التي هبطوا إليها وقيّدوا مشاهداتهم في المدن التي زاروها والمسافات التي قطعوها والصعاب التي اجتازوها، ورسموا طبيعة تلك البلدان مع ذكر أنهارها وجبالها وحزونها ووهادها وطرق مواصلاتها وقناطرها وأوضاع أهليها، وما امتازوا به من أخلاق وعادات، فمدحوا ما يستحق المديح وعابوا ما يجدر به الذم والانتقاد، ومن ثم جاءتنا هذه المجموعة النفيسة من كتب الجغرافية والرحلات ومعاجم البلدان، وكلها من تدوين أولئك الفطاحل الذين تجشموا الصعاب وركبوا متون الأخطار فجابوا الأقطار المختلفة وشاهدوا وسجّلوا كل كبيرة وصغيرة وقيدوا كل شاردة وواردة؛ وبذلك أدّوا للجغرافية

والتأريخ خدمة تذكر فتشكر على مرّ العصور وكرّ السنين. وهناك عامل ديني مهم، عدا الدافع العلمي والمقصد التجاري، كان حافزا للمسلم على التجوال والترحال. تلك هي فريضة حج بيت الله الحرام الواجبة على كل من استطاع إليه سبيلا من المسلمين. فكان الخلفاء والسلاطين والأمراء يعنون العناية الفائقة بتنظيم طرق الحج وتعبيدها وتوفير آبارها وموارد مياهها وتوطيد الأمن في ربوعها وضمان راحة الحجيج وسلامتهم، بقدر ما تسمح به الظروف والأحوال، رعاية منهم لهذه الفريضة المقدسة. فكانت قوافل الحج تسلك في ذهابها وإيابها سبلا مطروقة ومسالك مألوفة؛ فيها كلّ التسهيلات التي كان من الميسور توفيرها في تلك العصور. وإننا لنرى عددا من الرحالين العرب والمسلمين في القرون الوسطى يرافقون هذه القوافل ويتبينون مسالكها ومفاوزها ويدوّنون ملاحظاتهم ومشاهداتهم ليستفيد منها الخلف. ونحن إذ كنا بصدد عرض عام لا التفصيل والإسهاب؛ ومهمتنا تنحصر بالأوضاع التي كانت تسود مملكة الإسلام في القرن السادس للهجرة (الثاني عشر للميلاد) ؛ اكتفينا بذكر عدد من مشاهير جغرافيي المسلمين ورحاليهم في ذلك العصر وما إليه. فمنهم من الجغرافيين، ابن خرداذبه صاحب كتاب «المسالك والممالك» (250 هـ- 864 م) واليعقوبي الذي وضع جغرافيته في القرن الرابع للهجرة والعاشر للميلاد. وقدامة بن جعفر المتوفى سنة (310- 922 م) والبلخي المتوفى سنة (346 هـ- 934 م) وابن حوقل المتوفى سنة

(371 هـ- 981 م) وأبو دلف ابن المهلهل صاحب «عجائب البلدان» من القرن الرابع للهجرة (العاشر للميلاد) والمسعودي المتوفى سنة (367 هـ 957 م) وأبو الريحان محمد البيروني (369- 441 هـ. و979- 1049 م) وياقوت الحموي صاحب «معجم البلدان» (575- 627 هـ. و 1179- 1229 م) . ومن كبار الرحالين الذين وصلت إلينا أسفارهم وتنقلاتهم، ناصر خسرو صاحب «السفرنامة» المتوفى سنة (542 هـ- 1060 م) . وأبو الحسين محمد بن جبير الأندلسي المتوفى سنة (614 هـ- 1217 م) وعلي الهروي صاحب «إشارات إلى معرفة الزيارات» المتوفى في حلب سنة (611 هـ. 1214 م) وأسامة بن منقذ صاحب «الاعتبار» المتوفي سنة (584 هـ 1188 م) . وعبد اللطيف البغدادي صاحب «الإفادة والاعتبار» من القرن السابع للهجرة والثالث عشر للميلاد. وابن سعيد المغربي صاحب «المغرب» من القرن السابع للهجرة والثالث عشر للميلاد، وابن بطوطة الرحالة المعروف المتوفى سنة (770 هـ 1368/1369 م) وأضرابهم كثيرون من الذين وصلت إلينا كتبهم وأخبار تجوالهم وأسفارهم وخلفوا لنا هذه الثروة القيمة- مكتبة الجغرافية العربية.

3 - الرواد اليهود في القرون الوسطى

3- الرواد اليهود في القرون الوسطى إن اليهود في أسبانية والشرق، خالطوا العرب في عصورهم الذهبية، وتأثروا بتفكيرهم واقتبسوا لغتهم وتحلّوا بآدابهم، وضربوا بسهم وافر في جميع نواحي نشاط الفكر العربي. لذا لم تكن الأسفار البعيدة والرحلات المديدة غريبة عنهم أيضا. على أنه من الحق أن نشير هنا إلى أن الدوافع التي كانت تحدو باليهودي الأوروبي على ترك دياره والضرب في طول الأرض وعرضها لم تكن كلها اختيارية، ولم تكن كلها لمجرد الاطلاع أو الوقوف على أحوال الأقطار المختلفة. بل كانت هناك ثلاثة عوامل أساسية تدفعه طوعا أو كرها إلى الإكثار من الرحيل والتجوال. أما العامل الأول فكان سياسيا. إذ كان اليهودي الأوروبي، في عرف تلك العصور المظلمة، ملكا لأمير الإقطاع يصنع به ما توحي إليه رغبته ومصلحته. وعلى هذا، قلما كان له مطلق الحرية للإقامة حيث شاء. كما لم يكن مطمئنا على سلامته واستقراره في موطنه ومسقط رأسه. بل كان يجد نفسه بين فترات متقاربة أو متباعدة، حيال قرار مؤلم خطير يجب أن يتخذه بمنتهى السرعة- وهو أن يتخير بين أن يترك دينه ومعتقده باعتناق ديانة السلطة القائمة، أو أن يبارح موطنه ويحمل عصا الترحال، تاركا وراءه كل ما ملكه من حطام دنياه الضيقة. ولما كان الشق الأخير من هذا الخيار المؤلم أكثر ما يؤثره اليهودي على الرغم مما كان فيه من تضحية تبلغ في أغلب الأحيان الجود بالروح في سبيل المعتقد؛ فإن تعبير «اليهودي التائه» لم يكن في

غير محله بالنسبة للجماهير الغفيرة* من أبناء هذه الطائفة على شواطئ الرون والسين وضفاف الراين والموزيل. ولا بدع إذا رأينا الجماعات اليهودية، في أثناء فترات الهدوء التي كانت تطول أو تقصر بحسب الأهواء والظروف، تبعث بالوفود إلى مختلف الأقطار والبقاع القريبة أو البعيدة، تجوس خلالها وتدرس أحوالها، للعثور على المأوى الأمين، تلجأ إليه إذا ما حان اليوم العصيب ودقّت نواقيس الرحيل. وأما العامل الثاني فكان دينيا. وهو تلك الرغبة الملحة التي كانت تدفع بأتقياء اليهود إلى ركوب الأهوال واقتحام المخاطر لحج بيت المقدس والتبرك بقبور الأنبياء ومقامات الصالحين. فحج بيت المقدس، وإن لم يعد فرضا دينيا على اليهودي منذ خراب هيكل القدس في القرن الأول للميلاد، فإن اليهودي التقي كان يشعر بلهفة متأججة إلى زيارة أماكن التوراة ومهبط الوحي ومثوى الأنبياء، غير عابيء بالحقيقة الواقعة، هي كونه لا يتمتع بحماية سلطان أو رعاية أمير، سيما أيام الحروب الصليبية. وكان أن دوّن عدد من هؤلاء الحجاج ما شاهدوه في البلاد المقدسة والأقطار المؤدية إليها، فخلّفوا للأجيال المتأخرة هذا التراث الممتع من كتب السياحة والأسفار. وأما العامل الثالث فكان اقتصاديا. وذلك لأن القوانين والقيود التي كان تحرّم على اليهودي الأوروبي في القرون الوسطى امتلاك العقار والاشتغال بالزراعة، قد دفعته مرغما إلى أحضان التجارة والأمور المالية**

فلا بدع إذا وجدنا اليهودي في تلك العصور، في كل ثغر تجاري وميناء بحري في الشرق والغرب، يجوب الأقطار البعيدة قادما من أوروبة يحمل مختلف السلع والبضائع للبيع والمقايضة. ثم يعود إليها بنتاج الشرق الغني بخيراته ومحاصيله. وهذا ابن خرداذبه يصف هؤلاء التجار أصدق وصف بأدق تعبير إذ يقول: « ... إنهم يسافرون بين الشرق والغرب. ويحملون من فرنجة الخدم والغلمان والجواري والديباج والخز الفائق والفراء والسمور ويركبون البحر من فرنجة ويخرجون بالفرما، ويحملون تجارتهم على الظهر إلى القلزم. ثم يركبون البحر الشرقي من القلزم إلى جدة والحجاز. ثم يمضون إلى السند والهند والصين. فيحملون من الصين المسك والعود والكافور والدارصيني وغير ذلك. ويرجعون إلى القلزم. ثم يتحولون إلى الفرما. ويركبون البحر الغربي. فربما عدلوا بتجارتهم إلى القسطنطينية فباعوها للروم. وربما صاروا بها إلى بلاد الفرنجة فباعوها هناك. وإن شاؤوا حملوا تجارتهم في البحر الغربي فخرجوا بأنطاكية. فكانوا يتكلمون العربية والإفرنجية والفارسية والرومية. وهم تجار اليهود الذين يقال لهم الرهدانية أو الراذانية «1» .» أ. هـ.

ويذكر ابن الفقيه أن المسلمين كانوا يطلقون على هؤلاء التجار من اليهود اسما مجردا هو «تجار البحر» «1» . ويذهب البيروني إلى أن بلاد كشمير كانت مغلقة الأبواب في وجه جميع التجار الأجانب، فلم يكن يدخلها إلا القليل منهم وخصوصا من اليهود «2» . هذه العوامل التي ذكرناها وأمثالها، أنجبت عددا من مشاهير الرواد اليهود في القرون الوسطى؛ فكانت حكايات سياحتهم وكتب رحلاتهم من أهم المصادر لتأريخ تلك العصور وجغرافيتها، ليس بالنسبة لليهود فحسب، وإنما للعالم المعروف يومئذ في القارات الثلاث. وإننا لنذكر في ما يلي عددا من هؤلاء الرواد الذين وصلت إلينا أسفارهم، مع العلم أن بحثنا في هذا الكتاب يقف دائما عند نهاية القرن الثاني عشر للميلاد أو بعدها بقليل. فمنهم: الداد الداني- خرج في حدود سنة 880 م. من موقع ما في شرقي إفريقية مما يحاذي عدن (ربما كان الصومال) في رحلتين زار خلالهما بلاد الحبش وديار مصر فالقيروان وبلاد المغرب وأسبانية، ثم زار اليمن وعرج على البحر الهندي وخليج البصرة فبغداد ومنها إلى أفريقية فأسبانية. وأبو الحسن يهوذا بن صموئيل اللاوي الطليطلى (1085- 1140 م) الشاعر الفيلسوف الكبير. خرج من مسقط رأسه يريد حج بيت المقدس وهو يومئذ في احتلال الصليبيين. فزار

مصر والشام ومات شهيدا* عند أسوار أورشليم. وفي ديوانه قصائد تعد من عيون الشعر العبري الأندلسي يعبر بها عن الحنين الذي حدا به إلى زيارة بلد الأنبياء ومهبط الوحي، والأهوال التي عاناها في رحلته. وأبو إسحاق إبراهيم بن مئير بن عزرا الطليطلى الأندلسي ولد في طليطلة سنة 1093 م وتوفي في رومية سنة 1167 م. كان شاعرا كبيرا وفيلسوفا معروفا ومفسّرا عظيما. قام برحلة علمية طويلة زار في أثنائها مصر وفلسطين والعراق ورودس وإيطالية وفرنسة وإنكلترة. فكان في لندن سنة 1157 م. وفي رواية أنه زار الهند أيضا. وبنيامين بن يونة التطيلى النباري الأندلسي قام برحلته التي نضعها بين أيدي القراء في حدود سنتي 1165- 1173 م وسيأتي الكلام عليه. وفتاحية الرتسبوني أو الرجنسبرجي قام برحلته إلى الشرق الإسلامي برا في حدود سنتي 1175- 1185 م. عن طريق براغ وبولونية وكييف والقرم فالقوقاز، ومن ثم عرج على أرمينية والفرات والموصل فبغداد وإيران وسورية وفلسطين واليونان. فكانت زيارته لمدينة بغداد، على ما يظهر، في زمن الخليفة الناصر لدين الله العباسي. وتعد رحلته من الوثائق المعروفة. ويعقوب بن نثنيال كوهن زار فلسطين قبيل استيلاء صلاح الدين الأيوبي على القدس سنة 1183 م. وخلف رسالة قيمة في رحلته.

ويهوذا بن سليمان الحريزي الطليطلي (1170- 1230 م) الشاعر الكبير، ناقل الكتب المهمة من العربية إلى العبرية، ومؤلف كتاب «مقامات الحريزي» العبرية التي ضارع بها مقامات الحريري العربية. قام برحلة طويلة زار خلالها مصر وفلسطين والشام والعراق، ووصف مشاهداته وذكر العظماء والعلماء الذين قابلهم في المدن التي زارها. ويعقوب، رسول الرابي يحيئيل الباريسي خرج من فرنسة سنة 1238 م. في رحلة طويلة استغرقت ست سنوات زار خلالها فلسطين وسورية والعراق فالأهواز، ووضع رسالة قيمة في رحلته. هؤلاء الرواد وأمثالهم كثيرون من الذين يضيق بنا المقام عن ذكرهم. تجشموا مشاق السفر وركبوا متن الأخطار والأهوال في تلك العصور المظلمة، وخلفوا لنا عن رحلاتهم تلك «1» ، رسائل ثمينة تعد من أوثق المصادر التأريخية. والملاحظ هنا أن تيار الرحلات والأسفار اليهودية في القرون الوسطى، كان يتجه دائما من الغرب نحو الشرق. وقلما نعرف عن رحالة من يهود الشرق يمم شطر أوروبة للدرس والاطلاع أو الاتجار باستثناء بعض العلماء الذين كانوا يرحلون إليها للتعليم في مدارسها.

ولهذه الظاهرة أسباب تتصل بالعوامل الثلاثة التي بيناها. فمن الوجهة السياسية كانت القرون الوسطى شديدة الوطأة على يهود أوروبة بأجمعها، إذا استثنينا أسبانية الإسلامية، ذاقوا فيها من ضروب التعسف والاضطهاد والتقتيل والتشريد ما يعجز عن تبيانه القلم. أما يهود الشرق، فكانوا أسعد حظا وأكثر استقرارا واطمئنانا على أرواحهم وموطنهم وأموالهم من إخوانهم في الغرب. فقد ترك لهم خلفاء المسلمين وسلاطينهم حرية الإيمان والمعتقد وأمّنوهم على أرواحهم وما ملكت أيمانهم بدافع الشرع القويم والعرف والتسامح. فلم يكن اليهودي، وهو من أهل الذمة، ملزما بأكثر من جزية بسيطة يدفعها إلى بيت مال المسلمين لقاء حصوله منهم على حقوقه المشروعة. وإذا كان يهود الشرق عانوا أحيانا بعض الشدة في عهود الانحطاط من بعض الأمراء المتغلبين، فإن تلك الأوضاع الشاذة ما كانت تدوم إلا أمدا قصيرا. إذ لم تكن هناك خطة اضطهاد مرسومة وسياسة عداء مقررة. ولم تبلغ الحال، في أشد أيامها، مبلغ الطرد الإجماعي أو التقتيل بالجملة، مثلما كان يحدث في أوروبة. لذلك كان يهود الشرق يعيشون في استقرار ودعة واطمئنان، فلم يكن ثمة ما يبرر مبارحتهم ديارهم إلى بلاد الغرب وهي يومئذ على ما وصفنا. أما حج بيت المقدس فلم يكن غير مرغوب فيه من يهود الشرق. بل

كان اليهودي التقي في مختلف العصور يجد من نعمة الله عليه أن يتاح له حج البلاد المقدسة والتبرك بقبورها وزيارة مقامات الصالحين فيها. غير أن بيت المقدس لم يكن بعيدا عن اليهودي الشرقي ولم تفصله عنه البحار التي كانت يومئذ مليئة بالقرصان، محفوفة بالأخطار. وهو إذا ما أم الديار المقدسة لم يكن يشعر بأنه انتقل إلى محيط يختلف عن محيطه أو بيئة تشذ عن البيئة التي نشأ فيها سواء أكان ذلك في الشام أم في العراق أم في مصر. فلم يكن يقع بصره على مناظر غير مألوفة لديه كما هو الحال بالنسبة إلى أوروبي يزور الشرق. والسائح أو الحاج لا يسجل من الأمور سوى ما كان غريبا عنه بعيدا عن مألوفه ومحيطه. لذلك قلما نجد بين يهود الشرق من كتب عن رحلته أو دوّن مشاهداته. وأما السفر بقصد التجارة والبيع والشراء فلم يكن مما يضطر اليهودي الشرقي إلى خوض البحار وتجشم الأخطار. ذلك لأن البلاد التي يعيش فيها كانت مصدر أكثر البضاع والسلع في القرون الوسطى. وكان لزاما على الأوروبي دون الشرقي أن يقصد البلدان التي كانت في تلك الأحقاب مركز التبادل التجاري بين الشرق والغرب. لذلك ما كان ليهود الشرق أن يتحملوا مشاق السفر إلى أوروبة لهذا الغرض إلا فيما ندر. ومن ثم كان الاتجاه دائما من الغرب صوب الشرق.

4 - الحجاج المسيحيون في القرون الوسطى

4- الحجاج المسيحيون في القرون الوسطى في القرون الوسطى لم يعن الأوروبيون بالسياحة والتجوال بين أقطار الشرق الإسلامي وارتياد بلدانه وانتجاع أراضيه لمجرد الشغف بالاطلاع أو محض المقاصد العلمية والجغرافية والسياسية مثلما كان دأبهم ولا يزال في القرون الأخيرة والعصر الحاضر. إنما كان الدين العامل الوحيد الذي يدفعهم إلى تجشم مشاق السفر وشد الرحال لزيارة الديار المقدسة. ذلك لأن فلسطين تحتل مركزا رفيعا في قلوب المسيحيين. ينظرون إليها نظرة تقديس وإجلال، شأنهم في ذلك شأن اليهود والمسلمين. فهي عندهم بلد التوراة ومهد المسيح ومنبت النصرانية. وحيثما تنقلوا في أرجائها وجدوا تراث الحواريين وكنائس القديسين ومراقد الصالحين. وتأريخ الكنيسة قديمه وحديثه، يرتبط ارتباطا وثيقا بتلك البقعة الشريفة التي يقدسها أبناء الأديان السماوية أجمع. فلا بدع إذا رأينا الحجاج الأوروبيين في القرون الوسطى يتوافدون على بيت المقدس من كل حدب وصوب، شغوفين بزيارة الأماكن المقدسة التي لها علاقة بالسيد المسيح ورسله وحوارييه. وأخبار أولئك الحجاج وحكايات تنقلاتهم وروايات أسفارهم وسجلات مشاهداتهم تملأ العدد الوافر من كتب الرحلات القديمة، لا غنى عنها لمن أراد الاطلاع على أحوال الشرق الإسلامي في تلك العصور. ويمكن القول على وجه التأكيد: إن اهتمام النصارى بزيارة الديار

المقدسة قد بدأ مع القرن الرابع للميلاد، أي عندما اعتنق قسطنطين الكبير (312- 337 م) النصرانية وجعلها الدين الرسمي للدولة الرومانية. فقد قوي سلطان الكنيسة منذ ذلك التأريخ فبسطت سيطرتها على أفكار الجماهير فصارت توجه معتقدهم وعقليتهم ونشاطهم إلى الناحية التي كانت تريدها فأذكت في نفوسهم الحماس الديني، وبذلك اتجهت الأنظار بطبيعة الحال إلى فلسطين- بلد المسيح ومهد النصرانية. وقد ساعد على هذا الاتجاه كون الديار المقدسة يومئذ جزءا من رقعة تلك الإمبراطورية الواسعة، وعناية الدولة بالمحافظة على تراث النصرانية فيها وتيسير الأمن والراحة في الطرق المؤدية إليها، شأنها في ذلك شأن عناية خلفاء المسلمين بطريق الحج إلى الديار الحجازية وبيت الله الحرام. أخذ سيل حجاج النصارى يتدفق عاما بعد عام على الديار الفلسطينية. ويحفظ لنا التأريخ أسماء عدد من مشاهيرهم وعظمائهم في العصور التي سبقت الفتح الإسلامي. فمنهم: هيلانة أم قسطنطين الكبير Julia Flavia Helena التي زارت فلسطين في أخريات أيامها فوجدت الضريح المقدس والصليب الذي قيل: إن المسيح صلب عليه؛ وشيدت في بيت لحم والناصرة المباني الجسمية والكنائس العامرة التي ما زالت باقية حتى اليوم. ومنهم الإمبراطورة أو دوسية Eudoxia التي وسعت أسوار القدس سنة 460 م؛ والراهب المعروف باسم حاج بوردو (333 م) والأسقف جيروم (420 م) وثيودوسيوس (520- 530 م) . ولم ينقطع توارد الحجاج الأوروبيين على فلسطين حتى في أيام هجوم

البرابرة على أوروبة من هون وقوط. فكانت سنة 636 م. وفيها جرت معركة اليرموك الفاصلة واندحرت جيوش بيزنطة أمام جحافل المسلمين وسلمت القدس إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رض) ؛ فأمّن النصارى على معتقدهم وأجاز لهم الحج؛ فلم يتغير أمر بالنسبة الحجاج النصارى سوى أنهم صاروا يفدون على القدس عن طريق مصر بدلا من بلاد الروم، نظرا لبقاء العلاقات السياسية متوترة بين المسلمين والروم. وهذه مذكرات مشاهير الحجاج النصارى خلال المدة التي تصرمت بين الفتح الإسلامي والحروب الصليبية لا تدل على أي أثر لاعتداء المسلمين عليهم إلا فيما ندر من بعض الحوادث الفردية التي قلما يخلو منها زمان أو مكان. أما سياسة الدولة بوجه عام فكانت منتهى التسامح الديني لأصحاب الكتب السماوية. فمن مشاهير الحجاج الذين وفدوا على فلسطين في هذه الحقبة: أركولف مطران بلاد الغال (700 م) وولبولد الإنكليزي (726- 727 م) وبرنارد الحكيم (القرن التاسع) وكونرد أسقف كونستانس (934- 976 م.) . وكانت أكبر قافلة من الحجاج وصلت إلينا أخبارهم قبيل الحروب الصليبية، هي تلك التي كان يرأسها أربعة أساقفة كبار، هم سغفريد أسقف ماينز وغونتر أسقف بمبرغ ووليم أسقف أترخت وأوتو أسقف رغتزبرغ ومعهم نحو سبعة آلاف حاج وكان ذلك سنة (1064- 1065 م) . ولكن أكثر هذه القافلة قد هلك في البحر وفي المعارك التي كان السلاجقة يخوضونها في فلسطين.

5 - بنيامين التطيلى. من هو وما الغاية من رحلته؟

أما الحروب الصليبية التي ساءت خلالها العلاقات بين نصارى أوروبة والمسلمين واستمرت نيفا وثلثمائة سنة في فترات متقطعة، فكانت بواعشها سياسية أكثر منها دينية كما سنبينه في سياق مقدمتنا هذه «1» . 5- بنيامين التطيلى. من هو وما الغاية من رحلته؟ على كثرة ما عالج المؤرخون رحلة بنيامين بحثا وتمحيصا، ودققوا النظر في محتوياتها، وراجعوا حوادثها وقايسوا بين نصوصها المخطوطة والمطبوعة، لم يتوصلوا إلى ما يلقي الضوء على سيرة هذا الرحالة الكبير ومولده ونشأته ومركزه العلمي والاجتماعي. وكل ما يعرف عنه مأخوذ عن المقدمة الوجيزة التي صدر بها الرحلة كاتب مجهول الهوية، ربما كان معاصرا لبنيامين، لأنها وردت في أقدم النسخ المعروفة للرحلة. وقد جاء في هذه المقدمة أنه «الرابي بنيامين بن الرابي يونة التطيلي النباري» وأنه «جاب المدن البعيدة وسجل ما شاهده عيانا في الأمصار التي مر بها أو ما نقله عن الثقات ذوي الأمانة المعروفين لدى يهود أسبانية» وبالأخير «إنه دوّن هذا الكتاب عند أوبته إلى قشطالة سنة 4933 للخليقة» (569 هـ- 1173 م) وفي رواية أنه توفي في السنة نفسها «2» . ويستمر صاحب المقدمة في تعريفنا بهذا الرحالة

ويقول: «إنه كان من الثقات العارفين بالتوراة والشرع، وأن التدقيق والتمحيص قد أيدا ما رواه في رحلته» . أما المؤرخون من القرن الثالث عشر وما والاه فيكتفون بتسميته «بنيامين صاحب الرحلة. فهل كان بنيامين من علماء اليهود الذين ازدهر بهم القرن الثاني عشر في أسبانية الإسلامية والنصرانية؟ ... إننا نشك في ذلك. لأن كتب الانساب اليهودية الخاصة بذلك الجيل، التي سجلت بإسهاب تراجم جميع العلماء المعروفين وفصلت ذكر مؤلفاتهم وآثارهم العلمية والأدبية، لا تذكر اسم بنيامين إلا مقرونا بهذه الرحلة. وأغلب الظن أن هذا الرجل كان وجيها من وجهاء اليهود في قشطالة، بل تاجرا تعنيه الشؤون الاقتصادية، بدلالة هذا الاهتمام الفريد الذي يبديه في الأحوال التجارية للبلدان التي زارها*، أكثر من اهتمامه بالعلماء الكبار الذين عرفهم في أثناء تجواله. إذ نراه يذكر أسماءهم مجردة عن ذكر مؤلفاتهم وآثارهم العلمية والأدبية. كما أننا نشك في رأي أبداه بعض المؤرخين، وهو أن بنيامين قام برحلته هذه موفدا من الهيئات اليهودية في أسبانية للأطلاع على أحوال يهود الشرق في ذلك العصر الذي كان يهود أوروبة يجتازون أخطر عهود الضيق والاضطهاد التي عرفوها خلال تأريخهم الطويل. صحيح، إن هذا الرحالة يعطينا معلومات عامة عن أحوال اليهود في كل مدينة زارها، ويذكر عددهم وأوضاعهم وطرق كسبهم ومركزهم

العلمي والاجتماعي وعلاقتهم بالبيئة التي يعيشون فيها. لكن، أكان ينتظر من يهودي في القرن الثاني عشر غير هذا؟ وهل عني الرحالون المسلمون بغير أحوال المسلمين إلا في ما ندر؟ وهل سجل الحجاج من النصارى غير أحوال إخوانهم بالدين وبيعهم ومزاراتهم المقدسة؟ .... وهذا أسلوب الرحلة، هل يدل على أنها تقرير مرفوع إلي هيئة أو جماعة خاصة؟ ... إن بين تضاعيفها أمورا لا يهم يهود أوروبة الاطلاع عليها كثيرا أو قليلا. بل إننا إذا قايسنا بين هذه الرحلة ومثيلاتها من ذلك العصر، وجدنا فيها عن غير اليهود، معلومات أكثر وأعم مما دوّنه الرحالون المسلمون عن غير المسلمين، والحجاج المسيحيون عن غير النصارى. وصفوة القول عن بنيامين: إنه كان تاجرا بالمعنى المفهوم من تعبير Commercial Traveller *وإنه يجمع إلى إلمامه بالاقتصاد وفنون التجارة إلماما كافيا بالتوراة والتلمود، كما هو شأن الكثيرين من أمثاله في ذلك العصر الذي كانت العلوم الدينية وحدها تميز المتعلّم عن الأمي، وإنه خرج في رحلته هذه بدافع الاطلاع الشخصي، ووجهته بالدرجة الأولى الشرق الإسلامي؛ هذا الشرق الذي استهوت خيراته وعمرانه وتجارته عددا غير يسير من الأوروبيين خلال العصور المتوسطة والأخيرة. وقد كان هذا الرحالة، وهو بعد في أسبانية، على علم بما في بلاد الشرق الإسلامي من تقدم وحضارة. وإن شهرتها قد ملأت سمعه قبلما يملأ عينه بمشاهدتها وزيارتها. فقد شاهد عند مروره في

أوروبة الجنوبية مدنا عامرة باليهود، زاهرة بمعاهدهم العلمية ومؤسساتهم الثقافية في ذلك العصر، لكننا نراه يتخطاها بنظرة عابر سريعة باستثناء رومية والقسطنطينية؛ ولم يبدأ بالإسهاب والتفصيل إلا عند ما وطأت أقدامه أرض الشرق الإسلامي في بلاد الشام- وهو الهدف الرئيسي لرحلته*. إن رأينا الذي فصلناه عن بنيامين يؤيده أسلوب الرحلة أيضا. فهو أسلوب تجاري ساذج. بعيد عن البلاغة الراقية التي امتاز بها كتاب اليهود ومفكروهم في القرن الثاني عشر- العصر الذهبي للآداب العبرية في أسبانية. فعبارته موجزة تتناول الموضوع مباشرة دون ما تزويق أو تنميق. وهذا ما يميز رحلة بنيامين عن غيرها من رحلات معاصريه، المسلمين منهم على الأخص، وأسلوبها الراقي المتين. على أن هذا الأسلوب الذي اختصت به رحلة بنيامين، على سذاجته، متأثر بأسلوب التوراة السلس. تكاد تلمس ذلك في كل صفحة من صفحاتها، الأمر الذي يدل على أن الرجل كان واسع الاطلاع في أسفار الكتاب المقدس والتلمود وغيرها من كتب اليهود، كما أننا نستشف من خلال أحاديثه عن الشرق الإسلامي أنه كان يجيد اللغة العربية. وأن أسماء البلدان والأعلام العربية لم تكن غريبة على سمعه بدلالة قلة تحريفه وتصحيفه لألفاظها شأن كل أوروبي زار الشرق قديما وحديثا. وغني عن البيان أنه كان يحسن الأسبانية أيضا.

6 - سير الرحلة

6- سير الرحلة خرج بنيامين من مسقط رأسه، من تطيلة، فانحدر منها بطريق نهر إبره إلى برشلونة على شواطئ أسبانية الشمالية الشرقية، فعرج منها باتجاه سواحل فرنسة الجنوبية، ومر بجميع المدن الساحلية في لنغدوكية Languedoc وبروفنسية Provence والريف الفرنسي Riviera وكانت هذه البلدان تتمتع يومئذ بهدوء نسبي بالنظر لاضطراب الحال في فرنسة الشمالية وأوروبة المركزية من جراء الحروب الصليبية التي كانت الاستعدادات لحملتها الثالثة قائمة آنئذ على قدم وساق. ومن ثم اتجه شرقا نحو الجمهوريتين البحريتين في إيطالية- جنوة وبيزة- فتابع سيره بطريق الشواطئ الغربية من شبه الجزيرة حتى بلغ رومية، المدينة الخالدة وكرسي البابوية، وهي يومئذ في عز أيامها وعنفوان سؤددها وقمة سلطانها. فقضى في عروس التبر مدة غير يسيرة، اطلع فيها على آثارها القديمة وقصورها وكنائسها، وأتى على ذكر ما سمعه من أساطيرها وأحاديث ملوكها وقياصرتها. ثم واصل رحلته نحو الجنوب فمر بسلرن وأمالفي وطراني، واخترق أراضي قلوريه Callabria ميمما شطر شاطئ الأدرياتي فبلغ باره Bari وبرندزي، ومنها عبر مضيق أترنتو إلى جزيرة قرفو فنزل بر اليونان عن طريق قورنث، وكانت يومئذ في حكم الروم البيزنطيين. ومن هناك صعد شمالا نحو خلقدونية chalcidice فمر بسلانيك وأطاف في أنحاء تراقيا حتى بلغ قسطنطينية- عاصمة الإمبراطورية الشرقية، فأدهشه ما شاهده من عظمتها السامقة وأعجب بما رآه من

قصورها وقلاعها وتجارتها الواسعة، وأتى على وصف ضاف لكنائسها، ووقف عند آيا صوفية يصور ما شاهده من آيات الفن العماري فيها بأسلوب تأخذ سذاجته بمجامع القلوب. ومن ثم ركب البحر فجوّل بين أرخبيل بحر إيجة فزار رودس وقبرص، ومنها خرج إلى البر في قيليقية حيث أطل على الشرق الإسلامي- الهدف الرئيسي لرحلته- فراح يتنقل بين المدن العامرة والقرى الزاهرة في سورية ولبنان، ومنها حج بيت المقدس، وهو يومئذ في الاحتلال الصليبي. فصار يتنقل في نواحي فلسطين، ويدون ما زاره من قبور الأنبياء وأضرحة الأتقياء ومقامات الصلحاء، فراحت أسماء المواقع التي طالما قرأ عنها في التوراة والتلمود تتدفق على مخيلته. ثم مر بغور الأردن واتجه شمالا نحو بحيرة طبرية ومنها عرج نحو أعالي الفرات بطريق تدمر وبعلبك ودمشق، وأخذ يتنقل بين دجلة والفرات حتى بلغ الموصل. ثم ألقى عصا الترحال في بغداد، عاصمة الرشيد وحاضرة بني العباس يومذاك. فأعجب بما شاهده من عمرانها وأسهب في وصف قصور خلفائها ومعاهدها ومارستاناتها. ولا غرو، فهو أول رحالة أوروبي من غير المسلمين، جاوز الفرات وبلغ بغداد وخلف عنها مثل هذا الوصف. وقد أعجب بنيامين بصورة خاصة، بما شاهده في وادي الرافدين من جماعات يهودية كانت يومئذ تنعم بالطمأنينة والرفاهة في ظل الخلافة الإسلامية الوارف، وفي عصر لم يكن يهود أوروبة يعرفون سوى ضروب الإرهاق والاضطهاد الديني والاقتصادي. فراح لسانه يلهج

بمديح خليفة المسلمين وهو يومئذ المستنجد بالله العباسي « ... أمير المؤمنين المعروف بالتقوى والاستقامة، يطلب الخير لجميع رعيته» . ويصف موكبه في طريقه إلى الجامع لإقامة فريضة الصلاة يوم العيد، وابتهاج الرعية برؤية طلعته الميمونة، فيسجّل هتافهم له وتهليلهم وتكبيرهم. ثم يتحدث عن المارستان حديث شاهد عيان دقيق الملاحظة. وبعده يأتي على ذكر الجماعة اليهودية ببغداد، فيحدثنا عن رأس جالوتها، ويسهب في سرد أسماء رؤساء مثيبتها ومدارسها وعلمائها، بلهجة تنم عن الارتياح والسرور مما عاينه وشاهده. ومن بغداد يتوجه الرحالة نحو مدن الفرات الأوسط ويسجل ما وجده فيها من مقامات وقبور الصالحين والأتقياء. ولا بدع، فقد كان الفرات الينبوع الزاخر الذي تدفق منه كتاب التلمود- دائرة المعارف اليهودية الكبرى التي ما زالت حتى اليوم تهدي اليهود إلى شريعتهم وشعائر ديانتهم وتأريخهم وأساطيرهم. ومن الفرات الأسفل ينتقل حديث الرحالة إلى جزيرة العرب- «صحراء اليمن» حسب تعبيره ... فهل زار بنيامين الجزيرة؟ وهل من الصحيح أنه اخترقها فبلغ أطراف الحجاز ونواحي خيبر؟ ... إن لهجة بنيامين في هذه المرحلة من سياحته والنتائج التي توصل إليها الذين حققوا في رحلته لا تؤيد ذلك*. وأغلب الظن أن الرحالة، في أثناء مكوثه بالعراق، سمع من أفواه اليهود وربما قرأ في كتب العرب بعض الأساطير والروايات التي ظلت

عالقة بالأذهان عن قبائل اليهود في الجزيرة والحجاز قبل الإسلام فأدرجها في سياق رحلته. وعليه وجب أن نحصر ما ذكره عن يهود الجزيرة في معترضة، فنعود إلى مواصلة الرحلة معه إلى واسط فالبصرة. ومنها إلى خوزستان، حيث أطل على بلاد العجم، فراح يتنقل بين مدنها الكبرى وعواصمها العامرة. ومن نواحي خراسان يعرج الرحالة على جبال كردستان وأطراف العمادية، ومنها يعود إلى همذان وأصبهان فشيراز وطبرستان، فيبلغ خيوة وسمرقند ونيسابور، فيحدثنا بإسهاب عن وقعة سنجر شاه السلجوقي مع قبائل الغز، ومن ثم يعود إلى خليج البصرة بطريق خوزستان فيزور قيس (كيش) ويتحدث عن مغاص اللؤلؤ، ومنها يبلغ الهند وخولام ويجول في ملبار ويصل سرنديب فيكون بذلك أول رحالة أوروبي بلغ الهند. ومن ثم ينتقل بالحديث عن أرض الصين، ويقص أهوال بحارها ومخاطرها. وهنا أيضا يأخذ أسلوب الرحلة شكلا يدعو إلى الشك في كون بنيامين قد بلغ شواطئ الصين برحلته. ويمكننا القول على وجه التأكيد: إن الرحالة قد أدرج في رحلته ما كان قد سمعه، وربما قرأه من روايات تجار العرب وأحاديث ملاحيهم عن تلك البلاد السحيقة، فجاءت روايته قريبة الشبه بما نطالعه في سفرات السندباد البحري عن بحار الصين ومهالكها، فلننتقل معه إذن، من الهند إلى شواطئ جزيرة العرب الجنوبية، حيث يتحدث عن زبيد وعدن، ومنها يعبر البحر الأحمر فيبلغ أفريقية من نواحي أسوان، فيتابع مجرى النيل وينحدر إلى القطر المصري فيتنقل بين مدنه الواحدة تلو الأخرى، فيزور القاهرة

والفسطاط ويتحدث بأسلوب بديع عن نهر النيل وفيضه ووفائه وخيره العميم، حتى لتحسب وأنت تقرؤه، أنك تطالع ابن جبير أو ابن بطوطة، وكلاهما جاء من بعده. ومن ثم ينتقل إلى الإسكندرية بعد زيارة قصيرة لصحراء سيناء، فيتحدث بإسهاب عن ذلك الثغر التجاري العظيم الذي كانت تجتمع عنده ثروة الشرق وخيراته، فيأتي على ذكر المنار، ويسرد علينا بتفصيل لا يباريه به رحالة آخر، أسماء البلدان الأوروبية التي كانت تتجر مع الإسكندرية*. ومن ثم يركب البحر بطريق عودته إلى أسبانية فيمر بجزيرة صقلية ويتحدث عن آثار الحضارة الإسلامية التي شاهدها فيها، وكانت يومئذ في احتلال النور منديين، وهكذا يكون هذا الرحالة الفذ قد زار أغلب البلدان الشهيرة في القارات الثلاث. والذي نلاحظه، ونحن نطالع صفحات هذه الرحلة، أن بنيامين يتحرى الصدق والأمانة في تدوين ما شاهده عيانا. أما إذا تعرض خلال رحلته لأمور يرويها عن مسموعاته، فيبدؤها بعبارة «ويقال» أو «وقد قيل لي» أو «هذا ما حدثني به فلان» . ويلاحظ كذلك، أن هذا الرحالة لم يكن يتبع في أسفاره اتجاها واحدا دائما. وقد تكون أسباب ذلك فقدان الأمن في بعض الطرق من جراء الحروب الصليبية، أو اضطراره للعودة إلى مدينة أو قرية ليتحقق من بعض الأخبار. ومما يلاحظ أيضا أنه وإن قبل بما قيل له عن عقائد بعض الأمم الشرقية على علاته، لا نكاد نقرأ له كلمة تخدش الأذهان عند تعرضه للأديان غير

7 - تأريخ الرحلة

اليهودية، إذا استثنينا بعض عبارات التهكم والسخرية من الشعائر الوثنية وعقائد المجوس والملاحدة مما لا تستسيغه العقائد السماوية. وإننا نجده أكثر ضبطا لعاطفته الدينية من أغلب رواد القرون الوسطى، إذا أخذنا بنظر الاعتبار عقلية ذلك العصر الذي بلغ فيه التعصب الديني منتهاه. 7- تأريخ الرحلة لعل أبرز نقصان يلاحظه القارئ في رحلة بنيامين، هو أن هذا الرائد الكبير لم يترك لنا تأريخا مضبوطا عن زمن شروعه في رحلته ولم يذكر وقت دخوله المدن والأقطار التي زارها في سياحته الطويلة ومدة مكوثه بها أو رحيله عنها، وإنه اتبع في حديثه أسلوبا جغرافيا بخلاف ما فعله غيره من الرحالين. وكل ما نعرفه من مقدمة الرحلة، أن بنيامين عاد من رحلته إلى مسقط رأسه في قشتالة سنة 4933 للخليفة حسب التقويم العبري، وهذه توافق سنة (569 هـ- 1173 م.) لذلك اختلف المؤرخون في تعيين موعد شروعه في تجواله. فيقرر آشر Asher وإبراهامس Israel Abrahams أن ذلك كان في سنة (1160 م- 555 هـ) ويذهب لبرخت Liebrecht إلى أقدم من هذا فيقول: إن بنيامين قام برحلته بين سنتي (1140- 1150 م) (535- 545 هـ) وبذلك نراه يخالف حتى تأريخ الانتهاء الوارد في نص مقدمة الرحلة. على أن الاستنتاج التأريخي، وتمحيص بعض الحوادث المهمة التي

يذكرها الرحالة في سياق رحلته، يجعلنا نتفق ورأي المؤرخ غراتز H.Gratz وناقل الرحلة إلى الإنكليزية أدلر Adler فنقرر على وجه التأكيد أن بنيامين لم يشرع في رحلته قبل سنة 1165 م (561 هـ) وإننا نعرض على القارئ بعض هذا الاستنتاج: أولا- يتحدث بنيامين عند زيارته لرومية الكبرى، عن البابا إسكندر الثالث واليهودي يحيئيل بن إبراهيم ناظر الخاصة البابوية. ومن المعلوم أن هذا الحبر الأعظم كان قد انتخب لمنصبه سنة 1156 م. (551 هـ) بعد وفاة البابا أدريان الرابع. وإن طعنا شديدا في صحة انتخابه كان قد حصل من جانب منافسه الكردينال أكتافيان (فكتور الرابع) ، وإن الإمبراطور فريدريك بربروسة كان قد انضم إلى جانب المعارضة، مما اضطر البابا إسكندر الثالث إلى الهجرة إلى فرنسة؛ «1» وإن هذا الخلاف كان قد انتهى أخيرا بعودة البابا إلى المدينة الخالدة في 25 تشرين الثاني سنة 1165 م. (561 هـ) . وعلى هذا لا يمكن أن تكون زيارة بنيامين لمقر البابوية قبل السنة التي عاد فيها البابا إسكندر إلى عرشه. ثانيا- يحدثنا بنيامين في أثناء وجوده في أنطاكية عن أميرها بهمند (بيومند) الثالث الملقب بالألكن، المعروف في التأريخ باسم.Beomond Poitou فمتى علمنا أن هذا الأمير كان قد تولى الإمارة بين سنتي (1163- 1200 م) (559- 597 هـ) كان الرأي القائل بأن هذه الرحلة قد بدأت سنة 1160 م. (555/556 هـ) أو

قبلها، في غير محله. ثالثا- في بلاد العجم، يحدثنا بنيامين عن وقعة سنجر شاه بن ملكشاه السلجوقي مع قبائل الغز وهزيمته أمام جيوشهم. ويقول الرحالة إن هذه الموقعة التأريخية قد حدثت قبل زيارته بثماني عشرة سنة. ولما كان من المعلوم أن هزيمة سنجر شاه حدثت سنة (548 هـ- 1153 م) » فإذا أضفنا 18 سنة إلى هذا التأريخ وجب أن تكون زيارة بنيامين لإيران في حدود سنة (566 هـ- 1170 م) . وعليه يمكن القول أيضا: إنه كان في بغداد حوالي سنة (565 هـ- 1169 م) في خلافة المستنجد بالله العباسي المتوفى سنة (566 هـ- 1170 م) . رابعا- يحدثنا بنيامين في أثناء إقامته بالموصل عن يوسف الفلكي الملقب ب «برهان الفلك» في بلاط سيف الدين أخي نور الدين. ومن المعلوم أن سيف الدين زنكي بن عماد الدين كان قد توفي سنة 544 هـ (1149 م) . لذا ذهب لبرخت إلى أن بنيامين قام برحلته بين سنتي (535- 545 هـ) (1140- 1150 م) والظاهر أن هناك غلطة ناسخ في متن الرحلة. وأن عبارة «أخي نور الدين» كان يجب أن تكتب «ابن أخي نور الدين» وهو سيف الدين غازي الأصغر بن قطب الدين مودود الذي تولى أتابكية الموصل سنة 565 هـ (1169 م) وتوفي في سنة (576 هـ- 1180 م) . هذه الاستنتاجات وغيرها تجعلنا نقرر بما يشبه التأكيد أن رحلة بنيامين كانت في حدود سنتي (1165- 1173 م) (561- 569 هـ)

8 - قيمة رحلة بنيامين بين المراجع التاريخية

وأنها استغرقت ثماني سنوات، فيكون قد سبق ابن جبير بنحو 17 سنة وماركوبولو الرحالة البندقي (1254- 1324) بأكثر من مائة سنة وابن بطوطة بمائة وستين عاما. 8- قيمة رحلة بنيامين بين المراجع التاريخية وضع بنيامين كتاب رحلته في الثلث الأخير من القرن الثاني عشر للميلاد (السادس للهجرة) فلم يلبث صيتها أن ذاع وحديثها أن انتشر. فتناولتها أيدي النساخ في مختلف الأقطار قبل انتشار الطباعة، وأخذ عنها جميع المؤرخين وأصحاب الحوليات واليوميات وكتّاب الأنساب من اليهود منذ القرن الثالث عشر، فأيدوا محتوياتها. ثم تناولت الرحلة أيدي المترجمين بمختلف اللغات الأوروبية، فأصبحت مصدرا تأريخيا معتدا به وسجلا جغرافيا مضبوطا ليس بالنسبة لليهود فحسب، بل للأحوال العامة التي كانت تسود العالم في ذلك العصر الحافل بالحوادث الجسام في الشرق والغرب. فأحلّها المؤرخون المقام اللائق بها، عند بحثهم في أحوال الشرقين الأدنى والأوسط بوجه خاص. وإننا إذا تصفحنا كتب الرحالين والرواد الأوروبيين عن الشرق الإسلامي خلال العصور الحديثة، وطالعنا أحاديثهم وتتبعنا الطرق التي سلكوها في أسفارهم وتنقلاتهم؛ وكذلك إذا طالعنا مؤلفات علماء الآثار والنقابين لذين زاروا الشرق عامة والعراق خاصة، وجدنا أنهم وضعوا نصب أعينهم رحلة بنيامين وأخذوا عنها واعتمدوا على

9 - حالة الشرق الإسلامي في عصر بنيامين

نصوصها، الأمر الذي يدل على أهميتها التأريخية والجغرافية عندهم. 9- حالة الشرق الإسلامي في عصر بنيامين أما وقد بلغنا هذه المرحلة من تقديم رحلة بنيامين وعرضها على القارئ، نرى إتماما للفائدة، أن نلم إلمامة وجيزة بالأحوال العامة التي كانت تسود الشرق الإسلامي في القرن السادس للهجرة (الثاني عشر للميلاد) والتطورات الخطيرة التي طرأت على علاقات الشرق بالغرب، تلك التطورات التي خلفت من بعدها الأثر البليغ فقلبت أوضاع البلاد الإسلامية من حال إلى حال وغيرت معالم تأريخ أوروبة. فنقول: اجتازت الخلافة العباسية ببغداد أخطر عهودها في أيام الدولة البويهية التي كان امتداد حكمها مائة وثلاث عشرة سنة (334- 447 هـ) (945- 1055 م) إذ سادت في العراق أحوال مضطربة من تغلب السلاطين على الخلافة، فلم يبق لها سوى السلطة الاسمية المجردة من كل حول وطول. وكان طبيعيا أن تؤدي تلك الحالة الشاذة إلى انحلال قواعد الملك واختلال نظام الحكم، وأن تصبح البلاد من أقصاها إلى أقصاها مستعدة لقبول أي فاتح، أملا بخلاصها من ذلك الوضع المتقلقل. وكان السلاجقة يومذاك قد مدوا رقعة حكمهم حتى تخوم العراق الشرقية. وكان رئيسهم ركن الدين طغرل بك بن سلجوق يتوق إلى بسط نفوذه على مراكز الخلافة العباسية، فساعده تردي الأحوال في العراق على بلوغ أمنيته. فلم تغرب شمس الاثنين 25 محرم سنة 448 هـ (1058 م) إلا وكانت راياته تخفق فوق بغداد،

والخليفة يومئذ القائم بأمر الله العباسي. وهكذا تقلّص ظل الدولة البويهية. كان هؤلاء السلاجقة من عشائر الغز الكبرى. ينتسبون إلى مقدمهم سلجوق بن تقاق (دقاق) ومواطنهم الأصلية تركستان. فبعد أن استولوا على بغداد توالت فتوحاتهم ودانت لهم البلاد الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، حتى صاروا يحكمون جل ما ملكه المسلمون في آسيا الغربية. وكان أسلوبهم في الحكم يختلف عن حكم البويهيين في أمور جوهرية مهمة. منها نظامهم العسكري الشديد المتحمس، الذي استطاع الثبات بوجه غزاة الروم الذين كانوا قد انتهزوا فرصة انحطاط الدولة على عهد البويهيين. فراحوا يهاجمون تخوم الديار الإسلامية ويقتطعون منها البلدة بعد الأخرى ويمعنون بها سلبا ونهبا. أما السلجوقيون فإنهم انتقلوا بالشرق الإسلامي من موقف المدافع إلى موقف المهاجم المتحدي، فأعادوا بذلك سيرة الفتوحات الإسلامية التي كاد المسلمون أن ينسوها في زمن التخاذل والانحطاط. ومنها أيضا احترامهم لمقام الخلافة العباسية التي أوشك أن يجهز البويهيون عليها، وحرصهم على مسالمتها واستغلال مركزها الرفيع في قلوب المسلمين. فقد ترك السلجوقيون للخليفة كل مظاهر الرئاسة والسيادة الدينية، وقنعوا لأنفسهم بالسلطة الدنيوية وقيادة الجيوش؛ وبذلك استراح العباد من الفتن الهوج، وهدأت القلاقل بعض الهدوء، وعاد دم الحياة يجري في عروق البلاد الإسلامية، ويرجع إليها النشاط والشباب. غير أن هؤلاء السلاجقة لم يستطيعوا بدورهم تأليف وحدة إدارية

وجبهة عسكرية موحدة. إذ لم تلبث دولتهم أن انقسمت إلى خمسة بيوت. أولهما الدولة السلجوقية الكبرى التي دامت إلى سنة (522 هـ) ؛ وثانيها الدولة السلجوقية الكرمانية التي دامت 150 سنة (432- 583 هـ) ؛ وثالثها سلاجقة العراق وكردستان وقد دام حكمهم إلى سنة (590 هـ) ورابعها سلاجقة الشام وكان حكمهم قصيرا لم يستمر أكثر من أربع وعشرين سنة؛ وخامسها سلاجقة الروم الذين امتد حكمهم إلى سنة (700 هـ.) وانتهت دولتهم بظهور الأتراك العثمانيين. ومن دواعي الأسف أيضا أن السلاجقة عندما امتد حكمهم إلى الشام ونواحي فلسطين، لم يلبثوا أن اصطدموا بالفاطميين الذين كانوا يحكمون مصر. فتفرقت بذلك كلمة المسلمين واشتد النزاع بين ملوكهم وأمرائهم بدافع الأثرة والانفراد بالحكم، فأثار هذا التفكك والانقسام في رقعة الإسلام طمع أوروبة التي كانت تنظر شزرا إلى اليقظة العسكرية التي أوجدها السلاجقة في الشرق، فظهرت دعوة جديدة باسم إنقاذ قبر المسيح من أيدي المسلمين، فقامت تلك الحروب الشعواء التي كانت أول محاولة من جانب الغرب لاستعمار الشرق العربي- وهي الحروب التي اصطلح المؤرخون على تسميتها بالحروب الصليبية. وليس من شأننا أن نسهب بذكر أسباب الحروب الصليبية أو نفصل مقدماتها والعوامل المباشرة التي أثارت جذوتها. فذلك من اختصاص كتب التأريخ لا كتب الرحلات. ويمكن القول إيجازا: إن أسبابا

عديدة من سياسية ودينية واقتصادية قد تجمّعت وساعد بعضها بعضا لإثارة تلك الحروب، وإن كان الأوروبيون يميلون على الأكثر إلى جعل أسبابها دينية محضة. تحركت جيوش الصليبيين تطلب الشرق في 15 آب 1096 م. (479 هـ.) فسحبت بأذيالها من أعمال التدمير والتخريب ما شوّه تلك الحملة وأبعدها عن غايتها الأصلية. فلما أشرفت على الديار الإسلامية توجهت ميمنتها نحو أنطاكية، وسارت ميسرتها نحو الفرات فاستولت على الرها (أورفة (Edessa واندفع قلبها يطلب بيت المقدس. وكانت سورية وفلسطين آنذاك أوصالا مفككة بين أتابكة السلاجقة وحكومة الفاطميين، لذلك لم يجد الصليبيون ما يحول دون زحفهم أو يقف بوجه تقدمهم وقفة جد. فاجتاحوا تلك البلاد من أقصاها إلى أقصاها، فتداعت أمامهم المدن وتساقطت الحصون، وأدركوا القدس وحاصروها ثم دخلوها فاتحين يوم 15 تموز سنة 1099 م. (489 هـ) وأعلموا السيف في رقاب أهلها من مسلمين ويهود، وهكذا تمّ لهم احتلال فلسطين. فنشأت في الشرق الإسلامي دولة لاتينية إقطاعية قوامها أربع إمارات أو وحدات سياسية- في الرها وأنطاكية وطرابلس وبيت المقدس. فكانت تلك أشد ضربة تلقاها الشرق الإسلامي، تركت وراءها الأثر البليغ وخلفت من المشاكل السياسية ما ظل شغل أوروبة الشاغل قرونا عديدة. بيد أن هذا الشرق الإسلامي الذي كان ظاهر أمره يبعث على

اليأس، لم يتأخر طويلا عن أن يصحو من رجة هذه الصدمة العنيفة التي ضعضعت حواسه لشدة وقعها. وبعث فيه هذا الخطب الداهم يقظة نفسية وردّ فعل شديد، فراح يلم شعثه ويتدبر أموره؛ ثم تحفّز للهجوم. وكان زعيم هذه اليقظة عماد الدين زنكي بن آق سنقر (521- 541 هـ. 1127- 1146 م) كبير أتابكة الموصل. فلم يدخل عام 1144 الميلادي (539 هـ) إلا وجدناه يهاجم الإمارات الصليبية من جناحها الأيسر ويهزم جيوشها شر هزيمة ويستعيد الرها. فلم يلبث خبر هذا الظفر الإسلامي أن ذاع في أوروبة النصرانية التي كانت تتنسم أخبار الصليبيين في الشرق وتمدهم بالمال والرجال. فثارت هواجسها على مصير الدولة الفتية التي أقامتها في الشرق ببذل الكثير من التضحيات والجسيم من المتاعب. فجردت حملة صليبية أخرى بقيادة كنراد الثالث عاهل ألمانية وإمبراطور رومة المقدسة، ولويس السابع ملك فرنسة. لكن هذه الحملة عجزت عن استرجاع الرها. وفي عام 541 هـ. (1146 م) مات عماد الدين زنكي قتيلا بيد جماعة من مماليكه. فولي أمر الموصل بعده ولده سيف الدين غازي. وكان ولده الأكبر محمود نور الدين بالشام، وله حلب وحماة. فاتبع سيرة أبيه بمناجزة الصليبيين، وراح يصد هجماتهم ويرد غاراتهم، فكان هدفه الأسمى أن يطرد الصليبيين نهائيا من الشرق الإسلامي. فبذل همة قعساء في جمع أتابكة السلاجقة في وحدة محكمة وبذلك عظم أمره واشتد ساعده. فانتهز فرصة خلاف كان قائما بين وزيري الخليفة الفاطمي بمصر، فأرسل إليها اثنين من قواده هما شيركوه

وصلاح الدين الأيوبي، وانتهى هذا التدخل بأن تولى الأول شؤون مصر نائبا عن نور الدين ثم تولاها صلاح الدين من بعده. وكان غرض نور الدين من تدخله في شؤون مصر أن يضرب حول الدولة الصليبية في الشرق نطاقا من الحصار وطوقا من حديد، فيتسنى له بذلك إنزال ضربته الحاسمة. لكن الدولة اللاتينية استشعرت هذا الخطر الذي بات يهددها من جانب مصر، فأرادت أن تلاقيه في منتصف الطريق؛ وتلمست النطاق المحيط بها فلم تجد أمامها مفتوحا سوى باب البحر. لذلك استنجدت بالدول النصرانية البحرية الثلاث التي كانت يومئذ تسيطر على البحر المتوسط- البندقية وبيزة وجنوة. لكن هذه الجمهوريات كانت في شغل عن المشرق بمشاحنات ومنافسات كانت قائمة بينها، فاضطر أملريك Amalric صاحب القدس أن يتولى- تدارك الخطر- معتمدا على نفسه، فقاد حملة نزلت بر مصر في تشرين الثاني سنة 1168 م (564 هـ) وكان في مصر حينئذ الأمير شاور يحكمها باسم العاضد لدين الله آخر خلفاء الفاطميين. فقدّر لهذه الحملة الصليبية أن تنال قسطا وافرا من النجاح في أول أمرها، إذ تقدمت نحو شاطئ النيل وكادت تستولي على الفسطاط، لولا أن آثر أهلها إضرام النار بمدينتهم على تسليمها للأعداء، فدبّ الذعر في صفوف الصليبيين وحل بينهم الارتباك، فأدركتهم جيوش نور الدين يقودها البطل المغوار صلاح الدين يوسف بن أيوب، فآل الأمر إلى دحر الصليبيين وإخراجهم من مصر نهائيا.

وكان العاضد لدين الله الفاطمي شخصية ضعيفة. فأراد أن يدعم بنيان ملكه المصدوع بشخصية صلاح الدين الجبارة فولاه الوزارة غير عارف بأن الأقدار قد أعدّت لهذا القائد العظيم تاج مصر لا وزارتها فقط. وسرعان ما ظهر نبوغ صلاح الدين فأخذ يسوس الرعية بحزم وعدل وحكمة، فالتفّت حوله القلوب واستعادت البلاد عمرانها بعد ما لحقها من التخريب والتدمير ما لحقها. وفي سنة 1171 م. (567 هـ) توفي العاضد فظل صلاح الدين يحكم مصر باسم نور الدين حتى إذا ما مات هذا أيضا، لم يجد صعوبة في إعلان ملكيته. وهكذا تأسست الدولة الأيوبية فأخذ صلاح الدين يعد العدة وينتظر الفرصة الملائمة للانقضاض على الدولة اللاتينية في فلسطين ومناجزتها نهائيا. وهنا يجدر بنا أن نعود شرقا إلي العراق لنرى كيف كان مجرى الأحوال فيه خلال الحقبة التي ألممنا بحوادثها. فقد تركناه في خلافة القائم والأمر فيه مستتب لطغرل بك آل سلجوق. وبعد أن توفي طغرل سنة 455 هـ. تم الأمر من بعده لعضد الدولة أبي شجاع ألب أرسلان ووزيره العظيم نظام الملك مؤسس المدرسة النظامية ببغداد، وقد كان الفراغ من بناء هذا المعهد العلمي الكبير سنة 458 هـ. وفي عام 467 هـ. تولى الخلافة المقتدي بأمر الله، وكان على السلاجقة جلال الدولة أبو الفتح ملكشاه بن ألب أرسلان. ثم جاءت الخلافة بعده لولده المستظهر بالله أحمد سنة 487 هـ. وأمر السلجوقيين في عهده للسلطان ركن الدين أبي المظفر بركياروق. وفي أيامه بدأت الحروب

الصليبية. فلما تولى الخلافة المسترشد بالله (512 هـ.) نشب خلاف وشقاق بين أتابكة السلاجقة فأراد الخليفة أن يتعجل الحوادث ويتخلص من نفوذهم، ويعيد السلطة الدنيوية للخلافة إلى جانب سلطانها الروحي. لكن مركز السلطان مسعود السلجوقي كان أقوى مما كان يظنه الخليفة المسترشد، فانتهت محاولته بفاجعة أليمة كلفته حياته وهو في أسر السلطان (529 هـ) واستمر توتر العلاقات بين السلطان مسعود والخلافة العباسية في أيام الراشد بالله أيضا. (529- 530 هـ.) لكن الخليفة محمدا المقتفي لأمر الله كان أسعد حظا وأكثر توفيقا في تحقيق هدفه. إذ توفي السلطان مسعود سنة 547 هـ. فانتهز المقتفي هذه الفرصة الملائمة وطرد أمراء السلاجقة من بغداد، فصار الحكم للخليفة لا يشاركه فيه أحد. وهكذا استعادت خلافة بني العباس مكانتها واسترجعت سلطتها الدنيوية بعد حقبة طويلة من السنين تغلّب فيها الأمراء والسلاطين وتحكموا بالخلافة*. واستتبّ الأمر بعد المقتفي لولده أبي المظفر المستنجد بالله يوسف سنة 555 هـ. (1160 م.) فكان عهده كله خيرا وبركة واستعادت الخلافة العباسية رونقها ومجدها نوعا، فازدادت ثروة البلاد وامتلأت خزائنها بالأموال وازدهرت تجارة بغداد وعاد إليها عمرانها، وشمل عدل الخليفة وحلمه جميع رعاياه. فكان دخول الرّحالة بنيامين مدينة بغداد في هذا العهد قرابة سنة 564 هـ. (1168 م) . فوجدها على

10 - طبعات رحلة بنيامين واللغات الأوروبية التي ترجمت إليها.

أحسن حال من الرقي والرفاه. وبهذا القدر نكتفي من عرض الحالة التي كانت تسود الشرق الإسلامي في أيام الرحلة التي نحن بصددها. أما الأحوال التي وجد بنيامين عليها إخوانه يهود الشرق عامة والعراق خاصة فسنتعرض لذكرها في سياق تعليقنا علي كل مدينة زارها وفي ملحق خاص في ذيل هذا الكتاب. 10- طبعات رحلة بنيامين واللغات الأوروبية التي ترجمت إليها. ما كادت الطباعة تظهر في أوروبة في القرن الخامس عشر، حتى كانت رحلة بنيامين في طليعة الكتب المطبوعة. فقد صدرت أول طبعة لها بالعبرية عن مطبعة سونسينو في قسطنطينية سنة 1543 م. ثم أعقبتها طبعة فرارة في إيطالية سنة 1556 م. وفريبرغ سنة 1583 م. وليدن سنة 1663 وأمستردام سنة 1698. ووارشو سنة 1844 م. ولفوف (لمبرغ) سنة 1859 م. وزلكيف سنة 1862 م. ثم توالى طبعها في كل دار معروفة للنشر. وقد ترجمت الرحلة إلى معظم اللغات الأوروبية منذ الثلث الأخير من القرن السادس عشر. وأشهر الترجمات التي وصل إليّ علمها الترجمة اللاتينية بقلم أرياس منتانو Arias Montano سنة 1573 م بعنوان Itinerarium Benjamini Tudelensis وطبعت للمرة الأولى سنة 1575 ثم أعيد طبعها في هلمستد سنة 1636 وفي لبسيك سنة 1664 م. وعن هذه الترجمة نقلها برشز Purchas إلى الإنكليزية في

مجموعته المسماة Purchas s Piligrims وطبعت في لندن سنة 1625 م. ثم ترجمها إلى الفرنسية برجرن Bergeron في مجموعته المسماة.Asie dans le xll ,xlll.xiv et xiv Siecles Collection des Voyages faits principalement en:فطبعت في لاهاي سنة 1735 ثم أعيد طبعها في باريس سنة 1830 م. وفي الوقت نفسه أعاد ترجمتها إلى اللاتينية العلامة الشهير قسطنطين لمبرور Constantine L'Empereur أستاذ علم اللاهوت واللغة العبرية في ليدن، فجاءت أو فى ترجمة لهذه الرحلة، وعنها ترجم أكثر الذين جاءوا بعده. وفي سنة 1666 ترجمت إلى الهولندية وطبعت في أمستردام سنة 1691 وفي فرنكفورت سنة 1711 م. وأعقبتها ترجمة أخرى إلى الفرنسية بقلم باراتير Baratier سنة 1734 فالإنكليزية بقلم القس غارنس Rev.Garrans وطبعت في لندن سنة 1784 م. وبعدها ترجمها إلى الإنكليزية أيضا المستر بنكرتن Pinckerton في الجزء السابع من مجموعة عنوانها Travels of the World Collection of the best and most interesting Voyages and General فطبعت في لندن بين سنتي 1808- 1814. وفي سنة 1840 ظهرت في لندن ترجمة آشر Asher المشهورة بتعليقاتها وحواشيها المستفيضة التي اشترك بوضعها عدد من المؤرخين. فنقلها عنه المستر توماس رايط Thomas Wright في مجموعته المسماة Early Travels in Palestine المطبوعة في لندن سنة 1848. وفي خزانة المتحف العراقي نسخة من مجموعة رايط، غير

11 - مخطوطات الرحلة، نسخة بغداد ونقلها إلى العربية

أنها خلو من التعليقات والحواشي. وقد ظهرت للرحلة ترجمة بالألمانية بقلم Grunhut عنوانها Reisebreschrei bungen des R.Benjamin Von Tudela Die فطبعت في برلين، فترجمة مرغولين Margoline إلى الروسية فطبعت في بطرسبورج (لننغراد) سنة 1881 م. وفي سنة 1907 ظهرت في لندن ترجمة إنكليزية للرحلة بقلم مرقس أدلر Marcus Adler بتعليقات وحواشي، فجاءت أحسن ترجمة في بابها لا حتوائها على الأصل العبري بازاء الترجمة الإنكليزية. وفي خزانة المتحف العراقي نسخة منها رجعت إليها في ترجمتي. وقد أطلعني الصديق الفاضل الأستاذ يعقوب سركيس على ترجمة بالأسبانية لهذه الرحلة في خزانته العامرة بقلم إغناطيو غنزالز لوبيرا Ignatio gonzalez Llubera عنوانها Viajes de Benjamin de Tudela مطبوعة في مدريد سنة 1918. هذا ما وصل إليه علمي عن ترجمة هذه الرحلة إلى اللغات الأوروبية وفي كثرتها برهان علي ما بلغته عناية علماء أوروبة بها. 11- مخطوطات الرحلة، نسخة بغداد ونقلها إلى العربية قلت إن رحلة بنيامين صادفت ذيوعا وإقبالا منذ أول القرن الثالث عشر، وتوالت نسخها وتعددت مخطوطاتها حتى تكاد تجدها بين مخطوطات أكثر الخزانات الكبرى في أوروبة وإمريكا. وأقدم وأنفس مخطوطات هذه الرحلة هي نسخة المتحف البريطاني المرقمة 27089 التي يرجع تأريخها إلى القرن الثالث عشر. ونسخة كسنتنز

Casanatense في خزانة روما برقم 3097 مخطوطة بقلم إسحاق البيزي (نسبة إلى بيزة) وتحمل هذه النسخة تأريخ سنة 5189 العبرية (1430 م.) ونسخة فيانة باللغة الإيطالية بخط القس لويجي دا بولونية Fra Luigi da Bologna كتبها سنة 1599 م. ونسختا أو كسفورد من مجموعة أو بنهايم في خزانة بودليانة، رقم الأولى 2453 مكتوبة بخط يهود الأندلس في أواخر القرن الرابع عشر للميلاد ورقم الثانية 2580 مكتوبة بخط يهود الشرق من القرن الثامن عشر. أما نسخة بغداد التي ترجمت عنها الرحلة إلى العربية، فمنقولة عن طبعة فرارة القديمة من سنة 1556 م. ومكتوبة بالخط العبري المعروف بالخط الآشوري المربّع، وقد طبعت على حجر ببغداد سنة 1865 وهي اليوم تكاد تكون نادرة. لكن هذه النسخة خلو من أية مقدمة أو شرح أو تعليق، وفيها أغلاط خطية عديدة احتاج تنقيحها إلى جهد غير يسير. ولعل عذر الناسخ في ذلك أنه كان ينقل عن نسخة قديمة سبقته بثلاثة قرون. وهناك سبب آخر هو أن بنيامين لم يكن جغرافيا بالمعنى المفهوم، بل جوّاب آفاق، يذكر الأعلام كيفما تلقاها سمعه لأول وهلة، سيما ما كان منها بعيدا عن محيطه وتفكيره. وإننا نرى أغلب السياح من الأوروبيين الذين جابوا أنحاء الشرق العربي في العصور الحديثة يحرّفون أسماء الأعلام تحريفا غريبا لعدم استطاعتهم ضبطها. خذ مثلا الرحالة الفرنسي تافرنيه الذي زار العراق بعد بنيامين بخمسة قرون. فإنّه يصحف أسماء المدن والأعلام تصحيفا خارجا عن المألوف. إذ يقول شرازول بدلا من شهرزور وسامترا بدلا من

سامراء وبلصرة بدلا من البصرة ودياربك بدلا من ديار بكر إلى آخر ما يطول شرحه «1» ، فكيف الأمر برحالة من القرن الثاني عشر. ولشدما عانيته من تنقيح مثل هذه الأغلاط وضبط الأعلام ضبطا صحيحا مستندا إلى أوثق المصادر العبرية والعربية والأوروبية بقدر ما تيسر. وهناك أمران آخران استدعيا جهدا متواصلا وبحثا مستمرا. الأول أن بنيامين قد أتى في رحلته على ذكر عدد كبير من علماء اليهود وأعيانهم في المدن التي زارها، مثلما فعل أغلب سياح العرب في القرون الوسطى الذين يذكرون علماء كل مدينة وخطباء جوامعها ومدرسي مدارسها. لكنّه في حين عني رواد العرب بضبط اسم العالم واسم أبيه ولقبه وكنيته ومسقط رأسه، مما لا يدع إشكالا أو شبهة، نجد أن بنيامين قد اكتفى بذكر الأسماء مجردة من كل تعريف بها. وهذه عادة تمشى عليها أغلب مؤرخي اليهود في القرون الوسطى ولا يزال البعض منهم يجري عليها إلى يومنا هذا. بل قد يعمدون إلى اختزال الأسماء بذكر حروفها الأولى فقط. فهم يقولون «هرمبم» بدلا من أبي عمران موسى بن ميمون عبيد الله القرطبي. و «هرابع» بدلا من أبي إسحاق إبراهيم بن مئير بن عزرا الطليطلي و «هر شبغ» بدلا من أبي أيوب سليمان بن يحيي بن جبروال الأندلسي، وهكذا. وعلى هذا كان لزاما أن أجوس

خلال كتب التأريخ وتراجم علماء القرن الثاني عشر في مختلف الأقطار الأوروبية والشرقية التي مر بها بنيامين للتحقيق عن هوية هذا العدد الوفير من الأعلام الواردة في رحلته، وقد توصلت إلى معرفة عدد لا بأس به منها. أما الأمر الثاني فهو أن بنيامين، على اطلاعه الواسع ووقوفه التام على نصوص التوراة، لم يكن منتظرا منه التدقيق في جغرافية الكتاب المقدس، وهو علم قائم بذاته لا يزال فيه متسع لبحوث العلماء والمحققين إلى اليوم. لذلك نراه يخلط بين أسماء المدن التي مر بها والمواقع الوارد ذكرها في التوراة لمجرد تشابه يسير يلاحظه باللفظ. فهو يظن أن نهر العاص هو نهر «يبوق» الوارد في التوراة، على حين أن هذا الأخير هو نهر الزرقاء في شرقي الأردن. ويخلط بين بلدة كفرناحوم الواقعة في الجليل وقرية ماعون الواردة في التوراة، في حين أن موقع هذه الأخيرة جنوبي الخليل. ويقول: إن بلدة «القريتين» الواقعة بجوار حمص هي قرياثايم الواردة في التوراة، على حين أن موقع الأخيرة في شرقي الأردن. إلى آخر ما يطول شرحه. هذا، وإني، وإن كنت اعتمدت في الترجمة إلى العربية على نسخة بغداد التي لدي بالدرجة الأولى، لم أتأخر عن ذكر ما يخالف نصها في النسخ الأخرى مثل نسخة آشر ونسخة أدلر. كما أني اتبعت في الترجمة الأسلوب العربي المعروف في كتب الرحلات العربية لتكون أقرب إلى فهم القارئ وذوقه مع الاحتفاظ بالنص الأصلي على قدر ما تسمح به قواعد النقل من لغة أخرى وأصوله، فضبطت الأعلام بلفظها

المعروف عند العرب ووضعت إزاء اسم كل مدينة ما يقابله بالحروف اللاتينية لكي يسهل على القارئ ضبطه. أما الشروح والتعليقات التي ذيّلت بها صفحات الكتاب فقد استخلصتها عن أوثق المصادر محاولا جهدي ذكر آخر ما توصل إليه المحققون. ويحسن بي أن أشير إلى أنني وقفت في التعليق على كل مدينة عند العصر الذي زارها فيه بنيامين أو بعده بقليل، ما دامت الغاية مقصورة على تفهم الحالة التي كانت سائدة في القرن الثاني عشر. أما الذيول التي ألحقتها بآخر الكتاب فقد تناولت فيها الموضوعات غير المألوفة لدى قراء العربية كالقرائين والسامريين ورئاسة الجالوت والمثيبة في بغداد وغيرها من المطالب التي لم استطع إيفاءها حقها من البحث في الحواشي. وإذا كنت لم أبلغ حد الكمال برسالتي هذه، أو إذا بدرت مني هفوات في هذا الموضوع العسير، على الرغم مما بذلته من مجهود، فإن لي من ظروف الحرب وضيق مجال البحث وقلة المصادر التي كان في ميسوري الحصول عليها عذرا أتمنى أن يكون مقبولا. وأرى من واجبي أن أشيد بفضل صفوة من إخواني أدباء العراق ومحققيه الأنجاب الذين لم يبخلوا علي بكل إشارة إلى ما فيه الصواب. أخص بالذكر منهم صديقي مؤرخ العراق الكبير الأستاذ عباس العزاوي، والأستاذ المحقق والأديب اللامع الدكتور مصطفى جواد، والأستاذ المتتبع يعقوب نعوم سركيس، والأستاذ الأديب النابه كور كيس عواد، أمين خزانة المتحف العراقي، والأستاذ الفاضل النابغة يوسف الكبير المحامي. فلحضراتهم علي منة إرشادات قيمة وملاحظات ثمينة. وما هذا المجهود الذي قمت

به إلا نتيجة فضلهم وعنايتهم. وإني لأخص بالتقدير والامتنان كذلك حضرة الحبر الجليل صاحب السيادة الحاخام ساسون خضوري رئيس الطائفة الإسرائيلية ببغداد لما حباني به من تشجيع ويسر لي الوقوف على بعض المراجع العبرية. وفق الله الجميع لخدمة العلم وتحري الحقيقة. وختاما، هذه «رحلة بنيامين» أضعها لأول مرة بين أيدي قراء العربية، راجيا أن أكون قد قمت بقسطي اليسير من خدمة التأريخ. وإلا كان حسبي أني طرقت بابا فيه متسع لمن هو أطول باعا في البحث والتحقيق. والله الموفق لما فيه الخير والصلاح. عزرا حداد

المراجع والمصادر

المراجع والمصادر اقتصرنا في هذا الفهرس على أهم الكتب والمدونات التي اعتمدناها في تعليق حواشي رحلة بنيامين. وغايتنا التوجيه إلى المراجع التي لها علاقة مباشرة بالقرن الثاني عشر للميلاد (السادس للهجرة) ، مرتبة على حروف الهجاء. وقد ذيلنا كل مرجع إفرنجي بالحروف التي ترمز إليه في حواشي الكتاب 1- المراجع العبرية - دائرة المعارف العبرية لأيزنشتاين. تقع في عشرة أجزاء طبعة لندن 1924. - بيت يهوذا- لإسحق لاونزون. يقع في جزئين، ويبحث في تطور الثقافة اليهودية من أقدم الأزمنة حتى أواسط القرن الماضي. طبعة وارشو 1878 - تاريخ اليهود الكبير- وضعه بالألمانية سنة 1876 المؤرخ الشهير هاينريخ غراتز عميد الكلية الرابانية في برسلاو بعنوان Geschichte der juden في اثني عشر مجلدا. ترجم مختصرا إلى الإنكليزية في خمسة أجزاء وطبع في نيويورك. أما الترجمة العبرية وهي التي اعتمدنا، فتقع في ثمانية أجزاء بقلم الكاتب شاؤل رابينوفتش. وقد أضاف إلى ترجمته التعليقات

والحواشي الضافية التي جعلت لها قيمة تاريخية أكثر من الأصل الألماني. ويتناول الجزء الرابع من هذا التأريخ حوادث القرن الثاني عشر والبحث في رحلة بنيامين. طبعة وارشو سنة (GR) 1916 - للدكتور أيزيك هرش وايس. وهو تاريخ مفصل لتطور الثقافة اليهودية. يقع في خمسة أجزاء. طبعة برلين 1924. - كتاب الأنساب- للفلكي الأندلسي إبراهيم بن صموئيل زاكوتو المتوفي سنة 1510 م. صاحب الأسطرلاب الذي استعمله الرائد البحري الأسباني فاسكو دي غامة. طبعة لندن 1857. - تاريخ يوسف بن جريون- وضعه مؤلف مجهول من القرن التاسع للميلاد، ونسبه إلى يوسيفوس فلافيوس المؤرخ اليهودي المعروف من القرن الأول. والكتاب يتضمن أساطير اليهود القديمة. طبعة لفوف 1869 - رحلة الرابي فتاحية الرجنسبرجي- قام برحلته التي فصّلناها في مقدمتنا، في حدود سنتي 1175- 1185 م. لدينا منها طبعتان. الأولى طبعة أوستراخ سنة 1806، والثانية ملحقة بذيل كتاب للربن يعقوب تام. طبعة ليغورنو سنة 1846 م. وقد اعتمدنا الطبعة الأخيرة في مراجعاتنا. - للمؤرخ الفلكي داود بن سليمان غانز. (1541- 1613) يقع في جزئين، ويتناول تاريخ اليهود والعالم من الخليفة حتى

سنة 1692 م. وله ملحق ينتهي عند حوادث سنة 1871. والكتاب معدود من المراجع التاريخية المهمة. طبعة وارشو 1878. - مجموعة رسائل صموئيل بن علي الملقب بابن الدستور، رأس مثيبة علماء يهود بغداد أيام زيارة بنيامين. منقولة عن النسخة التي وجدت بين مخطوطات خزانة لننغراد. وهذه الرسائل مكتوبة بحروف عبرية ولغة عربية، وتعد من أهم الوثائق عن تاريخ يهود العراق خاصة والشرق عامة في القرن الثاني عشر للميلاد. طبعة القدس 1930. - للطبيب الفلكي يهوذا ابن ويرغة الأشبيلي الأندلسي. عاش في أسبانيا ثم لجأ إلى لشبونة سنة 1483 م. وقبضت عليه محاكم التفتيش فمات شهيدا سنة 1497 م وكتابه معدود من أهم المصادر عن تاريخ اليهود في القرون الوسطى. طبعة لفوف 1864. - سلسلة التواريخ- للمؤرخ كدلية بن يحيى. طبعة وارشو 1881. - تاريخ علماء اليهود- للمؤرخ اليهودي الروسي قلمن شولمن. يقع في جزئين. طبعة فيلنو 1876. - للدكتور بنصيون دينابورغ، يقع في جزئين، ويحتوي على أشهر الوثائق التاريخية الخاصة باليهود في القرون الوسطى. طبعة تل أبيب 1929. - مقامات الحريزي- ليهوذا بن سليمان الحريزي

2 - المراجع العربية

الطليطلي الأندلسي. طبعة وارشو 1899. - التلمود البابلي- طبعة فيلنو 1912. - الكتاب المقدس. طبعة لندن 1912. 2- المراجع العربية 1- الآثار الباقية عن القرون الخالية- لأبي الريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي، طبعة لبسك، 1923. 2- الإسلام والحضارة العربية- للأستاذ محمد كرد علي، رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، 1934. 3- الأعلاق النفيسة- لأبي علي أحمد بن عمر المعروف بابن رسته. طبعة ابريل، 1891 البدء والتأريخ- لأبي زيد أحمد بن سهل البلخي. ستة أجزاء. طبعة باريس، 1899. 4- كتاب البلدان- لأحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب المعروف باليعقوبي- طبعة مصر. 5- كتاب تجارب الأمم- لأبي علي أحمد بن محمد المعروف بمسكويه. طبع بمصر، سنة 1333 هـ.- 1915 م. 6- التنبيه والإشراف- لأبي الحسن علي بن حسين بن علي المسعودي، صاحب مروج الذهب المتوفي سنة 345 هـ. طبعة ليدن. 1894.

7- الجامع المختصر في عنوان التاريخ وعيون السير- (الجزء التاسع) . لأبي طالب علي بن أنجب تاج الدين المعروف بابن الساعي الخازن المتوفي سنة 674 هـ. المطبعة السريانية ببغداد، 1934. 8- الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري- تأليف آدم متز وترجمة محمد عبد الهادي أبي ريدة. لجنة التأليف والترجمة بمصر، 1940- 1941. 9- الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية- للأمير شكيب أرسلان. المطبعة الرحمانية بمصر، 1936. 10- الحوادث الجامعة- لأبي الفضل عبد الرزاق ابن الفوطي البغدادي. طبع ببغداد بعناية الدكتور مصطفى جواد، 1351 هـ. 11- تأريخ الحكماء- أو إخبار العلماء بأخبار الحكماء- لجمال الدين القفطي. طبعة لبسك، 1904. 12- رحلة ابن جبير- لأبي الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي. طبعة المكتبة العربية ببغداد، 1937. 13- رحلة ابن بطوطة- لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم المعروف بابن بطوطة المتوفي سنة 770 هـ. المطبعة الأزهرية بمصر، 1346 هـ. 14- رواد الشرق العربي في العصور الوسطى- لنقولا زيادة. مطبعة المقتطف بمصر، 1943. شذرات الذهب في أخبار من ذهب- للمؤرخ الفقيه الأديب أبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفي سنة 1098 هـ. طبعة القدسي بمصر، 1351 هـ.

15- صلاح الدين الأيوبي وعصره- لمحمد فريد أبي حديد. لجنة التأليف والترجمة بمصر، 1927 16- صورة الأرض- لأبي القاسم ابن حوقل الأندلسي. طبعة ليدن، 1938. 17- تأريخ الطبري- لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري. المطبعة الحسينية بمصر. 18- طبقات الأمم- للقاضي ابن القاسم بن محمد بن صاعد الأندلسي المتوفي سنة 462 هـ. طبعة بيروت، 1912. 19- تأريخ العراق بين احتلالين- (الجزء الأول، حكومة المغول) للأستاذ عباس العزاوي. بغداد، 1935. 20- عيون الأنباء في طبقات الأطباء- لموفق الدين أبي العباس بن أبي أصيبعة. طبعة مصر، 1299 هـ. 21- تأريخ غزوات العرب في أوروبة- للأمير شكيب أرسلان. مطبعة عيسى الحلبي بمصر، 1352 هـ. 22- قاموس الكتاب المقدس- تأليف جورج بوست. المطبعة الإمريكانية ببيروت، 1894. 23- المختصر في أخبار البشر- للملك المؤيد عماد الدين إسماعيل أبي الفداء صاحب حماة المتوفي سنة 732 هـ. المطبعة الحسينية بمصر. 24- تأريخ مختصر الدول- لغريغوريوس أبي الفرج بن هرون المعروف بابن العبري طبعة بيروت، 1890.

3 - المصادر الأفرنجية

25- مختصر كتاب البلدان- لأبي بكر أحمد بن محمد الهمذاني المعروف بابن الفقيه طبعة ليدن، 1885. 26- المسالك والممالك- ابن خرداذبه المتوفي في حدود سنة 300 هـ. طبعة ليدن، 1889. 27- معجم البلدان- للشيخ الإمام شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي المتوفي سنة 626 هـ. مطبعة السعادة بمصر، 1906. 28- نزهة المشتاق في تأريخ يهود العراق- لمعالي يوسف رزق الله غنيمة. بغداد 1924 وادي الفرات- (الجزء الأول) للدكتور أحمد نسيم سوسة. مطبعة الحكومة ببغداد، 1944. 25- مخصر كتاب البلدان- لأبي بكر أحمد بن محمد الهمذاني المعروف بابن الفقيه طبعة ليدن، 1885. 26- المسالك والممالك- ابن خرداذبه المتوفي في حدود سنة 300 هـ. طبعة ليدن، 1889. 27- معجم البلدان- للشيخ الإمام شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي المتوفي سنة 626 هـ. مطبعة السعادة بمصر، 1906. 28- نزهة المشتاق في تأريخ يهود العراق- لمعالي يوسف رزق الله غنيمة. بغداد 1924 وادي الفرات- (الجزء الأول) للدكتور أحمد نسيم سوسة. مطبعة الحكومة ببغداد، 1944. 3- المصادر الأفرنجية Abrahams. Israel, Jewish Life in the Middle Ages. New edition, London 193 (J. L. M. A.) Adler, ElKan N, Jewish Travellers, London 1930 (J. T.) Adler, M. N. The Itinerary of Benjamin of Tudela, London, 1907 (I. B. T) Ainsworth, W. F., Euphrates Expedition, vol. I. ll. London 1888 (Eu. Ex.) Bacher, W., Benjamin of Tudela, Article in Jewish Encyclopedia, New- York and London 1902 (J. E) Bentwich, N., A Wanderer in the promised Land, London, 1932 (W. P. L.) Blakeney, E. H,. Edi. Classical Dictionary, London, 1910 (C. D.) budge, Sir A. Wallis, By Nile and tigris vol. l. ll. London 1920 (N. t.) ) Cheyne. The Tower of Babel in Biblical Ency. (B. E.)

Cohen. Rev. A., Everymans Talmud, London, 1937. De Haas, Jacob, Edi Encyclopedia of Jewish Knowledge, New- York 1934 (E. J. K.) Encyclopedie De L. islam et Supplements, Paris, 1913- 1938. Fischel, Dr. Walter. Jews in Economic and Political Life of Mediaeval Islam, London, 1937 (J. m. l.) Gibbon, Edward, The Decline and fall Of the Roman Empire. the Modern Library Ed, New- York, 1923 (D. F. R. E.) Grousset, Rene, Histoire des Croisades et du Royaume Franc de Jerusalem. Tom l. ll. lll. Paris. 1934. (G. R.) Huart. CL., Histoire des Arabes. Paris. 1912- 1913. Jewish Encyclopedia, New- York, 1902 (J. E.) Josephus, Flavious, Translated from the Greek Origin by) E. l.) William Whiston, London, 1912) J. F.) Lane. W. H., Babylonian Problems, London 1923 (B. P.) The Legacy of Islam. Oxford U. P. London, 1931 (L. I.) The Legacy of Israel. Oxford U. P. London 1927 (E. L.) Le Strange, Guy, Palestine under the Moslems, Cambridge, 1890 (P. U. M.) - The Land of the Eastern Caliphate, 1905 (L. E. K.) - Baghdad During the Abassid Caliphate, Oxford 1900 (B. D. A. C.) Levy, Reuben, A Baghdad Chronicle, Cambridge, 1929. Lockhart, Laurence, Famous Cities of Iran, London 1939 (F. C. I.) Lowenthal, Marvin, A World passed by, London, 1933, (W. P. B.) Muir, Sir William, The Chaliphate, its Rise, Decline and Fall, oxford .1891 Obermeyer, Jacob, Die Landschaft Babylonien Frankfurt Am Main .1929 Poznansky, S., Babylonische Geonim, im Nachgaonaischen Xeitalter Berlin 1914. Roth, Cecil. The Jewish Contribution to Civilisation london 1938 (J. C. C.) Rhys. Ernest, Ed. atlas of the Ancient and Classical Geography, London, 1938. Smith, Henry William, Historians History of the World, New- York

1907, Vol. 7- 8 (H. H. W.) Stein, Sir Auriel, Old Routes of Western Iran London, 1940.

ثالثا نص ترجمة رحلة بنيامين التطيلي

ITINERARY OF R. BENJAMIN OF TUDELA 1165- 1178 Translated from the Hebrew original, with Introduction, Notes and Appendixes By EZRA H. HADDAD FIRST EDITION ALL rights reserved BAGHDAD 1945

ثالثا نص ترجمة رحلة بنيامين التطيلي

مقدمة الرحلة «1» هذا كتاب «رحلة الرابي «2» بنيامين بن يونة التطيلي «3» النباري «4» » الذي جاب المدن العديدة البعيدة. وسجّل ما شاهده في الأمصار التي مرّ بها عيانا، أو ما نقله عن الثقات ذوي الأمانة المعروفين لدى يهود أسبانية. وقد أورد أسماء مشاهير العلماء والرؤساء في الأماكن التي زارها. وعاد بمعلوماته هذه إلى قشتالة «5» سنة 4933 العبرية «6» .

رحلة بنيامين

والرابي بنيامين من الثقات العارفين بالتوراة والشريعة. وقد أثبت التمحيص والتدقيق صحة ما أورده، ودلّ على صدقه وأمانته* وهذا بدء حديثه:- رحلة بنيامين قال الرابي بنيامين بن الرابي يونة طاب ذكره: كان رحيلي في أول الأمر عن مدينة سرقسطة 1. فانحدرت منها بطريق نهر إبرة إلى طرطوشة 2. وبلغت بعد مسيرة يومين مدينة

طر كونة «1» القديمة، ذات الأوابد الجسيمة من بناء الجبابرة وأسلاف الإغريق، مما لا نظير له في جميع بلاد الأسبان، وموقعها على شاطئ البحر. ومنها على مسيرة يومين:- برشلونة Barcelona «2» وفيها طائفة من اليهود وجماعة من العلماء

والحكماء والرؤساء الكبار. منهم الرابيون ششت «1» وشئالتيال «2» وسليمان «3» بن إبراهيم بن حسداي. والمدينة، على صغرها جميلة. يؤمها التجار من اليونان وبيزة وجنوة وصقلية وإسكندرية مصر وفلسطين وما والاها وسواحل إفريقية، للبيع والشراء. وعلى مسيرة يوم ونصف اليوم منها:-

جيرندة Gerona «1» وفيها طائفة صغيرة من اليهود. وعلى مسيرة ثلاثة أيام منها:-

أربونة Narbonne «1» الشهيرة بمجامعها «2» العلمية، مصدر العلم والدين للأقطار المجاورة. وفيها عدد كبير من الأشراف والعلماء، على رأسهم ر. قلونيموس «3» ابن العلامة الرئيس الجليل تيودوروس طاب ذكره، من آل الملك داود، وبيده الوثائق التي تؤيد صحة نسبه، وهو ذو أملاك وعقارات أقطعه إياها ملوك البلد، وليس لأحد أن ينتزعها منه.

وفيها من العلماء الرابيون إبراهيم «1» رئيس المجمع العلمي ومكير «2» ويهوذا وغيرهم. ويبلغ عدد اليهود فيها نحو 300 أسرة «3» . وعلى مسيرة أربعة فراسخ «4» منها:-

بيزيه Bezier «1» وفيها طائفة من العلماء على رأسهم الرّابيّان سليمان حلفته «2» ونثانيال «3» . وعلى مسيرة يومين منها:-

مونبليه Montpellier «1» وهي بلدة تجارية تبعد نحو الفرسخين عن الساحل، حيث يجتمع التجار من نصارى ومسلمين من مختلف الأمصار، من عدوة الغرب «2» ولمبردية وممالك رومية الكبرى وفلسطين واليونان وفرنسة وأسبانية وإنكلترة، من الذين يتحدثون بكل لغة ولسان، لأنها القاعدة التجارية للجنوبيين والبيزيين. وفي هذا البلد عدد من كبار علماء هذا الجيل، على رأسهم الرابيان إبراهيم بن

تيودروس ومردخاي. وبينهم الأغنياء والأسخياء، يمدون يد المعونة إلى من يقصدهم من ذوي العوز. وعلى مسيرة أربعة فراسخ منها:- لونل Lunel «1» وفيها طائفة من اليهود والعلماء والفقهاء. منهم العلامة الشهير الرابي مشولم «2» وأبناؤه الخمسة الأثرياء الحكماء، وهم الرابيون يوسف وإسحاق ويعقوب وهرون وآشر «3» وهذا الأخير ناسك

متقشف، لا شأن له في أمور الدنيا، يقضى أوقاته صياما وعكوفا على الدرس والعلم، لا يذوق اللحم زهدا. وهو ثقة، واسع الاطلاع في التلمود. وفي لونل كذلك الرابي موسى «1» صهره والرابي صموئيل الشيخ «2» وسليمان كوهين. ويهوذا بن طيبون «3» الطبيب الأندلسي وغيرهم من العلماء الوافدين من أقاصي البلاد لطلب العلم. وتهتم الطائفة بإيواء طلاب العلم وإعالتهم طيلة مكوثهم في المدرسة. ويبلغ عدد اليهود في هذه المدينة نحو الثلاثمائة. وهم موصوفون بالعلم والتقوى وإغاثة القريب والبعيد من إخوانهم. حرسهم الله. أما موقع البلدة فعلى نحو فرسخين من البحر. وعلى مسيرة فرسخين منها:- بوسكيار Posquieres «4» وهي بلدة كبيرة فيها قرابة أربعين يهوديا.

ولها مدرسة كبرى يرأسها الحبر الجليل إبراهيم بن داود «1» وهو عالم واسع الاطلاع في التوراة والتلمود «2» ، يقصده طلاب العلم من البلاد القصية. فيؤويهم بيته ويسد حاجتهم بثروته الطائلة. وهناك طائفة أخرى من العلماء، بينهم الرابيون يوسف بن منحم وبنبنيشتى وبنيامين وإبراهيم وإسحاق بن موسى. وعلى مسيرة ثلاثة فراسخ منها:- نو غرس ST.Giles «3» أو برج القديس أجيل. فيها نحو مائة يهودي، بينهم من العلماء، الرابيون إسحاق بن يعقوب وإبراهيم بن يهوذا،

وإلعازر وموسى ويعقوب بن لاوي. وفي المدينة دير مقدس يحجه النصارى من الأقطار والجزر البعيدة. وهي على بعد ثلاثة أميال من البحر، واقعة على ضفاف نهر رودي» العظيم الذي يسقي كورة بروفانسية. فيها من العظماء الرئيس أبا ماري بن إسحاق «2» ناظر ديوان الخراج في بلاط الأمير ريمند. وعلى مسير ثلاثة فراسخ منها:- آرل Arelate ,Arles «3» فيها زهاء مائتي يهودي، أشهرهم الرابيون موسي وطوبي وإشعيا وسليمان. وعلى مسيرة ثلاثة أيام منها:-

مرسيلية Marseilles «1» مقر العلماء والغاؤونية «2» . يبلغ عدد يهودها زهاء الثلاثمائة. وهم طائفتان: تسكن الأولى الأحياء السفلى من المدينة على شاطئ البحر. وتقطن الثانية في أعلاها، بجوار الحصن الكبير. ولكلتا الطائفتين مدرسة كبيرة وعلماء أعلام. نخص بالذكر من علماء الأولى، الرّابيين شمعون بن أناطولي «3» وليبارو. ومن علماء الثانية، الرابيين فرفنيانو «4» المثرى الشهير وختنه إبراهيم بن مئير،

وإسحاق بن مئير «1» . والمدينة ثغر تجاري واسع على شاطئ البحر. ومنها كان الإبحار في سفينة إلى:- جنوة Genoa «2» الفرضة البحرية الكبيرة. تبعد عن مرسيلية مسيرة أربعة أيام بحرا. وفي هذه المدينة يهوديان اثنان قدما إليها من سبتة، هما الفاضلان صموئيل بن خيلام وأخوه. ويستدير بالبلد سور حصين. ولا يحكمه ملك بل شيوخ ينتدبهم الأهلون للقضاء. ولكل بيت من بيوتها برج. تدور رحى المعارك بين الأهلين من أعالي هذه الأبراج في أيام الفتن. والجنويون مسيطرون على البحار. يجوبونها بسفنهم الخاصة المسماة «غاليس «3» » ويقومون بأعمال القرصنة على الروم والمسلمين، فيعودون إلى جنوة بالأسلاب والغنائم الوفيرة. والحرب قائمة في هذه الأيام بين جنوة وبيزة. وهذه تبعد عنها مسيرة يومين:-

بيزة Pisa «1» البلدة الكبيرة. فيها زهاء عشرة آلاف دار محصنة بالأبراج المنيعة، والحرب قائمة في مختلف أرباضها. أهلها قوم أشداء لا يدينون بطاعة لملك، وإنما يمنحون السلطة شيوخا ينتدبونهم للحكم. وفي المدينة زهاء عشرين يهوديا، على رأسهم الرابيون موسى وحييم ويوسف. والبلد غير محاط بسور. يبعد عن البحر زهاء أربعة أميال. يتوسطه نهر أرنو الحافل بالعدد الوفير من السفن الغادية والرائحة. وعلى بعد أربعة فراسخ منها:- لوكة Lucca «2» أول إقليم في الأنبرذية «3» . وهي مدينة عامرة فيها

زهاء أربعين يهوديا، من أعيانهم الرابيون داود وصموئيل ويعقوب. وعلى مسيرة ستة أيام منها:- رومية الكبرى Roma «1» حاضرة الدولة النصرانية. يقطنها نحو

المائتين من اليهود ذوي المكانة المحترمة. وهم أحرار لا يدفعون الجزية. يوجد عدد منهم بين بطانة البابا الكسندروش «1» الحبر الأعظم رئيس الكنيسة النصرانية. ومن مشاهيرهم الرابيان دانيال «2»

ويحيئيل «1» ، والأخير شاب حسن المظهر على جانب من الذكاء وحصافة الرأي، كثير التردد على قصر البابا بصفة كونه ناظر الأملاك الخاصة. وهو حفيد ر. ناثان «2» صاحب القاموس والتفاسير. ومن علماء رومية أيضا الرابيون. يؤاب «3» بن سليمان ومنحم «4» رأس المثيبة وبنيامين «5» بن شبثاي. يمر نهر التبر من وسط رومية فيشطرها شطرين. وفي جانبها الأول الكنيسة العظمى المسماة كنيسة «القديس بطرس دي رومة «6» » وأطلال قصر يوليوس قيصر «7» . وفي رومية من المباني العظيمة

والمنشآت الجسمية ما لا نظير له في غيرها من مدن العالم. وتبلغ مساحة ما هو خراب وما هو معمور منها أربعة أميال «1» . وفيها ثمانون قصرا لثمانين ملكا كانوا يحملون لقب انبراذور «2» . أولهم تاركن» ، ومنهم نيرون «4» وطباريوس «5» اللذان عاصرا يسوع الناصري، وآخرهم ببين «6» محرر الأسبان من المسلمين ووالد قار له «7» الذي حارب المسلمين في إسبانية.

وبضواحي رومية بقايا قصر عظيم لطيطس «1» . ويقال: إن ثلثمائة من شيوخ رومية قد أظهروا استياءهم منه لأنه قضى في حصار القدس ثلاث سنوات بدلا من سنتين، وهي المدة التي رسموها له «2» . وفيها أيضا قصر الملك إسبازيان «3» . وهو بناء شامخ على جانب

عظيم من المتانة. وقصر الملك «غالبة «1» » ويبلغ عدد شمساته «2» (نوافذه) ثلثمائة وستين، بعدد أيام السنة. واستدارة هذه القصور كلها زهاء ثلاثة أميال. وفي باحة هذه القصور دارت معركة عظيمة في الأزمنة الغابرة سقط فيها نحو مائة ألف قتيل، لا تزال عظامهم مكدسة حتى يومنا هذا. وقد أمر ملك ذلك الزمان أن تنقش صورة هذه المعركة على ألواح الرخام، تظهر فيها الجيوش المتقابلة بخيلها وأسلحتها، لتشاهد الأجيال

القادمة هذه المعارك التي نشبت في العصور القديمة. ويشاهد في غار تحت الأرض، هيكل الملك ترمال غلسين «1» والملكة زوجه، وهما متربعان على عرش وحولهما أجداث زهاء المائة من أشراف المملكة. وهذه الأجداث جميعها محنطة بمعرفة الأطباء ومحتفظ بها حتى اليوم. ومن المباني الشهيرة بيعة القديسة جيوفاني في بورتة لاتينة «2» يقصدها الناس للتعبد. ويشاهد فيها عمودان «3» من نحاس، صنعهما الملك سليمان بن داود عليه السلام. ويروي يهود رومية: إن هذين العمودين ينضحان عرقا غزيرا في ليلة التاسع من شهر آب «4» في كل

سنة. وهناك أيضا الكهف الذي طمر فيه الملك طيطس الآنية المقدسة التي استلبها من بيت المقدس «1» . وعلى شاطئ نهر التبر يوجد غار فيه قبور الشهداء العشرة «2» ، طاب ذكرهم. وبإزاء بيعة سنت جيوفاني دى لاتيرانو، هيكل شمشون الجبار «3» بيده رمح من الرخام وكذلك تمثال أبشالوم «4» بن داود وتمثال الملك

قسطنطين «1» باني مدينة قسطنطينية. وهذا التمثال مصنوع من نحاس مموه بالذهب. وفي رومية من الأبنية والتماثيل مالا حصر له. وعلى مسيرة أربعة أيام منها:- كابوة Capua «2» مدينة عامرة من بناء الملك كابيش «3» . ذات جمال

ورواء، لكنها رديئة الهواء تتفشى فيها الحمى «1» . وفيها عدد من مشاهير العلماء نخص بالذكر منهم الرابيين كوتسو وأخاه صموئيل، وزاقن وداود. وقد بلغت هذه المدينة مرتبة الإمارة وكان السفر منها إلى:- فوزولي Pozzuoli «2» وتسمى صورنتو الكبرى. وهي بلدة واسعة بناها صور بن هدر عزر «3» وتحصّن فيها خوفا من الملك داود. وقد طغى البحر على جانبين منها فغمرهما. ويمكن اليوم مشاهدة الأسواق والحصون تحت الماء. ويتدفق من باطن الأرض ينبوع حار ينبع منه الزيت المسمى «بتروليوم» ، ويطفو على سطح الماء فيجمعه الناس

ويتخذون منه دواء. وهناك كذلك الحمامات الحارة «1» يؤمها المصابون بالأمراض، يستحمون بها وينالون الراحة والشفاء. ويقصدها المرضى من نواحي الأمبرذية «2» في موسم الصيف. ويقطع المسافر منها نفقا «3» في جوف الجبل مسيرته خمسة عشر ميلا وهذا النفق من صنع الملك رومولوس» باني مدينة رومية. أنشأه خوفا من داود ملك إسرائيل ويؤاب قائد جيشه «5» ، فشيد المباني فوق الجبال وتحتها. ومنها إلى:- نابل Neapolis «6» وهي بلدة حصينة مستحكمة واقعة على شاطئ

الخليج. بناها الإغريق في أول عهدها. وفيها نحو 500 يهودي أشهرهم الرابيون حزقية وشلوم وإيليا كوهن والرئيس إسحاق من جبل نابوس (؟) وعلى مسيرة يوم منها بطريق البحر:- سلرن Salerno «1» وفيها المجمع الطبي للنصارى «2» . ويقيم بها نحو 600 يهودي بينهم ستة من كبار العلماء هم الرابيون إسحاق بن ملكيصادق الرّابي الأعظم السيفونتي «3»

وسليمان كوهن «1» وإيليا اليوناني وإبراهيم الأربوني وهامون. وتحيط بالمدينة أسوار عالية من جانب البر ويذب عنها البحر من الجانب الثاني. وقلعتها الحصينة تشرف عليها من أعلى الجبل. وعلى مسيرة نصف يوم منها:- أمالفى AMalfi «2» فيها نحو عشرين يهوديا. بينهم الطبيب حنانيال والرابي إليشع والرئيس أبو الجيد (؟) . ونصارى هذا البلد تجار، لا يشتغلون بالزراعة بل يبتاعون كل ما يحتاجونه بالمال. وهم يقيمون في الجبال الشاهقة والصخور السامقة. أراضيهم غنية بالفواكه، تكثر فيها الكروم وأشجار الزيتون. وهم أشداء لا قبل لأحد بمحاربتهم. وعلى مسيرة يوم منها: بنفنتو Benevento «3» بلدة كبيرة محصورة بين شاطئ البحر والجبل الشاهق. وفيها طائفة من اليهود يبلغون المائتين. على رأسهم الرابيون

قلونيموس وزرح وإبراهيم. وعلى مسيرة يومين منها:- مالفي Malfei «1» في مقاطعة أفولية. وردت في التوراة باسم «فول «2» » . فيها نحو مائتي يهودي، على رأسهم الربيون أخيماعص. وناثان وصادوق وعلى مسيرة يوم منها:- أشقولي Ascoli «3» فيها نحو أربعمائة يهودي. على رأسهم الرّابيون قنطينو وصهره صمح ويوسف. وعلى مرحلة يومين منها:- تراني Trani «4» ثغر ساحلي يجتمع فيه حجاج النصارى قبل إبحارهم إلى القدس. لها مرسى جيد، وفيها طائفة من اليهود يقدرون بنحو المائتين. على رأسهم الرّابيون إيليا وناثان الواعظ الشهير ويعقوب. والبلدة كبيرة، طيبة المقام. وبعد مسيرة يومين منها:-

نيقولاس دي باري COlo Di Bari «1» كانت في أول عهدها بلدة عامرة، حتى دمرها الملك وليم الصقلي، وهي اليوم مهجورة من اليهود والنصارى. وعلى مسيرة يوم ونصف يوم منها:- طارنت Taranto «2» بلدة كبيرة من أعمال

قلورية «1» . غالب أهلها من اليونان (الروم) وفيها نحو ثلثمائة يهودي، بينهم من العلماء، الرّابيون مئير وناثان وإسرائيل. وعلى مسيرة يوم منها:- برنديزي Brindisi «2» على شاطئ البحر. فيها زهاء عشرة يهود يمتهنون الصباغة «3» . وعلى مسيرة يومين منها:- أوطرنت Otranto «4» على ساحل بحر اليونان. يقيم بها نحو خمسمائة يهودي على رأسهم الرّابيون منحم وكالب ومئير ومالي. ومنها يقطع المسافر مسافة يومين بحرا إلى:-

جزيرة قرفو Corfu «1» فيها يهودي واحد يمتهن الصباغة يدعى ر. يوسف. وعند هذه الجزيرة تنتهي مملكة صقلية. وعلى بعد يومين منها بطريق البحر:- أرته Arta «2» حيث تبدأ مملكة مانويل «3» ملك الروم. وهي قرية فيها زهاء مائة يهودي، على رأسهم الرّابيان شلحية وهرقل. وعلى مسيرة يومين منها:- إخيلون Achilon «4» فيها نحو عشرة يهود، على رأسهم ر. شبثاي. ومنها بعد مسيرة نصف يوم:- أناطوليكه Anatolica «5» الواقعة على فجوة من البحر. وعلى بعد نصف يوم منها بطريق البحر:-

بتراس Patrae «1» البلدة التي بناها أنتباطرس «2» أحد ملوك اليونان الأربعة الذين قاموا بعد الإسكندر. فيها أبنية جسيمة. ويسكنها زهاء خمسين يهوديا، على رأسهم الرابيون إسحاق ويعقوب وصموئيل. وعلى مسيرة يوم ونصف يوم منها بطريق البحر:- ليبنتو Lepanto «3» الواقعة على الشاطئ. فيها نحو مائة يهودي. أشهرهم الرابيون جزري وسليمان وإبراهيم. وعلي مرحلة يوم ونصف يوم منها:- كريسة Crissa «4» يسكنها نحو مائتي يهودي على قمة جبل برناسوس «5» ، حيث يشتغلون بالزراعة. ومن أعيانهم الربيون سليمان

وحييم وإرمية وعلى مسيرة ثلاثة أيام منها:- قورنث Corinthus «1» فيها نحو ثلثمائة يهودي. منهم الربيون ليئون ويعقوب وحزقية. وعلى بعد ثلاثة أيام منها:- طيبة Thebae «2» بلدة كبيرة. فيها نحو ألفي يهودي. وهم صناع مهرة يتقنون نسج الأقمشة الحرير الملونة «3» الرائجة في أنحاء اليونان. وبينهم عدد من كبار العلماء العارفين بالمشنة والتلمود «4» ، يعدون من عظماء هذا العصر، على رأسهم الربن الأكبر هرون القوطى وأخوه، والرّابيون موسى وحية وإيلية ترتينو ويقطان، وكلهم علماء لا يبارون في جميع بلاد الروم باستثناء قسطنطينية. وعلى مسيرة يوم منها:-

نغروبنت Negroponte «1» بلدة كبيرة على شاطئ البحر، يؤمها التجار من كل حدب وصوب. يقيم فيها نحو مائتي يهودي من أعيانهم الربيون إيليا المغني Psaltery وعمانوئيل (صموئيل؟) وكالب «2» . وعلى مسيرة يوم منها:- يابشتريشة Jabustrisa «3» الواقعة على شاطئ البحر. فيها نحو مائة يهودي. على رأسهم الرّابيون يوسف وصموئيل ونثانية. وعلى مسيرة يوم منها:- رابنكة Rabenica «4» فيها نحو مائة يهودي. على رأسهم الرّابيون يوسف وإلعازر وإسحاق. وعلى مسيرة يوم منها:-

شينون بوتامس Sinon Potamos «1» فيها نحو خمسين يهوديا، من أعيانهم سليمان ويعقوب. وعند هذه المدينة تبدأ حدود أفلاجونية Wallachia المأهولة بقوم يعرفون بالأفلاق «2» . وهم خفاف الحركة. الواحد منهم أشبه بالظبي، ينحدرون من أعالي الجبال للغزو والسلب، لا يجرؤ أحد على مقاومتهم ولا طاقة لملك على إخضاعهم. لا يعترفون بالنصرانية. لهم أسماء شبيهة باليهودية، ويعدون اليهود إخوانا لهم. فإذا عثروا على يهودي في أثناء غزواتهم اكتفوا باستلاب ماله دون قتله كما يفعلون فيما لو كان روميا. وهم ملاحدة لا دين لهم. وعلى مسيرة يومين من هذا البلد:- غرديكى Ghardeghi «3» وهي مدينة مهجورة، فيها عدد يسير من اليهود والروم. وعلى بعد يومين منها:- أرميروس Armilon «4» مدينة كبيرة وثعر ساحلي ذي صلة تجارية

ببيزنطية وبيزة وجنوة. يؤمها عدد كبير من التجار للبيع والشراء. وفي هذا البلد نحو 400 يهودي على رأسهم الرّابيون شيلة والعميد يوسف والرئيس سليمان وعلى بعد يوم منها:- بسينة Bissina «1» فيها نحو مائة يهودي، على رأسهم الرابيون شبثاي وسليمان ويعقوب. وعلى مسيرة يومين منها بطريق البحر:- سلانيك Thessalonica «2» بلدة واسعة بناها سلوقس أحد الأمراء

الأربعة الذين قاموا بعد الإسكندر. فيها نحو 500 يهودي بينهم الربن صموئيل وأولاده العلماء الأعلام. وهو عامل الملك على اليهود. ومن علمائها أيضا صهره شبثاي والرّابيان إيلية وميخائيل. ويعاني يهود هذه المدينة اضطهادا شديدا. ويحترف أغلبهم الصناعات اليدوية. وعلى مسيرة يومين منها:- متريزي Mitrici «1» فيها نحو عشرين يهوديا، منهم الرابيون إشعيا ومكير وإليئاب وعلى مسيرة يومين منها:- درامة Drama «2» فيها نحو 140 يهوديا على رأسهم الرابيان

ميخائيل ويوسف ومنها على مرحلة يوم واحد:- كرستوبوليس Christopolis «1» فيها نحو عشرين يهوديا. وعلى مسيرة ثلاثة أيام منها:- أبيدوس Abydos «2» الواقعة على شاطئ البحر. وعلى بعد خمسة أيام منها بطريق وعرة جبلية:- قسطنطينية Constantinopolis «3» المدينة الكبرى قاعدة دولة

الروم المعروفين بالإغريق وكرسي مملكة مانويل الانبراذور «1» ، وباسمه يحكم البلاد اثنا عشر أميرا يأتمرون بأمره. وكلهم يملك القصور المنيفة والقلاع الحصينة في قسطنطينية أو في المدن التي يحكمها. ولكل من

هؤلاء الأمراء لقب خاص يعرف به. فأولهم يلقب «فريفوستوس مغنس» والثاني «ميغس دمستقس» والثالث «دومينوس» والرابع «ميغس دوقس» والخامس «أقونمس مغنس «1» » وهكذا.... وتبلغ استدارة قسطنطينية ثمانية عشر ميلا «2» . يكتنف البحر نصفها ويحيط البر بنصفها الآخر. وتلتقي عندها فجوتان: الأولى من بحر روسية «3» والثانية من بحر إسبانية. وفي المدينة حركة دائبة من التجار القادمين إليها من بابل وشنعار «4» ومادي وفارس وممالك مصر وكنعان وروسية وهنغارية، والبجاناكية «5» والخزر ولمبرذية وإسبانية.

ولا يباريها في هذا الباب غير بغداد المدينة الإسلامية الكبرى. وفي قسطنطينية بيعة تيوصوفية «1» المعروفة، كرسي بابا الروم «2» ، لأن الناس هنا لا تدين بالطاعة للبابا المقيم في رومية. وفي هذه البيعة من الصوامع بعدد أيام السنة. وكنوز لا يحصرها عد. وتفيض هذه الثروة الطائلة عاما بعد عام من الهدايا والعطايا التي تتوارد عليها من المدن والجزر والحصون المحبوسة عليها. وليس في العالم كله بيعة تضارع تيوصوفية فخامة. ففيها من الأساطين المموهة بفضة وذهب، ومن القناديل المفضضة والمذهبة ما لا يمكن إحصاؤه.

ويظاهر القصر الملكي الملعب المعروف «إيبودرومي «1» » حيث تقام الألعاب الملكية يحتفل فيه بعيد الميلاد بمهرجان عظيم، ويتقاطر عليه اللاعبون من جميع أنحاء المعمورة، فيقومون بشتى الأعمال الباهرة والسحريات العجيبة. وتقام فيه المصارعة بين ضروب الحيوان من ضواري وسباع ودببة ونمورة وحمر وحشية وطيور جارحة مدربة، بحضرة الملك والملكة. وهذا لا نظير له في مكان آخر من العالم. وبضاحية القصور الملكية قصر منيف شيده الملك مانويل لسكناه على شاطئ البحر. وهذا القصر يعرف باسم «بلا شيرنس «2» » . فيه الأساطين والحيطان الموشاة بالتبر الخالص والنقوش البديعة التي تصور المعارك القديمة والحروب التي خاضها هذا الملك. وفي القصر عرش من خالص الذهب مفصص بالحجارة الكريمة يتدلى من أعلاه بما يحاذي

هامة الرأس تاج من ذهب معلّق بسلاسل من ذهب، مرصع بالجواهر النادرة الثمينة. ولمع هذه الجواهر ينير القاعة في الغسق، فيغنيها عن نور المصابيح. وهناك عدا هذا من التحف ما يقصر عن تفصيله اللسان. ويتوارد الخراج على قسطنطينية كل سنة من جميع أنحاء بلاد الروم، فضلا عن الهدايا السنية من حرير ملون وذهب، ما يملأ الخزائن العديدة. ولا نظير لهذه الثروة وهذه المباني في جميع العالم. ويقال: إن خراج العاصمة وحدها يبلغ عشرين ألف فلورين «1» ذهبا في اليوم الواحد. وهذا الخراج يجبى من المنازل والأسواق والمتاجر والمكوس التي يؤديها التجار الذين يتقاطرون عليها برا وبحرا. والروم في هذه المملكة معروفون بالغنى والمال الكثير من ذهب وجواهر. يرتدون الحلل الزاهية من حرير مقصب بالذهب وسائر المعادن النفيسة، حتى لتحسب الواحد منهم وهو ممتط جواده، أميرا خطيرا. والمملكة واسعة الأرجاء ذات ثروة عظيمة وأهلوها يعيشون بنعمة وترف، لهم حذق في العلوم اليونانية.

ويستأجر الروم جماعات من الأقوام الأجنبية المعروفة بالبربر، يستعينون بهم على مناجزة التوغرمين «1» المعروفين بأبناء الترك. لأن الترف يقعد الأهالي عن الحرب والقتال ويجعلهم واهني العزيمة مثل النساء. ويقيم اليهود في حي «2» منعزل عن سائر الأحياء، وراء خليج مرمرة

الذي يفصل ما بينهم والمدينة. فإذا أراد أحدهم الخروج إلى البلد للبيع والشراء وصل إليها عن طريق البحر. وفي هذه المدينة نحو ألفي يهودي من الرّابيين وخمسمائة من القرائين «1» . والطائفتان تقيمان في حي واحد يفصل ما بينهما سور. وعلى رأس الرابيين من العلماء الأعلام، الرّابيون أبطليون وعوبدية وهرون خوسفو ويوسف سرجينو والعميد إلياقيم. ويحترف أغلب يهود قسطنطينية حياكة الأثواب الحرير. وبينهم التجار ذوو الثروة الواسعة. ويلحق باليهود أذى شديد من سائر السكان. فركوب الخيل محظور عليهم، باستثناء ر. سليمان المصري طبيب الملك الخاص «2» . ولهذا الطبيب حظوة لدى الملك، وبفضل نفوذه يتمتع اليهود ببعض الامتيازات وسط موجة الاضطهاد المحيقة بهم. ويصيب الدباغين من اليهود بوجه خاص ضيق كبير، لأنهم مضطرون إلى طرح المياه القذرة في الأزقة والشوارع المحاذية لمدابغهم، يتلوث بها السابلة من الروم فيزدادون كراهية لهم، فيصبون

جام غضبهم على البريء والمذنب من اليهود سواء بسواء، يضربونهم على رؤوس الأشهاد، ويعاملونهم معاملة قاسية. ومع هذا فاليهود هنا أثرياء، ذوو جود وإحسان وأصحاب دين وتقوى. يتحملون ما يصيبهم من جور وخسف بصبر جميل. ويعرف حي اليهود في هذه المدينة باسم بيرة. وعلى مسيرة يومين من قسطنطينية:- رودستو Rhoedestus «1» فيها طائفة من اليهود يبلغ تعدادها نحو الأربعمائة. من أعيانهم الرّابيون موسى وأبيه ويعقوب. ومنها على مرحلة يومين:- غليبولي Gallipolis «2» فيها نحو مائتي يهودي، على رأسهم الرّابيون إلياس قبيد، وشبثاي الصغير «3» وإسحاق الكبير «4» . وعلى مسيرة يومين منها:- كالس Coela «5» فيها نحو خمسين يهوديا. بينهم الرابيان يهوذا ويعقوب. ومنها على مسيرة يومين:-

جزيرة مدلي Mitylene «1» إحدى جزر البحر. في عشرة مواقع منها طوائف صغيرة من اليهود. وعلى مسيرة ثلاثة أيام منها:- جزيرة خيوس Chios «2» فيها نحو أربعمائة يهودي. من أعيانهم الرّابيان إلياس كوهن وشبثة. وينمو في هذه الجزيرة شجر المصطكي» . وعلى بعد يومين منها:-

جزيرة صاموس Samos «1» فيها نحو 300 يهودي، على رأسهم الرّابيون شمرية وعوبدية ويوئيل. وفي هذه الجزيرة جماعات أخرى من اليهود. وعلى مسيرة ثلاثة أيام منها:- جزيرة رودس Rhodes «2» يقيم بها أربعمائة يهودي، على رأسهم الرّابيون أبة وحنانيال وإلياس. وعلى مسيرة أربعة أيام منها:- جزيرة قبرس Cyprus «3» فيها جماعة من اليهود الرابيين، وأخرى

من الملاحدة المعروفين بالإبيقوريين «1» . واليهود يحرمونهم لانتهاكهم حرمة السبت واحتفالهم بيوم الأحد بدلا منه. وعلى بعد يومين منها:- قوريقوس Corycus «2» المتاخمة لبلاد أرمينية. وهي أول مملكة طوروس «3» ملك الجبال وأرمينيه الممتدة حدودها من دوكية «4» ؟ حتى بلاد التوغرمين (التركمان) وعلى مسيرة يومين منها:-

ملمستراس Malmistras «1» هي ترشيش «2» الواقعة على شاطئ البحر. وعندها تنتهي مملكة الروم. وعلى مرحلة يومين منها:- انطاكية Antiochia «3» الواقعة على ضفاف نهر «فور» أو نهر

يبوق «1» الوارد ذكره في التوراة، ينبع من جبال لبنان على مقربة من حماة. وهي بلدة كبيرة بناها الملك أنطيوخس على سفح جبل شاهق يشرف عليها من كل صوب، يحيط بها سور متين. وبظاهر المدينة في أعلى الجبل نبع يوزع ماءه رجل موكل به، فيمر في مجاري تحت الأرض ويوصل إلى بيوت الخاصة. أما الجانب الثاني من البلد فيستدير به النهر. وموقع المدينة منيع جدا. يحكمها الأمير بهمند بواتفين الملقب «بوبة» «2» وفيها عشرة يهود يحترفون صنع الزجاج، منهم الرّابيون مردخاي وحييم وإسماعيل. وعلى مسيرة يومين منها:- الليكة Licha أو اللاذقية «3» فيها نحو 200 يهودي، على رأسهم الربيان حية ويوسف. وعلى بعد يومين منها:-

جبلة Gebilee «1» هي بعلجاد «2» الواردة في التوراة في سفوح جبل لبنان. وبظاهرها تقيم الطائفة المعروفة بالحشيشين «3» . وهم زنادقة لا يؤمنون بدين محمد. ويتبعون تعاليم شيخهم «قرمط» «4» يطيعونه

طاعة مطلقة للموت أو للحياة. يأتمر بأمره سكان الجبل ويسمونه «شيخ الحشيشين» أما مقامه فحصن يدعى القدموس أي «قدموث «1» » الواردة في التوراة من أملاك سيحون. وهؤلاء الحشيشون متضامنون مع بعضهم إذعانا لتعاليم شيخهم. حتى إنهم ليضحون بالنفس طوعا ويفتكون بالملوك والأمراء إذا اقتضى. ومسيرة أراضيهم ثمانية أيام. وهم في نزاع مستمر مع النصارى من الإفرنج وأمير طرابلس الشام. وقد أصاب طرابلس قبل مدة وجيزة زلزال شديد «2» ، أدى إلى هلاك خلق

كبير من اليهود وغيرهم، انهارت عليهم الدور والحيطان فطمرتهم. ونيف عدد من هلك بهذا الزلزال في فلسطين وحدها على العشرين ألفا. وعلى مسيرة يوم واحد منها:- جبيل Byblus «1» هي بلدة «جبال» الواردة في التوراة من أملاك بني

عمون فيها نحو 150 يهوديا. ويحكم هذه المدينة سبعة من أمراء جنوة يرأسهم الأمير يليان إمبرياكو «1» . وفيها أطلال معابد بني عمون القديمة، حيث كانوا يعبدون صنما يستوي على عرش من حجارة موشاة بالذهب. وحواليه عن اليمين وعن اليسار تمثالان لحوريتين. وأمامه مذبح لإحراق البخور وتقديم الأضاحي. وفي المدينة نحو مائتي يهودي، من أعيانهم الرّابيون مئير ويعقوب وسمحة. وموقع البلدة على شاطئ بحر فلسطين. وعلى مسيرة يومين منها:-

بيروت Beritus «1» هي بئيروت الواردة في التوراة. فيها نحو خمسين يهوديا منهم الرابيون سليمان وعوبدية ويوسف. وعلى مسيرة يوم منها:- صيداء Sidon «2» هي صيدون الواردة في التوراة. فيها نحو عشرين

يهوديا. وعلى بعد عشرة أميال منها تقيم طائفة الدروز «1» وهي في خصام مستمر معل أهل صيداء. وهؤلاء لا دين يعرف لهم. يعتصمون فوق قمم الجبال وشعاب الصخور ولا يمتون بطاعة لملك أو أمير. ومضاربهم على بعد ثلاثة أيام من جبل حرمون. وهم إباحيون. ينكح الرجل منهم ابنته. ولهم عيد يحتفلون به مرة في العام. يجتمعون به في صعيد واحد، يأكلون ويشربون، فيستبيح بعضهم نساء بعض. ومن عقائدهم السقيمة أن الروح الزكية إذا فارقت الجسم عند الوفاة حلّت في جسم طفل آدمي يولد في تلك اللحظة أما الروح الشريرة فتحل في جسم كلب أو حمار وما شاكل. ولا يوجد بينهم من اليهود سوى بعض أرباب الحرف والصباغين، يقيمون عندهم ردحا ثم يعودون إلى أهلهم. ومعاملة هؤلاء لليهود حسنة. وهم يتسلقون الجبال بخفة غريبة، يعتصمون بها، فلا يقدر أحد على مناجزتهم بنجاح. وعلى مسيرة نصف يوم منها:-

صرفندة Sarepta «1» التابعة لصيداء. وهي تبعد مسيرة يوم ونصف يوم عن:- صور الجديدة Tyrus Noua «2» وهي مدينة جميلة. لها خليج

يتوسطها بين برجين عظيمين، تدخله السفن للرسو عند الميناء. وبين البرجين سلسلة حديد معترضة، عليها الحراس الأمناء، يربطونها في أول الليل فيتعذر على سفن القرصان سبيل الدخول للسلب والنهب من البر أو من البحر. وليس في بلاد الدنيا ما يماثل هذا الميناء شأنا. ويقيم في هذه المدينة نحو 400 يهودي بينهم جماعة من العلماء العارفين بالتلمود. منهم الرابيون إفرايم المصري القاضي ومئير القرقسوني والرئيس إبراهيم. وبين يهود صور من يمتلك السفائن التي تجوب البحار. ومنهم من يحترف صناعة الزجاج النفيس المعروف بالزجاج الصوري «1» الشهير في العالم. وفيها كذلك السكر الجيد «2» . والواقف عند أسوار صور الجديدة يشاهد أطلال صور القديمة المتوّجة «3» وقد

غمرتها المياه، وهي على مرمى حجر من صور الجديدة. والمار في سفينة يشاهد بقايا الأبراج والأسواق وآثار السكك والقصور في قاع اليم. وصور الجديدة بلد واسع التجارة يؤمه التجار من كل صوب. وعلى مسيرة يوم منها:- عكاء St.Jean D'acre «1» هي مدينة عكو الواردة في التوراة من أعمال سبط آشر، أول حدود فلسطين، في موقع ملائم من البحر. لها ثغر كبير ترسو عنده السفن المسافرة إلى أطراف القدس. ويمر بظاهرها نهر قدوميم «2» . وفيها نحو مائتي يهودي، بينهم الرابيون صدوق ويافث ويونة وعلى بعد ثلاثة فراسخ منها:-

حيفا Haifa «1» هى «جت حفر» الواردة في التوراة. موقعها على شاطئ البحر وبظاهرها جبل الكرمل. وفي منحدر هذا الجبل قبور كثيرة لليهود. وبه الكهف الذي أوى إليه النبي إلياس (ع) وبظاهر المدينة دير للنصارى يدعى «دير القديس إلياس St.Elias « «2» وعلى قمة الجبل أطلال المذبح الذي عمره هذا النبي (ع) في زمن آخاب ملك إسرائيل «3» وهو بناء مستدير محيط قاعدته أربع أذرع ويمر نهر قيشون (المقطع) بأسفل الجبل. وعلى بعد أربعة فراسخ منها:-

كفرناحوم Capernaum «1» هي قرية معون بالقرب من الكرمل. وعلى بعد أربعة فراسخ منها:- قيسارية Caesarea «2» هي «جت فلسطين» الواردة في التوراة.

فيها نحو المائتين من اليهود الرابيين ومثلهم من الكوتيين «1» . والكوتيون هم السامريون. وهذه المدينة غاية في الجمال، تشرف على البحر. بناها «قيصر» وعرفت باسمه. وعلى مسيرة نصف يوم منها:- قاقون Kakun «2» هي قعيلة الواردة في التوراة. وليس فيها يهود. وعلى مسيرة نصف يوم منها:- اللد Lydda «3» هي لوز القديمة الواردة في التوراة. وفيها يهودي واحد يحترف الصباغة. وعلى مسيرة يوم منها:-

سبسطية Sebaste «1» أو السامرة القديمة المستوية على الجبل، حيث تشاهد اليوم بقايا قصر آخاب بن عمري ملك إسرائيل «2» . وهي بلدة حصينة، كثيرة الأشجار والعيون، جزيلة الحدائق والرياض وكروم العنب وغياض الزيتون. وليس فيها يهود. وعلى مسيرة فرسخين منها:-

نابلس Neapolis «1» هي شيكيم القديمة في جبل إفرايم. تتوسط جبل جرزيم وجبل عيبال «2» وفيها نحو الألف من الكوتيين وليس فيها يهود. أما الكوتيون فهم السامريون. يتبعون أسفار موسى، لا يؤمنون بغيرها. وعندهم الكهنة ممن يدعي الانتساب إلى هرون الكاهن (ع) يعرفون بالهرونية. وهم يعتزلون سائر البشر لا يتزوجون بغير بنات نحلتهم، ويلقنون الناس شعائرهم الخاصة. ينحرون الأضاحي في وقفة عيد الفصح على مذبح لهم في جبل الجرزيم، يزعمون أنه مشيد بالحجارة التي نصبها بنو إسرائيل تذكارا لعبورهم نهر الأردن. ويزعمون كذلك أنهم من سبط إفرايم وأن عندهم قبر يوسف الصديق

ابن يعقوب «1» (ع) ويبرهنون على زعمهم هذا بما جاء في التوراة: «ودفنوا في شكيم عظام يوسف التي أخرجها بنو إسرائيل معهم من أرض مصر» . ولهم كتابة خاصة بهم ينقصها ثلاثة أحرف، هى الحاء والهاء والعين «2» ، يعوضون عنها بحرف الألف. وعلى هذا فليس في لغتهم لفظة الإحسان أو الهدى أو التواضع «3» كما أنهم لا يستطيعون أن يقولوا إبراهيم أو اسحاق أو يعقوب. ويمكن البت بأنهم غرباء عن بني إسرائيل. وهذه الحروف ناقصة في توراة موسى التي عندهم أيضا. وهم يبتعدون عن كل ما يدنسهم. لا يقربون ميتا أو عظما بشريا أو جثة أو قبرا وإذا قصدوا كنيستهم للصلاة انتضوا عنهم أثوابهم واغتسلوا بالماء واستبدلوها بأثواب غيرها. وهذا جاري عادتهم يوميا. وجبل جرزيم كثير الأشجار مطرد العيون. أما جبل عيبال فصخوره

ملساء قاحلة. ويتوسط الجبلين وادي شكيم. وعلى بعد أربعة فراسخ منها: جبل جلبوع Gilboa Mons «1» يسميه النصارى جلبون.St Gelbon تحيط به الأراضي القاحلة. وهو على بعد خمسة فراسخ من:- وادي أيلون Val Ajalon «2» ويسميه النصارى وادي لونه Luna Val de أو يالو Yalo وهو يبعد مسيرة فرسخ واحد عن:- جبل المورية Moreyah Mons أو جرن داود «3» . وهي مدينة جبعون القديمة، ليس فيها يهود. ومنها على مسيرة ثلاثة فراسخ:-

بيت المقدس Jerusalem «1» هي بلدة صغيرة عظيمة التحصين تحيط بها ثلاثة أسوار. وفيها عدد كبير من اليعاقبة والسريان والأرمن واليونان والكرج والأفرنج، خليط من كل أمة ولسان. وفيها معمل

للصباغة يستأجره اليهود من ملك القدس «1» سنويا. فتنحصر بهم هذه المهنة دون غيرهم. ويبلغ عددهم في هذه المدينة نحو المائتين «2» ، يقيمون في حي مجاور لبرج داود «3» . وهذا البرج واغل في القدم. أساساته إلى ارتفاع عشرة أذرع. من بناء أسلافنا الأقدمين، والباقي شيده المسلمون. وليس في المدينة بناء آخر يضارع برج داود متانة وسموا. وفي القدس مستشفيان «4» يتسعان لأيواء أربعمائة من فرسان الأسبتارية عدا المرضى الذين يجهزون بكل ما يلزمهم في الحياة وبعد

الممات «1» . وفيها أيضا البناية المسماة «معبد سليمان» يزعم البعض أنها من أنقاض مقدس الملك سليمان (ع) ويقيم في هذه البناية نحو الثلاثمائة من «فرسان المعبد» «2» يمارسون فنون الحرب والقتال. ويوجد عدا هؤلاء، فرسان يتوافدون من بلاد الإفرنج وسائر ديار النصارى، من الذين ينذرون الخدمة في هذا المقام سنة أو سنتين. وبالقدس كنيسة كبرى تدعى «كنيسة الضريح الأقدس «3» » منسوبة

إلى مسيح النصارى، يحجها عدد غفير منهم. وللقدس أربعة أبواب «1» : باب إبراهيم وباب داود وبات صهيون وباب يوشفاط. وهذا الأخير يحاذي الموضع الذي كان «بيت المقدس» مستويا عليه في قديم الزمن. وعليه اليوم البناء الذي يسمبه الإفرنج «المعبد المقدس «2» » وقد عقد عليه عمر بن الخطاب قبة عظيمة أنيقة. وليس يسمح لأحد أن يدخل فيها تمثالا أو أيقونة لأنها محل خاص بالعبادة. وقبالة هذا البناء يوجد «الحائط الغربي «3» » . وهو من حيطان قدس

الأقداس في الهيكل القديم. ويسميه اليهود «باب الرحمة «1» » يحجونه لأقامة الصلاة في باحته. وتشاهد بالقدس أطلال «الإصطبلات «2» » التي عمرها الملك سليمان بجوار قصره. وقد استعمل في بنائها الصخر الجسيم المنحوت، مما لا نظير له في بناء آخر. وهناك أيضا أطلال المذابح التي كانت الأضاحي تقدم عليها في سالف الأزمان. ومن عادة حجاج اليهود أن يكتبوا أسماءهم على الحيطان الملاصقة لها «3» . وبظاهر المدينة من باب يوشفاط، يشاهد النصب الذي أقامه

أبشالوم «1» ، ومرقد الملك عزية «2» ونبع سلوان «3» الذي يمر بوادي قدرون «4» ، وفوق هذا النبع بناء من آثار الأسلاف وليس فيه من الماء إلا اليسير. وغالب أهل القدس يشربون ماء المطر يجمعونه في صهاريج معدة لهذا الغرض في البيوت. ومن عدوة وادي يوشفاط يصعد إلى جبل الزيتون «5» . ومنه يمكن

مشاهدة سادوم «1» . وبين بحر سادوم ونصب الملح الممسوخ عن امرأة لوط فرسخان. ويقال: إن السائمة تلحس هذا النصب يوميا ثم يعود إلى سابق هيئته. ويحاذي القدس جبل صهيون «2» ، عليه بيعة للنصارى وثلاث مقابر قديمة لليهود. فوق كل قبر حجارة محفور عليها تأريخه، لكن الإفرنج يهدمون هذه القبور ويستعملون حجارتها لبناء بيوتهم. وتحيط بالقدس الجبال الشاهقة منها جبل صهيون. عليه قبر الملك داود (ع) وسائر الملوك من آله. وهي عافية الآثار لا تكاد تعرف في الوقت الحاضر.

وحدث قبل خمس عشرة سنة أن تداعى جدار البيعة التي على جبل صهيون. فأمر البطريرك بعض أتباعه من الرهبان بإعادة رمّه. وأوصاهم بأن يأخذوا الحجارة من أسوار صهيون الشرقية. فعكف عشرون عاملا على اقتلاع الحجارة من أسوار صهيون. وحدث أن عاملين تربط بينهما صداقة وثيقة كانا قد تأخرا عن موعد العمل لانشغالهما بمأدبة. فأنحى عليهما رئيس العمل بالتقريع. ووعدا بأن يكملا العمل المرصود بها خلال أوقات الراحة، عندما ينصرف رفاقهما للغذاء. وبينما هما يشتغلان منفردين، اقتلعا حجارة وجدا تحتها فجوة تؤدي إلى غار عميق. فقال أحدهما للآخر: «هلم نر ما في هذا الكهف عسانا نعثر على كنز» . ولما ولجا الغار وجدا نفسيهما وسط قاعة كبرى محكمة، معقود سقفها على أساطين من رخام موشاة بفضة وذهب. وفي القاعة خوان عليه صولجان وتاج من خالص الذهب. ويتوسط القاعة قبر داود ملك إسرائيل (ع) وإلى يساره قبر ولده سليمان وقبور سائر الملوك من آل داود. ووجدا كذلك صناديق مقفلة لم يعرفا مضمونها. وبعد مضي برهة وجيزة على ولوجهما القاعة، هبت عليهما ريح صرصر عاتية طوحت بهما إلى الأرض. فبقيا بلا حراك حتى وقت الغروب. وعندها هتف بهما صوت آدمي يقول: «إنهضا وبارحا هذا المكان!» . هرول الرجلان نحو ظاهر الكهف فأسرعا إلى البطريرك يقصان عليه ما شاهداه وما سمعاه. فاستدعى البطريرك إليه الربن إبراهيم

القسطنطيني «1» الناسك من «بكائي أورشليم «2» » وقص عليه الحادث. فأيد الربن كون هذا الكهف مرقد الملوك من آل داود. أما العاملان فإنهما لازما فراش المرض لهول ما شاهداه. ورفضا ولوج الغار مرة أخرى. وعندئذ أمر البطريرك بردم بابه حتى طمست معالمه عن الناس. هذا ما قصه عليّ إبراهيم الناسك نفسه. وعلى بعد فرسخين من القدس:- بيت لحم Bethlehem «3» ويسميها النصارى بيت إليون Bet Leon

وعلى بعد نصف ميل منها قبر راحيل «1» . فوقه بناء مشيد من أحد عشر حجرا بعدد أبناء يعقوب، وعليه قبة معقودة بأربعة أعمدة. ومن عادة زوار اليهود أن يكتبوا أسماءهم على حجارة البناء. وفي بيت لحم أحد عشر يهوديا يحترفون الصباغة «2» . وهي مدينة ذات ينابيع دافقة وجداول جارية. وعلى بعد ستة فراسخ منها:- بلد الخليل Hebron «3» ويسميها النصارى.St.Abram de Bron مدينة عتيقة البنيان فوق جبل. عرفت بهذا الاسم منذ القديم. وهي الآن خراب. أما المدينة الجديدة فمشيدة في بطن الوادي في حقل

مكفيلة «1» وبها بيعة جسيمة للنصارى تدعى «كنيسة القديس إبراهيم» كانت في أيام حكم المسلمين كنيسا لليهود، حتى استولى الإفرنج عليها «2» . وفي هذه الكنيسة ستة قبور «3» يقول النصارى إنها أضرحة إبراهيم وسارة ويعقوب وليئة. يحجها اليهود للتبرك لقاء إتاوة يؤدونها «4» . فإذا جاء يهودي دفع المال إلى الحارس القيم على القبور.

فيفتح له بابا من حديد يرتقي عبره إلى أسلافنا طاب ذكرهم، فينحدر منه إلى مغارة خاوية وبيده شمعة يهتدي بها وسط الظلام. ومنها يلج مغارة ثانية وهي خالية أيضا. ومنها إلى ثالثة، حيث يجد ستة أضرحة متقابلة فيقرأ على الأول: «هذا قبر سيدنا إبراهيم عليه السلام» . وعلى الثانية: «هذا قبر سيدنا إسحاق عليه السلام» . وهكذا ... وفوق القبور قناديل مرتبة ليلا ونهارا. وفي هذا الغار عدد من القوارير مملوءة بعظام الموتى. فقد جرت عادة اليهود أن يأتوا بعظام موتاهم إلى هذا المقام. وبظاهر هذا الغار دار يقال: إنها كانت لسيدنا إبراهيم «1» (ع) أمامها عين ماء دافقة. ولا يسمح لأحد أن يشيد حولها بناء، إجلالا لمقام هذا النبي. وعلى مسيرة خمسة فراسخ منها:- بيت جبرين Betogabra «2» ويسميها النصارى بيت جبر Gabres Bet وليس فيها سوى ثلاثة من اليهود. وعلى بعد خمسة فراسخ منها:-

قلعة الحصن Toron «1» وهي بلدة «شونم» القديمة الواردة في التوراة. وفيها نحو 300 يهودي. وعلى مرحلة ثلاثة فراسخ منها:- سنت صموئيل St.Samuel «2» هي بلدة شيلو الواردة في التوراة، على بعد نحو فرسخين عن القدس. فلما انتزع الإفرنج بلدة الرملة أي «الرامة» من أيدي المسلمين، عثروا فيها على ضريح النبي صموئيل الراماتي بالقرب من كنيسة لليهود. فنقلوا رفاته إلى شيلو وأقاموا فوقها ديرا يعرف بدير القديس صموئيل. وعلى بعد ثلاثة فراسخ منها:- بيسان Baisan «3» هي بلدة جبعة شاءول الواردة في التوراة، وليس فيها يهود. وعلى مسيرة ثلاثة فراسخ منها:

بيت النبي Bet Nuba «1» هي «نوب» الواردة في التوراة. كانت قديما من أملاك الكهنة. وعلى الطريق المؤدية إليها تشاهد صخرتا يونثان «2» . تسمى الأولى «بوصص» والثانية «سنه» ويقيم بهذه المدينة يهوديان يحترفان الصباغة. وعلى بعد ثلاثة فراسخ منها:- الرملة Ramah «3» فيها بقايا الأسوار التي شيدها أسلافنا*، على

حجارتها كتابة تؤيد ذلك. ويقيم فيها نحو 300 يهودي. وكانت في سالف أيامها بلدة عظيمة. وبضاحيتها مقبرة كبرى لليهود امتدادها ميلان. وعلى بعد ثلاثة فراسخ منها:- يافة Jaffa «1» هي يافو الواردة في التوراة على ساحل البحر وفيها اليوم يهودي واحد صباغ وعلى مسيرة ثلاثة فراسخ منها:- إبلين Ibelin «2» هي يبنة القديمة الواردة في التوراة. فيها أنقاض مدرستها القديمة، ولا يقيم بها يهود في الوقت الحاضر. وعلى بعد فرسخين منها:-

أشدود Asdod «1» من مدن الفلسطينيين القدماء. هي الآن خراب وليس فيها يهود. وعلى مسيرة فرسخين منها:- عسقلان Ascalon «2» قسمها القديم خراب. يبعد عن عسقلان الجديدة بنحو أربعة فراسخ. وكانت قديما تسمى «بني براق» . ويقال: إن مجدد بنائها عزرا الكاهن (ع) . أما عسقلان الجديدة فهي اليوم مدينة عامرة جميلة الموقع على ساحل البحر. يؤم ميناءها عدد غفير من التجار لقربها من حدود مصر. ويقيم فيها نحو مائتي يهودي من الرّابيين، بينهم الرابيون صمح وهرون وسليمان. ونحو الأربعين من اليهود القرائين. وثلثمائة من الكوتيين (السامريين) ويتوسط البلدة بئر يقال: إنها من عمل سيدنا إبراهيم (ع) منذ زمن الفلسطينيين وقد كانت عودتنا من هذه المدينة إلى القديس جورج في اللد. وعلى مسيرة يوم ونصف يوم منها:-

زيرين Zerin «1» هي مدينة يزرعيل الواردة في التوراة. حولها عين ماء. وفيها يهودي واحد يحترف الصباغة. وعلى مسيرة ثلاثة فراسخ منها:- صفورية Sepphoris «2» هي بلدة صفوري القديمة. وبها قبر «الربن الأقدس «3» » والربنين

غمليال «1» وحية البابلي «2» وقبر يونس بن أمتاي النبي «3» (ع) . وموقع هذه القبور فوق الجبل. وفيه مقامات أخرى عديدة. وعلى بعد خمسة فراسخ منها:- طبرية Tiberias «4» البلدة الواقعة على الأردن. وتعرف بحيرتها

ببحر «كنرت «1» » أو بحر طبرية. وعندها شلال الأردن المسمى «أشدوث هفسحة «2» » وبعدها ينحدر النهر فيصب في بحر الأسفلت أو البحر المالح. وفي طبرية نحو مائة يهودي. من مشاهيرهم الرابيون إبراهيم الفلكي ومختار وإسحاق» . وبها الحمامات الحارة «4» . وهي عيون تنبجس من باطن الأرض. وعلى مقربة منها كنيس كالب «5»

حوله قبور عديدة بينها قبر يوحنان بن زكاي «1» . والرّابي يهوذا اللاوي «2» . وكلها في الجليل الأسفل. وعلى مسيرة يومين منها:- تبنين Tebnin «3» هي بلدة تمنة الواردة في التوراة. فيها عدد من اليهود، وبها قبر شمعون الصديق «4» وعلى مسيرة يوم منها:- جوش Giscala «5» هي بلدة «جوش حلب» فيها نحو عشرين يهوديا. وعلى بعد ستة فراسخ منها:-

ميرون Meron «1» وعلى مقربة منها غار فيه قبور هليل «2» وشماي «3» مع عشرين من تلامذتهما. وقبر بنيامين بن يافث (؟) وقبر يهوذا بن بثيرة «4» . وعلى مرحلة ستة فراسخ منها:- علمة Alama «5» فيها نحو خمسين يهوديا. وبظاهرها مقبرة كبيرة لليهود فيها قبور الرّابيين إلعازر بن عرخ وإلعازر بن عزرية «6» وحوني

همعجل «1» وشمعون بن غمليال «2» ويوسي الجليلي «3» . وعلى مسيرة نصف يوم منها:- قادس Kades «4» هي «قادش نفتلي» الواردة في التوراة. موقعها على الأردن، وفيها مرقد برق بن أبي نعم. وليس فيها يهود. وعلى مسيرة يوم منها:- بلنياس Belinas «5» وتسمى أيضا بانياس Paneas وقيسارية

فيليبي أو بلدة «دان» الواردة في التوراة. وعندها الغار الذي ينبع منه نهر الأردن. وعلى بعد ثلاثة أميال من هذا الموقع ترتبط مياه هذا النهر بمياه نهر أرنون الذي يسقي أراضي موآب القديمة. وبظاهر هذا الغار تشاهد أطلال الهيكل الذي شيده ميخة «1» لبني دان حيث كانوا يعبدون أصنامهم. وعند هذه البلدة تنتهي حدود مملكة بني إسرائيل القديمة من جانب البحر الأقصى (المتوسط) وعلى مرحلة يومين منها:-

دمشق Damascus «1» البلدة العامرة، حاضرة نور الدين «2» سلطان

التوغرمين المعروفين بالترك. وهي مدينة واسعة الأرجاء. جميلة المنظر. تدور بها الأسوار المتينة. وتمتد رياضها وبساتينها إلى مسافة خمسة عشر ميلا من كل جانب. ولم أجد مثل فاكهتها وأشجارها في أي مكان آخر في العالم. وينحدر نحو المدينة نهران يأتيانها من جبل حرمون «1» هما أبانة وفرفر «2» . ويشرف الجبل على ظاهر البلد. أما أبانة فيجري في داخل المدينة. ويوزع ماؤه على بيوت الخاصة بقناطر تمر بالأسواق والأزقة. وأما فرفر فيسقي البساتين والغياض خارج البلدة. وفي دمشق جامع للمسلمين يعرف بجامع دمشق «3» ، لم أجد بناء آخر يضارعه جمالا. ويقال: إنه بني على أنقاض قصر ابن هدد ملك إرم وإن حيطانه من صنع السحرة. وفيه من الشمسات بعدد أيام السنة.

كل شمسة مقسمة إلى اثنتي عشرة درجة بعدد ساعات النهار تمر منها أشعة الشمس بالتدريج فيعرف الوقت بواسطتها «1» . وبهذا الجامع حياض موشاة بذهب وفضة، مستديرة الشكل. وهي من الضخامة بحيث تتسع لوضوء أشخاص عديدين بوقت واحد «2» . ومن آثار هذا الجامع عظم جسيم، قيل: إنه من ضلع أحد العمالقة، طوله تسعة أشبار وعرضه شبرين. ويقال أيضا: إنه من عظام الملك عاناق المدعو «أبراماس» واسمه محفور على حجارة قبره. وكان هذا الملك يحكم العالم بأجمعه «3» .

ويقيم بدمشق نحو ثلاثة آلاف يهودي «1» ، بينهم العلماء وذوو اليسار. وفيها مقام رأس المثيبة «2» لعلماء فلسطين «3» الرابي عزرية «4» ومعه أخوه قاضي القضاة سرشالوم والرابي يوسف خامس أساتذة المثيبة. والعميد الواعظ ر. مصليح، وفخر الأحبار ر. مئير وأمين سر المثيبة ر. يوسف بن الفلات «5» ، والخازن ر. مئير، والطبيب ر. صادوق. وفيها أيضا نحو المائتين من القرائين. ومن الكوتيين (السامريين) نحو الأربعمائة شخص وهذه الجماعات على صفاء فيما

بينها. لكن أفرادها لا يتزوجون بغير بنات نحلتهم. وعلى مسيرة يوم واحد من دمشق:- جلعد Jalaad «1» هي بلدة جلعد القديمة الواردة في التوراة. فيها نحو 60 يهوديا، بينهم الرابيون صادوق وإسحاق وسليمان. وهذه المدينة واسعة الأرجاء، وفيرة المياه، كثيرة البساتين والرياض. ومنها على مسيرة نصف يوم:- صرخد Salkhat «2» هي مدينة «سلخة» الواردة في التوراة. وعلى مسيرة نصف يوم منها:-

بعلبك Heliopolis «1» هي مدينة «بعلة» الواردة في التوراة من بناء الملك سليمان، شيدها ترويحا لزوجه ابنة فرعون. وقصر هذه المدينة مشيد بالحجارة الضخمة، يبلغ ذرع الواحدة منها عشرين شبرا بعرض اثني عشر. وبنيانها مرصوص حتى ليحسبه الناظر قطعة واحدة. ويزعم البعض أنها من صنع أسمداي ملك الجان. وفي أعلى الدينة نبع ينبجس كالنهر الزاخر، فيساعد الناس على تدوير أرحيتهم. وحوله الرياض والبساتين. ومنها إلى:-

تدمر Palmira «1» بناها الملك سليمان بن داود بظاهر الصحراء.

وبنيانها من حجارة ضخمة، يستدير بها سور. وهي تبعد مسيرة ثلاثة أيام عن بعلبك. يقيم بها نحو الألفين من اليهود. وهم أشدّاء ذوو بأس، يعاونون جيرانهم المسلمين والعرب من أتباع نور الدين في حربهم مع غزاة النصارى. ومن رؤسائهم الرّابيون إسحاق اليوناني وناثان وعزيئال. وهذه المدينة تبعد مسيرة نصف يوم عن:- القريتين Karjatein «1» هي بلدة «قرياثايم» الواردة في التوراة. فيها يهودي واحد صباغ. وعلى مسيرة يوم منها:- حمص Emesa «2» هي بلدة «صمارايم» الواردة في التوراة. فيها نحو

عشرين يهوديا. ومنها إلى:- حماة Hamah «1» هي بلدة «حمث» الواردة في التوراة، على ضفاف نهر يبوق «2» في سفح لبنان. وقد أصابتها هزة أرضية «3» منذ عهد قريب أهلكت خمسة عشر ألفا من سكانها في يوم واحد. فلم

يبق إلا سبعون نفسا. وفي هذه المدينة من العلماء الرّابيون علاء الكاهن والشيخ أبو غالب ومختار. وهي تبعد مسيرة يوم عن:- شيزر Cheiza «1» هي «حاصور» الواردة في التوراة. وعلى بعد ثلاثة فراسخ منها:- لمدين Lamdine «2» وهذه تبعد مسيرة يومين عن:- حلب Aleppo «3» هي أرم صوبة الواردة في التوراة وكرسي مملكة

نور الدين. تتوسطها قلعة حصينة «1» ويحوطها سور متين. ولا يسقي المدينة نهر أو عيون. لذا يضطر الأهلون إلى شرب مياه المطر. وبكل دار في البلد بئر تسمى (الجب) تجمع فيها مياه المطر «2» وبحلب نحو ألف

وخمسمائة يهودي على رأسهم الرّابيّان موسى الفلسطيني وإسرائيل وشيث «1» . وهي تبعد مسيرة يومين عن:- بالس Bales «2» هي بلدة «فاثور» الواردة في التوراة. وبها تشاهد

اليوم أطلال البرج الذي أقامه بلعم بن باعور. وكانت عليه مزولة تعين ساعات النهار. ويقيم بهذه المدينة عشرة يهود. وعلى مسيرة نصف يوم منها:- قلعة جعبر Kalat Jabar «1» هي مدينة «سلع» الواردة في التوراة. وكانت هذه البلدة آهلة بالعرب، حتى تغلب عليهم السلاجقة «2» وفرقوهم في الصحراء. ويقيم بها نحو ألفي يهودي. بينهم الرّابيون

صدقية وحية وسليمان. وعلى بعد يوم منها:- الرقة Racca «1» هي بلدة كلنة الواردة في التوراة. موقعها على الحدود الفاصلة بين بلاد الترك وشنعار (العراق) . وفيها نحو 700 يهودي، على رأسهم الرّابيون زكاي ونديب البصير ويوسف. وبها كنيسة لهم يقال؛ إنها من بناء عزرا الكاتب (العزير) شيدها عند مروره بهذه المدينة قادما من بابل بطريقه إلى القدس وعلى مسيرة يومين منها:- حران Haran «2» بلدة عتيقة البنيان. فيها نحو عشرين يهوديا، عندهم كنيسة قديمة يقال: إنها من بناء عزرا (ع) . وبظاهر المدينة

موقع يقال: إنه من أطلال بيت تارح «1» والد إبراهيم الخليل (ع) وليس فوقه عمارة «2» . والمسلمون يجلّون هذا المقام ويؤمونه للصلاة فيه. وعلى مسيرة يومين منها:- رأس العين Ras El Ain «3» هي حابور «4» الواردة في التوراة عند نهر

الخابور يأتيها من بلاد مادي بعد اختلاطه بنهر غوزان «1» وفيها نحو مائتي يهودي «2» . وعلى مسيرة يومين منها:- نصيبين Nesibis «3» بلدة عامرة وفيرة المياه. فيها نحو ألفي يهودي. وعلى مسيرة يومين منها:-

جزيرة ابن عمر Gezirat Ibn Omar «1» على نهر دجلة «2» في سفح جبل أراراط، على بعد أربعة أميال من الموضع الذي استوت عليه سفينة نوح «3» . وقد شيد عمر بن الخطاب من أنقاض هذه

السفينة مسجدا للمسلمين. وبالقرب من هذا الموقع كنيسة لليهود من بناء عزرا الكاتب (ع) يحجونه في مواسم الأعياد لإقامة الصلاة فيه. ويقيم نحو أربعة آلاف منهم بجزيرة ابن عمر. بينهم الرّابيون مبحر ويوسف وحيه. وعلى مسيرة يومين منها:- الموصل Mosul «1» هي بلدة أشور الكبرى الواردة في التوراة. يقيم فيها نحو 700 يهودي «2» ، من أعيانهم الرئيس زكاي «3» من آل الملك داود ور. يوسف الملقب ببرهان الفلك. وهو فلكي في بلاط سيف

الدين (ابن) أخي نور الدين سلطان الشام «1» . والموصل مدينة واسعة الأرجاء، قديمة البنيان، تتاخم بلاد العجم. يشقها من الوسط نهر دجلة وبينها وبين نينوى جسر قائم. ونينوى اليوم أطلال دارسة تكثر حولها القرى والضياع على نهر دجلة. وعلى بعد (أربعين) «2» فرسخا منها قلعة إربل القديمة. وفي الموصل كنيسة عوبدية من بناء النبي يونة بن أمتاي «3» وكنيسة ناحوم

الألقوشي «1» . وعلى مسيرة ثلاثة أيام منها:- الرحبة Rahba «2» هي بلدة رحوبوث الواردة في التوراة، على شاطئ الفرات. يقيم فيها نحو ألفي يهودي، على رأسهم الرّابيون حزقية وإهود وإسحاق. ويستدير بالمدينة سور. وهي واسعة الأرجاء، جميلة الرواء، محكمة البنيان، حولها الرياض والبساتين. وعلى مسيرة يوم منها:-

قرقيسياء Circesium «1» هي كركميش «2» الواردة في التوراة على شاطئ الفرات. وبها نحو 500 يهودي. منهم الرّابيان إسحاق وإلحنان وتبعد مسيرة يومين عن:- الأنبار AL -Anbar «3» هي فومبديثة في نهر دعة. يقيم فيها نحو

ألفي يهودي بينهم العلماء والفقهاء، منهم الرّابيون حين وموسى وإلياقيم. وبها من القبور قبر الرّابيان يهوذا وصموئيل، وبها أيضا كنيس ر. بستناي رأس الجالوت «1» . والرابيان ناثان، ونحمن بن بابة. ومنها على مسيرة يومين:- حربى Harba «2» فيها نحو خمسة عشر ألفا من اليهود، من أعيانهم الرابيون زاقن ويوسف ونثانيال. وعلى مسيرة يومين منها:-

عكبرى Okbara «1» البلدة التي يقال إنها من بناء يهوياكين ملك يهوذا «2» . فيها نحو عشرة آلاف يهودي. من أعيانهم الربيان يوشع وناثان وعلى مسيرة يومين منها:- بغداد Bagdad «3» المدينة الكبرى، كرسي مملكة الخليفة أمير

المؤمنين العباسي «1» من آل بيت نبي المسلمين. وهو إمام الدين الإسلامي، يدين له بالطاعة ملوك المسلمين قاطبة. فهو عندهم بمقام البابا عند النصارى.* وقصر الخلافة في بغداد واسع الأرجاء، تنوف استدارته على ثلاثة أميال. تتوسطه روضة غناء فيها أشجار مثمره وغير مثمرة من كل صنف. وفيها من الحيوان ضروب كثيرة. وفي الروضة أيضا بحيرة واسعة يأتيها الماء من حدقل (دجلة) 2 يخرج إليها الخليفة للصيد والنزهة، وقد جمعت فيها أصناف الطير والسمك لرياضة الملك

ووزرائه ورجال بطانته وضيوفه. وفي هذا القصر يعقد الخليفة العباسي الكبير «الحافظ «1» » مجلس بلاطه. وهو حسن المعاملة لليهود. وفي حاشيته عدد منهم. وهو عليم بمختلف اللغات، عارف بتوراة موسى، يحسن اللغة العبرية (؟) قراءة وكتابة. وهو كذلك على جانب عظيم من الصلاح والتقوى يأكل من تعب كفيه. إذ يصنع الشال المقصب ويدمغه بختمه فيبيعه رجال بطانته من السراة والنبلاء فيعود عليه بالأموال الوافرة. وهو موصوف بالتقوى والصدق والاستقامة وطلب الخير لجميع رعيته «2» . والمسلمون لا يشاهدونه إلا مرة في العام، عندما يتوافد الحجاج من كل فج بطريقهم إلى مكة من أعمال اليمن (كذا) * وكلهم شوق لرؤية طلعته. فيحتشدون في باحة القصر هاتفين: «يا سيدنا، نور الإسلام وفخر المسلمين، أطل علينا بطلعتك الميمونه!» لكنه لا يبالي

بهذا النداء. فيقول له رجال الحاشية: «يا أمير المؤمنين! أشرق بطلعتك على رعيتك الذين توافدوا من الأقطار النائية للاستذراء بظل فضلك!» وعندئذ ينهض الخليفة فيرخى ذيل بردته من مشرفة القصر فيقبل الحجاج على لثمها بكل خشوع. ومن ثم ينادي بهم الحاجب: «اذهبوا بأمان الله. فإن سيدنا أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام» . فينصرف الناس فرحين بهذه التحية التي يهديها إليهم الحاجب باسم الشخص الذي له في قلوبهم مقام النبي.* وجميع الأمراء من بيت الخلافة معتقلون في قصورهم الخاصة وراء سلاسل الحديد. وعليهم الحراس الموكلون بهم لكي لا يعلنوا العصيان على كبيرهم الخليفة. فقد حدث لأحد أسلافه أن تمرد عليه إخوته وبايعوا لأحدهم بالخلافة. ومن ذلك اليوم جرت العادة بالحجر على أفراد بيت الخلافة كافة لكي لا يتمردوا على سيد البلاد. غير أن كلا من هؤلاء يعيش في قصر أنيق ويمتلك المدن والضياع، تدر عليه المال الوافر، وعليها الوكلاء والأمناء. وهكذا يقضي الأمراء أيامهم بالقصف واللهو «1» . وفي قصر الخلافة من الأبنية ما يحير العقول. ففيه الرخام والأساطين المزوقة بالذهب المزينة بالحجارة النادرة المنقوشة بالريازة البديعة تكسو الحيطان. وفي القصر كنوز وافرة وخزائن طافحة بالذهب والثياب الحرير والجواهر الكريمة. ومن عادة الخليفة ألا يبارح قصره إلا مرة في العام، في العيد الذي يسميه المسلمون «عيد رمضان» فيحتشد الناس من أقاصي البلاد

للاحتظاء بمشاهدته. ويمتطي الخليفة عند خروجه جوادا مطهما، وهو مرتد بردته المقصبة بفضة وذهب، ومتوج الرأس بقلنسوة مرصعة بالأحجار الكريمة التي لا يعدلها ثمن. وفوق القلنسوة قطعة قماش سوداء اللون، فيها ما يشير إلى التواضع، وفيها موعظة للناس بأن هذه الأبهة كلها سيغشاها السواد عند انقضاء الأجل «1» . فيتحرك ركاب الخليفة، يحف به نبلاء المسلمين وسراتهم، وكلهم رافل بالحلل الزاهية فوق صهوات الخيول. وهم أمراء العرب وعظماء الترك والديلم وفارس ومادي والغز والتبت ونواحي سمرقند التي تبعد مسيرة ثلاثة أشهر عن بلاد العرب. فيتوجه الموكب إلى المسجد الجامع للمسلمين في باب البصرة «2» . وتزين جميع الطرق والأسواق التي يمر بها أبدع زينة بالأقمشة الحرير ذات الألوان الزاهية. فيستقبله الناس بالهتافات والتهاليل، ويخرون سجدا بين يدي هذا الملك الذي يسمونه الخليفة، وهم ينادون: «السلام على أمير المؤمنين ونور الإسلام!» والخليفة يرد عليهم التحية بلثم أطراف بردته والتلويح بها. فإذا ما دخل الجامع، يرتقي منبرا من خشب فيشرع في إلقاء خطبته

على الجماهير ويفسر لهم أحكام شريعتهم. ثم ينهض كبار المسلمين فيرتلون الدعاء له ويشيدون بعظمته وفضله، فيهتف الجميع «آمين!» . ثم يمنحهم الخليفة مباركته ويؤتى له بجمل ينحره، وهذا هو قربان العيد عندهم. فيوزع اللحم على العظماء والأمراء. والسعيد منهم من يذوق أضحية خليفته. وبعد هذا يبارح الموكب المصلى، فيعود الخليفة وحده بطريق الشارع المشرف على دجلة، ويواكبه عظماء المسلمين في قوارب تمخر مياه النهر حتى يدخل الخليفة قصره. وقد جرت العادة أن تكون عودة الخليفة بغير الطريق التي خرج منها. ويقوم الحراس طوال أيام السنة على منع الناس مع وطء موضع أقدام الخليفة. والخليفة لا يبارح قصره إلا في العام القابل، وهو عظيم التقوى والصلاح. ويقوم على الجانب الغربي من مدينة بغداد، بين نهر دجلة ونهر آخر يأتي من الفرات بناء المارستان «1» . وهو مجموعة من البنايات الواسعة،

يأوي إليها المعوزون من المرضى رغبة في الشفاء ولهذا المارستان قوامون من الأطباء يبلغ عددهم الستين طبيبا، يعالجون المرضى ويطبخون لهم الأدوية. والخليفة يجهزهم بما يحتاجون إليه من بيت المال. وفيها أيضا بناية تدعى «دار المارستان «1» » يأوى إليها المجانين المغلوبون على عقولهم بتأثير حر القيظ الشديد! والأطباء يقيدونهم بالأغلال حتى يثوبوا إلى سابق رشدهم. ويعيشون مدة مكوثهم فيها بنفقة الخليفة. ويقوم أطباء الخليفة بتفقدهم مرة في كل شهر، فيسرحون من عاد إلى الصواب منهم ليعود إلى أهله. وتشمل خيرات الخليفة كل من أمّ بغداد من المرضى والمجاذيب. فالخليفة جزيل

الإحسان. همه عمل الخير. ويقيم ببغداد نحو (أربعين) ألف يهودي «1» . وهم يعيشون بأمان وعز ورفاهة في ظل أمير المؤمنين الخليفة. وبينهم عدد من كبار العلماء ورؤساء المثيبة وعلماء الدين. ولهم في بغداد عشر مدارس مهمة. ورئيس المدرسة الكبرى هو الرابي صموئيل بن على «2» الرّابي والغاؤون، رأس مثيبة «غاؤون يعقوب» . وهو ينتسب إلى سبط لاوي من آل موسى النبي (ع) . وأما رئيس المدرسة الثانية «3» فهور. حنينة أخوه، شيخ اللاويين ونائب رأس المثيبة. ورئيس المدرسة الثالثة ر. دانيال «4» ورئيس المدرسة الرابعة الحبر إلعازر. ورئيس المدرسة الخامسة ر. إلعازر بن

صمح «1» رأس المجمع العلمي، ويرتقي نسبه إلى صموئيل النبي. وقد اشتهر هو وإخوته بالتجويد ورخامة الصوت والترتيل على الطريقة التي كان يرتل بها أجدادهم اللاويون في بيت المقدس. ورئيس المدرسة السادسة ر. حسداي الملقب بفخر الأحبار. ورئيس المدرسة السابعة ر. حجاي. ورئيس المدرسة الثامنة ر. عزرا صاحب سر المثيبة. ورئيس المدرسة التاسعة ر. إبراهيم ويكنى أبا طاهر «2» . ورئيس المدرسة العاشرة والختامية (السيوم) ر. زكاي بن بستناي. وهؤلاء الأساتذة العشرة يعرفون بالمعتكفين «3» . لا عمل لهم غير النظر في مصالح أبناء طائفتهم. ويقضون بين الناس طول أيام الأسبوع، كل في مدرسته، خلا نهار الاثنين حيث يجتمعون في مجلس كبيرهم رأس مثيبة «غاؤون يعقوب» للنظر في شؤون الناس مجتمعين. أما رئيس هؤلاء العلماء جميعهم، فهو الرابي دانيال بن حسداي

الملقب «سيدنا رأس الجالوت «1» » . ويسميه المسلمون «سيدنا ابن داود» . لأن بيده وثيقة تثبت انتهاء نسبه إلى الملك داود. وهو يستمد سلطانه من كتاب عهد يوجه إليه من الخليفة أمير المؤمنين عملا بالشرع المحمدي. وينتقل هذا المنصب إلى ذريته بالوراثة. وعند نصب الرئيس يمنحه الخليفة ختم الرئاسة على أبناء ملته كافة «2» . وتقضي التقاليد المرعية بين اليهود والمسلمين وسائر أبناء الرعية بالنهوض أمام رأس الجالوت وتحيته عند مروره بهم. ومن خالف ذلك عوقب بضربه مائة جلده.

وعندما يخرج رأس الجالوت لمقابلة الخليفة يسير معه الفرسان من اليهود والمسلمين. ويتقدم الموكب مناد ينادي بالناس: «اعملوا الطريق لسيدنا ابن داود «1» !» . ويكون الرئيس ممتطيا صهوة جواده وعليه حلة من حرير مقصب، وعلى رأسه عمامة كبيرة تتدلى منها قطعة قماش مربوطة بسلسلة منقوش عليها شعار الخليفة. وعندما يمثل في حضرة الخليفة يبادر إلى لثم يده. وعندئذ ينهض الخليفة وينهض معه الحجاب ورجال الحاشية، فيجلس الرئيس فوق كرسي مخصص لجلوسه قبالة الخليفة. ويسري نفوذ رأس الجالوت على جميع طوائف اليهود المنتشرة في شنعار (العراق) وبلاد خراسان، وسبأ (اليمن) وبلاد ما بين النهرين (الجزيرة) وجبال أراراط (أرمينية) وبلاد اللان «2» المحوطة بالجبال الشاهقة والتي لا ينفذ إليها سوى من الأبواب الحديد «3» التي شيدها الإسكندر فتهدمت من بعده؛ وطوائف اليهود المنتشرين في سبيرية وبلاد التوغرميم (التركمان) وبلاد كرجستان (جورجية) حتى شواطئ نهر جيحون وحدود سمرقند وبلد الطيبات «4» (التبت) وديار الهند.

ففي هذه الأقطار كلها لا يعين الرّابيون والحزانون «1» إلا بمعرفة رأس الجالوت. وهم يشخصون إلى بغداد بعد نصبهم لمقابلة الرئيس، ويحملون إليه الهدايا والعطايا من أقصى المعمور. ويمتلك الرئيس العقارات الواسعة والمزارع والبساتين في جميع أنحاء بابل (العراق) وأكثرها مما ورثه عن أجداده. وأملاكه هذه مصونة، ليس من حق أحد أن ينتزعها منه. وله إيراد سنوي عظيم من الفنادق والأسواق والمتاجر عدا الهدايا التي تتوارد عليه من البلدان القصية. فهو على ذلك واسع الثروة، وعلى جانب عظيم من الحكمة والفقه بأحكام التوراة والتلمود. ويجري الاحتفال بنصب رأس الجالوت الجديد بمهرجان مشهور. إذ يبعث إليه الخليفة بإحدى ركائبه الملوكية فيتوجه إلى قصر الخلافة، وفي ركابه الأمراء والنبلاء، ومعه الهدايا والتحف النفيسة للخليفة ورجال قصره. وعندما يمثل بين يدي الخليفة يتسلم منه كتاب العهد، ثم يضع أمير المؤمنين يده على رأس الرئيس الجديد «2» ، ومن ثم يعود إلى داره بموكبه الخاص وحوله الجماهير الغفيرة. وتنفخ أمامه البوقات وتقرع الطبول. وبعدها يحتفل بتجديد نصب رؤساء المثيبة بأن يضع الرئيس الأكبر يده على رأس كل منهم.

وبين يهود بغداد عدد كبير من العلماء وذوي اليسار. ولهم فيها ثمان وعشرون كنيسة. قسم منها في جانب الرصافة ومنها في جانب الكرخ على الشاطئ الغربي من نهر حدقل (دجلة) الذي يمر في المدينة فيشطرها شطرين. وكنيسة رأس الجالوت بناء جسيم، فيه الأساطين الرخام المنقوشة بالأصباغ الزاهية المزوقة بالفضة والذهب. وتزدان رؤوس الأساطين بكتابات من المزامير بحروف من ذهب. وفي صدر الكنيسة مصطبة يصعد إليها بعشر درجات من رخام، وفوقها الأريكة المخصصة لرأس الجالوت أمير آل داود. وتبلغ استدارة بغداد عشرين ميلا «1» . وتمتد حولها الرياض والحقول وبساتين النخيل مما لا مثيل له في جميع العراق. ولها تجارة واسعة، يقصدها التجار من جميع أقطار العالم للبيع والشراء. وفي بغداد عدد كبير من العلماء الفلاسفة والمتفننين في جميع العلوم والمعارف والسحريات. وعلى مسيرة يومين منها:-

جاهيجان (زريران Gahigan «1» (هي رسن الواردة في التوراة. فيها نحو خمسة آلاف يهودي وكنيس كبير فيه قبر رابة «2» . وتحت القبر غار فيه قبور لاثنى عشر من تلامذته. وعلى مسيرة يوم منها:-

خرائب بابل Babel «1» هي بابل الكبرى القديمة. لم يبق منها اليوم سوى الأطلال الدارسة. وتمتد هذه الخرائب إلى مسافة ثلاثين ميلا. ويشاهد فيها بقايا قصر بخت نصر. والناس تخاف الولوج فيه لكثرة ما به من عقارب وأفاعى. وفي بقعة تبعد نحو ميل واحد عن هذه الأطلال يقيم عشرون ألفا من اليهود. ولديهم كنيس عتيق البنيان منسوب إلى النبي دانيال «2» يؤمونه لإقامة الصلاة فيه، بناؤه من الحجر المتين المهذب والأجر. وفي بابل بقايا أتون النار الذي طرح فيه حننية وميشائيل وعزرية «3» ، على مقربة من قصر بخت نصر. وتسمى الأراضي المنبسطة التي حول بابل «بقعة دورة «4» » وهي معروفة عند الجميع. وعلى بعد خمسة أميال منها:-

الحلة Hilla «1» فيها نحو عشرة آلاف يهودي، عندهم أربع كنائس. أولاها كنيسة الرابي مئير وفيها قبره. والثانية كنيسة الرابي زعيري بار حامة وفيها قبره أيضا «2» . ويقيم اليهود فريضة الصلاة في هذه الكنائس كل يوم. ومنها على مسيرة أربعة أميال:- برس نمرود Burs Nimrod «3» أو برج التفرقة حيث بلبل الله

الألسنة. مشيد بالحجارة التي يسميها الناس هناك بالآجر. ويبلغ طول أساساته ميلين وعرضها مائتين وأربعين ذراعا وارتفاعه مائة قصبة وبين كل عشرة أذرع صعودا توجد طريق مفتولة تعرج بالصاعد إلى أعلى البناء. ومن قمته يمكن رؤية ما حوله إلى مسافة عشرين ميلا. لأن الأراضي المحيطة به منخفضة ومستوية. ويقال: إن صاعقة انقضت عليه من السماء فأحرقت أكثره. وعلى مسيرة نصف يوم منه:- نفاحة Naphaha «1» فيها نحو مائتي يهودي. وفيها كنيس ر. إسحاق نفاحة وحوله قبره. وهي على مسيرة ثلاثة فراسخ من:- مرقد حزقيال Ezekiel «2» على شاطئ الفرات. وهو بناء جسيم

يحتوي على ستين صومعة، لكل منها برج. ويتوسط أكبر هذه الصوامع منبر، خلفه مرقد النبي حزقيال بن بوزي الكاهن، تعلوه قبة كبيرة هي آية في حسن الإنشاء. ويقال: إنها من بناء يكنية ملك يهوذا وثلاثين ألفا من أتباعه بعد ما سرحهم من الأسر الملك أويل مروداخ البابلي. ومرقد حزقيال على فرع من الفرات يدعى كيبار «1» . منقوش على حجارته اسم يكنية الملك وأتباعه وفي آخر الثبت اسم

حزقيال النبي. وهذا المقام يعظمه اليهود ويحجونه من أقاصي البلاد للتبرك به وإقامة الصلاة فيه. ويحل موسم هذه الزيارة بين عيد رأس السنة وعيد الكفارة «1» . فتقام الأفراح والمهرجانات يحضرها من بغداد رأس الجالوت ورأس المثيبة، فتضطر الجموع الغفيرة إلى الإقامة في العراء، ويمتد مخيمهم إلى مسافة اثنين وعشرين ميلا. ويقيم الأعراب في هذا الموسم سوقا عظيمة يبيعون فيها أنواع السلع من الحجاج. وفي يوم عيد الكفارة تتلى فصول من أسفار موسى، من مخطوط كبير يقال إن حزقيال كتبه بيده. وفوق القبر قنديل يتقد ليلا ونهارا، يقال: إن النبي حزقيال كان أول من أشعله، وعليه قيّم يتعهد تبديل الفتائل وتجديد الزيت كلما دعت الحاجة إلى ذلك. وتجاور المرقد دار من أوقاف النبي فيها خزانة كتب يقال: إن بعضها يرتقي تاريخه إلى عهد الهيكل الثاني. ومن جاري العادة، أن من يموت بلا عقب يقف كتبه على خزانة الدار هذه.

وفي مقام النبي حزقيال طائفة من المجاورين «1» ، مهمتهم العناية بالزوار القادمين من بلاد فارس ومادي ممن ينذرون حج قبر هذا النبي، فيكونون لهم أدلاء ومرشدين. ومن زوار هذا المرقد أيضا جماعة من أتقياء المسلمين «2» ، يؤمونه لإقامة الصلاة فيه، له في قلوبهم حرمة كبيرة، ويسمونه بلغتهم «دار المليحة «3» » . ولهذا المرقد أوقاف واسعة من العقار والضياع، يقال: إنها من تركة الملك يكنية. فلما تولى محمد (المقتفي «4» ) خليفة المسلمين على

البلاد، أيّد حق المرقد في هذه الأوقاف. وعلى بعد نصف ميل من قبر حزقيال، قباب تحتها قبور حننية، ميشائيل وعزرية «1» وهذه الأبنية كلها محافظ عليها من اليهود والمسلمين. لا يمسها أحد بضرر حتى في أيام الحروب. وعلى مسيرة ثلاثة أيام من هنا:- القوسنات Kotsonat «2» فيها نحو 300 يهودي. وبها قبور الصالحين الرّابيين بابة وهناء وسيناء ويوسف بار حامة. ولكل من هذه القبور كنيس تقام فيه الصلاة كل يوم. وهي تبعد مسيرة ثلاثة أيام عن:- عين شفاثة Ain Sphata «3» قبر النبي ناحوم الألقوشي عليه السلام «4» ومنها على مسيرة يوم:- كفر الكرم El -Karm «5» فيه قبور الرابيين حسداي وعقيبة ودوسة. وفي وسط الصحراء على مسيرة نصف يوم من هنا توجد قبور الرابيين

داود ويهوذا وأبايي وكردية وسحورة وإدة. وعلى مسيرة يوم:- نهر ريجة Nahr Rega «1» فيه قبر صدقية ملك يهوذا «2» عليه السلام. فوقه قبة كبيرة. وعلى مسيرة يوم:- الكوفة Kuffa «3» يقيم بها نحو سبعة آلاف يهودي. وفيها قبر يكنية ملك يهوذا حوله كنيس لليهود. وفيها أيضا مسجد كبير للمسلمين، في رحبته مرقد الإمام علي بن أبي طالب صهر نبيهم

محمد «1» ، يحجونه للزيارة والتبرك. وعلى مسيرة نصف يوم منها:- سورا Sura أو مثامحسية «2» الواردة في التلمود. كانت في سالف عهدها مقر رأس الجالوت ورؤساء المثيبة. وفيها من قبور الصالحين قبر الغاؤون الرابي شريرا «3» وولده الغاؤون الرابي هاي وقبر الغاؤون

سعدية «1» ور. صموئيل بن حفني الكاهن «2» وصفنية بن كوشي بن النبي جدلية «3» وقبور غيرهم من رؤساء الجالوت من آل الملك داود ورؤساء المثيبة الذين عاشوا فيها قبل خرابها. وعلى مسيرة يومين منها:- شفياثيب Shafjatib «4» هو الكنيس الذي جلب اليهود ترابه وحجارته من القدس. وبعد مسيرة خمسة أيام منها كانت العودة إلى الحلة حيث تجتمع القوافل المسافرة بطريق الصحراء إلى أرض اليمن.

وأرض اليمن «1» هذه، تمتد مسيرة واحد وعشرين يوما عن شنعار (العراق) الكائن على تخومها الشمالية. وفي هذه الصحراء مضارب بني ركاب «2» من عشائر تيماء. وفي تيماء يقيم شيخهم وحاكمهم

الكبير حنان. وهي صقع واسع الأرجاء، امتداده مسيرة ستة عشر يوما بين الجبال الشمالية. وفيها القلاع الكبيرة الحصينة التي لا تخضع لأية سيطرة أجنبية. وأهلها يخرجون مع جيرانهم وأحلافهم من أبناء العرب للغزو والكسب في الأماكن البعيدة. وهؤلاء الأعراب يعيشون عيشة بدوية، يبيتون في الخيام، لا يعرفون بناء البيوت، دأبهم الغزو في أراضي اليمن. واليهود هنا مرهوبو الجانب من جيرانهم، لديهم الأراضي الواسعة. فيشتغل البعض منهم بالزراعة والبعض الآخر يرعى الماشية. ولرؤسائهم عليهم ضريبة الأعشار، يؤدونها للقيام بأود علمائهم الساهرين على مدارسهم وفقرائهم ونساكهم المعروفين بالبكائين «1» . وهؤلاء يعيشون حياة كلها تقشف وزهد. لا يذوقون لحما ولا يشربون خمرا. لباسهم السواد ومأواهم الأكواخ والكهوف. يقضون جل أوقاتهم صياما باستثناء أيام السبوت والأعياد. وهم دوما عاكفون على إقامة الصلوات من أجل إخوانهم اليهود المشتتين في أنحاء المعمورة. وحاضرة هذه البلاد «تناجم» (؟) حولها نحو أربعين مدينة ومائتي قرية ومائة ضيعة يقيم بها نحو 300 ألف يهودي! وهي بلدة حصينة تبلغ مساحتها خمسة عشر ميلا بالطول ومثلها بالعرض. تتوسطها

الحقول والمزارع وقصر الرئيس سليمان (؟) ومن هذه المدن أيضا تلماس (؟) البلد الكبير حيث يقيم مائة ألف يهودي! ويشرف على البلدة جبلان شاهقان، وفيها الحكماء وذوو اليسار. وهي تبعد مسيرة ثلاثة أيام عن خيبر. وفي خيبر تقيم جماعة من اليهود يقال: إنها من بقايا أسباط رأوبين وجاد ومنشة، الذين أجلاهم سلمناصر ملك أشور، فهاجروا إلى هذا الصقع وشيدوا فيه المدن والقلاع. وهم في حرب دائمة مع جيرانهم، يعتصمون وراء الصحراء المترامية التي تبلغ مسيرتها ثمانية عشر يوما، مما يجعلهم بعيدين عن متناول من يقصدهم من الأعداء. وخيبر مدينة كبيرة آهلة بنحو خمسين ألفا! من اليهود، بينهم العلماء. وهم في إغارة مستمرة على شنعار (العراق) وأراضي الشمال وبلاد اليمن التي تبدأ عندها بلاد الهند «1» . ومنها على مسيرة خمسة وعشرين يوما، نهر فيرا (؟) الذي في أرض اليمن، حيث يقيم نحو 3000 يهودي وعلى مسيرة سبعة أيام منها:- واسط Wasit «2» فيها نحو عشرة آلاف

يهودي «1» ، بينهم القاضي ر. نيدان وعلى مسيرة خمسة أيام منها:- البصرة Basra «2» موقعها على شط دجلة «3» . وفيها نحو عشرة آلاف يهودي «4» بينهم العلماء والعظماء. وهي تبعد مسيرة يومين عن:-

نهر سمره Samra «1» المتاخمة لبلاد العجم. يقيم بها نحو ألف وخمسمائة يهودي. وعندها قبر عزرا الكاهن الكاتب (ع) توفي فيها في أثناء قدومه من القدس لمقابلة الملك أرتحشسته «2» . وعند قبره كنيس كبير لليهود وجامع للمسلمين. وهؤلاء يجلّون المقام ويؤمونه لإقامة الصلاة فيه. وهم واليهود على صفاء وولاء. وعلى مسيرة أربعة

أيام منها:- خوزستان Chuzistan «1» أو عيلام الواردة في التوراة. وهي كورة كبيرة لكن أكثرها خراب غير مأهول. وتتوسط هذه الخرائب قلعة شوشان «2» . فيها بقايا قصر أحشويروش «3» ، وهو بناء قديم على جانب كبير من الفخامة والرونق. ويخترق المدينة نهر «أولاي» أحد روافد

حدقل (دجلة «1» ) فيشطرها إلى شطرين يوصل بينهما جسر وفيها نحو سبعة آلاف يهودي. عندهم أربعة عشر كنيسا. في أحدها قبر النبي دانيال «2» (ع) . ولقبر دانيال هذا حكاية طريفة. ذلك أن اليهود يقيمون بالجانب المعمور من المدينة حيث الأسواق والمتاجر وبيوت الموسرين. أما الجانب الثاني فيسكن فيه الفقراء الذين لا أسواق لهم ولا متاجر ولا رياض أو بساتين. فدفعهم الحسد إلى الاعتقاد بأن هذه الرفاهة التي تعم أهل الجانب الأول إنما جاءتهم ببركة النبي دانيال، وعندهم قبره. لذلك طالبوا بإلحاح أن ينقل مثوى النبي إلى جانبهم. فكان أن أبى أهل الجانب الأول تلبية هذا الطلب فنشبت بين رجال الفريقين فتن ومشاحنات دامت أمدا طويلا، حتى أدركهم الملل، فاصطلحوا على أن يبقى ناووس النبي دانيال سنة حولية عند كل من الجانبين على التوالي. وبقيت الحال على هذا المنوال حتى تغلب عليهم سنجرشاه بن

(ملك) شاه «1» الملك العظيم الذي كان يحكم خمسا وأربعين إمارة، المعروف عند العرب بسلطان الفرس الكبير ومسيرة سلطنته أربعة أشهر وأربعة أيام، من شواطئ نهر سمرة إلى سمرقند ونهر غوزان «2» ونيسابور وبلاد مادي وجبال خفتون «3» وأراضي التبت ذات الغابات التي يكثر فيها غزال المسك. فلما دخل هذا الإمبراطور سنجر ملك العجم مدينة شوشان. وشاهد كيف يتبادل أهلها نقل ناووس النبي دانيال عبر الجسر ويمشي خلفه خلق غفير من اليهود والمسلمين؛ قال لهم: إنه لا يليق بكرامة النبي مثل هذا العمل المزري. فأمر بأن يذرع النهر من كلا الجانبين بالتساوي، وأن توضع رفاة النبي في ناووس من زجاج، يعلق في منتصف الجسر بسلاسل من حديد، وأن يقام فوق الموضع الذي كان النبي مدفونا فيه، مصلى يؤمه من يشاء من يهود وغيرهم لإقامة فريضة الصلاة. وأمر كذلك بأن يحظر صيد السمك على بعد ميل من كلا طرفي الناووس إكراما للنبي. وهكذا يشاهد نعش النبي دانيال (ع) معلقا

حتى اليوم «1» . وعلى مسيرة ثلاثة أيام من هنا:- رودبار Rudbar «2» يقيم بها نحو عشرين ألف يهودي «3» . بينهم عدد من العلماء والموسرين وعلى مسيرة يومين منها:- نهاوند Nihavand «4» البلدة التي تقع عندها:

أرض الملاحدة «1» التي تسكنها طائفة لا تؤمن بدين الإسلام. يعتصم أتباعها بالجبال المنيعة ويطيعون «شيخ الحشاشين» ويقيم بين ظهرانيهم نحو أربعة آلاف يهودي، يسكنون الجبال مثلهم ويرافقونهم في غزواتهم وحروبهم. وهم أشداء، لا يقدر أحد على قتالهم. وبينهم العلماء التابعون لنفوذ رأس الجالوت ببغداد. وهذه الأراضي تبعد مسيرة خمسة أيام عن:- العمادية Emadia «2» يقيم بها نحو خمسة وعشرين ألف يهودي. وهم جماعات منتشرة في أكثر من مائة موقع من جبال خفتيان «3» عند تخوم بلاد مادي. ويهودها من بقايا الجالية الأولى التي أسرها شلمناصر

ملك آشور ويتفاهمون بلسان الترجوم «1» ، وبينهم عدد من كبار العلماء. والعمادية على مسيرة يوم من تخوم بلاد العجم. يؤدي يهودها الجزية للمسلمين شأن سائر اليهود المقيمين في الديار الإسلامية، وقدرها دينار أميري ذهبا «2» ، أو ما يعادل مرابطيا وثلث مرابطي «3» ذهبا لمن بلغ منهم الخامسة عشرة من عمره. وقبل عشر سنوات قامت في العمادية فتنة داود بن الروحي. وكان هذا قد تلقى العلم في بغداد عن حسداي رأس الجالوت وعن علي رأس مثيبة «غاؤون يعقوب» . فتضلع بالتوراة والفقه والتلمود وسائر العلوم وبرع بلغة المسلمين وآدابهم ونبغ بفنون السحر والشعوذة.

فدخل في روعه أن يعلن العصيان على ملك العجم «1» ، ويجمع حوله اليهود القاطنين في جبال حبتون ومقاتلة النصارى المتمكنين من أورشليم والاستيلاء عليها وطردهم منها. فشرع ينشر دعوته بين اليهود ويدعم دعوته بالبراهين الباطلة، كأن يقول لهم: «إن الله قيضني لفتح القدس وإنقاذكم من نير الاستعباد» فآمنت به جماعة من بسطاء اليهود وحسبوه المسيح المنتظر. فلما استفحل أمره وطرق حديثه أسماع سلطان العجم، أرسل بطلب داود فمثل بين يديه من غير خوف أو وجل. فسأله السلطان: - أمن الصحيح أنك ملك اليهود؟

قال: نعم! فأمر السلطان في الحال بالقبض على داود وزجه في السجن الكبير في طبرستان، المدينة الواقعة على شاطئ نهر قيزيل أوزون، ليرسف في أعماقه مدى الحياة. وبعد ثلاثة أيام كان السلطان يعقد مجلسا مع خواصه للنظر في قضية اليهود من أتباع داود، الذين شقوا عليه عصا الطاعة. فإذا داود يظهر فجأة في بلاط السلطان، وهو طليق من الأغلال والقيود. فكانت دهشة الجميع عظيمة. فسأله السلطان: - كيف شخصت إلى هنا، ومن هو الذي أطلق سراحك؟ فأجابه داود: - حكمتي ودهائي وحدهما. وأنا في الحقيقة لست أخافك، ولا أخشى وزراءك. فأمر السلطان حراسه بأن يقبضوا على داود. لكن هؤلاء كانوا يسمعون صوته ولا يرون شخصه. فهال السلطان هذا الأمر. وسمع صوت داود يقول: - إنني الآن ذاهب في طريقي. فشاهده الجميع وهو يبارح المكان. وتبعه السلطان وجنده ووزراؤه، حتى أشرفوا على شاطئ النهر. فرأوا داود ينشر طيلسانه فوق الماء ويعبر عليه إلى الجانب الآخر. فأمر السلطان جنده بأن يلحقوا به، وركبوا الزوارق وعبروا إلى الشاطئ الثاني. وشرعوا يبحثون عن داود دون جدوى. فعلموا أن الرجل ساحر يندر نظيره.

أما داود فإنه تمتم ببعض التعاويذ ونطق باسم الله الخفي «1» ، فقطع بيوم واحد ما مسيرته عشرة أيام. فبلغ العمادية وقص على أتباعه ما حدث له، فأخذتهم الرهبة والدهشة من أمره. وبعد ذلك كتب سلطان العجم إلى أمير المؤمنين خليفة بغداد، يعلمه بما كان من أمر داود، ويسأله أن يوسط رأس الجالوت ورؤساء المثيبة ببغداد، لكي يؤثروا بنفوذهم على داود بن الروحي، فيكف عن أعماله وتمرده، وإلا فإنه سيأمر بالانتقام من جميع اليهود الموجودين في مملكته، ويفنيهم عن آخرهم. وقد أصاب اليهود في بلاد العجم من جراء ذلك عسر شديد، فكتبوا من جانبهم إلى رأس الجالوت ورؤساء المثيبة ببغداد يستحثونهم لإنقاذهم من الهلاك المحقق، بأن يرشدوا داود إلى طريق الصواب، فيحقنوا الدماء البريئة. وللحال حرر رأس الجالوت ورؤساء المثيبة كتابا إلى داود، بينوا فيه خطله وأظهروا بهتانه. وختموا كتابهم بالعبارات التالية: «ليكن معلوما لديك أن موعد ظهور المسيح لم يحن بعد، وليس لدينا البراهين عن قرب ظهوره. وهذا أمر لا يأتي بالعنف ولا يتم بشق عصا الطاعة. وإنا لمطالبوك بالكف عما أنت فيه، وإلا حرمناك من جماعة بني إسرائيل» .

وأرسلت نسخة من هذا الكتاب إلى الرئيس زكاي ويوسف الفلكي الملقب ببرهان الفلك في الموصل «1» ، لكي يبعثا بمثل فحواه إلى داود بن الروحي. فصدع رئيس الموصل وبرهان الفلك بالأمر، فوجّها إلى داود برسالة كلها إقناع ووعيد. لكنه لم يعدل عن زيغه وأباطيله. فلما ولي الحكم زين الدين «2» أمير التوغرمين (السلاجقة) وهو من أتباع ملك العجم دبر مكيدة للقضاء على داود بن الروحي. فأرسل بطلب حميه ومنحه عشرة آلاف دينار إن هو أجهز على صهره داود. فدخل عليه الرجل. وهو يغط بالنوم في فراشه، وذبحه وهكذا انتهى أمره وتخلص اليهود من شره. لكن ملك العجم ظل ناقما على اليهود المقيمين في مملكته. فكتب هؤلاء إلى رأس الجالوت يطلبون وساطته من أجلهم لدى ملك العجم، لما له من حظوة ومقام. فأرسل رأس الجالوت يترضى ملك العجم، وقدم له مبلغا جسيما قدره مائة ألف دينار ذهبا، فأصدر الملك أمره بالعفو واستراحت البلاد «3» . ومن جبل العمادية يقطع المسافر مسيرة عشرة أيام شرقا إلى:-

همذان Ecbatana «1» هي مادي المدينة الكبرى الواردة في التوراة. فيها نحو خمسين ألف يهودي. وفي كنيستها قبر مردخاي وأستير «2» وعلى مسيرة أربعة أيام منها:- طبرستان Tabaristan «3» الواقعة على شاطئ نهر غوزان

(سفيد رود) . فيها نحو أربعة آلاف يهودي. وهي على مسيرة سبعة أيام من:- أصبهان Ispahan «1» البلدة الكبيرة، كرسي المملكة. استدارتها نحو اثنى عشر ميلا. وفيها نحو خمسة عشر ألفا من اليهود. وهي مقر الرئيس سرشالوم الموكل بيهود العجم من رأس الجالوت ببغداد. وعلى مسيرة أربعة أيام منها:- شيراز Shiraz «2» أو مدينة فارس «3» . فيها نحو عشرة آلاف يهودي.

وعلى مسيرة سبعة أيام منها:- خيوة Khiva «1» البلدة الكبيرة على شاطئ نهر غوزان. فيها نحو ثمانية آلاف يهودي. ولها تجارة واسعة، يؤمها التجار من جميع الأمم للبيع والشراء. وأراضيها على امتداد عظيم. وهي تبعد مسيرة خمسة أيام عن:- سمرقند Samarkant «2» البلدة المتاخمة لمملكة (العجم «3» ) . فيها نحو خمسين ألف يهودي «4» . بينهم عدد كبير من العلماء وذوي اليسار، وعندهم الرئيس عوبدية الموكل بهم من رأس الجالوت ببغداد. وعلى مسيرة أربعة أيام منها:- بلاد التبت Tibet «5» فيها آجام يكثر فيها غزال المسك. ومنها يقطع المسافر مسيرة خمسة وعشرين يوما، فيعود إلى:- نيسابور Naysabur «6» على شواطئ نهر غوزان (سفيد رود) .

ويزعم يهودها أنهم من بقايا الأسباط الأربعة من بني إسرائيل التي أسرها شلمناصر ملك أشور. وهي أسباط دان وزبولون ونفتلي وآشر التي ورد عنها في التوراة: «وسبى ملك أشور بني إسرائيل إلى أشور، ووضعهم في حلح وحابور، نهر غوزان وفي مدن مادي» . وهي بلاد واسعة الأرجاء تبلغ مسيرتها عشرين يوما. وبها المدن والقرى تحميها الجبال من جهة ونهر غوزان من الجهة الأخرى. واليهود هنا مستقلون. لا يدينون بالطاعة لغير رئيسهم يوسف أمر كلة اللاوي ومن معه من كبار علماء الدين. وهم يشتغلون بالزراعة ويخرجون للغزو في بلاد الكاشيين (خراسان) بطريق الصحراء. ولهؤلاء اليهود أحلاف من القبائل التي يسميها المسلمون «كفار الترك» . وهم جماعات لا حصر لها من البدو. يعيشون في الصحراء ويعبدون الهواء، وطعامهم اللحم النيئ، يأكلونه من غير شواء. ولا يأكلون الخبز ولا يعرفون الخمر. وفي موضع الأنف في وجوههم ثقبان صغيران يتنسمون بهما الهواء. وهم إذا أكلوا لحما لا يفرقون بين الطاهر وغير الطاهر من الحيوان. وعلاقتهم باليهود يسودها الصفاء والوثام. وقد أغار «كفار الترك» على بلاد العجم قبل ثمانية عشر عاما «1» ،

بجيوش جرارة، فاستولوا على «الري» وأعملوا السيف في رقاب أهلها ونهبوا ما فيها ورجعوا بما غنموه إلى جبالهم. وكان هذا أول حادث في بابه في بلاد العجم. فلما بلغت أخبار هذه المذبحة أسماع ملك العجم، ثار ثائره وأقسم ليبيدن هذه القبائل التي باغتت بلاده من وراء الصحراء، وليمحونهم من تحت السماء. فانتشر المنادون في طول البلاد وعرضها يطلبون الأدلاء لهداية الجيوش اللجبة في مسالك الصحراء. فشخص رجل بحضرة الملك وقال له: «إني دليلكم إلى مضارب القوم، لأنني منهم» . فوعده الملك بجزيل العطاء إن هو دلهم على السبل المؤدية إلى تلك الجبال السحيقة. فلما سأله عن مقدار المؤونة التي يحتاجها الجند في مسيرته، قال: «تزودوا بما يكفيكم خمسة عشر يوما من الزاد والماء.» . وخرجت الجيوش الجرارة تطلب مضارب القوم. وظلت تضرب في عرض البيداء خمسة عشر يوما دون أن تعثر للأعداء على أثر. فأشرف

الزاد على النفاد، وهلك بعض الجند والخيل جوعا. فأحضر الملك دليل الجيش بين يديه واستوضح منه جلية الأمر. فأخبره هذا بأنه قد ضل الطريق. فغضب الملك وأمر بقطع رأس الدليل. ثم نادى المنادون يوصون الجند بالتقتير بالزاد، وأن يقاسم من يحمل شيئا منه صاحبه. وذبحت الخيل لأطعام الجيوش خوفا من هلاكه عن آخره. وبعد مسيرة ثلاثة عشر يوما أشرفوا على جبال نيسابور حيث يقيم اليهود. وكان وصولهم إليها في يوم سبت. فضربوا خيامهم بين الرياض والبساتين المثمرة على عين ماء بالقرب من نهر غوزان، فعاثوا بالأشجار، يأكلون فاكهتها ويقطعون عيدانها، لكنهم لم يجدوا حولها إنسيا واحدا. وكانت المدن والقلاع تظهر لعيانهم عن بعد. فأوفد الملك رسولين من جنده لاستطلاع خبر القوم. ولما بلغ الرسولان شاطئ النهر، وجدا عليه قنطرة عظيمة فوقها الأبراج الحصينة، وبرأسها باب ضخم محكم الإيصاد، وفي عدوة النهر من الجانب الآخر مدينة كبيرة. فصاح الرسولان تنبيها لمن على الجسر بحضورهما. فخرج إليهما رجل يسألهما عن هويتهما ووجهتهما، لكنهما لم يفقها حديثه. وبعده حضر ترجمان يفهم لغة الرسولين، فلما سألهما عن أمرهما وما يريدانه، أجابا: «إننا من عسكر ملك العجم وقد جئنا نستطلع شأنكم ونعرف الملك الذي يحكمكم» . فقال الرجلان: «إننا يهود، لا نعرف لنا ملكا غير رئيسنا، وهو يهودي مثلنا.» وعندها سألهما الرسولان عن قبائل الغز من كفار الترك. فأجاب اليهوديان: «إنهم أحلافنا. ومن آذاهم فهو عدونا» .

فرجع الرسولان أدراجهما وأخبرا ملك العجم بما شاهدا وما سمعا، فاحتار الملك وخاف سوء المغبة. وفي اليوم التالي جاءه رسول أهل المدينة يدعو جيش العجم إلى الحرب والقتال فقال الملك: «إني ما حضرت إلى هنا لقتالكم، وإنما لمناجزة أعدائي كفار الترك. فإذا أبيتم إلا قتالي، فسوف أنتقم منكم بإهلاك جميع اليهود القاطنين في مملكتي، وهم كثيرون. وأنتم في هذا المكان أقوى مني. فأنا أسألكم بالمعروف أن تكفوا عن قتالي وتتركوني وشأني مع كفار الترك. وسوف أدفع لكم ثمن ما يحتاج إليه جندي من زاد وأرزاق.» فلما سمع اليهود هذا الكلام، تشاوروا فيما بينهم، وقر رأيهم على مصافاة ملك العجم، حقنا لدماء إخوانهم من اليهود المقيمين في بلاده. فاستضافوا جند العجم في مدينتهم خمسة عشر يوما وأكرموا وفادتهم غاية الإكرام. لكنهم ظلوا أمناء على عهدهم مع كفار الترك، فأوفدوا إليهم سرا من يشعرهم بمقدم ملك العجم لمقاتلتهم. فاستعد كفار الترك، وأخذوا الأهبة للحرب والقتال، فنصبوا الكمين في مسالك الجبال ومضائق الشعاب، وحشدوا الجيوش الجرارة من جميع أنحاء تلك الصحراء. فما إن خرج ملك العجم بعسكره لمقاتلتهم حتى هاجموه من كل صوب، فانتصروا عليه، وأهلكوا عددا غفيرا من جنده، ففر ملك العجم بمن كتبت له السلامة من أتباعه وعاد إلى بلاده. وحدث أن فارسا من جند ملك العجم خدع يهوديا يدعى موسى، فاستصحبه إلى بلاد العجم، وهناك استرقه له عبدا. وبعد مضي مدة

من الزمن احتشد الناس بمهرجان عظيم، يتبارى فيه الرماة بحضور السلطان. فكان موسى مملوك الفارس العجمي بين المتبارين. فأظهر براعة بالرمي، لم يستطع أن يجاريه أحد فيها. فعجب السلطان من أمره فقربه منه وسأله عن حاله. فقص موسى على السلطان ما حدث له مع الفارس، وخديعته له واتخاذه عبدا رقيقا. وللحال أمر السلطان بإطلاق سراحه، وخلع عليه حلة نفيسة من حرير وأغدق عليه الهدايا والعطايا. ثم زين له البقاء في حاشيته واعتناق ديانته. ووعد بأن يجعله من كبار الأغنياء، وقيما موكلا بقصره. لكن موسى رفض هذا العرض، وعندئذ أرسله السلطان إلى سرشالوم رئيس اليهود في أصبهان للعناية بأمره. وهناك تزوج من ابنة الرئيس. هذا ما قصه علي «موسى» بنفسه. وكانت عودتي من نيسابور إلى خوزستان المشرفة على نهر دجلة المنصب في بحر الهند وفي هذا البحر قطعت مسيرة ستة أيام إلى:- جزيرة قيس Qais «1» أرض هذه الجزيرة شحيحة الماء، ليس فيها غير عين واحدة. وأغلب شرب أهلها من ماء المطر. وهي مركز تجاري مهم، يقصدها التجار للبيع والشراء ومقايضة ضروب السلع كالحرير والكتان والقطن والقنب والماش والحنطة والشعير والدخن والرز وسائر أنواع الحبوب والبقول ويأتيها تجار الهند بالعطور والتوابل. وأغلب سكان الجزيرة دلالون ووسطاء بين هذا

الحشد الغفير من التجار. ويقيم بهذه الجزيرة نحو خمسمائة يهودي. وعلى مسيرة عشرة أيام منها بطريق البحر:- القطيف Katif «1» فيها نحو خمسة آلاف يهودي. وفيها أيضا مغاص الجوهر المعروف بالدر «2» . ففي الرابع والعشرين من شهر نيسان من كل عام، تتساقط قطرات المطر الكبيرة على سطح الماء، فيلتقمها المحار وينطبق عليها ويغوص في قعر البحر. وفي منتصف تشرين يحضر الغواصون فيربطون حول أحقائهم الحبال فيغوصون في الماء طلبا للمحار، يخرجونه ويفتحونه فيجدون الدر في جوفه. وعلى مسيرة سبعة أيام منها:- خولام Quilon «3» وهي أول بلاد المجوس عبّاد الشمس والكواكب

من أبناء كوش. جميع سكانها سود البشرة، لكنهم مشهورون بالأمانة والصدق في الأخذ والعطاء. فإذا دخلت سفينة فرضة المدينة طلع إليها ثلاثة من كتبة السلطان، وسجلوا أسماء تجارتها في ثبت يعرضونه على السلطان. ثم يصدر أمان السلطان للتجار، فيتركون بضاعتهم في العراء، لا خوف عليها ولا حاجة بهم إلى من يحرسها. وفي سوق البلد حانوت كبير فيه مأمور موكل بجمع المفقودات. فمن ضاع له متاع راجع مأمور الحانوت وأعطاه علامة متاعه المفقود واسترده. وهذه عادة مستحبة سارية في جميع أنحاء هذه المملكة «1» . وإقليم هذه المدينة شديد الحرارة. يتحكم موسم القيظ فيها من شهر نيسان حتى تشرين. ويبلغ من شدة الحر أن الناس لا يقدرون على مبارحة دورهم نهارا. فإذا ما أزفت الساعة الثالثة من النهار، أسرعوا إلى بيوتهم، يستجيرون بظلها حتى ساعة الغروب. وعندها يخرجون فيضيئون الشموع في الأزقة والأسواق ويزاولون أعمالهم. وفي هذه البلاد يزرع الفلفل. وأشجاره كثيرة في حقول تحيط بالمدينة. والفلاحون يخططون مزارعهم فيعرف كل منهم حدود أغراسه. وشجرات الفلفل صغيرة تثمر حبا يكون في أول أمره أبيض. فإذا حان قطافه وضعوه في طواجن. ثم سكبوا عليه الماء الحار وفرشوه

تحت أشعة الشمس حتى يجف وينقلب لونه إلى سواد. وفيها أيضا أشجار القرفة والزنجبيل وضروب شتى من التوابل والأفاويه «1» . ومن عادة أهل هذا البلد أنه إذا مات منهم أحد لا يوارونه التراب، بل يضمخونه بأنواع الأطاييب والعقاقير ويضعونه في صندوق موصد حتى تستحكم يبوسته فيلتصق الجلد بالعظم، فيظل له مظهر الأحياء. وهكذا يحتفظون بأجداث آبائهم وأفراد أسرتهم بعد الممات مدة طويلة. وأهل هذه المدينة كفار، يعبدون الشمس والنار. فتراهم عند مطلع الفجر يهرعون إلى معابدهم، وهي على مسافة نصف ميل من البلد، فيستقبلون الشمس المشرقة سجّدا. وعندهم في معابدهم صنم على شكل قرص الشمس يدور بحيلة سحرية، فيسمع لدورانه ضجة عالية، ويخرون له على وجوههم ويحرقون أمامه البخور. هذه هي عاداتهم السقيمة، وبئس العادة. وفي هذه المدينة عدد زهيد من اليهود لا يربو عددهم على المائة. وهم سود البشرة مثل غيرهم من السكان «2» ، لكنهم أتقياء، يعرفون

شريعة موسى وكتب الأنبياء، وبعض التلمود والناموس. وعلى مسيرة اثنين وعشرين يوما «1» منها:- جزيرة كندي Kandy «2» أهلها كلهم من عباد النار المجوس، يقيم بينهم نحو ثلاثة آلاف يهودي. ولهؤلاء المجوس معابد منتشرة في أنحاء البلاد يقوم على خدمتها كهان من أمهر الناس بالسحر والشعوذة. وفي صدر كل معبد صنم، أمامه حفرة فيها نار تتأجج، لا يخبو لها أوار ليلا أو نهارا. وهذه النار مقدسة عندهم، يسمونها «إلهوتا» وبها يحرقون أنفسهم. فكثيرا ما ينذر الوجهاء والكبراء إحراق أنفسهم بهذه النار المتأججة بكامل رضائهم. وتتم مراسيم الاحتراق بمهرجان عظيم، يستعد له من تحدثه نفسه بالأمر استعدادا كبيرا. فيتقاطر عليه المهنئون، يطوبونه ويبشرونه بالسعادة الأبدية. وإذا حل اليوم المضروب، أركبوه حصانا مطهما وسارت خلفه وقدامه الجماهير الغفيرة، تضرب بين أيديهم الأطبال والأنفار، حتى إذا ما بلغ حفرة النار، ألقى بنفسه فيها بين التسبيح والتهليل.

وبعد مضي ثلاثة أيام، يحضر كهنة المجوس إلى أهل المحروق فيوصونهم بإعداد البيت إعدادا حسنا، لأن ميتهم سيعود لإملاء وصيته بحضور بعض الشهود من أهل البلد. فإذا حانت الساعة المضروبة، يحضر الشيطان بهيئة الشخص المحروق فيبادر أهله وخلانه إلى السؤال عن حاله في الآخرة، فيجيب على سؤالهم إنه بخير. ويقول لهم: إن أصحابه في الآخرة يرفضون إدخاله في زمرتهم إلا إذا وفى بما عليه من ديون لأصحابه وأبناء عشيرته. وحينئذ ينطق بكيفية توزيع تركته على أولاده بعد أن يشرح ما له وما عليه من طلب ودين عند بعض الناس، فيكتب الشهود وصيته، ومن ثم ينصرف إلى غير ما عودة. ويتم هذا كله بفضل ما يقوم به الكهنة من السحر والشعوذة، فيدخلون في روع أشياعهم أن دينهم هذا يفوق كل معتقد آخر في العالم أجمع. وعلى مسيرة أربعين يوما من كندي:- أرض الصين Chine «1» في أقصى المشرق، ووراءها البحر المتجمد.

وعندما تدخل الشمس برج الجبار. يهتاج البحر من عصف الرياح الشديدة، وتطوح بالمراكب نحو البحر المتجمد حيث تستقر في مكانها، لا تستطيع حراكا، حتى ينفد الزاد من الركاب، فيهلكون جوعا عن بكرة أبيهم. وقد هلكت على هذه الشاكلة مراكب لا حصر لها. ويدبر سكان هذه البلاد حيلة يتخلصون بها إذا اهتاج البحر في أثناء سفرهم. وحكاية هذه الحيلة أنهم يحملون معهم جربانا من جلود البقر. فإذا عصفت الرياح وأنذرتهم بقرب الهلاك، دخلوا هذه الجربان ومعهم سكين ماضية، وربطوها من الداخل ربطا محكما لكي لا يتسرب الماء إليها. ورموا بأنفسهم في لجة اليم. فيهجم على هذه الجربان طائر عظيم الخلقة يدعى طائر الرخم «1» ، ظنا منه أنها جيفة حيوان. فينشب مخالبه الحادة فيها ويحملها إلى اليابسة فيطرحها فوق قمة جبل أو في بطن واد ليأكلها. وعندئذ يخرج من في الجراب سكينه التي يحملها معه فيشق الجلد ويخرج فيستولي الرعب على الطائر ويلوذ بالهرب. وبهذه الحيلة يتخلص الركاب من الهلاك فيعودون إلى الأماكن المأهولة. وعلى مسيرة ثلاثة أيام من الصين:-

بنغالة Bengal «1» مسيرتها خمسة عشر يوما. وفيها نحو ألف يهودي. وعلى مسيرة سبعة أيام منها بطريق البحر:- خولان Chulan «2» ليس فيها يهود. وعلى مسيرة اثنى عشر يوما منها:- زبيد Zebid «3» فيها عدد يسير من اليهود. وتبعد مسيرة ثمانية أيام عن الهند البرية «4» المسماة:- عدن Aden «5» موقعها في إقليم تلسار الوارد ذكره في التوراة.

أراضيها وعرة المسالك. فيها عدد غفير من اليهود «1» يقيمون في المعاقل الحصينة على رؤوس الجبال، لا يخضعون لغير رؤسائهم. ويخرجون للغزو في بلاد النوبة، فيعودون بالغنائم إلى معاقلهم. وبعضهم يزور مصر وبلاد العجم. وعلى مسيرة عشرين يوما منها:- أسوان Asuan «2» الواقعة في طرف الصحراء عند شواطئ نهر فيشون «3» المعروف بنهر النيل. ومخرج هذا النهر بلاد يسكنها الزنوج، عليهم ملك يدعى «سلطان الحبش» . وهم متوحشون يشبهون الحيوان بجميع الوجوه. فطعامهم الحشائش النامية على شاطئ النيل ومناخهم شديد الحر. لذا يعيشون في الأراضي المكشوفة، عراة الأبدان. وعاداتهم مستقبحة تخالف سائر أحوال البشر. فهم يطأون من النساء أخواتهم أو أية امرأة تتيسر لهم. وأهل أسوان يخرجون لصيد العبيد في أراضي هؤلاء الزنج. وهم إذا خرجوا حملوا معهم الخبز والزبيب والتين. فيجتذبون الزنوج ويرغبونهم حتى يتبعوهم، ثم يبيعونهم في أسواق النخاسة بمصر وما

جاورها من البلدان. وهؤلاء هم السودان من بني حام. وعلى مسيرة اثني عشر يوما من أسوان:- حلوان Haluan «1» فيها نحو ثلثمائة يهودي. ومنها تخرج القوافل إلى القفار المسماة بالصحراء. وهي واسعة الأرجاء، مسيرتها خمسون يوما. وفي طرف هذه الصحراء:- الزويلة Zavila «2» أو حويلة الواردة في التوراة من إقليم غانة «3» . وفي الصحراء كثبان الرمل التي إذا عصفت بها الرياح أثارتها وغطت القوافل السيارة فأهلكتها. وتحمل هذه القوافل السلع التجارية المتنوعة. منها الحديد والنحاس وأنواع الفاكهة والبقول والملح من مصر، فتعود إليها بالذهب والجواهر الكريمة. وهذه الصحراء واقعة إلى الجانب الغربي من كوش المعروفة بالحبش. وعلى مسيرة ثلاثة أيام من حلوان:- قوص Kuts «4» موقعها في أقصى الحدود المصرية وفيها من اليهود

نحو 000/30 «1» وتبعد قوص مسيرة خمسة أيام «2» عن:- الفيوم Fayum «3» أو فيثوم الواردة في التوراة، التي شيدها أجدادنا العبرانيون القدماء. وفيها بقايا من بنيانهم ذلك. ويقيم بها مائتا يهودي وعلى مسيرة أربعة أيام منها:- مصر Mizraim «4» البلدة القديمة الواقعة على شاطئ نيلوس المعروف بنهر النيل. فيها نحو ألفي يهودي «5» ، لهم كنيسان. الأول ليهود فلسطين ويسمى «كنيس الشاميين» والثاني ليهود بابل ويسمى

كنيس العراقيين «1» » . وتختلف هاتان الجماعتان في كيفية تقسيم التوراة. فقد جرت عادة يهود العراق أن يقسموا أسفار موسى (ع) إلى سور بعدد أسابيع السنة، يتلون منها سورة في كل أسبوع ويختمونها في دورة العام، جريا على عادة يهود الأندلس «2» . أما يهود فلسطين فيقسمون كل سورة إلى ثلاثة فصول يتلون منها فصلا في كل أسبوع ويختمونها في دورة ثلاثة أعوام. ويجتمع أبناء الطائفتين مرتين في العام لإقامة الصلاة مجتمعين. الأولى في يوم «مهرجان التوراة «3» » والثانية في عيد نزول التوراة «4» .

أما عميد يهود مصر فهو الناغيد «1» نثانيال «2» ، رأس المثيبة، رئيس الجماعات اليهودية في القطر المصري، الموكل بترسيم الربانيين والأئمة في الكنائس اليهودية. وهو كذلك أحد عمال الملك الكبير المقيم في قلعة «صوعن» كرسي المملكة العربية. وسلطان مصر من الشيعة العلوية «3» ، أتباع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، الخارجين على سلطة أمير المؤمنين الخليفة العباسي الذي يحكم في بغداد. وبين الملكين منافسة دائمة ومقام سلطان مصر في قلعة صوعن «4» (الفسطاط) . وهو مثل خليفة بغداد، لا يخرج من قصره إلا مرتين في العام، الأولى في يوم العيد والثانية في يوم وفاء النيل.

وقلعة صوعن محاطة بالأسوار المنيعة. أما مصر (القاهرة) فلا سور لها، لأن نهر النيل يستدير بها من كل جانب. وهي مدينة واسعة الأرجاء. فيها الأسواق والفنادق، وبين يهودها عدد من كبار الأغنياء والعلماء «1» . والقطر المصري كثير الجفاف، لا ينزل فيه مطر ولا تتساقط فيه ثلوج. ومناخه شديد الحر. ويفيض نهر النيل مرة في العام، قرابة شهر أيلول، فتغمر مياهه من الأراضي، ما مسيرته خمسة عشر يوما. فتبقى المياه فوق الأرض شهري أيلول وتشرين لإسقائها وإروائها. وبظاهر المدينة جزيرة تحيط بها المياه «2» . وفيها عمود من رخام أبيض، أقامه المهندسون البارعون بحكمة وإتقان. ويبلغ ارتفاع القسم الظاهر فوق الماء من هذا العمود اثنى عشر ذراعا. وهو مفصل على درجات تشير إلى مبلغ ارتفاع مياه النيل، عليه حارس موكل باعطاء

البشائر مياومة عن مقدار ارتفاع الماء. فينادي بالناس: «الحمد لله! إن النيل قد ارتفع اليوم كذا وكذا قياسا» . ومتى استوفى الماء قياسات العمود، علموا بأن الفيض قد بلغ الغاية، وأنه قد غمر من الأراضي ما مسافته خمسة عشر يوما. وعندئذ يبادر الفلاحون وأصحاب المزارع إلى حفر الخلجان والقنوات فيدخلها الماء الوفير، ويدخل معه السمك الكثير، يبقى في الخلجان بعد ما تنحسر عنها المياه، فيأخذه الفلاحون ويأكلونه، ويكبسون ما فاض منه بالملح، فيبيعونه من التجار الذين ينقلونه إلى الأطراف وهذا السمك سمين، لذيذ، والناس هنا تستعمل سمنه للإضاءة. وماء النيل كثير العذوبة ملائم للهضم. ويقول العارفون بأسباب فيض النيل، إن الأمطار الغزيرة تتساقط في أرض كوش (الحبش) والحويلة (زويلة) فيفيض النيل من سيلها ويغمر الأرض. أما إذا قل فيضه فلا يكون للناس زرع في ذلك العام، ويصيب البلد قحط شديد. ويزرع الفلاحون حقولهم في شهر حشوان (تشرين الثاني) عندما تنحسر المياه فيحصدون الشعير في آذار والحنطة في نيسان. وفي موسم الصيف تكثر عندهم أثمار الإجاص والجوز والقثاء والقرع والخروب والفول والذرة والحمص وسائر أنواع الفواكه والبقول مثل الرجلة والهليون والعنب والخس والكزبرة والهندباء والكرنب والعناب. فتفيض الأرض بالخيرات. وتعمر الحدائق والبساتين، تسقيها مياه الخلجان المتشعبة من النيل.

والنيل يفترق على مسافة من مصر إلى أربعة فروع. يجري الأول باتجاه دمياط، أو كفتور الواردة في التوراة، فيصب في البحر. ويتجه الثاني نحو الرشيد القريبة من إسكندرية فيفيض في اليم. والثالث ينصب بالقرب من أشمون المدينة الكبيرة. أما الفرع الرابع فيجري باتجاه حدود مصر. وهذه الفروع الأربعة عامرة بالمدن والقرى والضياع، والمسافرون يغدون ويروحون فيما بينها برا ونهرا. وبالإجمال ليس في العالم كله بقعة آهلة بالسكان، كثيرة الزروع مثل مصر الواسعة، المليئة بالخيرات. وعلى بعد فرسخين من مصر الجديدة، توجد أطلال مصر القديمة. فيها دوارس الآثار والمباني العتيقة وفيها بقايا الأهراء التي شيدها يوسف الصديق (ع) لخزن الحبوب وهناك الأهرام التي بناها السحرة* مما يندر نظيره بين مباني العالم. وهي مشيدة بالحجارة المتناهية ضخامة ومتانة. وبظاهر المدينة الكنيس الكبير لسيدنا موسى «1» (ع) يقوم على حراسته رجل يعرف بالشيخ أبي نصر. وتبلغ استدارة أطلال مصر

القديمة ثلاثة أميال. وعلى مسيرة ثمانية فراسخ منها:- بلبيس Belbis «1» أو أرض جاسان القديمة. وهي مدينة كبيرة فيها نحو ثلاثة آلاف يهودي. وعلى مسيرة نصف يوم منها:- عين شمس Rameses «2» أو رعمسيس القديمة. فيها أطلال باقية من بناء العبرانيين القدماء على شكل أبراج متطاولة في الارتفاع. وعلى مسيرة يوم منها:- أبو تيج Aboutig «3» فيها نحو مائتي يهودي. وعلى مسيرة نصف يوم منها:- بنها Benha «4» يقيم بها نحو ستين يهوديا. ومنها إلى:- سمناط Semnat «5» وفيها نحو مائتي يهودي. وعلى مسيرة أربعة فراسخ منها:-

الدميرة Damira «1» فيها نحو سبعمائة يهودي. وعلى مسيرة خمسة أيام منها:- المحلة Mahalla «2» فيها نحو خمسمائة يهودي. ومنها إلى:- إسكندرية Alexandria «3» هي نو أمون أو أمون نو الواردة في التوراة. شيّدها الإسكندر المقدوني وجعلها من أجمل المدن وأمنعها

فأطلق عليها اسمه. وبظاهر المدينة مدرسة أرسطو أستاذ الإسكندر «1» . كانت مؤلفة من عشرين قسما يقصدها طلاب العلم من جميع أنحاء العالم لدرس فلسفة أرسطو. وبناؤها واسع جميل، معقود على أساطين من رخام. ومدينة إسكندرية مشيدة على طيقان معقودة، تحتها الكهوف والمغاور. وشوارعها مستقيمة لا يحد البصر آخرها لطولها. فالشارع الممتد من رشيد إلى باب البحر ينوف على الميل طولا. وفي مرساها رصيف يمتد في البحر إلى مسافة ميل «2» أيضا. وفي إسكندرية برج مرتفع يدعى «المنارة» ويسميه العرب «منار الإسكندرية «3» » وقديما كان في أعلى البرج مرايا من زجاج، تراقب

بوساطتها مراكب القرصان القادمة من أنحاء الروم وبلاد المغرب، من مسافة خمسين ميلا عن الشاطئ، فتتخذ الأهبة لمنازلتها. وحدث بعد وفاة الإسكندر بعصور عديدة، أن قدم إسكندرية مركب يقوده ملاح رومي ذو حيلة ودهاء يدعى تيودرس، وكانت بلاد الروم يومئذ محكومة من مصر. فأحضر الرومي لملك مصر تحفا وهدايا نفيسة من فضة وذهب وأثواب الحرير، وألقى مرساه بإزاء المنار، في الموضع الذي ترسو السفائن القادمة من وراء البحر. ثم تودد إلى حارس المنار وصار يأدب له المآدب، يدعو إليها أعوانه أيضا حتى توثقت عرى الصداقة بين الاثنين. وفي ذات يوم كان حارس المنار وأعوانه يعاقرون الخمر عند الملاح الرومي، فأغرقوا بالشراب حتى تولاهم سبات عميق. فانتهز الملاح فرصة نومهم فصعد إلى أعلى المنار ومعه عبيده فحطموا المرايا ولاذوا بالفرار في جنح الظلام. وبعدها صار الروم يغيرون بسفنهم الكبيرة فاستولوا على جزيرتي إقريطش (كريت) وقبرص فدخلتا في حكم الروم إلى يومنا هذا. فلم يعد بإمكان أهل مصر الوقوف بوجه الروم.

ولا يزال منار الإسكندرية يهدي السفائن الغادية والرائحة، ويشاهد عن بعد مائة ميل نهارا «1» وفي الليل ينبعث منه نور يهتدي به الملاحون. وإسكندرية بلدة تجارية فيها أسواق لجميع الأمم. يؤمها التجار من الممالك النصرانية «2» كافة. من البندقية، والأنبرذية وطسقانية وأفولية وأمالفي وصقلية وقلورية ورومانية وخزرية والبجناقية وهنغارية وبلغارية وراغوسة وخرواتية وصقلابونية وروسية وألمانية وسكسونية والدانمرك وكورلندة والنورجة وفريزية وأسكوتية وإنكلترة وويلز وفلندر وهينولت ونورمندية وفرنسة وبواتو وأنجو وبرجونية وبروفنسية وجنوة وبيزة وغسقونية وأرغون ونبارة وعدوة الغرب وإفريقية وجزيرة العرب

ونواحي الهند وزويلة والحبشة وليبية واليمن والعراق والشام واليونان المعروفين بالروم والترك. وتأتيها من الهند التوابل والعطور بأنواعها فيشتريها تجار النصارى. ولتجار كل أمة فندقهم الخاص بهم، وهم في ضجة وجلبة يبيعون ويشترون. وبظاهر المدينة، على شاطئ البحر، يشاهد عمود كبير من رخام. عليه صور الطير والحيوان وكتابات ورموز قديمة، ليس بميسور أحد اكتناه طلاسمها «1» ، ويقال: إنها قبر ملك عاش قبل الطوفان، يبلغ طوله خمسة عشر شبرا بالطول وستة أشبار بالعرض. ويعيش في إسكندرية نحو 3000 يهودي. وعلى مسيرة يومين منها:- دمياط Dimiatta «2» أو كفتور الواردة في التوراة. فيها نحو مائتي يهودي وتبعد مسيرة ثلاثة أيام عن بحيرة التماسيح. ومنها إلى:- سنباط Sanbat «3» حيث يزرع الكتان. وأهلها ينسجون منه الأثواب الناعمة ويتجرون بها مع جميع أنحاء العالم. وعلى مسيرة

أربعة أيام منها:- إيلة Ailat «1» أو إيليم الواردة في التوراة. فيها مضارب الأعراب الذين يسكنون الصحراء. وعلى بعد يومين منها:- رفيديم Rephidim «2» سكانها من العرب وليس فيها يهود. تبعد مسيرة يوم عن طور سيناء، وهو جبل صغير في قمته دير للرهبان السريان. وفي أسفله قرية صغيرة تدعى «الطور» يتفاهم أهلها بالآرامية. تبعد عن مصر مسيرة خمسة أيام وعن بحر القلزم مسيرة يوم واحد. وبحر القلزم فرع من بحر الهند. ومنها كانت عودتنا إلى دمياط وتنيس أو حانيس «3» الواردة في التوراة، حيث يقيم نحو أربعين يهوديا. وهي جزيرة يستدير بها البحر. وهنا انتهى مقامنا في أرض مصر فركبنا البحر. وبعد مسيرة عشرين يوما بلغنا:-

مسينة Messina «1» هي أول جزيرة صقلية. موقعها عند مضيق لونير «2» الذي يفصلها عن قلورية (كلابرية) . يقيم بها نحو مائتي يهودي وهي بلدة كلها خيرات ورياض وبساتين. وفي مينائها يجتمع حجاج النصارى قبل إقلاعهم إلى القدس، بالنظر لموقعها الممتاز. وعلى مسيرة يومين منها:- بلرمو Palermo «3» البلدة الكبيرة التي تبلغ استدارتها ميلين بالطول ومثلها بالعرض. يقيم بها نحو 1500 يهودي مع كثير من النصارى والمسلمين. وتكثر في هذه المدينة العيون والوديان وحقول الحنطة والشعير. وبساتين الأشجار المثمرة مما لا مثيل له في جميع مدن صقلية. وفيها

قصر الملك وليم «1» ، ومقر الوصي على عرشه. وتعرف هذه البلدة بالحصينة Al Hacina وفيها خزان كبير للماء يعرف بالبحيرة Al Buhira تحتوي من ضروب السمك الشئ الكثير. فيخرج إليها الملك للنزهة، بقوارب أنيقة موشاة بفضة وذهب وتخرج معه نساء قصره. وهذا القصر بناء فخم. جدرانه ذات نقوش بديعة مموهة بالذهب والفضة. وبلاطته من رخام ملون بجميع الألوان المعروفة. وهذه البلدة من أعمال جزيرة صقلية، حيث يحتشد حجاج النصارى. أما سائر مدنها فسراكوزة وكتانية ومرسالة وبترالية وترباني. وتبلغ استدارة الجزيرة مسيرة ستة أيام. وفي ترباني يوجد المرجان «2» المعروف. وكان سفرنا من هذه الجزيرة بطريق البحر. وبعد مسيرة ثلاثة أيام بلغنا روميه، ومنها سافرنا بطريق البر إلى لوكا، وهي على مسيرة اثني عشر يوما من بردين «3» بطريق جبل موريان «4» والمفاوز الإيطالية. وعند بردين تبدأ تخوم ألمانية الواقعة بين الجبال والهضاب. وتقيم أغلب الجاليات اليهودية في ألمانية على ضفاف نهر الراين «5»

من كولونية «1» إلى رجنسبورغ «2» ومسيرتها خمسة عشر يوما. ويسمي اليهود هذه المملكة أشكناز «3» وفيها مدن عظيمة بها جماعات مهمة من اليهود. وأهم هذه المدن متز وتريفس الواقعتان على ضفاف الموزيل وكوبلنز وأندرناخ وبونة وبنجن ومونستر وفورمس. «4» وفي هذه المدن عدد كبير من العلماء. والجاليات اليهودية فيها على علاقات طيبة بعضها مع البعض الآخر. وأفرادها كرماء مضيافون، يقرون الضيف ويكرمون وفادته. وهم على ما هم فيه من ضيق شديد، يشد بعضهم أزر بعض ويجددون الأمل في أن يوم الخلاص لا بد آت مثل رجع البصر «5» . فيتبادلون الرسائل لتقوية العزائم والتمسك بشريعة موسى (ع) . وبينهم جماعة يرتدون السواد ويقيمون الصلوات من أجل إخوانهم «6» .

وهناك من المدن غير التي ذكرناها شتر اسبورغ وفور سبورغ ومنترن وبمبرغ وفرايزنغ «1» في أقصى حدود ألمانية. ووراء هذه الحدود تقع بوهيمية حيث مدينة براغ وتسمى تلك البلاد صقلبونية «2» ، وأهلها يبيعون أولادهم للخدمة في مختلف الأمم والشعوب. ووراء تلك البلاد تقع أراضي روسية. وهي واسعة الأرجاء تمتد من نواحي براغ إلى كييف، المدينة الكبرى الواقعة عند حدود المملكتين. والمسافة بينهما وعرة المسالك، كثيرة الغابات، فيها نوع من الحيوان يسمى «فيفرجس «3» » يؤخذ منه أجود الفراء المعروف بالأرمين. ويشتد البرد شتاء في هذه الأنحاء، بحيث لا يقدر أحد على مغادرة مسكنه. تلك هي مملكة روسية. أما فرنسة، ويسميها اليهود صرفث «4» ، فتمتد من مدينة أو سير إلى مدينة باريس العاصمة، مسيرة ستة أيام. وتقع باريس على ضفة نهر السين. يحكمها ملك يدعى لويس «5» وفيها عدد من كبار علماء

اليهود ذوي الشهرة الواسعة، يعكفون على درس التوراة. وهم كرماء، يحسنون إلى ضيوفهم، وعلاقتهم بسائر إخوانهم على خير ما يكون من الصفاء. رحمهم الله ورحمنا، مصداقا لما جاء عنا وعنهم في كتابه المقدس. آمين. (انتهت رحلة بنيامين)

رابعا ملحقات من وضع المترجم* عزرا حداد*

ملحقات 1- السامريون. 2- القراؤون. 3- غاؤونية بغداد ورئاسة الجالوت في القرن الثاني عشر للميلاد. 4- فتنة داود بن الروحي.

رابعا ملحقات من وضع المترجم عزرا حداد

السامريون السامريون أو السامرية، فرقة دينية نشأت في فلسطين بعد سقوط مملكة إسرائيل باستيلاء تغلث فلاسر ملك آشور على مدينة السامرة عاصمتها، سنة 738 ق. م. فقد جرى هذا الفاتح على عادة كان ملوك الآشوريين يتبعونها في غزواتهم، فأجلى الإسرائيليين عن مواطنهم إلى نواحي الخابور وشمالي إيران، وأحل في محلهم قبائل جاء بها من أطراف بابل وكوثة وعوة وحماة وسفروايم «1» . فسمى اليهود هؤلاء المهاجرين بالكوتيين وسماهم اليونان بالسامريين «2» ، فغلب الاسم الأخير عليهم. ويروي الكتاب المقدس أن هؤلاء الأجانب الذين استوطنوا السامرة وما جاورها، نقلوا إليها الأوثان التي كانوا يعبدونها في مواطنهم الأصلية. فكان البابليون يعبدون الوثن «سكوت بنوت» والكوثيون «نرغل» وأهل حماة «أشيما» والعويون الصنمين «نبحز وترتق» وكان أهل سفروايم يقدمون الأضاحي البشرية إلى مولوخ، الذي يسمى عندهم «أدرملخ وعنملخ» . فسلط الله عليهم سباعا أخذت تفتك بهم، فطلبوا حماية رب المهجر الجديد الذي استوطنوه، ورفعوا أمرهم إلى ملك أشور،

فأمر بأن ينقل إليهم أحد الكهنة من أسرى الإسرائيليين ليعلمهم عبادة «يهوه» إله إسرائيل، فصاروا يعبدونه، حسب عقليتهم الوثنية، إلى جانب أربابهم وأصنامهم «1» . وكان طبيعيا ألا يقبل الإسرائيليون هؤلاء الغرباء إلى حظيرتهم، بل كانوا يعتبرونهم وثنيين مشركين، ويسمونهم «شومرونيم» أي السامريين. فقبل السامريون بهذه التسمية، وإن كانوا أولوها بمعنى «شمرنيم أي المحافظين، ادعاء منهم أنهم كانوا المحافظين على شريعة موسى وأحكامها، وأن ديانتهم هي الدين الموسوي الأصلي «2» . وبمرور الأيام، ازداد بعد الشقة بين اليهود والسامريين، واستفحل أمر هؤلاء بعد ما أجلى بخت نصر اليهود إلى بابل (586 ق. م.) إذ أنشأ السامريون لنفسهم إدارة مستقلة في فلسطين، حتى إذا ما أذن كورش ملك الفرس لليهود بالعودة (538 ق. م) وشرعوا بتجديد بناء هيكل القدس (520 ق. م.) أثار السامريون ضجة كبيرة وقدموا احتجاجا إلى ملك الفرس، فصاروا سببا في تأخير البناء مدة «3» . فحنق اليهود حنقا شديدا على السامريين، فحرموا الزواج من بناتهم، وأجبروا المتزوجين بالسامريات منهم على طلاقهن. وعلى هذا قام السامريون من جانبهم بحركة مقابلة. فشيدوا هيكلا مضاهيا لهيكل القدس فوق جبل الجرزيم (الطور) ، وأقاموا عليه كاهنا

من بعض كهنة اليهود الناقمين واتخذوا أسفار موسى كتابا مقدسا لهم، ورفضوا ما سواها من أسفار اليهود، وبذلك تم الانفصال بين اليهود والسامرية إلى غير ما عودة «1» . وفي سنة 330 ق. م. اجتاحت جيوش الإسكندر أراضي فلسطين، فأدخلت إليها البدع والتقاليد الهيلانية ووثنية الإغريق، وأخذ اليهود يقاومون هذه البدع المخالفة لدين التوحيد، فذاقوا من جراء ذلك اضطهادا شديدا من ملوك السلوقيين. أما السامريون فقد أظهروا تساهلا تجاه الوثنية الهيلانية، فنالوا بذلك عطف السلوقيين. واستغلوا هذا العطف ضد اليهود، بأن كرسوا معبدهم للإله جوبيتر الهيلاني «2» Jupiter Hellenius الأمر الذي أثار نقمة اليهود عليهم، فلقبوهم بفرقة المجاذيب «3» . فلما ثار اليهود لمعتقدهم وكيانهم بزعامة المكابين، وتخلصوا من ربقة السلوقيين (القرن الثاني ق. م.) ، وجدوا الفرصة الملائمة للانتقام من السامريين فغزوهم بقيادة يوحنة هرقنوس المكابي John Hyrcanus واستولوا على السامرة ودمروها وهدموا معبد السامرية على جبل جرزيم بعد مرور نحو ثلثمائة سنة على إنشائه (190 ق. م.) فجعلوا من يوم انتصارهم هذا على السامريين عيدا كانوا يحتفلون به كل عام، يعرف بيوم جرزيم «4» .

لكن العداء المستحكم بين السامريين ومناوئيهم اليهود، ظل كامنا كمون النار في الحجر وكان السامريون يتحينون الفرص للإيقاع بخصومهم ويستغلون التطورات السياسية لتنفيذ غايتهم. فعندما اجتاح فلسطين القائد الروماني بومبي، قابله السامريون بترحاب وتعاونوا معه في الاستيلاء على القدس (63 ق. م.) ، فكافأهم بأن أعاد إليهم استقلالهم ويسر لهم إعادة بناء هيكلهم. وبعد قرن من السنين قام اليهود بثورتهم الكبرى ضد رومية، فكان أول عمل قام به الثوار أنهم أغاروا على السامريين ودمّروا هيكلهم مرة أخرى. فثأر السامريون لأنفسهم بأن انضموا إلى الجيش الروماني الذي قدم لإخماد الثورة بقيادة إسبازيان، فصاروا يدلونه إلى مواطن الضعف في وسائل دفاع اليهود والسبل السرية المؤدية إلى معاقلهم، وعندئذ أعاد إسبازيان بناء بلدة شيكيم وأطلق عليها اسم) Flavia Neapolis نابلس) فصارت إدارتها رومانية. وفي سنة 132 م. جدّد القيصر أدريان معبد جوبيتر فوق الجرزيم، وهو المعبد الذي ما زالت أطلاله قائمة حتى اليوم، فأراد بذلك أن يصرف الأنظار عن هيكل اليهود في القدس بعد تدميره. ومن غريب أمر هؤلاء السامريين، أنهم على الرغم من الجفاء الذي كان مستحكما يومئذ بينهم وبين اليهود، وعلى تساهلهم في قبول البدع الهيلانية، لم يتحمسوا لظهور النصرانية ولم يقبلوا بها. لذلك لحق بهم الأذى الذي أصاب اليهود بعد القرن الرابع للميلاد، عندما أصبحت النصرانية دين الدولة الرسمي في الإمبراطورية الرومانية. فقد

سن القيصر تيودوروس ومن بعده جستنيان الأول القوانين الصارمة ضد السامريين، فاضطر عدد كبير منهم إلى اعتناق الديانة الحاكمة، فتحول هيكل جوبيتر فوق الجرزيم إلى كنيسة للعذراء (530 م.) فكادت السامرية أن تفنى عن آخرها «1» . وفي فترة الاضطهاد الذي كان يهدد السامريين بالاضمحلال، نشأ بينهم مصلح كبير يدعى «بابا ربة» فعقد مجلسا مؤلفا من سبعة حكماء، ثلاثة منهم يمثلون الأحبار وأربعة يمثلون العوام. فدوّن هذا المجلس التشريعي قواعد الطريقة السامرية وتقاليدها الموروثة، حفظا لها من الاندثار؛ كما أن حدة الجفاء المستحكم بين السامريين واليهود كانت قد خفت بتأثير موجة الاضطهاد التي غمرت الفريقين، فقربت المصائب بينهما، فلم يعد اليهود ينظرون إلى السامرية نظرهم إلى نحلة وثنية مثلما كانوا يفعلون في السابق، سيما وأن السامريين كانوا بمرور الزمن قد تركوا أوثانهم القديمة. فاعتبروهم فرقة يهودية ذات صبغة خاصة، بل صاروا يمتدحون تمسكهم ببعض الشعائر الموسوية وحرصهم الشديد على تطبيقها «2» . لكن هذا التقارب لم يلبث أن وقف عند حد معين. وفصلت الأمور الذي يحل لليهودي أن يتعاطاها مع السامري بفصل خاص ألحق بالتلمود يعرف بفصل الكوتيين (السامريين) . وفي القرن السابع للميلاد تقلص ظل الروم عن فلسطين بفضل الفتح

الإسلامي. فاستفاد اليهود والسامريون على السواء من تسامح المسلمين تجاه معتقد الشعوب المحكومة منهم فأصبح السامريون في عداد أهل الذمة. وفي أيام الدولة الفاطمية أصاب السامريون عزا ورفاهة. فكان يحكمهم عامل سامري من صفورية يدعى «تقوى بن إسحاق» (أواخر القرن العاشر للميلاد) . ويحدثنا مؤرخو العرب عن وجود جماعات مرفهة منهم في الشام ومصر. وهناك رسالة من سنة 1214 م. تدل على الشأن الذي بلغته هذه الطائفة في نابلس «1» . والظاهر أن الحملة الصليبية التي أهلكت عددا غفيرا من اليهود والمسلمين في فلسطين لم تؤثر كثيرا على السامريين. فقد وجد بنيامين الذي زار مواطنهم قرابة سنة 1170 م. نحو ألف عائلة منهم في نابلس و 200 في قيسارية و 300 في عسقلان و 400 في دمشق، كما يحدثنا عن احتفالهم بعيد الفصح على شكل ما هو معروف عنهم في الوقت الحاضر. أما قوله بأن الكتابة السامرية تنقصها ثلاثة أحرف فلا صحة له. وكل ما هناك هو أن السامريين قد احتفظوا بالخط العبراني القديم. في حين اقتبس اليهود الخط الآشوري المربع بعد عودتهم من سبى بابل «2» . والسامريون موحدون، لا ريب في توحيدهم. واعتقادهم راسخ في أنهم من بني إسرائيل من آل يوسف الصديق. وهم لا يعترفون بغير أسفار موسى الخمسة من الكتاب المقدس، يتبعون نصوصها ومنطوقها

الحرفي، شأنهم بذلك شأن القرائين في عدم اتباعهم أحكام التلمود. فهم شديد والحرص على حرمة السبت. لا يرى عندهم فيه نار أو نور. ويصومون يوم الكفارة مثل سائر اليهود، لكنهم يتشددون به فلا يستثنون منه حتى الأطفال والمرتضعين. وفي عيد الفصح يحجون جبل الجرزيم فينحرون الأضاحي مثلما كان يفعل الإسرائيليون قديما على جبل القدس. وهم يسمون الحجر الذي ينحرون عليه أضحيتهم بالصخرة، تشبها بالصخرة المعروفة في الحرم الشريف. والسامريون مثل سائر اليهود، يؤمنون بيوم القيامة وبوجود الملائكة، وظهور المسيح في آخر الأيام لكنهم يزعمون أنه سيكون من آل يوسف، على حين يعتقد اليهود أنه من آل داود. وباعتقاد السامرية أن هذا المسيح المنتظر سيموت عندما يبلغ العشرين بعد المائة من عمره. وبعد دفنه تقوم القيامة ويحل يوم الدين. وقد عني بأخبار هذه الفرقة عدد كبير من الرحالة الأوروبيين في القرون الوسطى والحديثة. وفي سنة 1584 م. عثر العلامة سكاليجر Scaliger في القاهرة على تقويمين قديمين للسامريين كما وجد في غزة مخطوطات خاصة بهم فوضع على إثر ذلك أول رسالة علمية في السامرية وتاريخها وتقاليدها. وبعده بربع قرن نشر عالم إيطالي النص الأصلي لنسخة التوراة السامرية كان قد عثر عليها في دمشق، فأثار نشرها اهتمام المحققين، وكتبوا عنها البحوث المطولة. ولا يزال النقابون يعثرون بين حين وآخر على آثار وكتابات سامرية قديمة، فيها ما يلقي

القراؤون

ضوءا جديدا على تاريخ هذه الطائفة التي استطاعت أن تحافظ على كيانها أكثر من عشرين قرنا. ويقيم اليوم أبناء هذه الفرقة في نابلس وضواحيها، وقد تقلّص عددهم إلى نحو خمسين عائلة. وهم يحترفون بعض المهن الصغيرة ويبيعون العاديات التي يزعمون قدمها، للسياح والزوار الذين يقصدونهم من أوروبة وإمريكا. بل إن السامريين أنفسهم قد أصبحوا أكثر شبها بالآثار القديمة التي يبيعونها، وقد لا يمر وقت طويل قبلما يسدل الستار نهائيا على آخر أبناء هذه الطائفة السامية القديمة. القراؤون القراؤون ويعرفون بالعنانية أيضا، فرقة من اليهود أسسها في العراق عنان بن داود المتوفي في حدود سنتي 790- 800 م. بنتيجة خلاف نشب حول توليته منصب رأس الجالوت. وحكاية هذا الخلاف، أن رأس الجالوت صموئيل بن حسداي توفي سنة 671 م. من غير أن يعقّب ولدا يخلفه في منصبه وعلى هذا عقد علماء اليهود مجلسا برئاسة الأخوين يهوداي البصير بن نحمن عميد مدرسة سورا ودوداي بن نحمن عميد مدرسة فومبديثة (الأنبار) . وكان عنان أرجح المرشحين لتولي هذا الممنصب السياسي العلمي الخطير. لكن عددا من أعضاء المجلس ذكروا عنه فساد السيرة وسوء الأخلاق وقلة التقوى، فرجحوا عليه أخاه الأصغر حنانية بن داود. فثارت نقمة عنان على هذا

القرار الذي عده غمطا لحقوقة، وقرر الخروج على الرّابيّين وشجب تعاليمهم ورفض تلمودهم. وكان العراق يومئذ، في خلافة أبي جعفر المنصور، يحفل بمختلف الميول والنزعات الفلسفية، بفضل احتكاك الفكر الإسلامي بثقافة الفرس واليونان. وكان بعض علماء اليهود قد تأثروا بآراء المعتزلة وأصحاب «الكلام» من المسلمين، فصاروا ينتقدون تعاليم الرّابيّين ويتحفزون للخروج على أحكام التلمود وقيوده. وكان على رأس هذه الحركة الفكرية الجديدة ثلاثة من علماء اليهود هم الرّابيّون إفرايم، وأليشع المعلم، وحنوكة، فوجدوا بثورة عنان ضالتهم المنشودة، بالنظر لمقامه ونفوذه الذي كاد أن يرتفع به إلى رئاسة الجالوت، فنصبوه على رأس حركتهم، وصاروا يعرفون بالقرائين أو بني المقرأ «1» إشارة إلى تمسكهم بالمعنى الحرفي للتوراة ورفضهم ما عداها من كتب التشريع الإسرائيلي «2» وتمييزا لهم عن اليهود الربانيين الذين يتبعون تعاليم التلمود في شرح وتفسير أحكام التوراة. وكان طبيعيا أن تقوم قيامة الرّابيّين على عنان وأصحابه. فانبروا يكافحون بدعته ويقاومون نحلته بما أوتوا من حول وطول، قبلما يستفحل أمرها ويشتد ساعدها. فرفع رأس الجالوت قضية عنان إلى الخليفة أبي جعفر المنصور. وكان الخليفة يومئذ يتوجس شرا من

أصحاب البدع الفكرية والمذهبية الجديدة، ويرى فيها مصدرا للفتن والقلاقل في مملكته الفتية. أما من ناحية اليهود، فقد تذكر الخليفة الشقاق الذي تركته بينهم فتنة أبي عيسى إسحاق بن يعقوب عبيد الله الأصبهاني «1» في أول حكمه. فوجد في دعوة عنان فاتحة شغب وشحناء في وقت كانت الدولة بحاجة إلى الاستقرار بين مختلف عناصرها، لذلك أمر بحبس عنان بن داود بتهمة ثورته على رأس الجالوت، صاحب السلطة الشرعية على أبناء ملته «2» . ويروي مؤرخو الفرقة العنانية أن زعيمهم داود في أثناء مكوثه في السجن، تلاقى مع الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت، وكان يومئذ سجينا مثله لأسباب لا محل لشرحها هنا «3» فقصّ عليه عنان قصته، فأشار عليه الإمام بأن يدّعي أنه ليس ثائرا على رأس الجالوت، وأنه صاحب دين قائم بنفسه لا علاقة له بدين اليهود، لذلك فإن من حق جماعته أن تتمتع بحرية المعتقد شأن سائر أهل الذمة في المملكة الإسلامية. ويقال كذلك إن أصحاب عنان كانوا قد بذلوا من جانبهم المال الوفير لإنقاذ رئيسهم، فآل الأمر إلى إطلاق سراحه، لكن الخليفة اشترط عليه أن يبتعد وأتباعه عن مقر رأس الجالوت، وأن يجعل مقامه فلسطين «4» .

وفي القدس شيد عنان لجماعته كنيسا ظل قائما حتى أيام الحروب الصليبية. ووضع كتابين ضمنهما أحكام طريقته، الأول يدعى «كتاب الفرائض» والثاني «كتاب الفذلكة» . وكان في جميع ما يكتبه ويقوله يتهجم على التلمود وتعاليم الرّابيّين، ويتهمهم بتزييف الشريعة الموسوية بتفسيرها على وجه يخالف ما جاء في نص التوراة. فازدادت الشقة بعدا بين القرائين والرّابيّين. على أن هؤلاء المنشقين على التلمود لزعمهم أنه ثقيل القيود والأحكام، لم يلبثوا أن قيدوا أنفسهم بنواميس أشد صرامة وأثقل قيودا من بنود التلمود. لأن ابتعادهم عن الاجتهاد والسير بمقتضى تطور الأحوال والزمان جعلهم جامدين على القديم، متمسكين بأمور عفا عليها الدهر وأبطل مفعولها تقدم الأفكار وتطور الحياة الاجتماعية. لكنهم فعلوا ذلك مندفعين بنزوة التعصب الشديد ضد الرّابيّين وكراهيتهم لهم. ومن المأثور عن عنان قوله: «لو كنت أحمل أرباب التلمود في بطني، لقتلت نفسي وقتلتهم معي.» «1» . وتولى زعامة القرائين بعد وفاة عنان، ولده شاؤل فحفيده يوشية. لكن الفرقة لم تستطع أن تحتفظ بوحدتها، فانشقت على نفسها وتفرعت إلى شيع وجماعات عديدة. وكان الرّابيّون لا يتركون فرصة إلا استغلوها لمهاجمة بدعة القرائين. فاتهموهم بالكفر والزندقة والمروق عن الدين، وعدوهم غرباء عن اليهودية وحرموا الاتصال بهم والتزوّج من بناتهم. وقد اشتهر العالم الفيلسوف سعيد الفيومي الرّابي الشهير

(792- 942) بشدة بلائه في إفحام القرائين ودحض مفترياتهم على التلمود وأحكامه. غير أن هذه المعارك المنطقية، وكان للرّابيّين فيها اليد الطولى، لم تحل دون انتشار القرائية واشتداد ساعدها. فقد امتدت فروعها من فلسطين إلى سورية وأصبح لها في العراق أتباع وأشياع. واتجهت نحو الشرق، فكان لها في خراسان والجبل دعاة وأنصار. ثم بلغت شواطيء البوسفور وانتقلت إلى شبه جزيرة القرم. أما في الغرب فاستوطنت مصر وإسكندرية، ومنها تسربت إلى إسبانية سنة 950 م. وقد بلغ من انتشارها في مصر أن أصبح القراؤون فيها في القرن الثالث عشر للميلاد (السابع للهجرة) يفوقون الرّابيّين عدا. أما في إسبانية فقد أثار انتشار بدعة القرائية بين يهودها ضجة كبيرة فاشتد الكفاح وعظمت الفتنة بين الفريقين. فرفع كبير اليهود يهوذا بن عزرا الشكوى من القرائين إلى الأذفنش (الفونسو) ملك قشتالة، فأصدر الأمر بطرد القرائين (1150- 1157 م) . وفي القرن الرابع عشر بلغت القرائية أوروبة الشمالية؛ فصار لها أتباع على شواطيء البلطيق في لتوانية. ونشأت طائفة منهم في تروكي من أعمال فلنو في بولندة، بقيت محتفظة بكيانها حتى أواخر القرن الثامن عشر. ثم ظهرت طائفة منهم في غاليسية وفلهينية. أما في القرم فقد نبه شأن القرائين وظهر بينهم الأدباء والعلماء والمؤرخون. وعندما ضمت روسية القيصرية إقليم القرم إلى إمبراطوريتها سنة 1783 م. أعلن القراؤون أنهم لا يرتبطون واليهود بصلة قرابة أو دين

فتحاشوا بذلك شر القوانين الصارمة التي سنتها روسية ضد اليهود. ولما اشتد اضطهاد الروس لليهود في القرن التاسع عشر بدافع التعصب الديني؛ أعلن رئيس القرائين في روسية إبراهيم فركوفتش؛ إن أتباع القرائية هم من أسباط بني إسرائيل المفقودة؛ هاجروا إلى القرم منذ القرن السابع قبل الميلاد، وإنهم على هذا، لم يكونوا في فلسطين عندما صلب السيد المسيح. وظل هذا شأن القرائين في روسية حتى نشوب الثورة البلشفية سنة 1917. ويدل آخر إحصاء للقرائين (1933) أن عددهم في العالم لا يزيد على اثني عشر ألفا. يقيم عشرة آلاف منهم في القرم، والباقون منتشرون في استانبول وبولندة ومصر وفي بعض أنحاء كردستان «1» . ومن أخص الأمور الدينية التي يخالف القراؤون بها سائر اليهود، تركهم قواعد التقويم اليهودي في تعيين مواسم الأعياد. فالشهر لا يثبت عندهم إلا إذا قرر الشهود العدول رؤية الهلال، وبذلك نشأ اختلاف بين أيام أعيادهم وأعياد اليهود. ومنها تشددهم الصارم بحرمة السبت وتمسكهم الحرفي بمنطوق الآية القائلة: «ليلزمن كل مكانه، لا يخرج أحد من مكانه في اليوم السابع «2» » . فهم لذلك لا يأخذون بالتسهيلات الكثيرة الواردة في التلمود عن أحكام يوم السبت. فلا يجيزون فيه التنقل داخل حدود البلد الذي يقيمون فيه ولا يسمحون بإجراء فريضة الختان أو القيام ببعض الأمور التي

تستدعيها الضرورة الاجتماعية أو الصحية، كالإضاءة واستدعاء الطبيب أو إحضار الدواء وطبخ الطعام لمريض. فهم يقضون ليلة السبت في ظلام دامس ويمتنعون نهارا عن كل حركة مهما كانت بسيطة، ويفرضون على أنفسهم قيودا ثقيلة لا تجيزها مقتضيات الحياة ولا يجيزها الشرع الإسرائيلي، مما يطول شرحه.

غاؤونية بغداد ورئاسة الجالوت في القرن الثاني عشر للميلاد

غاؤونية بغداد ورئاسة الجالوت في القرن الثاني عشر للميلاد منذ أن استقر اليهود في العراق بعد سبي بابل، كانوا يوكلون بأمرهم عميدا يرجعون إليه في أمورهم وينيطون به تنظيم شؤون جماعاتهم الغفيرة التي كانت منتشرة في مدن الفرات ودساكره وقراه. وكان اليهود يطلقون على هذا العميد لقب «ريش جالوتا» وهي لفظة بالآرامية تعني رأس الجالية، وعنها أخذ العرب لفظة رأس الجالوت. وتقول التقاليد اليهودية إن أول من تقلّد منصب رئاسة الجالوت على يهود العراق هو يكنية ملك يهوذا الذي أسره نبوكد نصر ملك بابل في حدود سنة 577 ق. م. ثم أطلق سراحه الملك أويل مروداخ في السنة السابعة والثلاثين من إسارته ونصبه رئيسيا على أبناء ملته المقيمين في شرقي الفرات كافة «1» . وعند ما استولى الفرس على العراق، منحوا الجالية اليهودية فيه نوعا من الحكم الذاتي، فصار رأس الجالوت يتمتع بالسلطة الواسعة على أبناء ملته. فقد أصبح من واجبه الإشراف على أمور طائفته وسير إدارتها والأخذ بما يؤول إلى إصلاحها وصلاحها، وتعيين قضاتها ومراقبة استتباب العدل والانتظام في محاكمها، وتعيين مقدار الرسوم والضرائب الواجبة على الأفراد وجبايتها باسم الحكومة، وضمان تنفيذ القوانين التي تصدرها الدولة، وتحسين العلاقات بين الجالية اليهودية

والسلطة الحاكمة، ومعاقبة من يخالف أنظمتها، والاقتصاص من الخارجين على أحكام الدين، إلى غير ذلك من الشؤون الإدارية والدينية والاجتماعية. وكانت التقاليد تقضي بأن يكون رأس الجالوت من آل الملك داود (ع) وأن ينتقل منصبه إلى الذكور من ذريته. وإذا مات بلا عقب انتقل منصبه إلى من فيه الكفاءة من أبناء أسرته. أما في الشؤون الدينية، فكان يهود العراق يرجعون إلى علماء فلسطين، يتلقون فتاويهم ويقدمون إلى مدارسهم العلمية المال اللازم لتمشية أمورها وإعالة طلابها. وكان قد نشأ في فلسطين طبقة من العلماء يعرفون بالتنائيم باشروا شرح أحكام التوراة وتدوين قوانينها وتبويب شرائعها في مجموعة تعرف بالمشنة وكان الفراغ من تدوينها في طبرية سنة 200 م، بعناية الحبر الكبير يهوذا بن شمعون الملقب بالربن الأقدس «1» (135- 220 م) . ثم نشأت في فلسطين طبقة ثانية من الأحبار يعرفون بالأمورائيم أي الأساتذة المحدثين، أخذوا يدرسون المشنة ويعلقون عليها التعليقات الضافية ويشرحون متونها شرحا وافيا يتناول شرائع اليهود وتقاليدهم وطقوسهم وتاريخهم. وقد جمعت هذه التعليقات والشروح في مجموعة صارت تعرف بالتلمود الأورشلمي. وكان الفراغ منه في أواخر القرن الثالث للميلاد. ولما اشتد ضغط الرومان على أحبار اليهود في فلسطين، فلم يعد بمستطاعهم الاستمرار على الدرس والبحث بحرية وأمان، اضطر عدد

كبير منهم إلى الهجرة إلى العراق، فنشأت على الفرات مدارس كبرى للأمورائيم في نهردعة (بجوار عنة) أولا، ومن بعدها في سورا (بجوار الحلة) وفي فومبديثة (بجوار الأنبار) . وفي هذا المحيط الذي كان يسوده الأمان والحرية الدينية المطلقة، استطاع الأمورائيم أن يشرحوا المشنة شرحا أكثر تفصيلا وأعم موضوعا مما اضطلع به علماء فلسطين. فصارت مجموعة الشروح العراقية تعرف بالتلمود البابلي. ومن مشاهير أحبار يهود العراق الذين عنوا بوضع هذا التلمود، هو الحبر «أبا أريخا» مؤسس مدرسة سورا المتوفى سنة 247 م. والحبر مار صموئيل الفلكي (165- 257 م) مؤسس مدرسة فومبديثة. وكان ختام التلمود البابلي سنة 499 م بعناية الحبرين أشي المتوفى سنة 427 م وربينه بن هناء المتوفى سنة 490 م. وبهما انتهى دور الأمورائيم. ومن بعدهم نشأت في العراق طبقة من العلماء يعرفون بالسبورائيم أي الأساتذة الشارحين، استمر نشاطهم العلمي في سورا وفومبديثة من سنة 500 إلى سنة 550 م. وكان أهم أعمالهم التعليق على التلمود وتنظيم أبوابه وفصوله بالشكل المعروف إلى يومنا هذا. * ثم نشأت طبقة أخرى من العلماء يعرفون بالغاؤونية «1» . كانت أهم أعمالهم إصدار الفتاوى الدينية ليهود الشرق والغرب، وكانت الأسئلة تتوارد عليهم من جميع الأقطار، وفتاويهم نافذة الكلمة عند جميع الطوائف يراجعون في شؤونهم الإدارية رؤساء

الجالوت كما بينا، أما أمورهم الدينية فكان ينظر بها رؤساء المدرستين العلميتين في سورا وفومبديثة. وكانت المدرسة تسمى عندهم «مثيبتا» وعنها أخذ العرب لفظة «المثيبة» وكانت مثيبة سورا أعلى مقاما من مثيبة فومبديثة وكان لرئيسها حق الأفضلية في المرتبة الدينية وفي انتخاب رأس الجالوت. وقد أصاب اليهود في أواخر أيام الدولة الساسانية اضطهاد شديد، واعتدي على حريتهم الدينية من جراء تعصب المجوس أتباع مزدك. وبلغ الاضطهاد أشده في حكم الملك قباذ الثاني، فقتل رأس الجالوت مار زطرة الثاني (521 م) وتوقف التدريس في مثيبتي سورا وفومبديثة. فلا بدع إذا وجدنا يهود العراق يستقبلون جيوش العرب الفاتحين استقبال المحررين. فارتفع عن كاهلهم نير الفرس الذي كان يتهددهم بالهلاك والدمار. فقد ضمن الخلفاء الراشدون لأهل الذمة، ومنهم اليهود، الأمان والحرية الدينية. ولم يعودوا ملزمين بأكثر من جزية يدفعونها إلى بيت المال. وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رض) تولى رئاسة الجالوت بستناي بن حنيناي سليل رؤساء الجالوت الأقدمين من آل داود، فأقره الخليفة في منصبه بكتاب عهد وجه إليه، فعادت لليهود حريتهم الدينية وانتظمت إدارتهم الداخلية (640 م.) «1» ويروي مؤرخو اليهود أنه عندما مر أمير المؤمنين الإمام

علي بن أبي طالب (رض) بمدينة فيروز شابور (الأنبار) خرج لاستقباله مار إسحاق رأس مثيبة فومبديثة بجمع غفير من اليهود يبلغ تسعين ألفا، لعرض الولاء والإخلاص، فأكرم أمير المؤمنين وفادته وأقره في منصبه وأعطاه الحقوق نفسها التي كان يتمتع بها جاثليق النصارى «1» . واستمرت الحالة على هذا المنوال طوال أيام حكم الدولة الأموية في الشام. ولما تأسست الدولة العباسية وعمرت بغداد سنة 763 م. (146 هـ.) انتقل إليها مقام رأس الجالوت ليكون على مقربة من قصر الخلافة، وظلت مدرستا سورا وفومبديثة توجهان اليهود في أمورهم الدينية. وقد أدرك اليهود عزا وبسطة في العيش في صدر الدولة العباسية، غير أن حالتهم ساءت كثيرا في خلافة المتوكل، إذ إنه أغلظ معاملة أهل الذمة وأجبرهم على لبس الغيار. ومنذ ذلك الحين انحط مقام رأس الجالوت وتسرب الضعف إلى مدرستي سورا وفومبديثة «2» وألغى نظام الوراثة في تعيين رأس الجالوت وتدخل الغاؤونيم في أمر انتخابه فنشبت من جراء ذلك قلاقل وفتن كثيرة بين اليهود أنفسهم ساعدت على تردي أحوالهم. وقد زادت الحالة سوءا بعد الانحطاط الذي عانته الخلافة العباسية من تدخل الأمراء المتغلبين. فقد مرت بالعراق شدائد ومحن في حكم البويهيين والسلاجقة، ولحق باليهود ما لحق بسائر سكان البلاد من

تخاذل وتقهقر، فصارت موارد مدارسهم الكبرى تتضاءل يوما بعد الآخر إلى أن أغلقت نهائيا في خلافة القادر بأمر الله (991- 1031 م.) وكان آخر رؤساء مدرسة سورا الغاؤون هاي بن شريرا المتوفى في حدود سنة 1038 م. وآخر رؤساء مدرسة فومبديثة صموئيل كوهين بن حفني المتوفي سنة 1034 م. ومن ثم انتقل مركز اليهود العلمي إلى الأندلس. وبعد فترة دامت مائة سنة، آل عرش الخلافة العباسية إلى المقتفي لأمر الله محمد. (531- 555/556 هـ. و 1136- 1160 م.) وكان من أعظم خلفاء بني العباس، إذ إنه قضى على نفوذ السلاجقة وأعاد للخلافة عزها وسؤددها ونفوذها السياسي إلى جانب نفوذها الديني. فقرر هذا الخليفة الحازم إعادة رئاسة الجالوت إلى سابق ما كانت عليه من رفعة ومقام. فأناط هذا المنصب بالثري العالم البغدادي سليمان بن حسداي، سليل آل الملك داود من جانب أمه، ووجّه إليه كتاب عهد ولاه به الرئاسة على جميع الطوائف اليهودية في شرقي الفرات. ومن ثم فتحت في بغداد مدارس علمية عديدة أهمها مثيبة «غاؤون يعقوب» عهد برئاستها إلى الحبر الرّابي إبراهيم، ومن بعده انتقلت إلى علي بن إسرائيل اللاوي (1152- 1160 م.) وهكذا نشأ جيل جديد من رؤساء المثيبة يعرفون بغاؤونية بغداد، ظلت مستمرة إلى أن سقطت الدولة العباسية. وبعد وفاة رأس الجالوت سليمان بن حسداي، انتقل منصبه إلى ولده دانيال، في خلافة أبي المظفر المستنجد بالله يوسف (1160- 1170 م.)

وانتقلت رئاسة المثيبة إلى الرابي صموئيل بن علي بن إسرائيل اللاوي الملقب بابن الدستور (1160- 1208) وفي أيام هذين الرئيسين كانت زيارة بنيامين لمدينة بغداد قرابة سنة 1168 م. فوجد الجماعة اليهودية فيها تنعم بالرفاهة والعلم والثراء في ظل الخلافة الوارف، فأسهب بوصف مدارسهم وموكب رأس جالوتهم بعبارات تنم عن إعجابه واغتباطه بما شاهده «1» . وفي سنة 1174 م. توفي رأس الجالوت دانيال من غير أن يخلّف ولدا يرث منصبه. فنشب على إثر ذلك خلاف بين داود وصموئيل ولدي أخيه، وكانا يومئذ في الموصل، حول التولية. فانتهز ابن الدستور رأس المثيبة هذه الفرصة، فضم منصب رأس الجالوت إلى منصبه. وبذلك أصبح رأس المثيبة المرجع الوحيد ليهود العراق والبلاد التي في شرقي الفرات، في أمورهم الإدارية والدينية. وقد اكتشفت في السنوات الأخيرة بين مخطوطات مكتبة لننغراد مجموعة من الرسائل التي وجهها الرئيس صموئيل بن علي إلى رؤساء اليهود في البلدان الداخلة في نفوذه الديني، تعد من أهم المصادر لتأريخ يهود العراق في القرن الثاني عشر للميلاد «2» . إن مؤرخي اليهود لا يكادون يذكرون شيئا عن رؤساء المثيبة الذين خلفوا صموئيل بن علي (ابن الدستور) . والأثر العبري الوحيد الذي لدينا عنهم هو ديوان شاعر يهودي عاش في بغداد في حدود سنتي

1195- 1250 م. يدعى إلعازر بن يعقوب البغدادي. ضمن ديوانه قصائد في مديح رؤساء المثيبة. أما في المصادر العربية فيعود الفضل في تعريفنا بهم إلى اثنين من مؤرخي بغداد في ذلك العهد، أحدهما أبو طالب علي بن أنجب تاج الدين المعروف بابن الساعي في كتابه «الجامع المختصر» ، والثاني أبو الفضل عبد الرزاق بن الفوطي البغدادي في كتابه «الحوادث الجامعة» . ويستفاد مما أورده ابن الساعي أن الذي خلف ابن الدستور في رئاسة المثيبة هو إلعازار بن هلال بن فهد ثم ولي من بعده دانيال بن إلعازار بن هبة الله الذي ولي رئاسة المثيبة في التاسع من شهر ذي القعدة سنة 605 هـ. (9/1208 م) في خلافة الناصر لدين الله العباسي. وقد أورد هذا المؤرخ نص كتاب العهدة الذي وجهه إليه الخليفة، ندرجه فيما يلي، لأنه من أهم الوثائق الخاصة بتأريخ يهود العراق في ذلك العهد «1» :

بسم الله الرحمن الرحيم «الحمد لله الواجب شكره. الغالب أمره. العلي شأنه. القوي سلطانه. السابغة نعمته. المتفرد بالجلال والاقتدار. المصرف على مشيئته مجاري الأقضية والاقتدار. الدال على وحدانيته ببديع فطرته. المانع لعجائب صنعته من أن يتقدر في الأوهام كنه معرفته. الهادي إلى سبل الرشاد من يشاء من خلقه. الهامي سحاب فضله على كل مقر بربوبيته عارف بحقه. الذي اصطفى محمدا (صلى الله عليه وسلم) وآله من أكرم أرومة وأعلى محتد وجرثومة. وأشرف العرب منصبا وأعزها قبيلا. وأوضحها في المكارم سبيلا. وأرسله إلى الأحمر والأسود نبيا. واختاره من أصناف الأمم عربيا. وأيده بالحكم أميا. وجعله منصورا بملائكته محميا. وأتبعه بالبرهان الساطع. والدليل القاطع. ونسخ بشريعته الملل السالفة والشرائع. فلم يزل (صلى الله عليه وسلم) وآله، بأمر الله صادعا. ولأنف الباطل جادعا. ولما أنزل الله مبلغا. ولجهده في نصح الأمة مستفرغا. فصلى الله عليه وعلى آله وعلى سلالة عمه ووارثه وصنو أبيه العباس الذي طهره الله من الأدناس. وفرض مودتهم وطاعتهم على جميع الناس. الخلفاء الراشدين. وأئمة الحق المجتهدين. صلة لا انقشاع لغمامها. ولا انقطاع لتواصل دوامها. والحمد لله الذي أصار إلى خليفته في أرضه. ونائبه في خلقه. الإمام المفترض الطاعة على سائر الأنام. الناصر لدين الله أمير المؤمنين، ووارث الأنبياء والمرسلين. حجة الله على الخلق أجمعين. من مواريث أنبيائه ومآثر خلفائه في أرضه

وأمنائه. ما هو أحق بحيازة مجده. وارتداء علائه. وأخذ ميثاق طاعته على الأمم في الأزل. وألزم الأواخر منهم ما ألزم الأول. وفرض على الخلق الاقتداء به والائتمام. وجاز له وراثة الخليفة عن الخليفة والإمام عن الإمام. زاد الله شرفا إلى شرفه. وأدام على العالمين ما منحهم به من شمول عدله، وحصانة كنفه. فالمسلم والذمي والمعاهد في ظل أياديه الشريفة وادعون. وفي رياض الأمانة راتعون. ومما يكلؤهم من عين رافته اليقظى هاجعون. لا يكدر لهم شرب ولا يذعر لهم سرب. وحكم عدله يوجب النظر العام في مناظر أمرهم. وجوامع مصالحهم. ورعاية جمهورهم. لما وكله الله تعالى إليه من سياسة عباده. وناطه بشريف آرائه واجتهاده. ولما ضرع دانيال بن إلعازار بن هبة الله في ترتيبه رأس مثيبة اليهود، عوضا عن إلعازار بن هلال بن فهد الدارج على قاعدته، وجاري عادته، وانتهى ما يتحلى به عند أهل نحلته، ويتصف به. واستحقاقه لما ضرع فيه بحسن طريقته منهم، وسلامة مذبه، رسم- أعلى الله تعالى المراسم الشريفة المقدسة المعظمة الممجدة المكرمة النبوية الإمامية الطاهرة الزكية الناصرة لدين الله، زادها الله جلالا ممتد الرواق، ونفاذا في الأقطار والآفاق- ترتيبه رأس مثيبة اليهود على عادة الدارج المشمار إليه، حيث كان ابن الدستور رأس مثيبة أيضا. وأن يكون له النظر في ما كان للدارج النظر فيه والولاية عليه، في جميع الأماكن التي جرت عادته بتوليها والتصرف فيها. وأن يتميز عن نظرائه وأشكاله باللبسة التي عهدت لأمثاله، وسبيل طوائف اليهود وحكامهم بمدينة السلام

وأكناف العراق، الانتهاء في ذلك إلي المأثور به والرجوع إلى قوله في توسط أمورهم، والعمل بموجبه. وأن يخرجوا إليه من الرسوم التي جرت عادة من تقدمه بها بالأماكن التي كان يتصرف فيها من غير معارضة له في ذلك، مع قيامه في ما يأتيه ويذره بشرائط الذمة والتزامه ومحافظته بالامتثال وبواجب الاعتصام والإجلال، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة. وكتب في تاسع ذي القعدة من سنة خمس وستمائة. والحمد لله وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الذي ختم النبيين، وهو سيد المرسلين المصطفى على سائر الخلق أجمعين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.» والظاهر أن رئاسة دانيال بن إلعازار كانت قصيرة الأجل، لم تستمر أكثر من عام واحد. إذ يذكر ابن الساعي في حوادث سنة 606 هـ (1210 م) خبر تولية هبة الله بن أبي الربيع الطبيب الفيلسوف، رئاسة المثيبة في خلافة الناصر أيضا، وهو في الستين من عمره «1» . ومن بعده ولي الرئاسة أبو الفتح إسحاق بن الشويخ. ذكر ابن الفوطي تاريخ وفاته في حوادث سنة 645 هـ (8/1247 م) أما تاريخ توليته فقد أغفلته الرواية العربية. غير أن بوزنانسكي يعين لذلك سنة 1221 م (618 هـ.) فيكون ابن الشويخ قد عاصر أربعة من خلفاء بني العباس هم الناصر والظاهر والمستنصر، وتوفي في السنة الثانية من خلافة المستعصم. والمظنون أنه الرئيس إسحاق بن إسرائيل الذي

يتحدث عنه يهوذا بن سليمان الحريزي صاحب المقامات الذي زار بغداد في حدود سنة 1221 م (618 هـ.) «1» وقد لفت نظرنا الأستاذ الدكتور مصطفى جواد إلى نسخة شمسية، لجزء من مخطوط قديم لعبد الرزاق بن الفوطي، صاحب الحوادث الجامعة، عنوانه «مجمع الآداب في معجم الألقاب» جاء في الورقة 290 منه ترجمة طريفة لابن الشويخ هذا نصها: «فخر الدولة أبو الفتح إسحاق ابن أبي البركات ابن الشويخ الإسرائيلي البغدادي، رأس المثيبة. كان حبرا عالما بأحكام التوراة، عارفا بالنجوم والحساب، مشكور الطريقة، جميل الأخلاق. قد تأدب واشتغل وحصل النحو واللغة. حضره جماعة من اليهود يتألمون من نواب صاحب الديوان معلى ابن الدباهي. فكتب إليه في المعنى. فوقع تاج الدين بقلمه على رأس رقعته: «يحقق حال رافعوها!» . فلما وقف فخر الدولة عليها، كتب على الرقعة وأعادها إليه: مذ كان همكم إسعاف مفتقر ... وجبر منكسر وبسط منقبض حكى يراعكمو بالطرس فعلكمو ... فليس ينكر منه رفع منخفض فقضى حوائجهم في الحال. توفي في عاشر شهر رمضان سنة 645، وحمل إلى جبل الطور، وكان قد جاوز الثمانين.» أهـ. وفي ديوان إلعازر بن يعقوب البغدادي قصيدة في رثاء رأس المثيبة إسحاق بن الشويخ تدل على ما كان لهذا الرئيس من مقام جليل في قلوب يهود بغداد. ويستبان من أبيات هذه القصيدة أنه كان لابن

الشويخ ولد يدعى إلعازر «1» . وولي رئاسة المثيبة بعد ابن الشويخ دانيال بن صموئيل كوهين بن أبي الربيع يذكر ابن الفوطي توليته في حوادث سنة 645 هـ. (1247 م.) في وزارة مؤيد الدين محمد بن العلقمي، وقاضي القضاة عبد الرحمن بن اللمغاني «2» . أما بوزناتسكي فيعين تاريخ توليته سنة 1240 م. (638 هـ.) «3» . ويمكن التوفيق بين القولين إذا فرضنا أن ابن أبي الربيع ولي رئاسة المثيبة قبل وفاة ابن الشويخ الذي ربما كان قد اعتزل منصبه لشيخوخته أو لمرض ألم برجله كما يظهر من ديوان إلعازر البغدادي «4» . ومن بعده ولي الرئاسة عالي بن زكرية الأربلي. يذكر ابن الفوطي توليته في حوادث سنة 648 هـ. (1250 م.) «5» ويسميه بوزنانسكي «على الثاني» تمييزا له عن علي بن إسرائيل اللاوي الذي سبق ذكره «6» . وفي ديوان إلعازر البغدادي قصائد في مدحه يستبان منها أن ولده زكرية كان يشغل منصب نائب رأس المثيبة على عهده «7» . عند هذا الحد تقف المصادر العربية عن رؤساء اليهود. فقد اضطربت الحال يومئذ في بغداد من جراء اقتراب جيوش المغول، وأصبح

ابن الفوطي وأمثاله في شغل عن ذكر رأس مثيبة بغداد، في وقت أمسى مصير الخلافة نفسها معلقا في كفة الأقدار. والذي نفهمه من ديوان إلعازر البغدادي أن الذي تولى رئاسة المثيبة بعد عالي بن زكرية، يدعى صموئيل بن دانيال كوهين ابن أبي الربيع «1» . وفي عهده دخل المغول مدينة بغداد سنة 656 هـ. (1258 م.) فانتهت الخلافة العباسية وقضي على مراسيمها وأسبل الستار على غاؤونية بغداد ومدارسها التي ازدهت قرنا كاملا من السنين «2» .

فتنة داود بن الروحي مسيح العمادية الدجال

فتنة داود بن الروحي مسيح العمادية الدجال ليست الفتنة التي أثارها في العمادية داود بن الروحي المسيح الدجال، فريدة ببابها في تاريخ اليهود. فقد ظهر عندهم في مختلف العصور، غير واحد ممن ادعى النبوة وزعم أنه المسيح المنتظر. وكان ظهور أمثال هؤلاء الدجالين، في أغلب الأحيان، يعقب إحدى موجات الاضطهاد التي كانت تطغى على اليهود بين وقت وآخر. فكان السذج منهم ينجرفون وراء مثل هذه الدعوات بدافع الضيق الشديد، وكثيرا ما كان ظهور أولئك الأدعياء سببا في إراقة الدماء وأخذ البريء بجريرة المذنب، فضلا عن رد الفعل السيئ الذي كانت تخلّفه في النفوس مثل هذه الأوهام عندما يظهر زيفها وينكشف بطلانها. ومن أشهر أولئك المسيحين* الأدعياء الذين نشأوا بين اليهود في الشرق الإسلامي خلال القرون الوسطى، دجال يدعى سيرينيوس ظهر في الشام «1» . في آخر خلافة عمر بن عبد العزيز وأول خلافة يزيد الثاني (720- 724 م) وآخر يدعى عبيد الله أبا عيسى إسحاق بن يعقوب الأصبهاني الذي ابتدأ دعوته في زمن آخر ملوك بني أمية مروان بن محمد (744- 750 م) «2» ومنهم أيضا داود بن الروحي موضوع بحثنا.

إن مؤرخي اليهود لا يكادون يذكرون عن داود بن الروحي أكثر مما أورده بنيامين في رحلته «1» . فهو أول من روى هذه الحادثة، وعنه أخذ كل من كتب عنها من المتقدمين والمتأخرين. أما المصادر العربية فلا تعرف شيئا عن هذا الحادث. والمرجع الوحيد الذي يتناوله بشيء من التفصيل، رسالة عنوانها «بذل المجهود في إفحام اليهود «2» » من تصنيف السموأل بن يحيى المغربي الطبيب الذي اعتنق الإسلام في بغداد سنة 558 هـ. (1162 م) وارتحل عنها إلى أذربيجان حيث خدم بيت بهلوان وأمراء دولتهم، وتوفي في مراغة سنة 570 هـ (1174 م) وعلى هذا يكون قد شاهد حوادث هذه الفتنة عن كثب، فأدرجها بفصل خاص من رسالته، لأنه وجد في موضوعها وسيلة للطعن في اليهود. أما تاريخ وقوع الفتنة فيمكن تحديده في سنة 1160 م، في خلافة المقتفي لأمر الله العباسي. وهذا ظاهر من قول بنيامين «وقبل عشر سنوات قامت في العمادية فتنة داود بن الروحي» ولما كان من المقرر أن بنيامين زار إيران قرابة سنة 1170 م. وجب أن يكون التاريخ الذي نعينه لوقوع الحادث صحيحا. كذلك يستبان مما أورده بنيامين أن داود كان قد تلقى العلم في بغداد عن حسداي رأس الجالوت وعن علي رأس المثيبة. ولما كان علي بن إسرائيل اللاوي قد تولى رئاسة المثيبة من سنة 1152 إلى سنة 1160 م. أمكن القول بأن داود بن الروحي قام

بحركته في حدود هذه السنة «1» أما السموأل بن عباس فيكتفي بالقول «وهو جرى في زماننا» أي قبيل اعتناقه الإسلام سنة 1162 م. وإذا كان بنيامين وابن عباس يتفقان في منشأ هذه الفتنة وأسبابها، فإنهما يختلفان في أسلوب روايتها. فالأول ينسب إلى ابن الروحي الخوارق والمعجزات، في حين يتحامل الثاني عليه بالطعن والمذمات. أما وقد طالع القارئ رواية بنيامين في متن الرحلة (ص 154- 157) نرى من المناسب أن نلخص فيما يلي رواية ابن عباس، لتكوين فكرة شاملة عن مسيح العمادية الدجال: نشأ داود بن سليمان المعروف بابن الروحي في سواد الموصل قرابة منتصف القرن السادس للهجرة (الثاني عشر للميلاد) . وكان شابا وسيما ذا جمال في صورته. فلما بلغ أشده انتقل إلى بغداد حيث تفقه بعلوم اليهود في مدارسهم الكبرى، كما برع في علوم العرب ولغتهم، يضاف إلى ذلك، على قول بنيامين، إتقانه فنون السحر والشعوذة. ومن ثم عاد إلى العمادية حيث اتصل بصاحب قلعتها فأصبح من أصدقائه المقربين، لتوهم الوالي فيه ديانة كان يتظاهر بها. فطمع هذا المحتال في جانب الوالي واستضعف عقله فتوهم أنه يتمكن من الوثوب على القلعة وأخذها، وأنها تبقى له معقلا حصينا، ودخل في روعه أنه المسيح المنتظر. فكانت أول خطوة اتخذها لتحقيق غايته أنه كتب إلى

يهود العجم والقرائين في نواحي أذربيجان وما والاها، اعتقادا منه أنهم أكثر سذاجة من سائر اليهود، وذكر في كتابه أنه قائم على إنقاذهم، وخاطبهم بأنواع المكر والخديعة. فمن بعض فصول كتبه التي يقول ابن عباس أنه رآها، ما هذا معناه: «ولعلكم تقولون: هذا لأي شيء قد استفزنا، لحرب أم لقتال؟ .... لا. لسنا نريدكم لحرب ولا لقتال. بل لتكونوا واقفين بين يدي هذا القائم، ليراكم هناك من يخشاه من رسل الملوك الذين ببابه ... وينبغي أن يكون مع كل واحد منكم سيف أو غيره من آلات الحرب، يخفيه تحت أثوابه» «1» . ويستمر ابن عباس في روايته، إن يهود الأعاجم وأهل نواحي العمادية (كذا) وسواد الموصل قد استجابوا إلى دعوة داود، ونفروا إليه بالسلاح المستتر، حتى صار عنده منهم جماعة كثيفة. وكان الوالي لحسن ظنه به يظن أن أولئك القادمين إنما جاءوا لزيارة ذلك الحبر الذي قد ظهر لهم، بزعمه في بلده إلى أن تكشفت له مطامعه، وكان حليما عن سفك الدماء، فقتل صاحب الفتنة المحتال وحده. أما الباقون فتناجوا مدبرين، بعد أن ذاقوا وبال المشقة والخسارات والفقر. ثم ينتقل السموأل بن يحيى بن عباس إلى حديث لم يتطرق إليه بنيامين، ونعني به أثر هذه الفتنة التي قامت في العمادية، في يهود بغداد وصداها بين عامتهم، فيقول:

«ولما وصل الخبر إلى بغداد، اتفق هناك شخصان من محتالي اليهود ودواهيهم، فرووا عن لسان داود كتبا إلى يهود بغداد، يبشرهم بالفرج الذي كانوا قديما ينتظرونه، وأنه يعين لهم ليلة يطيرون فيها أجمعين إلى بيت المقدس. فانقاد إليهما بعض السذج من اليهود وذهبوا بأموالهم وحليهم إلى ذينك الشيخين، ليتصدقا به على من يستحقه بزعمهما. وصرف اليهود جل أموالهم في هذا الوجه. واكتسوا ثيابا خضراء. واجتمعوا في تلك الليلة على السطوح، ينتظرون الطيران. بزعمهم، على أجنحة الملائكة إلى بيت المقدس وارتفع من النساء بكاء على أطفالهن المرتضعين، خوفا أن يطرن قبل طيران أولادهن، أو يطير أطفالهن قبلهن، فيجوع الأطفال بتأخر الرضاع عنهم. فتعجب المسلمون هناك مما اعترى اليهود حينئذ، بحيث أحجموا عن معارضتهم، حتى تنكشف آثار مواعيدهم العرقوبية. فما زالوا متهافتين إلى الطيران إلى أن أسفر الصبح عن خذلانهم وامتناعهم، ونجا ذانك المحتالان بما وصل إليهما من أموال اليهود وانكشف لهم وجه الحيلة؛ فسموا ذلك العام «عام الطيران» وصاروا يعتبرون به سنين كهولهم والشبان» . هذه هي خلاصة ما يرويه السموأل بن عباس عن فتنة داود بن الروحي. أما عن عاقبة هذا الدجال فهناك روايات متباينة. فابن عباس يقول: إنه مات مقتولا بيد صاحب العمادية. ويروي بنيامين أنه قضى مذبوحا بيد حميه أثناء ما كان غارقا في نومه. وهناك رواية منسوبة لموسى بن ميمون مفادها أن داود الداود (كذا) عند ما انكشفت حيلته

وقبض عليه وعرف بمصيره المحتوم، خاف أن ينكل الوالي به ويعذبه قبل قتله. فعمد إلى حيلة تخلص بها من التعذيب الذي كان ينتظره. فزعم بحضور الوالي أنه إذا قطع رأسه لا يلبث أن يعود إلى الحياة. وعلى ذلك أمر الوالي بجز رقبته. فعاجلته المنية وانتهى أمر هذه الفتنة «1» .

المحتويات

§1/1