رحلة الصديق إلى البلد العتيق

صديق حسن خان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رِحْلَةُ الصِّدِّيْقِ إِلى البَلَدِ العَتِيقِ

حُقُوق الطَّبْع مَحفُوظَة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر الطَبعَة الأولى 1428 هـ - 2007 م

مقدمة إدارة الشؤون الإسلامية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة إدارة الشؤون الإسلامية إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. عودًا على بدء نواصلُ المسيرةَ في ظل قيادة حكيمة، ترى تراث الأمة أمانة، وجديرة بالعناية والرعاية، كانت هذه المجموعة من مطبوعات الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني -رحمه الله- حيث طبعت متلاحقة على نفقته الخاصة، كسائر مطبوعاته التي أتحف بها العالم الإسلامي كله، وها نحن نقدمها متوافقة، تجديداً للصلة، في مساراتها الأربعة: الأول: "الدين الخالص". معالم التوحيد، مؤسسةٌ على النصوص الخالدة من الكتاب والسنة، إنه الدين في صورته الحقيقية. الثاني: "التاج المكلل من مآثر الطراز الآخر والأول". تراجم جملة من علماء الإسلام الأعلام الهداة الأئمة، مآثر واضحة، فضائل لائحة، مناقب سائرة. الثالث: "الموعظة الحسنة بما يُخطب في شهور السنة". نماذج فاعلة بكلماتها الجميلة للخُطب كافة، بدايةً من خُطبة الجمعة،

والعيدين، والاستسقاء، والكسوف والخسوف، حيث المناسبة، مع ذكر الأحكام الشرعية المتعلقة، فجاء الكتاب حافلاً مهماً في بابه. الرابع: "رحلة الصديق إلى البلد العتيق". صورة شائقة لهذه الرحلة المباركة، من الهند على ظهر سفينة، وصولاً إلى جدة، ومن ثم إلى مكة المكرمة، مع ذكر الأحكام الخاصة بالحج والعمرة والزيارة، وأحكام وفضائل مكة والمدينة، جامعة بين المتعة بذكر جملة مما وقع له من حوادث أثناء الرحلة، وتلك الروح العلمية. لهذا كله وقع الاختيار عليها بعد نصف قرنٍ من نشرتها الأولى. حيثُ عهدت إدارة الشؤون الإسلامية إلى دار النوادر لصاحبها نور الدين طالب للعمل عليها لإخراجها في حلتها الجديدة، وفق خطة علمية، تلخصت في الآتي: 1 - إعادةُ تنضيد الكتب على أفضل وأرقى البرامج الطباعة الحالية. 2 - تصحيح الكتب بما ورد فيها من أخطاء مطبعية سابقة، وقد بلغت مئات الأخطاء. 3 - كتابةُ الآيات القرآنية بالرسم العثماني، منقولة من المصحف الشريف، إضافة إلى عزوها عقب الآية بين معكوفتين. 4 - ضبطُ النصوص المهمة والمشكلة بالشكل الضروري، كالأحاديث النبوية الشريفة، وأبيات الشعر، وغريب اللغة. 5 - إعادةُ تقسيم الكتاب، وتفصيل فقراته، بما يتناسب مع سهولة تناوله وقراءته. 6 - وضعُ علامات الترقيم المناسبة للنص، حتى يخرج نصاً صحيحاً من حيث اللغة والإعراب. وإنا لنرجو الله تعالى أن يكون في عملنا هذا الإفادةَ لطلبة العلم وأهله. وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. إدارة الشؤون الإسلامية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي وفق من شاء متى شاء من عباده المخلصين، للرحلة إلى بيته العتيق، الذي جعلَه مثابةً للناس وأمناً، تهوي إليه أفئدةٌ من الناس، فيأتونه رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، شهادةً تنجينا من كل خطب وضيق، في الحياة الدنيا وفي الآخرة بصدق الإخلاص وحسن التصديق، وصلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه المقتفين آثاره في كل جليل ودقيق. وبعد: فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس! قد فُرض عليكم الحجُّ فحُجُّوا" أخرجه مسلم، والنسائي. وقال أهل العلم: الحر المكلَّف القادر، إذا وجد الزاد والراحلة وأمنَ الطريق، يلزمه الحجُّ، وعليه إجماع الأمة، ورأيت البحر المحيط، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة -زادهما الله تشريفاً وتعظيماً- مراراً في النوم، فرأيت ليلة كأني ركبت البحر، وقطعت المسافة، وبلغت مكة، ورأيتني كأني في مكان خالٍ له أساطين فخامٌ وأعمدة عظام وأنا جالس فيه، والمسجد الحرام كذلك، ورأيت مرة أخرى أني أدور وأتفرج في أسواق مكة وربوعها، وأمشي وأختلف في سِكَكها، وهي طيبة البناء، عامرة الخانات كالبلاد المأهولة، ومكة المشرفة كذلك، ورأيت المدينة المنورة كأنها بلدة قديمة، ورأيت جدرانها باليةَ البناء،

وربوعَها معمولة من الطين والماء، وسككَها ضيقةً خالية عن الناس، وقد وجدتهما على هذه الصفة حين سعدت بالحضور في سوحهما في سنة 1285 خمس وثمانين ومئتين وألف من الهجرة النبوية -على صاحبها أفضل الصلاة والتحية-. فحملني هذا على الرحلة إلى بلد الله الأمين، وشَدِّ المَطِيِّ إلى مسجد سيدنا محمد سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - في تلك السنة، ودعاني ذلك إلى جمع مناسك الحج والعمرة حسب ما تبين لي من الكتاب والسنة، فجمعتها على سبيل الاختصار؛ تبصرةً لنفسي، وتذكرة لمن أخلصه الله بخالصةِ ذكرى الدار، كيف والابتداع قد دخلِ العبادات من جميع الأنواع، وعارض عن الهَدْي النبوي كلُّ مُفرِط، ومُفرِّط، وخالط الحقَّ بالباطل كلُّ مخالِط ومخبط، فهذا منسك قد ربطت مسائله بالأدلة ودلائله بمذاهب الأجلة، ضمنته خمسة أبواب وخاتمة، أعاذنا الله عن النار الحاطمة، وسميته: رحلة الصِّدِّيق إلى البيت العتيق والله أسأل أن يُخلص نيتي، ويحسن طويتي، ويتقبل عملي، وينجح أملي، فقد قال في كتابه العزيز: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} [آل عمران: 195]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امْرِىءٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه إلى دنيا يُصيبها، أو امرأةٍ يتزوَّجُها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-. * * *

الباب الأول في فضل مكة وما يتصل به

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الباب الأول في فضل مكة وما يتصل به وفيه فصول: 1 - فصل في فضل مكة -زادها الله تشريفاً وتكريماً- * [الآيات]: 1 - قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]. 2 - وقال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] 3 - وقال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91] 4 - وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] 5 - وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57] 6 - وقال تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15] على بعض الروايات أنها مكة، 7 - وقال تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} [الحج: 25] 8 - وقال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] 9 - وقال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] 10 - وقال تعالى: {بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] 11 - وقال تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7] 12 - وقال تعالى: {بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1] 13 - وقال تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3]. فهذه الآيات وغيرها أنزلها الله -سبحانه وتعالى- في مكة المشرفة خاصة، ولم تنزل في بلد سواها. * [الأحاديث]: 1 - وعن عبد الله بن عدي بن حمراء -رضي الله تعالى عنه-، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفاً على الخرورة من مكة، وهو يقول لمكة: "والله (¬1)! لخيرُ ¬

_ (¬1) في الحديث: "إنَّكِ لخيرُ".

أرض الله، وأحبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منك، ما خرجت" رواه أحمد، والحاكم، وسعيد بن منصور، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، وهذا لفظه. 2 - وعن عمرو بن الأحوص، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في حجة الوداع: "أي يوم هذا؟ "، قالوا: يوم الحج الأكبر، قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، ألا! لا يجني جان إلا على نفسه، ألا! لا يجني جانٍ على ولده، ولا مولود على والده، ألا! وإن الشيطان قد أَيِسَ أن يُعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به" رواه ابن ماجه، والترمذي، وصححه. 3 - وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حَرَّمه الله يومَ خلق السموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحلَّ القتالُ فيه لأحد قبلي، ولم يحلَّ لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَدُ شوكه، ولا يُنَفَّرُ صيدُه، ولا يلتقط لقطته إلا من عَرَّفها، ولا يختلَى خلاها"، فقال العباس: يا رسول الله! إلا الإذخر؛ فإنه لِقَيْنِهم ولبيوتهم، فقال: "إلا الإذخر" متفق عليه، وفي رواية: لقبورنا وبيوتنا. 4 - وعن جابر -رضي الله تعالى عنه-، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يحلُّ لأحدِكم أن يحملَ بمكة السلاح" رواه مسلم، وكان ابن عمر يمنع عن ذلك في أيام الحج، وأما عام الفتح، فهو مستثنى من هذا الحكم، 5 - وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكة! ما أطيبَكَ من بلد وأحبَّكِ إلي! ولولا أن قومي أخرجوني منكِ، ما سكنتُ غيَركِ" رواه ابن حبان، والحاكم، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب إسناداً. قال الحسن البصري: ما أعلم اليوم على وجه الأرض بلدةً تُرفع فيها من الحسنات وأنواع البر، كلُّ واحدة منهما بمئة ألف ما تُرفع بمكة، وما أعلم أنه ينزل في الدنيا كلَّ يوم رائحة الجنة ورَوْحُها ما ينزل بمكة، ويقال: إن ذلك

2 - فصل في أسمائها

للطائفين، وبالجملة: فهي بلدة الله، وبلدة رسوله، وبلدة أصحابه الكرام، ومأوى جميع المؤمنين -جعلنا الله تعالى من صالحي أهلها-. ولله درُّ ما قيل فيها: أرضٌ بها البيتُ المقدَّسُ قبلةٌ ... للعالَمين له المساجدُ تعدلُ حَرَمٌ حرامٌ أرضُها وصيودُها ... والصيدُ في كلِّ البلاد محلَّلُ وبِها المشاعرُ والمناسِك كلُّها ... وإلى فضيلتِها البريةُ ترحلُ وبها المَقامُ وحوضُ زمزمَ مُتْرَعًا ... والحِجْرُ والركنُ الذي لا يرحلُ والمسجدُ العالي الممجَّدُ والصفا ... والمَشعرانِ لمن يطوفُ ويَرْمُلُ وبمكةَ الحسناتُ يُضْعَفُ أجرُها ... وبها المسيء عن الخطيئة يغسلُ يُجزى المسيء من الخطيئة مثلَها ... وتضُاعف الحسناتُ فيها تُقبلُ ما ينبغي لكَ أن تفاخرَ يا فتى ... أرضاً بها وُلد النبيُّ المرسَلُ بالشِّعْب دونَ الردم مسقطُ رأسه ... وبها نشا صلَّى عليه المرسِلُ وبها أَقامَ وجاءه وحيُ السما ... وسرى به الملكُ الرفيعُ المنزلُ نبوة الرحمن فيها أنزلَتْ ... والدينُ فيها قبلَ دينك أولُ 2 - فصل في أسمائها قد أتت لها أسماء جليلة جرى ذكرها في التنزيل، وكثرةُ الأسماء تدل على شرف المسمَّى، كما قيل في أسماء الله تعالى ورسوله، قال النووي: ولا يُعلم بلد أكثرُ أسماءً من مكة والمدينة، لكونهما أفضلَ بقاع الأرض، وذلك لكثرة الصفات المقتضية لها، انتهى. فمنها: 1 - مكة، 2 - وبكة، 3 - والبلد، 4 - والقرية، 5 - وأم القرى، 6 - والبلدة، 7 - والبلد الأمين، 8 - وأم رُحُم، 9 - وصَلاحِ -مبنيٌّ على الكسر-، 10 - والباسة -بالموحدة-، 11 - والناسة -بالنون-، 12 - والنساسة، 13 - والحاطمة، 14 - والرأس، 15 - وكوثى، 16 - والعَرش -بالفتح-، 17 - والعرش -بالضم-، 18 - والعريش، 19 - والقادس، 20 - والقادسية، 21 - وسَبوحة -

3 - فصل في ألقابها وحدودها

بالفتح-، 22 - والحرام، 23 - والمسجد الحرام، 24 - والمعطشة، 25 - وبَرَّة 26 - والرتاج، 27 - وأم، 28 - ورحم، 29 - والبلد الحرام، 30 - وأم الرحمة، 31 - وأم كوثى، 32 - والأمينة، 33 - وأم الصفا، 34 - والمروية، 35 - والمتحفة، 36 - وأم المشاعر، 37 - والبلدة المرزوقة، 38 - والحجاز، 39 - وبلدة طيبة. وفي وجه تسميتها بهذه الأسماء أقوال ذكرها الحضراوي في "العقد الثمين". 3 - فصل في ألقابها وحدودها فمنها: 1 - المشرفة، 2 - والمكرمة، 3 - والمهابة، 4 - والوالدة، 5 - والنادرة، 6 - والجامعة، 7 - والمباركة. قال السروجي: حدُّ الحرم من جهة طريق المدينة دون التنعيم على ثلاثة أميال من مكة، ومن طريق اليمن على سبعة أميال من مكة، ومن طريق الطائف للمار على عرفات من بطن نمرة على ثلاثة أميال من مكة، ومن طريق العراق للمار على ثنية جبل بالمقطع سبعة أميال من مكة، ومن طريق الجعرانة ومن شعب آل عبد الله بن خالد على تسعة أميال، ومن طريق جُدَّة على عشرة أميال، وهذا قول الجمهور، وهو أصح الأقوال، وقد نظمها بعضهم: وللحرم التحديدُ من أرضِ طيبةٍ ... ثلاثةُ أميال، إذا رُمْتَ إتقانَهْ وسبعةُ أميال، عراقٌ وطائفٌ ... وجُدَّةُ عشرٌ، ثم تسعٌ جِعرانَهْ ومن يمنٍ سبعٌ بتقديمِ سينِه ... وقد كَمُلَتْ فاشكر لربك إحسانه 4 - فصل في جبالها وحكم زيارتها قالوا: جبال مكة لا تحصى، قال ابن النقاش: دونها جبال من ذهب وفضة وكنوز وجواهر، وربما ينكشف عن بعضها لمن هو موعود بذلك، قلت: ولم أقف على نص في هذا الباب، فلا أدري من أين قاله، فمن جبالها: 1 - أَبو قُبيس، وهو الجبل المشرف على الصفا، وهو أحد أخشبي مكة المشرفة، 2 - وجبل حِراء بأعلى مكة، وهذا الجبل على ثلاثة أميال، وهو مقابل ثبير

5 - فصل في حكم المجاورة بها

والوادي بينهما، وهما على يسار السالك إلى منى، وحراء قبل ثبير مما يلي شمال الشمس، ويسمى: جبل النور. قال الحضراوي: وهو كذلك؛ لكثرة مجاورة النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وتعبده فيه، 3 - وجبل ثور بأسفل مكة، وهو من مكة على ثلاثة أميال، قاله ابن الحاج، وابن جبير، وقيل: على ميلين، وارتفاعه نحو ميل، وفي أعلاه الغار الذي دخله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر، والبحر يُرى من أعلى هذا الجبل، قال الحضراوي: وهذا الغار يزوره الناس، يدخلون إليه من بابه، قلت: وليست زيارة شيء من هذه الجبال بسنة. ومنها: 4 - جبل ثبير وهو على يسار الذاهب من منى إلى مزدلفة، قال القزويني: إنه جبل مبارك، وقال ابن النقاش إنه يستجاب الدعاء به، ومنها: 5 - الجبل الذي بظهر مسجد الخَيْف بمنى، ويدل له الحديث الثابت في "صحيح البخاري" عن ابن مسعود، قال: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غارٍ بمنى، إذ نزلت عليه {الْمُرْسَلَاتِ}. . . الحديث، ويكفي ذكر هذه الخمسة من جبالها، وإن كانت كثيرة. 5 - فصل في حكم المجاورة بها ذهب الشافعي، وأحمد، وأبو يوسف ومحمد: إلى استحباب المجاورة بمكة، وخالف في ذلك ابن عباس، ومالك، قال في "المبسوط": لا بأس بالمجاورة؛ في قولهم، وإنه الأفضل، وعليه عمل الناس، خصوصاً مع ظلم الفَجَرة في سائر الأقطار، فلا بأس بالهُروع إلى بلد الله، والالتجاءُ ببلد رسوله والاعتصامُ بالله أولى من تحكم الأعداء في ضعفاء المسلمين، فضلًا عن أغنيائهم، وقال أحمد: جاور بها جابرٌ، وابن عمر، وليت أني الآنَ مجاور بمكة، قلت: قد جاور بها خلقٌ كثير، وسكنها من المعوَّل عليهم جمع عظيم، واستوطنها من الصحابة أربعة وخمسون رجلًا، ذكرهم أَبو الفرج، ومات بها أيضًا من الصحابة ومن كبار التابعين ومَنْ بعدهم جَمٌّ غفير، ذكرهم الطبري. قال علي بن الموفق: جلست يوماً في الحرم بمكة المشرفة، وقد حججت ستين حجة، فقلت في نفسي: إلى متى أتردد في هذه المسالك والقفار؟ ثم غلبتني عيني، فنمت، وإذا قائل يقول: يا بن الموفق! هل تدعو إلى بيتك إلا مَنْ

6 - فصل في الموت بها، وذكر من دفن بها

تحبُّ؟ فطوبى لمن أحبَّه المولى، وحملَه إلى المُقام الأعلى، وأنشد يقول: دعوتُ إلى الزيارةِ أهلَ وُدِّي ... ولمْ أطلبْ بها أحداً سواهُمْ فجاؤوني إلى بيتي كِراماً ... فأهلًا بالكرام ومَنْ دعاهُمْ وقال بعضهم: هي البلدُ الأمين وأنتَ حِلٌّ ... فطاها يا أمينُ فأنت طاها ووجِّهْ حيث كنتَ كذا إليها ... ولا تعدِلْ إلى شيء سواها فوجهُ الله قبلةُ كلِّ حيٍّ ... لمن شهد الحقيقةَ واجتلاها وهذا البيتُ بيتُ الله فيه ... إذا شاهدْتَ في المعنى سناها فهلِّلْ عند مشهده كفاحًا ... وزمزمْ عندَ زمزمِه شِفاها وقلْ بلِسان عرفك في رباها ... لنفسي في مِنى بلغَتْ مُناها إليكَ شددتُ يا مولاي رَحْلي ... وجئتُ ومهجتي تشكو ظَماها وها أنا جارُ بيتك يا إلهي ... وبالأستار ممتسكٌ عُراها وللجيرانِ والضيفانِ حقٌّ ... على الجارِ الكريمِ إذا رعاها إليكَ شفيعَنا الهادي محمَّد ... ومن قد حلَّ جهراً فَي حِماها شفيع الخلقِ يومَ الحشر حقاً ... رسولُ الله أقوى الخلق جاها عليه من المهيمِنِ كلَّ وقتٍ ... صلاةٌ غيرُ منحصِرٍ مَداها 6 - فصل في الموت بها، وذكر من دُفن بها عن حاطب بن بَلْعَتة (¬1)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من مات في أحد الحرمَيْن، بُعث يوم القيامة من الآمنين" أخرجه أَبو الفرج وأخرج نحوه وأبو حفص المَيَّانشي، وفي الباب أخبار وآثار، وبمكة خلق كثير من الصحابة: منهم: سيدنا عبد الله بن الزبير، وقصته مشهورة، وسيدنا عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكان شقيق عائشة -رضي الله تعالى عنهما-، وفي "أسد ¬

_ (¬1) الصواب: حاطب بن أبي بلعتة رضي الله عنه، وهو صحابي، ومن فرسان قريش وشعرائها، ومات بالمدينة.

الغابة": ولما اتصل خبرُ موته بأخته عائشةَ، ظعنت إلى مكة، فوقفت على قبره، وبكت عليه، وتمثلت بِقَولَةِ متمِّم بنِ نُوَيرة في أخيه مالك، فقالت: وَكُنَّا كندمانَيْ جَذيمةَ حقبةً ... من الدَّهر حتى قيل لن يتصدَّعا ولمَّا تفرقنا كأنِّي ومالكاً ... لطولِ اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً معا ثم قالت: أما والله! لو حضرتُك ما بكيتُك، وبها: عتاب بن أسيد، وبها: أم المؤمنين خديجة الكبرى، روى الشيخان والترمذي عن علي -رضي الله تعالى عنه-، قال: خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد. وفضائلها لا تعد، ومناقبها لا تحد. وبها دفن القاسم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمعلى، وبها قبر طاوس، وكان مستجاب الدعوة، وحج أربعين حجة، وبها قبر عبد الله بن عمر بن الخطاب، مات بمكة، وهو آخر من مات بها، قاله ابن الجوزي، والصحيح أن الآن بمكة قبراً على الجبل المقابل للمعلى على يمين الخارج من باب مكة، وعلى يسار الذاهب إلى التنعيم، أشار بعض الصالحين أنه قبره -رضي الله تعالى عنه-. وبها: أبو محذورة مؤذنُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقبره بالمعلى غيرُ معروف، وبها حبيب بن عدي، وعبد الله بن كريز، وسهل بن حُنيف، وأبو قحافة والدَ أبي بكر الصديق، وأبو عبيد القاسمُ بنُ سَلاَّم، وعطاء بن رباح (¬1)، وسُفيان بن عُيينة، وأحمد بن حجر الهيتمي، وأم المؤمنين ميمونة، والفُضيل بن عياض -رضي الله عنهم-، والإمام عبد الله ابن أسعد اليافعي، والشيخ دلاصي، وقبر الديسي، وقبر القشيري بن هوازن، وقبر الشيخ عمراي، والنسفي، وغيرهم من الصحابة والتابعين والأئمة والعارفين، ولو عبرنا عنهم، لم يسعهم الكتاب، فمن زار مقبرة المعلى يستحب له أن يزور هؤلاء الكرام، ويسلم عليهم، ويُكثر من الدعاء والاستغفار لهم ولسائر المؤمنين بها. ومما أنعم الله به على سكان هذا البلد الحرام: أَلاَّ يبيت فيه جائع، كيف لا، وفيه طعام طعم وشفاء سقم. وقال الحضراوي في وجه تسميتها بالبلدة المرزوقة: إنك إذا دخلت مكة في أي وقت ¬

_ (¬1) عطاء بن أبي رباح- تقريب التهذيب-.

7 - فصل في آداب المجاورة بها

من الليل، فإنك تجد ما تطعَمُ فيها، فضلًا عن النهار، ولا يبيت فيها إنسان إلا شعباناً حامداً شاكراً، انتهى، فينبغي لزومُ الأدب بها حسبَ الطاقة، والشكرُ لله. 7 - فصل في آداب المجاورة بها عن عياش (¬1) بن ربيعة المخزومي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال هذه الأمة بخير ما عَظَّموا هذه الحرمةَ حَقَّ تعظيمها، فإذا ضَيَّعوا ذلك، هلكوا" رواه ابن ماجه، فمن أراد المجاورة بها ينبغي له أن يتأدب بآداب أهل التقى؛ لأنها حضرة الله الخاصة في الأرض، وهي كثيرة، منها: 1 - ألا يخطر بباله معصية قطُّ مدة مجاورته بمكة، ولو في بيته، فضلًا عن المسجد الحرام، فضلًا عن الطواف، فضلًا عن الصلوات، فمن لم يعلم من نفسه السلامةَ، فلا ينبغي له الإقامةُ هناك حتى يجاهد نفسه، ولهذا احتاط ابن عباس لنفسه، فسكن الطائف دون مكة، وكذلك كره مالكٌ المجاورةَ بها، وقال: ما لنا ولبلد تُضاعف فيها السيئات كما تُضاعف الحسنات، ويؤاخذ الإنسان فيها بالخاطر؟ قلت: لم أقف على نص صريح في تضاعُف السيئات فيها، والمؤاخذةِ بالخاطر، بل عفا الله عن هذه الأمة ما حدَّثت به نفسَها، نعم المعصيةُ فيها أشدُّ وأكبر من غيرها؛ لشرف المكان، والعاصي فيها أسوأ حالاً وأقبح مآلاً؛ لقلة مبالاته بسخط الرحمن، كيف! والمعصية -وإن كانت فاحشة حيث وجدت- لكنها في حضرة الإله وفِناء بيته ومحلِّ اختصاصه وحرمه أفحشُ وأقبح، وأمرُ الذنب بها عظيم، فليبادر الإنسان من حينِ نزوله بها إلى الذل والانكسار، والتوبة والافتقار، والندم والاستغفار. ومنها: 2 - أن يأكل الحلال الصِّرْفَ مدةَ إقامته: إما بعملِ حرفة شرعية؛ كالكتابة والخياطة والقِصارة والبِزازة ونحوِها، وإما أن يتوجه إلى الله تعالى أن يسخر له الحلال، من بين فَرْثِ الحرام ودم الشبهات. قلت: وذلك كله غيرُ مخصوص بمكة، بل يتحرى له في كل بلدة. ومنها: 3 - أن لا يبيت وعليه دينار أو درهم دين لأحد إلا أوفاه أو أوصى به. ¬

_ (¬1) في سنن ابن ماجه: عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، وهو هاجر هجرتين.

8 - فصل في مساجدها ودورها

ومنها: 4 - ألا يسأله أحدٌ في الحرم شيئًا، ويمنعَه منه، إلا إن كان هو أحوجَ إليه من السائل. ومنها: 5 - ألا يحنو قطُّ إلى وطنه وبلاده وأصحابه وأولاده، فيصير ملتفتا عن حضرة ربه. ومنها: 6 - يقلل الأكل جهدَه، ويجعلُ أكثرَ غذائه زمزمَ. ومنها: 7 - ألا يأكل قط وعينٌ تنظر إليه من المحتاجين إلا وأشرَكَه معه في الأكل. ومنها: 8 - ألا يغالي هناك الملابسَ الفاخرة الغالية ولا الروائح الطيبة إلا أن يعلم أنه ليس بمكة عريان ولا جوعان. ومنها: 9 - ألا يرى نفسَه قط أنه خير من أحد من المسلمين في سائر أقطار الأرض. ومنها: 10 - ألا يبول ولا يتغوط في الحرم إلا إذا كان يتأتى له ضرر من البول والغائط خارج الحرم. قلت: ولا يساعده دليل يعتمد عليه. ومنها: 11 - ألا يمشي في الحرم بتاسومته إلا لضرورة؛ كشدة حر أو برد أو جرح أو نحو ذلك. قلت: وهذا أيضاً يحتاج إلى دليل يصار إليه. ومنها: 12 - ألا يرى منه عبادة هناك على وجه الكمال من غير إعجاب أبداً؛ لئلا يقع في الزهو فيهلك، أما الاعترافُ بالنعمة فلا بأس. قلت: وذلك لا يختص بها، بل يعم البلاد كلها. ومنها: 13 - ألا يستحليَ قولَ من قال في حقه: هنيئاً لفلان. ومنها: 14 - ألا يذكر أحداً بسوء من سكان الحرم وسائر أقطار الأرض. قلت: وهذا هو الغيبة وحكمها معلوم. ومنها: 15 - أن يخاف تعجيل العقوبة حالاً. وكان عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يدور على الحجاج بعد قضاء النسك بالدرَّة، ويقول: يا أهل اليمن! يمنَكُم، ويا أهل الشام! شامَكُم، ويا أهل العراق! عراقَكم، أبقى لحرمة بيت ربكم في قلوبكم، ولذلك همَّ بمنع الناس من كثرة الطواف، وقال: خشيت أن يأنس الناس بهذا البيت، فتزول هيبته من صدورهم. 8 - فصل في مساجدها ودورها منها: 1 - مسجد بأعلى مكة عند بئر جُبير بن مطعِم، ويعرف اليوم بمسجد الراية، يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى فيه، 2 - ومسجد بأسفل مكة، ينسب إلى أبي بكر الصديق، 3 - ومسجد خارج مكة من أعلاها، يقال له: مسجد الجن، ويسمى مسجدَ البيعة، 4 - ومسجد الشجرة بأعلى مكة مقابل لمسجد الجن،

9 - فصل في خطاها والمشي فيها

5 - ومسجد الإجابة، 6 - ومسجد بمنى عند دار منحر بين الجمرة الأولى والوسطى على يمين الصاعد إلى عرفة، 7 - ومسجد الكبش الذي فدي به إسماعيل -عليه السلام-، 8 - ومسجد الخيف، وهو مشهور عظيم الفضل، 9 - ومسجد النعيم؛ حيث أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باعتمار عائشة، 10 - ومسجد بذي طوى، يقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل هناك حين اعتمر، 11 - ومسجد بأجياد، يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتكأ هناك، 12 - ومسجد الجعرانة، 13 - ومسجد الفتح بقرب الجموم، 14 - ومنها: الموضع الذي يقال له: مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو معروف بسوق السيل، 15 - وموضع يقال له: مولد علي بن أبي طالب، وفي "تاريخ الخميس": ولد علي في جوف الكعبة، 16 - ومولد سيدنا حمزة بن عبد المطلب، 17 - ومولد جعفر بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنهم-، 18 - ودار خديجة -رضي الله تعالى عنها-، 19 - ومولد فاطمة -رضي الله تعالى عنها-، 20 - ودار سيدنا أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه-، 21 - وحجرٌ سلَّم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى الترمذي ومسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني لا أعرف حجراً بمكة، كان يسلِّمُ عليّ قبل أن ينزلَ عليَّ الوحي"، قال المرجاني في "بهجة النفوس": قيل: هو الحجر الأسود، وقيل: هو الحجر المستطيل بدار أبي سفيان بزقاق الحجر، قال: وهذا الحجر باقٍ إلى اليوم، انتهى. قال الحضراوي: وهو كذلك باق إلى الآن، والله تعالى أعلم. قلت: وتعيينه بالدليل الصحيح لا يخلو عن عسر، 22 - ومنها: دار الأرقم المخزومي، وفيها مسجد مشهور، 23 - ودار العباس بن عبد المطلب، 24 - ومعبد الجنيد، 25 - وإبراهيم بن أدهم، 26 - ومسجد الكندرة، 27 - ومسجد المحناطة، 28 - ومسجد قرن مقلة، 29 - ودار أبي سفيان التي قال فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". قلت: هذه المساجد والمواضع ليس دخول شيء منها لمن اجتاز بها فرضاً ولا سنة. 9 - فصل في خطاها والمشي فيها قالوا: المشي في أرضٍ مشى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكفر السيئات، خصوصاً مع النية الصالحة التي هي أكبر الأعمال، وفيها بشرى له برجاء أن يكون متبعاً آثاره

10 - فصل في النظر إلى البيت

الشريفة. قلت: وذلك يحتاج إلى سند؛ لأن المكفِّر إنما هو اتباع هديه وسننه ظاهراً وباطناً دون تتبع آثاره الأرضية فقط فتدبر. 10 - فصل في النظر إلى البيت إذا وقع النظر على البيت، فليكنْ ذلك مقترناً بالتعظيم والإجلال، وليحضر في نفسه ما خُص به من تشريف النسبة وأوصاف الجلال والجمال. روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "النظر إلى البيت الحرام عبادة" أخرجه ابن الجوزي. وقال ابن عباس: النظر إلى الكعبة محض الإيمان، وعن سعيد بن المسيب: من نظر إلى الكعبة إيماناً وتصديقاً، خرج من الخطايا كيوم ولدته أمه، رواه الأرزقي، وفي الحديث: "فيه عشرون رحمة للناظرين"، وهذه الآثار تحتاج إلى النظر في سندها، وروي أن الشِّبْليَّ لما حج البيت ووصل إليه ورآه، عظم عنده ذلك، فأنشد طرباً: أبطحاءَ مكةَ هذا الذي ... أراهُ عِياناً وهَذا أنا وصار يكرره حتى غُشي عليه. وقال آخر: هذه دارهم وأنتَ محبٌّ ... فما بقاءُ الدموعِ في الآماق قلت: وقد تمثلتُ بهما عند وصولي مكة، وكان العارفون وأرباب القلوب ينزعجون إذا دخلوا مكة، ولاحت لهم أنوار الكعبة، فيهيمون عن مشاهدة ذلك الجمال؛ لأن رؤية المنزل تذكِّر صاحبَ المنزل. وحجت امرأة عابدة، فلما دخلت مكة، جعلت تقول: أين يبيت ربي؟ أين يبيت ربي؟ فاشتدت نحوه تسعى حتى ألصقت جبينها بحائط البيت، فما رُفعت إلا ميتة -رحمها الله تعالى، ورضي عنها-. 11 - فصل في محلات يستجاب الدعاء بها قال الحسن البصري: الدعاء مستجاب هناك في خمسةَ عشرَ موضعاً: 1 - في الطواف، 2 - وعند الملتزم نصف الليل، 3 - وتحت الميزاب، 4 - وداخل الكعبة عند الزوال، 5 - وعند زمزم، وقت غيبوبة الشمس، 6 - وخلف المقام، 7 - وعلى

12 - فصل في بعض آياتها

الصفا، 8 - وعلى المروة، 9 - وفي المسعى، 10 - وفي عرفات، 11 - وفي المزدلفة، 12 - وفي منى، 13 - 14 - 15 - وعند الجمرات الثلاث. وقيل: عند الحجر الأسود نصفَ النهار، وعند رؤية البيت، وفي الحطيم، وهو الحِجْر، وعند المستجار في ظهر الكعبة، وبين الركن والمقام، وفي موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفات، وفي المواقف عند المشعر الحرام، وباب بني شيبة، وباب إبراهيم، وباب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وباب الصفا، ومجاور المنبر حيث يقف المحمديون. وذكر مجد الدين الشيرازي في "الوصول والمُنى في فضل مِنى" مواضعَ أخرى بمكة وحرمها يستجاب فيها الدعاء، وقيل: في ثبير، وفي مسجد الكبش، وفي مسجد الخيف، وفي مسجد المنحر ببطن مِنى، وفي مسجد البيعة، وفي دار خديجة، ومولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين عند الزوال، ومسجد الشجرة يوم الأربعاء، وفي المتكأ غداة الأحد، وفي جبل ثور عند الظهر، وفي حراء وثبير مطلقاً، وعند الركن اليماني مع الفجر، ويمنى ليلة البدر، وبالمزدلفة عند طلوع الشمس، وبعرفة وقتَ الزوال تحت السِّدرة، وفي ثور عند الغروب، وفي رباط الموفق بأسفل مكة، وفي جبل أبي قبيس، وعند قبر خديجة، وقبر سُفيان بن عيينة، وقبر الفُضيل بن عياض، وقبر القشيري، وقبر اليافعي، وعند باب المعلى، وفي شعبة النور. قال الحضراوي: فهذه جميع الأماكن التي يُستجاب فيها الدعاء، وهي تنوف عن خمسة وخمسين موضعاً، انتهى. قلت: ولعل ذلك ثبت بكشف الأولياء، فإنه لم يرد بهذا حديث في الصحاح، ولا في السنن، إلا ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من الدعاء على الصفا والمروة وبعرفة وأمثالها، والدعاء عند القبور ليس بمأثور، فالأولى لمريد الآخرة الاقتصار على ما وردت به السنة، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فجميع مكة مباركة، وأماكنها طيبة. 12 - فصل في بعض آياتها منها: 1 - الحجر الأسود وما روي فيه من أنه من الجنة، ومنها: 2 - بقاء وبنيانها الموجود الآن، ولا يبقى هذه المدة غيرُ بنائها على ما يذكر المهندسون،

ولا تزال الكعبة باقية إلى أن يأتي أمر الله، وقضاؤه بتخريب الحبشة إياها في آخر الزمان، ومنها: 3 - أنه لا يرى البيت الحرام أحدٌ ممن لم يكن رآه إلا ضحكَ أو بكى، ومنها: 4 - هيبتها في القلوب، ومنها: 5 - كفُّ الجبابرة عنها مدى الدهر، ومنها: 6 - إذعان النفوس لتوقيرها دون ناهٍ ولا زاجر، ومنها: 7 - كونها بواد غير ذي زرع، والأرزاق من كل قطر تُجبى إليها من قرب ومن بعد، ومنها: 8 - أمنُ الحيوان فيه وسلامةُ الشجر، ومنها: 9 - حجر المقام، قال الزمخشري في قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] هو أثرُ قدمِه الشريف في الصخرة الصماء وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء -عليهم السلام-، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين ألف سنة، انتهى، ومنها: 10 - أن الحَمَام وغيرها تُقبل حتى إذا كادت أن تبلغ الكعبة، انفرقت فرقتين، فلم يَعْلُ ظهرها شيء، ومنها: 11 - أن مفتاح الكعبة إذا وُضع في فم الصغير الذي ثقل لسانُه عن الكلام، يتكلم سريعًا بقدرة الله تعالى، ذكره الفاكهي، وقال: إن المكيين يفعلونه، انتهى. قال الحضراوي: هو يُفعل في زماننا هذا، ومنها: 12 - عدم تنافر الصيد في الحرم، حتى إن الظبي يجتمع مع الكلب، فإن أُخرجا منه، تنافرا، ويتبع الجارحَ الصيدَ في الحِلِّ، فإذا دخل الحرم، تركه. ذكره القرطبي، وابن عطية، وغيرهما، ومنها: 13 - أن الكعبة تفتح بحضرة الجم الغفير من الناس، فيدخلها الجميع مزدحمين، فتسعهم بقدرة الله تعالى، قال ابن النقاش: الكعبة تسعُ ألفَ إنسان، وإذا انفتح الباب في أيام الموسم، دخلها آلاف كثيرة. قلت: وفيه نظر، ومنها: 14 - امتحاق حصى الجمار على كثرة الرمي وطولِ الزمان، ومنها: 15 - امتناع تخطيف الطير للُّحوم المُشَرَّقة بمنى على الجدران وغيرها، ومنها: 16 - امتناع وقوع الذباب على الطعام في أيام منى، فتحوم عليه ولا تقع فيه، ومنها: 17 - عدم تعويق الدخان بها مع طبخ هذا ووقود هذا وغيره، ومنها: 18 - إطالتها -أي: الكعبة- في أوقات الصلاة ونصف الليل وليالي الأعياد، وقاله ابن النقاش، ومنها: 19 - أن يوم عرفة يغشى الناسَ نور عظيم، ويخيل للإنسان إذا كان فوق الكعبة أنه فوق العالم كله، ومنها: 20 - أن الطيب بمكة أطيبُ منه في سائر

الآفاق، وأطلال مكة أطيبُ من سائر الأطلال، ومنها: 21 - إجابة الدعاء حالاً، ومنها: 22 - حفظُ الله تعالى للحجر الأسود من الضياع منذ أُهبط إلى الأرض، مع ما وقع من الأمور المقتضية لذهابه، ومنها: 23 - أنه يطفو على الماء إذا وضع فيه، ولا يرسخ، ومنها: 24 - أنه لا يسخن من النار، ذكره ابن شاكر المؤرخ، ونقل ذلك عن بعض المحدثين مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: وهذه الآيات أكثرُها تجربات وقعت لجماعة من أهل العلم، وليس فيها نص عن الشارع، إلا في البعض. * * *

الباب الثاني في فضائل الحجاج والعمار والطواف وما ضاهاها

الباب الثاني في فضائل الحجاج والعمار والطواف وما ضاهاها وفيه فصول: 1 - فصل في فضل الحاج والمعتمر لا يخفى أن للحج فضيلةً ودرجة ليست لغيره من العبادات والطاعات، دلَّ عليه الكتابُ والسنة، قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] قيل: هي المغفرة، وقيل: التجارة، وقال مجاهد وعطاء: بل يعم منافع الدنيا والآخرة، وقال الزمخشري، تحت هذه الآية: كان أبو حنيفة يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلما حج، فضل الحجَّ على العبادات كلِّها؛ لما شاهد من تلك الخصائص، انتهى. نعم هذه عبادة تعم إنفاقَ المال واستعمالَ البدن، فتكون فاضلةً على ما يختص بواحد منهما، وقال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] وقال [ابن] مسعود، والحسن، وسعيد بن جبير في قوله تعالى: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] إنه طريق مكة، والمعنى: أصدُّهم عن الحج. وعن أم سلمة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحج جهادُ كل ضعيف" رواه ابن ماجه. وعن عمران، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإن متابعةَ ما بينهما تزيدُ في العمر والرزق، وتنفي الذنوب كما ينفي الكيرُ خَبَثَ الحديد"، أخرجه ابن أبي خيثمة في "تاريخه"، وابن الجوزي. وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وفدُ الله ثلاثة: الغازي، والحاجُّ، والمعتمرُ" أخرجه النسائي، وابن حبان، وصححه الحاكم على شرط

2 - فصل في فضل رمضان بمكة والعمرة بها

مسلم. وعن عمرَ: أنه استأذن - صلى الله عليه وسلم - في العمرة، فأذن له، وقال: "يا أخي! لا تَنْسَنا في دعائك"، وفي لفظ: "يا أخي! أشركنا في دعائك"، فقال عمر: ما أحببت أن لي بها ما طلعت عليه الشمسُ بقوله: "يا أخي"! رواه أحمد، وهذا لفظه، وأبو داود، والترمذي، وصححه. وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: أن رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العمرةُ إلى العمرة كفارةٌ لما بينَهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاء إلا الجنة" رواه مالك، والبخاري، ومسلم، وغيرهم. قال القرشي: معناه: لا يقتصر فيه على تكفير بعض الذنوب، بل لا بد أن تبلغ به إلى الجنة بفضل الله وكرمه، انتهى، وهو الذي لا معصية فيه -ولو صغيرة- من حين الإحرام إلى التحلل الثاني. وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيومَ ولدته أمه" متفق عليه، واللفظ للبخاري، وفي رواية لمسلم: "من أتى هذا البيت، فلم يرفُثْ ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه" رواه النسائي، والدارقطني، فقالا: "من حجَّ واعتمر". 2 - فصل في فضل رمضان بمكة والعمرة بها أخرج البزار: رمضانُ بمكة أفضلُ من رمضان بغير مكة. وروى ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعاً: "من أدرك رمضانَ بمكة، فصامَه، وقام منه ما تيسر له، كتب الله له مئة ألف شهر رمضان فيما سواها، وكتب الله له بكل يوم عتق رقبة، وكل ليلة عتق رقبة، وكل يوم حملان فرس في سبيل الله، وفي كل يوم حسنة، وفي كل ليلة حسنة". وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن عمرة في رمضان تعدل حجة" متفق عليه، وفي لفظ لمسلم: "عمرة تقضي حجى معي"، وفي لفظ لأبي داود، والطبراني، والحاكم "تعدل حجة معي" من غير شك، وللحديث ألفاظ وطرق كثيرة. 3 - فصل في فضل الطواف عن محمد بن المنكدر، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من طاف بالبيت أسبوعاً، لا يلغو فيه، كان كعدلِ رقبةٍ يعتقها" رواه الطبراني في "الكبير"،

ورواته ثقات. وعن ابن عباس مرفوعاً: "إن الله تعالى يُنزل على أهل هذا المسجد -يعني: مسجد مكة- في كل يوم وليلة عشرين ومئة رحمة، ستين للطائفين، وأربعين للمصلين، وعشرين للناظرين" أخرجه الطبراني، والحاكم، ورواه البيهقي بإسناد حسن. وعن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الطوافُ حول البيت صلاة" رواه الترمذي، واللفظ له، وابن حبان في "صحيحه". وعنه -رضي الله تعالى عنه-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من طاف بالبيت خمسين مرة، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" رواه الترمذي، وقال: حديث غريب، وسئل البخاري عن هذا الحديث، قال: إنما يروى عن ابن عباس قولُه، ورواه عبد الرزاق والفاكهي أيضاً. وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من طاف وصلى ركعتين، كان كعتق رقبة" رواه ابن ماجه، وابن خزيمة في "صحيحه". وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من طاف بالبيت أسبوعاً، لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى، إلا حط عنه خطيئته، وكتب له بها حسنة، ورفع له بها درجة" رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وابن حبان، واللفظ له. قال بعض الصالحين: رأيت في الطواف غلاماً شاباً نحيفَ الجسم رقيقَ الساقين وهو يبكي ويقول: وأشوقاه لمن يراني ولا أراه! فقلت: من هو؟ فأنشد: ولي حبيبٌ بلا كيفٍ ولا شبهٍ ... ولي مقامٌ بلا رَبْعِ ولا خِيَمِ أتيتُ من دارِ عشقٍ لا أمثلها ... من عندِ مَنْ لم أُطِقْ شرحاً له بفمِ ثم غشى عليه زماناً، فحركناه فوجدناه قد مات. وما أحسن قولَ العارف بالله عبدِ الغني النابلسي -رحمه الله تعالى-: عشقتُ في مكةَ ذات البَها ... يدعونها الكعبةَ باسمٍ صريحْ وهي كعوبٌ غادةٌ حرةٌ ... كم قلبِ صَبٍّ في هواها جريحْ محجوبةٌ بالستر عن كلِّ مَنْ ... ينظرها مِنْ أجنبيٍّ قَبيحْ وإنما ينظرُها محرِمٌ ... فيبصرُ الوجهَ الجميلَ الصَّبيحْ رأيتُها في مدتي مرةً ... فراح جسمي في هواها طَريحْ

4 - فصل فيما جاء في الحجر والركنين والملتزم

وطُفْتُ سبعاً بِها لاثماً ... يمينَ ربِّي هيئة المستبيحْ ويا له من حجرٍ أسودٍ ... كأنه الخالُ بخدِّ المَليحْ 4 - فصل فيما جاء في الحَجَر والركنين والملتزم عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجر الأسود: "واللهِ! ليبعثَنَّهُ اللهُ يوم القيامة وله عينان يُبصِر بهما، ولسانٌ ينطِقُ به، يشهد على من استلمه بحق" أخرجه الترمذي، وحسَّنه أَبو حاتم. وفي رواية في الحجر: أنه يشهد لمن استلمه وقَبَّلَه من أهل الدنيا، وأنا شافعٌ مشفَّعٌ، وسنده حسن. عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي الركن اليماني يومئذ -يعني: يوم القيامة- أعظمَ من أبي قبيس، له لسانٌ وشفتان، وإنه كان أشدَّ بياضاً من الثلج حتى سَوَّدته خطايا أهل الشرك، ولولا ذلك ما مَسَّه ذو عاهة إلا شُفي" رواه أحمد، والحاكم، وسنده حسن. وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مسحُ الحجر والركن اليماني يَحُطَّان الخطايا حطاً" رواه أحمد، وابن حبان، والترمذي، معناه: وإنهما يُبعثان يوم القيامة، ولهما عينان ولسان وشفتان يشهدان لمن استلمهما بالوفاء، وإن عنده تسكب العبرات، وإنه والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، وإن الله طمس نورهما، ولولا ذلك، لأضاء ما بين المشرق والمغرب. وإن بالركن اليماني سبعين ملَكاً موكلاً يؤمنون على من قال: "اللهمَّ إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة. . . إلخ. عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من فاوض الحجرَ الأسود -أي: لابس وخالط-، فإنما يفاوض يدَ الرحمن"، أخرجه ابن ماجه. وعن ابن عباس مرفوعاً، قال: "الركنُ الأسودُ يمينُ الله في الأرض يُصافح بها عبادَه كما يصافح أحدُكم أخاه" أخرجه الأزرقي. وعن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين الركن والمقام ملتزَمٌ، لا يدعو به صاحبُ عاهة إلا بَرَأ" رواه الطبراني. وعن أبي هريرة، وسعيد بن جبير، وزين العابدين: أنهم كانوا يلتزمون ما تحت الميزاب من الكعبة، ذكره القرشي.

5 - فصل في المشي بين الصفا والمروة

5 - فصل في المشي بين الصفا والمروة عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما طوافُك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبة. . . " الحديث، رواه الطبراني في "الكبير"، والبزار، واللفظ له، وعنه: "من سعى بين الصفا والمروة، ثَبَّتَ اللهُ قدميه على الصراط يومَ تزلُّ الأقدام" أخرجه صاحب المسالك. 6 - فصل في فضل شرب ماء زمزم عن ابن عباس مرفوعًا: "ماءُ زمزم لِما شُرب له"، فإن شربته تستشفي، شفاك الله، وإن شربته مستعيذاً، أعاذك الله، وإن شربته لقطع ظمئك، قطعه، ذكره القرشي. وكان ابن عباس إذا شرب زمزم، قال: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء، رواه الحاكم، والدارقطني. قال ابن العربي: وهذا موجود فيه إلى يوم القيامة -يعني: العلم والرزق والشفاء- لمن صحَّت نيتُه، وسلمت طويته، ولم يكن به مكذباً، ولا يشرب مجرباً؛ فإن الله مع المتوكلين، انتهى. قلت: وقد دعوتُ بما دعا به ابن عباس عندَ شربي له، وأرجو من الله القَبول. وفي حديث إسلام أبي ذر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنها مباركة، وإنها طعام طعم" رواه مسلم، وزاد أَبو داود: "وشفاء سُقْم". وعن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ماء زمزم لما شُرب له" أخرجه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي. واستسقى عبد الله بن المبارك من زمزم شربة، واستقبل الكعبة، وقال: اللهم إن أبا الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ماء زمزم لما شرب له"، وهذا أشربه لعطشِ يوم القيامة، ثم شرب، أخرجه الحافظ شرف الدين الدمياطي، وقال: إنه على رسم الصحيح. وقد قلت ما قاله ابن المبارك، وأرجو قبوله، فما ذلك على الله بعزيز، وفي "الصحيح": أنه لما قدم أبو ذر ليُسْلِم، أقام ثلاثين يوماً وليلةً، وليس له طعامٌ إلا زمزم، فسمن حتى تكسَّرت عُكَنُ بطنه، ولم يجد على بطنه سُخْفَة جوع. عن ابن

7 - فصل في أسماء ماء زمزم

عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحُمَّى من فيح جهنم، فأبردوها من ماء زمزم" رواه أحمد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وابن حبان في "صحيحه"، وانفرد البخاري بإخراجه، فقال: "فأبردوها بالماء، أو بماء زمزم". وفي حديث شق الصدر: "ثم غسله بماء زمزم". رواه البخاري. وعن ابن عباس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ بئر على وجه الأرض ماء زمزم" أخرجه ابن حبان، والطبري بسند رجاله ثقات، وعنه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يُتحف الرجل، سقاه من ماء زمزم، رواه الدمياطي، وصححه. وعن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "آيةُ ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضَلَّعون من ماء زمزم" رواه ابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، والتضَلُّع: الامتلاء حتى تمتدَّ الأضلاع؛ وكم تضلعت به ولله الحمد. وعن ابن عباس، قال: نسميها شبعة -يعني: زمزم-، وكنا نجدها نعمَ العونُ على العِيال، رواه الطبراني في "الكبير"، وهو موقوف صحيح الإسناد، وبالجملة: فقد أجمعوا على أن ماء زمزم أفضلُ من جميع المياه على الإطلاق، إلا الماءَ الذي نبع من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم -، كيف وهي هزمةُ جبرئيل، وسُقيا إسماعيل -عليهما السلام-، وفي شربها منافُع لا تحصى، ذكر بعضَها الحضراوي في "العقد الثمين". 7 - فصل في أسماء ماء زمزم وهي كثيرة تدل على شرفها وفضلها، منها: 1 - زمزم، 2 - وهمزة جبريل، 3 - وهزمة جبريل، 4 - وظبية، 5 - وطيبة، 6 - وبَرَّة، 7 - وعصمة، 8 - ومفنونة، 9 - وشباعة العيال، 10 - وعونة، 11 - وسيدة، 12 - ونافقة، 13 - وبشرى، 14 - وصافية، 15 - ومَعذبة، 16 - وطاهرة، 17 - ومروَية، 18 - وسالمة، 19 - وميمونة، 20 - وكافية، 21 - ومونسة، 22 - وشفاء سُقم، 23 - وشراب الأبرار، 24 - وتَكْتُم -على وزن تكتب- رواها الفاكهي عن أشياخ مكة، وغير ذلك.

8 - فصل في المحافظة على الصلوات في المسجد الحرام جماعة في أوقاتها

قال بعضهم: يا سائقاً غن النياقَ وزمزما ... أبشرْ فقد نلتَ المقامَ وزمزما كم كنت تُذكِرنا منازلَ مكةٍ ... وتقولُ إن بها المُنى والمَغْنَما بَرِّدْ بماء سقاية العباس ما ... كابدته طولَ الطريق من الظَّما وانهضْ وهرولْ بينَ زمزم والصفا ... وادخلْ إلى الحَجَر الكريم مسلِّما ومقام إبراهيمَ زُره مبادِراً ... وبحِجْر إسماعيلَ صَلِّ معظِّما وانظرْ عروسَ البيت تجلي حسنَها ... للناظرين ولُذْ بها مستَعْصِما فهي التي ظهرتْ فضائُلها فلا ... تَخْفى وهل يخفى سنا قمرِ السما لم يَلْقَها الإنسانُ إلا باكياً ... فَرحاً بها أو ضاحكاً متبسِّما والنورُ من أحشائها لم يختفي ... أبداً وإن جَنَّ الظلام وأعتما ومن العجائب أنها محروسةٌ ... والصيدُ فيها لا يزالُ محرَّما والطيرُ لا تعلو على أركانها ... إلا ليشفي إذ نجا متألِّما تختال في حُلل السواد وبابُها ... بالنور منها مُبَرْقَعاً ومُلَثَّما هي كعبةُ المولى الكريمِ وكلُّ من ... وافى إليها حقُّه أن يُكْرَما ما منهمُ إلا ذليلٌ خاضع ... باكٍ على زَلاَّته متندِّما يا ربِّ قد وقفتْ ببابك عُصبةٌ ... يرجون منك تفضُّلا وتكرُّما ذا طالبًا فضلًا وذا متقصداً ... مِمَّا جناه من الذنوب وقَدَّما 8 - فصل في المحافظة على الصلوات في المسجد الحرام جماعة في أوقاتها عن ابن الزبير، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في مسجدي هذا أفضلُ من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجدَ الحرام، وصلاةُ في المسجد الحرام أفضلُ من مئة صلاة في مسجدي" رواه أحمد بسند صحيح، وابن حبان في "صحيحه"، وصححه ابنُ عبد البرّ، وقال: إنه الحُجة عند التنازع، والنص في موضع الخلاف القاطع له، عند من ألهم رشده، ولم تمل به عصبيته، ومضاعفةُ

الصلاة بالمسجد الحرام على مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمئة صلاة مذهبُ عامة أهل الأثر. وعن الأرقم: قال - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة هاهنا -وأومأ بيده إلى مكة- خيرٌ من ألف صلاة هاهنا -وأوما بيده إلى الشام" أخرجه أحمد -يعني: بيت المقدس-. وفي المراد بالمسجد الحرام الذي تُضاعف فيه الصلاةُ أربعة أقوال: 1 - الأول: أنه الحرم كله، قاله ابن عباس، ويؤيده قوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] وقوله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25] وقوله تعالى: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] وكان ذلك في بيت أم هانىء، 2 - والثاني: أنه مسجد الجماعة، 3 - والثالث: أنه مكة المشرفة، نقله الزمخشري عن أصحاب أبي حنيفة، 4 - والرابع: أنه الكعبة، قال ابن جماعة: وهو أبعدُها، والأوجهُ الأولُ. وذهب مالك إلى أفضلية الصلوات في مسجده - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إلى المسجد الحرام؛ خلافاً لباقي الأئمة. قال الطبري: إن حسنة الحرم مطلقاً بمئة ألف حسنة؛ لحديث ابن عباس، لكن المسجد مخصوص بتضعيف زائد على ذلك، الصلوات بمسجده - صلى الله عليه وسلم - بألف صلاة، كلُّ صلاة بعشر حسنات، فتكون عشرة آلاف حسنة، والصلاة بالمسجد الحرام بمئة صلاة بمسجده - صلى الله عليه وسلم -، فتكون بألف ألف حسنة. قال أبو بكر النقاش: فحسبتُ ذلك، فبلغت صلاةٌ واحدة في المسجد الحرام عمرَ خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة، وأما صلاة يوم وليلة في المسجد الحرام، وهي خمس صلوات عمرَ مئتي سنة وسبع وسبعين سنة وتسعة أشهر وعشر ليال، ولم يقل المرجاني: لفظ خمس وسبع، وما ذكر يحصل بصلاة المنفرد نفلاً، وأما جماعة، فعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن صلاة الجماعة تفضل صلاةَ الفذِّ بخمس وعشرين"، وفي رواية: "بسبع وعشرين درجة"، انتهى. وقد يصلي رجلان: فيكتب لحاضر القلب، ولا يكتب للغافل إلا ما حضر فيه قلبه، فلا غرو أن تكون المضاعفة تختلف بأحوال المصلين.

9 - فصل في فضل من صبر على حرها ولأوائها

9 - فصل في فضل من صبر على حرها ولأوائها عن الحسن البصري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من صبر على حَرِّ مكةَ، ولو ساعةً من نهار، تباعدَتْ منه النارُ مسيرةَ عام"، وفي لفظ: "خمس مئة عام"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من استطاع منكم أن يموتَ في أحد الحرمين، فليمت فيه؛ فإني أول من أشفع له". وكتب الحسن البصري إلى بعض إخوانه: يا أخي! أبقاك الله تعالى: إنه بلغني أنك قد أجمعت رأيك على الخروج من حرم مكة، وإني والله! كرهتُ ذلك وغَمَّني، واستوحشتُ من ذلك وحشة شديدة، إذ أراد الشيطان أن يزعجك من حرم الله، ويستنزلك، فيا عجباً من عقلك إذ نويت من نفسك هذا بعد أن جعلك الله من أهله، ولو أنك حمدت الله على ما أولاك وأعلاك في حرمه وأمنه، وصيّرك من أهله، لكان الواجب عليك شكره أبداً ما دمت حياً، ولكُنْتَ مشغولاً بعبادته أضعافَ ما كنت عليه أن جعلك من جيران بيته، فإياكَ والظعنَ منها شبراً واحداً؛ فإنه ورد: أن المقام بمكة سعادة، والخروج منها شقاوة، وإياكَ والقلقَ والضجرَ، وعليك بالصبر والصمت والحلم؛ فإنك في خير أرض الله وأفضلها وأعظمِها قدراً وأشرفِها عنده، ولله في جيران بيته أسرارٌ لمن تعرَّضَ لها في شطر الليل، انتهى. قلت: ويغني عن ذلك ما رواه الترمذي عن ابن عباس مرفوعاً، وصححه: "لولا أن قومي أخرجوني منك، ما سكنتُ غيرَك"، وفي طريق أخرى: "لولا أني أُخرجت منك، ما خرجتُ" رواه أهل السنن، وصححه الترمذي. * * *

الباب الثالث في مبادىء الحج والعمرة

الباب الثالث في مبادىء الحج والعمرة وفيه فصول: 1 - فصل في الترغيب في الحج والعمرة عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور"، أخرجه الشيخان، وابنُ حبان في "صحيحه"، ويفسره حديث جابر -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "الحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة"، قيل: وما بِرُّه؟ قال: "إطعام الطعام، وطيب الكلام" رواه أحمد، والطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن، وابن خزيمة في "صحيحه"، والبيهقي، والحاكم مختصراً، وقال: صحيح الإسناد. وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما ترفعُ إبلُ الحاج رجْلًا، ولا تضع يداً، إلا كتب الله له بها حسنةً، ومحا عنه سيئةً، ورفع له درجة" أَخرجه البيهقي، وابن حبان في "صحيحه". وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من جاء يؤُم البيتَ الحرام، فركبَ بعيره، فما يرفع خُفاً، ولا يضع خفاً، إلا كتب الله بها حسنةً، وحطَّ عنه خطيئةً، ورفع له بها درجة، حتى إذا انتهى إلى البيت، فطاف، وسعى بين الصفا والمروة، ثم حلق أو قَصَّر، إلا خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمه" أخرجه البيهقي. وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحُجَّاج والعُمَّار وَفْدُ الله تعالى، إن دَعَوْهُ

2 - فصل في آداب سفر الحج، وهي كثيرة

أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم" أخرجه النسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"، وأخرج البزار من حديث جابر مثله، قال المنذري: برجال ثقات. وسألته - صلى الله عليه وسلم - عائشة، فقالت: الحجُّ أفضلُ الأعمال، أفلا نجاهدُ؟ قال: "لكن أفضل الجهاد حجّ مبرور" ذكره البخاري، والمبرور: ما لم يُخالطه إثم. قال ابن إسحاق: إنه لم يبعث الله نبياً بعد إبراهيم إلا وقد حجَّ البيت. وعنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله، الدرهم بسبع مئة ضعف"، وفي الباب ما لا يتسع له المقام. 2 - فصل في آداب سفر الحج، وهي كثيرة منها: 1 - أنَّ من عَزَمَ على الإتيان بفريضة الله، والإجابة لنداء خليل الله، وخطر بباله السفرُ لذلك، فيُستحب له أن يشاور فيه مَنْ يعلم من حاله النصيحة والشفقة والخيرة، ويثق بدينه ومعرفته، قال الله تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] ودلائله كثيرة. ومنها: 2 - أنه إذا شاور، وظهر أنه مصلحة، فليقدم استخارةَ الله سبحانه في ذلك؛ فإنها من هديه - صلى الله عليه وسلم - في كل أمر يريده، وكان يعلِّمها كما يعلِّم السورةَ من القرآن، فيصلِّي ركعتين من غير الفريضة، ويدعو بدعاء الاستخارة: "اللهمَّ إني أَستخيرُك بعلمِك، وأَستقدرُك بقدرتك، وأسألُكَ من فضلِك العظيمِ، فإنَّكَ تقدِرُ ولا أَقدر، وتعلمُ ولا أعلم، وأنت علاّم الغيوب، اللهمَّ إن كنت تعلم أن هذا الأمر [ويُسَمّيه] خيرٌ لي في ديني ومَعادي ومعاشي وعاقبة أمري، وعاجِلِه وآجلِه، فاقُدْره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنتَ تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعادي ومعاشي وعاقبة أمري، وعاجله وآجله، فاصرفْه عني، واصرفي عنه، وقدّرْ لي الخيرَ حيث كان، ثم رَضني به"، ولا تعود الاستخارة إلى نفس الحج؛ فإنه خيرٌ لا محالة، بل تعود إلى تعيين حينِ الشروعِ فيه وتفاصيل أحواله، وإن كان حاجّاً أو معتمراً تعلم مناسك الحج، أو استصحب معه كتاباً في ذلك، ولو تعلَّمها واستصحبَ كتاباً، كان أفضل. ومنها: 3 - أن يبدأ بالتوبة، وردِّ المظالم، وقضاء الديون، وإعداد النفقة لكل

مَنْ تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع، ويردُّ ما عنده من الودائع، ويطلبُ المحاللة من كل من بينه وبينه معاملة في شيء أو مصاحبة، ويكتب وصية، ويُشهِد عليه بها. ومنها: 4 - أن يستصحب من المال الحلال الطيب ما يكفيه لذهابه وإيابه، من غير تقتير، بل على وجه يُمْكنه معه التوسُّع في الزاد، والرفقُ بالضعفاء والفقراء، ويتصدق بشيء قبل خروجه، وإن قَلَّ، ولكن جاعلاً لزاده من أجلِّ كسبه، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -: أن الله لا يقبل إلا طيباً، وإذا حجَّ الرجل بمال حرام، صحَّ حجُّه عند الشافعية والحنفية والمالكية، ويُخشى عليه عدمُ القبول، وعند الحنابلة: لا يصح حجه. ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا حج الرجل بمال حرام، فقال: لبيك اللهمَّ لبيك، قال الله تعالى: لا لبيك، ولا سعديك، زادُك حرام، وراحلتُك حرام، وثوبك حرام، ارجعْ مأزوراً غيرَ مأجور". وقد أخرج ابن عدي، والديلمي في "مسند الفردوس" من حديث عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حج الرجل بمال من غير حِلِّه، فقال: اللهم لبيك، قال الله تعالى: لا لبيك ولا سعديك، هذا مردود عليك". وما أحسنَ القائل: إذا حَجَجْتَ بمالٍ كلُّه سُحُتٌ ... فما حججتَ ولكن حَجَّتِ العِيرُ لا يقبلُ الله إلا كلَّ صالحةٍ ... ما كلُّ مَنْ حجَّ بيتَ الله مبرورُ ومنها: 5 - أن يلتمس رفيقاً صالحاً، مُحباً للخير، معيناً عليه، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن جَبُن شَجعه، وإن عجز قواه، وإن ضاق صدره صبره، فقد نهي - صلى الله عليه وسلم - عن سفر الرجل وحدَه، وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم -: "أن الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب"، فلا يخرج إلا في ركب، ثم ليؤمر أحدهم. ومنها: 6 - أن يصلي ركعتين في منزله عند إرادة الخروج؛ لما أخرجه البيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "إذا خرجت من منزلك، فصلِّ ركعتين يمنعاك مخرجَ السوء"، ولحديث المفطم بن المقدام: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما خلف أحدٌ عند أهله أفضلَ من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد سفراً" رواه الطبراني. قال النووي في "الأذكار": يقرأ في الأولى منهما الفاتحة، وقل يا أيها الكافرون،

وفي الثانية: قل هو الله أحد، فإذا سلَّم، قرأ آية الكرسي، فقد جاء: أن من قرأ آية الكرسي قبل خروجه من منزله، لم يصبه شيء يكرهه حتى يرجع. ويستحب أن يقرأ سورة: لإيلاف قريش، فقد قال الإمام أبو الحسن القزويني: إنها أمان من كل سوء، ثم يدعو بإخلاص ورِقَّة، ومن أحسن ما يقول: اللهمَّ بكَ أَستعين، وعليك أتوكل، اللهم ذَلِّلْ لي صعوبة أمري، وسهل عليَّ مشقةَ سفري، وارزقني من الخير أكثرَ مما أطلب، واصرفْ عني كلَّ شر، ربِّ اشرح لي صدري، ويسرْ لي أمري، اللهمَّ إني أَستحفظك وأَستودعك نفسي وديني وأهلي وأقاربي، وكلَّ ما أنعمتَ عليَّ وعليهم به من آخرة ودنيا، فاحفظنا أجمعين من كل سوء يا كريم. ويفتتح دعاءه ويختتمه بالتحميد لله تعالى، والصلاةِ والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انتهى كلامه. ومنها: 7 - أن يجعل خروجه يوم الخميس في بكرته؛ فقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبركة لأمته في بُكورها يومَ الخميس، وكان يحبُّ السفر في هذا اليوم. ومنها: 8 - أن يودِّعَ رفقاءه المقيمين، وإخوانه وجيرانه، ويلتمس أدعيتهم؛ فقد كان ذلك من هديه - صلى الله عليه وسلم -. أخرج ابن عساكر، والديلمي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا خرج أحدُكم إلى السفر، فليودِّعْ إخوانه؛ فإن الله جاعلٌ في دعائهم البركة". وروينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل" وغيره عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى إذا استوُدِع شيئاً، حفظه"، وروينا في "كتاب ابن السني" وغيره عن أبي هريرة، قال: من أراد أن يسافر، فليقل لمن يخلف: "أستودُعكم اللهَ الذي لا يُضيع ودائعَه"، وروينا في "سنن أبي داود" عن قزعة، قال: قال لي ابن عمر: تعال أودِّعْك كما ودعني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "استودع اللهَ دينَك وأمانتك وخواتيمَ عملك" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروينا في "كتاب الترمذي" عن أنس، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! إني أريدُ سفراً، فزوِّدْني، فقال: "زودك اللهُ التقوى"، قال: زدني، قال: "وغفر ذنبك"، قال: زدني: قال، "ويسر لك الخير حيثما كنت" قال الترمذي: هذا حديث حسن. وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - توصيتُه من يودعه

بتقوى الله، والتكبير، والدعاء له بعد ذهابه؛ لما ثبت من أنه جاء إليه رجل، فقال: إني أريد سفراً، قال: أوصيك بتقوى الله، والتكبيرِ على كل شَرَف، فلما ولَّى، قال: "اللهمَّ ازو له الأرضَ، وهَوِّنْ عليه السفرَ". ومنها: 9 - أن يقول عند نهوضه: ما أخرجه البيهقي وغيره عن أنس، قال: لم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفراً قط، إلا قال حين ينهض من جلوسه: "اللهمَّ بك انتشرتُ، وإليك توجهتُ، وبك اعتصمتُ، اللهم أنتَ ثقتي ورجائي، اللهمَّ اكفِني ما أهمَّني، وما لا أهمُّ به، وما أنت أعلمُ به مني، عزَّ جارُك، وجل ثناؤك، ولا إلهَ غيرُك، اللهم زَوِّدني التقوى، واغفر لي ذنبي، ووجهني للخير أينما توجهت"، ثم يخرج. ومنها: 10 - ما في "صحيح مسلم" عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر، كبر ثلاثاً، ثم قال: "سبحان الذي سخَّر لنا هذا، وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهمَّ إنا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هَوِّنْ علينا سفرنا هذا، واطوِعَنا بُعْدَه، اللهم أنتَ الصاحبُ في السفر، والخليفةُ في الأهل، اللهم إني أعوذُ بك من وَعْثاء السفر، وكآبة المَنْظَر، وسوءِ المُنْقَلَب في المال والأهل"، وكلٌّ من الألفاظ سنة يختار منها العبدُ ما شاء، والجمع أحسنُ، وفي رواية أبي داود: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وجيوشه إذا عَلَوُا الثنايا، كَبَّروا، وإذا هبطوا سَبَّحوا. وروينا معناه من رواية جماعة من الصحابة أيضاً مرفوعاً: قال أنس: كان - صلى الله عليه وسلم - إذا علا شرفاً من الأرض، أو نَشَزاً، قال: "اللهمَّ بكَ أشرفُ على كل شرف، ولك الحمد على كل حال". ومنها: 11 - ما روينا في "كتاب ابن السني" عن ابن مسعود، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا انفلتت دابةُ أحدِكم بأرض فلاة، فلينادِ: يا عباد الله! احبسوا، يا عباد الله! احبسوا؛ فإن لله -عز وجل- في الأرض حاصراً سيحبسه". قال النووي: حكى لي بعضُ شيوخنا الكبار في العلم: أنه انفلتت له دابة، أظنُّها بغلة، وكان يعرف هذا الحديث، فقال، فحبسها الله عليهم في الحال، وكنت أنا

مرة في جماعة، فانفلتت منها بهيمة، وعجزوا عنها، فقلته، فوقفت في الحال بغير سبب سوى هذا الكلام، انتهى. قلت: وقد وقع لي مثلُ ذلك في بعض الأسفار، وذهب السيل بالدابة، فقلت: يا عباد الله! أعينوني، فوقفت في الحال، ولله الحمد. ومنها: 12 - ما روينا في "سنن النسائي"، و"كتاب ابن السني" عن صهيب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: "اللهم رِبَّ السموات السبع وما أَظْلَلْنَ، وربَّ الأرضينَ السبعِ وما أقللنَ، وربَّ الشياطين وما أَضللن، وربَّ الرياح وما ذَرَيْنَ، أسألك خيرَ هذه القرية، وخيرَ أهلها، وخيرَ ما فيها، ونعوذ بكَ من شرها، وشرِّ أهلها، وشر ما فيها". وعن ابن مسعود، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خاف قوماً، قال: "اللهمَّ إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم" رواه أبو داود، والنسائي بسند صحيح. وعن خولة بنت حكيم، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من نزل منزلاً، ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضرَّهُ شيء حتى يرتحل من منزله ذلك" أخرجه مسلم، ومالك، والترمذي، وغيرهم. وعن عمر بن الخطاب، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر، فأقبل الليل، قال: "يا أرضُ! ربي وربُّك اللهُ، أعوذُ بالله من شرِّكِ، وشرِّ ما فيكِ، وشرِّ ما خُلق فيكِ، وشرِّ ما يدبُّ عليكِ، أعوذُ بك من أسدٍ وأسودَ، ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والدٍ وما ولد" رواه أبو داود. وكان يرشد مَنْ سافر، إذا أشرفَ على وادٍ هَلَّلَ وكبر، وإذا هبط سبَّح. ومنها: 13 - أن يرفُق بالدابة، فلا يحمِّلها ما لا تطيق، والنومُ عليها يؤذيها، وكان أهل الورع لا ينامون على الدواب إلا غفوة -أي: نعاساً- عن قعود، ويُستحب أن ينزل عن دابته غدوة وعشية يروحها بذلك، فهو سنة، وفيه آثار عن السلف، وكل من آذى بهيمة، وحملها ما لا تطيق، طولب به يوم القيامة، وفي كل كبدٍ رطبةٍ أجر، فليراع حقَّ الدابة والمكاري جميعاً، وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - الأمرُ لمن سافر في الخصب أن يعطي الإبلَ حظها من الأرض، وإذا سافر في السَّنَة،

أن يسرع في السير، وذلك أن يرخي لها الزمامَ في الخصب، ويتركها تأكل من الأرض، وفي الجدب يبادر تخليصها من الطريق لتستريح بالإناخة وتُعلف، وكان يأمر بالتخفيف عن الدابة وإنزالها ما تعتاد، وينهى عن اتخاذها كراسيَ للتحادُث. ومنها: 14 - ما قال الغزالي في "الإحياء": ألا ينزل حتى يحمى النهار، ويكون أكثر سيره بالليل، وليقلل نومه بالليل حتى يكون ذلك عوناً على السير، ويحتاط بالنهار، فلا يمشي منفرداً خارج القافلة؛ لأنه ربما يُغتال أو يَنقطع، ويكون بالليل متحفظاً عند النوم، فإن نام في ابتداء الليل، افترش ذراعه، وإن نام في آخر الليل، نصبَ ذراعه، وجعل رأسه في كفه، هكذا كان ينام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسفاره، والأحبُّ في الليل أن يتناوب الرفيقان في الحراسة، فإذا نام أحدهما، حرسَ الآخرُ، فهو السنة، فإن قصده عدوٌّ أو سَبُع في ليل أو نهار، فليقرأ آية الكرسي والإخلاص والمعوذتين، انتهى. ومنها: 15 - أن تكون اليد خالية من التجارة وغيرها من أغراض الدنيا الدنية، حتى يكون الهمُّ مجرَّداً لله تعالى، والقلبُ مطمئناً منصرِفاً إلى ذكر الله وتعظيم شعائره؛ فإنه -عز وجل- لا يقبل إلا الخالصَ لوجهه الكريم، فعليه الإخلاصُ لله، وصيانةُ الحج من شوائب سمعة ورياء. ومنها: 16 - التوسُّع في الزاد، وطيبُ النفس بالبذل، وبذلُ الزاد في سبيل الحج نفقة في سبيل الله -عز وجل-، والدرهم بسبع مئة درهم، قال ابن عمر: أفضل الحاج أخلصُهم نية، وأزكاهم نفقة، وأحسنهم يقيناً. ومنها: 17 - أن يكون طيبَ النفس بما أصابه من خسران ومصيبة في مال أو بدن؛ فإن ذلك من دلائل قبول حجِّه؛ فإن المصيبة في طريق الحج تعدل النفقةَ في سبيل الله، وهو بمثابة الشدائد في طريق الجهاد، فله بكل أذًى احتمله وخسرانٍ أصابه ثوابٌ، ولا يضيع منه شيء عند الله. ومنها: 18 - ما قاله الغزالي: ألا يعاون أعداءَ الله سبحانه بتسليم المكس، وهم الصادون عن المسجد الحرام من أمراء مكةَ والأعراب. قلت: ومن الأتراك

المترصدين في الطرق، الجالسين في الحديدة، وجدة، ونحوها، انتهى؛ فإن تسليم المال إليهم إعانةٌ على الظلم، فليتلطف في حيلة الخلاص، فإن لم يقدر، فقد قال بعض العلماء: ولا بأس بما قاله: إن ترك التنفل بالحج والرجوع عن الطريق أفضلُ من إعانة الظَّلَمَة؛ فإن هذه بدعة أحدثت، وفي الانقياد لها ما يجعلها سنة مطَّردة، وفيه ذلٌّ وصَغار على المسلمين ببذل جزية، انتهى. ومنها: 19 - إذا خرج ينبغي أن يستعمل مكارم الأخلاق مع رُفقته، ويحسن عشرته معهم، ويُلين جانبه لهم، ويعمل معهم ما يعملونه، ويبذل لهم الموجودَ من غير مضرة، لا سيما بذل الماء لذوي العطش، خصوصاً في طريق المدينة المنورة، ويروى أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أثر الحج، فقال: "إطعامُ الطعام، ولينُ الكلام"، ويكفُّ لسانه إلا عن الخير، وجوارحَه إلا عن المعروف، وإعانة الملهوف، ويحتمل للجافي جفاه، وللموذي أذاه؛ فقد ورد أنها ما تجهزت رفقةٌ للحج، إلا جهز إبليسُ معها رفقةً من أجناده، تأزُّهم إلى الشر، وتبعدهم عن الخير، فالسعيد مَنْ عصمَه الله عن ذلك. وينبغي ألا يكون كثير الاعتراض على رفيقه وجِماله وخادمِه وغيرِهم من أصحابه، بل يخفض جناحه، ويُلين جانبه للسائرين إلى بيت الله؛ إذ ليس حسن الخلق كفَّ الأذى، بل احتمال الأذى، وقيل: سمي السفر: سفراً؛ لأنه يُسْفِر عن أخلاق الرجال. ومنها: 20 - أن يترك الرفثَ والفسوقَ والجدال، كما نطق به القرآن الكريم، والرفث: اسمٌ جامع لكل لغوٍ وخَنَا وفحشٍ من الكلام، ويدخل فيه مغازلةُ النساء ومداعبتهن، والتحدثُ بشأن الجماع ومقدماته؛ فإن ذلك يهيج داعيةَ الجِماع، والداعي إلى المحظور محظورٌ، وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنسُ الرفث، فلهذا مُيز بينه وبين الفسوق وسائر المحظورات؛ كاللباس والطيب؛ فإنه وإن كان يأثم بها، فلا يفسد الحج عند أحد من الأئمة المشهورين، والفسوق: اسم جامع لكل خروج عن طاعة الله -عز وجل-، ويتناول كلَّ ما حرمه الله، ولا يختص بالسباب، وإن كان سباب المسلم فسوق، فالفسوق يعمُّ هذا وغيرَه، والجدال: هو المبالغة في الخصومة، والمماراة بما يورث الضغائن، ويفرق في

الحال الهمة، ويناقض حسن الخلق، ولم ينه الله المحرمَ ولا غيره عن الجدال مطلقاً، بل الجدال قد يكون واجباً أو مستحباً، كما قال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقد يكون محرَّماً؛ كالجدال في الحق بعد ما تبين، وهذا يعم الحجَّ وغيره. ومنها: 21 - ما روى أبو هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "ثلاثُ دَعَوات مستجابات لا شكَّ فيهن: 1 - دعوة المظلوم، 2 - ودعوة المسافر، 3 - ودعوة الوالد على ولده" رواه أبو داود، وابن ماجه، وحسنه الترمذي، وليس في راوية أبي داود: "على ولده"، وعن عمر: جاء غلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني أريد الحج، فمشى معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "يا غلام! زَوَّدَكَ اللهُ التقوى، ووجَّهك في الخير، وكفاك الهمَّ"، فلما رجع الغلام، سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "قبلَ اللهُ حجَّك، وغفرَ ذنبك، وأخلف نفقتك" رواه ابن السني. وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اغفرْ للحاجِّ، ولمن استغفر له الحاجُّ" رواه البيهقي، وقال الحاكم: هو صحيح على شرط مسلم. ومنها: 22 - الإحرامُ من دُوَيْرَةِ أهلِه، فقد قيل: إن ذلك من تمام الحجّ، قاله عمر، وعلي، وابن مسعود في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. ومنها: 23 - ألا يركب إلا زاملةً، وحجَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلة، وكان تحته رحلٌ رَثٌّ، وقَطيفة خَلَقَة ثمنُها أربعة دراهم، وقيل: إن هذه المحامل أحدثها الحَجَّاج، وكان العلماء في وقته يُنكرونها، وكان ابن عمر إذا نظر إليها يقول: الحاجُّ قليل، والركبُ كثير، ثم نظر إلى رجل مسكين رثِّ الهيئِة تحتَ جوالقَ، فقال: هذا من الحُجاج. وفي "سفر السعادة": وكان - صلى الله عليه وسلم - راكباً على بعير عليه رحل، وليس عليه شقذف، ولا محارة، ولا محمل، ولا هودج، ولا مِحَفَّة، انتهى. فينبغي أن يكون رثَّ الهيئة، أشعثَ أغبرَ، غيرَ مستكثر من الزينة، ولا مائل إلى أسباب التفاخر والتكاثر، فيكتب في ديوان المتكبرين، لا يسرف في التنعُّم والترفُّه والتزيُّن؛ فإن ذلك بعيد عن المسكنة التي هي مقصودة بعبادة الحج، وفي

3 - فصل في وجوب الحج والعمرة لله -عز وجل-

الحديث: "إنما الحاج الشعثُ التَّفِلُ، يقول الله تعالى: انظروا إلى زوار بيتي، قد جاؤوا شُعْثاً غُبْراً من كل فجٍّ عميق"، وقال تعالى: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} والتفث: الشعث، والاغبرار، وقضاؤه بالحلق وقصِّ الشارب والأظفار. ومنها: 24 - أنه كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - في أسفاره، قصرُ الصلاة الرباعية، والاقتصارُ على الفرائض دون نوافها، إلا سنَة الفجر والوتر؛ فإنه كان لا يدعُهما. ومنها: 25 - أنه كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل بعد زوال الشمس، جمع الظهر إلى العصر، وصلى الصلاتين معاً، وإن ارتحل قبلَه، أخَّر الظهر إلى العصر، فينزل لهما معاً، وكذلك المغرب والعشاء، لم يأتِ أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلاة لأول وقتها منفردة عن الأخرى، وكان من هديه أداءُ الناقلة المطلقة على راحلته. هذه آداب السفر التي ذكرها أهل المناسك في كتبهم، وهي لا تختص بالحج والعمرة، بل تعم الأسفارَ كلَّها، ولكن إذا كان مراعاتها في آحاد الأسفار يستحب ويسن، ففي سفر الحج الذي هو خير الأسفار وأصعبها بالأولى، فلذلك ذكرتُها، وإن طالت ذيولها. 3 - فصل في وجوب الحج والعمرة لله -عز وجل- قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 95 - 97]، وعن أبي هريرة قال: خطبَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أيها الناس! قد فُرض عليكم الحجُّ فحجوا" رواه أحمد، ومسلم، والنسائي. وقالوا: الحج فريضة محكَمة على كل مكلف حر مسلم مستطيع، يكفر جاحدُها، ويفسق تاركها بغير عذر، ولا يجبُ إلا مرة واحدة، باتفاق الأئمة، وعليه إجماع الأمة، قاله الحافظ ابن حجر، والنووي، وغيرهما، وكذلك العمرةُ عندَ من قال بوجوبها؛ كالشافعي: لا تجب إلا مرة واحدة، إلا أن ينذر، فيجبُ الوفاء بالنذر بشرطه.

4 - فصل في وجوب الحج على الفور

وعن أبي رزين "العقيلي: أنه أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحجَّ ولا العمرة ولا الظعنَ، قال: "حج عن أبيك واعتمر" رواه الخمسة، وصححه الترمذي، قال أحمد بن حنبل: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثاً أجودَ من هذا، ولا أصح منه، انتهى. قلت: وقد جزم بوجوبها جماعةٌ من أهل الحديث، وبه قال أحمد، وإسحاق، والثوري، والمزني، والمشهور عن المالكية: أنها ليست بواجبة، وهو قول الحنفية، ولا خلاف في المشروعية، وقد روي القولُ بوجوبها عن علي، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وزين العابدين، وطاوس، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وهو الراجح. واختلفوا في ابتداء افتراض الحج، فقيل: قبل الهجرة، قال في "الفتح": هو شاذ، وقيل: بعدها، ثم اختلفوا في سنته، فالجمهور على أنه سنة ست، وقيل: خمس، وقيل: تسع، أو عشر، ورجحه الحافظ ابن القيم في "الهدي"، واستدل على ذلك بأدلة، فليؤخذ منه. وفي "سفر السعادة": جماهير العلماء: أنه - صلى الله عليه وسلم - حج بعد الهجرة حجة، وتلك حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت في السنة العاشرة من الهجرة، وأما قبل الهجرة، فثبت في الترمذي أنه حج حجتين، ونقل صاحب "المحلى": أنه زاد على ثلاث وأربع، لكن لم يحفظ العدد، ولما فرض الحج في العام التاسع، اشتغل بتجهيز أسباب السفر في الفور، وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]؛ فإنها نزلت في العام السادس، وذا لا يدل على فرضية الحج والعمرة، بل هو أمر بإتمام الحج والعمرة بعد الشروع فيه، انتهى. 4 - فصل في وجوب الحج على الفور عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "تعجلوا -أي: الحج-؛ فإن أحدَكم لا يدري ما يعرِضُ له" رواه أحمد، وعن علي -رضي الله تعالى عنه-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من مَلَكَ زاداً وراحلة تُبْلِغُه إلى بيت الله، ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً، وذلك أن الله

تعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] رواه الترمذي والبيهقي من رواية الحارث بن علي، وكلام الناس في الحارث مشهور، كذَّبه الشعبي، وابن المديني، وقال أيوب: كان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروي عن عليٍّ باطل، واختلف فيه رأيُ ابن معين، والنسائي، وابن حبان، فضعفوه تارة، ووثقوه أخرى، وميل النسائي إلى توثيقه، والاحتجاج به، وتقوية أمره، وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، انتهى. والحاصل: أن الحديث ضعيف كما قاله النووي في "شرح المهذب"، نعم صح ذلك عن عمر -رضي الله تعالى عنه-، ومن ثم قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كلَّ من كان له جِدَةٌ ولم يَحُجّ، فيضربوا عليهم الجزيةَ، ما هم بمسلمين، رواه سعيد بن منصور في "سنته"، والبيهقي، ومثل ذلك الحديث لا يقال من قبل الرأي، فيكون في حكم المرفوع، وقد رواه البيهقي أيضاً عن عبد الله بن سابط، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من لم تحبسه حاجة ظاهرة، أو مرض حابس، أو سلطان جائر، ولم يحج، فليمتْ إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً". وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله -عز وجل-: إن عبداً أصححتُ له جسمَه، ووسَّعْتُ عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسةُ أعوام لا يغدو عليَّ لَمحرومٌ" رواه ابن حبان في "صححيه"، والبيهقي، وقال: قال علي بن المنذر: أخبرني بعض أصحابنا: كان حسن بن حَيٍّ يعجبه هذا الحديث، وبه يأخذ، ويحب للرجل الموسر الصحيح ألا يترك الحج خمس سنين. وفي الباب أحاديث تدل على أن الحج واجبٌ على الفور، وإليه ذهب أبو حنيفة، وأحمد وبعض أصحاب الشافعي، وهو رواية العراقيين عن مالك. وقال الشافعي، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد، وهو مذهب مالك عند القاضي عياض وأتباعه من المغاربة: إنه على التراخي، إلا أن ينتهي إلى حال يظن فواته لو أخره عنها. وعن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاوس: لو علمت رجلاً غنياً وجبَ عليه الحج، ثم مات قبل أن يحجَّ،

5 - فصل في اعتبار الزاد والراحلة

ما صليتُ عليه، وبعضهم كان له جارٌ موسر، فمات ولم يحجَّ، فلم يصل عليه، وكان ابن عباس يقول: من مات ولم يحج، سأل الرجعة إلى الدنيا، وقرأ قوله تعالى: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99 - 100] قال: أَحُجُّ. 5 - فصل في اعتبار الزاد والراحلة عن أنس في قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، قال: قيل: يا رسول الله! ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة"، رواه الدارقطني، والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، والبيهقي. وفي الباب عن ابن عمر عند الشافعي، والترمذي، وحسنه، وابن ماجه، والدارقطني، وفي سنده ضعف. وعن جابر، وعلي، وابن مسعود، وعائشة، وابن عمر، وعند الدارقطني من طرق، قال الحافظ: كلها ضعيفة. قلت: ولكن هذه الطرق بعضُها يقوي بعضاً فيصلح الاحتجاج بها، وبذلك استدل من قال: إن الاستطاعة في القرآن: هي الزاد والراحلة، والأكثر على أن الزاد شرطُ وجوب، وهو أن يجد ما يكفيه ويكفي من يعول حتى يرجع، وكذا الراحلة شرط وجوب عند ابن عباس، وابن عمر، والثوري، وأكثر الفقهاء. وقال ابن الزبير، وعطاء، وعكرمة: إن الاستطاعة الصحةُ لا غير، وقال مالك: إن من قدر على المشي ولا يجد راحلة، لزمه بقوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج: 27] ومَنْ عادُته السؤال، لزمه، وإن لم يجد الزاد. وفي كتب الفقه تفاصيلُ في قدر الاستطاعة، ذكرت بعضَها في كتابنا "نيل المرام من تفسير آيات الأحكام"، والذي دل عليه الدليل، هو اعتبار الزاد والراحلة، وإن قدر على المشي. 6 - فصل في ركوب البحر عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنه-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يركب البحرَ إلا حاجٌّ أو معتمرٌ أو غازٍ في سبيل الله -عز وجل-؛ فإن تحتَ البحر ناراً، وتحت النار بحراً" رواه أبو داود، وسعيد بن منصور، في "سننهما"، والبيهقي،

7 - فصل في حج الصبي والرقيق والحج عن الغير

قال الخطابي: ضعفوا إسناده. وعن أبي عمران الجوني، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ركب البحرَ عند ارتجاجه، فمات، برئت منه الذمةُ رواه أحمد، وفي سنده مجهول، والارتجاج: الاضطراب، وفيه دلالة على عدم جواز ركوب البحر في أوقات اضطرابه وطوفانه. وعن الحسن، عن سمرة: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتَّجرون في البحر، وفي سماع الحسن عن سمرة مقال، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصيادين لما قالوا: إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فدل على جواز ركوب البحر للحج، إلا أن يغلب على ظنه الهلاك. قال الشوكاني: غايةُ ما في ذلك: أن يكون ركوبُ البحر للصيد والتجارة، مما خُصَّ به عمومُ مفهوم الحديث على ما فرض صلاحيته للاحتجاج، انتهى. ولا طريق لأهل الهند إلا ركوبُ البحر للحج، والغالبُ فيه السلامة، فلا يسقط الفرض على ظن الهلاك، ومن أسقطه، فقد أخطأ. وعن حسين بن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمانٌ لأمتي من الغرق إذا ركبوا أن يقولوا: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41]، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] رواه ابن السني. وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- البحر وفلكه وموجه في كتابه العزيز في مواضع. 7 - فصل في حج الصبي والرقيق والحج عن الغير قال ابن بطال: أجمع أئمةُ الفتوى على سقوط الفرض عن الصبي حتى يبلغ، وإذا حج، كان له تطوُّعاً عند الجمهور، قال القاضي عياض: أجمعوا على أنه لا يجزيه إذا بلغ عن حجة الإسلام، إلا فرقةٌ شذت، فقالت: يجزيه؛ لقوله: "نعم"، وظاهره: كون حج الصبي حجاً مطلقاً، والحج إذا أطلق تبادر منه إسقاطُ الواجب، ولكن العلماء ذهبوا إلى خلافه، وقد ذهب طائفة من أهل البدع إلى منع الصغير من الحج، قال النووي: وهو مردود، ولا يُلتفت إليه؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وإجماع الأمة على خلافه، انتهى. قال أبو حنيفة: لا يصح إحرامه، ولا يلزمه شيء من محظورات الحرام، وإنما يحج به على جهة التدريب.

8 - فصل في أنواع الحج

وفي "نيل الأوطار" بعد ذكر أحاديث الباب: يؤخذ من مجموع هذه الأحاديث: أنه يصح حج الصبي، ولا يجزيه عن حجة الإسلام إذا بلغ، وهذا هو الحق، فتعين المصير إليه جمعاً بين الأدلة، انتهى. قال عز بن جماعة: يُحْرِم الصبي المميزُ بإذن وليه باتفاق الأربعة، ولا يصح إحرامه بغير إذن وليه عند الشافعية، والحنابلة، ويصح عند المالكية، ويُحْرِم عن الصبي الذي لا يميز وليُّه، وإن كان محرِماً عن نفسه، ومتى صار الصبي محرماً بإحرامه أو إحرام وليه، فعل الصبي ما قدر عليه، وفعل به الولي ما عجز عنه باتفاق الأربعة، والرقيق ينعقد إحرامُه بإذن سيده، وبغير إذنه عند الشافعية، والمالكية، والحنابلة، وعند الحنفية أنه لا ينعقد إحرامه إلا بإذن سيده، انتهى. وهكذا يصح الحج عن الغير، سواء كان حياً أو ميتاً؛ للأحاديث الواردة في ذلك في الصحاح والسنن، وهي كثيرة، منها: حديث ابن عباس، وفيه: قالت: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: "نعم"، متفق عليه، واللفظ للبخاري وسأله رجل، فقال: إن أبي مات ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال: "أرأيتَ إن كان على أبيك دَيْنٌ أكنت قاضيه؟ "، قال: نعم، قال: "فدين الله أحق"، رواه أحمد، ونحو ذلك، وهي تدل على أن السؤال والجواب إنما كان عن القبول والصحة، لا عن الوجوب، فافهم. 8 - فصل في أنواع الحج وهي ثلاث: 1 - الإفراد: وهو للآفاقي أن يحرم من الميقات، فإن دخل مكة قبل الوقوف، طاف للقدوم، ورَمَلَ فيه، وسعى بين الصفا والمروة، ثم بقي على إحرامه حتى يقوم بعرفة، ويرمي ويحلق ويطوف، ولا رمل ولا سعى حينئذ، ولحاضرِ مكة أن يُحرِم منها، ويخرج إلى عرفات، ويكون فيها عشيةَ عرفة، ثم يرجع منها بعد غروب الشمس، ويبيت بمزدلفة، ويدفع منها قبل شروق الشمس، فيأتي منى، ويرمي العقبة الكبرى، ويُهدي إن كان معه، ويحلق أو يقصر، ثم يطوف للإفاضة في أيام منى، ويسعى بين الصفا والمروة، ولا خلاف في جوازه، وليس على المفرد دم إلا أن يتطوع.

9 - فصل في بيان الأفضل من هذه الأنواع

2 - والقِران: وهو أن يحرم الآفاقي بالحج والعمرة معاً، ثم يدخل مكة، ويبقى على إحرامه حتى يفرغ من أعمال الحج، وعليه أن يطوف طوافاً وحداً، ويسعى سعياً واحداً عند أهل المدينة والشافعي، وطوافين وسعيين عند الحنفية، ثم يذبح ما استيسر من الهَدْي، فإذا أراد إن ينفر من مكة، طاف للوداع، وهو أيضاً متفَق على جوازه، وداخل في اسم التمتُّع في الكتاب والسنة وكلامِ الصحابة، وعلى القارن دمُ شاة، إلا أن يكون مكيّاً، فلا شيء عليه. 3 - والتمتعُّ: وهو أن يُحرم الآفاقيُّ للعمرة في أشهر الحج، فيدخل مكة، ويتم عمرته، ويخرج من إحرامه، ثم يبقى حلالاً حتى يحج، وعليه أن يذبح ما استيسر من الهدي، وهذا يختص باسم التمتع. وحكى النووي الإجماعَ على جواز هذه الأنواع الثلاثة. 9 - فصل في بيان الأفضل من هذه الأنواع عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "من أراد منكم أن يُهِلَّ بحج وعمرة، فليفعلْ، ومن أراد أن يُهل بحج، فليهلَّ، ومن أراد أن يُهل بعمرة، فليهل" متفق عليه، وفيه إذن منه - صلى الله عليه وسلم - بالحج: إفراداً، وقِراناً، وتمتعاً، واختلفوا في الأفضل منها، فذهب جمع من الصحابة والتابعين، وأبو حنيفة، وإسحاق إلى أن القِران أفضل، ورجحه جماعة من الشافعية، منهم: النووي، والمزني، وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزي، وتقي الدين السبكي. وقال جماعة من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم؛ كمالك، وأحمد، والباقر، والصادق، وغيرهم: إن التمتع أفضل. وذهب جماعة من الصحابة، وجماعة ممن بعدهم، وجماعة من الشافعية؛ كالغزالي وغيرهم إلى أن الإفراد أفضل، وعن بعضهم: أن الأنواع الثلاثة في الفضل سواء، قال في "الفتح": وهو مقتضى تصرف ابن خزيمة في "صحيحه"، وقال أبو يوسف: القِران، والتمتع، في الفضل سواء، وهما أفضل من الإفراد. وعن أحمد: من ساق الهدي، فالقرانُ أفضل له؛ ليوافق فعلَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن لم يسق الهدي: فالتمتُّع أفضلُ له؛ ليوافق ما تمناه، وأمر به أصحابه، وزاد بعضُ

10 - فصل في نوع حجه - صلى الله عليه وسلم -

أتباعه، فقال: من أراد أن ينشىء بعمرته من بلد سفره، فالإفراد أفضلُ له باتفاق الأئمة الأربعة، وهذا أعدل المذاهب، وأشبهها بموافقة الأحاديث الصحيحة، ولكن المشهور عن أحمد: أن التمتع أفضلُ مطلقاً. قال الشوكاني بعد ذكر استدلالهم: لم يوجد في شيء من الأحاديث ما يدل على أن بعض الأنواع أفضلُ من بعض غير هذا الحديث؛ يعني: حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ما سقت الهدي، ولجعلتُها عمرةً" متفق عليه، فالتمسك به متعين، ولا ينبغي أن يُلتفت إلى غيره من المرجِّحات؛ فإنها في مقابلته ضائعة، انتهى. 10 - فصل في نوع حجه - صلى الله عليه وسلم - اختلفت الروايات في ذلك، فروي أنه حج قِراناً من جهة جماعة من الصحابة، منهم: ابن عمر عند الشيخين، وعنه: عند مسلم، وعائشة عندهما أيضاً، وعنها: عند أبي داود، وعنها: عند مالك في "الموطأ"، وجابر عند الترمذي، وابن عباس عند أبي داود، وعمر بن الخطاب عند البخاري، والبراء بن عازب عند أبي داود، وعلي -عليه السلام- عند النسائي، وعنه: عند الشيخين، وعمران بن حصين عند مسلم، وأبو قتادة عند الدارقطني، وله طرق صحيحة، وسراقة بن مالك عند أحمد، ورجال إسناده ثقات، وأبو طلحة الأنصاري عند أحمد، وابن ماجه، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة، والهمراس بن زياد الباهلي عند أحمد أيضاً، وابن أبي أوفى عند البزار بسند صحيح، وأبو سعيد عند البزار، وجابر بن عبد الله عند أحمد، وفيه الحجاج بن أرطاة، وأم سلمة عنده أيضاً، وحفصة عند الشيخين، وسعيد بن أبي وقاص عند النسائي والترمذي، وصححه، وأنس عند الشيخين. وأما حجه تمتعاً: فروي عن عائشة، وابن عمر عند الشيخين، وعلي وعثمان عند مسلم، وأحمد وابن عباس عند أحمد والترمذي، وسعد بن أبي وقاص. وأما حجه إفراداً: فروي عن عائشة عند البخاري، وعن ابن عمر عند أحمد ومسلم، وابن عباس عند مسلم، وجابر عند ابن ماجه، وعنه: عند مسلم.

11 - فصل في إدخال العمرة على الحج وفسخه إليها

وبالجملة: فقد اختلفت الأنظار واضطربت الأقوال لاختلاف هذه الأحاديث، فمن أهل العلم من جمع بين الروايات؛ كالخطابي، والقاضي عياض، وابن المنذر، وبينه ابن حزم في حجة الوداع بياناً شافياً، ومهده المحب الطبري تمهيداً بالغاً يطول ذكره. وجمع شيخ الإسلام ابن تيمية جمعاً حسناً، فقال ما حاصله: إن التمتع عند الصحابة يتناول القِران، فيحمل عليه رواية من روى أنه حج متمتعاً، وكل من روى الإفرادَ روى أنه حج تمتعاً وقراناً، فتعين الحمل على القِران، وأنه أفرد أعمال الحج، ثم فرغ منها وأتى بالعمرة، وعامة النقول عن الصحابة في صفة حجه - صلى الله عليه وسلم - ليست بمختلفة، وإنما اشتبهت على من لا يعرف مرادهم، انتهى. ومن أهل العلم من صار إلى التعارض، فرجح نوعاً، وأجاب عن الأحاديث القاضية بما يخالفه، وهي جوابات طويلة أكثرها متعسفة، وأورد كل منهم لما اختاره مرجِّحات أقواها وأولاها مرجحات القِران، فإنه لا يقاومها شيء من مرجحات غيره، والسنة أنه حج قِراناً، وأظهر أنه كان يود أن يكون حجه تمتعاً. قال الشوكاني: وهذان البحثان -أعني: تعيينَ ما حجه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنواع، وبيان ما هو الأفضل منها -من المضائق ومواطن البسط، انتهى. 11 - فصل في إدخال العمرة على الحج وفسخه إليها وهو جائز بحديث نافع عن ابن عمر عند الشيخين، وفيه: هكذا صنع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإليه ذهب الجمهور، لكن بشرط أن يكون الإدخال قبل الشروع في وطواف العمرة، وقيل: إن كان قبل مضي أربعة أشواط، صحَّ، وهو قول الحنفية، وقيل: ولو بعد إتمام الطواف، وهو قول المالكية، وشدد أبو ثور فمنعه، قال أحمد، وطائفة من أهل الظاهر، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعي: يجوز فسخ الحج إلى العمرة لكل أحد، وقال جمهور السلف والخلف: هذا الفسخ مختص بالصحابة في تلك السنة، ولا يجوز بعدها، وإنما أُمروا به ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، واستدلوا بحديث أبي ذر، وحديث الحارث بن هلال عن أبيه.

ومعنى قوله: "للأبد": جوازُ الاعتمار في أشهر الحج، والقِران فيها إلى يوم القيامة، وقد عارضها المجوِّزون للفسخ بأحاديث كثيرة عن أربعة عشر نفساً من الصحابة، وروى عن هؤلاء الصحابة طوائفُ من كبار التابعين حتى صار منقولاً عنهم نقلًا يرفع الشك، ويوجب اليقين، ولا يمكن أحداً أن ينكره، أو يقول: لم يقع، وهو مذهب أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومذهب حجر الأمة وبحرها ابن عباس وأصحابه، ومذهب أبي موسى الأشعري، ومذهب إمام أهل السنة والحديث أحمد بن حنبل، وأهل الحديث معه، ومذهب عبد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، ومذهب أهل الظاهر. وبالجملة: ليس في المقام متمسَّك بيد المانعين يُعتد به، ويصلح لنصبه في مقابلة هذه السنة المتواترة، وقد أبعدَ من قال إنها منسوخة؛ لأن دعوى النسخ تحتاج إلى نصوص صحيحة متأخرة عن هذه النصوص، وأما مجرد الدعوى، فأمرٌ لا يعجز عنه أحد، وإذا تقرر لك هذا، علمتَ أن هذه السنة عامة لجميع الأمة. قال الحافظ ابن القيم في "إعلام الموقعين": وأفتى - صلى الله عليه وسلم - بجواز فسخهم الحجَّ إلى العمرة، ثم أفتاهم باستحبابه، ثم أفتاهم بفعله حتماً، ولم ينسخه شيء بعده، والذي ندين اللهَ به أن القولَ بوجوبه أقوى وأصحُّ من القول بالمنع منه، وقد صح عنه صحة لا شك فيها أنه قال: "من لم يكن أهدى، فليهلَّ بالعمرة، ومن أهدى، فليهلَّ بحج مع عمرة"، وأما فعله هو: فإنه صح عنه أنه قرن بين الحج والعمرة، ففعل القِران، وأمر بفعله مَنْ ساق الهدي، وأمر بفسخه إلى التمتع من لم يسق الهدي، وهذا من فعله وقوله كأنه رأي عين، وقال في "الهدى النبوي" بعد أن ذكر حديث البراء، وغضبَه - صلى الله عليه وسلم - لما لم يفعلوا ما أمرهم به من الفسخ: ونحن نشُهد الله علينا أن لو أحرمنا بحج، لرأينا فرضاً علينا فسَخه إلى عمرة؛ اتقاءً من غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتباعاً لأمره، فوالله! ما نسخ هذا في حياته، ولا بعده، ولا صحَّ حرفٌ واحد يعارضه، ولا خص به أصحابه دون من بعدهم، بل أجرى الله على لسان سراقة أن يسأله: هل ذلك مختص بهم؟ فأجابه

12 - فصل في مواقيت الحج

بأن ذلك كائن لأبد الأبد، فما ندري ما تقدم على هذه الأحاديث، وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على من خالفه، انتهى. وبالجملة: فقد اختلفوا، هل الفسخ على جهة الوجوب أم الجواز؟ ومال ابن القيم إلى وجوبه، ورجحه، وبين بطلان ما احتج به المانعون، وأطال الكلام فيه في "الهدي"، فمن أحبَّ الوقوف على جميع ذيول هذه المسألة، فليراجعه. قال الشوكاني: وإذا كان الموقع في مثل هذا المضيق هو إفرادُ الحج، والحازمُ لدينه الواقفُ عند مشتبهات الشريعة ينبغي له أن يجعل حجه من الابتداء تمتعاً أو قِراناً مما هو مظنة البأس إلى ما لا بأس به، فإن وقع في ذلك، فالسنة أحقُّ بالاتباع، وإذا جاء نهرُ الله، بطل نهر مَعْقِل، انتهى. وقد تمتعت أنا في حجي ولله الحمد. 12 - فصل في مواقيت الحج عن ابن عباس -رضي الله عنه-، قال: وقّت رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة: "ذا الحليفة"، ولأهل الشام: "الجحفة"، ولأهل نجد: "قرن المنازل" ولأهل اليمن "يَلَمْلَم"، قال: "فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلن لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهم، فمهله من أهله وكذلك أهل، مكة يهلون منها" متفق عليه. قلت: ذو الحليفة -مصغراً-: مكان معروف، بينه وبين المدينة ستة أميال، ووهم من قال: بينهما ميل واحد، وهو ابن الضباع، قال في "الفتح": بينه وبين مكة مئتا ميل غير ميلين، قاله ابن حزم، وقال غيره: بينهما عشرة مراحل، وبها مسجد يعرف بمسجد الشجرة خرابٌ، وفيها بئر، يقال لها: "بئر علي"؛ لظنهم أن علياً قاتل الجن هناك، وهو كذب؛ فإن الجن لم يقاتلهم أحد من الصحابة، وعلي -عليه السلام- أرفعُ قدراً من أن يثبت الجن لقتاله، ولا فضيلة لهذه البئر ولا مذمة، ولا يستحب أن يرمى فيه حجر ولا غيره، وهذا الميقات أبعد المواقيت من مكة المكرمة، ويسمى: وادي العقيق.

والجحفة -بضم الجيم-: قرية خربة، بينها وبين مكة خمس مراحل أو ست، وفي قول النووي في "شرح المهذب": ثلاث مراحل، نظر. في "القاموس": هي على اثنين وثمانين ميلا من مكة، وبها غدير خُمّ، قاله صاحب "النهاية"، يقال لها: "مَهْيَعة"، وهي اليوم خراب، ولهذا صار الناس يُحرمون من قبلِها من المكان الذي يسمى: رابغ، وهو ميقات لمن حج من ناحية المغرب، بل الشام ومصر، لكن أهل الشام ومصر إذا اجتازوا بالمدينة النبوية -كما يفعلونه في هذه الأوقات- أحرموا من ميقات المدينة؛ فإن هذا هو المستحب لهم بالاتفاق، فإن أخروا الإحرام إلى الجحفة، ففيه نزاع، ورأيت الحجاج يحرمون من رابغ عند الرجوع من المدينة إلى مكة، ولا يحرمون من ذي الحليفة، وهذه بدعة أُحدثت في هذا الزمان. وقرن المنازل -بسكون الراء- بلا خلاف بين أهل العلم من أهل الحديث واللغة والتاريخ والأسماء وغيرهم، وضبطه صاحب "الصحاح" بفتح الراء، وغلَّطه صاحب "القاموس"، وحكى النووي الاتفاق على تخطئته، وقيل: بالسكون: جبل، وبالفتح: طريق، والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة الشرق مرحلتان، وهو أقرب المواقيت إلى مكة. ويَلَمْلَم: جبلٌ من جبال تهامة، قال في "القاموس": على مرحلتين من مكة، وقال في "الفتح" مثله، وزاد: بينهما ثلاثون ميلاً. وهي ميقات أهل اليمن وأهل الهند. وذات عِرْق -بكسر العين-: ميقات أهل العراق بتوقيت عمر بن الخطاب، رواه البخاري عن ابن عمر عنه -رضي الله تعالى عنه-، وروي عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقَّت لأهل العراق ذاتَ عرق، رواه أبو داود، والنسائي. وميقات المكي للحج والعمرة: جوفُ مكة. وفائدة التوقيت: المنعُ عن تأخير الإحرام، فلو قدم عليه، جاز، قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد: هذه المواقيت واجبة، فلو تركها وأحرم بعد مجاوزتها، أثم, ولزمه دم، وصحَّ حجه، وقال عطاء والنخعي: لا شيء عليه،

13 - فصل في ميقات العمرة وهو الحل

وقال سعيد بن جبير: لا يصح حجه، قالت الشافعية: فإن عاد إلى الميقات قبل التلبس، سقط عنه الدم. وأما من لا يريد حجاً ولا عمرة، فلا يلزمه الإحرام لدخول مكة على الصحيح من مذهب الشافعية، ويؤيده حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم فتح مكة وعليه عِمامة سوداءُ بغير إحرام، رواه مسلم، والنسائي. وفي الباب عن أنس عند أحمد والبخاري. قال الشوكاني: قد كان المسلمون في عصره - صلى الله عليه وسلم - يختلفون إلى مكة لحوائجهم، ولم ينقل أنه أمر أحداً منهم بإحرام؛ كقصة الحَجَّاج بنِ عِلاط، وكذا قصة أبي قتادة، لما عقر حمار الوحش داخل الميقات وهو حلال، وقد كان أرسله لغرض قبل الحج، فجاوز الميقات لا بنيّة الحج ولا العمرة، فقرره - صلى الله عليه وسلم - مع ما يقتضي عدم الوجوب من استصحاب البراءة الأصلية إلى أن يقوم دليل نقل عنها، انتهى. 13 - فصل في ميقات العمرة وهو الحل قال في "المنهاج": أفضلُ بقاع الحل: الجِعْرَانَّة، ثم التنعيم، ثم الحديبية، وفي "العالم كيرية": التنعيم أفضل. وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: لم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر، لا في رمضان، ولا في غيره، والذين حجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم من اعتمر بعد الحج من مكة، إلا عائشة، ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين، انتهى. وقال الحافظ ابن القيم: لم تكن في عُمْره عُمْرةٌ واحدة خارجاً من مكة كما يفعله كثير من الناس، وإنما كانت عُمَرُه كلها داخلاً إلى مكة، وقد قام بعد الوحي ثلاث عشرة سنة، لم ينقل أنه اعتمر خارجاً من مكة، ولم يفعله أحد على عهده قط إلا عائشة؛ لأنها أهلت بالعمرة، فحاضت، فأمرها، فقرنت، وأخبر أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة قد وقع عن حجتها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن ترجع صواحبُها بحجة وعمرة مستقلتين، فإنهن كنَّ متمتعات ولم يحضن،

14 - فصل في كراهة الإحرام قبل أشهر الحج

وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يُعْمِرها من التنعيم مُطَيِّباً لقلبها، والله تعالى أعلم. 14 - فصل في كراهة الإحرام قبل أشهر الحج قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197] , وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، قال: من السنة ألا يُحرم بالحج إلا في أشهر الحج، أخرجه البخاري. وعن ابن عمر، قال: أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة. وللدارقطني مثله عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، وقد استدل بذلك على كراهة الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، وقد روي مثل ذلك عن عثمان، وقال ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وغيرهم من الصحابة والتابعين: إنه لا يصح الإحرام بالحج إلا فيها، وهو قول الشافعي. وقد تقرر في الأصول أن قول الصحابي لا حجة فيه، وليس في الباب إلا أقوال الصحابة، إلا أن يصح ما ذكر عن ابن عباس من قوله: من السنة؛ فإن هذه الصيغة لها حكمُ الرفع، وقد ورد ما يدل على استحباب الإحرام من دُوَيرة أهله، وظاهره: عدم الفرق بين من يفارقها قبل دخول أشهر الحج، أو بعد دخولها، إلا أنه يتقوى المنع من الإحرام قبل أشهر الحج بأن الله سبحانه ضرب لأعمال الحج أشهراً معلومة، والإحرام عمل من أعمال الحج، فمن ادعى أنه يصح قبلها، فعليه الدليل. وقد أجمع العلماء على أن المراد بأشهر الحج ثلاثة: أولها شوال، لكن اختلفوا هل هي بكمالها، أو شهران وبعض الثالث؟ فذهب إلى الأول مالك، وهو قول للشافعي، وذهب غيرهما من العلماء إلى الثاني، ثم اختلفوا، فقال ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وآخرون: عشر ليال من ذي الحجة، وهل يدخل يوم النحر أو لا؟ فقال أحمد، وأبو حنيفة: نعم، وقال الشافعي -في المشهور الصحيح عنه-: لا، وقال بعض أتباعه: تسع من ذي الحجة، ولا يصح

15 - فصل في جواز العمرة في جميع السنة

في يوم النحر، ولا في ليلته، وهو شاذ، ويرد على من أخرج يوم النحر من أشهر الحج قوله - صلى الله عليه وسلم - في يوم النحر: "هذا يوم الحج الأكبر" كما في حديث ابن عمر عند البخاري، وأبي داود، وابن ماجه. وبالجملة: فالإحرام بالحج قبل أشهر الحج ليس بمسنون، بل مكروه، وإذا فعله، فهل يصير محرماً بعمرة أو حج؟ فيه نزاع، قال الشافعي: إن أحرم قبلها، لا ينعقد حجاً، ويكون عمرة، وقال أبو حنيفة: ينعقد إحرامه بالحج، وإذا عمل شيئاً من أعمال الحج؛ من طواف وسعي قبل أشهر الحج، لا يجوز باتفاق أهل العلم. 15 - فصل في جواز العمرة في جميع السنة عن أنس -رضي الله تعالى عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عُمَرٍ، كلُّهن في ذي القعدة، إلا التي مع حجته، رواه مسلم، ومثله من حديث عائشة وابن عمر عند البخاري وغيره، وفي الباب عن أبي هريرة عند عبد الرزاق، وفي حديث عائشة عند سعيد بن منصور: اعتمر ثلاث عمر: مرتين في ذي القعدة، وعمرة في شوال، قال في "الفتح": إسناده قوي. ويجمع بينهما: بأن ذلك وقع في آخر شوال وأول ذي القعدة، ويؤيده ما رواه ابن ماجه بسند صحيح عن عائشة بلفظ: لم يعتمر - صلى الله عليه وسلم - إلا في ذي القعدة، قال في "الهدي النبوي": ما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان قط، وكانت عمره كلها في أشهر الحج، مخالفاً لهدى المشركين؛ فإنهم يكرهون العمرة فيها، وهذا يدل على أن الاعتمار في أشهر الحج أفضلُ منه في رجب بلا شك، انتهى. قلت: وقع الاختلاف في أن العمرة في رمضان أفضلُ؛ لحديث ابن عباس: عمرة في رمضان تعدلُ حجة، رواه الجماعة إلا الترمذي، أو في أشهر الحج، فقيل: في رمضان لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل، وأما في حقه، فما صنعه فهو أفضل، وإليه ذهب الجمهور، وعن علي -عليه السلام-: في كل شهر عمرة، رواه الشافعي، وأخرجه البيهقي من طريقه بإسناد صحيح، وقال الشوكاني في "المختصر": وهي مشروعة في جميع السنة.

16 - فصل في وجوه الإحرام

16 - فصل في وجوه الإحرام إذا أراد الإحرام، فإن كان قارناً، قال: "لبيك عمرةً وحجاً"، وإن كان متمتعاً، قال: "لبيك عمرةً"، وإن كان مفرداً، قال: "لبيك حجة"، أو قال: اللهم إني قد أوجبت عمرة وحجاً، أو قال: أوجبت عمرة أتمتع بها إلى الحج، أو قال: إني أريد العمرة، أو أريد الحج، أو أريد التمتع بالعمرة إلى الحج، فمهما قال من ذلك شيئاً، أجزأه باتفاق الأئمة، ليس في ذلك عبارة مخصوصة، ولا يجب شيء من هذه العبارات باتفاق الأئمة، كما لا يجب التلفظ بالنية في الطهارة والصلاة والصيام باتفاق الأئمة، بل متى لبى قاصداً الإحرام، انعقد إحرامه باتفاق المسلمين، ولا يجب عليه أن يتكلم قبل التلبية بشيء، ولكن تنازع العلماء، هل يستحب أن يتكلم بذلك أم لا؟ كما تنازعوا هل يستحب التلفظ بالنية في الصلاة أم لا؟ والصواب المقطوع به: أنه لا يستحب شيء من ذلك؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع للمسلمين شيئاً من هذه، ولا كان يتكلم قبل التكبير بشيء من ألفاظ النية، لا هو، ولا أصحابه، بل لما أمر ضُباعة بنتَ الزبير بالاشتراط، قالت: كيف أقول؟ قال: "قولي: لبيك اللهم لبيك، مَحِلِّي من الأرض حيث تحبسني" رواه أهل السنن, وصححه، ولفظ النسائي: قالت: إني أريد الحج، فكيف أقول؟ قال: "قولي. . . إلخ؛ فإن لك على ربك ما استثنيت"، وحديث الاشتراط في "الصحيحين"، لكن المقصود بهذا اللفظ: أنه أمرها بالاشتراط في التلبية، ولم يأمرها أن تقول قبل التلبية شيئاً، لا اشتراطاً، ولا غيره، وكان يقول في تلبيته: "لبيك عمرة وحجة". 17 - فصل فيمن أحرم مطلقاً، أو قال: أحرمتُ بما أحرم به فلانٌ قال ابن تيمية: لو أحرم مطلقاً، جاز، وكذا لو أحرم بقصد الحج من حيث الجملة ولا يعرف هذا التفصيل، جاز، ولو أهلَّ ولبّى كما يفعل الناس قاصداً للنسك، ولم يسم شيئاً بلفظ، ولا قصد بقلبه تمتعاً ولا إفراداً ولا قِراناً، صح حجه أيضاً، فإن فعل ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، كان حسناً، انتهى.

18 - فصل في الاشتراط

وبالجملة: فمطلق الإحرام على الإبهام جائز يصرفه المحرِم إلى ما شاء؛ لكونه - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عن ذلك، وإليه ذهب الجمهور، وعن المالكية: لا يصح على الإبهام، وهو قول الكوفيين. قال ابن المنذر: وكأنه مذهب البخاري؛ لأنه أشار في "صحيحه" عند الترجمة لحديث علي وأبي موسى إلى أن ذلك خاص بذلك الزمان، وأما الآن، فقد استقرت الأحكام، وعُرفت مراتب الأحكام، فلا يصح ذلك، وهذا الخلاف يرجع إلى قاعدة أصولية، وهي هل يكون خطابه - صلى الله عليه وسلم - لواحد أو لجماعة مخصوصة في حكم الخطاب العام للأمة؟ فمن ذهب إلى الأول، جعل حديثَ علي وأبي موسى شرعاً عاماً، ولم يقبل دعوى الخصوصية إلا بدليل، ومن ذهب إلى الثاني، قال: إن هذا الحكم يختص بهما، والظاهر الأولُ. عن أنس، قال: قدم علي -عليه السلام- على النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن، فقال: "بما أهللت؟ "، قال: أهللت بإهلال النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لولا أن معي الهديَ، لأحللت" متفق عليه، ورواه النسائي من حديث جابر. وعن أبي موسى، قال: قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مُنيخ بالبطحاء، فقال: "بما أهللت؟ "، قال: قلت: أهللت بما أهل النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "سقت الهدي؟ "، قلت: لا، قال: "فطف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل" متفق عليه. 18 - فصل في الاشتراط دلت الأحاديث على أن من اشترط، ثم عرض له ما يحبسه عن الحج، جاز له التحلُّل، ولا يجوز التحلل مع عدم الاشتراط، وبه قال جماعة من الصحابة، ومنهم: علي، وابن مسعود، وعمر، وجماعة من التابعين، وإليه ذهب أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهو المصحح للشافعي كما قال النووي، وقال أبو حنيفة، ومالك، وبعض التابعين: إنه لا يصح الاشتراط، وهو مروي عن ابن عمر. قال البيهقي: لو بلغ ابنَ عمر حديثُ ضُباعة، لقال به، ولم ينكر الاشتراط كما لم ينكره أبوه، انتهى. قلت: أخرج حديثَ ضُباعة عن ابن عباس الجماعةُ إلا البخاريَّ، وفي الباب

19 - فصل في الفوات والإحصار ووجوب الهدي على المحصر

عن عائشة عند البخاري ومسلم، وعن عكرمة عند أحمد وابن خزيمة، وعن أنس عند البيهقي، وعن جابر عنده، وعن ابن مسعود وأم سليم عنده، وعن أم سلمة عند أحمد، والطبراني في "الكبير"، وفي إسناده ابن إسحاق، ولكنه صرح بالتحديث، وبقية رجاله رجال الصحيح، وعن ابن عمر عند الطبراني، وفيه علي بن عاصم، وهو ضعيف، قال العقيلي: روى عن ابن عباس قصة ضباعة بأسانيد ثابتة جياد، وقد غلط الأصيلي غلطاً فاحشاً، فقال: إنه لا يثبت في الاشتراط حديث، وكأنه ذهل عما في "الصحيحين"، وقال الشافعي: لو ثبت حديث عائشة في الاستثناء، لم أَعْدُه إلى غيره؛ لأنه خلاف ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال البيهقي: فقد ثبت هذا الحديث من أوجه. 19 - فصل في الفوات والإحصار ووجوب الهدي على المُحْصَر عن عكرمة، عن الحجاج بن عمرو، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كسر، أو عَرِج، فقد حلَّ، وعليه حجة أخرى" رواه الخمسة، وسكت عنه أبو داود، والمنذري، وحسنه الترمذي، وأخرجه ابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي، وعن عمر بن الخطاب، وفي رواية: "أو مرض" رواه أبو داود، وابن ماجه. قلت: تمسك بظاهر هذا أبو ثور، وداود، وقالا: إنه يحل في مكانه بنفس الكسر والعرج، وأجمع بقية العلماء على أنه يحل من كسر أو عرج، ولكن اختلفوا فيما به يحل، وعلى ما لا يحل، فقال أصحاب الشافعي: يحل على ما إذا شرط التحلل به، فإذا وجد الشرط، صار حلالاً، ولا يلزم الدم، وقال مالك وغيره: ويحل بالطواف بالبيت، لا يحله غيره، ومن خالفه من الكوفيين يقول: يحل بالنية والذبح والحلق. قال الشوكاني: الإحصار لا يختص بالأعذار المذكورة، بل كل عذر حكمه حكمها؛ كإعواز النفقة، والضلال في الطريق، ونفي السفينة في البحر، وبهذا قال كثير من الصحابة، وقال النخعي والكوفيون: الحصر -بالكسر-: المرض والخوف، وقال آخرون، منهم: مالك، والشافعي، وأحمد: لا حصر إلا بالعدو، وحكى ابن جرير قولاً: أنه لا حصر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والسبب في هذا

الاختلاف: أنهم اختلفوا في تفسير الإحصار، فالمشهور عن أكثر أهل اللغة، منهم: الأخفش، والكسائي، والفراء، وأبو عبيد، وابن السِّكِّيت، وثعلب، وابن قتيبة، وغيرهم: أن الإحصار إنما يكون بالمرض، وأما بالعدو، فهو المحصر، وقال بعضهم: إن أحصر وحصر بمعنى واحد. والإحصار الذي وقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما وقع في العمرة، فقاس العلماء الحجَّ على ذلك، وهو من الإلحاق بنفي الفارق، وإلى وجوب الهدي ذهب الجمهور، وهو ظاهر الأحاديث الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك في الحديبية، ويدل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وذكر الشافعي: أنه لا خلاف في ذلك في تفسير الآية، وخالف فيه مالك، فقال: إنه لا يجب الهدي على المحصَر، وعوَّل على قياس المحصر، الإحصار على الخروج من الصوم للعذر، والتمسك بمثل هذا القياس في مقابلة ما يخالفه من القرآن والسنة من الغرائب التي يتعجب من وقوع مثلها من أكابر العلماء، وقد وقع الخلاف بين الصحابة فمَنْ بعدَهم في محل نحر الهدي للمحصر، فقال الجمهور: يذبح المحصر الهدي حيث يحل، سواء كان في الحِل، أو الحرم، وقال أبو حنيفة: لا يذبحه إلا في الحرم، وبه قال جماعة من أهل البيت، وفصل آخرون كما قال ابن عباس. قال في "الفتح": وهو المعتمد، وسبب اختلافهم في ذلك اختلافُهم هل نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية في الحل، أو الحرم؟ وكان عطاء يقول: لم ينحر يوم الحديبية إلا في الحرم، ووافقه ابن إسحاق. وقال غيره من العلماء من أهل المغازي: إنما نحر في الحل، قال في "البحر": إن على المحصَر القضاءَ إجماعًا في الفرض، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وكذا في النفل، انتهى. وعن أحمد روايتان، قال الشافعي: إنما سُميت عمرة القضاء؛ للمقاضاة التي وقعت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش، لا على أنه أوجب عليهم قضاء تلك العمرة. وهذا هو الدليل الذي ينبغي التعويل عليه، ولكن يعارضه رواية الواقدي.

20 - فصل في حكم الهدي

20 - فصل في حكم الهَدْي قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27 - 28] , وقال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] وقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36]. واتفق أهل العلم على أن الهدي مستحب للحاج المفرد، وللمعتمر المفرد، وواجب على المتمتع والقارن، وعلى من وجب عليه جزاءُ العدوان على الإحرام، فالمستحب: [أنْ] يأكله المُهدي ويتصدق به، قال النووي: أجمع العلماء على أن الأكل من هدي التطوع وأضحيته سنة، انتهى. وأما جزاء العدوان، فلا يأكله، ويتصدق به، وأما دم التمتع والقِران، فلا يأكله عند الشافعي، بل يتصدق بكله، وعند أبي حنيفة: يأكله، ويتصدق به. قال الشوكاني: والظاهر: أنه يجوز الأكل من الهدي من غير فرق بين ما كان منه تطوعاً، وما كان فرضاً؛ لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36] ولم يفصل، والتمسك بالقياس على الزكاة في عدم جواز الأكل من الهدي الواجب لا ينتهض لتخصيص هذا العموم، انتهى. ويسن في الهدي: التقليدُ، والإشعار، والتعريف، للأحاديث الواردة فيها، وعليه الشافعي، وكره أبو حنيفة الإشعار، والأحاديث تردُّ عليه، وقد خالفه الناس في ذلك، حتى صاحباه أبو يوسف ومحمد. والإشعار: أن يكشط جلد البدَنَة حتى يسيل دم، ثم يَسْلُته، فيكون ذلك علامة على كونها هَدْياً، ويكون ذلك في صفحة سنامها الأيمن. وقد ذهب إلى مشروعيته الجمهورُ من السلف والخلف إلا أبا حنيفة. قال ابن المنذر: أنكر مالكٌ وأصحابُ الرأي التقليدَ للغنم، وكأنهم لم يبلغهم الحديث. والمستحبُّ تقليد نعلينِ لا واحدة، وقد اشترطه الثوري، وقال غيره: تجزىء

21 - فصل في ركوب الهدي والحمل عليه

الواحدة، وقال آخرون: لا يتعين النعل، بل كلُّ ما قام مقامَها أحرى، وفي "الهداية": لا يجب التعريف، ولو عرف بهدي المتعة، فحسن، انتهى. ويعتبر فيه ما يعتبر في الضحايا، ويتصدق بجلال الهدي وخطمها، وإن عطبت البدنة في الطريق، فقال أبو حنيفة: إن كان تطوعاً، نحرها, ولم يأكل هو ولا غيره من الأغنياء، وإن كان واجباً، أقام غيرها مقامَها، وصنع بها ما شاء، وقال الشافعي: يأكل ويتمول إن كان تطوعاً، وإن كان واجباً، لم تحل له ولا لرفقته، فقراءَ كانوا أو أغنياء، بل يغمس نعلها في دمها، ويضرب به صفحة سنامها؛ ليعلم من مر بها أنها هدي، فمن كان محتاجاً، أكل، ومن لم يكن محتاجاً، لم يأكل. ولا يحرم على من بعث بهدي شيء من الأمور التي تحل له، وبه قال الجمهور، وقد أخرج النسائي من حديث جابر: أنهم كانوا حاضرين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعث الهدي، فمن شاء أحرم، ومن شاء ترك، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث. ولا يجوز بيع الهدي لإبدال مثله أو أفضل. وفي "سفر السعادة": كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهدي الغنم والإبل، وكان يهدي عن أمهات المؤمنين البقر، ولما حجَّ، ساق الهدي معه، ولما اعتمر أيضاً ساق معه الهدي، وكان إذا أرسل الهدي على يد أحد، يأمره إذا أشرف شيء منها على الهلاك أن يذبحه، ولا يأكل هو ولا مَنْ في تلك الصحبة، وإن حضر أجانب، قسم المذبوح بينهم، وكان يهدي البقرة والبدَنة عن سبعة، وكان إذا ذبح الغنم، جعل قدمه المباركة على صفحتها. وأباح لأمته أن يأكلوا من هديهم، ويتزودوا، وكان يقسم الهدي حيناً، وحيناً يقول: "من له حاجة، فليقطعْ لنفسه"، واستدل بعضهم بهذا على جواز الانتهاب في النثار. وما ساق من الهدي في العمرة، نحر عند المروة، وما ساق في الحج، نحره في منى، ولم ينحر أبداً إلا بعد صلاة العيد، ولم ينحر قبل يوم العيد أبداً، انتهى. 21 - فصل في ركوب الهدي والحمل عليه دلت الأحاديث على جواز ركوبه من غير فرق بين ما كان واجباً أو تطوعاً، وبه قال عروة بن الزبير، ونسبه ابن المنذر إلى أحمد، وإسحاق، وبه قال أهل

22 - فصل فيما يجتنبه المحرم وما يباح له

الظاهر، وجزم به النووي وجماعة من أصحاب الشافعي؛ كالقفال والماوردي، وحكى ابن عبد البر عن الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأكثر الفقهاء: كراهةَ ركوبه بغير حاجة، وحكاه الترمذي أيضاً عن أحمد، وإسحاق، والشافعي، وقيد الجوازَ بعضُ الحنفية بالاضطرار، ونقله ابن أبي شيبة عن الشعبي، وحكاه ابن المنذر عن الشافعي: أنه يركب إذا اضطر ركوباً غيرَ قادح. وحكى ابن العربي عن مالك: أنه يركب للضرورة، فإذا استراح، نزل؛ يعني: إذا انتهت ضرورته، والدليلُ على اعتبار الضرورة ما في حديث جابر من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اركبها بالمعروف إذا أُلجئت إليها"، واختلف من أجاز الركوب هل يجوز أن يحمل عليها متاعه؟ فمنعه مالك، وأجازه الجمهور، وهل يحمل عليها غيره؟ أجازه الجمهور أيضاً، ونقل عياض الإجماع على أن لا يؤجرها، واختلفوا إذا احتلب منه شيئاً، فعند الشافعية والحنفية: يتصدق به، فإن أكله، تصدق بثمنه، وقال مالك: لا يشرب من لبنه، فإن شرب، لم يغرم، وإذا نُتجت البدنة، فليحملْ ولدها حتى يُنحر معها، فإن لم يوجد محمل، حمل على أمه، قال في "شرح السنة": وهذا قول أهل العلم. 22 - فصل فيما يجتنبه المحرم وما يباح له عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنه-، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يلبس المحرِم؟ قال: "لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوباً مسه ورسٌ ولا زعفران، ولا الخفين، إلا ألا يجد نعلين، فليقطَعْهما حتى يكونا أسفلَ من الكعبين" رواه الجماعة، والكعبان: هما العظمان الناتئان عند مفصِل الساق والقدم، هذا هو المعروف عند أهل اللغة، وفي الحديث دليل على أن لبس هذه الأشياء لا يجوز، ولذلك أمر من أحرم في جبة أن ينزعها عنه، فما كان من هذا الجنس، فهو في معنى ما نهى عنه - صلى الله عليه وسلم -، وما كان في معنى القميص، فهو مثله، وليس له أن يلبس القميص بكم ولا بغير كم، سواء أدخل فيه يديه، أو لم يدخلهما، وسواء كان سليماً أو مخروقاً، وكذلك لا يلبس القِباء الذي يُدخل يديه فيه، وكذلك الدرع الذي يسمى: عرق

جين، وأمثال ذلك باتفاق الأئمة، وأما إذا طرح القباء على كتفيه من غير إدخال يديه، ففيه نزاع، وكذلك لا يلبس ما كان في معنى السراويل؛ كالتُّبَّان ونحوِه، وله أن يعقد ما يحتاج إلى عقده؛ كالإزار، وهميان النفقة، والرداءُ لا يحتاج إلى عقد، فلا يعقد، فإن احتاج إلى عقده، ففيه نزاع، والأشبه جوازه حينئذ، وهل المنع من عقده منع كراهة أو تحريم؟ ففيه نزاع، وليس على تحريمه دليل إلا ما نقل عن ابن عمر: أنه كره عقد الرداء، ومد اختلف المتبعون لابن عمر، فمنهم من قال: هو كراهة تنزيه؛ كأبي حنيفة وغيره، ومنهم من قال: هو كراهة تحريم. وبالجملة: فليس له أن يلبس شيئاً مما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه إلا لحاجة، كما أنه ليس للصائم أن يفطر إلا لحاجة، والحاجةُ مثل البرد الذي يخاف أن يُمرضه إذا لم يغط رأسه، أو مثل مرض نزل به يحتاج معه إلى تغطيته، فيلبس قدر الحاجة، فإذا استغنى عنه، نزع، وكذلك يرتدي الشيء المَخيط إذا لم يكن على اللبس المعتاد، وبالعباءة ونحوها طاقين وثلاثة وأكثر باتفاق الأربعة، وله أن يلقي على نفسه العباءةَ والفروةَ ونحوَهما وهو مضطجع إذا كان لا يُعد لابسَه إذا قام باتفاقهم، ولا يجوز له سترُ رأسه بما يعد ساتراً من عمامة وقلنسوة وكوفية وثوب يلصق به، ويجوز له ستر الوجه عند الشافعي، لا عند أبي حنيفة، وله أن يلتحف بالقباء والجبة والقميص ونحو ذلك، ويتغطى باللحاف وغيره، لكن لا يغطي رأسه إلا لحاجة. وكذا الكلامُ في المحرِم الميت: لا يجوز تغطيةُ رأسه عند الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وموافقيهم، وخالف في ذلك: مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة، فقالوا: يجوز تغطيةُ رأسه، وإلباسُه المخيط، والحديث يرد عليهم. وفي الحديث أيضاً دليل على أن واجد النعلين لا يلبس الخفين المقطوعين، وهو قول الجمهور، والمراد بالوجدان: القدرةُ على التحصيل، وظاهر الحديث: أنه لا فدية على من لبسهما إذا لم يجد النعلين، وعند الحنفية: تجب، وتُعقب بأنها لو كانت واجبة، لبينها - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه وقت الحاجة، وتأخيرُ البيان عنه لا يجوز، واستدل به على أن القطع شرط لجواز لبس الخفين؛ خلافاً

للمشهور عن أحمد؛ فإنه أجاز لبسَهما من غير قطع؛ لإطلاق حديث ابن عباس، وأجاب عنه الجمهور: بأن حمل المطلق على المقيد واجب، وهو من القائلين به، قال ابن الجوزي: يحمل الأمر بالقطع على الإباحة، لا على الاشتراط؛ عملاً بالحديثين. قال الشوكاني: ولا يخفى أنه تكلف، والحق أنه لا تعارض بين مطلق ومقيد؛ لإمكان الجمع بينهما، فيحمل المطلق على المقيد، والجمعُ ما أمكنَ هو الواجب، فلا يصار إلى الترجيح، ولو جاز المصير إلى الترجيح، لأمكن ترجيح المطلق بأنه ثابت من حديث ابن عباس وجابر، وروايةُ اثنين أرجحُ من رواية واحد، انتهى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس عليه أن يقطعهما؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالقطع أولاً، ثم رخص بعد ذلك في عرفات في لبس السراويل لمن لم يجد إزاراً، وفي لبس الخفين لمن لم يجد نعلين، وإنما رخص في المقطوع أولاً؛ لأنه بالقطع يصير كالنعلين، ولهذا كان الصحيح أن يلبس ما دون الكعبين؛ مثل الخف المكعب، والجمجم، والمداس، ونحو ذلك، سواء كان واجدَ النعلين، أو فاقداً لهما، وإذا لم يجد نعلين ولا ما يقوم مقامها، فله أن يلبس الخف ولا يقطعه، وكذلك إذا لم يجد إزاراً، فإنه يلبس السراويل، هذا أصح قول العلماء؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - رخص في البدل بعرفات كما رواه ابن عمر، وكذلك يجوز أن يلبس كل ما كان من جنس الإزار والرداء، لكن لا يغطي رأسه إلا لحاجة، انتهى. وفي هذا دليل على أن عدم القطع كان آخر الأمرين، فيكون ناسخاً لمنعه المتقدم. وعن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تنتقب المرأةُ المحرِمة، ولا تلبس القُفَّازَين" رواه أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي وصححه، وزاد أبو داود، والحاكم، والبيهقي: "وما مس الورس والزعفران من الثياب". واختلف العلماء في لبس النِّقاب، فمنعه الجمهور، وأجازه الحنفية، وهو رواية عند الشافعية والمالكية وهو مردود بنص الحديث، وكان سعد بن

أبي وقاص يأمر بناته: بلبس القفازين، والحديث يرد عليه، وكأنه لم يبلغه، ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه، جاز بالاتفاق، وإن كان يمسه، فالصحيح أيضاً الجواز، ولا تُكلف المرأة أن تجافى سترتها عن الوجه، لا بعود، ولا يدِها, ولا غير ذلك؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى بين وجهها ويدها. وأزواجُه - صلى الله عليه وسلم - كنَّ يُسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة، لو كان التجافي شرطاً، لبينه - صلى الله عليه وسلم -، والثوبُ المسدول لا يكاد يسلم من إصابته البشرة، ولم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إحرام المرأة في وجهها، وإنما قاله بعض السلف، ولا حجة فيه، نعم نهاهن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النقاب والقفازين، كما نهى المحرمَ أن يلبس القميص والخف، مع أنه يجوز له أن يستر يده ورجليه باتفاق الأئمة، والبرقُعُ أقوى من النقاب، فلهذا ينهى عنه باتفاقهم. ويباح لها أن تلبس العصابة، والقميص، والبغلطاق، والسراويل، والخف، وغير ذلك مما كانت تلبسه قبل الإحرام، إلا أن الحنفية قالوا: تلبس المخيط غيرَ المصبوغ، فإن لبست المصبوغ، فعليها الفدية كفدية اللابس. وقال المالكية: إن الرجل والمرأة لا يلبسان المعصفر المقدم: وهو المشبَع من الصبغ، ولا المصبوغ بالورس والزعفران، وإن غسل وبقي أثره، فإن لبسَ الرجلُ والمرأة شيئاً من ذلك، افتدى. ومذهب الشافعية والحنابلة: أن الفدية باللبس لا تتقيد بزمان مخصوص، ولا بالانتفاع، ولا بغير ذلك. وقال الحنفية: إنه إذا لبس يوماً كاملاً، أو ليلة كاملة، فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك، فعليه صدقة نصفُ صاع من بُرّ، أو صاع من تمر أو شعير. وعند المالكية: حيث تجب الفدية يعتبر انتفاعه من حر أو برد أو دوام؛ كاليوم، فلو لبس ونزع مكانه، فلا فدية. ولا يجوز للمحرم استعمالُ طيب إلا ما كان على بدنه أو ثوبه قبل الإحرام، وبقي بعده، فذلك هو الراجح جمعاً بين الأدلة. قال الشوكاني: الحق أن المحرَّم من الطيب على المحرِم، هو ما تطيَّب به

ابتداءً بعد إحرامه، لا ما فعله عند إرادة الإحرام وبقي أثره لوناً وريحاً، ولا يصح أن يقال: لا يجوز استدامةُ الطيب، قياساً على عدم جواز استدامة اللباس؛ لأن استدامة اللبس ليس بخلاف استدامة الطيب، فليست بطيب، سلمنا استواء هما، فهذا قياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار، انتهى. والمالكية إنما يحرمون التطيب بما قويت رائحتُه؛ كالمسك، والكافور، والزعفران، دون ما لم تقوَ رائحته، ويحرم عند الشافعية والحنفية والمالكية على الرجل والمرأة دهنُ شعر الرأس، وعلى الرجل دهنُ اللحية بمطيّب؛ كدُهن البنفسج والورد، وغير مطيب؛ كالزيت والشيرج. ومذهب الحنابلة: تحريم الادهان بالمطيب خاصة، ومذهب الثلاثة غير الحنفية: أن الفدية بالطيب لا يتقيد بعضو، وأن الفدية بالاكتحال بما فيه طيب لا يتقيد بالكثرة. ويحرم عليها إزالة الشعر، أو قص أو نتف أو مَشْط، أو غير ذلك من سائر شعور البدن باتفاق الأربعة. ويجوز له حكُّ جسده، وعليه أهل العلم، وكذا يجوز قطع الظفر الذي انكسر، وكذلك الحجامة والفصد إذا احتاج إلى ذلك، فقد ثبت في الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - احتجم في وسط رأسه وهو محرِم، ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر، فجاز أن يحلق شعراً لذلك إن احتاج إليه، وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره، وله أن يغتسل من الجنابة بالاتفاق، وكذلك لغير الجنابة، ونظر ابن عمر في المرآة لشكوى كانت بعينه وهو محرم، وعليه أهل العلم، ويجوز له تظليل رأسه بثوب وغيره، وإليه ذهب الجمهور، وقال مالك وأحمد: لا يجوز، والحديث يرد عليهما؛ عن أم الحصين -رضي الله تعالى عنها- قالت: حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأيت: أسامة وبلالاً، وأحدهما آخذٌ بخطام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر رافع ثوبه يستره من الحر. وفي رواية رافع: ثوبه على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - يظله من الشمس، رواهما أحمد، ومسلم. قال ابن تيمية: فله أن يستظل تحت الشجرة والسقف، وفي الخِيَم، ونحو

23 - فصل في الفدية

ذلك، وأما الاستظلال بالمحمل كالمحارة التي لها رأس، ففيه نزاع، وكان السلف يكرهون القباب على المحامل، وهي التي لها رأس، وأما المحامل المكلوفة، فلم يكن رآها إلا بعض الناس، وهذا في حق الرجل، والمرأة تستظل بالمحمل وغيره؛ فإنها عورة، انتهى. ويجوز حمل السلاح بمكة للعذر والضرورة، لكن بشرط أن يكون في القِراب كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم، وهذا مذهب الشافعي، ومالك، وعطاء، وكرهه الحسن البصري، قال الشوكاني: والحق ما ذهب إليه الجمهور، انتهى. ويجوز لبس المِنْطقة للمحرم عند العامة، وكرهه ابن عمر. 23 - فصل في الفدية قال الله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وعن كعب ابن عجرة: قال - صلى الله عليه وسلم -: "هو صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين نصفَ صاع طعاماً لكل مسكين" متفق عليه، وفي راوية علي: "احلقه واذبح شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو تصدق بثلاثة آصُع من تمر بين ستة مساكين" رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، ولأبي داود في رواية: "فرقاً من زبيب أو نسك شاة". قال ابن حزم: لا بد من ترجيح إحدى هذه الروايات؛ لأنها قصة واحدة في مقام واحد في حق رجل واحد، قال في "الفتح": المحفوظ في الحديث: "نصف صاع من طعام"، والاختلاف عليه في كونه تمراً أو حنطة لعله من تصرف الرواة، وأما الزبيب، فلم أره إلا في رواية الحاكم، وقد أخرجه أبو داود، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وهو حجة في المغازي، لا في الأحكام إذا خالف، والمحفوظ رواية التمر، وقد وقع الجزم بها عند مسلم وغيره، انتهى. والفرق: ثلاثة آصُع كما وقع عند الطبراني. قال الشوكاني: ولا خلاف بين العلماء أن النسك المذكور في الآية هو شاة،

وبالجملة: إذا فعل شيئاً مما ذكرنا أنه يحرُم فعلُه في الفصل المتقدم عامداً عالماً بالتحريم لغير عذر، لزمته الفدية، وأثم باتفاق الأئمة الأربعة، ولا يأثم الناسي والجاهل والمعذور باتفاقهم، ولا تجب الفدية على الناسي والجاهل بغير ذلك مما ذكرنا عند الشافعية والحنابلة، وعند الحنفية والمالكية أنها كالعامد، ولا فرق عند الشافعية والمالكية والحنابلة في الفدية الواجبة بين من فعل لغير ضرورة، أو لضرورة؛ خلافاً للحنفية. والفدية إما بصيام ثلاثة أيام، وإما بنسك شاة، وإما بإطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصفُ صاع من تمر أو شعير، أو مُدٌّ من طعام، وإن أطعمه خبزاً، جاز، ويكون رطلين بالعراقي قريباً من نصف رطل بالدمشقي، وينبغي أن يكون مأدوماً، وإن أطعم مما يأكل؛ كالبقسماط والرقاق ونحو ذلك، وهو أفضل مما يعطيه قمحاً أو شعيراً، وكذلك في سائر الكفارات إذا أعطاها مما يقتات مع أدمه، فهو أفضل من أن يعطيه حباً مجرداً إذا لم يكن عادتهم أن يطحنوا بأيديهم ويخبزوا بأيديهم. والواجب في ذلك ما ذكره الله تعالى بقوله: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] فأمر بإطعامهم من أوسط ما يطعم الناس أهليهم، وقد تنازع العلماء في ذلك، هل هذا مقدر بالشرع، أو يرجع فيه إلى العرف؟ وكذلك تنازعوا في نفقة الزوجة، والراجح أن يرجع فيه إلى العرف، فيطعم كل قوم مما يطعمون أهلهم، ولما كان كعب بن عجرة ونحوه يقتاتون التمر، أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطعم فرقاً من تمر بين ستة مساكين، والفرق ستة عشر رطلاً بالبغدادي، وهذه الفدية يخرجها إذا احتاج إلى الفعل المحظور قبله أو بعده، ويذبح النسك قبل أن يصل إلى مكة، ويصوم الأيام الثلاثة إن شاء متتابعة، وإن شاء متفرقة، فإن كان له عذر، أخر فعلها، وإذا لبس ثم لبس مرات، ولم يكن أدى الفدية، أجزأته فدية واحدة في أظهر أقوال العلماء. وعند الشافعية: الفدية الواجبة على التخيير، إن شاء شاة، أو سُبْع بَدَنة، أو سُبْع بقرة، صفتُها صفةُ الأضحية، يُريق دمها بالحرم، ويفرق لحمها على

24 - فصل في نكاح المحرم

مساكينه، وإن شاء أطعم ستة مساكين [من] الحرم، كل مسكين نصف صاع، وإن شاء صام ثلاثة أيام حيث شاء، وعند الحنفية: إن من فعل ما يقتضي الدم لغير ضرورة، فواجبه دمٌ: شاةٌ، أو سُبع بدنة، أو سُبع بقرة، إلى آخر ما ذكرنا، ولا يجزيه إطعام ولا صوم، فإن تعذر الدم، يبقى في ذمته، وإن فدية من فعل لضرورةٍ الدمُ على ما بيناه، أو إطعام ستة مساكين من مساكين الحرم، أو غيره، كل مسكين نصف صاع من حنطة، أو صاع من تمر أو شعير، أو صوم ثلاثة أيام حيث شاء. وعند المالكية: الفدية شاةٌ، أو بدنة، أو بقرة، صفتُها صفة الأضحية، ولا يجوز له الأكلُ منها، وإن شاء، أطعم ستة مساكين من غالب قوت البلد، وإن شاء، صام حيث شاء، وعند الحنابلة: شاة، أو سُبع بدنة، أو سبع بقرة، يريق دمها حيث وُجد السبب، وإن شاء، يطعم ستة مساكين كل مسكين مداً من بر، أو نصف صاع من تمر أو شعير حيث وجد السبب، وإن شاء، صام ثلاثة أيام حيث شاء، ولا تتعدد الفدية لسبب القران عند الشافعية والمالكية والحنابلة، وعند الحنفية: إن كل شيء فعله القارن مما فيه على المفرِد دمٌ، فعليه دمان، إلا في صور. 24 - فصل في نكاح المحرِم قال الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] وعن عثمان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَنكح المحرِمُ، ولا يُنْكِح، ولا يَخطب" رواه الجماعة إلا البخاري، واختلفوا في تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونةَ، والأكثرون على أنه تزوجها حلالاً عام عمرة القضاء، وظهر أمرُ تزويجها وهو محرم، ثم بنى بها وهو حلال [بـ] سَرِف، وهو قول الشافعي، وعنده نكاحُ المحرم فاسد، وحديث ابن عباس حكايةُ فعل، وهو لا يعارض صريحَ القول -أعني: النهي-، ولكن هذا إنما يُصار إليه عند تعذر الجمع، وهو ممكن هاهنا على فرض أن رواية ابن عباس أرجحُ من رواية غيره، وذلك بأن يُجعل فعلُه - صلى الله عليه وسلم - مخصصاً له من عموم ذلك القول، كما تقرر ذلك في الأصول إذا فرض تأخر الفعل عن القول، فإن

فرض تقدمه، ففيه الخلاف المشهور في الأصل في جواز تخصيص العام المتأخر بالخاص المتقدم كما هو المذهب الحق، أو جعل العام المتأخر ناسخاً كما ذهب إليه البعض. قال الشوكاني: إذا تقرر هذا، فالحق أنه يحرم أن يتزوج المحرمُ أو يزوِّجَ غيرَه كما ذهب إليه الجمهور، والشافعية، والمالكية، والحنابلة. وقال عطاء، وعكرمة، وأهل الكوفة: يجوز للمحرم أن يتزوج، كما يجوز له أن يشتري الجارية للوطء، وتُعقب بأنه قياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار، وظاهرُ النهي: عدمُ الفرق من تزويج غيره بالولاية الخاصة والعامة؛ كالسلطان والقاضي. وقال بعض الشافعية: يجوز أن يزوج بالولاية العامة، وهو تخصيص لعموم النص بلا مخصص، انتهى. قلت: ويحرم على المحرم الوطء ومقدماته؛ كالقبلة، واللمس بشهوة باتفاق الأربعة، ولا يطأ شيئاً لا امرأة ولا غيرها ولا ينظر بشهوة، فإن جامعَ، فسد حجُّه، ولا يفسد الحج بشيء من المحظورات إلا بهذا الجنس، وإذا فسد الحج أو العمرة بالوطء، لزمه إتمامه، والقضاء والكفارة باتفاقهم، والقبلة واللمس بشهوة يوجب الكفارة باتفاق الأربعة، ولا يفسد النسكَ، وإن حصل الإنزال عند الشافعية والحنفية، ويفسده إن حصل إنزالٌ بتذكر أو نحوه عند المالكية والحنابلة، وكفارة الوطء شاة؛ لأنه أقل ما يصدق عليه الهدي، وهو مروي عن أبي حنيفة، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "واهد هدياً" كما في مرسل أبي داود. وذهب الجمهور إلى أنها بدنة على الزوج، وبدنة على الزوجة، وتجب بدنة الزوجة على الزوج مطلقاً. وقال الشافعي: إذا كانت مكرَهة لا مطاوِعة، وقال أبو حنيفة ومحمد: على الزوج مطلقاً، وقال الشافعي في أحد قوليه: عليهما هدي واحد، وفي "المسوى": لو جامع قبل الوقوف، فسد حجه عند أبي حنيفة، وعليه شاة، ويحج من قابِل، وليس عليهما التفرق، وإن جامع بعد الوقوف، لا يفسد حجه، وعليه بدنة، وعند الشافعي: إن جامع قبل التحلل

25 - فصل في صيد المحرم

الأول، فسد حجه، سواء كان قبل الوقوف بعرفة، أو بعده، وعليه بدنة، ويجب المضيُّ في الفاسد، والقضاءُ من قابِل، وإن كان تطوُّعاً، وإذا خرجا؛ أي أهلاَّ، يتفرقان حذراً عن مثل ما وقع في الأول، وإن جامع بين التحللين، لا يفسد حجه، وعليه الفديةُ، ولا قضاء عليه، وهي في قول: شاة، وفي قول: بدنة، انتهى. قلت: ويُشرع التفرق، وقد حكاه في "البحر" عن علي -رضي الله عنه- وابن عباس، وعثمان، وأكثر الفقهاء، واختلفوا هل هو واجب أم لا؟ فذهب مالك، وعطاء، والشافعي في أحد قوليه: إلى الوجوب، وذهب الشافعي في أحد قوليه: إلى الندب، وقال أبو حنيفة: لا يجب، ولا يندب. قال الشوكاني: واعلم أنه ليس في الباب من المرفوع ما تقوم به الحجة إلا الموقوف، وهو ليس ممن يقبل المرسل، ولا رأى حجية أقوال الصحابة، فهو في سعة عن التزام هذه الأحكام، وله في ذلك سلف صالح؛ كداود الظاهري، انتهى. 25 - فصل في صيد المُحْرِم قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96] واختلف أهل العلم في تفسير الصيد، فقال في "الهداية": صيد البحر: ما يكون توالده ومثواه في البحر، وقال في "الأنوار": لا يحرم ما لا يعيش إلا في البحر، ويحرم الطائر الذي يغوص في الماء ويخرج؛ فإنه برّي، انتهى. ويحرم عليه صيدُ البر المأكولُ والمتولدُ من مأكول غيره، سواء كان مملوكاً، أو غير مملوك، ووحشياً، أم في أصله وحشي، ويحرم قتله وضربه وتنفيره، وإتلاف شيء من أجزائه أو جنينه أو فرخه أو بيضه، ويحرم إثباتُ اليد عليه، والإعانةُ على شيء من ذلك بقول أو فعل، أو إشارة أو إعارةِ آلة باتفاق الأربعة على جميع ذلك. ويجب في ذلك الضمان، ولذلك يحرم عند الحنفية والمالكية: صيدُ الممتنع المتوحِّش بأصلِ الخلقة الذي ليس بمأكول، ولا له أصل مأكول، ولا يحرم

26 - فصل في جزاء الصيد

ذلك، ولا جزاء فيه عند الشافعية، ولا يأكل المحرم لحمَ صيد ذبحه قبل الإحرام، ويأكل لحم صيد اصطاده الحلال لا لأجله، ولا بإشارته. وقيل بتحريم الأل من الصيد على المحرِم مطلقاً، وبجوازه مطلقاً، وبه قال الكوفيون وطائفة من السلف. قال الشوكاني: وكذا الحديثين يستلزم اطراحَ بعضِ الأحاديث الصحيحة بلا موجِب، والحقُّ ما ذهب إليه الجمهور من الجمع بين الأحاديث المختلفة، فقالوا: أحاديث القَبول محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه، ثم يهدي منه للمحرم، وأحاديث الرد محمولة على ما صاده الحلال لأجل المحرم، ويؤيد هذا الجمعَ حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صيد البر لكم حلال وأنتم حرم، ما لم تصيدوا، أو يصاد لكم" رواه الخمسة إلا ابن ماجه، قال الشافعي: هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيسُ، فهذا الحديث صريح في التفرقة بين أن يصيده المحرم، أو يصيد غيرُه له، وبين أن يصيده المحرم ولا يصاد له، بل يصيده الحلال لنفسه، ويطعمه المحرم، ومقيد لبقية الأحاديث المطلقة؛ كحديث الصَّعب، وطلحةَ، وأبي قتادة، ومخصِّص لعموم الآية المتقدمة، انتهى. 26 - فصل في جزاء الصيد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95] هذه الآية الكريمة أصل أصيل في وجوب الجزاء على من قتل صيداً وهو محرِم، ويكون الجزاء مماثلاً للمقتول، ويرجع في ذلك إلى حكم العدلين كما ذهب إليه مالك، وهو ظاهر الآية، وقيل: إنه لا يرجع إلى حكم العدلين إلا فيما لا مثلَ له، وأما فيما له مثل، فيرجع فيه إلى ما حكم به السلف، وإن لم يحكم فيه السلف رجع إلى ما حكم به عدلان. واختلفوا في أي شيء تُعتَبَرُ المماثلة؟ فقيل: في الشكل، أو الفعل، وقيل: في القيمة، وذهب إلى

27 - فصل في قتل المؤذيات

الأول: الشافعيُّ، وإلى الثاني: أبو حنيفة، ولا مفهوم لقوله: متعمداً، فلا فرق عند الحنفية ولا الشافعية بين العامد والخاطىء والناسي للإحرام، واختلفت الروايات في الجراد يقتله المحرم، والصحيح: أن فيه فدية، قال أبو حنيفة: صدقة، وإن قلَّت، وقال الشافعي: القيمة، وفي الضبع يصيبه المحرم كبشٌ، رواه أهل السنن عن جابر مرفوعاً، وصححه البخاري، وعبد الحق، قال البيهقي: هو حديث جيد تقوم به الحجة. 27 - فصل في قتل المؤذيات يجوز للمحرم قتل الفواسق الخمس في الحِلِّ والحرم، ولا شيء عليه في قتلها، وهن: الغراب، والحِدَأَة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور؛ لحديث عائشة في "الصحيحين"، وفي مسلم من حديث ابن عمر زيادةٌ: الحية. وفي قتل الكلب الذي ليس بعقور ولا منفعةَ فيه خلافٌ، قيل: يكره، وقيل: يحرم، ولا يجوز قتلُ ما فيه منفعة من الكلاب، سواء كان أسود، أم غير أسود، وقاس الشافعي على هذه الأعيان الخمس: كلَّ حيوان لا يؤكل لحمه، فقال: لا فدية على من قتلها في الإحرام أو الحرم؛ لأن الحديث يشتمل على أعيان، بعضُها سباع ضارية، وبعضها هوام لا يدخل في معنى السباع، ولا هي من جملة الهوام، وإنما هو حيوان مستخبث، وتحريمُ الأكل يجمع الكل، فاعتبره. وقالت الحنفية: لا جزاء بقتل ما ورد في الحديث، وقاسوا عليها الذئب، وقالوا في غيرها من الفهد والنمر والخنزير والأسد، وجميعِ ما يؤكل لحمه: عليه الجزاء بقتلها، إلا أن يبتدئه شيء منها، فيدفعه عن نفسه فيقتله، فَلا شيء عليه، وكذا في سباع الطير؛ كالبازي والصقر جزاءٌ عندهم، وليس عندهم شيء في قتل البرغوث، والبق، والزنبور، والبعوض، والقرادة، وإذا قرصته البراغيث أو القمل، فله إلقاؤها عنه لا قتلها, ولا شيء عليه، وأما التفلِّي بدون التأذي، فهو من الترفُّه، فلا يفعله، ولو فعله، فلا شيء عليه. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: ولأن يدفع ما يؤذيه من الآدميين والبهائم، حتى لو صال عليه أحد، ولم يندفع إلا بالقتال، قاتله، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من قاتل دون دينه،

28 - فصل في حرم مكة المكرمة -زادها الله تعالى تعظيما-

فهو شهيد، ومن قاتل دون حرمته، فهو شهيد"، ويقع مثلُ ذلك مع أهل البدو كثيراً، لا سيّما في سفر المدينة المنورة في حال الإحرام. 28 - فصل في حرم مكة المكرمة -زادها الله تعالى تعظيماً- عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام، لا يُعضد شجره وشوكه، ولا يُختلى خلاه، ولا يُنَفِّر صيدُه، ولا يلتقط لقطته إلا لمعرف"، قال العباس: إلا الإذخرَ، متفق عليه. قال ابن العربي: اتفقوا على تحريم قطع شجر الحرم، إلا أن الشافعي أجاز قطعَ الشوك من فروع الشجرة، وكذا أخذ الورق والثمر إذا كان لا يضرها ولا يهلكها، وعطاءٌ ومجاهدٌ وغيرهما أجازوا قطع الشوك؛ لكونه يؤدي بطبعه، فأشبه الفواسق، ومنعه الجمهور؛ لنهيه - صلى الله عليه وسلم -، قال الشوكاني: هذا القياس مصادم للنص، فهو فاسد الاعتبار، قال ابن قدامة: ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان، وانقطع من الشجر من غير صنع الآدمي، ولا بما يسقط من الورق، نص عليه أحمد، ولا يُعلم فيه اختلاف، انتهى. وقال ابن تيمية: وله أن يقطع الشجر، لكن نفس الحرم لا يقطع شيئاً من شجره، وإن كان غير محرم، ولا من نباته إلا الإذخرَ، وأما ما غرسوه أو زرعوه، فهو لهم، وكذلك ما يبس من النبات يجوز أخذُه، انتهى. قال القرطبي: خص الفقهاء الشجر المنهي عنه بما ينبته الله تعالى من غير صنع آدمي، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي، فاختلف فيه، فالجمهور على الجواز، وقال الشافعي: في الجميع الجزاء، ورجحه ابن قدامة، واختلفوا في جزاء ما قُطع من النوع الأول، فقال مالك: لا جزاء فيه، بل يأثم، وقال عطاء: يستغفر، وقال أبو حنيفة: بقيمة هدي. وقال الشافعي: في العظيمة بقرة، وفيما دونها شاة، ومذهب الشافعية: أنه يجوز تسريح البهائم في حشيش الحرم للرعي، ويجوز أخذُه لعلف البهائم، ولا شيء فيه، ولو احتيج إلى شيء من نبات الحرم للدواء، جاز قطعه، ولا شيء عليه، ومذهب الحنفية: أنه يحرم قطع الحشيش الرطب وقلعُه، وأنه

29 - فصل في حرم المدينة المنورة -زاد الله شرفها-

لا يرعى، ويتعلق به القيمة إن فعل ذلك، واتفق الأربعة على إباحة قلع الإذخر. وقد تقدم الكلام في حدود الحرم، فليرجع إليه. والمرأة والرجل في جميع محرمات الإحرام سواء إلا ما سبق، والله تعالى أعلم. 29 - فصل في حرم المدينة المنورة -زاد الله شرفها- عن علي -رضي الله تعالى عنه- مرفوعاً في المدينة: "لا يُختلى خلاها، ولا يُنفر صيدُها, ولا يلتقط لقطتها إلا من أنشدها, ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يقطع فيها شجراً إلا أن يعلفَ رجلٌ بعيره" رواه أحمد. وعنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المدينة حرام ما بين عَير إلى ثور" متفق عليه. وعن أبي هريرة، قال حَرَّمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابَتَي المدينة، وجعل اثنى عشر ميلاً حول المدينة حِمًى. متفق عليه. وعن سعد، قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني أحرم ما بين لابَتَي المدينة؛ أن يُقطع عضاهُها، أو يُقتل صيدُها" رواه مسلم. استدل بهذا على تحريم شجرها، وخبطه، وعضده، وتحريم صيدها، وتنفيره، والشافعي، ومالك، وأحمد، وجمهور أهل العلم على: أن للمدينة حرماً كحرم مكة، يحرم صيدُه وشجره. قال الشافعي ومالك: فإن قتل صيداً، أو قطع شجراً، فلا ضمان؛ لأنه ليس بمحل النسك، فأشبه الحمى، وقال ابن أبي ذئب، وابن أبي ليلى: يجب فيه الجزاء كحرم مكة، وبه قال بعض المالكية، وهو ظاهر، وذهب أبو حنيفة، وزيدُ بن علي إلى أن حرم المدينة ليس بحرم على الحقيقة، ولا يثبت له الأحكام من تحريم قتل الصيد وقطع الشجر، والأحاديثُ تردُّ عليهم، واستدلوا بحديث: "يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ "، وأجيب عنه بأن ذلك قبل تحريم المدينة، أو أنه من صيد الحِل، نعم يجوز أخذُ الأشجار للعلف لا لغيره، فإنه لا يحل كما سلف. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: حرم المدينة ما بين لابَتَيها، واللابة: هي

30 - فصل في حرم وج

الحَرَّة، وهي الأرض التي فيها حجارة سودٌ، وهو بريد، والبريدُ أربعة فراسخ، وهو من عَيْر إلى ثور، وعَيْر: جبل عند الميقات يشبه العيرَ، وهو الحمار، وثور: جبل في ناحية أحد، وهو غير جبل ثور الذي بمكة، فهذا الحرم لا يُصطاد صيده، ولا يُقطع شجره، إلا لحاجة؛ كآلة الركوب والحرث، وليس في الدنيا حرمٌ لا بيتُ المقدس ولا غيره إلا هذان الحرمان، ولا يسمى غيرهما حرماً كما يسمي الجهال، فيقولون: حرم القدس، وحرم الخليل؛ فإن هذين وغيرهما ليس بحرم باتفاق المسلمين، والحرم المجمع عليه: حرم مكة، وأما المدينة، فلها حرم أيضاً عند الجمهور، كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. 30 - فصل في حرم وَجّ عن الزبير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن صيدَ وَجٍّ وعضاهَه حرمٌ محرَّم لله -عز وجل-" رواه أحمد، وأبو داود، والبخاري في "تاريخه"، ولفظه: "إن صيدَ وجٍّ حرام"، قال البخاري: ولا يُتابع عليه، وسكت عنه أبو داود، وحسنه المنذري، وسكت عنه عبد الحق أيضاً، وذكر الذهبي أن الشافعي صححه، وذكر الخلال أن أحمد ضعفه. ووَجٌّ -بفتح الواو وتشديد الجيم-، قال ابن رسلان: هو أرض بالطائف عند أهل اللغة، وقال أصحابنا: هو وادٍ بالطائف، وقيل: كل الطائف، انتهى. وقال الحازمي "في المؤتلف والمختلف" في الأماكن: وَجٌّ: اسم لحصون الطائف، وقيل: لواحد منها. والعضاه: كل شجر يعظم وله شوك، والحديث يدل على تحريم صيد وج وشجره. قال ابن تيمية: ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث إلا في وَجّ، وهو عند بعضهم حرم، وعند الجمهور ليس بحرم، انتهى. قلت: وقد ذهب إلى كراهية صيده وشجره الشافعيُّ، قال في "البحر" بعد أن ذكر هذا الحديث: إن صح، فالقياسُ التحريمُ، لكنْ منع منه الإجماع، انتهى. قال الشوكاني: وفي دعوى الإجماع نظر؛ فإنه قد جزم جمهور أصحاب الشافعي بالتحريم، قال الخطابي: ولست أعلم لتحريمه معنى، إلا أن يكون ذلك على سبيل الحمى لنوع من منافع المسلمين، وقد يحتمل أن ذلك التحريم

31 - فصل في التفاضل بين مكة والمدينة

إنما كان في وقت معلوم إلى مدة محصورة، ثم نسخ، قال أبو داود في "السنن": وكان ذلك -يعني: تحريم وج- قبل نزوله - صلى الله عليه وسلم - بالطائف، وحصارِه ثقيفاً، انتهى. والظاهر من الحديث تأبيدُ التحريم، ومن ادعى النسخَ، فعليه الدليل؛ لأن الأصل عدمه، وأما ضمانُ صيده وشجره على حد ضمان الحرم المكي، فموقوف على ورود دليل يدل على ذلك؛ لأن الأصل براءة الذمة، ولا ملازمة بين التحريم والضمان، انتهى كلامه. 31 - فصل في التفاضل بين مكة والمدينة عن عبد الله بن عدي: أنه سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "والله! إنك لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إليّ، ولولا أني أُخرجت، ما خرجت منك" رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وصححه، وبذلك استدل من قال: إنها أفضل من المدينة. قال القاضي عياض: اختلفوا في أفضلهما، فقال أهل مكة، والكوفة، والشافعي، وابن وهب، وابن حبيب المالكيان: إن مكة أفضل، وإليه مال الجمهور، وذهب عمر وبعض أصحابه، ومالك، وأكثر المدنيين: إلى أن المدينة أفضل، واستدل الأولون بالحديث المذكور، وقد أخرجه أيضاً ابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهما. وقال ابن عبد البر: هذا نص في محل الخلاف، فلا ينبغي العدولُ عنه، وقد ادعى القاضي عياض الاتفاق على استثناء البقعة التي قُبر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أنها أفضل البقاع. قلت: ولم أقف على دليل يؤيد هذا الاتفاق، ولا أدري من أين أتوا به، وقد استدل القائلون بأفضلية المدينة بأدلة: منها: حديث: "ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة" كما في البخاري وغيره، ومنها: حديث: "اللهم إنهم أخرجوني من أحبِّ البلاد إليّ، فأَسكني في أحبِّ البلاد إليك" أخرجه الحاكم في "المستدرك"، إلى غير ذلك. قال الشوكاني بعدما ذكر استدلال الفريقين بالبسط: اعلم أن الاستيعاب ببيان الفاضل من هذين الموضعين الشريفين، كالاشتغال ببيان الأفضل من القرآن الكريم والنبي - صلى الله عليه وسلم -، والكلُّ من فضول الكلام

الذي لا يتعلق به فائدةٌ غير الجدال والخصام، وقد أفضى النزاع في ذلك وأشباهه إلى فتن، وتلفيقِ حجج واهية؛ كاستدلال المهلَّب على أفضلية المدينة؛ بأنها هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام، فصار الجميع في صحائف أهلها وبأنها تنفي الخبيث، كما ثبت في الحديث الصحيح. وأجيب عن الأول: بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة معظمهم من أهل مكة، فالفضل ثابتٌ للفريقين، ولا يلزم من ذلك تفضيلُ إحدى البقعتين على الأخرى. وعن الثاني: بأن ذلك إنما هو في خاص من الناس ومن الزمان؛ بدليل قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101] , والمنافق خبيث بلا شك. وقد خرج من المدينة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -: معاذ، وأبو عبيدة، وابن مسعود، وطائفة، ثم علي -رضي الله عنه-، وطلحة، والزبير، وعمار، وآخرون، وهم من أطيب الخلق، فدل على أن المراد بالحديث تخصيصُ ناس دون ناس، ووقتٍ دون وقت، على أنه إنما يدل ذلك على أنها فضيلة، لا أنها فاضلة، انتهى كلامه. وما أحقَّه بالسمع والقبول؛ لأنك إن أردت قحَّ السنة واتباعها، فهي تركُ الخوض في أمثال ذلك [من] الأمور، وبالله التوفيق. * * *

الباب الرابع في مقاصد الحج من حين الإحرام إلى الرجوع عنه

الباب الرابع في مقاصد الحج من حين الإحرام إلى الرجوع عنه وفيه فصول: 1 - فصل في آداب الإحرام وهي ستة: 1 - الأول: إذا انتهى إلى الميقات المشهور الذي يُحرم الناسُ منه: يغتسل، وينوي به غسل الإحرام، ويتأهب للإحرام بحلق العانة، وتنظيف الإبط، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، وتسريح اللحية، وحلق الرأس لمن اعتاده من الرجال، ويقدم هذه الأمور على الغسل، وليس هذا من خصائص الإحرام، ولم يكن له ذكر فيما نقله الصحابة، لكنه يشرع بحسب الحاجة كما يشرع لمصلي الجمعة والعيد على هذا الوجه، وتغتسل له الحائض والنفساء باتفاق الأربعة؛ لحديث ابنِ عباس مرفوعاً: "إن النفساء والحائض تغتسل وتُحرم وتقضي المناسك كلَّها غير أَنْ لا تطوف بالبيت" رواه أبو داود، والترمذي. 2 - الثاني: أن يتجرد الرجل والصبي عن الثياب المَخيطة وكلِّ ما يحرُم لبسه، ويلبس ثوبي الإحرام، والأفضلُ أن يكونا أبيضين، باتفاق الأربعة، فالأبيض أحبُّ الثياب إلى الله -عز وجل-، وأن يكونا جديدين عند الشافعية والحنفية، ولا فرق عند المالكية بين الجديد والغسيل، وقال الحنابلة: يستحب أن يكونا نظيفين، إما جديدين، وإما غسيلين، ويجوز أن يحرم في جميع أجناس الثياب المباحة من القطن والكتان والصوف. والسنة: أن يُحرم في إزار ورداء، سواء كانا مَخيطين، أو غير مخيطين باتفاق الأئمة، ولو أحرم في غيرهما، جاز إن كان مما يجوز لبسه، وإن كان ملوناً،

والأفضلُ أن يحرم في نعلين إن تيسر، والنعل هي التي يقال لها: القاسومة، فإن لم يجد نعلين، لبس خفين، ويجوز عند الحنفية لبس الرموزة، والجمجم؛ خلافاً للثلاثة، والتجرد من اللباس واجبٌ في الإحرام ليسَ شرطاً فيه، فلو أحرم وعليه ثيابه، صح ذلك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وباتفاق أئمة أهل العلم، وعليه أن ينزع اللباس المحظور. 3 - الثالث: أن يتطيب في ثيابه وبدنه عند الشافعية والحنفية والحنابلة؛ خلافاً للمالكية، ولا بأس بطيب يبقى جرمُه بعد الإحرام، فقد رُئِي وبيص المسك على مفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَ الإحرام مما كان استعمله قبل الإحرام، وهو في حديث عائشة عند أبي داود، والترمذي، قال في "الفتح": وهو قول الجمهور، وقد تقدم الكلام في هذا. 4 - والرابع: أن يصلي ركعتي الإحرام إن لم يكن وقت الكراهة، والأفضل عند الحنفية والحنابلة أن يحرم عقب الصلاة، إما فرضاً، وإما تطوعاً إن كان وقت تطوع في أحد القولين، وفي الآخر: إن كان يصلي فرضاً، أم عقبه، وإلا، فليس للإحرام صلاة تخصه، وهذا أرجح. 5 - الخامس: أن يصبر بعد لبس الثياب حتى تنبعث به راحلته إن كان راكباً, أو يبدأ بالسير إن كان راجلاً، فعند ذلك ينوي الإحرام بالحج أو بالعمرة، قِراناً أو إفراداً أو تمتعاً كما أراد، ويكفي مجردُ النية لانعقاد الإحرام، ولا يكون المحرم محرماً بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته؛ فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده، بل لا بد من قول أو عمل يصير به محرِماً، وهذا هو الصحيح من القولين، والسنة: أن يقرن بالنية لفظ التلبية، وينبغي ألا يتكلم إلا بما يعنيه، كان شريح إذا أحرم كأنه الصخرة الصماء، ويستحب عند المالكية: ألا يذكر بلسانه ما أحرم به، خلافاً للثلاثة؛ فإنهم استحبوا ذلك، ويستحب عند الشافعية والحنفية والحنابلة: أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب التلبية، ويسأل اللهَ رضوانَه والجنةَ، ويستعيذ به من النار، رواه الشافعي والدارقطني من حديث خزيمة بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

6 - السادس: يُستحب تجديدُ التلبية وإكثارُها في الجملة باتفاق الأربعة في دوام الإحرام، خصوصاً عند اصطدام الرفاق، واجتماع الناس، وعند كل صعود وهبوط، وعند كل ركوب ونزول، ويلبي عند طلوع الشمس وغروبها، وأدبار الصلوات وإذا سمع ملبياً، وإذا أقبل الليل والنهار، وكذلك إذا فعل ما نُهي عنه رافعاً بها صوته بحيث لا يبح حلقه ولا يبهز؛ فإنه لا ينادي أصمَّ ولا غائباً، ولا بأس بها في المسجد الحرام، ومسجد الخيف، ومسجد الميقات؛ فإنها مَظِنَّة المناسك، وأما سائر المساجد، فلا بأس فيها بالتلبية من رفع صوت. عن السائب بن خلاد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتاني جبريل، فأمرني أن آمرَ أمتي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية" رواه الخمسة، وصححه الترمذي. قال المحلِّي: والمرأة لا ترفع صوتها، بل تقتصر على إسماع نفسها، فإن رفعت، كره، انتهى. وفي الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أضحى مؤمنٌ يلبي حتى تغرب الشمس إلا غابتْ ذنوبُه حتى يعود كما ولدته أُمه" ذكره العز بن جماعة، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أعجبه شيء، قال: "لبيك، إن العيش عيش الآخرة". 7 - السابع: في التلبية وصفتها: عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنه-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة، أهلَّ، فقال: "لبيك اللهمَّ لبيك، لبيك لا شريكَ لكَ لبيك، إن الحمدَ والنعمةَ لكَ، والملكَ، لا شريك لك". وكان عبد الله بن عمر يزيد مع هذا: لبيك لبيك وسعديك، والخيرُ بيديك، والرغباءُ إليك والعمل، متفق عليه. فهذه صفة التلبية، ومعناه: إجابةً بعد إجابة، أو إجابةً لازمةً. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إجابة دعوة الله حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله، والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره، كما ينقاد الذي لُبِّبَ وأُخذ تلبيبُه، والمعنى: إنا مجيبون لدعوتك، مستسلمون لحكمك، مطيعون لأمرك، مرة بعد مرة دائماً لا نزال على ذلك، والتلبيةُ شعارُ الحج، فأفضلُ الحج: العَجُّ والثجُّ، فالعجُّ: رفعُ الصوت بالتلبية، والثجُّ: إراقة دم الهدي، انتهى.

2 - فصل في قطع التلبية

قلت: أجمع المسلمون على تلك التلبية، غير أن قوماً قالوا: لا بأس أن يزيد فيها من ذكر الله تعالى ما أحبَّ، وهو قول محمد، والثوري، والأوزاعي، وخالفهم آخرون، فقالوا: لا ينبغي أن يُزاد على ما علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبجواز الزيادة قال الجمهور، وحكى ابن عبد البر عن مالك: الكراهةَ، وهو أحد قولي الشافعي، وكان الصحابة يزيدونها، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يسمعهم، فلا ينهاهم، ولا ينكر عليهم، وكان هو يداوم على تلبيته. ويلبي من حين يحرم، سواء ركب دابته، أم لا، وإن أحرم بعد ذلك، جاز. واختلف في حكم التلبية، فقال الشافعي، وأحمد: إنها سنة، وقال أبو هريرة: واجبة، وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكية، والخطابي عن مالك وأبي حنيفة، واختلف هؤلاء في وجوب الدم لتركها، قال ابن شاش من المالكية، وصاحب "الهداية" من الحنفية: إنها واجبة، يقوم مقامها فعلٌ يتعلق بالحج؛ كالتوجه إلى الطريق، وحكى ابن عبد البر عن الثوري، وأبي حنيفة، وابن حبيب من المالكية، والزبيري من الشافعية، وأهل الظاهر: أنها ركن في الإحرام، لا ينعقد بدونها، وأخرج ابن سعد عن عطاء بإسناد صحيح: أنها فرض، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر، وطاوس وعكرمة. 2 - فصل في قطع التلبية عن الفضل بن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، قال: كنت رَديفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جَمْعٍ إلى مِنى، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، رواه الجماعة، وفي هذا دليل على أن التلبية تستمر إلى رمي جمرة العقبة، وإليه ذهب الجمهور، وقالت طائفة: يقطع المحرم التلبية إذا دخل الحرم، وهو مذهب ابن عمر، لكن يعاود التلبية إذا خرج من مكة إلى عرفة، وقالت طائفة: يقطعها إذا راح إلى الموقف. رواه ابن المنذر، وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة عن عائشة، وسعد بن أبي وقاص، وعلي، وبه قال مالك، وقيده بزوال الشمس يوم عرفة، وهو قول الأوزاعي، والليث، وعن الحسن البصري مثله، لكن قال: إذا صلى الغداة يوم عرفة.

3 - فصل في آداب دخول مكة

واختلف الأولون: هل يقطع التلبية مع رمي أول حصاة، أو عند تمام الرمي؟ فذهب جمهورهم إلى الأول، وإلى الثاني أحمدُ، وبعض أصحاب الشافعي، ويدل لهم حديث فضل، قال: أفضتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة. ويكبر مع كل حصاة، ثم يقطع التلبية مع آخر حصاة، قال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح مفسر لما أُبهم في الروايات الآخر، وإن المراد حتى رمى جمرة العقبة التي أتم رميها. قال الشوكاني: والأمر كما قال ابن خزيمة؛ فإن هذه زيادة مقبولة خارجة مخرج الصحيح، غير منافية للمزيد، وقبولُها، متفق عليه كما تقرر في الأصول، وعن ابن عباس مرفوعاً: أنه كان يُمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر، رواه الترمذي وصححه. وعن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يلبي المعتمر حتى يستلم الحجرَ" رواه أبو داود. وقلت: ظاهره أنه يلبي في حال دخوله المسجد، وبعد رؤية البيت، وفي حال مشيه حتى يشرع في الاستلام، ويستثنى منه الأوقات التي فيها دعاء مخصوص. وقد ذهب إلى ما دل عليه الحديث من ترك التلبية عند الشروع في الاستلام: أبو حنيفة، والشافعي في الجديد، وقال في القديم: يلبي، ولكنه يخفض صوته، وهو قول ابن عباس، وأحمد. 3 - فصل في آداب دخول مكة وهي سبعة: 1 - الأول: استحب بعض السلف أن يقول عند الدخول في أول الحرم وهو خارجَ مكة -شرفها الله تعالى وعظمها-: "اللهمَّ هذا حرمُك وأمنُك، فحرِّمْ لحمي ودمي وبَشَري على النار، وآمِنِّي عذابَك يوم تبعثُ عبادَك، واجعلني من أوليائك وأهلِ طاعتك". ويروى: أن في زمن الطوفان لم يأكل كبارُ الحيتان صغارَها في الحرَم؛ تعظيما له، فينبغي للإنسان أن يسلك في ذلك المحل الشريف غايةَ الأدب مع الله تعالى في حركاته وسكناته، ويرجو من فضل الله تعالى أُمنياته؛ فإن المحل عظيم، والمقام كريم. قلت: ولم يرد بذلك الأدب نص.

2 - الثاني: أن يغتسل بذي طوى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبيت بها، ويغتسل لدخول مكة، قالت الشافعية، والحنفية، والحنابلة: يستحب الغسلُ لمن دخل مكة وهو محرِم، حتى للحائض والنفساء، وعند المالكية: إنه مسنون لغير الحائض. قلت: فمن تيسر له المبيت بها، والاغتسال فيها، وإلا، فلا شيء عليه من ذلك. 3 - الثالث: أن يدخل من ثنية كَداء من أعلى مكة باتفاق الأربعة، إلا أن المالكية قالوا: يستحب لمن أتى من طريق المدينة، وفي حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنه-: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل مكة، دخل من الثنية العليا التي بالبطحاء، وإذا خرج، خرج من الثنية السفلى، رواه الجماعة إلا الترمذي، وفي الباب عن عائشة عند الشيخين، وأبي داود. 4 - الرابع: أن يدخلها نهاراً، باتفاقهم، وذلك أفضل، ولو دخل ليلاً، جاز؛ كدخولها راكباً وماشياً، وصحح النووي أن دخولها ماشياً أفضل. 5 - الخامس: أن يدخل مكة والمسجد من جميع الجوانب، لكن الأفضل أن يأتي من وجه الكعبة اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه دخلها من وجهه من الناحية العليا التي فيها اليوم باب المعلات، ولم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكة ولا للمدينة سور، ولا أبواب مبنية، ودخل المسجد من الباب الأعظم الذي يقال له: باب بني شيبة، وهذا أقرب الطريق إلى الحجر، ولم يكن قديماً بناء يعلو البيت، ولا كان بين الصفا والمروة والمشعر الحرام، ولا كان بمنى ولا عرفات مسجدٌ، ولا عند الجمرات، بل كل هذه محدثة بعد الخلفاء الراشدين، ومنها ما أحدث بعد ذلك، فقد كان البيت يُرى قبل دخول المسجد. 6 - السادس: إذا دخل مكة، ووقع بصره على البيت، فليقل: لا إله إلا الله، اللهُ أكبر، اللهمَّ زدْ هذا البيتَ تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة، وزِدْ مَنْ شرَّفه وكرَّمه ممَّن حجَّه أو اعتمر تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبِرّاً، اللهمَّ افتح لي أبواب رحمتك، وأدخلني جنتك، وأعِذْني من الشيطان الرجيم، ثم يدعو بما

4 - فصل في آداب الطواف

شاء من خيري الدنيا والآخرة، ويستحب عند الشافعية: إذا رأى البيت أن يرفع يديه بباطن كفيه كما يرفعهما للدعاء، ولا يشير بيده ولا بالسبابة إلى البيت كما يفعله بعض العوام؛ فإن ذلك بدعة، وبه قال الحنابلة، وعند الحنفية: لا يرفع يديه عند رؤية البيت، وبه قال مالك، واستدلوا بحديث ابن جريج: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى البيت، رفع يديه، وقال: "اللهمَّ زِدْ. . . إلخ" رواه الشافعي في "مسنده"، وقال: ليس في هذا شيء، فلا أكرهه، ولا استحبه. قال البيهقي: فكأنه لم يعتمد على الحديث؛ لانقطاعه، وعن جابر: وسئل عن الرجل يرى البيتَ يرفع يديه، فقال: لقد حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن يفعله، رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وسنده ضعيف، وفيه مقال. والحاصل: أنه ليس في الباب ما يدل على مشروعية رفع اليدين عند رؤية البيت، وهو حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل. 7 - السابع: إذا دخل المسجد، بدأ الطواف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل، بدأ به، ولم يصلِّ قبل ذلك تحيةَ المسجد، ولا غير ذلك، بل تحية المسجد الحرام هو الطواف بالبيت، فله ألا يعرج على شيء دون الطواف، إلا أن يجد الناس في المكتوبة، فيصلي معهم ثم يطوف. 4 - فصل في آداب الطواف إذا أراد افتتاح الطواف؛ إما للقدوم، وإما لغيره، فينبغي أن يراعي أموراً. الأول: الطهارة، وفي وجوبها في المطاف نزاع بين العلماء؛ فإنه لم ينقل أحدٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالطهارة للطواف، ولا نهى المحدِثَ أن يطوف، ولكنه طاف طاهراً، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى الحائض عن الطواف، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "مفتاح الصلاة: الطهور، وتحريمها: التكبير، وتحليلها: التسليم"، فالصلاة التي أوجب لها الطهارة، ما كان يفتتح بالتكبير، ويختتم بالتسليم، كالصلاة التي فيها ركوع وسجود، كصلاة الجنازة، وسجدتي السهو، وأما الطواف وسجود التلاوة فليس من هذا. والاعتكافُ: يُشترط له المسجد، ولا يشترط له الطهارة بالاتفاق،

والمعتكفة الحائض: تُنهى عن اللبث في المسجد مع الحيض، وإن كانت تلبث في المسجد وهي محدثة، ولم ير حماد ومنصور بأساً في طواف البيت وهو غير متوضىء، واختلفت الرواية عن أحمد في اشتراط الطهارة فيه، ووجوبها، كما هو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، لكن لا يختلف مذهب أبي حنيفة أنها ليست بشرط، ومن كان به نجاسة ولا يمكن إزالتها؛ كالاستحاضة، ومَنْ به سلس البول، فإنه يطوف، ولا شيء عليه باتفاق الأئمة، وكذلك الحائض إذا لم يمكنها طواف الفرض، إلا حائضاً بحيث لا يمكنها التأخر بمكة، جاز، وفي أحد قولي العلماء الذين يوجبون الطهارة على الطائف: إذا طاف الحائض، والجنب، أو المحدث، أو حامل النجاسة مطلقاً، أجزأه الطواف، وعليه دم، إما شاة، وإما بدنة مع الحيض والجنابة، وشاة مع الحدث الأصغر، ومنع الحائض من الطواف قد يُعلل بأنه يشبه الصلاة، وقد يُعلل بأنها ممنوعة من الحدث كما تمنع من الاعتكاف، كما قال -عز وجل- لإبراهيم -عليه السلام-: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، فأمر بتطهيره لهذه العبادات، فمنعت من دخوله. وقد أجمع العلماء على أنه لا يجب للطواف؛ ما يجب للصلاة من تحريم وتحليل وقراءة وغير ذلك، ولا يبطله الأكل والشرب والكلام وغيرُ ذلك، ولهذا كان يقتضي تعليل مَنْ منعَ الحائضَ لحرمة المسجد: أنه لا يرى الطهارة شرطاً، بل مقتضى قوله أنه يجوز لها دخول المسجد عند الحاجة، وقد أمر الله تعالى بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود، والعاكف فيه يُشترط له الطهارة من الحدث الأصغر باتفاق المسلمين، ولو اضطرت العاكفة الحائض إلى لبثها فيه للحاجة، جاز ذلك، وأما الركَّع السجود: فهم المصلون، والطهارة شرط للصلاة باتفاقهم، والحائض لا تصلي، لا قضاء، ولا أداء، بقي الطائف، هل يلتحق بالعاكف، أو بالمصلي، أو يكون قسماً ثالثاً بينهما؟ هذا محل نزاع، وقولهم: الطواف بالبيت صلاة، لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل ثبت عن ابن عباس، وإن روي مرفوعاً.

ونقل بعض الفقهاء عنه -رضي الله تعالى عنه-: أنه قال: إذا طاف بالبيت وهو جنب، عليه دم، ولا ريب أن المراد بذلك أنه يشبه الصلاة من بعض الوجوه، وليس المراد: أنه نوع من الصلاة التي تشترط لها الطهارة، وهذا كقوله: إذا أتى أحدكم المسجد، فلا يُشَبكنَّ بين أصابعه؛ فإنه في صلاة، ما كانت الصلاةُ تحبسُه وما دام ينتظر الصلاة، وما كان يعمد إلى الصلاة، ونحو ذلك، فلا يجوز لحائض أن تطوف إلا طاهرة إذا أمكنها ذلك باتفاق العلماء، ولو قدمت المرأة حائضاً، ولم تطف بالبيت، لكن تقف بعرفة، وتفعل سائر المناسك، وإن اضطرت إلى الطواف، فطافت، أجزأها على الصحيح من قول العلماء، وعن عائشة: أن أول شيء بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة: أنه توضأ، ثم طاف بالبيت، متفق عليه. 2 - الثاني: ستر العورة؛ لحديث أبي بكر، قال: لا يطوف بالبيت عُريان، رواه الشيخان، وفيه دليل على وجوب سترها حال الطواف، واختلف هل الستر شرط لصحة الطواف أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه شرط، وذهب الحنفية إلى أنه ليس بشرط، فمن طاف عرياناً، أعاد ما دام بمكة، وإن خرج، لزمه دم. 3 - الثالث: الاضطباع، وهو مستحب عند الجمهور، سوى مالك، وقال الشافعية: هو في طواف ليس فيه الرمَل، وعند الحنفية: مستحب، أو سنة في جميع طواف القدوم، وطواف العمرة خاصة، وعند الشافعية: يستديم الاضطباع إلى آخر السعي إلا في ركعتي الطواف، وعند الحنفية والحنابلة: أنه في الطواف خاصة، ولا يشرع عند المالكية الاضطباعُ في الطواف، ولا في غيره، والحديث يردُّ عليهم، وكأنه لم يبلغهم. والاضطباع: أن يجعل وسطَ ردائه تحت إبطه اليمنى، يجمع طرفيه على منكبه الأيسر، فيرخي طرفاً وراء ظهره، وطرفاً على صدره بالاتفاق. 4 - الرابع: أن يَرْمُل في ثلاثة أشواط، ويمشي في الأربعة الآخر على الهيئة المعتادة؛ لحديث جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة: أتى الحَجَر فاستلمه، ثم مشى على يمينه، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، رواه مسلم، والنسائي، ولم

يقل: نويت طوافي لكذا, ولا أفتتحه بالتكبير كما يفعله كثير ممن لا علم عنده، وذلك من البِدَع المنكَرة. ومعنى الرمَل: الإسراع في المشي مع تقارب الخطا، وهو دون العَدْو وفوقَ المشي المعتاد، ولا يعدو كما يفعل العوام؛ فإن ذلك مكروه، والمقصودُ منه ومن الاضطباع: إظهارُ الشطارة والجلادة والقوة، هكذا كان القصد أولاً؛ قطعاً لطمع الكفار، وبقيت تلك السنة، والأفضل الرمَلُ مع الدنو من البيت، فإن لم يمكنه من الزحمة، فالرمَلُ مع البعد أفضل، فليخرج إلى حاشية المطاف، وليرمُل ثلاثاً، ثم ليقرب إلى البيت في المزدحم، وليمش أربعاً، وإن أمكنه استلامُ الحجر في كل شوط، فهو الأحب، وإن منعته الزحمة، أشار باليد، وقَبَّل يَده. 5 - الخامس: ألا يطوف في جورب ونحوه، ومن طاف فيه وفي نحوه لئلا يطأ نجاسة من خُرْ الحمام، أو غطى يده لئلا يمسَّ امرأة ونحو ذلك، فقد خالف السنة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين ما زالوا يطوفون بالبيت، وما زال الحمام بمكة، والاحتياط حسن ما لم يُفْضِ بصاحبه إلى مخالفة السنة المعلومة، فإذا أفضى إلى ذلك، كان خطأ، وكما أن القول الذي تيقن مخالفتها خطأ، كذلك قول من قال: إنه كان يخلع نعليه في الصلاة المكتوبة، وصلاة الجنازة؛ خوفاً من أن يكون فيها نجاسة خطأ مخالف السنة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في نعليه، وقال: "إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم" وقال: "إذا أتى أحدُكم المسجدَ، فلينظر في نعليه، فإن كان بهما أذًى، فليدْلُكْهما بالتراب؛ فإن التراب لها طهور"، وكما يجوز أن يصلي في نعليه، كذلك يجوز أن يطوف في نعليه. 6 - السادس: ألا يستلم من الأركان إلا اليمانيين؛ لحديث ابن عمر، قال: لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسُّ من الأركان إلا اليمانيين، رواه الجماعة إلا الترمذي، لكن له معناه من رواية ابن عباس، وعنه: كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحَجَر في كل طوافه، رواه أحمد، وأبو داود. وإنما اقتصر على استلام هذين الركنين

لأنهما على قواعد إبراهيم -عليه السلام-، دون الشاميين، فعلى هذا يكون للركن الأول فضيلتان: كونه الحجر الأسود، وكونه على قواعد إبراهيم -عليه السلام-، وللثاني الثانية فقط، وليس للآخرين شيء منهما، فكذلك يقبل الأول، ويستلم الثاني، ولا يُقَبَّل الآخران، ولا يُستلمان على رأي الجمهور. 7 - السابع: يُستحب أن يقبل الحجرَ الأسود، وإليه ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وسائر العلماء، والتقبيلُ بالفم، والاستلامُ المسحُ باليد، فإن لم يستطع التقبيل، ولم يمكن استلامُه، وقف في مقابلته، وقَبَّل يديه، وإلا، أشار إليه. عن أبي الطفيل عامر ابن واثلة، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت، ويستلم الحجر بمِحْجَن معه، ويقبل المحجنَ، رواه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه. وعن مالك: لا يقبل يده، وبه قال القاسم بن محمد بن أبي بكر، وفي رواية عند المالكية: يضع يده على فمه من غير تقبيل، والحديث والآثار ترد عليه. قال الشوكاني: وقد استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر، وكذلك تقبيل المِحْجن: جواز تقبيل كلِّ من يستحق التعظيم من آدمي وغيره، وقد نقل الإِمام أحمد: أنه سئل عن تقبيل منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستبعد بعضُ أصحابه صحةَ ذلك، ونُقل عن أبي الصيف اليماني أحدِ علماء مكة من الشافعية: جوازُ تقبيل المصحف، وأجزاء الحديث، وقبور الصالحين، كذا في "الفتح"، انتهى. قلت: هذا الاستنباط غير مرضي عندي؛ فإنه لا يساعده دليل شرعي، والقياس على الحَجَر وتقبيلِه قياسٌ مفارق؛ لأن أعمال الحج خاصة به، ولا يقاس عليها شيء، وإلا كان السجود أيضاً لكل من يستحق التعظيم، فقد ثبت السجودُ على الحجر الأسود، كما ثبت التقبيل كما سيأتي. 8 - الثامن: يُستحب السجدة عليه عند الشافعية والحنفية؛ لحديث ابن عباس موقوفاً: أنه كان يقبل الحجرَ الأسودَ، ويسجد عليه، أخرجه الشافعي، والبيهقي، ورواه الحاكم والبيهقي من حديثه مرفوعاً، وروى أبو داود الطيالسي، والدارمي، وابن خزيمة، وأبو بكر البزار، وأبو علي بن السكن، والبيهقي بإسناد متصل إلى ابن عباس: أنه رأى عمر يقبله ويسجد عليه، ثم قال: رأيت

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا، وفي سنده اضطراب، وحكى ابن المنذر عن عمر، وابن عباس، وطاوس، والشافعي، وأحمد: أنه يستحب بعد تقبيل الحجر الأسود السجود عليه بالجبهة، وبه قال الجمهور، وروي عن مالك: أنه بدعة، واعترف القاضي عياض بشذوذ مالك في ذلك. 9 - التاسع: ألا يستلم ولا يقبِّل غيرَ ما ذُكر من البيت وغيره. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: وأما سائر جوانب البيت، ومقام إبراهيم، وسائر ما في الأرض من المساجد وحيطانها، ومقابر الأنبياء والصالحين؛ كحجرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومغارة إبراهيم -عليه السلام-، ومقام نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يصلي فيه، وصخرة بيت المقدس، وغير ذلك، فلا يُستلم، ولا يُقبل باتفاق الأئمة، وأما الطواف بذلك، فهو من أعظم البدع المحرمة، ومن اتخذه ديناً، يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل. ولو وضع يده على الشاذَرْوان الذي تربط فيه أستار الكعبة، لم يضره ذلك في أصح أقوال العلماء، وليس الشَّاذَرْوان من البيت، بل جعل عماد البيت، انتهى. قال العز بن جماعة: وقد قال جماعة من السلف: إنه لا يقبل مقامَ إبراهيم -عليه السلام-، ولا غيره من الأحجار التي بمكة وبغيرها، قالوا: ولولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرع تقبيل الحجر الأسود، واستلام الركن اليماني، لما فعلنا ذلك، انتهى. 10 - العاشر: أن يطوف ماشياً، وإن لم يمكنه فطاف راكباً أو محمولاً، أجزأه بالاتفاق، قال في "الفتح": لا دليل في طوافه - صلى الله عليه وسلم - راكباً على جواز الطواف راكباً بغير عذر، وكلام الفقهاء يقتضي الجواز، إلا أن المشي أولى، والركوب مكروه تنزيهاً، والذي يترجح المنعُ؛ إذ طوافه - صلى الله عليه وسلم -، وكذا طواف أم سلمة كان قبل أن يحوط المسجد، فإذا حوط، امتنع داخله؛ إذ لا يؤمن التلويث، فلا يجوز بعد التحويط، بخلاف ما قبله، فإنه كان لا يحرم التلويث كما في السعي، انتهى. 11 - الحادي عشر: استحب الشافعي وأصحابه، والحنابلةُ أن يقول عند ابتداء الطواف واستلام الحجر: "بِاسم الله، واللهُ أَكبر، اللهمَّ إيمانًا بك،

5 - فصل في صفة الطواف

وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، وإتباعاً لسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -، واستحبوا أن يأتي بهذا الدعاء عند محاذاة الحجر الأسود واستلامه في كل طوفة. ومذهب الشافعي: أن قراءة القرآن في الطواف أفضلُ من الدعاء بغير المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الاشتغال بالدعاء المأثور الصحيح أفضلُ من الاشتغال بقراءة القرآن، وقال أبو حنيفة: ذكرُ الله أفضلُ من القراءة، وكرهَها مالك، والصحيح عند الحنابلة: أنه لا بأس بها سراً، والذي صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطواف: أنه كَبَّرَ عندَ أركان البيت، وقال بين الركنين اليماني والحجر الأسود: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] وأن ذلك كان أكثر دعائه - صلى الله عليه وسلم - فيه. وفي "الصحيحين" من غير تقييد بالطواف. قال الشافعي: إنه أحبُّ ما يقال فيه، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يدعو في الطواف بـ: اللهم قَنّعني بما رزقتني، وباركْ لي فيه، واخلفْ عليَّ كلَّ غائبة لي بخير". وحكى صاحب "الهداية" وغيرُه من الحنفية عن محمد بن الحسن: أنه لم يذكر أدعيةً خاصة لمشاهد الحج؛ لأن التوقيت في الدعاء يُذهب رقةَ القلب، وقال: أن يترك بالمنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فحسن، وأنكر مالك: التحديد في الدعاء في الطواف وغيره من مشاهد الحج، وغير المحدود منه سنة عندهم في الطواف. ويروى: أن الدعاء يستجاب فيه، فليدع الطائفُ لنفسه، ولمن أحبَّ بما أحبَّ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس فيه ذكر محدود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك، فلا أصل له، انتهى. وأباح الله سبحانه فيه الكلام، فمن تكلم فيه، فلا يتكلمْ إلا بخير. 5 - فصل في صفة الطواف إذا وصل إلى الحجر الأسود، فَلْيحاذِه بجميع بدنه؛ كما قال الشافعية، والحنابلة، فيقف عن يمينه مستقبلَ البيت، أو يقف والبيتُ عن يساره قبل محاذاة الحجر الأسود، وينوي عند الأربعة بطوافه الأول: طواف القدوم، إن كان

محرماً بالحج وحده، ودخل مكة قبل الوقوف، وإن قدم محرماً بالعمرة وحدها، نوى بطوافه طواف العمرة باتفاقهم. وإن قدم محرماً بالحج والعمرة، ودخل مكة قبل الوقوف، نوى بطوافه طواف القدوم عند الشافعية، والمالكية، والحنابلة. وعند الحنفية: ينوي بأول طوافه طواف العمرة، فلو نوى به طواف القدوم، انصرف إلى العمرة، ونيته لغو، ثم يشرع في الطواف، فيجعل البيت عن يساره، ويمشي تلقاء وجهه خارجاً بجميع بدنه عن الشاذروان والحِجْر، وزمزم عن يمينه حتى ينتهي إلى الحجر الأسود، فإذا طاف كذلك سبع مرات، أجزأه الطواف، باتفاق الأربعة، وقد ذهب إلى أن هذه الكيفية شرطٌ لصحة الطواف الأكثرُ، وقالوا: لو عكس، لم يجز. قال في "البحر": ولا خلاف إلا عن محمد بن داود الأصفهاني، وأنكروا عليه، وهموا بقتله، انتهى. وقد استفاض عن الصحابة: أن أول شيء كان يبدؤون به: الطوافُ بالبيت، ثم لا يحلون رواه الشيخان، واختلف في وجوبه، فذهب مالك، وأبو ثور، وبعض أصحاب الشافعي: إلى أنه فرض؛ لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، أو لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم"، وفعله، وقال أبو حنيفة: إنه سنة، وقال الشافعي: إنه كتحية المسجد؛ لأنه ليس فيه إلا فعلُه - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يدل على الوجوب، وأما الاستدلال على الوجوب بالآية، فقال شارح "البحر": إنها لا تدل على طواف القدوم؛ لأنها في طواف الزيارة إجماعاً. والحق الوجوب؛ لأن فعله - صلى الله عليه وسلم - مبين لمجمَل واجبٍ، هو قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وقوله: "خذوا عني مناسككم" وقوله: "حجوا كما رأيتموني أحج"، وهذا الدليل يستلزم وجوبَ كلِّ فعل فعلَه - صلى الله عليه وسلم -، إلا ما خصه دليل، فمن ادعى عدمَ وجوب شيء من أفعاله في الحج، فعليه الدليل على ذلك، وهذه كلية، فعليك بملاحظتها في جميع الأبحاث التي ستمر بك. قال الشوكاني: لا يخفاك أنّ الحكم على بعض أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الحج

بالوجوب لأنها بيان لمجمل، وعلى بعضها بعدمه، تحكُّمٌ محضٌ؛ لفقد دليل يدل على الفرق بينهما، انتهى. ويجوز أن يطوف من وراء قبة زمزم وما وراءها من السقاية المتصلة بحيطان المسجد، ولو صلى المصلي والناس يطوفون أمامه، لم يكره، سواء مرَّ أمامه رجل أو امرأة، وهذا من خصائص الحرم مكة. وإذا فرغ من ذلك، ينبغي أن يصلي خلف المقام ركعتين، يقرأ في الأولى: قل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: الإخلاص، عند الشافعية، والحنفية، والحنابلة؛ كما أخرجه البزار عن جابر مرفوعاً، وفيه: أنه جهر فيهما بقراءته نهاراً، فالجهر فيها السنة ليلاً ونهاراً، وهما ركعتا الطواف، وهما سنتان عند الشافعي، واجبتان عند أبي حنيفة، لا تجبران بدم، وعند المالكية: تُجبران به، ولما فعلهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تلا قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فأفهم أَن الآية آمِرَة بها، والمراد بمقام إبراهيم: الذي فيه أثر قدمه، وهو موجود الآن. قال الزهري: مضت السنَّةُ أن يُصلي لكل سَبعْ ركعتين، وإن فرق بين الأسابيع، وصلى ركعتين، جاز، فعل ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلُّ أسبوع طوافٌ، ولْيدعُ بعد ركعتي الطواف بما شاء؛ فإن الدعاء يستجاب خلف المقام، ويصليهما عند الحنفية في وقت يُباح له أداءُ التطوع فيه، وعند الشافعية: هي صلاة لها سبب، فتباح في هذين الوقتين، وهو ظاهر الحديث، ثم لْيعدْ إلى الحَجَر، وليستلمه، وليختم به الطواف، والواجب أن يستكمل عدد الطواف سبعاً بجميع البيت، والمرأةُ كالرجل في الطواف، إلا أنها لا ترمْلُ، ولا تضطبع، بالاتفاق، ولا يُستحب لها تقبيلٌ ولا استلام إلا عند خلوِّ المطاف، بالاتفاق. وكانت عائشة -رضي الله تعالى عنها- تطوف ناحية عن الرجال، لا تخالطهم، ولتحترز المرأة في طوافها من كشف عورتها, ولتحترز الحرة من كشف قدمها؛ للخروج من خلاف العلماء؛ فإن مذهب الشافعية والحنابلة: أنه لا يصح طوافُها وشيء من قدمها مكشوفٌ؛ خلافاً للحنفية والمالكية، ومن المنكرات بالاتفاق ما يفعله كثير من الجهلة في زماننا من مزاحمة الرجال

الطائفين بنسائهم الجميلات السافرات عن وجوههن، وربما كان ذلك بالليل، وبأيديهم الشموع، وكذلك نظرُ النساء إلى الرجال حالَ الطواف، والمشيُ بالتبختر والدلال، والمرورُ من قرب جماعة الرجال. وضررُ ذلك وكراهته لا يخفى. وإذا تم الطواف سبعاً، فليأت الملتزَمَ، وهو بين الحَجَر والباب، وهو موضع استجابة الدعوة، فليلتزقْ بالبيت، وليتعلقْ بالأستار، وليلصقْ بطنه بالبيت، وليضع عليه خده الأيمن، وليبسط عليه ذراعيه وكفيه، وليدعُ بما أحبَّ. قال النووي في "الأذكار": ومن الدعوات المأثورة فيها: اللهمَّ لك الحمدُ حمداً يوافي نعمَك، ويكافىء مزيدَك، أحمدك بجميع محامِدك ما علمتُ منها وما لم أعلمْ، على جميع نعمِك ما علمتُ منها وما لم أعلم، وعلى كل حال، اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، اللهم أعِذْني من الشيطان الرجيم، وأعِذْني من كل سوء، وقَنِّعْني بما رزقتني، وباركْ لي فيه، اللهمَّ اجعلني من أكرم وَفْدِك عندَك، وألزمْني سبيلَ الاستقامة حتى ألقاك يا رب العالمين، انتهى. وقال الغزالي: ثم ليحمدِ الله كثيراً، ويصلِّ على الرسول وجميع الرسل كثيراً في هذا الموضع، وليدعُ بحوائجه الخاصة، ويستغفرْ من ذنوبه، وكان بعض السلف يقول لمواليه: تنحَّوا عني حتى أُقِرَّ لربي بذنوبي، انتهى. ولما استسعدتُ بالتزام الملتزم، تمثلت بهذه الأبيات، وأرجو من الله قبولها: أسيرُ الخطايا عند بابكَ واقفُ ... على وَجَل مِمَّا به أنت عارفُ يخافُ ذنوباً لم يغبْ عنك غيبُها ... ويرجوك فيها، فهو راجٍ وخائفُ ومن ذا الذي يرجو سواكَ ويتقي ... وما لَكَ في فصل القضاء مخالفُ فيا سيدي! لا تُخْزِني في صحيفتي ... إذا نُشرت يوم الحساب الصحائفُ وكنْ مونسي في ظُلمة القبر عند ما ... يصد ذوو القربى ويجفو الموالفُ لئن ضاقَ عن عفُوك الواسعُ الذي ... أُرَجِّي لإسرافي فإني لتالفُ ولنعم ما قيل: إلهي! عبدُك العاصي أتاكا ... مُقِرّاً بالذّنوبِ وقد دَعَاكَا فإنْ تغفرْ فأنتَ لذاكَ أهلٌ ... وإنْ تَطْرُدْ فمنْ يرحَمْ سِوَاكا

6 - فصل في السعي

6 - فصل في السعي قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]، وفي الحديث: "إن الله كتب عليكم السعي"، وفي رواية: "فاسعوا" رواه أحمد، واستدل به من قال: بأن السعي فرض، وهم الجمهور، وعند الحنفية: أنه واجب يُجبر بالدم، وبه قال الثوري، وفي الناسي خلاف العامد، وقال عطاء: إنه سنة لا يجب بتركه شيء، وبه قال أنس فيما نقله عنه ابن المنذر، واختلف عن أحمد كهذه الأقوال الثلاثة. وقد أغرب الطحاوي، فقال: قد أجمع العلماء على أنه: لو حج، ولم يطف بالصفا والمروة: أن حجه قد تم، وعليه دم، وحكاه صاحب "الفتح" وغيره عن الجمهور: أنه ركن لا يجبر بالدم، ولا يتم الحج بدونه، وأغرب ابن العربي المالكي، فحكى: أن السعي ركن في العمرة بالإجماع، وإنما الخلاف في الحج، وأغرب أيضاً المهدي في "البحر"، فحكى الإجماع على الوجوب. قال ابن المنذر: إن ثبت -يعني: الحديث المذكور-، فهو حجة في الوجوب. قال في "الفتح": العمدة في الوجوب قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم". قلت: وأظهر من هذا في الدلالة على الوجوب حديثُ مسلم: "ما أتم اللهُ حجَّ امرىءٍ ولا عمرته، لم يطف بين الصفا والمروة"، انتهى. وبالجملة: فالسعي بينهما واجب، والمشي أفضل من الركوب، وعليه أهل العلم. وصفة السعي: أن يخرج من باب الصفا باتفاق الأربعة؛ كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في محاذاة الضلع الذي بين الركن اليماني والحجر، ويُستحب أن يقدِّم رجلَه اليسرى في الخروج من المسجد، ويقول عند خروجه: "اللهمَّ افتحْ لي أبوابَ رحمتك"، فإذا خرج من ذلك، وانتهى إلى الصفا، وهو جبل، ليرق فيه درجاً في حضيض الجبل بقدر قامة الرجل، فقد رقي

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت له الكعبة. وابتداء السعي من أصل الجبل كافٍ، وهذه الزيادة مستحبة، لكن بعض تلك الدرج مستحدثة، فينبغي ألا يخلفها وراء ظهره، فلا يكون متمماً للسعي. وإن ابتدأ من هاهنا، سعى بينه وبين المروة سبعَ مرات، وهما في جانبي جبلي مكة، وعند رقيته في الصفا، ينبغي أن يستقبل البيت بالاتفاق، فيكبِّر ويهلل، ويقول: "لا إله إلا الله وحدَه، لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحدَه، أنجز وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحدَه"، ثم يصنع ذلك ثلاث مرات، ويدعو، ويصنع على المروة مثلَ ذلك، رواه مالك عن جابر بن عبد الله مرفوعاً. ويصلي على محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويرفع يديه بالدعاء عند غير المالكية، ويدعو الله -عز وجل- بما شاء من حاجة عقيب هذا الدعاء، ويأتي بما أحبَّ من الأذكار والأدعية. ويروى: أن الدعاء يُستجاب على الصفا والمروة، وفي المسعى. ثم ينزل ويبتدىء السعي وهو يقول: "ربِّ اغفرْ وارحمْ، وتجاوزْ عما تعلم، إنك أنتَ الأعَزُّ الأكرم، ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار"، ويمشي هنية حتى ينتهي إلى الميل الأخضر، وهو أولُ ما يلقاه إذا نزل من الصفا، وهو على زاوية المسجد الحرام، فإذا بقي بينه وبين محاذاة الميل ستة أذرع، أخذ في السير السريع، وهو الرمَل حتى ينتهي إلى الميلين الأخضرين، وهو مذهب الثلاثة غير الحنفية، وهذا السعي بين بطن الوادي مستحبٌّ من العَلَم إلى العَلَم عند المالكية، وإن لم يسعَ فيه، بل مشى على هينته، أجزأه باتفاق العلماء، ولا شيء عليه، والمرأة لا تسرع في سعيها باتفاق الأربعة، ولا تصعد على الصفا, ولا على المروة عند الشافعية والحنابلة، وقال المالكية: إنها تصعد إذا كان المكان خالياً، وهو مقتضى كلام الحنفية. ويستحب للمرأة أن يكون سعيها في الليل؛ لأنه أسترُ وأسلمُ لها ولغيرها من الفتنة. ثم يعود إلى الصفا، ثم إلى المروة، فإذا انتهى إلى المروة، صعِدها كما صعِد الصفا، وأقبل بوجهه على الصفا، ودعا بمثل ذلك الدعاء، وقد حصل

7 - فصل في المسير إلى منى، ومنها إلى عرفة

السعيُ مرة واحدة، فإذا عاد إلى الصفا، حصلت مرتان، يفعل ذلك سبعاً، ويرمُل في موضع الرمَل في كل مرة، ويسكن في موضع السكون كما سبق، وفي كل نوبة يصعد الصفا والمروة، فإذا فعل ذلك، فقد فرغ من طواف القدوم والسعي، وهما سنتان، ولا صلاة عقيبَ الطواف بالصفا والمروة، إنما الصلاة عقيبَ الطواف بالبيت سنةٌ باتفاق السلف والأئمة، والطهارةُ مستحبة للسعي، وليست بواجبة؛ بخلاف الطواف. وإذا سعى، فينبغي ألا يعيد السعيَ بعد الوقوف، ويكتفي بهذا ركناً؛ فإنه ليس من شرط السعي أن يتأخر عن الوقوف، وإنما ذلك شرط في طواف الركن، نعم، شرط كل سعي أن يقع بعد طواف، أيَّ طوافٍ كان، وإذا طاف بين الصفا والمروة، فقد حل من إحرامه، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه لما طافوا بينهما أن يحلوا، إلا مَنْ كان معه هدي، فلا يحل حتى ينحره، والمفرِد والقارِن لا يحل إلى يوم النحر، ويستحب له أن يقص من شعره ليدع الحلاق إلى الحج، وإذا حل، له ما كان له حرام، وأقام - صلى الله عليه وسلم - بمكة في الموضع الذي نزل فيه، وصلى بالناس قصراً في مكانه، ولم يأت المسجدَ الحرام للصلاة، فلما كان يوم التروية، نهض بمَنْ معه من المسلمين إلى منى. 7 - فصل في المسير إلى منى، ومنها إلى عرفة إذا كان يوم التروية؛ أي: ثامن ذي الحجة، أحرم بالحج، فيفعل كما فعل عند الميقات، إن شاء أحرم من مكة، وإن شاء من خارج مكة، مكياً كان أو غير مكي عند الشافعية والمالكية، وأصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرموا كما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من البطحاء. وإن السنة أن يُحرم من الموضع الذي هو نازل فيه، وكذلك أمرهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، والأفضلُ عند الشافعية أن يُحرم من باب داره، والأفضلُ عند المالكية: أن يُحرم المكي من المسجد عقبَ رجوعه، والأفضلُ عند الحنفية: من المسجد، ومن دُويرة أهله، وعند أحمد: من المسجد، ويستحب الغد، ويوم التروية.

والسنةُ: أن يبيت الحاج بمنى، فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، باتفاق الأربعة، والسنة: أن يمكث بمنى حتى تطلع الشمس، باتفاق الأربعة، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى ابن المنذر من طريق ابن عباس، قال: إذا زاغت الشمس، فليرحْ إلى مِنى، قال ابن المنذر: لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه أوجب على من تخلف عن منى ليلة التاسع شيئاً، ثم روى عن عائشة: أنها لم تخرج من مكة يوم التروية حتى دخل الليل وذهب ثلثه، وقال أيضاً: الخروج إلى منى في كل وقت مباح، إلا أن الحسنَ وعطاءً قالا: لا بأس أن يتقدم الحاج إلى منى قبل يوم التروية بيوم أو يومين، وكرهه مالك، وكره الإقامةَ بمكة يوم التروية حتى يمسي، إلا إن أدركه وقتُ الجمعة، فعليه أن يصليها قبل أن يخرج. وبالجملة: إذا طلعت الشمس على ثبير، وهو جبل هناك، سار متوجهاً إلى عرفة، مكثراً من التلبية والذكر والدعاء، وإن شاء يقول: اللهمَّ اجعلْها خيرَ غدوةٍ غدوتُها، وأقربَها إلى رضوانك، وأبعدها من سخطك، اللهمَّ إليك توجهتُ، ووجْهَكَ الكريمَ أردتُ، فاجعلْ حجِّي مبروراً، وسعيي مشكوراً، وذنبي مغفوراً يا أرحم الراحمين. فإذا قرب من عرفات، فيستحب نزوله بالموضع المعروف بنَمِرَةَ، كما قال الشافعية، والمالكية، والحنابلة، ويقيم بها إلى الزوال كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي قرية بشرقي عرفات، وهي خرابٌ اليومَ، وبها ينزل الأمراء، ويضرب بها الإمامُ الخيمة، ومن كانت له خيمة، ضربها اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم يسير منها [إلى] بطن الوادي، وهو موضع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي صلى فيه الظهر والعصر وخطبَ، وهو في حدود عرفة، ويُستحب أن يذهب الإمامُ والناس إلى المسجد المعروف بمسجد إبراهيم؛ حيث صلى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكُ هناك مسجدٌ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما بُني في أول دولة العباسيين، فيصلي هناك الظهر والعصر بعد خطبتين عند الشافعية، والحنفية، والمالكية، وبعد خطبة فردة عند الحنابلة، ويخطب بهم الإمامُ على بعيره كما خطبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خطبةً بليغة

بديعة، وقرر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية، وقرر فيها المحرَّمات التي اتفقت الملل على تحريمها، وهي: الدماء، والأموال، والأعراض، وغيرها من الأحكام. ومذهب الشافعية: أنه يُسن الجمعُ بين هاتين الصلاتين جمعَ تقديم للمسافر سفراً طويلاً دونَ غيره الماكثين والمقيمين، وهو مذهب الحنابلة، ومذهب الحنفية، والمالكية: أن الجمع سنةٌ لكل أحد، لكن شَرطُ جوازِه عند أبي حنيفة أداءُ الصلاتين بجماعة إمامها الأعظم، أو نائبه، والإحرام بالحج، ومذهب الشافعية، والحنفية، والحنابلة: أنه لا يجوز قصرُهما إلا للمسافر مسافة القصر، ومذهب المالكية: أنه يقصر بعرفة غيرُ أهلها، ويتمُّ أهلُها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا قضى الخطبةَ، أذن المؤذنُ، وأقام، ثم يصلي كما جاءت بذلك السنة، ويصلي بعرفة ومزدلفة ومنى، وكذلك كانوا يفعلون خلف أبي بكر وعمر، ولم يأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه أحداً من أهل مكة أن يُتموا الصلاة، ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة: أتموا صلاتكم؛ فإنَّا قوم سفر، ومن حكى ذلك عنهم، فقد أخطأ، ولكن المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن عمر: أنه قال ذلك لما صلى بهم في جوف مكة. وإنما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال في غزوة الفتح لما صلى بهم بمكة، وأما في حجه، فإنه لم ينزل بمكة، ولكن خارجَ مكة، وهناك كان يصلي بأصحابه، ثم لما خرج إلى منى وعرفة، خرج معه أهلُ مكة وغيرُهم، ولما رجع من عرفة، رجعوا معه، ولما صلى بهم بمنى أيامَ منى، صلوا معه، ولم يقل لهم: أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم سفر. ولم يَحُدَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - السفرَ لا بمسافة ولا بزمان، ولم يكن بمنى أحد ساكناً في زمنه، ولهذا قال: "منى مُناخ مَنْ سبق"، ولكن قيل: إنها سُكنت في خلافة عثمان -رضي الله تعالى عنه-، وأنه بسبب ذلك أتمَّ عثمان الصلاة؛ لأنه كان يرى أن ينزل بمكان لا يحتاج فيه إلى حمل الزاد والمزاد، وكان يرى أن المسافر يحمل الزاد والمزاد.

8 - فصل في الوقوف بعرفة

8 - فصل في الوقوف بعرفة إذا صلى الناسُ الظهر والعصر بمسجد إبراهيم كما ذكرنا، يذهب إلى عرفات، فهذه السنة، لكن في هذه الأوقات يكاد أحد يذهب إلى نَمِرة، ولا إلى مصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل يدخلون عرفات على طريق المَأْزِمين، ويدخلونها قبل الزوال، ومنهم من يدخلها ليلاً، ويبيتون بها قبل التعريف، وهو الذي يفعله الناس كلُّهم اليومَ إلا ما شاء الله، ويجزي معه الحج، لكن فيه نقصٌ عن السنة، فيفعل ما يمكن من السنة، مثل الجمع بين الصلاتين، فيؤذن أذاناً واحداً، ويقيم لكل صلاة، والإيقاد بعرفة وبمزدلفة بعد الرجوع من عرفة بدعة باتفاق العلماء. وقال العز بنُ جماعة في "منسكه": وما يفعله جَهَلَة العوام من إيقاد الشموع ليلةَ عرفة ضلالةٌ فاحشة، وبدعة ظاهرة، جَمعت أنواعاً من القبائح، وتَشْغَلُ عن الذكر والدعاء المطلوبَيْن في ذلك الوقت الشريف، ويجب على مَنْ ولي الأمر، وعلى كل من تمكن من إزالة البدع إنكارُها وإزالتُها، والله المستعان، انتهى. وبالجملة: يقف بعرفةَ من بعد الزوال إلى غروب الشمس، كما فعل سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يخرج منها حتى تغرب، ولو وقف نهاراً، ثم فارق عرفة قبل الغروب، أراق دماً استحباباً عند الشافعية، ووجوباً عند أبي حنيفة، وفي أي موضع من عرفة وقف، أجزأه، لكن الأفضل عند الصخرات الكبار المفروشة، على مذهب الشافعية، والحنفية، والحنابلة. ومذهب مالك: أنه ليس لموضع من عرفة فضلٌ على غيره، وما اشتهر عند جهلة العوام من ترجيح الوقوف على الجبل، المسمى: بجبل الرحمة، فخطأ لا أصل له. ووقف - صلى الله عليه وسلم - في ذيل الجبل عند الصَّخَرات، والأفضلُ أن يكون الواقف مستقبلَ القبلة، متطهراً، ساتراً عورتَه، فمن وقف على غير هذه الصفات، صح وقوفه بالاتفاق، وفاتته الفضيلة، والأولى لمن وقف بعرفة الفطرُ، سواء أطاق الصومَ، أم لم يطقْه، وسواء ضعف به، أم لا، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مذهب الشافعية، وأطلق كثير منهم أنه يُكره له صومُه، ومذهب الحنفية كما قال صاحب "المحيط": أنه مستحب في حق الحاج إن كان لا يضعفه، وإن كان يُضعفه،

فيستحب تركُه، وعند المالكية: أنه غيرُ مستحب له، بل يُستحب فطرُه، ومذهب الحنابلة: أنه لا يستحب صومُه إلا للتمتُّع إذا لم يجدِ الهدي، والسنةُ أولى بالاتباع. ويستحب أن يستكثر من أعمال الخير في يوم عرفة وسائرِ أيام العَشْر، ويواظب في الوقوف بعرفة على تلاوة القرآن والذكر والدعاء بآدابه، فتارة يهلل، وتارة يقرأ القرآن، وتارة يكبر، وتارة يُسَبِّح، وتارة يستغفر، ويجتهد في هذه العشية، فهذا اليوم أفضلُ أيام السنة للدعاء، وهو معظم الحج، ومقصودُه المعوَّل عليه، فينبغي أن يستفرغ الإنسان وُسْعَه في الدعاء، ويدعو منفرداً، وفي جماعة لنفسِه ولوالديه ولأقاربه ومشايخه وأصحابه وأحبابه وأصدقائه، ولمن أحبَّ من سائر المسلمين، وسائر من أحسنَ إليه بما أحبَّ، وليحذرْ كلَّ الحذر من التقصير في ذلك كله؛ فإن هذا اليوم لا يمكن تداركُه؛ بخلاف غيره، ولا يتكلف السجعَ في الدعاء؛ فإنه يشغل القلب، ويُذهب الانكسارَ والخضوع، والافتقارَ والمسكنةَ والذلةَ والخشوع، ولا بأس بأن يدعو بدعواتِ محفوظٍ معه، له أو لغيره. والسنة: أن يخفض صوته بالدعاء، ويُكثر من الاستغفار والتلفُّظ بالتوبة من جميع المخالفات، مع الاعتقاد بالقلب، ويلحُّ في الدعاء ويكرره، ولا يستبطىء الإجابة، ويفتح دعاءه ويختمه بالحمد له تعالى، والثناءِ عليه، والصلاةِ والتسليم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليحرصْ على أن يكون مستقبلَ القبلة، وعلى طهارة، قاله النووي في "الأذكار". وكان - صلى الله عليه وسلم - في دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه قال: خيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كل شيء قدير". وذكر من دعائه في الموقف: اللهمَّ لك الحمدُ كالذي تقول، وخيراً مما نقول، اللهمَّ لك صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، وإليك مآبي، ولك ربِّ تُراثي.

اللهمَّ إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشَتات الأمر، اللهمَّ إني أعوذُ بك من شر ما تجيء به الرياح، اللهمَّ إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، وأنا العبدُ البائس الفقير، الخائفُ المستجير، الوَجِلُ المشفقُ المعترفُ بذنبه، أسألك مسألةَ المسكين، وأبتهلُ إليك ابتهالَ المذنِب الذليل، وأدعوك دعاءَ الخائف الضرير، مَنْ خضعت لك رقبتُه، وفاضت لك عيناه، وذل لك جسدُه، ورَغِمَ لك أنفُه. اللهمَّ لا تجعلْني بدعائك ربِّ شقياً، وكن لي رؤوفاً رحيماً يا خيرَ المسؤولين ويا خير المعطين. وعن علي -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكثرُ دعائي ودعاءِ الأنبياء من قبلي يوم عرفة: اللهمَّ اجعلْ في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً. اللهمَّ اشرحْ لي صدري، وَيسِّرْ لي أمري، وأعوذُ بك من وساوس الصدر، وشَتاتِ الأمر، وفتنة القبر. اللهمَّ إني أعوذُ بك من شرِّ ما يَلجُ في الليل، ومن شر ما يلج في النهار، وشرِّ ما تهبُّ به الرياح، ومن شر بوائق الدهر". ومن الأدعية التي اختارها بعض العلماء: اللهمَّ ربنا آتِنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذابَ النار. اللهمَّ إني ظلمتُ نفسي ظلما كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفرْ لي مغفرةً من عندك، وارحمْني إنك أنت الغفور الرحيم. اللهمَّ اغفر لي مغفرة تُصْلِح بها شأني في الدارين، وارحمني رحمةً واسعةً أسعَدُ بها في الدارين، وتب عليَّ توبة نصوحًا لا أنكثها أبدًا، وأَلزِمْني سبيلَ الاستقامة لا أزيغ عنها أبدًا. اللهم انقلْني من ذُلِّ المعصية إلى عِزِّ الطاعة، وأَغْنِني بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عَمَّنْ سواك، ونَوِّرْ قلبي وقبري، وأعذني من

الشرِّ كلِّه، واجمع لي الخيرَ كلَّه، اللهمَّ إني أسألك الهُدى والتُّقى والعَفاف والغنى. اللهمَّ يسر لي اليسرى، وجَنِّبني العسرى، وارزقْني طاعتَك ما أَبقيتَني. اللهمَّ متعني بسمعي وبصري أبداً ما أبقيتَني، واجعل ذلك الوارثَ مني، واجعل ثأري على من ظلمني، وانصرْني على مَنْ عاداني، ولا تجعلِ الدنيا أكبرَ هَمِّي، ولا مبلغَ علمي، ولا تسلِّط عليَّ بذنبي مَنْ لا يرحمُني يا أرحم الراحمين، استودعُك ديني وأمانتي وقلبي وبدني وخواتيمَ عملي، وجميعَ ما أنعمتَ به عليَّ وعلى جميع أحبائي والمسلمين أجمعين. وثبت في "صحيح مسلم": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ يومٍ أكثر من أن يُعتق اللهُ فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنون، ثم يباهي بهم الملائكة". وعن طلحة بن عبيد الله بن كريز: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما رُئي أن الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رئي يوم بدر؛ فإنه قد رأى جبريل يزع -أي: يسوي- الملائكةَ" رواه مالك مرسلاً. وبالجملة: فليكنْ أهم اشتغاله في هذا اليوم الدعاء، ففي مثل هذه البقعة، ومثل ذلك الجمع ترجى إجابة الدعوات، ولْيُلِحَّ في الدعاء، وليعظم المسألةَ؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء. ويستحب الإكثارُ من التلبية فيما بين ذلك، وبين الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يُكثر من البكاء معَ الذكر والدعاء، فها هنالك تُسكب العبرات، وتُستقال العَثَرات، وترتجى الطلبات، وإنه لموقفٌ عظيم، ومجمَعٌ جليل، تجتمع فيه خيار عباد الله الصالحين، وهو أعظم مجامع الدنيا. قال مُطَرِّفُ بنُ عبد الله وهو بعرفة: اللهمَّ لا تَرُدَّ الجميعَ لأجلي. وقال بكر بن [عبد الله] المزني: لما نظرتُ إلى أهل عرفات، ظننت أنهم قد غُفر لهم لولا أني كنت فيهم. وقد خطر ببالي مثلُ ذلك بعرفة، ولله الحمد. وروي أن الفضيلُ بنَ عياض نظر إلى بكاء الناس بعرفة، فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل، فسألوه دانقاً، أكان يردُّهم؟ قالوا: لا والله، فقال: للمغفرةُ عندَ الله أهونُ من إجابة رجل بدانق.

وينبغي ألا يشتغل ذلك اليوم بغير الله. ويروى أن سالمَ بنَ عبد الله بنِ عمرَ بنِ الخطاب رأى سائلاً يسأل الناس، فقال: يا عاجزاً! في هذا اليوم يُسأل غيرُ الله؟! ويجوز الوقوف راكباً وماشياً، وأما الأفضل، فيختلف باختلاف الناس، فإن كان ممن إذا ركب رآه الناس لحاجتهم إليه، أو كان يشق عليه تركُ الركوب، وقف راكباً، وهكذا الحج؛ فإن من الناس من يكون حجه راكباً أفضل، ومنهم من يكون حجه ماشياً أفضل. قال العز بن جماعة: وقوف الرجل راكباً أفضل من الوقوف راجلاً إقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووقوف المرأة قاعدة أفضل، وقال الحنفية والمالكية: إن الركوب أفضل، ثم القيام، ولم يفرقوا بين المرأة والرجل، وقال المالكية: لا يجلس إلا الكلال، وأطلق الحنابلة: أن الركوب أفضل، انتهى. ويصح وقوف الحائض وغيرِ الحائض، ويُستحب الإكثار في الجملة من التلبية عند الشافعية والحنفية والحنابلة، وعند المالكية: أنه يقطع التلبية قبل الوقوف بعد الزوال إذا راح إلى مسجد إبراهيم بِنَمِرَة، ويستحب أن يرفع صوته بالتلبية بلا إفراط، وتخفيض صوته فيما سوى التلبية، كما قال الشافعية: ولْيُخلصِ الواقف التوبة من جميع المخالفات، مع الندم بالقلب والبكاء، ثم لْيُحسنِ الظنَّ بالله تعالى، قال الغزالي: وإن أمكنه الوقوف يوم الثامن ساعةً عند إمكان الغلط في الهلال، فهو الحزم، وبه الأمن من الفوات. ويغتسل للوقوف باتفاق الأربعة، والاغتسالُ لعرفة قد روي فيه حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه ابن عمر وغيره، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال: 1 - غسل الإحرام، 2 - والغسل عند دخول مكة، 3 - والغسل يوم عرفة، وما سوى ذلك كالغسل عند رمي الجمار والطواف والمبيت بمزدلفة لا أصل له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه، ولا استحبه مالك، ولا أبو حنفية، ولا أحمد، وإن كان قد ذكره طائفة، إلا أن يكون هناك سبب يقتضي الاستحباب، مثل أن تكون عليه رائحة يؤذي بها الناس، فيغتسل لإزالتها.

9 - فصل في الإفاضة من عرفة إلى المزدلفة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: عرفةُ كلُّها موقف، ولا يقف ببطن عرنة، وأما صعود جبل الرحمة، ويقال لها: إِلال -على وزن هلال- فليس من السنة، وكذا القبة التي فوقه، يقال لها: قبة آدم لا يستحب دخولها، ولا الصلاة فيها، والطواف بها من الكبائر، وكذلك المساجد التي عند الجمرات لا يستحب دخول شيء منها، ولا الصلاة فيها، وأما الطواف بها أو بالصخرة، أو بحجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو ما كان غير "البيت العتيق"، فهو من أعظم البدع المحرمة. 9 - فصل في الإفاضة من عرفة إلى المزدلفة إذا غربت الشمس واستحكم غروبها بحيث تذهب الصفرة، فالسنة أن يفيض الإمام والناسُ من عرفة مُلَبين، وعند غير المالكية ذاكرين داعين شاكرين مستبشرين بنعمة الله عليهم وفضله، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إن الله تعالى يقول للملائكة: انظروا عبادي أتوني شُعْثاً غبراً، أُشهدكم أني قد غفرتُ لهم ذنوبهم، وإن كانت عدد قطر السماء، ورمل عالج، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم، ولمن شفعتم له". وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن إبليس يضع التراب على رأسه، ويدعو بالوبل والثبور بعد إفاضة الناس من عرفة، فيجمع إليه شياطينه، فيقولون: ما لك؟ فيقول: قومٌ فتنتُهم ستين وسبعين سنة غفر لهم في طرفة عين". ومن أفاض من عرفة، وخرج منها قبل غروب الشمس، ولم يعد إليها حتى طلع الفجر من ليلة النحر، فقد فاته الحج عند المالكية؛ خلافاً للثلاثة، قال أحمد: إذا أفضتَ من عرفات، فهلِّل وكبر ولَبِّ وقلْ: "اللهمَّ إليكَ أفضتُ، وإليك رغبت، ومنك رَهِبت، فاقبلْ نسكي، وأعظم أجري، وتقبل توبتي، وارحم تضرُّعي، واستجبْ دعائي، وأعطني سؤلي". والسنة أن يفيض بالسكينة والوقار، لا كما يفيض الجهال بالإسراع والزحمة المؤذية، ويجتنبُ وجيفَ الخيل وإيضاع الإبل كما يعتاده الجهال؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، وقال: "أيها الناس! عليكم بالسكينة، فإن البِرَّ ليس بالإيضاع، واتقوا الله، وسيروا سيراً جميلاً، لا توطئوا ضعيفاً، ولا تؤذوا

مسلماً"، ويكون في الطريق رافعاً صوته بالتلبية، فإذا وصل إلى مزدلفة، فلْيبتْ بها، وهو واجب عند الشافعي والحنابلة، وسنة عند الحنفية والمالكية، لكن عند المالكية النزولُ بها واجب، ويحصل المبيت بالحضور بالمزدلفة ساعةً من النصف الثاني من الليل، وهو مقتضى مذهب الحنابلة، والسنة عند الشافعية، والمالكية، والحنابلة: أن يصلي بها المغرب قبل حطِّ الرحال وتبريك الجمال إن تيسَّر، فإذا حطوا رحالهم، يصلي العشاء الآخرة بإقامة بلا أذان، ولا يصلي بينهما شيئاً، وعند الحنفية: أنه لو صلى المغرب أو العشاء في الطريق أو بعرفة، لم يجز به عند أبي حنيفة، ومحمد، وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر فإذا طلع الفجر، سقط القضاء. وقالوا: إن من ضلَّ الطريق بين عرفة ومزدلفة، أو كان مريضاً لا يقدر على المشي، وليس له محمل، لا يصليهما دون المزدلفة، إلا أن يخاف طلوع الفجر قبل بلوغ المزدلفة، فيجوز، والخلاف فيمن يجمع ويقصر، ومن لا يجمع ولا يقصر، كالخلاف في صلاة الظهر والعصر يوم عرفة، وقد تقدم، غير أن الحنفية لا يشترطون في جواز هذا الجمع ما حكيناه عنهم أنهم شرطوه في الجمع بعرفة. ويستحب عند الشافعية: الاغتسالُ بالمزدلفة بعد نصف الليل للوقوف بالمشعر الحرام، وقالت الحنابلة: إنه مستحب للمبيت. قلت: وليس بسنة ثابتة كما مر، ويستحب الإكثار في هذه الليلة من التلاوة والذكر والدعاء والصلاة، قال الغزالي: إحياء (¬1) هذه الليلة الشريفة من محاسن القربات لمن يقدر عليه، انتهى. ويروى أن الدعاء يستجاب بالمزدلفة، وهذه الليلة هي ليلة العيد، وقد انضم إلى شرف الليلة شرفُ المكان، وكونه في الحرم والإحرام ومجمع الحجيج، ويجوز عند الأربعة: تقديم الضعفاء من النساء والصبيان ونحوهم بعد نصف ¬

_ (¬1) لم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحياء هذه الليلة، بل في هديه أنه هو نام بالمزدلفة حتى أصبح، ولم يحي تلك الليلة، وأيضاً ما ثبت عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء.

10 - فصل في الوقوف بالمشعر الحرام

الليل إلى منى قبل زحمة الناس، ولا ينبغي لأهل القوة أن يخرجوا من مزدلفة إلى منى إذا غاب القمر حتى يطلع الفجر، ويصلوا بها الصبح، ويتأهب للرحيل من مزدلفة إلى منى. واستجب الشافعية أن يأخذ منها الحصى لرمي جمرة العقبة، ففيها حجار رخوة صغار، فيأخذ سبعين [70] حصاة، فإنها قدر الحاجة، ولا بأس بأن يستظهر بزيادة، فربما يسقط منه بعضها، ولتكن الحصى خفافاً بحيث يحتوي عليه أطراف البراجم، وأمر - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس بلقط حصى الخذف، وقال للناس: بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين، ولم يلتقطها من الليل كما يفعله الناس اليوم، ولا كسرها من الجبال. قال الشافعية: يأخذ الحصى لرمي أيام التشريق من غير المزدلفة، وقال جماعة من الحنفية: يأخذ من المزدلفة سبعين حصاة، وقال صاحب "المحيط": يأخذ حصى الجمار من قارعة الطريق، وعند المالكية: يأخذ من أي موضع، وقال كثير من الحنابلة: يأخذ جميع حصى الجمار من المزدلفة، ومن أي موضع أخذ الحصى، أجزأه عند الأربعة، إلا أن الحنابلة قالوا: إنه يجزي الرمي بما رمى به هو أو غيره، ولا بالحجر النجس في الأصح. والسنة بالاتفاق: أنه يصلي بالمزدلفة الصبح في أول وقتها، ثم يسير إلى قُزَح، ومزدلفةُ كلها موقف كما قال - صلى الله عليه وسلم - فحيث وقف منها، جاز بالاتفاق، وعند المالكية: أنه لا فضل لموضع على موضع؛ كما قالوا في عرفة، والسنة: أن يتوجه إلى منى بعد الإسفار الكثير بالاتفاق، لكن المالكية قالوا: لا وقوف بعد الإسفار، ويستحب أن ينفر منها بسكينة ووقار كما قلنا. 10 - فصل في الوقوف بالمشعر الحرام قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] فإذا أفاض من عرفات، ذهب إلى المشعر الحرام على طريق المأزمين، وهو طريق الناس اليوم، وإنما قال الفقهاء: على طريق

المأزمين؛ لأنه إلى عرفات طريق آخر يسمى: طريق ضب، ومنها دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عرفات، وخرج على طريق المأزمين، فكان في المناسك والأعياد: يذهب من طريق، ويرجع من أخرى. فدخل مكة من الثنية العليا، وخرج منها من الثنية السفلى، ودخل المسجد من باب بني شيبة، وخرج عند الوداع من باب خرورة، ودخل عرفات من طريق ضب، وخرج من طريق المأزمين، وأتى إلى جمرة العقبة يوم العيد من الطريق الوسطى التي يخرج منها إلى خارج منى، ثم يعطف على يساره إلى الجمرة. ومزدلفةُ كلها يقال لها: "المشعر الحرام"، وقُزَحُ: جبلٌ يقف الناس اليوم فيه، وقد بنى عليه اليوم بناء، وهو المكان الذي يخصه كثير من الفقهاء باسم: "المشعر الحرام"، فإذا كان قبل طلوع الشمس، أفاض من مزدلفة، ثم يقف بالمشعر إلى أن يسفر جداً، وهو آخر المزدلفة، فيقف مستقبلاً للقبلة، ويأخذ بالدعاء والتضرع والتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح، وهو نص القرآن الكريم، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه صار اليوم شرعاً منسوخاً، فلا يقف عنده واحد من ألف، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد ذهب جماعة من أهل العلم، منهم: مجاهد، وقتادة، والزهري، والثوري: إلى أن من لم يقف بالمشعر، فقد ضيع نسكاً، وعليه دم، وهو قول أَبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وروي عن عطاء، والأوزاعي: أنه لا دم عليه، وإنما هو منزل، من شاء نزل، ومن شاء لم ينزل به، وذهب ابن بنت الشافعي، وابن خزيمة إلى أن الوقوف بها ركن لا يتم الحج إلا به، وأشار ابن المنذر إلى ترجيحه، وروي عن علقمة، والنخعي، واحتج الطحاوي بأن الله -عز وجل- لم يذكر الوقوف، وإنما قال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]، وقد أجمعوا على أن من وقف بها بغير ذكر أن حجه تام، فإذا كان الذكر المذكور في القرآن ليس من تمام الحج، فالموطن الذي يكون فيه الذكر أحرى ألا يكون فرضاً. قال النووي: إذا انصرف من المشعر الحرام إلى منى، فشعاره: التلبيةُ

11 - فصل في رمي جمرة العقبة يوم النحر

والأذكار والدعاء والإكثار من ذلك، وليحرصْ على التلبية، فهذا آخر زمنها، وربما لا يقدر له في عمره تلبية بعدها، انتهى. فإذا انصرف منه، وبلغ وادي محسِّر، وهو مسيل ماء فاصل بين مزدلفة ومنى، وقيل: إنه من منى، قال الأرزقي: هو خمس مئة ذراع، وخمسة وأربعون ذراعاً، أسرعَ قدرَ رمية حجر بالاتفاق، وكان وادي محسِّر موقفاً للنصارى والعرب يقفون فيه ويذكرون مفاخر آبائهم، فاستحب الشارع مخالفتَهم بالإسراع، وحكى الرافعي وجهاً ضعيفاً: أنه لا يستحب الإسراع للماشي، ويسمى وادي محسر: وادي النار؛ لأنه يقال: إن رجلاً صاد فيه صيداً، فنزلت عليه نار فأحرقته، فإذا خرج من وادي محسر، فالمستحب أن يسلك الطريق الوسطى التي تخرج إلى العقبة اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين كل مشعرين برزخ ليس منهما، فبين عرفة ومزدلفة بطنُ عُرنة، وبين مزدلفة ومنى بطنُ مُحسر، فمنى من الحرم، وهي مشعر، ومحسر من الحرم، وليس بمشعر، ومزدلفة مشعر وحرم، وعرنة ليس بمشعر، وهي من الحل. 11 - فصل في رمي جمرة العقبة يوم النحر إذا وصل إلى منى، يستحب ألا يعرج على شيء من نزول أو حط رحل أو غير ذلك حتى يرمي جمرة العقبة بالاتفاق، وهو تحية منى، وهي في آخر منى مما يلي مكة المشرفة، وهي الجمرة الكبرى، ولا يرمي يوم النحر غيرها، فإذا وصل إليها، فالأفضل عند الشافعية، والحنفية، والمالكية: أن يقف تحتها، ويجعل مكة عن يساره، ومنى عن يمينه، ويستقبل الجمرة، هذا هو الذي صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، ومذهب الحنابلة: أن الأفضل أن يستبطن الوادي، ويقف مستقبل القبلة، ويرميها عن يمينه. وقال الشافعية: يقصد المرمى، وهو مجمع الحصى عند البناء الشاخص هناك، لا ما سال من الحصى، يرمي سبع حصيات في سبع مرات بيده، وهذا مقتضى قول الحنابلة، وعند الحنفية: يرمي بسبع حصيات في سبع مرات، فإن وقعت عند الجمرة أو قريباً منها، أجزأه، وإن وقعت بعيداً منها، لم يجزه، وقال

ابن الحاجب من المالكية: إنه يشترط كونه حجراً ورمياً على الجمرة أو موضع حصاها، واستحب الشافعية: أن يكون الرمي باليمنى، واستحب الشافعية والحنابلة: أن يرفع الرجل يده في الرمي حتى يُرى بياض إبطه، والمرأة لا ترفع، والحنفية: أنهما يرفعان. والسنة عند الأربعة: أن يكبر مع كل حصاة، وإن شاء قال مع ذلك: "اللهم اجعله حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً"، قاله ابن مسعود، وابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-، ولا يزال يلبي في ذهابه من مشعر إلى مشعر؛ مثل ذهابه إلى عرفات، ومن عرفة إلى مزدلفة، ومنها إلى منى حتى يرمي جمرة العقبة، فإذا شرع [في] الرمي، قطع التلبية؛ فإنه حينئذ يشرع التحلل، والعلماء في التلبية على ثلاثة أقوال: 1 - منهم من يقول: يقطعها إذا وصل إلى عرفة، 2 - ومنهم من يقول: يلبي بعرفة، 3 - والثالث: إذا فاض إلى مزدلفة لبى، ومنها إلى منى حتى يرمي جمرة العقبة، وهكذا صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما التلبية في وقوفه - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومزدلفة، فلم يُنقل عنه - صلى الله عليه وسلم -، وقد نقل عن الخلفاء الراشدين وغيرهم أنهم كانوا لا يلبون بعرفة. والسنة عند الشافعية: أن يرمي راكباً، فإن رمي ماشياً، أجزأه، وعن أبي حنيفة ومحمد: الرمي كله راكباً أفضل، وعند المالكية: ماشياً أفضل. قلت: وفي حديث جابر، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر، رواه أحمد، ومسلم، والنسائي. وفيه أن رمي الراكب أفضل من رمي الراجل، وقيل: إن الرمي واجب بالإجماع، واقتصر في "الفتح" على حكاية الوجوب عن الجمهور، وقال: إنه عند المالكية سنة، وحكى عنهم: أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه. وحكى ابن جرير عن عائشة وغيرها: أن الرمي شرع حفظاً للتكبير، فإنْ تركه وكَبَّر، أجزأه. والحق أنه واجب؛ لما قدَّمنا من أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم -: بيان لمجمَل واجب، وهو قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم"، ويدخل وقت رمي جمرة العقبة بنصف الليل من ليلة العيد، ويمتد

إلى آخر أيام التشريق، ووقتها الفاضل بعد ارتفاع الشمس قدر رمح، وقبلَ الزوال، فإن ترك الرمي حتى فات الوقت، لزمه دم كدم التمتع، هذا مذهب الشافعية، وبه قال عطاء، وطاوس، والشعبي، وقالت الحنفية، وأحمد، وإسحاق، والجمهور: إن وقته بعد طلوع الشمس، ويبقى إلى غروب شمسه، وفيما بعد ذلك من الليل إلى طلوع الفجر من الغد يجزي الرمي مع الكراهة، ولا شيء عليه، وفيما بعد ذلك من أيام التشريق ولياليها يجزيه، وعليه مع ذلك دم عند أبي حنيفة؛ خلافاً لصاحبيه، ووقتها المسنون بعد طلوع الشمس إلى الزوال. قال ابن المنذر: إن السنة ألا يرمي إلا بعد طلوع الشمس كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز الرمي قبل طلوع الفجر، وفاعله مخالف للسنة. ومن رماها حينئذ، فلا إعادة عليه، إذ لا أعلم أحداً قال: لا يجزيه، انتهى. والأدلة تدل على أن وقت الرمي بعد طلوع اليوح لمن كان له رخصة له، ومن كانت له رخصة؛ كالنساء وغيرهن من الضعفة، جاز له قبل ذلك، ولكن لا يجزي في أول ليلة النحر إجماعاً، وعند المالكية: أن أول وقت رمي جمرة العقبة يدخل بطلوع فجر يوم النحر، ويبقى وقت الأداء إلى الغروب، ثم يكون قضاءً إلى آخر أيام التشريق، ويجب الدم مع القضاء، وأفضله من طلوع الشمس إلى الزوال، ومذهب الحنابلة: أن وقتها الفاضل بعد طلوع الشمس إلى الزوال، ووقت الجواز من نصف الليل إلى آخر أيام التشريق، لكن لا يصح في ليالي التشريق، وإذا أخر الرمي وفعله في أيام التشريق، لم يرم إلا بعد الزوال، ولا شيء عليه، فإذا فرغ من الرمي، فالسنة ألا يقف عندها للدعاء بالاتفاق. وليس بمنى صلاةُ عيد، بل رمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لأهل الأمصار، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل جمعة ولا عيداً في سفره، لا بمكة ولا بغيرها، بل كانت خطبته بعرفة خطبة نسك، لا خطبة جمعة. والسنة للإمام في هذا اليوم أن يخطب بعد الزوال، وهي خطبة وداع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما رجع بعد الرمي إلى منى، خطب الناس خطبة بليغة،

12 - فصل في نحر الهدى وتحسينه

أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر، وتحريمه وفضله عند الله، وحرمة مكة على جميع البلاد، وأمر بالسمع والطاعة لمن قادهم بكتاب الله، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه، وألا يرجعوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض. وقال في خطبته: "لا يجني جانٍ إلا على نفسه"، وفتح الله أسماعَ الناس حتى سمعها أهلُ منى في منازلهم، وقال: "اعبدوا الله، وصَلُّوا خمسَكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنةَ ربكم"، وودع عند ذلك الناس، فقالوا: حجة الوداع، وأَمر بالتبليغ عنه وقال: "رُبَّ مبلَّغ أوعى له من سامع". 12 - فصل في نحر الهدى وتحسينه إذا رمي جمرة العقبة، وفرغ منه، ينصرف إلى منى، وينحر هدياً إن كان معه، ويستحب أن ينحر الإبل مستقبلة القبلة قائمةً معقولةَ اليد اليسرى، والبقر والغنم يُضجعهما على شقه الأيسر مستقبلاً بها القبلة، ويقول: باسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك وإليك، تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك. الأضحيةُ سنة مؤكدة للحاجِّ كغيره عند الشافعية، وعند الحنفية: أنه ليس على المسافر أضحية، وعند المالكية: أن الأضحية لا تشرع للحاج بمنى كصلاة العيد. قال الغزالي: التضحية بالبُدْن أفضل، ثم بالبقرة، ثم بالشاة، والشاة أفضل من مشاركة ستة في البدنة أو البقرة، والضأن أفضل من المعز، ولا يضحين بالعرجاء والجدعاء والعَضْباء والجرباء والشرقاء والخرقاء، والمقابَلَة والمدابَرَة والعَجْفاء. وذبح - صلى الله عليه وسلم - بدنه في المنحر من منى 63 ثلاثاً وستين بدنة بيده الكريمة على سني عمره الشريف. وكلُّ ما ذبح بمنى وقد سيق من الحل إلى الحرم، فإنه هدي، سواء كان من الإبل أو البقر أو الغنم، ويسمى أيضاً: أضحية؛ بخلاف ما يذبح يوم النحر بالحل، فإنه أضحية، وليس بهدي، وليس بمنى ما هو أضحية

وليس بهدي كما في سائر الأمصار، فإذا اشترى الهدي وساقه إلى منى، فهو هدي باتفاق العلماء، وكذلك إذا اشتراه من الحرم، فذهب به إلى التنعيم. وأما إذا اشتراه من منى، وذبحه بها، ففيه نزاع، فمذهب مالك: أنه ليس بهدي، وهو منقول عن عائشة، ومذهب الثلاثة: أنه هدي، وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد، وعلى القارن والمتمتع هدي، إما بدنة، وإما بقرة، أو شاة، أو شرك في دم. فمن لم يجد الهدي، صام ثلاثة أيام قبل يوم النحر، وسبعة إذا رجع (¬1)، وله أن يصوم الثلاثة من حين أحرم بالعمرة في أظهر أقوال العلماء. وفيه ثلاث روايات عن أحمد، قال: يصومها قبل الإحرام بالعمرة، وقال: لا يصومها من حين يحرم بالعمرة، وهو الأرجح، وقال: يصومها بعد التحلل من العمرة من حين الشروع في الحج، ولكن دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة كما دخل الوضوء في الغسل، وأصحابه - صلى الله عليه وسلم - كانوا متمتعين معه، وإنما أحرموا بالحج يوم التروية، وحينئذ فلا بد من صوم بعض الثلاثة قبل الإحرام بالحج. قال أهل العلم: ويجتهد أن يكون الهدي من سمين النَّعَم ونفيسها. قيل في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32]: إنه تحسينه وتسمينه، وليترك المكاس في شرائه، فقد كانوا يغالون في ثلاث، ويكرهون المكاس فيهن: الهدي، والأضحية، والرقبة، فإن أفضل ذلك أغلاه ثمناً، وأنفسُه عند أهله، فإنما المقصود تزكية النفس وتطهيرُها عن صفة البخل، وتزيينها بجمال التعظيم لله -عز وجل-؛ [فـ] {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]، وذلك يحصل بمراعاة النفاسة في القيمة. وروت عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما عملَ آدميٌّ يومَ النحر أحبَّ إلى الله -عز وجل- من إهراقه دماً، وإنها تأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله -عز وجل- بمكان قبل أن يقع بالأرض، فطيبوا به نفساً"، ¬

_ (¬1) يقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196].

13 - فصل في الحلق والتقصير

وفي "البحر": "لكم بكل صوفة من جلدها حسنة، وكل قطرة من دمها حسنة، وإنها لتوضع في الميزان، فأبشروا"، وسأله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن أرقم: ما هذه الأضاحي يا رسول الله؟ قال: "سنة أبيكم إبراهيم"، قال: فما لنا منها؟ قال: "بكل شعرة حسنة"، قال: يا رسول الله! فالصوف؟ قال: "بكل شعرة من الصوف حسنة" رواه أحمد بن حنبل. 13 - فصل في الحلق والتقصير فإذا فرغ من الذبح، فالسنة عند الشافعية: أن يحلق رأسه كلَّه، أو يقصِّر من شعر رأسه، ويستقبل القبلة، ويبتدىء بمقدَّم رأسه، فيحلق الشق الأيمن إلى العظمين المشرفين على القفا، ثم يحلق الباقي، وبه قال الشافعية والحنابلة، وقال الحنفية: يعتبر البداءة بيمين الحالق لا المحلوق، ويبدأ بشق المحلوق الأيسر، والحديث يرد عليهم، والأصلع يُستحب له إمرارُ الموسى على رأسه، والحديث يدل على أن الحلق أفضل من التقصير؛ لتكريره - صلى الله عليه وسلم - الدعاء للمحلقين، وترك الدعاء للمقصرين في المرة الأولى والثانية مع سؤالهم ذلك، وظاهر صيغة المحلقين: أنه يُشرع حلقُ جميع الرأس؛ إذ لا يقال لمن حلق بعض رأسه: إنه حلقه إلا مجازاً، وقد قال بوجوب حلق الجميع: أحمد، ومالك، واستحسنه الكوفيون، والشافعية، ويجزىء البعض عندهم، واختلفوا في مقداره، فعن الحنفية: الربع، إلا أن أبا يوسف قال: النصف، وعن الشافعي: أقلُّ ما يجب حلق ثلاث شعرات، وهكذا الخلاف في التقصير. قلت: وعندي: هذا التفصيل فضول، والسنَّة أحقُّ بالاتباع. والمرأة لا تحلق باتفاق الأربعة، ويجب على المرأة التقصير من جميع شعر رأسها. ويدخل وقتُ الحلق عند الشافعية بانتصاف ليلة النحر، وأفضلُ أوقاته عندهم ضحوة النهار، ولا يفوت وقته ما دام حياً، ولا يلزم بتأخيره شيء، ولا يختص بمكان، وعند أبي حنيفة: يختص بزمان، وهو أيام النحر، وبمكان، وهو الحرم، فلو خالف، لزمه دم. والصحيح عند الحنابلة: أنه لا يلزم بتأخيره شيء، وعند المالكية: أنه إذا

14 - فصل في ترتيب الرمي والنحر والحلق

أخره حتى بلغ ثلثه، حلق وأهدى، وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمن حلق رأسه: "لكل شعرة سقطت من رأسه نور يوم القيامة". واختلفوا في الحلق، هل هو نسك، أو تحليل محظور؟ فذهب إلى الأول الجمهور، وإلى الثاني عطاء، وأبو يوسف، وفي رواية عن أحمد، وبعض المالكية، والشافعي في رواية عنه ضعيفة. قال مالك: التفث في قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]: الحِلاق، ولبس الثياب، وما يتبع ذلك، وقال: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا: أن أحداً لا يحلق رأسه، ولا يأخذ من شعره حتى ينحر هدياً إن كان معه، ولا يحل من شيء حرم عليه حتى يحل بمنى يوم النحر، وذلك أن الله تعالى قال: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، وعليه أهل العلم، ومهما حلق بعد رمي الجمرة، فقد حصل له التحلل الأول باتفاق المسلمين، فيلبس الثياب، ويقلم الأظفار، ويتطيب، ويتزوج، ويصطاد، ولا يبقى عليه من المحظورات إلا النساء حتى يدخل مكة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رميتم الجمرة، فقد حلَّ لكم كل شيء إلا النساء" رواه أحمد عن ابن عباس، وألحق مالك بالنساء: الطيب، والرفث، والصيد، والحديث يردُّ عليهما، واستدلوا عليه بآثار بعض الصحابة، ولا يخفى أن الآثار لا تصلح لمعارضة الحديث الثابت. 14 - فصل في ترتيب الرمي والنحر والحلق قال أهل العلم: ترتيب أعمال يوم النحر سنة، فلو قدم منها نسكاً على نسك، لا شيء عليه عند أكثر أهل العلم، وعليه الشافعي، وقال بعضهم: عليه دم، وتأولوا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حرج" على رفع الإثم دون الفدية، وعليه أبو حنيفة، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، والحسن، والنخعي، وتعقب ذلك الحافظ في "الفتح"، وقال: إنهم لا يقولون بذلك إلا في بعض المواضع، انتهى. والأحاديث تدل على جواز تقديم بعض الأمور على بعض، وهي: الرمي، والحلق، والتقصير، والنحر، وطواف الإفاضة، وهو إجماع كما قال ابن قدامة، وفي حديث: "لا حرج" قدم السؤال عن الحلق قبل الرمي، وفي رواية: عن

15 - فصل في الإفاضة من منى للطواف يوم النحر

الحلق قبل النحر، وفي رواية: الإفاضة قبل الحلق، وفي رواية: قدم الذبح قبل الرمي، وفي رواية: قدم الحلق قبل الذبح، وفي رواية: قدم الزيارة قبل الرمي. وذهب جمهور العلماء من الفقهاء وأصحاب الحديث: إلى الجواز، وعدم وجوب الدم، قالوا: لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا حرج" يقتضي رفع الإثم والفدية معاً؛ لأن المراد بنفي الحرج نفيُ الضيق، وإيجابُ أحدِهما فيه ضيق، وأيضاً لو كان الدم واجباً، لبينه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وبهذا يندفع ما قال الطحاوي من أن الرخصة مختصة بمن كان جاهلاً أو ناسياً، لا مَنْ كان عامداً فعليه الفدية. قال الطبري: لم يُسقط النبي - صلى الله عليه وسلم - الحرج إلا وقد أجزأ الفعل، إذ لو لم يجزىء، لأمره بالإعادة؛ لأن الجهل والنسيان لا يضعان غير إثم الحكم الذي يلزمه في الحج؛ كما لو ترك الرمي ونحوه؛ فإنه لا يأثم بتركه ناسياً أو جاهلاً لكن تجب عليه الإعادة. قال: والعجب ممن يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا حرج" على نفي الإثم فقط، ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض، فإن كان الترتيب واجباً يجب بتركه دم، فليكن في الجميع، وإلا فما وجه تخصيص بعض، دون بعض مع تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج؟ وأطال الشوكاني في ذلك، ورجحه في "نيل الأوطار". 15 - فصل في الإفاضة من منى للطواف يوم النحر وهو المأمور به في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ويقال له: طواف الإفاضة، وطواف الزيارة، فإذا فرغ من الحلق أو التقصير، فالسنة: أن يفيض من منى إلى مكة، ويطوف بالبيت سبعاً ينوي به طواف الإفاضة، ثم يصلي الركعتين على الصفة التي ذكرناها في طواف القدوم، لكن من سعى للحج عقب طواف القدوم من مفرِد أو قارِن، لم يحتج إلى سعي الحج بعد طواف الإفاضة، باتفاق الأربعة. وقال مالك، والشافعي، وإسحاق، وداود، وهو محكي عن ابن عمر،

وجابر، وعائشة، كذا قال النووي: إنه يكفي القارن لحجه وعمرته طوافٌ واحد، وسعي واحد، وقال زيد بن علي، وأبو حنفية وأصحابه، وهو محكي عن علي، وابن مسعود، والشعبي، والنخعي: إنه يلزم القارن طوافان وسعيان. وأجابوا عن أحاديث الباب بأجوبة متعسفة، ذكرها الشوكاني في "نيل الأوطار"، وقال: قد احتج أبو ثور على الاكتفاء بطواف واحد للقارن بحجة نظرية، فقال: قد أجزنا جميعاً للحج والعمرة سفراً واحداً، وإحراماً واحداً، وتلبية واحدة، فكذلك يجزي عنها طواف واحد، وسعي واحد، حكى هذا عنه أَبو المنذر، ومن جملة ما يحتج به على أنه يكفي لهما طواف واحد: حديث: "دخلت العمرةُ في الحج إلى يوم القيامة"، وهو صحيح، وذلك لأنها بعد دخولها فيه لا يحتاج إلى عمل آخر غير عمله، والسنة الصحيحة الصريحة أحقُّ بالاتباع، فلا يلتفت إلى ما خالفها، انتهى. وأجمع العلماء على أن هذا الطواف ركنٌ من أركان الحج، لا يصح الحج إلا به، وحُكي الإجماع على فرضيته، ولا يضطبع، ولا يرمُل في هذا الطواف عند الأربعة، سواء كان رمَلَ في طواف القدوم، أم لم يكن رمل، وإن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، رمل في هذا الطواف عند غير الحنابلة، واضطبع عند الشافعية؛ خلافاً للثلاثة، وسعى بعده بالاتفاق، ومن أحرم بالحج من مكة، يرمُل في طواف الإفاضة عند غير الحنابلة، ويضطبع عند الشافعية؛ خلافاً للثلاثة، ويسعى بعده بالاتفاق، ويدخل وقته بانتصاف ليلة النحر عند الشافعية والحنابلة، وبطلوع الفجر يوم النحر عند الحنفية والمالكية. والحائض لا تطوف بالبيت حتى تطهر، وهي ممنوعة من ذلك بالاتفاق، فلو خالفت وطافت وهي حائض، لم يصح طوافها، ولم تجبر بدم عند غير الحنفية، وعندهم: يصح طوافها، ويلزمها دم، وهو بدنة، ولا يصح سعيها بعده، لكنه يجبر بدم، ولو أخرته عن أيام النحر بعذر الحيض أو النفاس، فلا شيء عليها بسبب التأخير، واتفقوا على أنه يستحب فعل هذا الطواف يوم النحر إن أمكن، وإلا فعله بعد ذلك في أيام التشريق، وهو يجزي، ولا دم عليه بالإجماع، فإن

16 - فصل في المبيت بمنى، وما يفعل في أيامها

أخره إلى بعد أيام التشريق، وأتى به بعدها، ففيه نزاع، ولا شيء عليه عند الجمهور، وقال أبو حنيفة ومالك: إذا تطاول، لزم معه دم؛ انتهى. وإذا فرغ الحاج من هذا الطواف، فقد حل له جميع ما كان حراماً عليه بالاتفاق، ولم يبق إلا رميُ أيام التشريق، والمبيتُ بمنى، وهي واجبات بعد زوالى الإحرام على سبيل الإتباع للحج، وإذا فرغ من طواف الإفاضة، فينبغي له أن يشرب من سقاية العباس؛ لما صح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بعد الإفاضة وهم يسقون، فناولوه دلواً، فشرب منه قائماً، وقال: "لولا أن يغلبكم الناسُ، لنزلتُ فسقيتُ معكم"، فقيل إنه نسخ للنهي عن الشرب قائماً، وقيل: إنه بيان أن النهي للكراهة، وقيل: بل فعل ذلك للحاجة. ويروى أن الدعاء يستجاب عند زمزم، واستحب الشافعية: أن يعود بعد طواف الإفاضة إلى منى قبل صلاة الظهر، وهو قول الحنابلة، ومقتضى كلام المالكية، والحنفية: إنه إذا حلق، دخل مكة من يومه ذلك إن تيسر، وهو الأفضل، وإنه إذا فرغ من طواف الإفاضة، رجع إلى منى. 16 - فصل في المبيت بمنى، وما يفعل في أيامها عن عائشة، قالت: أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يوم النحر حتى صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية، فيطيل القيام، ويتضرع، ويرمي الثالثة، ولا يقف عندها، رواه أحمد، وأبو داود. وفي الباب أحاديث بألفاظ استدل بها الجمهور على أن المبيت بمنى واجب، وأنه من جملة مناسك الحج. وقد اختُلف في وجوب الدم بتركه، فقيل: يجب عن كل ليلة دمٌ، قاله المالكية، وقيل: صدقة بدرهم، وقيل: إطعام، وعن الثلاث دم، وهو المروي عن الشافعي، ورواية عن أحمد، وفي رواية عنه، وعن الحنفية: لا شيء عليه، ولا يصح الرمي في هذه الأيام إلا بعد الزوال باتفاق الأربعة، والروايات تدل على أنه لا يجزي رميُ الجمار في غير يوم الأضحى قبل زوال الشمس، بل وقته

بعد زوالها، كما في البخاري وغيره من حديث جابر: أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى يوم النحر ضُحًى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال، وإليه ذهب الجمهور، وخالف في ذلك عطاء، وطاوس، فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقاً، وقال إسحاق: إن رمى قبل الزوال، أعاد، إلا في اليوم الثالث، فيجزيه، والأحاديث ترد على الجميع. وقالت الشافعية، والمالكية، والحنابلة: أن يقدم الرمي على صلاة الظهر، ويشترط عند الثلاثة الترتيبُ بين الجمرات، وهو مستحب عند الحنفية، فيبدأ بالجمرة الأولى التي تلي عرفة، وهي على متن الجادة تقرب إلى مسجد الخَيفْ، يمشي إليها، ويرمي بسبع حصيات، واحدة واحدة، ويكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم عنها قليلاً عن متن الجادة إلى موضع لا يصيبه المتطاير من الحصا، ويجعلها خلف ظهره، ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى، ويكبر ويهلل ويسبِّح، ويدعو بقدر سورة البقرة على سبيل الاستحباب إن أمكن من غير أذى، مع حضور القلب وخشوع الجوارح، رافعاً يديه، مقبلاً على الدعاء. ثم يتقدم إلى الجمرة الوسطى الثانية، ويرمي كما رمى الأولى، ويصنع فيها كما صنع في الأولى، ويقف للدعاء بقدر ما وقف في الأولى في بطن المسيل عن يمينها إن أمكنه بغير أذى. ثم يأتي الجمرة الثالثة، وهي جمرة العقبة التي رماها يوم النحر، فيرميها سبعاً، ولا يعرج على شغل ولا يقف عندها للدعاء، بل يرجع من فوره إلى منزله، ولم يرمها - صلى الله عليه وسلم - من أعلاها كما يفعل الجهال، ولا جعلَها عن يمينه، بل استبطن الوادي، واستعرض الجمرة، وجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ويروى: أن الدعاء يستجاب عند الجمرات، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يغفر له بكل حصاة رماها كبيرة من الكبائر الموبقات الموجبات". وقد ثبت في حجه - صلى الله عليه وسلم -: رفع اليدين للدعاء في ستة مواضع 1 - الأول: على الصفا، 2 - الثاني: على المروة، 3 - الثالث: بعرفة، 4 - الرابع: بمزدلفة، 5 - الخامس: عند الجمرة الأولى، 6 - السادس: عند الجمرة الثانية. ثم يرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق كما رمى في اليوم الأول، واستحب الثلاثة غير

الحنفية أن يخطب الإمام في هذا اليوم خطبة فردة بعد صلاة الظهر، يعلم الناس جواز النفر وما بعده، ثم يرمي في اليوم الثالث كذلك إن لم يكن نفر في اليوم الثاني، والأفضل عند الشافعية: أن يرمي في غير يوم النحر من أيام التشريق ماشياً، وفي يوم النحر راكباً، وعند الحنفية: أن الرمي كله راكباً أفضل، وعند المالكية وكثير من الحنابلة: أن الرمي ماشياً في أيام التشريق أفضل. ومذهب الشافعية أنه لو ترك الرمي حتى خرجت أيام التشريق، وجب عليه جبره، فإن كان المتروك جميعَ رمي أيام التشريق ويوم النحر، لزمه دم واحد، وإن كان ثلاث حصيات فأكثر، لزمه دم، وإن كان حصاة، لزمه مُدٌّ من طعام يفرَّق على مساكين الحرم، وفي حصاتين مُدّان، وعند الحنفية: إن ترك جميع الرمي، لزمه دم، وإن ترك رمي جمرة العقبة يوم النحر أو أكثره، لزمه دم، وإن ترك منها حصاة أو حصاتين، تصدق لكل حصاة نصف صاع من بر، أو صاعٍ من شعير أو تمر. ويروى: أن الأصل في رمي الجمرات: أن إبراهيم -عليه السلام- لما فرغ من بناء البيت، أتاه جبريل -عليه السلام-، فأراه الطواف، ثم أتى به جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبعاً، وقال: ارم وكَبّر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان، وهكذا فعل عند الجمرة الثانية والثالثة. وتأخير النفر إلى اليوم الثالث أفضلُ بالاتفاق، ويجوز تعجيله؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]، ومن ترك المبيت لعذر؛ كأهل سقاية العباس، ورعاء الإبل، ومن خاف على نفسه أو ماله، وما أشبه ذلك، فلا شيء عليه عند الشافعية. ولا ينفر الإمام الذي يقيم للناس المناسك، بل السنة أن يقيم إلى الثالث، والسنَّةُ للإمام أن يصلي بالناس بمنى، ويصلي أهلُ الموسم خلفه، ويستحب أن يتبرك بالصلاة في مسجد الخَيْف، ولا يدعها مع الإمام، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون بالناس قصراً بلا جمع بمنى، ويقصر الناس كلهم خلفهم، أهلُ مكة، وغير أهل مكة.

17 - فصل في التحصيب

وإنما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يا أهل مكة! أتموا صلاتكم" فإنا قوم سَفْرٌ" لما صلَّى بمكة نفسها. فإن لم يكن للناس إمام، صلى الرجل بأصحابه. والمسجد بني بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن على عهده. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه صلى في مكانه سبعون نبياً، منهم: موسى -عليه السلام-، وأن فيه قبر سبعين نبياً. ويقال: إن مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الأحجار أمام المنارة. 17 - فصل في التحصيب ينبغي لمن نفر من منى أن ينزل بالمحصَّب بالاتفاق؛ إقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، حامداً شاكراً مطيعاً، ومسروراً بإتمام مناسكه، والمحصَّب: اسم مكان متسع بين جبلين، وهو إلى منى أقرب من مكة، سُمي بذلك؛ لكثرة ما به من الحصا من جَرِّ السيول، ويقال له: الأبطح، وخيف بني كنانة، ومما يدل على استحباب التحصيب: ما أخرجه الشيخان، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث أسامة بن زيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث قاسمت قريشٌ على الكفر" يعني: المحصب، قال الزهري: الخيف: الوادي، وفي الباب أحاديث. قال عياض: إنه مستحب عند جميع العلماء. قال في "الفتح": والحاصل: أن من نفى أنه سنة؛ كعائشة، وابن عباس، أراد: أنه ليس من المناسك، فلا يلزمه بتركه شيء، ومن أثبته؛ كابن عمر، أراد دخولَه في عموم التأسي بأفعاله - صلى الله عليه وسلم -، لا التزام ذلك. والسنة: أن يصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت به بعض الليل، ويرقد رقدة كما دل عليه حديث أنس وابن عمر، انتهى. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات به، وخرج ولم يقم بمكة بعد صدره بمنى، لكنه ودع البيت، فإن لم يكن اعتمر قبل ذلك، لا مع حج ولا عمرة مفردة، وهو مستطيع، وجب عليه أن يأتي بالعمرة مرة واحدة كالحج عند الشافعية، والحنابلة، وجماعة من الحنفية، وعند جماعة منهم: العمرة سنة، وليست كالحج، وهو مذهب المالكية.

18 - فصل في دخول الكعبة

18 - فصل في دخول الكعبة عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني دخلتُ الكعبة، وودِدْت أني لم أكن فعلتُ، إني أخاف أن أكون أتعبتُ أمتي من بعدي" رواه الخمسة، إلا النسائي، وصححه الترمذي، وابن خزيمة، والحاكم، وفي الباب أحاديث بألفاظ. وفيه دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة في غير عام الفتح؛ لأن عائشة لم تكن معه فيه، إنما كانت معه في غيره، وقد جزم جمع من أهل العلم أنه لم يدخل إلا في عام الفتح، وهذا الحديث يرد عليهم، وقد تقرر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل البيت في عمرته، فتعين أن يكون دخل في حجته، وبذلك جزم البيهقي، وقد أجاب البعض عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لعائشة بالمدينة بعد رجوعه من غزوة الفتح، وهو بعيد جداً، وفيه أيضاً دليل على أن دخول الكعبة ليس من مناسك الحج، وهو مذهب الجمهور، وحكى القرطبي عن بعض العلماء أن دخولها من المناسك، وهذا الحديث يرد عليه. وقد ذهب جماعة من أهل العلم أن دخولها مستحب. قال العز بن جماعة: ويستحب دخول الكعبة المعظمة، والتكبير في جوانبها، والدعاء في نواحيها، كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم -، ويصلي الداخل في مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أن يدخل ويمشي تلقاء وجهه حتى يكون بينه وبين الجدار نحو ثلاثة أذرع، فهناك مصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يستحب دخوله إذا كان بحيث لا يؤذي ولا يؤذى، ويغلط كثير من الناس فيدخلون مع الزحمة الشديدة، فيؤذي بعضهم بعضاً، وربما انكشفت عورة بعضهم، وربما زاحم الرجل المرأة وهي مكشوفة الوجه واليد، ويبالغون في رفع أصواتهم، ولا يخشعون، ولا يتأدبون، ويحملهم عليه الجهل، فليتجنبْ ذلك. ويروى أن الدعاء يستجاب في البيت، ويروى عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من دخل البيت، دخل في حسنة، وخرج بسيئة، وخرج مغفوراً له"، وفي النسائي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة، والبيتُ إذ ذاك على ستة أعمدة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - جلس بين

19 - فصل في صفة العمرة المفردة، وما يتصل بها من إكثار الاعتمار والطواف، وشرب زمزم وغيرها

الأسطوانتين اللتين تليان الباب، فحمد الله وأثنى عليه، وسأله واستغفره، ثم قام حتى أتى ما استقبل من دبر الكعبة، فوضع وجهه وخده عليه، وحمد الله وأثنى عليه واستغفره، ثم انصرف إلى كل ركن من أركان الكعبة، فاستقبله بالتكبير والتهليل والتسبيح والثناء على الله، والمسألة والاستغفار، ثم خرج فصلى ركعتين مستقبلَ وجه الكعبة، ثم انصرف. ويروى: أن عمر بن عبد العزيز كان إذا دخل البيت يقول: اللهمَّ إنك وعدتَ الأمان لداخلي بيتك، وأنت خيرُ منزول به، اللهمَّ فاجعل أماني أن تكفيني مؤنة الدنيا، وكل هول دون الجنة حتى أبلغَها برحمتك، انتهى. ولا يدخلها إلا حافياً، والحِجْر أكثرُ من البيت، فمن دخله، فهو كمن دخل الكعبة، ويستحب دخولُه، والدعاء فيه، ويروى أن الدعاء يستجاب فيه، قال النووي: ومن الدعاء المأثور فيه: يا ربِّ أتيتك من شقة بعيدة آملاً معروفك، فأنلني معروفاً من معروفك تغنيني به عن معروف مَنْ سواك يا معروفاً بالمعروف. 19 - فصل في صفة العمرة المفردة، وما يتصل بها من إكثار الاعتمار والطواف، وشرب زمزم وغيرها إذا أراد أن يعتمر قبل حجه أو بعده كيفما أراد، فليغتسل لإحرامه، ويتجرد عن المَخيط، ويلبس ثوبي الإحرام، ويصلي ركعتيه، ويحرم بالعمرة من ميقاتها. وأفضل مواقيتها: الجعرانة، ثم التنعيم، ثم الحديبية عند الشافعية، والتنعيم عند الحنفية، ومكة المكرمة عند الحنابلة، وينوي العمرة، ويلبي، ويقصد مسجد عائشة، ويعود إلى مكة وهو يلبي حتى يدخل المسجد الحرام، فإذا دخل المسجد، ترك التلبية عند الثلاثة غير المالكية إذا شرع في الطواف، وقال المالكية: إن المعتمر مَنْ المواقيت، ومن فاته الحج يلبي إلى رؤية البيت، والمعتمر من القرب؛ كالتنعيم يلبي إلى بيوت مكة أو المسجد، ويطوف بالبيت سبعاً ينوي به طواف العمرة، ويرمُل فيه بالاتفاق، ويضطبع، عند الثلاثة غير المالكية، ثم يصلي ركعتي الطواف، ثم يعود إلى الحجر الأسود، فيستلمه، ثم يخرج من باب الصفا، ويسعى سبعاً.

كل ذلك على الصفة التي ذكرناها في الطواف والسعي أولَ قدومه مكة، من ترتيب، وأدعية، وغير ذلك، فإذا فرغ من السعي نحر الهدي إن كان معه، ثم حلق أو قصر، وحل بذلك عند الأربعة، وقد تمت عمرته. لكن الحنفية قالوا: إن كان ساق الهدي، لم يتحلل، ويبقى على إحرامه لا يحلق ولا يقصر إلى أن يذبح هديه يوم النحر كما سبق، وما يفعله كثير من العوام من حلق الرأس مقطَّعاً في كل عمرة بعضه، فهو القزع الذي نهى عنه - صلى الله عليه وسلم -، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احلقوه كلَّه، أو اتركوه كله". قال الغزالي: والمقيمُ بمكة ينبغي أن يُكثر الاعتمارَ والطوافَ، وليكثر النظر إلى البيت، فإذا دخله، فليصلِّ ركعتين بين العمودين، فهو الأفضل، وليدخله حافياً موقراً، قيل لبعضهم: هل دخلتَ بيتَ ربك اليوم؟ فقال: ما أرى هاتين القدمين أهلاً للطواف حول بيت ربي، فكيف أراهما أهلاً لأن أطأ بهما بيت ربي؟ وقد علمت حيث مَشَتا، وإلى أينَ مَشَتا، انتهى. وقال العز بن جماعة في "منسكه": ينبغي أن يغتنم الحاج مدة إقامته بمكة المشرفة، فيكثر من الطواف، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من طاف هذا البيت، فأحصاه، كان كمن أعتق رقبة، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "إن الطائف لا يرفع قدماً، ولا يضع قدماً، إلا حط الله تعالى عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة، ورفع له بها درجة"، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه جعل في ركعتي الطواف ثواب عتق رقبة، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الحجر الأسود نزل من الجنة، وهو أشدُّ بياضاً من اللبن، فسوَّدته خطايا بني آدم"، وقد رأيته: سنة ثمان وسبع مئة [708]، وبه نقطة بيضاء ظاهرة لكل أحد، ثم حججت بعد ذلك، فرأيت البياض قد نقص بحيث إنه لم أره في ست وثلاثين إلا بعسر. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الركن والمقام من ياقوت الجنة، ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم، لأضاءا ما بين المشرق والمغرب، وما مسَّهما من ذي عاهة ولا سقيم إلا شفي"، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليبعثنَّ اللهُ الحجرَ يومَ القيامة له عين يبصر بها، ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والإكثار من الطواف بالبيت من الأعمال الصالحة، وهو أفضل من أن يخرج الرجل من الحرة ويأتي بعمرة مكية، فإن هذا لم يكن من أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا رغب فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته، بل كرهه السلف، انتهى. ويستحب الإكثار من الصلاة بالمسجد الحرام؛ فقد صح: أن الصلاة فيه بمئة ألف من الصلاة في غيره، ويستحب الإكثار من الاعتمار عند الشافعية والحنفية، لا سيما في شهر رمضان؛ فإن العمرة فيه كحجة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذكره المالكية: الاعتمار في السنة أكثر من مرة. ويستحب الدعاء بالملتزم، وهو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة، وهو أحد المواضع المعروفة بإجابة الدعاء. ويستحب لمن جلس في المسجد الحرام أن يكون وجهه إلى الكعبة، وأن يقرب منها، وينظر إليها إيماناً واحتساباً؛ فإن النظر إليها عبادة. وكان ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- لا يخرج من المسجد حتى يستلم الركن، في طواف كان، أو في غير طواف، ونقل مثلُ ذلك عن جماعة من علماء التابعين -رحمهم الله تعالى-، انتهى. وليكثر من شرب ماء زمزم، ولَيْستَق بيده من غير استنابة إن أمكنه، وليرتو منه حتى يتضلَّع، ويدعو عند شربه بما شاء من الأدعية الشرعية مثل (¬1): اللهم اجعلْه شفاءً من كل داء وسقم، ارزقني الإخلاصَ واليقين، والمعافاةَ في الدنيا والآخرة؛ فقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنها مباركة، وإنها طعام طعم، وشفاء سقم"، وقال: "ماء زمزم لِما شُرب له"؛ أي: يشفي ما قصد به، أخرجه أحمد، وابن ماجه عن جابر، وابن أبي شيبة، والبيهقي، والدارقطني، والحاكم، وصححه المنذري، والدمياطي، وحسنه الحافظ، وفي إسناده عبد الله بن المؤمل، وهو ضعيف، وفيه دليل على أن ماء زمزم ينفع الشارب لأي أمر شربه لأجله، سواء كان من أمر الدنيا، أو أمور الآخرة؛ لأن "ما" في قوله: "لما شرب له" من صيغ العموم. ¬

_ (¬1) اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً وشفاء من كل داء.

20 - فصل في طواف الوداع

وهذا مما عمل العلماء والأخيار به، فشربوه لمطالب لهم جليلة فنالوها، ويروى أن مياه الأرض ترفع قبل يوم القيامة غير زمزم، ولا بأس بالاغتسال والتوضي به، لكن يكره الاستنجاء به. وكانت عائشة أم المؤمنين تحمل ماء زمزم، وتخبر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحمله، رواه الترمذي. قال أهل العلم: يجوز إخراجُ مائها ونقلُه إلى جميع البلدان، وقد كان السلف يحملونه. ويستحب الإكثار بمكة من الصدقة والصوم والقراءة وسائر الطاعات الممكنة. 20 - فصل في طواف الوداع إذا فرغ الحاج من المناسك، وأراد الإقامة بمكة، لم يطف للوداع، وبه قال الحنابلة: وإن أراد مفارقة مكة والعودَ إلى وطنه، وجب عليه عند الشافعية طواف الوداع، سواء كان وطنه في الحرم، أم خارجه، وعند الحنابلة: أنه يجب على من أراد مفارقة الحرم والعودَ إلى وطنه، وعن ابن عباس، قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينفرْ أحدٌ حتى يكونَ آخر عهده بالبيت"، رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وفي رواية: إلا أنه خفف عن المرأة الحائض، متفق عليه، وفيه دليل على وجوب طواف الوداع. قال النووي: وهو قول أكثر العلماء، ويلزم لتركه دم، وقال مالك، وداود، وابن المنذر: هو سنة، لا شيء في تركه. قال الحافظ: والذي رأيته لابن المنذر في "الأوسط": أنه واجب؛ للأمر به، إلا أنه لا يجب بتركه شيء. قلت: قد اجتمع في طواف الوداع أمرُه - صلى الله عليه وسلم - ونهيُه عن تركه، وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب، ولا شك أن ذلك يفيد الوجوب، قال ابن المنذر: قال عامة الفقهاء: ليس على النفساء والحائض التي أفاضت طوافُ الوداع، وروينا عن عمر بن الخطاب، وابن عمر، وزيد بن ثابت: أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضاً لطواف الوداع، فكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة، إذ

لو حاضت قبله، لم يسقط، وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك، وبقي عمر، فخالفناه؛ لثبوت حديث عائشة. وبالجملة: يجب عليه بتركه دم، كدم المتمتع عند الشافعية والحنابلة، وعند الحنفية واجب يجب بتركه أو ترك أكثره دم، فإن تعذر، بقي في ذمته. وقالوا: إذا أراد الحاج الإقامة بمكة، ونواها سنين، لم يسقط عنه الوجوب، وإن نواها أبداً، فإن كان قبل النفر الأول فلا طواف عليه، وإن كان بعده، لزمه الطواف عند أبي حنيفة، ومحمد خلافاً لأبي يوسف. وينبغي أن يؤخره الصادر عن مكة حتى يكون بعد جميع أموره، فلا يشتغل بعده بتجارة ولا نحوها؛ بل ينجز أولاً أشغاله، وليشد رحاله، وليجعلْ آخرَ شغله وداعَ البيت، لكن إذا قضى حاجته، أو اشترى شيئاً في طريقه بعد الوداع، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ليحمل المتاع على دابته، ونحو ذلك مما هو من أسباب الرحيل، فلا إعادة عليه، وإن أقام بعد الوداع، أعاده. وطافه - صلى الله عليه وسلم - ليلاً سَحَراً، وصلى الفجرَ بالحرم وقرأ بالطور، ثم نادى بالرحيل، فارتحل راجعاً إلى المدينة، ولا رَمَل في هذا الطواف، ولا اضطباع بالاتفاق، فإذا فرغ منه، صلى ركعتين، ويأتي بعده الملتزَم إن أحبَّ، وهو بين الركن والباب، فيضع عليه صدره، ويُلصق به بطنه، ويبسط يديه وذراعيه وكفيه على الجدار، فيجعل اليمنى مما يلي الباب واليسرى مما يلي الحجر الأسود، ويدعو بما أحبَّ من أمري الدنيا والآخرة، ويسأل الله حاجته، وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع؛ فإن هذا الالتزام لا فرقَ بين أن يكون حالَ الوداع أو غيره، والصحابة قد كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة. وإن شاء، قال في وداعه الدعاءَ المأثور عن ابن عباس: اللهمَّ البيتُ بيتُك، والعبدُ عبدُك وابنُ أمتك، حملتَني على ما سَخَّرت لي من خَلْقك حتى أعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنتَ رضيتَ عني، فازود عني رضا، وإلا، فمن الآن فارض عني الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، اللهمَّ فأَصْحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن

مُنْقَلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير. واستحب هذا الدعاء الشافعي، وقال: ما زاد فحسن. ولو وقف عند الباب، ودعا هناك من غير التزام البيت، كان حسناً، فإذا ولى، لا يقفُ ولا يلتفتُ ولا يمشي القهقرى. قال الثعلبي: القهقرى في اللغة: مشية الراجع إلى خلف، حتى قيل: إنه إذا رأى البيت، رجع فودع. وكذلك عند سلامه على النبي - صلى الله عليه وسلم - ينصرف، ولا يمشي القهقرى، بل يخرج، كما يخرج الناس من المساجد عند الصلاة. وقال ابن الصلاح: إنه إذا فرغ من الدعاء، أتى زمزم، وشرب منها متزوداً متبركاً، ثم عاد إلى الحَجَر، فاستلمه، وقبله، وانصرف. وعند الحنفية: أنه بعد ركعتي الطواف يستحب أن يأتي زمزم، على المشهور من الروايات، ويشرب من مائها، ويمسح رأسه ووجهه وجسده، ويأتي بآداب الشرب، ويدعو عند شربها بما أحب، ثم يأتي الباب، ويقبل العتبة، ويأتي الملتزم، فيضع وجهه وخده الأيمن وصدرَه عليه، ويتشبث بالأستار ساعة يدعو بما أحبَّ، واستحب مالك في رواية: أن يقف في الملتزم ويدعو إذا ودع، واستحب الحنابلة: أن يقبل الحَجَر بعد ركعتي الطواف، ثم يقف في الملتزم، ويلصق به صدره وبطنه وخده الأيمن وذراعيه، ويدعو بالدعاء الذي استحبه الشافعي كما تقدم. ومذهب الشافعية والمالكية: أنه ينصرف، ويولي ظهره إلى الكعبة، ولا يمشي القهقرى؛ فإنه مكروه، وليس فيه سنة مروية، ولا أثر محكي، وما لا أثر له لا يعرَّج عليه، وقد وافق ابن الكمال وغيره من الحنفية في هذا، وقال أكثر الحنفية: ينبغي أن ينصرف وهو يمشي وراءه ووجهُه إلى البيت متباكياً متحسِّراً على فراق البيت حتى يخرج من المسجد، واختار هذا بعض الشافعية. وعند الحنابلة وجهان: في أنه يولي ظهره الكعبة إذا أراد الانصراف، أو لا، قد كره ابن عباس قيام الرجل على باب المسجد ناظراً إلى الكعبة إذا أراد الانصراف، وينبغي أن يخرج من ثنية كدا من أسفل مكة اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وعن

21 - فصل في زيارة المساجد وأبنية مكة

إبراهيم النخعي: أنه قال: كانوا إذا قضوا حجهم، تصدقوا بشيء، ويقولوا: اللهم هذا عما لا يعلم، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. 21 - فصل في زيارة المساجد وأبنية مكة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما المساجد التي بُنيت بمكة غير المسجد الحرام؛ كالمسجد الذي تحت الصفا، والذي في سفح أبي قبيس، ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ كمسجد المولد وغيره، فليس قصدُ شيء من ذلك من السنة، ولا استحبه أحد من الأئمة، وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام، والمشاعر، ومزدلفة، ومنى، ومثل جبل حراء، والجبل الذي عند منى الذي يقال: إنه كان فيه قبة النداء، ونحوه؛ فإنه ليس من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - زيارةُ شيء من ذلك، بل هو بدعة. وكذلك ما يوجد في الطرقات من المساجد المبنية على آثار البقاع التي يقال: إنها من الآثار، فلم يشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد شيء من ذلك بخصوصه، ولا زيارة شيء من ذلك، انتهى كلامه. نعم، أجمع العلماء على استحباب زيارة المسجد الأقصى، والصلاة فيه، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الصلاة فيه كألف صلاة، وزيارته عبادة مستقلة لا تعلق لها بالحج، وما يرويه العوام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: من زراني، وزار أبي إبراهيم في عام واحد، ضمنتُ له الجنة، فحديث موضوع لا أصلَ له. وبالجملة: فإذا كانت مساجد الآثار حكمُها كذلك، فما بال الأبنيةِ المستحدثة في نفس المسجد الحرام؛ فإنها بدعة مكروهة. قال الشوكاني في "إرشاد السائل إلى دليل المسائل" مجيباً لبعض العلماء السائلين عن المواضع المستحدثة في الحرم الشريف؛ كالمقامات والمنارات، والتعلية في البيوت زيادةً على الحاجة ما نصه: أقول: عِمارة المقامات بدعة بإجماع المسلمين، أحدثَها شرُّ ملوك الجراكسة فرج بن برقوق (¬1) في أوائل المئة ¬

_ (¬1) هو الملك الناصر فرج بن الملك الظاهر برقوق، من سلاطين المماليك البرجيين في مصر، مات قتيلاً 815 هـ 1412 م.

التاسعة من الهجرة، وأنكر ذلك عليه أهلُ العلم في ذلك العصر، ووضعوا فيه مؤلفات. وقد بينتُ ذلك في غير هذا الموضع، ويا لله العجب من بدعة يحدثها من هو شر ملوك المسلمين في خير بقاع الأرضين، كيف لم يغضب لها من جاء بعده من الملوك المائلين إلى الخير؟! ولا سيما قد صارت هذه المقامات سبباً من أسباب تفريق الجماعات. وقد كان الصادق الصدوق - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الاختلاف والفرقة، ويرشد إلى الاجتماع والأُلفة كما في الأحاديث الصحيحة، بل نهى عن تفريق الجماعات في الصلاة. وبالجملة: فكل متشرع يعلم أنه حدثت بسبب هذه المذاهب التي فرقت الإسلام فرقة مفسدة أصيب بها الدين وأهله، وأن من أعظمها خطراً وأشدها على الإسلام ما يقع الآن في الحرم الشريف من تفرق الجماعات (¬1) ووقوف كل طائفة ¬

_ (¬1) لقد أزال تفرق الجماعات: حامي الحرمين جلالة الملك الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ملك المملكة العربية السعودية حينما استولى الموحدون على الحجاز في عام (1344 هـ 1925 م)، وأقام جماعة واحدة، وحملها على الاقتداء بإمام واحد على طريق السلف الصالح في المسجد الحرام، فله الجزاء الأوفى على هذا العمل، واستمر تفرق الجماعات قروناً عديدة. وكذلك قمع جميع البدع والخرافات، وقضى على مظاهر الشرك التي كانت شائعة في البلاد المقدسة، وأقام الدين الحنيف. ومن أعمال جلالته الهامة استتباب الأمن الذي فقد هناك، وأسس حكومته على أسس من العدالة التي كانت من أسباب تقدم البلاد في العمران وتعبيد الطرق والمواصلات، وتوفير الماء وإنشاء ميناء جدة، وهذه المشروعات كلها لم تبن إلا في ربع القرن الأخير، أي: القرن الرابع عشر الهجري، وكذلك المعاهد والمدارس، وتقدم الطباعة والنشر للكتب الدينية. وبعد رحيل المغفور له في عام (1373 هـ 1953 م)، خلفه على الحكم نجله عاهل المملكة العربية السعودية الإمام سعود بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -أيده الله بنصره العزيز-، وتعيش البلاد تحت لوائه، وقد ازدهرت البلاد في عهده في جميع أنواع التقدم، ولهذا أصبح جلالته محبوباً بين المسلمين، وفي رعيته؛ لما أقامه من أسس العدالة بين الرعية، ولما قام به من تجديد وتوسيع أشهرِ وأول مسجد في العالم الذي أسس على التقوى المسجد النبوي - صلى الله عليه وسلم - =

22 - فصل في الرجوع من حج أو عمرة وما يتصل به

في مقام من هذه المقامات، كأنهم أهلُ أديان مختلفة، وشرائعَ غيرِ مؤتلفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما رفع المنارات، فأصل وضعها لمقصد صالح، وهو إسماع البعيد عن محل الأذان، وهذه مصلحة مسوغة إذا لم تعارضها مفسدة من المفاسد المخالفة للشريعة، فدفعُ المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح؛ كما تقرر ذلك في الأصول، وأما تشييدُ البنيان ورفعه زيادة على حاجة الإنسان، فقد ورد النهيُ عنه، والوعيدُ عليه، وثبت: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بهدم بعض الأبنية، وليس ذلك مجردَ بدعة، بل خلاف ما أرشد إليه الشارع، انتهى كلامه. 22 - فصل في الرجوع من حج أو عمرة وما يتصل به عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة: يكبر على كل شَرَف من الأرض ثلاثَ تكبيرات، ثم يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعدَه، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" متفق عليه. وفيه: استحبابُ التكبير والتهليل والدعاء المذكور عند كل شرف من الأرض يعلوه الراجعُ إلى وطنه من حج أو عمرة أو غزوة، ويكررها حتى يدخل البلد، ويستحب إذا قرب مَنْ وطنه أن يبعث إلى أهله مَنْ يخبرهم بقدومه، كيلا يقدم عليهم بغتة، وكره - صلى الله عليه وسلم - أن يطرق الرجل أهلَه ليلًا، وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يقدم إلا غدوة أو عشية. وكان من هديه إذا رجع من سفره، بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، وكان يأمر أصحابه بذلك، كما في حديث جابر بن عبد الله في قصة البعير، وفيه: أنهم لما قدموا المدينة، أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي المسجد، فيصلي ركعتين إن لم يكن وقت ¬

_ = بالمدينة المنورة، وكذلك المسجد الحرام؛ أي: "البيت العتيق" بمكة المكرمة. ولم تر تلك القارة من كل ناحية في عمرها مثل هذا التقدم.

كراهة، ويدعو عقبهما، ويحمد الله تعالى، ويشكره على ما أنعم عليه من قضاء نسكه، وزيارة مسجد نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقبره المنور، وعوده إلى وطنه. وقد بوب أبو داود للإطعام عند القدوم، فأخرج بإسناده إلى جابر بن عبد الله، قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، نحر جزوراً وبقرة. ثم يندب للقادم أن يهدي إلى أهله ما تيسر. فقد أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-، أنها قالت: إذا قدم أحدُكم إلى أهله من سفر، فليهدِ لأهله ما يُطرفهم، ولو كان حجارة، وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء مرفوعاً: "إذا قدم أحدكم من سفر فليقدم معه هدية، ولو أن يلقي في مخلاته حجراً"، وإن كان الحديثان قد ضعفا، فالهدية مطلقاً من السنة، ولهدية القادم موقعٌ في القلب لا يخفى. ويندب لمن يلقاه من المقيمين أن يصافحه ويعانقه، وكره مالك المعانقة، ويطلب منه أن يستغفر له؛ لما أخرجه أحمد في "مسنده" من حديث ابن عمر مرفوعاً: "إذا لقيتَ الحاجَّ، فسلِّمْ عليه، وصافحْه، ومُرْه أن يستغفر لكَ قبلَ أن يدخل بيتَه؛ فإنه مغفور له" وهو حديث حسن. وهو نظير حثه - صلى الله عليه وسلم - على طلب الاستغفار من المريض؛ لأن المغفور له مجاب الدعوة. ويستحب لمن يسلم على القادم أن يقول له: "قَبِلَ الله حجَّكَ، وغفرَ ذنبَك، وأخلفَ نفقتك"، وليحرص الآتي من سفره قبل مفارقته رفقتَه على أن يتحلَّلَ منهم، وليحذرْ بعد الحج من مقارفة الذنوب؛ فإن النكسة أشدُّ من المرض، وليوفِ بعهد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكن كالتي نقضَتْ غزلها. فعلامة قبول عبادة الحج: أن يكون بعدها خيراً مما كان قبلها، ويترك ما كان عليه من المعاصي والآثام، وأن يستبدل بإخوانه البطالين إخواناً صالحين؛ وبمجالس اللهو والغفلة مجالسَ الذكر واليقظة. يروى أن بعض الصالحين قدم من الحج، فدعته نفسُه إلى أمر سوء، فسمع هاتفاً يقول له: ويلك! ألم تحجَّ؟ ويلك! لم تحج؟ فعصمه الله تعالى بسبب ذلك.

نسأل الله تعالى الاهتداء بهدي رسوله الكريم في كل ما نأتي ونذر، وأن يسلك بنا سبيل رضاه، ويدخلنا في واسع فضله النعيم، وأن يعافينا من كل بلية في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك، والقادرُ عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. * * *

الباب الخامس في زيارة سيدنا محمد المصطفى أحمد المجتبى - صلى الله عليه وسلم -

الباب الخامس في زيارة سيدنا محمد المصطفى أحمد المجتبى - صلى الله عليه وسلم - وفيه فصول: 1 - فصل في حكم الزيارة اعلم أنه قد اختلفت فيها أقوال أهل العلم، فذهب الجمهور: إلى أنها مندوبة، وذهب بعض المالكية وبعض الظاهرية: إلى أنها واجبة، وقالت الحنفية: إنها قريب من الواجبات. وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية: إلى أنها غير مشروعة، وتبعه على ذلك بعضُ الحنابلة، وجمعٌ من أهل الحديث، وروي ذلك عن مالك، والجويني، والقاضي عياض، احتج القائلون بأنها مندوبة بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]. وجه الاستدلال: أنه - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ في قبره بعد موته (¬1)؛ كما في حديث: "الأنبياء أحياء في قبورهم"، وقد صححه البيهقي، وألف في ذلك جزءًا، قال: الأستاذ أَبو منصور البغدادي: قال المتكلمون المحققون من أصحابنا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ بعد وفاته، انتهى. ويؤيد ذلك ما ثبت أن الشهداء أحياء يرزقون في قبورهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منهم، وإذا ثبت أنه حي، كان المجيء إليه بعد الموت كالمجيء إليه قبله، ولكنه ورد ¬

_ (¬1) وهذا يناقض قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30].

أن الأنبياء لا يُتركون في قبورهم فوق ثلاث ليال، وروي: فوق الأربعين، فإن صح ذلك، قدح في الاستدلال بالآية. ويعارض القول بدوام حياتهم في قبورهم ما سيأتي من أنه - صلى الله عليه وسلم - يرد عليه روحه عند التسليم عليه، وحديث: "من زارني بعد موتي، فكأنما زارني في حياتي" الذي سيأتي إن صح، فهو الحجة في المقام. وقال محمد بن عبد الهادي، في "الصارم المنكي على نحر ابن السبكي": الكلام في الآية في مقامين: أحدهما: عدم دلالتها على مطلوبه، والثاني: بيان دلالتها على نقيضه، وإنما يتبين الأمر بفهم الآية وما أريد بها، وسيقت له، وما فهمه منها أعلمُ الأمة بالقرآن ومعانيه، وهم سلف الأمة، ولم يفهم منها أحد من السلف إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم. والآية إنما هي في المنافق الذي رضي بحكم كعب بن الأشرف وغيره من الطواغيت، دونَ حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فظلم نفسه بهذا أعظم ظلم، ثم لم يجىء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليستغفر له. وكانت عادة الصحابة معه - صلى الله عليه وسلم - أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة، جاء إليه، فقال: يا رسول الله! فعلتُ كذا وكذا، فاستغفرْ لي، وكان هذا فرقاً بينهم وبين المنافقين. فلما نقل الله بيته - صلى الله عليه وسلم - من بين أظهرهم إلى دار كرامته، لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقول: يا رسول الله! فعلتُ كذا وكذا، فاستغفر لي، ومن يقل هذا عن أحد منهم، فقد جاهر بالكذب والبهت، وافترى. وعطل الصحابة والتابعون، وهم خير القرون على الإطلاق، هذا الواجب الذي ذم الله سبحانه من تخلف عنه، وجعل التخلف من أمارات النفاق، ووفق له من لا يؤبه له من الناس، ولا يعد في أهل العلم. وأما دلالة الآية على خلاف تأويلها، فهو أنه سبحانه صدَّرها بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء: 64]، وهذا يدل على أن مجيئهم إليه ليستغفر لهم طاعة له،

ولهذا ذمَّ من تخلف عن هذه الطاعة، ولم يقل مسلم قط: إن على من ظلم نفسه بعد موته أن يذهب إلى قبره ويسأله أن يستغفر له، وهذا بخلاف قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]؛ فإنه نفى الإيمان عمن لم يحكمه، وتحكيمه هو ما جاء به حياً وميتاً، ففي حياته كان هو الحاكم بينهم بالوحي، وبعد وفاته نوابه وخلفاؤه. ويوضح ذلك أنه قال: "لا تجعلوا قبري عيداً"، ولو كان يشرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره، لكان القبرُ أعظم أعياد المذنبين، وهذا مضادة صريحة به وبما جاء به، انتهى كلامه ملخصاً. واستدلوا ثانياً بقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. . .} [النساء: 100] الآية، والهجرة إليه في حياته الوصولُ إلى حضرته، فكذلك الوصول بعد موته. ولا يخفى أن الوصول بحضرته في حياته فيه فوائد لا توجد في الوصول إلى حضرته بعد مماته، منها: النظر إلى ذاته الشريفة، وتعلُّم أحكام الشريعة منه، والجهاد بين يديه، وغير ذلك. واستدلوا ثالثاً للأحاديث الواردة في ذلك: منها: الأحاديث الواردة في مشروعية زيارة القبور على العموم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - داخل فيه دخولاً أولياً، وكذلك الأحاديث الثابتة من فعله - صلى الله عليه وسلم - في زيارتها. ومنها: أحاديث خاصة بزيارة قبره الشريف: أخرج الدارقطني عن رجل من آل حاطب عن حاطب، قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من زارني بعد موتي، فكأنما زارني في حياتي"، وفي إسناده رجل مجهول، والحديث ضعيف مضطرب الإسناد. وعن ابن عمر عند الدارقطني أيضاً قال، فذكر نحوه، ورواه أبو يعلى في "مسنده"، وابن عدي في "كامله"، وفي إسناده حفص بن أبي داود، وهو ضعيف الحديث. وقال أحمد فيه: إنه صالح، وعن عائشة عند الطبراني في "الأوسط" عن

النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلثه، قال الحافظ: وفي طريقه مَنْ لا يُعرف، وعن ابن عباس عند العقيلي مثلُه، وفي إسناده فضالة بن سعد المازني، وهو ضعيف، وعن ابن عمر حديث آخر عند الدارقطني بلفظ: "من زار قبري، وجبت له شفاعتي"، وفي إسناده موسى بن هلال العبدي، قال أبو حاتم: مجهول؛ أي: العدالة، ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" من طريقه، وقال: إن صح الخبر، فإن في القلب من إسناده شيئاً، وأخرجه أيضاً البيهقي، وقال العقيلي: لا يصح حديث موسى، ولا يتابعَ عليه، ولا يصح في هذا الباب شيء. وقال أحمد: لا بأس به، وأيضاً قد تابعه عليه مسلمة بن سالم كما رواه الطبراني من طريقه، وموسى بن هلال المذكور، رواه عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، وهو ثقة من رجال الصحيح، وجزم الضياء المقدسي، والبيهقي، وابن عدي، وابن عساكر: بأن موسى رواه عن عبد الله بن عمر -المكبر-، وهو ضعيف، ولكنه قد وثقه ابن عدي، وقال ابن معين: لا بأس به، وروى له مسلم مقروناً بآخر، وقد صحح هذا الحديث: ابنُ السكن، وعبد الحق، والسبكي. وردّ ابن عبد الهادي على هؤلاء رداً مشبعاً في صارمه إلى أوراق، وقال: هو حديث غير صحيح، ولا ثابت، بل هو منكر عند أئمة هذا الشأن، ضعيف الإسناد عندهم، لا تقوم بمثله حجة، ولا يعتمد على مثله عند الاحتجاج إلا الضعفاء في هذا العلم، وقد بين أئمة هذا العلم والراسخون فيه والمعتمَدُ على كلامهم والمرجوع إلى أقوالهم ضعفَ هذا الخبر، ونكارته، انتهى. وعن ابن عمر عند ابن عدي، والدارقطني، وابن حبان في ترجمة النعمان بلفظ: "من حج ولم يزرني، فقد جفاني"، وفي إسناده النعمانُ بن شبل، وهو ضعيف جداً، ووثقه عمران بن موسى، وقال الدارقطني: الطعن في هذا الحديث على ابن النعمان، لا عليه، ورواه أيضاً البزار، وفي إسناده إبراهيم الغفاري، وهو ضعيف، ورواه البيهقي عن عمر، وقال: إسناده مجهول، قال في "الصارم": هذا منكر جداً لا أصل له، بل هو من المكذوبات والموضوعات، وهو كذب موضوع على مالك، مختلق عليه، لم يحدث به قط، ولم يروه إلا من

جمع الغرائب والمناكير والموضوعات، ولقد أصاب ابن الجوزي، وذكره في "الموضوعات" إلى قوله. والحاصل: أن هذا الحديث الذي تفرد به محمد بن محمد بن النعمان عن جده عن مالك، لا يحتج به ويعتمد عليه إلا مَنْ أعمى الله قلبه، وكان من أجهل الناس بعلم المنقولات، ولو فرض أنه خبر صحيح، وحديث مقبول، لم يكن فيه حجة إلا على الزيارة الشرعية، انتهى. وأطال في جرحه إلى أوراق. وعن أنس عند ابن أبي الدنيا بلفظ: "من زراني بالمدينة محتسباً، كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة"، وفي إسناده سليمان بن زيد الكعبي، ضعفه ابن حبان، والدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات. وعن عمر عند أبي داود الطيالسي بنحوه، وفي إسناده مجهول. قال في "الصارم": هذا حديث ساقط الإسناد، لا يجوز الاحتجاجُ به، ولا يصلح الاعتماد على مثله، وقد خرجه البيهقي في "السنن الكبرى"، وقال: هذا إسناد مجهول، انتهى. وورد بألفاظ، فجعلوها ثلاثة أحاديث، وهو واحد مضطرب الإسناد. وذكر ابن حبان في "كتاب الثقات" له خلقاً عظيماً من المجهولين الذين لا يعرف هو ولا غيره أحوالهم، وقد صرح ابن حبان بذلك في غير موضع من هذا الكتاب، فلا تغتر بتوثيقه للرواة في أمثال تلك الأحاديث. وعن عبد الله بن مسعود عند أبي الفتح الأزدي بلفظ: "من حج حجة الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة، وصلى في بيت المقدس، لم يسأله الله فيما افترض عليه". قال ابن قدامة في "الصارم": هذا الحديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا شك وريب عند أهل المعرفة بالحديث، انتهى. ثم أطال بيان وضعه إلى صفحة. وعن أبي هريرة بنحو حديث حاطب المتقدم. وعن ابن عباس عند العقيلي بنحوه، وعنه في "مسند الفردوس" بلفظ: "من حج إلى مكة، ثم قصدني في مسجدي، كتبت له حجتان مبرورتان". وعن علي بن أبي طالب عند ابن عساكر: "من زار قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان في

جواره"، وفي إسناده عبد الملك بن مروان، وفيه مقال. وعن ابن عمر، قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من جاءني زائراً، لا تعمله حاجة إلا زيارتي، كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة"، رواه الطبراني، وله ألفاظ، وليس في هذا الحديث -على فرض صحته- ذكرُ زيارة القبر، ولا ذكرُ الزيارة بعدَ الموت، مع أنه حديث ضعيف الإسناد، منكر المتن، لا يصلح للاحتجاج به، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا رواه أحد من الأئمة المعتبرة، ولا صححه إمام يعتمد على تصحيحه. وقد تفرد به مسلمة بن سالم الجهني الذي لم يُعرف من حاله ما يوجب قبول خبره، وله مناكير كثيرة ذكرها ابن قدامة في "الصارم". وعن ابن عمر: "من حج فزار قبري بعد وفاتي، فكأنما زارني في حياتي"، رواه الدارقطني. وتقدم نحوه عنه، وهو حديث منكر المتن، ساقط الإسناد، لم يصححه أحد من الحفاظ، ولا احتج به أحد من الأئمة، بل ضعفوه، وطعنوا فيه، وذكر بعضهم: أنه من الأحاديث الموضوعة، والأخبار المكذوبة كما صرح به في "الصارم" مفصلاً. وحديث: "من زراني متعمداً، كان في جواري يوم القيامة"، رواه العقيلي، وغيره من رواية سوار بن ميمون، وهو حديث ضعيف مجهول الإسناد، من واهي المراسيل وأضعفها، وفيه الاختلاف والجهالة والإرسال والانقطاع والاضطراب، وبعض هذه الأمور يكفي في ضعف الحديث وردِّه، وعدمِ الاحتجاج به عند أئمة هذا الشأن. فكيف اجتماعها في خبر واحد! وفي رواية: "من زارني بعد موتي، فكأنما زارني وأنا حي" رواه أبو الفتوح سعيد بن محمد اليعقوبي في جزء له، وهو حديث منكر لا أصل له، وإسناده مظلم، بل هو حديث موضوع على عبد الله العمري الصغير -المكبر- المضعف كما بينه ابن قدامة في "الصارم" بياناً شافياً. وفي رواية: "ما من أحد من أمتي له سعة، ثم لم يزرني، فليس له عذر"، رواه ابن النجار عن أنس، وهو حديث موضوع مكذوب مختلق، مصنوع من النسخة الملصقة بسمعان بن المهدي، وإسنادها إلى سمعان ظلمات بعضها فوق

بعض. وفي رواية: من زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً، أو قال: شفيعاً" أخرجه العقيلي في "كتاب الضعفاء"، وابن عساكر بلفظ: "من زارني في المنام، كمن زارني في حياتي، والباقي سواء" وهو حديث منكر جداً، ليس بصحيح، ولا ثابت، بل هو موضوع على ابن جريج، وقد وقع تصحيف في متنه وإسناده. وفي حديث: "من أتى المدينة زائراً إليَّ، وجبت له شفاعتي يوم القيامة" أخرجه يحيى الحسيني في "أخبار المدينة"، وهو حديث باطل لا أصل له، وخبر معضل لا يعتمد على مثله، وهو من أضعف المراسيل، وأوهى المنقطعات، ولو فرض أنه من الأحاديث الثابتة، لم يكن فيه دليل على محل النزاع، وكذا حديث: "من لم تمكنه زيارتي، فليزر قبر إبراهيم الخليل"؛ فإنه من الأحاديث المكذوبة، والأخبار الموضوعة، كما ذكر في "الصارم". وبالجملة: هذه جميع الأحاديث التي استدل بها: تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة ست وخمسين وسبع مئة في "شفاء السقام في زيارة خير الأنام"، والشيخ ابن حجر الهيتمي الشافعي المكي في "الجوهر المنظم في زيارة النبي المكرم"، وغيرهما، في غيرهما وليس فيها حديث حسن، أو صحيح، بل كلها ضعيفة موضوعة، أو منكرة لا أصل لها؛ قال الحافظ ابن حجر: أكثر متون هذه الأحاديث موضوعة، انتهى. فظهر بهذا أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وأهل الحديث، ومالك إمام دار الهجرة، والجويني، والقاضي عياض ومَنْ تبعه من المحققين: من تضعيفها، وردِّها، وعدم قبولها، هو الصواب البحتُ، والحق الصرفُ الذي لا مَحيصَ عنه، وعلى فرض حسنها أو صحتها، لا دلالة لها على السفر للزيارة، بل على الزيارة فقط، وليس النزاع في نفس زيارة القبور، بل في السفر إليها، وشد الرحال لها، وهو مسألة غير هذه المسألة. قال في "الفتح": وأصح ما ورد في ذلك: ما رواه أحمد، وأبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً: "ما من أحد يسلم عليّ، إلا ردَّ الله عليّ روحي حتى أردَّ عليه

السلام"، وبهذا الحديث صدر البيهقي الباب، ولكن ليس فيه ما يدل على اعتبار كون المسلِّم عليه على قبره، بل ظاهره أعمُّ من ذلك، انتهى. وقد رُويت زيارته - صلى الله عليه وسلم - عن جماعة من الصحابة، منهم: بلال عند ابن عساكر، وابن عمر عند مالك في "الموطأ"، وأبو أيوب عند أحمد، وأنس ذكره عياض في "الشفا"، وعمر عند البزار، وعلي عند الدارقطني، وغير هؤلاء، ولكنه لم ينقل عن أحد منهم أنه شد الرحال لذلك إلا عن بلال؛ لأنه روى عنه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بداريّا يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؟! أمالك أن تزورني؟ " روى ذلك ابن عساكر، ولكن هذا الأثر ليس بصحيح عنه، ولو كان صحيحاً عنه، لم يكن فيه دليل على محل النزاع، ولا يكون المنام حجة شرعية، وقول القائل: سنده جيد، خطأ منه كما بينه في "الصارم" بياناً كافياً، وهو أثر غريب منكر، وإسناده مجهول، وفيه انقطاع بل بعض ألفاظ الخبر يشهد ببطلانه عنه. وثبت عن ابن عمر: أنه كان إذا قدم من سفر، أتى قبرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسلم عليه وعلى أبي بكر وعمر، وليس فيه شد رحال، ولا إعمال مطي، ومع هذا قال أبو عثمان العمري: ما نعلم أحداً من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك إلا ابن عمر، هكذا ذكر عبد الرزاق في "مصنفه". واستدل القائلون بالوجوب بحديث: "من حج ولم يزرني، فقد جفاني"، رواه ابن عدي في "الكامل"، وله ألفاظ متقاربة، قالوا: والجفاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - محرم، فتجب الزيارة لئلا يقع في المحرم، وأجاب عنه الجمهور: بأن الجفاء يقال على من ترك المندوب؛ كما في ترك البر والصلة، وعلى غِلَظ الطبع؛ كما في حديث: "من بدا فقد جفا"، وأيضاً الحديث على انفراده مما لا تقوم به الحجة، وقد تقدم جرحه. واستدلوا رابعاً بالإجماع، وقالوا: قد حكى القاضي عياض: أن العلماء مجمعون على أنه يستحب للرجال زيارة القبور، بل قال بعض الظاهرية بوجوبها، وممن حكاه النووي. والجواب عن ذلك بوجوهٍ ذكرها في "الصارم"، حاصلها: أن المانع لم

يقل: إن زيارة القبور محرمة أو مكروهة، بل هي مستحبة عنده أيضاً؛ للدعاء للموتى، مع السلام عليهم، وإنما الكلام في السفر إليها، وليس في المسألة إجماع لتحقيق ثبوت الخلاف فيها عن بعض المجتهدين، وإن كان قوله ضعيفاً من حيث الدليل، قال ابن البطال: كره قوم زيارة القبور؛ لأحاديث في النهي عنها، وقال الشعبي: لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور، لزرت، انتهى. وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون زيارة القبور. وعن ابن سيرين مثلُه، وبه قال مالك، والجويني، وعياض، فأي ذنب لشيخ الإسلام ابن تيمية إن قال به؟ وليس هو بمتفرد بهذا القول، والمقصود: أن الإجماع المذكور في هذه المسألة غير محقق. واستدلوا خامساً بالقياس، وقالوا: جاء في السنة الصحيحة: الأمرُ بزيارة القبور، فقبرُ نبينا منها أولى وأحقُّ، وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - زار أهل البقيع، وشهداء أحد، وقد مر الجواب عن ذلك بأن هذا خارج عما نحن فيه؛ لأن الكلام في السفر إلى زيارة القبور؛ لا في نفس الزيارة. واحتج من قال: إنها غير مشروعة بحديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"، وهو في الصحيح، وحديث: "لا تتخذوا قبري عيداً" رواه عبد الرزاق، قال النووي في "شرح مسلم": اختلف العلماء في شد الرحال لغير الثلاثة؛ كالذهاب إلى قبور الصالحين، وإلى المواضع الفاضلة، فذهب الشيخ أبو محمد الجويني إلى حرمته، وأشار عياض إلى اختياره، والصحيح عند أصحابنا: أنه لا يحرم، ولا يكره، قالوا: والمراد: أن الفضيلة الثابتة إنما هي لشد الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة، انتهى. وقد أجاب الجمهور عن حديث شد الرحال: بأن القصر فيه إضافي باعتبار المساجد، لا حقيقي، قالوا: والدليل على ذلك ما في بعض ألفاظ الحديث: "لا ينبغي للمطي أن تشدَّ رحالُها إلى مسجد ينبغي فيه الصلاة غير مسجدي هذا، أو المسجد الحرام، والمسجد الأقصى"، فالزيارة وغيرها خارجة عن النهي، لكن إن صح هذا الخبر، فلينظر فيه.

وأجابوا ثانياً بالإجماع على جواز شد الرحال للتجارة وسائر مطالب الدنيا، وعلى وجوبه إلى عرفة للوقوف، وإلى منى للمناسك التي فيها، وإلى مزدلفة، وإلى الجهاد، والهجرة عن دار الكفر، وعلى استحبابه لطلب العلم. قلت: هذه الأسفار قد ثبت بعضها بفعل الشارع وقوله، ولم يثبت السفر للزيارة بفعله ولا قوله، ولم يحصل الإجماع على جوازه بحمد الله تعالى إلى الآن. بل نهى العلماء عنه قديماً وحديثاً، بل بعض الأسفار لها، بل غالبها لا يخلو من أحوال الشرك وأعمال الكفر كما لا يخفى على الخبير. وأجابوا عن حديث: "لا تتخذوا قبري عيداً": بأنه يدل على الحث على كثرة الزيارة، لا على منعها، وأنه لا يُهمل حتى لا يُزار إلا في بعض الأوقات؛ كالعيدين، والعالم بمفاهيم السنة وعطفها، والعارف بكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يرتاب أبداً في أن ذلك التأويل من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ومن قبيل تأويل الجهلة وانتحال المبطلة؛ فإنه يأباه ظاهر الحديث وباطنُه، ولو كان مقصود الشارع ما فهمَ هؤلاء، لقال: زوروا قبري كل حين، ولا تملوا عنه حتى لا تزوروه إلا في بعض الأحيان كالعيد. واحتج أيضاً من قال بالمشروعية: بأنه لم يزل دأب المسلمين القاصدين للحج في جميع الأزمان على تباين الديار واختلاف المذاهب الوصول إلى المدينة المشرفة لقصد زيارته، ويعدون ذلك من أفضل الأعمال، ولم ينقل أن أحداً أنكر ذلك عليهم، فكان إجماعاً. قلت: وما الدليل على أن هذا الوصول كان لمجرد زيارة القبر؟ بل الظاهر أنه كان لمسجده - صلى الله عليه وسلم -، وكانت الزيارة مغمورة فيه، ومن ادعى خلاف ذلك، فعليه البيان مع البرهان. وما ذكره ابن الجوزي عن عمر بن عبد العزيز: أنه كان يبرد البريد من الشام، يقول له: سَلِّم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فالجواب عنه أولاً: بالمطالبة عن صحة الإسناد إلى عمر، والثاني: بأنه في إسناده ضعف وانقطاع.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مصنفاته، وفتاواه، ومناسكه: استحبابَ زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجه المشروع، ولم يذكر في ذلك نزاعاً بين العلماء، وإنما ذكر الخلاف بينهم في السفر لمجرد زيارة القبور، واختار المنع من ذلك كما هو مذهب مالك وغيره من أهل العلم، وهو الذي اختاره القاضي عياض، والجويني، فينبغي أن يعرف الفرق بين محل النزاع وغيره، ولا يخلط بعضه ببعض، ولا ريب أن الإنسان إذا أتى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، استحب له أن يفعل فيه ما يُشرع له من الصلاة والسلام على الرسول، والتسليم، والثناء عليه، فهذا هو المقصود من الزيارة الشرعية، والسفر إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم - للصلاة فيه، وما يتبع ذلك مستحبٌّ بالنص والإجماع. والسفر لمجرد زيارة القبر فيه نزاع، ومن سافر لمجرد قبر، فلم يزر زيارة شرعية، بل بدعية، فينبغي لمن أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص النبوية، ويعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون، وما قاله أئمة المسلمين ليعرف المجمَعَ عليه من المتنازَع فيه؛ فإن الزيارة فيها مسائل متعددة متنازَع فيها، ولكن لم يتنازعوا -فيما علمت- في استحباب السفر إلى مسجده، واستحباب الصلاة والسلام فيه، ونحو ذلك مما شرعه الله في مسجده، ولم يتنازع الأئمة الأربعة. والجمهور: في أن السفر إلى غير الثلاثة ليس بمستحب، لا لقبور الأنبياء والصالحين، ولا غير ذلك؛ فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشد الرحال. . . " حديث متفق على صحته، وعلى العمل به عند الأئمة المشهورين، وعلى أن السفر إلى زيارة القبور داخل فيه، فإما أن يكون نهياً، وإما أن يكون نفياً للاستحباب، وقد جاء في الصحيح بصيغة النهي صريحاً، فتعين أنه نهي، فهذان طرفان لا أعلم فيهما نزاعاً بين الأئمة الأربعة والجمهور، فتدبر. وتمام الكلام في مسألة الزيارة ومتعلقاتها مبسوط في "الصارم" في ذيل فصول هي للدين أصول.

2 - فصل في آداب الزيارة وما يتصل بها

2 - فصل في آداب الزيارة وما يتصل بها قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني -رحمه الله تعالى-: إذا دخل المدينة قبل الحج أو بعده، فإنه يأتي مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويصلي فيه؛ فإن الصلاة فيه خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ولا تشد الرحال إلا إليه، وإلى المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، هكذا ثبت في "الصحيحين من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وهو مروي من طرق أخرى، ومسجده - صلى الله عليه وسلم - كان أصغر مما هو اليوم، وكذا المسجد الحرام، لكن زاد فيه الخلفاء الراشدون ومَنْ بعدهم، وحكمُ الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام، ثم يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه؛ فإنه قد قال: "ما من رجل يسلِّم عليَّ، إلا رد الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام" رواه أبو داود، وغيره. وكان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد يقول: السلامُ عليك يا رسولَ الله، السلامُ عليك يا أبا بكر، السلامُ عليك يا أبتِ، ثم ينصرف، هكذا كان الصحابة يسلِّمون عليه، وإذا قال في سلامه: السلامُ عليك يا نبيَّ الله، يا خيرةَ الله من خلقه، يا أكرمَ الخلقِ على ربه، يا إمامَ المتقين، فهذا كلُّه من صفاته، بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا صلى عليه مع السلام، فهذا مما أمر به، ويسلم عليهم مستقبلَ الحجرة، مستدبر القبلة عندَ أكثر العلماء؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، وأما أَبو حنيفة، فإنه كان يستقبل القبلة، فمن أصحابه من قال: يستدبر الحجرة، ومنهم من قال: يجعلها عن يساره. واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرةَ ولا يُقبلها، ولا يطوف بها، ولا يصلي إليها، ولا يدعو هناك مستقبلاً للحجرة، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالكٌ من أعظم الأئمة كراهةً لذلك، والحكاية المروية عنه: أنه أمر المنصور أن يستقبل الحجرة وقتَ الدعاء كذبٌ على مالك. ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة، ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة، ويدعون في مسجده - صلى الله عليه وسلم -.

قال: "اللهمَّ لا تجعل قبري وَثَناً يعبد"، وقال: "لا تجعلوا قبري عيداً"، و"ولا تجعلوا قبوركم بيوتاً، وصلوا عليَّ حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني"، وقال: "أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة عليّ"، فقالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أرمت؛ أي: بليت؟ قال: "إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء"، فأخبر أنه يسمع الصلاة والسلام من القريب، وتبلغ إليه ذلك من البعيد. وقال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذِّر مما فعلوا، قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها-: ولولا ذلك، لأبرز قبره، ولكن كره أن يُتخذ مسجداً، أخرجاه في "الصحيحين"، فدفنه الصحابة في الموضع الذي مات فيه من حجرة عائشة، وكانت هي وسائر الحجر خارج المسجد من قبليِّه وشرقيِّه. ولكن في زمن الوليد بن عبد الملك، غيّر هذا المسجد وغيره، وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز، فأمر أن يشتري الحُجَر، ويُزاد في المسجد، فدخلت الحجرة في المسجد من ذلك الزمان، وبُنيت منحرفةً عن القبلة مسنَّمة لئلا يصلِّي إليها أحد، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" رواه عن مسلم عن أبي مرثد الغنوي. زيارة القبور على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية فالشرعية: المقصودُ بها السلامُ على الميت، والدعاءُ له، كما يقصد ذلك بالصلاة على جنازته، فزيارتُه بعد موته من جنس الصلاة عليه، والسنةُ فيها أن يسلم على الميت، ويدعو له، سواء كان نبياً، أو غير نبي، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه إذا زاروا القبور، أن يقول أحدهم: "السلامُ عليكم أهلَ الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إنْ شاء الله بكم للاحقون، ويرحمُ الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسألُ اللهَ لنا ولكم العافيةَ، اللهم لا تحرْمنا أجرَهم، ولا تَفْتِنَّا بعدهم، واغفرْ لنا ولهم".

وهكذا يقول إذا زار أهلَ البقيع، ومَنْ به من الصحابة وغيرهم، وزار شهداء أحد وغيرهم. بل الصلاة في المساجد التي ليس فيها قبرُ أحد من الأنبياء والصالحين وغيرهم، أفضلُ من الصلاة في المساجد التي فيها ذلك باتفاق أئمة المسلمين، بل الصلاة في المساجد التي على القبور إما محرمة، وإما مكروهة. والزيارة البدعية: أن يكون الزائر مقصودُه منها أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو يقصد الدعاء به، فهذا ليس من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا استحبه أحد من سلف الأمة، بل هو من البدَع المنهيِّ عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها. وقد كره مالك وغيره أن يقول القائل: زرتُ قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا اللفظ لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل الأحاديث المذكورة في هذا الباب مثل:- قوله: "من زارني، وزار أبي إبراهيم في عام واحد، ضمنت له على الله الجنة". وقوله: "من زارني بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي". وقوله: "من زارني بعد مماتي، حلت عليه شفاعتي". ونحو ذلك، كلها أحاديث ضعيفة، بل موضوعة. ليست في شيء من دواوين المسلمين التي يعتمد عليها، ولا نقلها إمام من أئمة المسلمين، لا الأربعة منهم، ولا نحوهم، ولكن روى بعضها البزار، والدارقطني، ونحوهما بأسانيد ضعيفة. بل من عادة الدارقطني وأمثاله أن يذكروا هذا في السنن؛ ليُعرف هو وغيره، وبينوا الضعيف من ذلك، وذا كانت هذه الأمور التي فيها شرك وبدعة قد نهى عنها عند قبره، وهو أفضل الخلق، فالنهي عن ذلك عند قبر غيره أولى وأحرى. ويستحب أن يأتي قباء ويصلي فيه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من تطهَّر في بيته، فأحسن الطهور، ثم أتى مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان له كأجر عمرة"

رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه. وقال - صلى الله عليه وسلم -: الصلاة في "مسجد قباء تعدل عمرة" رواه الترمذي، وحسنه. والسفر إلى المسجد الأقصى والصلاةُ فيه والدعاءُ والذكر والقراءة والاعتكاف مستحبٌّ في أي وقت شاء، سواء كان عام الحج، أو بعده، ولا يفعل فيه وفي مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ما يفعل في سائر المساجد، ليس فيه شيء يتمسح به ويُقبَّل ويُطاف به، هذا كله ليس إلا في المسجد الحرام خاصة، ولا يستحب زيارة الصخرة، بل المستحب أن يصلي في قبل المسجد الأقصى الذي بناه عمر بن الخطاب للمسلمين، ولا يسافر للوقوف بالمسجد الأقصى، ولا للوقوف عند قبر أحد من الأنبياء والمشايخ ولا غيرهم، باتفاق أئمة المسلمين. بل أظهر أقوال العلماء ألا يسافر أحد لزيارة قبر من القبور، ولكن تزار القبور بالزيارة الشرعية ممن كان قريباً، أو اجتاز بها أحد، كما أن مسجد قبا يزار من المدينة، وليس لأحد أن يسافر إليه؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة، وذلك أن الدين مبني على أصلين: لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا يعبد إلا بما شرع، فلا يعبده بالبدع. قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 101]. ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول في دعائه: اللهمَّ اجعلْ عملي صالحاً خالصاً لوجهك، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً. وقال فُضيل بن عياض في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [تبارك: 2]، قال: أخلصه وأصوبه، قيل: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً، لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً، لم يقبل حتى يكونا خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. فالمقصود بجميع العبادات: أن يكون الدينُ كلُّه لله، فاللهُ هو المعبود

والمسؤول، الذي يُرجى ويُخاف ويسأل ويعبد، فله الدين خالصاً، وله أسلم مَنْ في السموات والأرض طوعاً وكرهاً. والقرآن الكريم مملوء من هذا كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]، وقال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]، وقال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} إلى قوله {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 14 - 64]. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79]، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 56 - 57]. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالمسيح وعزير -عليهما السلام-، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29]. ومثل هذا في القرآن العزيز كثير، بل ذلك مقصود القرآن، ودعوةُ الرسل كلهم، ولذلك خلق الخلق كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ أي: يوحدون ويخلصون العمل لله وحده. وبالجملة: فيجب على المسلم أن يعلم أن الحج من جنس الصلاة ونحوها من العبادات التي يُعبد بها اللهُ وحَده لا شريك له، وأن الصلاة على الجنائز وزيارة قبور الأموات من جنس الدعاء لهم، والدعاء من جنس المعروف والإحسان الذي هو من جنس الزكاة والعبادات التي أمر الله بها توحيد وسنة، والذي غيرُهما فيه شرك وبدعة؛ كعبادات النصارى ومَنْ أشبههم، فقصدُ البقعةِ لغير العبادات التي أمر الله بها ليس من الدين.

ولهذا كان جملة العلماء الذين يعتد بهم: يعدون السفر لقبور الأنبياء والصالحين من جملة البدع المنكرة. وهذا في أصح القولين غيرُ مشروع، وكذلك من يقصد بقعة لأجل الطلب من مخلوق هي منسوبة إليه كالقبر والمقام، ولأجل الاستعاذة به، ونحو ذلك، فهذا شرك وبدعة؛ كما يفعل النصارى ومن أشبههم من مبتدعة هذه الأمة؛ بحيث يجعلون الحج أو الصلاة من جنس ما يفعلونه من الشرك والبدعة. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر بعض أزواجه (¬1) كنيسةً بأرض الحبشة، وذكرن له من حسنها وما فيها من التصاوير: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرارُ الخلق عند الله يوم القيامة". ولهذا نهى العلماء عما فيه عبادة لغير الله، وسؤال من مات من الأنبياء والصالحين مثل من يكتب رقعة، ويعلقها عند قبر نبي أو صالح، أو يسجد لقبره، أو يدعوه، أو يرغب إليه، وقالوا: إنه لا يجوز بناء المساجد على القبور؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قبل أن يموت بخمس ليال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا! فلا تتخذوا القبورَ مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك"، وقال: "لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً"، وهذه الأحاديث في الصحاح. وما يفعله بعض الناس من أكل التمر في المسجد، وتعليق الشعر في القناديل، فبدعة مكروهة، وأما التمر الصيحاني، فلا فضيلة فيه، بل غيرُه من ¬

_ (¬1) هي كانت: أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموية. أمها صفية بنت أبي العاص بن أمية عمة عثمان بن عفان، هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فولدت له حبيبة، وبها كانت تكنى، وتنصر عبيدُ الله، ثم مات هناك، وثبتت هي على الإسلام، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، فزوجه إياها، والذي عقد عليها خالد بن سعيد بن العاص وأصدقها النجاشي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع مئة دينار. الملخص من "سيرة النبي"، لابن هشام، و"عيون الأثر" لابن سيد الناس.

التمر؛ كالبرنيِّ والعجوةِ خيرٌ منه، والأحاديث إنما جاءت في مثل ذلك، لا في الصيحاني، وقول بعض الناس: إن الصيحاني صاح بالنبي - صلى الله عليه وسلم - جهلٌ منه، بل إنما سمى بذلك اليابس منه؛ فإنه يقال: يصوح التمر: إذا يبس. وهكذا قول بعض الجهال: إن "عين الزرقاء" جاءت معه - صلى الله عليه وسلم - من "مكة"، ولم تكن بالمدينة على عهده - صلى الله عليه وسلم - عين جارية، لا الزرقاء، ولا غيرها من عيون جمرة وغيرها، بل كل هذا استخرج من بعد. ورفعُ الصوت في المساجد منهيٌّ عنه، وهو في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد، وقد ثبت في "البخاري": أن عمر بن الخطاب رأى رجلين من أهل الطائف يرفعان أصواتهما في المسجد، فقال: لو أعلم أنكما من أهل البلد، لأوجعتكما ضرباً، إن الأصوات لا تُرفع في مسجده، فما يفعله بعضُ جهال العامة من رفع الصوت عقيبَ الصلاة بقولهم: السلامُ عليكَ يا رسولَ الله بأصوات عالية، وأمثال ذلك، فمن أقبح المنكرات، ولم يكن أحد من السلف يفعل شيئاً من ذلك عقيبَ الصلاة، ولا قبلها، ولا بعدها، لا بأصوات عالية، ولا مستخفية، بل ما في الصلاة من قول المصلي في التشهد: "السلام عليكَ أيها النبيُّ ورحمةُ الله وبركاته" هو المشروع، كما أن الصلاة عليه مشروعة في كل مكان وزمان. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه قال: "من صلى عليَّ مرة، صلى الله عليه عشراً"، وفي "المسند": أن رجلاً قال: يا رسول الله! أجعلُ عليك ثلث صلاتي؟ قال: "إذن يكفيك الله ثلثَ أمرك"، فقال: أجعل عليك ثلثي صلاتي؟ قال: "إذن يكفيك الله ثلثي أمرك"، قال: أجعل صلاتي كلها عليك؟ قال: "إذن يكفيك الله ما أهمَّكَ من أمر دنياك وآخرتك". وفي "السنن" عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، وصلُّوا عليَّ حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني". وقد رأى عبد الله بن الحسن -رضي الله تعالى عنه- في زمنه رجلاً ينتاب قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - للدعاء عنده، فقال: يا هذا! إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني"، فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء.

ولهذا كان السلف يُكثرون الصلاةَ والسلامَ عليه - صلى الله عليه وسلم - في كل مكان وزمان، ولم يكونوا يجتمعون عند قبره، لا لقراءة وإيقاد شمع وإطعام وإسقاء، وإنشاد قصائد، ولا نحو ذلك، بل هذا من البدع، وإنما كانوا يفعلون في مسجده ما هو المشروع في سائر المساجد من الصلاة والقراءة والذكر والدعاء، والاعتكاف وتعليم القرآن والعلم وتعلمه، ونحو ذلك. وقد علموا أن له - صلى الله عليه وسلم - مثل أجر كلِّ عمل صالح تعملُه أمته؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من دعا إلى هدى، فله من الأجر مثلُ أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً"، وهو الذي دعا أمته إلى كل خير، فكل خير يعمله أحد من الأمة، فله أجره، فلم يكن يهدى إليه ثواب صلاة أو صدقة أو قراءة من أحد، وكل من كان له أطوع وأتبع، كان أولى الناس به في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليّي اللهُ وصالحُ المؤمنين"، وهو أولى بكل مؤمن من نفسه، وهو الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فالحلال ما أحله الله تعالى، والحرامُ ما حرمه، والدين ما شرعه، واللهُ هو المعبود المسؤول المستعاذُ به الذي يُخاف ويُرجى منه ويُتوكل عليه. قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وإنما الخشية والتقوى لله وحده، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 53]، فأضاف الإيتاء إلى الله والرسول، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، فليس لأحد أن يأخذ إلا ما أباح له الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان الله آتاه ذلك من جهة القدرة والملك، فإنه يؤتى الملكَ لمن يشاء، وينزع الملك ممن يشاء. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في الاعتدال من الركوع وبعد السلام من الصلاة: "اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا معطي لما منعتَ، ولا رادَّ لما قضيتَ، ولا ينفعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ"؛ أي: من آتيته جَدّاً، وهو: البخت والملك، فإنه لا ينجيه منك، وإنما ينجيه الإيمان والتقوى.

وأما التوكل، فعلى الله وحده، والرغبةُ إليه وحده، كما قال تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [آل عمران: 173] ولم يقل: ورسوله، وقالوا: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] ولم يقل: ورسوله، كما قال في الإيتاء، بل هذا نظير قوله تعالى. {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7 - 8] وقال: الذين {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس، قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]، أي: وحده حسبك، وحسب المؤمنين الذين اتبعوك. ومن قال: إن المعنى: إن الله والمؤمنين حسبك، فقد، غلط وضل، بل قوله من جنس الكفر؛ فإن الله وحده هو حسبُ كل عبد مؤمن، والحسبُ: الكافي، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]. والله تعالى له حق: لا يُشرك فيه مخلوق؛ كالعبادة والإخلاص والتوكل والخوف، والحج والصلاة والزكاة والصيام والصدقة، والرسول له حق: كالإيمان به وطاعته واتباع سننه، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، وتقديمه في المحبة على الأهل والمال والنفس، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". بل يجب تقديم الجهاد، والذي أمر به على هذا كله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] انتهى كلام الشيخ -رحمه الله تعالى-، وما أوقفه بسنة الرسول وأحقه بالسمع والقبول! ثم يستحب أن يخرج إلى البقيع، ويزور مَنْ به من الصحابة وغيرهم،

3 - فصل في فضائل "المدينة" وما يشبهها

ولا دليل على الترتيب، ويُستحب أن يزور قبور الشهداء، وقبرَ حمزة عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن الهمام: ويزور جبل أُحد نفسَه؛ للحديث الصحيح: "أُحد جبلٌ يحبنا ونحبه"، ولكن ليس فيه ما يدل على زيارته، ويُستحب أن يأتي بئرَ أريس التي تفل فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسقط فيها خاتمه من عثمان. وكان السلف الصالح يحبون لمن أتى المساجد الثلاثة: أن يختم فيها القرآن، ويستحب المجاورة بالمدينة كمكة لمن ظنَّ من نفسه عدمَ موافقة مذموم شرعي، وحينئذ، فليكن بغاية من الفرح بجوار نبيه - صلى الله عليه وسلم - مع إكثار الدعاء لنفسه ولأحبابه، وبغاية من الصبر على ضيق المدينة ومعيشتها، بالنسبة لبلاد الخصب. والأحاديث في فضل المُقام والموت بها كثيرة، ومن ثَمَّ أخذ منها جمع متأخرون من الشافعية: أن السكنى بها أفضلُ منها بمكة، مع مزيد المضاعفة بمكة، قال ابن حجر الهيتمي: وفيه نظر، بل الموافق للقواعد أن سكنى مكةَ أفضلُ، وكفى زيادة مضاعفة الأعمال مرجحاً، انتهى. ويُستحب أن يتصدق بما أمكنه على جيران رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وينظر أهل المدينة بعين التعظيم، ويَكِلَ سرائرَهم إلى الله، ويحرم عليه أن يستصحب شيئاً مما عمل من تراب حرم المدينة أو من أحجاره إلى خارج حرمها، ولو إلى حرم مكة، ويودع المسجد الشريف بركعتين، والأولى أن تكونا بمصلاه - صلى الله عليه وسلم -، وليكن حالَ مفارقته في غاية التشوق للعود، وفي غاية الصدق مع الله وملازمة التوبة والأعمال الصالحة، وينبغي أن يزداد خيراً بعد ذلك؛ فإن هذا من علامات قبول أعماله، وبالله التوفيق. 3 - فصل في فضائل "المدينة" وما يشبهها قال الله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] ذكر مسلم، والبخاري، وغيرهما: أن المراد بها "المدينة"، وفي هذه الإضافة من مزيد التعظيم ما لا يخفى، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 9].

قال عثمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن جعفر، قال: سمى الله "المدينةَ": الدارَ والإيمان، قال البيضاوي سمى: بالإيمان؛ لأنها مظهره ومصيره. وقال تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1] قال الواسطي: أي: يحلف لك بهذا البلد الذي شرَّفته بمكانك فيه حياً، وببركتك ميتاً؛ يعني: "المدينة"، وقيل: المراد: "مكة"، وهو الراجح؛ لكون السورة مكية، وقال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال: 5]. قال المفسرون: أي: من "المدينة"، لأنها مهاجره ومسكنه. وقال تعالى: {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] قال بعض المفسرين: هو "المدينة" {مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] "مكة"، وروي ذلك عن زيد بن أسلم، ويدل له ما رواه الترمذي وصححه في سبب نزول هذه الآية. وعن سعد قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعاً يوم القِيامة" رواه مسلم، وعن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يصبر على لأْواء المدينة وشدَّتها أحد من أمتي إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة، رواه مسلم، وله ألفاظ، و"أو" للشك من الراوي، أو من لفظه - صلى الله عليه وسلم -، أو للتقسيم، ويكون شفيعاً للعاصين، وشهيداً للمطيعين، شهيداً لمن مات في حياته، وشفيعاً لمن مات بعده، وهذه الشفاعة أو الشهادة زائدة على الشفاعة للعاصين في القيامة، وعلى شهادته لجميع الأمم، فيكون لتخصيصهم بذلك مزيد وزيادة. وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرتُ بقرية تأكل القرى، يقولون: يثرب، وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد" متفق عليه، ولفظ البخاري: "إنها طيبة، تنفي الذنوب كما ينفي الكير خبث الفضة". وللحديث ألفاظ شتى، وعن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله سمى المدينة: طابة" رواه مسلم، وفي حديث جابر مرفوعاً: "لا يريد أحد أهل المدينة بسوء، إلا أذابَهُ الله في النار"، وهو في الصحيح بألفاظ. وعن سعد، قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يكيد أهلَ المدينة أحدٌ إلا انماعَ كما ينماعُ الملح في الماء" متفق عليه. وروى البزار بإسناد حسن: "اللهم اكفهم

من وهمهم ببأس -يعني: أهل المدينة- ولا يريدها أحد بسوء إلا أذابه الله كما يذوب الملح في الماء". قال المنذري وقد روى هذا الحديث عن جماعة من الصحابة في الصحاح وغيرها: وروى الطبراني برجال الصحيح مرفوعاً: "اللهمَّ من ظلمَ أهلَ المدينة، وأخافهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً" -أي: فرضاً وتطوعاً، أو توبة أو اكتساباً أو وزناً، أقول: ولا عدلاً؛ أي: فرضاً أو تطوعاً، أو فدية أو كيلاً، أقوال. وله ألفاظ عند النسائي، وابن حبان، وغيرهما. وفي "الصحيحين" مرفوعاً: "من أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدِثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً"، ومعنى اللعن: الإبعادُ عن رحمة الله والطردُ عن الجنة، والمراد: من أتى فيها آثماً، أو آوى من آتاه، وضمه إليه وحماه، وهذا من الكبائر؛ لأن اللعنة لا تكون إلا في كبيرة، فيستفاد منه أن إثم الصغيرة بها كإثم الكبيرة. وصرح الحافظ ابن القيم: بأن استحلال حرم "المدينة" كبيرة، وقال غيره -أي: عند الأئمة الثلاثة خلافاً لأبي حنيفة-، وعن معقل بن يسار، قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المدينة مهاجَري، فيها مضجعي، وفيها مبعثي، حقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر، من حفظهم، كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة، ومن لم يحفظهم، سقي من طينة الخبال"، قيل للمزني: ما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار، رواه ابن النجار، والطبراني بسند فيه متروك، وله ألفاظ عند غيرهما. وعن يحيى بن سعيد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما على الأرض بقعة أحبَّ إليَّ من أن يكون قبري بها منها" يعني: المدينة، ثلاث مرات، رواه مالك مرسلاً. وعن سعيد بن أبي هند، قال: سمعت أبي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل مكة، قال: "اللهم لا تجعل منايانا بمكة حتى نخرج منها"، ورواه أحمد برجال الصحيح عن ابن عمر مرفوعاً، إلا أنه قال: حتى تُخرجنا منها.

وروى مالك، والبخاري، ورزين العبدري: أن عمر بن الخطاب قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك. وروى البيهقي مرفوعاً: "من استطاع أن يموت بالمدينة، فليمتْ بها، فمن مات بالمدينة، كنت له شفيعاً وشهيداً"، وفي رواية له: "فإنه من يمت بها، أشفع له، وأشهد له"، وقد ذكر هذه الرواية ابن حبان في "صحيحه". وروى الترمذي، وابن حبان في "صحيحه"، وابن ماجه، والبيهقي، وعبد الحق، وصححه عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من استطاع أن يموت بالمدينة، فليمتْ بها، فإني أشفعُ لمن يموت بها"، ورواه الطبراني في "الكبير" بسند حسن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب إسناداً. وروى الطبراني مرفوعاً: "أول مَنْ أشفعُ له من أمتي أهلُ المدينة، ثم أهل مكة، ثم أهل الطائف، وأخرجه الترمذي. وبالجملة: فالترغيب في الموت بالمدينة لم يثبت مثله لغيرها، واختيار سكناها المعروف من حال السلف، ولا شك أن الإقامة بالمدينة في حياته - صلى الله عليه وسلم - أفضل إجماعاً، فيستحب ذلك بعد وفاته حتى يثبت إجماعٌ مثلُه يرفعه. وفي "الصحيحين": اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد"، وفيهما: "اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفي ما جعلتَ بمكة من البركة". وعن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم بارك لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدِّنا، اللهم إن إبراهيم عبدُك وخليلك، ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة، ومثله معه" رواه مسلم، وله ألفاظ عند أهل السنن. والبركة هنا بمعنى: النمو والزيادة، ويحتمل أن تكون دينية وهي ما يتعلق بهذه المقادير في الزكاة والكفارات، فيكون بمعنى الثبات لها لثبات الحكم بها، وبقائه ببقاء الشريعة، ويحتمل أن تكون دنيوية من تكثير الكيل والقدر بهذه الأكيال حتى يكفي منه ما لا يكفي من غيره في غير المدينة، أو ترجع البركة إلى كثرة ما يكال بها من غلاتها وثمارها، وفي هذا كله إجابة دعوته - صلى الله عليه وسلم -. وقال

النووي: الظاهر أن المراد البركة في نفس المكيل في "المدينة" بحيث يكفي المد فيها، ولا يكفي في غيرها. قلت: هذا هو الظاهر فيما يتعلق بأحاديث الكيل، وأما في غيرها، فعلى عمومه في سائر الأمور الدينية والدنيوية. وعن أبي هريرة، قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على أنقاب المدينة ملائكة يحرسونها، لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال" متفق عليه. وعن أبي بكرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا "يدخل المدينة رعب المسيح، لها يومئذ سبعة أبواب، على كل باب ملكان" رواه البخاري. وعن سعد، قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده! إن في غبارها شفاءً من كل داء" قال: وأراه ذكر: ومن الجذام والبرص، رواه ابن الأثير في "جامع الأصول"، قال المنذري: ولم أره في الأصول. قال في "وفاء الوفاء": قد رأينا مَن استشفى بغبارها من الجذام، وكان قد أضر بها كثيراً، فصار يخرج إلى الكومة البيضاء ببطحان بطريق قباء، ويتمرغ بها، ويتخذ منها في مرقده، فنفعه ذلك جداً، وهذه الحفرة موجودة اليوم، مشهورة خلفاً عن سلف، يأخذ الناس منها، وينقلونه للتداوي. وذكر المجد الشيرازي: أن جماعات من العلماء ذكروا أنهم جربوا تراب صهيب للحمى، فوجدوه صحيحاً، قال: وأنا بنفسي سقيته غلاماً لي مريضاً من نحو سنة تواظبه الحمى، فانقطعت عنه من يومه، وذكره المطري عند ذكر صهيب، فقال: وفيه حفرة يؤخذ من ترابها، ويجعل في الماء، ويغتسل به من الحمى. وفي "الصحيحين": كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى إنسان، أو كانت به قرحة، أو جرح، قال بإصبعه هكذا. . . ووضع سفيان سبابته بالأرض، ثم رفعها، وقال: "باسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا بإذن ربنا"، ورواه أَبو داود بنحوه. وفي مسلم: "من أكل سبع تمرات ما بين لابتيها حين يصبح، لم يضرَّه شيء

حتى يمسي"، وفي "الصحيحين": من تصبَّح بسبع تمرات عجوة لم يضرَّه في ذلك اليوم سُمٌّ ولا سحر"، ورواه أحمد برجال "الصحيحين"، ولفظ مسلم: "إن في عجوة العالية شفاء، وإنها ترياق أول البكرة"، وعدد السبع من الأمور التي علمها الشارع، ولا نعلم حكمتها، فيجب الإيمان بها. قال ابن الأثير: العجوة ضرب من التمر أكبرُ من الصيحاني، يضرب إلى السواد، وهو مما غرسه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة بالمدينة، انتهى. وأنواع تمر "المدينة" كثيرة، جمعها بعضهم فبلغت مئة وبضعاً وثلاثين نوعاً، منها: "الصيحاني"، والحديث الذي روي فيه غريب لا يصح. وقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل، فلا يجدوا عالماً أعلمَ من عالم المدينة" رواه الحاكم. وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وقد كان ابن عيينة يقول: نرى هذا العالم مالك بن أنس، إلى غير ذلك (¬1). * * * ¬

_ (¬1) البيان الذي جاء به الترمذي في "جامعه"، باب: ما جاء في عالم المدينة، والحديث الذي روي عن أبي هريرة رواية، فهي: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحداً أعلمَ من عالم المدينة" هذا حديث حسن صحيح، وهو حديث ابن عيينة، وقد روي عن ابن عيينة. أنه قال في هذا من عالم المدينة إنه مالك بن أنس، قال إسحاق بن موسى: وسمعت ابن عيينة قال: هو العمري الزاهد، واسمه عبد العزيز بن عبد الله، وسمعت يحيى بن موسى يقول: قال عبد الرزاق: هو مالك بن أنس.

خاتمة

خاتمة قال العبد الخامل المتواري صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري عفا الله عنه ما جناه، واستعمله فيما يحب ويرضاه قد رحلت يوم الإثنين لسبع وعشرين قد خلت من شهر شعبان سنة خمس وثمانين ومئتين وألف الهجرية (¬1) -على صاحبها الصلاة والتحية-، غبَّ صلاة الظهر من محط رحلي "بهوبال" على جناح السلامة، مغتنماً لكل فائدة وكرامة، مريداً لتأدية حج الإسلام إلى "بيت الله الحرام"، ووصلت بعدما قطعت سبعة من المنازل في اليوم الثامن إلى مجرى عجلة النار المعروفة بالبابور (¬2)، وحملت عليها الأثقال، وركبتها يوماً وليلة، ثم نزلت بمحروسة "ممبي"، وهي ساحل البحر المحيط للحجاج، وأقمت بها منتظراً لحصول المركب. وتهيأ زاد السفر اثني عشر يوماً، ثم ركبت يوم الخميس تاسع رمضان قبيل صلاة العصر في المركب المسمى بـ"فتح السلطان"، ورفعوا لنجر [مرساة] السفينة ذلك اليوم مع توسم الظفر والسكينة. وكانت الريح يومئذ طيبة، فسار المركب ستين مرحلة بالتخمين، ثم سكن الريح، وركد المركب على ظهر البحر كالغدير الدائم لا يتحرك، كأنه الماء الراكد، ولركبه مُناكِد، حتى أتت ثلاثة أيام على هذا الحال، وتشتت لأهل المركب البال. فلما استيئسوا من مجراه، خلصوا نجياً، وختموا هذه الآية: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ¬

_ (¬1) المطابق 1868 الميلادية. (¬2) قطار سكة الحديد.

سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] كيف وقد قال تعالى: إثرها: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]، فتنفس من بركتها الريح، وذهب العنا والتبريح، وكان هو به ليلة الأحد ثاني عشر [12] رمضان ورأيت في هذه الليلة بالمنام: كأني أعانق من شجر السدر أشجاره، وأجتني منه ثماره، وثمره طيب نفيس، يهواه فؤاد كل صحيح ولقيس، فعبرت الرؤيا: ببلوغ الأرب، وحصول المقصود من أرض العرب. وقد اتفق في بدء ركوب البحر الغثيان والصداع إلى ثلاثة أيام، ثم حصلت الخفة للطبع في اليوم الرابع، ووجدت المركب بيتاً كالموطن، وشاهدت فيه معنى قول السادة الصوفية: السفر في الوطن. وكان ركاب السفينة نحواً من ثلاث مئة نفس، وكان الوضوء والغسل من ذلك الماء المالح، وأما الشرب، فكان أهل السفينة استصحبوا معهم الماء العذب من "ممبي"، وظهرت البثور في المنخرين من شدة ملوحة ماء البحر، وانجرت تلك إلى حمى البدن، حتى أفطرت ثلاثة أيام أو يومين، وأتممت بقية رمضان بالسفينة، بالاطمئنان والسكينة، واجتمع لي في هذا السفر الرحلة للحج، وصوم رمضان، وتمت لنا فيه عبادتان. ومررت في السابع عشر من هذا الشهر من يوم الرحيل من "ممبي" على أسقوطر [سقطرة] عدن، وباب اسكندر، وألقت السفينة مرساها على ساحل حُديدة، ولم نر شيئاً من "ممبي" إلى هنا من وعثاء السفر وكآبة الحضر. وكتبت بيدي في المركب كتاب "الصارم المنكي على نحر ابن السبكي للحافظ ابن قدامة المقدسي في مجلد وسط، ولم أضيع زمن ركوبي البحر عبثاً، وكان نزول "الحديدة" يوم الأحد في السادس والعشرين من رمضان، ونزلت بدار القاضي حسين ابن محسن، والشيخ زين العابدين -سلمهما الله تعالى، وجزاهما خيراً يوم الدين-، وحصل من جهتهم ما يحق للضيف، من الإكرام والإطعام والمروءة في الشتاء والصيف.

وأقمت هنا اثني عشر يوماً، أراجع كتب الحديث، وأكتبها بيدي ما أستطيع، ولم أذهب إلى المساجد إلا للصلوات الخمس؛ لكثرة اشتغالي بطلب العلم. وفشا خبر رؤية هلال شوال بالحُديدة يوم الثامن والعشرين من رمضان، بحسب رؤيتنا أهل السفينة، وضُربت المدافع للإعلام بالعيد، فعجبنا من ذلك، وتفحصنا عما هنالك، فقيل: اليوم يوم التاسع والعشرين، ولكنا لم نره مع تعمق البصر وإمعان النظر. وصليت صلاة العيد موافقة لأهل البلد، وذهب صبح يوم الربوع الذي كان بحسابنا يوم التاسع والعشرين إلى المصلى، وكان الإمام يومئذ والخطيب رجلاً صالحاً ذا شيبة يسمى: بعبد الرحمن الشافعي، وكان حاكم البلد أحمد باشا التركي حاضراً بالمصلى، وحزر الحاضرون بالمصلى، فكانوا نحواً من ألفين، من أهل البلد والغرباء في رأى العين، ومصلى الحديدة فضاء ليس به بناء غير المنبر للخطبة المبني من الآجر والطين، وكانت صلاة العيد على مذهب الشافعية. وفي أيام الإقامة بهذه البلدة أهديت نسخاً من كتابي: "الحِطَّة في ذكر الصحاح الستة" لعلمائها، وأهل العلم المقيمين بالمرادعة، وبيت الفقيه، وغيرهما، وكلهم استحسنوها، ودعوا لمؤلفها. وقال لي الشيخ علي بن عبد الله شارح البخاري -سلمه الله- حين لاقني: وجود مثلكم في هذا الزمان من نعم الله تعالى لو كانوا يعقلون. واستعرت رسائل السيد محمد الأمير حين الرحيل من حديدة؛ لأجل النظر والنقل، فمنها ما نظرت فيها واستفدت، ومنها ما نقلت واستنسخت، ثم طلعت على المركب بعد طلب العلم عاشر شوال من "الحديدة"، ومكثت فيه أنتظر رفع المرساة، ومعي في المركب الشيخ حسين الحسام إلى ثلاثة أيام نتذاكر العلم وأهله ومعدنه ومحله، حتى تدفقت بالبركات أمطارنا، وغردت بأحاديث الحبيب أطيارنا، وقد كنت اشتريت من الحديدة: 1 - كتاب: أقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم. 2 - وإرشاد

الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول. 3 - ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار. 4 - وفتح القدير في فني الرواية والدراية من التفسير، وغير ذلك مما شغفت به. ويوم الثلاثاء رابع عشر من شوال وقتَ الصبح رفعوا مرساة السفينة، فكان مجموع أيام الإقامة بالحديدة على هذا الحساب مع أيام المكث في المركب ثمانية عشر يوماً، ولم آلُ جهداً في هذه الحركة وأيام البركة من تحصيل العلم النافع، والخير الجاري. ولما سار المركب من الحديدة، سكن الهواء إلى ثلاثة أيام، ولم يتحرك المركب خطوة من محل القيام، وبعد ذلك هبت الريح الأزديب، وكان إذ ذاك زمان الحج أقرب، وجاء الغيم والمطر بالليل، ورجع المركب إلى عقبه، وسار إلى غير صوبه، فمكثنا بهذه الحالة في البحر إلى أيام آبسين عن الوصول إلى المأمول، وراجين من الله حصول المسؤول، مع أن "جدة" من "الحديدة" مسير أسبوع لا غير لبطيء السير، ولكن وصل مركبنا إليها بعد نحو شهر حتى ضاقت علينا الأرض بما رحبت من طول الركوب، ومخالفة الهواء وقلة المطعوم والمشروب، حتى قنعت في اليوم والليلة بجرعة من الماء، ولقيمات من الأرز الذي لم يخالطه شيء من السمن والإدام. وبلغت الأنفس التراقي في تلك الأيام، وكانت الأيدي إلى السماء مرفوعة، والأعين والآذان كأنها على طريق مجيء الريح الطيب ورؤية "جدة" موضوعة، ثم سمع الله قول هؤلاء الآيسين، وهبت لنا ريح طيبة من جهة رب العالمين إلى يومين، وكانت بالغاية ضعيفة بلا مين، ولكنه أخرج المركب من مجمع الجبال المستغرقة في الماء إلى ساحل النجاة. ورأينا يوم السبت في المركب هلالَ ذي القعدة، ويوم الثالث منه تقوى الريح قليلاً، وجرى المركب. ويوم الثلاثاء رابع ذي القعدة من السنة المذكورة بعد صلاة الصبح اغتسلنا وأحرمنا بالعمرة مع نية التمتع من محاذي "يَلَمْلَم"، وذهب عنا ما كنا نجده من

الغم والألم، ورفعنا الأصوات بالتلبية، وأخلصنا العمل لله والنية، وما حصل لنا من السرور بهذا الإحرام لا يمكن شرحه بالأقلام. وفي هذه الحالة لما قربنا من "جدة"، قرب المركب ليلاً إلى جبل في الماء، فاضطرب المعلم له اضطرباً شديداً، وربط أشرع السفينة بالأدقال، وخفت منه الأثقال، وعمل كل تدبير خطر له بالبال، وأرسى المركب في محله في الحال. وأنزل الملاحون أقرب المركب لدرك حقيقة الحال، وسعوا إلى جوانبه، وعلموا أن المركب لو سار قليلاً، لتصادم بالجبال، فمضى هذا الليل للركاب، في غاية الاضطراب، وتمت تلك الليلة بالاستغفار وإخلاص النية والتوبة، وكلمة الشهادة على الألسن، وسلموا أنفسهم للموت، ولم يكن هذا الليل أقل من يوم القيامة، ولكن رحم الله علينا بالسلامة حتى طلع الفجر، وشاهدنا ذاك الجبل في ضوء النهار. ومن العجائب التي لا ينبغي إخفاؤها: أن الملاحين إذا ترددوا في أمر المركب من جمود الريح أو هبوبها مخالفة أو شيئاً من الخوف على السفينة وأهلها، كانوا يهتفون باسم الشيخ عيدروس وغيره من المخلوقين، مستغيثين ومستعينين به، ولم يكونوا يذكرون الله -عز وجل- أبداً، أو يدعوه بأسمائه الحسنى، وكنت إذا سمعتهم ينادون غير الله، ويستعينون بالأولياء، خفت على أهل المركب خوفاً عظيماً من الهلاك. وقلت في نفسي: يا لله العجب! كيف يصل هذا المركب بأهله إلى ساحل السلامة! فإن مشركي العرب قد كانوا لا يذكرون آلهتهم الباطلة في مثل هذا المقام، بل يدعون الله تعالى وحده غيرَ مشركين به، كما حكى عنهم سبحانه في محكم كتابه المبين: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65]، وهؤلاء القوم الذين يسمون أنفسهم المسلمين يدعون غيرَ الله، ويهتفون بأسماء المخلوقين، ولقد صدق الله تعالى فيما قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. ولكن لما كانت رحمة الله سبقت غضبه، أوصل أرحمُ الراحمين المركب

بفضله كيفما اتفق بعد اللتيا والتي إلى المنزل المقصود، ورفعوا مرساة السفينة صبحَ تلك الليلة الهائلة إلى "جدة"، وألفوا الريح موافقة، فطوى المركب الطريق الباقية في يوم وليلة، ووصل إلى ساحل "جدة" حين صلاة الظهر من يوم الأحد تاسع ذي القعدة، والحمد لله على ذلك حمداً كثيراً. والذي حصل لنا من مسرة القلب وإشراق الوجه والحبور إذ ذاك لا يعلم حقائقها إلا العليم بذات الصدور، وكيف؟ فقد ظهرت صورةُ المراد بعد شهرين غبَّ اليأس، وكنا نقول: يا رب الناس! أقمْ سفينتنا على "جدة" كما استوت سفينة نوح -عليه السلام- على الجودي، فليس ذلك بعزيز على فضلك المجدي. وحين نزلت بجدة أقصت بها ثلاثة أيام للاستراحة من تعب السفر واستكراء الجمال لحمل الأثقال. ووجدت بجدة: الماكسين من جهة الترك ظالمين على الناس بأخذ أموالهم بالباطل. ثم يوم الربوع ثاني عشر ذي القعدة ركبنا من "جدة" إلى حدة بعد صلاة المغرب، ومن حدة إلى كعبة المقصود، وعتبة الجود، بعد جمع صلاة الظهر والعصر، ودخلنا البلد الأمين بعد نصف الليل مع السيد أبي بكر المطوِّف، ونزلنا عن الجمال، ومشينا على الأقدام، وتركنا الأحمال والأثقال مع الخدام ولم نعرج على شيء، وقصدنا المسجد الحرام، ودخلنا "باب السلام"، وأدينا أعمال العمرة من الطواف والسعي والحلق على الترتيب. وتيسر لنا -بحمده تعالى- ما كنا نبغي من تقبيل الحجر، واستلام الركن في كل شوط بخلو المطاف والمسعى وغيرهما من كل مقيم وغريب. ومن أول نظرة وقعت إلى جمال "الكعبة المكرمة" ذهلنا عن مصائب السفر ومشاقه كلها، كأنما لم نُشَكْ بشوكة في الطريق، وهكذا شأن كل مشوق وصديق، كيف والكعبة الزهراء -زادها الله ضياء وسناء- ياقوته كحلية تجلو بصائر أعين الصلحاء، مجلوة للناظرين في حلة من الكرامة سوداء.

وبعدما فرغنا عن السعي بين الصفا والمروة، رأينا أن نتم الليل بجوار الكعبة، فجاورناها إلى الفجر بالتهجد والدعاء والاستغفار إلى الإسفار، وصلينا الصبح مع أول جماعة شافعية، ثم رجعنا إلى المنزل، وحلقنا الرأس، ولبسنا المخيط، وحللنا الإحرام. ومكثنا بمكة منتظرين الحج؛ لأن زمان الرحلة إلى "المدينة" قد مضى بتأخير المركب عن الوصول، ولولا ذلك، لقدمنا الرحيل إلى المسجد النبوي، وسعدنا بالسلام على القبر المطهر المنور الأحمدي، ولم نترك الاشتغال بالعلم في هذه الفرصة القليلة؛ أعني أواخر ذي القعدة، بل حصلنا فيها بعض الكتب والفوائد. ولما كان يوم التاسع والعشرين من الشهر المذكور، شهد رجال عند قاضي "مكة" برؤية هلال ذي الحجة، واستقر يوم الثلاثين منه أول يوم من ذي الحجة، ولم ير أهل "مكة" وغيرهم من المسافرين الهلالَ إذ ذاك، ولكن اتبع الناس القاضي فيما هناك، فأحرمتُ يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحجة، وتوجهت إلى منى، وبلغت المنى، وكنت ماشياً، ثم ركبت منها إلى عرفة، وفرغت من أعمال الحج على الترتيب المذكور في هذا المنسك، وعلى الوجه المأثور بالسنة الصحيحة. وقرأت: "الحزب الأعظم" لعلي القاري كلَّه قبل الوقوف بعرفة، ثم وقفت بها، ولم آلُ جهداً في الدعاء والاستغفار إلى الغروب، والتضرع والابتهال إلى علام الغيوب، والمأمول من الله القبول، ثم أفضت منها إلى مزدلفة، ومنها إلى منى، وأديت بقية الأعمال، وأتيت بها في أحسن الأحوال، ومن غاية الشغف بعلوم السنة لم أترك كتابة العلم بعرفة ومنى في أيام إقامتها، لكن في غير أوقات المناسك. ولما رجعت يوم الثالث عشر إلى مكة لم أجد قافلة تذهب إلى "المدينة"، فأقمت منتظراً للرفقة. وشددت الرحل يوم الخامس عشر من شهر صفر سنة ست وثمانين ومئتين وألف الهجرية من "مكة المكرمة" إلى "المدينة المنورة"، ووصلتها في عشرين

يوماً خلافَ الميعاد؛ لأن مسيرتها تكون اثني عشر يوماً غالباً في المعتاد، ولكن الجمالين لم يكونوا معنا مجاملين، فتركوا القافلة "بعسفان"، واضمروا الشر والعدوان، فكفى الله المؤمنين الغرباء شرهم والبأساء، وأوصل الجميع مع سلامة المال والروح إلى طابة، وجعل دعوتهم مستجابة. واتفقت الإقامة بهذه البلدة المباركة إلى أسبوع، وتيسر لي حضور المسجد النبوي، والسلام على المرقد المنور المصطفى وأصحابه، وزيارة بقيعه، وشهداء أحد، سيما سيد الشهداء حمزة -رضي الله تعالى عنه-، وغير ذلك من المساجد والآبار، خصوصاً مسجد قباء، على الوجه المأثور المسنون بلدة طيبة ملئت بأنواع البركات، وآثار من الرحمة وأنوار من التجليات، كيف والأنوار الإلهية والبركات النبوية تترشح من جدرانها، والسكينة والوقار تتنزل كل حين على بنيانها. واشتريت بالمدينة: كتاب "المدخل" لابن الحاج، وهو كتاب يحتوي على رد بدع المتفقهين ومحدثات المتصوفين. وأحرمت بالعمرة حين الرجوع منها، ووصلت "مكة" يوم الثاني عشر من بدء السفر نصف الليل كما وصلت إليها من حدة، ووجدت المطاف والمسعى خالياً عن الناس، فأتيت بأعمالها على ترتيبها، وحصلت لي -بحمد الله تعالى- حجة وعمرتان. وكانت مدة إقامتي بمكة وجواره تعالى أولاً وآخراً نحواً من أربعة أشهر، وعندي أن حاصل عمري كان تلك الأيام، والذي مضى في غيرها لم يكن إلا منام أو أحلام، وأرجو من الله تعالى عودَ هذه الأزمان، وقضاء بقية الحياة في جوار الرحمن. وقد كنت أقمت بمكة بمحلة أهل الهند، وأغدو وأروح إلى الحرم المحترم من "باب الزيادة"، وأذكر قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وأرجو منه سبحانه أن يجعلني من أهل تلك السعادة، وكثيراً ما أمر على "باب السلام" مبتغياً كتب العلم، وأقول في نفسي: ادخلوها بسلام.

وقد اشتريت هناك: 1 - كتاب الزرقاني شرح الموطأ، 2 - وحسن المحاضرة في أحوال مصر والقاهرة، 3 - وتاريخ الخميس والبيجوري على الشمائل، 4 - والتعريفات، 5 - ومغني اللبيب، 6 - والرياض المستطابة، 7 - وبهجة المحافل شرح الشمائل، 8 - ومواهب الرحمن، 9 - وأذكار النووي، 10 - وكتاب التلخيص، إلى غير ذلك من كتب الحديث والعربية والتواريخ، واستكتب بعض الرسائل المختصرة والمطولة بيدي. وطفت للوداع في أوائل جمادى الأولى، وسرت إلى "جدة"، وركبت المركب المسمى بـ"فيض الباري"، وكان يسع تسع مئة [900] نفس سوى الأحمال والأثقال، ومررت بساحل "الحديدة" في هذا الرجوع أيضاً، وأقام المركب هناك ثلاثة أيام لبعض الحوائج، ثم سار إلى "ممبىء". وكان الزمان زمانَ حر شديد، وكان الريح سموماً، وماء البحر ناراً، فمرض أهل المركب إلا من عصمه الله، ومات بعض القوم من شدة الحر إلى أن طوى المركب نصف الطريق، ومر من عدن، فجاء البرد والمطر، وذهب المرض والحر، فلما آن المركب بساحل "ممبي": ضل المعلم الطريق لأجل غيبوبة الشمس وتراكم السحاب، وكان من قوم النصارى، وصار ركاب السفينة لذلك حيارى. وكان الموسم موسم طوفان وتلاطم البحر والأمواج، فكسرت حجرات المركب التي كانت فوق التتق من صدمات الموج، وتحركت خشبات المركب، واستيقن أهله بمجيء الموت، وصارت السفينة في البحر كريشة في الفلاة، وضاقت الأنفس من حلاوة الحياة، حتى جاءت رحمة الله تعالى، وهو أرحم الراحمين. فأخرجت الشمس من مطلعها، وصح حساب الرصد لمعلم المركب بطلوعها، وأجرى السفينة على سواء الطريق، وجاء مركب البريد من نحو ممبىء، فلحق بنا وسار بهذا المركب حتى أوصله إلى ساحل النجاة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وقد شاهدت في سفري هذا عجائب، ورأيت فيه عدة مصائب، واختبرت الناس، وميزت السفهاء من الأكياس، ووقفت على رسوم القوم وبدعهم ومحدثاتهم، وانهماكهم في تحسين الملابس والمطاعم والمناكح والمساكن، وقصر هممهم على ذلك، وعدم رفع رؤوسهم إلى السنن، وما مات منها، وضعف الإسلام، وهذا شين لأهل الدين، لا سيما أهل مكة والمدينة الذين هم في خير بقاع الأرض، وهم قدوة المسلمين، خصوصاً الأئمة منهم. وقد رأيت منهم الإسراف المنهي عنه: في طول الذيول والثياب وغيرها، حتى رأيت العمائم كالأبراج، والكمائم كالأخراج، وبِدَعاً لا تُحصى، ومحدَثات لا تستقصى، فرحم الله امرأً اجتنب عن ذلك، وصان نفسه عما هنالك، ونهى القوم عن هذه المناهي والمنكرات، وجمعهم على التمسك بالسنة والكتاب، وذكر مقامه ومقامهم بين يدي رب الأرباب، وخاف الله في كل ما يأتي به ويذر، في الحضر والسفر، والحياة والممات وكل الأحوال. وفي اثنين وعشرين يوماً وصلنا من "جدة" إلى "ممبي"، وأقمنا بها بكثرة المطر أياماً، ووصلنا إلى محط الرحال "بهوبال" في أوائل شهر جمادى الآخر على البابور من تلك المنازل التي مررنا بها أولاً. وكانت مدة الذهاب والإياب ثمانية أشهر، والحمد لله على ذلك، وكان يوم الذهاب من "بهوبال" ويوم الرجوع إليها يوماً واحداً، وهو يوم السبت، فكأن هذا السفر المبارك ما كان إلا يوماً واحداً. ونحن الآن مقيمون بـ"بهوبال" إلى ما شاء الله المتعال، والرجاء من ربنا ذي الجلال تيسر المقام على الدوام، إلى وقت الحمام، ببيت الله الحرام، أو بمدينة خير الأنام، عليه الصلاة والسلام، وبالله التوفيق، وهو الهادي لأقوم طريق. * * *

§1/1