رحلة الشنقيطي إلى إفريقيا ط عالم الفوائد

الشنقيطي، محمد الأمين

مؤسسة سُلَيْمَان بن عبد الْعَزِيز الراجحي الْخَيْرِيَّة SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1426 هـ دَار عَالم الْفَوَائِد للنشر والتوزيع مَكَّة المكرمة ص. ب: 2928 هَاتِف: 5505305 - فاكس: 5542309 الصَّفّ والإخراج دَار عَالم الْفَوَائِد للنشر والتوزيع

مقدمة المحقق

المقَدِّمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين، وبعد: فقد سافر الشَّيخ العلامة المفسر الأصولي محمَّد الأمين بن محمَّد المختار بن عبد القادر بن محمَّد بن أحمد نوح بن محمَّد بن سيدي أحمد بن المختار الشنقيطي الجَكَني -رحمه الله- المولود سنة (1325 هـ) من بلاده لسبع مضين من جمادى الآخرة، من سنة (1367 هـ) قاصدًا بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، ثم زيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعدها يرجع إلى بلاده، ولكن الله شاء للشَّيخ رحمه الله أن يستقر في المدينة النبوية، ويقيم دروسًا حافلة في المسجد النبوي وغيره، فانتفع منه القاصي والداني، وبعد تمام ثماني عشرة سنة كاملة (¬1) توجه الشَّيخ رحمه الله على رأس وفد يتألف من أربعة أفراد (ثلاثة من الجامعة الإسلامية وواحد من رابطة العالم الإسلامي) موفدين من الجامعة والرابطة. أعضاء الوفد: 1 - العلامة محمَّد الأمين الشنقيطي رحمه الله رئيسًا. ¬

_ (¬1) كما صرح بذلك الشَّيخ عطية رحمه الله في كلمة للإذاعة الموريتانية، وهي ضمن محتويات الشريط السابع من أشرطة هذه الرحلة. كما جاء في تاريخ بعض اللقاءات بأنها كانت في اليوم الثامن من شهر جمادى الآخرة، وبعضها قبل ذلك. وهذا يعني أن تلك الرحلة كانت سنة (1385 هـ).

الدول التي زارها الوفد

2 - الشَّيخ عطيه محمَّد سالم عضوًا. 3 - الشَّيخ محمَّد أمان الإثيوبي عضوًا. (وهؤلاء الثلاثة من الجامعة الإسلامية). 4 - سيدي الأمين المامي الجكني عضوًا. من الرابطة. الدول التي زارها الوفد: توجه الوفد إلى تسع دول إفريقية، وهي: السودان، نيجيريا، الداهومي (¬1)، النيجر، مالي، السنغال، موريتانيا، فولتا العليا، تشاد. أهداف الوفد: يمكن حصر الأهداف التي سافر الوفد من أجلها في ثلاثة أمور (¬2)، وهي: 1 - تقوية أواصر الرابطة الإيمانية بين المسلمين. 2 - بث الوعي بين أبناء المسلمين في تلك البلاد. 3 - التعرف على أحوال المسلمين. ¬

_ (¬1) هكذا سماها الشَّيخ عطية رحمه الله. (¬2) وذلك بناءً على ما صرح به الشَّيخ عطية رحمه الله في عدد من المناسبات في تلك الرحلة كما هو مسجل في الأشرطة.

الحفاوة التي قوبل بها الوفد

الحفاوة التي قوبل بها الوفد: لعل من أبرز ما يُلفت انتباه المستمع لأشرطة هذه الرحلة هو تلك البهجة الغامرة التي عبر عنها العلماء والأدباء والشعراء بكلماتهم وقصائدهم، إضافة إلى ما يصفه الشَّيخ عطية رحمه الله من تجمهر النَّاس وحضورهم محاضرات الشَّيخ الأمين رحمه الله، وقد التقى أعضاء الوفد بالعلماء، والقضاة، ورئيس الدولة، وعدد من الوزراء، كما شُكِّل وفد في موريتانيا لمرافقة الوفد في تنقلاته في البلاد شرقها وشمالها. القدر الذي وصلنا عبر التسجيل الصوتي مما ألقي في هذه الرحلة: إن مجموع ما وصل إلينا من الأشرطة المسجلة في هذه الرحلة عشرة أشرطة فحسب، وهو عدد قليل إذا تذكرنا أن الوفد قد زار تسع دول، إضافة إلى إحدى عشرة عاصمة من عواصم المديريات في شمال وشرق موريتانيا (¬1). توصيف محتويات الأشرطة: يمكن أن أُلخص مضمون هذه الأشرطة في الأمور الآتية: 1 - كلمات ومحاضرات للشَّيخ الأمين رحمه الله. ¬

_ (¬1) قام الوفد برحلتين في موريتانيا ابتداء من العاصمة وانتهاء إليها، الأولى: إلى شرق البلاد، وقد شملت: العيون، والنعمة، والمجرية، وكيفه، وقرو، وكيهيدي، وألاق، وأبو تلميت. والثانية إلى شمال البلاد وقد شملت: نواذيب، وزويرات، وأطار.

2 - أجوبة عن سؤالات وُجهت للشَّيخ رحمه الله. 3 - محاضرات (قليلة) لبعض أعضاء الوفد. 4 - كلمات ترحيبية وقصائد قيلت في بعض المناسبات التي قوبل فيها الوفد. 5 - ما يصاحب ذلك غالبًا من كلام للشَّيخ عطية رحمه الله يصف المقام والمناسبة، أو يُعرِّف بالوفد، أو يبين مهمته، أو غير ذلك مما يتصل بالجانب الإعلامي. وأمَّا على سبيل التفصيل فعلى النحو الآتي: الشريط الأوَّل: محاضرة للشَّيخ رحمه الله فسر فيها الآيات (21 - 24) من سورة البقرة وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} إلى قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}. الشريط الثَّاني: كلمات ترحيبية، إضافة إلى سؤالات وُجهت للشَّيخ رحمه الله، ثم أجاب عنها. الشريط الثالث: كلمة افتتاحية، وأسئلة وُجهت للشَّيخ رحمه الله وأجاب عنها، إضافة إلى بعض المداخلات والكلام للشَّيخ عطية رحمه الله. الشريط الرابع: كلمة أو محاضرة للشَّيخ الأمين رحمه الله اشتملت على ثلاثة محاور: الأوَّل: بيان المعتقد الصَّحيح في آيات الصفات.

الثَّاني: بيان الموقف الصحيح من الحضارة الغربية. الثالث: بيان أن الإسلام دين القوة والتقدم في جميع الميادين. بعد ذلك وُجهت بعض الأسئلة للشَّيخ رحمه الله، وأجاب عنها. الشريط الخامس: محاضرة لأحد أعضاء الوفد. الشريط السادس: محاضرة للشَّيخ الأمين رحمه الله في موضوع الرابطة الإيمانية، وهي مترجمة إلى اللُّغة الهوساوية. الشريط السابع: ويتضمن: 1 - بعض كلمة أو محاضرة للشَّيخ رحمه الله يبين فيها الإسلام دين القوة والتقدم في جميع الميادين. 2 - كلمة موجهة للنساء يبين فيها تكريم الإسلام للمرأة، إضافة إلى كلمة للشَّيخ عطية رحمه الله. الشريط الثامن: محاضرة للشَّيخ الأمين رحمه الله تتضمن ستة محاور: 1 - الاعتقاد الصَّحيح في نصوص الصفات. 2 - مفهوم "لا إله إلَّا الله". 3 - بيان أن الإسلام دين القوة والتقدم في جميع الميادين. 4 - بيان الموقف الصحيح من الحضارة الغربية. 5 - بيان أن الإسلام ينظم جميع شؤون الحياة.

عملنا في هذه المادة

6 - الكلام على الرابطة الإيمانية. الشريط التاسع: مكرر مع الشريط الأوَّل. الشريط العاشر: كلمة أو محاضرة للشَّيخ الأمين رحمه الله في موضوع الرابطة الإيمانية ألقاها في مالي (مترجمة). إضافة إلى بعض الكلمات الأخرى لغيره. عَمَلُنا في هذه المادة: 1 - عهدت إلى بعض طلبة العلم فقاموا مشكورين بتفريغ محتويات الأشرطة. 2 - بعد مراجعة ما تمت كتابته، ومقابلة ذلك بالأشرطة المسجلة اقتصرت على المحاضرات والكلمات والفتاوى التي صدرت من الشَّيخ الأمين رحمه الله دون غيرها، ذلك أن الهدف من إخراج هذه الرحلة إنَّما هو إدخالها ضمن الفهرس الشامل لجميع آثار الشَّيخ العلمية. 3 - خرَّجتُ الأحاديث الواردة في هذه المحتويات وعزوت الأبيات والشواهد الشعرية، ولم أتتبع جميع المسائل العلمية من جهة التوثيق من المصادر، كما فعلت في دروس الشَّيخ رحمه الله في التفسير الذي ألقاه في المسجد النبوي، وذلك لأنَّ عامة المسائل المذكورة في هذه الرحلة موجودةٌ ضمن التفسير المشار إليه وقد وثقتها هناك، ويمكن الرجوع إليها عن طريق الفهرس المشار إليه. 4 - جعلت كل محاضرة على حدة، وأشرت في الحاشية إلى

الشريط الذي وُجدت فيه، أما السؤالات فقد جمعتها مع أجوبتها، وجعلتها متسلسلة تالية المحاضرات، كما أشرت في الحاشية إلى مواضع وجودها من الأشرطة، وجعلت لها ترقيمًا متسلسلًا، وصدرت الإجابة بـ (الجواب). ولم ألتزم كتابة نص السؤال حرفيًّا، بل قد أختصر فيه بعض الشيء إذا دعت الحاجة إلى ذلك. 5 - أَثْبَتُّ كلام الشَّيخ رحمه الله بنصه (¬1)، وإذا وُجد مسح أو انقطاع في التسجيل أو جملة أو كلمة غير واضحة فإنّي أجعل مكان ذلك نقطًا مع الإشارة في الحاشية، ولربما أثبتُّ زيادة يتم بها المعنى، وأجعلها بين معقوفين مع الإشارة لذلك في الحاشية، كما حذفت الكلمات الزائدة التي تجري على لسان الشَّيخ رحمه الله في ثنايا الكلام، كقوله بين حين وآخر: "مثلًا"، وكذا بعض العبارات المكررة. هذا وأسأل الله أن يرحم الشَّيخ ويعلي درجته في الجنَّة، وأن يجزي خير الجزاء كل من أعان على إخراج هذا العمل إنَّه سميع مجيب، وصلى الله وبارك على نبينا محمَّد وعلى الله وصحبه وسلم. تم الفراغ من مراجعته ليلة الأوَّل من محرم من عام (1424 هـ). وكتبه: خالد بن عثمان السبت ¬

_ (¬1) حتَّى الآيات التي تلاها الشَّيخ على قراءة نافع.

القسم الأول (المحاضرات والكلمات)

القسم الأول (المحاضرات والكلمات)

[1] تفسير الآيات (21 - 24) من سورة البقرة

[1] تفسير الآيات (21 - 24) من سورة البقرة

(¬1) أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم، يقول الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة / 21 - 24]. تلونا عليكم هذه الآية الكريمة من أول سورة البقرة، وإن كان الكلام عليها لا يسعه يوم ولا بعض يوم، إلَّا أنا يزيد أن نذكر حولها نماذج يستبين بها النَّاس بعضًا من أضواء القرآن. أولًا: ننبه إخواننا على فضل القرآن العظيم؛ لأنَّ فيه جميع خير الدُّنيا والآخرة، فعلينا جميعًا أن نتدارسه ونتعلمه، حتى نعتقد عقائده، ونحل حلاله، ونحرّم حرامه، ونتأدب بآدابه، وننزجر بزواجره، ونتربى بما فيه من مكارم الأخلاق، وأن نتعظ بما فيه من العبر، والمواعظ، والأمثال، وقصص الأمم الماضية. الله -جل وعلا- في هذه السورة الكريمة -التي تلونا منها هذه الآيات- التي هي سنام القرآن، السورة العظيمة التي بين الله -جل وعلا- فيها ومهَّد فيها جميع دين الإسلام، ذكر فيها أخبار الأمم الماضين، وأخبار الجنَّة والنَّار، وأقام فيها براهين العقائد، ومناظرة ¬

_ (¬1) من الشريط الأوَّل.

الخصوم، وذكر فيها دعائم الإسلام من صلاة وصوم وزكاة وحج، وذكر فيها العمرة، وأكل الحلال، والأحوال الشخصية من نكاح وطلاق وخُلْع، والمعاملات كالديون والربويات والوثائق والشهادات والرهون، وما جرى مجرى ذلك. نلفت أنظار إخواننا إلى التَّرتيب الغريب العجيب الذي فعله الله في هذه السورة: أولًا ابتدأ الله هذه السورة الكريمة بحروف مقطعة {الم (1)} وهذه الحروف المقطعة لا شك أنَّها تُلفت نظر السامع إلى ما يُتكلم به بعدها وتجعله متعطشًا عليه. والآن ليس مرادنا الكلام على الحروف المقطعة لأنَّه كلام يستغرق الوقت كله، ولكن لما ذكر الله هذه الحروف المقطعة وابتدأ بها هذه السورة العظيمة قال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيبَ فِيهِ} فبين أن هذا الكتاب المشتمل على خير الدُّنيا والآخرة الذي هو النور المبين، والحبل المتين، الذي أوضح الله به العقائد، والحلال والحرام، وجميع خير الدُّنيا والآخرة لا تتطرقه الرِّيب ولا الشكوك؛ لأنَّ معجزته أوضح من أن يتطرق إليه شك. ومعروف أن للسائل أن يقول: كيف يقول: {لَا رَيبَ فِيهِ} بـ "لا" التي لنفي الجنس، مع أن قومًا ارتابوا فيه وحصل منهم ريب، كقوله في قوم: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} [التوبة / 45]؟ ونحن نقول: الجواب: أن القرآن بالغ من كمال المعجزة وإيضاح

المعجزة ما لا تتطرقه الرِّيب ولا الشكوك، وإنَّما ارتاب فيه المرتابون لعمى بصائرهم، كما نص الله على ذلك في سورة الرعد: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)} [الرعد / 19]. فصرح بأن من لم يعلم أنَّه الحق إنَّما منعه من ذلك عماه، ومعلوم أن عدم رؤية الأعمى للشمس لا تقدح في كون الشَّمس لا ريب فيها. إذا لم يكن للمرء عين صحيحة ... فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر (¬1) ثم بعد أن بين أن هذا القرآن لا ريب فيه جعل جميع الأمة التي أنزل إليها هذا المحكم المنزَّل ثلاث طوائف. جميع الأمة التي أنزل إليها هذا المحكم المنزَّل الذي هو مفتاح الجنَّة ومفتاح النَّار، لا يدخل أحد الجنَّة إلَّا عن طريق العمل بهذا القرآن، ولا يدخل أحد النَّار إلَّا عن طريق الإعراض عنه، قال جل وعلا في المعرضين عنه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} أي كائنًا ما كان {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)} [هود / 17]. وقال جل وعلا فيمن أُورثوه وعملوا به: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَينَ يَدَيهِ إِنَّ ¬

_ (¬1) البيت في نفح الطِّيب (1/ 68)، وأورده الشَّيخ رحمه الله في دفع إيهام الاضطراب ص 7، وهو في العذب النمير عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر / 29 - 32]، فبين أن إيراثه علامة الاصطفاء، ثم قال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيرَاتِ} [فاطر / 32] ثم بيّن أنّ هذا القرآن هو أعظم نعمة {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)}. ثم جاء بوعده الصادق: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاورَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)} [فاطر / 33] الواو في قوله: {يَدْخُلُونَهَا} شاملة للأصناف الثلاثة وعلى رأسهم الظالم لنفسه، وكان بعض العلماء يقول: "حُقَّ لهذه الواو أن تكتب بماء العينين" (¬1)؛ لأنَّ واو {يَدْخُلُونَهَا} فيها وعد صادق بالجنة للجميع وعلى رأسهم الظالم لنفسه. وكان بعض العلماء يقول: "ما الحكمة في تقديم الظالم لنفسه قبل السابق والمقتصد، والله حكيم لا يقدِّم إلَّا لنكتة تستوجب التقديم"؟ ! (¬2). كان بعض العلماء يقول: هذا مقام إظهار الكرم، فقدَّم الظالم لئلا يقنط، وأخّر السابق بالخيرات لئلا يعجب بعمله فيحبط. وكان بعض العلماء يقول: أكثر أهل الجنَّة الظالمون لأنفسهم؛ لأنَّ الله يقول: {إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص / 24]. ¬

_ (¬1) انظر: الأضواء (6/ 165)، العذب النمير (تفسير الآية 47 من سورة البقرة). (¬2) انظر: القرطبي (14/ 349)، الأضواء (6/ 165)، العذب النمير (تفسير الآية 47 من سورة البقرة).

فبدأ بهم لأكثريتهم. الشاهد أن الله بين في آيات البقرة التي تلوناها أن الأمّة بالنسبة إلى هذا الكتاب المنزل الذي هو أعظم نعمة أنزلها الله من السماء إلى الأرض، وعلمنا أن نحمده على إنزالها في غير ما آية، كقوله في أول سورة الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)} [الكهف / 1]، أي: لم يجعل فيه اعوجاجًا كائنًا ما كان، لا من جهة الألفاظ، ولا من جهة المعاني، فألفاظه في غاية الإعجاز والسلامة من العيوب والوصمات، ومعانيه كلها في غاية الكمال، أخباره صدق، وأحكامه عدل {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام / 115] أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام = بين أن الأمة بالنسبة إليه ثلاث طوائف: الطائفة الأولى -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منها-: طائفة آمنت به ظاهرًا وباطنًا، وأبصرت هذا النور، فاهتدت بهذا النور، واتصلت على ضوئه بخالق الكون، فرأت الحق حقًّا والباطل باطلًا، والنافع نافعًا والضار ضارًّا، والحسن حسنًا، والقبيح قبيحًا. قال في هذه الطائفة: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة / 2 - 4] ثم أثنى عليهم بقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة / 5]. ثم بين أن هناك طائفة أخرى من الطوائف الثلاث بالنسبة إلى هذا القرآن الذي لا ريب فيه أنَّها طائفة -والعياذ بالله- كفرت به ظاهرًا

وباطنًا، قال فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} [البقرة / 6 - 7] وهذه الطائفة -والعياذ بالله- إنَّما عميت من أنوار القرآن لأنَّها خفافيش البصائر، والخفاش لا يرى الشَّمس. خفافيش أعماها النهار بضوئه ... ووافقها قِطْع من الليل مظلم (¬1) مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نورًا ويعمي أعين الخفاش (¬2) كما بينا كما في قوله في سورة الرعد: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)} [الرعد / 19]. والطائفة الثَّالثة: وهي أخس الطوائف -هي طائفة آمنت به ظاهرًا، وكفرت به باطنًا فكانت من المذبذبين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهي طائفة المنافقين، وهي أخس الطوائف، ذكرها الله في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} [البقرة / 8 - 10]. ¬

_ (¬1) البيت لابن الرومي، وهو في ديوانه (1/ 157)، تحقيق حسين نصار، ولفظه هناك: خفافيش أعشاها نهار بضوئه ... ولاحمها قطع من الليل غيهب (¬2) البيت في المغني لابن قدامة (13/ 323)، حياة الحيوان للدميري (1/ 296)، صبح الأعشى (2/ 88)، الأضواء (2/ 274).

وأطال في كلامه في هذه الطائفة لأنَّها أخس الطوائف، فضرب لها الأمثال بمثل النَّار ومثل الماء {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة / 17] ومثل الماء في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [البقرة / 19]. ولا يسعنا المقام في أن نتكلم على المثلين لأنَّه يستغرق وقتًا طويلًا. والشاهد أن الله لمَّا نوه بهذا القرآن العظيم، وبينَ أنَّه الكتاب الأعظم الذي لا ريب فيه، وبيّن أن النَّاس بالنسبة إليه ثلاث طوائف: طائفة طيبة، وطائفتان خبيثتان، ليس المقصود من القرآن في تقسيم هذه الطوائف مجرد تاريخ ولا إخبار، بل مجرد وعظ وإرشاد ليعلم خلقه ويبيِّن لهم أنهم يجب عليهم أن يُسارعوا إلى أن يكونوا من الطائفة الطيبة، ويتباعدوا كل التباعد من الطائفتين، المقصود تنبيه المسلمين على أن يكونوا من المتقين الذين يؤمنون بالغيب ومما رزقناهم ينفقون، وأن يتباعدوا كل التباعد أن يكونوا من طائفة الكافرين أو طائفة المنافقين. لا شك أن المسلم إذا علم هذا التقسيم من خالق الكون -جل وعلا- أنَّه يتشوف بتعطش إلى الطَّريق التي يجتنب بها الكينونة مع الطائفتين الخبيثتين، والصيرورة مع الطائفة الطيبة، لا شك في هذا؛ لأجل هذا أتبع الله هذا التقسيم بإيضاح كلمتين عليهما مدار خير الدُّنيا والآخرة، وجميع الهدى، والصلة الكاملة بمن رفع هذه السماء ودحا هذه الأرض، وفتح هذه العيون في أوجهكم، ففرق أصابعكم وشدَّ رؤوسها بالأظفار، وأنتم في بطون أمهاتكم من غير أن يحتاج إلى أن

يشقها {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر / 6]. هاتان الكلمتان هما: (لا إله إلَّا الله محمَّد رسول الله). فبدأ بالكلمة الأولى التي هي (لا إله إلَّا الله) وبينها لأنها مركبة من نفي وإثبات، (لَّا إله) نفي، (إلَّا الله) إثبات. ومعنى نفيها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات، ومعنى إثباتها: إفراد خالق هذا الكون -جل وعلا- بالعبادة. وأصل العبادة في لغة العرب: الذل والخضوع، وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته (¬1): تُباري عتاقًا ناجيات وأتبعت ... وظيفًا وظيفًا فوق مَوْرٍ مُعَبدِ أي: مذلل لدوس الأقدام والأرجل. أما العبادة في اصطلاح الشرع فهي: التقريب إلى خالق هذا الكون بما أمر أن يتقرب له به على الوجه الشرعي على لسان محمَّد - صَلَّى الله عليه وسلم - مع الخضوع والذل والمحبة، فلا يكفي الذل والخضوع دون المحبة، ولا المحبة دون الذل والخضوع، لأنَّ المحبة إن لم يكن معها خوف كان صاحبها في إذلال وجراءة، فقد يقع في المقام الإلهي بما لا ينبغي إدلالًا بالحب وأمنًا من عدم الخوف، والخوف إذا كان منفردًا عن المحبة كان صاحبه مُبْغِضًا. وهذا كله لا يليق، لا بد من ذل وخضوع من جهة، ومن محبةٍ من جهة أخرى. هذه الكلمة التي بيّنا معناها جاء الله بإثباتها منفردة في قوله: ¬

_ (¬1) شرح القصائد المشهورات (1/ 60).

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة / 21]. وجاء في نفيها في حدة في قوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة / 22] وكان أول أمر في المصحف الكريم -إذا نظرت المصحف الكريم أول أمر فيه على التَّرتيب الذي هو عليه- قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا} [البقرة / 21] في هذه الآية التي تلونا من أول سورة البقرة. وأول نهي فيه قوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة / 22]. فأول [أمر] (¬1) في المصحف يتضمن حظ الإثبات من: (لا إله إلَّا الله). وأول نهي منه يتضمن حظ النفي من: (لا إله إلَّا الله). ثم إن الله لما بين هذه الكلمة الأولى وأوضحها جاء ببراهينها: بيَّن تفسير جزأيها، ثم ضمنها براهين البعث، وسنتكلم على هذا ونوضحه الآن. ثم بعد ذلك أقام برهان (محمَّد رسول الله) بعد أن بين (لا إله إلَّا الله) وبراهينها العقلية المضمنة براهين البعث أتبع ذلك بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة / 23] وهذا برهان الإعجاز؛ لأنَّ إعجاز جميع الخلائق عن أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن برهان قاطع على أنَّه تنزيل رب العالمين، إذ لو كان من كلام العرب لقدر البشر على محاكاته؛ ولذا لما قال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} قال: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة / 24] لنفي المستقبل علّق ونفى الشرط المعلق عليه ليدل على أن المشروط لا يأتي أبدًا، ولذا قال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} لا يمكن أن تفعلوا، وهذا التعليق والنفي أسلوب بليغ من كلام ¬

_ (¬1) الأصل: نهي، وهو سبق لسان.

العرب، ونظيره من كلام العرب قول الخنساء الشاعرة السُّلَمية: (¬1) هريقي من دموعك واستفيقي ... وصبرًا إن أطَقْتِ ولن تُطيقي ولذا لما قال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} قال: {فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة: 24] يعني: فاعلموا أن حجة الله وبرهانه قام عليكم بصدق هذا النَّبيُّ الكريم، وأن هذا المحكم المنزل كلام رب العالمين -جل وعلا- وقد تحداهم هنا بسورة منه قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة / 23] ثم تحدَّاهم في سورة يونس بسورة أيضًا قال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} [يونس / 38] ثم تحدَّاهم في سورة هود بعشر سور قال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)} [هود / 13]. ثم قال: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا} [هود: 14] أي: فتيقنوا علمًا يقينًا {أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)} [هود / 14] ثم تحدَّاهم في سورة الطور به كله قال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)} [الطور / 34]. ثم بين في سورة بني إسرائيل -سورة الإسراء- أن جميع الخلائق عاجزون عن الإتيان بمثله قال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء / 88] هذا برهان إعجاز ذكرنا منه نموذجًا خفيفًا ليستدل به السامع على غيره. ¬

_ (¬1) ديوان الخنساء (ص 103).

ثم أرْجعُ إلى بيان براهين (لا إله إلَّا الله) فالمشركون يقولون: كيف تجعل الآلهة إلها واحدًا؟ {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ (5)} [ص / 5] ما البرهان على وحدانية هذا الإله الذي رفع هذا الكون؟ هذا البرهان كرره الله في هذه السورة الكريمة تكريرًا كثيرًا، منه ما قال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة / 163]. ثم أتبع هذا بالأدلة العقلية في هذه السورة حيث قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَينَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [البقرة / 164]. وهنا قال: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة / 21]، يعني: من أعظم براهين عبادة الله وحده أنَّه خلقنا واخترعنا من العلم إلى الوجود، وخلقه لنا من غرائب وعجائب صنعه كما نبين منه نموذجا قليلًا هنا: أولًا: الله في القرآن يجعل الفرق والعلامة الفارقة بين من يستحق أن يُعبد ومن لا يستحق أن يُعبد هي الإبراز والاختراع والإبداء من العلم إلى الوجود، فمن يخترعك ويبرزك من العلم إلى الوجود عليك أن تعبده، ومن لا يخلقك فهو محتاج إلى خالق -مثلك- فأنت وهو ملزمان بأن تعبدا من خلقكما، ولذا قال هنا: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة / 21] وقال جل وعلا: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل / 17] لا والله {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} [الرعد / 16] وخالق كل شيء هو معبود كل شيء، وهذه الحالة التي خلقنا عليها خالق الكون هي من غرائب وعجائب صنع مَنْ خلقنا، وقد أمرنا أمرًا

واجبًا على كل إنسان منا أن ينظر فيها ويتأمل حيث قال: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)} [الطارق: 5] هذا أمر واجب من خالق الكون؛ لأنَّ المقرر في علوم المعاني وعلوم الأصول: أن صيغ الأمر الأربعة تدل على الوجوب حتمًا إلَّا إذا صرف عنه صارف، وهذا هو الحق. وصيغ الأمر الدّالة على الوجوب في اللُّغة العربيَّة معلوم أنَّها أربع صيغ: أولها: فعل الأمر، نحو: {أَقِمِ الصَّلَاةَ}. الثَّاني: الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، كقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} [عبس / 24]. الثالث: اسم فعل الأمر، نحو: {عَلَيكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة / 105]. الرابع: المصدر النائب عن فعله، نحو: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد / 4] (فضرب الرقاب) يعني: اضربوا رقابهم. هذه صيغ الأمر. وصيغة الأمر هنا في {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ} هي تقتضي الوجوب الحتم، {مِمَّ خُلِقَ (5)}؟ والإنسان له رحلة يجب على المسكين أن يتأملها وينظر فيها ليعلم قدره ويعلم عظمة من خلقه، أمر الله بالنظر فيها في قوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)} [الطارق / 5] وبين للخلق ماخلقهم منه قال: {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج / 39] ترى الذي خلقناكم منه هو الذي تعرفوه. وقد أوضح الله -تعالى- رحلة الإنسان إيضاحًا يُعرَف الإنسان بنفسه ويُعرفه بربه، ذلك الإيضاح في سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} وذلك أن هذا الإنسان الذي يطغى ويبغي ويغزو الفضاء ويحاول يتمرد

على نظام السماء، ويعصي من خلق هذا الكون، ابتداء رحلته تراب وماء، أخذ الله ترابًا فبَلَّهُ بماءٍ فصار اسمه طينًا، ثم إن الله نقل هذا الطين من طور إلى طور خُمر حتَّى صار حمأَ مسنونًا، ويُبس حتَّى صار صلصالًا كالفخار، ثم خلق الله بقدرته منه رجلًا لحمًا ودمًا هو الأب آدم عليه صلوات الله وسلامه، فلما خلق هذا الإنسان من هذا التُّراب {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَال لَهُ كُنْ} [آل عمران / 59]. لما خلق هذا الإنسان من هذا التُّراب خلق امرأته من ضلعه، وقد نص الله تعالى على أنَّه خلق حواء من آدم في ثلاث سور من كتابه: في أول سورة النساء في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء / 1] النَّفس: آدم، وزوجها التي خُلقت منه: حواء. وقال في سور الأعراف: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف / 189]. وقال في سورة الزمر: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر / 6]. ثم بعد أن صار هناك زوجان رجل وامرأة كان الطور الثَّاني للآدميين هي نطفة مَنِيٍّ تقع في رحم المرأة {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان / 2] أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة، ثم تمكث هذه النطفة في الرحم ما شاء الله، ثم ينقلها الله -جل وعلا- علقة، أي: دمًا جامدًا، ثم ينقل الله هذا الدم إلى مضغة -قطعة لحم على نحو ما يقطعه آكل اللحم ليمضغه- ثم إن الله يحول هذا اللحم إلى هيكل عظام يركب فيه هذه العظام بعضها ببعض، هذه السُلاميات، وهذا البنان، وهذه المفاصل يُركب بعضها ببعض، هذا التركيب الدقيق والصنع الهائل العجيب في كل عضو منا، وهذا الذي ركبه ليس بأخرق كما قال: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ

وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان / 28] الأسر: يعني الشد كما تقول للمرأة: "أَسَرَتْ اخْطيرها" (¬1) -يقولون بالحسانية- ومعناه: يعني ضم الشيء إلى الشيء وشدّه به شدًا محكمًا {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} لو كان الذي شد اليد بالساعد والساعد بالمرفق والبنانة بالبنانة لو كان أخرقًا إذا تحرك الإنسان سقطت يده، أو سقط مرفقه، أو طاح رجله، بل الذي يشدها يشده شدًا محكمًا، ثم إن الله -جل وعلا- يكسو هذا الجسم هذا اللحم ويجعل فيه هذا الدم، ويُجري مجاري البول والغائط يفتحها لتنزل عنها الفضلات، ويفتح مجاري العروق والشرايين ليدير الدم، ويضع كل عضو في محله كالكبد والطحال والكليتين، ويُوَكِّل كلًّا بوظيفته في تدبير الجسم، ويفتح هاتين العينين، ويجعل فيهما هذا النور، ويصبغ بعض العينين بصبغ أسود، وبعضهما بصبغ أبيض، ويفتح هذا الفم ويجعل فيه اللسان، ويودعه هذه الفصاحة، ويُنبع عين الريق العذبة ليأكل بها الإنسان، إذ لو يبس ريقه لما ابتلع الزبد الذائب، ثم إنَّه إذا لم تكن له حاجة في الريق لم يجم لئلا يتعبه التفل [ ... ] (¬2) يعني جُعلت له الأذنان ليسمع، وجعل على هذا التركيب الغريب الهائل [وجعل على هذه الهيئة بطنه، وشهدت] (¬3) العينان حول البطن، والظهر الذي ليس عنده عينان جُعل عظمًا لو ضربه شيء لا يكاد يضر، وجعل في الإنسان من الغرائب والعجائب شيء يكبر العقول، حتَّى إن ¬

_ (¬1) أي: شدَّت الهودج أو ما يشبهه مما يوضح على البعير تركبه المرأة. (¬2) في هذا الموضع جملة غير واضحة، والكلام مستقيم بدونها. (¬3) في الأصل جملة غير واضحة، وما بين المعقوفين زيادة يتم بها الكلام.

ما يحتاج إلى قصه دائمًا كشعره وأظافره نُزعت منه روح الحياة لئلا يتعِبَه عند القص. هذا من غرائب وعجائب خالق الكون -جل وعلا- خلقنا على هذا النحو الغريب، وصَور بني آدم على هذه الصورة، جعل الأنف هنا، والعينين هنا، ولم يشتبه اثنان، طبع كل إنسان على صورة مخالفة لصورة الآخر، وهذه الصورة التي وضع عليها كل واحد هي سابقة في العلم الأزلي، ووضع تنفيذًا على نحو ما سبق به العلم، ولو خُلق ملايين الملايين زائدًا على من خُلق لم يضق العلم، فكل واحد توجد له صورة مخالفة لصورة الآخر، حتَّى آثارهم في الأرض وأصوات نغماتهم وبصماتهم في الأوراق كلها مختلفة، هذه صنائع رب العالمين، وهذه أسرار قليلة من أسرار معنى {رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة / 21] يعني: فمن فعل فيكم هذا من الأفعال والغرائب والعجائب في كل عضو وكل مطرح إبره هو ربكم الذي يستحق أن تعبدوه. ولا يخفى عليكم أن ربنا فعل فينا هذا من الغرائب والعجائب ونحن في بطون أمهاتنا لم يحتج إلى أن يشق أم الواحد منا، ولا أن يبنجها، ولا ينومها في صحية، بل فعل كل هذه العمليات والمرأة لاهية تفرح وتمرح لا تدري عن شيء مما يُفعل في داخلها من غرائب صنع الله وعجائبه، ثم ييسر طريق الخروج. ونحن دائمًا نذكر هذا لأن الله يلفتنا إليه حيث يقول: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة. {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} [الزمر / 6] وهو محل الشاهد، فهذا الذي يفعل هذا الخلق والإيجاد هذا هو الذي يستحق أن يُعبد.

ثم قال: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة / 21] أي: وخلق الذين من قبلكم. يعني: اعبدوه لأجل أن تتقوه، أي: أن تجعلوا بينكم وبين سخطه وعذابه وقاية، والوقاية: هي امتثال أمر الله واجتناب نهيه. ثم زاد في البراهين العقلية: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} يعني: هذا من غرائب صنعه وعجائب أمره التي تستدعي أن يُعبد وحده ويعلم أنه الرب وحده {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة / 22] وهذا الذي فرش هذه الأرض ليس بأخرق {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)} [الذاريات / 48] جعلها ليست شديدة الاستعداد في أخذ الحر زمن الحر، ولا لأخذ البرودة زمن البرودة، فلو جعل الأرض كلُّها من حديد أو من نحاس أو من رصاص أو قصدير هلك كل من عليها، جعلها رخوة لينة يعيش الخلق عليها، قابلة للزراعات، وأنواع الغراسات، وإجراء العيون والأنهار، وبناء البيوت، ومثبتة موطدة بالجبال، تدفن فيها الأموات كما قال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} [المرسلات / 25 - 26] وقوله: {كِفَاتًا (25)} مصدر كفته إذا ضمّه، أي: تكفتكم وتضمكم أحياء على ظهرها وأمواتًا في القبور في بطنها. وهذه الأرض التي فرشها هذا الفرش بث فيها -جل وعلا- من هذه الجبال، وعلى ألوان مختلفة {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر / 27 - 28] بث فيها من أنواع الحيوانات، والأشجار والثمار وأنواع الحبوب والزروع، والمعادن، والجبال مع اختلاف الألوان والأشكال والمنافع والأقدار والطعوم {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاورَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ

وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد / 4]. ثم قال: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة / 22] أي وجعل هذه السماء بناءً سقفًا مرفوعًا لا يتفطر ولا يتشقق، ولا يحتاج إلى ترميم ولا إصلاح مع أنَّه تمر عليه آلاف السنين {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَينِ يَنْقَلِبْ إِلَيكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} [الملك / 3 - 4] أي: فاترًا ذليلًا من عظم ما رأى؛ ولذا قال: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}. ثم قال: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة / 22] إنزال السماء هذا الماء الإنسان -أيضًا- يجب عليه النظر فيه لأنَّ الله يقول: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} [عبس / 24] {فَلْيَنْظُرِ} واجبة كما ذكرنا في الأولى {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} يجب على كل إنسان حتمًا أن ينظر إلى طعامه. ومعنى هذا وكأن ربه يقول: أيها الإنسان المسكين الذي تتنطع وتتمرد على نظام السماء انظر الخبز الذي تأكل منه -ولو لم تجده لمت- من هو الذي خلق الماء الذي شرب به وروي حتى نبت؛ أيمكن أن يخلقه غير الله؟ لا، هب أن الماء خُلق من يقدر على إنزاله على هذا الطَّريق والأسلوب الغريب العجيب -رشاش- حتَّى تروى الأرض من غير أن يضر بها الماء؟ فلو كان مُنزلهُ أخرقًا لجعل المطر كله قطعة واحدة، فترك البلاد أثرًا بعد عين! ! ينزله بغاية اللَّطافة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَينَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النور / 43]. هب أن الله -جل وعلا- خلق الماء وأبدعه بقدرته وإرادته ثم أنزله على هذا الأسلوب الغريب العجيب الهائل ورويت الأرض وشربت، من

هو الذي يقدر على أن يشق الأرض ويخرج منها بمسمار النبات؟ هب أن مسمار النبات خرج، من هو الذي يقدر على أن يخرج منه السنبلة؟ هب أن السنبلة خرجت، من هو الذي يقدر على أن ينبت فيها الحب؟ هب أن الحب خُلق، من الذي يقدر على أن ينميه وينقله من طور إلى طور حتَّى يكون تامًّا مدركًا صالحًا للأكل؟ {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام / 99]؛ ولذا قال جل وعلا: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ -يعني: عن النبات-شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس / 24 - 28] هذا مِن غرائب وعجائب صنع رب العالمين -جل وعلا-؛ ولذا قال: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة / 22]. فإذا علمتم هذا وعرفتم أن خالق الكون هو الذي رفع هذه السماء، ودحا هذه الأرض، وأبرزكم من العلم إلى الوجود، وأنبت لكم الأرزاق= لا تعادلوا بهذا من لا يقدر على شيء، ولا تصرفوا شيئًا من حقوقه إلى عاجز ضعيف لا يقدر على شيء؛ ولذا قال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] نظراء تصرفون لهم حقوقه في العبادة {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} أنَّه الواحد الرب وحده، المحي المميت، القادر على كل شيء، الذي يستحق أن يُعبد وحده. ثم إن ربنا في هذه الآية -التي تلوت عليكم من سورة البقرة وتكلمت لكم كلامًا قليلًا عليها- ضمنها ثلاثة براهين من براهين البعث السائدة في القرآن العظيم؛ لأنَّ المعارك في القرآن بين النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وبين منكري البعث من أعظم المعارك، وإن كانت المعركة العظمى بين

الرسل والأمم في عبادة الله وحده، إلَّا أنهم ينكرون البعث يقولون: {إِنْ هِيَ إلا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)} [الدخان / 35] {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)} [الأنعام / 29] {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)} [النازعات / 12] {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} [يس / 78] كل هذا إنكار منهم للبعث، والله -جل وعلا- أكثر في القرآن العظيم من ثلاثة براهين يقيمها -براهين عقلية- على أنَّه يبعث النَّاس بعد الموت، أشار إلى ثلاثة منها في هذه الآية الكريمة التي ذكرناها لكم الآن، وكرر الرابع منها خمس مرات في هذه السورة الكريمة في غير هذه الآية. أما البراهين الثلاث السائرة في القرآن بكثرة التي أشير إليها هنا: فالأول منها: هو أنَّه خلقنا واخترعنا ابتداءً، المشار إليه في قوله في الآيات التي تلونا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة / 21] يعني: ومن خلقكم أولًا هو قادر على أن يعيدكم ثانية، لأنَّ الإعادة أيسر من الاختراع والابتداء، ولو سألت أطرف عاقل في الدنيا: أي الفعلين أصعب: اختراع الفعل وابتداؤه أولًا، أو إعادته بعد أن فُعل مرَّة أخرى؟ الجواب طبعًا: إعادته بعد الاختراع أسهل من اختراعه. وإن كان الله -جل وعلا- لا يصعب عليه شيء، ولأجل هذا ترى هذا البرهان كثيرًا في القرآن كقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج / 5] ولا يكون البعث أبدًا أصعب من الإيجاد الأوَّل من تراب. وكقوله جل وعلا: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} أي الإيجاد الأوَّل {فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)} [الواقعة / 62] أي: من أوجد أولًا قادر على الإيجاد ثانية. وكقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ

خَلْقَهُ قَال مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس / 78 - 79]. وقوله جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيهِ} [الروم / 27] {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَينَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)} [الأنبياء / 104] وكقوله جل وعلا: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} [ق / 15] وكيف يلتبس عليكم الخلق الجديد وأنتم تعلمون الخلق الأوَّل؟ ولأجل هذا قال مخاطبًا للإنسان: {وَالتِّينِ وَالزَّيتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْويمٍ (4)} [التين / 1 - 4] ثم قال مرتبًا على هذا: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)} [التين / 7] ما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء وقد علمت أني خلقتك أولًا؟ وهذا البرهان متكرر في القرآن تكررًا كثيرًا لا يحصى؛ ولذا نص الله في آيات من كتابه على أنَّه لا ينكر البعث إلَّا من نسي الإيجاد الأوَّل، كما قال في قوله جل وعلا: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس / 78] إذ لو تذكّر الإيجاد الأوَّل لعلم أن من أوجد أولًا قادر على أن يوجد ثانية، وكقوله جل وعلا: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)} [مريم / 66 - 68] وهذا البرهان كثير في القرآن، وقصدنا التمثيل بآيات متعددة. البرهان الثَّاني: هو خلق السموات والأرض المشار إليه في قوله: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} يعني ومن خلق هذه الأجرام العظيمة الهائلة فمن المعلوم أنَّه قادر على إعادة الإنسان الضعيف المسكين؛ لأنَّ من خلق الأعظم الأكبر قادر بالأولى على أن يخلق

الأضعف الأصغر، وهذا برهان كثير في القرآن، كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر / 57] أي: ومن قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق الأصغر من باب أولى، وكقوله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى} [الأحقاف / 33] لأنَّ مِن خلق الأعظم قادر على أن يخلق الأصغر، وكقوله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [الإسراء / 99] وقد ألقمهم حجرًا في قوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَال أَرْسَاهَا (32)} [النازعات / 27 - 32] الجواب: هذا الذي فعل في السماء والأرض أشد وأعظم خلقًا، أي: ومن قدر على الأشد الأعظم فمن باب أولى أنَّه قادر على الأخف الأصغر، وهذا برهان كثير في القرآن، والقصد التمثيل بآيات، وبيان ما اشتملت عليه الآيات من الغرائب والعجائب والإشارات. الثالث من هذه البراهين: هو إحياء الأرض بعد موتها؛ لأنَّ من أحيا الأرض بعد موتها -تجد الأرض قاحلة ميتة لا نبات فيها مغبّرة، ثم إن الله ينزل المطر فتجدها حية خضراء ترفل في أحسن الحلل من جميع النباتات، فمن أعاد هذا النبات بعد العدم- قادر على إحياء الإنسان بعد العدم، لأنَّ ماجاز على المثل يجوز على مماثله، وهما جرمان كانا معدومين، ومن أوجدهما أولًا أعاد هذا، ونحن نشاهد فنعلم أنَّه قادر على الثَّاني، وهذا برهان كثير أيضًا في القرآن أشير له بقوله هنا: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة / 22]

والآيات التي يُشار فيها إلى هذا البرهان على البعث كثيرة كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت: / 39] ومن هذا قوله جل وعلا: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} [الأعراف / 57] أي: من قبورهم أحياء كما أخرجنا النبات، وقال جل وعلا: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَينَا بِهِ بَلْدَةً مَيتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)} [ق / 9 - 11] كذلك خروجكم من قبوركم أحياء بعد الموت كما أحيينا الأرض بالنبات بعد الموت، وقال جل وعلا: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)} [الروم / 17 - 19] أي: من قبوركم أحياء بعد الموت، وقال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ (50)} [الروم / 50] والآيات القرآنية في هذا كثيرة جدًّا في كتاب الله والقصد التمثيل. أما البرهان الرابع على البعث الذي لم يذكر في هذه الآية -الذي بيّنا أنَّه تكرر في سورة البقرة خمس مرات- فهو: ما جاء في القصص الثابتة في القرآن من أن الله أحيا بعض الأموات في دار الدُّنيا والنّاس ينظرون؛ لأنَّ من أحيا نفسًا واحدة بعد أن ماتت فهو قادر على إحياء جميع الأنفس لاستوائها {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] من ذلك من المواضع الخمسة قوله في سورة البقرة: {وَإِذْ

قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)} [البقرة / 55 - 56] فمن بعث هؤلاء بعد موتهم كما صرح به في المحكم المنزل قادر على بعث كل إنسان بعد الموت. الموضع الثَّاني: من المواضع الخمسة: قوله في قتيل بني إسرائيل لما ضربوه ببعض البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)} [البقرة / 73] كما أحيا هذا الميت وبني إسرائيل ينظرون حتَّى وقف وأوداجه تشخب دمًا وقال: "قتلني فلان" -وهم ينظرون- من أحيا هذا الميت فهو قادر على إحياء جميع الموتى كما أشار له الله بقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} كما أحيا هذا القتيل وهم ينظرون كذلك يحيى الموتى. الموضع الثالث: من هذه المواضع: الألوف الذين خرجوا خوفًا من الطاعون فأماتهم الله جميعًا ثم أحياهم، المذكورون في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَال لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة / 243]. الموضع الرابع: عزير وحماره؛ لأنَّه مكث مائة سنة ميتًا وحماره متمزق العظام، ثم كان ما قصّه الله في قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاويَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَال أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَال كَمْ لَبِثْتَ قَال لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَال بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيفَ نُنْشِرهَا}. وفي قراءة

أخرى (¬1): {كَيفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ (259)} [البقرة / 259]. الموضع الخامس: طيور إبراهيم حيث قال {رَبِّ أَرِنِي كَيفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَال أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَال بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَال فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيرِ} يذكرون في قصَّة إسرائيلية أن هذه الأربعة: غراب ونسر وديك وطاووس {فَصُرْهُنَّ إِلَيكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} فرق لحومها وريشها ورؤوسها على الجبال {ثُمَّ ادْعُهُنَّ} فدعاهن فصار الريش يطير إلى الريش، واللحم إلى اللحم، والعظم إلى العظم، والرأس إلى الجثة، حتَّى جاءت تمشي لا بأس عليها؛ ولذا قال: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)} [البقرة / 260]. قد ذكرنا من هذه الجُمل أن الله -جل وعلا- رتب في أول هذه السورة الكريمة هذا التَّرتيب العجيب، ونوّه بشأن هذا القرآن العظيم الذي هو النور المبين وفيه خير الدُّنيا والآخرة، ثم بين أن النَّاس بالنسبة إليه ثلاث طوائف: طائفة آمنت به ظاهرًا وباطنًا. وطائفة كفرت به ظاهرًا وباطنًا. وطائفة آمنت به ظاهرًا وكفرت به باطنًا. وضرب لهذه الأمثال، ثم بين أنَّه ينبغي للمسلمين أن يكونوا من ¬

_ (¬1) انظر: المبسوط لابن مهران (ص 151).

تلك الطائفة الطيبة، وأن يتجنبوا أن يكونوا من الطائفتين الخبيثتين. ثم أشار إلى أن مدار ذلك على تحقيق كلمتين فيهما خير الدُّنيا والآخرة وعليهما قوام السماء والأرض (لا إله إلَّا الله محمَّد رسول الله) فبين الأولى، وفصل نفيها وإثباتها، وجاء ببراهينها القطعيّة مضمنة براهين البعث، ثم جاء بالثانية موضحًا إياها ببرهان الإعجاز. هذه العبادة التي أشير إليها هنا هي فروع كثيرة وأنواع منتشرة، وهي طاعة الله في جميع ما أمر به، وجميع ما نهى عنه، كما قال الله جل وعلا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف / 110]. والقرآن العظيم هو النور والميزان العدل الذيِ يُعرف به الحق من الباطل، والله يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد / 25] وقد بين لنا القرآن ميزانًا نعرف به أعمالنا ومحكًّا ننقد به أعمالنا، فنعرف أزائفة هي أم خالصة، أحق هي أم باطل، وقد بين القرآن العظيم أن المسلم إذا أراد أن يعرض عمله على ميزان يعرف به أعمله صالح أم طالح أن ذلك الميزان يتركب من ثلاثة أشياء، إذا كانت هذه الثلاثة الأشياء موجودة في ذلك العمل فهو عمل صالح كما ينبغي، وإن اختل منها واحد فالعمل طالح غير صالح. الأوَّل: من هذه الأمور الثلاثة: هو أن يكون ذلك العمل مطابقًا في ظاهر الأمر لما جاء به سيد الخلق محمَّد صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنَّ الله هو الملك الأعظم الجبار لا يقبل أن يتقرب إليه إلَّا طبق ما أمر؛ ولذا يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}

[الشورى / 21] {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس / 59] {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر / 7] {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء / 80]. الثَّاني: أن يكون الإنسان فيما بينه وبين ربه في داخل نيته التي لا يطلع عليها إلَّا الله أن يكون مخلصا لله في ذلك العمل كما قال الله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة / 5] وقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)} {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر / 11، 15]. فمن عبد بغير إخلاص جاء بما لم يؤمر به؛ لأنَّ الله يقول: {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. الثالث: أن يكون ذلك العمل مبنيًّا علي أساس العقيدة والتوحيد الصحيح؛ لأنَّ العقيدة كالأساس والعمل كالسقف، فالسقف إذا وجد أساسًا ثبت عليه، وإن لم يجد أساسًا انهار، والله يقول: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء / 124] فيقيد بالإيمان، ثم إنَّه يبين الذين يعملون الصالحات من غير إيمان ويقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان / 23] ويقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيهِمْ أَعْمَالهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود / 15 - 16] والعقيدة الصحيحة التي هي الأساس الذي يبنى عليه العمل ضابطها المنطبق علي جزئياتها هو الاستضاءة بنور هذا القرآن العظيم، لأنَّ العقول مخلوقة قاصرة واقفة عند حدها، والمُعتصَم الوحيد هو نور القرآن العظيم، فما قاله الله

ورسوله وثبت عنهما نقوله، وما لم يقولاه لم نقله، وما أوجباه نعمل به، وما سكتا عنه نتركه، وما فصل فيه الكتاب والسنة نفصل، وما أجمل فيه نجمل، وما سكتا عنه نسكت، ولا نتكلف ما لا نعلم. ونحن دائمًا نبين في المناسبات أن هنالك مسائل مثلًا كآيات الصفات زلت فيها عقول النَّاس، وضل قوم بالإفراط وقوم بالتفريط، وقوم شبهوا، وقوم عطّلوا، ونحن دائمًا ندعوا أنفسنا وإخواننا إلى طريق القرآن والعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهي التمسك بكتاب الله، وأن استقراء القرآن دل على أن الطَّريق الواضح طريق السلامة في ذلك تتركّز على ثلاثة أُسس كلها في ضوء القرآن العظيم، فمن جاء بها كلها فقد سلك طريق السلف التي كان عليها النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وأصحابه وخلفاؤه الراشدون والقرون المشهود لهم بالخير، ومن أخل بواحد منها فقد أوقع نفسه في مهواة قد لا يتخلص منها. هذه الأسس الثلاثة ( ... ) (¬1). * * * ¬

_ (¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وتجد الكلام على هذا الموضوع في المحاضرتين (2، 4)، إضافة إلى مواضع متعددة من (العذب النمير).

[2] (اشتمال القرآن على خيري الدنيا والآخرة)

[2] (اشتمال القرآن على خيري الدُّنيا والآخرة) ومن ذلك: 1 - بيان المعتقد الصَّحيح في آيات الصفات. 2 - بيان الموقف الصحيح من الحضارة الغربية. 3 - بيان أن الإسلام دين القوة والتقدم في جميع الميادين.

(¬1) والآن نقول: إن هذا القرآن العظيم فيه خير الدُّنيا والآخرة، ولم يضمن الله لأحدٍ ألّا يكون ضالًا في الدُّنيا ولا شقيًّا في الآخرة إلَّا المتمسك بهذا القرآن العظيم {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} [طه / 123] وهذا القرآن العظيم بين أن المعتقد المنجي الذي هو طريق سلامة محققة في آيات الصفات يتركز على ثلاثة أُسس كلها في ضوء آية من كتاب الله، فمن جاء بهذه الأسس الثلاثة فقد سار في ضوء القرآن العظيم، ولقي الله متمسكًا بالعروة الوثقى على المحجة البيضاء التي كان عليها محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهو طريق السلف، وقد قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رضي الله عنه وأرضاه- وصدق: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلَّا ما أصلح أولها). أول هذه الأسس الثلاثة -أيها الإخوان- نكرره لكم مرَّة بعد مرَّة: هو الأساس الأكبر، والتوحيد الأعظم، والحجر الأساسي للصلة الصحيحة بخالق هذا الكون، هذا الأساس: هو تنزيه خالق السموات والأرض التنزيه التَّام عن أن يُشبه شيئًا من خلقه في أي شيء من صفاتهم، أو ذواتهم، أو أفعالهم، وكيف يشبه الخلق خالقه؟ أليس أثرَا من آثار قدرته وإرادته؟ وكيف تشبه الصنعة صانعها؟ هذا لا يخطر في الأذهان السليمة من أقذار التشبيه. وهذا الأصل في ضوء قوله: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشورى / 11] وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص / 4] وقوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال} [النحل / 74]. ¬

_ (¬1) من الشريط الرابع.

وهذا الأصل هو أساس الخير، والحَجَر الأساسي للتوحيد، فمن حققه حسنت صلته بالله، وكان على ثقة صحيحة من عقيدته؛ لأنَّه هو الأساس الأعظم والطريق الأكبر في هذا الطَّريق، تنزيه خالق الكون عن مشابهة خلقه في جميع أنواع صفاتهم، وفي جميع أنواع المشابهات، فإذا استولى هذا الأساس على القلب، وطهرت أرضه من أقذار التشبيه، وعظمت رب العالمين كما ينبغي، وعلمت أنَّه لا يمكن أن يشبهه شيء من خلقه: فالأساس الثَّاني من الأسس الثلاثة هو: تصديق الله فيما أثنى به على نفسه، وتصديق رسوله فيما أثنى به على ربه؛ لأنَّه لا يصف الله أعلمُ بالله من الله، {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة / 140] ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم / 3، 4] ولكن هذا الإيمان والتصديق لصفات الله التي مدح الله بها نفسه، أو أثنى عليه بها رسوله إيمانًا مبنيًّا على أساس التنزيه الكامل -وهذا التعليم الذي قلت لكم الآن في هذين الأساسين- لم آت به من تلقاء نفسي، وإنما أخذته من نور المحكم المنزل؛ لأنَّ الله يقول: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى / 11] فإتيانه بـ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} بعد قوله: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} فيه سر أكبر، ومغزى أعظم، وتعليم سماوي لا يترك في الحق لبسًا ألبتة. وإيضاح هذا: أن السمع والبصر من حيث هما سمع وبصر صفتان يتصف بهما جميع الحيوانات -ولله المثل الأعلى- فالبقر يسمع

ويبصر، والبعير يسمع ويبصر، والإنسان يسمع ويبصر، ولأجل هذا جاء بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} مقترنًا بقوله: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} يعتي: لا تتنطع يا عبدي يا مسكين فتنفي عني صفة سمعي وبصري بالدعاوي الباطلة: أنك لو أثبت السمع والبصر كنت مشبهًا بالخلق. لا؛ أثبت لي سمعى وبصري إثباتًا مبنيًّا على أساس التنزيه مراعيًا فيه قولي قبله: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ}. فأول الآية الكريمة تنزيه كامل من غير تعطيل، وآخرها إيمان بالصفات إيمانًا كاملًا من غير تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل. فذكرنا أساسين من هذه الأسس الثلاثة: الأوَّل: هو الأساس الأعظم الذي هو رأس الخير: تنزيه خالق الكون عن مشابهة الخلق. الثَّاني: الإيمان بالصفات، وتصدية الله ورسوله فيما أثنى به على نفسه، أو أثنى عليه به رسوله تصديقًا مبنيًّا على أساس التنزيه على نحو {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى / 11]. الأساس الثالث: هو أن نعلم أن عقولنا المسكينة مخلوقة واقفة عند حدها، وأن خالق الكون أعظم وأكبر وأجل وأنزه من أن تحيط به العقول، وهذا الأساس مبين في آية من سورة طه {يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه / 110]. فمن اعتقد هذه الأسس الثلاثة فنزه خالق الكون عن مشابهة الخلق في ضوء {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ}، وأثبت له ما أثبته لنفسه على أساس

التنزيه في ضوء {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} بعد {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشورى / 11]، وقطع الطمع عن إدراك الكيفيات= لقي الله مخلصًا سالمًا من ورطة التشبيه، ومن ورطة التعطيل، ومن ورطة التكلف وزَجِّ نفسه فيما لا يعنيه ولا يقدر عليه. هذا نموذج قليل يزيد أن نبينه لكم هنا، ثم إنا بعد هذا النموذج القليل الواضح الذي يُبَسِّط عقيدة السلف على ضوء القرآن العظيم نُؤكد لكم نحن الآن في هذه الدُّنيا عن قريب سننتقل إلى القبور لا شك، ونُنقل من القبور إلى عرصات القيامة، ونناقَش على ما قدمنا من حقير وجليل، ونجد كل ما قدمنا مسطورًا مكتوبًا في كتاب أحصاه خالق الكون -جل وعلا- {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة / 6] وهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلَّا أحصاها، يقال للواحد منا {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء / 14] ولا شك أن مما نناقش فيه: ماذا نقول فيما أثنى به ربنا على نفسه؟ فمن لقي الله منا وهو مُنَزّه ربه عن تشبيه الخلق، مُصدِّق ربه فيما قال، قاطع طمعه عن إدراك الكيفية كان على طريق سلامة محققة، وأنا أؤكد لكم أن هذه الأسس الثلاثة لا تأتيه من واحد منها يوم القيامة بلية ولا ويل ولا مشكلة، فلا يقول له الله: لم تنزهني عن مشابهة خلقي؟ لا، أبدًا، ولا يقول له: لم تصدقني فيما أثنيت به على نفسي، وتؤمن بصفاتي على أساس التنزيه؟ لا، أبدًا، ولا يقول له: لم لا تَدَّعي أن عقلك محيط بي؟ لا، أبدًا. فهي طريق سلامة محققة. ثم إنا الآن بعد هذه النقطة التي بيناها اليوم وأشرنا إليها الآن نبين

لكم -أيها الإخوان- الموقف الطبيعي والذي ينبغي أن يُفهم ويسلك لتكونوا على بصيرة من هذه الفِكَر المتناقضة التي ضاع الإسلام والمسلمون ضحيتها، وهو ما ذكرنا الآن أن هناك طرفان: طرف من الشيوخ الجامدين الذي يظنون أن كل تقدم في ميدان من ميادين الحياة أنَّه كفر ومضادةٌ للدين! ! ، وهذه جناية على الإسلام والمسلمين، وفكر غير صواب، وطائفة أخرى ثقفها الأجنبي ثقافة مضادة للإسلام، وصبغها كيف يشاء، فكانت تنظر إلى الدين بغير حقيقته، تزعم وتعتقد أن كل تمسك بالدين أنه رجعية وانحراف عن مسايرة ركب التطور وجمود بالأمة وخلود بها إلى الهاوية! ! هاتان الفكرتان -أيها الإخوان- كلتاهما خاطئة وكلتاهما ضرر على الأمة، ونحن نبين لكم الموقف الطبيعي كما ينبغي، إيضاح ذلك: أن هذا النوع المسمى بالإنسان -أيها الإخوان-: لو كان مخلوقًا من عنصر واحد لكان يمكن أن يكتفي باتجاه واحد، ولكنه مخلوق من عنصرين مختلفين في الحقيقة غاية الاختلاف، أحدهما: اسمه الجسد، والثَّاني: اسمه الروح، وللجسد متطلبات لا تقوم بها متطلبات الروح، والروح متطلبات لا تغني عنها متطلبات الجسد، فلا بد أن يسعى الإنسان سعيًا مزدوجًا لمتطلبات الروح ومتطلبات الجسد، فإهمال متطلبات الروح هو الويلة الكبرى على العالم، وهو مشاهد الآن، الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، أعني نجحا في خدمة الإنسان من حيث العنصر الجسدي في جميع أنواع الماديات والتنظيميات، وخدم الإنسان من حيث إنَّه جسد وجسم بخدمات هائلة لا يعبر عنها، ولكن الحضارة الغربية أفلست كل الإفلاس من جهة الناحية الروحية؛ لأنهم

أهملوا الأرواح ولم يُرَبُّوهَا على نظام تعليم سماوي شرعه خالق الكون، فصاروا في غاية من انحطاط الأخلاق، والتمرد على نظام السماء؛ ولأجل أن تلك الأرواح غير مرباة ولا مهذبة على ضوء الوحي فتراهم الآن يعقدون المؤتمر بعد المؤتمر والمجلس بعد المجلس ليتخلصوا من القوة التي فعلوا ويدمروها، ولو كان واحد منهم واثقًا بأنه لو دمّر ما عنده لدمر الآخر ما عنده لبادروا كلًّا ليكتفوا شرها، وما ذلك إلَّا أنَّها تدبرها أرواح خبيثة ليست مرباة على ضوء وحي سماوي، وهذا يبين أن إهمال الناحية الروحية يهدد العالم كله بخطر دامي، فأنياب الأسد -مثلًا- وأظفاره قوة حيوانية هائلة، ولكن النَّفس التي تديرها نفس بهيمية طبيعتها الافتراس والابتزاز والغصب والقتل فلا خير فيها للبشرية. ونحن نضرب لكم الأمثال في هذا: أن القرآن -وهو أساس دين الإسلام- يبين أن الإنسان لا بد أن يكدح في عمله كدحًا قويًّا مع الصلات الروحية برب العالمين، ونضرب لكم أمثالًا لهذا: إن شئتم أن تحققوا هذا فاقرؤوا آيتين من سورة النساء -كثيرًا ما نذكرهما في المناسبات- في صلاة الخوف، وهما قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء / 102] هذا وقت التحام الكفاح المسلح، والرجال تسقط رؤوسهم من أعناقهم، وفي هذا الوقت الضنك الحرج نور القرآن العظيم ينظم الخطبة العسكرية على أبدع وجه وأكمله، في الوقت الذي يحافظ فيه على آداب من آداب الأرواح السماوية وهو الصَّلاة في

الجماعة، هكذا فليكن المسلم على ضوء القرآن العظيم. وتقرؤون أن الله -جل وعلا- يقول في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال / 45] قوله {فَاثْبُتُوا} هذا تعليم عسكري سماوي، وهو الصمود في الميدان في خطوط النَّار الأمامية، وفي هذا الوقت الضنك الحرج؛ خالق الكون يقول: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} [الأنفال / 45]. ولا يخفى عليكم أن نبي الله داود من أنبياء سورة الأنعام الذين ذكرهم الله في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ} [الأنعام / 84] إلى آخر من عد منهم، ثم لما أتم عدهم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام / 90] وأَمْرُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَمْرٌ لنا؛ لأنَّ أمر القدوة أمر لأتباعه، وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن الأوامر الخاصة بالرسول تشمل الأمة كلها، وسنضرب لكم أمثلة ثم نرتب المقصود على ذلك، من الأمثلة القرآنية الدّالة على أن الخطاب الخاص لفظه بالرسول يشمل حكم الأمة: قوله تعالى في صدر سورة الطلاق: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} باسم النَّبيِّ، ثم بين أنَّه يدخل في حكمه الأسود والأحمر حيث جمع وعمم في قوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ} [الطلاق / 1] إلى آخر ما ذكر، فلو كان مختصًا به لقال: إذا طلقت النساء فطلق وأحص العدة واتق الله لا تُخرج. ونظير ذلك قوله في صدر سورة التحريم في خطاب خاص بالنبي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم / 1] ثم بين بخطاب أن هذا شامل للأسود والأحمر حيث

قال بعده: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيمَانِكُمْ} [التحريم / 2] جميعًا عن بكرة أبيكم، ونظير ذلك في صدر سورة الأحزاب حيث قال الله في صدرها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} في خطاب خاص بالنبي، ثم قال: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} إلى أن قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)} [الأحزاب / 2] فعمم الحكم ليبين أن كل الأمة داخلة في حكم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} وقد قال -جل وعلا- مخاطبًا للنبي وحده: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} ثم بين الشمول للأسود والأحمر بهذا الخطاب الخاص، قال: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إلا كُنَّا عَلَيكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس / 61]. ومن أصرح الأدلة في هذا آيتا الأحزاب وآية الروم، أما آيتا الأحزاب: فالأولى منهما قوله تعالى في زينب بنت جحش: {فَلَمَّا قَضَى زَيدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب / 37] فـ "كاف" الخطاب في قوله: {زَوَّجْنَاكَهَا} واقعة على خصوص سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنَّه المخاطب بتزويجه إياها، وقد بين الله أن هذا الخطاب يقصد به شمول الأسود والأحمر حيث قال بعده مقترنًا به: {لِكَي لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)} [الأحزاب / 37]. وآية الأحزاب الثَّانية أن الله قال في النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فيه: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} لو لم تكن الأمة داخلة لما احتيج إلى أن يخرج الأمة بقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب / 50] وأمَّا آية الروم فقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيهِ وَاتَّقُوهُ}

[الروم / 30 - 31] {مُنِيبِينَ} أي: جميع الأمة، وهو حال من ضمير الفاعل في قوله: {فَأقِمْ} فأقم أنت يا نبي الله وجهك في حال كونكم جميعًا منيبين. وقد أطبق أهل اللسان العربي على أن الحال الحقيقية -أعني التي لم تكن سببية- عند النَّحويين تلزم موافقتها لصاحبها إفرادًا وتثنيةً وجمعًا وتأنيثًا وتذكيرًا، فلا يجوز أن تقول: جاء زيد ضاحكين، ولا جاءت هند ضاحكات، ولا قم أنت حال كونكم قانتين وساجدين، لا، فلما قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} في حال كونكم منيبين دل على دخول الأمة. إذا علمتم هذا فاعلموا أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - لما قال له الله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام / 90] هدى هذه الرسل المذكورين أنا ندخل في ذلك. وقد نعرض هنا لمسألة: أن بعض الجهلة يقول: كيف يؤمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بالرسل وهو سيدهم وأفضلهم؟ والجواب: أن أمره بالاقتداء بهم أظهر لفضيلته؛ ليشاركهم فيما فعلوه من الخير، ويزيد عليهم بخيرات كثيرة لم تكن في شرائعهم، وإذا شاركهم بما عندهم وزاد عليهم كان ذلك أبين للفضل، وقد ثبت في صحيح البُخاريّ عن مجاهد أنَّه سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في ص؟ قال: أو ما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} [الأنعام / 84] {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام / 90] فسجدها داود، فسجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، هذه الآيات والأحاديث تدلنا على أن ما ¬

_ (¬1) أخرجه البُخاريّ في التفسير (سورة ص) حديث رقم (4807) 8/ 544.

جاء بشرعنا من الأمر باتباع داود أننا مأمورون به. إذا عرفتم هذا فالله يقول لداود: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] وهذا أعظم كفاح عسكري في وقته؛ لأن معنى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي: دروعًا سابغات تحصن بها نفسك وجيشك في الميدان إذا التقت الصفوف، وقوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] علمه بها أصول الحدادة؛ لأن السرد في لغة العرب: نسج الدرع، ومعنى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} اجعل الحلق والمسامير بأقدار متناسبة؛ لأن المسمار إن كان أكبر من الحلقة كسرها، وإن كان أصغر منها لم يشدها كما ينبغي، ولما بين له هذا الاحتياط العسكري في الميدان قال بعده: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [سبأ: 11] ونحن مأمورون باتباعهم كما بينا، فعلينا أن نستعد لكفاح العدو، وأن نعمل صالحًا ونطيع خالق الكون، والله -جل وعلا- يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] هذا أمر من خالق الكون، وخالق السموات والأرض أوامره صعبة، والتكاسل والتناوم عنها ليس بالأمر الهين؛ لأن الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63] ويقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فجعل أمر الرسول مانعًا من الاختيار موجبًا للامتثال، وقد قال لإبليس: {قَال مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] كأنه يقول للمتواكلين المتكاسلين: ما لكم أن لا تعدوا القوة الكافية إذ أمرتكم؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو القدوة الأكبر والمربي الأعظم، وسيد الخلق -صلوات الله وسلامه عليه- هكذا كان يفعل، كان يعمل بالأمور الدينية، ويتقدم أعظم التقدم في الميادين الحيوية الدنيوية،

وهو مُرْضٍ ربه، وعلى صلة بربه. وأنا أضرب لكم بعض الأمثال في أنه ينتفع بالأمور الدنيوية ولو كان إنتاجها من الكفرة الفجرة الخنازير أبناء الخنازير، نضرب لكم ثلاثة أمثلة من هذا نضرب المثل بها دائمًا: منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حاصره الأحزاب ذلك الحصار العسكري التاريخي العظيم المذكور في قوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: 10 - 11] قال سلمان: كنا إذا خفنا خندقنا (¬1). هذه مثلًا خطة عسكرية، الأذهان التي أنتجتها من الدنيا أذهان كفرة فجرة مجوس يسجدون للنار، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: هذه خطة عسكرية نجسة؛ لأن أصلها من الكفار، وقد اخترعها المجوس! ! لا، أخذ الخطة الدنيوية من الكافر وهو مرضٍ ربه، محافظ على آداب السماء والآداب الروحية. ومن أمثلة هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تكالبت عليه قوى الشر، واضطر إلى الخروج من وطنه، ودخل هو وصاحبه في الغار كما نص الله في سورة براءة: {ثَانِيَ اثْنَينِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] وجميع الدنيا حرب عليه، والطريق تُبث فيها العيون والرصد، وجد خبيرًا كافرًا واسمه: عبد الله بن الأُريقط الدؤلي، كافر يسجد للصنم إلا أنه عنده خبرة دنيوية، فهو يعرف الطرق، ويحاشي الطرق المعهودة، ويأتي به ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري (3/ 44).

من طرق لم يعلمها الناس حتى يَسْلَم من الرَّصَد والعيون المبثوثة أمامه؛ النبي لم يقل: هذه خبرة كافر يسجد للصنم فهي خبرة نجسة قذرة أتركها! ! لا، استعان بخبرته وأعطاه مراكبه هو وصاحبه، ثم سار منتفعًا بخبرته حتى أوصله المدينة بسلام. وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه هَمّ أن يمنع وطء النساء المَرَاضِع؛ لأن الغِيلَة التي هي وطء المرضع، كان العرب يزعمون أنها تُضعف عظم الولد، وإذا ضرب الرجل بسيفه فنبا سيفُه عن الضريبة قالوا: هذا رجل غِيلَت أمه، يعني: وُطئت أمه وهو يرضع، وكان شاعرهم يقول في هذا الميدان (¬1): فوارس لم يُغَالُوا في رَضَاع ... فتنبو في أَكُفِّهُم السيوف فلما أخبرته فارس والروم أنهم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم، أخذ بهذه الخطة الطبية ولم يقل: أصل تجاربها من الكفرة (¬2). وهذه أمور وأمثلة تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد [الخلق] (¬3) يأخذ الأمور الدنيوية ولو اخترعتها أذهان كافرة فاجرة على حد قولهم: "اجتن الثمار وألق الخشبة في النار" وهو فيما بينه وبين ربه مرضٍ ربه جل وعلا. وعلى كل حال فنحن نضرب دائمًا الأمثال؛ لأن الأمثال ¬

_ (¬1) البيت في الكامل (ص 177). (¬2) الحديث أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب: جواز الغيلة، حديث رقم (1442) 2/ 1066. (¬3) في الأصل: الكون، وما بين المعقوفين زيادة على الأصل.

تقرب المعقولات كالمحسوسات. والاستقراء الصحيح دل على أن الحضارة الغربية فيها نافع غاية النفع، وضار غاية الضرر، أما النافع منها فهو ما أنتجته في الميادين الحيوية في الماديات والتنظيميات، وما خدمت به الإنسان من حيث إنه جسم في جميع أنواع الحياة، والضار منها: هو الإفلاس الروحي والتمرد على نظام السماء الذي وضعه خالق الكون -جل وعلا-، فإذا عرفنا أن منها نافعًا ومنها ضارًا فنضرب لذلك الأمثال -مثل الموقف الطبيعي منها- مثل رجل بعيد عن العمران في آخر رمق من العطش، وجد سمًا فتاكًا وماءً عذبًا زلالًا، فالعقل الصحيح يحصر الأقسام عنده في أربعة: إما أن يشرب السَّم والماءَ معًا، أو يتركهما معًا، أو يشرب السم ويترك الماء، أو يشرب الماء ويترك السم. فإن شربهما معًا لم ينتفع بالماء؛ لأن السم يهلكه، وإن تركهما معًا مات في الطريق ولم يلحق بالقافلة، وسقط دون الركب، وإن شرب السم وترك الماء فهو رجل أحمق أهوج لا يدري خيرًا من شر، وإن كان عاقلًا فطبعًا أنه يشرب الماء ويترك السم، ونحن يؤسفنا كل الأسف أن المنتسبين للسياسة الذين يحركون دفّة الأمور عكسوا القضية، فشربوا من الحضارة الغربية سُمَّها القاتل الفتاك وهو ماجنته من الانحطاط الخُلقي والرذالة والتمرد على نظام السماء، وتركوا نافعها وهو التقدم الدنيوي في ميادين الحياة! ! ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل (¬1) ¬

_ (¬1) البيت لأبي العتاهية، وهو في ديوانه (ص 174).

فعلينا جميعًا أن نعلم هذا، ونعلم أن دين الإسلام دين ميدان، ودين كفاح ليس دين نوم ولا تكاسل، ومن نام وتكاسل داسته نعال الأراذل، وكان حمارًا يقوده من شاء أن يقوده، فلا بد من التقدم في الميدان، والدنيا كفاح لا بد من العمل، ولكن الإنسان يعمل في دنياه وهو مرضٍ ربه، ولا يمنع العقل أن يكون الإنسان محافظًا على دينه في جميع السمت، وجميع الحركات والسكنات، وهو متقدم في الميادين الدنيوية كل التقدم كما عرفه التاريخ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، نعم هنالك مشكلة عظمى هي محك المشكلات في هذا الزمن؛ ذلك لأن الكفار عرفوا من قيمة دين الإسلام ما جهله أو تجاهله المسلمون، وعلموا أن الدين الإسلامي إذا كان عند المسلمين على الوجه الصحيح لا يقف أمام المسلمين شيء، وأن قوة الإسلام تدك الجبال، فمن زمن الدولة العباسية وهم يعملون بضربه بالمعاول ليضعفوه، [وصار] (¬1) جميع الميادين الحيوية مؤلفوها كفرة، ولم يؤلفوا تأليفًا ينتفع به الإنسان في ميدان من ميادين الحياة لا في تجارة، ولا سياسة، ولا عسكرية، ولا هندسة، ولا كيمياء إلا حطوا في تلك التآليف أفكارًا هدامة وعقائد زائفة مضللة تفصل الشخص عن دينه، ومرادهم بذلك أحد أمرين: إما أن يتخلف أولاد المسلمين عن ميادين الحياة فيبقون لقمة سائغة لمن جاءهم، أو يدخلوا في ميادين الحياة فينشبوا في الفخ الذي وضعوا لهم، وعلى المسلمين أن يتنبهوا لهذا، ويعلموا أولادهم العلوم الدنيوية، ويحذروا عليهم من تلك العقائد الهدامة والأمور التي ¬

_ (¬1) في الأصل: "وصاروا".

تصدهم عن دينهم، وهذا يكون بالمراقبة، وباجتماع المسلمين، وتثقيف أولادهم ثقافة صحيحة، وبجمع أموال طائلة على حساب الناس والمسلمين واستجلاب مدرسين يتقنون العلوم الدنيوية ويميزونها مما جاء في الطريق من شوك وألغام. وعلى كل حال فنحن الآن لا يمكن أن نسترسل لأن فضيلة أخينا القاضي عنده أسئلة وأجوبة يريد أن يسجلها فلا يمكن أن نستغرق عليه الوقت، والسلام عليكم جميعًا ورحمة الله وبركاته، ونرجو الله لنا ولكم جميعًا العافية والتوفيق والسداد إلى ما يرضي الله ورسوله ... * * *

[3] الإسلام دين القوة - تكريم الإسلام للمرأة

[3] الإسلام دين القوة - تكريم الإسلام للمرأة

(¬1) ( ... ) لأن الطرق المعهودة بث الكفار عليها العيون والرَّصَد ليأخذوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما وجد هذا الخبير الكافر لم يقل: خبرة هذا الخبير خبرة نجسة قذرة لأنها من كافر، لا. انتفع بخبرته، وأعطاه المراكيب، وراح به ومن معه، وساحل بهم، وتجنب الطرق التي عليها العيون والرَّصَد حتى أوصله إلى المدينة بسلام، وهذا يبين أن المسلم يأخذ الخطة الدنيوية من الكفار وهو فيما بينه وبين ربه مُرْضٍ ربه، وقد ثبت في صحيح مسلم -وهو أصح كتاب بعد كتاب الله وبعد صحيح البخاري- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هَمَّ أن يمنع وطء النساء المراضع؛ لأن العرب كانوا يعتقدون أن المرأة إذا وطئها زوجها ولها ولد ترضعه أن ذلك الوطء يضعف عظم الولد ويضره، وكانوا إذا ضَرَب الرجل ونبا سيفُه عن الضريبة قالوا: هذا رجل غِيل! ! يعني وُطئت أمه [وهو يرضع] (¬2)؛ لأن هذا الذي أضعف عظمه، وشاعرهم يقول في هذا الميدان (¬3). فوارس لم يُغَالُوا في رضاع ... فتنبو في أكفهم السيوف ¬

_ (¬1) من الشريط السابع، وأول المحاضرة غير موجود في التسجيل الذي بين أيدينا. والشيخ رحمه الله يتحدث عن الإسلام وأنه دين القوة والتقدم في جميع الميادين، وأنه لا يمنع من الاستفادة مما عند الكفار من الأمور النافعة. وقد سبق الكلام في ذلك في المحاضرة رقم (2)، كما سيأتي ضمن المحاضرة رقم (4). كما تجد نظائره في العذب النمير في مواضع متعددة. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة يتم بها الكلام. (¬3) تقدم قريبًا في المحاضرة الثانية.

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هَمَّ أن يمنع وطء النساء المراضع لهذا السبب فأخبرته فارس والروم بأنهم يفعلون هذا ولا يضر أولادهم، فأخذ هذه الخطة الطبية من الكفرة الفجرة الخنازير أبناء الخنازير فارس والروم، ولم يقل: هذه الخطة الطبية قذرة نجسة، لأن أصلها من الكفار! ! لا. هذه أمثلة وأضواء نلقيها لإخواننا ليتحققوا بها الموقف الطبيعي لهذه المشاكل الراهنة التي خيمت على الدنيا، فعلينا جميعًا أن نفهم الوضع على حقيقته، ونعلم أن دين الإسلام ليس حجر عثرة في طريق التقدم، بل هو دين التقدم في جميع الميادين، ومن لم يتقدم في الميادين فهو مخالف أمر الله؛ لأن الله يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] فقوله: {وَأَعِدُّوا} أمر من خالق هذا الكون، وأوامر الله ليست بالشيء الهين، بل هي أوامر خالق الكون، وقد قال لإبليس لما عصى أمره: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]. فالذين لا يعدون القوة بل يتواكلون ويتكاسلون وينامون من أين لهم أن الله لا يقول لهم كما قال لإبليس: مالكم ألا تعدوا القوة إذ أمرتكم؟ وهذا يبين أن الضعف والعجز والتواكل هو تمرد على نظام السماء، ومخالفة لأوامر القرآن، وأن دين الإسلام دين تقدم في الميدان وكفاح. لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم (¬1) ومن المؤسف كل الأسف الذي يأسف له المسلم ويحزن أن كثيرًا ¬

_ (¬1) يتيمة الدهر (1/ 258)، الخزانة (1/ 193)، صبح الأعشى (11/ 199).

ممن يحركون الدّفة السياسية في أقطار الدنيا عكسوا القضية! ! إنا لله وإنا إليه راجعون، فأخذوا من الحضارة الغربية سُمَّها الفتاك وضررها المحض، وهو ما أنتجته من الانحطاط الخلقي، والتمرد على نظام السماء، والطعن في الدين الذي هو وضع خالق هذا الكون، في الوقت الذي لم يحصلوا فيه على شيء مما أنتجته من الفوائد الدنيوية، فعكسوا القضية على خط مستقيم! ! ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل (¬1) ثم إنا هنا نلقي بعض الكلام يخص بأخواتنا: أيتها الأخوات المسلمات في أقطار الدنيا: اعلمن أن الله تبارك وتعالى أوجب عليكن مكارم الأخلاق اللائقة بشرفكن من الصيانة والستر والعفاف، وإرضاء الفضيلة، فالتي تريد منكن أن تعمل إذا تيسر لها أن تعمل في بيت زوجها فإن ذلك معاونة عظمى في بناء المجتمع الإنساني، لأن المرأة بصفتها الطبيعية تقوم بخدمات هائلة للمجتمع الإنساني قد لا يقوم الرجل بمثلها، وهناك بعض الخدمات لا يمكن أن يقوم بها غيرها؛ لأنها هي التي تحمل الأولاد في بطنها، وهي التي تضعها في النفاس، وهي التي ترضع، وتقوم على الرضيع، وعلى الفطيم، وتعالج المريض، وتقوم بخدمات البيت، فإذا خرج زوجها في ميدان من ميادين الحياة إلى جهاد أو إلى عمل من الأعمال جاء فوجد قرينه الآخر وقَيِّمه الكبير يحفظ كل شيء، وجد طفله الرضيع مُرْضَعًا، والفطيم ¬

_ (¬1) تقدم قريبًا في المحاضرة الثانية.

محفوظًا، والمريض معالجًا، وجميع لوازم البيت مهيأة، وهذه خدمات إنسانية ترضي الله، وهي للمجتمع الإنساني مساهمة لا يوجد نظيرها، زيادة على هذا أن هذا يكون مع العفاف والكرامة التي تليق بالشرف والمروءة، وترضي الله والرسول، وترضي الضمير الإنساني. فالشيطان لا شك يغيظه هذا الأمر أن يتعاون هذان النوعان هذه المعاونة الفعالة العظيمة على بناء المجتمع في دينه ودنياه فينخس في أذن المرأة ويقول: جعلوك دجاجة، وأنت محبوسة دائمًا! ! ثم يخرجها في الميدان لتكون مائدة لخونة الأعين! ! المرأة جمالها يتلذذ به الإنسان، والتلذذ بها خير متاع يوجد في متاع الدنيا، والعين الخائنة إذا نظرت إلى جمالها فقد ظلمت ذلك الجمال، واستغلت ذلك الجمال مكرًا وخديعة وخيانة لله ولرسوله وللضمير الإنساني وللشرف والفضيلة. فعلى بناتنا وأخواتنا أن يعلمن قيمتهن ومكانتهن التي أعطاهن الله، وأن الوحي السماوي صانهن عن الابتذال، وأنه جعلهن يقمن بخدمات لا يقوم بها غيرهن في المجتمع، فهي أعظم من خدمات الرجال، إلا أنها في صيانة وعفاف وكرم وستر. ثم إنه لا شك أن المرأة قد تضطر إلى أن تخرج في ميدان الحياة كان لا يكون لها زوج ولا قَيِّم يقوم بشؤونها فلها أن تعمل، ولكن إذا اضطرت إلى العمل فعليها -أيتها الأخوات- أن تخرج في ستر وعفاف، وصيانة وعدم ابتذال، وتزاول كل ما شاءت من الأعمال في ستر وعفاف.

أما خروجها في حالات لا تليق بالشرف ولا بالفضيلة ولا بالإنسانية فهو أمر يعرق منه الجبين، ويخجل منه الإنسان! ! والبلاد التي انتشر فيها ذلك كمصر والشام والعراق ضاع فيها الشرف والفضيلة، وكانت أولاد الزنا تعد فيها بالملايين، فعلى المسلمات أن يرعين الله في أنفسهن، ويعلمن أن الله جعل لهن احترامًا وشرفًا وكرامة، وأن لا يضيعن كرامتهن بالابتذال والتعرض إلى الخيانات والأمور التي لا تنبغي. وأظن أن الوقت قد قرب، والسلام عليكم جميعًا ورحمة الله وبركاته، نرجو الله لنا ولكم جميعًا العافية والتوفيق. * * *

[4] (أضواء على مسائل مهمة يكثر الغلط في تصورها)

[4] (أضواء على مسائل مهمة يكثر الغلط في تصورها) وينتظم ذلك ست مسائل: 1 - الاعتقاد الصحيح في نصوص الصفات. 2 - مفهوم "لا إله إلا الله". 3 - بيان أن الإسلام دين القوة والتقدم في جميع الميادين. 4 - بيان الموقف الصحيح من الحضارة الغربية. 5 - بيان أن الإسلام ينظم جميع شؤون الحياة. 6 - الرابطة الإيمانية.

1 - الاعتقاد الصحيح في نصوص الصفات

بسم الله الرحمن الرحيم (¬1) والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والسلام عليكم جميعًا ورحمة الله وبركاته ... وبعد: فإني بهذه المناسبة أريد أن أُلقي أضواءً على بعض المسائل التي لها أهميتها في الإسلام مع أنها يتصورها كثير من ذويه بمفاهيم غير صحيحة: من ذلك: ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - من الصفات التي تمدَّح بها خالق الكون -جل وعلا- أو أثنى بها عليه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، كصفة الاستواء ونحو ذلك، فإن كثيرًا من أهل الملة الإسلامية يتصورون ذلك بغير المفاهيم الحقيقية، والذي أريد أن أقوله: إن المفهوم الصحيح لذلك يتركز على ثلاث أُسس موضحة غاية الإيضاح في القرآن العظيم. الأول منها: تنزيه خالق السموات والأرض التنزيه التام الكامل عن مشابهة شيء من خلقه في الذوات والصفات والأفعال، وهذا الأصل العظيم مستفاد من قوله تعالى: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشورى: 11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 4] وقوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال} [النحل: 74] ونحو ذلك من الآيات. الثاني من تلك الأسس: هو الإيمان بما وصف الله به نفسه أو ¬

_ (¬1) من الشريط الثامن.

وصفه به من قال في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4] لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى (4)} وذلك الإيمان بالصفات مبني على أساس تنزيه الخالق عن مماثلة خلقه في شيء من ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم على نحو {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11] فإتيانه - جل وعلا - بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} بعد قوله: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} له مغزى عظيم وسر كبير وتعليم واضح لا ليس في الحق معه؛ لأن السمع والبصر من حيث هما سمع وبصر يتصف بهما جميع الحيوانات -ولله المثل الأعلى- فكأنه يقول: لا تتنطع يا عبدي فتنفي عني صفة سمعي وبصري مدعيًا أن الحيوانات تسمع وتبصر، وأن إثبات سمعي وبصري لي والإيمان بهما يستلزم التشبيه بما يسمع ويبصر من خلقي، لا، بل آمن بسمعي وبصري وأثبتهما لي، ولكن لاحِظ في ذلك الإثبات قولي قبله مقترنًا به: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ}. فأول الآية دليل على التنزيه الكامل من غير تعطيل، وآخرها دليل على الإيمان بالصفات من غير تشبيه ولا تمثيل، فيلزم من ذلك إيمان وتنزيه، فمن تقدم بين يدي الله وتجرأ على أن ينفي عنه وصفًا أثنى به على نفسه أو أثنى عليه به نبيه - صلى الله عليه وسلم - فكأنه يجعل نفسه أعلم بالله من الله ورسوله! ! سبحانك هذا بهتان عظيم! ! . ومن اعتقد أن وصفًا أثنى الله به على نفسه يشبه شيئًا من صفات

خلقه فهو أجهل خلق الله بالله، ومن أثبت لله ما أثبته لنفسه في حال كونه منزهًا ربه غاية التنزيه عن مشابهة صفات الخلق فهو مؤمن مُنَزّه سالم من ورطة التشبيه والتعطيل مستضيء بنور قوله تعالى: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. الثالث من تلك الأسس: قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف؛ لأن العقول لا تحيط علمًا بمن خلقها، قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: 110] فقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ} فعل في سياق النفي، وهو صيغة عموم كما هو مقرر في الأصول، ومن المعلوم أن الفعل قسمان: فعل حقيقي، وفعل صناعي، أما الحقيقي: فهو الحدث المتجذر المعبر عنه في علم النحو بالمصدر، وأما الصناعي: فهو المعروف في الصناعة النحوية بفعل الأمر والماضي والمضارع، والفعل الصناعي ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين، وعن مصدر وزمن ونسبة عند جماعة من البلاغيين، كما حرروه في مبحث الاستعارة التبعية، والمقصود أن المصدر كامن في مفهوم الفعل الصناعي إجماعًا؛ وذلك المصدر لم يتعرف بمُعَرّف فهو في معنى النكرة، فالنفي المقترن بالفعل يتسلط على المصدر الكامن في مفهومه، فيؤول إلى معنى النكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم كما هو معروف في محله. فقوله إذًا: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: 110] في معنى: لا إحاطة للعلم البشري بخالق الكون - جل وعلا -. وأنا أؤكد لكم كل التوكيد أنكم إن لقيتم ربكم يوم القيامة معتقدين

في آيات الصفات هذا المعنى الصحيح المتركز على هذه الأُسس الثلاثة القرآنية لا يلومكم الله ولا يوبخكم على ذلك، فلا يقول لكم: لِمَ تنزهونني عن مشابهة خلقي؟ ولا يقول لكم: لم تؤمنون بصفاتي وتصدقونني فيما مدحت به نفسي أو أثنى به عليَّ نبيي؟ ولا يقول لكم: لِمَ لا تقولون: إن علمكم محيط بمن خلقكم؟ فهذا المفهوم الصحيح طريق سلامة محققة؛ لأنه في نور القرآن العظيم، ولو تنطع متنطع فقال: بينوا لنا كيفية للاستواء منزهة عن كيفية استواء المخلوقين لنعتقد صفة استواء منزهة عن مشابهة صفات الخلق؟ قلنا: أعرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة بتلك الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا. فنقول: معرفة كيفية الاتصاف متوقفة على معرفة كيفية الذات، فسبحان من أحاط بكل شيء علمًا {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: 110]. وبالجملة فالله - جل وعلا - حق، وصفاته حق، والمخلوقون حق، وصفاتهم حق، وللخالق صفات لائقة بكماله وجلاله، وللخلق صفات لائقة بحالهم، وبين صفة الخالق والمخلوق من التغاير والمنافاة مثل ما بين ذات الخالق والمخلوق، ألا ترون أن الله تعالى وصف نفسه بالقدرة فقال: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ (284)} [البقرة: 284] ووصف بعض خلقه بالقدرة قال: {إلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيهِمْ} [المائدة: 34] ووصف نفسه بالحياة قال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إلا هُوَ} [غافر: 65]

ووصف بعض خلقه بالحياة، قال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] {وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} [مريم: 15] {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: 19]. فلله قدرة وحياة لائقتان بكماله وجلاله، وللمخلوقين قدرة وحياة مناسبة لحالهم وفقرهم وفنائهم، وبين قدرة الخالق وحياته وقدرة المخلوق وحياته من المنافاة مثل ما بين ذات الخالق والمخلوق. ووصف نفسه بالعلم قال: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيهِمْ بِعِلْمٍ} [الأعراف: 7] {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] ووصف بعض خلقه بالعلم قال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68] {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28] {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار: 12] {هَلْ يَسْتَوي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] فعلم الله مناف لعلم المخلوق كما بينا. ولو تتبعنا الآيات الواردة بنحو ذلك لجئنا منها بالمئات، ولكن القصد مطلق التمثيل. وكذلك وصف نفسه بالاستواء على العرش في سبع آيات من كتابه، ووصف بعض خلقه بالاستواء على بعض المخلوقات كقوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيتُمْ عَلَيهِ} [الزخرف: 13] وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] {فَإِذَا اسْتَوَيتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] فاستواء الله على عرشه الذي تمدح به وأثنى به على نفسه بالغ من الكمال والجلال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين استواء خلقه، كقدرته وعلمه وحياته؛ لأن ذاته حق، وجميع

صفاته حق، ولا يشبهه شيء من خلقه في ذاته ولا في شيء من صفاته، فالذات وجميع الصفات من باب واحد، كلها حق، وكلها منزهة عن مشابهة الخلق، والإيمان بكلها واجب. ثم إنه من المقرر في الأصول: أن الكلام المفيد المعبر عنه في المعاني: بـ (الإسناد الخبري)، وفي النحو: بـ (الجملة الاسمية) أو (الفعلية)، وفي المنطق: بـ (القضية) بالنظر إلى ما دل عليه معناه التركيبي له حالتان: الأولى: أن يدل على معنى واحد لا يحتمل غيره بوجه، وهو المعروف بـ (النص) في أشهر اصطلاحاته. والثانية: أن يحتمل أكثر من معنى واحد، وهذا القسم الأخير له حالتان: الأولى: أن يكون أظهر في بعض الاحتمالات من بعض. والثانية: أن تستوي الاحتمالات. فإن كان أظهر في بعضها فما هو أظهر فيه يسمى بـ (الظاهر) والمصير إليه واجب إلا بدليل صارف عنه يجب الرجوع إليه، وصرفه عن ظاهره لذلك الدليل هو المعروف في اصطلاح أهل الأصول بـ (التأويل) ومنه تأويل صحيح وفاسد، ومثال الصحيح منه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الجار أحق بسقبه" (¬1) فإن ظاهره المتبادر منه: ثبوت الشفعة للجار ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الشفعة، باب: عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع، =

مطلقًا، وهو محتمل لأن يكون المراد في الجار خصوص الشريك المقاسم، وهذا الاحتمال المرجوح دل عليه حديث جابر: "فإذا صُرِفَت الطرق وضربت الحدود فلا شفعة" (¬1). وأمثلة الفاسد منه كثيرة معروفة في الأصول، وهو ينقسم إلى ما يسمى تأويلًا بعيدًا وفاسدًا، وإلى ما يسمى لعبًا كما هو معروف في الأصول. وإن تساوت الاحتمالات فهو المعروف بـ (المجمل) ويجب التوقف عنه حتى يوجد دليل يعين الاحتمال المقصود، فلو قالت بينةٌ: "نشهد أن زيدًا غريم عمرو بألف دينار" فكلامها هذا مجمل؛ لأن الغريم مشترَك بين طالب الدَّين والمطلوب به؛ واللفظ محتمل لكلا الاحتمالين دون ترجح. وكما لو قيل: "عدا اللصوص على عين زيد" فإنه يحتمل أن تكون عينه الباصرة عوَّرُوها، وأن تكون عينه الجارية غوَّرُوها، وأن تكون ذهبه وفضته انتهبوها. فإذا علمت هذا التقسيم فاعلم أنا نريد أن نطبقه على المفهوم الظاهر المتبادر من آيات الصفات وأحاديثها، فنتساءل ونقول: أرأيتم إذا أثنى الله على نفسه المقدسة الكريمة بصفة، فما هو الظاهر المتبادر إلى أذهان المسلمين من مفهومها، أهو تشبيه الخالق بخلقه حتى يُلجأ ¬

_ = حديث رقم (2258) 4/ 437، وأطرافه في (6977، 6978، 6980). (¬1) أخرجه البخاري في البيوع، باب: بيع الشريك من شريكه، حديث رقم (2313) 4/ 407، وأطرافه في: (2214، 2257، 2495، 2496، 6976)، وأخرجه مسلم في المساقاة، باب: الشفعة، حديث رقم (1608) 3/ 1229 بلفظ مغاير.

2 - مفهوم "لا إله إلا الله"

ذلك إلى التأويل؟ أو هو مجمل محتمل للتشبيه والتنزيه احتمالًا متساويًا؟ أو الظاهر المتبادر هو تنزيه الله عن مشابهة خلقه أكمل تنزيه وأتمه؟ الجواب طبعًا: أن كل وصف وصف الله به نفسه فظاهره المتبادر منه أنه بالغ من غايات الكمال والجلال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات الخلق، ولا ينكر عاقل أن الظاهر المتبادر هو منافاة الخالق لخلقه في صفاتهم وذواتهم وأفعالهم، وكيف يشبه الخلق خالقه والخلق أثر من آثار قدرته وإرادته؟ فعلينا جميعًا أن نصدق ربنا فيما وصف به نفسه، ونصدق نبينا في ذلك، وننزه ربنا عن مشابهة الخلق على نحو {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. ومن ذلك: أن كثيرًا من المتسمين بالإسلام لا يحققون المفهوم الصحيح لكلمة (لا إله إلا الله) وهي مركبة من نفي وإثبات، فمعنى نفيها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات، ومعنى إثباتها: إفراده - جل وعلا - بالعبادة وحده، وهي التقرب إليه بما شرع بإخلاص على وجه المحبة والذل والخضوع. والذي نريد أن نقوله هنا: هو أنَّا يجب علينا أن نعلم أن كل أمْرٍ أمر الله بالتقرب به إليه فهو حقه الخالص له -جل وعلا-، وإخلاصنا له في حقه - جل وعلا - هو عين المحبة والتعظيم لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز صرف شيء من ذلك لغيره تعالى، وعنوان المحبة الصادقة لله ورسوله هي طاعة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ

3 - بيان أن الإسلام دين القوة والتقدم في جميع الميادين

فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. لو كان حبك صادقًا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع (¬1) قالت وقد سألت عن حال عاشقها ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد فقلت: لو كان رهن الموت من ظمأ ... وقلتِ: قف عن ورود الماء لم يرد (¬2) ومن ذلك: ما تلفقه الدعاية المغرضة ضد دين الإسلام من أنه ينافي التقدم في ميادين الحياة، ولا يساير التطور الجديد، وهذه الدعاية - مع الأسف - راجت في الأكثرية من شباب أبناء المسلمين، وجعلتهم يحاولون التخلص من الدين بكل الوسائل ليحصلوا على التقدم الذي تتطلبه الأوضاع الراهنة للحياة البشرية، ومعلوم أن العقل الساذج إذا لم يُنَوَّر بنور المعرفة فَأسَرَتْهُ المفاهيم الزائفة فأغوته عن قصد السبيل، فالتبست عليه النسب القائمة بين المعقولات، ألا ترون أن المدلول عليه بدلالة المطابقة من لفظة "البياض" ينافي في حقيقته ومفهومه المدلول عليه بالمطابقة من لفظ "البرودة"؟ فكل مفهوم مطابقي ثبت له أنه معنى ¬

_ (¬1) البيت في تاريخ دمشق (13/ 379). (¬2) البيتان في ديوان يزيد (ص 83)، وفي قِرَى الضيف (ص 118)، والمستطرف (2/ 385)، والمدهش لابن الجوزي (ص 314)، بدائع الفوائد (3/ 216). ولفظهما هناك: قالت لطيف خيال زارها ومضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد فقال: خلفته لو مات من ظمأ ... وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد قالت: صدقت الوفا في الحب شيمته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي

البياض انتفى عنه ضرورة أنه معنى البرودة كعكسه، والبياض أيضًا ينافي في حقيقته ومفهومه السواد، فكل مفهوم مطابقي ثبت له أنه معنى البياض انتفى عنه ضرورة أنه معنى السواد كعكسه، وكذلك الكلام فإنه ينافي في حقيقته ومفهومه السكوت، فكل مفهوم مطابقي ثبت له أنه معنى السواد انتفى عنه أنه معنى الحلاوة كعكسه، وكذلك الكلام فإنه ينافي في حقيقته ومفهومه السكوت، فكل مفهوم مطابقي ثبت له أنه معنى الكلام انتفى عنه أنه معنى السكوت كعكسه، كما أن الكلام ينافي في حقيقته ومفهومه القعود، فكل مفهوم ثبت له أنه معنى الكلام انتفى عنه أنه معنى القعود، ولكن منافاة البياض للسواد ليست كمنافاة البياض للبرودة، فإن السواد والبياض ضدان يستحيل اجتماعهما في نقطة بسيطة من اللون، بخلاف البياض والبرودة فلا تضاد بينهما، فيجوز أن يكون الجرم الواحد أبيض من جهة باردًا من جهة أخرى كالثلج، ومنافاة السواد للبياض ليست كمنافاة السواد للحلاوة، ولا مانع من كون الجرم الواحد أسود من جهة حلوًا من جهة أُخرى كالتمرة السوداء، بخلاف البياض فإنه لا يجامع السواد في وقت واحد من جهة واحدة لاستحالة اجتماع الضدين. ومنافاة الكلام للسكوت ليست كمنافاة الكلام للقعود، فلا مانع من أن يكون الشخص الواحد قاعدًا من جهة متكلمًا من جهة أُخرى، ولا يجوز أن يكون ساكتًا متكلمًا في وقت واحد. ومن المعلوم أن المتقابلين لا يجتمعان سواء كانا نقيضين أو ضدين أو متضايفين أو عدمًا وملكة، بخلاف الخلافين فلا مانع عقلًا من اجتماعهما كما رأيت أمثلة ذلك. وإذا علمت هذا فاعلم أن الدعاية المغرضة ضد الإسلام خيلت

للسذج من ذويه أن النسبة بين التقدم وبين التمسك بالدين هي النسبة بين المتقابلين الذين لا يمكن اجتماعهما كالسواد والبياض، فسببت تلك الفلسفة السوفسطائية انسلاخ خلق لا يحصى من دين الإسلام حين اعتقدوا أنه ينافي التقدم منافاة المتقابلين، حرصًا منهم على التقدم المزعوم وتفضيلًا له على الدين، ولو علموا الحقيقة لعلموا أن النسبة بين التقدم والتمسك بالدين لها نظران من جهتين: الأولى: النظر إليها بحكم العقل مجردًا عن نصوص الوحي. الثانية: النظر إليها بحكم ما جاء في ذلك من الوحي السماوي. أما بالنظر إلى الحكم العقلي مجردًا عن النقل فالنسبة بين الدين والتقدم كالنسبة بين البياض والبرودة، فكما أن الجرم الأبيض لا مانع عقلًا من أن يكون باردًا، فكذلك المتمسك بالآداب السماوية لا مانع عقلًا من أن يكون متقدمًا في جميع ميادين الحياة كما عرفه التاريخ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومتابعيهم متابعة صحيحة. وأما بالنسبة إلى ما جاء في الكتاب والسنة من وعد الله الصادق للمتمسكين بالدين كقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55] ونحوها من الآيات الكثيرة والأحاديث، فالنسبة بين التمسك بالدين والتقدم هي النسبة بين الملزوم ولازمه؛ لأن التمسك بالدين على الوجه الكامل الصحيح ملزوم بالتقدم الكامل، والنصر النهائي، والتقدم لازم له، ومعلوم أن النسبة بين الملزوم واللازم لا تعدو أحد أمرين: إما أن تكون المساواة، وإما أن تكون العموم والخصوص المطلق؛ لأن اللازم لا يكون أخص

4 - بيان الموقف الصحيح من الحضارة الغربية

من ملزومه مطلقًا ولا من وجه، ولا يكون مباينًا له كما هو معلوم، فالإنسان مثلًا ملزوم بالحيوانية والناطقية، وهما لازمان له، وأحد هذين اللازمين مساو له في الماصَدَق وهو الناطق، والثاني أعم منه وهو الحيوان، ومعلوم أن الوحي الصحيح ناقل عن حكم العقل كما هو معروف، فالنسبة بين الأمرين على الحق الذي اقتضاه الوحي المنزل هي النسبة بين الملزوم واللازم. فانظر كيف استطاع أولئك الأعداء أن يصوروا عند هؤلاء من المتسمين باسم الإسلام نسبة الملزوم للازمه بصورة مضادة أخرى هي نسبة الضد للضد، فقطعوا بذلك صلتهم بربهم ودينهم. ثم إنا نريد هنا أن نسلط بعض الأضواء على حقيقة الموقف الطبيعي للإسلام والمسلمين من الحضارة الغربية بفلسفة منطقية تترك ليل المسألة نهارًا، وذلك بكشف نقابها واستبانة ما وراء بابها بدليل اصطلاحي متقدم مشهور يسميه علماء الجدل (التقسيم والترديد)، ويسميه علماء المنطق (الشَّرْطِي المنفصل)، ويسميه علماء الأصول (السبر والتقسيم)، ولما كان هذا الدليل العظيم هو السبيل الوحيد إلى إيضاح هذه المسألة إيضاحًا لا يختلف بعده اثنان أردنا أن نشير إليه إشارة، خاطفة ثم نذكر أمثلة له في القرآن العظيم، وآثارًا من آثاره التاريخية، ثم نطبقه على مسألتنا تطبيقًا واضحًا يكشف ظلامها وينير دُجاها. اعلم أولًا أن مبنى هذا الدليل العظيم على أمرين: أحدهما: حصر أوصاف المحل بطريق من طرق الحصر،

كالعقل، والاستقراء، وهذا هو المعبر عنه بـ (التقسيم). والئاني: اختبارها بعد الحصر اختبارًا صحيحًا يتميز به فاسدها من صحيحها، وهو المعبر عنه بـ (السبر)؛ لأن السبر في لغة العرب هو الاختبار. والأصوليون يستعملون هذا الدليل في استنباط علة الحكم الشرعي بطريق من طرق الحصر، ثم يبطلون الباطل منها بطريق من طرق الإبطال المعروفة عندهم، ويبقون الصالح منها للتعليل كما هو معلوم في محله. والمنطقيون يستخدمون هذا الدليل لغرض آخر وهو استنتاج وجود النقيض من عدم نقيضه، أو عدمه من وجوده، أو استنتاج عدم الضد من وجود ضده، ونحو ذلك كما هو مفصل في أقسام قياس الشَّرْطِي المنفصل الثلاثة، كما هو معلوم في محله. والجدليون يستعملون هذا الدليل لإفحام الخصم وإقناع القاصر عن الدليل، فيحصرون الأوصاف ويسبرونها بعد الحصر فيتبين صحيحها من فاسدها. وسنذكر هنا أربعة أمثلة لهذا الدليل في القرآن العظيم كل واحد منها فيه إفحام لبعض المجادلين من الكفار: الأول منها: قوله تعالى ردًّا على الذين قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5]: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} [الطور: 35] فكأنه يقول لهؤلاء المنكرين توحيده في عبادته: لا يخلو الأمر بالتقسيم

الصحيح من واحدة من ثلاث حالات: الأولى: أن يكونوا خُلقوا من غير خالق خلقهم أصلًا. الثانية: أن يكونوا خلَقُوا أنفسهم. الثالثة: أن يكون لهم خالق غير أنفسهم هو ربهم ومعبودهم الواحد جل وعلا. وإذا رجعنا إلى هذه الأقسام الثلاثة -التي انحصرت فيها الأوصاف بالسبر- وجدنا الأولين منها باطلين بطلانًا ضروريًا لا يحتاج إلى دليل، فتعين صحة القسم الثالث وهو أنهم خلقهم خالق هو ربهم ومعبودهم. فدلالة هذا السبر والتقسيم على عبادة الله وحده قطعية، وقد عُرف في الآية القسم الصحيح من الأقسام لظهوره؛ ولأنه ذكر في آيات أخرى. "وحذف ما يعلم جائز" (¬1). المثال الثاني والثالث: هما المذكوران في سورة البقرة وسورة مريم، فإن الله -تعالى- أبطل في كل واحدة من السورتين الكريمتين المذكورتين مقالة كاذبة بهذا الدليل بعينه، وحذف في كلا الموضعين بعض الأقسام، وما حُذف في كل واحد منهما أُثبت في الآخر ليدل الثابت على المحذوف في كل الموضعين. ¬

_ (¬1) من ألفية ابن مالك (ص 18) وهو جزء من بيت، وتمامه: وحذف ما يعلم جائز كما ... تقول زيد بعد من عندكما

أما المقالة التي كذبها الله -جل وعلا- بهذا الدليل في سورة البقرة: فهي قول اليهود: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} فقد قال تعالى ردًّا عليهم: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)} [البقرة: 80] فكأنه يقول لهم: لا يخلو مستندكم في دعواكم أن النار لن تمسكم إلا أيامًا معدودة من واحدة من ثلاث حالات: الأولى: أن يكون الله أعطاكم عهدًا بذلك، فإنه لا يخلف الميعاد. الثانية: أن تكونوا اطلعتم على الغيب فعلمتم أن الله كتب ذلك على اللوح المحفوظ أن النار لن تمسكم إلا أيامًا معدودة. الثالثة: أن تكونوا قلتم ذلك افتراء وكذبًا على الله. وإذا رجعنا إلى الأقسام الثلاثة وجدنا الأولين باطلين بطلانًا ضروريًا، فتعين صحة الثالث وهو أنهم قالوا ذلك كذبًا وافتراء دون علم. وقسم اطلاع الغيب المحذوف في آية البقرة هذه مذكور في مريم في الدليل المذكور بعينه في رده تعالى بالدليل المذكور على العاص بن وائل (¬1) في قوله له: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77] فإن الله قال ¬

_ (¬1) نزول الآية فيه أخرجه البخاري في التفسير، باب {أَفَرَأَيتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَال لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)}. حديث رقم (4732) 8/ 429، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب سؤال اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح. حديث رقم (2795) 4/ 2153.

ردًّا عليه: {أَطَّلَعَ الْغَيبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا} [مريم: 78، 79] فحذف في مريم القسم الصحيح الذي هو أن الجميع كاذبون المشار إليه في البقرة بقوله: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)} [البقرة: 80]. فالحاصل أن التقسيم الصحيح يحصر الأوصاف في ثلاثة: هي العهد من الله بذلك، واطلاع الغيب، والكذب على الله، اثنان باطلان، وواحد صحيح بالسبر الصحيح، وقسم اطلاع الغيب محذوف في البقرة مثبت في مريم، وقسم الكذب محذوف في مريم مثبت في البقرة، فكانت المثبت دليلًا على المحذوف في كلا الموضعين. وسنذكر الآن إن شاء الله تعالى أثرين تاريخيين من آثار هذا الدليل العظيم: الأول منهما: أثره في العقائد، وذلك هو ما ذكره الخطيب في تاريخ بغداد وغيره مما يدل على أن أول مصدر تاريخي لكبح جماح المحنة العظمى -أعني محنة القول بخلق القرآن- هو هذا الدليل العظيم؛ وذلك أن محنة القول بخلق القرآن نشأت في أيام المأمون واستمرت في شدتها على ساق وقدم أيام المعتصم والواثق حتى أزالها الله على يد المتوكل، وقد عُرف في التاريخ ما أصاب العلماء فيها من الأذى والضرب والقتل حتى اضطر كثير منهم إلى المداهنة بالقول خوفًا، وقد ضُرب فيها سيد المسلمين في زمانه الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - تغمده الله برحمته وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا - في أيام المعتصم ضربًا مبرحًا كما هو معلوم، وقد

ذكر الخطيب في تاريخ بغداد في كلامه على ترجمة أحمد بن أبي دؤاد من طريق محمد بن الواثق ما ملخصه: قال: كان أبي إذا أراد قتل إنسان أحضرنا فجيء بشيخ مكبل بالحديد يريدون قتله -يعني في محنة القول بخلق القرآن- فقال للواثق: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال: لا سلمك الله. فقال الشيخ: بئسما أدبك مؤدبك يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] والله ما حييتني بأحسن منها ولا رددتها. وقال الواثق: ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه -يعني ابن أبي دؤاد- وقال الواثق لابن أبي دؤاد: كلم هذا الشيخ وناظره. فقال ابن أبي دؤاد: ما تقول في القرآن؟ فقال الشيخ: ما أنصفتني -يعني ولي السؤال- فقال له ابن أبي دؤاد: سل. فقال: ما تقول في القرآن؟ فقال: مخلوق، فقال الشيخ: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون (¬1) [عالمين بها أو غير عالمين؟ فقال: غير عالمين. فقال: سبحان الله! ! شيء لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت؟ قال: فخجل! ! فقال: أقلني والمسألة بحالها، قال: نعم] ثم قال له: ما تقول في القرآن؟ فقال: مخلوق. فقال الشيخ: هذا شيء علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنه أو شيء جهلوه؟ فقال ابن أبي دؤاد: هذا شيء علموه فلم يدعوا الناس ¬

_ (¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين زيادة يتم بها الكلام. انظر: تاريخ بغداد (4/ 152).

إليه. فقال له الشيخ: هلَّا وسعك ما وسعهم؟ فقام الواثق إلى محل خلوته واضطجع وجعل يقول: سبحان الله شيء لم يعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت؟ سبحان الله شيء علموه ولم يدعوا الناس إليه ألم يسعك ما وسعهم؟ وسقط من عينه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن بعد ذلك أحدًا، وأمر بفك القيود عن الشيخ وإعطائه مالًا والإذن له بالانصراف إلى أهله. وهذه القضية وإن كانت أسانيدها لا تخلو من بعض من لا يُعرف فهي مشهورة عند العلماء متلقاة منهم بالقبول، والاحتجاج بها صحيح لا شك فيه. ومضمون احتجاج هذا الشيخ على ابن أبي دؤاد هو هذا الدليل العظيم فكأنه يقول: لا يخلو الأمر بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين: إما أن يكون النبي وخلفاؤه الراشدون كانوا عالمين بمقالتك هذه، وإما أن يكونوا كانوا جاهلين بها، ثم رجع بالسبر الصحيح إلى القسمين فبين أن ابن أبي دؤاد مرتكب غير الصواب على كل تقدير، فعلى أنهم كانوا عالمين بها ولم يدعوا الناس إليها فله فيهم أُسوة في عدم الدعوة إليها، ولا شك أنه يسعه ما وسعهم، وعلى أنهم كانوا غير عالمين بها فدعواه هو أنه عالم بما لم يعلموا أمرها واضح. ومن آثار هذا الدليل التاريخية الأدبية: ما ذكروه أن عبد الله بن همام السلولي وشى به واشٍ إلى ابن زياد فدعا ابن زياد ابنَ همام السلولي وقال: ما حملك على أن تقول فيَّ كيت وكيت؟ فقال: أصلح الله الأمير والله ما قلت شيئًا من ذلك! ! فأحظر ابن زياد الواشي وقال: هذا أخبرني أنك قلته. فسكت ابن همام هنيهة ثم قال مخاطبًا للواشي:

وأنت امرؤ إما ائتمنتك خاليًا ... فخنت وإما قلت قولًا بلا علم فأنت من الأمر الذي كان بيننا ... بمنزلة بين الخيانة والإثم فقال ابن زياد: صدقت، وطرد الواشي، ولم يصدر منه سوء للسلولي (¬1). والبيتان مضمنان هذا الدليل المذكور، فكأنه يقول: لا تخلو بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين: إما يكون ائتمنك على سر فأفشيته، وإما أن تكون قلت ذلك عليه كذبًا وبهتانًا، ورجع بالسبر الصحيح إلى القسمين فوجد الواشي مرتكبًا ما لا ينبغي على كل تقدير؛ لأنه إما خائن لأمانته أو كاذب ذو بهتان. فإذا عرفت هذا الدليل ورأيت بعض أمثلته في القرآن وبعض آثاره التاريخية، فاعلم أنا نريد الآن أن نوضح به الموقف الطبيعي للإسلام من الحضارة الغربية: اعلم أولًا أن الحضارة الغربية قد دل الاستقراء التام القطعي الصحيح على أن منها ما هو نافع غاية النفع لا غنى عنه للبشر في ميادين الحياة في حالاتها الراهنة وتطوراتها المتتابعة، وذلك ما خدمت به الإنسان من حيث إنه جسد، فقد خدمت الإنسان من ناحية عنصره الجسدي خدمات هائلة ما كانت تدخل في تصور البشر، وتقدمها المادي - في جميع النواحي والميادين - والتنظيمي أظهر من أن يحتاج إلى التنويه عنه، ومنها ما هو ضار غاية الضرر وهو عام بجميع اتجاهاتها الروحية، وهي غنية من جهة الناحية المادية مفلسة من ¬

_ (¬1) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (14/ 127).

الناحية الروحية، وطغيان المادة على الروح يهدد البشر بخطر داهم، ومن المعلوم أن الإنسان مركب من عنصرين مختلفين في الحقيقة والمفهوم والصفات النفسية، وباختلاف جوهريهما تختلف متطلباتهما، فللجسم متطلبات وللروح متطلبات، ولا يسد أحدها مكان الآخر، فالحضارة استطاعت تحصيل متطلبات الجسم، وعجزت عن تحصيل متطلبات الروح، والعالم إن لم تدبره الروح المهذبة المرباة تربية سماوية على ضوء الوحي الصادر من خالق السموات والأرض كان في خطر وقلق دائمين؛ لأن الروح البهيمية من طبيعتها الافتراس والابتزاز والظلم مهما قدرت، وآثار عدم التربية الروحية الصحيحة ظاهرة في أقطار الدنيا من الكوارث والمصائب وأنواع الظلم الفادح الواقع على كل دولة ضعيفة وكل شعب ضعيف كما لا يخفى. والذي نريد أن نقوله هنا: هو أن التقسيم الصحيح يحصر موقف الإسلام من الحضارة الحالية في أربعة أقسام لا خامس لها ألبتة: الأول: أخذها كلها ضارها ونافعها. الثاني: تركها كلها نافعها وضارها. الثالث: أخذ ضارها وترك نافعها. الرابع: أخذ نافعها وترك ضارها. فنرجع إلى هذه الأقسام الأربعة بالسبر الصحيح فنجد ثلاثة أقسام منها باطلة وواحدًا صحيحًا، أما الثلاثة الباطلة: فالأول منها: هو أخذها كلها؛ لأن ما فيها من الكفر والإلحاد

والانحطاط الخلقي والتمرد على خالق السموات والأرض أوضح من أن ننوه عنه، ولا يقول بأخذه إلا مطموس البصيرة طمسًا كليًّا. والثاني من الأقسام الباطلة: تركها كلها؛ لأن ما فيها من التقدم المادي والتنظيمي لا يصح التفريط فيه؛ لأن ذلك يؤدي إلى العجز الدائم والتواكل والتكاسل، ويخالف الأمر السماوي في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. والثالث من الأقسام الباطلة: أخذ ضارها وترك نافعها، وهذا لا يفعله من يصدق عليه اسم العاقل. الرابع وهو القسم الصحيح: أخذ النافع منها وترك الضار، وذلك بالسعي البالغ في تحصيل ما اشتملت عليه من الإنتاجات المادية والتنظيمية، وقضية تحصيل ذلك ممكنة مع الجد لا مستحيلة، مع التباعد الكامل عن ما جنته من الكفر والإلحاد والتمرد على نظام السماء الذي وضعه خالق الكون - جل وعلا - على لسان سيد البشر - صلوات الله وسلامه عليه - وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل، فإنه لما حاصره الأحزاب في غزوة الخندق وقال له سلمان: "كنا إذا خفنا خندقنا" (¬1) انتفع في دنياه بتلك الخطة العسكرية - التي هي حفر الخندق - ولم يمنعه من ذلك أن الأذهان التي ابتكرتها أذهان كفار مجوس يعبدون النار. وقد هم - صلى الله عليه وسلم - أن يمنع وطء النساء المراضع؛ لأن العرب كانوا يظنون أن وطء المرضع يضر بولدها ويضعف عظمه، وفي ¬

_ (¬1) تقدم في المحاضرة الثانية.

ذلك يقول شاعرهم (¬1): فوارس لم يغالوا في رضاع ... فتنبو في أكفهم السيوف فأخبرته فارس والروم أنهم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم، فأخذ - صلى الله عليه وسلم - تلك الخطة الطبية من الكفار، ولم يمنعه من الانتفاع الدنيوي بها أنهم كفار. وقد انتفع - صلى الله عليه وسلم - في سفر الهجرة بخبرة عبد الله بن الأريقط الدؤلي حين دله على الطريق حتى وصل المدينة بسلام (¬2)، ولم يمنعه من الانتفاع بخبرته الدنيوية كونه كافرًا، وفي المثل: "اجتن الثمار وألقِ الخشبة في النار". ومن المؤسف أن أكثر المثقفين في الأقطار الإسلامية في جميع أنحاء الدنيا يعكسون القضية، فيأخذون من حضارة الغرب كل ما فيها من إفلاس روحي، وانحطاط خلقي، وإلحاد كفري، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه خالق الكون، في الوقت الذي لم يحصلوا فيه على شيء من إنتاجاتها المادية والتنظيمية، فخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين. ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل (¬3) فدين الإسلام دين التقدم في جميع ميادين الحياة، ودين تهذيب ¬

_ (¬1) تقدم في المحاضرة الثانية. (¬2) كما في البخاري، كتاب مناقب الانصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (1305) 7/ 230. (¬3) تقدم في المحاضرة الثانية.

الروح التقدمية وتصفيتها من الأمراض المخلة بمعنى إنسانيتها على ضوء تعليم خالق الكون - جل وعلا -. ومن أراد بعض الأمثلة الرائعة على جمع الإسلام بين التقدم في الميادين والمحافظة على الآداب الروحية السماوية فليقرأ قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ)} الآيتين [النساء: 102] فإنك تراه ينظم الخطة العسكرية أحسن تنظيم وأدقه في الوقت الذي يحافظ فيه على ذلك الأدب الروحي السماوي في وقت التحام الكفاح المسلح والرؤوس تنزل عن الأعناق، ألا وهو الصلاة جماعة، في ذلك الوقت الضنك. واقرأ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} [الأنفال: 45] فتراه يأمر بذكر الله وتقوية الصلة به - جل وعلا - عند التقاء الصفين في ميدان القتال، ومن ذلك ما يعتقده الكثيرون من أن الإيمان ليس بسلاح يُقاوم كل سلاح مهما بلغ من التطور. فنريد هنا أن نلقي الضوء على أن الإيمان هو أعظم سلاح كما شهد بذلك التاريخ القرآني، ألا ترون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حاصره هو وأصحابه الأحزاب ذلك الحصار العسكري التاريخي العظيم المذكور في قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: 10, 11] وجميع أهل الأرض في ذلك

الوقت يقاطعون النبي وأصحابه سياسة واقتصادًا، وفي الوقت نفسه غدرت يهود قريظة فلم يبق للمسلمين في ذلك الوقت من أهل الأرض صديق ولا معين، ألا ترون أنهم لم يقاوموا هذا الحصار العسكري التاريخي العظيم في هذا الموقف الحرج إلا بسلاح الإيمان الصادق وصدق الالتجاء إلى الله - جل وعلا -كما قال تعالى عنهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)} [الأحزاب: 22] وقد كان من نتائج هذا الإيمان العظيم والتسليم الخالص لله -جل وعلا- ما قصه الله علينا في كتابه في قوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال وَكَانَ اللَّهُ قَويًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} يعني من حصونهم {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 26، 27] وهذا الذي نصرهم الله به ما كان بحسبانهم ولا ظنهم كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]. ولما علم الله - جل وعلا - من أهل بيعة الرضوان ذلك الإيمان والإخلاص الذي نوّه عنه بالاسم المبهم الذي هو اسم الموصول في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 18] أي من الإيمان والإخلاص، كان من نتائج ذلك الإيمان ما ذكره في قوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرًا (21)} [الفتح: 21] فصرح بأن إمكانياتهم العددية والعُددية لا تقدرهم عليها، فأقدرهم الله عليها لإخلاصهم

5 - بيان أن الإسلام ينظم جميع شؤون الحياة

وإيمانهم. وفي الختام نقول: إن دين الإسلام صالح لتنظيم أحوال البشرية في جميع أطوارها واتجاهاتها، ومعلوم أن المصالح التي يدور حولها التشريع ثلاثة: الأولى: درء المفاسد، والثانية: جلب المصالح، والثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. ودين الإسلام متضمن من المحافظة على تلك المصالح ما لا يخفى إلا على جاهل، ومعلوم أن المفاسد التي يُحَاوَل درؤها عن البشر واردة على ستة أشياء على حفظها مدار العدالة والإنصاف في هذه الحياة الدنيا: الأول منها: الدين، فظلم الإنسان بإضاعة دينه وإفساد عقيدته هو أعظم أنواع الظلم. والثاني: النفس. والثالث: العقل. والرابع: النسب. والخامس: العرض. والسادس: المال. فما في الدين الإسلامي من الأمر بإدخال الناس في الدين بكل الوسائل وقتل المرتدين عنه والزنادقة المضللين ونحو ذلك كله محافظة على دين الإسلام.

ومحافظته على الأنفس معروفة، ومن أجلها شرع القصاص {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. ومحافظته على العقول معروفة، ومن أجلها حُرم شرب الخمر، وأُوجب الحد الرادع في ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ ... } الآية [المائدة / 90] "كل مسكر حرام" (¬1). ¬

_ (¬1) هذه الجملة رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم: 1 - عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، برقم (2003) 3/ 1587. 2 - أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر، برقم (242) 1/ 354، وأطرافه في (5585، 5586)، ومسلم في الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام. برقم (2001) 3/ 1585 بلفظ (كل شراب أسكر فهو حرام). 3 - جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، برقم (2002) 3/ 1587. 4 - أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: أخرجه البخاري في المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل ججة الوداع، برقم (4343، 4344، 4345) 8/ 62، وأطرافه في (6124، 7172)، وأخرجه مسلم في الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، برقم (1733) 3/ 1586. 5 - بريدة رضي الله عنه أخرجه مسلم في الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت. حديث رقم (977) 3/ 1585. وفي الباب - في غير الصحيحين - عن ابن مسعود، وأشج عبد القيس، وأبي هريرة، وعمر بن الخطاب، وأبي وهب الجيشاني، ووائل بن حُجر، وابن عباس، وأنس، وعبد الله بن عمرو، وقيس بن سعد بن عبادة، وبريدة، وفيروز بن الديلمي، وأبي سعيد الخدري، وعلي، وعبد الله بن المغفل، =

ومحافظته على الأنساب معروفة ولأجلها شرع تحريم الزنا لئلا تختلط أنساب المجتمع، وأوجب الحد فيه {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور: 2] ومن أجل المحافظة على النسب أوجب العدة على النساء عند المفارقة لئلا يختلط ماء رجل بماء رجل آخر في رحم امرأة {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} الآية [البقرة: 234] ومن أجل ذلك منع سقي زرع الرجل بماء غيره، فمنع نكاح الحامل حتى تضع حملها {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. ومحافظته على الأعراض معروفة، ومن أجلها شرع حد القذف مع رد شهادة القاذف والحكم بتفسيقه {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4، 5]. ومحافظته على المال معروف، ومن أجلها أوجب حد السرقة {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} الآية [المائدة: 38] فتلك اليد التي خلقها الله وجعلها ببديع صنعه في غاية الاستعداد إلى مزاولة الأعمال النافعة لتكون أداة فعَّالة في نفع الدنيا والآخرة لما مدت أصابعها الخائنة الخسيسة إلى هذه الرذيلة التي هي في غاية الانحطاط والخسة أمر الله بإزالتها كعملية تطهيرية كإزالة عضو فاسد لتصح بإزالته ¬

_ = وقرة بن إياس، وميمونة رضي الله عنهم أجمعين.

بقية البدن؛ ولذلك إذا قطعت يد السارق طهر جميع بدنه من النجاسة المعنوية الروحية التي لطخته بها تلك اليد الخائنة، وقد ثبت في الصحيحين (¬1) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن الحدود الشرعية كفارات ومطهرات من تلك الرذائل كما هو معروف. ومحافظة دين الإسلام على جلب المصالح معروفة، ألا ترون أن أطول آية في المصحف الشريف هي آية الدَّين؟ فانظروا كيف علَّم الله خلقه فيها كتابة الوثائق وإشهاد البينات؛ لئلا يضيع كبير ولا صغير من أموالهم، وفتح لهم الأبواب، ورسم لهم الخطط الحكيمة لاستجلاب ما ينفعهم من جميع النواحي، وأمرهم بمكارم الأخلاق وحسن المعاملات، وبين لهم أصول الاقتصاد. ومن المعلوم عند جميع العقلاء أن مسائل الاقتصاد راجعة إلى أصلين: الأول: حسن النظر في طريق اكتساب المال. والثاني: حسن النظر في صرف المال في مصارفه. والدين يوضح ذلك كله على ضوء تنظيم خالق البشر لوجوه الاكتساب ووجوه الصرف في حدود معروفة معينة، فيمنع الاكتساب المنطوي على ما لا ينبغي، كقوله: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ومنع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الحدود، باب: الحدود كفارة. حديث رقم: (6784)، 12/ 84، ومسلم في الحدود، باب: الحدود كفارة لأهلها. حديث رقم (1709) 3/ 1333.

6 - الرابطة الإيمانية

الصرف فيما لا ينبغي، كقوله: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال: 36]. والقصد الإشارة إلى رؤوس أقلام من المسائل؛ لأن المقام لا يسع كمال البحث، وتبيين أن دين الإسلام هو الرابطة العظمى التي تجمع المفترق، وتؤلف المختلف، وتلم الشعث، فتجعل بعضنا أولياء بعض، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، وتجعل الله ولينا، والصالحين منا أولياء الله، وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55] {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس: 62] وتجعل الملائكة أولياءنا {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ... إلى قوله {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية [فصلت / 31]. ولأجل هذه الولاية الإيمانية بيننا وبينهم دعوا لنا ذلك الدعاء القرآني العظيم {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] إلى آخر الدعاء. ويبين لنا أن جميع الروابط تتلاشى أمام هذه الرابطة السماوية {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] إذ لا رابطة نسبية أعظم من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر، وقد رأيت تلاشيها أمام رابطة الإيمان، فالدين الإسلامي مع ذلك لا ينكر أصل الروابط، ولا يريد إذابة الأسرة النسبية وأواصر القرابات، فقد

خصص بالميراث القرباء مراعاة لتلك الرابطة، وأوجب صلات الأرحام وشدد في قطعها مراعاة لتلك الرابطة، ولا ننكر أن الله -جل وعلا- قد نفع بعض رسله الكرام بعصبيات نسبية لا تَمُتُّ إلى الدين بصلة، وجعل لذلك آثارًا حسنة على الإسلام وأهله، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)} [الضحى: 6] يعني آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب وذلك بعصبة نسبية لا تمت إلى الدين بصلة، وقد بين الله لنبيه أن ذلك منَّة منه عليه، ومن آثار تلك القرابة النسبية قول أبي طالب (¬1): والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا فقد عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه القرابة النسبية لبني المطلب بن عبد مناف، فإنهم ناصروا الهاشميين مناصرة عصبية لا دينية كما هو معلوم؛ ولذلك لما قسم - صلى الله عليه وسلم - خمس غنيمة خيبر جعل نصيب ذي القربى من الخمس لبني هاشم وبني المطلب، ومنع منه إخوتهم الآخرين من بني عبد شمس وبني نوفل؛ لأن أولاد عبد مناف بن قصي أربعة: هاشم، والمطلب، وعبد شمس، ونوفل، ولما جاء عثمان بن عفان وجبير بن مطعم يكلمان النبي - صلى الله عليه وسلم - في إعطائه بني المطلب من الخمس دون بني عبد شمس وبني نوفل بين لهم أن المطلبيين لم يفترقوا مع الهاشميين في جاهلية ولا إسلام (¬2)، ومعلوم أن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. وجبير بن مطعم بن عدي بن ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (3/ 42). (¬2) كما في البخاري: فرض الخمس، باب من الدليل على أن الخمس للإمام، حديث رقم (3140) 6/ 244، وأطرافه في (3502، 4229).

نوفل بن عبد مناف. وقد قال أبو طالب في لاميته المشهورة (¬1): جزى الله عنا عبد شمس ونوفلًا ... عقوبة شر عاجل غير آجل ميزان قسط لا يخيس شعيرةً ... له شاهد من نفسه غير عائل وقد نفع الله بالرابطة النسبية نبيه شعيبًا ونبيه صالحًا، قال تعالى عن قوم شعيب: {قَالُوا يَاشُعَيبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَينَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] وقال في قوم صالح: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)} [النمل: 49] ولما كان لوط ليس له في قومه عصبة ظهر فيه أثر ذلك حتى قال ذلك الكلام المحزن: {قَال لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)} [هود: 80]. فالإسلام هو رابطتنا الحقة التي تجعلنا كالجسد الواحد، ولا ينافي ذلك أن لكل منا بعض الروابط الخاصة في حدود الدين الحنيف، فإذابة معنى الأسرة إذابة كلية أقرب إلى الشيوعية منه إلى الإسلام، أما رابطة الإسلام فهي التي يُنادى بها، ولا يجوز أن يُنادى بغيرها محاولة للقضاء على الروابط السماوية التي هي الرابطة حقًّا، وكل تضامن يخالفها فهو باطل، والله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] أي: لئلا يتعصب كل شخص. ¬

_ (¬1) وهي في البداية والنهاية (3/ 53 - 57)، الأضواء (2/ 363).

[5] الرابطة الإيمانية

[5] الرابطة الإيمانية

(¬1) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. أما بعد: فإن رابطة الإسلام التي جمعتنا بكم في هذا السفر البعيد هي أعظم رابطة، ونحن دائمًا في المناسبات نبين أنها أقوى من رابطة النسب، والدليل على أن رابطة الإسلام أقوى من رابطة النسب أن الله تعالى يقول في كتابه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] لأن أقرب العصبات الآباء والأبناء والإخوان والعشائر، كما أننا نبين دائمًا بالمناسبات أن رابطة الإسلام لقوتها ربطت بين السماء والأرض، وربطت بين الخلق والخالق؛ ولذلك كان الله ولي المؤمنين من أجل رابطة الإيمان، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} الآية [المائدة / 55] وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 11] هذه الآيات تبين أن الله هو ولي المؤمنين؛ لقوة رابطة الإيمان، كما بين أن المؤمنين أيضًا المتقين أولياء الله، قال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس: 62] ثم بين أن سبب ولايتهم لله هو الإيمان والتقوى حيث قال بعد قوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس: 62] مبينًا أولياء الله، قال الله في ذلك: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} [يونس: 62، 63]. ولأجل هذه الرابطة العظمى رابطة الإسلام كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ولي ¬

_ (¬1) من الشريط السادس.

المؤمنين، لأن الله يقول: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55]. ويقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]. كذلك هذه الرابطة جعلت الملائكة أولياء المؤمنين، قال الله تعالى في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت: 30, 31] ولأجل هذه الرابطة القوية - رابطة الإيمان - التي ربطت بين بني آدم والملائكة فوق السموات من شدة ربطها عطفت قلوب الملائكة من فوق سبع سماوات علي بني آدم في الأرض، فدعوا لهم بذلك الدعاء العظيم المذكور في القرآن في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 7] فوصف الملائكة بالإيمان ثم قال: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} فوصف الآدميين بالإيمان فعُرف من ذلك أن الرابطة بين الآدميين والملائكة: الإيمان، كان من نتائج ذلك الرابط - وهو الإيمان - أن دعوا للآدميين كما ذكره الله عنهم في قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ... } إلى آخر الآيات [غافر / 7، 8]. هذه الرابطة عطفت علينا قلوب الملائكة من فوق سبع سماوات مع اختلافنا معهم في الأصل والعنصر، فدل ذلك على أنها تربط بيننا ونحن أبناء رجل واحد وامرأة واحدة ربطا وثيقًا؛ ولأجل ذلك بين

النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جميع المسلمين في أقطار الأرض من مشارقها ومغاربها وجنوبها وشمالها كأنهم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فعلينا أن نتساعد ونتعاون في الخير، وأن نحافظ على أعمالنا حتى تكون صالحة ترضي الله، وقد بين لنا الله في كتابه أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة أمور إذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة فالعمل صالح يرضي الله، وإذا اختل واحد منها فالعمل غير صالح: الأول من هذه الأمور الثلاثة: هو أن يكون ذلك العمل مطابقًا لما جاء به سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله يقول في هذا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ويقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ويقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]. الثاني من تلك الأمور الثلاثة: هو كون العمل فيما بين الإنسان وبين ربه في نيته التي لا يعلمها إلا الله خالصًا لوجه الله، لا لقصد غرض دنيوي، ولا مال ولا جاه؛ لأن الله يقول: {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] ويقول: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)} [الزمر: 14]. الأمر الثالث: أن يكون العمل مبنيًّا على أساس العقيدة الصحيحة؛ لأن العمل كالسقف، والعقيدة كالأساس؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 124] فقيد العمل بالإيمان، ثم بين أن الأعمال الصالحة من غير المؤمنين باطلة، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)}

[الفرقان / 23] وقال تعالى في أعمال الكفار في آيةٍ: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] وقال في آية أخرى: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} [النور: 39]. فتبين مما قلنا أن على المؤمن أن يتحافظ على هذه الأمور الثلاثة، فيكون عمله مطابقًا للشرع، مخلصًا فيه لله، ويكون على أساس العقيدة الصحيحة، وخير ما تؤخذ منه العقيدة الصحيحة: القرآن العظيم، كما بينه الشيخ عثمان فودي في أول كتابه إحياء السنة، فعلينا أن نثبت ما أثبته القرآن، وأن ننفي ما نفاه القرآن، وأن نسكت عما سكت عنه القرآن لنهتدي دائمًا بكتاب الله. ومما دلنا القرآن عليه: أنا لا نأمن مكر الله؛ لأن الله يقول: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 99] وأن نخاف من الله، وإذا كان أحدنا عنده أسلاف صالحون لا نتكل على ذلك؛ لأن الإنسان بحسب عمله، والله يقول: {لَيسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [النساء: 123، 124]. وسنضرب أمثالًا في القرآن؛ لأن الإنسان لا يتكل إلا على الله ثم على عمله: أفضل البشر على الإطلاق سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأبو طالب عمه الذي رباه لما حضرته الوفاة كما ثبت في صحيح مسلم والبخاري - وذلك أصح الصحيح - جاءه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا عم قل لي كلمة أشهد لك بها عند الله، فأنزل الله عليه جبريل بهذه الآية: {إِنَّكَ لَا

تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} (¬1) [القصص: 56] ( ... ) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في التفسير، باب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ... } , حديث رقم (4772)، (8/ 506)، وأطرافه في (1360، 3884، 4675، 6681)، ومسلم في الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع. حديث رقم (24)، (1/ 54). (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وقد تقدم كلام الشيخ رحمه الله على هذا الموضوع ضمن المحاضرة رقم (4)، وسيأتي أيضًا في المحاضرة رقم (6).

[6] (الرابطة الإيمانية)

[6] (الرابطة الإيمانية)

(¬1) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: نريد في هذا الاجتماع المبارك أن نبيّن أمام إخواننا العلماء الأفاضل جُملًا من محاسن دين الإسلام. أولًا: نبيّن أن رابطة الإسلام هي أعظم جميع الروابط، لأنّ الروابط ما عداها إنَّما هي حول أمور دنيويّة، كرابطة النسب، ورابطة الصداقات، وروابط التجارات، وغير ذلك من الروابط الأرضية، أمَّا رابطة الإسلام وحدها فهي في الله الذي خلق السموات والأرض، وما كان في خالق السموات والأرض فلا شكّ أنه أعظمُ مما سواه. ونحن دائمًا -في المناسبات- نبيّن أنّ رابطة الإسلام -لشدّة قوتها- ربطت بين السماء والأرض، وربطت بين الخالق والمخلوق، ومن أجلها كان الله ولي المؤمنين، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]. وقال تعالى: {اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 11]، وولاية الله للمؤمنين التي ذكرناها الآن في القرآن إنّما هي بقوّة رابطة دين الإسلام وهذه الرابطة جعلت المؤمنين المتقين أيضًا أولياء الله، قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس: 62] ثمّ بين أولياء الله من هم فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} فكون المؤمنين المتقين أولياء الله، وكون الله وليّ المؤمنين، كلّ هذا من رابطة دين الإسلام؛ ولأجل هذه الرابطة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وليّ المؤمنين، قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى ¬

_ (¬1) من الشريط العاشر.

بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55] هذه الولاية بين المسلمين وسيَّد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - التي بيَّناها الآن في القرآن إنما هي بقوة رابطة الإسلام، وهذه الرابطة جعلت المؤمنين في أقطار الدنيا بعضهم أولياء بعض، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. ولقوة هذه الرابطة ربطت بين بني آدم في الأرض وبين الملائكة الكرام من فوق سبع سموات، كما نصّ الله على ذلك في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 7] فوصف حملة العرش فوق سبع سماوات بأنهم يؤمنون بالله، ثم بين من نتائج ذلك ما نصّ عليه في قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]، فوصف بني آدم بالإيمان أيضًا، فعلم من الآية أن الرابطة بين الملائكة وبين الآدميين هي الإيمان، كان من نتائج هذه الرابطة أن دعوا -الملائكة- للآدميّين هذا الدعاء العظيم الذي ذكره الله في القرآن العظيم في قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} إلى آخر الآيات [غافر / 7]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت: 30، 31] فقول الملائكة للآدميين: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ} تلك الولاية فيه برابطة دين الإسلام. فإذا تبين من هذه الآيات القرآنية أن رابطة الإسلام لشدّة قوتها ربطت بين الخلق والخالق، وبين الأمّة والرسول العظيم، وبين

الآدميين والملائكة؛ فإن ذلك يدل على أنّها تربط بيننا -معاشر المسلمين- لأنّنا أولاد رجل واحد وامرأة واحدة، كما يبيّن لنا ربّنا في القرآن العظيم في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13]. فهذه الرابطة التي ربطت بين الملائكة والآدميين مع اختلافهم في العنصر، واختلافهم في المكان، واختلافهم في الاتجاهات والميول، لا شكّ أنّها تربط أقوى الربط بين المسلمين الذين هم جنس واحد من رجل واحد وامرأة واحدة، فعلينا ألا نضيع هذا الربط السماويّ العظيم الذي جعله الله بيننا بسبب تشريع ربِّ العالمين، فيجب علينا أن نتعاون ونتعارف ونتساعد على توجيه المسلمين، ورفع مستوى دين الإسلام، لتكون كلمة الله هي العليا. وممّا يدعونا إليه دين الإسلام: أن نترك الخلافات والنزاعات، ونكون يدًا واحدة على الخير؛ لأنّ الاختلاف والمنازعات يؤدي للفشل وضياع القوة، والله يقول في كتابه العظيم: {ولَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، ويقول تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. وقد بيّن القرآن العظيم في سورة الحشر أن الاختلاف والنزاعات سببها ضعف العقل، ذلك في قوله تعالى في قوم كانوا مختلفين: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]، ثم بيّن العلّة فكأن قائلًا قال: ما العلةُ في كون قلوبهم شتى؟ قال الله مبيّنًا تلك العلة: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14] فآية سورة الحشر هذه التي قال

الله فيها: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14] هي دليل على أن منشأ الاختلافات إنّما هو ضعف في العقل؛ لأنّ العاقل يعلم أن الاتفاق خير من الاختلاف؛ فإذا اتفقت أنت وأخوك كانت جهوده معك، وإذا اختلفتما كانت جهود كل منكما ضدّ الآخر، وضعف العقل إنما يداوى بدواء القرآن؛ لأن القرآن نور، يقول الله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: 8]، ويقول: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، هذا النور القرآني هو الذي يكشف ظلام الجهل، ويبيّن الحق من الباطل، والنّافع من الضار، والحسن من القبيح، والله يقول في كتابه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيتًا فَأَحْيَينَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. فهذه الآية بيّنت أن دين الإسلام حياة بعد الموت، ونور بعد الظّلام، فعلينا أن نستضيء بهذا النَّور -نور القرآن العظيم- ونرى الحق في باطنه حقًّا، والباطل باطلًا، ونميز بين ما يضر وما ينفع، والسبب الأساسي لذلك أن نتحد ونكون إخوانًا متعاونين، لأنّ الخلاف هو سبب كل شرّ، وكلّ تأخر، وقد يكون العقلاء بينهم اختلاف وجهات نظر، ولكنّ هذا الخلاف لا يؤثر؛ لأنّ الأصول العظام لا خلاف فيها؛ دين واحد، وربّ واحد، ونبيّ واحد، وكتابٌ واحد، وقبلةٌ واحدة، كلّنا نستقبل قبلةً واحدة، ونحجّ بيتًا واحدًا، ونتلوا قرآنًا واحدًا، ونؤمن برب واحد، ونصدق بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، هو رسولنا، وإنَا نصدق بجميع الرّسل ولا سيّما رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالخلاف في المسائل البسيطة لا ينبغي أن يكون سببًا للتفكك، وعدم المساعدة، والصحابة -رضوان

الله عليهم- كانوا يختلفون في بعض المسائل، ولا يؤثر هذا على الاتحاد والجماعة، والأئمة الأربعة رضي الله عنهم مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد يختلفون في بعض المسائل، وذلك لا يؤثر على الألفة والاتحاد. لأن اختلاف وجهات النظر في الفروع لا يؤثر، ولا يتخذه سببًا للافتراق إلّا الجهلة، أنها أهل العلم فهذا لا يؤثر عندهم، ولا يفكّك الأخوة الإسلامية السامية. ونحن دائمًا نضرب المثل لهذا بصورة هذه الصّورة: أنّه ثبت في صحيح البخاري -وهو أصحّ كتاب بعد القرآن- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا أراد أن يغزو يهود بني قريظة قال: "من كان سامعًا مطيعًا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة" (¬1) فأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فهموا هذا النص، ولكن اختلفت وجهات نظرهم في فهمه، فقومٌ قالوا: مراد النبي: أننا نسرع إلى خيبر، وليس مراده تأخير الصلاة، فصلوا وأسرعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقومٌ آخرون من الصحابة وقفوا مع ظاهر اللفظ ولم يصلّوا العصر إلا بعد العشاء في بني قريظة، فاجتمع الجميع عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل بعد العشاء وقد اختلفوا قوم صلّوا في الطريق، وقوم لم يصلوا إلا بعد العشاء، وهذا خلاف، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وفّق الجميع وصوّبهم، ولم ينتقد على هذا ولا على هذا، وهو -صلوات الله وسلامه عليه- لا يقرّر على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماءً، حديث رقم (946) 2/ 436. وطرفه في (4119)، ومسلم في الجهاد والسير، باب: المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين. حديث رقم (1770) 3/ 1391.

شيء باطل أبدًا، فدلّ على أنّ كلّهم فعل حقًّا غير باطل، وهم مختلفون. فهذه صورة نبوية تبين أن الخلاف في الفروع والاتجاهات في فهم النصوص لا أثر لها، فالذي يتخذها وسيلة للتفكك والخلاف هو يجني على المجتمع، ويجني على الدّين، فعلينا جميعًا أن نتفطن لهذا، وأن لا نجعل النزاعات والخلافات واختلاف وجهات النظر سببًا لتفككنا؛ لأنَّا إذا تفرّقنا لم تكن لنا قوة، هذا مما يرشد إليه دين الإسلام، وهو يرشد إلى جميع الخير في جميع الميادين، وإن شاء الله في الاجتماع القادم سنبين زيادات كثيرة، وأمثلة كثيرة ممّا يدعو إليه دين الإسلام من الخير والمحاسن. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. * * *

القسم الثاني (السؤالات)

القسم الثاني (السؤالات)

السؤال الأول: قوله تعالى: {وما أكل السبع إلا ما ذكيتم}، ما قول أئمة الفروع من المالكية في قوله: {إلا ما ذكيتم}؟

السؤال الأوّل (¬1): قوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلا مَا ذَكَّيتُمْ}، ما قول أئمة الفروع من المالكية في قوله: {إلا مَا ذَكَّيتُمْ} (¬2) [المائدة / 3]. الجواب: هذا الخلاف معلوم في هذه الآية، وحاصل هذا المقام أن مثل هذا الذي سأل عنه فضيلة الشيخ ذُكر في أربع آيات من كتاب الله، اثنتان منهما: وهي الأولى والأخيرة في كل واحدة منهما زيادة، والوسطيان منهما لا زيادة فيهما. أول ما نزل في هذا: قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] فحرّمت هذه الآية هذه الأشياء، وزادت التقييد بكون الدّم مسفوحًا. ثمّ إن الله حرَّم هذه الأشياء الأربعة في سورة النحل، وهي النازلة بعد الأنعام، فسورة النحل نزلت في مكة قبل الهجرة على التحقيق إلا الآيات الأخيرة منها: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، فقد نزلت في تمثيل المشركين بشهداء أحد، وهم حمزة وأصحابه، والدليل على أن النحل نازلة بعد الأنعام في القرآن في موضعين: أحد هذين الموضعين: قوله تعالى في سورة النحل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: ¬

_ (¬1) السؤال الأول إلى السادس من الشريط الثاني. (¬2) انظر: تفسير القرطبي (6/ 50).

118]، والنازل المقصوص المحال عليه من قبل نازل في سورة الأنعام بالإجماع في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146]. الموضع الثاني من الموضعين: أن الله قال في سورة الأنعام: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148]، فبين أنهم سيقولون هذا القول في المستقبل، وأنهم وقت نزول الآية لم يقولوه فعلًا، ثم بين في النحل أن ذلك القول الموعود به وقع تمامًا، فتبيّن أنها بعدها، وذلك في قوله: {وَقَال الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا} [النحل: 35]. قال في النحل النازلة بعد الأنعام كما بيّنا: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيكُمُ الْمَيتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [النحل: 115] ولم يزد شيئًا، ثم إنه نزل في البقرة وهي نازلة في المدينة بالإجماع: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيكُمُ الْمَيتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيرِ اللَّهِ} [البقرة: 173]، ولم يزد فيها شيئًا، ثم نزلت سورة المائدة بعد الجميع، نزل بها: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ}، وذُكرت أصناف من أصناف الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردّية، وزيد في هذه الاستثناء، فزيد في الآية الأولى: التقيد بالمسفوحية، وزيد في الآية الأخيرة: الاستثناء بالتذكية، وكل منهما يحتاج إلى كلام. والآن نتكلم على محل السؤال: هذا الاستثناء أصله معروف عند علماء التفسير أن فيه وجهين: أحدهما: أنه استثناء منقطع، وهو قول القليل، منهم مالك بن

أنس، وقول الجمهور: أنه استثناء متصل، والحكم يختلف باختلاف التفسيرين. أما الجمهور الذين قالوا: إنه استثناء متصل فإنهم قالوا: حرمت عليكم الموقوذة إلا ما أدركتم فيه ذكاةً ما وذكيتموه، وحرّم عليكم ما أكل السّبع إلا ماذكيتم ولو أدركتم فيه أدنى شيء يصدق عليه اسم الحياة. ومالك بن أنس راعى أن الاستثناء منقطع، وكأنه يقول: [(¬1) حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي لم يحرم]، وعند مالك قول يوافق الجمهور. قال ابن العربي المالكي: إن قول الإمام مالك في هذا كأنه فيه شبه تناقض؛ لأنه يقول في المريضة: إنها تؤكل وإن يئس من حياتها يأسا كليًا، ويؤكل المذكى وإن يئس من حياته. ويقول في التي يئس من حياتها بالوقذ كالتي يتناثر دماغها، أو بأكل السبع كالتي تنتثر حشوتها، ومع أن فيها حركة قوية: أنها لا تُؤكل. قالوا: هذا تناقض؛ لأنك ما دمت أحللت مثل ذلك في المريضة، فكيف لا تحلّه في أكيلة السبع؟ والجمهور على أنّ أكيلة السبع مثل المريضة عند مالك لو أدرك فيها أي حياة لأكلت، وكان بعض العلماء يقول: لو كان كل ما أُنفذ مقتله مات لكانت وصية عمر بن الخطاب بجعل الخلافة شورى بين الستة لا تقبل؛ لأنه أنفذ مقتله، والطبيب قال له: أوصِ فقد أنفذ مقتلك. وقد أوصى وعُمل بوصيته، وجعل الخلافة شورى بعد نفذ مقتله، جاء ذلك يدل على ¬

_ (¬1) في هذا الموضع انقطاع يسير في التسجيل، وما بين المعقوفين زيادة من القرطبي (6/ 50) يتم بها الكلام.

السؤال الثاني: ظاهر قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} إباحة صيد الكتابي مطلقا، فهل الآية التي استدل بها مالك على تحريم صيده تخصص هذا العموم، أم لا وهي قوله تعالى: {أيديكم ورماحكم}؟

أن هناك حياة. والمالكية يقولون: مثل هذه الحياة كحياة المذبوح، لا نعتبرها حياة في الذكاة، والجمهور يقولون هذا (¬1)، وهذا قول مالك، وسبب الاختلاف هو الاختلاف: هل الاستثناء منقطع أو متصل كما بيّنا. السؤال الثاني: ظاهر قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] إباحة صيد الكتابي مطلقًا، فهل الآية التي استدل بها مالك على تحريم صيده تخصص هذا العموم، أم لا؟ وهي قوله تعالى: {أَيدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]، وهل خالفه أحد من أصحابه، أم لا؟ وهل وافقه أيضًا أحد من الأئمة أم لا؟ (¬2). الجواب: أمّا هذا فلم يوافق الإمام مالكًا فيه أحد من الأئمة الثلاثة، وخالفه جماعة من أصحابه، وروى عنه ابن بشير أنه مكروه لا حرام، وجمهور العلماء على أن صيد الكتابي كذكاته، وأنّ ذكاته بالعقر كذكاته بالذبح، وهذا عليه جمهور العلماء، ولم يوافق مالكًا فيه أحد من الأئمة الثلاثة، وكثير من أصحاب مالك خالفوه في هذا، وروى بعضهم عنه أنه مكروه كراهة تنزيه، وليس بمحرّم، وقد رواه ابن بشير وغيره، والرواية المشهورة من رواية ابن القاسم ¬

_ (¬1) يقصد الشيخ بهذا: يعني الذي ذكرنا قبل وهو أن ما أدرك منه أدنى ما يصدق من عليه اسم الحياة جازت تذكيته. (¬2) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 663)، القرطبي (6/ 301).

السؤال الثالث: لما كانت زكاة العروض للمدير عند مالك لا يلزم صاحبها أن يزكيها إلا إذا لم يبق له دينار أو درهم، فهل إذا كانت الدراهم والدنانير تباع بالأسواق، وتوجد فيها الأرباح الكثيرة، ولم يشترها المدير يعد ذلك فرارا من الزكاة، ويعامل بنقيض قصده أم

أنه حرام، وأنه يفرق فيه بين ذكاة العقر وذكاة الذبح. وقد استدل مالك بالآية التي تفضّل بها فضيلة الشيخ؛ لأن الله قال في الصيد: {تَنَالُهُ أَيدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} وأضاف الأيدي والرّماح للمسلمين، فعلم من ذلك أنه لا يحل منه إلا ما كان بأيدي أو رماح المسلمين. والجمهور يقولون: إن هذا أصرح منه قول: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]. وقد أجمع العلماء أن ذبائحهم داخلة في ذلك، قالوا: ولا فرق بين العقر والذبح؛ لأن العقر والذبح كلاهما نوع من أنواع الذكاة. السؤال الثالث: لما كانت زكاة العروض للمدير عند مالك لا يلزم صاحبها أن يزكيها إلا إذا لم يبق له دينار أو درهم، فهل إذا كانت الدراهم والدنانير تباع بالأسواق، وتوجد فيها الأرباح الكثيرة، ولم يشترها المدير يُعد ذلك فرارًا من الزكاة، ويعامل بنقيض قصده أم لا؟ وهل الورق المتعامل فيه اليوم بدل العين تجب فيه الزكاة، أم هو كسائر العُروض؟ (¬1). الجواب: أمّا التجارات فجماهير علماء الأمصار، والأئمة الأربعة، والصحابة كلهم مطبقون على وجوب زكاة التجارة (¬2)، ولم يخالف في هذا إلا بعض الظاهرية كابن حزم (¬3)، قال: إنه لا ¬

_ (¬1) انظر: الأضواء (1/ 256). (¬2) انظر: المبسوط (2/ 190)، المحلى (6/ 114)، المجموع (6/ 47)، المغني (4/ 249 - 262)، الموسوعة الفقهية (23/ 268)، الأضواء (2/ 457). (¬3) انظر: المحلى (6/ 114).

زكاة في التجارة، دمانه لم يقم دليل قائم على زكاة التجارة. والجمهور معهم الحق، استدلوا على وجوب الزكاة في التجارات بأدلة: أولًا: أنها ورد فيها حديثان مرفوعان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صحابيين (¬1)، والواقع في الحقيقة أن كل واحد من الحديثين لا ¬

_ (¬1) أما الأول فحديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا: "في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البرّ صدقته". أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 213)، وأحمد (5/ 179)، والترمذي في العلل الكبير (1/ 307) وعقبه بقوله: "سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: ابن جريج لم يسمع من عمران بن أبي أنس. يقول: حُدّثت عن عمران بن أبي أنس"اهـ. وابن زنجويه في الأموال (2/ 783)، والبزار (9/ 340)، والبيهقي (4/ 147)، والحاكم (1/ 388)، وقال: "على شرط الشيخين ولم يخرجاه" اهـ. وتعقبه ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 1438) بقوله: "وفيه نظر" اهـ. وأخرجه الدارقطني (2/ 101 - 102). (بألفاظ متقاربة). والحديث ضعفه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (2/ 388)، (5/ 55 - 56)، وذكر له الحافظ في التلخيص (2/ 179) أربعة طرق -وهي عند الدارقطني- فضعف -الحافظ- ثلاثة منها وقال عن الرابع: "وهذا إسناد لا باس به" اهـ. وقال عن هذا الحديث في الدراية (1/ 260): "وإسناده حسن"اهـ. وانظر في الكلام عليه: تنقيح التحقيق (2/ 1436 - 1437)، إتحاف المهرة (14/ 11)، نصب الراية (2/ 376)، أضواء البيان (2/ 458). وأما الحديث الثاني: فحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: "أما بعد، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نُعِدُّ للبيع". أخرجه أبو داود في الزكاة، باب العروض إذا كانت للتجارة هي فيها من زكاة؟ حديث رقم (1547)، (4/ 424)، والدارقطني (2/ 127)، والبيهقي=

يخلو سنده من كلام، إلا أن الجمهور قالوا: هذان الحديثان -وإن كان كل واحد منهما لا يخلو سنده من مقال- فإنهما قد يعتضد أحدهما بالآخر، ويعتضد ذلك بما ثبت بسند صحيح لا مطعن فيه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه أخذ زكاة الجلود من تاجر يتجر بالجلود (¬1). هذا ثابت عن عمر بن ¬

_ = في الكبرى (4/ 146 - 147) وفي الصغرى (1/ 327)، والطبراني في الكبير (7/ 253، 257)، وذكره ابن حزم في المحلى (5/ 234) وقال: "أما حديث سمرة فساقط؛ لأن جميع رواته ما بين سليمان بن موسى وسمرة رضي الله عنه مجهولون لا يُعرف من هم"اهـ .. وقال الهيثمي في المجمع (3/ 69): "في إسناده ضعف"اهـ. وقال الذهبي في الميزان (1/ 408) عن سلسلة هذا الإسناد: "وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم"اهـ. وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 1435): "انفرد أبو داود بإخراج هذا الحديث وإسناده حسن غريب"اهـ. والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وحسنه ابن عبد البر، وضعفه الحافظ في التلخيص (2/ 179)، والدراية (1/ 260) والألباني في التعليق على المشكاة (1/ 568)، ضعيف أبي داود (ص 154). وانظر: بيان الوهم والإيهام (5/ 139)، إتحاف المهرة (6/ 30)، تنقيح التحقيق (2/ 1435)، التعليق المغني على الدارقطني (2/ 127 - 128)، أضواء البيان (2/ 459 - 460). (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 183)، والشافعي (شفاء العي بتخريج وتحقيق مسند الشافعي) (1/ 414)، وفي الأم (2/ 46)، وأبو عبيد في الأموال (ص 384)، وعبد الرزاق (4/ 96)، والبيهقي (1/ 327)، وابن زنجويه في الأموال (3/ 941 - 942)، وذكره ابن حزم في المحلى (5/ 234 - 235)، وقال: "وأما حديث عمر فلا يصح؛ لأنه عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه، وهما مجهولان"اهـ. وانظر: تلخيص الحبير (2/ 180).

الخطاب ثبوتًا لا مطعن فيه، ولم يخالف أحد من الصحابة، فكان إجماعًا سكوتيًّا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثبت عن عمر بن عبد العزيز -وهو من خيار الخلفاء العظام- أنه كان يقيم الناس في الطرق، ويأخذ الزكاة من التجارات (¬1)، وقد قال الإمام البخاري -إمام المحدثين- في صحيحه: "باب في زكاة التجارة" (¬2)، وجعل هذا العنوان لزكاة التجارة، ولكنه لم يكن فيها حديث على شرط البخاري -لصعوبة شرط البخاري- فساق تحت هذا العنوان بسنده الصحيح عن مجاهد أنه فسر قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]، قال: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} يعني التجارات. {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} يعني: الثمار والحبوب. وإذا عرفنا مثلًا أن جميع العلماء يقولون بزكاة التجارات، وأنه لم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد بهم كبعض أتباع داود كابن حزم (¬3)، فجميع العلماء لا يشترطون في التجارة وجوب شيء. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (ص 170)، (596). (¬2) في كتاب الزكاة باب: صدقة الكسب والتجار (3/ 357). واقتصر في هذا الباب على آية البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ -إلى قوله- أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. قال الحافظ: "وكأنه أشار إلى ما رواه شعبة عن الحكم عن مجاهد في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قال: من التجارة الحلال" اهـ. إلى آخر ما ذكره الحافظ رحمه الله. والمقصود أن أثر مجاهد لم يورده البخاري رحمه الله وإنما ذكره الحافظ كما رأيت. (¬3) انظر: المحلى (6/ 414).

وخالف مالك في مشهور مذهبه، واشترط في تقويم عروض التجارة أن يصل يد التاجر نقد المال، وعثر بالمدوّنة بربع درهم، وشرّاحها يقولون: ولو أقل من ربع درهم، وهذا خالف فيه مالك جميع العلماء، حتى إنّ ابن حبيب من أصحابه خالفه وانضمّ إلى الجمهور، ولكنّا نقول: إن الإمام مالكًا، إنما قال هذا في وقت يكثر فيه الذهب والفضة، وينتشر فيه التجارة بالذهب والفضة، وهي أغلب الأثمان، وأن الأغلب عادة لا بدّ أن يصل يد مدير العروض بعض نقد المال؛ لأنه هو الذي به العمل والسعي في جميع المشتريات، ولا يكاد تاجر يسلم منه، أنها لو كان مالك موجودًا في زمننا هذا -بحيث لا يوجد نقد ولا فضة ولا ذهب- فمن المستحيل أن يقول للتاجر: هذه التجارات الطائلة، والأرباح النامية سنة بعد سنة تُشترى بها العقارات والدُّور هي معفاة من الزكاة، هذا ليس بصحيح، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]. ونحن نقول: إنه لو فرضنا أن هناك أقوال وزيد يقول وعمرو يقول، فسيّد الخلق -صلوات الله وسلامه عليه- علمنا تعاليم واضحة، وأنوارًا نبوية ليس لنا أن نعدل عنها، وهو قوله -صلوات الله وسلامه عليه-: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (¬1) وقوله: ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق (3/ 117 - 118)، والطيالسي (ص 163)، والدارمي (2/ 161)، وأحمد (1/ 200)، والترمذي في أبواب صفة القيامة، باب=

"فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" (¬1)، والزكاة ليست بالأمر الهين؛ لأنها دعيمة من دعائم الإسلام، ومن جاءت في ذمته فويله وويله، والله يقول: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35] والتجارات نائبة عن الذهب والفضة؛ ولذا العلماء يقومونها بالذهب والفضة، ويخرجون منها ربع العشر كزكاة الذهب والفضة. أمّا الأوراق فلم تكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يرد فيها نص من ¬

_ = (60)، حديث رقم (2518) 4/ 668، والنسائي في الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات. حديث رقم (5711) 8/ 327، والحاكم (2/ 13) 4/ 99، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"اهـ. وابن حبان (الإحسان 2/ 52)، والطبراني (3/ 75 - 76)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 264)، وأبو يعلى (12/ 132)، من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه. وصححه الألباني في الإرواء (7/ 155)، غاية المرام (ص 130 - 131) المشكاة (2/ 845)، صحيح الترمذي (2/ 309)، ظلال الجنة (179). وللحديث شاهد من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عند أبي يعلى (13/ 476)، والطبراني (22/ 78)، ومن حديث أنس رضي الله عنه (موقوفًا) عند أحمد (3/ 153، 112)، ومن حديث ابن عمر عند الطبراني في الصغير (1/ 102)، وعقبه بقوله: "تفرد به عبد الله بن أبي رومان" اهـ. وانظر: الإرواء (7/ 156). (¬1) أخرجه البخاري في الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه. حديث رقم (52) 1/ 126. وأخرجه في موضع آخر برقم (2051). ومسلم في المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات حديث رقم (1599) 3/ 1219.

كتاب ولا سنّة، وعندما حدثت فالمتأخرون من العلماء اختلفت وجهات نظرهم فيها، فجماعة قالوا: هي كعروض التجارة، وقال به جماعة من متأخري المالكية والحنابلة، وهذا القول لا يظهر كل الظهور؛ لأن العرض غالبًا لا بد أن تكون في ذاته منفعة مالية متمولة، وهي لا منفعة فيها، وجماعة قالوا: هي أسانيد لفلوس، وهذا أقرب إلى الحقائق؛ لأن عليها سطرًا مكتوبًا فيه: إن المؤسسة الفلانية تتعهد لحامل هذا السند أن تعطيه كذا. فهي إلى السندات أقرب، والذي وجد من هذا عن الصحابة أنهم جعلوا السند بمنزلة الشيء المكتوب فيه؛ ولذا قالوا في بيع الصكاك الذي جاء في صحيح مسلم وموطأ الإمام مالك، ومقصودي ببيع الصكاك: أنه في أيام إمامة مروان بن الحكم على المدينة، الحكومة أعطت للناس طعامًا مكتوبًا في صكوك وأوراق إلى بيما المال، فجماعة باعوا الطعام في هذه الصكوك قبل القبض، فعامّة الموجودين من العلماء قالوا: لا يجوز هذا؛ لأنكم بعتم الطعام قبل قبضه (¬1)، فلم يجعلوا هذه الورقة عَرَضًا، وإنما قالوا إن المدار على الشيء المكتوب فيها، وهذا أقرب الوجهين. وعلى كل حال فالذي نوصي به أنفسنا وإخواننا بتقوى الله، وأن الواحد إذا كان عنده تجارة مال من أوراق أو من غيره ينمو نموًا بعد نمو ويزداد أنه ليس من المنطق الإسلامي الرحب أن يترك الفقراء محرومين من هذا؛ لأن ¬

_ (¬1) الموطأ (ص 443)، (1333)، ومسلم في البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض (1528)، (3/ 1162).

السؤال الرابع: ما عندكم في لزوم الصوم، أو وجوب الفطر لخبر الرجل مع اتحاد القطر؟ وما عندكم في الاستماع لقراءة القرآن [في الإذاعة]؟

النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب على الأغنياء صدقة ترد إلى الفقراء، والعلماء مطبقون على أن التجارة كذلك. فالذي نشير به على إخواننا أن يخرجوا الزكاة، ويستبرئوا لدينهم وعرضهم، وأن لا تكون في هذه الدعيمة خصومة، قبلما لا يدرون أيتخلصون أم لا؟ الأخ سأل عن معنى هذه الآية: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ}، يعني: إذا كنتم تخرجون زكاة لا تنظروا إلى رديء المال وخسيسه فتخرجونه، ولستم بآخذيه لو كان الحق لكم، لو كنتم أنتم الذين تطلبون الحق لا تقبلون ذلك الرديء و {إلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] تغمضوا أعينكم على القذى، يعني كارهين لذلك، فالشيء الذي لا ترضونه لأنفسكم -لو كان الحق لكم- لا ترضوه لله في حقه جل وعلا. السؤال الرابع: ما عندكم في لزوم الصوم، أو وجوب الفطر لخبر الرجل مع اتحاد القطر؟ وما عندكم في الاستماع لقراءة القرآن [في الإذاعة]؟ . الجواب: أما هذا الذي سأل عنه فضيلة الشيخ وهو: هل إذا أذيع من قِبَل الحكومة أن الهلال ثبت في المحل الفلاني، هل يصام أو يفطر بهذا أو لا؟ نحن نقول: إذا حكم بثبوت شهر رمضان أو شوال حاكم بطريق شرعية، وصار الحكم من طريق قاض بطريق شرعية، ثم إن الحكومة بلَّغته عن طريق الإذاعة، أن الذي يظهر لنا أن على المسلمين أن يصوموا ويفطروا بذلك، والاستناد في هذا

والدليل عليه مستند إلى شيئين: أولهما: أن الكتاب والسنة وإجماع العلماء دل على أن الغرض الأكبر في الأخبار غايته أن يوجد شيء يغلب على الظن صدقه، وتركن إليه النفس ركونًا مزاحمًا لليقين بحيث لو راجع الإنسان عقله يثق أن هذا الأمر واقع، ولو لم تشهد به بيَّنة، وقد قال سيّدي في "مراقي السّعود" في مباحث الأخبار (¬1): "بغالب الظنّ يدور المُعتبَر". وقد صدق، ونحن نضرب لكم أمثالًا من هذا: هذا إمام دار الهجرة النجم مالك بن أنس -رضي الله عنه وأرضاه- سُئل عن رجل استُنْكِه فشُمّ من فيه ريح الخمر، فأفتى بجلده، وأقام حدًّا، ولم تقم بينة عدول يشهدون أن هذا الرجل شرب خمرًا، ولكن ريح الخمر قرينة تركن إليها النفس، ويغلب على الظن أنه شرب الخمر. وقد أجمع المالكية -مالك وعامة أصحابه- على العمل بالتدمية (¬2) الحمراء، وإن أنكرها عليه غيره، لو وُجد رجل يتشحّط في دمه، وقال: دمي عند فلان، فإن مالكًا ¬

_ (¬1) هذا الشطر الأول من البيت. وشطره الثاني: فاعتبَر الإسلامَ كلُّ مَن غَبَر انظر: المراقي (ص 71). (¬2) انظر: القرطبي (1/ 457)، الأضواء (3/ 563)، العذب النمير (عند تفسير الآية رقم 73 من سورة البقرة).

يفتي بأن أولياءه يحلفون القسامة، ويقتلون ذلك الرجل، نفسٌ تقول: (لا إله إلا الله) يتجرأ مالك على إزالة رأسها عن عنقها، ولم تقم بينة؛ لأنه رأى القرينة التي تركن النفس إلى صدقها ركونًا بينا أن الإنسان إذا كان في غمرات الموت لا يكاد يكذب أبدًا؛ لأنه زالت أغراضه من الدنيا، ولم يبق له سبب للكذب. وفي ذلك الوقت اللدود الكافر الخنزير يسلم ويذهب إلى الحق، هذا فرعون الذي كان يقول: {فَقَال أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24] لما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90]، والله يقول: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ} [غافر: 84، 85]. وهذا نبي الله يوسف برأه الله بقضية عادلة من ذلك الشاهد، لم تقم فيها بينة، إلا أن النفس تركن إليها ركونًا يغلب على الظن أنه صدق، والله جاء بذلك مستحسنًا له في معرض التسليم، مبرئًا به نبيه الكريم، ذلك أن امرأة العزيز لما بهتته وقالت: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)} [يوسف: 25] اضطر إلى الدفاع، فقال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} وليس هنالك شهود يعلمون هو الكاذب، أو هي الكاذبة، فالشاهد قال لهم: انظروا إلى أمر تركن نفوسكم إليه يغنيكم عن البينة، انظروا قميص الرّجل فإن كان مشقوقًا من الأمام فهو يصول إليها، وهي تدفعه، وإن كان مشقوقًا من الوراء فهو هارب وهي تنوشه من ورائه، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ

قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف: 26، 27]، محل الشاهد: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَال إِنَّهُ مِنْ كَيدِكُنَّ} [يوسف: 28]، فألزموها الجناية، وحكموا عليها، والقران جاء بهذا في معرض الاستحسان والتصويب، وبراءة يوسف بهذا. فتبين أن هذا الأمر الذي ركنت إليه النفس وغلب على الظن صدقه يقوم مقام البينة، وإخوته أولاد يعقوب لمّا جعلوا أخاهم في غيابة الجبّ أخذوا سخلةً فذبحوها ولطخوا قميص يوسف بدمها، ليكون الدّم قرينة لهم على صدقهم في أنّ [يوسف] (¬1) أكله الذئب. فلمّا جاؤوا بالقميص عشاءً يبكون، تأمّل يعقوب في القميص فوجده ليس فيه شق، فقال: سبحان الله متى كان الذئب حليمًا كيِّسا يقتل يوسف ولا يشق قميصه؟ ! ! وعلم بقرينة القميص أنهم كاذبون؛ ولذا قال الله عنه: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} [يوسف: 18]، وقد أجمع علماء التفسير أنَّ مستند يعقوب في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} قرينة عدم شق القميص كما جزم به أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية (¬2). وقد أجمع العلماء عن بكرة أبيهم على أن الرجل يخطب المرأة ولم يرها قطّ، ويتزوجها من غير أن يراها، وإنما يسمع أن عند فلان بن فلان ابنة، فيخطبها وتزفّها إليه ولائد لا يثبت بقولهن درهم ¬

_ (¬1) في الأصل يعقوب وهو سبق لسان. (¬2) انظر: القرطبي (9/ 150)، الأضواء (3/ 71)، العذب النمير (تفسير الآية رقم 90) من سورة الأنعام.

ولا دينار، فقد أجمع العلماء أن له مسيسها من غير بينة تشهد على أن هذه عين فلانة بنت فلان التي وقع عليها العقد؛ لأنّ قرينة الصداق والعقد تدلّ على هذا، وتقوم مقام البينة مقامًا تركن إليه النفس، ويغلب على الظّن صدقه. وقد أطبق العلماء على أنّ الرّجل ينزل عند القوم فيأتيه الوليد والوليدة بطعام القوم -والطعام محترم معصوم- فليس عليه أن يتثبت ويلبث إلا ببينة تشهد أنه أذن له، فيأكل لأن قرينة الضيافة أمورٌ تركن إليها النفس ويغلب بها على الظن أنها أمرٌ حقيقي. كذلك إذاعة الحكومة يحتف بها من القرائن، لا يمكن أحد أن يأخذها ويزوّر، والنفس تركن إليها ركونًا قويًّا إن لم يكن يقينًا فهو مزاحم لليقين، أقوى من يقين شاهد أو شاهدين. والنكتة الثانية: هو أن ولي الأمر الذي يتولى أمور الناس على الناس أن تطيعه ولا تظهر الخلاف؛ لأن واحدًا صائم، وواحدًا غير صائم هذا شبه إظهار خلاف ونزاعات، وهذا يفت في عضد الأمة، والرمز إلى الخلاف لا ينبغي، فيجب على المسلمين جميعًا أن يكونوا منسجمين في غاية الاتفاق، الحاكم والمحكوم تتساعد جهودهم على الخير. أما استماع القرآن فيه (¬1): فالواقع في الحقيقة أن الذي يسمع ¬

_ (¬1) يعني في الإذاعة.

السؤال الخامس: ما هو حد البدعة التي من ارتكبها يعد مخالفا للسنة؟ وما عندكم فيما يفعله بعض متصوفة زماننا من حركات، والكلمات التي لا تعلق لها بالصلاة، كاستدبار القبلة، والرقص والكلام بنحو: "مر، مر" مع الجزم بأن هذا كله لا يؤثر خللا في صلاتهم زاع

السامع في الرّاديو هو نفس صوت القارئ، إذا كان صوت القراءة طيبة، ولم تكن مقرونة بأمور تقتضي الاستهزاء فلا مانع، وإن كان بتمطيط لا يجوز، أو مقروءًا بحالة لا تقوم بالإجلال اللائق بالقرآن، كقولهم: "أغاني مسجلة لأم كلثوم وآيات من الذكر الحكيم"! ! إذا كان فيه أشياء ليس فيها احترام للقرآن كما ينبغي، أو الحال لا تجوز، فينبغي ألا يُسمع، وإن كان قراءة على بابها فهو صوت القارئ، لا بأس به. السؤال الخامس: ما هو حدّ البدعة التي من ارتكبها يعدّ مخالفًا للسنّة؟ وما عندكم فيما يفعله بعض متصوفة زماننا من حركات، والكلمات التي لا تعلّق لها بالصلاة، كاستدبار القبلة، والرقص والكلام بنحو: "مرّ، مرّ" مع الجزم بأن هذا كله لا يؤثر خللا في صلاتهم زاعمين الغلبة في الحال؟ الجواب: على كل حال: حدّ البدعة هو أن يبتدع الإنسان في الدين شيئًا لم يات في كتاب ولا سنّة ولم يأت ما يدل عليه، كل من جاء بشيء لم يأت في كتاب الله ولا سنة نبيه منصوصًا، ولا جاء فيها ما يدل عليه بوجهٍ من الدّلالات بمفهوم ومنطوق أو غير ذلك، فهذا هو البدعة، أمّا ما جاء في النصوص، أو ما يدخل في عموم النصوص، أو ما يؤخذ بالاستنباط من النصوص فهذا ليس بالبدعة، ومحل البدعة أن يكون أمرًا دينيًّا، أنها الأمور الدّنيوية فليس في المخترعات منها بدعة. وأما الحركات في الصلاة، والأفعال المضادّة للصّلاة فهي

السؤال السادس: ما عندكم في أداء الصلاة في الطائرة الجوية إذا تيقن عدم النزول إلا بعد خروج الوقت؟

حرام بإجماع المسلمين، ولا يقرها الشرع من أحدٍ أبدًا ألبتة، ولا شك أنها نزعات شيطانية "مئة في الميّة" {لَيسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123] فالصلاة لا يُسامَح فيها أحد بأن يتكلم فيها، بل المؤمن إذا قام في الصلاة علم أنه قائم بين يدي ملك السماوات والأرض يناجيه، فامتلأ قلبه نورًا، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأكبر الفحشاء والمنكر الصراخ والصعق في الصّلاة، فهو نزغات شيطانية بلا خلاف، ولا يشك فيها من أعطاه الله علمًا، ومن يحبذها فهو ضال؛ لأن الصلاة هذه أعظم دعائم الإسلام، والمسلم إذا وقع فيها {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، والكلام في أثناء الصلاة استهزاء بخالق الكون، وتمرد على نظام السماء، وعدم اهتمام بأعظم دعيمة من دعائم الإسلام، ولا يفعله إلا جاهل ينزغ فيه الشيطان، ليس هنالك علم راسخ ولا دين ثابت؛ لأن صاحب العلم الراسخ والدين الثابت كيف يتحرك ويزعق في صلاته؟ والشيطان إنما ينخسهم ويقول: هذه أحوال ووجدانيات، وكل هذا باطل، الصحابة لم يزعق واحدٌ منهم في صلاته، وكانوا كأن على رؤوسهم الطير، والنبي وهو سيد الخلق لم يتكلم في صلاته إلا بما يرضي الله بغاية الخشوع، وهذا أمر معروف لا يُسأل عنه أحد. السؤال السادس: ما عندكم في أداء الصلاة في الطائرة الجوية إذا تيقن عدم النزول إلا بعد خروج الوقت؟

الجواب: أما أنا فقد يدخل عليّ الوقت مرارًا وأنا في الطائرة، وأصلي فيها، وأرى أن الإنسان إذا دخل عليه الوقت يصلي في الحالة التي هو بها؛ لأن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، والنبي يقول: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" (¬1) ولا سيما إذا كان يركع ويسجد والقبلة يعرفها، وهذا الشائع في الناس أنه لا بد من الأرض، ويستدلون بحديث: "جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" (¬2)، وأنا لم أجد له مَقْنَعًا في كتاب الله ولا في سنّة نبيِّه؛ لأن حديث: "جُعلت في الأرض مسجدًا وطهورًا" صيغته لا تقتضي عمومًا بإجماع أهل اللسان العربي، وإجماع الأصوليين، ولو اقتضت العموم لما كان الماء طهورًا أبدًا؛ لأنه لو حصرنا الطهور والمسجد فيه لكان الطهور محصورًا في نفس التراب، مع أن المالكية يقولون: إنها لا تطهر حدثًا ولا خبثًا ولا ترفع الحدث، وكل نصّ سيق للامتنان لا مفهوم له، ومن هنا أجمع عامة العلماء ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حديث رقم (7288) 13/ 251، ومسلم، كتاب الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، حديث رقم (1337) 2/ 975، وفي كتاب الفضائل، باب: توقيره - صلى الله عليه وسلم - وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، ورقمه في كتاب الفضائل (130) 4/ 1830 - 1831. (¬2) رواه جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كأبي هريرة وجابر وحذيفة، وأبي أمامة، وأبي ذر، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس وعلي رضي الله عنهم أجمعين. ومن هذه المرويات ما أخرجه الشيخان أو أحدهما، ومنها ما أخرجه غيرهم، وبالجملة فالحديث متواتر ولا يسع تتبع تخريجه في هذه التعليقات المختصرة.

السؤال السابع: عن حكمة جعل الطلاق بيد الرجل؟

على جواز أكل القديد من الحوت، لو يَبَّست الحوت وجعلته قديدًا بالملح لجاز أكله، والله يقول: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] فلا نقول: مفهوم اللحم الطبري أن قديد الحوت لا يؤكل؛ لأنه سيق للامتنان، فلو فرضنا أنه لا بد من متصل بالأرض فالطائرة متصلة بالأكسجين، والأكسجين جرم متصل بالأرض مثل الماء، فلو أخذت قربتين، وأحدها يملؤها رجل من الماء، والثاني يملؤها من الأكسجين لامتلأت من الأكسجين قبل هذه، ولو رأيتهما مطروحتين لم تفرق بينهما التي من الماء والتي من الأكسجين حتى تجذبها، فهذا أخفّ، وهذا أثقل، وعلى كل حال فالمسلم حيثما كان صلى، والنبي يقول: "اتق الله حيثما كنت"، ومن تقوى الله -جل وعلا- إقامة الصلاة في وقتها (¬1). [السؤال السابع (¬2): (¬3) عن حكمة جعل الطلاق بيد الرجل]. الجواب: ( ... ) معنى الآية في قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] ويبين أن الرجل زارع والمرأة مزرعة، وأن الرجل ¬

_ (¬1) بعد إجابة الشيخ رحمه الله على هذه الأسئلة الستة التي سأله عنها أحد المشايخ في موريتانيا ختم ذلك السائل بقوله: "وهذه الأسئلة لا بد لكم بعد الرجوع وعودتكم إلى البلاد المقدسة أن تجعلوها تأليفا مستقلًا وترسلوها لنا" فأجابه الشيخ رحمه الله بقوله: "إن شاء الله". (¬2) السؤال السابع إلى الثامن عشر من الشريط الثالث. (¬3) نص السؤال ذهب من التسجيل وكذا صدر الإجابة. وقد أثبت السؤال أعلاه زيادة على الأصل وجعلته بين معقوفين.

فاعل والمرأة مفعول به، هذه أمور محسوسة لا يمكن أن ينكرها إلا مكابر، ونحن نضرب لكم مثلًا حسيًّا في ذلك: لو أردنا أن نرغم رجلًا على امرأة لا يحبها ولا يريدها وأراد أن يطلقها، وقلنا مجاراةً للإفرنج على سبيل الفرض: لا، لا يمكنك أن تطلقها، ولابد أن تبقى معها! ! فهذه المرأة لو أرادت أن تَغلَقَ من هذا الرجل بحمل -والحمل هو أكبر الأغراض في النكاح- فإنها إذا أرادت أن تجامعه لتعلق منه بحمل، لا ينتشر ذكره إليها ولا تقدر أن تصل منه على فائدة، هذا أمرٌ مشاهد ملموس، بخلاف الرجل فإنه قد يُحبلها وهي راغمة كارهة فتلد فارسًا فيه خير البشرية جمعاء، كما قال أبو كبير الهذلي (¬1): ممن حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فشب غير مُهبَّل حملت به في ليلة مزؤودة ... كرهًا، وعقد نطاقها لم يُحلل فهذه أمور محسوسة تبين أن الرجل زارع وأن المرأة مزرعة، ولا أصدق من الله حيث يقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] تُبذر فيه النطف حتى تستحصد. وهذه المزرعة تقوم للإنسانية باعمال وخدمات هائلة لا يوجد مثلها، فالمرأة تقوم للإنسانية بأعظم مما يقوم به الرجل. فإذا عرفنا من القرآن ومن الأمور المحسوسة أن المرأة مزرعة ¬

_ (¬1) ديوان تأبط شرًّا (ص 88)، الكامل (1/ 175)، مغني اللبيب (2/ 193)، شواهد الكشاف (ص 105).

وحقل زراعة، وأن الرجل فاعل والمرأة مفعول، والرجل زارع والمرأة مزرعة، فلو قارنا مع هذا ووجدنا رجلًا علم أن الحقل الفلاني ليس صالحًا لزراعته ثم أراد أن ينتقل إلى حقل آخر ريعه أكثر وزراعته أكبر فقلنا له: لا بد أن نرغمك على البقاء على الحقل الأوّل الذي لا يناسبك! ! فعامّة الناس يقولون: قد ظلمتم هذا! ! فهذه أمور واضحة لمن تأملها. ولكن كون المرأة تعمل فيما يناسبها وما يلائمها مما خلقها الله له، وتساعد البشرية بأكبر مساعدة في عفاف وستر وصيانة، هذا أمر يردي الشيطان ويحسُد الآدميين عليه، فيقول للمرأة: جعلوك مقفولًا عليكِ، أنتِ دجاجة، أنت لست بإنسان، فلا بد أن تقومي وتدخلي في ميادين الحياة والكفاح! ! فإذا خرجت بقي ولدها الرضيع لا يجد من يُرضعه، وولدها الفطيم لا يجد من يحفظه، وولدها المريض لا يجد من يقوم عليه، وشؤون بيتها لا تجد من يصلحها، فيضطرون إلى أن يؤجروا إنسانًا يقوم مقامها، فيبقى ذلك الإنسان المسكين هو الدجاجة المحبوسة، التي فرّت هي من أن تكون مثلها، فترجع النتيجة في حافرتها. وعلى كل حال فنحن نقول في هذا: إن جميع العقلاء مطبقون على أن الأنوثة وصف نقص جبلي خلقي طبعي، وهذا معروف في أقطار الدنيا، أنه لا تكاد امرأة أن تقاوم ذكرًا، حتى إن الصفات التي هي نقص في الرجال مدح في النساء، ألا ترون أن ضعف البُنية والأركان والعظام هذا عيب في الرجال؟ وهذا من محاسن النساء الذي يجلب إليهن القلوب ويحببهن! هذا جرير وهو عربي

قَحّ سليم القريحة. يقول (¬1): إن العيون التي في طرفها حَوَرٌ ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا فأثنى عليهن بالضعف، والرجل لو قيل عنه الضعف لكان ذمًّا؛ فلأجل المنافاة في الخلقة والطبيعة يكون الوصف الذي هو ذم لهذا هو بعينه مدح لهذا، وكذلك الرجل الذي لا يقدر أن يُبين في الخصام هذا عيب في الرجال، وربما كان هذا من محاسن النساء التي تجذب إليهن القلوب، هذا عبد الله بن الزميه يقول (¬2): بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يُجيبُ فلم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... به سكتة حتى يقال مريب فجعل هذا العي وعدم الإبانة في الخصام كما قال الله: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] جعله من محاسنهن الذي يجلب إليهن القلوب ويُستحسن منهن، وهو نقص في الرجال. فهذه حِكَمُ الله وأموره الشرعية الحسيّة المعقولة أن المرأة تخالف الرجل في جبلتها وطبيعتها، ولأجل تلك الخلافات الطبيعية اختلفا في الأحكام، فكان الرجل لقوة ذكورته وكمالها قائمًا على ¬

_ (¬1) ديوان جرير (ص 452). (¬2) ديوان مجنون ليلى (ص 29)، عيون الأخبار (3/ 103)، الشعر والشعراء (ص 492).

المرأة مكلفًا بشؤونها في ميادين الحياة، وإذا المرأة لم تجد من يقوم بها فلها أن تشارك في ميادين الحياة لكن مع الصيانة والستر والعفاف؛ لأن المرأة لا يجوز لها أن تجعل نفسها مائدة للخونة، وربما كان الخائن يريد النظرة الفاجرة يحبها ويقدمها على كل شيء، كما قال أحدهم (¬1): قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ... ودعوا القيامة بعد ذاك تقومُ فهذه العين الخائنة التي تتمنى الخيانة بالنظر إلى هذا الحدّ لا ينبغي للإنسان (¬2). وعلى كل حال فكل من فيه مروءة يعلم هذا، لو عرضنا على أطرف إنسان فيه مروءة وقلنا له: أتحب أن تخرج أخواتك وبناتك وزوجتك أمام الناس وأمام أعين الخونة يتمتعون بجمالهن ظلمًا ومكرًا وغدرًا وجناية على الشرف والرذيلة، وجناية على المرأة؟ فكل العقلاء يقولون: لا ينبغي هذا. فيُعلم من هذا أن المرأة إذا زاولت بعض الأعمال في صيانة وستر وعفاف فلا مانع، وإذا أرادت أن تزاول بعض الأعمال في تكشف وأمور لا تليق بالفضيلة، بل هي تليق بالرذيلة والانحطاط الخلقي وضياع القيم العليا والمُثُل العظيمة للإنسانية هذا أمر لا ينبغي. ووجه كون الطلاق بيد الرجل هو ما بيّنا من أن النساء مزارع، ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أي: أن يكون كذلك.

السؤال الثامن: لو قيل إن عقد الزوجية تعاقد بين طرفين: الزوج والزوجة، والزوج دافع الصداق، فلو جعل من الناحية العقلية أن الطلاق بيد المرأة لضيعت على زوجها حقه، فيكون هذا من الناحية العقلية كذلك؟

نصّ الله على ذلك في قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] وهو مشاهد في أن آلة الازدراع مع الرجل، وأن الرجل فاعلٌ حسًّا، وأن المرأة مفعولٌ به، والرجل زارع والمرأة مزرعة، ولو أُعطي الإنسان خياره في الحقل الذي يناسب زراعته لكان أمرًا معقول الحكمة، واضح المعنى عند جماعة العقلاء. [السؤال الثامن: ] (¬1) لو قيل إن عقد الزوجية تعاقد بين طرفين: الزوج والزوجة، والزوج دافع الصداق، فلو جُعل من الناحية العقلية أن الطلاق بيد المرأة لضيعت على زوجها حقه، فيكون هذا من الناحية العقلية كذلك. الجواب: هذا الذي أشرنا له في الآية الكريمة؛ لأن الله قال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] وعلل بعلتين: إحداهما: فضل الذكر على الأنثى في الخلقة والجبلة، وهو {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34]. الثانية: دفع المال -كما تفضلتم- وهو المشار إليه بقوله: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] (¬2). على كل حال الذي بينا هذه الفروع إذا كان الرجل هو الفاعل ¬

_ (¬1) هذا السؤال هو أشبه بالإضافة من الشيخ عطية رحمه الله على ما ذكره الشيخ رحمه الله. (¬2) هنا مداخلة من الشيخ عطية رحمه الله حيث سأل عن ماهية الزواج وعن علاقته بالناحية الروحية والمادية. فكان جواب الشيخ رحمه الله بقوله: "على كل حال ... " إلخ.

السؤال التاسع: أريد أن يبين الشيخ للناس أن المرأة ليست لعبة بين يدي الرجل؛ لأن يكون الرجل عادلا مع المرأة ويعطيها حقها، ولا يجعلها لعبة أي: إذا زال الغرض فيلقيها عنه فهذا ليس من القسط وليس من الإنسانية ...

والقائم، ولو فرضنا أن نرغم الرجل على المرأة وهو لا يريدها لم يكن في ذلك فائدة ولا نتيجة للمرأة، والمرأة: الرجل لم يأخذ منها شيئًا، وإنما مكث معها ينفعها، أعطاها صداقًا ودفع لها مدة حياته ينفقها، لم يأخذ منها شيئًا، كان هذا الذي يقول: إنما ضاع جمالها! ! ضاع بالأيام والليالي، الأيام والليالي هي التي أضاعته، الرجل لم يضعه ولم يجن عليه. عجوز تمنت أن تكون صبية ... وقد قوس العينان واحدودب الظهر فجاءت إلى العطار تبغي شبابها ... ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر (¬1) الرجل ليس هو الذي جنى عليها! [السؤال التاسع: ] أريد أن يبين الشيخ للناس أن المرأة ليست لعبة بين يديّ الرجل؛ لأن يكون الرجل عادلًا مع المرأة ويعطيها حقها، ولا يجعلها لعبة أي: إذا زال الغرض فيُلقيها عنه فهذا ليس من القِسط وليس من الإنسانية؛ لأنكم حثيتم على قيمة الإنسان في محاضرتكم، والإسلام يعطي حقًّا كثيرًا للإنسانية ومن الإنسانية أن يعطى للمرأة حقها أليس كذلك؟ الجواب: على كل حال هذه الفكرة كأنها تتسمَّم بفكرة أجنبية ¬

_ (¬1) البيتان في الكامل للمبرد (1/ 405) ولفظهما: عجوزٌ تُرجِّي أن تكون فَتِيَّة ... وقد لُعِبَ الجَنْبَان واحدَودَب الظهر تَدُسُّ إلى العطَّارِ سِلعةَ أهلِها ... وهل يُصْلِحُ العطارُ ما أفسَدَ الدهرُ

عن الإسلام، ونحن نبين ونقول: إن الإسلام أحاط للمرأة جميع منافعها ولم يُضِعْ لها بمنفعة، ولم يتلاعب لها بمنفعة، أما الرجل الذي جاءها لم يجز له أن يتزوجها إلا بصداق ومال، والمدّة التي يمكث معها يجب عليه إنفاقها وكفايتها من كل شيء، وإذا زالت بكارتها وزال غرضه منها لا مانع من أن يطلقها، وليس فيه تضييع لحياتها، فكم من ثيب جميلة تُختار على آلاف الأبكار، وهذا أمر مشاهد؛ لأنها إذا كانت ذات جمال ولو عجوزة، والشاعر قال (¬1): أبى القلب إلا أم عمرو وحبها ... عجوزًا ومن يحبب عجوزًا يفند كثوب اليماني قد تقادم عهده ... ورقعته ما شئت في العين واليد فإذا كانت جميلة لا تضرها زوال البكارة، بل كم من ثيب يتنافس فيها الخُطَّاب وتأتيها الركبان من بلد إلى بلد، وأزواج النبي -وهو سيد الخلق- واختار له أكثرهن ثيبات، لم يتزوج بكرًا إلا واحدة. والله قدم الثيبات في القرآن فقال: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5] والمرأة زوال بكارتها لا يضرها، فكم من ثيب يُرغب فيها أكثر -يعني- من بكر، وهذا لا يُضيع جمالها، بل يتزوجها رجل آخر ويعطيها كما شاءت، وهذا الرجل لم يضرها بشيء، إنما البكارة التي أزالها فيها الصداق، والله يقول: {وَكَيفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21]. فجعل ثمن البكارة الصداق الذي دُفع لها، فهو ثمن تمام، أصلًا أخذت صداقها الكامل تعقد ¬

_ (¬1) ديوان الحماسة (2/ 128).

ما تشاء كيف تشاء، وذلك ثمن بكارتها والاستمتاع بها الذي يؤخذ؛ ولذا قال الله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَال زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 20، 21] فثمن بكارتها المال التي استلمته، وقد يكون تفتح منه دكاكين وتكون غنية منه إلى الأبد، ومادامت عنده هي مُؤمّنة حياتها، وإذا طلقها إذا كانت جميلة فجمالها يجلب لها الرجال، وإذا كانت قبيحة فعلى بختها، ودين الإسلام لم يظلمها بشيء، ولم يعمل لها إلا كفالة الحقوق والكمال على ما ينبغي، وكم من ثيب طلقها رجل وأزال بكارتها وتزوجت رجلًا أعظم منه، وكم طلقها الثاني وتزوجت أغنى من ذلك، وهذا أمر معروف مشاهد في الدنيا. والذوق الذي يقول: "إنها إذا زالت بكارتها لا يُرغب فيها" ذوق أفرنجي معكوس مخالف للحقائق، وكم من رجل يختار الثيب على آلاف الأبكار، وهذا مشاهد في الدنيا؛ لأنه كم من ثيب جميلة خير من ألف بكر، والبكر بعد ليلة واحدة ترجع ثيبة، فإن دين الإسلام لم يظلم المرأة بشيء، ولم يغمط لها حقًّا من الحقوق، بل أعطاها حقوقها كاملة، وإزالة البكارة أخذت ثمنها صداقًا وافيًا كاملًا تمامًا. كما قال (¬1): "أبغض الحلال" لم يجعله كمان تمام (¬2)، يعني ¬

_ (¬1) هنا وقعت مداخلة من السائل أشار فيها إلى كون الطلاق أبغض الحلال فعقب عليه الشيخ رحمه الله بهذا التعقيب. (¬2) عبر الشيخ رحمه الله باللغة الدارجة، والمراد: أنه لم يجعله أيضًا بتلك =

يُبغّض في الطلاق ويأمر الرجل بهذا فقال: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا (19)} [النساء: 19] يعطف قلب الرجل على المرأة ويُزيّن البقاء معها والصبر معها والمعاشرة معها على أكمل ما يكون، والمصالحة كما قال: {وَالصُّلْحُ خَيرٌ} [النساء: 128]. هذه النظرة نظرها دين الإسلام ويحض إليها تمامًا، ولكن إذا انقطعت الأسباب في الرجل ولم يصبر ما نقول: رغم أنفك وأنت ظلمتها! ! ما هو صحيح! ! أوجب لها السكنى ليرجع له غرض فيها ويأخذها مجال" (¬1)، وجعل له الإقالة مرتين لتمكنه المراجعة، والنبي يقبّح لهم الطلاق فهو لا ينبغي، وفي بعض الأحاديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" (¬2). والله يأمر على هذا يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا (19)} [النساء: 19] هذا عطف على الصبر معهن، والصبر عليهن، ومعاشرتهن وعدم الطلاق. هذا يأمر به الإسلام أمرًا حثيثًا، ومن أعظمه آية: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ ¬

_ = المثابة من الكمال، أي: لم يستحسنه. (¬1) أي: يكون هناك فسحة لتحصل المراجعة. (¬2) أخرجه أبو داود في النكاح، باب في كراهية الطلاق. حديث رقم (2163 - 2164) 6/ 226 - 227 عون المعبود، وابن ماجة في الطلاق، حديث رقم (2018) 1/ 650، والحاكم (2/ 196)، والبيهقي (2/ 322)، وابن حبان في المجروحين (2/ 64)، وابن عدي في الكامل (4/ 323)، (6/ 461). وانظر الكلام عليه في العلل المتناهية (2/ 149)، والتلخيص (3/ 205)، كشف الخفاء (1/ 28)، إرواء الغليل (252، 2040)، وإسناده ضعيف.

السؤال العاشر: ما هو الدليل القطعي على وجوب إثبات البسملة في غير سورة النمل أو حذفها، وعلى الأول هل يجهر بها أو يسر؟

خَيرًا كَثِيرًا (19)} [النساء: 19] هذا تصبير من الله وتقويم على عدم الطلاق، لكن إذا انقضت حيلة الرجل وصبره لم تبق هناك عملية لهذا إلا الفراق؛ لأنه لو لم يجعل الفراق هذا وسيلة كان المجتمع يقع في بلايا لا حد لها أصلًا؛ لأنها قد تكون المرأة كالغل للقلب، وتكون كالضرس الذي تُمرض صاحبها، وتكون بلية على صاحبها، فإذا لم يجد خلاصًا منها تعب وتعبت، والله يقول: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (¬1) [النساء: 130]. هو كما تفضل الأخ كأنه يجعله حلًّا للمشاكل كالعملية التي ما يبقى عنها شيء؛ ولذا الله لم يحبّذه، ولم يُرَغّب فيه، بل أمر بتركه والصبر على عدمه، ولكن إذا كان أمام الأمر الواقع فلا مانع. الذواقون (¬2) مذمومون شرعًا، هذا ما فيه كلام. [السؤال العاشر: ] ما هو الدليل القطعي على وجوب إثبات البسملة في غير سورة النمل أو حذفها، وعلى الأول هل يجهر بها أو يسر؟ الجواب: إن العلماء اختلفوا في البسملة في غير سورة النمل إلى ثلاثة مذاهب: ¬

_ (¬1) هنا مداخلة قال فيها الشيخ عطية رحمه الله: "كان الإسلام يجعل الطلاق إنما هو حلًّا للمشاكل، لا أنه غاية لذاته" اهـ. فعقب عليه الشيخ رحمه الله بالكلام الآتي. (¬2) هنا مداخلة من أحد الحاضرين يشير فيها إلى أن الطلاق لا يسوغ إذا كان الإنسان مذواقًا. فعقب الشيخ رحمه الله بالكلام الآتي.

الأول: أنها [آية] (¬1) من الفاتحة ومن كل [سورة] (¬2) ما عدا براءة. الثاني: أنها ليست بآية في الفاتحة ولا في غيرها. الثالث: أنها آية في الفاتحة وليست بآية في غيرها. وكل منهم يأتي بحجج وأدلة على قوله. وأظهر الأقوال: هو ما يستشهد له الأصول وهو الجمع بين هذه الأدلة بأن البسملة في الفاتحة وفي أول كل سورة آية من القرآن في بعض الحروف، كحرف قارئ أهل مكة -عبد الله بن كثير- وليس بحرف في بعض القراءات، ولا إشكال في كون الحرف أو الكلمة قراءة مروية في بعض القراءات وليست بقراءة في قراءة أخرى، فقوله في سورة الحديد: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. ليس فيه لفظة (هو) في مصحف عثمان بن عفان الذي بقي في المدينة، وفي بعض المصاحف، كالمصاحف التي أرسلت إلى العراق فيها: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (¬3) [الحديد: 24] فلفظة (هو) من القرآن العظيم في قراءة عاصم وليست من القرآن العظيم في قراءة نافع. و {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} في بعض القراءات: {وَالزُّبُرِ} وفي بعضها {بالزُّبُرِ} (¬4) [آل عمران / 184]. وفي سورة البقرة: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116] بلا واو، وهو في المصاحف ¬

_ (¬1) في الأصل: "سورة" وهو سبق لسان. (¬2) في الأصل: "آية" وهو سبق لسان. (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران (ص 430). (¬4) السابق (172).

السؤال الحادي عشر: ما هو الأظهر عندكم في الأقوال المختلفة في معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"؟

ما عدا المصحف الذي أُرسل إلى الشام، وفي مصحف الشام: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ} بالواو (¬1). وفي سورة الشمس في بعض المصاحف {فلا يخاف عقباها} [الشمس / 15] بالفاء، وفي بعضها: {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} (¬2). فإذا كانت الحروف تختلف بهذا الاختلاف بإبدال حرف بحرف، وحذف كلمة في قراءة وإثباتها في قراءة أخرى، فالبسملة آية في بعض هذه القراءات وليست بآية في بعضها، ولا مانع من أن يقرأها جبريل على النبي في بعض الحروف باسم أنها آية، وفي بعض الحروف يقرأ بدونها، وهذا أمر جائز، والمعروف في الأصول أنه إذا أمكن الجمع سير إليه، وهذا تُجمع به الأقاويل، واختاره غير واحد من المحققين. وأكثر العلماء يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يثبت عنه الجهر بها -كان قال بعضهم ثبت عنه- فالأكثر عدم الجهر بها. إذا القول بالإسرار أكثر قائلًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان معهودًا عنه أنه يجهر بها دائمًا لما كان في ذلك خلاف. [السؤال الحادي عشر: ] ما هو الأظهر عندكم في الأقوال المختلفة في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" (¬3)؟ ¬

_ (¬1) السابق (134). (¬2) السابق (ص 474). (¬3) حديث الأحرف السبعة متواتر كما نص على ذلك جمع من الأئمة، ومن شاء الوقوف على رواياته وطرقه فليراجع على سبيل المثال: فضائل القرآن لأبي =

السؤال الثاني عشر: ما هي الحكمة في تقديم (به) في البقرة في قوله تعالى: {أهل به لغير الله} وتأخيرها في غيرها؟

الجواب: في هذا السؤال هو أنا نقول عملًا بقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] نقول: الله تعالى أعلم. [السؤال الثاني عشر: ] ما هي الحكمة في تقديم (به) في البقرة في قوله تعالى: {أُهِلَّ بِهِ لِغَيرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] وتأخيرها في غيرها؟ الجواب: الظاهر أن أقرب الحِكَم البلاغية فيه: هو ما يذكره بعض العلماء أنه تفنن في العبارة؛ لأن تكرير العبارة بلفظ واحد أحلى منه عند النفوس تغيير الأسلوب. [السؤال الثالث عشر: ] ما هو التوفيق بين الحصرين في قوله تعالى: {إنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الكهف: 55] وقوله: {إلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)} [الإسراء: 94]. الجواب: أنه كما تفضلتم يظهر إشكال بين الحصرين في قوله في سورة الإسراء -سورة بني إسرائيل- {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)} [الإسراء: 94] فكأن ¬

_ = عبيد (ص 301 - 307)، تفسير الطبري (1/ 21 - 67)، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (2/ 59 - 63)، الإبانة عن معاني القرآءات (ص 78 - 85)، الأحرف السبعة للداني (ص 11 - 22)، التمهيد (7/ 272)، مشكل الآثار (4/ 181 - 195)، شرح السنة للبغوي (4/ 501 - 512)، المرشد الوجيز (ص 77 - 90)، جامع الأصول (2/ 477 - 484)، فضائل القرآن لابن كثير (ص 26 - 31)، مجمع الزوائد (7/ 150 - 154)، كنز العمال (2/ 591 - 610)، كتاب مناهل العرفان دراسة وتقويم (1/ 354).

استغرابهم ببعث الرسول محصور فيه هذا المنع من الهدى، وقوله في سورة الكهف: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)} [الكهف: 55] وفي القراءة الأخرى: {قُبُلًا} (¬1). والجواب عن هذا عند العلماء: هو اختلاف جهة الحصرين، أما الحصر في سورة بني إسرائيل فهو حصر عادي في سببه العادي، والأسباب العادية قد تتخلّف بمشيئة الله -جل وعلا-؛ لأنه جرت العادة أن البشر إذا جاءهم رسول منهم استغربوا وقالوا: كيف يُرسل إلينا رجل يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق؟ وهذا كثير في القرآن كقولهم عنه: {مَا هَذَا إلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيكُمْ} [المؤمنون: 24] وقالوا في البشر: {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)} [المؤمنون: 33] {أبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا} [التغابن: 6] {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)} [القمر: 24] {مَا أَنْتُمْ إلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15] فكون الناس يستغربون بعث البشر هذا استغراب عادي ضل بسببه أكثرهم، مِع أن الله بيّن لهم أن رسالة البشر هي معروفة، قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إلا رِجَالًا} [الأنبياء: 7] أي: لا ملائكة، وقال في الرسل: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء: 8] فهذا المانع وهو قولهم: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94] ¬

_ (¬1) انظر: المبسوط لابن مهران (ص 200).

السؤال الرابع عشر: ما معنى قوله تعالى في سورة النمل: {بل ادارك علمهم في الآخرة}؟

واستغرابهم ببعث بشر مانع عادي، والأمور العادية قد تتخلف؛ ولذا أسلم كثير من الناس ولم يمنعهم كون المبعوث بشرًا. أما المانع في قوله في سورة الكهف: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} [الكهف: 55] فهو مانع حقيقي عقلي؛ لأن المعنى على أصح القولين: وما منعهم أن يؤمنوا إلا أن الله أراد بهم في سابق علمه وأزله أن يبقوا على كفرهم حتى يأتيهم أحد أمرين: أن يأتيهم الهلاك في الدنيا، أو يأتيهم العذاب قبلًا في الآخرة، وهذا الذي سبق في علم الله وإرادته لا يمكن أن يتغير. فهذا مانع حقيقي لا يتخلف، وذلك مانع عادي قد يتخلف، فانفكت جهة المانعين بكون هذا عاديًّا وهذا عقليًّا، فزال الخلاف لانفكاك جهة المانعية. [السؤال الرابع عشر: ] ما معنى قوله تعالى في سورة النمل: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [النمل: 66]. الجواب: في هذه الآية أوجه معلومة للعلماء، من أظهرها: أن الكفار في دار الدنيا تختلف علومهم في الآخرة فمن مكذب ومن مصدق ومن شاك، ويوم القيامة يرون الحق عيانًا {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} [ق: 22] {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38] فيتدارك علمهم ويتلاحق ويرون الحق يقينًا بحيث لا يبقى فيه لبس ولا شك، وعند ذلك يقول الواحد منهم: هل من سبيل؟ هل من مرد؟ يا ليتنا نُردّ ولا نكذب بآيات ربنا، والله يقول: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].

السؤال الخامس عشر: هل يمكن عندكم الآن تصحيح ما لم يصحح من الأحاديث كما هو مذهب النووي، أم لا يمكن كما هو مذهب ابن الصلاح؟

[السؤال الخامس عشر: ] هل يمكن عندكم الآن تصحيح ما لم يصحح من الأحاديث كما هو مذهب النووي، أم لا يمكن كما هو مذهب ابن الصلاح؟ الجواب: على كل حال الظاهر أنه في هذه الأوقات ليس للمعاصرين علم جديد بالرواة إلا مأخوذًا عمن قبلهم، فلا يمكنهم التزكية ولا الجرح إلا باستناد ما سطره من قبلهم، هذا هو الذي يظهر. [السؤال السادس عشر: ] هل ما أسنده الشيخان ترجح فيه قول الأول (¬1) أم قول الثاني (¬2)؟ . الجواب: أما ما أسنده الشيخان وكل حديث لم يبلغ حد التواتر فله جهتان: جهة هو منها قطعي، وجهة هو منها ظنّي، والواحد في الشخص له جهتان: أما من حيث وجوب العمل فهو قطعي؛ لأن ما ثبت عندنا بعدول الرواة ولو أخبار آحاد فالعمل به قطعي علينا، وأما أن نحكم بأن ذلك الأمر حق في نفس الأمر فيما بيننا وبين الله فهو من هذه الحيثية ظني، ونضرب لهذا الأمثال: هذا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول في حديث أم سلمة المتفق عليه: "إنما أنا بشر، وإنكم لتختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له فلا يأخذ من حق أخيه شيئًا فكأنما أقطع له قطعة من نار" (¬3) قضاء النبي قطعي، إنه حق من قبيل الشرع، وهو في نفس ¬

_ (¬1) أي: النووي رحمه الله. (¬2) أي: ابن الصلاح رحمه الله. (¬3) أخرجه البخاري في المظالم، باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه. =

الأمر لا يدري أيطابق الأمر، أو لا يطابقه؟ ولذا يحذِّر من أخذه ويقول: "فكأنما أقطع له قطعة من نار" والله يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فعلينا أن نأخذ بشهادة العدلين قطعًا لنص القرآن العظيم، ولو سئلنا: أأنتم جازمون بأنهما صادقان في نفس الأمر؟ لقلنا: لا؛ لأنهم غير معصومين، فهو من جهة العمل الشرعي قطعي، ومن جهة الواقع في نفس الأمر أمر ظني، ولا بأس أن يُبنى في الشرع قطعي على ظني، بل نجد في كتاب الله أن الظواهر القطعية قد تُبنى على أمور هي باطلة، وهذا جاء في كتاب الله؛ لأنه لما رمى هلال زوجته (¬1) ورمى عويمر العجلاني زوجته (¬2) واجتمع الجميع عند النبي والرجل يقول: هي زانية، وهي تقول: هو قاذف محصنة. لا شك أن أحدهما كاذب بلا شك، والنبي قال في الملاعنة: "الله يعلم أن أحدكما لكاذب" ولو لم يقلها النبي فنحن نجزم بها قطعًا. جاءت آية اللعان فحلف الرجل أيمانه، وخمّس باللعنة وصدقه الشرع، ثم حلفت المرأة ¬

_ = حديث رقم (2458) 5/ 107، ومسلم في الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، حديث رقم (1713) 3/ 1337. (¬1) أخرجه البخاري في التفسير، باب: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)} [النور: 8] حديث رقم (4747) 8/ 449، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومسلم في اللعان، حديث رقم (1496) 2/ 1134 من حديث أنس رضي الله عنه مختصرًا. (¬2) أخرجه البخاري في التفسير، باب {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ... }، حديث رقم (4745) 8/ 448، وانظر: حديث رقم (4746)، ومسلم في اللعان. حديث رقم (1492) 2/ 1129، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وقد جاء نحوه عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم.

السؤال السابع عشر: هل الخلع طلاق أو فسخ؟ وما هو رأيكم في تعدد الزوجات؟

أيمانها وخمست بالغضب فصدقها الشرع، ولم يلزم هذا حد ولم يلزم هذا حد، ولم تقم على واحد منهما حجة بأنه وقع في محذور، والله لمّا بيّن هذا بيَّن أن بناء هذه الأمور الشرائع القطعية على ظواهر زائفة غير حقيقية أنه من حكمته في التشريع؛ ولذا أتبع آية اللعان بقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)} [النور: 10] أي: لولا ذلك لما قبل منكم هذه التشريعات وهذه التسهيلات التي أنتم تعلمون أن بواطنها لا حقيقة لها، فنحن نعلم أنّ أحدهما كاذب، ونعلم أنه لو تعين كذبه لكان عليه جلد القذف، ولو تعين كذبها لكان عليها الرجم؛ لأنها زانية محصنة، وهذا ثابت، وقد سقط عنه الجلد وعنها الرجم، وصُدّقا معًا في ظاهرِ حكم -باطنُهُ نحن نعلم أن أحد الشخصين كاذب- وبهذا نعلم أن للشرع ظواهر وبواطن، وأنه قد تكون ظواهر الشرع قطعية، والبواطن لا يلزم أن تكون مطابقة لما في نفس الأمر. [السؤال السابع عشر: ] هل الخلع طلاق أو فسخ؟ وما هو رأيكم في تعدد الزوجات؟ الجواب: أن أنظار العلماء اختلفت في الخلع هل هو فسخ، أو طلاق؟ فكانت جماعة من العلماء منهم: عبد الله بن عباس، والإمام أحمد، والشافعي يقولون: إن الخلع فسخ لا طلاق، واستدلوا بالقرآن؛ لأن الله قال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ثم ذكر الخلع بعد هاتين المرتين فقال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ثم جاء بالطلقة الثالثة في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230].

وهنالك قوم آخرون قالوا: إن الخلع طلاق، وقالوا: هذه الآية -وإن استدل بها ترجمان القرآن ابن عباس- لا دليل فيها؛ لأنه لما قال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ذَكَرَ جواز الخلع لا يقتضي أن الخلع طلقة ثالثة، وقد جاء في حديث مرسل حسن أن الثالثة في قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فتكون الثالثة جاءت قبل ذكر الخلع فلا دليل في الخلع. وأنا أقول: أقرب الوجهين عندي للمعنى قول من قال: إنه طلاق؛ لأن الخلع معاوضة، وأحد المتعاوضين لا يدفع إلا شيئًا يملكه، والرجل لا يملك نوعًا من الفراق للمرأة إلا الطلاق، فالذي يظهر أن عوض المال من جهة المرأة يقابله عوض مملوك للرجل من جهة الرجل، ولا يملك من ذلك شيئًا إلا الطلاق، ويستأنس لهذا بما ثبت في الصحيح في بعض روايات مخالعة ثابت بن قيس وامرأته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "خذ الحديقة وطلقها تطليقة" (¬1). فكأن هذا يستأنس له بأنه جعل الطلقة في مقابلة المال. والله تعالى أعلم. أما تعدد الزوجات فينظر فيه بنظرين: أما هو من أصله دل القرآن على إباحته، وفيه مصالح عظيمة للرجل وللمرأة وللأمة؛ لأن المرأة الواحدة تمرض وتحيض وتنفس فتكون عاجزة عن أخصّ لوازم الزوجية بتلك الأعذار والعوائق، والغرض الأكبر من أغراض النكاح: التناسل وكثرة الأمم؛ لتقوم الأمة في وجه عدوها لتكون كلمة الله هي العليا؛ ولأن الله أجرى العادة بأن الرجال أقل عددًا في أقطار [الدنيا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الطلاق، باب الخلع، حديث رقم (5273) 9/ 395. وأطرافه في: (5274 - 5277).

من] (¬1) النساء؛ لأنهم أكثر تعرضًا لأسباب الموت، فلو قُصر واحد على واحدة لبقي عدد ضخم من النساء لا أزواج لهن، فيضطررن لركوب الفاحشة والفاقة، فهو من قبيل الشرع منصوص في كتاب الله، وحِكمُه ظاهرة. أما هذا العرف الجاري في هذه البلاد من أنه لا يمكن أن يجمع رجل بين اثنتين من بنات القبائل من البيوت التي يشار إليها، فهذا يتكلم فيه من جهتين: إحداهما: أن بعض الناس يقول: هذا العرف حرام وليس بجائز، وهذه شروط ليست في كتاب الله، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط. ونحن لا نقول بهذا، بل نقول: إن المرأة إذا خطبها الخاطب تقول له: أما إجابتي إياك فهو حقي، والشرع أعطاني الاختيار إن شئت أجبتك وإن شئت لم أُجبك، وأنا أجيبك بشرط أن لا تتزوج علي. واقتصاره على واحدة جائز شرعًا، فهي ما اشترطت عليه إلا أمرًا يجوز له، فإن رضي بهذا الشرط فهذا الشرط في كتاب الله، لأن الله يوجب على المسلمين الوفاء لإخوانهم المسلمين بالشروط، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة -1] والألف واللام للاستغراق، ويقول: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} [الإسراء: 34] ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "آية المنافق ثلاث" إلى أن قال: "وإذا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.

السؤال الثامن عشر: ما تقولون في التزام شخص مذهبا معينا؟

وعد أخلف" (¬1). فكل وعد أخذه مسلم على أخيه لم يحرم حلالًا ولم يحل حرامًا فهو في كتاب الله للأمر بالوفاء بالعهود في النصوص العامة في كتاب الله وسنة نبيه، لكنّا نقول: إن هذا الأمر وإن كان قد يتمشى مع الشرع فيجب على عامة الناس المعاونة على محاربته وإزالته بالطريق الاجتماعية، وأن يزيلوا هذه الأغلاط وهذه الأعراف الفاسدة؛ لأن هذا يقلل عددهم، وترك هذه السنة يقلل العدد ويترك عددًا ضخمًا من نسائهم ليس في كفالة أحد، فهو كان أجازه الشرع فالشرع فيه حَسَنٌ وفيه أحسن، فهذا وإن كان حسنًا جائزًا فتركه أحسن منه، وعلى المسلمين أن يحاربوا هذه الفكرة محاربةً اجتماعية لكون غيرها أحسن منها، وأن يتخلصوا من هذا العرف الفاسد؛ لأن الرجل إذا كان قادرًا على اثنتين أو ثلاث كان ذلك فيه نفع من جهات متعددة ككثرة كفالة النساء، وصار عدد ضخم، وقل الطلاق الذي يضطر إليه الرجل إذا زال غرضه من هذه ليستبدل بها هذه؛ لأنه لو فسح في هذا قل الطلاق، وكثر التناسل، وكثرت كفالة النساء، وقل الأيامى في الدنيا، فهي مصالح كثيرة جدًّا، فعلى المسلمين أن يلتفتوا إليها من حيث إنها أفضل وأحسن لا من حيث إنها أمر حرام، هذا الذي يظهر لنا والله تعالى أعلم. [السؤال الثامن عشر: ] ما تقولون في التزام شخص مذهبًا معينًا من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الإيمان، باب علامة المنافق. حديث رقم (33) 1/ 98، وأطرافه (2282، 2749، 6095). ومسلم في الإيمان، باب بيان خصال المنافق. حديث رقم (59) 1/ 78.

غير نظر إلى دليل ولا إلى قول قائل؟ وهل يستوي في هذا العوام وغيرهم، أم لا؟ الجواب: أن التزام مذهب معين لم يرد به نص من كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا إجماع، ومتأخروا الأصوليين من جميع المذاهب كلهم مطبقون على وجوبه، ومستندهم في ذلك تحقيق المناط. وإيضاح ذلك أنهم يعلمون أن الله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43] ويرون أنه لم يبق مجتهد مستحق بأن يُستفتى فيفتي، وإذًا عندهم إذا كان لم يكن في الموجودين من هو أهل للفتوى يجب تقليد بعض الذين ماتوا وهم أهل للفتوى. ثم إنهم اختاروا مذاهب الأربعة وحصروا التقليد فيها دون غيرهم من فقهاء الأمصار، قالوا: لأنه لم يدون مذهب كتدوين المذاهب الأربعة فإن كلام الأئمة فيها دُوِّن ونوقش وسئلوا عن كل شيء حتى صار المتمذهب به على ثقة من أن هذه فتاوي ذلك الإمام الذي هو أهل للفتوى. قالوا: وغير المذاهب الأربعة من مذاهب الصحابة ومذاهب فقهاء الأمصار التي انقطعت أو لم تنتشر لم تكن بمثابة المذاهب الأربعة لما ذكرنا من إيضاحها وتحقيقها وتنقيحها؛ فلأجل هذا النوع من تحقيق المناط أوجبوا تقليد أحد هذه الأئمة الأربعة. والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه ليس لأحد الحكم بالحصر على أنه لا يوجد من يكون أهلًا لأن يأخذ من كتاب الله وسنة نبيه. وبالجملة فإن الاستقراء يدل على أن أصول الضلال كلها راجعة إلى أصلين: أحدهما: الإفراط، والثاني: التفريط، وأن الحق دائمًا

السؤال التاسع عشر: قال تعالى في كتابه العزيز: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ... } [المائدة: 5] إلى آخر الآية الكريمة، فأباح تزوج الكتابية بنص القرآن العزيز، فكيف ساغ لخليل أن يقول: "إلا الكتابية بكره"؟

واسطة بينهما، فيه التجافي عن طرف الإفراط وطرف التفريط، والعلماء ضربوا لهذا أمثلة: فمن أمثلة هذا قضية عيسى، فإن النصارى هلكوا فيه بالإفراط، واليهود هلكوا فيه بالتفريط. ومن أمثلة هذا: أعمال العبد، فإن الجبرية هلكوا فيها بالإفراط، والقدرية هلكوا فيها بالتفريط، كذلك مذاهب العلماء أفرط فيها قوم وفرط فيها آخرون، فرط فيها قوم كابن حزم وأتباعه حيث حملوا على الأئمة رضي الله عنهم وأرضاهم وعابوهم، واعتقدوا أنهم مشرعون من تلقاء أنفسهم يقولون على الله ما لم يرد به دليل من كتاب ولا سنة، فهذا تفريط في الأئمة، وقوم أفرطوا في الأئمة فجعلوا يقدمون كلامهم على كلام الله ورسوله، وهذا إفراط لا يجوز، والمذهب الحق وسط بين الأمرين، أنه إن وُجِد نص من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فهو مقدم على قول كل أحد، والأئمة الأربعة صح عن كل واحد منهم ما معناه أنه إن وُجد قوله يخالف كتابًا وسنة ضُرب بقوله الحائط، هان لم يوجد في المسألة نص أو وُجدت فيها نصوص ظاهرها التضارب تحتاج إلى ترجيح فطبعًا تقليد المجتهد الذي فيه أهلية الاجتهاد كمالك ونظرائه أقرب إلى الصواب. [السؤال التاسع عشر: ] (¬1) قال تعالى في كتابه العزيز: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... } [المائدة: 5] إلى آخر الآية الكريمة، فأباح تزوج الكتابية بنص القرآن العزيز، فكيف ساغ لخليل أن يقول: "إلا الكتابية بِكُرهٍ". مع علمي أن المكروه من قبيل الجائز؟ ¬

_ (¬1) السؤال التاسع عشر، والعشرون من الشريط الرابع.

الجواب: أن كراهة من كره من العلماء تزويج الكتابية مستند الآية في كتاب الله من سورة البقرة، وهو مذهب معروف عن عبد الله بن عمر؛ لأن الله قال في سورة البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقال في موضع آخر {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} [الممتحنة: 10] والمشركات يشمل جميع الكافرات، غلط هنا قوم وقالوا: إن الكتابيين ليسوا من المشركين! ! وغرهم في ذلك ظواهر آيات من كتاب الله جاء فيها عطف الكتابي على المشرك، وظنوا أن ذلك العطف يقتضي المغايرة، كقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة - 1] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 6] وقوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 105] وقوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [آل عمران: 186] فعطْف المشركين على أهل الكتاب توهم بعض منهم أن الكتابيات لسن من المشركين. والحق أن الكتابيين من المشركين، وقد نص الله على أنهم من المشركين في سورة براءة في قوله تعالى: {وَقَالتِ الْيَهُودُ عُزَيرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30، 31]. فصرح بأنهم مشركون، فعبد الله بن عمر قال: قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] لم ينسخه شيء، ولم يقدم عليه: {وَالْمُحْصَنَاتُ

السؤال العشرون: قال مالك في الموطأ: باب جواز جمع الأختين بملك اليمين، والمرأة وابنتها؟

مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] واستدل بما يقوله بعض العلماء بأن النص المُحَرِّم يقدم على النص المُجيز؛ لأن ترك مباح أهون على الله من ارتكاب حرام. ولكن جماهير العلماء علموا أن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن، وأن آية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} نازلة قطعًا بعد قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ}، وأن الله - جل وعلا - بين فيها هذا الأمر، والأخذ بظاهر آية البقرة هو مستند التحريم أو مستند الكراهة، وعن بعضهم التحريم، وأما مستند الجميع فهو في آية المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]. [السؤال العشرون: ] قال مالك في الموطأ: (باب جواز جمع الأختين) [ ... ] (¬1). الجواب: أن الجمع بين الأختين في ملك اليمين حرام عند الأئمة الأربعة وجل فقهاء الأمصار، وأجازه داود بن علي الظاهري وأتباعه، حجة الجمهور آية من كتاب الله في سورة النساء، وهي قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ} [النساء: 23]، لأن المصدر المنسبك من قوله (أن) وصلتها في قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ} عَطْف على المضاف المحذوف في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] أي: حرم عليكم نكاح أمهاتكم، وحرم عليكم الجمع بين الأختين. والألف واللام في قوله: {الْأُخْتَينِ} هو (أل) ¬

_ (¬1) باقي السؤال ذهب لانقطاع التسجيل. والذي في الموطأ (ص 366): "ما جاء في كراهية إصابة الأختين بملك اليمين والمرأة وابنتها".

الاستغراقية، ودخلت على اسم الجنس المثنى، وهي تعم عند علماء الأصول، فعمَّت بظاهرها كل أختين سواء كانتا بعقد أو بملك يمين، هذه حجة الجمهور، وهي واضحة. واحتج داود بن علي الظاهري وأتباعه على جواز الأختين في ملك اليمين بآيتين من كتاب الله إحداهما مكررة والأخرى غير مكررة، أما الآية المكررة فهي في سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} وسورة {سَأَلَ سَائِلٌ} وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون: 5، 6] وقد تقرر في فن الأصول أن (ما) الموصولة من صيغ العموم، قال داود: الله - جل وعلا - نفى الملامة عمن لم يحفظ فرجه عن ملك يمينه وأطلق، وجعل العداء فيما وراء ذلك وأطلق {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} وعضد داود مذهبه بأن قال: إن آية: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ} [النساء: 23] في سياق العقود والأنكحة، وآية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} في سياق التسري، فلنترك تلك في محلها، ونترك هذه في محلها. وأجاب الجمهور بأن قالوا: إن بين الآيتين عمومًا وخصوصًا من وجه، والمقرر في الأصول: أن الآيتين إن كان بينهما عموم وخصوص من وجه يظهر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها ويجب الترجيح، كما عقده العلامة الشنقيطي العلوي سيدي عبد الله في "مراقي السعود" بقوله (¬1): ¬

_ (¬1) المراقي (ص 57).

وإن يك العموم من وجه ظهر ... فالحكم بالترجيح حتمًا معتبر والعلماء لما نظروا بين الآيتين وجدوا عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ} [النساء: 23] أرجح من طرق متعددة توجب تقديمه على عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} أحد هذه الطرق أن عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ} [النساء: 23] نص في محل المدرك المقصود بالذات لإبانة هذا الحكم؛ لأن السورة -سورة النساء- والمحل هو الذي تعرض فيه القرآن لما يحل من النساء وما يحرم، فصرح فيه بمنع الأختين، أمّا آية {سَأَلَ سَائِلٌ}، وآية {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} فلم تُسق واحدة منهما لتحريم امرأة ولا لتحليل أخرى، وإنما سيقتا لمدح المتقين فكان حفظ الفرج من جميع خصال المتقين، فاستطرد أنه لم يلزم عن الزوجة والسُّرية، والنص المسوق بالذات لإبانة الحكم أولى بالعمل من الذي لم يُسق لذلك. الوجه الثاني: من هذه المرجحات: أن آية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] أجمع جميع العلماء أنها ليست باقية على عمومها بالإجماع؛ لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين إجماعًا؛ لإجماع جميع المسلمين على أن آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} يخصص عمومها بعموم قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وموطوءة الأب لا تحل بالإجماع لإجماع المسلمين أن آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} يخصص عمومها بعموم قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] والمقرر في الأصول -على أصح الوجهين- أنه إن تعارض عامَّان أحدهما مُخَصَّص

تخصيصًا بعد تخصيص، والثاني لم يرد فيه تخصيص إلا محل النزاع، فالذي لم يرد فيه تخصيص أولى بالتقديم والقوة من الذي دخله تخصيص. الثالث: من هذه الأوجه أولًا أن المقرر في علم الأصول أنه إذا [ ... ] (¬1). ¬

_ (¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، ويمكن استدراك ذلك بمراجعة كلام الشيخ رحمه الله على هذه المسألة في كتابيه "أضواء البيان" (5/ 762) و"دفع إيهام الاضطراب" (ص 72) حيث رجّح عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ} من خمسة أوجه.

§1/1