رحلة الشتاء والصيف

محمد كبريت

ديباجة المؤلف

ديباجة المؤلف الناسُ يُهدون على قدْرِهم ... وإنَّني أُهدي على قدْري يُهدون ما يفنى وأُهدي الذي ... يبقى مدى الأيامِ والدَّهْرِ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مَنْ لا نبي بعده، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون. يا من أودع كنوز الأرض أسرار حكمته، يطلع عليها من جاب البلاد بحسن فطنته، وخص كلّ بقعة بخاصة لا توجد إلا فيها، وجعل لهذا رغبة عن هذه فينأى عنها، ولهذا رغبة في هذه فيصطفيها، صلِّ على نبيك ورسولك وحبيبك وخليلك سيدنا وسندنا محمد، الذي شرَّفت به كثيراً من البقاع، وعطرت بآثاره الشريفة الأكم والقاع، وعلى آله وصحبه وشيعته وحزبه أكرم من ساروا في أقطار الأقاليم فعمروها، وأقاموا بالأراضي المجدبة وبهاطل بركاتهم غمروها، ما اهتز بها أغصان الآمال بنسمات الإقبال، وما تذكر مجروح الفؤاد على مر المنازل لذة الوطن والمناهل. (أما بعد) فإنه لا يخفى على من سبر الدهرَ وخبر أحواله، ورأى تغيراته وشاهد في ذوي الفضل أفعاله، أن من ارتدى بمحامد الخلال وتحلَّى بحلي الفضائل والكمال نصب له الزمان مصايد المصايب، وأوقعه في شرك الهوان متجرعاً غصص النوى والنوائب، وفي وهاد حسراته محترق زفراته:

وكَمْ للدَّهْرِ من فعلٍ عجيبٍ ... بهِ فيهِ أُولو الألبابِ حاروا وأَعجبُ ما يُرى فيهِ فقيهٌ ... مهانٌ والجهولُ هو المشارُ أمورٌ لا يتمُّ لها قياسٌ ... أرانا شأنها الفلكُ المدارُ وكنت ممن ناواه الزمان، وكرّ عليه بسيف حيفه الحَدَثان، أتقلب من الحسرات على فرش الغضا، وأجد لما بي أضيق ما يكون سعة الفضاء، فأعلل النفس بالأماني، وأتسلَّى بذكر من لم يَصْفُ له التهاني، ولما عيل مني الصبر وأعياني هذا الأمر دعاني داعي الأماني والآمال، وحرَّكني فيه الرجاء والالتجاء إلى الكريم المتعال، أن أمتطي غارب الاغتراب، حسب فامشوا والبركة في الحركة والله مسبب الأسباب وأنشدني لسان الحال قول من قال: إنَّ العُلى حدّثتني وهي صادقةٌ ... فيما تحدِّث أنَّ العزَّ في النقلِ لو أنَّ في شرفِ المأوى بلوغَ مُنَى ... لم تبرحِ الشَّمْسُ يوماً دارةَ الحملِ فاقتضى الأمر العزم على السفر، واقتحام مهامه المشقة والخطر، وقصد الأبواب الشريفة السلطانية، والتملِّي برؤية الموالي والأركان بالدولة المنيفة الخاقانية، والوقوف على تلك المنازلِ والمناهلِ والأطلال، وما أبرزته القدرة الإلهية من القوّة

إلى الفعل ومن عالم المثال إلى عالم الأشكال. ومن قبل تركيب الهوى كنت ساكناً ... ولكنْ برغمي حرَّكتني العواملُ وسلَّكني دهري على غيرِ منهجي ... ألا في سبيل اللهِ ما الدهرُ فاعلُ فامتطيت غارب الأمل إلى الغربة، وركبت مراكب المذلة والكربة، قاصداً استعتاب الدهر الكالح، واستعطاف الزمان الغشوم الجامح، اغتراراً بأن في الحركة بركة، وأن الاغتراب داعية الاكتساب. على المرء أن يسعى لما فيه نفعُه ... وليس عليه أن يساعده الدهرُ فإن نال بالسعي المُنى تمَّ قصدُه ... وإن خالف المقدور كان له عذرُ وهيهات مع حرفة الأدب، بلوغ وطر أو إدراك أرب، أو مع عبوس الحظ، ابتسام الدهر الفظِّ. فما كُلُّ غادٍ نحو قصدٍ ينالُه ... ولا كلُّ من زار الحِمى سمع الندا وكنتُ مهما وقفتُ عليه من خبر لطيفٍ سطرته، وأيَّما شعر ظريف ظفرت به قيَّدته وحبَّرته، حتى وجدتُ لديَّ جملةً من اللطائف والظرائف، قد جمعتها أيدي الأقلام، وأوقعتني عليها الأيام. إنَّ الغريبَ إذا ما كان ذا قلمٍ ... فليس سلوتُه إلا بقرطاسِ فيهِ يُقيِّدُ ما يلقاه من نكتٍ ... ومن ظرائفَ يُبديها من الراسِ فخطر لي أن أجعلها رحلةً تعرب بحسن معانيها عن لطيف المعاني، وتفصح عن عذوبة السجع بما يفوق رنَّات المثاني، وأودعها ما أقف عليه في سفري من لطائف الأشعار، وغرائب النكت التي هي لدى طالبها غالية الأسعار، إلى غير ذلك من منثور ومنظوم، إلى حين قدومي من الروم. لتكون نزهةً لي ولأصحابي، وتحفة أخص بها خُلَّص أحبابي، بل عبرة لكلّ طامع في غير مطمع، بل عبرة تعبر عن مكتوم سر طالما تكلم وتوجع. إن الفؤادَ إذا تكدّر لم يكنْ ... يصفو بغير شكايةٍ وعتابِ فإذا تحصل من ذلك ما تحصل، وصح ما دار وتسلسل، سميّتُه:

رحلة الشتاء والصيف وناسبت فيها مناسبة خلت من الخلل والحيف، وما أشبهها بما قال: رحلةٌ لم يزل يفنِّدني الصَّيْ ... فُ إذا ما نويتُها والشتاءُ يتَّقي حرّ وجهي الحرّ والبرْ ... دُ وقد عزَّ من لظى الاتقاءُ ضقتُ ذرعاً مما جنيت فيوميْ ... قمطريرٌ وليلتي درعاءُ كنتُ في نومةِ الشبابِ فما اِستيْ ... قظتُ إلا ولِمّتي شمطاءُ وإذ أذن فجرها بالصباح، وصاح مناديها بالفلاح، جعلتها خدمة لجناب من أناخت بِفِناه ركائب الأفاضل، ووضعتْ على عَليِّ أعتابه جباهها الأماثل. حافظُ السُنَّة حفظاً لا ترى ... معه أن تُعْمِلَ الناسُ الأسِنَّه مَركز الدائرِ من أهلِ النُّهى ... فإلى ما قد حوى تُثْنَى الأعِنَّه كيف وهو المولى الذي ارتفع مقداره على فرق الفرقدين، وعلا مقامه على مقام النيّريْن، منهاج وصول الأحكام، معراج حصول المرام، مجموعة الكمالات النفسانية، خريدة السعادات الإنسانية، فاتحة إحياء علوم الدين، ومحكم خاتمة قلوب العارفين، شيخ الإسلام الذي إذا أفتى أفنى المهج وأحيا الأرواح، وإذا أفاد أجاد وأظهر من الإحسان ما يروق في الغدو والرواح، وإذا فسَّر أحيا مآثر القاضي أو المفتي بحسن سيرته، وحلّ من المشكلات ما يعجز كلّ ماهر عن إبداء خفاياه وموضع نكته. راضَ العلومَ فسلْه عن دقائِقها ... فعنده للخفايا أيُّ إدراكِ تذلَّلي يا فروع الفقه مثمرةً ... لَهُ ليدنوَ منه حلوُ مجناكِ

في النَّظم والنثر ما زالت فصاحتُهُ ... تقابلُ الدرَّ أسلاكاً بأَسلاكِ وفاتحُ البابِ في فنِّ البيان فلا ... يحتاجُ يوماً إلى مفتاحِ سكَّاكِ هو سيدنا الذي لا زال مقدارهُ عليّاً، مولانا شيخ الإسلام يحيى بن زكريّا، مَتّع الله المسلمين بطول بقائه ودوام أيامه، وعطّر الأكوان من ذكره الشريف بمسك ختامه، ولا زالت ظلاله على الأيام ممدودة الرواق، وبدور سعادته وسيادته آمنة من الأفول والمحاق، ومناقبه الجميلة سائرة الأمثال في الآفاق. ولا برحت تزداد عزاً ورفعةً ... بمنصبه العالي صدور المجالسِ فقد قال الإسكندر في حق الحكيم الأول لمَّا دوَّن الحكمة وزين ديباجتها بألقابه: من ذَكَرَني فيما يبقى فقد أبقاني أبداً. ما تنسجُ الأيدي يبيد وإنَّما ... يبقى لنا ما تنسجُ الأقلامُ وعسى أن يلحظها حظ فتشرف بمطالعته، ويصلني دهري الخؤون من بعد مقاطعته، وإذا كان علو مقامه يمنع من ذلك، وما بي من القصور يقول لست هنالك: إن الملوك وإن جلَّت مناصبُها ... لها مع السُّوْقةِ الأسرارُ والسَّمَرُ فقصة الأعرابي بإهداء قربة ماء إلى خليفة الزمان، وإهداء رجل جرادة إلى حضرة السيد سليمان، معلومة عند سمو شأنه، وعلو مكانه، ولقد قيل: لو أنَّ كلَّ يسيرٍ رُدَّ محتقراً ... لم يقبلِ اللهُ يوماً للورى عَملا المرءُ يُهدي على مقدار طاقتِهِ ... والنَّملُ يُعذرُ في القدرِ الذي حملا على أن الهدية ما كانت أقل، فهي أجمل للأجل، كما أن العطية ما كانت أجلّ، فهي أفضل للأقل، وإن كنت في ذلك كمن أهدى الزهر إلى رياضه، والقطر إلى

حياضه، ولنا القول وهو أدرى بفحواه، وأهدى فيه من القطاه، على أن الغرض من ذلك هو الالتجاء إلى ذلك الظل الظليل، من جَوْر الزمان الظلوم، وظلمة ليالي هذا الدهر الغشوم. فاللَّيالي من الزمان حُبالى ... مُثقلاتٌ تلدن كلَّ عجيبةْ قال الإمام زين العابدين نفع الله به هَلَكَ من ليس له كريم يعضده، وضَلَّ من ليس له حكيم يرشده. تعدو الأعادي على من لا خفيرَ له ... وتتقي مربضَ المُستأسدِ الحامي هذا والمرجو من فتوة من وقف على ذلك، ونظر رياض هذه المسالك، أن ينظر بعين الرضا إليها، ولا يتحامل لتفريط أو إفراط عليها، فإن السخط يقلب أعيان المحاسن بالقبايح، ويفتح أبواب السيئات والفضايح، وكان يقال: من رضي عن شيء تنعَّم به، ومن سخط على شيء تعذَّب به. وعينُ الرضا عن كلّ عيب كليلةٌ ... كما أن عينَ السُّخط تُبدي المساويا يروى أن القاضي عبد الرحيم البيساني، كتب إلى العماد الأصفهاني، يعتذر عن كلام استدركه عليه: وقد وقع لي شيء ولا أدري أوقع لك مثله أم لا؟ وذلك أني رأيت أن لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غدٍ لو كان غير هذا لكان أحسن،

ولو زيد هذا المكان يستحسن، ولو قدّم هذا لكان أجمل، ولو ترك هذا لكان أفضل، وهذا من أعظم العبر، ودليل استيلاء النقص على جملة البشر. ما خطَّ كفُّ امرئ شيئاً وراجعهُ ... إلا وعَنَّ له تبديلُ ما فيهِ وقال ذاك كذا أولى وذاك كذا ... وإن يكن هكذا تسمو قوافيهِ والله تعالى المسؤول، أن يهبَّ نسيمها بالقبول، وأن يُسهِّل لنا القدرة على الإتمام، ويجعل من مسك القبول حسن الختام. ما زال هذا البَيْنُ يسقي كأسَه ... من رقَّ من بين البريَّةِ طبعُهُ والدَّهْرُ يقضي في الكِرَامِ بجوره ... حتَّى خلا من كلِّ حُرٍّ ربعُهُ هذه الرحلةُ التي قَدْ تسامتْ ... وحوتْ نزهةَ الشِّتَا والصَّيْفِ أوّلُ كأسٍ تجرعته من مرامر البين، فراق المنازل الحرمية الذي كاد يكون من سكرات الحين، بعد أن قضيت الحج ببيت الله الحرام، وتملّيت بالمآثر المحترمة الكرام، وذلك في سابع عشر محرم الحرام، افتتاح عام غلط من هجرة أشرف مرسل عدل وما قسط، صلوات الله عليه وعلى آله الميامين وعلى من قال آمين. كان رحيلي عن طيبة عجباً ... وحادثاً من حوادث الزمنْ من قبل أن أعرض الفراق على ... قلبي وأن أستعد للمِحنْ فبرزت من المدينة الشريفة، والآثار الوريفة، بروز من ضل رشده، واحترق حشاه بفراقٍ قد بلغ أشدَّه.

ينبع النخل

وفارقت حتى لا أراع من النوى ... وإن غاب جيران عليّ كِرامُ وقد جعلتُ نفسي على اليأسِ تنطوي ... وعيني على هجرِ الصَديق تَنامُ فواهاً لزمن الاجتماع ما كان أغضّه، وآهاً من انصداع الشمل فما أمضّه، فيا لتلك المنازل التي سمت أن تسامى، ويا لهاتيك المسامرة التي بها هواطل السرور تهامى. فارقتها لا عن رضى، وهجرتها ... لا عن قلى، ورحلت لا متخيرا أسعى لرزقٍ في البلاد مشتتٍ ... ومن العجائبِ أن يكون مقتّرا وأصون وجه مدائحي متعففاً ... وأكفُّ ذيل مطامعي متستّرا لا عيشتي تصفو ولا رسم الهوى ... يعفو، ولا جفني يصافحُه الكرى فسرت مع بعض الإخوان، من ذوي المروءة والإحسان، صحبة الركب المصري، والعيون بالمدامع تذري، لبعاد تلك المنازل، وفراق هاتيك المناهل. فمنّي إليها كلَ وقت تحية ... وساكنها في كلِ آنٍ له السنا ثم لم نزل سائرين في المنازل الحرمية الشريفة، والمناهل السعيدة المنيفة، والمقادير تقودنا كيف جرى القلم، وأنا المنقاد إلى حيث المشقة والألم. أمامي من الحرمان جيشُ عرمرمٍ ... ومنه ورائي جحفلٌ حين أركبُ فلو تهتُ في البيداء والليل مسبلٌ ... عليّ جناحيه لما لاحَ كوكبُ ومازلنا كذلك نجوب الفيافي والمسالك، إلى أن وصلنا ينبع النخل، وروينا من مياهه التي هي كمُجاج النحل، ولكن بعد أن تجرعنا المرامر، وكادت تنشق منا المرائر، مما قاسيناه في النقب من ضيق الطريق، وازدحم القطر الذي فرق بين الرفيق، إلى غير ذلك من الأوعار، ومصادمة الأحجار، في ليل مظلم، وهول مؤلم، ولسان الحال ينادي في تلك الشعوب والبوادي: فاصبر لها غير محتال ولا ضجر ... في حادث الدهر ما يغنى عن الحيل ينبع النخل (فائدة) يَنْبُع: بصيغة مضارع نبع الماء، إذا ظهر، من نواحي المدينة المنورة على

أربعة أيام منها، سميت بذلك لكثرة ينابيعها وعدتها مائة وسبعون عيناً، ولمّا نظر إلى جبالها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: لقد وضعت على نقب من الماء عظيم. وأقطعه النبي صلى الله عليه وسلم العشيرة من الينبع، ثم اشترى قطعة أخرى، وكانت بها أمواله عيوناً تصدق بها. ومن محاسن الفيومي: إن كان قد قضي الفراق وصدّني ... عنكم حجاز من نوى لا يرفعُ فأنا الذي دمعي العقيق وناظري ... يا بدر بعد البعد عنكم ينبعُ والنقب مضيق كثير الأوعار، يسلكه الركب المصري في أيامه، وهو على نصف مرحلة من خيف بني عمرو، وهذا الخيف يشتمل على عيون جارية، ونخيل باسقة، ومنازل عامرة بسكانها. (ولنرجع إلى ما كنا بصدده) فأقمنا بينبع المحروسة، ومرابعها البهية المأنوسة، ثلاثة أيام، نهارنا تحت ظل النخيل، وليلنا في مسامرة الصديق والخليل، وكان ذلك آخر عهدي بالمنازل التي بها كلّ قصدي. وكان أول عهد العينِ منذ نأت ... بالدمعِ آخر عهدِ القلبِ بالجَلَد ولما كان وقت العصر من اليوم الثالث، الذي هو آخر العهد بأيام الثالث، وأوله بالليالي العوابث، زعق نفير الحاج، وأخذ الركب في الحركة والهياج، فلحق العشاق من ألم النوى لمفارقة الحجاز، ما أجرى دمعهم رملاً على ذلك الصعيد الطيب، وأخرجهم من الحقيقة إلى المجاز، ثم في أقل من نظر محب إلى حبيبه، أو شكوى عليل إلى طبيبه، حَمّل الركب وسار، ولم يبق له أثر في الدار. كأنَّما حجلٌ كانت بسفح ربى ... فرّت كأنَّهم بالسفحِ ما كانوا فارتحلنا في تلك الساعة البهية، متوجهين إلى نحو الديار المصرية، فقاسينا في السفر ما لا يطاق، واحتملنا من نخع النعم ما لزورته حمل المشتاق:

وادي نبط

ولما تناءت بالأحبةِ دارهم ... وصرنا جميعاً من عيانٍ إلى وهمِ تمكّن مني الشوق غير مُسامحٍ ... كمعتزليٍّ قد تمكن من خصمِ ثم تمادى بنا السفر من بعد العصر إلى أن أسفر الفجر، ورقَّ جلد ما معنا من الدواب، وتفرق شمل رفاقنا بين تلك الروابي والشعاب، ثم أنخنا الركاب، بقفر خلا من المياه والأعشاب، فقِلْنا به ذلك اليوم، وقُلنا نأخذ فيه راحة ما بالنوم، ومن أين يجد الخاطر به القرار، وهو المعروف بوادي النار. ما طاب عيشي بروضٍ زاهرٍ خضرٍ ... حتى يبيتَ بقفرٍ لا نباتَ به وادي نبط ولما هبت الطوارف، نفر الركب متطايراً كالوجل الخائف، فاقتحمنا تلك القفار، وانطوى بنا في السير الليل والنهار، حتى أسفر الفجر ولاح، وتشعشع بضيائه الصباح، فأنخنا بوادٍ يقال له نبط، خال من الأثل والخمط. فائدة في كتاب برهان الإعجاز في منازل الحجاز: نَبْط بفتح النون وسكون الموحدة مفازة عرضها الميل وطولها سو، وهي شرقي الجنوب، بها الآبار عذبة المياه، وفيها يقول أبو عبد الله الفيومي: روِّ من نبط لهيبي ... واسقنا ثم توجه

الحوراء

ودع الحورا فإني ... صرت أشنأها وأكره الحوراء ثم لم نزل كذلك، نقطع هاتيك المسالك، غوراً ونجداً، ومفازة ووِرْداً، حتى أنخنا بالحوراء، وهي ساحل خليج القلزم، المعروف ببحر السويس، ومبدؤه من باب المندب إلى أن يتصل بالبحر الهندي، وطوله ألف وأربعمائة ميل كما في الخريدة، وفي الخطط ألف وخمسمائة ميل، وعرضه من أربعمائة إلى ما دونها، وهو بحر كريه المنظر والرائحة، وفيه مصب الدجلة والفرات، وعلى جوانبه السند واليمن، كأنَّها جزيرة أحاط بها الماء من جهاتها الثلاثة، وهو يروع نهر مهران كروع البحر الرومي نهر النيل، وسمي القلزم باسم مدينة كانت بساحله الغربي بشرقي مصر، ويعرف موضعها اليوم بالسويس. والقُلْزُم بضم القاف وسكون اللام وضم الزايّ، وكانت فرضة مصر والشام، ومنها يحمل إلى الحجاز واليمن، وهذا البحر إنَّما هو خليج يخرج من المحيط، ويعرف ببحر الظلمات لتكاثف البخار الصاعد وضعف الشمس عن حله، ولم يوقف من خبره الأعلى ما عرف من بعض سواحله، وما قرب من جزائره طال الكلام، وخرج عن سلك النظام: ولربما ساق المحدّث بعض ما ... ليس النديم إليه بالمحتاج

فائدة

وبالجملة فإن الحديث شجون، والجنون فنون، والأمر كما قال، في تأليف القيل والقال: لو لم أقل هذا وهذا وذا ... بأي شيء كنت أملي الكتاب؟ والحوراء هذه تشتمل على أشجار ملتفة وبها شجر الأراك، وأطيار متنوعة، إلا أن ماءه في غاية الكدورة، مفرط في الإسهال، وقلت لما ذكرت بها فضيلة العين الزرقاء: قد أتينا الحوراء في يوم حرٍ ... شمسه كالعقيقةِ الحمراء وشربنا مياهه وحمدنا ... إذ عرفنا فضيلة الزرقاء ويعجبني قول القائل: مدينةُ خير الخلق تحلو لناظري ... فلا تعذلوني إن فُتنتُ بها عشقا يقولون في زرق العيون شآمة ... وعندي أنَّ اليُمْن في عينها الزَرْقا فائدة العين الزرقاء منسوبة إلى الأزرق، مروان بن الحكم، لأنَّه أجراها وهو والٍ على المدينة المنورة، وأصلها من غربي مسجد قبا، تجري إلى المصلى، وعليها قبة، الماء منها في وجهين شرقي وشمالي، كذا قيل. ولعل الزرقاء صفة للعين لأن جميع مياه ذلك الوادي تُرى كالنيل الأزرق، ولأنّ ذلك الماء قبل مروان وآبائه، وكانت بالمدينة عيون متنوعة متعددة وقد صارت في خبر كان، إلا أن ذيولها وآثارها تشهد لها، قيل: وكان يُجذّ بالمدينة وأعراصها مائة وخمسون ألف وسق بعير من التمر، ويحصد مائة ألف وسق من الحنطة. ويروى أن بالمدينة من عيون النبع غير الجارية ستة عشر ألف ساقية. (حكى) السمهودي في الخلاصة أنه لما قدم المدينة تتبع إحصاءها فكانت كذلك، وهذه الخلاصة من أحسن تواريخ المدينة الشريفة، وأنشدني في ذلك إجازة لنفسه الشيخ إبراهيم أبو الحرم:

أكره

من رام يستقصي معالمَ طيبة ... ويشاهدُ المعدومَ كالموجودِ فعليه باستيفاء تاريخِ الوفا ... تأليف عالمِ طيبةَ السمهودي يقول أبو عبد الله الفيومي المكي: إني إذا نَزَحتْ ديارُ المصطفى ... وازداد شوقي نحوها وحنيني طالعت في تاريخه السامي لكي ... أمشي على آثارهِ بعيوني وبالجملة فإن في التاريخ مشاهدة ما، فهو كما قيل: أملياني حديثَ من سكنَ الجز ... ع ولا تكتباه إلا بِدمعي فاتني أن أرى الديارَ بطرفي ... فلعلي أرى الدّيارَ بِسمعي وما أطيب قول النيسابوري: يا عينُ إنْ بَعُدَ الحبيبُ ودارهُ ... ونأت مرابِعُهُ وشطَّ مزارهُ فلقد ظفرتِ من الحبيبِ بطائل ... إن لم تريه فهذهِ آثارهُ عوداً إلى ما كنا بصدده، وانعطافاً على ما يستعان بمدده، فأقمنا بها يومين لما قاسته الرحال والرجال، ولم تكن دار إقامة. أكْرَه ثم ارتحلنا قاصدين أكره، متأملين بعين الفكرة، ناظرين إلى الأنفس والآفاق، وما فيها من سرّ تدبير الخلاق، حتى وصلنا إليها، لا أعادنا الله عليها، وأكره بوزن جمرة، مسيل قفر، وماؤه مرٌّ زعاف لا تقبل عليه النفس إلا بالكره، وقد توجد بتلاعه ديم. وفي البرهان: أكرا بألف مفردة من أعمال الحوراء، وبينهما منزل للركب يعرف بـ الحُرَيْرَة مصغر الحرة، وهي منتهى أحكام الحجاز الشريف. ثم ارتحلنا سائرين في بوادٍ وقفار، ومفاوز وحِرار، إلى أن واجهنا الوجه

المبارك بعون الله تعالى وتبارك، ولاقينا فيه الأزالمة بالمبرات، واتصلت بنا أخبار مصر بالمسرات، ويباع فيه العليق بأقل من سعره في مصر، والوجه هذا شِعْبٌ فيه قلعة لطيفة فيها بئر وخارجها بئران، وكلها مطوية وماؤها من السيول، وربما لا يوجد بها أيام المحل، وهي منتهى أحكام مصر، وسمي بذلك لأن به تكون مواجهة الركب وكانت أوّلاً بالأزلم. أنشد الحافظ ابن حجر العسقلاني وقد مرّ به فوجده متسنياً: أتينا إلى الوجهِ المُرجّى نواله ... فشحّ ولم يسمح بطيب نداهُ وأسفر عن وجهِ وما فيه من حيا ... فقلتُ دعوهُ ما أقلَّ حياهُ ولما عاد إليه ممطوراً قد صفت مشاربه، واخضرت جوانبه، وطاب به المقيل فقال، وذلك مقال المستظل في الكلال: أرانا الجميلَ الوجهِ مُعتذراً لنا ... فأَوليتُه شكراً وما زلتُ مُثنيا وأَطرقتُ نحو الأرضِ رأسي خجلةً ... وما اسطعتُ رفعَ الرأسِ من كثرةِ الحيا قلت: وإذا كان الحياء بمعنى ضد الوقاحة ممدوداً، كما قيل في الحديث الحياء من الإيمان والحيا بمعنى المطر مقصوراً، فما تمت التورية في النظم، اللهم إلا أن يقال ذلك على رأي من يرى قصر الممدود في الشعر، وهو أكثر من مد المقصور، فلا كلام. وفي المعنى لأبي عبد الله الفيومي: ولما وجدنا الوجه عند ورودهِ ... خلياً من الماءِ القُراحِ فَناؤهُ زممتُ مطيّي ثم قلت ترحّلوا ... فلا خيرَ في وجهٍ إذا قلَّ ماؤهُ وقال آخر: أقولُ ووادي الوجهِ سالَ من الحيا ... وقد طابَ فيه للحجيجِ مقامُ على ذلك الوجهِ المنيرِ تحيةٌ ... مباركةٌ من ربِّنا وسلامُ

الأزلم

وما أرجح قول القيراطي: أتيتُ إلى الحجاز فقلتُ لمّا ... تَبدّى وجههُ لي وارتويتُ وكم في الأرضِ من وجهٍ مليحٍ ... ولكن مثلَ وجهكَ ما رأيتُ الأزلم ثم ارتحلنا منه ونزحنا عنه، حتى أتينا على الأزلم وتحملنا المشقة والألم، وهو وادٍ فيه قلعة يودع فيها ودائع الحاج للرجعة، وخان خراب كان قد بناه الناصر، فهدمه الغوري، والأمر دائر بيّن هدم وبناء، لا الباني يكل ولا الهادم يمل، يا حيرتي ما أعجب ما قال: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم وماء هذا الوادي مرّ يكاد يفطر الأكباد، وهو كثير السنا، ونصف الطريق من مكة المشرفة، ومنه إلى الينبع ربع ثالث، وبينه وبين الوجه فضاء بين جبل يقال له اصطبل عنتر، ووادٍ آخر يسمّى السماق والدخاخين وهو كثير الشوك والحطب. ومما قيل في الأزلم: الأزلم المشهور قُبِّح ذكره ... لم تصف عيشة مَن بِواديه ألمّ ما زال عن قلب مرارة مائه ... إلا وأهدى من قساوته ألم المُوَيْلِح ثم لم نزل نجوب البوادي، ونقطع الفدافد خلف الدليل والحادي، حتى أتينا على المُوَيْلِح، ولا أدري أهو مشتقٌ من الملاحة أم الملوحة، أم الحال كما قال: ذاتٌ لها في نفسها وجهان. وبالجملة فهو ساحل رَاقَ ماؤه وصفا، وطاب به العيش حتى كأنَّه ما ذاق طعم الجفا، قد اخضرّت جوانب بقاعِه، وتحقق لدى روضه ما نسخه الورد الذكيّ برقاعه، فأقمنا به ثلاثة أيام تحت البواسق، ونَشْرُ تلك الرياض العبيرية عابق، نهارنا على الماء والخضرة والوجه الحسن، وليلنا على ارتشاف كؤوس الآداب ونفي الوسن، حتى انقضت تلك الليالي كأنَّها سِنَةٌ، وقلنا في نفوسنا هذه أول مسرات هذه السَّنة، فلله هاتيك الأيام، وما اشتملت عليه من الجمع التام، واتفق

عيون القصب

في المُوَيْلِح من الرخاء ما لا تصفه الأقلام، ولا تحويه الأرقام، وفيه السمك الطري، والفواكه المتنوعة، والأراك الكثير، ومما قيل فيه: سألوا مديح مناهلٍ فأجبتهم ... هذي المناهلُ مدحُها لا يصلحُ وأقول إن ألزمتمُ بمديحها ... هذا المويلحُ في المناهلِ أملحُ وبالجملة فإنه لم يكن في تلك المنازل، أحسن من هذا الساحل، مياهه بالنسبة إلى تلك المنازل مستعذبة، وبساتينه مزهرة طيبة، جوّه فسيح، وهواؤه صحيح، فلا زال كذلك، جنة في تلك المسالك. (قال في البرهان): المويلح بالتصغير ساحل بالقلزم، يشتمل على أشجار متناسقة؛ ونخيل باسقة؛ ومياه سائغة في الجملة؛ وفيه قلعة حصينة ومنازل وعرب، عرضه كح وطوله عب. عيون القصب ولما كان آخر اليوم الثالث، وقد رق ثوب الأصيل، رحلنا منه قاصدين عيون القصب. وهي مقصبة ينتهي إليها ماء من عين جارية من مسافة طويلة، على نخيل باسقة، وأشجار متناسقة، قد يؤتى منها بأثمار فتباع على الركب، وقد انقطع ذلك لانقطاع عوائد العرب من صلات السلطنة، فلذلك ارتفعت العرب، وصار الوادي مخيفاً، وماؤه في غاية العذوبة، يجري من بين القصب الفارسي بين نبت مختلف طيب الطعم والرائحة، ومما قيل فيه: قصب الوادي هبوا لي ماَءهُ ... ففؤادي فيه حرّ الوصبِ أو قفوا بي برهةً يارِفقتي ... أتروّى من عيون القصبِ وهذا الماء يجري من أعلى صخرة على ظهر الوادي بمقدار ميل، ثم يغور في الرمل. وزعم بعضهم أنه ثقيل، سريع التعفن، يُكْرَه الإكثار منه. قال الحافظ ابن حجر في كتاب أنباء الغمر: في سنة أربع وثلاثين وثمانمائة حفرت بعيون القصب بئر عظيمة، فعظم النفع بها، وكانت عيون القصب تجري من وادٍ عظيم ينبت فيه القصب الفارسي، ويجري الماء من بين تلك الغابات. وكان للحُجاج به رفق، بحيث يبيتون به ليلة، ثم

مغاير شعيب

غمرت تلك العيون وصاروا يقنعون بالحفائر، فأشار ناظر الجيش لَمَّا حَجّ بحفر البئر فخرج ماؤها عذباً فُراتاً، انتهى كلامه. قلت: وقد أجرى الله تعالى عوائد برّه وعاد الماء إلى مجاريه. مغاير شعيب ثم قمنا منه حتى أتينا على مغاير شعيب عليه السلام، وهي حفائر حلوة تحكي النيل فيما قيل، في وادٍ فيه نخل وأثلٍ ومقل، بين جبال متضايقة كثيرة المخاوف، وفيه بئر دارسة وأبنية متهدمة ورسوم يقال إنها مدين. قال صاحب تقويم البلدان: مدين على شاطئ بحر القلزم، وهي خراب. وأما البئر التي استقى منها موسى عليه السلام فقد بني على أفنيتها بيت من صخر، فيه كهف يسمى كهف شعيب عليه السلام، وكانت تأوي إليها غنمه، وحولها قبور منقورة في الصخر فيها عظام بالية كأمثال عظام الإبل. ولا أثر لذلك الآن غير تلك الساقية التي بيد بني عطيفة، وحفر الماء العذب. وفيها يقول ابن أبي حجلة: ولما وردنا ماء مَدْيَنَ بُكرةً ... وجدتُ عليه الناسَ يسقون بالقِرَبِ فأطرب حادي الراقصاتِ مسامعي ... كما أطربَ التشبيبُ من أعينِ القصبِ ثم لم نزل نجوب الوهاد، ونقطع هاتيك البواد، حتى أشرفنا على شرفة بني عطيفة. وهي في وادٍ قفر كثير الحطب ممحل، لا يكاد يمرّ به الطير، إتفق أنه لم يكن في الركب إلا من إشتكى الظمأ، إلا من كان في حظيرة إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليه. ومما قيل فيه: وقد حللنا بواد لا أنيس به ... بنو عطيفة قد سموه بالشَََرِفَه فنالنا منه بعد العيّ أربعةٌ ... بردٌ وخوفٌ ظما والريحُ مختلفه ذكرت بهذه المشقة قول ابن الحاجب: من ذا الذي تصفو له أوقاته ... طراً ويبلغ كلّ ما يختار والمرء في سفر وأي مسافرٍ ... لا يعتريه من الطريق غبار ثم لم نزل في أسر المسير ومشتاق الأسفار، حتى مررنا بظهر الحمار، وهو محجر صعب، وحفائر الغنم وفيها المياه الكّدرة، والنخل الكثير، والدار الحمرا، وما أدراك ما الحمرا!! ولقد أرى بين المسمّى واسمه ... نسباً قد استغنى عن التبيينِ

الحويطات

الحويطات إلى أن نزلنا تحت العقبة، في شِعْبٍ فيه نخل كثير للعرب - الحويطات - من بني عقبة، نسبوا إلى الحائط وقلعة محصنة على ساحل فصل من خليج القلزم، ويحفر في ذلك الساحل على نحو ذراع فأكثر فيظهر ماء حلو، بل من موضع المدّ إذا كان الجزر، فسبحان الذي أحسن كلّ شيء خلقه. والظاهر أنّ هذا الموضع مصب نهر غائر في الرمل، داخل في البحر، بدليل أنه يحلو ويمر، كما يرى في النيل المتصل بالبحر أيام الملتن. فائدة عقبة أيْلَة نسبة إلى مدينة عظيمة في ساحل البحر عفت معالمها وكانت تسمى أيْلَة قال صاحب الروض المعطار في خبر الأقطار: أيْلَة أول حدّ الحجاز، مدينة بها مجمع حاج مصر والمغرب، وأهلها أخلاط الناس، سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم عليه السلام، ومنها إلى بيت المقدس مراحل، وإلى طور موسى عليه السلام يوم وليلة، وقد جهل الآن موضعها. وثم قلعة بناها الغوري وبئر ماء عذب ونخيل للحويطات، وهناك ملاقاة غزة والكرك والقدس وأعمالها، بأنواع الفواكه والمأكول والأغنام. فأقمنا بذلك الوادي يومين من الأيام، والشمل بالأحباب ملتام، ونحن في جمع من الأصحاب، نرشف كؤوس الآداب، أنشدني المولى جمال الدين بن زويته:

إنّ علمَ الحساب علمٌ جزيلٌ ... ومُعينٌ إذ تشتري وتبيعُ لم يضع قط درهم بحسابٍ ... وألوفٌ بلا حسابٍ تضيعُ وعلى ذكر الحساب فما أوقع ما قال: لقد قعد الزمان بكل حرٍّ ... وأهدى فضله لذوي اليسارِ كآحاد الحساب على يمينٍ ... وآلاف الحساب على اليسارِ وهذا مبني على القلم الهندي، وخرج عن ذلك حساب أبي جاد، فإن الآحاد على اليسار والألوف على اليمين، وعليه قول الفاضل عبد المعين، حيث كتب إلى بعض أصحابه يذكره بوعد وعَدَهُ به ومَطَلَه، وذلك في قوله: يا سيداً بالوعد أتحف عبده ... فضلاً، ولكن وعده مثل السحابِ قد كنت أحسب صدقه فإذا به ... وعدٌ به انخرمتْ قوانينُ الحسابِ يريد أن لفظة وعد بطريق حساب أهل الفلك عود، لأن العين بسبعين والواو بستة، والأكثر يقدّم على الأقل كما علمت، وانظر إلى المواطن وأحكامها فإنك لا تجد غير مقتضاها، ذكرت بالمطل والشيء بالشيء يذكر بالاستطراد وبالمناسبة قول الأمير أبي فراس: يا ابن الكرامِ أعد في الدهر ذكرَ فتىً ... له بشطريه تحويلٌ وتقليبُ لا تعتبنَّ على عرقوب واحدة ... فكل من فوقها بالوعد عرقوبُ ونعود إلى ما كنا بصدده، ولما كان السحر حمل الركب ليقطع العقبة مبكراً، وهي عقبة أيْلَة، بفتح الهمزة وسكون المثناة من تحت وفتح اللام بعدها. قال في الخريدة: وهي قرية صغيرة على جبل عالٍ صعب المرتقى يكون ارتفاعه والانحدار منه في يوم كامل، ولا يسلك طريقها إلا الواحد بعد الواحد، وعلى جانبيها أودية بعيدة المهوى انتهى. وهي مدن التيه، وهو أرض واسعة ليس بها تل ولا قلعة ولا وهدة ولا رابية، وسعتها خمسة أيام في مثلها، وحكى العبدري أنّ مسافة العقبة خمسة أميال، ولا زالت الملوك قديماً وحديثاً، يمهدونها وتوعرها السيول، ويسهلها التسخير الإلهي. فلم نزل نسير في رمال وأحجار إلى أن أشرق النهار، ثم ارتقينا صراطاً كأنّا نطلب

منه السحاب، ولم نزل من العناء والمشقة في وصب واكتئاب، القائم منا قاعد، والقاعد عن قطاره متباعد، والذي جماله ألقت رحلها، ومدّت رجلها، وقع في حيرة بين أن يترك متاعه أو يستغيث رباعه: وأين الرفيق الشفيق الذي ... إذا أقعدتْك الرزايا أقاما والذي تحرر وتقرر، قضت به العقبة، وحكمت به التجربة، إنه ليس لك من الصديق إلا ما فضل عنه. وقد حكي عن جعفر البرمكي أنه لما أصيب قيل له: لو بعثت إلى صديقك فلان ينظر في حال أهلك. فقال: دعوه يكن صديقاً. ومن أراد تحقيق هذا الموقف فليمعن النظر في كتاب الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي، ولله در القائل: إذا أعرضتْ فالأهلُ مني أجانب ... وإن أقبلتْ فالأجنبيُّ نسيبُ وما زال الركب في كرب، حتى قطع العقبة، في يوم ذي مسغبة، ثم أقمنا على سطحها قصداً للراحة، واستطاب كلٌّ مراحه، وقمنا ندك الفيافي من غور إلى نجد، ومن سهل إلى وهد، مع ما لحقنا من البرد الشديد، والجهد الجهيد، حتى وصلنا إلى قلعة نَخِر بفتح النون وكسر الخاء المعجمة بعدها راء، كأنَّه مأخوذ من قولهم ما بالدار ناخر أي أحد، أو من العظام النخرة إذا دخل فيها الرياح لكثرة تهابها، ووادي النخل ولا نخل فيه، لأنَّه لا يخلو من السافي الناعم الذي كأنَّه منخول، وبه بئر وفسقية تملأ منها، وحصار بناه الغوري زادت فيه العثامنة.

عجرود

ثم لم نزل في نزول وارتحال، وقطع حِرار ورمال، في ذلك التيه الذي أعيا الرحال والرجال، وهو فضاء واسع عن يمينه جبل الطور وعن يساره العريش، وقدره أربعون فرسخاً في مثلها، شديد البرد أيام الشتاء، شديد الحر أيام الصيف، معدوم الماء، ينتهي إلى بحر فاران مغرق فرعون. وفاران من مدن العمالقة، وفيه تاهت بنو إسرائيل أربعين سنة ينزلون حيث يرحلون، وأكثر ما يرى فيه بصل العنصل ويُسمّى روض الجمل، ما أحسن ما قال: رعى الله ظبياً بالأرَيْمِلِ إذ بدت ... حشاشةُ قلب المستهام رعاها إذا ما بدا والتيه بيني وبينه ... تحجّب عني بالدلال وتاها ثم انصرفنا من المنصرف على هضاب وجور ورمل كثير، يقال إن الاسكندر أراد أن يخلط بحر السويس ببحر الروم من هذا الطريق، وهذه الحفر آثار ذلك. وقيل بل كان فيها خليج من النيل متصل ببحر السويس فاقتضى الحال أن يُطم فهو هذا. عجرود ثم أتينا عجرود ذات الجفا والصدود، متعطشين إلى الما، متألمين من الظما، فشربنا من مائه الذي زاد على الملوحة بالمرار، ومن فقد العين تعلل بالآثار، وهو من أعمال السويس على نصف مرحلة منها، وادٍ فيه قلعة فيها بئر ماؤها كالعلقم، ربما أسهل، ثم قمنا نقطع البوادي، وهي تقطع الأكباد، وقد أنفذ فينا البينُ أمره، وأذاقنا من السفر حلوه ومره:

البويب

وكذاك الإنسان ما دام حيا ... فهو في لذة وفي آلامِ ولما أقبل الليل، وقد أوهى القوى والحَيْل، انقطع كثير من الرجال، وتفرّق شمل تلك الرحال، حتى أن كثيراً من الناس ألقى أكثر أسبابه، حيث لم يجد له مساعداً في حملها من أصحابه، وأخذ الفناء ينحر في الجمال، والعيّ يهدم قوى الرجال، ولم نزل في هذه الشدّة شدة واحدة إلى ما بعد الزوال. البُوَيْب فمررنا بصدفة (البُوَيْب) وهو مضيق بين جبلين صغيرين، وله شرفة، وبه تل رمل مستطيل، وفيه يقول ابن أبي حجلة: ولما اعتنقنا للوداع عشية ... على بركة الحجاج والدمعُ يُسْكَبُ فرِحنا وقد جُزنا البويب لأنَّه ... إلى وصل من نهواه باب مُجرّبُ وعلى ذكر الاعتناق فما أحسن قول القائل: ولما اعتنقنا للوداع عشية ... وفي القلب نيرانٌ لفرط غليلهِ بكيت وهل يغنى البكاء لهائم ... إذا غاب عن عينيه وجهُ خليلهِ ثم بتنا على شاطئ نيل البركة، الذي أحاطت به البركة، وأنخنا بها الركاب، وراق لنا الوقت والزمان وطاب، وقد استقر الخاطر من قلق السفر، وتهلل وجه الزمان وأسفر، وأنشد لسان التمني في هذه المفاوضة، لو سلم من المعارضة: فألقتْ عصاها واستقرّ بها النوى ... كما قرّ عيناً بالإياب المسافرُ وعلى ذكر البركة فما أبدع هذا التشبيه: وبركة للعيون تبدو ... في غاية الحسن والبهاءِ كأنَّها إذ صفت وراقت ... في الأرض جزء من السماءِ وقال آخر: وبركة ما تملك العينُ وصفها ... يحف بها نبت من الروض مزهرُ ويسرح منها في الخمائل جدولٌ ... كما سُلّ من غمدٍ حسامٌ مجوهرُ مصر ولما أسفر الصباح ثامن عشر صفر الخير، توجهنا إلى مصر المحروسة، وشاهدنا

منازلها البهية المأنوسة، ولما دخلتها وجدتها بديعة الأوصاف، مخضرة الجوانب والأكناف، بها الجوامع الجامعة للمحاسن، والمدارس الحافلة بالمكانة والأماكن، ورأيت أهلها أرقّ أخلاقاً من النسيم، وألطف شمائلاً من الشَمول والشميم، إلا ما شاء من الأوغاد وجبابرة العباد، ورأيت لهم الذكاء المتوقد، والذوق المتجدد، مع كمال الجَدِّ في الجِدِّ والإجتهاد، وبذل النفوس النفيسة في تحصيل المراد، فلله دَرَّهم، ولا زال يزداد ويزدان بهم بِرّهم وبَرّهم، فلقد تحقق بهم صدق القائل: قل للذي سار بلاد الورى ... وأظهر القوّة والباسا مَنْ لا رأى مصراً ولا أهلها ... فما رأى الدنيا ولا الناسا وما أصدق من قال: ما مصر إلا بلدة ما مثلها ... غريبها يرتع في نعيمها نسيمها ألطف شيءٍ في الورى ... وأهلها ألطف من نسيمها ثم أقمت بها برهة من الأيام، صحبة الأخلاء الكرام، أطوف بأكنافها البهية، وألوي على أعكانها الشهية: بالسفح حيناً وبالبقعاء آونة ... وبالكثيب زماناً والأثيلات ثم لم أزل أتعهد الجامع الأزهر، وأتردد على كلّ درس فيه أوضح تقريراً من الشمس وأنور، وأحاول النفس على أن استزيد عِلماً، فيعاجلني من مضض الأيام ما يربو على خَطْب الدهر هماً وغماً، وأجد الفهم لذلك كليلاً، والقلب سقيماً عليلاً، والشروط غير متوفرة، والدواعي متعذرة أو متعسرة، كيف لا وقد قيل: لو كلفت بصلة ما حفظت مسألة وأنى يكون ذلك مع اشتغال البال، واشتعال البلبال:

ألا لن تنال العلم إلا بستةٍ ... سأُنبيكَ عن مجموعها ببيانِ ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبُلْغَةٌ ... وإسعاد أستاذ وطول زمانِ ومن مجون بعض الفضلاء: فرِّق فِرَقَ الدروس واجمع مالاً ... فالعمر مضى ولم تنلْ آمالا لا ينفعُك القياسُ والعكس ولا ... إفْعَنْلَلَ يفْعنلِلُ افْعِنْلالا وقال آخر في جوابه: بالعلم ينالُ كلُ عبدٍ مالا ... فاجهد لتنالَ في الملا آمالا ما أسوأ رأي من ينادي سفهاً ... فرّق فرق الدروس واِجمع مالا ومن محاسن أحمد الشهاب الرومي: إلى المال مِلْ واجمعه إن كنت عارفاً ... ففي هذه الدنيا له الشيْلْ والحطُ وفي قبضه عز النفوس وبسطُها ... وناهيك ممن قبضهُ في الملا بسطُ وله أيضاً: المال أحسن ما ادخرت فلا تكن ... سمحاً به وتأن في تفصيلهِ ما حَصّلوا جمع العلوم بأسرها ... إلا ليحتالوا على تحصيلهِ قلت: وإلى ذلك أشار الشعراني في كتاب الجواهر في معتقد الأكابر. وقال الفخر الرازي: الذي تحرر عندي، أن قدر الإنسان بالعلم وقدر العلم بالمال. ونظم في ذلك من قال: إن قدر المرء بالعلم كما ... أن قدر العلم بالمال سما فجناحاك هما إن أسعدا ... طِرْ كما تَهوى إلى أعلى السما

الجامع الأزهر

حكى الشهاب النهرواني عن بعض الأكابر، أنه كان إذا وقع الدينار في يده يقبله ويضعه على عينه، ثم يقول له: مرحباً بجامع شملي، وحافظ عقلي، وحبيب قلبي، ولب لبي، أنت مرادي وقوتي وعمادي، يا نور عيني ويا ضياء جبيني، قد صرت إلى من يعرف قدرك، ويعظم أمرك، وكيف لا وأنت تعظّم الأقدار، وتفتض الأبكار، وتؤمن من يخاف، وتسمو على الأشراف. ثم يطويه في كيسه وينشد: بروحيَ محجوباً عن العين شخصهُ ... ومن ليس يخلو عن لساني ولا قلبي ومن قربه قصدي من الكونِ كلّه ... وحتى من الخلان والأهل والصحبِ قلت ولله در ابن المعتز حيث يقول: إذا كنتَ ذا ثروةٍ في الملا ... فأنت المسوّد في العالمِ وحسبك من نسبٍ صورةٌ ... تُخبر أنك من آدمِ الجامع الأزهر أول جامع أسس بالقاهرة، أنشأه القائد جوهر الصقلي مولى المعز سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وكان به طلسم فلا يسكنه الطير، ثم جدّده الحاكم وجعل عليه أوقافاً، كذا في المحاضرة. هويت مصرياً غدا قاهري ... بصارمٍ من لحظهِ يُشْهَرُ أَزْهَرَ وجهاً وغدا جامعاً ... للحسن فهو الجامعُ الأزهرُ فصل في ذكر شيء من أخبار مصر المحروسة، ونشر محاسنها البهية المأنوسة، وليس الغرض من ذلك إلا ما اشتمل عليه من لطائف النكت، أو من اعتبار واستبصار، وإلا فمن أراد أخبار تلك الديار، فقد تكفل بها كتاب حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطي، وكتاب كوكب الروضة، وهو القائل فيه: كتابي الكوكبُ المُفدّى ... دقت معانٍ بهِ عزيزه ألفاظهُ المُشتهاةُ تَحكي ... مِن حُسنها رَوضةً وجيزه وعلى الخصوص قاموس القصص، وهو الخطط، للفاضل تقي الدين المقريزي، وفيه قيل: من كان يهوى أن يحيط بسمعه ... علماً بمصر كاملَ التمييزِ فعليه بالخطط المحرر نقله ... تأليف عالم عصره المقريزي

فائدة

قال الفاضل القزويني في كتاب: آثار البلاد وأخبار العباد: مصر نا حية مشهورة، أرضها أربعون ليلة، طولها من العريش إلى أسوان، وعرضها من برقة إلى أيْلَة، وسميت بمصر بن مصر بن حام بن نوح عليه السلام، وهي من أطيب الأرض تراباً وأبعدها خراباً، ولا تزال البركة فيها ما دام عليها إنسان. وفي الخطط: ديار مصر بعضها واقع في الإقليم الثاني وبعضها في الإقليم الثالث، وبناء مصر طبقات بعضها فوق بعض، إلى خمس وست وسبع، وأحسنها القاهرة المعزية. فائدة مصر غير منصرف للعلمية والعُجْمَة، أولها وللتأنيث المعنوي باعتبار البقعة، ومصروف لسكون وسطه، وأسماء البلاد تذكر وتؤنث وتصرف وتمنع قاله السيوطي. وفي الخريدة: أرض مصر، وهي غربي جبل طالوت، إقليم العجائب، ومعدن الغرائب، وكانت خمساً وثمانين كورة، منها أسفل الأرض خمس وأربعون، وفوق الأرض أربعون، ونهرها يشقها والمدن على جانبيه ومن أحسن مدنه الروضة، وهي جزيرة يحيط بها النيل من جميع جهاتها، بها المنتزهات والدور والقصور، وتسمّى دار القياس. وفي آثار البلاد: أوّل من قاس النيل يوسف الصدّيق عليه السلام، وبنى مقياسه بمنف، وهي مدينة فرعون موسى. قيل إنها أول مدينة عمرت بعد الطوفان، وهي المراد بقوله تعالى: ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها. وكان فيها أربعة أنهار تختلط مياهها في موضع سرير فرعون، ولذا قال: وهذه الأنهار تجري من تحتي. قال العصام نقلاً عن التفتازاني: فِرْعون عَلَم لمن ملك العمالقة، ويشبه أن يكون مثل كسرى وقيصر من علم الجنس، لكن جمعه باعتبار الإفراد مثل الفراعنة والقياصرة والأكاسرة، يدل على أنه علم شخص سُمي به كلّ من مَلَكَ ذلك ابتداء، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، انتهى، من الأطول. والذي ملك الدنيا بأسرها كافران ومسلمان، فالمسلمان سليمان عليه السلام وذو القرنين، والكافران نمْرود بالدال المهملة، وحكاه العصام بالمعجمة، وبُخْتُ نُصّر وهو من أسماء العجم من قبيل المركبات، فبُخْت بضم الباء الموحدة وسكون المعجمة معناه ابن، ونُصَّر بضم النون وفتح الصاد مشددة اسم للصنم، قيل إنه

نهر النيل

وجد عنده فقيل له ابن الصنم، فانتشى وملك الدنيا. وفي الخطط القياس عمود من الرخام الأبيض مثمن، في موضع ينحصر فيه الماء عند انسيابه إليه، وهو مفصل على اثنين وعشرين ذراعاً، كلّ ذراع مفصل على أربعة وعشرين قسماً متساوية تعرف بالأصابع، ما عدا الاثني عشر ذراعاً الأولى، فإنها مفصلة على ثمانية وعشرين إصبعاً، يعني كلّ ذراع. نهر النيل وأما النيل وينبوعه من وراء خط الاستواء، من جبل هناك يعرف بجبل القمر، فإنه يبتدئ في المزيد في شهر أبيب وعند ذلك يفسد ماؤه، والسبب في ذلك مروره بنقائع يخالطها فتصحبه، فإذا بلغ الماء خمسة عشر ذراعاً، وزاد السادس عشر إصبعاً واحداً، كسر الخليج واستحق السلطان الخراج، وإذا بلغ ثمانية عشر حدث بمصر وباء عظيم، وإذا بلغ العشرين مات ملك مصر، ولكسره يوم معدود، ومقام مشهود، ومجتمع غاص بحضرة العام والخاص. وحكى صاحب مباهج الفكر أن بعض المفسرين ذكر أنه يوم الزينة الذي وعد فرعون موسى عليه السلام بالاجتماع فيه، ومن محاسن الوزير أبي الحسن: أرى أبداً قليلاً من كثيرٍ ... وبدراً في الحقيقة من هلالِ زيادة أُصْبعٍ في كلّ يومٍ ... زيادة أذرع في حسن حالِ وقال سبط ابن الفارض: لقد بسطت في بحر جسمك بسطة ... أشار إليها بالوفاءِ الأصابعُ فيا مشتهاها أنت مقياس قدسها ... وأنت الذي في روضة الحسنِ يانعُ ولابن نباتة: زادت أصابيع نيلنا ... وطفت وطافت في البلادِ وأتت بكل مسرةٍ ... ما ذي أصابع ذي أيادي

ولابن الصاحب: لله يوم الوفا والناس قد جمعوا ... كالروضِ تطفو على نهرٍ أزاهرهُ وللوفاء عمود من أصابعهِ ... مُحلِّق تملأُ الدنيا بشائرهُ وللبدر البشتكي: عاتبتُ هذا النيل في ترك الوفا ... فأجابني حالاً بغيرِ توقفِ سأفي وإن خانوا وأصلح بينهم ... ما كدت أفسده ومثلي من يفي وما أحسن ما قيل: رأيت النيل ذا عقل ولب ... لما يبدو لعين الناس منهُ فيأتي عند حاجتهم إليه ... ويذهبُ حين يستغنون عنهُ وللناس في المقياس، الأشعار الرائقة، والمقاطيع الفائقة، فمن ذلك: إن مصرا لأحسن الأرض طراً ... ليس في حسنها البديع اِلتباسُ كل من قاسها بأرضٍ سواها ... كان بيني وبينه المقياسُ وللفيومي: سكان طيبة أبلى الحب صبكم ... والشوق باقٍ ليوم العرض في الطولِ تالله لم يُنْسِه المقياس ساحتكم ... ولا تسلى عن الزرقاء بالنيلِ ولتاج الملك: أُنظر إلى النيل الذي ... ظهرت به آياتُ ربّي فكأنَّه في فيضهِ ... دمعي وفي الخفقانِ قلبي ولبعضهم في مقدار النيل: فائدة جليلة مستحسنه ... إن شئت أن تعرف كم نيل السنه فانظر إلى عيد النصارى كم حَكَم ... في شهرك القبطي يا حاوي الحِكم

وما مضى ضفه إلى واوٍ وقافْ ... فالسدس منه النيل وقّيتَ المخاف وما ألطف ما قال: نيل همومي وما لقيتُ بهِ ... لفرطِ وجدي وفيضِ بلوائي وقفتُ أبكي على سواحلِهِ ... فمن دُموعي زيادةُ الماءِ حكى الجاحظ أن عجائب الدنيا ثلاثون أعجوبة، منها بسائر الأرض عشر، وباقيها بمصر، الهَرَمان، بفتح أوّليه، وهما أطول بناء وأعجبه، من رآهما ظن أنهما جبلان بالجزيرة. قال ابن الوردي في الخريدة: الجزيرة مدينة على ضفة النهر، وهي أربعون قوساً على سطر واحد، وبها الأهرام التي هي من عجائب الدنيا، ولم يبن مثلها، بنيت بصفة الهندسة، وكانوا يثقبون الصخر من طرفه ويجعلون فيه قضيباً من الحديد، ويثقبون الحجر الآخر وينزلونه فيه، ويذيبون الرصاص ويجعلونه في القطب. وهي ثلاثة أهرامات ارتفاع كلّ هرم في الهواء مائة ذراع بالملكي، وهي مهندمة الجوانب، محدودة الأعالي من أواخرها، طولها على ثلاثمائة ذراع. يقال إن داخل الهرم الغربي ثلاثون مخزناً من حجارة الصوان الملوّنة، مملوّة بالجواهر النفيسة والأموال الجمة، والأسلحة الفاخرة المدهونة بأدهان الحكمة فلا تصدأ أبداً، وفيه الزجاج الذي ينطوي ولا ينكسر، وفي الهرم الشرقي الهيئات الفلكية، والكواكب المنقوشة فيها ما كان وما يكون إلى آخر الدهور. يقال إن أحد الهرمين قبر هرمس عليه السلام، والآخر قبر امرأته وقيل قبر أبنه، وهرمس بلسان الحكماء هو إدريس عليه السلام، وهو الجَد الثالث لنوح عليه السلام، وأبو صاب الذي تنسب إليه الصابئة التي تعظم الكواكب. ويقال إن أحد الهرمين بني بيتاً لعطارد، والآخر هيكلاً للجوزاء، وسطح الهرم مستوٍ يسع نحو مائة رجل، وقيل إن أرسطاليس مدفون في أحدهما والإسكندر في الآخر، وقيل بني باسمه ولم يدفن فيه، وقيل وقيل. .!

ولم نستفد من علمنا طول عمرنا ... سوى أن حفظنا منه قيل وقالوا أبو الوليد ترجمه السيوطي في كتابه بغية الوعاة في طبقات النحويين واللغاة بحيث قال فيه: وكان من العلوم بحيث يقضَى ... له في كلِّ فنٍ بالجميعِ وقد قال سبط ابن الفارض: برح بي أن علومَ الورى ... عِلمان ما إن لهما من مزيدْ حقيقة يعجز تحصيلها ... وباطلٌ تحصيلهُ لا يفيدْ قيل: وفي الهرم الثالث أخبار الكهنة في توابيت من صوان، مع كلّ كاهن لوح من ألواح الحكمة، وفيه عجائب صناعاته وأعماله، وفي الحيطان من كلّ جانب أشخاص كالأصنام تعمل بأيديها جميع الصناعات على المراتب، ولكلّ هرم منها خازن. قال ابن الجوزي في سلوان الأحزان: ومن عجائب الهرمين أن سُمك كلّ واحد منهما أربعمائة ذراع، وهما من الرخام والمرمر، ومكتوب فيهما أنا بنيتهما بملكي، فمن يدعي القوّة في ملكه فليهدمهما، فإنّ الهدم أيسر من البناء. عن سيدنا علي في ذم الدنيا أشرف لباس بني آدم لعاب دود، يعني الحرير، وأشرف شرابهم رجيع النحل، يعني العسل. ويحكى أن سليمان عليه السلام، والاسكندر، وأرسطاليس، صنع كلٌ منهم بيوتاً من زجاج لينظر إلى كيفية خروج العسل منها، هل يخرج من فمها أو من أسفلها!؟ فلم يصنع النحل من العسل شيئاً، حتى لطخ باطن الزجاج بالطين بحيث لا يراها أحد!! قيل وسُمي نحلاً لأن الله نحل العسل الذي يخرج من بطونها للناس، نقله النووي في تهذيب الأسماء واللغات. قال المسعودي في كتاب أخبار الزمان ومن أباده الحدثان: وكان المأمون لما دخل الديار المصرية أراد هدمها، فلم يقدر على ذلك، فاجتهد وأنفق أموالاً عظيمة، حتى فتح في أحدهما طاقة صغيرة، فوجد خلف الطاقة من الأموال قدر الذي أنفقه، وكتاباً فيه قد علمنا أنك تأتي في عصر كذا ولا تستطيع أكثر من ذلك، فجعلنا لك ما

أنفقت فلا تتعب فأنشد المأمون في ذلك: أُنظر إلى الهرمين واسمع منهما ... ما يرويان عن الزمان الغابرِ لو ينطقان لخبّرانا بالذي ... فعل الزمان بأوّل وبآخرِ ومن ذلك ما يحكى أن المنصور لما أفضت الخلافة إليه همَّ بنقض إيوان المداين، فوافقه أصحابه على ذلك إلا رجلاً من الفرس، فإنه قال: تعلم يا أمير المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من تلك القرية، وكان له فيها مثل ذلك المنزل وتلك الحُجَر، فخرج أصحابه مع ضعفهم إلى صاحب هذا الإيوان مع عزته وصعوبة أمره، فأخذوه من يده قهراً وقتلوه، فمن نظر إليه علم قوّة صاحبه، وأن الذي استولى عليه إنَّما أخذه بمدد من الله تعالى، فلا يشك في تأييده. فاتهمه المنصور لقرابته ثم أخذ في هدمه، فخرج على نقض شيء يسير منه جملة من المال، فعدل عما كان أراده. وقد أكثر الشعراء من ذكر الأهرام فمن ذلك للمتنبي: أين الذي الهَرَمانُ من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرعُ تتخلف الأيام عن أصحابها ... حيناً ويدركها الفناءُ فتُصرَعُ وللفقيه عمارة اليمني: خليليّ ما تحتَ السماءِ بنية ... تماثلُ في إتقانها هرمي مصرِ بناء يخافُ الدهرُ منهُ وكلّ ما ... على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

عين شمس

تنزه طرفي في بديعِ بنائها ... ولم يتنزه في المراد بها فكري وقال: تبيّن أن صدرَ الأرضِ مصر ... ونهداها من الهرمين شاهد فيا عجباً وقد ولدت كثيراً ... على هرم وذاك النهد ناهد وقال آخر: قد علا نيل مصر في زيادته ... حتى لقد بلغ الأهرام حين طما فقلت: هذا عجيب في دياركم ... أن ابن ستة عشر يبلغ الهرما وقال آخر: مصر التي لحُسنها ... قد قيل فيها إرمُ لما جفت عُشاقها ... بدا عليها الهرمُ وقال سيف الدين بن جبارة: لله أي عجيبة وغريبةٍ ... في صنعةِ الأهرام للألبابِ أخفت عن الأسماع قصة أهلها ... ونضت على الإبداع كلّ نقابِ فكأنَّما هي كالخيام مُقامة ... من غير ما عُمُدٍ ولا أطنابِ عين شمس ومنها عين شمس وهي شمالي القاهرة، وكانت في القديم دار المملكة، بها الآثار الهائلة، والبلسان الذي لا ينبت إلا بها، وهو بستان طوله ميل في ميل، والسر في بئره أن المسيح عليه السلام اغتسل فيه، كذا في الخريدة. وفي الآثار عين شمس مدينة كانت بمصر، وهي محل سرير فرعون بالجانب الغربي من النيل، والآن انطمست عمارات فرعون بالرمل، وهي بقرب الفسطاط، قيل بها قدت زليخا قميص يوسف. (ومن عجائبها) أن بها عمودين مثبتين على وجه الأرض من غير أساس، طول كلّ

فائدة

منهما خمسون ذراعاً، فيهما صورة إنسان على دابة وعلى رأسها شبه الصومعتين من نحاس، فإذا جرى النيل رَشَحا وقطر الماء منهما، ولا تجاوزهما الشمس إلا في الانتهاء، فإذا نزلت أول دقيقة من الجدي - وهو أقصر يوم في السنة - انتهت إلى العمود الجنوبي ووقعت على قبة رأسه، وإذا نزلت أول دقيقة من السرطان - وهو أطول يوم في السنة - انتهت إلى العمود الشمالي ووقعت على قبة رأسه، ثم تطرد بينهما ذاهبة وآيبة سائر السنة، ويترشح منهما الماء وينزل إلى أسفلهما، فينبت العوسج وغيره من الشجر. قيل: وبها تماثيل عملتها الجن لسليمان عليه السلام. (ومن عجائب مصر)، بل من عجائب الدهر، نهر النيل الذي ليس على وجه الأرض أطول منه، لأن مسيره شهر في بلاد الإسلام، وشهران في بلاد النوبة، وأربعة أشهر في الخراب، إلى أن يخرج ببلاد القمر خلف خط الاستواء، وليس في الدنيا نهر يصب من الجنوب إلى الشمال، ويمد في شدة الحر عند انتقاص المياه، ويزيد وينقص بترتيب إلا النيل ونهر مهران، وهو بالسند، عرضه عرض جيحون، يجري من المشرق إلى المغرب ويقع في بحر فارس، كذا في الخريدة. وسلف نقلاً من الخطط أن مصبه بحر القُلْزُم. فائدة قال بطليموس إن بهذا الربع المسكون مائتي نهر، كلّ نهر منها من خمسين فرسخا إلى ألف فرسخ، فمنها ما يجري إلى المشرق وإلى المغرب، ومنها ما هو بالعكس، ومنها ما هو من الشمال إلى الجنوب، ومنها ما هو بالعكس، وكلها تبتدئ من الجبال وتصب في البحار بعد انتفاع العالم بها، وفي ضمن ممرها تتصور بطايح وبحيرات، فإذا صبت في البحر المالح وأشرقت الشمس على البحار، تصعّد إلى الجو بخاراً،

أو تنعقد غيوماً أبدية كالدولاب الدائر، فلا يزال الأمر كذلك حتى يبلغ الكتاب أجله، انتهى من الخريدة. وقال صاحب مباهج الفكر: مجموع ما في المعمور من الأنهار مائتان وثمانية وعشرون، حكاه السيوطي. وقد اختلف في ضبط جبل القمر، فقيل هو بفتح القاف والميم، بلفظ أحد النَيّريْن، وإنَّما سمي بذلك لأن العين تقمر منه إذا نظرت إليه لشدة بياضه، وهو جبل مستطيل من الشرق إلى الغرب، كذا في المحاضرة. وفي مختصر المسالك أنّ أناسا انتهوا إلى الجبل وصعدوه، فرأوا وراءه بحراً عجاجاً ماؤه أسود كالليل المظلم، يشقه نهر أبيض كالنهار، يدخل الجبل من جنوبه ويخرج من شماله، ويتشعب على قبة هرمس التي بناها فيه لما بلغه. وقيل: إن أناساً صعدوا الجبل فصار كلّ واحد يضحك ويصفق ويلقي نفسه إلى ما وراء الجبل، فرجع البقية خوفاً من أن يصيبهم مثل ذلك، وقيل إن أولئك إنَّما رأوا حجر الباهت، وهي أحجار براقة من رآها لا يزال يضحك ويلتصق بها حتى يموت. وقيل إن بعض الملوك جهّز قوماً للوقوف على أول النيل، فانتهوا إلى جبال من نحاس، فلما طلعت عليها الشمس انعكست

فائدة

عليهم أشعتها الواقعة عليها فأحرقتهم، كذا في المحاضرة. وفي كتاب كنز الأسرار: جبل القمر سمي به لتلوّنه بزيادة القمر في كلّ ليلة، ففي أول ليلة يعلوه نور أبيض، وفي الثانية يعلوه نور أصفر كشعاع الشمس، فيتلون كلّ ليلة إلى ليلة البدر، فيكون كذنب الطاووس، ومنه يخرج النيل، وطوله إلى بحر الروم ألف فرسخ وأربعون فرسخاً، وفي الخطط جبل القُمْر، بضم القاف وسكون الميم ثم راء مهملة، طوله أربعة أشهر، في عرض عشرين يوماً إلى أقل من ذلك، ويحاذي جزيرة سرنديب، وفيه بلاد كثيرة منها قمرية، وإليها ينسب الطاووس القمري. وفي موضع آخر: جبل القمر جبل عالٍ، وإنَّما سمي جبل القمر لأن القمر لا يطلع عليه، لأنَّه خارج عن خط الاستواء باثنتي عشرة درجة، والنيل يخرج من تحته، انتهى. ولا خلاف في إقبال النيل من أرض الحبشة، وخبر حامد بن أبي شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام في ذلك مستفيض، حكاه السيوطي في المحاضرة بإسناده، ونقله في الهيئة السنية، ورواه ابن الوردي في الخريدة. قال في آثار البلاد: وسبب مدّ النيل أن الله تعالى يبعث ريح الشمال فتقلب عليه البحر المالح، فيحلو ويزيد حتى يعم الروابي والعوالي، ويجري في الخلجان والمساقي، فإذا بلغ الحد الذي هو تمام الريّ، بعث الله تعالى ريح الجنوب فأخرجته إلى البحر المالح. قال السيوطي: وتسمّى هذه الريح التي تقلب عليه البحر المالح بالمَلْتَن، بفتح الميم وسكون اللام وفتح المثناة الفوقية بعدها نون، وفي ذلك يقول الشاعر: اشفع فلَلشافعُ أعلى يداً ... عندي وأسنى من يد المحسن فالنيل ذو فضل ولكنه ... الشكر في ذلك للملتن فائدة الرياح أربع كما أشار إليه الرئيس بقوله: درست بتكرار الرياح

الأربع: الشمال ومبدؤها من نقطة الشمال إلى نقطة الغرب. والدَبور بفتح الدال، ويقال لها الغربية، منها إلى نقطة الجَنوب بفتح الجيم، والجنوب تسمّى القبلية، كما تسمى الشمال الشامية، منها إلى نقطة المشرق، والصبا يقال لها القبول والشرقية، منها إلى نقطة الشمال، وقد دار الدور وحار الداير. وبي ظبية مثل النسيم لطافة ... ولكن حظّي من محاسنها الهجر إذا رُمْت أن أسلو هواها يهيجني ... نسيم الصبا من حيث يطّلع الفجر وما بين هذه الأمهات فهي نكباء، وأسماؤها كثيرة. ولا تدخل ريح على أخرى في حدها، وأشرفها الصبا، ولما اشتملت عليه من اللطف والطيب اتخذها أهل المحبة رسولاً إلى الأحباب. ومن محاسن ما كتب به ابن عبد الظاهر إلى والده، وكان حصل له ضعف، وذلك قوله: إن شئتَ تبصرني وتبصرُ حالتي ... قابل إذا هبَّ النسيم قبولا تلقاه مثلي رقة ونحافة ... ولأجل قلبك لا أقول عليلا

فهي الرسول إليك مني ليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا قال ابن حجة: قوله ولأجل قلبك فيه ما يفتت الأكباد، ويحرك الجماد، وإن من البيان لسحرا. روت الصبا عنكم حديثاً طيباً ... فلذاك أصبحتِ الصبا تُستنشقُ وتعطرتْ نفحاتها من نَشْرِكم ... فلذاك أضحى الكونُ منه يَعْبقُ وقال: قد سألتُ النسيمَ وهو خبير ... بسؤالي إذ غاب وجهُك عنّي قلت: قل لي هل ورد خديك غضٌّ؟ ... قال: قد ضاع نشره. قلت منّي وقال ابن نباته: مسموع لفظك في القلوب مُمَكّن ... في الحب فوق تمكّن الملحوظِ حُفظتْ فوائده وضاع نسيمه ... فاعجب له من ضائع محفوظِ وقال: يداوي أسى العشاقِ من نحو أرضكم ... نسيمُ صباً أضحى عليه قبولُ بروحي من ذاك النسيم إذا سرى ... طبيب يداوي الناس وهو عليلُ

لطيفة

وقال آخر: وكم لي إذا هبَّ النسيمُ تحية ... إلى نحوكم لو أنها تتكلمُ وعندي من الأشواقِ ما لا يزيلهُ ... سوى قربكم لا أوحش الله منكمُ ويقول الحاجبي: لا تبعثوا غير الصبا بتحيةٍ ... ما طاب في سمعي حديث سواها حفظت أحاديث الهوى وتضوعت ... نشراً فيا للهِ ما أذكاها وقال آخر: يا طيب ما جاء النسيم بعرفكم ... وحديثه عنكم حديث مُرْسَلُ حَمّلته مني السلام عليكم ... فأطاعني لكنه يتعللُ وقال الصفدي: يا طيب نشر هبَّ لي من أرضكم ... فأثار كامنَ لوعتي وتهتكي أهدي تحيتكم وأشبه لطفكم ... وروى شذاكم إنَّ ذا نشر ذكي ولابن أبي حجلة: يا طيب ريح سرى من نحوهم سحرا ... لولا تلافيه قلبي في الهوى تلفا كم ذا أعلل قلبي بالنسيمِ وما ... أرى لداءِ غرامي في الهواء شفا لطيفة حكى العلامة الزمخشري في الكشاف، أن ريح الصبا هي التي تبلّغ الأنباء للأنبياء عليهم السلام. وذكر الواحدي في تفسيره الوسيط أن ريح الصبا هي التي أوصلت ريح يوسف إلى يعقوب عليهما السلام، قاله عند قوله إني لأجد ريح يوسف. ولذلك تجد العشاق يستخدمون هذه الريح في حمل السلام، كما قيل: أستخدم الريح في حمل السلام لكم ... كأنَّما أنا في عصري سُليمانُ كأن يعقوب أنباني بقصتهِ ... فللصبا عند قلبِ الصَّبِّ أشجانُ

فائدة

وما ألطف ما قال: إن كانت العشاق من أشواقهم ... جعلوا النسيم إلى الحبيب رسولا فأنا الذي أتلو عليهم ليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا قيل وتليها الشمال في الفضيلة، ولها ذكر في الأشعار فمن ذلك لأبي نواس: هبت لنا ريحٌ شمالية ... أتت إلى القلبِ بأسبابِ أدّت رسالات الهوى بيننا ... عرفتها من بين أصحابي فائدة في تفسير الفخر الرازي: الرياح ثمانٍ، أربع منها عَذاب، وهي القاصف والعاصف والصرصر والعقيم. وأربع منها رحمة، وهي الناشرات والمبشّرات والمُرسلات والذاريات. ومن الآثار عندها: اللهم إني أسألك خيرها وخير مافيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به. وقال: الموجود ينقسم إلى واجب لذاته، وإلى ممكن لذاته وهو ما سوى الباري تعالى، وهو المسمّى بالعالم. وينقسم إلى ما هو متحيز وإلى ما هو صفة للمتحيز، وإلى ما ليس بمتحيز ولا صفة له. والقسم الأول إما أن يقبل القسمة وهو الجسم، أو لا يقبلها وهو الجوهر. والذي يقبل ينقسم إلى الأجسام العلوية والأجسام السفلية، وهي إما بسائط وهي العناصر الأربعة، وإما مُركّبة وهي المواليد التي هي المعادن

ذكر فضل النيل

والنبات والحيوان. والقسم الثاني وهو ما هو صفة للمتحيز وهي الأعراض. والقسم الثالث وهو ما ليس بمتحيز ولا صفة له وهي الأرواح، وهي إما علوية وإما سفلية، والعلوية إما متعلقة بالأجسام وهي الأرواح الفلكية، وإما غير متعلقة بالأجسام وهي القديمة، والسفلية صالحة ومَرَدَة. كذا في كنز الأسرار. ذكر فضل النيل قيل لم يسم في القرآن نهر سواه، وذلك قوله تعالى: فألقيه في اليم أجمع المفسرون على أن المراد باليم هنا النيل بمصر. وعن كعب: أربعة أنهار من أنهر الجنة في الدنيا، فالنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنزل الله تعالى من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار: سيحون، وجيحون، ودجلة، والفرات، والنيل. أنزلها من عين واحدة من الجنة، من أسفل درجة من درجاتها، على جناحي جبريل عليه السلام، واستودعها الجبال وأجراها في الأرض بقدر، فذلك قوله: وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أمر الله جبريل فرفع من الأرض القرآن، والعلم، والحجر من البيت ومقام إبراهيم، وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع كلّ ذلك إلى السماء، فذلك قوله: وإنا على ذهاب به لقادرون.

ذكر ما قيل في النيل من الأشعار البديعة والمعاني المنيعة

ذكر ما قيل في النيل من الأشعار البديعة والمعاني المنيعة - فمن ذلك للصفدي: رأيتُ في أرضِ مصرَ إذ حللتُ بها ... عجائباً ما رآها الناسُ في جيلِ تَسْوَدُّ في عينيَ الدنيا فلم أرها ... تبيضُّ إلا إذا ما كنتُ في النيلِ وابن أبي حجلة: النيلُ زاد زيادةً قد آذنت ... من كلّ باسقةِ النخيلِ بطلعها ولكم به من مركبٍّ في الجوِّ قد ... أضحى عمودَ الصبحِ صاري قلعها وللوراق: هجم النيلُ في البيوتِ على النا ... سِ وثنى فيهم بقطعِ الطريقِ ثقبَ الدورَ والبساتين لما ... جاء يسعى من كلِّ فجٍ عميقِ ولابن اللبان: مررتُ بشاطي النيل والماء مولع ... بلثم ثناياه يبوسُ ويصدرُ فخلتُ فضولَ الموجِ في الشطِ بردة ... بحاشيةٍ بيضاَء تُطوى وتنشرُ وغيره: أما ترى البحرَ ما أحلى شمائله ... والموج يضربُ براً ثم ينحرفُ كأنهُ ملكٌ تأتي الجيوش له ... تقبلُ الأرضَ طوعاً ثم تنصرفُ

لطيفة

ولابن تميم: يومٌ لنا بالنيلِ مختصرٌ ... ولكلِّ يومِ مسرةٍ قصر فكأنّما أمواجهُ عُكَن ... وكأنَّما داراته سُرر وللتقي السبكي: لعمرك ما مصر بمصر وإنّما ... هي الجنة العليا لمن يتفكر وأبناؤها الولدان والحور عينها ... وروضتها الفردوس والنيل كوثر ولعلي المغربي: أيا ساكني مصر غدا النيل جاركم ... فألبسكم تلك الحلاوة في الشعرِ وكان بتلك الأرض سحر وما بقي ... سوى أثر يبدو على النظم والنثرِ وللبدر البشتكي: رعى الله مصراً كم بها من مسرة ... ومنزل أنس لاح كالطالعِ السعدِ رويت الهنا عن سدها يوم كسرها ... فها أنا مهما عشتُ أروي عن السدِّ وقال: اشرب على مقياس مصر وغنّ لي ... من روضة المعشوق في عشاق وافخر بمصر على البلاد فنيلُها ... يعلو على الأوصاف باستغراق لطيفة ركب الأمير تميم بن المعز ليلة في النيل، فمرّ ببعض الطاقات المشرفة على النيل فسمع جارية تغني وتنشد: نَبّهتُ ندماني بدجلة موهناً ... والنجم في أفق السماء معلّقُ والبدر يضحك وجهُه في وجهها ... والماء يرقص حولها ويصفّقُ فطرب عليها ولم يزل يشرب حتى انصرف وهو لا يعقل، فلما أصبح قابل ذلك النظم بقوله:

قصة ظريفة

شربنا على النيل في مدّه ... بموجٍ يزيد ولا ينقص كأن تكاثف أمواجه ... معاطف غانية ترقص ولابن أبي حجلة: قدمت على السلامة من دمشق ... فراق بنيل مصر ما تكدّر إذا ما احمرَّ ماء النيل فيها ... فشارب روضها بالعشب أخضر ولابن الصاحب: كانت لمصر بهجة ... بالنيلِ مذ ولّى خلت كأنَّه زوج لها ... فبعده ترملت قصة ظريفة أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: غار النيل على عهد فرعون فأتاه أهل مملكته فقالوا: يا أيها الملك أجْرِ لنا النيل. قال: إني لم أرض عنكم. فذهبوا ثم أتوه فقالوا: يا أيها الملك، ماتت البهائم وهلكت الأبقار. إن لم تجر لنا النيل لنتخذنّ إلهاً غيرك. قال: اخرجوا إلى الصعيد. فخرجوا فتنحّى عنهم بحيث لا يرونه، فألصق خده بالأرض وأشار بالسبابة ثم قال: اللهم إني خرجت إليك مخرج العبد الذليل، إني أعلم، أنك تعلم، أني أعلم أنه لا يقدر على إجرائه غيرك فأجره. قال فجرى النيل فخرّوا له سجداً!!. وعرض جبريل عليه السلام فقال: أيها الملك أعنّي على عبدي. قال: وما قصته؟ قال: عبدٌ لي ملّكته على عبيدي وخولّته مفاتيحي فعاداني، فأحبَّ من عاديت وعادى مَنْ أحببت. قال: بئس العبد عبدك، لو كان لي عليه سبيل لغرقته في بحر

حكاية لطيفة

القُلْزُم. فقال: أيها الملك اكتب لي كتاباً. فدعا بكتاب وكتب: ما جزاء العبد الذي خالف سيّده، فأحبَّ من عادى وعادى من أحب إلا أن يغرق في بحر القلزم. فقال: أيها الملك اختمه. فختمه ثم دفعه إليه، فلما كان يوم البحر أتاه جبريل بالكتاب وقال له: خذ، هذا ما حكمت به على نفسك، انتهى. من المحاضرة. وفي ذلك قيل: ولما طغى فرعون جهلاً وقومه ... وجاء إلى مصر ليفسدَ في الأرضِ أتى نحوهم موسى وفي يدهِ العصا ... فأغرقهم في اليمِّ بعضاً على بعضِ حكاية لطيفة فرعون موسى عليه السلام هو مصعب بن الريان، قيل من بقايا عاد. وقيل كان عطّاراً أصفهانياً ركبته الديون فخرج إلى الشام، فلم يتيسر له المقام بها فدخل مصر فرأى أهلها متروكين سدى، وكان وقع بها وباء عظيم، فتوجه نحو المقابر فرأى ميتاً يدفن، فتعرض لأوليائه، وقال: أنا أمين المقابر فلا يدفن إلا بخمسة دراهم. فدفعوا إليه ومضى لآخر وآخر حتى جمع مالاً عظيماً. إلى أن تعرّض يوماً لأولياء ميت فمنعوه ورفعوه إلى فرعون مصر فقال: من أنت ومن أقامك؟ فقال: لم يقمني أحد وإنَّما فعلت ذلك لأنبهك على اختلال مملكتك، وإني جمعت بهذا الطريق هذا المقدار من المال. فأحضره ودفعه إليه وقال له: ولِّني أمورك ترني أميناً. فولاه فسار بهم سيرة حسنة فاستقامت أحوالهم، فلما مات فرعون أقامه مقامه، فكان من أمره ما كان. وبينه وبين فرعون يوسف عليه السلام - وهو الريان - أكثر من أربعمائة سنة. وحكى ابن أبي حجلة أن مدة ملك فرعون كانت أربعمائة سنة، وعاش نيفاً وستمائة سنة لم ير في حياته مكروهاً، ولم يزل مُخوّلاً في نِعم الله تعالى حتى أخذه الله نكال الآخرة والأولى وكان قصيراً وطول لحيته سبعة أشبار، كذا في السكردانٍ. ومن محاسن مصر (الروضة) قال المقريزي: وتطلق في زماننا على الجزيرة التي هي بين مدينة مصر ومدينة الجيزة، والجزيرة كلّ بقعة في وسط البحر، سميت بذلك لأنها جُزرت، أي قُطعت عن معظم الأعظم، والنيل دائر عليها وفيها من الثمار

والبساتين ما ليس في غيرها، وهي متنزه أهل مصر، وفيها قيل: أرى سوح الجزيرة من بعيد ... كأحداقٍ تغازلُ بالمغازلِ كأن مجرّة الجوزاء حطّت ... وأثبتتِ المنازلَ في المنازلِ وللأسعد بن مماتي: جزيرة مصر لا عدتكِ مسرةٌ ... ولا زالت اللذاتُ فيكِ اتصالها فكم لك من شمسٍ على غصنِ بانةٍ ... يُميت ويُحيي هجرها ووصالها ومنها خليج مصر وهو بظاهر الفسطاط، ويمر من غربي القاهرة وهو أقدم خلجان مصر الثمانية، احتُفِر أيام هاجر، وكان مصبه القلزم إلى أن قدم محمد

بن عبد الله بن الحسن العلوي بالمدينة، فكتب الخليفة المنصور إلى عامله بمصر أن يطمَّ هذا الخليج، حتى لا يحمل الميرة من مصر إلى المدينة، فَطُمَّ وانقطع اتصاله بالقلزم. ولما بنيت القاهرة بشرقيه صار يعرف بخليج القاهرة، وتسمّيه العامة بالخليج الحاكمي. وقال فيه الشعراء فأكثروا، قال ابن الساعاتي: وعلى السد عزةٌ قبل أن تم ... لكه ذلةُ المحبِّ الخضوعِ كسروا جبرَه هناك فحاكَى ... كسرَ قلبٍ يتلوهُ فيضَ دموعِ ولسبط الملك: سدّ الخليج بكسره جَبَرَ الورى ... طُراً فكلٌّ قد غدا مسرورا الماءُ سلطانٌ فكيفَ تواترت ... عنه البشائرُ إذ غدا مكسورا قال آخر: للهِ درُ الخليجِ إنّ له ... تفضلاً لا نزال نشكره حسبكَ منهُ بأنّ عادته ... يَجْبُرُ من لا يزال يكسره وقال آخر: كُسِر الخليج وكان ذلك نعمة ... سرّت قلوب العالمين بنشرهِ ومن العجائب والغرائب أنه ... جُبرت قلوبُ العالمين بكسرهِ ولابن تميم: خليج كالحسام له صقالٌ ... ولكن فيه للرائي مسرّه ترى فيه المِلاحَ تجيد عوماً ... كأنّهم نجومٌ في المجرّه

بركة الفيل

بركة الفيل ومن محاسنها بركة الفيل، التي كأنَّها دارة الهلال، أو سماء تزينت مجرتها بنجوم من الجمال، ونحوها بركة الرطلي، فإنها لا تزال تبدي محاسنها وتملي، وفيها أنشد لنفسه التقي المقريزي: انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت ... بها المناظرُ كالأهدابِ للبصرِ كأنَّما هي والأبصار ترمقها ... كواكبٌ قد أداروها على القمرِ وقال حسن التميمي: أقمتُ بالبركةِ الفيحاَء مدهقة ... والماء مجتمع فيها ومسفوحُ إذا النسيم جرى في مائها اضطربت ... كأنَّما ريحهُ في جسمها روحُ مدراس ومن محاسن مصر: (المدرسة المنصورية) قال السيوطي: أنشأها والبيمارستان الملك المنصور قلاوون، وكان على عمارتها الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، فلما تمت دخل إليه الشرف البوصيري فمدحه بقصيدة أولها: أنشأت مدرسةً ومارستانا ... لتصحح الأديان والأبدانا فأعجبه ذلك وأجزل عطاءه، ورتّب في هذه المدرسة دروس فقه على المذاهب الأربعة، ودرس تفسير، ودرس حديث، ودرس طب. ومدرسة السلطان حسن بن الناصر محمد بن قلاوون شرع في بنائها سنة ثمانٍ وخمسين وسبعمائة. قال المقريزي: لا يعرف ببلد الإسلام معبد يحكي هذه المدرسة في كبر قالبها أو حسن هندامها، أقامت العمارة فيها مدة ثلاثين سنة لا تبطل يوماً واحداً، ورُصد لمصروفها كلّ يوم عشرون ألف درهم، عنها ألف مثقال ذهباً، حتى قال السلطان: لولا أن يقال سلطان عجز عن إتمام ما بناه لتركت بناءها. وذَرْعُ إيوانها الكبير خمسة وستون ذراعاً في مثلها، ويقال إنه أكبر من إيون كسرى بخمسة أذرع. وبها أربع مدارس للمذاهب الأربعة. قال الحافظ ابن حجر في أنباء الغمر: وكان السلطان حسن أراد أن يعمل في مدرسته درس فرائض، فقال له البهاء السبكي: هو باب من أبواب الفقه، فأعرض عنه. فاتفق وقوع قضية في الفرائض مشكلة، فسئل عنها البهاء السبكي فلم يُجِب، فأرسلوا إلى الشيخ شمس الدين الكلايء، فقال: إن كان الفرائض من أبواب الفقه فما له لايجيب عنها!؟ فشقّ ذلك على البهاء وندم على

حوادث غريبة بمصر

ما قال. وكان السلطان عزم على أن يبني أربع منائر فتمت ثلاثة، إلى أن كان يوم السبت سادس ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبعمائة، سقطت المنارة التي على الباب فهلك تحتها نحو ثلاثمائة نفس من الأيتام، الذين كانوا قد رتّبوا بمكتب السبيل ومن غيرهم، فلهج الناس بأن ذلك ينذر بزوال الدولة، فاتفق قتل السلطان بعد ذلك بثلاثة وثلاثين يوماً!! وقلما قيل من شيءٍ لمسألةٍ ... إلا ويبدو لها في الناسِ من خبر وفي هذه التواريخ ومدة العمارة تنظير. ومن محاسن مصر (المدرسة المؤيدية) قال السيوطي: انتهت عمارتها سنة تسع عشرة وثمانمائة، وبلغت النفقة عليها أربعين ألف دينار، واتفق بعد ذلك بسنة، مَيْل المنارة التي بنيت لها على البرج الشمالي بباب زويلة، فأكثر الشعراء من القول في ذلك، قال الحافظ ابن حجر: وكنت قلت وأنشدت بمجلس المؤيد: لجامعِ مولانا المؤيد رونق ... منارتهُ بالحسنِ تزهو وبالزّين تقول وقد مالت على البرج أمهلوا ... فليس على جسمي أضرّ من العين فأراد بعض الجلساء العبث بالشيخ بدر الدين العيني، فقال إن فلاناً قد عرّض بك، فغضب واستعان بمن نظم له نقيضهما ونسبهما لنفسه، وعرف كلّ من يذوق الأدب أنهما ليسا له، لأنَّه لم يقع له قريب من ذلك: منارة كعروسِ الحسنِ إذ جليت ... وهدمها بقضاءِ الله والقدر قالوا أصيبت بعين قلت ذا غلط ... ما أوجبَ الهدمَ إلا خسّةُ الحجر قلت: هما للنواجي الأبرص لا بارك الله فيه، انتهى. من أنباء الغمر. وكان يقال ما أُتيَ المرءُ إلا من نفسه، وقال ابن النبيه: بجامع مولانا المؤيد أُنشئت ... عروسٌ سمت ما خلت قط مثالها ومذ عَلِمتْ أن لا نظيرَ لها انثنت ... وأعجبها والعُجْب عنّا أمالها حوادث غريبة بمصر ذكر بعض الحوادث الغريبة بمصر لما اشتملت عليه من الحكم: حكى السيوطي في المحاضرة أن في سنة ست وستين من الهجرة وقع الطاعون بمصر، وفي سنة سبعين كان الوباء، وحكي أن بعض الزهاد قال: بلغني ما وقع ببغداد

من القتل الذريع، فقلت يا رب كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له!؟ فرأيت في النوم رجلاً في يده كتاب فأخذته منه فإذا فيه: دع الاعتراض فما الأمر لك ... ولا الحكم في حركاتِ الفَلَكْ ولا تسأل الله عن فعلهِ ... فمن خاضَ لجةَ بحرٍ هلكْ ثم قال السيوطي قلت: أجرى الله عادته أن العامة إذا زاد فسادها وانتهكت الحرمات بينهم، أرسل الله عليهم آية في أثر آية، فإنْ لم ينجح ذلك فيهم أتاهم بعذاب من عنده، وسلّط عليهم من لا يستطيعون له رداً ولا دفاعاً، انتهى. وأصل ذلك سر قوله تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها. وما أحسن ما قال:

سلّم له الأمر تَعشْ سالماً ... وأرض بأحكامِ اللطيفِ الخبيرِ ولا تقلْ علمي ولا حكمتي ... فالحكم لله العلي الكبيرِ وفي سنة خمس وأربعين ومائة انتثرت الكواكب من أول الليل إلى الصباح، ففزع الناس لذلك. وفي سنة سبع وثلاثين ومائتين ظهر في السماء شيء مستطيل دقيق الطرفين عريض الوسط من ناحية الغرب، فأقام من وقت المغرب إلى العشاء الآخرة ثم انقضّ. حكاه السيوطي عن صاحب المرآة. وفي سنة ثمان وسبعين ومائتين، قال ابن الجوزي: طلع نجم ذو جُمّة، ثم صارت الجُمّة ذؤابة. وفي تلك السنة غار النيل فلم يبق منه شيء، وهذا شيء لم يعهد مثله. وفي أيام أحمد بن طولون تساقطت النجوم، فراعه ذلك، فسأل العلماء والمنجمين عن ذلك فما أجابوا، وللجمل في ذلك: قالوا تساقطت النجو ... م لحادث خَطْبٍ عسير فأجبتُ عند مقالهم ... بجواب محتنكٍ خبير هذي النجوم الساقطا ... تُ رجومُ أعداءِ الأمير وفي سنة أربع وثمانين ومائتين ظهرت بمصر ظلمة شديدة وحمرة في الأفق، من وقت العصر إلى الليل. وفي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة انقض كوكب من ناحية الجنوب إلى الشمال، قبل مغرب الشمس فأضاءت الدنيا منه، وسمع له صوت كصوت الرعد الشديد. وفي سنة ثلاثين ظهر كوكب رأسه إلى المغرب وذنبه إلى المشرق، وكان عظيماً جداً منتشراً، وبقي ثلاثة عشر يوماً إلى أن اضمحل.

وفي سنة أربع وأربعين زلزلت مصر زلزلة شديدة، هدمت البيوت، ودامت ثلاث ساعات. وفي سنة تسع وأربعين رجع حجاج مصر من مكة، فنزلوا وادياً أخذهم فيه السيل عن آخرهم. وفي سنة ستين سار رجل من مصر إلى بغداد وله قرنان، فقطعهما وكواهما، وكانا يضربان عليه، حكاه صاحب المرآة. وفي سنة أربع وثمانين وخمس وثمانين انفرد بالحج أهل مصر، ولم يحج ركب العراق ولا الشام لفساد الطريق بالأعراب. وفي سنة سبع وتسعين كسا الحاكم الكعبة القباطي البيض. وفي سنة سبع وأربعمائة تشعّب الركن اليماني من المسجد الحرام، وسقط جدار من قبر النبي عليه السلام، وسقطت القبة الكبيرة على صخرة بيت المقدس. وفي أيام الحاكم زلزلت مصر زلزله شديدة حتى رجفت أرجاءها وضجت الأمة، فقال محمد بن قاسم بن عاصم شاعر الحاكم: بالحاكم العدل أضحى الدين معتلياً ... وكيف لا وهو نجل السادة النُجبا ما زلزت مصر من سوء يراد بها ... وإنَّما رقصت من عدله طربا وفي سنة ثلاثين لم يحج أحد من الأقاليم بأسرها. وفي سنة إحدى وأربعين ارتفعت سحابة سوداء ليلاً وزادت على ظلمة الليل، فظهرت جوانب السماء كالنار المضيئة، واستمرّت ساعة والناس يتضرعون. وفي سنة ثلاث وأربعين قال في المرآة: عَمّ الوباء والقحط مصر والشام وبغداد والدنيا، وانقطع ماء النيل، وفيها ظهر نجم له ذؤابة بيضاء طولها في رأي العين نحو عشرة أذرع في عرض ذراع، واستمرّ كذلك شهراً كاملاً ثم اضمحل. وفي سنة ستين وقع بمصر غلاء لم يسمع بمثله من عهد يوسف الصديق عليه السلام، وأقام سبع سنين متوالية، بحيث أُكلت الميتة، وبيع الكلب بخمسة دنانير، ولم يبق للخليفة سوى ثلاثة أفراس بعد العدد الكثير، ونزل الوزير يوماً عن بغلته، فأُخذت من غلمانه فذُبحت وأُكلت، فأخذ الذين أكلوها وصلبهم، فأصبحوا وقد أكلهم

الناس ولم يبق إلا عظامهم، وبلغت البيضة ديناراً، وأردب القمح مائة دينار، ثم انعدم حتى حكى صاحب المرآة أن امرأة خرجت من القاهرة ومعها مُدّ جوهر فقالت: من يأخذه بمثله من البر؟ فلم يلتفت إليها أحد!! وفي سنة سبع وتسعين هبط النيل فاشتد الغلاء والوباء، وتفرق الناس وتمزقوا كل ممزق، وكان الرجل يذبح ولده، فتساعده أمه على طبخه، وكان الرجل يدعو صديقه ليضيفه فيذبحه ويأكله، وفعل ذلك بالأطباء وكثُر الفناء. قال الذهبي في العبر فلو قال القائل مات ثلاثة أرباع الإقليم لما أبعد. وقال العماد الأصفهاني: في سنة كذا اشتد الغلاء وامتد البلاء وحدثت المجاعة وتفرقت الجماعة، وهلك القوي فكيف بالضعيف، وتساوى المبتذل والعفيف، وخرج الناس حذر الموت من الديار المصرية، وتفرقوا في الأقطار الحجازية والشامية، ولقد رأيت الأرامل على الرمال، والجمال باركة تحت الأحمال. وفي سنة أربع وسبعمائة ولدت كلبة أربعين جرواً، وأحضرت بين يدي السلطان فتعجب من ذلك وسأل المنجمين فلم يجيبوا عن ذلك. وفي سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة رسم للأشراف بالديار المصرية والشامية، أن يسموا عمائمهم بعلامة خضراء تمييزاً لهم عن الناس، ففعل ذلك، وفيه يقول ابن جابر الأندلسي صاحب البديعية وشارح الألفية في النحو: جعلوا لأبناءِ الرسول علامة ... إن العلامة شأن من لم يشهرِ نور النبوة في جمال وجوههم ... يُغْني الشريف عن الطراز الأخضرِ وقال الشمس الدمشقي: أطراف تيجان أتت من سندس ... خضر بأعلام على الأشرافِ والأشرف السلطان خصصهم بها ... شرفاً ليفرقهم من الأطرافِ وقال طاهر الحلبي: ألا قل لمن يبغي ظهور سيادة ... تملكها الزهر الكرام بنو الزهرا لئن نصبوا للفخر أعلام خضرة ... فكم رفعوا للمجد ألوية حمرا وفي سنة عشر وثمانمائة ولدت جاموسة ببلبيس مولوداً برأسين وعنقين وأربع

أيدٍ، وسلسلة ظهر واحدة ورجلين أثنين وفرج أنثى والذنب مفروق باثنين، وكانت من بديع صنعة الله تعالى، ولا تزال النفوس تعجب من الغريب وفيها ما يكفيها كما قال وفي أنفسكم أفلا تبصرون في الأرض آيات فلا تك منكراً ... وعجائبُ الأشياء من آياتهِ وفي سنة إحدى وعشرين بعد كسر الخليج، غرق لبعض السوقة ولد، فأراد دفنه فمنعه أعوان الوالي حتى يستأذنه، فمضى ليستأذنه فأمر بحبسه، ثم قيل له إنك لا تُطلَق حتى تعطي الوالي خمسة دنانير، فالتزم بها وخرج فباع موجوده وموجود زوجته أم الغريق، فبلغ أربعة دنانير واقترض ديناراً آخر، وأخذ ولده فدفنه وترك المرأة وهرب من القاهرة ليلاً، فبلغ ذلك السلطان فساءه وطلبه الوالي فضرب بحضرته، ولم يعزله. حكى الحافظ ابن حجر: فإن شئت فقل عدم عزله سياسة، وإن شئتَ فقل إيثاراً للمنافع، أو لأنَّه لم يجد عمالاً لا من الملائكة ولا من أهل العصمة، وإن شئت فقل ما في الإمكان أبدع مما كان، فلا تطلب من شيء غير ما تشاهد منه. وفي الطبقات نقل الشيخ أحمد زروق عن الشيخ أحمد بن عقبة الحضرمي، أنه قال له أو لرفيقه: أخرجوا من هذه البلاد - يعني مصر - فإنها تذهب نور الإيمان، هكذا قال عن زورق، وقال: يتعين على كلّ من دخل هذه البلاد أن يجدد إيمانه، يعني بما يشاهده من المنكر، وإنه لصحيح لمن نظر بعين الإنصاف. وفي سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة ذُبِحَ جملٌ بغزة فأضاء لحمه كما يضئ الشمع، وشاع ذلك حتى بلغ حد التواتر، ورُمي من لحمه لكلب فلم يأكله!! وفي سنة أربع وعشرين شَنَقَ بعضُ العوام نفسه قهراً من زوجته، وكان طلقها وهو يحبها، فاتصلت بغيره وكادته فيه فقتل نفسه. وكان يقال: إذا رأيت أموراً ... منها القلوب تفتّت فتش عليها تجدها ... من النساء تأتّت وما أصدق ما قال: إن النساء وإن نُسبن لعفةٍ ... رمم تقلّها النسور الحوّمُ اليوم عندك سرها وحديثها ... وغداً لغيرك ساقها والمعصمُ وفي سنة ست وأربعين وصل الشريف علي بن حسن بن عجلان أمير مكة المشرفة

من الطور، وكان السلطان أرسل بالقبض عليه، فجهّز في البحر إلى الطور ومعه أخوه إبراهيم مقيدين، فحبسا ببرج القلعة وأخوهما أبو القاسم قد استقر في الإمرة، وتوجه صحبة الركاب، وشرط عليه أن يبطل النزلة، ويعاقب من فعلها. وقد خرجنا عن المقصود ولكن بحسب ما قيل: إذا عرف الإنسانُ أخبارَ من مضى ... توهمته قد عاشَ من أول الدهرِ وتحسبهُ قد عاش آخر عمره ... إلى الحشرِ إن أبقى الجميلَ من الذكرِ ومن العجائب بصعيد مصر شجرة العباس، وهي شجرة متوسطة وأوراقها قصيرة منبسطة، فإذا قيل لها: يا شجرة العباس، حال الناس، اجتمعت أوراقها واحترقت لوقتها، كذا في المحاضرة. ومن محاسن مصر قصب السكر الذي لا يوجد مثله في غيرها، وعن الشافعي: ثلاثة أشياء دواء للداء الذي لا دواء له، العنب ولبن التفاح وقصب السكر ولولاه ما أقمت بمصر، وعلى ذلك فما أحلى قول القائل: نزلنا على القصبِ السكريّ ... نُزولَ رجالٍ يريدون نهبه بِجزٍ كجزِّ رقابِ العدا ... ومصٍ كمصِ شفاهِ الأحبه وقال آخر: تحكيه سمر القنا ولكن ... يزيد في جسمه طلاوَه وكلما زدته عذاباً ... زادتك من ريقه حلاوَه وقال آخر: مهفهفٌ قدّ ريقه الشهدُ إن بدا ... يحاكي القنا لكن بغير سنانِ

ويرجى لكلّ الناس منه منافعٌ ... ويؤكلُ بعد العصرِ في رمضانِ وفي المعنى: وذي هَيَف كالرمح رنّحه الصبا ... يفوق القنا طولاً بغير سنانِ له ولد كلّ البرايا تحبهُ ... وتشتاقه إن عزّ منه تداني وأعجب ما فيه يرى الناسُ أكلَهُ ... حلالاً بُعيدَ العصر في رمضانِ قال البصير في التذكرة: والقصب أجوده المصري والهندي، الغليظ، الكثير الماء، الصادق الحلاوة، الطويل العقد، وهو حار في الأولى رطب في الثانية، يهضم ويلطف الدم، وهو أشد ملايمة من السكر، وإن شرب عليه الماء الحار وأخرج بالقيء، نقَّي البدن من الأخلاط اللزجة. ومن محاسن مصر السبع زهرات التي تجتمع في صعيد واحد، وهي النرجس، والأقاح، والشقيق، والياسمين، والبنفسج، والآس، والورد. ومن محاسن ما قيل في هذه الأزهار: أنت يا نرجسة الرو ... ض لما في الروضِ ستِّ ودليل القول عندي ... أن أوراقك سِتِّ وعلى ذلك فما أبهى قول البهاء زهير: بروحي من أسمّيها بستّي ... فتنظرني النحاةُ بعين مقتِ يرَوْن بأنني قد جئت لحناً ... وكيف وإنني لزهير وقتي

إذا ملكت جهاتي الست حقاً ... فلا عجب إذا ما قلتُ ستي ولابن الساعاتي: ونرجس كالثغور مبتسم ... له دموع المحدّق الشاكي أبكاه قطر الندى وأضحكه ... فهو مع القطر ضاحكٌ باكي وللفارقي: إن في عينيه معنى ... حدّث النرجس عنه ليت لي من غصنه سه ... ماً ففي قلبي منه وقال آخر: وأحسن ما في الوجوه العيون ... وأشبه شيء بها النرجسُ يظلّ يلاحظ وجه النديم ... فريداً وحيداً فيستأنسُ وللتلعفري: وأكثر الناس في تشبيههم أبداً ... للنرجسِِ الغضِّ بالأجفانِ والحدقِ وما أشبهه بالعين إذ نظرت ... لكن أشبِّهه بالعين والورقِ وللأهوازي: - للآس فضل بقائه ووفائه ... ودوام منظره على الأوقاتِ قامت على أغصانه ورقاته ... كنصول نبل جئن مختلفاتِ

قيل: الآس أول شيء غرسه نوح عليه السلام حين خرج من السفينة، ويكره السواك بعوده وعود د الرمان، لأنهما يحركان عرق الجذام. وفي مناهج العبر: اليونان تسمي الآس مرسينا وهو أنواع: أخضر وهو المشهور، وأصفر وهو ما فسد منه، وأزرق يسمّى الخسرواني. وثمره قدر الحمص، وله ذكر في الأشعار، وكثيراً ما يشبّه به العِذار، فمن ذلك في هذه المسالك: ومهفهف ألحاظه وعِذارهُ ... يتعاضدان على قتالِ الناسِ سفكَ الدماَء بصارمٍ من نرجسٍ ... كانت خمائلَ غمدهِ من آسِ ومما قيل في المنثور - ولا تعبق رائحته إلا ليلاً - أُنظر إلى المنثورِ ما بيننا ... وقد كساهُ الطل قمصانا كأنَّما صاغته أيدي الحيا ... من أحمر الياقوت مرجانا ولابن أبي حجلة: زهر الوعود ذرى من طولِ مَطْلِكم ... لأنَّه من نداكم غير ممطورِ والعبد قد جهّز المنظوم ممتدحاً ... فطابقوه إذا وافى بمنثورِ وقال آخر وفيه الجناس التام: ولم أنس قول الورد لا تركنوا إلى ... معاهدة المنثور فهو يمينُ ألم تنظروا منه بناناً مخضباً ... وليس لمخضوب البنان يمينُ وقال: كأن الياسمين الغض لما ... أدرتُ عليه وسطَ الروض عيني -

نكتة

سماء للزَبَرْجَد قد تبدّت ... لها فيها نجوم من لجين وقال: يا مهدياً لي بنفسجاً عَطِراً ... يرتاحُ صدري له وينشرحُ بشّرني عاجلاً مُصَحّفه ... بأن ضيقِ الأمورِ ينفسحُ ولابن تميم: عاينت ورد الروض يلطم خدّه ... ويقول وهو على البنفسجِ محنقُ لا تشربوه وإن تضوّعَ نشرهُ ... ما بينكم فهو العدو الأزرقُ وقال آخر: للوردِ فضل على زهر الربيع سوى ... أن البنفسجَ أذكى منه في المهج كأنَّه وعيونُ الناسِ ترمُقهُ ... آثارُ قرصٍ بدا في خدِّ ذي غنج وقد أفرد الناس التصانيف في محاسن مصر وما اشتملت عليه من العجائب، قال الجلال السيوطي في كتابه حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة: قال بعض من صنّف في فضائلها: بمصر الحمير المرسنة، والبقر الحسنة. نكتة حكى العبدري عن أبي عبيدة في كتابه المسالك أن أبا دلامة جاء إلى مصر مرة، ثم رجع فسئل عنها فقال: ثلثها تراب، وثلثها كلاب، وثلثها دواب. قيل: فأين الناس؟ قال في الثلث الأول. وعلى ذلك أقول: ولقد أتيت ديار مصر مرة ... شوقاً لقوم هِمْتُ في إسعافهم

وسألت ذاك السفح عنهم قال لي ... ذهب الذين يعاش في أكنافهم استغفر الله، وليس هذا من باب التبرم بأهل مصر، على ما قال: لا ترم في بئر شربت زُلالها ... آجرة فيقال أنّك غادرُ وقال غيره: وعماتك النخل كن مثلها ... لرامي الحجارة ترمي الرطب فليت شعري أي فضيلة للنخل الذي لا يرمي حتى يُرمى، وهل ذلك إلا من باب المطاوعة رميته فارتمى؟ فالطاعة هنا ضرورية، لا يعلّق المدح بها، وربما تعلق بها الذم من وجه، كما قال قائل - وقد قيل له مالك تقع في الأمراء وأنت تستميرهم؟ -: نأخذ بعض مالنا ونطالبهم عند الله في الباقي والحيلة عليهم خير من الحاجة إليهم: ولكل رأيت منهم مقاماً ... شرحه في الكتاب ممّا يطول قال أبو عبيدة: وأما أهلها فقيل أعقل الناس صغاراً وأحمقهم كباراً، والعجب من نسبة الحمق إليهم، فإنه ينافي ما اشتملوا عليه من المكر والخديعة وأصناف الحيل المنقلب لديها بصر اللياقة خاسئاً وهو حسير، وأما أدوات المعروف فيهم فلا يشك في أنها لازمة لا متعدية، وإن كانت آراؤهم على سنن المكارم متعدية، اللهم إلا ما اقتضته الأدوار الفلكية من الأوامر الملكية. قال الفاضل العبدري في رحلته: وكان وصولنا إلى هذه المدينة - يعني مصر - في أخريات رمضان المعظم، فأتممناه بها وصلينا معهم العيد، فلم أر يومئذ من أولئك الناس، من صدر منه الإيناس، فقلت: تذكرتُ يومَ الفطرِ في مصر إذ أتى ... وقوس النوى ترمي الحشا أسهم الخَطْبِ

نكتة

سراة نأوا أُنسي بنادي محلّهم ... وصحباً كراماً ضمّهم أفق الغربِ فأفطرتُ من قبلِ الغدوّ بعَبْرةٍ ... شغلتُ بها يومي عن الأكلِ والشربِ وقال معين الدين المالكي: يا أهلَ مصر رأيتُ أيديكم ... عن بسطها بالنوالِ منقبضهْ فَمُذ عدمت الغذاء عندكم ... أكلتُ كتبي كأنّني أرَضَهْ وقال البدر البشتكي: من أهل مصر ليس يس ... لم لا الوضيع ولا المعظم ناهيك أن بأرضهم ... جبلاً فسمّوه المُقَطّم أستغفر الله أن القلم إذا جال، قال في سرحه القيل والقال، وإلا فإذا كانت المنة من الاسترقاق، فأي حر يرضى بالقيد بعد الإطلاق؟ فكيف بمن يأنف من رق الحسنة ولو في المنام، وينشد في هذا المقام: اسقني خمرة كرقة عقلي ... أو كديني ولا أقول كحالي حذراً من توهم السمع أني ... قلت هذا في مَعْرِضٍ لسؤالي وعلى جملة فإني أقول بمقتضى الحال: كلّ البلادِ فداء مصر لأجلِ من ... قد زانها وهو الأميرُ الأوحدُ مولاي إسماعيل ذو الحسبِ الذي ... تسعى الكرامُ لبيتهِ وتوحدُ نكتة الشيخ أثير الدين أبو حيان في تفسير قوله تعالى حكاية عن عزيز مصر يوسف أعراض عن هذاوتربة مصر تقتضي ذلك، يعني قلة الغيرة، وفي المعنى يقول أبو مفلح: في مصر من إذا رأى في أهلهِ ... سوءاً كما في محكمِ الذكرِ حُكي يقول إن كان له مروءةٌ ... لا ترجعي واستغفري لذنبكِ

قال أبو حبان: وأين هذا مما جرى لبعض ملوك بلادنا؟ وهو أنه كان بمجلس ندمائه وجارية تغني من وراء الستر، فاستعاد بعض الندماء من الجارية بيتاً، وكانت غنّت به، فما لبث أن جيء برأس الجارية في طشت، وقال له الملك: استعد هذا البيت من هذا الرأس، فسقط الكأس من يد النديم، ومرض مدّة حياة الملك. (قلت) وهذا من ذاك، وإلا فما الحامل على التعريض بالأسماع؟ تناقض ما نرى إلا السكوت لهُ ... وأن نعوذَ بمولانا من النارِ وقد أراح نفسه من ذلك عبد المحسن الصوري حيث يقول: تعشقته سكران من خمرة الصبا ... على غرّةٍ من لوعتي ونحيبي وشاركني في حبه كلّ ما جد ... يقاسمني في مُهجتي بنصيبِ فلا تلزموني غيرةً ما ألفتها ... فإن حبيبي من أحبَّ حبيبي ومن أبيات الوأواء الدمشقي: ومحتجبٌ بين الأسنةِ والظبا ... وفي القلبِ من إعراضهِ مثل حجبهِ أغار إذا آنست في الحي أنّه ... حِذاراً وخوفاً أن تكون لحبّهِ وفي المعنى للبهاء زهير: أغارُ على حرفٍ يكون من اسمها ... إذا ما رأته العينُ في خط كاتبِ ومالي منها نائل غيرَ أنني ... أعلّلُ نفسي بالأماني الكواذبِ حكى الصفدي في تذكرته عن الشيخ تاج الدين الفزاري أنه كان يقول: إن الحكماء وأهل التجارب يزعمون أن من أقام ببغداد سنة وجد في عمله زيادة، ومن أقام بالموصل سنة وجد في عقله زيادة، ومن أقام بحلب سنة وجد في نفسه

فائدة

شحاً، ومن أقام في دمشق سنة وجد في طباعه غلظاً، ومن أقام بمصر سنة وجد في أخلاقه رقة. والذي يظهر أن ذلك بحسب الخلطة مع مساعدة البقعة والاستعداد، فقد رأيت من أقام بمصر فظهر بالتجبّر وآخر بالمذلة، وكان يقال: عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... والنارُ تطرحُ بالرمادِ فتخمدُ رُويَ أنّ الله تعالى لما خلق الأشياء، قال القتل: أنا لاحق بالشام، فقالت الفتنة وأنا معك. وقال الخصب: أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك. وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية، فقالت الصحة: وأنا معك. وقال الإيمان: أنا لاحق باليمن، فقال الحياء: وأنا معك. وقال الكبر: أنا لاحق بالعراق، فقال النفاق: وأنا معك. (ورُويَ) أن الله تعالى جعل البركة عشرة أجزاء تسعة منها في قريش وواحد في سائر الناس، وجعل المكر عشرة أجزاء فتسعة منها في القبط وواحد في سائر الناس، وجعل النجابة عشرة أجزاء تسعة منها في الروم وواحد في سائر الناس. وحُكيَ أن الحجاج سأل ابن القرية عن طباع أهل الأرض فقال: أهل الحجاز أسرع الناس إلى الفتنة وأعجزهم عنها، رجالها حفاة، ونساؤها عراة، وأهل اليمن أهل سمع وطاعة، ولزوم جماعة، وأهل البحرين قبط استعربوا، وأهل اليمامة أهل حق وائتلاف، وأهل فارس أهل بأس شديد، وعزٍّ عتيد، وأهل العراق أبحث الناس عن الصغيرة وأضيعهم للكبيرة، وأهل الشام أطوع الناس للمخلوق وأعصاهم للخالق، وأهل مصر عبيد لمن غلب. دع الأتراك والعربا ... وكن في حزب من غلبا قال الجاحظ في كتاب الأمصار الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والحسن بهراة، والمروءة ببلخ، والبخل بمرو، والعجائب بمصر، قلت وكلّ ذلك في كلّ أحد غاية ما في الباب، أن ذلك في هند أظهر منه في دعد، ومن أكثر من شيء نسب إليه. فائدة قيل ليس في الدنيا شجرة إلا وهي توجد بمصر، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. ويوجد في مصر كلّ وقت من الزمان كثير من المأكول والمأدوم والمشموم، وسائر البقول والخضر صيفاً وشتاءً، لا ينقطع منه شيء لبرد ولا حر.

أقول وكلّ ذلك لا يقوم بساعة من منادمة بعوضها وبرغوثها الذي لا سبيل إلى السلامة منه. وعلى ذكر البرغوث لا جمع الله به: ثلاثُ باءاتٍ بلينا بها ... البقُ والبرغوثُ والبرغشُ ثلاثة أوحش ما في الورى ... ولستُ أدري أيّها أوحشُ ويقول الفيومي: وخليل يقول لما رآني ... أبدا أوسع البراغيث ذمّا إن في اسم البرغوث براً وغوثاً ... قلت لكنْ الاسم غير المسمّى وقال آخر: لا تكره البرغوث إن اسمه ... بِرُّ وغَوْثٌ لك لو تدري فبِرّهُ مصُّ دمٍ فاسدٍ ... والغَوْثُ إيقاظُك للفجرِ وقال آخر: لا بارك اللُه في البعوضِ ولا ... بوركَ في البقِ والبراغيث تناهبونا كأنَّهم عرب ... أو أمنا الحكم في المواريث وقال آخر: رقصت براغيث الشتا فأجابها ال ... ناموس فيه بالغناء المعلمِ وتواجد البق الكثيف بطبعه ... طرباً على شرب المدامة من دمي وقال آخر: بعوض جعلن دمي قهوة ... وغنينني بضروب الأغاني كأن عروقي أوتارهن ... وجسمي الرباب وهن المغاني وقال: لقد قسم الله البراغيث في الورى ... فأوفر منها عند قسمتها قسمي

الطريق إلى مكة المشرفة

أنوحُ لما ألقى فتزعم أنني ... أغني فما تنفك ترقصُ في جسمي وقال: لا سقى الله بلدة كنت فيها ... البراغيث كلّهم أكلوني قرصوني حتى تنمّر جلدي ... لو خلعت الثياب لم تعرفوني وقال: أنزلنا الدهر على معشر ... تغر بالناس أحاديثهم فما أكلنا من ضيافتهم ... ما أكلت منا براغيثهم فائدة لدفع البرغوث: يؤخذ عود نخل أو رمان ويكتب عليه: أيها البراغيث السود إنَّما أنتم جند من الجنود، أقسمت عليكم بعهد عاد وثمود إلا ما طلعتم على هذا العود، ولا أقتل منكم والداً ولا مولوداً، والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ويوضع في أحد أركان البيت، فإنه تجتمع عليه ما جرت به عادة هذه العزيمة ومن شرطها الهمة وهي العزم الجازم!! إذا تخلفت أمراً كنت تعهده ... يجري الزمان على مجرى عوائدهِ فإنَّما أنت لم تكمل شرائطه ... وإن ذاك التواني من فوائدهِ الطريق إلى مكة المشرفة المحامل السلطانية وجماهير الركبان لا تخرج إلا من أربع جهات: مصر، ودمشق، وبغداد، واليمن. فيخرج الركب المصري بالمحمل السلطاني والسبيل المسبل للفقراء بالماء والزاد والأدوية، والكحالين والأئمة والمؤذنين، والأمراء والجند، والقاضي والشهود والأمناء، وإذا نزلوا منزلاً أو رحلوا منه، تدق

الكوسات وينفر النفير، ليؤذن بالنزول والرحيل، فإذا خرج الركب من القاهرة نزل البركة، وهي على عشرة أميال من القاهرة، فيقيم عليها ثلاثة أيام أو أربعة ثم يرحل إلى السويس في خمس مراحل، ثم إلى نخل في مثلها، وفيه برك من عمل أمراء المشورة في الدولة الناصرية، ثم يرحل إلى أيْلَة في خمس مراحل وبها العقبة العظمى، فينزل منها حجز بحر القلزم، ويمشي على حجزه حتى يقطع من الجانب الشمالي إلى الجانب الجنوبي ويقيم به أربعة أيام وبه سوق عظيم، ثم يرحل إلى بئر مدين وبه مغاير شعيب عليه السلام، وعلى مائها سقى موسى عليه السلام غنم بنات شعيب، ثم يرحل إلى عيون القصب في مرحلتين، ثم إلى المويلح في ثلاث مراحل، ثم إلى الأزلم في أربع مراحل، وماؤه من أقبح المياه، ثم إلى الوجه في خمس مراحل وماؤه من أعذب المياه، ثم إلى أكره في مرحلتين وماؤه من أصعب المياه في هذا الطريق، ثم إلى الحوراء وهي ساحل بحر القلزم في أربع مراحل وماؤه يشبه ماء البحر لا يكاد يشرب، ثم إلى نبط في مرحلتين وماؤه من أعذب المياه، ثم إلى ينبع في خمس مراحل ويقيم بها ثلاثة أيام، ثم إلى الدهناء في مرحلة، ثم إلى بدر في ثلاث مراحل، وهي مدينة حجازية بها عيون وجداول وحدائق، ثم إلى رابغ في خمس مراحل وهي ناحية الجحفة التي هي الميقات، ثم إلى خليص في ثلاث مراحل وفي طريقه بئر عسفان، ثم يرحل من بطن مرّ إلى مكة المشرفة مرحلة واحدة، ثم يرجع إلى منازله إلى بدر فيعطف إلى المدينة النبوية، فيدخل إلى الصفراء مرحلة، ثم إلى ذي الحليفة في ثلاث مراحل، ثم إلى المدينة في مرحلة، ثم يرجع إلى الصفراء ويأخذ بين جبلين في فجوة تعرف بنقب عليّ، حتى يأتي الينبع في ثلاث مراحل، ثم يستقيم على طريقه إلى مصر. وأما قدوم المبشّر بسلامة الحاج فله حكمة لطيفة، وهي أن الدابة تخرج

القاهرة المعزية

من جبل جياد في أيام التشريق والناس بمنى، على ما رُوي، فذلك سابق الحاج يخر بسلامة الحاج كذا في المحاضرة. القاهرة المعزية وأما القاهرة المعزية فالأصل في بنائها جوهر الصقلي، قائد المعز صاحب المغرب ومصر، وهو أول من ملكها من الفاطميين، وذلك لما مات كافور الإخشيدي صاحب مصر جهز المعز القائد جوهر إليها بعسكر عظيم، ومعه ألف حمل من السلاح ومن الخيل ما لا يوصف، فلما انتظم حاله وملك مصر ضاقت بالجند والرعية، فاختطّ سور القاهرة وبنى بها القصور وسَمّاها المنصورة وذلك في سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، فلما قدم المعز من القيروان سمّاها القاهرة، والسبب في ذلك أن القائد جوهر لما قصد إقامة السور جمع المنجمين، وأمرهم أن يختاروا طالعاً لحفر الأساس وطالعاً لرمي الحجارة، فجعلوا قوائم من خشب وبين القائمتين حبل فيه أجراس، وأفهموا العمال أنه ساعة تحريك الأجراس يرمون ما بأيديهم من الطين والحجارة، ووقف المنجمون لتحرير هذه الساعة وأخذ الطالع، فاتفق وقوع غراب على خشبة فتحركت الأجراس، فألقى العمال ما بأيديهم فصاح المنجمون: لا، القاهر في الطالع. وخانهم ما قصدوه وكان قصدهم أن يختاروا طالعاً فلا يخرج الملك عن نسلهم، فوقع أن المريخ كان في الطالع ويسمى عندهم القاهر، فعلموا أن الأتراك لا تزال هذه البلدة في أيديهم وأنهم لا بد أن يملكوا هذه الأقاليم، فلما قدم المعز أخبروه بذلك فوافقهم على أنها تؤول للأتراك، وسَمّاها القاهرة، فكان كما قيل وملكها الترك إلى يومنا هذا، انتهى. من السكَّردان. وفي ذلك يقول:

نبكي على مصر وسكانها ... مذ خربت أركانها العامره وأصبحت للروم مقهورة ... من بعد ما كانت هي القاهره حكى المقريزي أن قاهرة المعز رابع موضع انتقل إليه سرير السلطنة من أرض مصر في الدولة الإسلامية، ويشتمل على القصرين دارَيْ الخلافة، وهما القصر الكبير الشرقي، وهو منزل سكنى الخليفة ومحل حريمه، والآخر الغربي ويتحوّل إليه الخليفة أيام النيل للنزهة على الخليج والمتنزهات الغربية وهما متقابلان. وللفقيه عمارة يرثي العاضد وهو آخر الفواطم: يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لكَ الملامةُ إن قصرت في عذلي تالله زر ساحة القصرين وابكِ معي ... عليهما لا على صفين والجملِ

وأما معاملة مصر فقال في المسالك: الدراهم ثلثاها فضة وثلثها نحاس، والدرهم ثمانية عشر حبّة خروب وهي ثلاث قمحات، والمثقال أربعة وعشرون خروبة، والدرهم قيمته ثمانية وأربعون فلساً، والدينار الحبشي ثلاث وعشرون درهماً. (وأما الكيل) فالإردب ست ويبات، والويبة أربعة أرباع، والربع أربعة أقداح، والقدح مائتان واثنان وثلاثون درهماً، ويختلف الكيل في أريافها، والرطل اثنا عشر أوقية، وهي اثنا عشر درهماً. كذا في المحاضرة. ولله در القائل: لا ترقب النجم في أمر تحاولهُ ... فالله يفعل لا جَدْيٌ ولا حملُ مع السعادة ما للنجم من أثرِ ... ولا يضرك مريخ ولا زحل

وعلى ذكر الدراهم لبعضهم: إن الدراهم شأنها ... ألمٌ يشقُّ على الكرامِ الضرب أول أمرها ... والحبس في أيدي اللئامِ وقال يزيد بن حاتم: إنا إذا اجتمعت يوماً دراهمنا ... ظلت إلى طرق المعروف تستبقُ لا يألف الدرهم المضروب صرّتنا ... لكن يمرُّ عليها وهو منطلقُ وقال آخر ملغزاً فيه: يا فاضلاً فاق في المعاني ... وهو بإحكامها خبير ما اسم إذا المرء لم يصبه ... أصابه نصفه الأخير وحكى الواقع من قال: النار آخر دينار نطقت به ... والهم آخر هذا الدرهم الجاري والمرء ما دام مشغوفاً بحبها ... مكبل القلب بين الهمِّ والنار وعارضه من قال: الدين أوّل دينار نطقت به ... والدرءُ للهم فيّ الدرهم الساري كالقلب ذا وضياء العين ذا وهما ... كم يصلحان أمور الدين والدارِ حكى المقريزي أن مصر ذكرت في القرآن بضعاً وعشرين موضعاً كناية وتصريحاً.

نكتة

قال السيوطي: بل أكثر من ثلاثين موضعاً، وقال: عدة من دخلها من الأنبياء وفاقاً وخلافاً، اثنان وثلاثون، غير النسوة الأربع، وهن: مريم، وسارة، وآسية، وأمّ موسى واسمها يوحانذ، وأسماء أم موسى ألفاظ يتصرّف بتلاوتها. وقد نظمت في ذلك أبياتاً مشهورة، فقلت: قد دخلتْ مصر فيما قد رُويَ زمرٌ ... من النبيين زادوا مصر تأنيسا فهاك يوسف والأسباط اخوته ... يوحانذا وخليل الله إدريسا لوطاً وأيوب ذا القرنين خضر سلي ... مان أرميا يُشع هارون مع موسا شيثاً ونوحاً وإسماعيل قد ذكروا ... لازال من أجلهم ذا المصر مأنوسا وبعده سارة لقمان آسية ... ودانيال وشعيا مريماً عيسى وحُكي أن يوسف الصديق عليه السلام، لما دخل مصر وأقام بها قال: اللهم إني غريب فحببها إليّ وإلى كلّ غريب، فلا يدخلها غريب إلا أحب المقام بها. نكتة قال الكندي: قال تعالى حكاية عن يوسف الصديق وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو فجعل الشام بدواً، وسَمّى مصر مدينة، حكاه في المحاضرة. وفي قوله وجاء بكم من البدو إشارة إلى تفضيل المدن على البادية، ومنه: اللهم اجعلني حضرياً تقياً ولا تجعلني بدوياً شقياً. وإني على ما فيّ من حضرية ... ليعجبني ظل الخباء المطنّب لطيفة قيل خلقت الدنيا على خمس صور الطير برأسه وصدره وجناحيه وذنبه، فالرأس مكة والمدينة واليمن، والصدر الشام ومصر، والجناح الأيمن العراق، والجناح الأيسر الهند والسند، والذنب من ذوات الحمام إلى مغرب الشمس. فائدة حكى المقريزي أن مطلع الشمس سهيل في سمت قبلة مصر،

ما قيل في مصر

وأما عرض مصر فثلاثون درجة، وطولها خمس وخمسون، على ما تحرر من الأزياج. تتميم: أوّل من مَلَك الحرمين من آل عثمان: السلطان سليم بن بايزيد بن محمد بن مراد، وذلك لما افتتح مصر وحلب والشام، في سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة، وفيها قتل الغوري بمرج دابق، وله قصة طويلة يطول شرحها، والسبب المعنوي في خراب مملكته، بتحقيق خبر ما عادانا بيت إلا خرب، ولا عوانا كلب إلا جرب أنه قتل طائفة من بني إبراهيم من أشراف ينبع، وبنى من رؤوسهم مسطبة جلس عليها أمراء عساكره. قال القبطي وكان السلطان سليم شهماً عزيزاً، اشتهر عنه بيتان من الشعر تناقلتهما الركبان، ورأيتهما بخطه الشريف، في علو المقياس، على الكشك الذي بناه لما فتح مصر وسكن الروضة، وهما قوله: الملك لله من يظفر بنيل منىً ... يتركه قهراً ويضمن بعده الدَرَكا لو كان لي أو لغيري قدر أنملة ... فوق الترابِ لكان الأمرُ مشتركا وتحته ما صورته: وكتبه سليم. إلا أنه قد انمحى لطول الزمان مداده، ومال إلى لون البياض سواده، وتوفي بعد ذلك بثلاث سنين، وشريف مكة إذ ذاك السيد بركات وولده أبو نمي محمد، قاله في الأعلام. الكونُ عندي كالخيالِ حقيقة ... في شكلهِ وعمومهِ وخصوصه يبدي الخيالَ إلى الشخوصِ تواضعا ... والناطق الفعال غيرَ شخوصه ما قيل في مصر من الأشعار الرائقة والنكت الفائقة فمن ذلك قول الشهاب الرومي: إذا رمت صبراً عند فقري ببلدتي ... يقول الحيا لن تستطيع معي صبرا

وإن قلت إن الشام أشرف منزل ... سمعت لسان الحال قال اهبطوا مصرا وقال مقتبساً: ما مصر إلا منزل مستحسن ... فاستوطنوه مشرّقاً ومغرّبا هذا وإن كنتم على سفرٍ بهِ ... فتيمموا منه صعيداً طيبا وقال آخر: رعى الله مصراً كم بها من مسرةٍ ... ومنزل أنس لاحَ كالطالعِ السعدِ رويت الهنا عن سدها يومَ كسرها ... فها أنا مهما عشتُ أروي عن السدِّي وقال آخر: اشرب على مقياسِ مصر وغنِّ لي ... من روضةِ المعشوقِ في عشاقِ وافخر بمصرَ على البلادِ فنيلها ... يعلو على الأوصافِ باستغراقِ وقال الفيومي: تعلّم هذا النيل من خُلقي الوفا ... لسكانِ مصرَ لهف قلبي على مصرِ وحاكاهُ دمعي حمرةً وصبابةً ... كما قد حكاني في احتراقي وفي كسري وقال: إذا سلسلوا من مصر رأس خليجها ... فما ذاك من نقصٍ يلوح لفاضلِ وما قصدوا إلا ليصدق أنه ... يُقاد إلى جنّاتها بالسلاسلِ وقال: البدرُ فوقَ النيلِ قد ... ألقى شعاعاً يأتلقْ

فحكى مِسَنّّاً أَزرقاً ... وعليهِ حكٌ من ورِقْ وقال: الشمسُ فوقَ النيلِ قد ... ألقت شعاعاًً كاللهبْ فحكى مِسَناً أخضراً ... وعليه حك من ذهبْ ولابن أبي حجلة: سقى السفح من ذيل المقطم عارضٌ ... تعارضه من دمع عيني مواطرُه فكم فيه من صب قضى وغرامه ... أوائله لا تنقضي وأواخرُه وقال البدر: عاتبتُ هذا النيل في تركِ الوفا ... فأجابني حالاً بغير توقفِ سأفي وإن خانوا وأصلحُ بينهم ... ما كدتُ أفسدهُ ومثلي من يفي وقال آخر: أتطلبُ من زمانكَ ذا وفاء ... وترجو ذاكَ جهلاً من بنيهِ وقد عدم الوفاء به وإني ... لأعجبُ من وفاءِ النيلِ فيهِ وقال الدماميني: رعى الله مصراً إننا في ظلالها ... نروحُ ونغدو سالمين من الجهدِ

ونشربُ ماَء النيل فيها براحة ... وأهل زَبيد يشربونَ من الكدِّ وقال الفيومي: إن مصراً نزهةُ الدنيا ... غاية المقصودِ والسولِ مذ رأى الباري محاسنها ... ردّ عنها العينَ بالنيلِ وقال ابن الوردي: ديارُ مصرَ هي الدنيا وساكنها ... هم الأنامُ فقابلهم بتقبيلِ يا من يباهي ببغداد ودجلتها ... مصر مقدمة والشرحُ للنيلِ وقال الفيومي: أُنظر إلى النيلِ وجرمِ السما ... وماله من حسن تخييلِ وصبغة اللهِ التي أظهرت ... لنا السماويَ من النيلِ وله أيضا: جميعُ الأرضِ فيها طيبُ عيشٍ ... ولذاتٍ وروضاتٍ أنيقه ولكن كلّ ذا في غير مصر ... مجازٌ وهو في مصر حقيقه وقال: عدلت أيادي النيلِ في تقسيمها ... لِنداهُ للخلجانِ والأنهارِ أكرم بهذا النيلِ من ملكٍ غدا ... في عدلهِ يمشي على الآثارِ وقال: تأملِ البحرَ والبدر المنيرَ وقل ... جلََّ المؤلفُ بين الماءِ واللهبِ كأنَّما الريحُ فوقَ الماءِ قد نسجت ... درعاً فحلاهُ نورُ البدر بالذهبِ وقال: ولما رأيتُ الشمسَ عندَ طلوعها ... ونحن بوسطِ البحرِ في النيلِ من مصرِ

تخيلتُ هاتيكَ القلوعِ وسفنها ... قصورٌ نضار والقصور بنا تجري وقال ابن نباتة: آهاً لمصر وأين مصر وكيفَ لي ... بديارِ مصرَ مرتعاً وملاعبا والدهرُ سلم كيفما حاولته ... لا مثلَ دهري في دمشق محاربا أنشد المصري: أرى أهل الشآمِ يفاخرونا ... وتلكَ وقاحةٌ فيهم وخصلَه وكيف يفاخروا بالشامِ مصراً ... وشهوة كل من لهُ في الشامِ نخلَه وقال الشامي: يا أهل مصر بوادينا المقدسِ من ... فواكهٍ تشتهوها في منازلكم أنتم زعمتم بأن النخل شهوتنا ... نعم صدقتم ولكن في سواحلكم وقال الفيومي: ينازع تفضيليَ الشام مغرضٌ ... كأنّي به قد ماتَ فيما ينازعُ وليس احتراق البحرِ إلا لأنَّه ... على كسرهِ فاتتهُ تلك المواضعُ وقال: مصرُ مناي ومنتهى أربي ... زمن الربيع وبركة الرطلي والشامُ في أيامِ ربوتها ... وزهوها معدومة المثلِ وقال آخر يصف مصراً: بها ما يلذُ العيشِ من حسنِ منظرٍ ... وما ترتضيهِ النفسُ من شهواتها زمردةٌ خضراء قد زين قرطها ... بلؤلؤةٍ بيضاَء من زهراتها وأصل هذا النظم ما قيل في وصفها أنها ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء، وثلاثة أشهر سبيكة حمراء، كذا في كتاب النوادر والأخبار. وقال الصفدي: في أهلِ مصر معانٍ ... من لطفهم تستفادُ

مشهد سيدنا الحسين وذكر مقتله

ورقةٌ في طباعٍ ... بها على الناسِ سادوا وقال: لا تغالي بمدح مصر وقصّر ... فهي دار سراتها الأوغادُ إن مصراً وإن تغاليت فيها ... جُمعت في صفاتها الأضداد وقال ابن أبي حجلة: دع عنك مصرَ فأهلها بعد الوفا ... ألفوا الجفا وتحجّبوا في الأبنيه قُلبتْ بها الأعيانُ حتى أنني ... شاهدتُ سعد الدين سعد الأخبيه وأصل هذا الشعر ما يحكى أن شهاب الدين القوصي، كان يوماً عند الملك الأشرف، فدخل عليه سعد الدين الحكيم وكان بينهما وحشة، فقال له الأشرف: يا شهاب الدين ما تقول في سعد الدين؟ فقال: هو عندك سعد السعود وعلى السمّاط سعد بلع، وعند المرضى سعد الذابح، وعند الضيف سعد الأخبية، فضحك الملك لذلك وأصلح بينهما، وأمر لكلّ منهما بتشريف. وقيل في باب زويلة: يا صاحِ لو أبصرت بابِ زويلة ... لعلمت قدرَ محلهِ بنيانا لو أن فرعوناً رآهُ لم يرد ... صرحاً ولا أوصى بهِ هامانا مشهد سيدنا الحسين وذكر مقتله وأجل فضيلة سمح بها الزمان لكليم البين، زيارة مشهد سيدنا الحسين، نفعنا الله تعالى بأنفاسه الطيّبة، ووالى على ضريحه شآبيب رحمته الصيّبة، والحسين هذا هو أبو عبد الله بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وأمه فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد سنة أربع وقتل سنة إحدى وستين من الهجرة، بكربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة، وإلى ذلك ينظر أبو عبد الله الفيومي حيث يقول:

تركتُ جفني واصلاً والكرى ... راء فجُدْ بالوصلِ فالوصلِ زَيْنُ ولا تجبني يا حياتي بلا ... فالقلبُ يخشى كربَ لا يا حُسيْنُ واختُلِف في قاتله لاجتماعهم على قتله، فقيل سنان بن أنس النخعي وقيل رجل من مذحج وقيل شمر ابن ذي الجوشن وقيل عمر بن سعد. = ومن تفكر في الدنيا وغايتها ... أقامهُ الفكرُ بين العجزِ والتعبِ - وكان الأمير على إخراج الخيل لقتاله عبيد الله بن زياد بأمر يزيد، كما حكاه السيوطي في التاريخ ولقد تجاوز الحد مَنْ قال إنَّما قتل الحسين بسيف جده ستُكتبُ شهادتُهم ويسألون. تنامُ النصارى واليهود بأمرهم ... ونوم بني الزهراء نوم مشرّد وما هي إلا رِدةٌ مستحيلةٌ ... وكفر قديم بالحديث ِيجدّد وكان الأمير على السرية عمر بن سعد بن أبي وقاص، وكان السبب في ذلك غرور أهل العراق وكان يقال: بلوتُ الناسَ قرناً بعد قرنٍ ... فلم أرَ غيرَ خَتّالٍ وقالي ولم أر في الخطوب أشد وقعاً ... وأصعب من معاداة الرجالِ وذقت مرارة الأشيا جميعا ... فما شيء أمر من السؤالِ ولما تبيّن له الغدر أراد الرجوع فمنع من ذلك، فلما كان يوم الجمعة الثالث من المحرم قدم عمر في أربعة آلاف، وبعث بخمسمائة فارس فنزلوا

على الماء وحالوا بينه وبين الحسين. ونادى منادياً: يا حسين لا ترى الماء حتى تموت عطشاً. ثم إن عمر كتب إلى ابن زياد: أما بعد فإن الله تعالى قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وقد أعطاني الحسين عهداً أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه، أو أن يسير إلى أي ثغر شئنا، أو أن يأتيَ يزيد فيضع يده في يده. فكتب إليه أما بعد، فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتمنّيه، ولا لتعقد له عندي شافعاً، أعرض عليهم النزول على حكمي، فإن أبوا فقاتلهم ومثِّل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، فإن قُتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عاق شاق ظلوم. فلما أتاه الكتاب ركب إلى الحسين وقال له: جاء الأمر بكذا، ثم إن عمر خرج فيمن معه، والحسين في أصحابه. في موقفٍ وقفَ الحِمامُ عليهم ... في ضنكة واِستحوذَ اِستحواذا فأخذ عمر سهماً ورمى به وقال: اشهدوا أنّي أول من رمى. وحمل أصحابه فصرعوا رجالاً وأحاطوا بالحسين وقاتلوه، فأدماه رجل من كندة يقال له مالك، فأخذ دمه بيده وقال اللهم إن كنت حبست عنّا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، واشتدّ عطشه فدنا ليشرب، فرماه ابن تميم بسهم فوقع في فمه، فتلقى الدم بيده ورمى به إلى السماء وقال: بعد حمد الله والثناء عليه. اللهم إني أشكو إليك ما يصنع بابن بنت نبيك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. فأقبل شمر في نحو عشرة إلى منزل الحسين، وحالوا بينه وبين رحله، وأقدم عليه وهو يحمل عليهم، وقد بقي في ثلاثة، ومكث طويلاً من النهار، ولو شاءوا قتله لقتلوه، ولكن كان يتّقي بعضهم ببعضهم، ويحب هؤلاء أن يكفهم هؤلاء، فنادى شمر في الناس: ويحكم ما تنتظرون بالرجل؟ فحملوا عليه من كلّ جانب، فضرب كفّه اليسرى وعاتقه ابن شريك التميمي، فحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع، وقال لخولة الأصبحي احتز رأسه، فأرعد وضعف، فنزل إليه وذبحه وأخذ رأسه فدفعه إلى خولة وسلب الحسين ما كان عليه حتى سراويله، وانتهبوا متاعه وما على النساء، وصنعوا ما صنعوا وما عسى أن نقول؟

وقسَت منهم قلوبٌ على من ... بكت الأرضُ فقدهم والسماءُ فابكهم ما استطعتَ إنّ قليلاً ... في عظيمٍ من المصابِ البكاءُ ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وأربعون ضربة، ثم نادى عمر من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه. فانتدب عشرة فداسوه بخيولهم حتى رضوا ظهره وصدره. مصائبُ شتى جمعت في مصيبةٍ ... ولم يكفها حتى قفتها مصائبُ وكان عدة من قتل معه اثنين وسبعين رجلاً، ومن أصحاب عمر ثمانية وثمانين غير الجرحى، ثم دفن في اليوم الثاني بالطفّ حيث قتل، وفي ذلك قيل: بالطفّ لي أسوةٌ في كلّ حادثةٍ ... فهات يا دهرُ ما أعددت من محنْ ما كنتُ أدري الليالي في غوائلها ... تسقي الحسينَ الردى والسمَّ للحسنْ ثم بعث عمر بن سعد برأس الحسين ورؤوس أصحابه إلى ابن زياد، ودخل خوله بن يزيد الأصبحي على ابن زياد برأس الحسين وهو ينشد: املأ ركابي فضةً وذهبا ... إني قتلتُ السيدَّ المُحجّبا قتلتُ خيرَ الناسِ أماً وأبا ... وخيرهُم إذ ينسبون نَسبا فوضع الرأس بين يدي ابن زياد، فكان ينكت ثنايا الحسين بقضيب كان في يده، وزيد بن أرقم حاضر وهو يقول له: اكفف، فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبّل هذه الثنايا. وإذا البيناتُ لم تغنِ شيئاً ... فالتماسُ الهدى بهنٍٍَّ عناءُ ثم بعد يومين دخل الكوفة عمر ومعه ثياب الحسين وأخواته، وفيهم عليّ بن

الحسين، وهو مريض، فأدخلهم علي بن زياد، وطيف برأس الحسين على خشبة في الكوفة، ثم بعث به إلى يزيد بن معاوية. خرجوا بهِ ولكلِّ باكٍ خلفهُ ... صعقاتُ موسى يومَ دُكَّ الطورُ والشمسُ في كبدِ السماءِ مريضةٌ ... والأرضُ واجفةُ تكادُ تمور وأرسل معه النساء والصبيان على الأقتاب، والأغلال في عنق علي بن الحسين وفي يديه، إلى أن جيء برأس الحسين فوضع بين يدي يزيد في طست، فأمر الغلام فرفع الثوب الذي كان عليه، فلما رآه ستر وجهه بكمه كأنَّه اشتمَّ من رائحة، وجعل يقرع ثناياه بقضيب كان في يده وهو يقول: الحمد لله الذي كفانا المؤونة، (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله)، ومكث الرأس مصلوباً بدمشق ثلاثة أيام، ثم تُرك في خزائن السلاح، والقصة أشهر من نار على علم، وقد أفردت بالتأليف. وإنَّما ذكرت هذه النبذة ردعاً للنفس عند تطورها وتهورها، وإلا فما ثمرة الأسف؟ والعتب على الماضي عبث. ودع عنكَ أمراً قد مضى لسبيلهِ ... ولكن على ما نالكَ اليوم فاقْبِل وما أوقع ما قال: يقدح الدهر في شماريخ رضوى ... ويحطّ الصخورَ من هبّودِ يحكم اللهُ ما يشاءُ ويُمضي ... ليسَ حكم الإلهِ بالمردودِ وقال وما يجدي المقال: بعضُ الذي نالنا يا دهرُ يكفينا ... فامنن ببقيا وأودعها يداً فينا إن كان قصدكَ إرضاَء العدو بنا ... فدون هذا به يرضى مُعادينا

قصة

وقال آخر: آل حربٍ أوقدتم نارَ حربٍ ... ليس يخبو لها الزمان وقودُ فابن حرب للمصطفى وابن هند ... لعلي وللحسينِ يزيدُ وما أحسن ما قال: طالع تواريخَ من في الدهر قد وجدوا ... تجد هموماً تُسلّي عنك ما تجدُ تجد أكابرهم قد جُرّعوا غُصصاً ... من الرزايا بها كم فُتّتت كبدُ رُوي عن ابن عباس أنه قال: رأيت النبي صلوات الله عليه وسلم فيما يرى النائم نصف النهار، وهو قائم أشعث أغبر وبيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمي ما هذا؟. قال: هذا دم الحسين، لم أزل ألتقطه منذ اليوم. فكان قتله في ذلك اليوم. وكذلك رأت أم سلمة وقالت: سمعت الجن تبكي على الحسين وتنوح عليه. وأخرج ثعلب في أماليه عن أبي حباب الكلبي، قال: أتيت كربلاء فقلت لرجل من أشراف العرب بها: بلغني أنكم تسمعون نواح الجن؟ فقال: ما تلقى أحداً إلا أخبرك أنه سمع ذلك. قلت: فأخبرني ما سمعت أنت. قال: سمعتهم يقولون: مَسَحَ الرسولُ جبينه ... فله بريق في الخدودِ أبواهُ من عليا قري ... شٍ وجَدُّه خيرُ الجدودِ وقال السدّي: لما قتل الحسين بكت السماء عليه، وبكاؤها حمرتها. وعن عطاء في قوله تعالى فما بكت عليهم السماء قال: بكاؤها حمرة أطرافها. وقيل مكثت السماء محمرّة الجوانب ستة أشهر، ثم لا زالت الحمرة فيها بعد ذلك، ولم تكن ترى فيها قبله، حكاه ابن حجر. وعلى الأفقِ من دماءِ الشهيد ... ين علي ونجله شاهدان فهما في أواخرِ الليلِ فج ... ران وفي أولياتهِ شفقان قصة حكي أن الإمام زين العابدين لما أُتيَ به إلى يزيد قال له: أنت ابن الذي قتله الله!؟ فقال: أنا ابن الذي قتله الناس. فقرأ يزيد وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فتلا الإمام زين العابدين ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها فلم يُحِرْ يزيد جواباً. وهذا من أعظم مواقف الحيرة، وإن تشعّب فيه طرق التأويل.

(وأما المشهد) فقال المقريزي: إن الأفضل ابن أمير الجيوش خرج في سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى البيت المقدس، ولما دخل عسقلان أخرج رأس الحسين من مكان دارس، فعطّره وحمله إلى القاهرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وبنى بها ذلك المشهد الذي يشهد له بالإحسان، وكان الذي نقله إلى عسقلان من دار السلاح سليمان بن عبد الملك، ولما تكامل البناء حمل الرأس على صدره، وسعى به ماشياً إلى أن أحله في مقره، فكان كما قيل: وضعوهُ في جَدَثٍ كأن ضريحهُ ... في قلبِ كلّ موحدٍ محفورُ فيه السماحةُ والفصاحةُ والتقى ... وترابُ تربة قبرهِ الكافورُ وفي هذا المجال قال من قال: عجباً لهذا الدهرِ في أفعالهِ ... رأسٌ بمصر وجثة في كربلا يا قلب إن لم تعتبر مما ترى ... في الكونِ من تصريفهِ كرُّ البلا وقد اعتنيَ الدهر بهذا المشهد، وصاروا لله المنة من أحسن عمارات مصر، وعلى التربة رباط في غاية المحاسن، ومرتّبات يؤدى واجبها. ولهذا المشهد يوم من السنة وهو يوم عاشوراء، وفيه يقول البوصيري: كل يومٍ وكل أرضٍ لكربي ... منهم كربلا وعاشوراء وهو يوم تجديد الأحزان، وتغيير وجه الزمان، ولو لم يكن فيه إلا إحياء سنة أكثروا من ذكر هاذم اللذات وإن أعرضت عن ذلك نفوس همتها قتل المذكور بقتل الذكر، إذ ليس في يدها غير ذلك. ولقد قيل:

أترجو أمة قتلت حسيناً ... شفاعةَ جدِّه يومَ الحسابِ وللشيعة في هذا اليوم سُنن، منها عدم الاكتحال، وتلطّف في ذلك من قال: ولائمٌ لامَ في اكتحالي ... يومَ أراقوا دمَ الحسينِ فقلتُ دعني أحق عضو ... فيه بلبس السواد عيني ومنها الندب والنياحة، وإلى الصبر مصير الجزع، وما أحسن ما قال المتنبي: علينا لك الإسعادُ إن كان نافعاً ... بشقِ قلوبٍ لا بشقِ جيوبِ وقد فارقَ الناسُ الأحبةَ قبلنا ... وأعيا دواءُ الموت كلّ طبيبِ ومن المزارات التي بمصر مشهد السيدة نفيسة طيّب الله ثراها، وهي بنت الحسن ابن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أمها أم ولد، ولدت بمكة سنة أربع وخمسين ومائة، وقدمت مصر سنة إحدى وسبعين، وبها نشأت وتزوجت بإسحاق المؤتمن بن الإمام جعفر الصادق، فولدت منه القاسم وأم كلثوم ولم يعقبا، وكانت من الزهد والصلاح على ما لا مزيد عليه، وحجّت ثلاثين حجة، وكانت تحفظ القرآن وتفسره، ولا تأكل إلا في ثلاثة أيام أكلة واحدة. ويحكى أن النيل توقف مرة فَرُفع إليها خَبَرُه، وما حصل بسببه من القحط، فأمرت أن يلقى قناعها في النيل، فلما أُلقيَ زاد النيل، كذا في الخطط! ومن المزارات بمصر تربة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وفي ذلك قيل: لما خشيتُ من الجحيمِ وحرِّها ... خوفاً وقد ضاقت عليّ مسالكي زرتُ الإمامَ الشافعي لعلني ... أجدُ الرضى بالشافعي من مالكي بِتُّ بها ليلة تجاه ذلك القبر المُعطّر، والقراء حوله يتلون الكتاب المطهّر، بأحسن أداء يتحرك له الجماد ويصفو له الفؤاد، فبتنا تلك الليلة نحييها، ونميت النوم ونعصي بالسهر أمره، فماله من سلطان على أعين القوم، وكانت ليلة سبت مبارك، جاد بها الدهر من فضل الله تعالى وتبارك. يا ليلة مرَّت لنا حلوة ... بها انتصفنا من صروفِ الزمانِ كانت على وفق المنى ليلة ... كم جهد قولي كان فيها وكان قال في إمتاع الأسماع: ولم يزل قبر الشافعي مزاراً يتبرك به إلى سنة ثمان وستمائة، حيث انتهى بناء هذه القبة التي هي على ضريحه، وقد أنشأها الملك العادل ابن

القرافة

أيوب، وبلغت النفقه عليها خمسين ألف دينار، وقال الشعراء في شأن هذه القبة وأكثروا، فمن ذلك: أتيت لقبرِ الشافعي أزورهُ ... فعارضني فُلكٌ وما عنده بحرُ فقلتُ تعالى الله تلك إشارةٌ ... تشيرُ بأنَّ البحرَ قد ضمه قبرُ وقال النابلسي: لقد أصبحَ الشافعي الإمامٌ ... وفينا له مذهبٌ مُذهبُ ولو لم يكن بحر علمٍ لما ... غدا وعلى قبرهِ مركبُ القرافة والقرافة على نحو ميلين من القاهرة، قال في المُغْرِبْ في أخبار المَغْرِب وبت ليالي بقرافة الفسطاط وهي في شرقيها، وبها قبور عليها مبانٍ معتنى بها، وفيها القبة المزخرفة التي فيها قبر الإمام الشافعي، وبها مسجد وجامع، ومدرسة كبيرة للشافعية، وترب كثيرة، ولا تكاد تخلو من الطرب ولا سيما الليالي المقمرة، وهي أعظم مجتمعات أهل مصر. وفوق القرافة من شرقيها جبل المقطم، وليس له علو ولا عليه اخضرار، وإنَّما يقصد للبركة والإجماع على أنه ليس في الدنيا مقبرة أعجب منها، ولا أبهى من أبنيتها، ولا أحسن تربة منها، كأنَّها الكافور والزعفران، مقدسة في جميع الكتب، من أشرف عليها رآها كأنَّها مدينة بيضاء، والمقطم عليها كأنَّه حائط من ورائها. وقال شافع بن علي: تعجبتُ من أمر القرافة إذ غدت ... على وحشة الموتى لها قلبنا يصبو فألفيتها مأوى الأحبة كلّهم ... ومستوطن الأحباب يصبو له القلبُ

وقال آخر: إذا ما ضاقَ صدري لم أجد لي ... مقر نزاهة إلا القرافه لئن لم يرحم المولى افتقاري ... وقلةَ ناصري لم ألقَ رافه وفيها تربة الليث بن سعد الحنفي ويكون عنده سُرُج وخيرات وجمع، بحيث لا يوجد في مكانه قدر شبر خالٍ من القراء والفقراء والزوار، وهو مجرب لتفريج المضايق، وفيه قيل: الليثُ قُدّس سرّه ... وزكا أريجاً نشرُه ما أَمَّهُ ذو كُربةٍ ... إلا وآذن بِشْرُه قال ابن خلكان: إن الليث كان حنفي المذهب وإنه ولي القضاء بمصر، وإن مالكاً أهدى إليه صينية تمر فأعادها مملوءة ذهباً، توفي سنة خمس وسبعين ومائة، وسمع من الهاتف عند دفنه: دُفن الليثُ فلا ليثَ لكم ... ومضى العلمُ غريباً وقُبِر وهنالك تربة الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض قدّس الله سره، وهي تحت العارض، وهو مفازة بجبل المقطم، وفيه يقول أبو الحسين القصاب: لم يبق صَيّبُ مُزْنةٍ إلا وقد ... وجبت عليه زيارةُ ابن الفارضِ لا غرو أن يروي الصديّ ولحدُهُ ... أبداً ليوم العرضِ تحت العارضِ ولابن حجلة: - سقى السفح من ذيل المقطّم عارضٌ ... تعارضهُ من دمع عيني مواطره

فكم فيه من صبٍ قضى وغرامه ... أوائله لا تنقضي وأواخره وهذه التربة تجلو عن القلب الصدأ، وترشده إلى سبيل الهدى، وفيها يجد الفؤاد من السرور ما يملأ ألف وادٍ، قال في البرق الوامض: ولد ابن الفارض لست وأربعين وخمسمائة، وحَدّث عن القاسم بن عساكر وسمع منه الحافظ المنذري وروى شعره، قال: وكان قد جمع بين الجزالة والحلاوة في شعره. وكان أبوه يتولى الفروض بالقاهرة، قال ابن خلكان: كان على قدم التجريد، كثير الخير، جاور بمكة زماناً، وكان محمود العشرة. وفي تذكرة الكندي قال: حدّث شيخنا شهاب الدين محمود، أن ابن الفارض كان قاضياً، فلما كان في بعض الأيام من يوم جمعة دخل المسجد للصلاة وقت الخطبة، فوجد شخصاً يغني فنوى تأديبه، فلما انقضت الصلاة وانتشر الناس، برز، فناداه المذكور أن أقبل، فلما أقبل أنشده: قسمَ الإلهُ الأمرَ بين عبادهِ ... فالصبُّ ينشد والخَلىّ يسبحُ ولعمري التسبيح خير عبادة ... للناسكين، وذا لقوم يصلحُ فكان ذلك سبب زهده وفراق رسوم تهامته ونجده، وفي تذكرة الصلاح للصفدي أنه لما اجتمع بالشيخ شهاب الدين السهروردي بمكة المشرفة أنشده:

في حالةِ البعدِ روحي كنتُ أُرسلها ... تقبّل الأرض عني فهي نائبتي وهذه نوبةُ الأشباحِ قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي وتوقف النيل في أيامه، فأرسل إليه الملك الكامل وهو بالروضة، فكتب رقعة وأمرهم أن يلقوها في النيل، فلما ألقوها فيه زاد وغمر البلاد، وهي هذه الأبيات: يا أيها النيلُ المباركُ إن تكن ... من عندِ ربكَ تأتِ فاجْرِ بأمرِه أو إن تكن من عند نفسك آتياً ... فالله يبسط بِرَّه في بَرِّه كم من بلاد لست تسلك أرضها ... ملأ الإله بيوتها من بِرِّه قال الصليبي اللعين بكفره ... والكفر يركض في جوانب صدرِه مسرى سرى والنيل أضحى واقفاً ... والدمع يجري من توقف بحرِه ومضى النسيء وليس فيه زيادة ... إن النسيء زيادة في كفرِه نحن الألى فزنا بجاه محمدٍ ... وبدينه وبفضله وبفخرِه فغنيّنا يرجوه ذُخْرَ غنائه ... وفقيرنا يرجو نداه لفقرِه يا بَرُّ إن البُرَّ أصبح غالياً ... فارخص بحق ما غلا من سعرِه وأفض على السد المبارك ماءه ... واكسره ربّ فجبرنا في كسرِه ومن أحسن ما رأيت بمصر المحروسة خان الخليلي فإنه كنز جمع من المحاسن أسناها، ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ومن سَعَته وتشعب طرقه يكاد يكون مدينة مستقلة، وفيه قيل: كلُّ أرضٍ قد تسامت ... باقتضا أمر جليلِ فعليها مصر جَلّت ... إذ حوت خان الخليلِ

بولاق

ورأيت بها محلاً يسمّى الماورديين، يحويه ثمانية أبواب، وهو مرتب الوضع متشعب، يكاد يضل فيه من لم يعرفه، بل ويقول بلسان الحال: لا تسلكن طريقاً لستَ تعرفها ... بلا دليلٍ فتهوى في مغاويها وقد جمع أنواع العطر وأصناف الثياب، إلى غير ذلك من المحاسن واللطائف، وبقربه صاغة اليهود، ولها سبعة أبواب، فلهما مناسبة بالجنة والنار، من حيث عدد الأبواب والكفر والإسلام. بولاق ومن محاسن مصر بولاق وما أدراك ما بولاق!!؟ ساحل ساح له السواح، وسحّ له سحاب الغدوّ والرواح، ودارت أفلاكه بالدراري، وجرت فُلْكه بخزائن الأرض في ذلك البحر الجاري، وغنّى في رياضه الشحرور والهَزَار، وترنم الشادي في محاسنه ببديع الأشعار: سقى الله هاتيك المعاهد من مصر ... بلاد بها قد كان بيتي على البحرِ وخودٌ تراءت من خلال قصورها ... كما لاحَ من بين السحابِ سنا البدرِ إذا احتجبت عنا بفاضل بردهِ ... رأيت لها ذيلاً على دميةِ القصرِ أعاذل في أهواء بولاق إن تكن ... محبتها ذنبي فإنّ الهوى عذري إذا كنت في مصر ولم تك نازلاً ... على نيلها الجاري فما أنت في مصرِ سقى الجيزة الريّا سحاب مقطب ... كما لقيتنا بالتأنس والبشرِ رحلت إلى تحصيل لذاتها التي ... سمعتُ بها عنها إلى ما ورا النهرِ نهار قصير فاق عمري كله ... فيالك يوم لا أرى مثله عمري تباكرني يا صاح بالراحِ عصبةٌ ... تراهم لفرط الألف كالماء والخمرِ ومُنيتها قد أصبحت لي منية ... وأمسيت لا أختار مصراً على مصرِ وقال: لم لا أهيم بمصر ... وأشتهيها وأعشق ولم تر العين أحلى ... من مائها إن تملَق وقد طال حديث مصر وزاد، ولكن بحسب ما قيل: أخبار مصر حديثها من حسنه ... يحلو لأن اللفظ منه سُكّر

يحلو إذا كررتموه وحسبكم ... بالسكر المصريّ حين يكرّر وأقول كما قيل: أعد ذكرَ من حلَّ الغضا يا معذبي ... وإن أضرموه بالأضالع والصدرِ ولا تنسَ سكانَ العقيقِ وإن هم ... على وجنتي أجروه في مدة الهجرِ وهذه قطعة من المقاطيع الحسنة، والنوادر المستحسنة، حسبما تيسّر جمعها من تلك الديار المصرية نقاية ونقلاً، ورواية وإملاء، لئلا تخلو هذه الورقات من فائدة، ولتكون صلة تلك الأبْيات الأبيّات عليها عائدة، فمن ذلك للفاضل أبي الفتح البستي ولقد أفاد وأجاد: إذا لم يزد علم الفتى قلبَهُ هدى ... وسيرته عدلاً وأخلاقه حُسنا فبشرهُ أن الله أولاه فتنة ... تغشيه حرماناً وتوسعهُ حُزنا وقال آخر: أفد العلمَ ولا تبخل به ... وإلى علمكَ علماً فاستزد من يفده يجزه اللهُ به ... وسيغنى الله عمن لم يفد وقال: لا تمنعن العلمَ طالبهُ ... فسواك أيضاً عنده خُبْرُ كم من رياض لا أنيسَ بها ... هُجِرت لأن طريقها وَعْرُ وقال: اجعل نديمك دفتراً في ضمِّه ... حكم العلوم وطيها في نشرهِ لتنال آداباً وتكسب عزة ... تغنيك عن زيد الزمان وعمرهِ وقال: العلم يأتي كلّ ذي ... خفض ويأبى كلّ آبي كالماء ينزل في الوها ... دِ وليس يصعدُ في الروابي

فائدة

وقال: ألا لن تنالَ العلم إلا بستةٍ ... سأنبيكَ عن مجموعها ببيانِ ذكاء وحرصٌ واجتهاد وبلغة ... وهمة أستاذ وطول زمانِ وقال: بعشرٍ تنال العلم قوت وصحة ... وحفظٌ وفهم ثاقب في التعلمِ ودرسٌ وحرص واغتراب وهمةٌ ... وشرخ شباب واجتهاد معلمِ قال: علمُ الحديثِ فضيلة تحصيلها ... بالسعي والتطواف في الأمصارِ فإذا أردت حصوله بإجازة ... فقد استعضت الصّفرَ بالدينارِ فائدة قال الجلال السيوطي في الإتقان في النوع الرابع والثلاثين، في كيفية تحمّل القرآن: الإجازة من الشيخ، غير شرط في جواز التصدّي للإقراء والإفادة، فمن علم من نفسه الأهلية جاز له ذلك وإن لم يجزه أحد، وعلى ذلك السلف الأولون والصدر الصالح، وكذلك في كلّ علم في الإقراء والإفتاء خلافاً لما يتوهمه الأغبياء من اعتقاد كونها شرطاً، وإنَّما اصطلح الناس على الإجازة لأن أهلية الشخص لا يعلمها غالباً ممن يريد الأخذ عنه من المبتدئين ونحوهم، لقصور مقامهم عن ذلك والبحث عن الأهلية، ولا تجب الإجازة على الشيخ ولا يجوز أخذ الأجرة عليها. ومليحةٌ شهدت لها ضرّاتها ... والفضل ما شهدت به الأضدادُ والشاطبي: قل للأميرِ نصيحةً ... من حاذق فطن نبيهِ إن الفقيه إذا أتى ... أبوابكم لا خير فيهِ

وما أحسن ما قال: إذا الفتى فاته مال يجمّله ... ففي التأدبِ مما فاته خلفُ هو اللباس الذي لا شيء يعدله ... والمفخر الزين فيه الفضل والشرفُ وقال: كفى شرفاً بالعلمِ دعواه جاهل ... ويفرح أن يدعي إليه وينسبُ ويكفي خمولا بالجهالةِ أنه ... يُراعُ متى يعزى إليه ويغضبُ وقال: إذا ما اعتز ذو علم بعلمٍ ... فعلم الفقه أولى باعتزازِ فكم عرفٌ يفوح ولا كمسك ... وكم طير يطير ولا كبازِ وقال: وقد يدعي علم القراءات معشر ... وباعهم في النحو أقصر من شبرِ فإن قيل ما إعرابُ هذا ووزنه ... رأيت طويل الباع أقصر من فترِ وقال: من تحلى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الامتحان وجرى في العلومِ جري سكيتٍ ... خلّفتهُ الجيادُ يومَ الرهان وما أصدق ما قال: كل من يطالب العلوم وحيداً ... دون شيخ فإنه في ضلالِ ليس في الكتب والدفاتر علم ... إنَّما العلم في صدور الرجالِ

وقال: اليوم حَرْفٌ وغداً مثله ... من نُخَبِ العلم التي تلتقط يحصِّلُ المرء بها حكمة ... وإنَّما السيل اجتماع النقط وقال: قيد بخطك ما يبديه فكرك من ... نتيجة تعجب الحُذّاق والفُضَلا فما نتائج فكر المرء بارزة ... في كلّ وقت متى ما شاءها فَعلا وقال: جئنا إلى العلم في زمان ... يحط فيه من كان عالم ويرتقي فيه للمعالي ... من عدّه الله في البهائم وقال: لو أن لقمان الحكيم الذي ... سارت به الركبان في الفضلِ يُبْلى بفقر وعيال لما ... فرّق بين التيس والبغلِ وقال: فصاحةُ حسانٍ وخط ابن مُقْلَةٍ ... وحكمةُ لقمان وزهد ابن مريمِ لو اجتمعت في المرء والمرء مفلس ... ونودي عليه لا يباع بدرهمِ وقال: إذا ما مات جارك ذات يوم ... ولست بواجد حبّ العَشاءِ فأنت بأن يُعَزّوك اليتامى ... أحق من اليتامى بالعزاءِ

وقال: إن كنت تسعى للزيادة فاستقم ... تنل المرادَ وقد سَموْت إلى السما ألِف الكتابة وهو بعض حروفها ... لما استقام على الحروفِ تقدما ابن زيادة في النقصان: من يستقم يُحرم مُناه ومن يَزِغ ... يختصُ بالإسعافِ والتمكينِ انظر إلى الألف استقام ففاته ... نقط وفاز به اعوجاج النونِ وقال آخر: ما للقريض غدتْ تُعافُ بحوره ... بين الأنامِ ودوحهُ لم يثمرِ غلبَ الكسادُ عليه حتى أنه ... لو بيع عند النجم غاب المشتري وقال: يا من يحاولُ راحة في دهرهِ ... صبراً على ما نلت من خَطْبٍ عَسِرْ وكن اسم فعل لا يؤثر عاملٌ ... فيه وإلا فالضمير المُستَتِر وقال: سرك إن أودعته ثانياً ... فاعلم بأن قد آن أن يفشيَه لأن ما أُضْمِر في حالة ال ... إفراد تستخرجه التثنيَه وقال: إياك من صاحب ترجو معونته ... أو فتية من بني الأيام تألفها ولا تقل أبتغي ثانٍ أضاف به ... فإن تثنية الأسماء تكشفها وقال: إذا نلت المنى بصديق ودّ ... وكان وفاقه وفق المراد فحاذر أن تعامله بقرض ... فإنّ القرض مقراض الوداد قال: لا تُقرضنّ الصديق شيئاً ... إن رمت أن تقتني وداده

فالأخذ مثل النكاح حلو ... والرد أنكى من الولاده وقال: تأنَّ وشاور لدى المشكلات ... فمنها جلىّ ومستغمضُ فرأيان أثبت من واحدٍ ... ورأى الجماعة لا ينقضُ وقال: إذا اجتمع الناسُ في واحدٍ ... وخالفهم في الرضى واحد فقد دلَّ إجماعهم دونهُ ... على عقلهِ أنه فاسد وقال: على قدرك الصهباء تعطيك نشوة ... ولست على قدر السلاف تصابُ ولو أنها أعطتك يوماً بقدرها ... لضاقت بك الأكوانُ وهي رحابُ وقال: لعمرك ما الإنسانُ إلا ابن يومه ... على ما تجلى يومه لا ابن أمسِهِ وما الفخر بالعظم الرميم وإنَّما ... فخار الذي يبغي الفخار بنفسِهِ وقال: لعمركَ ما الإنسانُ إلا ابن دينهِ ... فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب فقد فاز بالإسلامِ سلمانُ فارسٍ ... وقد حَطَّ بالجهل الشريفُ أبو لهب وقال: هذا الزمانُ الذي كنا نحاذرهُ ... فيما يحدّث كعب وابن مسعودِ إن دامَ ذا الحالُ لم نحزن على أحد ... يموتُ منا ولم نفرح بمولودِ وقال: من كان يرجو أن يعيش فإنني ... أصبحت أرجو أن أموتَ لأُعتقا في الموت ألفُ فضيلة لو أنها ... عرفت لكان سبيلهُ أن يُعشقا

وقال: قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا ... في الموت ألفُ فضيلةٍ لا تعرفُ منها أمان لقائه بلقائهِ ... وفراق كلّ معاشر لا ينصفُ وقال: جزى الله عنا الموت خيراً فإنه ... أبرُّ بنا من كلّ بَرٍّ وأرأفُ يعجّلُ تخليص النفوسِ من الردى ... ويدني من الدار التي هي أشرفُ وقال: جزى الله الشدائدَ كلّ خيرٍ ... وإن جرَّعنني غصصي بريقي وما شكري لها إلا لأني ... عرفتُ بها عدوي من صديقي وقال: يمثل ذو اللبِّ في نفسهِ ... مصائبهُ قبل أن تنزلا فإن نزلت بغتةً لم يُرع ... لما كان في نفسهِ مثّلا وقال: إذا المرءُ من أعداه لم يشفِ نفسهُ ... فما نفعهُ إن قام للثار طالب ومن لم يطبْ منهُ الثنا في حياتهِ ... فلا نفع إن أثنتْ عليهِ النوادب - وقال: لا تستدل على تغيرِ صاحبٍ ... وزوالِ صحبتهِ وخَفْرِ ذمامهِ يوماً بأوضحَ من تَجَشّمِ وجههِ ... وجفاء منطقه وسخط ملامهِ وقال: ما دمتَ حياً فدارِ الناسَ كلّهم ... فإنَّما أنت في دار المدارةِ من يدرِ دارى ومن لم يدر سوف يُرى ... عمّا قليل نديماً للنداماتِ وقال: عوِّد لسانَكَ حسنَ القولِ تنجُ بهِ ... من زلةِ اللفظ بل من زلة القدمِ واحذر زمانكَ من خلٍّ تنادمهُ ... إن النديم لمشتقٌ من الندمِ

وقال: لا تَحقرنّ امرءاً إن كان ذا ضَعَةٍ ... فكم وضيعٍ من الأقوام قد رأسا وربَّ قوم حقرناهم ولم نرهم ... أهلاً لخدمتنا صاروا هُمُ الرؤسا وقال: وكنتُ أظن أن جبال رضوى ... تزولُ وأن وُدّك لا يزول ولكن القلوبَ لها انقلابٌ ... وأحوال ابن آدم تستحيل وقال: إن الصفا في شرب كلّ مودة ... لم يخل من كدرٍ لمن هو وارد فإذا صفا لك من زمانك واحدٌ ... فهو المرادُ وأين ذاك الواحد وقال: قَوِّض خيامك عن أرض تضام بها ... وجانب الذل إن الذل مُجْتَنَب وارحل إذا كان في الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب في أوطانه خشب وقال: تفقّدُ الساداتِ خُدامهم ... مكرمةٌ لا تنقصُ السؤددا هذا سليمان على ملكهِ ... قد قالَ مالي لا أرى الهدهدا وقال: ترى الفتى ينكرُ فضل الفتى ... ما دامَ حياً فإذا ما ذهب لجَّ به الحرصُ على نكتة ... يكتبها عنهُ بماءِ الذهب قال: يا سادتي هل يَخْطُرَنَّ ببالكم ... من ليس يخطرُ غيركم في بالهِ حاشاكمو أن تغفلوا عن حالِ من ... هو غافلٌ في حبكم عن حالهِ وقال: نظرت فأقصدتِ الفؤادَ بسهمها ... ثم انثَنت عنه فكادَ يهيمُ ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليمُ

وقال ابن الرومي: إذا سرَّها أمر وفيه مآثم ... قضيتُ لها فيما تريد على نفسي وما مرَّ يومٌ أرتجي فيه راحة ... فأذكرها إلا بكيتُ على أمسي قال: أعانقها والنفسُ بعدُ مشوقةٌ ... إليها وهل بعد العناقِ تداني وألثمُ فاهاً كي تزول صبابتي ... فيشتدُّ ما ألقى من الهيمانِ كأن فؤادي ليس يشفي غليله ... سوى أن يرى الروحان يمتزجانِ وقال ابن مكانس: ثلاث تجمّعن في ريقها ... ملاحٌ أدلتها واضحه فإن قيل ما هي تلك الثلاث ... قُل اللون والطعم والرائحه وقال آخر: زارت معطرة الشذى ملفوفةً ... كي تختفي فأبى شذا العطرِ يا معشرَ الأدباءِ هذا وقتكم ... فتناظموا في اللّفِ والنشرِ وفي حركات البناء لابن الحنبلي: ضممتُ إلى صدري فتاة صغيرة ... لها سحر أجفان تخلّى عن الذمِ ومذ كسرت أجفانها قلتُ هذه ... على الفتحِ لم تقدر فمالي سوى الضمِ وفي المعنى: شاقني رِدفٌ مليحٌ ... لحروف النحو يجمع يفتح الجزم لنصبٍ ... ولأجل الجرّ يرفع وقال آخر: تأخّرتْ عن موقفي ... فقلتُ يا خودُ قفي ثم عديني موعداً ... ختامُه مسكٌ وفي وقال آخر: العيش دارٌ رحبة وحليلة ... حسناً ومهر فارهُ

فاظفر بهن ولا تبالي فالورى ... إما محبٌ مخلص أو كارهُ وقال مهيار الديلمي: وكنتُ ألومُ العاشقين ولا أرى ... مزيةً ما بين الوصالِ إلى البعدِ فأعدى إليّ الحبَّ صحبة أهلهِ ... لم يدر قلبي أن داء الهوى يعدي وقال آخر: أمّلتُ أن يتعطفوا بوصلكم ... فرأيت من هجرانكم ما لا يُرى وعلمتُ أن جفاكم لا بدَّ أن ... يجري له دمعي دماً وكذا جرى وقال الصفدي: يا من تناسى ودادي بعد معرفة ... وقد غدا طوع لُوّامٍ وعُذّالِ ما أنت أول محبوب ظفرتُ به ... من الزمان فخابت فيه آمالي وقال آخر: تعشقتُ بدراً ليس لي فيه مطمع ... سوى أنني في حسنه أتفكر مليحٌ إذا قابلته ورأيتهُ ... رأيت محلَّ البدر من أين يُسْفِر وقال آخر: سارقتهُ نظرةً أطالَ بها ... عذاب قلبي وما له ذنبُ يا جور حكم الهوى ويا عجباً ... يسرقني ويقطع القلبُ وقال آخر: يا أيها الناس من رأى قمراً ... من أي أفق أراده طلعا لو كلف العلمين قاطبةً ... أن يعبدوا وجهه لما منعا وقال آخر: مدادهُ في الطِرسِ لمّا بدا ... قبّله الصب ومن يزهد

كأنَّما قد حلَّ فيه اللمى ... أو ذابَ فيه الحجرُ الأسود وقال آخر: ولقد أقولُ لمن تعشق أغيدا ... أو غادةً وغدا أسيرَ وثاقِ ما مذهبي عشقُ الجمالِ مقيداً ... بل عِشقه ديني على الإطلاقِ قد كان في ذكرِ الذين أحبهم ... ذكرى اللبيب وعبرة الأشواقِ فاخلع محبةَ من يموتُ وخذ بنا ... يا قلب في عشق الجمال الباقي وقال: يا قلبُ إن خان الخليل فخلِّه ... فلكم فتى ذاق العنا من خِلّهِ ولربَّ حادثةٍ تخلى عندها ... من كنت أَرْخِص مهجتي من أجلهِ وقال: لا غرو من حزني لبينهم ... يوم النوى وأنا أخو الّهمِِّ فالقوس من خشبٍ تئنُ إذا ... ما كلّفوها فرقة السهمِ وقال: سامح أخاك إذا أتاك بمنكر ... فخلوص شيء قلما يُتمكّن ولكلِّ شيء آفة من جنسه ... إنّ السراج على سناه يدخّن ما أنصح ما قال: مع العلم فاسلك حيث ما سلك العلم ... وعنه فكاشف كلّ من عنده فهمُ ففيه جلاء للقلوب من العمى ... وعون على الدين الذي أمره حتمُ فإني رأيت الجهل يُزري بأهله ... وذو العلم في الأقوام يرفعه العلمُ يُعدُّ صغير القوم وهو كبيرهم ... وينفذ منه فيهم القول والحلمُ

فأي رجاء في امرئ شاب رأسه ... وأفنى شباباً وهو مستعجم فَدْمُ يروح ويغدو الدهرَ صاحب بطنه ... تُركب في أحشائه الشحم واللحمُ إذا سئل المحروم عن حال أمره ... بدت رُحضاء العيّ في وجهه تسمو فهل أبصرت عيناك أقبح منظر ... من الشخص لا علم لديه ولا حلمُ ومن مدمن شرب المدام وما درى ... بما في مناهي شربها ما أتى الحكمُ هي الحالة الشنعاء فاحذر عقوبة ... أوائلها خزي وآخرها ذمُ وخالط رواة العلم واصحب خيارهم ... فصحبتهم زين وخلطتهم غُنْمُ ولا تعد عيناك عنهم فإنهم ... نجوم إذا ما غاب نجم بدا نجمُ فوالله لولا الله ما اتضح الهدى ... ولا لاح من غيب السماء لنا رسمُ ما أسلم ما قال: تجاوزتُ حدّ الأكثرين إلى السها ... وجاوزت واستبقيتهم في المراكزِ وخضت بحاراً ليس يدرك غورها ... وألقيت نفسي في فسيحِ المفاوزِ ولججت في الأفكار ثم تراجع اخ ... تياري إلى استحسان دين العجائز وما أرجى ما قال: إلهي أنت تعلمُ أن عجزي ... بعفوك من عذابك يستجيرُ وإني يا غنياً عن عذابي ... إلى أن لا تعذبني فقيرُ وإنَّما حبّرتُ هذه الأوراق من محاسن هذا الشعر بما رقَّ وراق، لميل القلوب إليها وما في النفس من الإقبال عليها، كما قيل:

لا شيء أحلى في مسامع مُغْرَم ... يلهو به سوى الأشعارِ فطروسها تحكي الرياض وإنها ... لِذوي المعاني لذة الأبصارِ قال ابن منير الثعالبي: وما زال السلف يحفظون الشعر حديثاً وقديماً، ويتخذونه في الحوادث نديماً، وينشدونه حال المجالسه، ويوردون دقائقه في أوقات المُخَالَسَه، والآثار المسندة، والأخبار الممهدة، في شأنه حجج قوية، ومحجة ضوئية، ويكفي في فضله أن النبي صلى الله عليه وسلم استنشد بعض أصحابه من شعر أمية بن أبي الصلت فأنشده مائة قافية وأن عمر مر بحَسَّان وهو ينشد الشعر في المسجد فنظر إليه شَزْراً، فقال له: كنت أنشد وفيه من هو خير منك وهذا الخبر رواه البخاري وغيره، وما نُقِل من استحباب الوضوء بعد إنشاد الشعر، فمحمولٌ على الشعر الهجو. وأما ما يترتب عليه من الثواب والعقاب؛ فليس من جهة الشعرية، وإنَّما هو من حيث المضمون، وقد قيل في قوله تعالى: وما علمناه الشعر وما ينبغي له أن المراد قبيحه. هو الشعر لا شيء سواه وإنه ... لأحسن ما قد قال قس وسحبانُ يُعَنَّى به صَبٌّ ويُمدَحُ محسنٌ ... ويُرثى به مَيْتٌ ويُعْطَف غضبانُ ونعود إلى ما نحن بصدده ونندرج فيما نحن من عدده: ولما طاب زمن الربيع وأوانه، واخضرّت رياضه واخضلّت أغصانه، تصمّم العزم على السفر، وركوب البحر وإن كان فيه الخطر، وقد أزهر جوانب تلك البقاع، وغرّدت على دَوْح أفنانها في الأسحار بلابل الأطيار فَلذَّ السماع، وكنت

لا أبغي الرحلة عن تلك المدينة، أو أشهد بها يوم الزينة، ولكن ليس للإنسان ما تمنّى، وربما سعى المرء إلى ما لم ينل وتعنّى: ما كلّ ما يتمنى المرءُ يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن فبرزت من تلك الروضة، وفارقت محاسن هاتيك الغَيْضة، ولي طبيعة تسمو إلى زمن الربيع، وتتشوّف إلى نُشُوِّ النبات المريع، أجِدُ من النفس نشاطاً في أيامه، ويهيجني نشر رَنده وخزامه، وكان يقال من لم تطربه نغمات الأوتار؛ ولم يتحرك لتغريد الأطيار؛ ولم يَعْجَب لبديع الأزهار؛ ولم يهتز لنسمات الأسحار؛ هو فاسد المزاج محتاج إلى العلاج. ولله در القائل: ما مثل مصر في زمان ربيعها ... ما بين ماء واعتلال نسيمِ أقسمت لا تحوي البلادُ نظيرها ... لمّا نظرت إلى جمال وسيمِ وقال: استنشقوا الهوى الربيع فإنه ... نعم الصديق وعنده ألطافُ يغذي الجسوم نسيمه فكأنَّه ... روح حواها جوهر شفّافُ فكان البروز من مصر المحروسة إلى بحر بولاق؛ ذات البها والإشراق؛ في يوم الجمعة المبارك، بعون الله تعالى وتبارك، في تاسع ربيع الأول: وخلّفت مصر من ورائي وخاطري ... بمصر ولكن أين من ناصري مصرُ بلاد بها ما يشتهي متيسّرٌ ... على جيدها يا حبذا اللف والنشرُ فأكملت ذلك النهار مع الأخلاء الأخيار؛ من أهل الحرمين الشريفين ممن نقلتهم يد الأقدار إلى هاتيك الديار، ونحن نتشاكى البعاد ونجدّد عهود الوداد، إلى أن آذنت الشمس للغروب وأشرقت كواكب الكروب، فوقفت لهم موقف من ضل الرشاد، وتقرحت لفراقهم الأكباد، واستودعهم الله تعالى؛ والمدامع تترادف وتتوالى، وقد عزمت على الذهاب، وأخذت في الإياب. ذهبت وقد سدّ الغرام مذاهبي ... وقلبي إلى نحو الأحبة يُجبَذُ ذُُهِلْتُ فما أدري إلى أين قادني ... قضاء على الإنسان يجري ويَنْفُذُ

فائدة

ثم نزلت ذلك النيل في معاش صحبة رجل من الروم، لا يجد لديه المؤملّ من الوفاء ما يروم، وكنت أتوخى فيه مكارم الأخلاق، وأزعم أنه من أحسن الرفاق، فوجدته بضد ما أملته: وما كلّ وجه أبيض بمبارك ... ولا كلّ جفن ضيق بنجيبِ أو هو كما قال: أمّلْتُهُ ثم تأمّلته ... فلاح لي أن ليس فيه فلاح وإن من يُنْزِل آمالَه ... بحادث السعد قليل النجاح ولما أرخى الليل قِناعه، ومدّ علينا شراعه، سَرَيْنا وقد ألقى البدر نُوره، ونشر الروض بالتعريف نَوْره، فسرنا والليل يسري، والكواكب تسير والنهر يجري، وكأنَّما النيل بحر لجين في تموّجه، أو خدّ ذي دلال في تضرّجه، وقد قلبتنا أصابعه، وتكسرت بتلك الأمواج أضالعه، حتى أسفر الصباح، وشعشع ضياؤه ولاح، فإذا نحن في سيران ما بين جنان. والماء تلعبُ أطراف النسيم به ... ما بين ماضٍ وآتٍ أي تَلْعابِ كأنَّه زرد الدرع المضاعف أو ... نقش المبارِدِ أو تفريك أثوابِ أو كما قيل: النهر مولى والنسيم خديمه ... هذا الكلام ليس فيه تشكك لو لم يكن في خدمة النهر انبرى ... ما كان يصقل ثوبه ويفرّك فائدة قال السيوطي عند قوله تعالى فأخرجناهم من جنات وعيون: كانت الجنان بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد، وكلها كانت تروى من ستة عشر ذراعاً، فسبحان الحكيم الذي لم يزل.

ولما ارتفعت الشمس أكتسى الجوّ بالغمام، فاعتقدنا ذلك من تمام الإنعام، ولم نزل كذلك، نسلك هاتيك المسالك، وأنا في ألذ نعيم، ما خلا النديم، وفي ذلك أقول: ليست على الحرّ اللبيب مشقة ... بأشق من أن لا يرى أمثالهُ ذاك الغريب وإن يكن في أهلهِ ... وا رحمتاه له لما قد نالهُ ما أصدق ما قال الحسن بن شذقم: وليس غريباً من نأى عن دياره ... إذا كان ذا مال وينسب للفضلِ وإني غريب بين سكان طيبة ... وإن كنتُ ذا مال وعلم وفي أهلي ولبس ذَهاب الروح يوماً منية ... ولكن ذهاب الروح في عدم الشكلِ يحكى أن سليمان عليه السلام، لما أراد بالهدهد أشدّ العذاب، أشار عليه وزيره آصف بن برخيا بحبسه في غير جنسه، وما أعجب ما قال: قد سمعت الصدا وذاك جماد ... كلّ شيء تقول ردّ عليكا وعلى ذكر الهدهد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، أن الهدهد يرى الماء من تحت الأرض، قيل له: فلم لا يرى الفخ إذا انقضَّ عليه؟ فقال: إذا نزل القضا عمى البصر. هي المقادير فلمني أو فذر ... إن كنت أخطأتُ فما أخطا القدر ومن محاسن النواجي: اركب النيل ما استطعت ففيه ... راحة للفتى وغاية بُغْيَه كم تنزهت حين سافرت فيه ... في بلاد وكم ظفرت بمُنيَه وابن تميم: انظر إلى سير المراكب إذ بدتْ ... والماء يعلو حولها ويدورُ

مثل السحائب لا يفرق بينها ... نظرٌ، وكلٌ بالرياح يسيرُ وللفيومي: - في النيل أعلام بدت ... بيض كأيدي المحسنينا وإذا خفقن من الهوى ... تحكي قلوب العاشقينا ولابن قلاقس: انظر إلى الشمس فوق النيل غاربة ... وانظر لما بعدها من حمرة الشفقِ غابت وألقت شعاعاً منه يخلُفها ... كأنَّما احترقت بالماء في الغرقِ وقال آخر: الشمسُ فوقَ النيلِ قد ... ألقت شعاعاًً كاللهبْ فحكى مِسَنّاً أخضراً ... وعليه حك من ذهبْ وقال: البدرُ فوقَ النيلِ قد ... ألقى شعاعاً يأتلقْ فحكى مِسَنّاً أَزرقاً ... وعليهِ حكٌ من وَرِقْ ولما كان الفجر من اليوم الثالث نزلنا بمرسى رشيد، المحفوفة بعناية الله وفيضه المديد، فقلت إن كان سفر البحر كذلك، فما هو إلا راحة من المشاق والمهالك، ولم أدْرِ أنه قياس مع الفارق، وأن تشبيه الحُمَيّا بماء المُحيّا غير مطابق. يا بارقاً بأعالي الرقمتين بدا ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب ولما أشرقت بها الغزاله، قصدنا من روضها ظلاله، فنزلنا من ساحتها بوكالة الوزير محمد باشا، فإذا هي بناء محكم الأساس، وبها وجوه من الناس، مأمونة الخيانة أمينة على الأمانة، مع كثرة ما يردها من غِمار البشر، وبني الرذالة والأشر، فوضعت بها الأسباب، وأقمت بها في ظل ذلك الجناب، أقلب الطرف فيما رَقّ وراق، وأطوف بأكنافها البهية مع الرفاق. حشايَ على جمر ذكي من النوى ... وعيني في روضٍ من الحسن ترتع

غريبة

ثم نزلت بدار صادق الأخوّة والاعتقاد، وكامل الفتوّة نور الدين العقاد، جزاه الله خير الجزاء، وأولاه عواطفه المتنوعة الأجزاء، فلقد رأيت منه كمالاً لا أحصيه، وإفضالاً لا أستقصيه، ثم لازلت أتفيأ ظلال هاتيك البلاد، وأسعى فيها لجوامع العباد، وأتنزه في قصورها المونقة، وبساتينها المورقة: فيا حسن هاتيك الديار وتربها ... فكم قد حوت حسناً يجلُّ عن العدِّ ولا سيّما تلك النواعير إنها ... تجدّدُ حزن الواله المدنَف الفردِ أُطارحها شجوي وصارت كأنَّما ... تطارح شجواها بمثل الذي أبدي وفي شاطئ النيلِ المقدس نزهة ... تجدد ما قد فات من سالفِ العهدِ سماءٌ من البلورِ فيها كواكب ... عجيبة صنع اللون مصقولةِ الخدِ ومن مرج البحرين أيُّ عجائب ... تلوح وتبدو من قريب ومن بعدِ فكم قد نعمنا في ظلال رياضها ... بعيشٍ هنيء في أمان وفي سعدِ فمن لي بها لو أن صحبي بحبها ... ومن لي بها في غير بلوى ولا جهدِ غريبة دخلت يوماً إلى الجامع الكبير فرأيت متكلماً، وقد طال به البحث في مسألة الجوهر الفرد، إلى أن انجّر الكلام إلى القول بوحدة الوجود، وقد كثر الهذيان، فإذا بأشعث في هيئة المجانين، وقد تناول كراساً من بين يدي الشيخ، وكتب على حاشيته شيئاً ونهض كالمغضب، فإذا المكتوب: وتكفيك من ذاك المسمّى إشارة ... ودعه مصوناً بالجمال محجّبا وبالجملة فإن هاهنا تتطاير الرؤوس من أجسادها، والنفوس من موادّها، أو كما قيل: مرامٌ شطّ مرمى العقل فيه ... ودون مداه بيد لا تبيدُ أو كما قيل: أتيتَ بيوتاً لم تُنل من ظهورها ... وأبوابها عن قرعِ مثلك سُدّتِ

(مسألة والحديث شجون) قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في رسالته كشف الحجاب: وسألوني عن الاتحاد، الذي تشير إليه أهل الإلحاد، هل المراد أن ترجع صورة العبد هي عين الحق، أم المراد غير ذلك؟ فأجبتهم: المراد بالاتحاد في لسان القوم: فناء مراد العبد في مراد الحق، فلا يصير للعبد مراد مع الحق إلا بحكم التَبَعية، وهذا الحق ليس به خفاء، فدعني عن ثَنيّات الطريق، وفي هذا الكلام كلام، قلما يخلو من الملام، أنشد لنفسه ابن أبي الحديد المعتزلي: أفنيت خمسينَ عاماً مُعملاً نظري ... فيه فلم أدر ما آتي وما أذر من كان فوقَ عقولِ القايسين فما ... ذا يدرك الفكر أو ما يبلغ النظر وأحسن منه: وما البحثُ في الآثارِ إلا مبعد ... عن المقصد الأسنى إلى الغاية القصوى فلا تقتنع بالقشر دون لُبابه ... ولا تحتجب بالباب عن حضرة النجوى وما أحسن قول المتأدب: تعشقتُ ربّ الحسن لما رأيته ... عياناً فجاهدت الهوى في سبيلهِ ومن حجبت عنه محاسن وجهه ... فغايته أن يهتدي برسولهِ وقال: سئلت إذا كان لا حلول ولا اتحاد، فما القوّة الحاملة للعبد؟ هل هي عين أم غير؟ فإن قلنا هي غير فقد قام العبد بنفسه وهو محال، وإن قلنا هي عين، فهو عين القول بالحلول، وما معنى كنت سمعه الذي يسمع به؟ فأجبت: هذه المسألة لا ترتفع الشبهة فيها بالكلية إلا بالكشف، فاعملوا على جَلاء مِرآة قلوبكم بالأعمال السنية، وإلا فالعقل في حيرة من ذلك، ومعنى الحديث: وما رميت إذ رميت وأكثر من ذلك لا يقال، كما قال: فما كلّ معلوم يباح مصونه ... ولا كلّ ما أمْلَتْ عيونُ الظِبا يُرْوى وعلى ذكر الحلول، فما أحلى قول أبي البركات الحاتمي: لي حبيب لو قيل ما تتمنّى ... ما تعدّيْتُه ولو بالنون

أشتهي أن أحل في كلّ طرف ... فأراه بلحظ كلّ العيون قال: وسُئلت: هل وصل أحد إلى التنزيه المطلق الذي لا يشوبه تقييد؟ فأجبت: لم يصل أحد إلى ذوقه، وإنَّما يصل الناس إلى العلم به، لأنَّه سُمِع في الشرع ولم يوجد في العقل، وغاية الإطلاق تقييد، لأنّك لا تطلق الحق إلا بعد تعقله تقابله من التقييد فاِفهم،، والعجب من الذي وسّع الأول كيف لا يسع الآخر! إذا لام فيها الشيخُ طفل غرامها ... على سكرهِ فالشيخُ كالطفل يلعب ورأيت برشيد قبطياً قد جمع شتات الأدب، وطُبع على محاسن الفصاحة ودأب، يقول من يراه يميس في برد آدابه الجميلة، تعالى فضل الله أن يؤخذ بالحيلة، سمعت منه للعتبي: يا جاهلاً قدر المحبة ساءني ... ما ضاعَ من كَلَفي ومن تبريحي سيانَ عندك مُغرم بك والهٌ ... وخَلِيّ قلبٍ فيك غير جريحِ لو كنت أعلم أن طبعك هكذا ... لم أعصِ يوم نُصِحت فيك نصيحى ما كان في عزمي السُلُوِّ وإنَّما ... ألزمتنيه لكثرة التقبيحِ وأنشدني للصفدي: أنا والحبيب ومن يلوم ثلاثة ... لهم بديع الحسن أصبح ينتمي فلي الجناس لأن دمعي عن دمي ... يجري ألست تراه مثل العَنْدَم وله مطابقةُ التواصلِ بالجفا ... ولعازليه لزوم ما لم يلزمِ ومن كلامه: هذي رشيد وكم حوت من روضة ... غَنَّا وقصر في الرياض مشيدِ من لم يقبل بصفاء بهجة نيلها ... وبهائها تلقاه غير رشيدِ ولم يكن في رشيد مما يعاب به، إلا ما فيها من مظاهر الاسم القاهر، وهم

الجند المستعبدون والعبيد المعتقون، والقبط المستعربون والأحداث المستغربون، ومن حِكَمِه: ثلاثة إن أكرمتهم أهانوك: المرأة، والمملوك، والقبطي من أهل مصر. إن العبيد إذا ذللتهم صلحوا ... على الهوان وإن أكرمتهم فسدوا وفي ذلك سر التسخير إذ لا تكون الطاعة إلا عنه. ومن كلامه: ثلاثة يُعَدّون من المجانين وإن كانوا عقلاء: السلطان والسكران والغضبان. والعبرة بعموم اللفظ عند العقلاء: سَكرات خمسُ إن رُميَ المر ... ءُ بها صارَ ضحكة الشيطانِ سَكرة المال والحداثة والجا ... هِ وسُكر الشرابِ والسلطانِ ومن أمثاله: لا يخلو المرء من ودود يمدح، وحسود يقدح، فلا تبذل رقك لمن لا يعرف حقك. وممن تشرفنا بحضرته وتملينا بجمال طلعته، مشيد أركان الشرع الشريف، المورق غصن مجده الوريف، مولانا مؤمن زاده، لا زال يفتح له من مكارم الأخلاق باب الزيادة، فلقد أمدّني بجاههِ الوجيه، وحقق لي ما كنت أرتجيه. سِم سِمَةً تُحْمد آثارها ... واشكر لمنْ أعطى ولو سِمْسِمَه ومما أنشدنيه المولى نور الدين سلمه الله تعالى: أما والذي أصفاك مني مودةً ... فأضحى لها في ساحةِ القلبِ مَغْرِس لئن ظَلّ بي من فقد وجهك موحش ... لقد باتَ لي من فكرتي فيكَ مؤنس أناجيك بالإضمار حتى كأنني ... أراك بعيني فكرتي حينَ أجلس ومن أملاه دام علاه: يا ويح قلبي وكم جهدي أحمّله ... ما لا يطاق وقد رَثّت علائقه في كلّ يوم لنا خلّ نودعه ... على الدوام ومعشوق نفارقه ثم ركبت النيل في نقيرة متوجهاً نحو الإسكندرية، فأقمنا بالبرج نتحرى الرياح

المؤذنة بالنجاح، والبرج هذا على الساحل بين النخيل، التي آخرها يتصل به النيل بالبحر الرومي، وفيه قيل: كانّ التقاءُ النيلِ بالبحرِ إذ هما ... مليكان سارا في جحافل من جندِ وقد نزلا للحربِ واصطدم اللقا ... فلا طعن إلا بالمثقّفة المُلدِ وعلى ذكر البحر قيل لرجل ما اسمك؟ قال: بحر. قيل: من أبوك؟ قال: أبو الفيض. قيل: ابن من؟ قال: ابن الفرات. قيل: ينبغي لصديقك أن لا يلقاك إلا في زورق. انتهى. فلما ارتفعت الشمس هبت الرياح الشرقية، فما سرنا يسيراً حتى دخلنا البحر العجاج، فإذا هو متلاطم الأمواج كثير الفزع والانزعاج، وكيف لا والداخل فيه مفقود، والخارج منه مولود! لا أركبُ البحر أخشى ... عليّ منه المعاطب طينٌ أنا وهو ماءٌ ... والطينُ في الماءِ ذائب وقال: خلقتُ طيناً وماء البحر يتلفني ... والقلبُ فيه نفور عن مَراكبهِ البحر غير رفيق بالرفيق لهُ ... والبَرُّ مثل اسمهِ بَرٌّ براكبهِ وقال: البحر مرّ المذاق صعبٌ ... لا رجعت حاجتي إليهِ أليسَ ماءٌ ونحن طينٌ ... فما عسى صبرنا عليهِ وقال: البحرُ أهون من مرارةِ مائهِ ... أن تستقر بأضلعي الرمضاءُ فعليه يوم سرورنا بفراقهِ ... من كلّ قلع راية بيضاءُ فما زالت تفسر لنا معاني الرفع والخفض أمواجه، والريح يجزم بأن ينالنا من

نصب الشراع إزعاجه، والهموم على الجوانح جَوَانح، والجوارح لتلك الأحوال جوارح، وكأنَّما جَمْعُ الخاطر بالشتات تلقّب، والقلب في لهيب الوحل يتقلب. وقلما أبصرت عيناك من رجل ... إلا ومعناه إن فكرتَ في لقبه ولما غربت الشمس أرسينا على ساحل الإسكندرية، والمزاج متكدر لتلك الأهوال والأحوال الرديّة، فبتنا تلك الليلة على ذلك الساحل، إلى أن أصبحنا والضباب يمنع من رؤية تلك المنازل: وطال عليّ الليل حتى كأنَّه ... من الطولِ موصول به الدهر أجمع فلما أضحى النهار، نزلنا بساحة تلك الديار، فأقمت بها لا أملك فتيلا ولا أهتدي سبيلا، وأنا أطوف بجوانبها فلا أرى إلا غِمار مغاربها، فرحت أجوس خلالها وأتفيّأ ظلالها، وقد أولتني مزيد الجفا وغلّقت أبواب الصفا. وقد بَخُلَتْ عليّ بكل شيءٍ ... من المعروفِ حتى بالسلام وما ألطف قول من قال: سلامٌ على مصر ويا قلب إنني ... لقد كنت عن إسكندريةَ في شُغْلِ وما شاقني يا مصر ثَغْر ملثّم ... سوى من غزالٍ فيك أعدمني عقلي ولقد كنت أسمع من أولي التجاريب، أن السفر مرآة الأعاجيب، حتى رأيت الزمان بأسره عجائب، ولم يبق لي في الغرائب من رغائب: من الغرائب فيما شاهدتْ مُقَلي ... أن الرغائبَ عنها الناسُ قد رغِبوا وما زلت في الإسكندرية بلا نديم ولا صديق حميم، مقيماً على الوحشة والأسى، متفكراً في حكم الباري صباحاً ومسا، لا أجد بها من ذوي الكمال جليسا، ولا ألتقي ممن تحلّى بمحاسن الجمال أنيسا:

فلا صديق إليه مشتكى حزني ... ولا أنيس إليه منتهى جذلي فكنت أعتكف تارة لمنادمة الوسواس، وتارة أبرز فيما بين الناس، فلا أجد على الساحل غير النصارى واليهود، ولا أبصر غير الهمج والأتراك الوفود، فأعود إلى تلك الخلوة واستعيد أسباب السلوة. والبقّ والناموسُ حوليَ عسكر ... يتنادمون على مدام دمائي فلم أزل كذلك مدة مديده، وعدة من الأيام عديدة، وحيد المقام شديد الأوام، أتجرع كؤوس النوى وأشتاق العقيق واللوى، وقد تكامل الشوق وتضاعف وتواصل الشغف وترادف. أبكي إذا ذكر العقيق بمثلهِ ... لعهود جيرته وحُسن المعهدِ فسقى الحيا تلك البقاع فتربُها ... لجلاءِ عين القلب مثل الإِثمد وغيره: وقال لي البين لمّا رأى ... لديّ الخطوب وعندي العويل ترفّق بدمعك لا تُفنه ... فبين يديك بكاء طويل فكنت كثيراً ما أتسلى بالجامع المختوم، وأعلل النفس بالسلامة من هذا الأمر المحتوم، وأقول إن الصروف تتصرف وتنصرف وتكف ثم تنكفّ وتنحرف. والدهر لا شك ذو ضيق وذو سعةٍ ... ولو أردتَ دوام الهمِّ لم يدم فأنا في تلك الأيام، أتحاشى تداني الأنام، فأتمشى بين تلك الأشجار، وأتسلى بتغريد هاتيك الأطيار: وربّ حمامة في الدوح صارت ... تُجيد النوح فناً بعد فنِ أقاسمها الهوى مهما اجتمعنا ... فمنها النوح والعَبَرات مني

وكنت في تلك الحال بحيث يقول الصلاح وإن كان نظمي الدمع المنثور: توقّد جمرُ القلب عند تغرّبي ... فمن أجلهِ دمعي أتي جيّد السَبْك وما حفظت عينايَ من سوء حظها ... على كثرة الأشعار إلا قفا نبك وأما هذه المدينة، فهي آخر مدن المغرب، وهي على ضفة البحر الشامي، بها الآثار العجيبة والرسوم التي تشهد لبانيها بالقوة والحكمة، وهي منيعة الأسوار كثيرة الأشجار، ليس في معمور الأرض كمثلها، ولا في أقطار الأقاليم كشكلها، وهي مقصد التجار من القفار والبحار، يُحمل منها إلى سائر الأقاليم كما يحمل إليها في الزمن الحادث والقديم، والنيل يدخل إليها من تحت أقبية إلى معمورها، ويدور بها فينقسم في دورها، بصنعة عجيبة وحكمة غريبة، يتصل بعضها ببعض أحسن اتصال، لأن عمارتها تشبه رقعة الشطرنج في المثال، وناهيك بمدينة جميع ما فيها عجب، ولكم سَتَر حسنها محاسن غيرها وحجب، وأحد عجائب الدنيا بها المنار، الذي لم ير مثله في الأقطار، وهي على ميل من المدينة، كذا في الخريدة. قلت: وأعجب من هذه المدينة مدينة الهيكل الإنساني. فيا عطشي والماء الزلال أخوضه ... ويا وحشتي والمؤنسون حضورُ وحكى السيوطي في المحاضرة نقلاً عن مباهج الفكر أن من عجائب المباني منارة إسكندرية، وهي مبنية بحجارة مهدمة مضببة بالرصاص على قناطر من زجاج، والقناطر على ظهر سرطان من نحاس، وفيها نحو ثلاثمائة بيت بعضها على بعض، تصعد الدابة بحملها إلى سائر البيوت، وللبيوت طاقات ينظر منها إلى البحر، وأختُلف فيمن بناها، ويقال إن طولها ألف ذراع، وكان في أعلاها تماثيل من نحاس، منها تمثال يشير بسبابته اليمنى نحو الشمس أينما كانت من الفلك، يدور معها حيث دارت. ومنها تمثال وجهه إلى البحر، متى صار مركب منه على نحو ليلة، سمع له صوت هائل، يعلم منه أهل المدينة طروق العدوّ. ومنها تمثال كلّما مضت ساعة من الليل صوّت

صوتاً مطرباً، بأعلاه مرآة ترى منها القسطنطينية وبينهما عرض البحر، فكلما جهّز الروم جيشاً رؤي. وفي المرآة حكى المسعودي: أنها لم تزل كذلك إلى أن ملكها المسلمون، فاحتال ملك الروم في هدمها على الوليد بن عبد الملك، بأن أنفذ أحد خواصه ومعه جماعة إلى بعض ثغور الشام، وأظهر الرغبة في الإسلام، وأظهر كنوزاً كانت بالشام ومن الدفائن، ما حمل الوليد على أن صدقه بأن تحت المنارة أموالاً ودفائن وأسلحة دفنها الاسكندر، فجهزه مع جماعة من خاصته إلى الإسكندرية فهدم ثلث المنارة وأزال المرآة، فعلم الناس أنها مكيدة فأستشعر ذلك فهرب في مركب كان له هنالك، والله غالب على أمره، وقد صارت أثراً بلا عين، بل خبراً عن ذلك الأثر، فلله درّ الليالي: لنا ملك ينادي كلّ يومٍ ... لدوا للموتِ وابنوا للخرابِ ومما قيل في المنار: إن كنت تحسن تشبيه المنار فقل ... كما أقول وصفها مثلما أصف كأنَّها غادة قامتْ على شرف ... تأتي الجواري إليها ثم تنصرف وقال: وسامية الأرجاء تُهدي أخا السُمرى ... ضياء إذا ما حندس الليل أظلما ليست بها بُرداً من الأنس صافياً ... فكان بتذكار الأحبة معلما

نكتة لطيفة

وقد ظللتني من ذُراها بقبة ... ألا حظ فيها من صحابي أنجما أخيّل أن البحر تحتي غمامة ... وأني قد خيّمت في كبدِ السما ومن عجائب الاسكندرية عمود السواري، قال المقريزي: هو حجر أحمر منقط من الصوان المانع، وكان حوله نحو أربعمائة عامود، وكانت كلها سماقية، كسرها فراجا وإلي الإسكندرية أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ورماها بشاطئ البحر لِتُوعر على العدوّ سلوكه. ويحكى أن هذا العامود أحد الأعمدة التي كان عليها رواق أرسطاليس، وأنه كان يدرّس به الحكمة وكان دار العلم، ويقال: إن ارتفاع هذا العمود سبعون ذراعاً، وقطره خمسة أذرع، وقيل طوله بقاعدته اثنان وستون ذراعاً وسدس ذراع، وطول قاعدته السفلى اثنا عشر ذراعاً، والعليا سبعة أذرع ونصف، كذا في الخطط. وهذا العمود باقٍ إلى يوم تخطيط هذه الأسطر، وهو على نصف ميل من باب السدرة خارج السور، وكثير من العمد السماقية في أكناف البلدة بعضها قائم وبعضها مطروح. وللحافظ الخزرجي: نزيل سكندرية ليس يُقرى ... بغير الماء أو نَعْت السواري ويتحف حين يكرم بالهواء الم ... لاين والإشارة للمنارِ وذكر البحر والأمواج فيه ... ونعت مراكبِ الروم الكبارِ وإن يطلب هنالك حرفَ خبز ... فما فيها لذاك الحرف قاري وقال: يا ساكني إسكندرية فيكم ... بات النزيل بليلة المَلْسُوعِ تقرونه بهوائها وبمائها ... والنار في أحشائه بالجوعِ نكتة لطيفة قال السيوطي: وقد رأيت هذا العمود لما دخلت الإسكندرية في رحلتي، ودور قاعدته ثمانية وثمانون شبراً، ومن المتواتر عند أهلها أن من حاذاه من قريب وغمض عينيه ثم قصده، لا يصيبه بل يميل عنه، وذكروا أنّه لم تحصل

إصابته لأحد قط، مع كثرة تجربتهم لذلك، وقد جربت ذلك مراراً فلم أصبه، قاله في المحاضرة. وأما خليجها فأختلف في بانيه فلا حاجة إلى خلاف لا ثمر له، فهاك يسيراً من خبره، قال الأسعد في قوانين الدواوين: خليج الإسكندرية عليه عدة ترع، وطوله من فم الخليج ثلاثون ألف قصبة وستمائة قصبة، وعرضه قصبتان ونصف إلى ثلاث قصبات ونصف، ومقام الماء فيه بالنسبة إلى النيل فإن كان عالياً أقام فيه ما يزيد على شهرين، كذا في الخطط. وحكى ابن الوردي أن الإسكندرية كانت سبع قصبات وإنَّما أكلها البحر، ولم يبق منها إلا قصبة واحدة، وأن مساجدها حصرت مرة فكانت عشرين ألف مسجد. قيل بانيها الذي بنى الأهرام، وقيل يعمر بن شداد، وقيل الإسكندر الأول، وهو ذو القرنين اليوناني الذي جال الأرض، وبلغ الظلمات ومغرب الشمس ومطلعها، وسدّ على يأجوج ومأجوج، وقيل بناها الاسكندر الثاني ابن دارا الرومي، وإنَّما شبّه بالاسكندر الأول لأنَّه ذهب إلى الصين والمغرب ومات وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة، والأول كان مؤمناً، والثاني كان على مذهب أستاذه أرسطاليس، وبين الأول والثاني دهر طويل، وقيل بنتها الجن لسليمان عليه السلام! وقد كان أرباب الفصاحة كلّما رأوا عجباً عدّوه من صنعة الجن. قيل وكان فيها اثنا عشر ألف حانوت يبيع البقل، قال الكندي: أجمع الناس على أنه لم يكن في الدنيا مدينة على مدينة ثلاث طبقات غير الإسكندرية، قيل بناها الاسكندر اليوناني في ثلاثمائة سنة، وهل هو نبي أو ملك بفتح اللام أو بكسرها خلاف والأصح الأخير. وكان أهلها لا يمشون فيها نهاراً إلا بخرق سود في أيديهم خوفاً على أبصارهم من شدة بياضها، وأقاموا على ذلك سبعين سنة، وكان يقال إنها إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد. وقد أخلقتْ تلك الجِدَّة وأسرعت في الذهاب إلى الدمار مُجِدّه. فمن لعينٍ ترى ما حلَّ ساحتها ... من التلاف وكانت فوق ما تصف

قصة

ولله درّ القائل: بني الدنيا أقلّوا الهمّ فيها ... فما فيها مايؤولُ إلى الفواتِ بناء للخرابِ وجمعُ مالٍ ... ليفنى والتوالد للمماتِ قيل: وهبوب الصبا في أهلها، مما يصلح أمرهم ويُرق طباعهم، ويرفع همتهم، إلا أنهم على ذلك موصوفون بالشح. وهذا فيما كان، وأما الآن فلا نقص في معايبهم، قال من لا قال في ساحتهم: رأيتُ في النوم أبي آدما ... صلى عليه الله ذو الفضلِ والناس يشكون بأنواعهم ... من حُمق أهل الغربِ والبخلِ فقال: حوّا أمكم طالقٌ ... إن كان أهل الغرب من نسلي وقال: لا تعتبنّ على بخل مغاربة ... طباع أنفسهم تبدي الذي فيها فالشمسُ تبدو وفي الدنيا أشعتها ... حتى إذا وصلت للغرب تخفيها وقال آخر يهجوهم: يقولون أهل الغرب أهل فضيلة ... وكلّ امرئ قد قال حسب مقالهِ وما الغرب إلا مطلع كلّ ناقصٍ ... وبرهان ما قلنا طلوع هلالهِ أبو حبان الأندلسي: وأوصاني الوصيُ وصاة نصح ... وكان مهذّباً شهماً أبيّا بأن لا تُحسنن ظناً بشخص ... ولا تصحب حياتك مغربيّا قصة وليست من باب المعاتبة، ولكن الشيء بالشيء يذكر بالاستطراد وبالمناسبة، وبرزتُ يوماً من باب السدرة متنزهاً، فرأيت جماعة من الناس حول عمود السواري، فدنوت منهم فإذا بهلوان من أروام حلب، رطب القوام عذب الكلام، فوه ماء الحياة، شاربه أخضر لم يصل إلى الظلام، قد نصب الحبال إلى رأس العمود وارتقاها، وأظهر من فنون الصنعة وأعاجيبها ما أدهش به العقول وحيّر الأفكار، ثم قال: يا أهل الإسكندرية أعينوني على السفر وأنا أريكم عجائب هذه الصنعة، فلما نزل إليهم ليجمع منهم شيئاً من الدنيا، فروا كالعرب المأخوذة فتذكرت قول القائل:

يا كحيل العيون إنك ظبي ... بلقاه قد تسعف الأقدارُ كل شيء يهون عندي إلا ... درهم ترتجيه أو دينارُ هذا وكان فيهم الرؤساء والتجار، والعدد الذي لا يحصى ولكنه بلا مدد، على أنها كانت دار الكرام، ومدار بلوغ المرام. فتغيرت تلك البلاد وأهلها ... وغدت حديثاً مثل أمس قد مضى استغفر الله الستار، وإن نقل مثل هذا الكلام يدل على سخافة الناقل، ويقضي على أنه ليس بعاقل، ولكن ذلك دأب أهل القيل والقال، ورواج آداب هذا المجال. وكان البهلوان يلقي شيئاً من المواليات الرائقة وهو يمشي على الحبال، فكتبت منة هذا البيت لما اشتمل عليه من حسن الصنعة، ويسمى بالمنطق المردوف وذا الاشتقاق: قطعت كم بيد أطلب من وصاله باد ... وبالجفا باد مالي مَنْ أخذ لي بيد والقلب قد صيد مع محبوب لحْظُه صاد ... كم من أسد صاد ما لو من أسود وصيد قلت الوفا عيد أمرضني ولي ما عاد ... والحُزن لي عاد من هجرُه وقربُه عيد أحوى حوى جيد للمحسن المفدى جاد ... بالوصل ما جاد لكن كلّ فعله جيد وفي هذا الوزن الراجح: أنفقت كم عين والحبوب مالي عان ... وأنا الشجيّ العان أضحى دمع عيني عِين والحبّ ما بين غزلان النقا والبان ... عنه العنا بان وانزاحت صروف البِين محب لو حين وجنَاتُه طلا في حان ... والصبّ قد حان فيها شرب كأس الحين لامسه شِين إلا دائماً نشوان ... قد أمنحو شان ما قارن بسعده شِِِِِين وقد علمت أن هذا الوزن مبني على التسامح، واللحن يَعْذُبُ فيه إذا كان به، أحسن من أن يكون معرباً، بل قال السيوطي في شرح الموشح النحوي أنه يجب فيه اللحن. وفي كتاب منتهى الآمال من مشتهى الموال شيء من أحكامه. قيل وإليه وقعت الإشارة على وفق ما فرطنا في الكتاب من شيء بقوله تعالى والطير محشورة كلّ له أواب لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا كما قيل في استخراج اسم هود عليه السلام من قوله تعالى ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها بطريق التعمية. وأصل هذا الوزن من البحر البسيط، وسبب تسميته بالمواليا ما يحكى أن الرشيد لما قتل جعفر البرمكي أمر أن لا يرثى بشعر، فرثته جارية له بهذا الوزن حيث لم يكن

فائدة

شعراً، وهي تندب وتقول: يا مواليا. فسُمّي بذلك. قيل وأول بيت قالته في هذا الوزن قولها: يا دار أين ملوك الأرض أين الفرسْ ... أين الذي قد حَموْكِ بالقنا والترسْ قالت تراهم رمم تحت الأراضي دُرسْ ... سكوت بعد الفصاحة ألسنتهم خرسْ فائدة قال المقريزي أهل الإسكندرية يستقبلون من الكعبة ما بين الركن الغربي إلى الميزاب، فيجعلون الدب الأكبر خلف كتفهم الأيسر وقت طلوعه، ويكون الجدي على الأذن اليسرى، انتهى بمعناه. فوائد عن الإمام الحافظ الشيخ أحمد المقري، وكان يدرس بجامع فراجا على الساحل خارج السور، لأن البلدة تحول أكثرها إلى ذلك الموضع ولم يزل يتجدد بها البنيان. (ومنها) أن سورة الكوثر لم تشتمل على ميم، وفي ذلك إشارة إلى أن هذا العطاء غير مرجوع فيه، إذ الميم يرجع منتهاها إلى مبتداها من حيث أنها دائرة. (ومنها) أنه قيل في تفسير قوله تعالى ولقد نصركم الله ببدر أن المراد به محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه من أسمائه، وإليه الإشارة بقوله تعالى طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وذلك أن لـ طه من العدد أربعة عشر، وهو كمال البدر. (ومنها) ما وقع في الحديث القدسي كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف، فخلقت خلقاً فبي عرفوني. وذلك أن لفظ فبي له من العدد اثنان وتسعون وهو عدد لفظ محمد. (ومنها) أن بعض الأدباء استخرج عدد الرسل عليهم السلام، من إسم محمد صلوات الله عليه، بحساب الجمل وذلك بتحليل الاسم إلى ثلاث ميمات، لكلّ ميم من العدد تسعون، وعلى ذلك للحاء تسعة، وللدال خمسة وثلاثون، فالمجموع ثلاثمائة وأربعة عشر!! قال: وضمنت ذلك منظومتي السنوسية حيث قلت: وعدة الرسل الكرام الكُمَّلِ ... في اسم محمد بدت بالجمَّلِ ميم وحاء ثم ميم كُرّرت ... وبعدها دالٌ كما قد قررت (ومنها) أن بعض الأدباء استخرج مدة عمره عليه الصلاة والسلام، من

لفظة نبئ بالهمزة، لأن لها على ذلك من العدد ثلاث وستون. (ومنها) أن ابن رشد كان يقول: ما من مسألة وإن كانت جلية في ظاهرها، إلا وهي مفتقرة إلى الكلام على ما يخفى من باطنها، وقد يتكلم المرء على ما يظنه مشكلاً وليس بمشكل، وبخلافه. (ومنها) أن نسبة الفائدة إلى مفيدها من الصدق في العلم وشكره، والسكوت عن ذلك من الكذب في العلم وكفره، ولا ينافيه خبر انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى مَنْ قال: إذا أفادك إنسان بفائدةٍ ... من العلوم فجدد ذكرها أبدا وقل فلان جزاهُ اللهُ صالحةً ... أفادَنيها وخلِّ الكبرَ والحسدا ولا يخفى ما في هذا الكلام من الرعونة، وفيه كلام يحسن السكوت عنه. (ومنها) أنّ كلاً من البسملة والحمد لله أمر ذو بال، فيحتاج إلى سبق مثله ويتسلسل، وأجاب بأن المراد ما يقصد في ذاته وليس وسيلة لغيره، وبأن كلاً منهما كما يحصل البركة لغيره ويمنع نقصه، يحصل ذلك لنفسه، كالشاة تزكي نفسها وغيرها من الأربعين. (ومنها) أن ابن جني حكى أن سيبويه رؤي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: خيراً، وذكر كرامة عظيمة. فقيل له: بِمَ؟ قال: بقولي إن اسم الله تعالى أعرف المعارف.! (ومنها) أنّ ثعلباً قال في - الرحمن: إنه اسم أعجمي بالحاء المعجمة عُرِّب بالمهملة وهو غريب، ومن إملائه: الحدُّ والموضوعُ ثم الواضع ... والاسم الاستمداد حكم الشارع تصور المسائل الفضيله ... ونسبة فائدة جليله حق على طالبِ علمٍ أن يحيط ... بفهم ذي العشرة منبزها ينيط تخصه قبل الشروع في الطلب ... كيما يكون عارفاً فيما طلب

وقال غيره: حياة وعلم قدرة وإرادة ... وسمع وإبصار كلام مع البقا صفات لذات الله جلّ قديمةٌ ... لدى الأشعريّ الحبر ذي العلم والتقى وقال غيره: أولو العزم خمس والشرائع خمسةٌ ... يُدانُ بها ربّ العباد ويُعبَدُ فنوح وإبراهيم ذو الحلم والتقى ... وموسى وعيسى ثم جاء محمدُ وقال غيره: وكل نبيّ في القرآن فإنه ... لمن نسل إبراهيم ذي العلم والتقى سوى خمسة لوط وهود وصالح ... ونوح وإدريس الذي فاز وارتقى وقال غيره: إلا إن قرّاء الأئمة سبعة ... بهم يهتدي في الذكر كلُّ كبير عليّ أبو عمرو وحمزة عاصم ... ونافع عبد الله وابن كثير ولبعضهم: إن الليالي للآنام مناهلٌ ... تطوى وتنشر دونها الآجالُ فطِوالُهنّ مع السرور قصيرةٌ ... وقِصارهنّ من الهمومِ طِوالُ ومنه: نزيل سكندرية ليس يُقرى ... بغيرِ الماء أو نظرِ السواري فلا تطمع برؤية قرص خبز ... فليس لضيفها المحتاجِ قاري وفي عاشر شهر ربيع الأول، جاء كتاب يشتمل على قتل المرحوم السيد أحمد بن عبد المطلب أمير مكة المشرفة، وبما وقع تحدث عامة أهل مكة قبل الوقوع، وإرجاف العوام مقدِّماتٌ لأمر واقع لا شك فيه، فلنذكر طرفاً من خبر هذا السيد الشهيد، لما في ذلك من الفائدة التي تعود صلتها على أهل الاعتبار. كن عالماً أخبارَ من عاشَ وانقضى ... وكن ذا اعتبارٍ واغتنم أطيبَ العمر

ولنبدأ أولاً بنسبه الشريف، فإن أنساب بني هاشم يقصر عنها طمع الطامع، أو هم كما قال: وما دخولهم في الناسِ أو مُضر ... إلا دخول كلام الله في الكلمِ فاقصر فإنك لا تحصي فضائلهم ... لو كان في كلّ عضو منك ألفُ فمِ هو السيد المقدس المبرور أحمد بن عبد المطلب بن حسن ذي المآثر المشهورة والنوادر المسطورة، ابن أبي نمي محمد بن بركات، وله الأخلاق الحسنة والشمائل المستحسنة، قبض عليه التركي عام تسع وتسعمائة وذهب به إلى القاهرة، فتألم لذلك أهل مكة المشرفة، وفي ذلك يقول ابن العليف: عزيزٌ على بيت النبّوة والملك ... مقام على ذلِّ المهانة والفتكِ وأعظم ما يلقى الكريم من الأسى ... على نفسِ ما يلقى من الضيم والضنكِ برغمِ العلا والمجد والسيف والندى ... حصلت أبا عجلان في قبضةِ التركِ وتلكَ لعمر الله أدهى مصيبة ... أصمّ بها الحاكي عن الحادثِ المَحْكي فيالك من دهرٍ تناهت خطوبُهُ ... نظمت حصاةَ القلبِ والهمِّ في سلكِ عدمتُ الليالي ما أمرّ صروفها ... وأخلقها باللومِ في الفعلِ والتركِ رحلتم فربعُ الأنسِ ما زال موحشاً ... خليّاً وسِتْر العزِّ أصبح في هتكِ وأسلمتم كلّ القلوبِ إلى الأسى ... فهذا الورى ما بين باكٍ ومستبكي وغادرتُم في الكربِ جيرةَ طَيْبَة ... كذا حيرة البطحاءِ والحرمِ المكي ولما استقلَّت بالمسيرِ خيولُكُم ... وحادي النوى يشكو إليه كما نشكي وسرتم وسارَ الجودُ يمشي أمامكم ... وظلت بنو الآمالِ من خلفكم تبكي رأينا الجبالَ الشمَّ والمجد والعلى ... تسير بها بُزل الجمال على وشكِ وفي أيامه وأيام أبيه أبي نمي محمد، استولى على الديار المصرية ملك الروم السلطان سليم، وجهّز إليهما قاصداً بالاستقرار والاستمرار، وذلك في سنة تسع وعشرين وتسعمائة: فلا عَدِمَتْهم نعمة خلقتْ لهم ... ودنيا بهم فيها الحياةُ تطيبُ

وبركات المذكور هو ابن محمد بن بركات بن حسن بن عجلان، الذي يقول في بنيه الشاعر: لو لم يكن في بني عجلان نافلة ... إلا سماحتهم في العِزِّ بالباسِ لكان ذلك كافٍ في محبتهم ... وكيف لا وهم من أشرفِ الناسِ وعجلان هذا، هو ابن رميثة ابن أبي نمي بن حسن بن علي بن أبي عزيز قتادة، الذي دخل مكة بالسيف ودعا إليها الضيف، وطرد عنها الهواشم لأمر اقتضاه وحكم به الباري تعالى وقضاه: ومن تكنِ الأسد الضواري جدودهُ ... يكن ليلُه صبحاً ومطعمه غضّا وذلك في سنة سبع أو تسع وخمسمائة، ويقال لِعَقِبه القَتَادات، فلا خلا الله منهم الوجود، ولا زالت منازلهم مأوى المكارم والجود، وكانت مملكته ممتدة من الينبع إلى حلى، وعدله فيها ظاهر جلي، وكان بطلاً شجاعاً، مهاباً مطاعاً. ملكٌ أبوهُ وأمهُ من دوحةٍ ... منها سراجُ الأمةِ الوهاجُ شربوا بمكة في ذرى بطحائها ... ماَء النبوة ليس فيه مزاجُ كتب إليه الناصر يستدعيه ويعده ويمنيه، فأجابه لذلك فسار من مكة إلى

العراق، فلما وصل إلى المشهد الفروي خرج لملاقاته الأعيان، وكان في جملة من خرج من غمار الناس شخص معه أسد مسلسل، فتطيّر منه الشريف قتادة وقال: مالي وبلدة تذل فيها الأسود؟ فرجع لوقته إلى الحجاز. فكتب إليه الناصر يعاتبه على قدومه عليه ورجوعه قبل وصوله إليه، فكتب إليه الشريف قتادة: بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ ... ولو أنني أعرى بها وأجوعُ ولي كفِّ ضرغامٍ إذا ما بسطتها ... بها أشتري يوم الوغا وأبيعُ مُعَوّدةٌ لَثْمَ الملوكِ لظهرها ... وفي بطنها للمجدبين ربيعُ أأتركها تحت الرهان وأبتغي ... لها مخرجاً إني إذاً لرقيعُ وما أنا إلا المسكُ في غير أرضكم ... يضوعُ وأما عندكم فيضيعُ فكتب إليه الناصر أما بعد فإذا نزع الشتاء جلبابه ولبس الربيع أثوابه، قابلناكم بجنود لا قبل لكم بها، ولنخرجنّكم منها أذلة وأنتم صاغرون. فلما أحس بالشرّ كتب إلى بني عمه أبناء الحسين من أهل المدينة يستنجدهم، وكتب إليهم أبياتا منها قوله: بني عمنا من آل موسى وجعفر ... وآل حسين كيف صبركم عنا بني عمنا إنّا كأفنان دوحة ... فلا تتركونا تتخذنا العدى قنّا إذا ما أخٌ خَلَّى أخاه لآكلٍ ... بدا بأخيه الأكلُ ثم به ثَنّى فلما أقبلت الكتيبة الناصرية، وقد أتته رجال النجدة من بني الحسين، بدد شمل تلك الكتيبة وكسرها، وأستأصل ساقتها وقهرها، وضاقت عليهم الأرض، حتى أن هاربهم إذا رأى غير شخص ظنه رجلاً. فلما رأى الناصر شدّة بأسه

وعدة لباسه، مدحه على سيرته وأولاه صفاء سريرته، وأقطعه قرى متعدّدة وأكرمه بصلات متجددة، فلم يزل أميراً على الحجاز، وملكاً لها على الحقيقة لا المجاز، ولله در علي بن المقرب حيث يقول: من سالم الناس لم تسلم مقاتلُهُ ... منهم ومن عاش فيهم بالأذى سَلِما ما كلّ ساعٍ إلى الهيجاء يدركها ... من حكّم السيف في أعدائه احتكما وهكذا فلتكن الهمم العلية، والشمائل العلوية، وبالجملة فإنهم المعنيون بقول القائل: فتية لم تلد سواها المعالي ... والمعالي قليلة الأولادِ وفيهم يقول مادحهم: ويكاد من كرَمِ الطباع وليدُهم ... يهب التمائم ليلةَ الميلادِ وإذا امتطى مهداً أفليس يُنيمُه ... إلا نشيدُ مدائح الأجدادِ أو هم كما قال: وكم فيهم محاسن وهي شتّى ... وأوصاف ألذّ من المدامه فلا زالت على الأيّام تبقى ... محاسنُهم إلى يومِ القيامه وقتادة المذكور هو ابن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن الحسين بن سليمان ابن علي بن عبد الله بن محمد بن موسى الثاني بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحصن بن الحسن المثنّى بن أمير المؤمنين الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. وفيه قيل: كانت قريشٌ بيضة فتفلّقت ... فالمُحُّ خالِصُه لعبد منافِ الرائشون وليس يوجد رائش ... والقائلون هَلُمَّ للأضيافِ وما أصدق ما قال: أولئك الناس إن عُدّوا وإن ذُكروا ... ومن سواهم فلغو غير معدودِ لو خلد الدهر ذا عز لعزّته ... كانوا أحق بتعمير وتخليدِ

وأما سيرته فإنه كان شريف النسبين، كامل الحسبين: فيا نسباً كالشمس أبيض واضحاً ... ويا شرفاً من هامة النجم أرفعُ وكان عزيز النفس، صدوق الحَدْس: تعرف من عينه نجابته ... كأنَّه بالذكاء مكتحلُ محباً للفقراء ومستنزل الضيف للقرى، متنزلاً لأهل الأدب، مولعاً بالمنادمة والطرب، تأدب بالأشعار والسير، ومشى في التصّوف على طريقة الشيخ الأكبر، وكانت في خدمته كثير من المشايخ الكبار، وسافر إلى اليمن فاِجتمع برجالها، وبشّر بولاية مكة المشرفة فكان لا يزال يتشوّفها، ويكنى عنها بطلوع الشمس، سمعت منه عام اثنين وثلاثين وألف: لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة ... فمسرحُ غزلان وديرٌ لرهبانِ أدين بدينِ الحب أنّى توجهتْ ... ركائبهُ فالحبُ ديني وإيماني وكان من أموره أنه لما قدم الوزير أحمد باشا متوجهاً إلى اليمن انكسر مركبه بثغر جدة، فلما دخل البندر طلب من يغوص البحر لإخراج ماله منه، فاخرجوا له البعض واعتذروا عن الباقي، فاتهمهم وقتل حاكم البلدة وأمين قلعتها، وذلك في شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وألف، وشريف مكة إذ ذاك السيد محسن بن حسين بن أبي محمد، وقد توجه السيد أحمد المذكور إلى الوزير فأغراه على الشريف محسن، وما زال به حتى وسَمَهُ بإمرة مكة المشرفة، وكان لا يملك شيئاً في تلك الحالة، فلله دَرّ من قال: إذا اصطفاك لأمرٍ هيَّأَتك له ... يدُ العناية حتى تبلغ الأرَبا لو لم تُرد نيلَ ما أرجو وأطلبه ... من باب فضلك ما علّمتني الطلبا

ولما قضى على الوزير نادى باسمه في تلك الجهات، وأخذ العهود على أولئك الجند، فأقبل عليه الشريف محسن وحاصره إلى سَلْخ شعبان، ثم رجع إلى مكة وقد قتل جماعة ممن معه وثلاثة من بني عمه، وكان في عسكر لا يظن انكساره. وما يمنعُ الجيشُ الكثير التفافهُ ... على غير منصورٍ وغير مُعان فلما كان سابع عشر شهر رمضان قدم السيد أحمد في عسكره إلى مكة المشرفة، وخرج إليه الشريف محسن في جمع عظيم إلى ما وراء الحجون فوقع ما وقع، ورجع الشريف محسن إلى الحسينية وكان لا يُتَوهم رجوعه، والله غالب على أمره متصرف في ملكه، يفعل ما يشاء وهو العليم الخبير: ما اِختلف الليلُ والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في فَلَكِ إلا لينتقل السلطان من ملك ... قد زال سلطانه إلى ملكِ ومالكُ العرش لم يزل أبداً ... ليس بفانٍ ولا بمشتركِ ثم إن السيد أحمد دخل مكة المشرفة في ذلك الموكب الذي لم يسمع بمثله في قومه وأهله، فاستقر به سلطانه، وعظم مكانه وإمكانه، وقد خلت منازل الأشراف من سكانها، ونَعَقَ غرابُ البين في أركانها، وأصبحت تلك القصور كالممحوة من السطور، ومكة مستوحش فيها الأنيس، ويرثي لمصائبها إبليس. كأن لم يكن فيها أوانسُ كالدُمى ... وأقيال مكة في بسالتهم أسدُ تداعى بهم صرف الزمان فأصبحوا ... لنا عبرة تُدمي الحشا ولمن بعدُ فلم يزل بمكة أميراً متغلباً على الأشراف، منصوراً بالرعب في سائر أقطار الحجاز، حتى أن كثيراً من الناس توهم أنه القائم من أهل البيت، وأسعد الله به من شاء من عباده، وأمدّه بسنا إمداده، وكان من أمره ما تناقله الركبان. وكان ما كان مما لستُ أذكرُه ... فظُن خيراً ولا تسأل عن الخبرِ ولم يزل على ذلك الحال، وملوك مكة في أكناف الجبال: ولقد وقفت على منازلهم ... وطُلولها بيد البلى نهبُ وبكيت حتى ضج من لَغَبٍ ... نِضْوي ولجَّ بعذليَ الركبُ

وتلفتتْ عيني فمذ خفيتْ ... عنّي الطلولُ تلفتَ القلبُ ولما كان العشرون من المحرم افتتاح سنة تسع وثلاثين، قدم الوزير قانصوه فاختلى بالسيد أحمد وخنقه بداره ودفنه في طاقة، فكثُر اللَغَط بين الجند حتى أدى إلى نبش قبره ليعلم حاله، وبقي مطروحاً على أعين الناس من الصبح إلى وقت الزوال، ولسان الحال يقول: لا يسلمُ الشرفُ الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم ثم دفن ثانياً في تربة آل جَدِّه الحسن عليه الرحمة. فإن دَفَنوا تحتَ الترابِ جمَالهُ ... فما دُفنت أوصافُهُ وشمائلُه فيا عين سُحّي لا تَشُحِّي بوابلٍ ... على ماجدٍ لا يعرفُ النهرَ سائلُه ثم انعقد الرأي على ولاية الكبير الخطير السيد مسعود بن إدريس بن حسن، حفظ الله تعالى أيامه من الأكدار، ولا زالت داره أشرف دار، وذلك في الخامس من صفر الخير من السنة القائل لسان حالها: هذا حباه الله ملك جدودهِ ... ولذاك جناتُ النعيم تزخرفُ وفيه يقول الشيخ الفرفوري: أميرنا السيد المفضال مسعودُ ... من وصفُه العدلُ والإنصافُ والجودُ توارثَ المجدَ عن إدريس والده ... أكرم به والداً أحياه مولودُ وما أقرب ما قال: قل للمقيم بغير دار إقامة ... آن الرحيل فودّع الأحبابا إن الذين صحبتهم ولقيتهم ... صاروا جميعاً في التراب ترابا ولما كان سادس عشر ربيع الثاني هَبَّت الرياح الشرقية واعتدل حال البحر،

فعزمت على ركوبه والنفس عندها إباء وامتناع، لما شاع من قولهم ما خفق الشراع، ولكن أي عقل لمعقول، وقد ورد في النقول: لو كشف لأحدكم لرأى قائداً يقوده، فألجأتها إلى ركوبه وألزمتها، واقتحمت بها لجته وأنشدتها: لقد خضتِ يا نفسُ بحرَ الهوى ... وأحرقتِ قلبي بنارِ النوى علام نفورك من مركبٍ ... سرى في أمانِ شديدِ القوى فنزلت إحدى المراكب المتوجهة نحو الروم، منشداً بيتيّ المفتي أبي السعود وحَبْر العلوم: خلِّ الديارَ بما فيها لأهليها ... وقل سلامٌ على الدنيا وما فيها وألقِ معتصماً تلك العزيمة في ... بحرِ التوكلِ بسمِّ الله مجريها فسرنا تلك الليلة والليلة الثانية على أحسن حال وأنعم بال، ثم اضطرب البحر وقامت فيه العناصل بحيث كادت لا تبقى شيئاً على وجه الماء، وكان المدفع إذ ذاك ما يناهز الثلاثين سفينة فتفرقت بجمعها، حتى لا ترى واحدة منها واحدة ولا تظفر عنها بنبأ، وقد عقد الغيم غمائم غمه، وأمطرنا الوجل سحائب همه، وأرسل الغمام علينا الأمطار كأفواه القُرَب، ولقد شاهدت الأهوال من تلك الأحوال ولا عجب. على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب وامتدّ الحال وقلّ النوال، وقد نفد ما كان معنا من الما، واستولى علينا الظما: ومن العجائب أنني ... في لجِّ بحرٍ صرتُ راكب وأموتُ من ظمأ ولك ... ن عادة البحر العجائب ويقول غيره: وكم مات في البحر أخو ظما ... بغُلّتهِ والماء جار وراكد

لطيفة

فلا تحسبنْ كلّ المياهِ شريعةً ... يُبَلُّ الصدا منها وتُوكى المزاود كتب الحصري إلى المعتمد بن عباد صاحب أشبيلية، وكان بعث إليه بخمسمائة دينار يجهز بها إليه: أمرتني بركوب البحر أقطعه ... غيري لك فاخصصه بذا الراءِ ما أنت نوح فتنجيني سفينته ... ولا المسيح إذا أمشى على الماءِ وكتب إليه أبو العرب الزبيري حين بعث له بمثل ذلك: لا تعجبن لرأسي كيف شاب أسىً ... وإعجب لسوادِ عيني كيفَ لم يشبِ البحرُ للرومِ لا تجري السفينُ به ... إلا على غرر والبر للعربِ لطيفة دخل الشيخ عبد الرزاق فاتح البيت المعظم على السيد الحسن بن أبي نمي شريف مكة شرفها الله تعالى، ليستأذنه في ركوب البحر لضيق حاله، فأنشده الشريف: فيم اقتحامك لجَّ البحرِ تركبه ... وأنت يكفيك منه مَصَّةُ الوَشَلِ فأنشده على البديهة من القصيدة: أريد بسطةَ كفٍ أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلى قِبَلي فأمر له الشريف بألف دينار. وعلى ذلك في التحفة السنية في الدولة الحسينية أن السيد شكر بن الحسن الملقب بتاج المعالي رأى فرساً مع شخص من العربان، فأعجبته ولم يمكنه طلبها منه، فلما قضى مناسكه بعث وصيفاً بألف دينار يسأله

قبولها في مقابلة الفرس، فأمسى الوصيف على العربي فأضافه بالفرس. فلما أصبح كلمه في ذلك، فقال: إنك لما أمسيت علينا لم يكن عندنا ما نضيفك به، فذبحنا لك الفرس. فبُهِت الوصيف، ثم إنه دفع الألف إليه فأمتنع من قبولها، فبالغه الوصيف حتى قبلها، فلما رجع إلى سيده قَصَّ عليه الخبر. فقال له: ما فعلت بالألف؟ قال: أعطيتها العربي بالمبالغة. قال: نِعْمَ ما فعلت، ولو لم تفعل ذلك لرأيت ما تكره، وحيث فعلت ذلك فأنت حرّ. تُوفِّيَ السيد تاج المعالي سنة أربع وستين وأربعمائة وكان أميراً جليلاً جواد جميلاً، سارت بذكره الركبان، وشهدت بفضله العربان، وهو رابع من ملك مكة من الدولة الحسينية، فإنه ملكها عن أبيه الحسن بن جعفر، وملكها عيسى عن أبيه جعفر بن محمد الحسيني المستولي عليها بالسيف، فإنه دخلها وقتل من طوائف العرب الهذيلية والطلحية وغيرهم وأخلى الترك عنها، وبقيت في يده إلى أن دعاه واجب الإجابة فلباه، وذلك في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة أيام العزيز بالله الفاطمي. وما هذه الأيام إلا صحائفٌ ... نؤرخُ فيها ثم تُمْحى وتُمْحق وأعجب شيء أن دائرة المنى ... توسعها الآمال والعمر ضيق

مجير الدين بن تميم: عجبت للبحر لما أنْ رأيتُ بهِ ... تلك الصواري وقد أرْمتْ على الحُبُكِ أظنها لم تطل إلا وقد وليت ... حمل الرسائل بين الفُلك والفَلكِ وقال: ولما ركبت البحر والبحر قد طما ... وهاج علينا موجه يتلاطمُ تمشّت بنا في لجة ببطونها ... كما يتمشى في الصعيد الأراقمُ وقال: وركبت بحر الروم وهو كحَلْبَة ... والموج تحسبه جواد يركضُ كم من غراب للفظيعةِ أسودِ ... فيه يطير له جناح أبيضُ وقال آخر: سفر البر كيف كان جميل ... ليس لي في البحار من أوطارِ لست ممن يلقى الهلاكَ بنفس ... طمعا في غنائم الأخطارِ (حكى) الشيخ الأكبر أن رجلاً من علماء المغرب قصد الحج ثم تردد بين أن يسافر براً أو بحراً، فعقد النية على مشورة من يلقاه، فلما برز من داره

فائدة

لم يلقه إلا يهودي، فاغتمَّ لذلك ثم عزم على أن لا يحل ما عقده مع الله تعالى، فاستشار اليهودي فقال له: إن الله تعالى يقول: هو الذي يسيركم في البر والبحر فلولا أن البرّ أفضل من البحر لما قدّمه عليه، فرجع الشيخ مسروراً بذلك والله وليّ التوفيق. الشيخ الفرفوري: أبا خالد أحسنت لا زلت محسناً ... رفيقاً بمن يهوى جواريك هاديا ثنيتُ عِنان الفُلك عنك مودعاً ... وداع امرئ لا يرجع الدهر ثانيا وقال آخر: ولقد ركبتُ البحرَ أرجو راحةً ... فشهدتُ فيه مواقعَ الأهوالِ وعزمت أن لا عدت فيه ثانياً ... وهجرته في سائر الأحوالِ فائدة يقال من خواص الفَيْروزَج أنه ما رؤي في إصبع غريق قط، قال بعض فقهاء اليمن: وكان في نفسي شيء من ذلك فاتّفق أنّا وجدنا غريقاً في نهر وقد بقى فيه رمق، فحملناه إلى اليبس، فلما سكن جأشه قال: ما هذا الموضع؟ فسمّيناه له. فقال: إني وقعت بأرض كذا. فإذا بين الموضعين سفر خمسة أيام!! ثم إنه طلب مأكولاً فذهبنا لإحضاره، فانقضَّ عليه الجدار الذي كان تحته فقضى عليه، فعجبنا من مسامحة البحر وتعدّي الجدار، فلما أخذنا في تجهيزه رأينا في يده خاتم فضة فيروزج، فعلمنا صحة خاصيته، ثم بعناه وجهزناه به، انتهى. بمعناه من كتاب عقود النحر في نوادر البحر. ولا يخفى عليك أن الخاصية قد تتخلف، وهي طبيعة مجهولة ولله درّ القائل: لي مدة لا بد أبلغها ... محتومة فإذا انقضت مت لو ساورتني الأسدُ ضارية ... لغلبتها إن لم يجئ وقت

ومن كتاب البحر: ينبغي لراكبه أن يكون ممتلئاً من الطعام عند ركوبه، فإذا حصل له القيء كان في معدته ما يستخرجه، ويستحب له مسح ظاهر الأنف وباطنه بالإسْفيداج، وشمَّ الصندل والماورد، واستعمال شراب الحِصْرِم. ثم لم نزل كذلك، نجوب فيافي المهالك، حتى نظر الباري تعالى إلينا بعين الرحمة، وكشف عنّا بمنِّه غمائم الغُمَّة، ونحن في موج يرفع ويخفض ويجرجرنا إلى ما يُسقم ويُمرض، والريح تضرب الشراع وتمزق القلاع: فيا ليت ما بيني وبين أحبتي ... من البعد ما بيني وبين المراجعِ فأقمنا على الماءِ تجاه جبال رودس أياماً لوقوف الريح: ونحن في مركب كالنون يذكرنا ... موسى بن عمران في يم بتابوتِ ما كان أغناك عن بحر وعن خطرٍ ... وبُعْد أهل وتغريب وتشتيتِ قد شابت رؤوس الجبال واكتست عمائم الثلج، وخاضت آراء الرجال في الهَرْج والمَرْج، وتمزقت بالأهوية القلوب والأستار، والبارق يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار. هذي خُفوق البرق والقلب الذي ... ضُمَّت عليه جوانحي خَفَقَان ولما أمسينا ذات ليلة هبت علينا نسمة سارت بها الركبان، فوصلنا إلى رودس أقل ما كان يتوقع، بل ربما كان ذلك في الواقع: كعرشِ بلقيس لما جاء مُختطَفاً ... إلى سليمان يسعى من رسوم سبا فنزلنا من تلك المينا الأمينة إلى هاتيك المدينة، وقد أسفر الصباح عن اليوم الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول، فإذا هي بلدة لطيفة الشمائل وريفة المنازل، ذات أسوار مانعة وأشجار يانعة، وطيور مختلفة وقصور مؤتلفة، إلا أن ماءها أثقل من الرصاص، والإقامة بها تقوم مقام القصاص، وقد قامت بها سوق الفسوق

فائدة

على ساق، وتجاهر بالمعاصي فيها الفُسّاق، فلم يفرّق فيها بين الراح والماء القراح، والله غالب على أمره، وهو المسؤول في السلامة من كيد الزمان قهره. فائدة في معرفة ثقيل الماء وخفيفه: تُبلُّ قطنتان متساويتان وتجففان في الظل، والماء الذي قطنته أخف فهو أخف، كذا في تذكرة الشيخ جمال الدين العصامي. ثم إني دخلت خاويَ الوفاض، بادي الإنفاض، لا أملك بلغه، ولا أجد في جرابي مضغة، فطفقت أجوب طرقاتها كالهائم، وأجول في حوماتها جولان الحائم، أورد في مسارح لمحاتي، ومسانح غدواتي وروحاتي، كريماً أخلق له ديباجتي وأبوح إليه بحاجتي، وأديباً تُفرِّج رؤيته غُمَّتي وتروي روايته غُلّتي، فانصرفت من حيث أتيت وقضيت العجب مما رأيت، وهكذا شأن من لفظته معاول الإرفاق إلى مفاوز الآفاق، ومن اقتعد غارب الإغتراب، وأنأته المتربة عن الأتراب، رأى من تقلب حاله ما لا يجرى في خياله. وإنّ اغتراب المرء من غير فاقة ... ولا حاجة يسمو لها لعجيب وحسب الفتى ذلاً وإن أدرك الغنى ... وإن نال مجداً أن يقال غريب فأقمت بها مدة تناهز مدة الهلال، وعِدّة لم تُسْفر فيها وجوه الآمال، فلا مسامر في تلك المسامر، ولا منادم بوجه سافر. مدادي مدامي والكؤوس مَحَابري ... نداماي أقلامي وفاكهتي شِعري ومسمعتي ورقاء ضنّت بحسنها ... فأسدلت الأستار من ورق خضر

رودس

وأنا من سكانها بين خلق في صورة البشر، وأعيان جمعوا بين الحماقة والأشَر، فما أولاني في تلك الحال، بقول من قال: يا ضيعة العمر في قوم تخالهم ... ناساً ولا غير أثواب على صور لو أن ذا الحلم حَلَّ بينهم ... لودّ فيهم ذهاب السمع والبصر لهم كلام تقشعر منه الآذان، بأصوات مقلوبة ما دقت باب الدخول، ولا فرقت بين الفروع والأصول، فكم أطربت ولا أطربت وكم أغربت ولا أغربت. وكم حوت رودس مع حسن بهجتها ... من كلّ فدم بليد الطبع فاسده فكنت كما قال: أصبحت في بلدة غراء تجهلني ... وكلّ ثاوٍ بدار الجهل مجهولُ في معشر ما لأهل الفضل عندهم ... قدر ولا لبني الآداب تفضيلُ دار من مزخرفة الأركان ليس بها ... إذا سلكت الهدى إلا التماثيلُ فحق أن أذكر الزورا وجيرتها ... وروضة الطهر فهي القصد والسُولُ لا أبعد الله هاتيك الرياض ولا ... زالت لها من سحاب الخير تظليلُ فلا غرو أن أذكر معاهد الفضل ومواطنه، وأمتدح موارد الأدب ومعادنه، وأبوح بهوى تلك البقاع البهيّة، وأنوح متشوقاً إلى هاتيك الرباع الحرمية. بلاد بها نيطت عليّ تمائمي ... وأول أرض مَسَّ جلدي ترابُها فلا برحت تزهو على الأفق بالبها ... ولا زال يهمي في الرياض سحابُها رودس ورودس هذه جزيرة في البحر الرومي، ساحتها ثلاثة فراسخ وعمارتها فرسخ، وعليها ثلاثة أسوار منيعة، وثلاثة من الخنادق، وتمشي في عرض السور ثلاث عربات، وهو مخرق من أعلاه إلى أسفله، في كلّ كوة مدفع يضرب ما يحاذيه، ولا يؤثر في هذا الحصار شيء من المدافع، وفي بابه سلسلة عظيمة في وسط

البحر تمنع وصول شيء من المراكب إلى الباب، وهو قديم البناء محيط به البحر من جانب وبر الجزيرة من جانبين، وفيها بساتين، وكنايس عظيمة صارت مساجد، وحمام، وسوق كبيرة وهي الآن في ثوب البهاء، وخارج العمارة بساتين مختلفة الثمار والأزهار. ولها خبر طويل في الفتوحات السليمانية افتتحها السلطان سليم سنة تسع وعشرين وتسعمائة، فحصل بذلك لأهل الإسلام كمال المسرة، وعملوا تواريخ منها يفرح المؤمنون بنصر الله، قاله القطبي في الأعلام. وأما البحر الرومي وهو بحر الشام والقسطنطينية، فهو يخرج في الإقليم الرابع من المحيط، فيمر مشرقاً بشمال الأندلس إلى القسطنطينية، ويمتد ببلاد الجنوب إلى سبته إلى طرابلس الغرب إلى الإسكندرية، ثم إلى سواحل الشام وإلى أنطاكية. قال المقريزي: وطول هذا البحر خمسة آلاف ميل وعرضه من سبعمائة إلى ثلاثمائة، وفيه مائة وسبعون جزيرة عامرة فيها أمم كثيرة معروفة، وحكى بعض الفلاسفة أنه كان ما بين الإسكندرية والقسطنطينية في قديم الزمان أرض تنبت الجميز، وكانت وخيمة وسكانها من اليونان، إلى أن خرق الاسكندر إليها البحر، فغلب على تلك الأرض. ولما كان آخر جمادى الأولى، ركبت البحر صحبة أمير لواء البحر السكندري جمال الأمراء محمد بن سويدان، لا زال في كلاءة الملك الديان، فظفرت منه بما شغلني عن السكن والأهل والوطن، ولم أزل من مسامرته مدة مسايرته، فيما أنساني بإحسانه شتات الليالي، وأولاني من منثور فوائده ما هو أشرف من عقود اللآلي، فيا له من بحر يسير على بحر، وواسطة عقد محله من جيد المعالي ما بين السحر والنَحْر، وقد اختصرت فيما سطّرت، واقتصرت على ما ذكرت، فاقنعن من صفات مجد طويل بمقالي، فإن الكتاب قصير. ولما رآني وجهت إليه آمالي، وعولت فيما قصدت عليه، حقّق لي أملي، ولم ينظر إلى عملي، وأذكرني ما حكى المدايني، أن رجلاً

دخل على الملك العظيم عيسى فأراد أن يعاقبه، وكان عنده ابن شبرمة، فقال له الملك: أتعرف هذا الرجل؟ قال: نعم إن له بيتاً وشرفاً وقدماً. فأمر بإطلاقه وأحسن إليه. فقيل لإبن شبرمة: هل عرفته قبل ذلك؟ قال: ما رأيته قبل هذا الوقت، ولكن لما نظر إلي فأمّل فيّ الخير كرهت أن أخذله. قيل: فكيف نعته؟ قال: أعلم أن له بيتاً يأوي إليه، وشرفه أذناه ومنكباه، وقدمه الذي يمشي عليه، فلله هذا الاشتراك الذي لولاه ما تهيأ لمستتر مراد. ما أحسن ما قال: إن للهِ غير أرضك مرعى ... نرتعيه وغير مائك ماء إن لِله في الخلائقِ لطفاً ... سبق الأمهات والآباء ثم إني سرت في صحبة هذا العزيز محفوظاً بجنابه الحريز، وقد طار بنا ذلك الغراب الرحب الجناب، وقد أقبل الشتاء وجنوده، وزمجرت رعوده، وأشهر لوامع البرق، ورمى سهام أمطاره ما بين الغرب والشرق. بسحابٍ إذا همى الماءُ منه ... ألهب الرعدُ في هواه البروقا مثل ماء العيون لم يجر إلا ... ظل يذكي على القلوب حريقا ونحن نسأل الله تعالى السلامة، وأن يخرجنا من هذا البحر وقد شملتنا منه كلّ منة وكرامة، وعلى ذكر الشتاء فما ألطف قول القطب مورياً بالبرد: توقّ من الشتاءِ ولا تخاطر ... بنفسك قائلا إني جليد فرضنا أن جسمك من حديد ... فهل يقوى على البردِ الحديد

ثم لم أزل كذلك على ظهر ذلك البحر الأسود، وأنا أتمنى فراقه ولا أقول العود أحمد ولولا ما حصل للخاطر في ذلك المقام من الجمع التام، لدى ذلك المقام العالي الأعز المتلالي، فإني وجدت في خزانته من الكتب المفتخرة، والدفاتر المعتبرة، ما وقعت به على ضالتي المنشودة، وبقية روحي المفقودة، فكنت أسرّح طرفي في طرفها، وأسْرَح في رياضها فأجتني اللطائف من مبسوطها ونتفها. إذا ما خلوتُ من المؤنسين ... طلبت المؤانسَ في الدفترِ فلم أخلُ من شاعر محسنٍ ... ومن فاضلٍ ناصح منذرِ ومن حكم بين أثنائها ... فوائد للناظر المُفكرِ فلست أرى مؤثراً ما حييت ... نديماً عليها إلى المحشرِ ومن إملاه دام علاه: لا تقعدن على ضيم ومسغَبةٍ ... لكي يقال عزيز النفس مُصطبرُ وأنظر بعينك هل أرض مُعطلة ... من النبات كأرض حفّها الشجرُ فعدّ عما يشير الأغبياء بهِ ... فأيُّ فضل لعود ماله ثمرُ وانقل ركابك عن ربع ظمئتَ به ... إلى الجناب الذي يَهمى به المطرُ واستنزل الري من درِّ السحاب فإن ... بُلّت يداكَ به فليهنك الظفرُ وإن رُددت في الردِّ منه منقصة ... عليك قد رُدَّ موسى قبل والخضرُ ولما كان اليوم الثاني عشر من جمادى الآخرة، وصلنا إلى صاقص، وهو بالتركية اسم للمصطكي سمّيت به تلك الجزيرة لأنَّه لا يوجد إلا بها، قيل يخرج منها مائة صندوق في كلّ عام، فتوزع على سائر البلاد، في كلّ صندوق مائة أقة بوزن البلاد، وما زاد على ذلك رُمي في البحر كيلا يرخص

الديار العثمانية

عن قيمته، وهو عجيب. قال البصير في التذكرة: المصطكي وهو العِلْك الرومي، ولا يوجد إلا بصاقص من أعمال رودس في الخامس، وقيل يوجد بإشبيلية من الأندلس إلا أنه غير جيد، وشجره في البساطة ولطف العود والورق كشجر الأراك، يُؤخذ صمغه في شمس الجوزاء فتبقى قوته نحو عشرين سنة، وهو حار في الثانية يابس في الثالثة، أجوده الأحمر البراق والأبيض المُفْرِط في اليبس الهيِّن الانفراط، ومن خواصه تسهيل البلغم مضغاً وإذهاب الصداع وحديث النفس، وإذا بُخِّر به قطن بُلَّ بماء ورد وجُعِل على العين سكن الرمد والوجع، قال وهو مجرب. ثم قمنا منها وقد أغرقتنا الأنواء بالغمام، فتوقعنا قبل الوصول للحمى وِصَال الحِمام، وبلينا من خفق الغراب بأليم العذاب، وقد اسودَّ السحاب فشابت منه ناصية البحر، وبات الثلج منا ما بين السحر والنحر، وقد تطايرت القلوب من ليل هو أشد سواداً من الغراب، وغراب هو أعظم في تقلّبه من الطائر النعاب، فكنت كما قال: وركبت بحر الروم وهو كحَلْبَة ... والموج تحسبه جواداً يركض كم من غراب للقطيعة أسود ... فيه يطير به جناح أبيض الديار العثمانية فلم نزال كذلك حتى نزلنا على مَرْمَرَة، وهي قرية لطيفة يحمل منها أحجار المرمر إلى تلك البلدان، ثم أتينا إلى البُغاز وهو في اللغة التركية بمعنى المأزمين في العربية، وهو مضيق بين جبلين تحت كلّ منهما قصبة وقاض، وفيهما عمال السلطنة فلا يخرج عنهما مراكب إلا بتمسك. ولما كان يوم الثلاثاء الثاني والعشرون من جمادي الآخرة أقبلنا على القسطنطينية المحمية، ولاحت لنا بهجة تلك الأراضي السَنِيّة، وارتفعت أعلام تلك الديار العثمانية، وأضاءت أنوار القباب الخاقانية، فإذا هي بلدة تعطرت أرجاؤها عبهراً وعبيراً، وإذا رَأيْتَ ثَمَّ رَأيْتَ نَعيماً وَمُلْكاً كَبِيراً قد تفردت بالكبر

وحسن العمارة وسعة المكان، وقال لسان النظر لما شاهد جمالها الباهر وجلالها القاهر: ما في الإمكان أبدع مما كان، وكيف لا وقد تزينت بحلول من رَتَع العالم في ظل عدله بالأمان، صاحب البند والعلم والسيف والقلم، سَرَّ الله تعالى في الوجود المشرق بَدْرُه في أفق السعود، الملك الموفق للسداد، السلطان مراد، علا على كل سلطان بسطوته، وقدمته ملوك الأرض بصولته، وكيف لا وهو الخليفة على الخليقة، وصاحب السلطنة العظمى في الحقيقة، فلا زالت أصول دوحته الشريفة ثابتة، وفروعها بأنواع ثمار اللطائف المنيفة نابتة، وأفلاك زهر العدل بدولته القاهرة مشرقة الأنوار، ورياض زهر الأمن بآياته الباهرة مونقة النوار، ولا برحت أركان البيوت العلوية بشرف همته العلية قائمة، وله من مسك الثناء على مكارم أخلاقه حسن الخاتمة. عليك إذا ما رُمت ذكر مديحه ... يقول لسان الحال وهو صواب تجاوزَ قدرَ المدحِ حتى كأنَّه ... بأحسنَ ما يثنى عليه يعاب ولما أحلّنيها الحظْ، وسرّحت فيها اللحظْ: رأيت بها ما يملأ العين قرةً ... ويُسْلي عن الأوطانِ كلّ غريب غير أني أقول كما قيل: كيف يلذ العيشُ في بلدةٍ ... سكان قلبي غير سُكّانها لو أنها الجنة قد أُزْلِفَتْ ... لم أرْضَها إلا برضوانها فأول مولى تشرفت بالمثول بين يديه، وتحققت أن السيادة قد طنبت لديه، المولى الذي تطرزت ديباجة هذه الرسالة، ببعض ألقابه التي هي لبدر محاسنه هالة. أتيته فرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار فلا زال سعيه الطالع مسعود الجناب، ولا بَرِح يحيا في سعد ممدود الإطناب، فقابلني بالقبول التام، وعاملني بالبر والإكرام: بشاشة وجه المرء خير من القِرى ... فكيف الذي يأتي به وهو ضاحكُ

ولقد كنت أسمع بمحاسنه التي سارت بها الركبان، وشمائله التي تعطر بها شميم البان: حتى إلتقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسنَ مما قد رأى بصري وبالجملة فإنه المولى الذي حاز من الفضل منبع صفاته، وكأنَّه المعنيّ بقول القائل في بديع أبياته: لو كفرَ العالمون نعمتَهُ ... لما عَدَتْ نفسُه سجاياها كالشمس لا تبتغي بما صنعتْ ... منزلةً عندهم ولا جاها أو هو كما قال: ولقد سألت الناس عن أخلاقهِ ... وكمالهِ وعُلا نباهة قدرهِ فوجدتهم صنفين فيه فقاصرٌ ... عن مدحه ومُقصِّرٌ عن شكرهِ فلله جماله الذي به قد تفرّد، وكماله الذي إنفرد وتوحد، فلقد رأيت منه الأحنف وأبا حنيفة، وما عسى أن أودعه هذه الصحيفة؟ ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... لدى الفضلِ حتى عُدَّ ألفٌ بواحدِ وقال: وإني وإن أعطيتُ في القول بسطةً ... وطاوعني فيه الكلام المُحَبَّرُ لأعلمُ أني في الثناء مُقصِّرٌ ... وأنَّ الذي قد نال أوفى وأوفرُ ولكنني ما دمتُ حياً لَشَاكر ... وبشكره بعدي كتابي المسطَّرُ وقال: فيا كتابي إذا ما جئت منزله ... وزرتَ ذاك المقام المرتضى الحنفي فحيّه وانتشق من عرفهِ أرجاً ... واشرح لديه اشتياقي في نحوه وِصفِ ورأيت في مجلسه الشريف من الأفاضل والأعيان ما ذكرت به قول أبي الطيب: مَنْ مخبر الأكوان أني في الورى ... لاقيت أرسطاليس والإسكندرا ورأيت كلّ الفاضلين كأنَّما ... ردّ الإله زمانهم والأعصرا وكنت استأذنت في الدخول على حضرة المولى المأمول بهذين البيتين: أيها الماجدُ المعظمُ يحيى ... بك يحيا بيت الحيا والمعالي إن عبداً بالباب يطلب إذناً ... لينال المُنى برؤيا الموالي

ثم إني اجتمعت بفخر الأغاوات وسردار السلطنة، المولى إدريس آغا وكان لي إليه مطلب ركبت له المهالك، فامتنع من ذلك، وكنت أعتقد أن الله تعالى سيجري على يديه أنواع المبرّات، ويُسدي إليّ من جميل لطفه أصناف المسرات: وما كلّ ما يحكي التوهم صادقاً ... ولا كلّ ما تحوي الظنون محصلا مع أن أولى من لُحِظ من الصدقات السلطانية، دام نصرها بعين اللطف والإقبال، وأحق من شَمِلَتْه العواطف الخاقانية، لا انقضى خيرها على كلّ حال. وفي كلّ حال، العصابة العلوية التي اختصت من الزمان بالحرمان، والعترة النبوية التي لم تظفر من نوائب الحدثان بالأمان!! وإن لم أفز حقاً إليك بنسبة ... لعزتها حسبي افتخاراً بهمتي هذا وهو النفس الناطقة للسلطنة، والعين الناظرة لأهل الحرمين، وذلك بعد المعرفة والتعريف، والوقوف على ذلك الباب الشريف، وكان يقال من أمَّ الماء وجد الماء وما وقع العتاب إلا على الشراب: لنا عتبٌ على سلمات سَلْعٍ ... وحاشا العامرية من عتابِ وقال: وقد صدرتُ ولكن بعد مهلكةٍ ... كما وردت لأمرٍ خُطَّ في الكتبِ وهذه الشمسُ تلقى عكس مقصدها ... في كلّ يوم ولولا ذاك لم تغبِ وقال: وما هو إلا الحظُّ يعترضُ المُنى ... ولولاه كان الدهر أطوع مأمورِ وكم في البرايا بين عَانٍ ومُطْلَقٍ ... وسالٍ ومحزونٍ ودان ومهجورِ وقال: فإذا سمعت بأنَّ محروماً أتى ... ماءً ليشربه فغاض فصدَّق

أو أن محظوظاً حوى في كفه ... عوداً فأثمر في يديه فحقَّق وقال: وليس رزق الفتى من حسن حيلته ... لكن حظوظٌ وأرزاقٌ بأقسامِ كالصيد يُحْرمُهُ الرامي المجيد وقد ... يرمي ويرزقُه من ليس بالرامي وقال: فلو أنَّ السحاب هَمى بعقل ... لما أروى مع النخل القتادا ولو أعطى على قدر المعالي ... سقى الهضبات واجتنب الوهادا وقال: وأعظم ما بي أنني بفضائلي ... حرمت ومالي غيرهن ذرائعُ إذا لم يرد بي موردي غير غلّة ... فلا صدرت بالواردين شرائعُ وقال: علمي بسابقةِ المقدورِ ألزمني ... صبري وصمتي فلم أحرص ولم أسَلِ لو نيل بالسعي مطلوب لما حرم الرؤ ... يا الكليمُ وكان الحظ للجبلِ وحكمة العقل إن عزت وإن شرُفت ... جهالة عند حكم الرزق والأجلِ وقال: الرزق يأتي ولو لم يسع صاحبه ... حتماً ولكن شقاء المرء مكتوبُ وفي القناعة كنز لا نفاد له ... وكلّ ما يملك الإنسانُ مسلوبُ وقال: ما لي وللمجد والأيام عابسة ... والحظ واللحظ طول الدهر في عَتَبِ

ما أصعب الشيء ترجوه فتُحرَمَهُ ... لا سيما بعد طول الجهد والتعبِ وقال: يا بانة الوادي التي سفكت دمي ... بلحاظها بل يا فتاة الأجْرَعِ لي أن أبث إليك ما ألقاه من ... ألم النوى وعليك أن لا تسمعي حكى القاضي شهاب التبريزي في كتاب الفوائد السنية، في محاسن القسطنطينية وهو القائل فيه: فوائدي في مغاني الروم وافية ... وحسنها يجتليه من تَأمَّلهُ سنية جُمعتْ منها محاسنها ... إنَّ الفوائد جمعٌ لا نظير لهُ قال: قَصَدَ بعضُ أهل الأدب الوزير علي باشا، وكان من وزراء السلطان بايزيد بن السلطان محمد، في سنة سبعين وثمانمائة فلم ينل منه طائلاً، فهجاه هجواً بالغاً، فلما بلغه الهجاء بعث إليه بعطاء لم يتوقع منه، فقيل له في ذلك، فقال: إن الحسنات يذهبن السيئات. وأنشدوا: إن العداوة تستحيل مودة ... بتدارك الهفوات بالحسناتِ ثم قال: رُوي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنه قال: من عظمت نعمة الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمن شكر الله تعالى تحمل تلك المؤن عنهم، وزاد الله في نعمته، ومَنْ لم يتحملها فقد عرّض النعمة للزوال في الدنيا وللنكال في الآخرة اعملوا آل داود شكراً، وقليلٌ من عباديَ الشكور. ما أحسن ما قال: إذا كنتَ في أمر فكن فيه محسناً ... فعما قريب أنت ماضٍ وتاركُه فكم زاحت الأيام أربابَ دولةٍ ... وقد ملكوا أضعاف ما أنت مالكُه وقال: إن الولاية لا تدوم لواحد ... إن كنت تنكر ذا فأين الأُوَلُ فاغرس من الفعل الجميل كرائماً ... فإذا عُزلت فإنها لا تعزلُ ومما تدّون في محاسن الملك الكامل بن العادل أيوب، أنه كتب إليه بعض عماله رقعة يخبره أن المرّتب على بيت المال في كل سنة مائة ألف دينار وسبعون ألف

دينار صدقة، وذلك خلل في بيت المال، فكتب على ظهر الرقعة الغُرْبَة تذّل الأعناق، والفاقة مرة المذاق، والمال مال الله وهو الرزاق، فأجر الناس على عادتهم في الاستحقاق ما عندكم ينفد وما عند الله باق، وإنا لا نحب أن يؤرخ عنا المنع وعن غيرنا الإطلاق، والآثار الحسنة من مكارم الأخلاق واليكم هذا الحديث يساق، وكان كثيراً ما يتمثل ببيتي حاتم: شربنا بكاس الفقر يوماً وبالغنى ... وما منهما إلا سقانا به الدهرُ فما زادنا بغياً على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بحسابنا الفقرُ ونظير ذلك لما كثرت إنعامات الحاكم بأمر الله، توقف في إمضائها أمين الأمناء حسين بن ظاهر الوزّان، فكتب إليه الحاكم بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله كما هو أهله: أصبحت لا أرجو ولا أتقي=إلا إلهي وله الفضلُ جَدي نبيّ وإمامي أبي ... وديني التوحيد والعدلُ المال مال الله والخلق عيال الله، ونحن أمناؤه في الأرض، أطلِق أرزاق الناس ولا تقطعها والسلام. كل الأمور تبيد عنك وتنقضي ... إلا الثناء فإنه لك باقي لو أنني خُيّرت كلّ فضيلة ... ما اخترتُ غيرَ مكارم الأخلاقِ حكى المقريزي أن المرتّبات في أيام كافور الإخشيدي بلغت خمسمائة ألف دينار في السنة، لأرباب النعم والمسترفدين وأجناس الناس، ليس فيهم أحد من الجيش ولا من الحاشية، فحسّن له ابن الصلاح الكاتب أن يوفر من مال الرواتب، فلما جلس لذلك حكّه جبينُه فحكّه بقلمه، والحكاك يزيد، إلى أن قطع العمل لما به وقام فعولج بالحديد، حتى مات في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، وفي ذلك

موعظة لمن توسط للناس بالسوء، كما قال تعالى ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. وما أحسن ما قيل على لسان حال المِحْبَرة: حلّفت من يكتب بي ... بالواحد الفرد الصمدْ إن لا يمدّ مدةً ... في قطع رزق لأحدْ حكى الشيخ عبد الرحمن البسطامي في كتاب مباهجُ التوسُّل في مناهج الترسُّل أن شخصاً كتب إلى الصاحب يخبره أن رجلا مات عن ولد ومال له صورة، فكتب إليه الصاحب: النميمة قبيحة وإن كانت صحيحة، والمال ثمرة الله والساعي لعنه الله. قيل: وُجِد مكتوب في خزانة الإسكندر، بالذهب الأحمر على الحرير الأخضر، ما نصه: حركات الأفلاك أجلَّ من أن تُبقي على أحد نعمة، أو تديم عليه نقمة، فمن وَليَ منكم الأمر فلتكن همته تقليد المنن أعناق الرجال، فإن الدولة تزول إما بشكر جميل، أو بذم طويل. والأيام صحائف الدهر فاعتبروا يا أولي الأبصار فإن كنت لم تسمع بأخبارِ من مضى ... ولم تَرَ في الباقين ما يصنع الدهرُ فلا بدّ تصحو حين ينكشفُ الغِطا ... وتذكر قولي حين لا ينفع الذكرُ ورأيت بدار السعادة من الأغوات خلقاً جعلهم الله تعالى سبباً للرحمة على من سلف، وخدماً لو أراد اليراع أن يصفهم لَكَلَّ مَتْنُه ووقف: ولكلٍ رأيتُ منهم مقاماً ... شرحه في الكتاب مما يطولُ

السلطان مراد

وقال: وقد يتقارب الوصفان جداً ... وموصوفاهما متباعدانِ وقال: وقد ساقني دهري المُليمُ لفتية ... فتاهم ومن فيهم عزيز مكرّمُ تحلّى بأسماءِ الشهورِ فكفّه ... جمادى وما ضمّت عليه المحرّمُ السلطان مراد وفي يوم الجمعة الثالث عشر من جمادى الآخرة، برز صاحب الوقت في موكبه لأداء صلاة الجمعة، في جامع أبيه المرحوم السلطان أحمد، فإذا هو كما قيل: ملك إذا عاينتُ نور جبينهِ ... فارقتهُ والنورُ فوق جبيني ولو التثمتُ يمينَه وبرزت من ... أبوابهِ لثمَ الأنامُ يميني فلا زالت سيوف الشريعة في أيامه الشريفة مسلولة، وبقاع الأرض بندى عدله مطلولة، ولا برح في سيادة يخدمها المَلَوان، وسعادة يثنى على حسن حالها الأطيبان، والله تعالى يحسن ختام أموره، ويديم إشراق سعوده وبدوره. ذكر نسب المولى المذكور هو الملك المنصور السلطان مراد بن السلطان أحمد بن محمد بن مراد بن سليم الثاني بن سليمان ابن سليم بن بايزيد محمد بن مراد بن محمد خان بن بايزيد يلْدُرُمْ خان بن مراد الغازي بن أورخان بن عثمان ملك الروم الغازي، الذي ينسبون إليه.

أخبار آل عثمان

قال القطبي: وهم من الترك التراكمة الرحّالة النزّالة من طائفة التتار، ويتصل نسبه بيافث بن نوح، وهو الجَد الأربعون لسليم، وأنشد فيهم لغيره: ملوك بني عثمان إذ كان أصلهم ... كريماً لهم في المكرمات مفاخرُ وإذا ولد المولود منهم تهلّلت ... له الأرض واهتزت إليه المنابرُ تولى السلطان مراد الموفق للسداد، سنة اثنتين وثلاثين وألف من الهجرة، وقال فيه صاحبنا بكري الصرّاف: لما أراد الله نفع عباده ... وَلّى مراداً مُلك خير بلادهِ وأمدّه من فضله بعناية ... جعلت عِداه تحت نعل جوادهِ وشدا لسانُ الحال في تاريخه ... بشرى له قد نال كلّ مرادهِ وكانت ولايته بعد وفاة أخيه الشهيد السلطان عثمان، وفيه يقول بعض أدباء الشام: قضى عثمانُ سلطانُ البرايا ... بأسياف العساكر والجنودِ ووافته المنية في السرايا ... مؤرخة كعثمان الشهيدِ أخبار آل عثمان فائدة سبب قيام آل عثمان عند ضرب النوبة، أن السلطان علاء الدين السلجوقي، لما شاهد عزم السلطان عثمان، وعلم قابليته في فتح أطراف تلك البلاد، أكرمه وأمده وبعث إليه الراية السلطانية والطبل والزمر ووسمه باسم السلطنة، تقوية ليده وشدّاً لعضده، فلما وصل إليه ذلك وضربت النوبة بين يديه، قام عند أول سماعه لها على قدميه تعظيماً لذلك، فهم يقومون عند ضرب النوبة إحياء

الطاعون

لتلك السُنّة، وكان جلوس السلطان عثمان على تخت السلطنة في سنة تسع وتسعين وستمائة، كذا في الإعلام للشيخ قطب الدين الحنفي. وكانت وفاة القطب النهرواني عام تسعين وتسعمائة بمكة المشرفة، وكان إمام المنثور والمنظوم، بارعاً في المنطوق والمفهوم، له البرق اليماني في الفتح العثماني وله الإعلام بأعلام بلد الله الحرام وله الكنز الأسمى في فنّ المعمَّى وله تذكرة جامعة، ورسائل في مسائل شتَّّّى، ورحلة أسفرت عن محاسن الوجوه، أخبرني بها الأمير محمد بن سويدان ولم أقف عليها، وكانت رحلته سنة خمس وستين وتسعمائة، لقي بها الأفاضل ونال الرياسة، وربما شكى فيها أو بكى، كما قال: إذا حَمِد امرؤ يوماً صباحاً ... - وأنّّّى ذاك - لم يَحْمَد مساء وله ديوان شعر لطيف، تقبل عليه القلوب لرقة ألفاظه ولطافة معانيه، ومن نظمه: الملحُ والكُرّاثُ أشهى عندنا ... من أكل مأمونيّة بالسكرِ ومشاهد الحرمينِ أعلى رتبةً ... من أن نقيم بدارِ ملك أكبرِ ومن غُرَر قصائده قوله: بسيف الحِجى عند اشتداد النوائب ... تقلّدت فاستغنيت عن كلّ ناضبِ الطاعون قال القاضي شهاب في الفوائد السنية: اشتهر أن ملك الروم لا يموت بالطاعون، كما أن صاحب مصر لا يموت بالفصل، كما أنَّ بغداد لا يموت بها خليفة، وفي ذلك يقول عُمارة: قضى ربها أن لا يموت خليفة ... بها، ما يشاء الله في خلقه يقضي وعلى ذكر الفصل، لأبي عبد الله الفيومي: أرى الفصلَ داء والرحيلُ دواؤهُ ... فلا تسكنوا في بلدةٍ قد حوت فصلا

وأملي لكم أن ترحلوا ببنيكم ... ولا تقتلوا أولادكم خشية الإملا فمن يترحّل عنه يكفى شرورهُ ... ومن يتثبت يكسب الأجر والفضلا رأيت في بعض التعاليق نقلاً عن العلامة بدر الدين الغزِّي، أن حَمْل كتابة خلاق عليم يدفع الطاعون وأنه مجرب. ويقال التختّم بالعقيق اليمني يمنع من الطاعون. فائدة صحيحة مجربة، إذا انقضت المدّة، لم تنفع العُدّة. وإذا المنيةُ أنشبتْ أظفارها ... ألفيت كلّ تميمةٍ لا تنفعُ حكى الخطيب علي بن عراق في التذكرة أنه ظهر الطاعون بدمشق أيام عبد الملك بن مروان، فخرج عبد الملك من البلد ومعه غلام له، فكان يغلبه النوم والفرس يعْدِل به عن الجادة، فقال لغلامه: ويلك حدثني بما تحدث به أمثالك. فقال: بلغني أن ثعلباً صادق أسداً على أن يجيره من السباع، فكان أبداً بين يديه، فظهر في يوم من الأيام عقاب في الهواء، فخافه الثعلب ووثب على ظهر الأسد، فانحطّ العقاب واختطفه. فقال الثعلب: يا أبا الحارث، العهد!! فقال: إنَّما عاهدتك على أن أحفظك من أهل الأرض، وأما أهل السماء فلا قدرة لي عليهم. فقال عبد الملك: لقد وعظتني يا غلام. ورجع إلى الشام وهو يقول: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم توفي سنة ست وثمانين، وفيها كان طاعون الفتيات، وسُمِّي بذلك لأنَّه بدأ بالنساء. ما أحسن ما قال:

بغداد

ما قد قضي يا نفس فاصطبري لهُ ... ولك الأمانُ من الذي لم يقدرِ وتيقني أن المقدر كائنٌ ... حتماً عليك صبرت أم لم تصبرِ وقال: لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدرُ والمرء ما عاش ممدود له أمل ... فالنفس واحدة والهم منتشرُ ما أوعظ ما قال: ملكنا أقاليمَ البلاد فأذنت ... لنا رغبة أو رهبة عظماؤها فلما انتهت أيامنا علقت بنا ... شدائد أيامٍ توالى رخاؤها إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت ... علينا الليالي لم يدعنا حياؤها وكنا نلاقي النائبات بأوجه ... رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها الطاعون يوناني، قال البصري: وهو كلّ ورم يظهر للحس، ثم خص بالحار القتال السريع التعفن، ويطلق على الوباء للتلازم الحاصل بينهما غالباً، وإلا فبينهما عموم وخصوص. بغداد (وأما بغداد) فهي قاعدة أرض العراق، بناها المنصور العباسي في الجانب الغربي على الدجلة، وبلغت النفقة عليها أربعة آلاف ألف دينار، وحُصِرت حمّاماتها فكانت ستين ألفاً، حكاه الطبري في تاريخه. يقال إن المنصور بنى أربع مدن على أربع طوالع فلا تخرب إلا بخراب الدنيا، وهي الرافعة بأرض الجزيرة، والمِصيصة بكسر الميم على بحر الشام، والمنصورة بالسند وطولها ميل في ميل، وبغداد بالعراق وهي مدّورة الشكل، وتسمى الزوراء لازورار قبلتها، وفيها يقول بعض واصفيها: بلد طيب وماء معين ... وترى طينهُ يفوح عبيرا وإذا المرءُ قدر السير منهُ ... فهو ينهاهُ باسمه أن يسيرا

وقال: لهفي على بغداد من بلدةٍ ... كانت من الأسقام لي جُنَّه كأنّني عند فراقي لها ... آدم لما فارق الجنَّه هذا والقاضي عبد الوهاب المالكي لما نبت به تلك الديار، وخرج منها طالباً مصر، قال بحسب حاله والحكم يدور مع العلة: بغداد دار الأهل المال طيبة ... وللمفاليس دار الضنكِ والضيقِ ظللت حيران أمشي في أزقّتها ... كأنني مصحف في دار زِنديقِ وممن تشرفت بحضرته، وتمليت بسنا طلعته، فخر قضاه العساكر، وليث الفضاء الكاسر، المولى أبو سعيد محمد بن أسعد، لا زال هام الفراقد يصعد، فإذا هو أعز الله تعالى قدره، وأطلع في أفق المعالي بدره، قرة عين الأعيان، وغرة جبهة الزمان، وهو القائل فيه: عَلتْ درجات الفضل واتضحت ... دقائق من معاني لفظه البهجِ هذا وليل الشباب الجون منسدل ... فكيف حتى يضئ الشيب بالسرجِ يا حبذا أعين الأوصاف ساهرة ... بين الدقائق من علياه والدرجِ كيف لا وهو الذي أثنت علوم الأوائل على طبعه السليم، وذوقه المستقيم، وشهدت بفضله رواة الحديث النبوي، فما أعلى قدر من شهد بفضله الحديث والقديم: - فالدهر يرقص والأيام تنشده ... هذا هو العيش إلا أنه الهاني فلا زال متفقها في الخيرات ومدرساً ومعيداً، وكما أسعد براعة ابتدائه يجعل ختامه سعيداً. فإني وإن بالغت في الشكر والثنا ... عليه مقر بالقصور وبالعجزِ

لطيفة

ولكنني أرجو الذي عَمَّ فضله ... يجازيه عني فهو أكرم يجزى من لطائفه زاد الله في عواطفه، أني قصدت زيارته فرأيت على أعتابه الشريفة من القضاة وطالبي المناصب خلقاً، قد تسربلوا بأنواع القماش، ونفخوا روح العظمة في هيكل الشاش، فأردت الدخول فلم يؤذن لي، فتصاغرت نفسي، وفقدت بالوحشة أنسي، وقلت هذه أثمان المطامع، خصوصاً بغير الطالع، فكتبت هذين البيتين: إني أتيتُ لبابكَ العالي لكي ... أحظى بتقبيل الأيادي العاليه فمنعتُ من حجابِ حضرتك التي ... هي للوفودِ مكارم متواليه وبعثتهما مع غلام له، توسمت فيه جمال اللطف ولطف الجمال، فجاء الإذن فدخلت، وأخذت حظاً من مكارم أخلاقه، فلما أردت الخروج وضع في الرقعة شيئاً من فاقع اللون الذي يسر الناظرين، بحيث لم يفهم ذلك من كان هنالك، وقال: احتفظ الرقعة لتعود بها، فخرجت وأولئك القوم بحالهم على تلك الأبواب، وأظن العرق فيهم على مراتبهم، لشدة الحرّ والزحام، والانتظار الذي حيل بينه وبين المرام. يقولون عيش البرمكيين طيب ... فقلت وعيشي بالسلامة أطيبُ لطيفة كتب المولى جمال الدين العصامي إلى الشيخ قطب الدين المكي يهنّيه بشهر رمضان: يا قطب أهل العلم في أمِّ القرى ... رمضان هلّ ببهجةٍ لا توصفِ فتهنّ وحدك إنّ ذاتك أصبحت ... هي أشرف في أشرف في أشرفِ فكتب إليه الجواب وجعل في القرطاس أشرفيا: يا ألطف الفضلاء أنت جمالنا ... فَتَهَنَّ بالشهر الشريف الأشرفِ

شِعرٌ بِشعرٍ ليس فيه رباً وقد ... زاد العيار بوزن هذا الأشرفي وحكى النواجي في حَلْبَة الكُمَيْت أن أعرابياً قصد المأمون وقال له: قلت فيك شعراً. قال: أنشده. فأنشد: - حياك ربُّ العرشِ حياكا ... إذ بجمال الوجه رقّاكا بغداد من نورك أشرقت ... وأورقَ العودُ بجدواكا فقال المأمون: يا أعرابي قلت فيك شعراً، وأنشد: حياك رب العرش حياكا ... إن الذي أملت أخطاكا أتيت شخصاً قد خلا كيسهُ ... ولو حوى شيئاً لأعطاكا فقال الأعرابي يا أمير المؤمنين إن بيع الشِعر بالشِعر رباً، فاجعل بينهما شيئاً حتى يستطاب. فضحك المأمون وأمر له بصلة. وكان ظافر الشاعر حسن البديهة، قال القاضي أبو عبد الله الآمدي حاكم الإسكندرية: دخلت على الأمير ابن طقز في أيام ولايته للثغر، وفي يده خاتم قد ضاق على يده حتى ورمت إصبعه جداً، فأستدعى الحدّاد وقطع الحلْقة، فأنشده ظافر على البديهة: قصَّر في وصافك العالمُ ... وكثر الناظم والناثرُ من يكن البحر له راحة ... يضيق عن خنصر الخاتمُ فاستحسن الأمير ذلك ووهب له الخاتم، وكان من ذهب! وكان عند الأمير غزال مستأنس به، قد ربض ثم جعل رأسه في حجر الأمير، فقال ظافر المذكور: عجبت لجرأة هذا الغزال ... وأمْن تخطّى به واعتمد وأعجبه إذ بدا جاثماً ... وقد اطمأنَّ وأنت الأسد فزاد الأمير والحاضرون في استحسان ذلك، ثم انصرف وتركنا متعجبين من بديهته. اقتباس لبعضهم:

قناعة المرءِ بما عندهُ ... مملكةٌ ما مثلها مملكه فارضَوْا بما قد جاء عفواً ولا ... تلقوا بأيديكم إلى التهلكه مثله: ولا تطلبوا ما بأيدي الأنام ... تصيروا بذلك أعداءهم لذلك قد قال رب العباد ... ولا تسألوا الناس أشياءهم ما أصدق ما قال: لا تحسبنَّ الشعر فضلا بارعاً ... ما الشعر إلا محنة وخَبالُ الهجو قذف والرثاء نباهة ... والعتب ضغن والمديح سؤالُ يقول ابن تميم: وما الشعر مما أرتضي نسبتي به ... لعمري ولا وصفي في المحافلِ ولا قلته كي أبتغي بمقاله ... ثناء ولا أجزى عليه بنائلِ ولكن دعتني شيمةٌ عربية ... إلى قوله معروفة في القبائلِ فأبديت ما قد حاك في النفس سالكاً ... بإبداء ما أبديت سُبل الأفاضلِ فلا تنكروا ما أبْرَزَته سجية ... طُبعت عليها من سجايا الأوائلِ فما تنكر الأقوام سجع حمامة ... إذا هتفت في صحبها والأصائلِ ابن دقيق العيد: وزهدني في الشعر أن سجيتي ... بما تستجيد الناس ليس تجودُ وتأبى طباعي أن أصوغ رديَّهُ ... فأصرفه عن خاطري وأذودُ الشهاب الفاضل: وما الشعر فخر للفتى ومزيّة ... إذا لم يكن عن كلّ فضل يترجم ولكنه عنوان ذوق وفطنة ... ورقة طبع وهو للفضل أسلم وممّن تشرفتُ بالاجتماع به، وتحليت بمحاسن أدبه المولى محمد أفندي الحياتي فإني وجدت منه نديماً للسرور مديماً، ونفس حر قد لبس من مكارم

الأخلاق أديما، فأزلت بطلعته السنية عن مرآة القلب صدأ القسوة والغم، وسمعت من حديثه ما يسلو به الخاطر وينجلي الهم. قال: وكنت إذا حدّثته أو رأيته ... تزول حرارات الصبابة والجوى ولا سيما إن ظلّ يتلو لمسمعي ... أحاديث أرباب المحبة والهوى وقال: عرفتك دهري ليس لي فيك حيلة ... يروج بها فضلي لديك وأسلك سوى اليأس مما في يديك وإن يكن ... رجاء ففي الأخرى التي لست تملك وقال: ألا قل لأصحابي عن القهوة انتهوا ... ولا تجلسوا في مجلس هي فيهِ وما ذاك عن بغض ولا عن كراهة ... ولكن غدت مشروب كلّ سفيهِ وكأنَّه مأخوذ من قول القائل: إذا وقع الذباب على طعام ... رفعت يدي ونفسي تشتهيهِ وتجتنب الأسودُ ورودَ ماءٍ ... إذا كان الكلاب ولغن فيهِ وأين ذاك من قول الآخر: إذا شوركت في أمر بدون ... فلا يلحقك عار أو نفور ففي الحيوان يشترك اضطراراً ... أرسطاليس والكلب العقور حُكي أن الوزير مسيح باشا أمر بإبطال القهوة، فقال له بعض الفقراء إن القهوة لا تبطل، قال: ولِمَ؟ قال: لأن حسابها موافق اسم الله تعالى قوي. بمعنى أن كلا منهما له من العدد مائة وستة عشر، فلها منه الاستمداد، فأمرُها وشأنُها

قوي. فلم يسعه التأخر لأمر السلطان مراد، فما أفاد المنع، وكان الأمر كما قيل. واشتهر استعمال لفظ جبا عند تقديمها، ولا أعلم ما أصله إلا أنه ورد مورد الهبة، ولا يخفى ما فيها من الفرح الذاتي. وثَمَّ لطيفة حسابية وهي أن عدد جبا ست، فكان القائل يقول: جلبت لك المسرة والصفا من الست الجهات. تُوفي العلامة المفتي أبو سعد سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة، وتاريخه للفاضل أحمد الرومي قد مات أبو السعود مولى العلم وأنشدني لغيره: وللناسِ عاداتٌ وقد أَلفوا بها ... لها سُنن يدعونها وفروضُ فمن لم يعاشرهم على العُرف بينهم ... فذاك ثقيلٌ عندهم وبغيضُ وأنشدني لنفسه في مرج دمشق: بصبا المرج المبلل ذيلُه ... علّلِ القلبَ عَلّ يبرد ويلُه ومُرِ الروحَ أن تسيل دموعاً ... إن أبى الجفنُ أن يغيثك سيلُه وادّكِرْ بالرياض يومي حبيب ... سلفاً والسلاف تربع خيلُه

وتمسّك بسالفيه على البع ... دِّ عسى الكربُ ينجلي عنك ليلُه ومن ذلك أيضاً: تَأنَّ ولا تجزع لأمر تحاولُه ... فخيرُ اختيار المرء ما الله فاعلُه وما ضَمِن الرحمن لا تخشَ فَوْتَه ... ومالاً فلا تجهد فما أنت نائلُه دع السعي فالمسعودُ تطلُبه المُنى ... وسعيٌ بلا سعد محال تحاولُه هو السعد يدعو آخر الأمر ساعياً ... وحسبك سعياً في المرام تناولُه ولا تبتئس إن أخلفَ المجدُ واصطبر ... هو الشهد قد شيبت بصبر أوائلُه وما المجدُ إلا الصبر فهو أبو التقى ... وكم خامل بالصبر عزّت منازلُه تفيّأ بظلِّ الله من روض قولِه ... أليس بكافٍ تلحقنك فواضلُه وعِزَّتَهن دنياك واغْنَ بتركها ... ولا تحفلن بالرزقِ فاللهُ كافلُه تَحلَّ بتاج القَنْع تَغْدُ مملَّكاً ... تطول على هام الرجالِ كواهلُه وسمعت منه قصيدة رأيته أمتدح بها عزمي زاده، وقد تضمنت من الحكم والأمثال ما يعجز الفكر الثاقب عن إبداء مكنونها، فلو رآها المتنبي لتبرأ من دعواه وقال إنه صاحب المعجزة. ورأيت حاشيته على البيضاوي أتى فيها بالأبحاث الرائقة، والتحقيقات الفائقة، وله رحلة جامعة لفرائد الفوائد، سَمَّاها الإسفار عن الأسفار، وديوان شعر جيد اللفظ والمعنى، وله تعليقات على فنون من الحكمة، ورأيت بعض أهل الشام يقدح في شأنه وشرف مكانه، على قاعدة المرضى من علماء الظاهر، وكان الأولى بالإنسان أن يمنعه من الوقوع في غيره ما يعلمه من نفسه، وما أظن الحال معهم إلا كما قيل في هذا الابتلاء العام وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... والقومُ أعداء له وخصومُ كضرائرِ الحسناء قلنَ لوجهها ... حسداً وبغضاً إنه لدميمُ وأنشدني للحلّي، وكانت له لغات متعددة: بقدرِ لغاتِ المرءِ يكثرُ نفعه ... وتلكَ له عند الملمات أعوانُ فهافت على حسنِ اللغات مجاهداً ... فكل لسانٍ في الحقيقة إنسانُ وبحسب الحال أقول: لا تقصد الروم خالٍ من لغاتهم ... ولا تظنَّ الغنى في منطق العربِ فلو أتيت بمضمون الصحاح فما ... أتيت فيهم بما يدني من الأربِ وبالجملة فإنه لا فرق بين الجماد وبين مَنْ لم يفهم ما تقول، حتى في المغاني، وإذا دارت الأمور في العتاب فالعبرة باليد العليا فلا تلوموني ولوموا أنفسكم إذا كان قدرُ المرءِ إن جاء طالباً ... أقل قليل كيف يطمعُ في الفضلِ وبالله أن الذلّ في وجه سائلٍ ... أمر من المرّان ناهيك بالذلِّ حكى السيوطي في تاريخ الخلفاء أن عبد الله بن الزبير كان له مائة غلام، يتكلم كلّ غلام بلغة أخرى، وكان يكلم كلَّ واحد منهم بلغته، عبد الله السواكني المدني: رأيت بلاد الروم لا عيشَ عندهم ... يطيبُ ولا صفوٌ يعادل أكداري وكيف يطيبُ العيشُ لي بين فتيةٍ ... نهاراً وليلاً يعرضون على النارِ فقلت محوّلاً للمعنى بتغيير يسير: رأيت بلاد الروم عيشي عندهم ... يطيب وصفوي لا يشاب بأكدارِ

فقد ضل من قد قال فيهم بأنهم ... نهاراً وليلاً يعرضون على النارِ فلما كان يوم الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، قدم علينا الشيخ العارف شيخ القادرية بمدينة خير البرية، فسمعت منه حديث طيْبَة طيِّباً ًًُ كأنَّه في صفحات فكري رقيم، وظفرت من أخلاقه بمحاسن يجد السلوَّ بها الفؤاد السقيم، أنشدني للخطيب يوسف الثقفي قال: أنشدنيهما لما قدمت عليه بدمشق: من رامَ يحظى بالمسَرَّةِ والهنا ... فليصْحَبَنّ العارفَ المدنيّا فحديثهُ يشفي السقامَ وشكله ... في أيِّ زيٍّ شئتَه يتزيّا وأنشدني لما نزل بدار مصطفى جلبي قصاب باشي: إن في الروم سادة بلقاهم ... زال ما أشتكيه من أوصابِ فاعذروني إذا انتميتُم لأسدٍ ... فأنا كلبُ مصطفى القصّابِ وأنشدني فيما يناسب الحال: إن الغنى يستهابُ كلّما اعتكرت ... دجى الكروبِ جلا عنها حنادسُها لا تنفع الخمسة الأشياء مُحْدقة ... لديك إلا إذا ما كان سادسُها وفي أول ليلة جمعة من شهر رجب الفرد، أُوقِدتْ المناير وعُمرت المساجد بصلاة الرغايب، وهي غير معروفة بالحرمين الشريفين. قال ابن الأثير في جامع الأصول: وهي أول ليلة جمعة من رجب تصلى فيما بين العشاءين ثنتي عشرة ركعة بست تسليمات، كلّ ركعة بفاتحة الكتاب مرة والقدر ثلاثاً والإخلاص ثنتي عشرة مرة. فإذا فرغ من صلاته قال اللهم صَلِّ على محمد النبي الأمي وعلى آله بعد ما يسلِّم سبعين مرة، ثم يسجد سجدة ويقول فيها: سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبعين مرة، ثم يرفع رأسه ويقول ربِّ اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، إنك أنت العلي الأعظم، وفي الأخرى الأعز الأكرم سبعين مرة، ثم يسجد ويقول مثل ما قال في السجدة الأولى، ثم يسأل الله تعالى.

وهو مَرْويٌّ عن أنس، ولم يوجد في الستة، والحديث مطعون فيه، انتهى كلامه. وهذه الليلة عندهم من قبيل الأعياد، يتهادون فيها ويتزاورون وتفتح لها الأسواق. وابن الأثير هذا هو المحدِّث العلامة مجد الدين أبو السعادات: وبنو الأثير ثلاثة ... قد حاز كلّ مفتخر فمؤرخٌ جمع العلوم ... وآخر ولي الوزر ومحدّثٌ كتب الحدي ... ث له النهاية في الأثر وممّن تشرفت بحضرته المولى الأجل نقيب السادة الأشراف، واسطة عقد نزار في آل عبد مناف، مولانا شيخ أفندي العلامة، رفع الله على منار الشرف أعلامه، ولا زالت تتناسق الألفاظ في ميادين مدحه المطابق للواقع، بذكر شمائله الشائقة، ونوافله الفائقة، وإحسانه المتتابع. وإن أحسن قولٍ أنت قائلهُ ... قول يقال إذا ما قلته صدقا ولا غرو إذ كان من دوحةٍ أثمرت ملوكاً نتجوا من عنصر النبوة والرسالة، وأنتجوا مكارم الفتوّة والبسالة. لكم يا بني الزهراء في الذكرِ آية ... فجاحدها في الناس لاشك ملحد إذا الله أثنى في الكتاب عليكم ... فما قدر ما تُثنى الأنام وتنشد رفعت يوماً إلى معاطفه الرحيمة قصة وضمنتها هذا النظم: يا ابن خير الخلق كن لي ... شافعاً في بسط قبضي فأولوا الأرحامِ نصاً ... بعضهم أولى ببعضِ فعطف عليّ بإحسانه، وتعطف بتلطفه وامتنانه، فما زلت في ظل مجده الوريف، منشداً في شأنه الشريف: إذا ذكر الراوي أحاديث فضله ... يقول الورى هذا الحديث المصدّق وممن تشرفت بطلعته السنية في تلك الديار، وساعدتْ بلقائه الأقدار، مولانا عبد الرحمن

ذكر القسطنطينية العظمى

أفندي العشاقي، لا زال في كلاءة القدير الباقي، فرأيت منه مَتَّعه الله بحياته وأمدَّه بسنيِّ صلاته، مولى قد استغنى عن الألقاب، بما حواه من شرف الجناب: وليس يصحّ في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل ولم أكن أعرف ذاته الشريفة، ولا استنشقت عرف شمائله الوريفة، حتى دعتني إليه مكارمه، وأمدتني بمعروفه مراحمه، وأنشد في شأنه عندليب إحسانه: لا عيب في جودهِ إلا ترادفهُ ... قبل السؤال فراجيه كخجلانِ ومما جرى به القلم، في شأن هذا المفرد العلم: قد قلت للمجد من تهوى تواصله ... وكلنا لك ذو وَجْدٍ وأشواقِ فقال لي بلسانٍ غير معتذر ... لا أشتهي أن أوافي غير عشاقي ولعل هذه معرفة نشأت عن العهد القديم، فانتشرت روائح عرفها الشميم، حتى أقول هذا مبتدأ ودادٍ لابد وأن يُرْفع خَبَرُه، وصِدْقُ ولاءٍ لاغَرْوَ أن يبدو على باب الصفاء أثره: فأبقِ لي ودّه يا دهرُ متصلاً ... وخذ بقيةَ ما أبقيت من أملي ذكر القسطنطينية العظمى حكى الشيخ الأكبر في كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في غَزاة مَسْلَمَة بن عبد الملك بلاد الروم ودخوله فيها، أن جزيرتها ثمانية فراسخ، في المدينة منها أربعة فراسخ، ولما قَدِم مَسْلَمَة على عمر بن عبد العزيز وأخذ يصفها له، قال: ما رأيت بلاداً تحكيها، هي مدينة بريّة بحرية، كثيرة الفاكهة والطعام واللباس، سورها من الحجر، وعرضه يسير عليه مائة فارس عرضاً، وأمّا الأبواب فإنّها حديد، وعرض ما بين كلّ بابين ميل، انتهى. وفي الخريدة هي مثلثة الشكل، منها جانبان في البحر وجانب في البر، وفيه باب الذهب، وطولها تسعة أميال، وعليها سور حصين ارتفاعه أحد وعشرون ذراعاً، ويحيط به سور آخر يسمى الفصيل وارتفاعه عشرة أذرع، وله مائة باب أعظمها المُمَوَّه بالذهب، وبها منارة بالقرب من دار الشفاء، قد ألبست جميعها من نحاس أصفر كالذهب محكم الصنعة والتحزيم، وعليها قبر قسطنطين، وعلى قبره صورة فرس من نحاس، عليه

شخص على صورة الملك، وقوائم الفرس محكمة بالرصاص ماعدا يده اليمنى فإنها موقوفة في الجو، وقد فتح يده اليمنى مشيراً بها نحو بلاد المسلمين، وفي يده اليسرى كرة - قيل في اليمنى - طِلَّسْم يمنع العدوّ، وعلى اليسرى مكتوب ملكت الدنيا حتى صارت في يدي مثل هذه الكرة، وخرجت هكذا لا أملك منها شيئاً وفي المعنى: وفي قبض كفّ الطفلِ عند ظهوره ... دليل على الحرص المركّب في الحيّ وفي بسطها عند الممات إشارة ... ألا فأنظروني قد خرجت بلا شيّ وبلفظ آخر: دليل على حرص ابن آدم أنهُ ... ترى كفه مضمومةٌ عند وضعهِ وفي بسطها عند المماتِ إشارة ... إلى صفرها مما حوى بعد جمعهِ حكى القاضي شهاب في الفوائد السنية أن قسطنطين من أبناء الملك الأعظم الملقب قيصر، نشأ بمدينة الرها ونقل العلوم، ولم يزل في غاية من السعادة والظفر منصوراً على من ناواه، وكان في أول أمره على دين المجوس، شديداً على النصارى ماقتاً لدينهم، ثم رجع إليه، وسببه أنه ابتلي بجذام ظهر عليه فأغتمَّ لذلك، وجمع الحذاق من الأطباء فاتفقوا على أدوية دبّروها له، وأمروه أن يستنقع بعد أخذ تلك الأدوية في صهريج مملوء من دماء أطفال رُضَّع ساعة، فأمر بجمع جملة من أطفال الناس وذبحهم ليستنقع في دمائهم وهي طرية، فجمعت الأطفال لذلك وعظم ضجيج أمهاتهم، فرحمهنَّ وقال: احتمال علَّتي أولى وأوجب من هلاك هذه العدة العظيمة من البشر، فأمر برد الأطفال إلى أمهاتهم، فانصرف النساء بأولادهن، فلما صار من الليل إلى مَضْجِعه، رأى في منامه قائلاً يقول له: إنك رحمت الأطفال وأمهاتهم، ورأيت احتمال عِلّتك أولى من ذبحهم، فقد رحمك الله تعالى ووهبك السلامة، فابعث إلى رجل من أهل الإيمان يدعى شلبشته وقِفْ عند ما يأمرك به. فانتبه مذعوراً وبعث في طلب الرجل، فلمَّا أتى به إليه أخبره بما رآه في منامه فَقصَّ عليه دين النصرانية فالتزمه، وشفاه الله تعالى. فأعلن بدين المسيح عليه السلام، فخلع طاعته أهل رومية فخرج عنها وبنى مدينة القسطنطينية، فعرفت به فسكنها وصارت تخت الملك، ثم خرج إلى رومية فلما دنا منهم

فائدة

أذعنوا له والتزموا طاعته. وفي القاموس: رومية سوق الدجاج بها ثلاثة فراسخ، حكى المقريزي أن القسطنطينية من الإقليم السادس، وهو حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة ونصف ساعة، وارتفاع القطب الشمالي، وهو العرض خمساً وأربعين درجة وخمس درجة، ومسافة هذا الإقليم مائتا ميل وعشرة أميال، وفيه من الجبال الطوال اثنان وعشرون جبلاً، ومن الأنهار الطوال اثنان وثلاثون نهراً، ومن المدن الكبار تسعون مدينة، والغالب على ألوان أهلها الشُقْرة والبياض. فائدة أول من ملك القسطنطينية من آل عثمان أبو الفتح السلطان محمد خان، وساق إليها السفن في البر والبحر، وحاصرها خمسين ليلة أشد الحصار، وكان الفتح في سنة سبع وخمسين وثمانمائة، وصلَّى الجمعة في أكبر كنائسها وهي أيا صوفيا، وهي قبة تسامي قبة السِّماك، كأن أبراجها الأفلاك، ومسامير أبوابها نجوم السماك. وتوفي سنة ست وثمانين وثمانمائة، ووليَ بعده السلطان بايزيد، قاله القطبي. وموضع قبره مع ما يليه من جانب المرحوم شاه زاده، يكاد يكون قاعدة تلك الديار لما اشتمل عليه من المحاسن، وفي أيام السلطان بايزيد المذكور كان المولى شمس الدين الفناري، من أخباره أن الطلبة كانوا يعطِّلون يومي الجمعة والثلاثاء، فأضاف إليهما يوم الاثنين، والسبب في ذلك أنه اشتهر في زمانه تصانيف السعد التفتازاني، ورغب الطلبة في قراءتها فلم توجد تلك الكتب، لعدم انتشار نسخها، فاحتاجوا إلى كتابتها، فلذلك أضاف إليها يوم الاثنين لضيق الوقت عن الكتابة، كذا في الشقائق النعمانية، في علماء الدولة العثمانية ومن محاسنها جامع المرحوم السلطان أحمد، فإنه ناطق بألسن الآثار كما قيل: همم الملوكِ إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيانِ إن البناَء إذا تعاظم شأنُه ... أضحى يدل على عظيم الباني وبالجملة فإن ما اشتمل عليه من الإشراق وكمال الصفاء لا يكاد يوجد في غيره، فلقد كنت أراها مظلمة من سائر الجهات آخر النهار ما خلا هذه البقعة المباركة، فإني كنت أصلي المغرب في الجامع المذكور وأبرز إلى الميدان فأظن

الوقت صباحاً، لما أجده من الإشراق والسرور الذي لا أعلم له سبباً، مع ما كان في الخاطر مما لا يليق ذكره، على ذلك أقول: قد قلت للميدان أحرزت البها ... وأراك عن تلك البقاع بمعزلِ ما ذاك إلا من جوارك أحمدا ... والسرّ في السكان لا في المنزلِ وقيل في تاريخ بناء هذا الجامع: تاريخ جامع أحمد ... من نص قرآن مبين قد جاء فيه قوله ... لنعم دار المتقين توفي السلطان أحمد سنة ست وعشرين وألف. فقل للدهرِ أنت أصبت فالبَس ... برغم منك أثوابَ الحدادِ ومن محاسنها، بل من محاسن الوجود السليمانية، فلا زالت أثراً لمحاسن الدولة العثمانية: الملك لله الذي لم يزل ... يُودعه في آل عثمانِ من شك فيما قيل في شأنهم ... فلينظر الوضع السليماني وهذه شذور من فوائد الفوائد السنية للقاضي شهاب، فمن ذلك هذا الغزل الذي تَحنُّ إليه الجوارح، ويتحرّك له ساكن الغرام: إنّ في الروم للحسان عيوناً ... ذكّرت صبّها بحرب البسوسِ

وقدوداً هي الرماحُ تبدّت ... مُرْخِصات لغاليات النفوسِ أسبلوا الشعر فوق مَرْمَر جيد ... مخجل نوره ضياء الشموسِ وأبانوا عوارضاً وخدوداً ... مشبهات للعاج في الأبنوسِ وأداروا من الرُضاب حميّا ... فعلها أين منه راح الشموسِ وقال: لم تترك الترك في شمس ولا قمر ... حسناً لغيرهم يُعزى وينتسبُ لكنهم لم يفوا إن عاهدوك على ... ودٍّ وما هكذا في فعلها العربُ وقال: فتنت بظبي من بني الترك أدمعي ... لهجرانه تنهلّ عسفا على خدّي تملّك رقي وهو ملكي برقّة ... فوا رحمتا لي إذ غدا سيدي عبدي وقال: بحمّام السراي غزال سرب ... رقيق الطبعِ لا يصغي لواشي يقول لعاشقيه يفوز مني ... بوصل من طواشي للطواشي وقال: إياك والأتراك إن لبعضهم ... أشخاص غزلان وفعل أُسودِ أجسامهم كالماء إلا أنها ... حملت قلوباً من صفا الجلمودِ ومن الوصايا المليحة عن الأخلاق القبيحة: إذا كنت والمحبوب يوماً بخلوةٍ ... ودارت لك الكاسات واكتمل البسطُ فإياك والفعل المحرّم إنه ... به المرء من أوج السعادة ينحطُ فإن عفاف الذيل في شرعة الهوى ... لمن شاقه وصل الحبيب هو الشرطُ

وما أصدق ما قال: بالروح يلعب في بداية أمره ... وسوى الغرام به فغير غرامِ ماذا تكون نهايتي في عشقه ... والبدء فيه تحلّل الأجسامِ وقال: تَعِسَ القياس فللغرام قضية ... ليست على نهج الحجى تنقادُ منها بقاء الشوق وهو بزعمهم ... عرض وتفنى دونه الأجسادُ وقال: تعلمتُ أسباب الرضا خوف هجرهِ ... وعلّمه حبّي له كيف يغضب ولي ألف وجه قد عرفت طريقه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب وقال: تعشّقت منه حالة لست قادراً ... على وصفها إذ لم يذقها سوى قلبي تيقنت أني فيه أصبحت مغرماً ... ولكنني لم أدر ما سبب الحبِ وقال: إذا دعا باسمه داع يحدثني ... كادت له شعبة من مهجتي تقع لا أحمل اللومَ فيه والغرام به ... لا يكلف الله نفساً فوق ما تسع وقال: زعمت بأني قد بلغت من الهوى ... إلى غاية ما بعدها إليّ مذهبُ ولما تفرّقنا تذكرتُ ما مضى ... وأيقنت أني إنَّما كنتُ ألعبُ وقال: وبدا له من بعد ما أندمل الهوى ... برق تألق موهناً لمعانهُ

فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانهُ وقال: سكنوا بقلب آنسوه وأوحشوا ... لحظاً جرى من بعدهم وتدفّقا هذاك عندهم وذاك محجّب ... سبحان من كتب السعادة والشقا وقال: أبكي إلى الغرب إذ لاحت منازلهم ... من جانب الشرق خوف القيل والقالِ أقول في الخدّ خال حين أنعته ... خوف الرقيب وما بالخدِّ من خالِ وقال: في خدّه عرق بدا ... ذا حمرة لصفائهِ هذا يصدّق قولهم ... الماء لون إنائهِ وقال: عليّ لربع العامريّة وقفة ... ليملي عليّ الشوق والدمع كاتبُ ومن مذهبي حبِّ الديار لأهلها ... وللناسِ فيما يعشقون مذاهبُ وقال: وفي الحب تعذيب وفيه عُذوبة ... فسل عنه صبّاً حكّمته التجاربُ وكل امرئ يهوى على قدر عقله ... وللناس فيما يعشقون مذاهبُ

وقال: وما العيش إلا ما يُلذ ويُشتهى ... وإن لام فيه ذو الشنان وفنّدا بكيت الصبا جهدي فمن شاء لامني ... ومن شاء آسى في البكاء وأسعدا وقال: يا كاملاً شوقي إليه وافر ... وبسيط وجدي في هواه عزيزُ عاملتَ أسبابي لديك بقطعها ... والقطع في الأسباب ليس يجوزُ وقال: يا كتابي إذا وصلت إلى من ... حبه صيّر الفؤاد جذاذا قل له ما عليك في البعد عتب ... سوء حظي أنالني منك هذا وقال: إني أبث إليك بالعلمِ الذي ... يقضي عليك بحرمتي وذمامي وقرابة الأدباء يقصر دونها ... عند الكرام قرابة الأرحامِ وقال: ما بال عينك حين تلحظني ... يا ابن الكرام تعدّني هملا لو كان لي ذنب لبحت به ... كيلا يقال هجرتني مللا

وقال: لا تعتب الدهر في خطب رماك به ... إن استردّ فقل يا طالما وهبا وانظر زمانك في حالي تقلّبهِ ... تجده أعطاك أضعافَ الذي ذهبا وقال: شاد الملوك قصورهم وتحجّبوا ... عن كلّ طالب حاجة أو راغبِ فإرغب إلى ملك الملوك ولا تكن ... يا ذا الضراعةِ طالباً من طالبِ وقال: وقائل ما الملك قلت الغنى ... فقال لا بل راحة القلبِ وصون ماء الوجه عن بذله ... في نيلِ ما ينفد عن قربِ وقال: لا تصحبن ملكاً أو من يلوذ به ... وإن تنل منهم عزاً وتمكينا يستخدمونك في لذات أنفسهم ... فيذهب العمر لا دنيا ولا دينا وقال آخر: إذا صحبت الملوك فالبس ... من التوقّي أجلَّ ملبس وادخل إذا ما دخلت أعمى ... واخرج إذا ما خرجت أخرس وقال: ومصاحب السلطان مثل سفينة ... في البحر ترجف دائماً من خوفهِ إن أدخلت في جوفها من مائهِ ... أدخلها وماءها في جوفهِ وقال: لا بد للكامل من زلة ... تخبره أنه ليس بالكاملِ بينا يُرى يضحك من جاهل ... حتى يُرى مضحكة الجاهلِ ومن النصائح: لا تقعدنّ بمجلس في صدره ... إلا إذا ما كان ذلك منزلَك واترك لمن هو فوق قدرك موضعاً ... فلقد أحطّك رتبة من أنزلَك وإذا جلست فخلِّ فوقك فسحة ... إن جاء صاحبها وإلا فهي لَك

فائدة

وقال: أقول للقلبِ لا تجزع لفائتةٍ ... أخِلْتَ باب التمني غيرَ مفتوحِ؟ فقال حقاً ولكن عند ذي أدبٍ ... لا شيء أوجع من ترجيح مرجوحِ وقال آخر: نوبُ الزمانِ كثيرةٌ وأشدها ... شمل تحكّم فيه يوم فراقِ يا قلب لم عرّضت نفسك للهوى ... أوَ ما رأيت مصارع العشاقِ فائدة كتاب مصارع العشاق كتاب في الأدب مؤلفه أبو محمد جعفر السراج وهو اثنان وعشرون جزءاً، رأيت منه الجزء الأول بالديار الرومية وعليه ما صورته: هذا كتابُ مصارع العشاقِ ... صرعى أيادي البين والأشواقِ فإذا تصفحه اللبيب رثى لهم ... أسرى هوى أيِسوا من الإطلاقِ ومادته لابن أبي حجلة، ومنازل الأحباب للشهاب محمود: يا خاطري كم ذا تكون مخاطراً ... متولّعاً بالجيد والأحداقِ إن شئت تعلم ما نهاية ما ترى ... فانظر كتاب مصارع العشاقِ وقال آخر: تأمّلْ ذا الوجود بعين فِكر ... ترى الدنيا الدنيّة كالخيالِ وما فيها جميعاً سوف يفنى ... ويبقى وجه ربك ذي الجلالِ وقال آخر: دع المقادير تجري في أعنتها ... واصبر فليس لها صبر على حالِ يوماً يريك وضيع القدر مرتفعاً ... إلى السماء ويوماً يخفض العالي وقال آخر: ومن يحمد الدنيا لأمر يسرّه ... فسوف لعمري عن قريب يلومها إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... وإن أقبلت كانت كثيراً همومها وقال آخر: وما هي إلا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها وقال آخر: وما شيء بأثقل وهو حق ... على الأعناق من مِنَنِ الرجالِ فلا تفرح بشيء تشتريه ... بوجهك إنه بالوجه غالي وقال آخر: من كنت عن ماله غنيَّاً ... فلا أبالي إذا جفاني ومن رآني بعين نقصٍ ... رأيته بالذي يراني وقال آخر: لا تقطعنْ عادة الإحسان عن أحد ... ما دام يمكن في الإمكان تاراتِ واشكر صنائع لطف الله إذ جعلت ... إليك لا لك عند الناس حاجاتِ وقال: لنَفعي للصديق أحقُ عندي ... وحق أبيك من خيلي ورَجلي ولكن لانكماشي في معاشي ... على قدر الفراش مددت رجلي وقال: إن أوصل الدهر أيدينا لمكرمة ... ثم امتنعنا فلا نلنا أمانينا أو مانع الدهر إذ بالعجز أقعدنا ... فالذنب للعجز كفَّ العجز أيدينا وقال: محن الزمان كثيرة لا تنقضي ... وسروره يأتيك كالأعيادِ ملك الأماجد فاسترقّ رقابهم ... وتراه رقّاً بيد الأوغادِ وقال ابن جابر الأندلسي: لا تعادِ الناسَ في أوطانهم ... قلما يُرعى غريب الوطن وإذا ما رُمْتَ عيشاً بينهم ... خالقِ الناس بخلق حسن وقال آخر: قيامي للعزيز عليّ فرض ... وترك الفرض ما لا يستقيمُ فهل أحد له عقل ولبٌ ... ومعرفةٌ يراك ولا يقومُ

انتهى ما نقلته من الفوائد مضافاً إليها ما تستعذب به موارده الهنيّة، وهذه الأبيات مما جرى بها القلم، وتطفلت بها على حضرة مولانا شيخ الإسلام، وإنَّما أثبتها لما اشتملت عليه من ذكر بعض مناقبه، الشريفة بل على وفق ما قيل: ما إن مدحت مُكمّلاً في ذاته ... لكنْ مدحت مقالتي بصفاتهِ وإلا فالحال كما يقال: لو أن في بابه للنظم مفخرة ... ألّفتُ في مدحه ألفاً من الكتبِ لكنه البحر في كلّ الفنون فما ... إهداء در إلى بحر الأدبِ؟ وفي اليوم السادس من شهر رجب الفرد، برزت صرَّة الحرمين في موكب لطيف، وكان يوماً مطيراً وبالنسبة إليّ يوماً عبوساً قمطريراً. وقد هاج لي شوق ليثربَ ليتني ... قضيتُ ولا يقضى عليّ بُعادها فيا رب جُد لي قبل موتي بقربها ... ففي حبّها لعيني سُعادها وهو يوم مشهود، ووقت معهود، يجتمع له البادي والحاضر، وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامر وفي ذلك اليوم حصل لأبناء الحرمين ومن هو في زيهم من الإهانة أقل ما يستوجبون، وذلك لازدحامهم على الصدقات، وكانت تأتي إليهم الدراهم بعد التفاصيل بالجمل، وطالما قال جود السراي لكلّ حاتم هذه التي لا ناقة لك فيها ولا جمل وكم أنشد لسان حالها في بهجة جمالها: للهِ كم حال امرئ معدم ... قضيت في الروم بتنفيسهِ ودرهم ولّى ولكنّه ... قد أخذ الأجر على كيسهِ فسبحان من قام على التناقض ملكه، وجرت بخفيّ تدبيره نيرات أفلاكه، كما سبحت باللطف في بحار حكمته فُلْكُه، وما زلت مقيماً بها إلى العشرين والتردد شعاري، والتعهد دثاري، وأنا في تلك الحال، على إثر تمني المحال: أقطع الوقت بالرجاء وناهي ... ك بقلب غذاؤه التعليلُ

كلما جاء كأسُ يأسٍ مريرٍ ... جاء كأسٌ من الرجا معسولُ وقد رمتني الحوادث بسهامها، وعبست الأيام بعد ابتسامها، فلله ما لاقيته من المتاعب في تلك المطالب، ولقد كنت في سعة عن مطالب هاتيك المتاعب: ولكنّ أسباب الضروراتِ لم تزل ... إلى غيرِ ما تهوى النفوس تقودُ ومثله: أقمتُ بها شهرين في حال غربةٍ ... أرجّي نداها والجنونُ فنونُ وما نلتُ منها طائلاً غير أنني ... تعلمتُ طعمَ الذل كيفَ يكونُ وقال غيره: لي كلّما ابتسم النهارُ تعلّة ... بمحدّث ما شان قلبي شأنهُ فإذا الدجى وافى وأقبل جُنحه ... فهناك يدري الهمُّ أين مكانهُ وقال غيره: غِنىً في يدِ الآمالِ لا أستفيدهُ ... ودَينٌ على الأيامِ لا أتقاضاهُ يرى الصبر محمودَ العواقبِ معشرٌ ... وما كلّ صبر يحمد المرء عقباهُ فكنت كمن ترك الوقار وكان من أهله، وسُلب القرار لذهاب عقله، وغدا يساور الهموم، ويسامر النجوم، فلا يطيب له المقيل، والحال كما قيل: يبيت كما بات السليم مسهدّاً ... وفي قلبهِ نارٌ يشب لها وَقْدُ وقد هجرَ الخلان من غيرِ ما قِلى ... وأفرده الهمُّ المبرح والوجدُ فلم يَرْثِ لي دهري الخؤون، ولا رَقَّ لي زماني المفتون، حتى كأني في

جفن الدهر قذى، أو في حلقه شجاً وأذى، يدافعني نيل الأمنيّة، ويكاد يسلمني إلى المنية، قلت: وكادت ديارُ الروم من فَرْطِ محنتي ... بما رحُبت غماً عليَّ تضيق وأنا مع ذلك أدافع الأيام، وأعلل النفس ببلوغ المرام، متلفّعاً بالقناعة والكفاف، متقنعاً بالنزاهة والعفاف. إذا قيل هذا منهلٌ قلتُ قد رأى ... ولكنّ نفس الحرِّ تحتملُ الظما فما كلّ برقٍ لاحَ لي يستفزّني ... ولا كلّ من لاقيت أرضاهُ منعما وقد ذكرت بتلك الأبواب الفسيحة الرحاب، المنيعة الجناب، بيتين لبعض الفضلاء، وهما قوله: وأكرمُ من يدقّ البابَ شخص ... ثقيلُ الحملِ مشغول اليدينِ ينوء إذا مشى ثقلاً وحملا ... ويدفع بابهُ بالركبتينِ وما أصدق ما قال الزمخشري: وإذا رأيت صعوبة في مطلب ... فاحمل صعوبته على الدينارِ وابعثه فيما تشتهيه فإنَّه ... حجر يُليّن سائر الأحجارِ وما أحسن ما قال: دع السحر يا من تيَّم الحبّ قلبه ... فما السحر إلا في نقوشِ الدراهمِ إذا ما دعوت الطيرَ لبَّاك مسرعاً ... بدرهمك المنقوشِ لا بالعزائمِِ

وقلت: إذا عزَّ من تهوى ولم ترَ حيلةً ... فليس سوى الدينار أرجى وأرجحُ يهوّن صعب الأمر في كلّ معضل ... وفي كلّ أمر فهو أنجى وأنجحُ ولقد كنت أزعم أن أصير باختلاطي بالروم بعد العرب جامع الفضيلتين، ولا أقول القياس إنَّما يتبع أخس المقدمتين، إلا أنني حصلت من الفقه على مسائل الطهارة، وفي الإشارة ما يغني عن العبارة، وصرت لا أعرف من النحو بعد ذلك الثبوت إلا كثر شربي السَويق وهو مَلْتوت ولا أفهم من التصريف مقالاً، إلا قاتل يقاتل مقاتلة وقتالاً، ولا من المنطق بعد بذل المجهود، إلا إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، ولو شرحت مطوَّل جهلي بالأصول، وقلة مالي فيه من المحصول، لتلخَّص للطالب من مختصر التلخيص تخليص، وتخصيص من تهذيب الكلام بأوفى تخصيص. ولرحمة المتوجعين حرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداءِ وقال: وحار لُبِّي لِما بليتُ بهِ ... من الليالي وصرفها عَجَبُ وقال: وضاقَ ذرعي لضيقِ ذاتِ يدي ... وساورتني الهموم والكرَبُ وقادني دهريَ الملوم إلى ... سلوك ما يستشينه الحسَبُ ولقد كان يخطر مثل ذلك بالبال، ويُرسم في لوح الخيال، لما اشتهر من مذلّة السؤال، وقلة الاحتفال، ولقد سلمت من المصائب، لو تحققت بقول علي بن أبي طالب، وذلك في وصيته لابنه الحسن عند انصرافه من صفين، والله تعالى الموفق والمعين: يا بنيَّ إن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله تعالى ذو نعمة فافعل، فإنك مدرك قسمك، وآخذ سهمك، وإن اليسير من الله تعالى سبحانه، أكرم وأعظم من الكثير من خلقه، وإن كان كلّ منه، قلت لله ما أحلى هذا الوصل، فليتني تحققت به وأخذت بسببه. وإذا جرّب المجرّبَ غَمْرٌ ... فعليه إذا أصيب المَلامُ

فأقمت لا منقول في المنقول، ولا معوّل في المعقول، وأنا أفصح عني ولكني أكسي: وصرت أذل من معنى دقيقٍ ... به فقر إلى فهم جليلِ هذا والحديث ذوشجون وما أتلوه من الأقوال، نوع من ضرب الأعمال، وما يعقلها إلا العالمون: إن الليالي والأيام لو سُئلت ... عن عيبِ أنفسها لم تكتم الخبرا فكنت أخالطهم مخالطة مسالمة، وأجالسهم مباسمه، لعلمي أن من لزم اليأس من الناس، فقد سلم من البأس، وأن الإجمال في الطلب والإنتقال عن مظان العطب، يؤمان إلى النجاح ويؤمنان من الافتضاح. مجاملة الإنسان تكسب عيشه ... صفاء تحبوه الجميل من الذكرِ على أن صبري للذي قد لقيته ... وأردافه بالعذر قبض على الجمرِ وقد تحجب أهل الكرم في الأبنية، فلم أر من السعودات إلا سعد الأخبية، ولعمر الله إنهم معذورون في ذلك، فلقد رأيت فيما هنالك من الطوائف القدسيين والشاميين، وغيرهم ذوي عمائم كالأبراج، وأكمام كالأخراج، وقد لزموا تلك الأبواب لزوم الكاتبين، وصار أحدهم مع الرئيس كالخصمين المتحاسبين، يطالبه بجائزة شعر، لو شعر بحقيقة أمره، لاستحيا منه ولزم حده بقية عمره. قد بان لي عذرُ الكرام قصدهم ... عن أكثر الشعراء ليس بعارِ لم يسأموا بذل النوالِ وإنَّما ... جَمُد الندى لبرودة الأشعارِ أو كما قال الشريف العباسي: ربَّ خذ للشعر من زمر ... أسمعونا فيه ما أضنى مثلَ مضغ الماءِ ليس لهُ ... في فمي طعمٌ ولا معنى فلذلك انقطعت السبل عن أهل الحياء، ونفق في سوق النفاق عرض أهل الرياء، فلم يجر باسم الفضلاء قلم لباري، ورضى العالم غاية استأثر بها الباري، ولله در القائل: لا تغضبن على امرئٍ ... لك مانعٌ ما في يديهِ وإغضب على الطمعِ الذي ... استدعاك تطلبُ ما لديهِ

وقال: لا تكن طالباً لِما في يدِ النا ... س فيزّورّ عن لقاءكَ الصديقُ إنَّما الذلُّ في سؤالك للنا ... س ولو في سؤال أين الطريقُ وقال: لا أبتغي بالشعرِ رزقاً ولو ... كنت على جيده أقدرُ كيف وعلمي أن لي رازقاً ... يرزقني من حيث لا أشعرُ وقال: من عفّ خفّ عن الصديق لقاؤهُ ... وأخو الحوائجِ وجههُ مملولُ وأخوكَ من وفرت ما في كيسهِ ... فإذا اعترضت له فأنت ثقيلُ فها أنا أخفض لهم الجناح، وأرفع عنهم الجناح، لأن الأمر مراحمه لا مزاحمه، ومحاسنه لا مخاشنه، ومناسبة لا محاسبة: وعني بالتلويح يفهم ذائق ... غنيٌّ عن التصريح للمتعنت فمشيت على هذا السنن القويم، والمسلك المستقيم، متحاشياً عن المباراة متجنباً ما إستطعت عن المماراة، فإنهما يهدمان الدين ويعدمان اليقين: وما كنتُ أدري قبل عزةَ ما البُكا ... ولاموجعات القلبِ حتى تولتِ فإن أجنِ من غرسِ المُنى ثمر العنا ... فللهِ نفس في مُناها تمنتِ ولست بالمتصدي للقيل والقال، ولا المتعدي بالجدال إلى المحال، وكم من متشبه لم يحك المثال، وناقل لم يحك عن النوال، وأين الماء من السماء؟ وموقع السيل من مطلع سهيل؟ تعرض قومٌ للغرامِ وأعرضوا ... بجانبهم عن صحبةٍ فيه واعتلوا رضوا بالأماني وابْتُلُوا بحظوظهم ... وخاضوا بحارَ الحبِّ دعوى فما ابتَّلوا هذا ومن أجاب داعي الهوى يوشك أن لا يجاب، إذا هو في هوّة الهوان، لا جرم أن العثار سابق إلى قدمه، والاغترار سائق إلى ندمه، ألا يرى حسن

اخضرار العود، فإذا فارق منبته استعدّ للوقود، ولا يزال المرء حسن الظن في نفسه، قليل التفحص عن رؤية حدسه، يتستَّر بالمحال، على غير العلم بالحال: والمرءُ تلقاه مضياعاً لفرصتهِ ... حتى إذا فات أمرٌ عاتبَ القدرا فها أنا أستغرق تارة في الجهل والطيش، فأراني في لذة العيش، وتارة تلاحظني بقايا العناية، فأعلم أني من الجهل في غاية، فمن شاهدني قال الجنون فنون، ومن تحققني أنشدني كأن لم يكن بين الحجون: فليت أيّامَ هذا الدَّهر تمدحني ... ببيتِ شعرٍ قديمٍ سارَ في الناسِ دعِ المكارمَ لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإِنك أنت الطاعمُ الكاسي وقال: وفي الناس من يرضى بميسورِ عيشهِ ... ومركوبهُ رجلاهُ والثوبُ جلده ولكن قلبا بين جنبيّ ما له ... مدى ينتهي بي في مرام أحده وقال: وكانت على الأيامِ نفسي عزيزةٌ ... فلما رأيت صبري على الذلِّ ذلتِ فقلت لها يا نفسُ موتي كريمةً ... فقد كانت الدنيا لنا ثم ولتِ هذا وشريف النفس هو الذي لا يرى الدنيا لها ثمناً، ولا يرتضيها لنفسه سكناً، حيث لم يبسطها الباري تعالى إلا اختياراً، ولم يقبضها إلا اختباراً، على أنها كزيارة ضيف، وسحابة صيف.

الشوق للوطن

تالله لو كانت الدنيا بأجمعها ... تبقى علينا ويأتي رزقها رغدا ما كان في حقِ حرٍ أن يذل لها ... فكيف وهي متاعٌ يضمحلُ غدا أبو السعود المفتي: سل الأيامَ ما فعلت بكسرى ... وقيصر والقصور وساكنيها أما استدعتهمُ للبينِ طُرّاً ... فلم تدعِ الحليمَ ولا السفيها أقول: ويعجبني في هذا المقام قول من قال: ما زهد الزاهدون فيما كتب لهم. قال الشيخ الشعراني: إذا كان الزهد حقيقته ترك شيء ليس هو له، فالزاهد جاهل، لأن زهده ما وقع إلا في عدم لا وجود له، وهذا مبني على توهّم صحة الاختيار، وهو كلام لا معنى له. انتهى كلامه. وكيف يصح للمرء ترك شيء لم يقدر عليه؟ فيه كلام للأمة فتأمله. يذمون دنياهم وهم يطلبونها ... ولم أرَ كالدنيا تُذمُّ وتُمدحُ قال المثلي: وبروحي فديته ذا جمال ... غَنِج اللّحْظِّ كالقنا الأمْلودِ لقّبوهُ بحامضٍ وهو حلوٌ ... قول من لم يصل إلى العنقودِ وقال: صرفتُ نفسي عن الدنيا وزخرفها ... لا فضةً أبتغي فيها ولا ذهبا نفسي التي تملكُ الأشياَء ذاهبةٌ ... فكيفَ آسى على شيءٍ إذا ذهبا الشوق للوطن ثم إني لم أزل مع الزمان في تفنيد وعتاب، حتى رضيت من الغنيمة بالإياب، وأنا أنادي حظاً غير سميع، وأستعطف طالعاً غير مطيع: وقد ضقتُ بالأحوالِ ذرعاً وحيلة ... فحتّى متى أشكو ولا تنفع الشكوى وقد اشتد بنا الأمر في الملازمة، وسايرنا سير مخازمة، حتى انثنيت مما أردته، وجعل كلّما طرق طارق طردته.

فلا أنا من هوى الفيحاءِ خالٍ ... ولا ممّن أحبُّ قضيتُ دَيني وقال: أقول غداً أفوز ببعضِ سؤلي ... فيأتي في غدٍ مالا أشاءُ فيا للهِ من عكس الليالي ... مقاصدي التي فيها الثناءُ ولما وقفت على الجملة بالتفصيل، وتحققت أن الآمال سوّفت بالأباطيل، أغمضت عما هو بيد الزمان، وقبّحت للنفس ما كان قد زان، وقد نبذت المرام إليه، وقلت: خذه غير مأسوف عليه، فَسَخَتْ النفس بما زاد على الزاد، ولم يبق لي من الأماني سوى الرجوع إلى أوطاني، وقد تجاوزت من التمنِّي حده، وما فاتني شيء سوى الحظِّ وحده. وإذا نظرتَ إلى الوجودِ بعينهِ ... فجميعُ ما في الكائنات مليحُ ولكن أين أنا من تلك المعاهد، وبماذا أتوصّل لمشاهدة هاتيك المشاهد، وقد حالت من دونها تلك البحار، وأحوال هاتيك المفاوز والحِرار: كيف الوصولُ إلى سعاد ودونها ... قللُ الجبالِ ودونهن حتوفُ الرجل حافيةٌ ومالي مَرْكبٌ ... والكفُّ صِفْرٌ والطريق مَخوفُ ولا أقول هذه رحلة تشدُّ إليها الرحال، حيث لم تسفر بمحاسنها عن وجوه الرجال، فيا ناظراً إلى ما جرى به القلم، من تسطير المشقِّة والألم، ليس من شِرعة العقل سُرعة العَذْل، فإن من عيّر شخصاً ابتليَ بدائه، ومن حكم الأقضية فقد أزرى برأيه، وإنَّما هذه نَفْثَة مصدور، جواباً لسؤال مُقدّر أو مذكور، حيث الأيام فُرص مغتنمه، وغصَص مقسمه، نسائمها سمائم ومغنمها مغارم. هي الدنيا تقول بملء فيها ... حَذارِ حَذارِ من بطشي وفتكي ولا يغرركم مني ابتسامٌ ... فقولي مضحكٌ والفعل مُبكِي وما حال من فارق الحياة ونأى عنها، وكان في الجنة فأخرج إلى النار منها، وقد دَهَمَت بشهب صروفها الليالي، وذلك وِفاق من كانت السعادة في يديه فلم يصنها غير مبالٍ. عجباً لمثلي وهو يبصر رشدَهُ ... في الأرضِ كيفَ تقلبت حالاتُهُ

ثم نادى منادي التدبير من عالم التقدير، بأن الخير في الواقع، والأمن في قطع المطالع، وقال لسان الحرمان: عليك الأمان إذا حصل ما قاتك، فلا تندم على ما فاتك. إذا رُمتَ المطالبَ قبل وقت ... فلست بواجد إلا الأماني فقبل الوقت كان سؤال موسى ... وكان جوابُ ذلك لن تراني فعند ذلك أشتد الهيام، وتضاعف الوجد والغرام، شوقاً لساكن الزوراء وزيارته السنية، وتوقاً إلى التملّي بتجلّي جماله، قبل تحكّم المنية. وما اشتياقي حمى الزوراء من عجب ... وجرحُ قلبي إليها غيرُ مندملِ وقد حوى سفحها بدراً منازلُهُ ... صميمُ قلبي في حِلّي ومرتحلي سقى بها مربعاً تزهو جوانبهُ ... بوابلِ غيثٍ بذاك الحَيِّ مُنهملِ وعطَّرَ الجوّ أنفاس الشَذى وقضت ... يدُ النسيم على الأغصانِ بالميلِ ويا رعى اللهُ أوقاتاً بها سلفت ... ما ضرّها لو مشت فينا على مهَلِ سُقيا لها من ليالٍ مذ مضت تركت ... أحشاءنا ولهيب النارِ في شُعَلِ أشتاقها بفؤاد غير مصطبرٍ ... عنها وأبكي بدمعٍ هاملٍ هَطِلِ لعل إلمامة بالجزع ثانيةً ... يَدِبُّ منها نسيم البرء في علَلِ ولما جعلتني المقادير نُهْزَة الأسفار، ولم تُرِني نزهة الأسفار، بل كنت غرضاً لمتاعب البحار، وعرضاً لمصائب القفار، وقد تزايد ما بي من الألم، ولم يبق مني عضو إلا وبه ألم، توسلت في تلك الحال، إلى العليّ المتعال، أن يردّني إلى حَرَمه بمنّه وكرمه، وكثيراً ما كنت أتوسل بهذه الأبيات: إلهي طال بعدي واغترابي ... وفي جُنح الدجى طال التهابي ونحو أحبتي قد زاد شوقي ... لأهلي والأقاربِ والصحابِ

العودة إلى المدينة

إلهي قد وهَى جَلَدي وصبري ... لميلي نحو هاتيك الشعابِ إلهي من سواك بنا رَحيم ... يوفّقنا إلى سَنَنِ الصوابِ إلهي أنت أولى من عفا عن ... ذنوبٍ مثل أعدادِ الترابِ إلهي جُد بقربٍ عن قريب ... ومُنَّ على ذهابي بالإيابِ إلهي واقض لي يا خير قاضٍ ... برؤيا سفح هاتيكَ القِبابِ فصادف الدعاء الإجابة، وتحققت هذه الطلابة، وقد أخذ الشوق بزمام الفؤاد، وأذكرني طيبَ وادٍ أفديه بألف واد: وادٍ سما قدره بالساكنين بهِ ... وطالِعُ السعدِ في آفاقهِ طلعا العودة إلى المدينة وقد تهيّأت أسباب الرحيل وقرأ الطالع للمطامع وحيل وهبّت نسمات القبول بالقرب والوصول، من حضرة السيد الرسول، صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّمْ. أيا ساكني أكنافَ طيبة حسبُكم ... من السعي للعلياء جيرةَ أحمدِ فمن يبتغي عنها بلاداً وإن سَمَت ... لأمرٍ من الدنيا فليس بمهتدِ وكان ذلك بإسعاف ذي القدر والمقدار، وقطب القسطنطينية الذي عليه المدار، وهو مولانا شيخ الإسلام، لازال في فم الدهر ابتسام: فلولاه لم أبلغ من الروم بُلْغَة ... ولولا نداه ما رجعت إلى أهلي وبالجملة، فلولا ما أسداه من الإحسان، وتفضَّل به وأعان، لحالت المنيَّة دون الأمنيّة، ولم أرد مشارع تلك الديار السنيّة: ولما رماني الدهر من كلّ جانب ... بكلّ ملمٍّ ضاق عن حمله الصدرُ لجأت إليه لا فقدتُ وجودَهُ ... وناهيك من شخص هو البر والبحرُ

فحمداً لأياديه، وخواتيم أمره ومباديه، وشكراً لمنّته البهيّة، وهمته العليّة، فإنها ما أرادت أمراً إلا أدركت غايته، واستدركت فائته. على أنها عند الملماتِ لم تزَل ... إذا جُرّدت كالمشرَقيّ المهندِ بها يأمنُ اللاجئُ خطوب زمانهِ ... كما يبلغ الراجي بها كلّ مقصدِ وغيره: أطلق لسانكَ بالثناءِعلى الذي ... أولاكَ حُسن رغائِبِ وغرائبِ واشكره شكر الروض باكرهُ الحيا ... كيما تقومَ لهُ ببعضِ الواجبِ فأخذت في الرحيل وودّعت، وعزمت على أن لا أعود وأزمعت، فرجعت كثير الشَغَف، ولي قلب كليم بالأسف: ولقد نثرتُ مدامعي ودمي معاً ... يومَ الوداع وخاطري مكسورُ لا تعجبوا لتلوِّن في أدمعي ... لابدَّ أن يتلونَ المنثورُ فلا غَرْوَ أن أقول بلسان الحال، إذا كنت كرة لصوالِجةِ الليال: كأنّي في الزمانِ اسم صحيح ... جرى فتحكّمت فيه العوامل مزيد في بنيهِ كواو عمرو ... وملقى الحظِّ فيه كراء واصِل فصممت على رحيلي، وجمعت للرحلة ذيلي، وأخذت لا من الذهب بل في الذهاب، وعزمت على عدم تمنِّي الإياب، فقوّضت خيام الغيبه، وأسرجت جواد الأوبه: إلى بلدةٍ نيطت عليّ تمائمي ... بها في جوارِ الهاشميّ محمدُ فنزلت الخليج السكندري، حتى أتيت على أسكدار، وهي بلدة عظيمة المقدار، بها الجوامع الجامعة، والمدارس الساطعة، والمباني المشيّدة، والأسواق المتعدّدة، وعرض هذا الخليج مقدر بستة أميال، والميل البحري مقدّر بمسافة لو وصل غايتها البصر وكان ثمة شخص، عرف كونه قائماً أو قاعداً. والبريد مقدر بألف باع، وقيل بأربعة آلاف خطوة، والخطوة ذراع ونصف، وفي ذلك قالوا: إن البريد من الفراسخ أربعٌ ... ولِفرسخٍ فثلاثُ أميال ضعوا والميلُ ألفُ أي من الباعات قل ... والباع أربع أذرع فتتبعوا

غريبة

ثمّ الذراعُ من الأصابع أربع ... من بعدها عشرونَ ثمّ الأصبعُ ستُّ شعيراتٍ فبطن شعيرةٍ ... منها إلى ظهرٍ لأخرى يوضعُ ثم الشعيرةُ ست شعراتٍ غدت ... من شعر بغل ليس فيه تضعضعُ غريبة حكى القزويني عن صاحب تحفة الغرائب أن في حدّ خليج القسطنطينية قرية فيها بيت من الحجر، وفي البيت صورة الرجال والنساء والخيل والبغال وغيرها من الحيوانات، فمن أصابه وجع في عضو من أعضائه، يدخل ذلك البيت ويدنو من مثل صورته، ويمسح بيده مثل العضو الموجع من الصورة، ثم يمسح العضو الموجوع، فإن وجعه يزول في الحال.! قاله في الآثار. ومن العجائب المشهودة بهذا الخليج، البرج القائم في وسط مائه التيار. ثم إنّا سرنا وقد زمجرت تلك الرعود، فشهدنا ذلك اليوم الموعود. في يوم بردٍ ترى أنفاسه ... تشوّه الأوجهَ من قَرْصها تودُّ فيه الشمسُ من بردِهِ ... لو جرّت النار إلى قُرْصها وقال: قالوا أضرّ بنا السحابُ بقطره ... لما رأوه لعبرتي يحكي لا تعجبوا مما ترون فإنَّما ... هذى السماء لعبرتي تبكي ثم أتينا على قبيزة، وهي بلدة بديعة المعاني، آهلة المغاني، فنزلنا بخانها الأمين المأمون، وقد رمينا بسهام بردها الميمون، وقد أوقدوا الحطب بذلك الخان، حتى كادت الأنفس تزهق لتكاثف الدخان. وهكذا المرء في أيام غُربته ... يلقى من الضَيم ما لم يَجْرِ بالبالِ ولما كان آخر الليل، قمنا منه حتى أتينا على خليج الديل وقت الشروق، وهو أوسع من خليج اسكدار، فقطعناه في مركب صغير، ثم مَرَرْنا بالديل، وهو اسم لقرية لطيفة، فلما كان بعد الظهر أتينا على جاور كوى ومعناه قرية نصارى، وفيها نهر عظيم يدور بتلك الشعاب، وفيها اجتمعنا بأمين البصرة، الأمير محمود أغا ولما هدأ الليل قمنا نقطع هاتيك القِلال، وأنا بحال من قال:

قلبي الخفوقُ ومدمعي الجاري دما ... مهما جرى ذكر العذيب أو اللّوى وإذا تألّقَ بارقٌ من بارقِ ... فهناك ينشرُ مِنْ هواه ما انطوى فلما كان الضحى أتينا أزنيق وهي بلدة مسوّرة، بها الجداول والأشجار المختلفة الثمار، وإليها ينسب الفخار الأزنيقي، لأن بها مصانعه وأحجاره. ثم أتينا على لفقة وهي قرية لطيفة ذات أشجار يانعة وريفة، ثم أتينا على سقوت وهي بلدة رحيبة الجناب، مخضرة الأرجاء والرحاب، ثم أتينا على أسكي شهر ومعناه بلدة قديمة، وقد حفت بالأشجار، وجرت بين رياضها الأنهار، ومن العجائب بها حمّامها الذي ماؤه أحرَّ من الجمر، من غير صنعة بشرية، لأن منابعه من معادن كبريتية، وبها النهر التيار الذي لا يجاز إلا من جسره: أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً ... ويوماً له يوم الترحل خامسُ وعلى ذكر الجسر: خطَّ على ماءِ الشبابِ الذي ... بخده جسر من الشعرِ صار طريقاً لي إلى سلوتي ... وكنت فيه موثق الأسرِ وقال: ومما قضى الدهرُ الملمُّ بنَزْلة ... على الفرسِ الميمونِ يبقى بها كسري ولما قضى لم أقض غير تعجبٍ ... ولكن رأيت اليسر يدنو مع العسرِ فاكتريت بها بغلاً لا نَقْص في معايبه، ولا يوجد ما يدانيه في مثالبه،

فما زلت أسير به وأنا معه أسير، وما زال يسير بي والطرف منه حسير: أسير مثل أسير وهو يعرُجُ بي ... كأنَّه نازلٌ ينحط من درجِ فإن رماني على ما فيه من عرج ... فما عليه إذا ما متُّ من حرجِ وقال: وقد كان مركوبي أعزّ خيولهم ... وأكرمهم إذ كان وافي الشرائطِ وكنتُ عليه مطمئناً وثابتاً ... كأنّي منه راكب فوق حائطِ ثم أقمنا على بلدة السلطان السيد غازي، وهي بلدة آهلة المغاني، بديعة المعاني، سميت باسم فاتحها في سنة إحدى وعشرين وتسعمائة، وقبره على الجبل المطل عليها، وعليه مدرسة عظيمة، وحولها منازل عامرة بسكانها. ثم أتينا على ينكي خان ومعناه الخان الجديد، وهو من بناء الوزير خسرو باشا، عمّره سنة تسع وثلاثين وألف، وحوله منازل حدثت بحدوثه. ثم أتينا على بياض وهي قرية قوية البرد والأهوية، وذلك لكثرة الثلج على جبالها، وشدةّ أخلاق رجالها. ومن العجائب أن أقيم ببلدةٍ ... يوماً وأسلمُ من أذى أحوالها قال البصير: الثلج ما تصاعد من البحر إلى كرة الزمهرير ليكون مطراً، فتنعكس عليه الرياح الباردة، فينعقد ويسقط في البلاد البعيدة عن الشمس كالدقيق، وهو بارد في الثالثة يابس في الثانية، ونفعه في الحُمَّيَات الحارة، والحكّة وضعف المعدة عن الحرّ، ويسمن الحيوان غير الإنسان. والثلجُ في الرومِ قد شاهدتُ موقعه ... كأنَّه القطن يهوي وهو مندوفُ وقال: انظر إلى وسط البسيطة أبيضاً ... لم تبد فيه شامة سوداءُ كَرُمَ السحابُ فعمَّ بالثلج الثرى ... إن الكريم له اليد البيضاءُ تقي الدين السبكي: أقول للسرو إذ كساه ... ثلج بدا نوره وأنهج زمُرد أنت في لُجين ... فقال أبهى سناً وأبهج ثم أتينا على قرية تسمى بلاوضون وهي كثيرة الخيرات، بها الأشجار

المؤتلفة، والأزهار المختلفة. ثم أتينا على آق شهر ومعناه قرية بيضاء، وقد اخضلَّت في أرجائها الأشجار، وتغنَّت على أغصانها الأطيار، وفيها جدول ماء يدور بشوارعها، وبالقرب من خانها جامع جمع المحاسن، وهو بناء الوزير حسن باشا وتاريخه غيط، ولها تربة معمورة، وقبورها مبنية بالأحجار المخدومة كمقابر الروم. وما ينفعُ الإنسانَ بنيان قبرهِ ... إذا كان فيه جسمهُ يتهدّمُ وفيها ضريح الخواجة ناصر الدين صاحب التفسير، المتوفى سنة ست وثمانين وثلاثمائة، والعامة تزعم أنه جحا الذي يضرب أمثاله في الجد والهزل، وهو من فزارة وكنيته أبو الغصن. قيل: كان يحفر بظهر الكوفة، فقيل له: مالك؟ قال: دفنت دراهمي هنا وما أهتدي إليها. فقيل: كان عليك أن تعلّمها. قال: قد فعلت. قيل: ماذا؟ قال: كانت عليها سحابة تظلها. والحكايات عنه لا تكاد تضبط كثرة، كذا في المستقصى. ورأيت في بعض التعاليق أنه كان فاضلاً ماجناً، وقد عمل الناس على لسانه كثيراً من النكت والنوادر، كما عملوا على لسان المجنون، ولابن أبي اليمن الغفاري مؤلَف في ذلك، يشتمل على ألف ورقة. حُكِيَ عنه أنه سئل مرة عن القيامة فقال: بموتي تقوم. حُكي أن الزهراء بنية من عجائب الدنيا أنشأها أبو المظفر عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الملقب بالناصر، أحد ملوك بني أمية بالأندلس، بقرب قرطبة في أول سنة مائة وخمس وعشرين، ومسافة ما بينهما أربعة أميال وثلث ميل، وطول الزهراء من الشرق والغرب ألفان وسبعمائة ذراع، وعرضها من القبلة إلى الجنوب ألف وخمسمائة ذراع، وعدد السواري التي فيها أربعة آلاف سارية، وعدد أبوابها يزيد على خمسة عشر ألف باب. وكان الناصر المذكور يقسِّم جباية الأموال ثلاثاً، فثلث للجند، وثلث مدّخر، وثلث ينفقه على عمارة الزهراء، وكانت

جباية الأندلس خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن السوق المستخلص سبعمائة ألف وخمسمائة وستون ديناراً، وهي من أهول بنيان الدنيا وأجلّ خطراً، ذكر ذلك ابن بشكوال في تاريخ الأندلس. ثم أتينا على أيلغين وهي بلدة عظيمة، وبها جامع لا نظير له في تلك الجادة، بني باسم السلطان مراد سنة أربع وثمانين وتسعمائة، وعليه أوقاف وصدقات، ولها بَرْدٌ كأنَّه ضرب المسامير، لكثرة الثلج والهواء البارد في شمس الحمل. وفيها حمّام للرجال وحمّام للنساء، وماؤه حار لا بصنع البشر. وفيها أبنية محكمة عالية، تدل على عظم بانيها. - ثم أتينا على لادك وهي خيف لطيف. ثم إننا قَدِمنا قونية، فنزلنا بجوار الملاخنكار صاحب المثنوي، وأقمنا بها ثلاثة أيام، كأنَّها ساعة من منام، لما فيها من الخيرات وصفاء الخاطر، وهي بلدة عظيمة مسوّرة بسور يعرب عن قوّة بانيه. حكى السيوطي: أن مروان آخر ملوك بني أمية افتتحها سنة ست ومائة، وهي كثيرة الأشجار، غزيرة الأنهار، محفوفة بالأزهار، أهويتها كأنَّها تهب بنسمات الأسحار، رأيت بها خمسين حانوتاً تصنع بها الحلوى الملوّنة، ولا يبقى آخر النهار منها شيء، وهي منتصف الطريق إلى حلب، وللمُلا في ضحوة الخميس والاثنين وبعد صلاة الجمعة، حضرة بالدفوف والقصب، تأخذ بمجامع القلوب الخلية فيتواجدون عليها: قال: ومن يك وجدُه وجداً صحيحاً ... فلم يحتج إلى طرب المغني له من وجده طربٌ بديع ... وسكر دائم من غير دنِّ

وقال غيره ولا يزالون مختلفين: ما في التواجد إن فكرتَ من حرج ... ولا المثاني ولا الأصوات تعجبني فكلّ معنى بديع من محاسنهِ ... وكلّ ناطقة في الكون تطربني ثم سرنا نقطع تلك القفار، ونجوب هاتيك الحرار، حتى أتينا على أسمل، وهي قرية لطيفة. ثم أتينا على قرابيار ومعناه العين السوداء، وهي قرية مخضرة الأكناف، وفيها خان وجامع فيه مياه يردها المسافرون، وفي جنوب القرية بالقرب من الآكام، قليب ماؤه مسائغ، ترده أهل القرية إذا قصَّر ماء الجامع. ثم لم نزل نسير في واد فسيح الرحاب، حتى أتينا على أركلى وهي بلدة عامرة، وبساتينها زاهية زاهرة، وبها نهر لطيف يطوف بأكنافها، وهي من بناء هِرَقلينوس، يقال إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعوه إلى الإسلام، فقال: بلدي قليلة الماء وأريد أن يجري فيها نهر، فقال: خذ آية من كتاب الله تعالى وأكتبها في ورقة وضعها في أي موضع شئت ينبع فيه الماء ويعم بلدك، فحكى ذلك لبطارقته فوعدوه بالإسلام إن صح ذلك، فكتب آية من كتاب الله تعالى، وأتى إلى شعب يابس عندهم

ووضعه في شق صخرة، فنبع الماء وعمّ جميع بلده، فآمن هو وأهل دولته، وجعل جميع ما يصل إليه هذا الماء وقفاً على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي إلى الآن يضبط ما فيها لجهة المدينة المنورة، فيها دور كثيرة، وحولها نحو ألف وخمسمائة بيت، وقرى وضياع وبساتين، وجامع وقاضي. ثم أتينا على خان محمد باشا وهو بناء محكم، وعنده قرية لطيفة، وقبله عقبة ينزلها الراكب كرامة للسلطان مراد، زعموا أنَّه نزل عندها ومشى على قدميه، ولعلَّ ذلك شفقة على الدواب. ثم سرنا بين رياض وأزهار، وحياض وأنهار، حتى أتينا على العقبة وما أدرك ما العقبة، فيا لها من عقبة نالنا منها أليم العقاب، ومسنا من بردها أحر العذاب. ثم أتينا جفته خان ومعنى جفته زوج، وذلك لأن هنالك خانين متقابلين. ثم أتينا على خان بيري باشا فسرنا على أطراف تلك الجبال، لغزارة تلك الأنهار، ثم أحوج الأمر إلى خوضها فدخلناها، وكنا نخوض مع الخائضين، وهي أربعون مخاضة، وكلها من نهر واحد يدور في تلك الشعاب. ثم أتينا على جاووش خان وهو بين رياض تتعبق، وحياض تتدفق. ثم أتينا على وادي مخضل فيه نهر غزير يقال له شاقط. ثم أتينا على أدنه وشاهدنا رياضها الحسنه. دخلتها وشعاع الشمس متقد ... وحرها في الحشا تذكو هواجرهُ

في موكبٍ من عيون لو رميت بها ... صرف الزمان لما دارت دوائرهُ وهي بلدة حسنة الترتيب، بديعة الوضع العجيب، عمارتها عثمانية، وقلعتها سليمانية، وبها عمارة الأمير خليل بن رمضان باشا، من الطوائف أيام الجراكسة من بيت السلطنة، وكانوا تارة يطيعون صاحب مصر، وتارة يطيعون صاحب الروم، وفيها الجوامع والمدارس، وعلى نهرها جسر يشتمل على خمس عشرة عقداً، وعليه دولاب عجيب الوضع، يقال لهذا النهر سايح وربما قيل سيحون ولعله شبيه به. قال ابن خِلِّكان: سَيْحون بفتح السين المهملة وسكون الباء المثناه من تحت، وهو وراء جيحون فيما وراء بلاد الترك، وبينهما مسافة خمسة عشر يوماً، وهذان النهران مع عظمهما وسعة عرضهما يجمدان في زمن الشتاء، وتعبر القوافل عليهما بدوابها وأثقالها، ويبقيان كذلك ثلاثة أشهر، انتهى، من وفيات الأعيان من ترجمة أبي طالب محمد أول ملوك السلجوقية. وعلى ذكر الدولاب: أبدى لنا الدولاب قولاً معجباً ... لما رآنا قادمين إليهِ أبكي وأشكو ما لقيت من الهوى ... قلبي معي وأنا أدورُ عليهِ وقال الذهبي: وروضة دولابها ... إلى الغصونِ قد شكى من حين ضاع نشرها ... دار عليه وبكى ورأيت بها عنباً أحمر شديد الحمرة في كبر البيض، وبها من أنواع الفواكه شيء كثير، وأهلها يرحلون منها أيام الصيف إلى الأيْلَة، إلا العاجز الذي حبسه عجزه: أقمت بها يوماً تقضَّى كأنَّه ... خيال غزال زار وَهْمَ حبيبهِ ويوماً حكى طيب الوصال وثالثاً ... تقاضت به الأرواح نفحة طيبهِ ثم برزت منها ورحلت عنها والقلب يتأسف عليها، والنظر يتشوَّف إليها، حتى أتينا على نهر عظيم يقال له جايح، وعليه جسر عظيم ويقال أنه يتصل

بجيحون، النهر العظيم الفاصل بين خوارزم وبلاد خراسان وبين بُخارى وسمرقند، وكلّ ما كان من تلك الناحية فهو ما وراء النهر. ثم أتينا على قرط كلال في ليلة النصف من شعبان، وفي مثل هذه الليلة يستدبر الإنسان القمر ويكشف رأسه، وينظر إلى ظل عنقه في ضوء القمر، فإن وجده مخلصاً فإنه لا يموت في ذلك العام، وإن كان لاصقا بين جنبيه فإنه يموت فيه، ومثل ذلك ما يفعل وقت شروق الشمس عند حلولها برج الحمل، ونحو ما يروى أن من رأى السُها ليلة المحرم بين العشاءين لم يمت في عامه، والسُها ثابت في الخامس والسادس على العناق، وهو الثاني من البنات، ومن علامته أنه لا يثبت عليه البصر، كذا في برهان البراهمة. وعلى ذكر السها: وحملتُ أعباَء الغرام وثقلهِ ... فراداً وحاربتُ الزمانَ وحيدا ورَعيت أنجمهُ فأكسبتُ السها ... سقمي وأَكسبَ جفني التسهيدا وقال: يا شَمالا هبَّ من أكناف مَنْ ... وكّلَ الطرفَ بأن يرعى السُها خبّريني هل حبيبي ذاكر ... ليَ أم عمّا ألاقيه سَها وقال: تالله ما فارقت أرضاً لكم ... إلا ورافقت السهى والسهادِ ولا توجهت إلى نحوها ... إلا وواجهت الرشا والرشادِ وقرط كلال هذا واد فيه خانات متعددة، وأرضه معشبة جيدة وماؤها معين، ولها بادية تأتي إلى الركب بما يحتاج إليه. ثم أتينا على ياباس فلم نزل نسير في أوعار، وأحجار وأنهار، حتى أشرفنا على بساتينها التي طابت بالأنفاس، وشاهدنا محاسنها القائل لسان التصديق في جواب الاستفهام عنها لا باس: للهِ كم نزهة يا صاحِ قد جمعت ... في روضةٍ أزهرت تُدعى بياباس وكم بديع سبت عقلي شمائلُه ... ورُحت من فرحي بالوهم في ياس

فائدة

وهي بلدة على ساحل البحر الشامي. ثم توجهنا فمررنا بقرية لطيفة يقال لها اسكندرونة وهي آخر ساحل مررنا به في تلك الجادة. ثم أتينا على جبال ومحاجر إلى بيلان وهي بلدة على رأس جبل، كثيرة الماء والخيرات. ثم أتينا على المفرق الذي منه طريق إلى حلب وطريق إلى إنطاكية وكانت مرحلة مشطة. فائدة المراحل الرومية مقدرة المسير بالساعات، ورأيت في ذلك مؤلفاً عند الأمير محمود آغا أمين صرة الحرمين، والمراحل الشامية مسافتها مقدرة بالبرد، والمصرية بالدرج. ثم نزلنا على العين البيضاء وهي قرية أهلها رعاة، وماؤها ينبع من بين الصخور، ولا تكاد تسلك أيام الأمطار وهي مخضرَّة الأكناف. ثم أتينا على جبل الغاوي وهو صعب المسلك، ومساحته ثلاثة أميال ومن أعلاه ترى حلب، فلم نزل نقطعه وحوافر البغال تكاد تتقطَّع، وأظافر الرجال تكاد تتقلَّع، حتى أتينا على وادٍ فيه مزارع وآبار، وفي غربيه من منتهى جبل الغاوي صهاريج متعددة منحوتة، وفي شرقيه بناء قديم يقال له قبر الأربعين، فلم نزل نسير في محاجر وأوعار، حتى أتينا على قرية التين وقد أبادتها الليالي، ثم على أنجاره وهي عين جارية في بطن الوادي. حلب المحروسة ثم قدمنا حلب المحروسة وانتشقنا عبقة بساتينها البهية المأنوسة، وحمدنا الله تعالى على الخلاص من تلك الطريق التي هي غير قويمة، وفراق هاتيك المنازل التي هي كما يقال خداج عقيمه، فأوّل مسرَّة قرَّت بها العين، وسُرَّ بها الجَنان، دخولنا إلى فردوسها من باب الجِنان.

فائدة

عليك بصهوة الشهباء تكفي ... بجَوشَنها محاربة الزمانِ فللغرفات في الفردوس طيبٌ ... يفوح شذاه من بابِ الجنانِ فنزلنا من تلك الأحياء، بوجوه زانها الحياء، وقد جادت السماء بوابلها، وفاضت بطلّها وهاطلها، فيا لها من بلدة كما تصفها الألسن، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين. فسقا ديارك غير مفسِدها ... صوبُ الغمامِ وديمة تَهمي ولما حللت حِماها، صانها الله وحَماها، شكرت أيادي النوى، وجريت طلقاً مع الهوى، لولا ما يطرق في القلب بأشجانه، من تذكار الوطن وسكانه: فلو أنّني في جنة الخلدِ بعدها ... ذكرت ولا أنسى للذاتها أُنسا فنزلت بالقرب من باب الفرج، وانتشَقْتُ طيب ذلك الأرَج، وأقمت وأنا لا أشتهي الرحيل، وإن كان ذلك طمعاً في مستحيل. دخلنا على أن المقامَ ثلاثةٌ ... فطابَ لنا حتى أقمنا بها عشرا فائدة حلب هذه المدينة الشهباء، وهي من أوسع البلاد قطراً، وأنجعها قَطراً، كثيرة الخيرات طيبة الهواء، صحيحة التربة، لها سور حصين وقلعة بديعة المثال، منيعة المنال. ذكر اليافعي في تاريخه في حوادث سنة 583 ما ملخصه: أنه لما فتح صلاح

الدين مدينة حلب، أنشده القاضي يحيى شرف الدين أبو المعالي بن الحسن علي محمد القرشي العثماني الأموي، قصيدة أجاد فيها كلّ الإجادة، وكان من جملتها هذا البيت: وفتحكَ القلعةَ الشهباَء في صفر ... مبشرٌ بفتوح القدسِ في رجبْ فكان ما قال، فُتِحتْ لثلاث بقين من رجب سنة 583، فقيل له من أين لك هذا؟ فقال: أخذته من تفسير ابن مرجانة في قوله تعالى ألم غُلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غَلَبهم سيغلبون في بضع سنين والمنقول عن ابن مرجانة أنه ذكر حساباً طويلاً، وطريقاً في استخراج ذلك من قوله بضع سنين انتهى المنقول من التاريخ. قال الزَجّاجي: وكان الخليل عليه السلام يحلب غنمه بها ويتصدق بثلثه، فيقول الفقراء على سبيل الاستفهام: حلب؟ فسمِّيت بذلك. وقيل كانت له ناقة شهباء وكان يفعل بها كذلك. أرتك يدُ الخيرِ آثارها ... وأخرَجت الأرضُ أثقالها وما منعت جارَها بلدةٌ ... كما منعت حلب جارها هي الخلدُ تجمعُ ما يشتهي ... فزرها فطوبى لمن زارها وقال: حلبُ الشهباءُ قالت ... سائر المدنِ عبيدي وأنا بختي ورختي ... بين سعد وسعيدِ وقال: غدت حلب تقولُ دمشقُ حُفَّت ... بأنواع من الورد العجيبِ

فبالجُورِيّ إن هي كاثرتنى ... قنعتُ أنا ببستان النقيبِ رأيت بها الأبيض اليقق والأسود الحالك، والأصفر الفاقع، ورأيت بها أنواعاً من الأزهار العطرة، وأما المأكول فهو فيها على ضروب مختلفة، وأما قلعتها فهي من عجائب القلاع في حسن الأوضاع. قال القزويني: ولها نهر تيار يأتيها من جهة الشمال يقال له قويق بالتصغير، فيخترق أرضها، ولها قناة مباركة تخترق شوارعها ودورها وحمّاماتها، وماؤها عذب فرات، ولها القلعة الراسخة يقال في أساسها ثمانية آلاف عمود، وهي ظاهرة الرؤوس بسفحها، وأبناؤها أهل السماحة والجود. حُكيَ أن شخصاً كان بها يقال له طاهر بن محمد الهاشمي مات أبوه وخلف مالاً كثيراً، فأنفقه على الشعراء والزوّار، فقصده البحتري وقد أعدم، فلما قدم إلى حلب قيل إنه قعد في بيته لديون ركبته، فاغتمَّ لذلك وبعث المدحة إليه مع بعض مواليه، فلما وصلته بكى وأمر غلامه أن يبيع داره، فقال له: تبيعها وتبقى على رؤوس الناس!؟ فقال: لا بد من ذلك. فباعها بثلاثمائة دينار وكتب معها: لو يكون الحِباءُ حسب الذي أن ... تَ له عندنا محلُّ وأهلُ لحثيتُ اللجينَ والدّرّ واليا ... قوت حثواً وكان ذاك يقلُّ والأديبُ الأريبُ يسمحُ بالعذ ... رِ إذا قصّر الصديقُ المقلُّ فلما وصلت إلى البحتري رَدَّ الدنانير وكتب معها: بأبي أنت، أنت للبرِ أهلٌ ... والمساعي بعد وسعيك قبلُ والنوال القليلُ بكثيرٍ إن شا ... ءّ مرجِّيك والكثير يقلُّ غير أني رددتُ برِّك إذ كان ... رباً منك والربا لا يحلُّ وإذا ما جزيتَ شعراً بشعرٍ ... قُضي الحقُ والدنانير فضلُ فلما عادت الدنانير إليه ضمَّ إليها خمسين أخرى، وحلف أنه لا يردها عليه، فلما وصلت إلى البحتري أنشأ يقول: شكرتكَ إن الشكر للعبدِ نعمة ... ومن يشكر المعروفَ فالله زائده

لكل زمانٍ واحدٌ يقتدى بهِ ... وهذا زمان أنت لا شكَّ واحدُه انتهى من النوادر المأنوسة في أخبار حلب المحروسة: ليس العطاءُ من الفضولِ سماحةٌ ... حتى تجود وما لديك قليلُ ومنها ما يُحكى أن شاعراً قصد الجواد الأفضل وكانت له أيام يحتجب فيها، فصادف أيام الاحتجاب فكتب في رقعة: ماذا أقول إذا رجعتُ وقيل لي ... ماذا رأيتَ من الجواد الأفضلِ إن قلتُ أعطاني كذبتُ وإن أقلَّ ... بخل الجوادُ بمالهِ لم يَجْمُلِ فاختر لنفسكَ ما أقول فإنني ... لا بدَّ أخبرهم وإن لم أُسألِ ثم طوى الرقعة وجعلها في قصبة وختمها بشمع وأرسلها في قناة تسير بين يدي الجواد، فلما وصلت إليه ونظر فيها، أمر له ببدرة مال وكتب معها هذه الأبيات: عاجلتنا فأتاك عاجلُ برّنا ... قِلاً ولو أمهلتنا لم نقللِ فخذ القليلَ وكن كأنّك لم تسل ... ونكون نحن كأننا لم نُسألِ فلما خرج الخازن ودفع إليه المال قال الشاعر: يا أيها المولى الذي ... أضحى وليس له نظيرُ لو كان مثلكَ آخرُ ... ما كان في الدنيا فقيرُ ويحكى أن رجلاً قصد سيف الدولة وقد عمّ القحط، واشتدت الأزمة وقلّ المسعِد، واستوى المُقِلّ والمُكْثِر، والغني والمعسر، فكتب إليه رقعة وكان له إلى الفضل ميل، وله على أهله أيادٍ طويلة الذيل، وهذه صورة الكتابة: لقد عرضت فاقة أسقطتْ رداء الحياء عن منكب الحريّة، وأنطقت لسان التعفّف على خلاف العادة بالمسألة، وأحوجت أهل الصيانة إلى تحمّل ذلك الابتذال، وقد وقع في النفس أن في رأفة مولانا وبِرّه ما يكشف ضَرّاً، ويستوجب على الأبد حمداً وشكراً. فامننْ بما يغني ويثمرُ دائماً ... حمداً يدومُ على مدى الأيامِ فلما وقف على ذلك وقع منه بموقع، فأرسل على يد غلام ما دفع الحاجة، فكتب على يد الغلام:

شكرَتْك عنَّي كلُّ قافيةٍ ... تختالُ بين المدحِ والغزلِ فلقد ملأتَ بما مننتَ بهِ ... كفَّ الرجاءِ ومنتهى الأملِ فلما وقف على ذلك طرب له وقال: هذا الرجل أهل للإحسان إليه، فاستدعاه وأغدق عليه بلطائف برّه. وهكذا المجدُ إن صحّت قواعدُه ... ليس التكحّلُ في العينينِ كالكُحلِ أقول: خَفِّضْ عليك، فلو أتيت بألف مجلّد، فيها أخبار مائة ألف جواد، لم تجد من يجود عليك بسماع قصة من تلك القصص، إلا على توهِّم أنّه أخف، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين. وما أعجب ما قال: لا تمدحنَّ ابن عباد وإن هطلتْ ... كفّاهُ بالجودِ حتى أخجل الدِيَما فإنها خطراتٌ من وَساسهِ ... يعطي ويمنعُ لا بخلاً ولا كرما ومن محاسن الشهاب الحلبي: شوقي شديدٌ إلى لقياكِ يا حلبُ ... من نازح شفّه في بعده النصبُ فلاعِج الشوقِ قد أودى تضرّمهُ ... وهذه المهلكاتُ الوَجْدُ والوَصَبُ إن كان منك محبٌ قد نأى فلهُ ... قلبٌ لديكَ لما قد ناله نَحِبُ يا بلدة ألبستني بالبها حُللا ... من الفخارِ سقى أرجاءكِ السحبُ حيّاكِ هاطلُ مُزْنٍ جاد وابلهُ ... واعشوْشَبَ الروضُ واخضرت بكِ القُضُبُ ولا عداك من الخيراتِ وافرها ... فرَبْعُ واديك رحبٌ يانعٌ خصِبُ ولي لديكِ أخلاءٌ وإن هجروا ... فشخصُهم في سويدا القلبِ منتصِبُ أفديهم أسرة عالٍ مقامهم ... قد زانَهم في الورى الإفضالُ والحسبُ بيضُ الوجوهِ كرامٌ ما لفخرهم ... حدٌّ وشأنهم الإكرام والأدبُ فأقمت في ربعها المنيع، وجنينا من ينيعها المريع، في رياض تسلسلت جداول مياهها، وقصور تزين الأفق بنجوم سمائها، مع إخوان الصفا وخُلان الوفا.

المعرة

هكذا أقطعُ الزمانَ سروراً ... لو على وصلهِ وجدتُ اقتدارا وجنابي يقولُ عنه لساني ... لو دنا الحيُّ أو وصلت الديارا أين من رتبّي الملوك وأنّي ... أين إسكندر الزمان ودارا ولما كان آخر شعبان المكرم رحلنا فأتينا على سراقب، وهي ضيعة لطيفة فيها خان، وبها أبنية محكمة العمارة، ومساجد، وحمّامات. ثم أتينا على خان مرعى وهو بنيان عظيم، وحوله زراعات وضيعة لطيفة. المعرَّة ثم أتينا على المعرَّة وهي بلدة كثيرة التين والزيتون، وإليها ينسب أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري صاحب التصانيف المشهورة والتآليف المذكورة، يقال إنه كان ينتحل مذهب البراهمة، ولا يرى إتلاف الحيوان، ولد سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بمعرَّة النعمان، وجدّر في السنة الثالثة فعمي، قرأ الفنون ونظم وله إحدى عشرة سنة، وكان في غاية الذكاء وأعجوبة في الحفظ، عاش ستاً وثمانين سنة، وأنشد على قبره ست وثمانون مرثية، من أجلِّها مرثية الشريف الرضي التي منها: إن كنت لم تُرِق الدماَء زَهادةً ... فلقد أرَقْتَ اليوم من جفني دما والناس يفاضلون بينه وبين ابن سيده، يقولون أعميان إمامان حافظان، أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب. وله ديوان سمَّاه سقط الزند شرحه كثير من العلماء، منهم صدر الأفاضل، وله من نظم لزوم ما لا يلزم خمسة أجزاء، وله شعر نُسِب به إلى الإلحاد، وقيل موضوعٌ عليه منه، والله الهادي.

عقولٌ تستخفُ بها السطورُ ... ولا يدري الفتى لمن الثبورُ كتابُ محمد وكتابُ موسى ... وإنجيلُ ابن مريم والزبورُ ويمكن أن يكون المراد الذين يتّبعون ما تشابه منه، كما أخذ علي أبي طالب المكي حيث قال: ليس على المخلوق أضرّ من الخالق، من لم يفهم المراد، فإن الله تعالى هو النافع الضار، والإحتمالات كثيرة، والصحيح أن المراد لا يدفع الإيراد، وعليه جاء من فَسَّر القرآن الكريم برأيه فقد كفر ومنه: راح من راح والثريّا الثريّا ... والسِماك السِماك والنسر نسرُ ونجوم السماءِ تعجب منّا ... كيف تبقى من بعدنا وتمرُّ وهذا كما تراه، ليس نصاً في عدم فناء النجوم، بل تأخرها عنَّا، ولا خلاف فيه غير أن النفوس لا تختار التقدم عليها إلا في الفناء، ولا تحب تأخيرها إلا في البقاء، وقيل إنه تاب في آخر عمره وحسن اعتقاده، كما قيل في الزمخشري. ونسب إليه القرطبي هذه الأبيات في تذكرته: يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليلِ ويرى عروق نياطها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النُحّلِ إغفر لعبد تاب من فرطاته ... ما كان منه في الزمان الأوّلِ

حماة

وحكى المقري في تذكرته أنها للزمخشري. ولما دُفن وجد مكتوب على قبره: قد كان صاحبُ هذا القبر جوهرة ... لطيفة صاغها الباري من النُطَفِ عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردّها غيرةً منه إلى الصدفِ وأمر أن يكتب على قبره: هذا ماجناه أبي علَيْ ... يَ وما جنيتُ على أحدْ ومن كلامه: أبا العلاء بن سليمانا ... عماك قد أولاك إحسانا لو عاينت عيناك هذا الورى ... لم يلْقَ إنسانُك إنسانا وله: ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحُقَّ لسكان البسيطة أن يبكوا تحطمنا الأيامُ حتى كأننا ... زجاجٌ ولكن لا يعاد لنا سَبْكُ وله: من كان يطلب من أيامهِ عجباً ... فلي ثمانون عاماً لا أرى عجبا الناس كالناس والأيام واحدةٌ ... والدهرُ كالدهرِ والدنيا لمن غلبا ومن نصائحه: إذا بلغ الوليد لديك عشراً ... فلا يدخل على الحرمِ الوليدُ فإن خالفتني ونبذتَ نصحي ... فأنت وإن أفدت غِنىً بليدُ حماة ثم إنا قوّضنا خيام المقيل، وأخذنا في الرحيل، فأتينا على خان الشيخون وهو في وادٍ مخضل وحوله ضيعتان بعيدتان، ثم أشرفنا على بساتين حماه المورقة، ومحاسنها المونقة، وهي مدينة قديمة من عهد سليمان عليه السلام، وجامعها وكنيستها بالسوق الأعلى، جُدّد في خلافة المهدي، وكان فيه لوح من الرخام مكتوب فيه أنه جُدّد من خراج حمص، وكانت من أعمال حلب وكانت حمص كرسي هذه البلاد. ومن غرائب أخبار حماة أن الزكي بن عبد الرحمن لما اجتمع بالملك المظفر قبل أن يلي حماة أنشده:

متى أراك ومن تهوى وأنت كما ... تهوى على رغمهم روحين في بدنْ هنالك أنشدوا الآمال حاضرة ... هُنّيت بالملك والأحباب والوطنْ فوعده أنه إذا ملك حماة يعطيه ألف دينار، فلما ملكها أنشده: مولاي هذا الملك قد نلته ... برغم مخلوق من الخالقِ والدهر منقاد لما شئته ... وذا أوان الموعد الصادقِ فدفع له الألف وأقام معه، ولزمته أسفار فأنفق فيها ذلك المال، ولم يحصل بيده زيادة على ذلك، فقال: ذاك الذي أعطوه لي جملة ... قد استردّوه قليلا قليلْ فليت لم يعطوا ولم يأخذوا ... وحسبنا الله ونعم الوكيلْ فبلغ ذلك المظفر فأخرجه من دار كان أنزله فيها، فقال في ذلك: أتخرجني من كِسْر بيت مهدّم ... ولي فيك من حسن الثناء بيوتُ فإن عشت لا أعدم مكاناً يضمني ... وإن مت تدري ذكر من سيموتُ فحبسه المظفر، فقال: ما ذنبي!؟ قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وأمر بخنقه. فلما أحس بذلك قال: أعطيتني الألف إجلالا وتكرمة ... يا ليت شعري أم أعطيتني ديتي

فكان حاله كحال من قال: وكنت كالمتمني أن يرى فَلَقاً ... من الصباح فلما أن رآه عمي ولله در من قال: ربّما يرجو الفتى نفع فتى ... خوفه أولى به من أمله رُبّ من ترجو به دفعَ الأذى ... سوفَ يأتيكَ الأذى من قِبَله ولحماة النهر العاصي، قال في الخريدة: وهو نهر حماة وحمص، مخرجه من قدس ومصبه البحر بأرض السُوَيديّة من أنْطاكية، وسُمّي العاصي لأن أكثر الأنهار تتوجّه إلى الجنوب وهذا يتوجّه نحو الشمال، انتهى. وهذا التعليل إنَّما يتم لو كان المتوجّه نحو الشمال هو وحده دون غيره من الأنهار، فتأمّل. وفيه الناعورة التي يضرب بها المثل، وقد أكثر الشعراء فيها، فمن ذلك: ناعورة في النهر أبصرتها ... تشوّق الداني والقاصي قد نبهتني للتقى والهُدى ... لأنها تبكي على العاصي وقال: نواعير في عاصي حماة إذا بكت ... عليه دعتْ من عَبرتي مدمعاً قاصي وإني على نفسي لأجْدر بالبكا ... إذا كانت الأخشاب تبكي على العاصي وقال: حماة في بهجتها جنة ... فهي من الهمِّ لنا جُنّه لا تيأسوا من رحمةِ الِله قد ... أبصرتم العاصي في الجَنّه وقال: وناعورة قد ضاعفت بنُواحها ... نُواحي فأجرت مُقلتيّ دُموعُها وقد ضَعُفت مما تئنّ وقد غدت ... من الضَعف والشكوى تعدّ ضلوعُها

وقال: قاسوا حماةَ بجلّق فأجبتهم ... هذا قياسٌ باطل وحياتكمْ فعروسُ جامع جلق ما مثلها ... شتان بين عروسها وحماتكمْ وقال: تاللهِ إن حماة شامةُ شامكم ... وعروسها بمحاسنٍ متزايده ودمشقكم بعذراها الشيبي قد ... ولّت شبيبتها وأمست بارِده وقال: قالوا تسلّى عن ثمارِ شُطوطها ... فأجبتُ لا والتين والزيتونِ يا عاذلي على محبّتها لكم ... في ذاك دينكم ولى أنا ديني في ناعورة لابن نباته: وناعورة قالت وقد حال لونها ... وأضلعها كادت تعدُّ من السقمِ أدورُ على قلبي لأني فَقَدته ... وأما دموعي فهي تجري على جسمي وقال: يروقُ امتداد الجسرِ والقصرِ فوقّه ... فيجلو طباق العيش بالمدّ والقصرِ وقد أصبحت تلك الجزيرة جنّة ... ألم تنظر الأنهار من حولها تجري تفوق عيونَ الزهرِ بين شطوطها ... عيونَ المها بين الرصافةِ والجسرِ وإن جُزْنَ تلك الغيد بين غصونها ... سلبن الحشا من حيث أدري ولا أدري فيا جيرة العاصي إذا ذقت ماءكم ... أهيم كأني قد ثَمِلت من السُّكرِ ولولا بقايا طعمهِ في مذاقتي ... لما ظهرت هذي الحلاوة في شعري وكم رامَ ذاكَ البحر يشبه لفظهُ ... فقلت انزلوا يا قوم في ساحل البحرِ فآه على وادي حماة تأسفّاً ... خلافا لمن قد قال آه على مصرِ فكم مر لي فيها حلاوة ليلة ... فكانت شبيهَ الخال في وجَنْة الدهرِ وفي غيرها كم كنتُ أقضي لياليا ... تمرّ بلا نفع وتحسب من عمري

نكتة لطيفة

نكتة لطيفة هجا بعض المعتزلة الإمام إسماعيل بن المقري: يقولون كذبُ المرء حَيْضُ لسانهِ ... فما بال إسماعيلكم لم يزل مقري أراد بقوله كذب المرء حيض لسانه كانت تقول العرب حاض فلان أي كذب، وبقوله لم يزل مقري أي حائض، فأجاب عن نفسه بقوله: مدحتَ بما تهجو فأصبحت ضحكة ... فما القرء عند الشافعيّ سوى الطهرُ قال الغزي: إنّي أرى الجودَ بالدنيا إذا مُلِكت ... خيراً من الزهد فيها يا أبا الفرجِ لا تعجبن لمن أغناه عن أدبٍ ... جهل فإن العمى أغنى عن السرجِ أخفاك مكثك في أرض نشأتَ بها ... وليس يُعرف قدر الدرّ في اللّججِ حمص ثم أتينا على حمص وهي مدينة عظيمة، قد أخنى عليها الزمان، وكرّ عليها بسيف حَيْفه المَلَوان، ولابن حبيب فيها: جزيرةُ حمص كعبة الكونِ أصبحت ... يطوف بها دانٍ ويسعى لها قاصي لها حُلّة من نبتها سندسية ... تعلّق في أكنافِ أذيالها العاصي ومما قيل فيها لابن حجر: جزيرةُ حمص لم تكن قطّ كعبة ... يطوف بها دان ويسعى لها قاصي ولكنها للهو والقصف حانة ... ألم تنظروها كيف جاورها العاصي وبها الأشجار والأزهار المختلفة الألوان، وللشعراء فيها الأقوال البديعة، فمن ذلك: ومُهفهف حيّا المحب بوردةٍ ... بيضاء قد نَشَقَت روائح نَدِّهِ فكأنَّها وبها احمرار حامل ... ماء الحياة على صحيفة خَدِّهِ

قال: شجرات ورد أحمر بعثت ... في قلب كلّ متيّم طربا يا من رأى من قبلها شجراً ... سقى اللّجين وأنبتَ الذهبا ولابن تميم: حاذِر أصابع من ظلمتَ فإنها ... تدعو بقلبٍ في الدجى مكسور فالوردُ ما ألقاه في جمرِ الغضا ... إلا الدعا بأصابع المنثور ثم أتينا على حِسْية وهي واد فيه قلعة ومياه غزيرة، ثم أتينا على عيون التجار وميدان الخيل وهو محل العرب النهّابة، وقارة وهي قرية قد أشرفت على الدمار، وكأنَّها كانت فبانت. ثم أتينا على نبك وهي قرية تبسَّمت أزهارها، وتفاوضت أنهارها، وأهلها لا يكادون يفقهون حديثاً، وتوصف بالبرد الشديد. ثم أتينا على القطيفة وهي روضة غناء، وغَيْضة حسناء، كأنَّما قطفت من فردوس الجنة، وبها الخان الذي هو للواردين وِقاية وجُنَّة، وهو الخان الذي لا يرى له عديل، ولا يدانيه في محاسنه مثيل: تحير به الأبصار حسناً ورَوْنقاً ... وتمرحُ فيه الخلق بالأمن واليُمْنِ وفيه تكيَّة للوافدين، وهو من بناء الوزير سنان باشا، فلا غرو أن يقول بلسان الحال: إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثارِ وفي هذه القرية ما يزيد على برد الروم، وما ألطف ما قال: هذي القطيفة التي ... لا تشتهى عقلاً ونَقْلا حُشيت ببرد يابس ... فلأجل ذاك الحشو تُقْلا ثم أتينا على القصير وقد أرسل علينا الغمام سحائب القطر، ومسَّنا من ذلك البرد ما هو أحرّ من الجمر، ثم سرنا في واد طاب روح نسيمه، فصحَّ مزاج إقليمه

جنان الشام

وقد تباكت أمطاره، فتضاحكت أزهاره في رياض أريضه، وأهويه صحيحة مريضة. جِنان الشام ثم أتينا على حرستا، يقال إنَّها أول قرية يخسف بها. ثم لم نزل في رياض مشهوده، وحياض موروده، بين مبانٍ وثيقه ومغانٍ أنيقه، حتى أشرفنا على جنان الشام التي هي برداء المحاسن تتباهى، فإذا هو هي أو هي إياها، رياض تغنت أطيارها، فتمايلت طرباً أشجارها، رياض مخضلَّة الربى، وغياض معتلَّة الصبا، رياض تنوح بها الأطيار، وتتباكى فيها الأمطار، رياض تميل طرباً وتميد عجباً: وما الشام في البلادِ إلا كشامة ... عروسة أرضِ الله في الشرق والغربِ بها مَرْجة تزهو وقد فاح نشرها ... وشحرورها غنّى سُحيراً على القُضْبِ بها الورد سلطان ينادي بدوحها ... هلموا قبيل الموتِ للأكل والشربِ ولابن عُنَيْن: ولا تتركوا يوم السرورِ إلى غدٍ ... فَرُبَّ غداً يمضي المُحيل إلى التُربِ وقال: دمشق التي شوقي إليها مبرّح ... وإن لَجّ واشٍ أو ألحَّ عذولُ تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق ... وصحَّ نسيم الروضِ وهو عليلُ بلاد بها الحصباء درّ وتربها ... عبير وأنفاس الشمال شمول وقال: حسناً ما رأيت من فعل نهرٍ ... لِهواه الغصون يجري إليها فهو من فرطِ وجَده إذ يراها ... شامخاتٍ يخرّ بين يديها وقال: تحنّ إلى وادي دمشق جوانحي ... وإن كان ممن قلّ فيه نصيبي وإني لأهوى قاسيون لأنني ... رأيت اسمه يحكي فؤاد حبيبي

وقال: دمشق بواديها رياض نواضر ... بها ينجلي عن قلبِ ناظرها الهمُ على نفسهِ فليبكِ من ضاعَ عمرُه ... وليس له منها نصيبٌ ولا سهمُ وقال: علّلاني عن الشامِ بذكر ... حنّ قلبي إليه بالأشواقِ مثلته الذكرى لعيني كأنّي ... أتمشى هناك بالأحداقِ وقال: دمشق في محاسنها جِنان ... ولذّات النعيم لساكنيها وما فيها حماها الله عيب ... سوى الإكرام للغرباء فيها وقال: دمشق قل ما شئت في حُسنها ... واحْكِ عن الربوة ما تحكي فالطير قد غنَّى على عوده ... وزفها بالدفِّ والجنكِ وقال: انظر إلى الربوة مستمتعا ... تجد من اللّذة ما يكفي فالطيرُ قد غنى على عودِهِ ... في الروض بينِ الجنك والدفِ وقال: للهِ يوم في دمشق قطعتُه ... حَلَف الزمانُ بمثله لا يَغْلَطُ الطير يقرأ والغدير صحيفة ... والريح تكتب والسحاب يُنقّطُ وقال: أشتاق في وادي دمشق معهدا ... كلّ الجمال إلى حماه ينسبُ ما فيه إلا روضة أو جوسق ... أو جدول أو بلبل أو رَبْرَبُ وكأن ذاك النهر فيه معصمٌ ... بيدِ النسيمِ منقّش ومكتّبُ وإذا تكسر ماؤه أبصرته ... في الحال بين رياضه يتشعبُ

والوُرْقُ تنشد والنسيم مشبّب ... والنهرُ يسقي والحدائق تشربُ وضياعها ضاعَ النسيمُ بها فكم ... أضحى له من بيننا متطلّبُ ولكم طربتُ على السماعِ بعودها ... وغدا بربوتها اللسان يشبّبُ فمتى أزور معالماً أبوابها ... بسماحها كتبُ الغرام تبوّبُ وقد أبدع ابن الصائغ حيث قال: أدمشق لا بعدتْ ديارك عن فتى ... أبداً إليك بكلّه يتشوّقُ أشتاق منك منازلاً لم أنسها ... إنّي وقلبي في ربوعك موثقُ مهما اتجهتُ رأيت دَوْحاً ماؤه ... متسلسل يعلو عليه ويخفقُ فالريح تكتب والجداول أسطر ... خطاً له نسج الغمام محققُ والطير يقرأ والنسيم مردِّد ... والغُصن يرقص والغدير يصفّقُ ومعاطف الأغصان هزّتها الصبا ... طرباً فذا عارٍ وهذا مورقُ والوردُ في الألوانِ يجلو منظراً ... ونسيمه عطرٌ كمسك يعبقُ فبلابل منها تهيج بلابلي ... ولذاك أثواب الشقيق تشقّقُ وهزاره يصبو إلى شحروره ... ويجاوب القمري فيه مطوّقُ وكأنَّما في كلّ عود صادحٌ ... عود حلا مزموره والمطلقُ والوُرْق في الأوراق شبه شَجْوها ... شجوي وأين مني الخليّ الموثقُ يتلو على الأغصانِ أخبارَ الهوى ... فيكاد ساكن كلّ شيء ينطقُ يا سائراً والريح تعثرُ دونه ... والبرقُ يَبْسِمُ إذ به يتألّقُ إن جئت من وادي دمشق منزلاً ... لي نحوه حتى الممات تشوّقُ بالجبهة الغراء والنهر الذي ... يزهو به القطر المنيف الأبلقُ ورأيت ذاك الجامع الفرد الذي ... في الأرض مثل جماله لا يخلقُ أبلغ منازلها السنيّة أنني ... أبداً لحسن بهائها أتشوّقُ ما أنصح ما قال: عرّج ركابك عن دمشق فإنّها ... بلد تذلّ لها الأسود وتخضعُ

الجامع الأموي

ما بين جبهتها وباب بريدها ... قمر يغيب وألف بدر يطلعُ ابن تميم: رعى الله وادي النَيْرَبين فإنني ... قطعتُ به يوماً لذيذاً من العمرِ درى أنني قد جئته متنزهاً ... فمد لتلقائي بساطاً من الزهرِ وأخدمني الماء القراح فأينما ... ذهبت وجدت الماء في خدمتي يجري وقال: دمشق فيها نُزَه ... وسفحها زاهٍ نضر في كلّ روض يلتقي ... ماَء الحياة والخُضر وقال: سقى دمشق وأياماً مضَت فيها ... من السحائبِ ساريها وغاديها ولا يزال حنين النبت ترضعه ... حواملُ المُزْن في أحشا أرضيها وقال: فوق وجه الثرى ترى الشام شامه ... ولكم للغريب فيها كرامه سكنٌ كلّما تناءيت عنه ... حرّك الوجدُ في الفؤاد غرامه وفؤادي لولا زيارة طه ... ما لواه اللوى ولا رام رامه جنّة وهي بالمكاره حُفّت ... من أمور تقوم منها القيامه الجامع الأموي قال ابن الوردي: دمشق أجل إقليم الشام مكاناً، وأحسنه بنياناً، وأعدله هواء وأعذبه ماء، وبها الغوطة التي لم يكن على وجه الأرض مثلها، بها أنهار جارية مخترقة، وعيون سارحة متدفقة، وأشجار باسقة، وقصور شاهقة، ولها ضياع كالمدن، وبها الجامع الأُموي الذي لم يكن على وجه الأرض مثله،

بناه الوليد بن عبد الملك، وأنفق عليه أربعمائة صندوق، في كلّ صندوق أربعة عشر ألف دينار، واِجتمع في ترخيمه اثنا عشر ألف مرخّم. لله ترخيم بجامع جِلِّق ... متناسب التخميس والتقسيمِ قد زاد تحسيناً يكذّبُ قولَ من ... قد قال إنّ النقص في الترخيمِ - وقد بني بأنواع الفصوص المحكمة، والمرمر المصقول، والجزع المحكوك، يقال إن العمودين اللذين تحت قبة النسر اشتراهما الوليد بألف وخمسمائة دينار، وهما عمودان مجزعان بحمرة لم يُرَ مثلهما، ويقال إن رخام الجامع معجوناً، ولذلك إذا وضع على النار ذاب، وفي المحراب عمودان صغيران، يقال إنهما كانا في عرش بلقيس، وعند منارة الجامع الشرقية حجر، يقال إنه من الحجر الذي ضربه موسى عليه السلام بعصاه فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً. قال القزويني: ومن عجائب دمشق الجامع الأموي، وقد وصفه بعضهم فقال: هو أحد العجائب وجامع الغرائب، بسط فرشه بالرخام، وألّف على أحسن ترتيب وانتظام، فصوصه ملتفة، وصنعته مؤتلفه، عمّره الوليد، وكان ذا هِمّة في أمر العمارات وبناء المساجد، أنفق على عمارته خراج المملكة سبع سنين، قيل من عجائب الجامع إنه لو عاش أحد مائة سنة وكان يتأمّله في كلّ يوم، لرأى في كلّ يوم ما لم يكن رآه من حسن الصنعة، ومبالغة التنميق، وهذا المعنى في كلّ ذرة من العالم للمبصر وفي أنفسكم أفلا تبصرون وهو مسقف بالرصاص إلى الآن، وفيه نحو مائة ماء. ومن محاسنه الفوّار الذي على باب جيرون، فإنَّ ماؤه يرتفع على نحو قامة ونصف في غِلَظ الساق دائماً أبداً، واتَّفق وقوفه مرة، فقال في ذلك المعنى ابن نباته قوله:

لست أنسى الفوّار وهو ينادي ... غيضَ مائي وعطّل الدهرُ حالي فتمنّيت من لهيبي أنِّي ... أشتري غيضة بروحي ومالي وقيل إن دخل الجامع في كلّ يوم من أوقافه ألف ومائتا دينار، تُصرف المائتان في مصالحه، والباقي ينقل إلى خزانة السلطان، وبالجملة فإنه الجامع الذي هو لأشتات المحاسن جامع، والمسجد الذي من سجد في محرابه شاهد من محاسنه النور الساطع، ولا غَرْوَ إذ هو بيت مَلِك سَعِد من وقف بخدمته خاشعاً، وشقيٌّ من لم يسع إليه مخلصاً، ويأتيه طائعاً. وإذا حلّت الهداية قلباً ... نشطت للعبادةِ الأعضاءُ وقال: أرى الحسنَ مجموعاً بجامعِ جلق ... وفي صدره معنى الملاحة مشروحُ فإن يتغالى في الجوامع معشر ... فقل لهم باب الزيادة مفتوحُ وقال: الجامع الأموي أضحى حُسنه ... حسناً عليه في البرية مُجْمَعا حَلَّوْهُ إذ حَلَّوْه فانظر صحنه ... تلقاه أصبح للحلاوة مَجْمَعا ولقد تذكرت بذلك الجامع أوقاتي بتلك الروضة، وتشاغلت به فما أغنى التشاغل بمحاسن تلك الرياض وهاتيك الغيضه. بهجة العين روضةُ المختارِ ... تتجلَّى في مشارق الأنوارِ حرمٌ حلَّ فيه خير إمامٍ ... جامع الفضل قبلة الأبرارِ أوّل العالمين في الخلق لكن ... آخر العالمين في الإنذارِ باذخ الأصل ناسخ الجهل علماً ... راسخ الفضل شامخ في الفخارِ

فائدة

مضريٌّ وأبطحي حبيب ... قرشيّ وهاشميّ نزاري صفوة الخلقِ أشرفُ الخلق خلقاً ... نخبة من سلالة الأخيارِ يا رسول الإله كن لي شفيعاً ... يا شفيع العصاة من حرِّ نارِ أنت في الأنبياء سلطان شرع ... جئت بالسيف منذر الكفارِ فعليك السلامُ من عبدِ ودّ ... ما سرى سرّ نسمة الأسحارِ وعلى الآل والصحاب جميعاً ... وعلى التابعين والأنصارِ ومن باب دمشق الغربي وادي البنفسج، وطوله اثنا عشر ميلاً، في عرض ثلاثة أميال، وهو مغروس بأنواع الثمر والأزهار البديعة المنظر والمخبر. فائدة الشام خمس شامات: الأولى: طبرية وأعمالها، وهي مدينة جليلة على جبل مطل، وأسفلها بحيرة عذبة وبها مراكب سابحة، ولها سور حصين، وبها حمّامات حامية من غير نار. الثانية: دمشق وأعمالها. الثالثة: حمص، وحماة، وحلب. الرابعة: أنطاكية وأعمالها. الخامسة: غزة، والرملة، وبيت المقدس، وهو على جبل يصعد إليه من كلّ جانب، وطول مسجده مائتا باع في عرض مائة وثمانين. يقال إن جامع قرطبة سقفه أكبر من سقف الأقصى، وصحن الأقصى أكبر من صحن جامع قرطبة، حكاه ابن الوردي. والشام من الفرات إلى العريش طولاً، ومن جبلي طيّ إلى بحر الروم عرضاً. وفي الأخبار الشام صفوة الله من بلاده، وإليه يجتبي صفوته من عباده، قيل المراد المدينة لأنها بالنسبة إلى مكة شام. قال المقريزي: وسط الشام كدمشق وما والاها شمال مكة من غير ميل، فهم يستقبلون أوسط الجنوب، بحيث يكون القطب

الشمالي المسمَّى بالجدي وراء ظهورهم، وأنت إذا نظرت إلى قبلة الجامع والقطب وجدت السمت منحرفاً، ولا كلام. قال القزويني في الآثار: الغوطة الكورة التي قصبتها دمشق وهي كثيرة المياه، نضرة الأشجار، مونقة الأزهار، متجاوبة الأطيار، مخضرة الجنان. استدارتها ثمانية عشر ميلا، وكلها بساتين وقصور. تحيط بها جبال عالية من جميع جهاتها، ومياهها خارجة من تلك الجبال، وتمتدّ في الغوطة عدة أنهر، وينصبّ فاضلها في أجمة هناك، والغوطة كلها أنهار وأشجار متصلة، قلَّما يوجد بها مزارع، وهي أنْزه بلاد الله على الإطلاق، وأحسنها من حيث البهجة والإشراق. قال الخوارزمي: جِنان الدنيا أربعة: غوطة دمشق، وصغد سمرقند، وشعب بوَّان، وجزيرة الأبُلَّة. وقد رأيتها كلها فأحسنها غوطة دمشق، أما صغد سمرقند فهو نهر تحف به قصور وبساتين وقرى مشتبكة العمائر، ومقداره اثنا عشر فرسخاً في مثلها، وأما شِعْب بوان فبقعة من نواحي سابور، مقدارها فرسخان، وقد أتحفتها الأشجار بظلالها، وجلست الأنهار خلالها، وفيها يقول المتنبي: مغاني الشِعْب طيباً في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمانِ وأما نهر الأبلة فهو من أعمال البصرة، وهو أربعة فراسخ وعلى جانبيه بساتين كأنَّها بستان واحد، وأما الغوطة فهي من حيز دمشق، طولها ثلاثون ميلاً وعرضها خمسة عشر ميلا، وهي مشتبكة القرى، ولا تكاد الشمس تقع على أرضها لالتفاف شجرها واكتناف زهرها، واختلاف الأخبار لاختلاف الأنظار.

ومن محاسنها المرجة التي هي جنَّتها، وأنهارها التي هي بهجتها، فقلت: ذكرت أحبّتي بالمرج يوماً ... فهاجت أدمعي نيران وهجي فصرت أكابد الأشواق وحدي ... وكلّ الناس في هَرْجِ ومَرْجِ وقال: يا يومنا بالمرج هل من عودة ... ليت الليالي للوصال تعيدُ فهواك لا يبدي السلوّ لطيبة ... والله يبدي ما يشا ويعيدُ ولما أحلّنيها الدهر، وشاهدت محاسن تلك الرياض، وبها ذلك النهر، نزلت على مكارم عمادها، وبدر إسعادها، المولى الذي دخل به الكشاف تحت أستار الخجل، وقال البيضاوي لنا من تسويد الصحائف وجَلَ أيّ وجَلَ، هو مولانا الحبر العلامة، والبحر الفهَّامة، مفتي الديار الشامية وإمامها، وواحد ذوي المجد المؤثّل وهُمامها، المعطّر ذكره الشريف أرجاء البوادي، مولانا الشيخ عبد الرحمن العمادي، لا زالت أقلام الأنام بأداء الشهادة بكماله رافلة في حُلَلِ العدالة، وإذا نشأت فهي العيدان التي هي بأسمائه الشريفة للطرب نعم الآله. أساميا لم تزده معرفة ... وإنَّما لذة ذكرناها فلا انفكَّ مسك لياليه شامة في وجنات الأيام، وله من ذلك إن شاء الله تعالى حسن الختام. فنزلت من داره المعمورة بأشرف منزل، وصرت لما لقيته من الفرح والسرور عن الهم بِمَعْزِل: ولما بلوناه تلونا مديحه ... فيا طيب ما نبلو ويا حسن ما نتلو هو البدر إلا أنه البحر زاخراً ... سوى أنه الضرغام لكنه الوَبْلُ محاسن يبديها العيان كما ترى ... وأيسر ما فيه السماحة والبَذْلُ وقال: رأيت عماد الشامِ في الفضل وحده ... ولا عجب إذ كان في الفضل قد نشا إماماً هماماً عَزَّ قدراً ورتبة ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا

وقال: رأيتُ العماد وأبناَءه ... عماد المكارم فيمن رأيت ففيهم مقامي بهم قد سما ... ومنهم رَوِيتُ وعنهم رَوَيْت رأيت لديه وبين يديه في ذلك المقام، من أبنائه الكرام، ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم، وتنجلي الفصاحة بحسن لهجتهم، كما قال: كأنَّه وبنوه حول حضرتِه ... بدرَ الدجى ولديه الأنجم الزهرُ فيا لهم من فتية عليهم سيما الحِجى، وطلاوة نجوم الدجى، فكل منهم ملك القول وأميره، وواحد الفضل الذي لا يوجد نظيره: إن العماد بنوه والذي شرفت ... به الأباطح أعني صفوة الباري من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري فالتحفت برَهْطِهم، وانتظمت في سِمْطهم، وما زلت فيهم فارغ البال، خالي البلبال، نسيمي نسيم الصَبا، وأيامي أيام الصِبا: ولو لم يزد إحسانُّهم وجميلهم ... على البرِّ من أهلي حسبتهم أهلي ولم أزل من مكارم هذا العزيز، في حَوْزٍ حَريز، ومن أخلاقه الشريفه، وخلائقه اللطيفه، بين الروض ونسيمه، والأرج وشميمه: سأشكرُ لا أنّي أجازي لنعمةٍ ... بأخرى ولكن كي يقال له شكرُ وأذكر أيامي لديهِ وحسنها ... وأفضل ما يبقى من الذاهبِ الذكرُ ثم لم أزل في تلك الديار منذ حللت ربوعها، وارتبعت ربيعها، أفاني الأيام فيما يروي الأوَام، عِلماً بأن الدهر سروره كطيف المنام، وشروره أكثر من أوغاد الأنام، وأنَّ من أخر أيام الصفا، وقابل وفاء الدهر بالجفا، فقد وقع في

أمطار وبرد غريبة الشكل

هوَّة الندم، وصار وجوده عند أولي النُهى كالعدم، ومن أهمل أوقات السرور، والتزم مكابدة الهموم فهو في الغرور: كناطحِ صخرةٍ يوماً ليوهنها ... فلم يضرّها وأوهى قرنه الوَعِلُ فها أنا أطلب قلبي في الهوى وأنْشُده، وأطارح صوت الصدى فينشِدَني وأنْشِده: لقد كادتِ الدنيا تقولُ لأهلها ... مشافهة لو أنها تتكلَّمُ خذوا من نصيب من نعيم ولذّةٍ ... فكلٌّ وإن طال المدى يتصرَّمُ أمطار وبَرَد غريبة الشكل (غريبة) في أواخر رمضان المكرَّم، وردت على أهل دمشق من أعمال الكرك مكاتيب، فيها أنه وقع بتلك القرى في غضون الأمطار، بَرَد على صور حيوانات مختلفة.! وفي كتاب السكردان لابن أبي حجلة: في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ورد كتاب من حماة يخبر أنه وقع في هذه الأيام بـ ماردين من أعمال حماة بَرَد على صور حيوانات مختلفة، فيها سباع وحيات وطيور ورجال ونساء وغير ذلك، وأنَّ ذلك ثبت بمحضر شرعي عند قاضي الناحية، ثم نقل ثبوته إلى قاضي حماة، وحَكى الحافظ عبد الرحمن الربيع: في سنة خمس وثلاثين وسبعمائة نزلت بردة من السماء، طولها مائة وستون ذراعاً، وعرضها عشرة أذرع، وسمكها باعان، فلما ذابت سقى ماؤها أربع قطع من الأرض هنالك، انتهى، من بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد!! فائدة دمشق اسم عبد الخليل عليه السلام، وكان حبشياً وهبه له نمرود بن كنعان حين خرج عليه السلام من النار، ولما بنى الشام سَمَّاها باسمه، وكان جعله على كلّ شيء له، كما ذكره ابن عساكر عن وهب بن منبه، كذا في الطراز المنقوش في محاسن الحبوش قيل ومن خواص الشام الطعن والطاعة والطاعون، أما الطعن فهو مشهور في جندها كما قيل: ورجال الشام في طعنهم ... قاسيون القلبُ منهم لا يلينُ

محاسن الشام

وأما الطاعة فهي معروفة في أهلها للسلطان، حتى قيل في وصفهم إنهم أطوع الناس للمخلوق وأعصاهم للخالق، وأما طاعونها فهو شر من أن يذكر حتى قيل: أما دمشق فإنها قد أوحشت ... من بعد ما شهد الخلائق أُنسها تاهت بعجب زائِد حتّى لقد ... ضربت بطاعون عظيم نفسها محاسن الشام وقاسيون بكسر السين المهملة وضم المثناة من تحت، جبل مطل على دمشق من جهتها الشمالية، فيه المنازل المليحة والمدارس الحسنة، والرُبُط والبساتين، ونهر يزيد ونهر تورا في ذيله، وفيه جامع كبير وفيه يقول ابن عنين: وفي كبدي من قاسيون حرارة ... تزولُ رواسيه وليس تزولُ قال القزويني: الربوة على فرسخ من دمشق، قال أهل التفسير: هو المراد من قوله تعالى (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين). غريبة قال صاحب تحفة الغريب في بادية الشام شجرة، إذا نظر الناظر إليها رأى أوراقها كالسُرُج المشعولة، وكلّما كان الليل أظلم كان الضوء أشد، فإذا هشَّ الورق لا يرى شيء من الضوء. ومن محاسن الشام نهر بردى المشبب به في القصائد الطنانة، ويقال له الخاطف لقوّته، ومن خواصه أنه لا يزال بارداً في الأوقات الحارَّة، وفيه يقول ابن الفارض: جلّق جَنَّة من تاه وباها ... ورُباهَا مُنيتي لولا وباها قال غال بردا كوثرها ... قلت غال بَرَداها برداها ومن محاسن الشام جامع يلبغا، سمعت فيه من العلامة العمادي للشيخ أبي الفتح المالكي: كم نزهة في يلبغا تبتغي ... ودارج لم يخل من دارجِ يموج في بركته ماؤها ... تحت منار ليس بالمائجِ مأذنة قامت على بابه ... تشهد للداخل والخارجِ ومن محاسن الشام جامع البحر بالقرب من المولى خانه، يشقَّه نهر لطيف عليه أنواع المسرات: لله يوماً به الدهر المُشِتُّ سخا ... مع جيرة قلدوا من جودهم نحري

فائدة

قضيته وقضت لي فيه بهجتهُ ... بطيب عيش مضى في جامع البحرِ فائدة محاسن الشام كتاب مؤلف في المعنى، للشيخ تقي الدين البدري، ورأيت على ظهره للشيخ أحمد المقري: محاسن الشام جَلَّتْ ... عن أن تُحَدّ بحدِّ كأنَّها معجزات ... مقرونة بالتحدّي ومن محاسن الشام: إحياء ليالي رمضان المعظم، وإقامة التراويح بأحسن أداء يورث النشاط، فإن المكبرين يلونون في التكبير بالأصوات الحسنة، فيبتدئون بمقام العراق ويختمون بمقام العشاق، والإمام يصليها بسورة الرحمن، ويلوِّن فيها الصوت الحسن بالألحان الحسان، هذا وإن كان من البدع إلا أنه قد صقله التعارف، والعُرْف كما لا يخفى أمر عظيم. وفي أخريات الشهر يصلّون مع الإمام اثنتي عشرة ركعة، عقيب التراويح، يزعمون أنها صلاة الرغائب، وهي غير معروفة بالحرمين الشريفين. ومن محاسن الشام في هذه الليالي باب البريد، وما أدراك ما باب البريد! وما يشتمل عليه من المحاسن التي يعجز القلم عن وصفها، فياله من باب لا يدخله إلا أهل الدخول، ولا يصل إليه إلا من كان من أهل الوصول، كيف لا وهو الذي تذل لغزلانه الأسود وتخضع، وترى قمراً يغيب وألف بدر يطلع، ويقال: هاهنا تسكب البدرات، ولا عبرة بسكب العبرات. دمشق دار البذرقه ... فيها الوجوه المشرقه لو حلّ قارون بها ... حَلَّت عليه الصدقه فائدة في كتاب الدارس من المدارس للنعيمي قال: في الجامع الأموي

لطيفة

أربعة وعشرون سبعاً، وكلها تجري عليها الأوقاف، وكان في السبع الكبير ثلاثمائة وأربعة وخمسون نفراً، وكان بدمشق أربعة وعشرون جامعاً، كلها ذات أوقاف فائضة. ومن محاسن الشام شجر السرو وهو شجر حسن الهيئة قويم الساق، يضرب به المثل في استقامة قدّه، ومشق قامته، وخضرة ورقه، ولا يزال مخضرَّاً صيفاً وشتاءاً، ومن خواصه أن التدخين بأغصانه في البيت يطرد البقّ، ومن التشبيه فيه: والسرو مثل عرائسٍ ... لُفَّت عليهنّ المُلا شمّرن فضل الأزْر عن ... سوقٍ خَلاخِلهُنّ ما ومن غرائب ما حكاه صاحب الخريدة أن خشب الزيتون لا دخان له. ومن محاسن الشام حمَّام مصطفى باشا، فإنه لا نظير له في تلك الأقطار ولا مداني، وذلك لما اِشتمل عليه من حسن الصنعة ومحاسن المباني: زيَّن الشام وحقّ الصمد ... حسن حمّام كثير العددْ لا ترى في سائر الدنيا له ... ثانياً لا والإله الأحدْ حار عقلي لجحيم جنّة ... بل نعيم في عيش رغدْ لطيفة أبواب دمشق ثمانية، وفي ذلك إشارة إلى أنها جنة الدنيا، وبالجملة فإنها الروضة الغنَّاء والغيضة الحسناء: وما الشامُ في البلاد إلا كشامة ... وأقمار واديه الشميم تمامُ فحيَّى محياه الإلهُ وزَانَهُ ... ولا زال برق الحسن فيه يُشامُ وقال: قال ماذا يقول في الشام حَبْر ... شامَ من بارق العُلى ما شامَه

سيل في الكعبة المشرفة

قلت ماذا أقول في وصف أرض ... هي في وَجْنة المحاسنِ شامَه هذا، وشاعرها الشهاب الرومي، لما تضايقت عليه السبل فيها، وتكدّر لديه من مواردها الهنيَّة صافيها، أنشأ يقول بلسان الاضطرار على ما قضت به الأقدار: ترحّل عن دمشق فليس فيها ... يقدّم غير من أضحى سفيها وطالعها مدى الأيام قبض ... على أغنى الورى من ساكنيها كأن فتىً بناها من قديم ... بنى رصد العكوس على بنيها أكابرها على الفقراء جارت ... وجاهلُها أذلَّ بها النبيها وقلَّ بأن ترى إخوان صِدق ... لنفسك في الكريهة ترتضيها وأنفَسُهُم تراه أشرَّ نفسٍ ... يميل إلى الخساسة يشتهيها فياللهِ من زمنٍ عجيب ... به قد تاهت الجهلاءُ تِيها تطوف بأرضها شرقاً وغرباً ... فلم ترَ في الرياض بها نزيها فإن رُمت التقرب من حِماها ... إلى أرضٍ لنفسك ترتضيها فعرِّج بالرِّكاب لحيِّ مصر ... وحَيّ غصون بانٍ مِسْنَ فيها تتيه على البلاد إذا تبدَّت ... بعصبتها وتَفْتِنُ واصفيها تَحِنُّ على الغريب حنوّ أصلٍ ... فتنسيه الديار وقاطنيها بلاد قد حَوَت بالكسر جَبْراً ... وروضة مشتهاها أشتهيها فيالله هل لي ما أراها ... فتلك ديارُ أنسٍ أختليها سيل في الكعبة المشرفة وفي غُرَّة شوال يوم عيد الفطر، كان الخطيب يوسف السقيفي وكانت خطبته على نمط الخطب الرومية، ولم تكن تعرف هذه الطريقة في الديار الشامية، على ما يقال، فهو أول من ابتدع ذلك هناك. وفي عاشر شوال داروا بالمحمل السلطاني تذكيراً للحج، وهو من الأيام المعدودة، وفي آخر النهار احترق قصر الملك الظاهر في غربي القلعة، فتشوشت له الخواطر، وفي صباح تلك الليلة وصل إلى الشام نجاب على يده مكاتيب إلى الروم، فأخبر بسقوط البيت الشريف، وكان من أمره أنه لما كان العشرون من شعبان انهدم من البيت جانباه الشرقي

لطيفة

والشامي، بسبب الأمطار التي لم يسبق لها مثال، والسيول التي لم يعهد مثلها في الإسلام، وفي ذلك يقول المهتار: هدم البيت أمر ربٍّ تغشا ... هُ بسيل لم يحوِ غرقاه ضبطي في نهار الخميس عشرين شعبان ... قبيل الغروب من عام لغط وأحسن منه للفاضل فضل الطبري: سُئلت عن سيل أتى ... والبيت منه قد سقط متى أتى؟ قلتُ لهم ... مجيئه كان غلط وكان من أمر هذا السيل أنه ذهب بالأموال والأرواح، وأعقب من الفناء في أهل مكة ما أشبه بالوباء المصري والطاعون الشامي، وكان إرتفاع الماء في المسجد الشريف إلى قفل باب المحترم، وبه أرّخ من قال: رقى إلى قفل بيت الله. لطيفة على ذكر السيل في الأغاني نقلاً عن الهيثم ابن عدي قال: حدثني عبد الله بن العباس الهذلي عن رجل من بنى عامر قال: مُطرنا مطراً شديداً ارتبعناه ودام المطر ثلاثاً، ثم أصبحنا على صحوٍ، فخرج الناس يمشون على الوادي، فرأيت رجلاً جالساً على حجر، فقصدته فإذا هو المجنون جالساً يبكي، فكلمته طويلاً وهو مطرق، ثم رفع رأسه وأنشد بصوت حزين لا أنسى حُرْقته: بكى السيل واستبكانيَ السيلُ إذ جرى ... وفاضت له من مقلتيّ غُروبُ وما ذاك إلا حيث أيقنت أنّه ... يكون بوادٍ أنت منه قريبُ يكون أجاجاً دونكم فإذا انتهى ... إليكم تلقَّى طيبكم فيطيبُ

فائدة

فيا ساكني أكناف نخلة كلّكم ... إلى القلبِ من أجل الحبيب حبيبُ وقال زاد مغلطاي: أظل غريب الدار في أرض عامر ... ألا كلّ مهجور هناك غريبُ وإن الكثيب الفرد من أيمن الحمى ... إليّ وإن لم آته لحبيبُ ولا خيرَ في الدنيا إذا لم تزر بها ... حبيباً ولم يطرب إليك حبيبُ ألا أيها البيت الذي لا أزوره ... وهجرانه مني إليه ذنوبُ هجرتك مشتاقاً وزرتك خائفاً ... وإني عليّ الدهر منكَ رقيبُ سأستلطف الأيام فيك لعلّها ... بيوم سرور في هواك تثيبُ فائدة سيل الحجاب هَدَّم بمكة دوراً كثيرة وأحاط بالكعبة، أيام عبد الملك سنة ثمانين، كذا في تاريخ الخلفاء، وفي سنة إحدى وسبعين وتسعمائة طاف بالبيت سيل عظيم، وهُدِّمت بسببه دورٌ كثيرة، وفي ذلك للشيخ صلاح الدين بن ظهيرة مؤرخاً بلفظ ذراع وإن تسامح: لما علا السيل على مكة ... وخرَّب الدور وأخلى البقاع لاذ بباب الله مستغفراً ... وطاف بالبيت طواف الوداع تاريخه إن رُمْتَ تعريفه ... علا على الركن اليماني ذراع فائدة بُني البيت الشريف عشر مرات، ولم يكن هُدم في واحدة بسبب السيل. وفي تاريخ الخلفاء لابن حجر المكي: احترق البيت الشريف في زمن عبد الله بن الزبير، أستاره وسقفه وقرنا الكبش الذي فُديَ به إسماعيل عليه السلام، وكانا في السقف، فبناه على قواعد إبراهيم عليه السلام، وفتح بابيها وجعلهما لاصقين بالأرض، وأدخل فيه ستة أذرع من الحِِجْر، فبقيَ بناؤه ولم يهدم الحجاج منه إلا حائط الميزاب، وأراد الرشيد نقض ما فعله الحجاج فأقسم

ضريح ابن عربي

عليه مالك أن لا يفعل، لئلا يصير البيت ملعبة للملوك، فتزول هيبته من القلوب، فامتثل وصان الله بيته. وفي طراز أعلام الزمن للخزرجي أنَّ في أيام فتنة ابن الزبير، احترقت الكعبة حتى انهدم سقفها وسقطت جدرانها. بنى الكعبة الغراء عشر ذكرتهم ... ورتبتهم حَسْب الذي أخبر الثِقه ملائكةُ الرحمن آدم وُلده ... كذاك خليل الله ثم العمالقَه وجُرْهم يتلوهم قصيّ قريشهم ... كذا ابن زبير ثم حجّاج لاحقَه ومن بعدهم من آل عثمان قد بنى ... مراد بخير أطلع الله شارقَه ضريح ابن عربي وفي اليوم الثالث عشر تشرفنا بزيارة تربة المقدس المبرور الشيخ محي الدين بن عربي، قَدَّسَ الله سره العزيز، فتملّيت بتلك الزيارة المحمولة إن شاء الله على أجنحة القبول، وشاهدنا بها تلك الصالحية التي يقضي بكمال محاسنها العقول: الصالحية جَنَّةٌ ... والصالحون بها أقاموا فعلى الدّيار وأهلها ... مِنِّي التحيةُ والسلامُ ورأيت على جدار التربة المباركة للدرويش القلشني: شيخنا الحاتمي في الكونِ فرد ... وهو غوثٌ وسيدٌ وهمامُ كم علوم أتى بها من غيوب ... من بحار التوحيد يا مستهامُ إن سألتم متى توفي شهيداً ... منذ أُرِّختْ: مات قطب إمامُ وللبيضاوي جواب سؤال رفع إليه في أمر الشيخ: الذي أعتقده في حال المسؤول عنه، وأدين الله تعالى أنه كان شيخ الطريقة حالاً وعلماً، وإمام التحقيق حقيقة ورسماً، ومحي رسوم المعارف فعلاً وإسماً: إذا تغلغل فكرُ المرءِ في طرف ... من مجده غرقت فيه خواطرُه عُبابٌ لا تكدّره الدلاء، وسحاب تتقاصر عنه الأنواء، كانت دعواته

المحمل السلطاني

تخترق السبع الطباق، وتفترق بركاته الآفاق، وإني لأصفه وهو يقيناً فوق ما أصفه، وأنطق بما كتبته وغالب ظني أنِّي ما أنصفه: وما عليّ إذا ما قلت معتقدي ... دع الجهولَ يظن الحقَّ بهتانا والله والله العظيم ومَنْ ... أقامه حجةً للحقِ برهانا إنّ الذي قلت بعضٌ من مناقبهِ ... ما زدت إلا لعلِّي زدت نقصانا أما كتبه ومصنَّفاته فالبحار الزواخر، وجواهرها لكثرتها لا يعرف لها أولٌّ من آخر، وما وضع الواضعون مثلها، وإنَّما يخص الله بمعرفة قدرها أهلها، ومن خواصها أنه ما واظب واحد على مطالعتها والنظر فيها، إلا وانشرح صدره، وتيسَّر أمره، وقوي على حل المشكلات، وَفَكِّ المعضلات. وإذا خَفيتُ عن الغبيِّ فعاذر ... أن لا تراني مقلة عمياءُ وقال غيره: نظرتُ إليه نظرة فتحيّرتْ ... دقائقُ فكري في بديع صفاتهِ فأوحى إليه القلب أني أُحبهُ ... فأثَّرَ ذاك الوهم في وَجَنَاتهِ وقال: إن الغريبَ إذا أقام ببلدةٍ ... لعبت أناملهُ على الحيطانِ فتراه يكتب والغرام يهزه ... والشوقُ يُقْلِقَهُ إلى الأوطانِ وإلى يومنا هذا وأنا محاجر البين، لم أجتمع على نفسي طرفة عين، ولا لاحت لي بارقة من وجودي، أعدّها من أيام سعودي، ومع ذلك لم ينقطع الرجاء والاستمداد، وإن قعد بي الاستعداد. أمرَّ بالكرم خلف حائطه ... تأخذني نشوة من الطربِ المحمل السلطاني وفي اليوم السابع عشر كان خروج المحمل السلطاني، وهو يوم مشهود تخرج له المخدّرات، وكان أمير الركب أميره وابن أميره، والفرد الذي يعزّ

على الدهر أن يأتي بنظيره، وكم طمح لهذه الإمارة طامح، وسرح لخدمتها سارح، فافتضِح بقصوره وتقصيره، وكيف لا وهو الجامع لأشتات الفضائل، والحريّ بقول القائل: أتته الإمارة منقادة ... إليه تُجَرْجرُ أذيالها ولو رامها أحدٌ غيره ... لزُلْزِلت الأرضُ زِلزالها فلم تَكُ تصلح إلا له ... ولم يَكُ يصلح إلا لها وهو مولانا المقر العالي الأمير محمد بن الأمير فرّوخ باشا، خلَّد الله تعالى رواق سيادته بدوام دولة أيامه، وأبَّد سرادق سعادته على مرور الدهور وتوالي أعوامه، ولا زالت كتائب النوائب بعوادي نقمه إلى أعدائه مبعوثة، وغرائب الرغائب بغوادي نعمه إلى أوليائه محثوثة. آمين آمين لا أرضى بواحدة ... بألف آمين في ألفين آمينا ولم أزل في تلك الديار العمادية، التي أقول فيها بلسان الحال: دار العماد فرط شوقي لها ... يَجِلُّ أن يذكر بين العبادِ ما راقَ طرفي بعدها منزلٌ ... لأنّها في الحسنِ ذاتُ العمادِ فلما كان اليوم الثاني والعشرون برزنا من تلك الديار، إلى حيث تسوقنا الأقدار: فمن لي بقلبي إذ رحلت فإنّني ... مخلّف قلبي عند من فضلُه عندي ولو فارقتْ روحي إليه حياتَها ... لقلتُ أصابتْ غير مذمومة العهدِ فآهاً على تلك الديار العمادية وأوقاتها، وحفظاً لتلك الوجوه التي لشمس المكارم ضوء على جبهاتها، وفي السلامة من أكدار الغربة، والعَوْدُ إلى تلك المنازل الطيَّبة التربة، ما يسلو به الفؤاد، ويروق مدى الآباد. فهل درى البيتُ أنِّي بعد فرقتهِ ... ما سرتُ من حرم إلا إلى حرمِ فمررنا بالكسوة، وهي على ثلاثة عشر ميلاً من دمشق، وفيها يمكث الحاج.

ثم أتينا على خان ذي النون وفيه شكل حصار، ويطبخ فيه شوربا بسلق لجميع الحجّاج. ثم أتينا على الصنمين، وهي من قرى حوران، فصعدنا منزلة رأس الماء، وما ألطف ما قال: سقى الله أرضاً طَوْقها مثل طَرْزِها ... وساترها بُرْد من الوشي أخضرُ تذكرت أحبابي بمثوى بريدها ... فعينيَ رأس الما وجسمي المغيّرُ وخواص هذا المنزل البرغش والبرغوث، قال أعرابي: تطاول بالفسطاط ليلي ولم يكن ... بأرض الفضا ليل عليّ يطولُ ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وليس لبرغوث عليّ سبيلُ ولابن ميمون ملغزاً فيه: ومعشر تستحل الناس قتلهم ... كما إستحلوا دم الحجاج في الحَرَمِ إذا سفكت دماً منهم فما سفكت ... يداي من دمه المسفوك غير دَمَي ثم أتينا على المزيريب وهو وادٍ به قلعة، وعندها بحرة ماء ينتهي ماؤها إلى جسر الجوامع فيما يقال، وأصله من عين تنبع من شمال القلعة على نحو نصف ميل، وما ألطف ما قال: لقد قابلتنا بالعجائب بحرة ... مكمّلة الأوصاف بالطول والعرضِ كأنّ الذي يرنو إليها بطرفه ... يرى نفسه فوق السما وهو في الأرضِ والمزيريب مجتمع الحجاج، وفيه الأسواق العامرة بما يحتاج إليه الركب، بل بما يتِّجر به، وفي هلال ليلة ذي القعدة يوقد ما في الوادي من الدكاكين، ألفاً ونحوه، وتعرف بالوقدة، وتوقد الشموع والمشاعل في الركب، وتكون ساعة عجيبة. ولما كان الصباح رحلنا وأتينا على وادي القديم، ويعرف بالمفرق، لأن الحجاج إذا رجعوا تفرقوا فيه، وهو مسيل كثير الزَلَق وحوله قرى وضياع.

ثم أتينا على الزرقاء وهو وادٍ من أعمال عَمَّان وبه قصر شبيب بن مالك، وفيه نهر عظيم ينبت القصب الفارسي، وفيه ملاقاة. ثم أتينا على البلقاء واد قفر، يقال في غَرْبيه ماء، وفيه اجتمعتُ بالأمير الذي فيه يقال: أمير له في حَلْبة الجود والوغى ... سوابق للإنسان قبل التِماحِه وعقل إذا ما جال أغنى برأيه ... عن الجيش يشكو الخوف شاكي سلاحه ولما قصدته لأمر اقتضى ذلك وجدته فوق ما أملّته، وأهديت إليه منظومة الصور الفلكية وكتبت معها: لما رأيتك في فضلٍ وفي أدبٍ ... علوتَ قدراً على العلياء والحُبُك ناسبت قدرك يا مَنْ عزَّ جانبه ... وقلت أهدي له منظومة الفلك فظفرت من إحسانه وحسناه، بما تحقق به أنَّه المعني بقول القائل: طلق يُفيض على العفاةِ سجالُه ... وعلى العداة بِسَطْوه سجيّلا وإذا حباك بغُرّة من ماله ... ثنّى وأعقب غرّة تحجيلا ثم أتينا على القطراني بعد معاقبة عقبات ومحاجر، وهو واد فيه قلعة وبركة ماء تفيض على مثلها. ثم أتينا على الحسا من أعمال الكرك، وفيه نهر لطيف وملاقاة. ثم أتينا على عنيزة وهناك البرد الشديد، وبه خان قديم. ثم أتينا على معان من أعمال الكرك، به ضيعة وقلعة، وآبار ماؤها ليس بالجيد. ثم أتينا على عقبة الصوان منحدر على نصف ميل، وبها أحجار القدح الجيدة، التي لا يكاد يوجد مثلها، ومنها تنقل للهدية، وإذا نزل عنها الركب أناخ أسفلها ليتكامل،

فيخرجون أنواع الحلوى المعدودة لذلك ويفرقونها على بعضهم، فلذلك يقال لها عقبة الحلوى، ورأيت العرب تأخذ القطن العتيق فتبله بالماء القراح، وتمسح به عرق الضأن من تحت إبطيه وفخذيه، فإذا جفّ كان بمنزلة الضرم، ثم مررنا بعبادان وليست هي التي قيل فيها ليس وراء عبادان قرية لأن تلك في ساحل البحر المحيط، وهي التي يأخذ منها أهل الفلك أطوال البلدان. وبالطلبيات، وبطن الغول، وادٍ كثير شجر الغضا والعبيثران الذكي. ثم أتينا على ذات حج، وادٍ فيه قلعة لطيفة، فيها شجرة توت وريفة، ونقر في حجر ينبع منه الماء، فيخرج من القلعة ويملأ البركة خارجها، وفيه نخيل ومياه غير جيدة، ثم نزلنا بالعرائد، وهي قاع البسيطة، وفيها اجتمعت بالفاضل المتفنِّن الشيخ محمد الحر، أحسن الله تعالى إليه، أنشدني إجازة لنفسه النفيسة: قلت لما ألجئت في هجو دهر ... بذل الجهد في احتفاظ الجهولِ كيف لا أشتكي صروف زمان ... ترك الحرّ في زوايا الخمولِ وأنشدني لغيره: لعمرك ما الغريب بذي التنائي ... ولكنّ المُقِلَّ هو الغريبُ إذا ما المرء أعْوَز ضاق ذَرْعاً ... بحاجته وأبعده القريبُ وللشيخ نجم الدين الشامي: علة شيبي قبل إِبّانه ... هجر حبيبي في المقالِ الصحيح ويدِّعي العلَّة في هجره ... شيبي ففي القولين دور صحيح - مسألة الدور جرتْ ... بيني وبين من أحب ولولا مشيبي ما جفا ... لولا جفاه لم أشب قلت وأنت خبير بأن هذا المعنى فيه ما فيه، إذا الدور توقف وجود كلّ

التنبؤ بخراب العالم

من الشيئين على وجود الآخر، وإذا كان الجفاء بسبب وجود الشيب، فالشيب متقدم على الجفا، وإذا كان كذلك فكيف يجعل الشيب بسبب وجود الجفاء؟ فتأمله فإنه خفي ظاهر، اللهم إلا أن يقال إن الدور على مجرّد الدعوى، وفي هذا المقام لا يتعين تقدم شيء على شيء، وما ألطف ما قال: ما ازددت في حبِّ من شغفتُ به ... إلا غراماُ عليه أو وَلَها وعشقتي في هواه دائرة ... آخرها لا يزال أوّلها التنبؤ بخراب العالم وحكى السيوطي في تاريخه: لما كان سنة 582 إجتمعت الكواكب الستة في برج الميزان، فحكم المنجمون بخراب العالم في جميع البلاد بطوفان الريح، فشرع الناس في حفر مغارات في التخوم، وسدوا منافذها ونقلوا إليها الماء والزاد، وانتقلوا إليها وأقاموا ينتظرون تلك الليلة التي وعدوا فيها بالريح، وهي الليلة التاسعة من جُمادى الآخرة من هذه السنة، فلم يأت فيها شيء من الريح، بل ولا هبّ نسيم، بحيث أوقدت الشموع بين يدي السلطان صلاح الدين فلم يتحرك لها أصلاً، وعملت الشعراء في وصف هذه الحادثة: كلام المنجم في لفظه ... يحلّ لدينا محلَ الحدثْ يخبّر عن حادثات السما ... ويجهل في بيته ما حدثْ وقال آخر: أحُسَّاب النجومِ أحلتمونا ... على علم أدقّ من الهباءِ علوم الأرض لم تصلوا إليها ... فكيفَ بكم إلى علم السماءِ ويعجبني قول أبي الغنائم محمد بن المعلم الواسطي: قل لأبي الفضل قولَ معترفٍ ... مضى جُمادى وجاءنا رجب ولا جرت زَعْزَعاً كما حكموا ... ولا بدا كوكب له ذنب كلا ولا أظلمت ذُكاء ولا ... بدت إذا في قرانها الشهب يقضي عليها من ليس يعلم ما ... يقضي عليه هذا هو العجب

تبوك

تبوك ثم لم نزل في أسر المسير حتى أتينا على تبوك، وهي على النصف من طريق الشام، وفيها عين ونخل وحائط، وهي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها قلعة فيها بئر وشجرة توت، وحولها منازل للعرب ومزارع وأشجار على عيون وعريش. ثم أتينا على المعز وهو قفر لا أنيس به، وأنشدني فيه السيد الأجل زين العابدين لعمِّه العلامة السيد زين الدين: لا تحسبونا وإن شطّ المزار بنا ... وعاند الدهر في تفريقنا وقضى نحوّل عن منهج الودّ القديم بكم ... أو نبتغي بالتنائي عنكم عِوَضا وأنشدني للفاضل محمد أفندي الحنائي: يا بني الزهراء لا لُقِّيتم ... أبد الآباد سوءاً من أحد سِرّكم لاحَ بمعنى آدم ... فلذا كلّ إليه قد سجد وقال آخر: يا آل بيتِ رسول الله حبكم ... فرضٌ من اللهِ في القرآن أنزله يكفيكم من عظيم الفخر أنكم ... من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له وقال: من العشاقِ باح الدمع لمّا ... نوى ركبُ العراق إلى الحجازِ لزورة صاحب الزوراء من قد ... بنى سُبُل الحقيقة لا المجازِ ثم مررنا بالمضيق، وهو مَسْلَك حصر كثير الأوعار والمحاجر، حتى أتينا على الأخيضر وهو واد مثلث الجوانب في جنوبيه قلعة سليمانية، بتاريخ ثمان وثلاثين وتسعمائة، وفيها عين تملأ منها ثلاث برك، تلاصق القلعة المبنية لحفظ البئر من دفنها أيام عصيان بني لام وبني عقبة. ثم أتينا على المعظَّم وهو وادٍ فيه قلعة عثمانية عمرت سنة إحدى وثلاثين وألف، غير أنَّه لم يكن بها ماء، وقد أشرفت على الدمار، وفيه يقول بعضهم: يا ذا المعظم إنَّ فيك لقسوة ... فلأيّ معنى قد سُميت معظما إنّ المعظم من يُغيثُ وفوده ... وأراك أفنيت الأنامَ من الظما وعند القلعة بركة عظيمة متسعة جداً، يأتيها الماء من الأمطار، ولها خمس

وعشرون درجة، ولما وردناها وجدنا منها خمسة عشر درجة في الماء الفرات. ثم أتينا على الأقيرع ثم بشطب العجوز، وهو شِعْب فيه ماء غزير من المطر، ولا يكاد يخلو عنه فيما يقال. ثم أتينا على المبرك وهو بين صخرتين عظيمتين كالمأزَمَيْن يمرّ من بينهما الركب، ويكون له ضجيج بالاستغفار، وزعموا أن صالحاً عليه السلام عقرت ناقته هناك. ثم أتينا على مداين صالح وهي بيوت منحوتة في الصخور، وعندها آبار. ثم أتينا على العُلى فاجتمعنا بأبناء البلاد من جيران سيد العباد، وسند العباد، فقرَّت بهم النواظر واستقرَّت: لله يومي بالعلى إذ شاهدتْ ... عينايَ آثار النبي الهادي ورأيت فيه جيرةً من يثرب ... سقيت منازلهم بصَوْبِ عهادِ وقال غيره: يا وارداً من حمى المختارِ يخبرني ... عن جيرة شنف الأسماع بالخبرِ ناشدتك اللهَ إن أوليتَ مكرُمة ... حدّث فقد ناب سمعي اليوم عن بصري فأقمنا في العُلى مع إخوان الصفا وخلان الوفاء، ثلاثة أيام بلياليها، تحكي عقوداً تزينت بلآليها: لله ما لاقيتُ فيها من الهنا ... ولله حادي العامريّة إذ يحدو وحدثتني يا سعد عنها فزدتني ... شجوناً فزدني من حديثك يا سعدُ والعلى قرية لطيفة على ست مراحل من المدينة المنورة، وهي منقطع أحكام الشام، وكانت معافاة أيام الجراكسة، فغزاهم عرب أيام العثامنة، فرفعوا أمرهم إلى نائب الشام عيسى باشا، فأمر أن يُبنى حصن ويجعل فيه حرس ويحيي

لطيفة

القرية، ويضرب على كلّ نخلة عثماني للحرس، فانتهت الجباية إلى الترقي وبطل الحرس، فشكوا فلم تفدهم الشكوى وتضاعفت المظلمة، وكان الأمر كما قيل: ربَّ من ترجو به دفعَ الأذى ... سوفَ يأتيكَ الأذى من قبلهِ وهي كما يقال روضة غناء، وغيضة حسناء، بها النخيل الباسقه، والأشجار المتناسقه، وفيها عينان تجريان: مياه بوجهِ الأرض تجري كأنَّها ... صفائحُ تِبْرٍ قد سُبِكن جداولا كأنّ بها من شدّة الجري جنّة ... وقد ألبستهنّ الرياح سلاسلا وقال: كأنَّما النهرُ إذ مرّ النسيمُ بهِ ... والغيم يَهمي وضوءُ البرق حين بدا رشقُ السهامِ ولمعُ البيض يوم وَغىً ... خاف الغدير سطاها فاكتسى زَرَدا وقال: روض كمخضرّ العِذارِ وجدول ... نقشَت عليه يد النسيم مباردا لطيفة حُكيَ أن ملك الروم كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيام خلافته: بلغني أنَّ ببلادك شجرة تُخرج ثمراً كآذان الحُمُر، ثم تنشق عن أحسن من اللؤلؤ المنضَّد، ثم تخضرّ فتكون كالزمرَّد الأخضر، ثم تحمرّ وتصفرّ فتكون كشذور الذهب وقطع الياقوت، ثم تنبع كأطيب الفالوذج ثم تيبس فتكون قوتاً، فإن كان كذلك فلا شك أنها من شجر الجنة. فكتب إليه: صدقت رُسُلك، وإنها الشجرة التي ولد تحتها المسيح عليه السلام!. وقال خالد بن صفوان يصفها: هي الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، الملقحات بالفحل، المونِعات

كشهد النحل، تخرج أسفاطاً غلاظاً وأوساطاً، ثم تنشق عن قضبان لجين وعسجد، كالدر المنضد، ثم تصير ذهباً أحمر بعد أن كانت في لون الزبرجد كأنَّ النخيل الباسقات وقد بدت ... لناظرِها حسناً قباب زبرجدِ وقد علّقتْ في فروعها زينة لها ... قناديل ياقوتٍ بأمراس عسجدِ يروى أن النخلة أول شجرة استقرت على وجه الأرض، وأنها خُلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام، وفي الخبر: أكرموا عماتكم النخل. وقال البهلول: وعماتك النخل كن مثلها ... لرامي الحجارة ترمى الرُطَب ثم أخذنا في قطع المراحل، وسلوك فِجاج المسالك والمنازل، حتى مررنا بآبار الفقير، وهي أربعون بئراً فيما يقال، ثم أتينا على مَطران وهو واد قفر ممحل، وفيه يقول القائل: مَطَ ران مثل الشِعب قفرٌ ممحل ... ما فيه من عطفٍ على ولهانِ ومن العجائبِ أنه لم يولِنا ... مطراً ويُسْمى قفره مطران ثم أتينا على بئر الزمرّد وهي على الجادة بين جبال متضايقة، فارتوى منها الظمآن، واطمأنَّ بها الولهان، ورحلنا عن ذلك الواد، وقد طاب الفؤاد: ومرّ بي النسيمُ فرقَّ حتى ... كأنّي قد شَكوت إليه ما بي ولم نزل نجوب الأغوار، ونقطع الفيافي والقفار، حتى أتينا على شِعْب النعام وهو قفرٌ خالٍ من الأنعام، اتفق أنّا اشترينا فيه من العرب قربة ماء بنصف دينار، ثم رحلنا وعنزةٌ تختطف من الركب ما كتب لها: وإذا رأيت مصائباً في معشرٍ ... فحظوظ ضعفائهم أجلّ وأوفرُ

المدينة المنورة

وقال: فسرنا ووهجُ الجوّ أَوقد حرّه ... وليس إلى شمّ النسيم سبيلُ كان نسيم الجوّ قد مات وانطوى ... فعهدي به في الشام وهو عليلُ ثم أتينا على هدية وهي شعب مسيل، فيه نخل وماء من بقايا السيل، وهو من أخبث المياه وأضرَّها، وسمومها يورث الحميّات، وبالجملة فإنها بقعة وخيمة ورقعة ذميمة، سهام وبائها صائب وحمى خيبرها متناوب، وداخلها لا يأمن من الدنيا الفراق، ولو كان له ألف راق، وكيف لا وهواؤها سهام بالليل، سموم بالنهار، وماؤها يسيل بالصحة والأعمار، وهي على مرحلة من خيبر، وخيبر اسم ولاية مشتملة على حصون وعيون ومزارع ونخيل، على ثلاثة أيام من المدينة، على يمين الخارج إلى الشام. ثم رحلنا فلم نزل نطوي بالسير الفيافي القفار، فمررنا بالعقبة السوداء، ومنها ترى الفحلتان، ثم أتينا على الفحلتين وهما قُنّتان على شاهق جبل من غربي الجادة، ثم أتينا على وادي القرى، قيل كان بها ألف قرية ولم يبق منها غير الأطلال، ومنها كثيِّر عَزَّة، ولا ماء به، وحرّه شديد، ولذلك قيل: وادي القرى شاهدته ... ما فيهِ للضيفِ قِرى وفي المصيفِ حرّه ... تحسبُ فيه سقرا المدينة المنورة ثم امتطينا متن الغبراء، وازورّ مسيرنا لنحو الزوراء، فلم نزل كذلك، نجوب هاتيك المسالك: ولأهلِ الزوراء في القلب ود ... فسلام على حمى ساكنيها هي دارُ السلامِ طابت مقاما ... ومقيلاً والقول ما قيل فيها وقد زاد الشوق وحث السوق: وأعظم ما يكون الشوقُ يوماً ... إذا دنت الخيام من الخيامِ

ثم أتينا على العراقيب فانتشقنا من تلقاء طيبة أطيب العرف، وسلكنا بحرف واديها فكانت طيبة الاسم والفعل والحرف: فشممتُ من أرضِ الحج ... ازِ نسيمَ أنفاسِ التلاقِ وضحكتُ من فرحِ السرو ... رِ كما بكيتُ من الفراقِ ولما أسفر الصباح، وفاح عرف هاتيك البطاح، هَبَّت لنا نسيمات العقيق والنَقا، مؤذنة بالتداني واللقا: على ساكني بطن العقيقِ سلامُ ... وإن أسهروني بالفراقِ وناموا حظرتم عليّ النومَ وهو محللٌ ... وحلّلتم التعذيبَ وهو حرامُ إذا بنتم عن حاجرٍ وحجرتم ... على السمعِ أن يدنو إليه كلامُ فلا ميّلت ريح الصبا فرع بانَة ... ولا سَجَعت فوقَ الغصون حمامُ ولا قهقهت فيه الرعودُ ولا بكت ... على حافتيه بالعشاء غمامُ فما لي وما للربع قد بان أهلهُ ... وقد قوّضت من ساكنيهِ خيامُ ألا ليت شعري هل إلى الرمل عودةٌ ... وهل لي بتلكَ البانتين لمامُ وهل نهلةٌ من بئرِ عروة عذبةٌ ... أُداوي بها قلباً كواه أوامُ ألا يا حمامات الأراك إليكم ... فما لي في تغريدكن مرامُ فوجدي وشوقي مسعد ومؤانسٌ ... ونوحي ودمعي مطرب ومدامُ ولما أشرقت الأرض بنور ربها، وتأرَّجت تلك البقاع بطيب تربها، تبدَّت

من البركتين عرائس تلك النخيل، وقال لسان حال دونك صفاء العيش والظل الظليل: ولي ثمّ بين البركتين معاهدٌ ... على حفظها قلبي الحفيظ أمينُ فيا طيبَ عيشٍ مرَّ لي في ربوعها ... ودادك باقٍ لستُ فيه أمينُ وقال غيره: صاح هذي أعلام طيبةَ لاحت ... وفؤادي على اللقاء حريصُ وتبدَّت نخيلها للمطايا ... فعيونُ المطيّ للنخيل خوصُ فترحَّلت، ولو أمكن لمشيت على الأحداق، وتمليت بهاتيك الأنوار وبذلك الإشراق، وحمدت الله تعالى على ما أولى وأنال، وأخذت أنشد قول من قال: أيّها المُغرم المشوق هنيئاً ... ما أنالوك من لذيذِ التلاقي قل لعينيكَ تهملان سروراً ... طالما أسعداك يوم الفراقِ أبدل الحزنِ بالسرورِ ابتهاجا ... وجميع الأشجان والأشواقِ وأمُرِ العين أن تفيض سِجالا ... وتوالي بدمعها المهراقِ هذه دارهم وأنت محبّ ... ما بقاء الدموعِ في الآماقي فتمليت من تلك الحضرة الشريفة، والروضة المطهرة المنيفة، بذلك المقام النبوي والمرام العلوي: ولعيني لما بدا نور طه ... وحمىً فيه منبرٌ ومقامُ قلتُ يا حاديَ الركائب قل لي ... هذه يقظة وإلا منامُ ولما ألقيت العصا والجراب، وعزمت على ترك الذهاب والإياب، رأيت ركاباً تُعدُّ للسُرى، ورحالاً تُشدُّ إلى أم القرى، فعصفت بي رياح الغرام، واهتاج لي الشوق إلى البيت الحرام، فزممت ناقتي، ونَبذت علاقتي: وقلتُ للائمي أقصر فإني ... سأختارُ المقَامَ على المقامِِ

وأنفق ما جمعتُ بأرضِ جمع ... وأسلو بالحَطيم عن الحُطامِ غيره: يا سميري روّح بمكةَ روحي ... شادياً إن رغبت في إسعادي فذُراها سربي وطيبي ثّراها ... وسبيلُ المسيل وِردي وزادي كان فيها أنسي ومعراج قدسي ... ومقام المقامِ والفتح بادي فبرزت من المدينة الشريفة، ونزلت على ذي الحليفة، وهي على ستة أميال منها، فأحرمت منها بحجة لروح سيد المرسلين وخاتمَ النبيين، رجاء أن أكون من المقبولين. ثم أتينا على خيف بني عمرو وهو شعب بين جبال شاهقة، فيه النخيل الباسقة، والأشجار المتناسقة، وماؤه من جدولين، أحدهما في الخيف الأعلى والآخر في الخيف الأسفل، والقرية على سفح الجبل لأن السيل يغشى الوادي. ثم مررنا بالحمراء والصفراء والحسينية، وهي خيوف حسنة وقرى مستحسنة، وأخذنا على طريق زقاقه، وهي شرقي الطريق البدرية. ثم أتينا على حسنا وهو وادٍ قد يوجد به الماء من الأمطار، ثم أتينا على مستورة واد كثير الرمل، وماؤه من حفائر يحلو مع المطر، ويهمج مع المحل، وعليه قرية لطيفة. ثم أتينا على رابغ وادٍ من الجحفة واسمه القديم رابوغ، وهو ميقات أهل الشام، وماؤه من الحفائر وعليه مزارع، وهي على الساحل بحيث يؤتى إليها بالسمك الطري في الغالب، وهي كثيرة الغبار وفي ذلك يقول الفيومي:

لم أنسَ بالجحفة يوماً غدا ... عقلي من أهواله زائغ يوماً لحوم الخلق فيه اشتوت ... من حرّه والقلب من رابغ ثم أتينا على دفين، وهي كثبان قبيل السيل من جنة كلية، وفيه يقول: ويوم سرنا على دفين ... أوقد حرّ النهار ناره وصارت الشمس في اِلتهاب ... وقودها الناس والحجاره ثم أتينا على قديد، وهو واد فيه آبار ومزارع وقرية لطيفة، يقول لسان حال سكانها: بلاد ألفناها على كلّ حالة ... وقد يؤلفُ الشيء الذي ليس بالحسَن وتستطيب الأرض التي لا هواؤها ... ولا ماؤها عذبٌ ولكنهُ وطن ثم مررنا بعقبة الرمل وتسمى عقبة السكر لأن أرباب النعم يقسمونه عليها. ثم أتينا على خليص وهي عين غزيرة الماء، عليها نخل كثير وبركة متسعة جداً، وإذا احتاجت العين إلى العمارة جاء المصرف إليها من حاصل جدّة، كذا في زهر الرياض. وقد غفا رسم هذه العين لتغافل الدولة عنها، وعسى أن يعود الماء إلى مجاريه: لله درّ الليالي في تقلّبها ... وكلّ أمر بدا من حكمة الهاديّ بينا يرى الماء يجري في جداولهِ ... حتى يغور كأن لم يجر بالوادي ومن لطائف الخطيب محمد بن حجر: جمالنا مهفهف ... في أذنه أرخى خريص طلبتُ منه قبلة ... فقالَ لي أنت لصيص تريدها مستورة ... قلتُ له على خليص ثم أتينا على عسفان وهي قرية جامعة على نحو يومين من مكة، بها آبار وبرك وعين تعرف بالعولاء، ينقل ماؤها إلى مكة للتبرك به. ثم أتينا على البرقاء وهي واد كثير الأعشاب، وماؤه من الأمطار ما بين تلك الشِعاب.

أم القرى

ثم أتينا على الوادي وما أدراك ما الوادي!؟ وادٍ فسيح الجناب مخضر الأرجاء والرحاب، به النخيل التي لا تحصى، والجداول التي من محاسن رياضها لا تستقصى، وفيه الكادي الذي هو أطيب الطيب، وأنواع البطيخ العجيب، وقد تزينت أرجاؤه بقباب أبناء الزهراء، فلا فقدتهم تلك المنازل، ولا برح كلّ روض بهم عاطر وآهل. ثم رحلنا منه والأشواق تقودنا إلى البيت الحرام، وتسوقنا إلى البلد الذي لا يزال يقصد ويرام: بلد به البيت المحرم قبلةٌ ... للعالمين له المساجدُ تعدلُ حرمٌ حرامٌ أرضه وصيودهُ ... والصيدُ في كلّ البلادِ محللُ وبه المشاعرُ والمناسك كلها ... وإلى فضيلته البرية ترحلُ وبه المقامُ وحوضُ زمزم مشرع ... والحِجر والركن المشيد الأفضلُ والمسجد العالي المحصّبُ والصفا ... والمشعران لمن يطوف ويرملُ وبمكةَ الحسنا يضاعف أجرنا ... وبها المسيء من الخطايا يغسلُ أم القرى وجدّ بنا السير إلى أم القرى فدخلنا من باب السلام، إلى ذلك المقام، وأقمنا بذلك البلد الحرام، ثم توجهنا إلى عرفة، وهي على اثني عشر ميلا من مكة، فقضينا الحج وعلى الله القبول، كانت حجة الجمعة المشهور فضلها على غيرها. ثم توجهنا إلى منى فرمينا الجمار، وبلغنا بها الأوطار، ومنى على فرسخ من مكة بين جبلين مطلين عليها، أحدهما ثبير وهو موضع الكبش: وآي منى خمس فمنها اتساعها ... لحجاجِ بيت الله لو جاوزوا الحدّا ومنع حداة خطف لحم بأرضها ... وقلة وجدان البعوض بها عدّا وكون ذباب لا يعاقر طعمها ... ورفع حصى المقبول دون الذي رُدّا

وقال: ولما قضينا من منىً كلّ حاجة ... ومسّح بالأركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيّ الأباطح فأقمنا في بيوت أذن الله أن يرفع شأنها، ويسبّح فيها بالغدوّ والآصال سكانها، وشهدنا من أهلها تلك الصباحة، وعلمنا مقر الملاحة والفصاحة، وما ألطف ما قال القاضي عز الدين الكناني: تطالبني نفسي مقاماً بمكة ... فأذكر ضَعفَ أهلها فأقصّر حياءُ من التقصير في حقِّ بعضهم ... وإرضاء كلّ منهم متعذّر ويغلبني شوقي إليها فإنني ... أقدم رجلي تارة وأؤخّر وما أحسن ما قال: يا أهلَ دار المعلّى والبقيعِ سقتْ ... ربوعكم سحبٌ منهلّه الدِيَم لو أن روحي في كفي لزرتكم ... سعياً على الرأس لا سعيا على القدم ثم أخذنا بأطراف الملتزم، وتضلَّعنا من ماء زمزم، وأخذنا بحظّ من ذلك المقام، ورجونا الله تعالى تحقيق المرام: أكرم بزمزم إذ غدا متفجِّرا ... بمعين ماء للمفاسد يصلحُ حاوي الملاحة والعذوبة والشفا ... فلذاك يحلو للقلوبِ ويملحُ ولما كان اليوم الثاني والعشرون من ذي الحجة الحرام، عدنا على تلك المنازل التي تقدَّم ذكرها، ورجعنا كما ترجع إلى منازل الأفق زُهْرُها، وعند افتتاح عام ختم قدمنا المدينة وقد حصل المراد وتم:

فيا عينيّ بيتاً في اعتناق ... ويا نومي قدمت على الكرامه ويا قلبي هنيئاً بالتداني ... وبشرى قد قدمت على السلامه وها أنا قد ألقيت عصا الترحال بفنائها الفسيح، وعزمت على أن لا أفارقها إلا مع الأجل المريح. وقد طفت البلاد ومن عليها ... كرامٌ في الطبائع أو لئامُ فلم أرَ مثل جيراني وأهلي ... لمثلي عند مثلهم مقامُ وقال: عليّ عهود عن ديارك لا أخطو ... وإن ضاق فيها العيشُ أو طاول القحطُ على أنني فيها على خير حالةٍ ... عزيزُ جناب لا يزاولني البسطُ وقال: إذا لم تقم في طيبة عند طيّب ... به طيبة طابت فأين تطيبُ وإن لم يجب في حبها ربنا الدعا ... ففي أي حيّ للدعاء يجيبُ وقال غيره: سقى الله يثرب من بلدة ... وطاف بها مستفيض السحاب بلاد تسامت بمن حلّها ... وعزّت ففيها الدُعا يُستجاب وقال غيره: رعى الله طيبةَ من بلدةٍ ... وساقَ السحاب لأعتابها فقد جمعت كلّ فضل جزيل ... ولا يدخل الفصل من بابها ومن محاسن الحانوتي: يا أهل طيبة لا زالت شمائلكم ... كالروض باكَرَه سارٍ من الدِيمِ أنفاسكم والنفوس الغرُّ ما برحت ... كالزَهر والزُهر في لطف وفي كرمِ ما أمّكم زائرٌ إلا وآب بما ... يربو على فكره من كلّ مغتنمِ فأنتم الطيبون الطاهرون ومن ... لا ريب في مجدهم من سالفِ القدمِ لا عيب فيكم سوى أن النزيل بكم ... يسلو عن الأهل والأوطان والحشمِ

جميلكم جلّ أن يُحصى وفضلكم ... في الناس أشهر من نار على علمِ كفاكم بجوار المصطفى شرفاً ... وجار ذي الجاه أنّى كان لم يضمِ لولاكم خيرة الله الكريم لما ... كنتم له جيرة من سائرِ الأممِ والله جلّ اسمه بالقرب خوّلكم ... وزادكم بسطة في العلمِ والهممِ لا زلتم وأمان الله يكلَؤكم ... مما أحاذر في حرز من اللَمَمّ وكيف أخشى الرزايا أن تُلِمَ بكم ... وأنتم من حمى المختار في حرمِ عليه صلَّى إلهُ العرش ما سجعت ... وُرْق الحمائم بين الضالِ والسلمِ وآله الطهر أرباب الكمالِ ومن ... والاهم وجميع الصحب كلهم وقال القزويني في كتاب آثار البلاد وأخبار العباد: الحجاز ومنه مدينة يثرب، وهي حرّة سبخة مقدار نصف مكة، من خصائصها أن من دخلها يشم رائحة الطيب، وللعطر فيها فضل رائحة لم توجد في غيرها: وإذا لم تر الهلالَ فسلم ... لأناسٍ رأوهُ بالأبصارِ قال: وأهلها أحسن الناس أصواتاً، قيل لبعضهم: لِمَ كنتم أحسن الناس أصواتاً!؟ قال: مثلنا كالعيدان خلت أجوافنا فصَفَت أصواتنا. في الخريدة هي مستوى من الأرض، وعليها سور قديم، وحولها نخل كثير، وثمرها في غاية الحلاوة، وأما حدائقها، فكما قال بعضهم: كنت إذا دخلتها كأني أبشِّر قلبي بنضح السرور والفرح، ولم أجد لذلك سبباً إلا انفساح جوّها، وحسن هوائها وطيب نسيمها، وصحة إقليمها. ويكفي في فضلها خبر: من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت، فإنِّي أشفع لمن يموت بها

الخاتمة

والجار محسّوب على جيرانهِ ... جارٌ كريم مسامح من ذنبهِ وقال غيره: يا أهل طيبة قد سكنتم أضلعي ... فودادكم نامٍ وشوقي محكمُ لاغرو أن أرعى هواكم منشداً ... من أجل عينٍ ألفُ عين تكرمُ الخاتمة هذا آخر هذه الرحلة المكتوبة، ولله الحمد على فراق تلك الأوقات المتعوبة، فليكن محمولاً على متن الحلم كلامها الموضوع، فقد علم الله تعالى أنها صدرت عن قلب مكسور وفؤاد مصدوع، وقد أنشأتها بالاغترار، وأمليتها بلسان الاضطرار، فكانت من سقط المتاع، المستوجبة لأن لا تباع، لا سيما إن رميت بالكساد، وإفساد الحساد، وقيل هذا هذاء، هذاء إذا كان من منح هذا الدهر الملوم إساءة وإيذاء، فالمرجو من ذوي الإنصاف، والمعصوم عن وَصْمَة الاعتساف، المعذرة فيما طغى به القلم، وزلَّت فيه القدم، على أن المعترض مصاب وإن أصاب. وليس اعتقادُ المرء ما خطَّ كفه ... كما أنّ حاكي الكفرَ ليس بكافرِ على أن الحاكم بالتخطئة لا يخلو من حسد أو عناد، ولا ينجو من هوى يعدل به عن سبيل الرشاد، وعسى أن يظفر بمخرج صالح لو دقّق النظر، أو يقف على منهج واضح إن لاحظ المقصد المعتبر، ولكن من جُبِلت جِبِلّته بماء التعسف، وخُمِّرت طينته بالعناد والتكلف، لا يزال يرفع عن قبول الحق شامخ أنفه، وإن أوتي الحق الصريح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. خذ من زمانكَ ما صفا ... ودع الذي فيهِ الكدر فالعمرُ أقصرُ مدةً ... من أن يدنسَ بالغِيَر وحيث تشرفت بألقاب قطب دائرة الوجود، ومركز العلم والحلم والجود، فلا غرو أن تكون من أحسن الرسائل وأنفع الوسائل، لا سيما وقد احتوت على كثير من مفيد الأخبار، وانطوت على مواعظ ترتضيها الأحبار، إلى غير ذلك مما يفيد سلامة الطبع لمن كان له قلب أو ألقى السمع. يا رحلة جمعتُها ... ألفاظها تُسْتَعْذَبُ لا تستقلِّوا حجمها ... فيها الكثير الطيبُ

فلتكن تذكرة في الحياة، وأثراً بعد الممات، تصلح لمسامرة الجليس، وتكون للوحيد نعم الأنيس: رسالة طالبٍ في الكونِ أضحى ... يرى مطلوبه في كلّ مصرِ حوت أوراقها أبياتَ شعرٍ ... ولكن كلّ بيت مثل قصرِ وقال غيره: وكم من رسالات رَقَمْتُ نقوشَها ... فلم أنتفع يوماً بتلك الرسائلِ أراني في حرمان ما كنتُ أرتجي ... وآخر عمري لاحقاً بالأوائلِ وأنا أستغفر الله تعالى من التجوّز في المقال، وألجأ إليه من الوقوع في ربقة القيل والقال، فلا أتعلل بالمموّهات من الوساوس الشيطانية، والمسوّلات من الهواجس النفسانية، ولا أكون ممن افتُتِن وقَبُح، وأسأله أن يختصني بالقبول المرضي، والعطاء الفيضي، هذا وإن أخطأت تحقيقاً، فمن البرِّ ما يكون عقوقاً: كتبت وقد أيقنت أن جوارحي ... ستبلى ويبلى كلّ ما أنا ناقلُه فإن كان خيراً سوف أحمد غِبّه ... وإن كان شراً أوبَقَتني غوائلُه فأستغفر اللهَ العظيم مِنَ الذي ... كتبتُ ومما قلتُ إنّي لقائلُه والحمد لله أوّلاً وآخراً، وباطناً وظاهراً، ونشكره في الأولى والآخرة، ونسأله عواطف رحمته الفاخرة، إنه الجواد الذي لا يخيب من أمّله، ولا يخذل من قطع رجاه من سواه وأمّ له. يا سفرةً شقّت بكلِّ مشقّة ... وخلا مُحَيَّاها عن الإسفارِ كتبت لنا خطّاً خلا من أحرفٍ ... لكن ظفرت بنزهة الأسفارِ

§1/1