رحلة ابن جبير ط دار بيروت

ابن جبير

المجلد الأول

المجلد الأول تذكره بالأخبار عن اتفاقات الأسفار ... بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تذكره بالأخبار عن اتفاقات الأسفار ابتدئ بتقييدها يوم الجمعة الموفى ثلاثين لشهر شوال سنة ثمان وسبعين وخسمائة على متن البحر بمقابلة جبل شلير عرفنا الله السلامة بمنه1. وكان انفصال أحمد بن حسان ومحمد بن جبير من غرناطة2 حرسها الله للنية الحجازية المباركة قرنها الله بالتسير والتسهيل وتعريف الصنع الجميل أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال المذكور وبموافقة اليوم الثالث لشهر فبراير الاعجمي. وكان الاجتياز على جيان3 لقضاء بعض الأسباب ثم كان الخروج منها أول ساعة من يوم الإثنين التاسع عشر لشهر شوال المذكور وبموافقة اليوم الرابع عشر لشهر فبراير المذكور أيضا. وكانت مرحلتنا الأولى منها إلى حصن لغيداق ثم منه إلى حصن قبرة4

_ 1 سنة 1182م. شلير: جبل بالأندلس من أعمال إلبيرة. 2 غرناطة: أعظم مدن إلبيرة. 3 جيان: مدينة بالأندلس. 4 قبذاق: مدينة من نواحي قرطبة بالأندلس. قبرة: كورة من أعمال الأندلس.

ثم منه إلى مدينة إستجة ثم منها إلى حصن أشونة1 ثم منه إلى شلبر ثم منه إلى حصن أركش ثم منه إلى قرية تعرف بقرية النشمة من قرى مدينة ابن السليم ثم منها إلى جزيرة طريف وذلك يوم الإثنين السادس والعشرين من الشهر المؤرخ. فلما كان ظهر يوم الثلاثاء من اليوم الثاني من نزولنا يسر الله علينا في عبور البحر إلى قصر مصمودة2 تيسيرا عجيبا والحمد لله. ونهضنا منه إلى سبتة غدوة يوم الأربعاء الثامن والعشرين منه وألفينا بها مركبا للروم الجنوبيين مقلعا إلى الإسكندرية بحول الله عز وجل فسهل الله علينا في الركوب فيه. وأقلعنا ظهر يوم الخميس التاسع والعشرين منه وبموافقة الرابع والعشرين من فبراير المذكور بحول الله تعالى وعونه لا رب غيره. وكان طريقنا في البحر محاذيا لبر الأندلس. وفارقناه يوم الخميس السادس لذي القعدة بعده عند ما حاذينا دانية. وفي صبيحة يوم الجمعة السابع من الشهر المذكور آنفا قابلنا بر جزيرة يابسة3 ثم يوم السبت بعده قابلنا بجزيرة ميورقة ثم يوم الأحد بعده قابلنا جزيرة منورقة ومن سيتة إليها نحو ثمانية مجار والمجرى مائة ميل. وفارقنا بر هذه الجزيرة المذكورة وقام معنا بر جزيرة سردانية أول ليلة الثلاثاء الحادي عشر من الشهر المذكور وهو الثامن من مارس دفعة واحدة على نحو ميل أو أقل. وبين الجزيرتين سردانية ومنورقة نحو الأربعمائة ميل فكان قطعا مستغربا في السرعة.

_ 1 إستجة: كورة بالأندلس. أشونة: حصن بالأندلس من نواحي إستجة. 2 قصر مصمودة: رأس شمال إفريقية المقابل للأندلس. 3 يابسة: جزيرة نحو الأندلس.

أهوال البحر

أهوال البحر وطرأ علينا من مقابلة البر في الليل هول عظيم عصم الله منه بريح أرسلها الله تعالى في الحين من تلقاء البر فأخرجنا عنه والحمد لله على ذلك. وقام علينا نوء هال1 له البحر صبيحة يوم الثلاثاء المذكور فبقينا مترددين بسببه حول بر سردانية إلى يوم الأربعاء بعده فأطلع الله علينا في حال الوحشة وإنغلاق الجهات بالنوء فلا نميز شرقا من غرب مركبا للروم قصدنا إلى أن حاذانا فسئل عن مقصده فأخبر إنه يريد جزيرة صقلية وأنه من قرطاجنة عمل مرسية. وقد كنا استقبلنا طريقه التي جاء منها منه غير علم فأخذ نا عند ذلك في اتباع اثره والله الميسر لا رب سواه فخرج علينا طرف من بر سردانية المذكور فأخذ نا في الرجوع عودا على بدء إلى أن وصلنا طرفا من البر المذكور يعرف بقوسمركة وهو مرسى معروف عندهم فأرسينا به ظهر يوم الأربعاء المذكور والمركب المذكور معنا وبهذا الموضع المذكور اثر لبنيات قديم ذكر لنا إنه كان منزلا لليهود فيما سلف. ثم أنا أقلعنا منه ظهر يوم الأحد السادس عشر من الشهر المذكور، وفي مدة مقامنا بالمرسى المذكور جددنا فيه الماء والحطب والزاد. وهبط واحد من المسلمين ممن يحفظ اللسان الرومي مع جملة من الروم إلى اقرب المواضع المعمورة منا فأعلمنا إنه رأى جملة من أسرى المسلمين نحو الثمانين بين رجال ونساء يباعون في السوق وكان ذلك عند وصول العدو دمره الله بهم من سواحل البحر ببلاد المسلمين والله يتداركهم برحمته ووصل إلى المرسى المذكور يوم الجمعة الثالث من يوم ارسينا فيه سلطان الجزيرة المذكورة مع جملة من الخيل فنزل إليه اشياخ المركب من الروم واجتمعوا به وطال

_ 1 النوء: أراد به العاصفة. هال: هاج.

مقامهم عنده ثم انصرفوا وانصرف إلى موضع سكناه وتركنا المركب المذكور في موضع ارسائه بسبب مغيب بعض أصحابه في البلد عند هبوب الريح الموافقة لنا. في ليلة الثلاثاء الثامن عشر لذي القعدة المذكور والخامس عشر من شهر مارس المذكور أيضا وفي الربع الباقي منها فارقنا بر سردانية المذكورة وهو بر طويل جرينا بحذائه نحو المائتي ميل ومنتهى دور الجزيرة على ما ذكر لنا إلى أزيد من خمسمائة ميل ويسر الله علينا في التخلص من بحرها لأنه أصعب ما في الطريق والخروج منه يتعذر في أكثر الأحيان والحمد لله على ذلك. وفي ليلة الأربعاء بعدها من أولها عصفت علينا ريح هال1 لها البحر وجاء معها مطر ترسله الرياح بقوة كأنه شآبيب2 سهام فعظم الخطب واشتد الكرب وجاءنا الموج من كل مكان امثال الجبال السائرة فبقينا على تلك الحال الليل كله ولايأس قد بلغ منا مبلغه وارتجينا مع الصباح فرجة تخفف عنا بعض ما نزل بنا، فجاء النهار وهو يوم الأربعاء التاسع عشر من ذي القعدة بما هو اشد هولا وأعظم كربا وزاد البحر اهتياجا واربدت3 الآفاق سوادا واستشرت4 الريح والمطر عصوفا حتى لم يثبت معها شراع فلجيء إلى استعمال الشرع الصغار فأخذ ت الريح أحد ها ومزقته وكسرت الخشبة التي ترتبط الشرع فيها وهي المعروفة عندهم بالقرية فحينئذ تمكن اليأس من النفوس وارتفعت أيدي المسلمين بالدعاء إلى الله عز وجل وأقمنا على تلك الحال النهار كله فلما جن الليل فترت الحال بعض فتور وسرنا في هذه الحالة كلها بريح الصواري سيرا سريعا.

_ 1 هال: ثار 2 الشآبيب، الواحد شؤبوب: وهو الدفعة من المطر. 3 اربدت: تغير لونها. 4 استشرت: عظمت وتفاقم شرها.

وفي ذلك اليوم حاذينا بر جزيرة صقلية وبتنا تلك الليلة التي هي ليلة الخميس التالية لليوم المذكور مترددين بين الرجاء واليأس فلما اسفر الصبح نشر الله رحمته واقشعت السحاب وطاب الهواء وأصاءت الشمس وأخذ في السكون البحر فاستبشر الناس وعاد الأنس وذهب اليأس والحمد لله الذي أرانا عظيم قدرته ثم تلافى بجميل رحمته ولطيف رأفته حمدا يكون كفاء1 لمنته ونعمته. وفي هذا الصباح المذكور ظهر لنا بر صقلية وقد أجزنا أكثره ولم يبق منه إلا الاقل وأجمع من حضر من رؤساء البحر من الروم وممن شاهد الأسفار والاهوال في البحر من المسلمين انهم لم يعاينوا قط مثل هذا الهول فيما سلف من أعمارهم والخبر عن هذه الحالة يصغر في خبرها. وبين البرين المذكورين بر سرانية وبر صقلية نحو الأربعمائة ميل واستصحبنا من بر صقلية أزيد من مائتي ميل ثم ترددنا بحذائه بسبب سكون الريح. فلما كان عصر يوم الجمعة الحادي والعشرين من الشهر المذكور أقلعنا من الموضع الذي كنا أرسينا فيه وفارقنا البر المذكور أول تلك الليلة وأصبحنا يوم السبت وبيننا وبينه مسافة بعيدة وظهر لنا إذ ذاك الجبل الذي كان فيه البركان2 وهو جبل عظيم مصعد في جو السماء قد كساه الثلج وأعلمنا إنه يظهر في البحر مع الصحو على أزيد من مسيرة مائة ميل. فأخذ نا ملججين3 وأقرب ما نؤمله من البر إلينا جزيرة أقريطش4 وهي من جزائر الروم ونظرها5 إلى صاحب القسطنطينية وبينهما وبين جزيرة صقلية مسيرة سبعمائة ميل والله كفيل بالتيسير والتسهيل بمنه. وفي طول هذه الجزيرة جزيرة

_ 1 كفاء: مساو. 2 بركان أتنا في صقلية. 3 ملججين: أي جادين. 4 أقريطش: كريت. 5 أي حكمها.

أقريطش المذكور نحو من ثلثمائة ميل. وفي ليلة الثلاثاء الخامس والعشرين من الشهر المذكور وهو الثاني والعشرين من شهر مارس حاذينا البر المذكور تقديرا لا عيانا وفي صبيحة اليوم المذكور فارقناه متوجيهن لقصدنا وبين هذه الجزيرة المذكورة وبين الإسكندرية ستمائة ميل أو نحوها. وفي صبيحة يوم الأربعاء السادس والعشرين منه ظهر لنا البر الكبير المتصل بالاكندرية المعروف ببر الغرب وحاذينا منه موضعا يعرف بجزائر الحمام1 على ما ذكر لنا وبينه وبين الإسكندرية نحو الأربعمائة ميل على ما ذكر لنا فأخذ نا في السير والبر المذكور منا يمينا.

_ 1 جزائر الحمام: بين السلوم وطبرق.

البشرى بالسلامة

البشرى بالسلامة وفي صبيحة يوم السبت التاسع والعشرين من الشهر المذكور اطلع الله علينا البشرى بالسلامة بظهور منار الإسكندرية على نحو العشرين ميلا والحمد على ذلك حمدا يقتضى المزيد من فضله وكريم صنعه. وفي آخر الساعة الخامسة منه كان ارساؤنا بمرسى البلد ونزولنا اثر ذلك والله المستعان فيما بقي بمنه. فكانت اقامتنا على متن البحر ثلاثين يوما ونزلنا في الحادي والثلاثين لأن ركوبنا إياه كان يوم الخميس التاسع والعشرين من شهر شوال ونزولنا عنه في يوم السبت التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة وبموافقة السادس والعشرين من مارس والحمد لله على ما من به من التيسير والتهسيل وهو سبحانه المسئول بتتميم النعمة علينا ببلوغ الغرض من المقصود وتعجيل الاياب إلى الوطن على خير وعافية إنه المنعم بذلك لا رب سواه وكان نزولنا بها بفندق يعرف بفندق الصفار بمقربة من الصبانة.

شهر ذي الحجة من السنة المذكورة

شهر ذي الحجة من السنة المذكورة أوله يوم الأحد ثاني يو منزولنا بالاسكندرية. فمن أول ما شاهدنا فيها يوم نزولنا أن طلع امناء إلى المركب من قبل السلطان بها لتقييد جميع ما جلب فيه. فاستحضر جميع من كان فيه من المسلمين واحدا واحدا وكتبت اسماؤهم وصفاتهم وأسماء بلادهم وسئل كل واحد عما لديه من سلع أو ناض1 ليؤدى زكاة ذلك كله دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو ما لم يحل وكان أكثرهم متشخصين لاداء الفريضة لم يستصحبوا سوى زاد الطريقهم فلزموا أداء زكاة ذلك دون أن يسأل هل حال عليه حول أم لا. واستنزل أحمد بن حسان منا لسيأل عن أنباء المغرب وسلع المركب فطيف به مرقبا2 على السلطان أولا ثم على القاضي ثم على أهل الديوان ثم على جماعة من حاشية السلطان. وفي كل يستفهم ثم يقيد قوله. فخلى سبيله، وأمر المسلمون بتنزيل أسباب هم وما فضل من ازودتهم وعلى ساحل البحر أعوان يتوكلون بهم وبحمل جميع ما أنزلوه إلى الديوان فاستدعوا واحدا واحد واحضر ما لكل واحد من الأسباب والديوان قد غص بالزحام. فوقع التفتيش لجميع الأسباب ما دق منها وما جل واختلط بعضها ببعض وأدخلت الايدي إلى اوساطهم بحثا عما عسى أن يكون فيها ثم استلحفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم أم لا. وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام ثم اطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم نسأل الله أن يعظم الاجر بذلك. وهذه لا محالة من الأمور الملبس3 فيها على السلطان الكبير

_ 1 الناض: الدراهم والدنانير. 2 مرقبا: محروسا. 3 الملبس: يريد المخفية عنه.

المعروف بصلاح الدين ولو علم بذلك على ما يؤثر عنه من العدل وايثار الرفق لازال ذلك وكفى الله المؤمنين تلك الخطة الشاقة واستؤدوا1 الزكاة على أجمل الوجوه وما لقينا ببلاد هذا الرجل ما يلم به قبيح لبعض الذكر سوى هذه الاحدوثة التي هي من نتائج عمال الدواوين.

_ 1 استؤدوا: أي أعيدت لهم الزكاة. 2 الاحتفال: الازدحام. 3 المتوسمين: لعله من توسم فيه الخير: طلب فيه اثره.

ذكر بعض أخبار الإسكندرية وآثارها

ذكر بعض أخبار الإسكندرية وآثارها فأول ذلك حسن وضع البلد وإتساع مبانية حتى أنا ما شاهدنا بلدا اوسع مسالك منه ولا أعلى مبنى ولا أعتق ولا أحفل منه وأسواقه في نهاية من الاحتفال أيضا2. ومن العجب في وضعه أن بناءه تحت الأرض كبنائها فوقها وأعتق وامتن لأن الماء من النيل يخترق جميع ديارها وأزقتها تحت الأرض فتتصل الآبار بعضها ببعض ويمد بعضها بعضا. وعاينا فيها أيضا من سوارى الرخام وألواح هـ كثرة وعلوا واتساعا وحسنا ما لا يتخيل بالوهم حتى أنك تلقى في بعض الممرات بها سواري يغص الجو بها صعودا لا يدري ما معناها ولا لما كان أصل وضعها وذكر لنا إنه كان عليها في القديم مبان للفلاسفة خاصة ولأهل الرئاسة في ذلك الزمان والله أعلم ويشبه أن يكون ذلك للرصد.

منار الإسكندرية

منار الإسكندرية ومن أعظم ما شاهدناه من عجائبها المنار الذي قد وضعه الله عز وجل على يدي من سخر لذلك آية للمتوسمين3 وهداية للمسافرين لولاه ما اهتدوا

في البحر إلى بر الإسكندرية يظهر على أزيد من سبعين ميلا وبمناه في غاية العتاقة والوثاقة طولا وعرضا يزاحم الجو سموا وارتفاعا يقصر عنه الوصف وينحسر دونه الطرف الخبر عنه يضيق والمشاهدة له تتسع. ذرعنا أحد جوانبه الأربعة فألفينا فيه نيفا وخمسين باعا ويذكر أن في طوله أزيد من مائة وخمسين قامة. وأما داخله فمرآي هائل اتساع معارج1 ومداخل وكثرة مساكن حتى إن المتصرف فيها والوالج في مسالكها ربما ضل. وبالجملة لا يحصلها القول والله لا يخليه من دعوة الإسلام ويبقيه. وفي أعلاه مسجد موصوف بالبركة يتبرك الناس بالصلاة فيه طلعنا إليه يوم الخميس الخامس لذي الحجة المؤرخ وصلينا في المسجد المبارك المذكور. وشاهدنا من شأن مبناه عجبا لا يستوفيه وصف واصف.

_ 1 المعارج: السلالم.

منافب الإسكندرية

منافب الإسكندرية ومن مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانة المدارس والمحارس2 الموضوعة فيه لأهل الطلب والتعبد يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكنا يأوى إليه ومدرسا يعلمه الفن الذي يريد تعليمه وإجراء3 يقوم به في جميع احواله. واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك ونصب لهم مارستانا لعلاج من مرض منهم ووكل بهم اطباء يتفقدون أحوالهم وتحت أيديهم خدام يامرونهم بالنظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء. وقد رتب أيضا فيه أقوام برسم الزيارة للمرضى الذين

_ 2 المحارس، الواحد محرس: مأوى مخصص للدارسين والزهاد والمسافرين ةالفقراء. 3 الإجراء: المرتب.

يتنزهون1 عن الوصول للمارستان المذكور من الغرباء خاصة وينهون إلى الأطباء أحوالهم ليتكلفوا بمعالجتهم. ومن أشرف هذه المقاصد أيضا أن السلطان عين لأبناء السبيل من المغاربة خبزتين لكل إنسان في كل يوم بالغا ما بلغوا ونصب لتفريق ذلك كل يوم انسانا أمينا من قبله فقد ينتهى في اليوم إلى الفي خبزة أو أزيد بحسب القلة والكثرة هكذا دائما، ولهذا كله أوقاف من قبله حاشى ما عينه من زكاة العين لذلك وأكد على المتولين لذلك متى نقصهم من الوظائف المرسومة شيء أن يرجعوا إلى صلب ماله وأما أهل بلده ففي نهاية من الترفيه وإتساع الأحوال لا يلزمهم وظيف البتة. ولا فائد2 للسلطان بهذا البلد سوى الأوقاف المحبسة المعينة من قبله بهذه الوجوه وجزية اليهود والنصارى وما يطرأ من زكاة العين خاصة3 ليس له منها سوى ثلاثة أثمانها والخمسة الاثمان مضافة للوجوه المذكورة. وهذا السلطان الذي سن هذه السنن المحمودة ورسم هذه الرسوم الكريمة على عدمها في المدة البعيدة وهو صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب وصل الله صلاحه وتوفيقه. ومن أعجب ما اتفق للغرباء أن بعض من يريد التقرب بالنصائح إلى السلطان ذكر أن أكثر هؤلاء يأخذ ون جزاية الخبز ولا حاجة لهم بها رغبة في المعيشة لأنهم لا يصلون إلا بزاد يقلهم4 فكاد يؤثر سعى هذا المتنصح فلما كان في أحد الأيام خرج السلطان المذكور على سبيل التطلع خارج بلده فلتقى منهم جماعة قد لفظتهم الصحراء المتصلة بطرابلس وهم قد ذهبت

_ 1 يتنزهون: يترفعون. 2 لعله أراد بالوظيف الوظيفة، أي ما يقدر لهم من رزق ونحوه. الفائد: الفائدة، الربح. 3 زكاة العين: التي تدفع من الشيء عينه لا نقودا. 4 يقلهم: يحملهم ويبلغهم ما يريدون.

رسومهم1 عطشا وجوعا. فسألهم عن وجهتهم واستطلع ما لديهم مفاعلموه انهم قاصدون بيت الله الحرام وأنهم ركبوا البر وكابدوا مشقة صحرائية. فقال: لو وصل هؤلاء وهم قد اعستفوا2 هذه المجاهل التي اعتسفوها وكابدوا من الشقاء ما كابدوه وبيد كل واحد منهم زنته ذهبا وفضة لوجب أن يشاركوا ولا يقطعوا عن العادة التي اجريناها لهم فالعجب ممن يسعى على مثل هؤلاء ويروم التقرب إلينا بالسعي في قطع ما اوجبناه لله عز وجل خالصا لوجهه. ومآثر هذا السلطان ومقاصده في العدل ومقاماته في الذب عن حوزة الدين لا تحصى كثرة. ومن الغريب أيضا في أحوال هذا البلد تصرف الناس فيه بالليل كتصرفهم بالنهار في جميع أحوالهم وهو أكثر بلاد الله مساجد حتى إن تقدير الناس لها يطفف3 فمنهم المكثر والمقلل فالمكثر ينتهى في تقديره إلى اثني عشر ألف مسجد والمقلل ما دون ذلك لا ينضبط فمنهم من يقول ثمانية الاف ومنهم من يقول غير ذلك. وبالجملة فهي كثيرة جدا تكون منها الأربعة والخمسة في موضع وربما كانت مركبة4 وكلها بأئمة مرتبين من قبل السلطان فمنهم من له فوق ذلك ومنهم من له دونه وهذه منقبة كبيرة من مناقب السلطان. إلى غير ذلك مما يطول ذكره من المآثر التي يضيق عنها الحصر. ثم كان الانفصال عنها على بركة الله تعالى وحسن عونه صبيحة يوم الأحد الثامن لذي الحجة المذكور وهو الثالث لابريل فكانت مرحلتنا منه إلى موضع

_ 1 رسومهم: أراد أجسامهم. 2 اعتسفوا: ساروا على غير هداية ولا دراية. 3 يطفف: لا يعدل. 4 مركبة: أي مسجد ومدرسة وغيرهما.

يعرف بدمنهور وهو بلد مسور في بسيط من الأرض أفيح1 متصل من الإسكندرية إليه إلى مصر والبسيط كله محرث2 يعمه النيل بفيضه والقرى فيه يمينا وشمالا لا تحصى كثرة. ثم في اليوم الثاني وهو يوم الإثنين أجزنا النيل بموضع يعرف بصا في مركب تعدية3 واتصل سيرنا إلى موضع يعرف ببرمة فكان مبيتنا بها وهي قرية كبيرة فيها السوق وجميع المرافق. ثم بكرنا منها يوم الثلاثاء وهو يوم عيدالنحر من سنة ثمان وسبعين وخمسمائة المؤرخة فشاهدنا الصلاة بموضع يعرف بطندتة4 وهي من القرى الفسيحة الأهلة فأبصرنا بها مجمعا حفيلا وخطب الخطيب بخطبة بليغة جامعة واتصل سيرنا إلى موضع يعرف بسبك وكان مبيتنا بها. واجتزنا في ذلك اليوم على موضع حسن يعرف بمليج والعمارة متصلة والقرى منتظمة في طريقنا كلها ثم بكرنا منها يوم الأربعاء بعده. فمن أحسن بلد مررنا عليه موضع يعرف بقليوب على ستة أميال من القاهرة فيه الأسواق الجميلة ومسجد جامع كبير حفيل البنيان ثم بعده المنبة وهو موضع أيضا حفيل ثم منها إلى القاهرة وهي مدينة السلطان الحفيلة المتسعة ثم منها إلى مصر المحروسة. وكان دخولنا فيها إثر صلاة العصر من يوم الأربعاء وهو الحادي عشر من ذي الحجة المذكور والسادس من ابريل عرفنا الله فيها الخير والخيرة وتمم علينا صنعه الجميل بالوصول إلى الغرض المأمول ولا اخلانا من التسير والتهسيل بعزته وقرته إنه على ما يشاء قدير.

_ 1 مسور: محاط بسور. أفيح: واسع. 2 المحرث: الأرض المحروثة. 3 تعدية: أي نقل من مكان إلى آخر. 4 طندته: هي طنطا اليوم.

وفي يوم الأربعاء المذكور أجزنا القسم الثاني من النيل في مركب تعدية أيضا بموضوع يعرف بدجوة وذلك وقت الغداة الصغرى وكان نزولنا في مصر بفندق أبي الثناء في زقاق القناديل بمقربة من جامع عمرو بن العاص رضى الله عنه في حجرة كبيرة على باب الفندق المذكور.

ذكر مصر والقاهرة وبعض آثارها العجيبة

ذكر مصر والقاهرة وبعض آثارها العجيبة فأول ما بندأ بذكره منها الآثار والمشاهد المباركة التي ببركتها يمسكها الله عز وجل: فمن ذلك المشهدالعظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وهو في تابوت فضة مدفون تحت الأرض قد بنى عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الادراك به مجلل بأنواع الديباج محفوف بأمثال العمد الكبار شمعا أبيض ومنه ما هو دون ذلك قد وضع أثكرها في أتوار1 فضة خالصة ومنها مذهبة وعلقت عليه قناديل فضة وحف أعلاه كله بأمثال التفافيح ذهبا في مصنع2 شبيه الروضة يقيد الأبصار حسنا وجمالا فيه من أنواع الرخام المجزع الغريب الصنعة البديع الترصيع ما لايتخليله المتخيلون ولا يلحق ادنى وصفه الواصفون. والمدخل إلى هذه الروضة على مسجد على مثالها في التأنق والغرابة حيطانه كلها رخام على الصفة المذكورة وعن يمين الروضة المذكورة وشمالها بيتان من كليهما المدخل إليها وهما أيضا على تلك الصفة بعينها. والأستار البديعة الصنعة من الديباج معلقة على الجميع.

_ 1 أتوار: الواحد تور: الشمعدان. 2 المصنع: المبنى قصرا كان أو حصنا.

ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا إلى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل شديد السواد والبصيص يصف الأشخاص1 كلها كأنه المرآة الهندية الحديثة الصقل وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك واحداقهم به وانكبابهم عليه وتمسحهم بالكسوة التي عليه وطوافهم حوله مزدحمين داعين باكين متوسلين إلى الله سبحانه ببركة التربة المقدسة ومتضرعين ما يذيب الاكباد ويصدع الجماد والأمر فيه أعظم ومرأى الحال اهول نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم. وانما وقع الالماع بنبذة من صفته مستدلا على ما وراء ذلك إذ لاينغي لعاقل أن يتصدى لوصفه لأنه يقف موقف التقصير والعجز وبالجملة فما أظن في الوجود كله مصنعا أحفل منه ولا مرأى من البناء أعجب ولا أبدع قدس الله العضو الكريم الذي فيه بمنه وكرمه. وفي ليلة اليوم المذكور بتنا بالجبانة المعروفة بالقرافة وهي أيضا إحدى عجائب الدنيا لم تحتوى عليه من مشاهدا الأنبياء صلوات الله عليهم وأهل البيت رضوان الله عليهم والصحابة والتابعين والعلماء والزهاد والأولياء ذوى الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة. وإنما ذكرنا منها ما أمكنتنا مشاهدته فمنها قبر ابن النبي صالح وقبر روبيل بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم أجمعين وقبر آسية أمرأة فرعون رضى الله عنها ومشاهد أهل البيت رضى الله عنهم أجمعين مشاهد أربعة عشر من الرجال وخمس من النساء وعلى كل واحد منها بناء حفيل فهي بأسرها روضات بديعة الاتقان عجيبة البنيان قد وكل بها قومه يسكنون فيها ويحفظونها. ومنظرها منظر عجيب والجرايات متصلة لقوامها في كل شهر.

_ 1 البصيص: اللمعان. أراد يعكس.

ذكر مشاهد أهل البيت رضى الله عنهم

ذكر مشاهد أهل البيت رضى الله عنهم مشهد علي بن الحسين بن علي رضي الله عنه ومشهدان لابني جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنهم ومشهد القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين المذكور رضي الله عنهم، ومشهدان لابنيه الحسن والحسين رضى الله عنهما ومشهد ابنه عبد الله بن القاسم رضى الله عنه ومشهد ابنه يحيى بن القاسم ومشهد علي ابن عبد الله بن القاسم رضي الله عنهم ومشهد اخيه عيسى بن عبد الله رضى الله عنهما ومشهد يحيى بن الحسن بن زيد بن الحسن رضى الله عنهم ومشهد محمد بن عبد الله بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين ابن علي رضي الله عنهم ومشهد جعفر بن محمد من ذرية علي بن الحسين رضي الله عنهم وذكر لنا إنه كان ربيب مالك رضي الله عنه.

مشاهد الشريفات العلويات رضي الله عنهم

مشاهد الشريفات العلويات رضي الله عنهم مشهد السيدة أم كلثوم ابنة القاسم بن محمد بن جعفر رضي الله عنهم ومشهد السيدة زينب ابنة يحيى بن زيد ابن علي بن الحسين رضي الله عنهم ومشهد أم كلثوم ابنة محمد بن جعفر الصادق رضي الله عنهم ومشهد السيدة أم عبد الله بن القاسم بن محمد رضى الله عنهم. وهذا ذكر ما حصله العيان من هذه المشاهد العلوية المكرمة وهي أكثر من ذلك وأخبرنا أن في جملتها مشهدا مباركا لمريم ابنة لعلى بن أبي طالب رضي الله عنه وهو مشهور لكنا لم نعاينه. وأسماء أصحاب هذه المشاهد المباركة إنما تلقيناها من التواريخ الثابتة عليها مع تواتر الأخبار بصحة ذلك والله أعلم بها وعلى كل واحد منها بناء حفيل فهي باسرها روضات بديعة الاتقان عجيبة

البنيان قد وكل بها قومة يسكنون فيها ويحفظونها ومنظرها منظر عجيب والجرايات متصلة لقوامها في كل شهر.

ذكر مشاهد بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر مشاهد بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرافة المذكورة ومشاهد التابعين والأئمة والعلماء والزهاد والأولياء المشتهرين بالكرامات رضى الله عنهم أجمعين والمقيد1 يبرا من القطع بصحة ذلك وإنما رسم من اسمائهم ما وجده مرسوما في تواريخها وبالجملة فالصحة غالية لا يشك فيها إن شاء الله عز وجل: مشهد معاذ بن جبل رضي الله عنه مشهد عقبة بن عامر الجهني حامل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهد صاحب برده صلى الله عليه وسلم مشهد أبي الحسن صائغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهد سارية الجبل رضي الله عنه مشهد محمد بن أبي بكر الصديق رضى الله عنهما مشهد اولاده رضي الله عنهم مشهد أحمد بن أبي بكر الصديق رضى الله عنه مشهد أسماء ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما مشهد ابن للزبير بن العوام رضي الله عنهما مشهد عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهد ابن حليمة رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 1 المقيد: أي الكاتب، يريد نفسه.

مشاهدالأئمة العلماء الزهار رضي الله عنهم أجمعين

مشاهدالأئمة العلماء الزهار رضي الله عنهم أجمعين مشهد الإمام الشافعي رضي الله عنه وهو من المشاهد العظيمة احتفالا واتساعا وبنى بازائه مدرسة لم يعمر بهذه البلاد مثلها لا اوسع مساحة ولا أحفل بناء يخيل لمن يتطوف عليها أنها بلد مستقل بذاته بازائها الحمام إلى

غير ذلك من مرافقها والبناء فيها حتى الساعة والنفقة عليها لا تحصى تولى ذلك بنفسه الشيخ الإمام الزاهد العالم المعروف بنجم الدين الخبوشاني وسلطان هذه الجهات صلاح الدين يسمح له بذلك كله ويقول زد احتفالا وتأنقا وعلينا القيام بمؤنة ذلك كله فسبحان الذي جعله صلاح دينه كاسمه. ولقينا هذا الرجل الخبوشاني المذكور تبركا بدعائه لأنه قد كان ذكر لنا أمره بالأندلس فألفيناه في مسجده بالقاهرة وفي البيت الذي يسكنه داخل المسجد المذكور وهو بيت ضيق الفناء فدعا لنا وانصرفنا ولم نلق من رجال مصر سواه. مشهد المزني صاحب الإمام الشافعي رضى الله عنه مشهد اشهب صاحب مالك رضي الله عنه مشهد عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك رضي الله عنهما مشهداصبغ صاحب مالك رضي الله عنهما مشهد القاضي عبد الوهاب رضي الله عنه مشهد عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن عبد لله بن عبد الحكم رضي الله عنهما مشهدالفقيه الواعظ الزاهد أبي الحسن الدينوري رضي الله عنه مشهد بنان العابد رضي إله عنه مشهد الرجل الصالح العابد الزاهد المعروف بصاحب الابريق وقصته عجيبة في لكرامة مشهد أبي مسلم الخولاني رضي الله عنه مشهدالمراة الصالحة المعروفة بالعيناء رضي الله عنها مشهد الرزذباري رضي الله عنه مشهد محمد ابن مسعود بن محمد بن هارون الرشيد المعروف بالسبتي رضي الله عنه مشهد الرجل الصالح مقبل الحشي رضي الله عنه مشهد ذي النون بن إبراهيم المصري رضي الله عنه مشهدالقاضي الانباري قبر الناطق الذي سمع عند وضعه في لحده يقول اللهم انزلني منزلا مباركا وانت خير المنزلين رضي الله عنه مشهدالعروس ولها اثر من الكرامة في حال جلوتها على زوجها لم يسمع أعجب منه ومشهد الصامت الذي يحكى عنه إنه لم يتكلم أربعين سنة مشهد العصافيري مشهد عبد العزيز بن أحمد بن علي بن الحسن الخوارزمي مشهدالفقيه الواعظ الأفضل الجوهري ومشاهد أصحابه بازائه رضي الله عنهم أجمعين مشهد شقران

شيخ ذي النون المصري مشهدالرجل الصالح المعروف بالاقطع المغربي مشهدالمقرئ ورش مشهدالطبري مشهد شيبان الراعي. والمشاهد الكريمة بها أكثر من أن تضبط بالتقييد أو تتحصل بالإحصاء وإنما ذكرنا هنا ما أمكنتنا مشاهدته ويقبلة القرافة المذكورة بسيط متسع يعرف بموضع قبرو الشهداء وهم الذين استشهدوا مع سارية رضي الله جميعهم والبسيط المذكور مسنم كله للعيان على مثال أسنمة1 القبور دون بناء. ومن العجب أن القرافة المذكورة كلها مساجد مبنية ومشاهد معمورة يأوى إليها الغرباء والعلماء والصلحاء والفقراء والاجراء على كل موضع منها متصل من قبل السلطان في كل شهر والمدارس التي بمصر والقاهرة كذلك وحقق عند نا أن الاجراء على ذلك كله نيف على الفي دينار مصرية في الشهر وهي أربعة آلاف دينار مؤمنية. وذكر لنا أن لجامع عمرو بن العاص بمصر من الفائد نحو الثلاثين دينارا مصرية في كل يوم تتفرق في مصالحه ومرتبات قومته وسدنته2 وأئمته والقراء فيه. ومما شاهدناه بالقاهرة أربعة جوامع حفيلة البنيان أنيقة الصنعة لي مساجد عدة. وفي أحد الجوامع الخطبة اليوم ويأخذ الخطيب فيها مأخذ سني يجمع فيها الدعاء للصحابة رضي الله عنهم وللتابعين ومن سواهم ولأمهات المؤمنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولعميه الكريمين حمزة والعباس رضي الله عنهما ويلطف الوعظ ويرقق التذكير حتى تخشع القلوب القاسية وتتفجر العيون الجامدة وياتي للخطبة لابسا السواد على رسم العباسية. وصفة لباسه يردة سوداء عليها طيلسان شرب3 أسود وهو الذي يسمى بالمغرب الإحرام،

_ 1 الأسنمة هنا: ما يرفع أو يبنى فوق القبر. 2 السدنة، الواحد سادن: خادم المسجد أو المعبد. 3 الشرب: نوع الحرير.

وعمامة سوداء متقلدا سيفا وعند صعوده المبر يضرب بنعل سيفه المبنر في أول ارتقائه ضربة يسمع بها الحاضرين كأنها إيذان بالانصات وفي توسطه أخرى وفي انتهاء صعوده ثالثة ثم يسلم على الحاضرين يمينا وشمالا ويقف بين رايتين سوداوين فيهما تجزيع بياض قد ركزتا في أعلى المنبر. ودعاؤه في هذا التاريخ للإمام العباسي أبي العباس أحمد الناصر لدين الله ابن الإمام أبي محمد الحسن المستضيء بالله ابن الإمام أبي المظفر يوسف المستنجد بالله ثم لمحيي دولته أبي المفظر يوسف بن أيوب صلاح الدين ثم لاخيه ولي عهده أبي بكر سيف الدين1.

_ 1 الملك العادل.

قلعة القاهرة

قلعة القاهرة وشاهدنا أيضا بنان القلعة وهو حصن يتصل بالقاهرة حصين المنعة يريدالسلطان أن يتخذه موضع سكناه ويمد سوره حتى ينتظم بالمدنتين مصر والقاهرة والمسخرون في هذا البنيان والمتولون لجميع امتهاناته ومؤنته العظيمة كنشر الرخام ونحت الصخور العظام وحفر الخندق المحدق بسور الحصن المذكور وهو خندق ينقر بالمعأول نقرا في الصخر عجبا من العجائب الباقية الآثار العلوجا الأسرى من الروم وعددهم لا يحصى كثرة ولا سبيل أن يمتهن في ذلك البنيان أحد سواهم. وللسلطان أيضا بمواضع أخر بنيان والاعلاج يخدمون فيه ومن يمكن استخدامه من المسلمين في مثل هذه المنفعة العامة مرفه عن ذلك كله ولا وظيفة في شيء من ذلك على أحد.

مستشفى المجانين

مستشفى المجانين ومما شاهدناه أيضا من مفاخر هذا السلطان المارستان الذي بمدينة القاهرة وهو قصر من القصور الرائقة حسنا واتساعا ابرزه لهذه الفضيلة تاجرا واحتسابا1 وعين قيما من أهل المعرفة وضع لديه خزائن العقاقير ومكنه من استعمال الأشربة واقماتها على اخلاتف أنواعها ووضعت في مقاصر ذلك القصر أسرة يتخذها المرضى مضاجع كاملة الكسى وبين يدي ذلك القيم خدمة يتكلفون بتفقد أحوال المرضى بكرة وعشية فيقابلون من الأغذية والاشربة بما يليق بهم. وبإزاء هذا الموضع موضع مقتطع للنساء المرضى ولهن أيضا من يكلفهن ويتصل بالموضعين المذكورين موضع آخر متسع الفناء فيه مقصاير عليها شبيابيك الحديد اختذت محابس للمجانين. ولهم أيضا من يتفقد في كل يوم أحوالهم ويقابلها بما يصلح لها والسلطان يتطلع هذه الأحوال كلها بالبحث والسؤال ويؤكد في الاعتناء بها والمثابرة عليها غاية التأكيد. وبمصر مارستان آخر على مثل ذلك الرسم بعينه.

_ 1 تأجرا واحتسابا: أي طلبا للأجر.

مسجد ابن طولون

مسجد ابن طولون وبين مصر والقاهرة المسجد الكبير المنسوب إلى أبي العباس أحمد بن طولون وهو من الجوامع العتيقة الأنيقة الصنعة الواسعة البنيان جعله السلطان مأوى للغرباء من المغاربة يسكنونه ويحلقون فيه2 وأجرى عليهم الأرزاق في كل شهر. ومن أعجب ما حدثنا به أحد المتخصصين منهم أن السلطان جعل أحكامهم إليهم

_ 2 يحلقون: يعقدون حلقات الدرس.

ولم يجعل يدا لأحد عليهم فقدموا من أنفسهم حاكما يمتثلون أمره ويتحاكمون في طوارئى أمروهم عنده واستصحبوا الدعة والعافية وتفرغوا لعبادة ربهم ووجدوا من فضل السلطان أفضل معين على الخير الذي هم بسبيله.

مآثر السلطان ومفاخره

مآثر السلطان ومفاخره وما منها جامع من الجوامع ولا مسجد من المساجد ولا روضة من الروضات المبنية على القبور ولا محرس من المحارس ولا مدرسة من المدارس إلا وفضل السلطان يعم جميع من ياوى إليها ويلزم السكنى فيها تهون عليه في ذلك نفقات بيوت الأموال. ومن مآثره الكريمة المعربة عن اعتنائه بأمور المسلمين كافة إنه أمر بعمارة محاضر1 ألزمها معلمين لكتاب الله عز وجل يعلمون أبناء الفقراء والأيتام خاصة وتجرى عليهم الجراية الكافية لهم. ومن مفاخر هذا السلطان واثاره الباقية المنفعة للمسلمين القناطر التي شرع في بنائها بغربي مصر وعلى مقدار سبعة أميال منها بعد رصيف ابتدئ به من حيز النيل بإزاء مصر كأنه جبل ممدود على الأرض تسير فيه مقدار ستة أميال حتى يتصل بالقنطرة المذكورة وهي نحو الأربعين قوسا من أكبر ما يكون من قسى القناطر والقنطرة متصلة بالصحراء التي يفضى منها إلى الاسكندرية، له في ذك تدبير عجيب من تدابير الملوك الحزمة اعدادا لحادثة تطرا من عدو يدهم جهة ثغر الإسكندرية عند فيض النيل وانغمار الأرض به وامتناع سلوك العساكر بسببه فاعد ذلك مسلكا في كل وقت أن احتيج إلى ذلك والله يدفع عن حوزة المسلمين كل متوقع ومحذور بمنه.

_ 1 المحاضر: المدارس.

ولأهل مصر في شان هذه القنطرة انذار من الانذارات الحدثانية1 يرون أن حدوثها ياذان باستيلاء الموحدين2 عليها وعلى الجهات الشرقية والله أعلم بغيبه إلا إله سواه.

_ 1 الحدثانية: نسبة إلى حدثان الدهر، وهي حوادثه وتقلباته. 2 الموحدون: الأسرة التي حكمت المغرب من 515- 668 هـ، واستولت على الأندلس.

معجزة البناء

معجزة البناء وبمقربة من هذه القنطرة المحدثة الاهرام القديمة المعجزة البناء الغريبة المنظر المربعة الشكل كأنها القباب المضروبة قد قامت في جو السماء ولا سيما الاثنان منها فانهما يغص الجو بهما سموا في سعة ألواح د منها من أحد اركانه إلى الركن الثاني ثلثمائة خطوة وست وستون خطوة. قد اقيمت من الصخور العظام المنحوتة وركبت تريكبا هائلا بديع الالصاق دون أن يتخللها ما يعين على الصاقها محددة الأطراف في رأي العين وربما امكن الصعود إليها على خطر ومشقة فتلقى اطرافها المحددة كأوسع ما يكون من الرحاب لو رام أهل الأرض نقض بنائها لأعجزهم ذلك. للناس في أمرها اختلاف: فمنهم من يجعلها قبورا لعاد وبنيه ومنهم من يزعم غير ذلك وبالجملة فلا يعلم شأنها إلا الله عن وجل. ولآحد الكبيرين منها باب يصمد إليه على نحو القامة من الأرض أو أزيد ويدخل منه إلى بيت كبير سعته نحو خمسين شبرا وطوله نحو ذلك وفي جوف ذلك البيت وخامة طويلة مجوفة شبه التي تسميها العامة البيلة3 يقال إنها قبر والله أعلم بحقيقة ذلك. ودون الكبير هرم سعته من الركن ألواح د إلى الكرن الثاني مائة وأربعون خطوة.

_ 3 البيلة: حوض النافورة.

ودون هذا الصغير خمسة صغار ثلاثة متصلة والاثنان على مقربة منها متصلان. وعلى مقربة من هذه الأهرام بمقدار غلوة1 صورة غريبة من حجر قد قامت كالصومعة على صفة آدمي هائل المنظر وجهه إلى الأهرام وظهره إلى القبلة مهبط النيل تعرف بأبي الأهوال. وبمدينة مصر المسجد الجامع المنسوب لعمرو بن العاص رضي الله عنه وله أيضا بالإسكندرية جامع آخر وهو مصلى الجمعة للمالكيين. وبمدينة مصر آثار من الخرب الذي أحد ثه الإحراق الحادث بها وقت الفتنة عند اتساخ دولة العبيديين2 وذلك سنة أربع وستين وخمسائة وأ كثرها الآن مستجد والبنيان بها متصل وهي مدينة كبيرة والآثار القديمة حولها وعلى مقربة منها ظاهرة تدل على عظم اختطاطها فيما سلف.

_ 1 الغلوة: المدى الذي يذهبه السهم حين يرمي به. 2 العبيديون: الفاطميون.

روضة النيل

روضة النيل وعلى شط نيلها مما يلي غربيها، والنيل مهترض بينهما، قرية كبيرة حفيلة البنيان تعرف بالجيزة. لها كل يوم أحد سوق من الأسواق العظيمة يجتمع إليها. ويعترض بينها وبين مصر جزيرة فيها مساكن حسان وعلالي مشرفة وهي مجتمع اللهو والنزهة، وبينها وبين مصر خليج من النيل يذهب بطولها نحو الميل ولها مخرج له. وبهذه الجزيرة مسجد جامع يخطب فيه. ويتصل بهذا الجامع المقياس الذي يعتبر فيه قدر زيادة النيل عند فيضه كل سنة. واستشعار ابتدائه في شهر يونيه، ومعظم انتهائه أغشت3، وآخره أول شهر أكتوبر. وهذا المقياس عمود رخام أبيض مثمن في موضع ينحصر

_ 3 أغشت: أي أغسطس، آب.

فيه الماء عند انسيابه إليه، وهو مفصل على اثنتين وعشرين ذراعا مقسمة على أربعة وعشرين قسما تعرف بالأصابع. فإذا انتهى الفيض عندهم إلى أن يستوفي الماء تسع عشرة ذراعا منغمرة فيه فهي الغاية عندهم في طيب العام. وربما كان الغامر منه كثيرا بعموم الفيض. والمتوسط عندهم ما استوفى سبع عشرة ذراعا، وهو الأحسن عندهم من الزيادة المذكورة. والذي يستحق به السلطان خراجه في بلاد مصر ست عشرة ذراعا فصاعدا، وعليها يعطى البشارة الذي يراعي الزيادة في كل يوم والزيادة في أقسام الذراع المذكورة ويعلم بها مياومة حتى تستوفي الغاية التي يقضي بها وإن قصر عن ست عشرة ذراعا فلا مجبي للسلطان في ذلك العام ولا خراج. وذكر لنا أن بالجيزة المذكورة قبر كعب الأحبار رضي الله عنه وفي صدر الجيزة المذكورة أحجار رخام قد صورت فيها التماسيح فيقال: إن بسببها لا تظهر التماسيح فيما يلي البلد من النيل مقدار ثلاثة أميال علوا وسفلا والله أعلم بحقيقة ذلك.

عدل صلاح الدين

عدل صلاح الدين ومن مفاخر هذا السلطان المزلفة1 من الله تعالى وآثاره التي أبقاها ذكرا جميلا للدين والدنيا: إزالته رسم المكس المضروب وظيفة على الحجاج مدة دولة العبيديين فكان الحجاج يلاقون من الضغط في استيدائها عنتا مجحفا ويسامون فيها خطة خسف باهظة وربما ورد منهم من لا فضل لديه على نفقته أو لا نفقة عنده فيلزم اداء الضريبة المعلومة وكانت سبعة دناينر ونصف دينار من الدنانير المصرية التي هي خمسة عشر دينارا مؤمنية على كل رأس،

_ 1 المزلفة: المقربة.

ويعجز عن ذلك فيتناول باليم العذاب بعيذاب1 فكانت كاسمها مفتوحة العين. وربما اخترع له من أنواع العذاب التعليق من الانثيين أو غير ذلك من الأمور الشنيعة نعوذ بالله من سوء قدره وكان نجدة امثال هذا التنكيل وأضعافه لمن لم يؤد مكسه بعيذاب ووصل اسمه غير معلم عليه علامة الأداء. فمحى هذا السلطان هذا الرسم اللعين ودفع عوضا منه ما يقوم مقامه من اطعمة وسواها وعين مجبي موضع معين بأسره لذلك وتكفل بتوصيل جميع ذلك إلى الحجاز لأن الرسم المذكور كان باسم ميرة مكة والمدينة عمرهما الله فعوض من ذلك أجمل عوض وسهل السبيل للحجاج وكانت في حيز الانقطاع وعدم الاستطلاع وكفى الله المؤمنين على يدي هذا السلطان العادل حادثا عظيما وخطبا إليما فترتب الشكر له على كل من يعتقد من الناس أن حج لبيت الحرام إحدى القواعد الخمس من الإسلام حتى يعم جميع الافاق ويوجب الدعاء له في كل صقع من الاصقاع وبقعة من البقاع والله من وراء مجازاة المحسنين وهو جلت قدرته لا يضيع أجر من أحسن عملا. إلى مكوس كانت في البلاد المصرية وسواها ضرائب على كل ما يباع ويشترى مما دق أو جل حتى كان يؤدي على شرب ماء النيل المكس فضلا عما سواه فمحى هذا السلطان هذه البدع اللعينة كلها وبسط العدل ونشر الأمن ومن عدل هذا السلطان وتأمينه للسبل أن الناس في بلاده لا يخلعون لباس الليل تصرفا فيما يعنيهم ولا يستشعرون لسواده هيبة تثنيهم على مثل ذلك شاهدنا أحوالهم بمصر والإسكندرية حسبما تقدم ذكره.

_ 1 عيذاب: مدينة سيأتي ذكرها.

شهر المحرم سنة تسع وسبعين1 عرفنا الله يمنها وبركتها استهل هلاله ليلة الثلاثاء وهو اليوم السادس والعشرون من أبريل ونحن بمصر يسر الله عينا مرامنا. وفي صبيحة يوم الأحد السادس من محرم المذكور كان انفصالنا من مصر وصعودنا في النيل على الصعيد قاصدين إلى قوص عرفنا الل عادته الجميلة من التيسير وحسن المعونة بمنه، ووافق يوم اقلاعنا المذكور أول يوم من مايه2 بحول الله عز وجل والقرى في طريقنا متصلة في شطى النيل والبلاد الكبار حسبما ياتي ذكره أن شاء الله. فمنها قريبة تعرف بأسكر3 في الضفة الشرقية من النيل مباشرة للصاعد فيه ويذكر أن فيها كان مولد النبي موسى الكليم صلى الله على نبينا وعليه ومنها ألقته أمه في اليم وهو النيل حسبما ذكر. وعاينا أيضا بغربي النيل ميامنا لنا وذلك كله يوم اقلاعنا المذكور وفي الثاني منه المدينة القديمة المنسوبة ليوسف الصديق4 صلى الله عليه وسلم وبها موضع السجن الذي كان فيه وهو الآن ينقض وينقل احجاره إلى القلعة المتبناة الآن على القاهرة وهو حصن حصين المنعة. وبهذه المدينة المذكورة مخازن الطعام التي اختزنها يوسف صلى الله عليه وسلم وهي مجوفة على ما يذكر. ومنها الموضع المذكور بمنية ابن الخصيب وهو بلد على شط النيل ميامنا للصاعد فيه كبير فيه الأسواق والحمامات وسائر مرافق المدن اجتزنا عليه ليلة

_ 1 قوله 79 أي 579 هـ 1183م. 2 مايه: شهر مايو، أيار. 3 أسكر: قرية بينها وبين الفسطاط يومان. 4 المدينة القديمة المنسوبة ليوسف الصديق هي بوصير.

الأحد الثالث عشر لمحرم المذكور وهو الثامن من يوم إقلاعنا من مصر لأن الريح سكنت عنا فتربصنا في الطريق. ولو ذهبنا إلى رسم كل موضع يعترضنا في شطى النيل يمينا وشمالا لضاق الكتاب عنه لكن نقصد من ذلك إلى الأكبر الأشهر. وقابلنا على مقربة من هذا الموضع مياسرا لنا المسجد المبارك المنسوب لإبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه وعلى نبينا وهو مسجد مذكور مشهور معلوم بالبركة مقصود ويقال إن بفنائه أثر الدابة التي كان يركبها الخيل صلى الله عليه وسلم. ومنها موضع يعرف بأنصنا مياسرا لنا وهي قرية فسيحة جميلة بها آثار قديمة وكانت في السالف مدينة عتيقة وكان لها سور عتيق هدمه صلاح الدين وجعل على كل مركب منحدر في النيل وظيفة من حمل صخرة إلى القاهرة فنقل باسره إليها. وفي صبيحة يوم الإثنين الرابع عشر من محرم المذكور وهو التاسع من اقلاعنا من مصر اجتزنا بالجبل المعروف بجبل المقلة وهو بالشط الشرقي من النيل مياسرا للصاعد فيه وهو نصف الطريق إلى قوص من مصر إليه ثلاثة عشر بريدا ومنه إلى قوص مثلها. وما يجب ذكره على جهة التعجب أن من حيز مصر في شط النيل الشرقي مياسرا للصاعد فيه حائطا متصلا قديم البنيان منه ما قدتهدم ومنه ما بقى اثره يتمادى على الشط المذكور إلى اسوان آخر صعيد مصر وبين أسوان وبين قوص ثمانية برد والاقوال في أمر هذا الحائط تتشعب وتختلف وبالجملة فشأنه عجيب ولا يعلم سره إلا الله عز وجل وهو يعرف بحائط العجوز ولها خسر مذكور اظن هذه العجوز هي الساحرة المذكور خبرها في المسالك والممالك التي كانت لها المملكة بها مدة1.

_ 1 في الخرافات العربية أن العجوز هي دلوكة بنت ليا، وخبرها أنه لما أغرق الله فرعون وقومه بعد خروج موسى، عليه السلام، بقيت مصر وليس فيها من اشراف أهلها أحد، ولم يبق إلا العبيد والأجراء والنساء. فأعظم أشراف النساء أن يولين أحدا من العبيد والأجراء، وأجمع رأيهن أن يولين دلوكة، وكان لها عقل ومعرفة، وقد بلغت يومئد مائة عام أو أكثر، فملكوها. فخافت أن يغزوها ملوك الأرض إذا علموا قلة رجالها، فبنت على النيل بناء أحاطت به على جميع ديار مصر، وجعلت دونه خليجا يجري فيه الماء وعليه القناطر، وهذا البناء هو حائط العجوز.

ذكر ما استدرك خبره مما كان غفل

ذكر ما استدرك خبره مما كان غفل وذلك أنا لما حللنا الإسكندرية في الشهر المؤرخ أولا عاينا مجتمعا من الناس عظيما برزوا لمعاينة أسرى من الروم أدخلوا البلد راكبين على الجمال ووجوهمم إلى أذنابها وحولهم الطبول والأبواق فسألنا عن قصتهم فأخبرنا بأمر تتفطر له الأكباد إشفاقا وجزعا. وذلك أن جملة من نصارى الشام اجتمعوا وأنشأو مراكب في أقرب المواضع التي لهم من بحر القلزم1 ثم حملوا انقاضها على جمال العرب المجاورين لهم بكراء اتفقوا معهم عليه فلما حصلوا بساحل البحر سمروا مراكبهم وأكملوا انشاءها وتأليفها وفدعوها في البحر وركبوها قاطعين بالحجاج وانتهوا إلى بحر النعم2 فاحرقوا فيه نحو ستة عشر مركبا. وانتهبوا إلى عيذاب فأخذ وا فيه مركبا كان ياتي بالحجاج من جدة وأخذ وا أيضا في البر قافلة كبيرة تأتي من قوص إلى عيذاب وقتلوا الجميع ولم يحيوا أحد اوأخذ وا مركبين كانا مقبلين بتجار من اليمن واحرقوا اطعمة كثيرة على ذلك السالحل كانت معدة لميرة مكة والمدينة اعزهما الله واحدثوا حوادث شنيعة لم يسمع مثلها في الإسلام ولا انتهى رومي إلى ذلك الموضع قط. ومن اعظمها حادثة تسد المسامع شناعة وبشاعة وذلك أنهم كانوا عازمين على دخول مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخراجه من الضريح المقدس.

_ 1 بحر القلزم: البحر الأحمر. 2 لا ذكر لهذا البحر بين البحور ولعل اسمه محرف.

أشاعوا ذلك وأجروا ذكره على ألسنتهم فأخذ هم الله باجترائهم عليه وتعاطيهم ما يحول عناية القدر بينهم وبينه. ولم يكن بينهم وبين المدينة أكثر من مسيرة يوم فدفع الله عاديتهم بمراكب عمرت1 من مصر والإسكندرية دخل فيها الحاجب المعروف بلؤلؤ مع أنجاد من المغاربة البحريين فلحقوا بالعدو وهو قد قارب النجاة بنفسه فأخذ وا عن آخرهم وكانت آية من آيات العنايات الجبارية وأدركوهم عن مدة طويلة كانت بينهم من الزمان نيف على شهر ونصف أو حوله وقتلوا واسروا وفرق من الاسارى على البلاد ليقتلوا بها ووجه منهم إلى مكة والمدينة وكفى الله بجميل صنعه الإسلام والمسلمين أمرا عظيما والحمد لله رب العالمين.

_ 1 عمرت: جهزت.

رجع الذكر

رجع الذكر رجع الذكر ومن المواضع التي اجتزنا عليها في الصعيد بعد جبل المقلة الذي ذكرنا إنه نصف الطريق من مصر إلى قوص حسبما تقدم ذكره موضع يعرف بمنلفوط بمقربة من الشط الغربي ميمنا للصاعد في النيل فيه الأسواق وسائر ما يحتاج إليه من المرافق في نهاية من الطيب ليس في الصعيد مثلها وقمحها يجلب إلى مصر لطيبه ورزانة حبته قد اشتهر عنهم بذلك فالتجار يصعدون في المراكب لاستجلابه. ومنها مدينة اسيوط وهي من مدن الصعيد الشهيرة بينها وبين الشط الغربي من النيل مقدار ثلاثة أميال وهي جميلة المنظر حولها بساتين النخل وسورها سور عتيق. ومنها موضع يعرف بأبي تيج وهو بلد فيه الأسواق وسائر مرافق المدن وهو في الشط الغربي من النيل. ومنها مدينة اخيم وهي أيضا من مدن الصعيد الشهيرة المذكورة بشرقي

النيل وبشطه قديمة الاختطاط عتيقة الوضع فيها مسجد ذي النون المصري ومسجد داود أحد الصالحين المشتهرين بالخير والزهادة وهما مسجدان موسومان بالبركة دخلنا إليهما متبركين بالصلاة فيهما وذلك يوم السبت التاسع عشر المحرم المذكور. وبهذه المدينة المذكورة اثار ومصانع من بنيان القبط وكنائس معمورة إلى الآن بالمعاهدين من نصارى القبط. ومن أعجب الهياكل المتحدث بغرائبها في الدنيا هيكل عظيم في شرقي المدينة المذكورة وتحت سورها طوله مائتا ذراع وشعرون ذراعا وسعته مائة وستون ذراعا يعرف عند أهل هذه الجهة بالبربا1 وكذلك يعرف كل هيكل عندهم وكل مصنع قديم. قد قام هذا الهيكل العظيم على أربعين سارية حاشى حيطانه دور كل سارية منها خمسون شبرا وبين كل سارية وسارية ثلاثون شبرا ورؤوسها في نهاية من العظم والاتقان قد نحتت نحتا غريبا فجاءت مركنة2 بديعة الشكل كأن الخراطين تناولوها وهي كلها مرقشة بأنواع الاصبغة اللازوردية3 وسواها. والسوارى كلها منقوشة من أسفلها إلى أعلاها وقد انتصب على رأس كل سارية منها إلى راس صاحبتها التي تليها لوح عظيم من الحجر المنحوت من أعظمها ما كلنا فيه ستة وخسمين شبرا طولا وعشرة أشبار عرضا وثمانية أشبار ارتفاعا. وسقف هذا الهيكل كله من ألواح الحجارة المنتظمة ببديع الالصاق فجاءت كأنها فرش واحد وقد انتظمت جميعه التصاوير البديعة والاصبغة الغريبة حتى يخيل للناظر فيها أنها سقف من الخشب المنقوش. والتصاوير على أنواع في كل بلاط من بلاطاته فمنها ما قد جللته طيور بصور رائقة باسطة اجنحتها توهم الناظر إليها أنها تهم بالطيران ومنها ما

_ 1 البربا: كلمة مصرية قديمة معناها المقبرة. 2 مرمنة: ذات أركان. 3 اللازردية: الزرقاء في خضرة.

قد جللته تصاوير آدمية رائقة المنظر رائعة الشكل قد اعدت لكل صورة منها هيئة هي عليها كامساك تمثال بيدها أو سلاح أو طائر أو كأس أو إشارة شخص إلى آخر بيده أو غير ذلك مما يطول الوصف له ولا تتأتى العبارة لاستيفائه. وداخل هذا الهيكل العظيم وخارجه وأعلاه وأسفله تصاوير كلها مختلفات الأشكال والصفة منها تصاوير هائلة المنظر خارجة عن صور الادميين يستشعر الناظر إليها رعبا ويتملأ منها عبرة وتعجبا ومافيه مغرز إشفا1 ولا إبرة إلا وفيه صورة أو نقش أو خط بالمسند2 لا يفهم قد عم هذا الهيكل العظيم الشأن كله هذا النقش البديع ويتأتى في صم الحجارة من ذلك ما لا يتأتى في الرخو من الخشب فيحسب الناظر استعظاما له أن عمر الزمان لو شغل بترقيشه وترصيعه وتزيينه لضاق عنه فسبحان الموجد للعجائب لا إله سواه. وعلى أعلى هذا الهيكل سطح مفروش بألواح الحجارة العظيمة على الصفة المذكورة وهو في نهاية الارتفاع فيحار الوهم فيها ويضل العقل في الفكرة في تطليعها ووضعها. وداخل هذا الهيكل من المجالس والزوايا والمداخل والمخارج والمصاعد والمعارج والمسارب والموالج وما تضل فيه الجماعات من الناس ولا يهتدى بعضهم لبعض إلا بالنداء العالي وعرض حائطه ثمانية عشر شبرا وهو كله من حجارة مرصوصة على الصفة التي ذكرناها. وبالجملة فشأن هذا الهيكل عظيم ومرآه إحدى عجائب الدنيا التي لا يبلغها الوصف ولا ينتهي إليها الحد وإنما وقع الالماع بنبذة من وصفه دلالة عليه،

_ 1 الإشفى: المثقب أو المخرز. 2 أراد بالخط المسند الهيروغليفي.

والله المحيط بالعلم فيه والخبير بالمعنى الذي وضع له فلا يظن المتصفح لهذا المكتوب أن في الأخبار عنه بعض غلو فإن كل مخبر عنه لو كان قسا بيانا أو سحبانا1 يقف موقف العجز والتقصير والله المحيط بكل شيء علما لا إله سواه.

_ 1 هما قس بن ساعدة، وسحبان وائل.

مواقف خزي ومهانة

مواقف خزي ومهانة وببلاد هذا الصعيد المعترضة في الطريق للحجاج والمسافرين كاخميم وقوص ومنيه ابن الحصيب من التعرض لمراكب المسافرين وتكشفها والبحث عنها وإدخال الايدي إلى اوساط التجار فحصا عما تأبطوه أو احتضنوه من دراهم أو دنانير ما يقبح سماعه وتستشنع الاحدوثة عنه كل ذلك برسم الزكاة دون مراعاة لمحلها أو ما يدرك النصاب منها حسبما ذكرناه في ذكر الإسكندرية من هذا المكتوب. وربما الزموهم الإيمان على ما بأيديهم وهل عندهم غير ذلك ويحضرون كتاب الله العزيز يقع اليمين عليه فيقف الحجاج بين أيدي هؤلاء المتناولين لها مواقف خزى ومهانة تذكرهم أيام المكوس. وهذا أمر يقع القطع على أن صلاح الدين لا يعرفه ولو عرفه لامر بقطعه كما أمر بقطع ما هو أعظم منه ولجاهد المتنأول له فان جهادهم من الواجبات لما يصدر عنهم من التعسف وعسير الأرهاق وسوء المعاملة مع غرباء انقطعوا إلى الله عز وجل وخرجوا مهاجرين إلى حرمه الامين، ولو شاء الله لكانت هذه الخطة مندوحة في اقتضاء الزكاة على أجمل الوجوه من ذوي البضائع في التجارات مع مراعاة رأس كل حول الذي هو محل الزكاة وبتجنب اعتراض الغرباء المنقطعين ممن تجب الزكاة له لا عليه وكان يحافظ على جانب هذا السلطان العادل الذي قد

شمل البلاد عدله وسار في الافاق ذكره ولا يسعى فيما يسيء الذكر بمن قد حسن الله ذكره ويقبح المقالة في جانب من أجمل الله المقالة عنه.

أشنع ما شاهدناه

أشنع ما شاهدناه ومن اشنع ما شاهدناه من ذلك خروج شرذمة من مردة أعوان الزكاة في أيديهم المسال الطوال ذوات الأنصبة1 فيصعدون إلى المراكب استكشافا لما فيها فلا يتركون عكما ولا غرارة2 إلا ويتخللو نها بتلك المسال المعلونة مخافة أن يكون في تلك الغرارة أو العكم اللذين لا يحتويان سوى الزاد شيء غيب عليه من بضاعة أو مال وهذا اقبح ما يؤثر في الأحاديث الملعنة وقد نهى الله عن التجسس فكيف عن الكشف لما يرجى بستر الصون دونه من حال لا يريد صاحبها أن يطلع عليها اما استحقارا أو استنفاسا دون بخل بواجب يلزمه والله الأخذ على أيدي هؤلاء الظلمة بيد هذا السلطان العادل وتوفيقه أن شاء الله.

_ 1 الأنصبة: الواحد نصاب: المقبض. 2 العكم: ما يجمع ويشد به من ثوب أو سواه. والغرارة: الجوالق.

ما اجتزنا من المواضع

ما اجتزنا من المواضع ومن المواضع التي اجتزنا عليها بعد اخيم المذكورة موضع يعرف بمنشاة السودان على الشط الغربي من النيل هي قرية معمورة ويقال إنها كانت في القدم مدينة كبيرة وقد قام إمام هذه القرية بينها وبين النيل ورصيف عال من الحجارة كأنه السور يضرب فيه النيل ولا يعلوه عند فيضه ومده

فالقرية بسببه في أمن من آتيه1. ومنها موضع يعرف بالبلينة وهي قرية حسنة كثيرة النخل بالشط الغربي من الليل بينها وبين قوص أربعة برد. ومنها موضع يعرف بدشنة بالشط الشرقي من النيل وهي مدينة مصورة فيها جميع مرافق المدن وبينها وبين قوص بريدان. ومنها موضع بغربي النيل وعلى مقربة من شطه يعرف بدندرة وهي مدينة من مدن الصعيد كثيرة النخل مستحسنة المنظر مشتهرة بطيب الرطب بينها وبين قوص بريد وذكر لنا أن فيها هيكلا عظيما وهو المعروف عند أهل هذه الجهات بالبربا حسبما ذكرنا عند ذكر اخميم وهيكلها يقال إن هيكل دندرة أحفل منه وأعظم. ومنها مدينة قنا وهي من مدن الصعيد بيضاء انيقة المنظر ذات مبان حفيلة ومن مآثرها المأثروة صون نساء أهلها والتزامهن البيوت فلا تظهر في زقاق من ازقتها أمراة البتة صحت بذلك الأخبار عنهن وكذلك نساء دسنة المذكورة قبيل هذا وهذه المدينة المذكورة في الشط الشرقي من النيل وبينها وبين قوص نحو البريد. ومنها قفط وهي مدينة بشرقي النيل وعلى مقدار ثلاثة أميال من شطه وهي من المدن المذكورة في الصعيد حسنا ونظافة بنيان واتقان وضع. ثم كان الصولو إلى قوص يوم الخيمس الرابع والعشرين لمحرم المؤرخ وهو التاسع عشر من مايه فكان مقامنا في النيل ثمانية عشر يوما ودخلنا قوص في التاسع عشر. وهذه المدينة حفيلة الأسواق متسعة المرافق كثيرة الحلق لكثرة الصادر والوارد من الحجاج والتجار إليمنيين والهنديين وتجار أرض الحبشة لأنها مخطر2 للجميع ومحط للرحال ومجتمع الرفاق وملتقى الحجاج

_ 1 الأتي: السيل لا يدرى من أين أتى. 2 مخضر: مجتمع.

المغاربة والمصريين والاسكندريين ومن يتصل بهم ومنها يفوزون1 بصحراء عيذاب واليها انقلابهم في صدرهم من الحج وكان نززولنا فيها بفندق بنسب لابن العجمي بالمنية وهي ربض2 كبير خارج المدينة على باب الفندق المذكور.

_ 1 فوز: اخترق المفازة، وهي الصحراء لا ماء فيها. 2 الربض: ما حول المدينة من بيوت ومساكن.

شهر صفر عرفنا الله يمنه وبركته

شهر صفر عرفنا الله يمنه وبركته استهل هلالة ليلة الأربعاء وهو الخامس والعشرون من شهر مايه ونحن بقوص لزوم السفر إلى عيذاب يسر الله علينا مرمنا بمنه وكرمه. وفي يوم الإثنين الثالث عشر منه وهو السادس من يونيو اخرجنا جميع رحالنا من زاد وسواه إلى المبرز وهو موضع بقبلي البلد وعلى مقربة منه فسيح الساحة محدق بالنخيل يجتمع فيه رحال الحاج والتجار وتشد فيه ومنه يستقلون ويرحلون وفيه يوزن ما يحتاج إلى وزنه على الجمالين. فلما كان إثر صلاة العشاء الآخرة رفعنا منه إلى ماء يعرف بالحاجر فبتنا به وأصبحنا يوم الثلاثاء بعده مقميين به بسبب تفقد بعض الجمالين من العرب لبيوتهم وكانت على مقربة منهم وفي ليلة الأربعاء الخامس عشر منه ونحن بالحاجر المذكور خسف القمر خسوفا كليا أول الليل وتمادى إلى هدء3 منه. ثم أصبحنا يوم الأربعاء المذكور ظاعنين وقلنا4 بموضع يعرف بقلاع الضياع ثم كان المبيت بموضع يعرف بمحط اللقيطة كل ذلك في صحراء لا عمارة فيها. ثم عدونا يوم الخميس فنزلنا على ماء ينسب للعبدين ويذكر أنهما

_ 3 الهدء من الليل: الطائفة منه. 4 قال: نام القيلولة، وهي الظهر.

ماتا عطشا قبل أن يرداه فسمى ذلك الموضع بهما وقبراهما به رحمها الله ثم تزودنا منه الماء لثلاثة أيام وفوزنا سحر يوم الجمعة السابع عشر منه وسرنا في الصحراء نبيت منها حيث جن علينا الليل والقوافل العيذابية والقوصية صادرة وواردة والمفازة معمورة أمنا. فلما كان يوم الإثنين الموفى عشرين منه نزلنا على ماء بموضع يعرف بدناقش وهي بئر معينة1 يرد فيها من الانعام والأنام ما لا يحصيهم إلا الله عز وجل، ولا يسافر في هذه الصحراء إلا على الإبل لصبرها على الظماء وأحسن ما يستعمل عليها ذوو الترفيه الشقاديف2 وهي أشباه المحالم وأحسن أنواعها اليمانية لأنها كالاشاكيز3 السفرية مجلدة متسعة يوصل منها الاثنان بالحبال الوثيقة وتوضع على البعير ولها أذرع قد حفت بأركانها يكون عليها مظلة فيكون الراكب فيها مع عديله في كن4 من لفح الهاجرة ويقعد مستريحا في وطائه ومتكئا ويتناول مع عديله ما يحتاج إليه من زاد وسواه ويطالع متى شاء المطالعة في مصحف أو كتاب ومن شاء ممن يستجيز اللعب بالشطرنج أن يلاعب عديله تفكها واجماما للنفس لاعبه وبالجملة فانها مريحة من نصب السفر وأكثر المسافرين يركبون الإبل على أحمالها فيكابدون من مشقة سموم5 الحر عنتا ومشقة. وفي هذا الماء وقعت بين بعض جمالى العرب إليمنيين أصحاب طريق عيذاب وضمانها وهم من بلي من أفخاذ قضاعة6 وبين بعض الأغزاز7

_ 1 المعينة: الجارية الماء. 2 الشقاديف: المراكب. 3 الأشاكيز، الواحد أشكز: شيء كالأديم أبيض توثق به السروج. 4 الكن: الستر. 5 السموم: الريح الحارة. 6 بلي: قبيلة من قبائل قضاعة، من العرب. 7 الأغزاز، الواحد غز: جنس من الترك.

بسبب التزاحم على الماء مهاوشة كادت تفضي إلى الفتنة عصم الله منها. والقصد إلى عيذاب من قوص على طريقين: أحدهما تعرف بطريق العبدين وهي هذه التي سلكناها وهو أقصد مسافة والأخرى طريق دون قنا وهي قرية على شاطىء النيل ومجتمع هاتين الطريقين على مقربة من ماء دنقاش المذكور ولهما مجتمع آخر على ماء يعرف بشاغب إمام ماء دنقاش بيوم. فلما كان عشاء يوم الإثنين المذكور تزودنا الماء ليوم وليلة ورفعنا إلى ماء بموضع يعرف بشاغب فوردناه ضحوة يوم الأربعاء الثاني والعشرين لصفر المذكور وهذا الماء ثماد1 يحفر عليه في الأرض فتسمح به قريبا غير بعيد إلا إنه زعاق2. ثم رحلنا منه سحر يوم الخميس بعده وتزودنا الماء لثلاثة أيام إلى ماء بموضع يعرف بأمتان وتركنا طريق الماء بموضع يعرف با3 ... يسارا وليس بينه وبين شاغب غير مسافة يوم والطريق عليه وعر للإبل. فلما كان ضحوة يوم الأحد السادس والعشرين لصفر المذكور نزلنا بأمتان المذكور وفي هذا اليوم المذكور كان فراغنا من حفظ كتاب الله عز وجل له الحمد وله الشكر على ما يسر لنا من ذلك وهذا الماء بأمتان المذكور هو في بئر معينة قد خصها الله بالبركة وهو أطيب مياه الطريق وأعذبها، فيلقى فيها من دلاء الوارد مالا يحصى كثرة فتروى القوافل النازلة عليها على كثرتها وتروى من الإبل البعيدة الاظماء ما لو وردت نهار من الأنهار لأنضبته وأنزفته. ورمنا في هذه الطريق إحصاء القوافل الواردة والصادرة فما تمكن لنا ولا سيما القوافل العيذابية المتحملة لسلع الهند الواصلة إلى اليمن ثم من اليمين إلى عيذاب وأكثر ما شاهدنا من ذلك أحمال الفلفل فلقد خيل إلينا ثكرته أنه يوازى التراب قيمة. ومن عجيب ما شاهدناه بهذه الصحراء أنك

_ 1 الثماد: الماء القليل لا مادة له. 2 الزعاق: الماء المر لا يطاق شربه. 3 يعرف با....: هكذا بياض في الأصل.

تلتقى بقارعة الطريق أحمال الفلفل والقرفة وسائرها من السلع مطروحة لا حارس لها تترك بهذه السبيل إما لأعباء الإبل الحاملة لها أو غير ذلك من الأعذار وتبقى بموضعها إلى أن ينقلها صاحبها مصونة من الآفات على كثرة المار عليها من أطوار الناس. ثم كان رفعنا من أمتان المذكور صبيحة يوم الإثنين بعد الأحد المذكور. ونزلنا على ماء بموضع بعرف بمجاج بمقربة من الطريق ظهر يوم الإثنين المذكور ومنه تزودنا الماء لأربعة أيام إلى ماء بموضع يعرف بالعشراء على مسافة يوم من عيذاب. ومن هذه المرحلة المجاجية يسلك الوضح1 وهي رملة ميثاء2 تتصل بساحل بحر جدة يمشى فيها إلى عيذاب إن شاء الله وهي في أفيح من الأرض مد البصر يمينا وشمالا. وفي ظهر يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من الشهر المذكور كان رفعنا من مجاج المذكور سالكين على الوضح.

_ 1 الوضح: وسط الطريق ومحجته. 2 الميثاء: الرملة اللينة السهلة.

شهر ربيع الأول عرفنا الله بركته

شهر ربيع الأول عرفنا الله بركته استهل هلاله ليلة الجمعة الرابع والعشرين من شهر يونية ونحن بآخر الوضح على نحو ثلاث مراحل من عيذاب وفي وقت الغداة من يوم الجمعة المذكور كان نزولنا على الماء بموضع يعرف بالعشراء على مرحلتين من عيذاب وبهذا الموضع كثير من شجر العشر وهو شبيه بشرج الأترج3 لكن لا شوك له. وماء هذا الموضع ليس بخالص العذوبة وهو في بئر غير مطوية4 وألفينا

_ 3 العشر: شجر فيه حراق، لم يقتدح الناس في أجود منه. والأترج: ليمون تسميه العامة الكباد. 4 المطوية: المبنية بالحجارة، منعا لانطمارها بالرمال.

الرمل قد انهال عليها وغطى ماءها فرام الجمالون حفرها واستخراج مائها فلم يقدروا على ذلك وبقيت القافلة لا ماء عند ها. فأسرينا تلك الليلة وهي ليلة السبت الثاني من الشهر المذكور فنلزنا ضحوة على ماء الخبيب وهو بموضع بمرأى العين من عيذاب يستقى منها القوافل وأهل البلد ويعم الجميع وهي بئر كبيرة كأنها الجب1 الكبير.

_ 1 الجب: البئر الكثيرة الماء البعيدة القعر أو التي وجدت لا مما حفرة الناس.

أحفل مراسي الدنيا

أحفل مراسي الدنيا فلما كان عشي يوم السبت دخلنا عيذاب وهي مدينة على ساحل بحر جدة غير مصورة أكثر بيوتها الاخصاص وفيها الآن بناء مستحدث بالجص وهي من أحفل مراسي الدنيا بسبب أن مراكب الهند واليمن تحط فيها وتقلع منها زائدا إلى مراكب الحجاج الصادرة والواردة. وهي في صحراء لا ثبات فيها ولا يؤكل فيها شيء إلا مجلوب لكن أهلها بسبب الحجاج تحت مرفق كثير ولا سيما مع الحاج لأن لهم على كل حمل طعام يجلبونه ضريبة معلومة خفيفة المؤنة بالإضافة إلى الوظائف المكوسية التي كانت قبل اليوم التي ذكرنا رفع صلاح الدين لها، ولهم أيضا من المرافق من الحاج إكراه الجلاب منهم وهي المراكب فيجتمع لهم من ذلك مال كثير في حملهم إلى جدة وردهم وقت انفضاضهم من أداء الفريضة وما من أهلها ذوى إليسار إلا من له الجلبة والجلبتان فهي تعود عليهم برزق واسع فسبحان قاسم الأرزاق على اختلاف أسباب ها لا إله سواه. وكان نزولنا فيها بدار تنسب لمونح أحد قوادها الحبشيين الذين تأثلوا2

_ 2 تأثل: امتلك.

بها الديار والرباع والجلاب، وفي بحر عيذاب مغاص على اللؤلؤ في جزائر على مقربة منها واوان الغوص عليه في هذا التاريخ المقيدة فيه هذه الأحرف وهو شهر يونية العجمى والشهر الذي يتلوه ويستخرج منه جوهر نفيس له قيمة سنية يذهب الغائصون عليه إلى تلك الجزائر في الزواريق ويقميون فيها الأيام فيعودون بما قسم الله لكل واحد منهم بحسب حظه من الرزق. والمغاص منها قريب القعر ليس ببعيد ويستخرجونه في أصداف لها أزواج كأنها نوع من الحيتان أشبه شيء بالسلحفاة فإذا شقت ظهرت الشفتان من داخلها كانهما محارتا فضة ثم يشقون عليها فيجدون فيها الحبة من الجوهر قد غطى عليها لحم الصدف فيجتمع لهم من ذلك بحسب الحظوظ والأرزاق. فسبحان مقدرها لا إله سواه لكنهم ببلدة لا رطب فيها ولا يابس قد الفوا بها عيش البهائم فسبحان محبب الاوطان إلى أهلها على أنهم أقرب إلى الوحش منهم إلى الإنس.

آفة الحجاج

آفة الحجاج والركوب من جدة إليها آفة للحجاج عظيمة إلا الاقل منهم ممن يسلمه الله عز وجل وذلك أن الرياح تلفيهم على الأكثر في مراس بصحارى تبعد منها مما يلي الجنوب فينزل إليهم البجاة وهم نوع من السودان ساكنون بالجبال فيكرون منهم الجمال ويسلكون بهم غير طريق الماء فربما ذهب أكثرهم عطشا وحصلوا على ما يتخلفه من نفقة أو سواها. وربما كان من الحجاج من يتعسف1 تلك المجهلة2 على قدميه فيضل ويهلك عطشا. والذي

_ 1 تعسف الصحراء: خبط فيها على غير هداية. 2 المجهلة: الأرض لا يهتدى فيها.

يسلم منهم يصل إلى عيذاب كأنه منشر من كفن شاهدنا منهم مدة مقامنا اقوأما قد وصلوا على هذه الصفة في مناظرهم المستحيلة1 وهيئاتهم المتغيرة آية للمتوسمين. وأكثر هلاك الحجاجب هذه المراسي ومنهم من تساعده الريح إلى أن يحط بمرسى عيذاب وهو الأقل. والجلاب التي يصرفونها في هذا البحر الفرعوني ملفقة2 الانشاء لا يستعمل فيها مسمار البتة إنما هي مخطية بأمراس من القنبار وهو قش رجوز النارجيل3 يدرسونه4 إلى أن يتخبط ويفتلون منه أمراسا يخيطون بها المراكب ويخللونها بدسر5 من عيدان النخل فإذا فرغوا من إنشاء الجلبة على هذه الصفة سقوها بالسمن أو بدهن الخروع أو بدهن القرش وهو أحسنها وهذا القرش حوت عظيم في البحر يبتلع الغرقى فيه ومقصدهم في دهان الجلبة ليلين عودها ويرطب لكثرة الشعاب المعترضة في هذا البحر. ولذلك لا يصرفون فيه المركب المسماري. وعود هذا الجلاب مجلوب من الهند واليمن وكذلك القنبار المذكور ومن أعجب أمر هذه الجلاب أن شرعها منسوجة من خوص شجر المقل6. فمجموعها متناسب في اختلال البنية ووهنها فسبحان مسخرها على تلك الحال والمسلم فيها لا إله سواه. ولأهل عيذاب في الحجاج أحكام الطواغيت7. وذلك أنهم يشحنون

_ 1 المستحيلة: المتغيرة. 2 الملفقة: التي ضمت قطعة منها إلى أخرى. 3 النارجيل: جوز الهند. 4 الدرس: الدوس. 5 الدسر، الواحد دسار: شيء كالليف تشد به ألواح السفينة. 6 المقل: شجر الدوم. 7 الطواغيت، الواحد طاغوت: كل متعد، الشيطان.

بهم الجلاب حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنهم أقفاص الدجاج المملوءة يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء حتى يستوفى صاحب الجلبة منهم ثمنها في طريق واحدة ولا يبالي بما يصنع البحر بها بعد ذلك ويقولون علينا بالألواح وعلى الحجاج بالأرواح هذا مثل متعارف بينهم. فأحق بلادالله بحسبة1 يكون السيف درتها2 هذه البلدة والأولى بمن يمكنه ذلك إلا يراها وان يكون طريقه على الشام إلى العراق ويصل مع أمير الحج البغدادي وإن لم يمكنه ذلك أولا فيمكنه آخرا عند انقضاض الحجاج يتوجه مع أمير الحاج المذكور إلى بغداد ومنها إلى عكة فإن شاء رحل منها إلى الإسكندرية وإن شاء إلى صقلية أو سواهما. ويمكن أن يجد مركبا من الروم يقلع إلى سبتة أو سواها من بلاد المسلمين. وإن طال طريقه بهذا التحليق3 فيهون لما يلقى بعيذاب ونحوها.

_ 1 الحسبة: الإشراف على الأسواق والآداب العامة، وكان يقوم بها المحتسب، وهو موظف له سلطة قضائية وتنفيذية. 2 الدرة: السوط، وكان المحتسب يحملها ليؤدب بها الناس. 3 التحليف: التطواف.

أهل عيذاب

أهل عيذاب وأهلها الساكنون بها من قبيل السودان الذين يعرفون بالبجاة ولهم سلطان من انفسهم يسكن معهم في الجبال المتصلة بها وربما وصل في بعض الأحيان واجتمع بالوالي الذي فيها من الغز إظهارا للطاعة. ومستنابه4 مع الوالي في البلد والفوائد كلها له إلا البعض منها. وهذه الفرقة من السودان المذكورين فرقة أضل من الأنعام سبيلا وأقل

_ 4 مستنابه: مكان نيابته، أي محل إقامته.

عقولا لا دين لهم سوى كلمة التوحيد التي ينطقون بها إظهارا للإسلام ووراء ذلك من مذاهبهم الفاسدة وسيرهم مالا يرضى ولا يحل ورجالهم وسناؤهم يتصرفون عراة إلا خرقا يسترون بها عوراتهم وأكثرهم لا يستترون وبالجملة فهم أمة لا خلاق لهم ولا جناح على لاعنهم.

أهل بحر فرعون

أهل بحر فرعون وفي يوم الإثنين الخامس والعشرين لربيع الأول المذكور وهو الثامن عشر من يولية ركبنا الجلبة للعبور إلى جدة فأقمنا يومنا ذلك بالمرسى لركود الريح ومغيب النواتية، فلما كان صبيحة يوم الثلاثاء بعده أقلعنا على بركة الله عز وجل وحسن عونه المأمول فكانت مدة المقام بعيذاب حاشى يوم الإثنين المذكور ثلاثة وعشرين يوما محتسبة عند الله عز وجل لشطف العش وسوء الحال واختلال الصحة لعدم الأغذية الموافقة، وحسبك من بلد كل شيء فيه مجلوب حتى الماء والعطش أشهى إلى النفس منه فاقمنا بين هواء يذيب الاجسام وماء بشعل المعدة عن اشتهاء الطعام فملا ظلم من غنى عن هذه البلدة بقوله: ماء زعاق وجو كله لهب فالحلول بها من أعظم المكاره التي حف بها السبيل إلى البيت العتيق زاده الله تشريفا وتكريما وأعظم أجور الحجاج على ما يكابدون ولا سيما في تلك البلدة الملعونة، ومما لهج الناس بذكره قبائحها حتى يزعمون أن سليمان بن داود على نبينا وعليه السلام كان اتخذها سجنا للعافرتة أراح الله الحجاج منها بعمارة السبيل القاصدة إلى بيته الحرام وهي السبيل التي من مصر على عقبة أيلة إلى المدينة المقدسة وهي مسافة قريبة يكون البحر منها يمينا وجبل

الطور المعظم يسارا لكن للافرنج بمقربة منها حصن مندوب1 يمنع الناس من سلوكه والله ينصر دينه ويعز كلمته بمنه. فتمادى سيرنا في البحر يوم الثلاثاء السادس والعشرين لربيع الأول المذكور ويوم الأربعاء بعده بريح فاترة المهب فلما كان العشاء الآخرة من ليلة الخمس ونحن قد استبشرنا برؤية الطير المحلقة من بن الحجاز لمع برق من جهة البر المذكور وهي جهة الشرق ثم نشأ نوء اظلم له الافق إلى أن كسا الافاق كلها وهبت ريح شديدة صرفت المركب عن طريقه راجعا وراءه وتمادى عصوف الرياح واشتدت حلكة الظلمة وعمت الافاق فلم ندر الجهة المقصودة منها إلى أن ظهر بعض النجوم فاستدل بها بعض الاستدلال وحط القلع إلى أسفل الدقل وهو الصاري. وأقمنا ليلتنا تلك في هول يؤذن بالياس وأرانا بحر فرعون2 بعض أهواله الموصوفة إلى أن اتى الله بالفرج مقترنا مع الصباح قيادالريح وأقشع الغيم واصحت السماء ولاح لنا بر الحجار على بعد لا نبصر منه إلا بعض جباله وهي شرقا من جدة زعم ربان المركب وهو الرائس أن بين تلك الجبال التي لاحت لنا وبر جدة يومين والله يسهل لنا كل صعب وييسر لنا كل عسير بعزته وكرمه. فجرينا يومنا ذلك وهو يم الخميس المذكور بريح رخاء طيبة ثم أرسيا عشية في جزيرة صغيرة في البحر على مقربة من البر المذكور بعدان لقينا شعابا كثيرة يكسر فيها الماء ويضحل3 علينا فتخللنا اثناءها على حذر وتحفظ وكان الربان بصيرا بصنعته حاذقا فيها فخلصنا الله منها حتى أرسينا بالجزيرة المذكورة ونزلنا إليها وبتنا بها ليلة الجمعة التاسع والعشرين لربيع

_ 1 المندوب، لعله من ندبه إلى الحرب: وجهه إليها. 2 بحر فرعون: البحر الأحمر. 3 يضحل: يرق.

الأول المذكور وأصبح الهواء راكدا والريح غير متنفسة إلا من الجهة التي لا توافقنا فأقمنا بها يوم الجمعة المذكورة. فلما كان يوم السبت الموفى ثلاثين تنفست الريح بعض تنفس فأقلعنا بذلك النفس نسير سيرا رويدا وسكن الحبر حتى خيل لناظره إنه صحن زجاج أزرق فأقمنا على تلك الحال نرجو لطف صنع الله عز وجل. وهذه الجزيرة تعرف بجزيرة عائقة السفن فعصمنا الله عز وجل من فأل اسمها المذموم وله الحمد والشكر على ذلك.

شهر ربيع الآخر عرفنا الله بركته

شهر ربيع الآخر عرفنا الله بركته استهل هلاله ليلة السبت ونحن بالجزيرة المذكورة ولم يظهر تلك الليلة للأبصار بسبب النوء لكن ظهر في الليلة الثانية كبيرا مرتفعا فتحققنا إهلاله ليلة السبت المذكور وهو الثالث والعشرون من شهر يوليه وفي عشي يوم الأحد ثانية أرسينا بمرسى يعرف بأبحر وهو على بعض يوم من جدة وهو من أعجب المراسي وضعا وذلك أن خليجا من البحر يدخل إلى البر والبر مطيف به من كلتا حافتيه فترسى الجلاب منه في قاررة مكنة1 هادية. فلما كان سحر يوم الإثنين بعده أقلعنا منه على بركة الله تعالى بريح فاترة والله الميسر لا رب سواه فلما جن الليل ارسينا على مقربة من جدة وهي بمرأى العين منا. وحالت الريح صبيحة يوم الثلاثاء بعده بيننا وبين دخول مرساها، ودخول هذه المراسي صعب المرام سبب كثرة الشعاب والتفافها. وأبصرنا من صنعة هؤلاء الرؤساء والنواتية في لتصرف بالجلبة اثناءها أمرا ضخما يدخلونها على مضايق ويصرفونها خلالها تصريف الفارس للجواد

_ 1 مكنة: مستورة.

الرطب العنان1 السلس القياد ويأتون في ذلك بعجب يضيق الوصف عنه. وفي ظهر يوم الثلاثاء الرابع من شهر ربيع الآخر المذكور وهو السادس والعشرون من شهر يوليه كان نزولنا بجدة حامدين لله عز وجل وشاكرين على السلامة والنجاة من هول ما عايناه في تلك الثمانية أيام طول مقامنا على البحر وكانت اهوالا شتى عصمنا الله منها بفضله وكرمه فمنها ما كان يطرا من البحر واختلاف رايحه وكثرة شعابه المعترضة فيه ومنها ما كان يطرأ من ضعف عدة المركب واختلالها واقتصامها2 المرة بعدالمرة عند رفع الشراع أو حطه أو جذب مرسى من مراسيه وربما سنحت3 الجلبة بأسفلها على شعب من تلك الشعاب أثناء تحللها فنسمع لها هدا يؤذن باليأس فكنا فيها نموت مرارا ونحيى مرارا والحمد لله على ما من به من العصمة وتكفل به من الوقاية والكفاية حمدا يبلغ رضاه ويستهدى المزيد من نعماه بعزته وقدرته لا إله سواه. وكان نزولنا فيها بدار القائد على وهو صاحب جدة من قبل أمير مكة المذكور في صرح من تلك الصروح الخصوصية التي يبنونها في أعالي ديارهم ويخرجون منها إلى سطوح يبيتون فيها. وعند احتلالنا جدة المذكورة عاهدنا الله عز وجل سرورا بما أنعم الله به من السلامة إلا يكون انصرافنا على هذا البحر الملعون إلا إن طرأت ضرورة تحول بيننا وبين سواه من الطرق والله ولى الخيرة في جميع ما يقضيه ويسنيه4 بعزته.

_ 1 الرطب العنان: الطبع السلس. 2 اقتصامها: انكسارها. 3 سنحت: لصقت بالأرض. 4 يسنيه: يسهله وييسره.

صفة جدة

صفة جدة وجدة هذه قرية على ساحل البحر المذكور أكثر بيوتها اخصاص وفيها فنادق مبنية بالحجارة والطين وفي أعلاها بيوت من الاخصاص كالغرف ولها سطوح يستراح فيها بالليل من أذى الحر. وبهذه القرية آثار قديمة تدل على أنها كانت مدينة قديمة وأثر سورها المحدق بها باق إلى اليوم وبها موضع فيه قبة مشيدة عتقيقة يذكر إنه كان منزل حواء أم البشر صلى الله عليها عند توجهها إلى مكة فبنى ذلك المبنى عليه تشيهرا لبركته وفضله والله أعلم بذلك. وفيها مسجد مبارك منسوب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومسجد آخر له ساريتان من خشب الآبنوس ينسب أيضا إليه رضى الله عنه ومنهم من يسنبه إلى هارون الرشيد رحمة الله عليه. وأكثر سكان هذه البلدة مع ما يليها من الصحراء والجبال أشراف علويون: وحسنيون وحسينيون وجعفريون رضى الله عن سلفهم الكريم وهم من شظف العيش بحال يتصدع له الجماد إشفاقا، ويستخدمون انفسهم في كل مهنة من المهن: من إكراء جمال أن كانت لهم أو مبيع لبن أو ماء إلى غير ذلك من تمر يلتقطونه أو حطب يحتطبونه وربما تنأول ذلك نساؤهم الشريفات بأنفسهن فسبحان المقدر لما يشاء ولا شك انهم أهل بيت ارتضى الله لهم الآخرة ولم يرتض لهم الدنيا جعلنا الله ممن يدين بحب أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وبخارج هذه البلد مصانع قديمة تدل على قدم اختطاطها ويذكر أنها كانت من مدن الفرس وبها جباب1 منقورة في الحجر الصلد يتصل

_ 1 جباب، الواحد جب: البئر الكثيرة الماء، البعيدة القعر.

بعضها ببعض تفوت الإحصاء كثرة هي داخل البلد وخارجه حتى إنهم يزعمون أن التي خارج البلد ثلثمائة وستون جبا ومثل ذلك داخل البلد وعاينا نحن جملة كثيرة لا يأخذ ها الإحصاء وعجائب الموضوعات كثيرة فسبحان المحيط علما بها.

شيع يستغلون الحجاج

شيع يستغلون الحجاج وأكثر أهل هده الجهات الحجازية وسواها فرق وشيع لا دين لهم قد تفرقوا على مذاهب شتى وهم يعتقدون في الحاج ما لايعتقد في أهل الذمة قد صيروهم من أعظم غلاتهم التي يستغلونها: ينتهبونهم انتهابا ويسببون لاستجلاب ما بأيديهم استجلابا. فالحاج معهم لا يزال في غرامة ومؤنة إلى أن ييسر الله رجوعه إلى وطنه. ولولا ما تلافى الله به المسلمين في هذه الجهات بصلاح الدين لكانوا من الظلم في أمر لا ينادي وليده1 ولا يلين شديده. وجعل عوض ذلك مالا وطعاما يأمر بتصويلهما إلى مكثر2 أمير مكة فمتى ابطأت عنهم تلك الوظيفة المترتبة لهم عاد هذا الأمر إلى ترويع الحاج وإظهار تثقيفهم3 بسبب المكوس. واتفق لنا من ذلك أن وصلنا جدة فأمسكنا بها خلال ما خوطب مكثر الأمير المذكور. فورد أمره بان يضمن الحاج بعضهم بعضا ويدخلوا إلى حرم الله فإن ورد المال والطعام اللذان برسمه من قبل صلاح الدين وإلا فهو لا يترك ماله قبل الحاج. هذا لفظه كأن حرم الله ميراث بيده محلل له اكتراؤه من الحاج. فسبحان مغير السنن ومبدلها.

_ 1 أي لا يزجر وليده إذا اختلس شيئا. 2 سيأتي ذكر هذا الأمير. 3 التثقيف: التقويم والتهذيب.

والذي جعل له صلاح الدين بدلا من مكس الحاج ألفا دينار اثنان وألفا إردب من القمح وهو نحو الثمانمائة قفيز بالكيل الإشبيلي عند نا حاشى اقطاعات اقطعها بصعيد مصر وبجهة اليمن لهم بهذا الرسم المذكور ولولا مغيب هذا السلطان العادل صلاح الدين بجهة الشام في حروب له هناك مع الإفرنج لما صدر عن هذا الأمير المذكور ما صدر في جهة الحاج. فاحق بلادالله بأن يطهرها السيف ويغسل أرجاسها وأدناسها بالدماء المسفوكة في سبيل الله هذه البلاد الحجازية لما هم عليه من حل عرى الإسلام واستحلال أموال الحاج ودمائهم. فمن يعتقد من فقهاء أهل الأندلس اسقاط هذه الفريضة عنهم فاعتقاده صحيح لهذا السبب وبما يصنع بالحاج مما لا يرتضيه الله عز وجل. فراكب هذا السبيل راكب خطر ومعتسف غرر1. والله قد أوجد الرخصة فيه على غير هذه الحال فكيف وبيت الله الآن بأيدي أقوام قد اتخذوه معيشة حرام وجعلوه سببا إلى استلاب الأموال واستحقاقها من غير حل ومصادرة الحجاج عليها وضرب الذلة والمسكنة الدنية عليهم تلافاها الله عن قريب بتطيهر يرفع هذه البدع المجحفة عن المسلمين بسيوف الموحدين2 أنصار الدين وحزب الله أولي الحق والصدق والذابين عن حرم الله عز وجل والغائرون3 على محارمه والجادين في اعلاء كلمته واظهار دعوته ونصر ملته إنه على ما يشاء قدير وهو نعم المولى ونعم النصير.

_ 1 الغرر: الهلاك. 2 الموحدون: هم أصحاب الدولة التي سادت المغرب والأندلس بين القرنين السادس والسابع للهجرة. 3 الغائرون: ذو الغيرة.

لا إسلام إلا في الغرب

لا إسلام إلا في الغرب وليتحقق المتحقق ويعتقد الصحيح الاعتقاد إنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب لأنهم على جادة واضحة لابنيات4 لها. وما سوى ذلك مما بهذه

_ 4 الجادة: معظم الطريق ووسطه. بنياتها: الطرق الصغيرة المتفرعة منها.

الجهات المشرقية فأهواء وبدع وفرق ضالة وشيع إلا من عصم الله عز وجل من أهلها كما إنه لاعدل ولا حق ولا دين على وجهها إلا عند الموحدين اعزهم الله فهم آخر أئمة العدل في الزمان. وفي كل م سواهم من الملوك في هذا الأوان فعلى غير الطريقة يعشرون1 تجار المسلمين كأنهم أهل ذمة لديهم ويستجلبون أموالهم كل حيلة وسبب ويكربون طرائق من الظلم لم يسمع بمثلها اللهم إلا هذا السلطان العادل صلاح الدين الذي قد ذكرنا سيرته ومناقبه لو كان له أعوان على الحق..... مما أريد والله عز وجل يتلافى المسلمين بجميل نظره ولطيف صنعه.

_ 1 يعشرون: يأخذون العشر.

الدعوة المؤمنية الموحدية

الدعوة المؤمنية الموحدية ومن عجيب ما شاهدناه في أمر الدعوة المؤمنية الموحدية وانتشار كلمتها بهذه البلاد واستشعار أهلها لملكتها أن أكثر اهللها منهم بل الكل منهم يرمزون بذل رمزا خفيا حتى يؤدى ذلك بهم إلى التصريح وينسبون ذلك لآثار حدثا نية وقعت بأيدي بعضهم انذرت باشياء من الكوائن فعاينوها صحيحة. فمن بعض الآثار المؤذنة بذلك عندهم أن بين جامع ابن طولون والقاهرة برجين مقتربين عتقى البناء على أحدهما تمثال ناظر إلى المشرق فكانوا يرون أن أحدهما إذا سقط أنذر بغلبة أهل الجهة التي كان ناظرا إليها على ديار مصر وسواها. وكان من الاتفاق العجيب أن وقع التمثال الناظر إلى المشرق فتلا وقوعه استيلاء الغز2 على الددولة العبيدية وتملكهم ديار مصر وسائر البلاد. وهم الآن متوقعون سقوط التمثال

_ 2 الغز: جنس من الترك، ويريد صلاح الدين وجيشه.

الغربي وحدثان ما يؤملونه من ملكة اهله لهم أن شاء الله. ولم يبق إلا الكائنة السعيدة من تملك الموحدين لهذه البلاد فهم يستطلعون بها صبحا جليا ويقطعون بصحتها ويرتقونها ارتقاب الساعة التي لا يمترون في إنجاز وعدها. شاهدنا في ذلك بالإسكندرية ومصر وسواهما مشافهه وسماعا أمرا غريبا يدل على أن ذلك الأمر العزيز أمر الله الحق دعوته الصدق ونمى إلينا أن بعض فقهاء هذه البلاد المذكورة وزعمائها قد حسر خطبا أعدها للقيام بها بين يدي سيدنا أمير المؤمنين أعلى الله أمره وهو يترقب ذلك اليوم ارتقاب يوم السعادة وينتظره انتظار الفرج بالصبر الذي هو عبادة والله عز وجل يبسطها من كلمة ويعليها من دعوة إنه على ما يشاء قدير.

من جدة إلى الحرم الشريف

من جدة إلى الحرم الشريف وفي عشي يوم الثلاثاء الحادي عشر من الشهر المذكور وهو الثاني من شهر أغشت كان انفصالنا من جدة بعد أن ضمن الحجاج بعضهم بعضا وثبتت أسماؤهم في زمام1 عند قائد جدة علي بن موفق حسبما نفذ إليه أمر ذلك من سلطانه صاحب مكة مكثر بن عيسى المذكور وهذا الرجل مكثر من ذرية الحسن بن علي رضوان الله عليهما لكنه ممن يعمل غير صالح فليس من أهل سلفه الكريم رضى الله عنهم. وأسرينا تلك الليلة إلى أن وصلنا القرين مع طلوع الشمس وهذا الموضع هو منزل الحاج ومحط رحالهم ومنه بحرمون وبه يريحون اليوم الذي يصبحونه فإذا كان في عشية رفعوا وأسروا ليلتهم وصبحوا الحرم الشريف زاده الله تشريفا وتعظيما. والصادرون من الحج ينزلون به أيضا ويسرون منه إلى

_ 1 الزمام: لعله أراد السجل.

جدة وبهذا الموضع المذكور بئر معينة عذبة والحاج بسبها لا يحتاجون إلى تزوج الماء غير ليلة اسرائهم إليه. فأقمنا بياض يوم الأربعاء المذكور مريحين بالقرين فلما حان العشى رحنا منه محرمين بعمرة فأسرينا ليلتنا تلك فكان روصولنا مع الفجر إلى قريب الحزم فنزلنا مرتقبين لانتشار الضوء. ودخلنا مكة حرسها الله في الساعة الأولى من يوم الخميس الثالث عشر لربيع المذكور وهو الرابع من شهر أغشت على باب العمرة وكان إسراؤنا تلك الليلة المذكورة والقمر قد ألقى على السيطه شعاعه والليل قد كف عنا قناعه الأصوات تصك الأذان بالتلبية من كل مكان الألسنة تصج بالدعاء وتبتهل إلى الله بالرعباء فتارة تشتد بالتلبية وآونة تتضرع بالأدعية فيالها ليلة كانت في الحسن بيضة العقر1، فهي عروس ليالي العمر وبكر بنيات الدهر. إلى أن وصلنا في الساعة المذكورة من اليوم المذكور حرم الله العظيم ومبوأ2 الخليل إبراهيم فألفينا الكعبة البيت الحرام عروسا مجلوة مزفوفة إلى جنة الرضوان محفوفة بوفود الرحمن فطفنا طواف القدوم ثم صلينا بالمقام الكريم وتعلقنا بأستار الكعبة عند المتلزم وهو بين الحجر الأسود والباب وهو موضع استجابة الدعوة ودخلنا قبة زمزم وشربنا من مائها وهو لما شرب له كما قال صلى الله عليه وسلم ثم سعينا بين الصفا والمروة ثم حلقنا وأحللنا فالحمد لله لذي كرمنا بالوفادة عليه وجعلنا ممن انتهت الدعوة الإبراهيمية3 إليه وهو حسنا ونعم الوكيل. وكان نزولنا فيها بدار تعرف بالنسبة إلى الحلال قريبا من الحرم ومن باب السدة أحد أبوابه في حجرة كثيرة المرافق المسكنية مشرفة على الحرم وعلى الكعبة المقدسة.

_ 1 أي لا مثيل لها. 2 المبوأ: المنزل. 3 أراد بالدعوة الإبراهمية الإسلام، نسبة إلى إبراهيم الخليل.

شهر جمادي الأولى عرفنا الله بركته

شهر جمادي الأولى عرفنا الله بركته استهل هلاله ليلة الإثنين الثاني والعشرين لاغشت وقد كمل لنا بمكة شرفها الله تعالى ثمانية شعر يوما فهلال هذا الشهر أسعد هلال اجتلته أبصارنا فيما سلف من أعمارنا طلع علينا وقد تبوأنا مقعد الجدار الكريم وحرم الله العظيم والقبة التي فيها مقام إبراهيم مبعث الرسول ومهبط الروح الأمين جبريل بالوحي والتنزيل فأوزعنا1 الله شكر هذه المنة وعرفنا قدر ما خصنا به من نعمة وختم لنا بالقبول وأجرانا على كريم عوائده من الصنع الجميل ولطيف التيسير والتسهيل بعزته وقدرته لا إله سواه.

_ 1 أوزعنا: ألهمنا.

ذكر المسجد الحرام والبيت العتيق كرمه الله وشرفه

ذكر المسجد الحرام والبيت العتيق كرمه الله وشرفه البيت المكرم له أربعة أركان وهو قريب من التربيع وأخبرني زعيم الشيبيين الذين إليهم سدانة البيت وهو محمد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن من ذرية عثمان بن طلحة بن شيبة بن طلحة بن عبد الدار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب حجابة البيت أن ارتفاعه في الهواء من الصفح2 الذي يقابل باب الصفا وهو من الحجر الأسود إلى الركن اليماني تسع وشعرون ذراعا وسائر الجوانب ثمان وعشرون بسبب انصباب السطح إلى الميزاب. فأول اركانه الركن الذي فيه الحجر الأسود ومنه ابتداء الطواف ويتقهقر الطائف عنه ليمر جميع بدنه به والبيت المكرم عن يساره وأول مايلقى بعده الركن العراقي وهو ناظر إلى الجهة الشمال ثم الركن الشامي وهو ناظر إلى جهة الغرب ثم الركن اليماني وهو ناظر

_ 2 الصفح: الجانب والوجه.

إلى جهة الجنوب ثم يعود إلى الركن الأسود وهو ناظر إلى جهة الشرق وعند ذلك يتم شوطا واحدا. وباب البيت الكريم في الصفح الذي بين الركن العراقي وركن الحجر الأسود وهو قريب من الحجر بعشرة أشبار مخففة وذلك الموضع الذي بينهما من صفح البيت يسمى المتلزم وهو موضع استجابة الدعاء والباب الكريم مرتفع عن الأرض بأحد عشر شبرا ونصف وهو من فضة مذهبة بديع الصنعة رائق الصفة يستوقف الأبصار حسنا وخشوعا للمهابة التي كساها الله بيته وعضادتاه كذلك والعتبة العليا كذلك أيضا وعلى رأسها لوح ذهب خالص إبريز في سعته مقدار شبرين وللباب نقارتا فضة كبيرتان يتعلق عليهما قفل الباب وهو ناظر للشرق وسعته ثمانية أشبار وطوله ثلاثة عش شبرا وغلظ الحائط الذي ينوى عليه الباب خمسة أشبار. وداخل البيت الكريم مفروش بالرخام المجزع وحيطانه كلها رخام مجزع قد قام على ثلاثة أعمدة من الساج1 مفرطة الطول وبين كل عمود وعمود أربع خطا وهي على طول البيت متوسطة فيه فأحد الأعمدة وهو أولها يقابل نصف الصفح الذي يحف به الركنان إليمانيان وبينه وبين الصفح مقدار ثلاث خطا والعمود الثالث وهو آخرها يقابل الصفح الذي يحف به الركنان العراقي والشامي. ودائر البيت كله من نصفه الأعلى مطلي بالفضة المذهبة الثخينة يخيل للناظر إليها أنها صفيحة ذهب لغظها وهي تحف بالجوانب الأربعة وتمسك مقدار نصف الجدار الأعلى. وسقف البيت مجلل بكساء من الحرير الملون. وظاهر الكعبة كلها من الأربعة جوانب مكسو بستور من الحرير الأخضر وسداها قطن وفي أعلاها

_ 1 الساج: شجر.

رسم بالحرير الأحمر فيه مكتوب {إِنَّ أول بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} الآية1 واسم الإمام الناصر لدين الله في سعته قدر ثلاث أذرع يطيف بها كلها قد شكل في هذه الستور من الصنعة الغربية التي دمصره أشكال محاريب رائقة ورسوم مقروءة مرسومة بذكر الله تعالى وبالدعاء للناصر العباسي المذكور الأمر باقامتها وكل ذلك لا يخالف لونها وعدد الستور من الجوانب الأربعة أربعة وثلاثون سترا وفي الصفحين الكبيرين منها ثمانية عشر وفي الصفحين الصغيرين ستة عشر وله خمسة مضاوئ2 وعليها زجاج عراقي بديع النقش أحد ها في وسط السقف ومع كل ركن مضوى وألواح د منها لايظهر لأنه تحت القبو المذكور بعد وبين الأعمدة أكواس من الفضة عددها ثلاث عشرة وإحداها من ذهب. وأول ما يلقى الداخل على الباب عن يساره الركن الذي خارجه الحجر الأسود وفيه صندوقان فيهما مصاحف وقد علاهما في الركن بويبان من فضة كأنهما طاقان ملصقان بزاوية الركن وبينهما وبين الأرض أزيد من قامة وفي الركن الذي يليه وهو اليماني كذلك لكنهما انقلعا وبقي العود الذي كانا ملصقين عليه وفي الركن الشامي كذلك وهما باقيان وفي جهة الركن العراقي كذلك وعن يمينه الركن العراقي وفيه باب يسمى بباب الرحمة يصعد منه إلى سطح البيت المكرم وقد قام له قبو فهو متصل بأعلى سطح البيت داخله الأدراج. وفي أوله البيت المحتوى على المقام الكريم فتجد للبيت العتيق بسب هذا القبو خمسة أركان وفي سعة صفحية قامتان وهو محتو على الركن العراقي بنصفين من كل صفح وثلثا قناة هذا القبو مكسوان سرق الحرير الملون كأنه قد لف فيه ثم وضع.

_ 1 سورة آل عمران، الآية 96. 2 المضاوئ: مواضع للإضاءة.

وهذا المقام الكريم الذي داخل هذا القبو هو مقام إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وهو حجر مغشى بالفضة وراتفاعه مقدار ثلاثة أشبار وسعته مقدار شبرين وأعلاه اوسع من اسفله فكانه وله التنزيه والمثل الأعلى كانون فخار كبير اوسطه يضيق عن اسفله وعن أعلاه عايناه وتبركنا بلمسه وتقبيله وصب لنا في أثر القدمين المباركتين ماء زمزم فشربناه نقعنا الله به وأثرهما بين وأثر الاصابع المكرمة المباركة فسبحان من ألأنه لواطئه حتى اثرت فيه ولا تأثير القدم في الرمل الوثير سبحان جاعله من الآيات البينات. ولمعاينته ومعاينة البيت الكريم هول يشعر النفوس من الذهول ويطيش الأفئدة والعقول فلا تبصر إلا لحظات خاشعة وعبرات هامعة ومدامع باكية وألسنة إلى الله عز وجل ضارعة داعية. وبين الباب الكريم والركن العراقي حوض طوله اثنا عشر شبرا وعرضه خمسة أشبار ونصف وارتفاعه نحو شبر متصل من قابلة عضادة الباب التي تلي الركن المذكور أخذا إلى جته وهو علامة موضع المقام مدة إبراهيم عليه السلام إلى أن صرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو الآن مصلى وبقى الحوض المذكور مصبا لماء البيت إذا غسل وهو موضع مبارك يقال: إنه روضة من رياض الجنة والناس يزدحمون للصلاة فيه وأسفله مفروش برملة بيضاء وثيرة. وموضع المقام الكريم هو الذي يصلى خلفه يقابل ما بين الباب الكريم والركن العراقي وهو إلى الباب أميل بكثير وعليه قبة خشب في مقدار القامة أو أزيد مركنة1 محددة بديعة النقش سعتها من ركنها ألواح د إلى الثاني أربعة أشبار وقد نصبت على الموضع الذي كان فيه المقام وحوله تكفيف2 من حجارة نصت على حرف كالحوض المستطيل في ارتفاعه نحو شبر وطوله

_ 1 مركنة: ذات أركان. 2 التكفيف: لغظة عامية يراد بها ما يكف من الثوب أي حاشيته.

خمس خطا وعرضه ثلاث خطا وأدخل المقام إلى الموضع الذي وصفناه في البيت الكريم احتياطا عليه بينه وبين صفح البيت الذي يقابله سبع عشرة خطوة والخطوة كلها فيها ثلاثة أشبار. ولموضع المقام أيضا قبة مصنوعة من حديد موضوعة إلى جانب قبة زمزم فإذا كان في أشهر الحج وكثر الناس ووصل العراقيون والخراسانيون رفعت قبة الخشب ووضعت قبة الحديد لتكون أحمل للازدحام. ومن الركن الذي فيه الحجر الأسود إلى الركن العراقي أربعة وخمسون شبرا مخففة ومن الحجرالأسود إلى الأرض ستة أشبار فالطويل يتطأمن1 إليه والقصير يتطأول إليه ومن الركن العراقي إلى الركن الشامي ثمانية وأربعون شبرا مخففة وذلك داخل الحجر وأما من خارج فمنه إليه أربعون خطوة وهي مائة وعشرون شبرا مخففة ومن خارجة يكون الطواف ومن الركن الشامي إلى الركن اليماني ما من الركن الأسود إلى العراقي لأنه الصفح الذي يقابله ومن اليماني إلى الأسود ما من العراقي إلى الشامي داخل الحجر لأنه الصفح الذي يقابله. وموضع الطواف مفروش بحجارة مبسوطة كأنها الرخام حسنا منها سود وسمر وبيض قد ألصق بعضها إلى بعض واتسعت عن البيت بقمدار تسع خطا إلا في الجهة التي تقابل المقام فإنها امتدت إليها حتى احاطت به وسائر الحرم مع البلاطات كلها مفروش برمل أبيض وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة، وبين الركن العراقي وبين أول جدار الحجر مدخل إلى الحجر سعته أربع خطا وهي ست أذرع محققة كلناها باليد وهذا الموضع الذي لم يحجر2 عليه هو الذي تركت قريش من البيت وهو ست أذرع حسبما وردت به الآثار الصحاح ويقابله عند الركن الشامي مدخل آخر على مثال تلك السعة ويبن جدار البيت الذي تحت الميزاب والذي يقابله من جدار الحجر على خط

_ 1 يتطأمن: ينحني. 2 يحجر: يجعل عليه سور أو حاجز.

استواء يشق وسط الصحن المذكور أربعون شبرا وسعته من المدخل إلى المدخل ست عشرة خطوة وهو ثمانية وأربعون شبرا وهو يعني دور الجدار رخام كله مجزع بديع الإلصاق ... وهناك قضبان صفر مذهبة وضع منها في صفحة أشكال شطر نجية متادخلة بعضها على بعض وصفات محاريب فإذا ضربت الشمس فيها لاح لها بضيص ولالاء يخيل للناظر إليها أنها ذهب يرتمى بالأبصار شعاعه. وفي ارتفاع جدار هذا الحجر الرخامي خمسة أشبار ونصف وسعته أربعة أشبار ونصف. وداخل الحجر بلاط واسع ينعطف عليه الحجر كأنه ثلثا دائرة وهو مفروش بالرخام المجزع المقطع في دور الكف إلى دور الدينار إلى ما فوق ذلك ثم الصق بانتظام بديع وتأليف معجز الصنعة غريب الاتقان رائق الترصيع والتجزيع رائع التركيب والرصف يبصر الناظر فيه من التعاريج والتقاطيع والخواتم والأشكال الشطرنجية وسواها على اخلاتف أنواعها صوافتها ما يقيد بصره حسنا فكأنه يجيله في أزهار مفورشة مختلفات الألوان إلى محاريب قد انعطف عليها الرخام انعطاف القسى وداخلها هذه الأشكال المصوفة والصنائع المذكورة وبإزائها رخامتان متصلتان بجدار الحجر المقابل للميزاب أحد ث لصانع فيهما من التوريق الرقيق والتشجير والتقضيب1 ما لا يحدثه الصنع اليدين2 في الكاغد3 قطعا بالجلمين4 فمرآهما عجيب أمر بصنعتهما على هذه الصفة إمام المشرق أبو العباس أحد الناصر بن المستضيء بالله أبي محمدالحسن ابن المستنجد بالله ابى المظفر يوسف العباسي رضي الله عنه.

_ 1 التقضيب: نحت صور القضبان. التشجير: نحت صور الأشجار. التوريق: نحت صور أوراق الشجر. 2 الصنع اليدين: الحاذق في العمل بهما. 3 الكاغد: الورق. 4 الجلمان: المقص.

ويقابل الميزاب في وسط الحجر فوي نصف جداره الرخامي رخامة قد نقشت أبدع نقش وحفت بها طرة منقوشة نقشا مكحلا عجيبا فيه مكتوب مما أمر بعمله عبد الله وخليفته أبو العباس أحمد الناصر لدين الله أمير المؤمنين وذلك في سنة ست وسبعين وخمسمائة. والميزاب في أعلى الصفح الذي يلي الحجرا المذكور وهو من صفر1 مذهب قد خرج إلى الحجر بمقدار أربع أذرع وسعته مقدار شبر وهذا الموضع تحت الميزاب هو أيضا مظنة استجابة2 الدعوة بفضل الله تعالى وكذلك الركن اليماني ويسمى المستجار وما يليه وهذا الصفح المتصل به من جهة الركن الشامي. وتحت المزياب في صحن الحجر بمقربة من جدار البيت الكريم قبر إسماعيل صلى الله عليه وسلم وعلامته رخامة خضراء مستطيلة قليلا شكل محراب تتصل بها رخامة خضراء مستديرة وكلتاهما غريبة المنظر فيهما نكت3 تنفتح عن لونها إلى الصفرة قليلا كأنها تجزيع وهي أشبه الأشياء بالنكت التي تبقى في البيدق4 من حل الذهب فيه وإلى جانبه مما يلي الركن العراقي قبر أمه هاجر رضى الله عنهما وعلامته رخامة خضراء سعتها مقدار شبر ونصف يتبرك الناس بالصلاة في هذين الموضعين من الحجر وحق لهم ذلك لأنهما من البيت العتيق وقد انطبقا على جسدين مقدسين مكرمين نورهما الله ونفع ببركتهما كل من صلى عليهما وبين القبرين المقدسين سبعة أشبار. وقبة بئر زمزم تقابل الركن الأسود ومنها إليه أربع وعشرون خطوة والمقام المذكور الذي يصلى خلفه عن يمين القبة ومن ركنها إليه عشر خطا وداخلها مفروش بالرخام الأبيض الناصع البياض وتنور5 البئر المباركة

_ 1 الصفر: النحاس الأصفر. 2 مظنة استجابة: يظن أنه موضع استجابة. 3 النكت: النقط. 4 البيدق: البوتقة. 5 التنور: مفجر الماء.

في وسطها مائل عن الوسط إلى جهة الجدار الذي يقابل البيت المكرم وعمقها إحدى عشرة قامة حسبما ذرعناه وعمق الماء سبع قامات على ما يذكر وباب القبة ناظر إلى الشرق وبابا قبة العباس وقبة إليهودية ناظران إلى الشمال. والركن من الصفح الناظر إلى البيت العتيق من القبة المنسوبة إلى إليهودية يتصل بالركن الأيسر من الصفح الاخير الناظر إلى الشرق من القبة العباسية فبينهما هذا القد1 من الانحراف. وتلى قبة بئر زمزم من ورائها قبة الشراب وهي المنسوبة للعباس رضى الله عنه وتلى هذه القبة العباسية على انحراف عنها قبة تنسب لليهودية وهاتان القبتان مخزنان لأوقاف البيت الكريم من مصاحف وكتب وأتوار شمع وغير ذلك والقبة العباسية لم تخل من نسبتها الشرابية لأنها كانت سقاية الحاج وهي حتى الآن يبرد فيه ماء زمزم. ويخرج مع الليل لسقي الحاج في قلال يسمونها الدوراق كل دورق منها ذو مقبض واحد. وتنور بئر زمزم من رخام قد الصق بعضه ببعض الصاقا لاتحيله الأيام وأفرغ في اثنائه الرصاص وكذلك داخل التنور وحفت به من أعمدة الرصاص الملصقة إليه ابلاغا في قوة لزه ورصه اثنان وثلاثون عمودا قد خرجت لها رؤوس قابضة على حافة البئر دائرة بالتنور كله ودوره أربعون شبرا وارتفاعه أربعة أشبار ونصف وغلظه شبر ونصف. وقد استدارت بداخل القبة سقاية سعتها شبر وعمقها نحو شبرين، وارتفاعها عن الأرض خمسة أشبار تملأ ماء للوضوء وحولها مسطبة دائرة يرتفع الناس إليها ويتوضأون عليها. والحجر الأسود المبارك ملصق في الركن الناظر إلى جهة المشرق ولا ندري قدر ما دخل في الركن وقيل إنه داخل في الجدار بمقدار ذراعين وسعته ثلثا شبر وطوله شبر وعقد وفيه أربع قطع ملصقة ويقال: إن

_ 1 القد: المقدار.

القرمطي1 لعنه الله كان الذي كسره وقد شدت جوانبه بصفيحة فضة يلوح بصيص بياضها على بصيص سواد الحجر ورونقه الصقيل فيبصر الرائي من ذلك منظرا عجيبا هو قيد الأبصار. وللحجر عند تقبيله لدونة ورطوبة يتنعم بها الفم حتى يود اللائم إلا يقلع فمه عنه وذلك خاصة من خواص العناية الإلهية وكفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وإنه يمين الله في أرضه". نفعنا الله باستلامه ومصفاحته وأوفد عليه كل شيق إليه بمنه. وفي القطعة الصحيحية من الحجر مما يلي جانبه الذي يلي يمين المستلم له إذا وقف مستقبله نقطة بيضاء صغيرة مشرقة تلوح كأنها خال في تلك الصفحة المباركة وفي هذه الشامة البيضاء أثر: إن النظر إليها يجلو البصر. فيجب على المقبل أن يقصد بتقبيله موضع الشامة المذكورة ما استطاع. والمسجد الحرام يطيف به ثلاثة بلاطات على ثلاث سوار من الرخام منتظمة كأنها بلاط واحد ذرعها في الطول أربعمائة ذراع وفي العرض ثلثمائة ذراع فيكون تكسيره محققا ثمانية وأربعين مرجعا2 وما بين البلاطات فضاء كبير وكان عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيرا وقبة زمزم خارجة عنه، وفي مقابلة الركن الشامي رأس سارية ثابتة في الأرض منها كان حد الحرم أولا وبين رأس السارية وبين الركن الشامي المذكور اثنتان وعشرون خطوة والكعبة في وسطه على استواء من الجوانب الأربعة ما بين الشرق والجنوب والشمال والغرب وعدد سواريه الرخامية التي عددتها بنفسي أربعمائة سارية وإحدى وسبعون سارية حاشى الجصية التي منها في دار الندوة وهي التي زيدت في الحرم وهي داخلة في البلاط الأخذ من الغرب إلى الشمال ويقابلها المقام مع الركن العرقي وفضاؤها متسع يدخل من

_ 1 يشير إلى طاهر الجنابي وإغارته على مكة وقتله الحاج وقلعه الحجر الأسود وحمله معه إلى البحرين. 2 المرجع: مقياس مغربي.

البلاط إليه. ويتصل بجدار هذا البلاط كله مصاطب تحت قسى حنايا يجلس فيها النساخون المقرئون وبعض أهل صنعة الخياطة. والحرم محدق بحلقات المدرسين وأهل العلم وفي جدار البلاط الذي يقابله أيضا مصاطب تت حنايا على تلك الصفة وهو البلاط الأخذ من الجوب إلى الشرق وسائر البلاطات تحت جداراتها مصاطب دون حنايا عليها والبنيان فيها الآن على أكمل ما يكون وعند باب إبراهيم مدخل آخر من البلاط الأخذ من الغرب إلى الجنوب فيه أيضا سوا جصية ووجدت بخط أبي جعفر بن علي الفنكي القرطبي الفقيه المحدث أن عدد سواريه أربعمائة وثمانون لأني لم أحسب التي خارج باب الصفا. وللمهدي محمد بن أبي جعفر المنصور العباسي في توسعة المسجد الحرام والتأنق في بنائه آثار كريمة وجدت في الجهة التي من الغرب إلى الشمال مكتوبا في أعلى جدار البلاط: أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين أصلحه الله بتوسعه المسجد الحرام لحاج بيت الله وعماره في سنة سبع وستين ومائة1. وللحرم سبع صوامع: أربع في الأربعة جوانب وواحدة في دار الندوة وأخرى على باب الصفا وهي أصغرها وهي علم لباب الصفا وليس يصعداليها لضيقها وعلى باب إبراهيم صومعة قد ذركت عند باب إبراهيم فيما بعد. وباب الصفا يقابل الركن الأسود في البلاط الذي من الجنوب إلى الشرق وفي وسط البلاط المقابل للباب ساريتان مقابلتان الركن المذكور فيهما منقوش: أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين أصلحه الله باقامة هاتين الأسطوانتين علما لطريق رسو الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا ليتأسى2 به حاج بيت الله وعماره على يدي يقطين بن موسى وإبراهيم بن صالح في سنة سبع

_ 1 783 م. 2 يتأسى: يقتدي.

وستين ومائة. وفي باب الكعبة المقدسة نقش بالذهب رائق الخط طويل الحروف غليظها يرتمى الأبصار برونقه وحسنه مكتوب فيه مما أمر بعمله عبد الله وخليفته الإمام أبو عبد الله محمد المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم الأئمة آبائه الطاهرين وخلد ميراث النبوة لديه وجلعها كلمة باقية في عقبه إلى يوم الدين في سنة خمسين وخمسمائة1 في صفحتي البابين على هذا النص المذكور. ويكتنف البابين الكريمين عضادة غليظة من الفضة المذهبة البديعة النقش تصعد إلى العتبة المباركة وتشف2 عليها وتسدير بجانبي البابين ويعترض أيضا بين البابين عند إغلاقهما شبه العضادة الكبيرة من الفضة المذهبة هي بطول البابين متصلة بالواحد منهما الذي عن يسار الداخل إلى البيت. وكسوة الكعبة المقدسة من الحرير الأخضر حسبما ذكرناه وهي أربع وثلاثون شقة في الصفح الذي بين الركن اليماني والشامي منها تسع وفي الصفح الذي يقابله بين الركن الأسود والعراقي تسع أيضا وفي الصفح بين العراقي والشامي ثمان وفي الصفح بين اليماني والأسود ثمان أيضا قد صولت كلها فجاءت كأنها ستر واحد يعم الأربعة جوانب. وقد أحاط بها من اسفلها تكفيف مبنى بالجص في ارتفاعه أزيد من شبر وفي سعته شبران أو أزيد قيللا في داخله خشب غير ظاهر وقد سمرت فيه أوتاد حديد في رؤوسها حلقات حديد ظاهرة قد ادخل فيه مرس من القنب غليظ مفتول. واستدار بالجوانب الأربعة بعد أن وضع في أذيال الستور شبه حجز3 السراويلات وأدخل فيها ذلك المرس وخيط عليه بخيوط من القطن المفتلوة الوثيقة.

_ 1 1155م. 2 تشف: تزيد. 3 حجز، الواحدة حجزة: موضع التكة من السراويل.

ومجتمع الستور في الأركان الأربعة مخيط إلى أزيد من قامة ثم منها إلى أعلاها تتصل بعرى من حديد تدخل بعضها في بعض. واستدار أيضا بأعلاها على جوانب السطح تكفيف ثان وقعت فيه أعالي الستور في حلقات حديد على تلك الصفة المذكورة فجاءت الكسوة المباركة مخطية الأعلى والأسفل وثيقة الإزرار لا تخلع إلا من عام إلى عام عند تجديدها فسبحان من خلد لها الشرف إلى يوم القيامة لا إله سواه. وباب الكعبة الكريم يفتح كل يوم اثنين ويوم جمعة إلا في رجب فانه يفتح في كل يوم وفتحه أول بزوغ الشمس، يقبل سدنة البيت الشيبيون فيبادر منهم من ينقل كرسيا كبيرا شبه المنبر الواسع له تسعة أدراج مستطيلة قد وضعت له قوائم من الخشب متطأمنه مع الأرض لها أربع بكرات كبار مصفحة بالحديد لمباشرتها الأرض يجرى الكرسي عليها حتى يصل إلى البيت الكريم فيقع درجة الأعلى متصلا بالعتبة المباركة من الباب. فيصعد زعم الشيبيين إليه وهو كهل جميل الهيئة والشارة1 وبيده مفتاح القف المبارك ومعه من السدنة من يمسك في يده سترا أسود يفتخ2 يديه به إمام الباب خلال ما يفتحه الزعيم الشيبي المذكور فإذا فتح القفل قبل العتبة ثم دخل البيت وحده وسد الباب خلفه وأقام قدر ما يركع ركعتين ثم يدخل الشيبيون ويسدون الباب أيضا ويركعون ثم يفتح الباب ويبادر الناس بالدخول وفي أثناء محاولة فتح الباب الكريم يقف الناس مستقبلين إياه بأبصار خاشعة وأيد مبسوطة إلى الله ضارعة وإذا انفتح الباب كبر الناس وعلا ضجيجيهم ونادوا بألسنة مستهلة: اللهم افتح لنا أبواب رحمتك ومغفرتك يا أرحم الراحمين ثم دخلوا بسلام آمنين. وفي الصفح المقابل للداخل فيه الذي هو من الركن اليماني إلى الركن الشامي،

_ 1 الشارة: الهيئة واللباس. 2 يفتخ: يثني ويلين.

خمس رخامات منتصبات طولا كأنها أبواب تنتهي إلى مقدار خمسة أشبار من الأرض وكل واحدة منها نحو القامة الثلاث منها حمر والاثنتان خصرواوان في كل واحدة منها تجزيع بياض لم ير أحسن منظرا منه كأنه فيها تنقيط فتتصل بالركن اليماني منها الحمراء ثم تليها بخمسة أشبار الخضراء والموضع الذي يقابلها متقهقرا عنها بثلاثة اذرع هو مصلى النبي صلى الله عليه وسلم فيزدحم الناس على الصلاة فيه تبركا به. ووضعهن على هذا الترتيب وبين كل واحدة وأخرى القدر المذكور ويتصل بينهما رخام أبيض صافي اللون ناصع البياض قد أحد ث الله عز وجل في اصل خلقته اشكالا غريبة مائلة إلى الزرقة مشجرة مغصنة وفي التي تليها مثل ذلك بعينه من الأشكال كأنها مقسومة فلو انطبقتا لعاد كل شكل يصافح شكله فكل واحدة شقة الأخرى لا محالة عند ما نشرت انشقت على تلك الأشكال فوضعت كل واحدة بإزاء أختها. والفاصل منها بين كل خضراء وحمراء رخامتان سعتهما خمسة أشبار لاعدادا الأشبار المذكورة والأشكال فيها تختلف هيئاتها وكل أخت منها بازاء اختها وقد شدت جوانب هذه الرخامات بتكايف غلظها قد اصبعين من الرخام المجزع من الأخضر والأحمر المنقطين والأبيض ذي الخيلان1 كأنها أنابيب مخروطة بحار الوهم فيها. فاعترضت في هذا الصفح المذكور من فرج الرخام الأبيض ست فرج. وفي الصفح الذي عن يسار الداخل وهو من الركن الأسود إلى اليماني أربع رخامات اثنتان خضراوان واثنتان حمراوان وبينهما خمس فرج من الرخام الأبيض وكل ذلك على الصفة المذكورة. ومن الصفح الذي عن يمين الداخل وهو من الركن الأسود إلى العراقي ثلاث اثنتان حمراوان وإحدى خضراء ويتصل بها ثلاث فرج من الرخام الأبيض وهذا الصفح هو المتصل بالركن الذي فيه باب الرحمة وسعته

_ 1 الخيلان، الواحد خال: الشامة في الخد.

ثلاثة أشبار وطوله سبعة وعضادته التي عن يمينك إذا استقبلته رخامة خضراء في سعة ثلثي شبر. وفي الصفح الذي من الشامي إلى العراقي ثلاث اثنتان حمراوان واحدة خضراء ويتصل بها ثلاث فرج من الرخام الأبيض على الصفة المذكورة. ويكلل هذا الرخام المذكور طرتان واحدة على الأخرى سعة كل واحدة منهما قدر شبرين ذهب مرسوم في اللازورد قد خط فيه خط بديع وتتصل الطرتان بالذهب المنقوش على نصف الجدار الأعلى والجهة التي عن يمين الداخل لها طرة واحدة وفي هاتين الطرتين بعض مواضع دارسة. وفي كل ركن من الأركان الأربعة مما يلي الأرض رخامتان خضراوان صغيرتان تكتنفان الركن وتكتنف أيضا كل بابين من الفضة اللذين في كل ركن كأنهما طاقان عضادتان من الرخام الأخضر صغيرتان على قدر نقبيهما. وفي أول كل صفح من الصفحات المذكورة رخامة حمراء وفي آخره مثلها والخضراء بينهما على الترتيب المذكور إلا الصفح الذي عن يسار الداخل فأول رخامة تجدها متصلة بالركن الأسود رخامة خضراء ثم حمراء إلى كمال الترتيب الموصوف. وبازاء المقام الكريم منبر الخطيب وهو أيضا على بكرات أربع شبه التي ذكرناها فإذا كان يوم الجمعة وقرب وقت الصلاة ضم إلى صفح الكعبة الذي يقابل المقام وهو بين الركن الأسود والعراقي فيسند المنبر إليه ثم يقبل الخطيب داخلا على باب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقابل المقام في البلاد الأخذ من الشرق إلى الشمال لا بسا ثوب سواد مرسوما بذهب ومتعمما بعمامة سوداء مرسومة أيضا وعليه طيلسان شرب رقيق كل ذلك من كساء الخليفة التي يرسلها إلى خطباء بلاده يرفل فيها وعليه السكينة والوقار يتهاديى رويدا بين رايتين سوداوين يمسكهما رجلان من قومة المؤذنين وبين يديه ساعيا أحد القومة وفي يده عود مخروط احمر قد ربط في رأسه مرس

من الاديم المفتول رقيق طويل في طرفه عذبة صغيرة ينفضها بيده في الهواء نفضا فتأتى بصوت عال يسمع من داخل الحرم وخارجه كأنه إيذان بوصول الخطيب لا يزال في نفضها إلى أن يقرب من المنبر ويسمونها الفرقمة فإذا قرب من المنبر عرج إلى الحجر الأسود فقبله ودعا عنده ثم سعى إلى المنبر والمؤذن الزمزمي رئيس المؤذنين بالحرم الشريف ساعيا امامه لابسا ثياب السواد أيضا وعلى عاتقه السيف يمسكه بيده دون تقلد له فعند صعوده في أول درجة قلده المؤذن المذكور السيف ثم ضرب بنعلة سيفه فيها ضربة أسمع بها الحاضرين ثم في الثانية ثم في الثالثة فإذا انتهى إلى الدرجة العليا ضرب ضربة رابعة ووقف داعيا مستقبل الكعبة بدعاء خفي ثم انفتل عن يمينه وشماله وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيرد الناس عليه السلام ثم يقعد ويبادر المؤذنون بين يديه في المنبر بالأذان على لسان واحد فإذا فرغوا قام للخطبة فذكر ووعظ وخشع فأبلغ ثم جلس الجلسة الخطيبية وضرب بالسيف ضربة خامسة ثم قام للخطبة الثانية فأكثر بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إله ورضى عن أصحابه واختص الأربعة الخلفاء بالتسمية رضى الله عن جميعهم ودعا لعمى النبي صلى الله عليه وسلم حمزة والعباس وللحسن والحسين ووالى الترضي عن جميعهم ثم دعا لأمهات المؤنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ورضى عن فاطمة الزهراء وعن خديدة الكبرى بهذا اللفظ ثم دعا للخليفة العباسي أبي العباس أحمد الناصر ثم لأمير مكة مكثر بن عيسى بن فليتة بن قاسم بن محمد بن جعفر بن أبي هاشم الحسني ثم لصلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب ولولى عهده اخيه أبي بكر بن أيوب وعند ذكر صلاح الدين بالدعاء تخفق الألسنة بالتأمين عليه من كل مكان. وإذا احب الله يوما عبده ... القى عليه محبة للناس وحق ذلك عليهم لما يبذله من جميل الاعتناء بهم وحسن النظر لهم ولما رفعه من وظائف المكوس عنهم.

وفي هذا التاريخ أعلمنا بأن كتابه وصل إلى الأمير مكثر وأهم فصوله التوصية بالحاج والتأكيد في مبرتهم وتأنيقهم ورفع أيدي الاعتداء عنهم والإيعاز في ذلك إلى الخدام والأتباع والأوزاع1 وقال إنه إنما نحن وأنت متقلبون في بركة الحاج فتأمل هذا المنزع الشريف والمقصد الكريم. وإحسان الله يتضاعف إلى من أحسن إلى عباده واعتناؤه الكريم موصول لمن جعل همته الاعتناء بهم والله عز وجل كفيل بجزاء المحسنين إنه ولى ذلك لا رب سواه. وفي أثناء الخطبة تركز الرايتان السوداوان في أول درجة من المنبر ويمسكهما رجلان من المؤذنين وفي جانبي باب المنبر حلقتان تلقى الرايتان فيهما مركوزتين فإذا فرغ من الصلاة خرج والرايتان عن يمينه وشماله والفرقعة أمامه على الصفة التي دخل عليها كأن ذلك أيضا إيذان بانصراف الخطيب والفراغ من الصلاة ثم اعيد المنبر إلى موضعه بإزاء المقام. وليلة أهل هلال الشهر المذكور وهو جمادي الأولى بكر أمير مكة مكثر المذكور في صبيحتها إلى الحرم الكريم مع طلوع الشمس وقواده يحفون به والقراء يقرأون أمامه فدخل على باب النبي صلى الله عليه وسلم ورجاله السودان الذين يعرفونهم بالحرابة يطوفون أمامه وبأيديهم الحراب. وهو في هيئة اختصار2 عليه السكينة والوقار وسمت سلفه الكريم رضى الله عنهم لابسا ثوب بياض متقلدا سيفا مختصرا متعمما بكرزية3 صوف بيضاء رقيقة، فلما انتهى بإزاء المقام الكريم وقف وبسط له وطاء كتان فصلى ركعتين ثم تقدم إلى الحجر الأسود فقبله وشرع في الطواف وقد علا في قبة زمزم صبي هو أخو المؤذن الزمزمي هو أول المؤذنين أذانا به

_ 1 الأوزاع: الجماعات، ويريد هنا الأتباع. 2 هيئة اختصار: في غير زينة. 3 الكرزية: نوع من العمائم.

يقتدون وله يتبعون وقد لبس أفخر ثيابه وتعمم، فعند ما يكمل الأمير شوطا واحدا وبقرب من الحجر يندفع الصبي في أعلى القبة رافعا صوته بالدعاء ويستفتحه بصبح الله مولانا الأمير بسعادة دائمة ونعمة شاملة ويصل ذلك بتهنئة الشهر بكلام مسجوع مطبوع حفيف الدعاء والثناء ثم يختم ذلك بثلاثة أبيات أو أربعة من الشعر في مدحه ومدح سلفه الكريم وذكر سابقة النبوة رضى الله عنها ثم يسكت فإذا أظل من الركن اليماني يريد الحجر اندفع بدعاء آخر على ذلك الأسلوب ووصله بأبيات من الشعر غير الاببيات الآخر في ذلك المعنى بعينه كانها منتزعة من قصائد مدح بها هكذا في السبعة الأشواط إلى أن يفرغ منها والقراء في أثناء طوافه أمامه فينتظم من هذه الحال والأبهة وحسن صوت ذلك الداعي على صغره لأنه ابن إحدى عشرة سنة أو نحوها وحسن الكلام الذي يورده نثرا ونظما وأصواب القراء وعلوها بكتاب الله عز وجل مجموع يحرك النفوس ويشجيها ويستوكف العيون ويبكيها تذكرا لأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. فإذا فرغ من الطواف ركع عند المتلزم ركعتين ثم جاء وركع خلف المقام أيضا ثم ولى منصرفا وحلبته1 تحف به ولا يظهر في الحرم إلا لمستهل هلال آخر هكذا دائما. والبيت العتيق مبنى بالحجارة الكبار الصم السمر قد رص بعضها على بعض والصقت بالعقد الوثيق الصاقا لا تحيله الأيام ولا تقصمه الأزمان ومن العجيب أن قطعة انصدعت من الركن اليماني فسمرت بمسامير فضة وأعيدت كأحسن ما كانت عليه والمسامير فيها ظاهرة. ومن آيات البيت العتيق إنه قائم وسط الحرم كالبرج المشيد وله التنزيه الأعلى. وحمام الحرم لا تحصى كثرة وهي من الأمن بحيث يضرب بها المثل ولا سبيل أن تنزل بسطحه الأعلى حمامة ولا تحل فيه بوجه ولا على حال.

_ 1جماعته.

فترى الحمام تتجلل على الحرم كله فإذا قربت من البيت عرجت عنه يمينا أو شمالا والطيور سواها كذلك وقرأت في أخبار مكة إنه لا ينزل عليه طائر إلا عند مرض يصيبه فإما أن يموت لحينه أو يبرأ فسبحان من اورثه التشريف والتكريم. ومن آياته أن بابه الكريم يفتح في الأيام المعلومة المذكورة والحرم قد غص بالخلق فيدخله الجميع ولا يضيق عنهم بقدرة الله عز وجل ولا يبقى فيه موضع إلا ويصلى فيه كل أحد ويتلاقى الناس عند الخروج منه فيسأل بعضهم بعضا هل دخل البيت ذلك اليوم فكل يقول دخلت وصليت في موضع كذا وموضع كذا حيث صلى الجميع ولله الآيات البينات والبراهين المعجزات سبحانه وتعالى. ومن عجائب اعتناء الله تبارك وتعالى به إنه لا يخلو من الطائفين ساعة من النهار ولا وقتا من الليل فلا تجد من يخبر إنه رآه دون طائف به فسبحان من كرمه وعظمه وخلد له التشريف إلى يوم القيامة. في أعلى بلاطات الحرم سطح يطيف بها كلها من الجوانب الأربعة وهو مشرف كله بشرفات مبسوطة مركنة في كل جانب من الشرفة ثلاثة أركان كأنها أيضا شرفات أخر صغار والركن الأسفل منها متصل بالركن الذي يليه من الشرفة الأخرى وتحت كل صلة منها ثقب مستدير في دور الشبر منفوذ يخترقه الهواء يضرب فيه شعاع الشمس أو القمر فيلوح كأنها أقمار مستديرة يتصل ذلك بالجوانب الأربعة كلها كأن الشرفات المذكورة بنيت شقة واحدة ثم أحد ثت فيها هذه التقاطيع والتراكين فجاءت عجيبة المنظر والشكل. وفي النصف من كل جانب من الجوانب الأربعة المذكورة شقة من الجص معترضة بين الشرفات مخرمة فرجية طولها نحو الثلاثين شبرا تقديرا يقابل كل شقة منها صفحا1 من صفحات الكعبة المقدسة قد علت على الشرفات كالتاج.

_ 1 الصفح: الجانب والسفح.

وللصوامع أيضا أشكال بديعة وذلك أنها ارتفعت بمقدار النصف مركنة من الأربعة جوانب بحجارة رائقة النقش عجيبة الوضع قد أحاط بها شباك من الخشب الغريب الصنعة وارتفع عن الشباك عمود في الهواء كأنه مخروط مختم1 كله بالأجر تختيما يتداخل بعضه على بعض بصنعة تستميل الأبصار حسنا وفي أعلى ذلك العمود الفحل2 وقد استدار به أيضا شباك آخر من الخشب على تلك الصنعة بعينها وهي متميزة الأشكال كلها لا يشبه بعضها بعضا لكنها على هذا المثال المذكور من كون نصفها الأول مركنا ونصفها الأعلى عمود إلا ركن له. وفي النصف الأعلى من قبة زمزم والقبة العباسية التي تسمى السقاية والقبة التي تليها منحرفة عنها يسيرا المنسوبة لليهودية صنعة من قرنصة3 الخشب عجيبة قد تأنق الصانع فيها وأحدق بأعلاها شباك مشرجب4 من الخشب رائق الحلل والتأريج5 وداخل شباك قبة زمزم سطح وقد قام في وسطه شبه فحل الصومعة وفي ذلك السطح يؤذن المؤذن الزمزمي وقد انخرط من ذلك الفحل عمود من الجص واستقر في رأسه صحفة حديد تتخذ مشعلا في شهر رمضان المعظم. وفي الصفح الناظر إلى البيت العتيق من القبة سلاسل فيها قناديل من زجاج معلقة توقد كل ليلة وفي الصفح الذي عن يمينه كذلك وهو الناظر إلى الشمال وفي كل جانب منها ثلاثة شراجيب مقومة كأنها أبواب قد قامت على سوار من الزجاج صغار لم ير أبدع منها صنعة منها ما هو مفتول فتل

_ 1 مختم: مرصع. 2 الفحل: الكرة التي في أعلى العمود. 3 قرنصة: نحت. 4 مشرجب: مشبك على هيئة مربعات صغيرة. 5 التأريج، من تأرج: فاحت منه رائحة طيبة.

السوار ولا سيما الجانب الذي يقابل الحجر الأسود من قبة زمزم فإن سواريه في نهاية من اتقان الصنعة قد أدير بكل سارية منها رءوس ثلاثة أو أربعة وتحت ما بين كل رأس ورأس واحدثت فيه صنائع من النقش عجيبة المنظر وربما فتل بعضها على الصفة السوارية. وهذا الجانب الذي يقابل الحجر الأسود من القبة المذكورة تتصل به مصطبة من الرخام دائرة بالقبة يجلس الناس فيها معتبرين بشرف ذلك الموضع لأنه أشرف مواضع الدنيا المذكورة بشرف مواضع الآخرة لأن الحجر الأسود امامك والباب الكريم مع البيت قبالتك والمقام عن يمينك وباب الصفا عن يسارك وبئر زمزم وراء ظهرك وناهيك بهذا! وينطبق على كل شرجب من تلك الشراجيب أعمدة حديد قدتركب بعضها على بعض كأنها شراجيب أخر. وأحد أركان شباك الخشب المحدق بالقبة العباسية يتصل بأحد أركانه شباك قبة اليهودية حتى يتماسا. فمن يكون في أعلى سطح هذه ينفتل إلى سطح الأخرى من الركنين المذكورين وداخل هذه القباب صنعة من القرنصة الجصية رائقة الحسن. وللحرم أربعة ائمة سنية وأمام خامس لفرقة تسمى الزيدية1 وأشراف أهل هذه البلدة على مذهبهم وهم يزيدون في الأذان: حي على خير العمل" إثر قول المؤذن حي على الفلاح وهم روافض سبابون والله من وراء حسابهم وجزائهم ولا يجمعون2مع الناس إنما يصلون ظهرا أربعا ويصلون المغرب بعد فرغ الأئمة من صلاتها. فأول الأئمة السنية الشافعي رحمه الله وإنما قدمنا ذكره لأنه المقدم من الإمام العباسي وهو أول من يصلى وصلاته خلف مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا الكريم، إلا صلاة المغرب فإن الأربعة الأئمة يصلونها

_ 1 الزيدية: إحدى فرق الشيعة. 2 يجمعون: يصلون الجمعة.

في وقت واحد مجتمعين لضيق وقتها: يبدأ مؤذن الشافعي بالإقامة ثم يقيم مؤذنوا سائر الأئمة وربما دخل في هذه الصلاة على المصلين سهو وغفلة لاجتماع التكبير فيها من كل جهة فربما ركع المالكي بركوع الشافعي أو الحنفي أو سلم أحد هم بغير سلام إمامه. فترى كل أذن مصيخة لصوت إمامها أو صوت مؤذنه مخافة السهو ومع هذا فيحدث السهو على كثير من الناس. ثم المالكي رحمه الله وهو يصلى قبالة الركن اليماني وله محراب حجر يشبه محاريب الطرق الموضوعة فيها. ثم الحنفي رحمه الله وصلاته قبالة الميزاب تحت حطيم مصنوع له وهو أعظم الأئمة أبهة وأفخرهم آلة من الشمع وسواها بسبب أن الدولة الأعجمية كلها على مذهبه فالاحتفال له كثير وصلاته آخرا. ثم الحنبلي رحمه الله وصلاته مع صلاة المالكي في حين واحد وموضع صلاته يقابل ما بين الحجر الأسود والركن اليماني. ويصلى الظهر والعصر قريبا من الحنفي في البلاط الأخذ من الغرب إلى الشمال والحنفي يصليهما في البلاط الأخذ من الغرب إلى الجنوب قبالة محرابه ولا حطيم له. وللشافعي بإزاء المقام حطيم حفيل. وصفة الحطيم خشبتان موصول بينهما بأذرع شبه السلم تقابلهما خشبتان على تلك الصفة قد عقدت هذه الخشب على رجلين من الجص غير بائنة الارتفاع واعترض في أعلى الخشب خشبة مسمرة فيها قد نزلت منها خطاطيف حديد فيها قناديل معلقة من الزجاج وربما وصل بالخشبة المعترضة العليا شباك مشرجب بطول الخشبة. وللحنفي بين الرجلين الجصيتين المنعقدتين على الخشب محراب يصلى فيه وللحنبلي حطيم معطل هو قريب من حطيم الحنفي وهو منسوب لرامشت أحد الأعاجم ذوى الثراء وكانت له في الحرم آثار كريمة من النفقات رحمه الله ويقابل الحجر حطيم معطل أيضا ينسب للوزير المقدم بهذا اللفظ المجهول.

ويطيف بهذه المواضع كلها دائر البيت العتيق وعلى بعد منه يسيرا مشاعيل توقد في صحاف حديد فوق خشب مركوزة فيتقد الحرم الشريف كله نورا ويوضع الشمع بين أيدي الأئمة في محاريبهم والمالكي أقلهم شمعا وأضعفهم حالا لأن مذهبه في هذه البلاد غريب والجمهور على مذهب الشافعي وعليه علماء البلاد وفقهاؤها إلا الإسكندرية وأكثر أهلها مالكيون وبها الفقيه ابن عوف وهو شيخ كبير من أهل العلم بقية الأئمة المالكية. وفي إثر كل صلاة مغرب يقف المؤذن الزمزمي في سطح قبة زمزم ولها مطلع على أدراج من عود في الجهة التي تقابل باب الصفا رافعا صوته بالدعاء للإمام العباسي أحمد الناصر لدين الله ثم للأمير مكثر ثم لصلاح الدين أمير الشام وجهات مصر كلها واليمن ذي المآثر الشهيرة والمناقب الشريفة فإذا انتهى إلى ذكره بالدعاء ارتفعت أصوات الطائفين بالتأمين بألسنة تمدها القلوب الخالصة والنياب الصادقة وتخفق الألسنة بذلك خففا يذيب القلوب خشوعا لما وهب الله لهذا السلطان العادل من الثناء الجميل وألقى عليه من محبة الناس وعاد الله شهدائه في أرضه ثم يصل ذلك بدعاء لأمراء اليمن من جهة صلاح الدين ثم لسائر المسلمين والحجاج والمسافرين وينزل هكذا دأبه دائما أبدا. وفي القبة العباسية المذكورة خزانة تحتوي على تابوت مبسوط متسع وفيه مصحف أحد الخلفاء الأربعة1 أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخط زيد بن ثابت رضى الله عنه منتسخ سنة ثماني عشرة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقص منه ورقات كثيرة وهو بين دفتي عود مجلد يمغاليق من صفر كبير الورقات واسعها عايناه وتركنا بتقبيله ومسح الخدود فيه نفع الله بالنية في ذلك. وأعلمنا صاحب القبة المتولى لعرضه علينا: أن أهل مكة متى أصابهم قحط أو نالتهم شدة في أسعارهم أخرجوا المصحف المذكور وفتحوا باب البيت الكريم

_ 1 هو مصحف عثمان بن عفان.

ووضعوه في العتبة المباركة مع المقام الكريم مقام الخليل إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم واجتمع الناس كاشفين رءوسهم داعين متضرعين وبالمصحف الكريم والمقام العظيم إلى الله متوسلين فلا ينفصلون عن مقامهم ذلك إلا ورحمة الله عن وجل قد تداركتهم والله لطيف بعباده لا إله سواه. وبإزاء الحرم الشريف ديار كثيرة لها أبوباب يخرج منها إليه. وناهيك بهذا الجوار الكريم كدار زبيدة ودار القاضي ودار تعرف بالعجلة وسواها من الديار وحول الحرم أيضا ديار كثيرة تطيف به ذات مناظر وسطوح يخرج منها إلى سطح الحرم فيبيت أهلها فيه ويبردون ماءهم في أعالي شرفاته فهم من النظر إلى البيت العتيق دائما في عبادة متصلة الله يهنهم ما خصهم به من مجاورة بيته الحرام بمنه وكرمه. وألفيت بخط الفقيه الزاهد الورع أبي جعفر الفتكي القرطبي: أن ذرع المسجد الحرام في الطول والعرض ما أثبته أولا وطول مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة ذراع وعرضه مائتان وعدد سواريه ثلاثمائة ومباراته ثلاث فيكون تكسيره أربعة وعشرين مرجعا1 من المراجع المغربية وهي خمسون ذراعا في مثلها، وطول مسجد بيت المقدس أعاده الله للإسلام سبعمائه وثمانون ذراعا وعرضه أربعمائة وخمسون ذراعا وسواريه أربعمائة وأربع عشرة سارية وقناديله خمسمائة وأبوابه خمسون بابا فيكون تكسيره من المراجع المذكورة مائة مرجع وأربعين مرجعا وخمسى مرجع.

_ 1 المرجع: مقياس للأراضي استعمل في المغرب.

ذكر أبواب الحرم الشريف قدسه الله

ذكر أبواب الحرم الشريف قدسه الله للحرم تسعة عشر بابا أكثرها مفتح على أبواب كثيرة حسبما يأتي ذكره إن شاء الله. باب الصفا: يفتح على خمسة أبواب وكان يسمى قديما بباب بنى مخزوم. باب الخلقيين: ويسمى باب جياد الأصغر مفتح على بابين وهو محدث. باب العباس، رضي الله عنه وهو يفتح على ثلاثة أبواب. باب علي، رضى الله عنه: مفتح على ثلاثة أبواب. باب النبي، صلى الله عليه وسلم: يفتح على بابين. باب صغير أيضا بإزاء باب بني شيبة المذكور: لا اسم له. باب بني شيبة: وهو يفتح على ثلاثة أبواب وهو باب بنى عبد شمس، ومنه كان دخول الخلفاء. باب دار الندوة: ثلاثة1 البابان من دار الندوة منتظمان، والثالث في الركن الغربي من الدار. فيكون عدد أبواب الحرم بهذا الباب المنفرد عشرين بابا. باب صغير بإزاء باب بنى شيبة شبه خوخة الأبواب2: لا اسم له وقيل: إنه يسمى باب الرباط لأنه يدخل منه لرباط الصوفية. باب صغير لدار العجلة: محدث. باب السدة: واحد. باب العمرة: واحد.

_ 1 أي يفتح على ثلاثة أبواب. 2 الخوخة: الباب الصغير في الباب الكبير.

باب حزورة: على بابين. باب إبراهيم، صلى الله عليه وسلم: واحد. باب ينسب لحزورة أيضا: على بابين. باب جياد الأكبر: على بابين. باب جياد الأكبر أيضا: على بابين. باب ينسب لجياد أيضا: على بابين. ومنهم من ينسب الباين من هذه الأبواب الأربعة الجيادية إلى الدقاقين والروايات فيها تختلف لكنا اجتهدا في إثبات الأقرب من أسمائها إلى الصحة والله المتسعان لا رب سواه. وباب إبراهيم صلى الله عليه وسلم هو في زاوية كبيرة متسعة فيها دار المكناس الفقيه الذي كان إمام المالكية في الحرم رحمه الله وفيها أيضا غرفة هي خزانة للكتب المحبسة على المالكية في الحرم. والزاوية المذكورة متصلة بالبلاط الأخذ من الغرب إلى الجنوب وخارجة عنه. وبإزاء الباب المذكور عن يمين الداخل عليه صومعة على غير أشكال الصوامع المذكورة فيها تخاريم في الجص مستطيلة الشكل كأنها محاريب قد حفت قرنصة غريبة الصنعة وعلى الباب قبة عظيمة بائنة العلو يقترب من الصومعة ارتفاعها قد ضمن داخلها غرائب من الصنعة الجصية والتخاريم القرنصية يعجز عنها الوصف وظاهرها أيضا تقاطيع في الجص كأنها أرجل مدورة قدتركبت دائرة على دائرة وفحل الصومعة1 المذكورة على ارجل من الجص مفتح ما بين كل رجل ورجل وخارج باب إبراهيم بئر تنسب إليه عليه السلام. وإنما بدئ بباب الصفا لأنه أكبر الأبواب وهو الذي يخرج عليه إلى السعي وكل وافد إلى مكة شرفها الله يدخلها بعمرة فيستحب له الدخول على باب بني شيبة ثم يطوف سبعا ويخرج على باب الصفا ويجعل طريقه بين

_ 1 الفحل هنا: بمعنى القبة.

الاسطوانتين اللتين أمر المهدي رحمه الله بإقامتهما علما لطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا حسبما تقدم ذكره وبين الركن اليماني وبينهما ست وأربعون خطوة ومنهما إلى باب الصفا ثلاثون خطوة ومن باب الصفا إلى الصفا ست وسبعون خطوة. وللصفا أربعة عشر درجا وهو على ثلاثة أقواس مشرقة والدرجة العليا متسعة كأنها مصطبة وقد أحد قت به الديار وفي سعته سبع عشرة خطوة. وبين الصفا والميل الأخضر ما يأتي ذكره. والميل سارية خضراء وهي خضرة صباغية وهي التي إلى ركن الصومعة التي على الركن الشرقي من الحرم على قارعة المسيل إلى المروة وعن يسار الساعي إليها. ومنها يرمل1 في السعي إلى الميلين الاخضرين وهما أيضا ساريتان خضراوان على الصفة المذكورة ألواح دى منهما بإزاء باب علي في جدار الحرم وعن يسار الخارج من الباب والميل الآخر يقابله في جدار دار تتصل بدار الأمير مكثر وعلى كل واحدة منهما لوح قد وضع على رأس السارية كالتاج الفيت فيه منقوشا برسم مذهب {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} … الآية2 وبعدها أمر بعمارة هذا الميل عبد الله وخليفته أبو محمد المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين أعز الله نصره في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة3. وبين الصفا والميل الأول ثلاث وتسعون خطوة ومن الميل إلى الميلين خمس وسبعون خطوة وهي مسافة الرمل جائيا وذاهبا من الميل إلى الميلين ثم من الميلين إلى الميل ومن الميلين إلى المروة ثلثمائة وخمس وعشرون خطوة فجميع خطا الساعي من الصفا إلى المروة أربعمائة خطوة وثلاث وتسعون خطوة. وأدراج المروة خمسة وهي بقوس واحد كبير وسعتها سعة الصفا سبع

_ 1 يرمل: يمشي سريعا. 2 سورة البقرة، الآية 158. 3 1177م.

عشرة خطوة. وما بين الصفا والمروة مسيل هو اليوم سوق حفيله بجيمع الفواكه وغيرها من الحبوب وسائر المبيعات الطعامية والساعون لا يكادون يخلصون من كثرة الزحام وحوانيت الباعة يمينا وشمالا وما للبلدة سوق منتظمة سواها إلا البزازين والعطارين فهم عند باب بني شيبة تحت السوق المذكورة وبمقربة تكادتتصل بها. وعلى الحرم الشريف جبل أبي قبيس وهو في الجهة الشرقية يقابل ركن الحجر الأسود وفي أعلاه رباط مبارك فيه مسجد وعليه سطح مشرف على البلدة الطيبة ومنه يظهر حسنها وحسن الحرم واتساعه وجمال الكعبة المقدسة القائمة وسطه. وقرأت في أخبار مكة لأبي الوليد الأزرقي إنه أول جبل خلقه الله عز وجل وفيه استودع الحجر زمن الطوفان وكانت قريش تسميه الأمين لأنه أرى الحجر إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم وفيه قبر آدم صلوات الله عليه وهو أحد أخشبي مكة1 والاخشب الثاني الجبل المتصل بقعيقعان في الجهة الغربية. صعدنا إلى جبل أبي قبيس المذكور وصلينا في المسجد المبارك وفيه موضع موقف النبي صلى الله عليه وسلم عند انشقاق القمر له بقدرة الله عز وجل وناهيك بهذه الفضيلة والبركة والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء حتى الجمادات من مخلوقاته لا إله سواه. وفي أعلاه آثار بناء جص مشيد كان اتخذه معقلا أمير البلد عيسى أبو مكثر المذكور فهدمه عليه أمير الحج العراقي لمخالفة صدرت عنه فغادره خرابا. وألفيت منقوشا على سارية خارج باب الصفا تقابل السارية ألواح دى من اللتين أقيمتا علما لطريق النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصفا داخل الحرم المتقدمتي الذكر: أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين أصلحه الله

_ 1 أخشبا مكة: جبلا أبي قبيس وقعيقعان.

تعالى بتوسعه المسجدالحرام مما يلي باب الصفا لتكون الكعبة في وسط المسجد في سنة سبع وستين ومائة فدل ذلك المكتوب على أن الكعبة المقدسة في وسط المسجد وكان يظن بها الانحراف إلى جهة باب الصفا فاختبرنا جوانبها المباركة بالكيل فوجدنا الأمر صحيحا حسبما تضمه رسم السارية. وتحت ذلك النقش في أسفل السارية منقوش أيضا: أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين أصلحه الله بتوسعة الباب الأوسط الذي بين هاتين الأسطوانتين وهو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا. وفي أعلى السارية التي تليها منقوش أيضا: أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤنين أصلحه الله بصرف الوادي إلى مجراه على عهد أبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم وتوسعته بالرحاب التي حول المسجدالحرام لحاج بيت الله وعماره وتحتها أيضا منقوش ما تحت الأول من ذكر توسعة الباب الأوسط، والوادي المذكور هو الوادي المنسوب لإبراهيم صلى الله عليه وسلم ومجراه على باب الصفا المذكور وكان السيل قد خالف مجراه فكان يأتي على المسيل بين الصفا والمروة ويدخل الحرم فكان مدة مده بالامطار يطاف حول الكعبة سبحا فأمر المهدي رحمه الله برفع موضع في أعلى البلد يسمى رأس الردم فمتى جاء السيل عرج عن ذلك الردم إلى مجراه واستمر على باب إبراهيم إلى الموضع الذي يسمى المسفلة ويخرج عن البلد ولا يجرى الماء فيه إلا عند نزول ديم المطر الكثير وهو الوادي الذي عنى صلى الله عليه وسلم بقوله حيث حكى الله تبارك وتعالى عنه: " {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} "1 فسبحان من أبقى له الآيات البينات.

_ 1 سورة إبراهيم، الآية 37.

ذكر مكة شرفها الله تعالى وآثارها الكريمة وأخبارها الشريفة

ذكر مكة شرفها الله تعالى وآثارها الكريمة وأخبارها الشريفة هي بلدة قد وضعها الله عز وجل بين جبال محدقة بها وهي بطن واد مقدس كبير مستطيلة تسع من الخلائق مالا يحصيه إلا الله عز وجل. ولها ثلاثة أبواب: أولها باب المعلى ومنه يخرج إلى الجبانة المباركة وهي بالموضع الذي يعرف بالحجون. وعن يسار المار إليها جبل في أعلاه ثنية عليها علم شبيه البرج يخرج منها إلى طريق العمرة وتلك الثنية تعرف بكداء وهي التي عنى حسان بقوله في شعره: تثير النقع موعدها كداء1 فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: "ادخلوا من حيث قال حسان". فدخلوا من تلك الثنية وهذا الموضع الذي يعرف بالحجون هو الذي عناه الحارث بن مضاض الجرهمي بقوله: كإن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والحدود العوائر وبالجبانة المذكورة مدفن جماعة من الصحابة والتابعين والأولياء والصالحين قد دثرت مشاهدهم المباركة وذهبت عن أهل البلد أسماؤهم. وفيه الموضع الذي صلب فيه الحجاج بن يوسف جازاه الله جثة عبد الله ابن الزبير رضي الله عنهما. وعلى الموضع بقية علم ظاهر إلى اليوم وكان عليه مبنى مرتفع فهدمه أهل الطائف غيره منهم على ما كان يجدد من لعنة صاحبهم

_ 1 هو عجز بيت لحسان بن ثابت صدره: عدمنا خيلنا إن لم تروها.

الحجاج المذكور. وعن يمينك إذا استقبلت الجبانة المذكورة مسجد في مسيل بين جبلين يقال إنه المسجد الذي باعيت فيه الجن النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم. وعلى هذا الباب المذكور طريق الطائف وطريق العراق والصعود إلى عرفات جعلنا الله ممن يفوز بالموقف فيها وهذا الباب المذكور بين الشرق والشمال وهو إلى الشرق أميل. ثم باب المسفل: وهو إلى جهة الجنوب وعليه طريق اليمن ومنه كان دخول خالد بن الوليد رضى الله عنه يوم الفتح. ثم باب الزاهر: ويعرف أيضا باب العمرة وهو غربي وعليه طريق مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريق الشام وطريق جدة ومنه يتوجه إلى التنعيم وهو أقرب ميقات المعتمرين يخرج من الحرم إليه على باب العمرة ولذلك أيضا يسمى هو بهذا الاسم. والتنعيم من البلدة على فرسخ وهو طريق حسن فسيح فيه الآبار العذبة التي تسمى بالشبيكة. وعند ما تخرج من البلدة بنحو ميل تلقى مسجدا بإزائه حجر موضوع على الطريق كالمصطبة يعلوه حجر آخر مسند فيه نقش داثر الرسم يقال: إنه الموضع الذي قعد فيه البي صلى الله عليه وسلم مستريحا عند مجيئه من العمرة فيتبرك الناس بقتبيله ومسح الخدود فيه وحق ذلك لهم ويستندون إليه لتنال أجسامهم بكرة لمسه. ثم بعد هذا الموضع بمقدار غلوة تلقى على قارعة الطريق من جهة إليسار للمتوجه إلى العمرة قبرين قد علتهما أكوام من الصخر عظام يقال: إنهما قبر أبي لهب وامرأته لعنهما الله فما زال الناس في القديم إلى هلم جرا يتخذون سنة رجمهما بالحجارة حتى علاهما من ذلك جبلان عظيمان. ثم تسير منها بمقدار ميل وتلقى الزاهر وهو مبتنى على جانبي الطريق،

يحتوي على دار وبساتين والجمع ملك أحد المكيين، وقد أحد ث في المكان مطاهر وسقابة للمعتمرين وعلى جانب الطريق دكان مستطيل تصف عليه كيزان1 الماء ومراكن2 مملوءة للوضوء وهي القصارى الصغار وفي الموضع بئر عذبة يملأ منها المطاهر المذكورة فيجد المعتمرون فيها مرفقا3 كبيرا للطهور والوضوء والشرب فصاحبها على سبيل المعمورة بالأجر والثواب وكثير من الناس المتأجرين من يعينه على ما هو بسبيله وقيل: إن له من ذلك فائدا كبيرا. وعن جانبي الطريق في هذا الموضع جبال أربعة: جبلان من هنا وجبلان من هنا عليها أعلام من الحجارة وذكر لنا أنها الجبال المباركة التي جعل إبراهيم عليه السلام عليها اجزاء الطير ثم دعاهن حسبما حكى الله عز وجل سؤاله إياه جل وعلا أن يريه كيف يحيى الموتى وحول تلك الجبال الأربعة جبال غيرها وقيل: إن التي جعل إبراهيم عليها الطير سبعة منها والله أعلم. وعند إجازتك الزاهر المذكور تمر بالوادي المعروف بذي طوى الذي ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل فيه عند دخول مكة وكان ابن عمر رضي الله عنهما يغتسل فيه وحينئذ يدخلها وحوله آبار تعرف بالشبيكة. وفيه مسجد يقال: إنه مسجد إبراهيم عليه السلام فتأمل بركة هذا الطريق ومجموع الآيات التي فيه والآبار المقدسة التي اكتنفته. وتجيز الوادي إلى مضيق تخرج منه إلى الأعلام التي وضعت حجزا بين الحل ولاحرم فما داخلها إلى مكة حرم وما خارجها حل وهي كالأبراج

_ 1 الكيزان، الواحد كوز: أبريق صغير. 2 المراكن، الواحد مركن: إناء لغسل الثياب. 3 المرفق: ما انتفعت به.

مصفوفة كبار وصغار واحد بازاء آخر على مقربة منه تأخل من أعلى الجبل الذي يعترض عن يمين الطريق في التوجه إلى العمرة وتشق الطريق إلى أعلى الجبل عن يساره ومنه ميقات المعتمرين وفيها مساجد مبنية بالحجارة يصلى المعتمرون فيها ويحرمون منها. ومسجد عائشة رضي الله عنها خارج هذه الأعلام بمقدار غلوتين وإليه يصل المالكيون ومنه يحرمون. وأما الشافعيون فيحرمون من المساجد التي حول الأعلام المذكور. وأمام مسجد عائشة رضى الله عنها مسجد ينسب لعلى بن أبي طالب رضي الله عنه. ومن عجيب ما عرض علينا بباب بني شيبة المذكور عتب من الحجارة العظام طوال كأنها مصاطب صفت أمام الأبواب الثلاثة المنسوبة لنبي شيبة ذكر لنا أنها الأصنام التي كانت قريش تعبدها في جاهليتها وكبيرها هبل بينها قد كبت على وجوهها تطأها الأقدام وتمتهنها بأنعلتها العوام ولم تغن عن أنفسها فصلا عن عابديها شيئا فسبحان المنفرد بالوجدانية لا إله سواه والصحيح في أمر تلك الحجارة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم فتح مكة بكسر الأصنام واحراقها وهذا الذي نقل إلينا غير صحيح وإنما تلك التي على الباب حجارة منقولة وعنيت القوم بتشبيهها إلى الأصنام لعظمها. ومن جبال مكة المشهورة بعد جبل أبي قبيس جبل حراء وهو في الشرق على مقدار فرسخ أو نحوه مشرف على منى وهو مرتفع في الهواء عالي القنة وهو جبل مبارك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما ينتابه1 ويتعبد فيه واهتز تحته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "واسكن حراء فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد"، وكان معه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. ويروى: اثبت فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان،

_ 1 ينتابه: يأتيه مرة بعد أخرى.

وكان عثمان رضي الله عنه معهم وأول آية نزلت من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم نزلت في الجبل المذكور وهو أخذ من الغرب إلى الشمال ووراء طرفه الشمالي جبانة الحجون التي تقدم ذكرها. وسور مكة إنما كان من جهة المعلى وهو مدخل إلى البلد ومن جهة المسفل وهو مدخل أيضا إليه ومن جهة باب العمرة وسائر الجوانب جبالا لا تحتاج معها إلى سور وسورها اليوم منهدم إلا آثاره الباقية وأبوابه القائمة.

ذكر بعض مشاهدها المعظمة وآثارها المقدسة

ذكر بعض مشاهدها المعظمة وآثارها المقدسة مكة شرفها الله كلها مشهد كريم كفاها شرفا ما خصها الله به من مثابة1 بيته العظيم وما سبق لها من دعوة الخيل إبراهيم وأنها حرم الله وأمنه وكفاها أنها مشأ النبي صلى الله عليه وسلم الذي آثره الله بالتشريف والتكريم وابتعثه بالآيات والذكر الحكيم فهي مبدأ نزول الوحي والتنزيل وأول مهبط الروح الأمين جبريل وكانت مثابة أنبياء الله ورسله الأكرمين وهي أيضا مسقط رؤوس جماعة من الصحابة القرشين المهاجرين الذين جعلهم الله مصابيح الدين ونجوما للمهتدين. فمن مشاهدها التي عانياها قبة الوحي وهي في دار خديجة أم المؤمنين رضى الله عنها وبها كان ابتناء النبي صلى الله عليه وسلم بها وقبة صغيرة أيضا في الدار المذكورة فيها كان مولد فاطمة الزهراء رضي الله عنها وفيها أيضا ولدت سدي شباب أهل الجنة: الحسن والحسين رضي الله عنهما2 وهذه المواضع المقدسة المذكورة مغلقة مصونة قد بنيت بناء يليق بمثلها. ومن مشاهدها الكريمة أيضا مولد النبي صلى الله عليه وسلم والتربة

_ 1 المثابة: مجتمع الناس. 2 في سائر التواريخ أن الحسن والحسين ولدا في المدينة.

الطاهرة التي هي أول تربة مست جسمه الطاهر بنى عليه مسجد لم ير أحفل بناء منه أكثره ذهب منزل به والموضع المقدس الذي سقط فيه صلى الله عليه وسلم ساعة الولادة السعيدة المباركة التي جعلها الله رحمة للأمة أجمعين محفوف بالفضة فيالها تربة شرفها الله بان جعلها مسقط أطهر الأجسام ومولد خير الآنام صلى الله عليه وعلى إله وأصحابه الكرام وسلم تسليما. يفتح هذا الموضع المبارك فيدخله الناس كافة متبركين به في شهر ربيع الأول ويوم الإثنين منه لأنه كان شهر مولد النبي صلى الله عليه وسلم وفي اليوم المذكور ولد صلى الله عليه وسلم وتفتح المواضع المقدسة المذكورة كلها وهو يوم مشهور بمكة دائما. ومن مشاهدها الكريمة أيضا دار الخيزران وهي الدار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله فيها سرا مع الطائفة الكريمة المبادرة للإسلام من أصحابه رضي الله عنهم حتى نشر الله الإسلام نها على يدي الفاروق عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وكفى بهذه الفضيلة. ومن مشاهدها أيضا دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهي اليوم دراسة الأثر ويقابلها جدار فيه حجر مبارك يتبرك الناس بلمسه يقال: إنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم متى اجتاز عليه. وذكر أنه جاء يوما صلى الله عليه وسلم إلى دار أبي بكر رضي الله عنه فنادى به ولم يكن حاضرا فأنطق الله عز وجل الحجر المذكور وقال: يا رسول ليس بحاضر. وكانت من إحدى آياته المعجزات صلى الله عليه وسلم. ومن مشاهدها قبة بين الصفا والمروة تنسب لعمر بن الخطاب رضى الله عنه وفي وسطها بئر يقال إنه كان يجلس فيها للحكم رضى الله عنه. والصحيح في هذه القبة أنها قبة حفيده عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وبإزاء داره المنسوبة إليه وفيها كان يجلس للحكم أيام توليه مكة. كذلك حكى لنا أحد أشياخنا الموثوقين. ويقال: إن البئر كانت في القديم فيها ولا بئر فيها

الآن لأنا دخلناها فألفيناها مسطحة وهي حفيلة الصنعة. وكانت بمقربة من الدار التي نزلنا فيها دار جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ذي الجناحين. وبجهة السفل وهو آخر البلد مسجد منسوب لأبي بكر الصديق، رضى الله عنه يحف به بستان حسن فيه النخيل والرمان وشجر العناب وعاينا فيه شجر الحناء وأمام المجد بيت صغير فيه محراب يقال: إنه كان مختبأ له رضي الله عنه من المشركين الطالبين له. وعلى مقربة من دار خديجة رضى الله عنها المذكورة وفي الزقاق الذي الدار المكرمة فيه مصطبة فيها متكأ يقصد الناس إليها يصلون فيها ويتمسحون بأركانها لأن في موضعها كان موضع قعود النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الجبال التي فيها أثر كريم ومشهد عظيم الجبل المعروف بأبي ثور وهو في الجهة إليمنية من مكة على مقدار فرسخ أو أزيد وفيه الغار الذي آوى إليه النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه الصديق رضي الله عنه حسبما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز وقرأت في كتاب أخبار مكة لأبي الوليد الأزرقي أن الجبل نادى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إلي يا محمد! إلي يا محمد! فقد آويت قبلك نبيا. وخص الله عز وجل نبيه فيه بآيات بينات فمنها أنه صلى الله عليه وسلم دخل مع صاحبه على شق فيه ثلثا شبر وطوله ذراع فلما اطمأنا فيه أمر الله العنكبوت فاتخذت عليه بيتا والحمام فصنعت عليه عشا وفرخت فيه. فانتهى المشركون إليه بدليل قصاص للأثر مستاف أخلاق الطريق1 فوقف لهم على الغار وقال: ههنا انقطع الأثر فإما صعد بصاحبكم من هنا إلى السماء أو غيض به في الأرض ورأوا العنكبوت ناسجة على فم الغار والحمام مفرخة فيه فقالوا: ما دخل هنا أحد. فأخذوا في الانصراف.

_ 1 استاف: اشتم. أخلاق، الواحد خلق: القديم.

فقال الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله! لو ولجوا علينا من فم الغار ما كنا نصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولو ولجوا علينا منه كنا نخرج من هناك"، وأشار بيده المباركة إلى الجانب الآخر من الغار ولم يكن فيه شق فانفتح للحين فيه باب بقدرة الله عز وجل وهو سبحانه قدير على ما يشاء. وأكثر الناس ينتابون هذا الغاز المبارك ويتجنبون دخوله من الباب الذي أحد ث الله عز وجل فيه ويرومون دخوله من الشق الذي دخل النبي صلى الله عليه وسلم تبركا به فيمتد المحأول لذلك على الأرض ويبسط خده بإزاء الشق ويولج يديه ورأسه أولا ثم يعالج ادخال سائر جسده فمنهم من يتأتى له ذلك بحسب قضافة1 بدنه ومنهم من يتوسط بدنه فم الغار فيعضه2 فيروم الدخول أو الخروج فلا يقدر فينشب3 ويلاقى مشقة وصعوبة حتى يتناول بالجذب العنيف من ورائه. فالعقلاء من الناس يجتنبونه لهذا السبب ولا سيما ويتصل به سب آخر مخجل فاضح وذلك أن عوام الناس يزعمون أن الذي لا يسع عليه ويتمسك فيه ولا يلجه ليس لرشدة4 جرى هذا الخبر على ألسنتهم حتى عاد عندهم قطعا على صحته لا يشكون فبحسب المنتشب فيه المتعذر ولوجه عليه ما يكسوه هذا الظن الفاضح المخجل زائدا إلى ما يكابده بدنه من اللزفي ذلك المضيق وإشرافه منه على المنية توجعا وانقطاع نفس وبرح ألم. فلابعض من الناس يقولون في مثل: ليس يصعد جبل أبي ثور إلا ثور. وعلى مقربة من هذا الغار في الجبل بعينه عمودمنقطع من الجبل قد قام

_ 1القضافة: النحافة. 2 يعضه: أراد يمسك به. 3 ينشب: يعلق. 4 ليس لرشدة: أي ابن زنا.

شبه الذراع المرتفعة بمقدار نصف القامة وابنسط له في أعلاه شبه الكف خارجا عن الذراع كأنه القبة المبسوطة بقدرة الله عز وجل يستظل تحتها نحو العشرين رجلا وتسمى قبة جبريل صلى الله عليه وسلم. ومما يجب أن يثبت ويؤثر لبركة معاينته وفضل مشاهدته: أن في يوم الجمعة التاسع عشر من جمادي الأولى وهو التاسع من شتنر أنشأ الله بحرية1 فتشاءمت فانهلت عينا غديقة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك إثر صلاة العصر ومع العشى من اليوم المذكور فجاءت بمطر جود. وتبادر الناس إلى الحجر فوقفوا تحت الميزاب المبارك متجردين عن ثايبهم يتلقون الماء الذي يصبه الميزاب برؤوسهم أيديهم وأفواهمم مزدحمين عليه ازدحاما عظيما أحد ث ضوضاء عظيمة كل يحرص على أن ينال جسمه من رحمة الله نصيبا ودعاؤهم قد علا ودموع أهل الخشوع منهم تسيل فلا تسمع إلا ضجيج دعاء أو نشيج بكاء. والنساء قد وقفن خارج الحجر ينظرن بعيون دوامع وقلوب خواشع يتمنين ذلك الموقف لو ظفرن به وكان بعض الحجاج المتأجرين المشفقين يبل ثوبه بذلك الماء المبارك ويخرج إليهن ويعصره في أيدي البعض منهن فلتقينه شربا ومسحا على الوجوه والأبدان. وتمادت تلك السحابة المباركة إلى قريب المغرب وتمادى الناس على تلك الحال من الازدحام على تلقى ماء الميزاب بالأيدي والوجوه والأفواه وربما رفعوا الأواني ليقع فيها فكانت عشية عظيمة استشعرت النفوس فيها الفوز بالرحمة ثقة بفضله وكرمه ولما اقترن بها من القارئن المباركة. فمنها: أنها كان عشية الجمعة وفضل اليوم فضله والدعاء فيها يرجى من الله تعالى قبوله لما ورد فيها من الأثر الصحيح وأبواب السماء تفتح عند نزول المطر وقد وقف الناس تحت الميزاب وهو من المواضع التي يستجاب فيها

_ 1 بحرية: سحابة آتية من جهة البحر.

الدعاء وطهرت أبدانهم رحمة الله النازلة من سمائه إلى سطح بيته العتيق الذي هو حيال البيت المعمور وكفى بهذا المجتمع الكريم والمنتظم الشريف جعلنا الله ممن طهر فيه من أرجاس الذنوب واختص من رحمة الله تعال بذنوب1 ورحمته واسعة تسع عباده المذنبين إنه غفور رحيم. وذكروا أن الإمام أبا حامد الغزالي دعا الله عز وجل بدعوات وهو في حرمه الكريم في رغبات رفعها إلى الله جل وتعال فأعطى بعضا ومنع بعضا. وكان مما منع نزول المطر وقت مقامه بمكة وكان تمنى أن يغتسل به تحت المزاب ويدعو الله عز وجل عند بيته الكريم في الساعة التي أبواب سمائه فيها مفتوحة فمنع ذلك وأجيب دعائه في سائر ما سأله. فله الحمد وله الشكر على ما أنعم به علينا. ولعل عبدا من عباده الصالحين الوافدين على بيته الكريم خصه الله بهذه الكرامة فدخلنا جميع المذنبين في شفاعته والله ينفعنا بدعاء المخلصين من عباده ولا يجعلنا ممن شقى بدعائه إنه منعم كبير.

_ 1 الذنوب: الدلو المملوء ماء.

ذكر ما خص الله تعالى به مكة من الخيرات والبركات

ذكر ما خص الله تعالى به مكة من الخيرات والبركات هذه البلدة المباركة سبقت لها ولأهلها الدعوة الخليلية الابرهيمية وذلك أن الله عز وجل يقول حاكيا عن خليله صلى الله عليه وسلم: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إليهم وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ2} ، وقال عز وجل: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إليه ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ3} فبرهان ذلك فيها ظاهر متصل إلى يوم القيامة وذلك أن أفئدة الناس تهوى إليهم الأصقاع النائية والأقطار الشاحطة فالطريق

_ 2 سورة إبراهيم، الآية 37. 3 سورة القصص، الآية 57.

إليها ملتقى الصادر والوارد ممن بلغته الدعوة المباركة والثمرات تجبى إليها من كل مكان فهي أكثر البلاد نعما وفواكه ومنافع ومرافق ومتاجر. ولو لم يكن لها من المتاجر إلا أوان الموسم ففيه مجتمع أهل المشرق والمغرب فيباع فيها في يوم واحد فضلا عما يتبعه من الذخائر النفيسة كالجوهر والياقوت وسائر الأحجار ومن أنواع الطيب كالمسك والكفاور والعنبر والعود والعقاقير الهندية إلى غير ذلك من جلب الهند1 والحبشة إلى الأمتعة العراقية واليمانية إلى غير ذلك من السلع الخراسانية والباضئع المغربية إلى ما لا ينحصر ولا ينضبط ما لو فرق على البلاد كلها لأقام لها الأسواق النافقة ولعم جميعها بالمنفعة التجارية كل ذلك في ثمانية أيام بعدالموسم حاشا ما يطرا بها مع طول الأيام من اليمن وسواها فما على الأرض سلعة من السلع ولا دخيرة من الذخائر إلا وهي موجودة فيها مدة الموسم فهذه بركة لا خفاء بها وآبة من آياتها التي خصها الله بها. وأما الأرزاق والفواكه وسائر الطيبات فكنا نظن أن الأندلس اختصت من ذلك بحظ له المزية على سائر حظوظ البلاد حتى حللنا بهذه البلاد المباركة فألفيناها تغص بالنعم والفواكه كالتين والعنب والرمان والسفرجل والخوخ والاترج والجوز والمقل والبطيخ والقثاء والخيار إلى جميع البقول كلها كالباذنجان واليقطين والسلجم2 والجزر والكرنب إلى سائرها إلى غير ذلك من الرياحين العبقة والمشمومات العطرة وأكثر هذه البقول كالباذنجان والقثاء والبطيخ لا يكاد ينقطع مع طول العام وذلك من عجيب ما شاهدناه مما يطول تعداده وذكره ولكل نوع من هذه الأنواع فضيلة موجودة في حاسة الذوق يفضل بها نوعها الموجود في سائر البلاد فالعجب من ذلك يطول.

_ 1 جلب الهند: ما يجلب منها. 2 السلجم: اللفت.

ومن أعجب ما اختبرناه من فوكهها البطيخ والسفرجل وكل فواكهها عجب لكن للبطيخ فيها خاصة من الفضل عجيبة وذلك لأن رائحته من أعطر الروائح وأطيبها يدخل به الداخل عليك فتجد رائحته العبقة قد سبقت إليك فيكاد يشغلك الاستمتاع بطيب رياه عن أكلك إياه حتى إذا ذقته خيل إليك إنه شيب بسكر مذاب أو بجني النحل اللباب ولعل متصفح هذه الاحرف يظن أن في الوصف بعض غلو كلا لعمر الله إنه لأكثر مما وصفت وفوق ما قلت وبها عسل أطيب من الماذي1 المضروب به المثل يعرف عندهم بالمسعودي. وأنواع اللبن بها في نهاية من الطيب وكل ما يصنع منها من السمن فإنه لا تكاد تميزه من العسل طيبا ولذاذة ويجلب إليها قوم من اليمن يعرفون بالسرو نوعا من الزبيب الأسود والأحمر في نهاية الطيب ويحلبون معه من اللوز كثيرا. وبها قصب السكر أيضا كثير بجلب من حيث تجلب البقول التي ذكرناها والسكر بها كثر محلوب وسائر النعم والطيبات من الرزق والحمد لله. وأما الحلوى فيصنع منها أنواع غريبة من العسل والسكر العقود على صفات شتى انهم يصنعون بها حكايات جميع الفواكه الرطبة واليابسة وفي الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان يتصل منها أسمطة2 بين الصفا والمروة ولم يشاهد أحد أكمل منظرا منها لا بمصر ولا بسواها قد صورت منها تصاوير إنسانية وفاكيهة وصليت في منصات كأنها العرائش ونصدت بسائر أنواعها المنضدة الملونة فتلوح كأنها الازاهر حسنا فتقيد الأبصار وتستنزل الدرهم والدينار. وأما لحوم ضأنها فهناك العجب الجيب قد وقع القطع من كل من نطوف على الآفاق وضرب نواحي الأقطار أنها أطيب لحم يؤكل في الدنيا.

_ 1 الماذي: العسل الأبيض، أو جيده. 2 الأسمطة، الواحد سماط: المائدة.

وما ذاك والله أعلم إلا لبركة مراعيها هذا على أفراط سمنه ولو كان سواه من لحوم البلاد ينتهى ذلك المنتهى في السمن للفظته الأفواه زهما1 ولعافته وتجنبته. والأمر في هذا بالضد كلما ازداد سمنا زادت النفوس فيه رغبة والنفس له قبولا فتجد هـ هنيئا رخصا يذوب في الفم قبل أن يلاك مضعا ويسرع لخفته عن المعدة انهضاما. وما أرى ذلك إلا من الخواص الغريبة وبركة البلد الأمين قد تكفلت بطيبة لا شك فيه والخبر عنه يضيق عن الخبر له والله يجعل فيه رزقا لمن تشوق بلدته الحرام وتمنى هذه المشاهد العظام والمناسك الكرام بعزته وقدرته. وهذه الفواكه تجلب إليها من الطائف وهي على مسيرة ثلاثة أيام منها على الرفق والتؤدة ومن قرى حولها واقرب هذه المواضع يعرف با هو من مكة على مسيرة يوم أو أزيد قليلا وهو من بطن الطائف ويحتوى على قرى كثيرة ومن بطن مر وهو على مسيرة يوم أو أقل ومن نخلة وهي على مثل هذه المسافة ومن أودية بقرب من البلد كعين سليمان وسواها قد جلب الله إليها من المغاربة ذوي البصارة2 بالفلاحة ولازراعة فأحدثوا فيها بساتين ومزارع فكانوا أحد الأسباب في خصب هذه الجهات وذلك بفضل الله عز وجل وكريم اعتنائه بحرمة الكريم وبلده الأمين. ومن أغرب ما ألفيناه فاستمتعنا بأكله وأجرينا الحديث باستطابته ولا سميا لكوننا لم نعهده الرطب وهو عندهم بمنزلة التين الأخضر في شجره يجنى يوؤكل وهو في نهاية من الطيب واللذاذة لا يسأم التفكه به وإبانه عندهم عظيم يخرج الناس إليه كخروجهم إلى الضيعة أو كخروج أهل المغرب لقراهم أيام نضج التين والعنب ثم بعد ذلك عند تناهى نضجه يبسط على

_ 1 زهما: تخمة من الدسم. 2 البصارة: المعرفة.

الأرض قدر ما يجف قليلا ثم يركم بعضه على بعض في السلال والظروف ويرفع. ومن صنع الله الجميل لنا وفضله العميم علينا أنا وصلنا إلى هذه البلدة المكرمة فألفينا كل من بها من الحجاج المجاورين ممن قدم عهده فيها وطال مقامه بها يتحدث على جهة العجب بامها من الحرابة1 المتلصصين فيها على الحاج المتختلسين ما بأيديهم والذين كانوا آفة الحرم الشريف لا يغفل أحد عن متاعة طرقة عين لا اختلس من يديه أو من وسطه بحيل عجيبة ولطافه غريبة فما منهم إلا أخذ يد القميص2 فكفى الله في هذا العام شرهم إلا القليل وأظهر أمير البلد التشديد عليهم فتوقف شرهم وبطيب هوائها3 في هذا العام وفتور حمارة قيظها المعهود فيها وانكسار حدة سمومها وكنا نبيت في سطح الموضع الذي كنا نسكنه فربما يصيبنا من برد هواء الليل ما نحتاج معه إلى دثار يقينا منه وذلك أمر مستغرب بمكة. وكانوا أيضا يتحدثون بكثرة نعمها في هذا العام ولين سعرها وأنها خارقة للعوائد السالفة عندهم كان سوم4 الحنطة أربعة أصواع بدينار مؤمني وهي أوبتان من كيل مصر وجهاتها والأوبتان قدحان ونصف قدح من الكيل المغربي وهذا السعر في بلد لاضيعة فيه ولا قوام معيشة لاهله إلا بالميرة المجلوبة إليه سعر لاخفاء بيمنه وبركته على كثرة المجاورين فيها في هذا العام وانجلاب الناس إليها وترادفهم عليها فحدثنا غير واحد من المجاورين الذين لهم بها سنون طائلة أنهم لم يروا هذا الجمع بها قط ولا سمع بمثله فيها والله يجعله جمعا مرحوما معصوما بمنه. وما زال الناس فيها يسلسون أوصاف أحوالها في هذه السنة وتمييزها عما

_ 1 الحرابة: حاملو الحراب، وهم حراس أمير البلد. 2 أخذ يد القميص: سرق. 3 بطيب هوائها: متعلق بيتحدث في الكلام السابق. 4 سوم الشيء: سعره في السوق.

سلف من السنين حتى لقد زعموا أن ماء زمزم المبارك زاد عذوبة ولم يكن قبل بصادقها1. وهذا بالماء المبارك في أمره عجب وذلك أنك تشربه عن خروجه من قراراته فتجد هـ في حاسة الذوق كاللبن عند خروجه من الضرع دفيئا وتلك فيه من الله تعالى أية وعناية وبركته أشهر من أن يحتاج لوصف واصف وهو لما شرب له كما قال صلى الله عليه وسلم أروى الله منه كل ظامئ إليه بعزته وكرمه. ومن الأمور المجربة في هذا الماء المبارك أن الإنسان ربما وجد مس الإعياء وفتور الأعضاء إما من كثرة الطواف أو من عمرة يعتمرها على قدميه أو من غير ذلك من الأسباب المؤدية إلى تعب البدن فيصب من ذلك الماء على بدنه فيجدالراحة والنشاط فحينه ويذهب عنه ماكان أصابه.

_ 1 صادقها: أراد شديدها.

شهر جمادى الآخرة عرفنا الله يمنه وبركته

شهر جمادى الآخرة عرفنا الله يمنه وبركته استهل هلاله ليلة الأربعاء وهو الحادري والعشرون من شهر شتنبر العجمي ونحن بالحرم المقدس زاده الله تعظيما وتشريفا وفي صبحة الليلة المذكورة وافى الأمير مكثر بأتباعه وأشياعه على العادة السالفة المذكورة في الشهر الأول وعلى ذلك الرسم بعينه والزمزمي المغرد بثنائه والدعاء له فوق قبة زمزم يرفع عقيرته2 بالدعاء والثناء عند كل شوط يطوفه الأمير والقراء أمامه إلى أن فرغ من طوافه وأخذ في طريق انصرافه. ولأهل هذه الجهات المشرقية كلها سيرة حسنة عند مستهل كل شهر من شهور العام يتصافحون ويهنئ بعضهم بعضا ويتغافرون ويدعو بعضهم

_ 2 عقيرته: صوته.

لبعض كفعلهم في الأعياد هكذا دائما وتلك طريقة من الخير واقعة في النفوس تجدد الإخلاص وتستمد الرحمة من الله عز وجل بمصافحة المؤنين بعضهم بعضا وبركة ما يتهادونه من الدعاء والجماعة رحمة ودعاؤهم من الله بمكان.

جمال الدين وآثاره السنية

جمال الدين وآثاره السنية ولهذه البلدة المباركة حمامان: أحدهما ينسب للفقيه الميانشي أحد الأشياخ المحلقين بالحرم المكرم والثاني وهو الأكبر ينسب لجمال الدين وكان هذا الرجل كصفته جمال الدين له رحمه الله بمكة والمدينة شرفهما الله من الآثار الكريمة والصنائع الحميدة والمصانع المبنية في ذات الله المشيدة ما لم يسبقه أحد إليه فيما سلف من الزمان ولا أكابر الخلفاء فضلا عن الوزراء. وكان رحمه الله وزير صاحب الموصل تمادى على هذه المقاصد السنية المشتملة على المنافع العامة للمسلمين في حرم الله تعالى وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من خمس عشرة سنة لم يزل فيها باذلا أموالا لاتحصى في بناء رباع بمكة مسبلة1 في طريق الخير والبر مؤبدة محبسة واختطاط صهاريج للماء ووضع جباب في الطرق يستقر فيها ماء المطر إلى تجديد آثار من البناء في الحرمين الكريمين. وكان من أشرف أفعاله أن جلب الماء إلى عرفات وقاطع عليه العرب بنى شعبة سكان تلك النواحي المجلوب منها الماء بوظيفة من المال كبيرة على أن لا يقطعوا الماء عن الحاج فلما توفى الرجل رحمة الله عليه عادوا إلى عادتهم الذميمة من قطعه. ومن مفاخره ومناقبه أيضا أنه جعل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم،

_ 1 مسبلة، من سبل الماء: جعله في سبيل الله.

تحت سورين عتيقين انفق فيهما أموالا لا تحصى كثرة. ومن أعجب ماوفقه الله تعالى إليه إنه جدد أبواب الحرم كلها. وجدد باب الكعبة المقدسة وغشاه فضة مذهبة وهو الذي فيها الآن حسبما تقدم وصفه وجلل العتبة المباركة بلوح ذهب إبريز وقد تقدم ذكره أيضا فأخذ الباب القديم وأمر بأن يصنع له منه تابوت يدفن فيه فلما حانت وفاته أوصى بأن يوضح في ذلك التابوت المبارك ويحج به ميتا. فسيق إلى عرفات ووقف به على بعد وكشف عن التابوت فلما أفاض الناس أفيض به وقضيت له المناسك كله وطيف به طواف الإفاضة وكان الرجل رحمه الله لم يحج في حياته ثم حمل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وله فيها من الآثار الكريمة ما قدمنا ذكره وكاد أشارفها يحلمونه رؤوسهم. وبينت له روضة بإزاء روضة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفتح فيها مضوع يلاحظ الروضة المقدسة وأبيح له ذلك على شدة الضنانة بمثله لسابق أفعاله الكريمة ودفن في تلك الروضة وأسعده الله بالجوار الكريم وخصه بالمواراة في تربة التقديس والتعظيم والله لا يضيع أجر المحسنين وسنذكر تاريخ وفاته إذا وقفنا عليه من التاريخ الثابت في روضته إن شاء الله عز وجل وهو ولى التيسير لا رب غيره. ولهذا الرجل رحمه الله من الآثار السنية والمفاخر العلية التي لم يسبقه إليها الأكابر الأجواد وسراة الأمجاد فيما سلف من الزمان ما يفوت الإحصاء ويتسغرق الثناء ويستصحب طول الأيام ن الألسنة بالدعاء وحسبك إنه اتسع اعتناؤه بإصلاح عامة طرق المسلمين بجهة المشرق من العراق إلى الشام إلى الحجاز حسبما نذكره واستنبط المياه وبنى الجباب واختط المنازل في المفازات وأمر بعمارتها مأوى لأبناء السبيل وكافة المسافرين وابتنى بالمدن المتصلة من العراق إلى الشام فنادق عينها لنزول الفقراء أبناء السبيل الذين يضعف أحد هم عن تأدية الاكرية وأجرى على قومة تلك الفنادق والمنازل ما يقوم

بمعيشتهم وعين لهم ذلك في وجوه تأبدت لهم فبقيت تلك الرسوم الكريمة ثابتة على حالها إلى الآن فسارت بجميل ذكر هذا الرجل الرفاق وملئت ثناء عليه الآفاق. وكان مدة حايته بالموصل على ما أخبرنا به غير واحد من ثقات الحجاج التجار ممن شاهد ذلك قد اتخذ دار كرامة واسعة الفناء فسيحة الإرجاء يدعو إليها كل يوم الجفلى1 من الغرباء فيعمهم شبعا وريا ويرد الصادر والوارد من أبناء السبيل في ظله عيشا هنيئا لم يزل على ذلك مدة حياته رحمه الله فبقيت آثاره مخلدة وأخباره بألسنة الذكر مجددة وقضى حميدا سعيدا والذكر الجيمل للسعداء حياة باقية ومدة من العمر ثانية والله الكفيل بجزاء المحسنين إلى عباده فهو أكرم الكرماء وأكفل الكفلاء.

_ 1 الجفلى: الدعوة العامة.

الأمور المحظورة في الحرم

الأمور المحظورة في الحرم ومن الأمور المحظورة بهذا الحرم الشريف زاده الله تعظيما وتكريما أن النفقة فيه ممنوعة لا يجد المتأجر من ذوي اليسار إليها سبيلا في تجديد بناء أو اقامة حطيم أو غير ذلك مما يختص بالحرم المبارك ولو كان الأمر مباحا في ذلك لجعل الراغبون في نفقات البر من أهل الجدة2 حيطانه عسجدا3 وترابه عنبرا لكنهم لا يجدون السبيل إلى ذلك فمتى ذهب أحد أرباب الدنيا إلى تجديد اثر من آثاره أو إقامة رسم كريم من رسومه أخذ أذن الخليفة في ذلك فان كان مما ينقش عليه أو يرسم فيه طرز باسم الخليفة ونفوذ أمره بعمله ولم يذكر اسم المتولى لذلك ولا بد مع ذلك من بذل حظ وافر من النفقة لامير البلد ربما يوازي قدر المنفوق فيه فتتضاعف المؤنة على صاحبه

_ 2 الجدة: الغنى. 3 العسجد: الذهب.

وحينئذ يصل إلى غرضه من ذلك. ومن أغرب ما اتفق لأحد دهاة الأعاجم دوى الملك والثراء إنه وصل إلى الحرم الكريم مدة جد هذا الأمير مكثر فرأى تنور بئر زمزم وقبتها على صفة لم يرضها فاجتمع بالأمير وقال أريد أن أتأنق في بناء تنور زمزم وطيه وتجديد قبنه وابلغ في ذلك الغاية الممكنة وانفق فيه من صميم مالي ولك على في ذلك شرط ابلغ بالتزامه لك غرض المقصود وهو أن تجعل ثقة من قبلك يقيد مبلغ النفقة في ذلك فإذا استوفى البناء التمام وانتهت النفقة منتهاها وتحصلت محصاة بذلت لك مثلها جزاء على إباحتك لي ذلك. فاهتز الأمير طمعا وعلم أن النفقة في ذلك تنتهي إلى آلاف من الدنانير على الصفة التي وصفها له فأباح له ذلك والزمه مقيدا يحصى قليل الإنفاق وكثيره وشرع الرجل في بنائه واحتفل واستفرغ الوسع1 وتانق وبذل المجهود فعل من يقصد بفعله ذات الله عز وجل ويقرضه قرضا حسنا. والمقيد يسود طواميره2 بالتقييد والأمير يتطلع إلى ما لديه ويؤمل لقبض تلك النفقات الواسعة بسط يديه إلى أن فرغ البناء على الصفة التيتقدم ذكرها أولا عد ذر بئر زمزم وقبته فلما لم يبق إلا إن يصبح صاحب النفقة بالحساب ويستقضى منه العدد المجتمع فيها خلا منه المكان وأصبح في خبر كان وركب الليل جملا واصبح الأمير بقلب كفيه ويضرب أصدريه3 ولم يمكنه أن يحدث في بناء وضع في حرم الله تعال حادثا يحيله أو نقضا يزيله. وفاز الرجل بثوابه وتكفل الله به في انقلابه وتحسين مآبه:

_ 1 الوسع: الطاقة والاستطاعة. 2 الطوامير: الواحد طامور وطومار: الصحيفة. 3 الأصدران: عرقان تحت الصدغين.

{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 1 وبقى خبر هذا الرجل مع الأمير يتهادى غرابة وعجبا ويدعو له كل شارب من ذلك الماء المبارك.

_ 1 سورة سبأ، الآية 39.

شهر رجب الفرد عرفنا الله بركته

شهر رجب الفرد عرفنا الله بركته استهل هلاله ليلة الخميس الموفى عشرين لشهر أكتوبر بشهادة خلق كثير من الحجاج المجاورين والأشراف أهل مكة ذكروا أنهم رأوه بطريق العمرة ومن جبل قعيقعان وجبل أبي قبيس فثبتت شهادتهم بذلك عند الأمير والقاضي وأما من المسجدالحرام فلم يبصره أحد. وهذا الشهر المبارك عند أهل مكة موسم من المواسم المعظمة وهو أكبر أعيادهم ولم يزالوا على ذلك قديما وحديثا يتوارثه خلف عن سلف متصلا ميراث ذلك إلى الجاهلية لأنهم كانوا يسمونه منصل الأسنة2 وهو أحد الأشهر الحرم وكانوا يحرمون القتال فيه وهو شهر الله الأصم3 كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 2 أنصل الأسنة: أزال نصالها، وسمي الشهر بذلك لأن القتال كان محرما فيه. 3 سمي رجب الشهر الأصم: لأنه لم يكن يسمع فيه صوت السلاح لأنه شهر حرام.

العمرة الرجبية

العمرة الرجبية والعمرة الرجبية عندهم أخت الوقفة العرفية لأنهم يحتفلون لها الاحتفال الذي لم يسمع بمثله ويبادر إليها أهل الجهات المتصلة بها فيجتمع لها خلق عظيم لا يحصيهم إلا الله عز وجل فمن لم يشاهدها بمكة لم يشاهد مرأى

يستهدى ذكره غرابة وعجبا شاهدنا من ذلك أمرا يعجز الوصف عنه والمقصود منه الليلة التي يستهل فيها الهلال مع صبيحتها ويقع الاستعداد لها من قبل ذلك بأيام فأبصرنا من ذلك ما نصف بعضه على جهة الاختصار وذلك لانا عاينا شوارع مكة وازقتها من عصر يوم الأربعاء وهي العشية التي ارتقب فيها الهلال قد امتلأت هوادح مشدودة على الإبل مكسوة بأنواع كساء الحرير وغيرها من ثياب الكتان الرفيعة بحسب سعة أحوال اربابها ووفرهم1 كل يتأنق ويحتفل بقدر استطاعته فأخذوا في الخروج إلى التنعيم ميقات المعتمرين فسالت تلك الهوادج في أباطح مكة وشعابها والإبل قد زينت تحتها بأنواع التزيين وأشعرت2 بغير هدى بقلائد رائقة المنظر من الحرير وغيره وربما فاضت الاستار التي على الهوادج حتى تسحب اذيالها على الأرض. ومن أغرب ما شاهدنا من ذلك هودج الشريفة جمانة بنت فليته عمة الأمير مكثر فان اذيال ستره كانت تسحب على الأرض انسحابا وغيره من هوادج حرم الأمير وحرم قواده إلى غير ذلك من هوادج لم نستطع تقييد عدتها عجزا عن الإحصاء فكانت تلوح على ظهور الإبل كالقباب المضوربة فيخيل للناظر إليها أنها محلة قد ضربت أبنيتها من كل لون رائق. ولم يبق ليلة الخميس المذكور بمكة إلا من خرج للعمرة من أهلها ومن المجاورين وكنا في جملة من خرج ابتغاء بركة الليلة العظيمة فكدنا لاتتخلص إلى مسجد عائشة من الزحام وانسداد ثنيات الطريق بالهوادج والنيران ق اشعلت بحافتي الطريق كله والشمع يتقد بين أيدي الإبل التي عليها

_ 1 الوفر: السعة. 2 أشعرت: أعلمت.

هوادج من يشار إليه من عقائل نساء مكة. فلما قضينا العمرة وطفنا وجئنا للسعي بين الصفا والمروة وقد مضى هدء من الليل أبصرناه كله سرجا ونيرانا وقد غص بالساعين والساعيات على هوادجهن فكنا لانتخلص إلا بين هوادجهن وبين قوائم الإبل لكثرة الزحام واصطكاك الهوادج بعضها على بعض. فعاينا ليلة هي أغرب ليلالي الدنيا فمن لم يعاين ذلك لم يعاين عجبا يحدث به ولا عجبا يذكه مرأى الحشر يوم القيامية لكثرة الخلائق فيه محرمين ملبين داعين إلى الله عز وجل ضارعين والجبال المكرمة التي بحافتي الطريق تجيبهم بصداها حتى سكت المسامع وسكبت ن هول تلك المعاينة المدامع وذابت القلوب الخواشع. وفي تلك الليلة مليء المسجد الحرام كله سرجا فتلألأ نورا وعند ثبوت رؤية الهلال عند الأمير أمر بضرب الطبول والدبادب1 والبوقات أشعارا بأنها ليلة الموسم. فلما كانت صبيحة ليلة الخميس خرج إلى العمرة في احتفال لم يسمع بمثله انحشد له أهل مكة عن بكرة أبيهم فخرجوا على مراتبهم قبيلة قبيلة وحارة حارة شاكين في الاسلحة فرسانا ورجاله فاجتمع منهم عدد لا يحصى كثرة يتعجب المعاين لهم لوفور عددهم فلو انهم من بلاد جمة لكانوا عجبا فكيف وهم من بلد واحد وهذا أدل الدلائل على بكرة البلد. فكانوا يخرجون على ترتيب عجيب فالفرسان منهم يخرجون بخيلهم ويلعبون بالأسلحة عليها والرجالة يتواثبون ويتثاقفون2 بالأسلحة في أيديهم حرابا وسيوفا وجحفا3 وهم يظهرون التطاعن بعضهم لبعض والتضارب بالسيوف والمدافعة بالجحف التي يستجنون بها4 وأظهروا من الحذق الثقات كل أمر مستغرب.

_ 1 الدبادب، الواحد دبداب: نوع من الطبول. 2 المثاقفة: المغالبة بالسلاح. 3 الحجف، الواحدة حجفة: الترس من جلد. 4 يستجنون بها: يحتمون بها.

وكانوا يرمون بالحراب إلى الهواء ويبادرون إليها لقفا1 بأيديهم وهي قد تصوبت اسنتها على رؤوسهم وهم في زحام لا يمكن فيه المجال وربما رمى بعضهم بالسيوف في الهوءا فيتلقونها قبضا على قوائمها كأنها لم يتفارق أيديهم، إلى أن خرج الأمير يزحف بين قواده وأبناؤه أمامه وقد قاربوا سن الشباب والرايات تخفق أمامه والطبول والدبادب بين يديه والسكينة تفيض عليه وقد امتلأت الجبال والطرق والثنيات النظارة من جميع المجاورين. فلما انتهى إلى الميقات وقضى غرضه أخذ في الرجوع وقد ترتب العسكران بين يديه على لعبهم ومرحهم والرجالة على الصفة المذكورة من التجأول وقد ركب جملة من أعراب البوادي نجبا2 صهبا لم ير أجمل منظرا منها وركابها يسابقون الخيل بها بين يدي الأمير رافعين أصواتهم بالدعاء له والثناءعليه إلى أن وصل المسجد الحرام فطاف بالكعبة والقراء أمامه والمؤذن الزمزمي يغرد في سطح قبة زمزم رافعا عقيرته بتهنئته بالموسم والثناء عليه والدعاء له على العادة فلما فرغ من الطواف صلى عند الملتزم ثم جاء إلى المقام وصلى خلفه وقد أخرج له من الكمية ووضع في قبته الخشبية التي بيصلى خلفها فلما فرغ من صلاته رفعت له القبة عن المقام فاستلمه وتمسح به ثم اعيدت القبة عليه وأخذ في الخروج على باب الصفا إلى المسعى وانجفل3 بين يديه فسعى راكبا والقواد مطيفون به والرجالة الحراية أمامه فلما فرغ من السعي استلت السيوف أمامه وأحدقت الأشياع4 به وتوجه إلى منزله على هذه الحالة الهائلة مزحوفا به وبقي المسعى يومه ذاك يموج بالساعين والساعيات.

_ 1 اللقف: التناول بسرعة. 2 النجب، الواحد نجيب: الكريم من الإبل. 3 انجفل الناس: انقلعوا فمضوا. 4 الأشباع: لعلها من شبع عقله: كان وافرا متينا.

فلما كان اليوم الثاني وهو يوم الجمعة كان طريق العمرة في العمارة قريبا من أمسه راكبين وماشين رجالا ونساء والنساء الماشيات المتأجرات كثير يسابقن الرجال في تلك السبيل المباركة تقبل الله من جميعهم بمنه. وفي أثناء ذلك يلاقى الرجال بعضهمب عضا فيتصافحون ويتهادون الدعاء والتغافر بينهم والنساء كذلك والكل منهم قد لبس أفخر ثيابه واحتفل احتفال أهل البلاد للأعياد. وأما أهل البلد الأمين فهذا الموسم عيدهم له يعبون وله يحتفلون وفي المباهاة فيه يتنافسون وله يعظمون وفيه تنفق أسواقهم وصنائعهم يقدمون النظر في ذلك والاستعداد له بأشهر.

السرو المائرون

السرو المائرون ومن لطيف صنع الله عز وجل لهم فيه اعتناء كريم منه سبحانه بحرمه الأمين أن قبائل من اليمن تعرف بالسرو وهم أهل جبال حصينة باليمن تعرف بالسراة كأنها مضافة لسراة الرجال على ما أخبرني به فقيه من أهل اليمن يعرف بابن أبي الصيف فاشتق الناس لهم هذا الاسم المذكور من اسم بلادهم وهم قبائل شتى كبجيلة وسواها يستعدون للوصول إلى هذه البلدة المباركة قبل حلولها بعشرة أيام فيجمعون بين النية في العمرة وميرة البلد بضروب من الأطعمة كالحنطة وسائر الحبوب إلى اللوبياء إلى ما دونها ويجلبون السمن والعسل والزبيب واللوز فتجمع ميرتهم بين الطعام والإدام والفاكهة ويصلون في آلاف من العدد رجالا وجمالا موقرة بجميع ما ذكر فيرغدون معايش أهل البلد والمجاورين يه يتقوتون ويدخرون وترخص الأسعار وتعم المرافق فيعد منها الناس ما يكفيهم لعامهم إلى ميرة أخرى ولولا هذه الميرة لكان أهل مكة في شظف من العيش. من العجب في أمر هؤلاء المائرين أنهم لا يبيعون من جميع ما ذكرناه

بدينار ولا يدرهم إنما يبيعونه بالخرق والعباءات والشمل فأهل مكة يعدون لهم من ذلك مع الأقنعة والملاحف المتان وما أشبه ذلك مما يلبسه الأعراب ويبايعونهم به ويشارونهم. ويذكر أنهم متى أقاموا عن هذه الميرة ببلادهم تجدب ويقع الموتان في مواشيهم وأنعامهم وبوصولهم بها تخصب بلادهم وتقع البركة في أموالهم فمتى قرب الوقت ووقعت منه بعض غفلة في التأهب للخروج اجتمع نساؤهم فأخرجنهم وكل هذا لطف من الله تعالى لحرمة البلد الأمين. وبلادهم على ما ذكر لنا خصيبة متسعة كثيرة التين والعنب واسعة المحرث وافرة الغلات وقد اعتقدوا اعتقادا صحيحا أن البركة كلها في هذه الميرة التي يجلبونها فهم من ذلك في تجارة رابحة مع الله عز وجل. والقوم عرب صرحاء فصحاء جفاة اصحاء لم تغذهم الرقة الحضرية ولا هذبتهم السير المدنية ولا سددت مقاصدهم السنن الشرعية فلا تجد لديهم من أعمال العادات المقدسة يتطارحون عليها تطارح البنين على الام المشفقة لائذين بجوارها متعلقين باستارها فحيث ما علقت أيديهم منها تمزق لشدة اجتذابهم لها وانكبابهم عليها وفي أثناء ذلك تصدع ألسنتهم بأدعية تتصدع لها القلوب وتتفجر لها الأعين الجوامد فتصوب1 فترى الناس حولهم بأسطي أيديهم مؤمنين على أدعيتهم متلقنين لها من ألسنتهم على انهم طول مقامهم لا يتمكن معهم طواف ولا يوجد سبيل إلى استلام الحجر. وإذا فتح الباب الكريم فهم الداخلون بسلام فتراهم في محاولة دخولهم يتسلسلون كأنهم بعض ببعض مرتبطون يتصل منهم على هذه الصفة الثلاثون والأربعون إلى أزيد من ذلك والسلاسل منهم يتسع بعضهم بعضا وربما

_ 1 مضارب صاب المطر: انصب.

انفصمت بواحد منهم يميل عن المطلع المبارك إلى البيت الكريم فيقع الكل لوقوعه فيشاهد الناظر لذلك مرأى يؤدي إلى الضحك. وأما صلاتهم فلم يذكر في مضحكات الاعراب اظرف منها وذلك أنهم يستقبلون البيت الكريم فيسجدون دون ركوع وينقرون1 بالسجود نقرا ومنهم من يسجد السجدة الواحدة ومنهم من يسجد الثنتين والثلاث والأربع ثم يرفعون رؤوسهم من الأرض قليلا وأيديهم بمسوطة عليها ويلتفتون يمينا وشمالا التفات المروع ثم يسلمون أو يقومون دون تسليم ولا جلوس للتشهد وربما تكلموا في أثناء ذلك وربما رفع أحد هم رأسه من سجوده إلى صاحبه وصاح به ووصاه بما شاء ثم عاد إلى سجدوده إلى غير ذلك من أحوالهم الغريبة. ولا ملبس لهم سوى أزر وسخة أو جلود يستترون بها وهم مع ذلك أهل بأس ونجدة لهم القسى العربية الكبار كأنها قسى القطانين2 لا تفارقهم في أسفارهم فمتى رحلوا إلى الزيارة هاب أعراب الطريق الممسكون للحاج مقدمهم وتجنبوا اعتراضهم وخلوا لهم عن الطريق ويصحبهم الحجاج الزائرون فيحمدون صحبتهم وعلى ما وصفنا من أحوالهم فهم أهل اعتقاد للإيمان صحيح، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم وأثنى عليهم خيرا وقال: "علموهم الصلاة يعلموكم الدعاء"، وكفى بأن دخلوا في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان يمان"، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في اليمن وأهله. وذكر أن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما كان يحترم وقت طوافهم ويتحرى الدخول في جملتهم تبركا بأدعيتهم فشأنهم عجيب كله.

_ 1 ينقرون: يسرعون في السجود. 2 القطانون: بائعو القطن.

وشاهدنا منهم صبيا في الحجر قد جلس إلى أحد الحجاج يعلمه فاتحة الكتاب وسورة الإخلاص. فكان يقول له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} فيقول الصبي: هو الله أحد فيعيد عليه المعلم فيقول له: ألم تأمرني بأن أقول: هو الله أحد؟ قد قلت. فكابد في تلقينه مشقة وبعد لأي ما علقت بلسانه. وكان يقول له: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين فيقول الصبي: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله فيعيد عليه المعلم ويقول له: لا تقل: والحمد لله إنما قل: الحمد لله فيقول الصبي إذا قلت: بسم الله الرحمن الرحيم أقول: والحمد لله للاتصال وإذا لم أقل: بسم الله وبدأت قلت: الحمد لله فعبجنا من أمره ومن معرفته طبعا بصلة الكلام وفصله دون تعلم. وأما فصاحتهم فبديعة جدا ودعاؤهم كثير التخشيع للنفوس والله يصلح أحوالهم وأحوال جميع عباده بمنه.

عود إلى العمرة

عود إلى العمرة والعمرة في هذا الشهر كله متصلة ليلا ونهارا رجالا ونساء لكن المجتمع كله إنما كان في الليلة الأولى وهي ليلة الموسم عندهم والبيت الكريم يفتح كل يوم من هذا الشهر المبارك فإذا كان اليوم التاسع والعشرون منه أفرد للنساء خاصة فيظهر للنساء بمكة في ذلك اليوم احتفال عظيم فهو عندهم يوم زينتهم المشهور المستعد له. وفي يوم الخميس الخامس عشر من الشهر المذكور شاهدنا من الاحتفال للعمرة قريبا من المشهدالأول المذكور في أوله فكان لا يبقى أحد من الرجال والنساء إلا خرج لها وبالجملة فالشهر المبارك كله معمور بأنواع العبادات من العمرة وسواها ويختص أوله ونصفه من ذلك بحظ متميز وكذلك السابع

والعشرون منه. وفي عشي يوم الخميس المذكور كنا جلوسا بالحجر المكرم فما راعنا إلا الأمير مكثر طالعا محرما قد وصل من ميقات العمرة تبركا بذلك اليوم وجريا فيه على الرسم وأبناؤه وراءه محرمين وقد حف به بعض خاصته وبادر المؤذن الزمزمي للحين إلى سطح قبة زمزم داعيا على عادته متناوبا في ذلك مع اخيه صغيره وحانت صلاة العشاء مع فراغ الأمير من طوافه فصلى خلف الإمام الشافعي وخرج إلى المسعى المبارك. وفي يوم الجمعة السادس عشر منه خرجت قافلة كبيرة من الحاج في نحو أربعمائة جمل مع الشريف الداودي إلى زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي جماديا لثانية قبله كانت أيضا زيارة أخرى لبعض الحجاج في قافلة اصغر من هذه المذكورة وبقيت الزيارة الشوالية والتي مع الحاج العراقي اثر الوقفة إن شاء الله عز وجل وفي التاسع عشر من شعبان كان انصراف هذه القافلة الكبيرة في كنف السلامة والحمد لله.

عمرة الأكمة

عمرة الأكمة وفي ليلة الثلاثاء السابع والعشرين منه أعني من رجب ظهر لأهل مكة أيضا احتفال عظيم في الخروج إلى العمرة لم يقصر عن الاحتفال الأول فانجفل الجميع إليها تلك الليلة رجالا ونساء على الصفات والهيئات المتقدمة الذكر تبركا بفضل هذه الليلة لأنها من الليالي الشهيرة الفضل فكانت مع صبيحتها عجبا في الاحتفال وحسن المنظر جعل الله ذلك كله خالصا لوجه الكريم. وهذه العمرة يسمونها عمرة الأكمة لأنهم يحرمون فيها من أكمة إمام مسجد عائشة رضي الله عنها بمقدار غلوة وهي على مقربة من المسجد المنسوب لعلي عليه السلام.

والأصل في هذه العمرة الأكمة عندهم أن عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما لما فرغ من بناء الكعبة المقدسة خرج ماشيا حافيا معتمرا وأهل مكة معه فانتهى إلى تلك الأكمة فأحرم منها وكان ذلك في اليوم السابع والعشرين من رجب وجعل طريقه على ثنية الحجون المفضية إلى المعلى التي كان دخول المسلمين يوم فتح مكة منها حسبما تقدم ذكره فبقيت تلك العمرة سنة عند أهل مكة في ذلك اليوم بعينه وعلى تلك الأكمة بعينها. وكان يوم عبد الله رضى الله عن مذكروا مشهورا لأنه اهدى فيه كذا وكذا بدنة عددا لم تتحصل صحته فكنت أثبته لكنه بالجملة كثير. ولم يبق من أشراف مكة وذوي الاستطاعة فبها إلا من اهدى وأقام أهلها أياما يطعمون ويطعمون ويتنعمون وينعمون شكرا لله عز وجل على ما وهبهم من المعونة والتيسير في بناء بيته الحرام على الصفة التي كان عليها مدة الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم فنقضها الحجاج نعمة الله وأعادها على ما كنت عليه مدة قريش لأنهم كانوا اقتصروا في بنائه عن قواعد إبرهيم صلى الله عليه وسلم وأبقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ذلك على حاله لحدثان عهدهم بالكفر حسب ما ثبت في رواية رضى الله عنها في موطأ مالك بن أنس رضى الله عنه.

يوم طواف النساء

يوم طواف النساء وفي اليوم التاسع والعشرين منه وهو يوم الخميس أفرد البيت للنساء خاصة فاجتمعن من كل أوب وقد تقدم احتفالهن لذلك بأيام كاحتفالهن للمشاهد الكريمة ولم تبق أمرأة بمكة إلا حضرت المسجد الحرام ذلك اليوم. فلما وصل الشيبيون لفتح البيت الكريم على العادة أسرعوا في الخروج منه وأفرجوا للنساء عنه وأفرج الناس لهن عن الطواف وعن الحجر ولم يبق

حول البيت المبارك أحد من الرجال وتبادر النساء إلى الصعود حتى كاد الشيبيون لا يخلصون بينهن عند هبوطهم من البيت الكريم وتسلسل النساء بعضهن ببعض وتشابكن حتى تواقعن فمن صائحة ومعولة ومكبرة ومهللة وظهر من تزاحمهن ما ظهر من السرو إليمنيين مدة مقامهم بمكة وصعودهم يوم فتح البيت المقدس وأشبهت الحال الحال وتمادين على ذلك صدرا من النهار وانفسحن في الطواف والحجر وتشفين من تقبيل الحجر واستلام الأركان وكان ذلك اليوم عند هن الأكبر ويومهن الأزهر الأشهر نفعهن الله به وجعله خالصا لكريم وجهه. وبالجملة فهن مع الرجال مسكينات مغبونات يرين البيت الكريم ولا يجلنه ويلحظن الحجر المبارك ولا يستملنه فحظهن من ذلك كله النظر والأسف المستطير المستشعر فليس لهن سوى الطواف على البعد وهذا اليوم الذي هو من عامالى عام فهن يرتقبنه ارتقاب أشرف الأعياد ويكثرن له من التأهب والاستعداد والله ينفعهن في ذلك بحسن النية والاعتقاد بمنه وكرمه.

غسيل البيت بماء زمزم

غسيل البيت بماء زمزم وفي اليوم الثاني منه بكر الشيبوين إلى غسله بماء زمزم المبارك بسبب أن كثيرا من النساء ادخلن ابناءهن الصغار والرضع معهن فيتحرى غسله تكريما وتنزيها وازالة لما يحيك في النفوس من هواجس الظنون فيمن ليست له ملكة عقلية تمنعه من أن تصدر عنه حادثة نجس في ذلك الموطن الكريم والمحل المخصوص بالتقديس والتعظيم، فعند انسياب الماء عنه كان كثير من الرجال والنساء يبادرون إليه تبركا بغسل اوجههم وأيديهم فيه وربما جمعوا منه في أوان قد اعدوها لذلك ولم يراعوا العلة التي غسل لها وكان منهم من توقف عن ذلك وربما لحظ الحال لحظة من لا يستجيزها ولا يصوب

العقل في ذلك. وما ظنك بماء زمزم المبارك قد صب داخل بيت الله الحرام وماج في جنبات اركانه الكرام ثم بإزاء المتلزم والركن الأسود المستلم إليس جديرا بأن تتلقاه الافواه فضلا عن الايدي وتغمس فيه الوجوه فضلا عن الأقدام وحاشا لله أن تعرض في ذلك علة تمنع منه أو شبهة من شبهات الظنون تدفع عنه والنيات عند الله تعالى مقبولة والثابرة على تعظيم حرماته برضاه موصولة وهو المجازى على الضمائر وخفيات السرائر لا إله سواه.

شهر شعبان المكرم عرفنا الله بكرته

شهر شعبان المكرم عرفنا الله بكرته استهل هلاله ليلة السبت التاسع عشر لشهر نونبر1 وفي صبيحته بكر الأمير مكتر إلى الطواف على العادة في ذلك رأس كل شهر مع أخيه وبنيه ومن حرى الرسم باستصحابه من القواد والأشياع والأتباع وعلى الأسلوب المتقدم الذكر والزمزمي يصرخ في مرقبته2 على عادته متناوبا مع أخيه صغيره. وفي سحر يوم الخيمس الثالث عشر منه وهو أول يوم من دجنبر3 بعدطلوع الفجر كسف القمر وبدأ الكسوف والناس في صلاة الصبح في الحرم الشريف وعاب مكسوفا وانتهى الكسوف إلى ثلثيه والله يعرفنا حقيقة الاعتبار بآياته.

_ 1 أي نوفمبر، تشرين الثاني. 2 المرقبة: المكان المرتفع يعلوه الرقيب. 3 أي ديسمبر، كانون الأول.

زيادة ماء زمزم

زيادة ماء زمزم وفي يوم الجمعة الثاني من ذلك اليوم أصبح بالحرم أمر عجيب وذلك أنه لم يبق بمكة صبي إلا وصبحه واجتمعوا كلهم في قبة زمزم وينادون بلسان واحد هللوا وكبروا يا عباد الله فيهلل الناس ويكبرون وربما دخل معهم من عرض العامة1 من ينادى معهم بندائهم والناس والنساء يزدحمون على قبة البئر المباركة لأنهم يزعمون بل يقطعون قطعا جهليا لا قطعا عقليا أن ماء زمزم يفيض ليلة النصف من شعبان. وكانوا على ظن من هلال الشهر لأنه قيل إنه رؤى ليلة الجمعة في جهة اليمن. فبكر الناس إلى القبة وكان فيها من الازدحام ما لم يعهد مثله ومقصد الناس في ذلك الترك بذلك الماء المبارك الذي قد ظهر فيضه والسقاة فوق التنور يستقون يفيضون على رؤوس الناس الماء بالدلاء قدفا فمنهم من يصببنه في وجهه ومنهم من يصيبه في رأسه إلى غير ذلك وربما تمادى لشدة نفوذه من أيديهم والناس مع ذلك يستزيدون ويبسكون والنساء من جهة أخرى يساجلنهم بالبكاء ويطارحنهم بالدعاء والصبيان يصيحون بالتهليل والتكبير فكان مرأى هائلا مسموعا رائعا لم يتخلص للطائفين بسنة الطواف ولا للمصلين صلاة لعلو تلك الأصوات واشتغال الأسماع والأذهان بها. ودخل إلى القبة المذكورة احدنا ذلك اليوم فكان من الزحام عنتا ومشقة فسمع الناس يقولون زاد الماء سبع اذرع فجعل يقصدالى من يتوسم فيه بعض عقل ونظر من ذوي السبال2 البيض فيسأله عن ذلك فيقول وأدمعه تسيل: نعم زاد الماء سبع أذرع لا شك في ذلك فيقول أعن خبرة وحقيقة؟

_ 1 عرض العامة: معظمهم. 2 السبال، الواحدة سبلة: مقدم اللحية.

فيقول: نعم ومن العجيب أن كان منهم من قال إنه بكر سحر يوم الجمعة المذكور فألقى الماء قد قارب التنور بنحو القامة فيا عبجا لهذا الاختراع الكاذب نعوذ بالله من الفتنة! وكان من الاتفاق أن اعتنينا بهذا الأمر لغلبة الاستفاضة التي سمعناها في ذلك واستمرارها من سوالف الأزمنة عند عوام أهل مكة. فتوجه منا ليلة الجمعة من أدلى دلوه في البئر المباركة إلى أن ضرب في صفح الماء وانتهى الحبل إلى حافة التنور عقد فيه عقدا يصح عند نا القياس به في ذلك. فلما كان في صبيحتها وتنادى الناس بالزيادة الزيادة الظاهرة خلص أحد نا في ذلك الزحام على صعوبة ومعه من استصحب الدول وأدلاه فوجد القياس على حاله لم ينقص ولم يزد بل كان من العجب أن عاد المقياس ليلة السبت فالقاه قد نقص يسيرا لكثرة ما امتاح الناس منه ذلك اليوم فلو امتيح من البحر لظهر النقص فيه فسبحان من خص ذلك الماء بما خص به من البركة ووضع فيه من المنفعة. وفي صبيحة يوم السبت الخامس عشر منه تتبعنا هذا القياس استراء لصحة الحال فوجدناه على ما كان عليه ولو أن لافظا يلفظ ذلك اليوم بأنه لم يزد لصب في لابئر صبا أو لداسته الأقدام حتى تذيبه نعوذ بالله من غلبات العوام واعتدائها وركوبها جوامح أهوائها.

ليلة النصف من شعبان

ليلة النصف من شعبان وهذه الليلة المباركة أعني ليلة الصنف من شعبان عند أهل مكة معظمة للأثر الكريم الوارد فيها فهم يبادرون فيها إلى أعمال البر من العمرة والطواف والصلاة أفرادا وجماعة فينقسمون في ذلك أقساما مباركة؛ فشاهدنا ليلة السبت التي هي ليلة النصف حقيقة احتفالا عظيما في الحرم المقدس إثر صلاة العتمة،

جعل الناس يصلون فهيا جماعات جماعات تراويح يقرأون فيها بفاتحة الكتاب وبقل هو الله أحد عشر مرات في كل ركعة إلى أن يكلموا خمسين تسليمة بمائة ركعة، قد قدمت كل جماعة إماما وبسطت الحصر وأوقدت الشمع وأشعلت المشاعل وأسرجت المصابيح ومصباح السماء الأزهر الأقمر قد أفاض نورده على الأرض وبسط شعاعه فتلاقت الأنوار في ذلك الحرم الشريف الذي هو نور بذاته فيا لك مرأى لا يتخيله المتخيل ولا يتوهمه المتوهم! فأقام الناس تلك الليلة على أقسام فطائفة التزمت تلك التراويح مع الجماعة وكانت سبع جماعات أو ثمانيا وطائفة التزمت الحجر المبارك للصلاة على انفراد وطائفة خرجت للاعتمار وطائفة آثرت الطواف على هذا كله أغلبها المالكية فكانت من الليالي الشهيرة المأمولة أن تكون من غرر القربات ومحاسنها نفع الله بها ولا أخلى من بركتها وفضلها وأوصل إلى هذه المثابة المقدسة كل شيق إليها بمنه. وفي تلك الليلة المباركة شاهد أحمد بن حسان منا أمرا عجيبا هو من غرائب الأحاديث المأثورات في رقة النفوس وذلك إنه أصابه النوم عند الثلث الباقي من الليل فأوى إلى المصطبة التي تحف بها قبة زمزم مما يقابل الحجر الأسود وباب البيت فاستلقى فيها لينام فإذا بإنسان من العجم قد لجس على المصطبة بإزائه مما يلي رأسه فجعل يقرأ بتشويق وترقيق ويتبع ذلك بزفير وشهيق أحسن قراءة وأوقعها في النفوس وأشدها تحريكا للساكن فامتنع المذكور من المنام استمتاعا بحسن ذلك المسموع وما فيه من التشويق والتخشيع إلى أن قطع القراءة وجعل يقول: إن كان سوء الفعال ابعدني ... فحسن ظني إليك قربني ويردد ذلك بلحن يتصدع له الجماد وينشق عليه الفؤاد ومضى في ترديد ذلك البيت ودموعه تكف وصوته ترق وتضعف1 إلى أن وقع في نفس أحمد

_ 1 هكذا في الأصل بتأنيث الصوت.

ابن حسان المذكور أنه سيغشى عليه فما كان بين اعتراض هذا الخاطر في نفسه وبين وقوع الرجل مغشيا عليه من المصطبة إلى الأرض إلا كلا ولا1 وبقي ملقى كأنه لقى2 لا حراك به. فقام ابن حسان مذعورا لهول ما عاينه مترددا في حاية الرجل أو موته لشدة تلك الوجبة3 والموضع من الأرض بائن الارتفاع وقام أحد من كان بإزائه نائما وأقاما متحيرين ولم يقدما على تحريك الرجل ولا على الدنو منه إلى أن اجتازت أمرأة أعجمية وقالت: هكذا تتركون هذا الرجل على مثل هذا الحال؟ وبادرت إلى شيء من ماء زمزم فنضحت به وجهه ودنا المذكوران منه وأقاماه فعند ما أبصرهما زوى وجهه للحين عنهما مخافة أن تثبت له صفة في أعينهما وقام من فوره أخذا إلى جهة باب بنى شيبة. وبقيا متعجبين مما شاهداه وعض ابن حسان بنان الأسف على ما فاته من بركة دعائه إذ لم يمكنه الحال استدعاءه منه وعلى أنه لم تثبت له صورة في نفسه فكان يتبرك به متى لقيه. ومقامات هؤلاء الأعاجم في رقة الأنفس وتأثرها وسرعة انفعالها وشدة مجاهداتها في العبادات وطول مثابرتها على أفعال البر وظهور بركاتها مقامات عجيبة شريفة والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. وفي سحر يوم الخيمس الثالث عشر من الشهر المذكور كسف القمر وانتهى الكسوف منه إلى مقدار ثلثيه وغاب مكسوفا عند طلوع الشمس والله يلهمنا الاعتبار بآياته.

_ 1 كلا ولا: أي مدة قليلة أو لحظة. 2 اللقى: الشيء المطروح. 3 الوجبة: السقطة.

شهر رمضان المعظم عرفنا الله بركته

شهر رمضان المعظم عرفنا الله بركته استهل هلاله ليلة الإثنين التاسع عشر لدجنبر عرفنا الله فضله وحقه ورزقنا القبول فيه وكان صيام أهل مكة له يوم الأحد بدعوى في رؤية الهلال لم تصح لكن أمضى الأمير ذلك ووقع الإيذان بالصوم بضرب دبادبة ليلة الأحد المذكور لموافقته مذهبه ومذهب شيعته العلويين ومن إليهم لأنهم يرون صيام يوم الشك فرضا حسبما يذكر والله أعلم بذلك. ووقع الاحتفال في المسجدالحرام لهذا الشهر المبارك وحق ذلك من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعيل وغير ذلك من الآلات حتى تلألأ الحرم نورا وسطع ضباء وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقا فالشافعية فوق كل فرقة منها قد نصبت إماما لها في ناحية من نواحي المسجد والحنبلية كذلك والحنفية كذلك الزيدية؛ وأما المالكية فاجتمعت على ثلاثة قراء يتناوبون القراءة وهي في هذا العام أحفل جمعا وأكثر شمعا لأن قوما من التجار المالكيين تنافسوا في ذلك فجلبوا لإمام الكعبة شمعا كثيرا من أكبره شمعتان نصبتا أمام المحراب فيهما قنطار وقد حفت بهما شمع دونهما صغار وكبار فجاءت جهة المالكية تروق حسنا وترتمي الأبصار نورا وكاد لا يبقى في المسجد زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلى بجماعة خلفه فيرتج المسجد لأصوات القرأة من كل ناحية فتعاين الأبصار وتشاهد الأسماع من ذلك مرأى ومستمعا تنخلع له النفوس خشيبية ورقة. ومن الغرباء من اقتصر على الطواف والصلاة في الحجر ولم يحضر التروايح ورأى أن ذلك أفضل ما يغتنم وأشرف عمل يلتزم وما بكل مكان يوجد الركن الكريم والمتلزم. والشافعي في التراويح أكثر الأئمة اجتهادا وذلك أنه يكمل التراويح المعتادة التي هي عشر تسليمات ويدخل الطواف مع جماعة فإذا فرغ من

الأسبوع1 وركع عاد لاقامة تراويح أخر وضرب بالفرقعة الخطيبة المقتدمة الذكر ضربة يسمعها المسجد لعلو صوتها كأنها إيذان بالعود إلى الصلاة فإذا فرغوا من تسليمتين عادوا لطواف أسبوع فإذا أكلموه ضربت الفرقعة وعادوا لصلاة تسلميتين ثم عادوا للطواف هكذا إلى أن يفرغوا من عشر تسليمات فيكمل لهم عشرون ركعة ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون. وسائر الأئمة لا يريدون على العادة شيئا والمتناوبون لهذه التروايح المقامية خمسة أئمة أولهم إمام الفريضة وأوسطهم صاحبنا الفقيه الزاهد الورع أبو جعفر بن علي الفنكي القرطبي وقراءته ترق الجمادات خشوعا. وهذه الفرقعة المذكورة تستعمل في هذا الشهر المبارك وذلك أنه يضرب بها ثلاث ضربات عند الفراغ من أذان المغرب ومثلها عند الفرغ من أدان العشاء الآخرة وهي لا محالة من حملة البدع المحدثة في هذا المسجد المعظم قدسه الله. والمؤذن الزمزمي يتولى التسحير في الصومعة التي في الركن الشرقي من المسجد بسبب قربها من دار الأمير، فيقوم في وقت السحور فيها داعيا ومذكرا ومحرضا على السحور ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولأنه وقد نصبت في أعلى الصومعة خشبة طويلة في رأسها عود كلاذراع وفي طرفيه بكرتان صغيرتان ترفع عليها قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يقدان مدة التحسير. فإذا قرب تبيين خيطي الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة حط المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ بالأذان وثوب2 المؤذنون من كل ناحية بالأذان. وفي ديار مكة كلها سطوح مرتفعة فمن لم يسمع نداء التسحير ممن يبعد مسكنه من المسجد يبصر القنديلين يقدان في أعلى الصومعة فإذا لم يبصرهما علم أن الوقت قد انقطع.

_ 1 الأسبوع هنا: السبعة 2 ثوب: رجع الأذان.

سيف الإسلام

سيف الإسلام وفي ليلة الثلاثاء الثاني من الشهر مع العشي طاف الأمير مكثر بالبيت مودعا وخرج للقاء الأمير سيف الإسلام طغتكين بن أيوب اخى صلاح الدين وقدتقدم الخبر بورود من مصر منذ مدة ثم تواتر إلى أن صح وصوله إلى الينبوع1 وأنه عرج إلى المدينة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقدمت أثقاله إلى الصفراء2 والمتحدث به في وجهته قصد اليمن لاختلاف وقع فيها وفتنة حدثت من أمرائها لكن وقع في نفوس المكيين منه إيجاس خيفة واستشعار خشية فخرج هذا الأمير المذكور متلقيا مسلما وفي الحقيقة مستسلما والله تعالى يعرف السلمين خيرا. وفي ضحوة يوم الأربعاء الثالث من الشهر المبارك المذكور كنا جلوسا بالحجر المكرم فسمعنا دبادب الأمير مكثر وأصوات نساء مكة تولون عليه فبينا نحن كذلك دخل منصرفا من لقاء الأمير سيف الإسلام المذكور وطائفا بالبيت المكرم طواف الستليم والناس قد أظهروا الاستبشار لقدومه والسرور بسلامته وقد شاع لاخبر ينزول سيف الإسلام الزاهر وضرب أبنيته فيه ومقدمته من العسكر قد وصلت اى الحر وزاحمت الأمير مكثرا في الطواف. فبينا الناس ينظرون إليهم إذ سمعوا ضوضاء عظيمة وزعقات هائلة فما راعهم إلا الأمير سيف الإسلام داخلا من باب بني شيبة ولمعان السيوف أمامه يكاد يحول بين الأبصار وبينه والقاضي عن يمينه وزعيم الشيبيين عن يساره والمجسد قد ارتج وغص بالنظارة والوافدين والأصوات بالرعاء له ولأخيه صلاح الدين قد علت من الناس حتى صكت الأسماع وأذهلت الأذهان؛

_ 1 الينبوع: أراد ينبع، وهو حصن له عيون ونخيل وزروع بطريق حاج مصر "القاموس". 2 أثقال: أحماله. الصفراء: قرية فوق ينبع، وهي كثيرة المزارع والنخل، ماؤها عيون، يجري فضلها إلى ينبع.

والزمزمي المؤذن في مرقبته رافعا عقيرته بالدعاء له والثناء عليه وأصواب الناس تعلو على صوته والهول قد عظم مرأى ومستعما. فلحين دنو الأمير من البيت المعظم اغمدت السيوف وتضاءلت النفوس وخلعت ملابس العزة وذلت الأعناق وخضعت الرقاب وطاشت الألباب مهابة وتعظيما لبيت ملك المولك العزيز الجبار ألواح د القهار مؤتى الملك من يشاء ونازع الملك ممن يشاء سبحانه جلت قدرته وعز سلطانه. ثم تهافتت هذه العصابة الغزية على بيت الله العتيق تهافت الفراش على المصباح وقد نكس أذقانهم لاخضوع وبلت سبالهم الدموع وطاف القاضي وزعيم الشيبيين بسيف الإسلام والأمير مكثر قد غمره ذلك الزحام فأسرع في الفراغ من الطواف وبادر إلى منزله. وعند ما أكمل سيف الإسلام طوافه صلى خلف المقام ثم دخل قبة زمزم فشرب من مائها ثم خرج على باب الصفا إلى السعي فابتدأه ماشيا على قدميه تواضعا وتذللا لمن يجب التواضع له واليوف مصلوته مامه وقد صطف الناس من أول المسعى إلى آخره سماطين مثل ما صنعوا أيضا في الطواف فسعى على قدميه طريقين من الصفا إلى المروة ومنها إلى الصفا وهرول بين الميلين الأخضرين ثم قيده الإعياء فركب وأكمل السعى راكبا وقد حشر الناس ضحى. ثم عاد هذا الأمير إلى المسجدالحرام على حالته من الأرهاب والهيبة وهو يتهادى بين بروق خواطف السيوف المصلتة وقد بادر الشيبيون إلى باب البيت المكرم ليفتحوه ولم يكن يوم فتحه وضم الكرسي الذي يصعد عليه فرقى الأمير فيه وتنأول زعيم الشيبين فتح الباب فإذا المفتاح قد سقط من كمه في ذلك الزحام فوقف وقفة دهش مذعور ووقف الأمير على الأدراج فيسر الله للحين في وجود المفتاح ففتح الباب الكريم ودخل الأمير وحده مع الشبي وأغلق الباب وبقى وجوه الاغزاز وأعيانهم مزدحمين على

ذلك الكرسي فبعد لأي ما فتح لا مرائهم المقربين فدخلوا. وتمادى مقام سيف الإسلام في البيت الكريم مدة طويلة ثم خر ج وانفتح الباب للكافة منهم فياله من ازدحام وتراكم وانتظام حتى صاروا كالعقد المستطيل وقد اصتلوا وتسلسلوا فكان يومهم أشبه شيء بأيام السرو في دخولهم البيت حسبما تقدم وصفه وركب الأمير سيف الإسلام وخرج إلى مضرب ابنيته بالموضع المذكور وكان هذا اليوم بمكة من الأيام الهائلة المنظر العجيبة المشهد الغريبة الشان فسبحان من لا يقنضى ملكه ولا يبيد سلطانه لا إله سواه. وصحب هذا الأمير جملة من حجاج مصر وسواها اغتناما لطريق البر والأمن فوصلوا في عافية وسلامة والحمد لله. وفي ضحوة يوم الخيس بعده كنا أيضا بالحجر المكرم فإذا بأصوات طبول ودبادب وبوقات قد قرعت الأذان وارتجت لها نواحي الحرم الشريف فبينا نحن نتطلع لاستعلام خبرها طلع علينا الأمير مكثر وغاشيته1 الأقربون حوله وهو رافل في حلة ذهب كأنها لجمر المتقد يسحب أذيالها وعلى رأسه عمامة شرب2 رقيق سحابي اللون قد علا كورها3 على رأسه كانها سحابة مركومة وهي مصفحة بالذهب وتحت الحلة خلعتان من الديبقى المرسوم البديع الصنعة خلعها عليه الأمير سيف الإسلام فوصل بها فرحا جذلان والطبول والدبادب تشيعه عن أمر سيف الإسلام إشادة بتكرمته واعلاما بمأثره منزلته فطاف بالبيت لمكرم شكرا لله على ما وهبه من كرامة هذا الأمير بعد أن كان اوجس في نفسه خيفة منه والله يصلحه ويوفقه بمنه. وفي يوم الجمعة وصل الأمير سيف الإسلام للصلاة أول الوقت وفتح البيت المكرم فدخله مع الأمير مكثر وأقاما به مدة طويلة ثم خرجا وتزاحم

_ 1 غاشيته: الذين يغشون داره: يدخلون عليه. 2 الشرب: نسيج رقيق اشتهرت به مدينتا دمياط وتنيس من مصر. 3 كورها: الدور منها.

الغز للدخول تزاحما أبهت الناظرين حتى أزيل الكرسي الذي يصعد عليه فلم يغن عن ذلك شيئا وأقاموا على الازدحام في الصعود باشالة بعضهم على بعض وداموا على هذه الحالة إلى أن وصل الخطيب فخرجوا لاستماع الخطبة وأغلق الباب. وصلى الأمير سيف الإسلام عم الأمير مكثر في القبة العباسية فلما انقضت الصلاة خرج على باب الصفا وركب إلى مضرب أبنيته. وفي يوم الأربعاء العاشر منه خرج الأمير المذكور بجنوده إلى اليمن والله يعرف أهلها من المسلمين في مقدمه خيرا بمنه.

تراويح رمضان

تراويح رمضان وهذا الشهر المبارك قد ذكرنا اجتهاد المجاورين للحرم الشريف في قيامه وصلاة تراويحه وكثرة الأئمة فيه وكل وتر من الليالي العشر الأواخر يختم فيها القرآن فأولها ليلة إحدى وعشرين ختم فيها أحد أبناء أهل مكة وحضر الختمة القاضي وجماعة من الاشياخ فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيبا ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور إلى منزله إلى طعام وحلوا قد أعدهما واحتفل فيهما. ثم بعد ذلك ليلة ثلاث وعشرين وكان المختتم فيها أحد أبناء المكيين ذوي إليسار غلاما لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة فاحتفل أبوه لهذه الليلة احتفالا بديعا وذلك أنه أعد له ثريا مصنوعة من الشمع مغصنة قد انتظمت أنواع الفواكه الرطبة واليابسة واعد إليها شمعا كثيرا ووضع في وسط الحرم مما يلي باب بنى شيبة شبيه المحراب المربع من أعواد مشرجبة قد أقيم على قوائم أربع وربطت في أعلاه عيدان نزلت منها قناديل واسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل وسمر دائر المحراب كله بمسامير حديدة الأطراف غرز

فيها الشمع فاستدار المحراب كله واوقدت الثريا المغصنة ذات الفواكه، وأمعن الاحتفال في هذا كله ووضع بمقربة من الحراب منبر مجلل بكسوة مجزعة مختلفة الألوان وحضر الإمام الطفل فصل التروايح وختم وقد انحشد أهل المسجد الحرام إليه رجالا ونساء وهو في محرابه لا يكاد يبصر من كثرة شعاع الشمع المحدق به. ثم برز من محرابه رافلا في أفخر ثيابه بهيبة إمامية وسكينة غلامية مكحل العينين مخضوب الكفين إلى الزندين فلم يستطع الخلوص إلى مبنره من كثرة الزحام فأخذه أحد سدنة تلك الناحية في ذراعه حتى القاه على ذروة منبره فاستوى مبتسما وأشار على الحاضرين مسلما. وقعد بين يديه قراء فابتدروا القراءة على لسان واحد فلما اكملوا عشرا من القرآن قام الخطيب فصدع بخطبة يحرك لها أكثر النفوس من جهة الترجيع لا من جهة التذكير والتخشيع وبين يديه في درجات المنبر نفر يمسكون أنوار الشمع في أيديهم ويرفعون اصواتهم بيارب يا رب عند كل فصل من فصول الخطبة يكررون ذلك والقراء يبتدرون القراءة في أثناء ذلك فيسكت الخيطب إلى أن يفرغوا ثم يعود لخطبته وتمادى فيها متصرفا في فنون من التذكير. وفي أثنائها اعترضه ذكر البيت العتيق كرمه الله فحسر عن ذراعيه مشيرا إليه وأردفه بذكر زمزم والمقام فاشار إليهما بكلتا اصبعيه ثم ختمها يتوديع الشهر المبارك وترديد السلام عليه ثم دعا للخليفة ولكل من جرت العادة بالدعاء له من الأمراء ثم نزل وانفض ذلك الجمع العظيم وقد استظرف ذلك الخطيب واستنبل وإن لم تبلغ الموعظة من النفوس ما أمل والتذكرة إذا خرجت من اللسإن لم تتعد مسافة الآذان. ثم ذكر أن المعينين من ذلك الجمع كالقاضي وسواه خصوا بطعام حفيل وحلوا على عادتهم في مثل هذا المجتمع وكانت لأبي الخطيب في تلك الليلة نفقة واسعة في جميع ما ذكر.

ثم كانت ليلة خمس وعشرين فكان المختتم فيها الإمام الحنفي وقد أعد ابنا له لذلك سنه نحو من سن الخطيب الأول المذكور فكان احتفال الإمام الحنفي لابنه في هذه الليلة عظيما احضر فيها من ثريات الشمع أربعا مختلفات الصنعة منها مشجرة مغصنة مثمرة بأنواع الفواكه الرطبة واليابسة ومنها غير مغصنة فصففت إمام حطيمه وتوج الحطيم بخشب وألواح وضعت أعلاه وجلل ذلك كله سرجا ومشاعيل وشبحا فاستنار الحطيم كله حتى لاح في الهواء كالتاج العظيم من النور وأحضر الشمع في أتوار1 الصفر ووضع المحراب العودى المشرجب فجلل دائرة الأعلى كله شمعا وأحدق الشمع في الأنوار به فاكتنفته هالات من نور ونصب المنبر قبالته مجللا أيضا بالكسوة الملونة. واحتفال الناس لمشاهدة هذا المنظر النير أعظم من الاحتفال الأول. فختم الصبي المذكور ثم برز من محرابه إلى منبره يسحب أذيال الخفر في أثواب رائقة المنظر فتسور منبره واشار بالسلام على الحاضرين وابتدأ خطبته بسكينة ولين ولسان على حالة الحياء مبين فكأن الحال على طفولتها كانت أوقر من الأولى واخشع والموعظة أبلغ والتذكرة أنفع. وحضر القراء بين يديه على الاسم الأول وفي أثناء فصول الخطبة يبتدرون القراءة فيسكت خلال إكمالهم الآية التي انتزعوهات من القرآن ثم يعود إلى خطبته. وبين يديه في درجات المنبر طائفة من الخدمة يمسكون أنوار الشمع بأيديهم ومنهم من يمسك المجمرة يسطع بعرف العود الرطب الموضوع فيها مرة بعد أخرى فعند ما يصل إلى فصل من تذكير أو تخشيع رفعوا أصواتهم بيارب يا رب يكررونها ثلاثا أو أربعا وربما جاراهم في النطق بعض الحاضرين إلى أن فرغ من خطبته ونزل وجرى الإمام اثره على الرسم من الإطعام لمن حضر من أعيان المكان إما باستدعائهم إلى منزله تلك الليلة أو بتوجيه ذلك إلى منازلم.

_ 1 أتوار، الواحد تور: إناء صغير.

ثم كانت ليلة سبع وعشرين وهي ليلة الجمعة بحساب يوم الأحد فكانت الليلة الغرءا والختمة الزهراء والهيبة الموفورة الكهلاء1 والحالة التي تمكن عند الله تعالى في القبول والرجاء وأي حالة تؤازي شهود ختم القرآن ليلة سبع وعشرين من رمضان خلف المقام الكريم وتجاه البيت العظيم؟ وإنها لنعمة تتضاءل لها النعم تصاؤل سائر البقاع للحرم. ووقع النظر والاحتفال هذه الليلة المباركة قبل ذلك بيومين أو ثلاثة واقيمت إزاء حطيم إمام الشافعية خشب عظام بائنة الارتفاع موصول بين كل ثلاث منها بأذرع من الأعواد الوثيقة فاتصل منها صف كاد يمسك نصف الحرم عرضا ووصلت بالحطيم المذكور ثم عرضت بينها ألواح طال مدت على الأذرع المذكورة وعلت طبقة منها طبقة أخرى حتى استكلمت ثلاث طبقات فكانت الطبقة العليا منا خشبا مستطيلة مغروزة كلها مسامير محددة الأطراف لاصقا بعضها ببعض كظهر الشهيم2 نصب عليها الشمع والطبقتان تحتها ألواح مثقوبة ثقبا متصلا وضعت فيها زجاجات المصابيح ذوات الأنابيب المنبعثة من أسافلها. وتدلت من جوانب هذه الألواح والخشب ومن جميع الأذرع المذكورة قنايدل كبا وصغار وتخللها اشباه الاطباق المبسوطة من الصقر قد انتظم كل طبق منها ثلاث سلاسل تقلها في الهواء وخرقت كلها ثقبا ووضعت فيها الزجاجات ذوات الأنابيب من أسفل تلك الاطباق الصفرية لا يزيد منها أنبوب من أنبوب في القد وأوقدت فيها المصابيح فجاءت كأنها موائد ذوات أرجل كثيرة تشتعل نورا، ووصلت بالحطيم الثاني الذي يقابل الركن الجنوبي من قبة زمزم خشب على الصفة المذكورة اتصلت إلى الركن المذكور واوقد المشعل الذي في رأس فحل القبة المذكورة وصففت طرة شباكها شمعا مما يقابل

_ 1 أراد بالكهلاء: الموقرة. 2 الشيهم: ذكر القنافذ.

البيت المكرم. وحف المقام الكريم بمحراب من الأعواد المشرجبة المخرمة محفوفة الأعلى بمسامير حديدة الأطراف على الصفة المذكورة جللت كلها شمعا وصنب عن يمين المقام ويساره شمع كبير الجرم في أنوار تناسبها كبرا وصفت تلك الأنوار على الكراسي التي يصرفها السدنة مطالع عند الايفاد وجلل جدار الحجر المكرم كله شمعا في أنوار من الصفر فجاءت كأنها دائرة نور ساطع واحدقت بالحرم المشاعيل واوقد جميع ما ذكر. واحدق بشرفات الحرم كلها صبيان مكة وقد وضعت بيد كل واحد منهم كرة من الخرق المشبعة سليطا1 فوصفوها متقدة في رؤوس الشرفات وأخذت كل بالواحد طائفة منهم ناحية من نواحيها الأربع فجعلت كل طائفة تبارى صاحبتها في سرعة ايقادها فيخيل للناظر أن النار تثب من شرفة إلى شرفة لخفاء اشخاصهم وراء الضوء المرتمي الأبصار وفي أثناء محاولتهم لذلك يرفعون اصواتهم بيارب يا رب على لسان واحد فيرتجج الحرم لأصواتهم. فلما كمل ايقاد الجميع بما ذكر كاد يغشى الأبصار شعاع تلك الأنوار فلا تقع لمحة طرف إلا على نور تشغل حاسة لبصر عن استمالة النظر فيتوهم المتوهم لهول ما يعانيه من ذلك أن تلك الليلة المباركة نزهت لشرفها عن لباس الظلماء فزينت بمصابيح السماء. وتقدم القاضي فصلى فريضة العشاء الآخرة ثم قام وابتدأ بسروة القدر وكان أئمة الحرم في الليلة قبلها قد انتهوا في القراءة إليها وتعطل في تلك الساعة سائر الأئمة من قراءة التراويح تعظيما لختمة المقام وحضروا متبركين بمشاهدتها. وقد كان المقام المطهر أخرج من موضعه المستحدث في البيت العتيق حسبما تقدم الذكر أولا له فيما سلف من هذا التقييد وووضع في محله الكريم المتخذ مصلى مستورا بقبته التي يصلى الناس خلفها فتختم القاضي

_ 1 السليط: الزيت الجيد.

بتسليمتين وقام خطيبا مستقبل المقام والبيت العتيق فلم يتمكن سماع الخطبة للازدحام وضوضاء العوام. فلما فرغ من خطبته عاد الأئمة لاقامة تراويحهم وانفض الجمع ونفوسهم قد استطارت خشوعا واعينهم قد سالت دموعا والأنفس قد اشعرت من فضل تلك الليلة المباركة رجاء مبشرا بن الله تعالى بالقبول ومشعرا أنها ولعلها ليلة القدر المشرف ذكرها في التنزيل والله عز وجل لا يخلى الجميع من بركة مشاهدتها وفضل معاينتها أنه كريم منان لا إله سواه. ثم ترتبت قراءة أئمة المقام الخمسة المذكورين أولا بعدهذه الليلة المذكورة بآيات ينتزعونها من القرآن على اختلاف السور تتضمن التذكير والتحذير والتبشير بحسب اختيار كل واحد منهم ورسم طوافهم إثر كل تسليمتين باق على حاله والله ولى القبول من الجميع. ثم كانت ليلة تسع وعشرين منه فكان المختتم فيها سائر أئمة التروايح ملتزمين رسم الخطبة اثر الختمة والمشار إليه منهم المالكي فتقدم باعداد أعواد بإزاء محرابه نصبها ستة على هيئة دارة محراب مرتفعة عن الأرض بدون القامة يعترض على كل اثنين منها عود مبسوط فأدير بالشمع أعلاها وأحدق اسفلها ببقايا شمع كثير قدتقدم ذكره عند ذكر أول الشهر المبارك. وأحدق أيضا داخل تلك الدائرة شمع آخر متوسط فكان منظرا مختصرا ومشهدا عن احتفال المباهاة منزها موقرا رغبة في احتفال الأجر والثواب ومناسبة لموضع هيئة المحراب نصبت للشمع فيه عرضا من الأنوار أثافي1 من الأحجار فجاءت الحال غريبة في الاختصار خارجة عن محفل التعاظم والاستكبار داخلة مدخل التواضع والاستصغار. واحتفل جميع المالكية للختمة فتناوبها أئمة التراويح فقضوا صلاتهم

_ 1 الأثافي: أحجار توضع عليها القدر.

سراعا عجالا كاد يلتقى طرفاها خفوفا واستعجالا ثم تقدم أحد هم فعقد حبوته1 بين تلك الأثافي وصدع بخطبة منتزعة من خطبة الصبي ابن الإمام الحنفي فأرسلها معادة إلى الأسماع ثقيلا لحنها على الطباع ثم انقض الجمع وقد جمد في شئونه2 الدمع واختطف للحين من أثافيه ذلك الشمع اطلقت عليه أيدي الانتهاب ولم يكن في الجماعة م يستحي منه أو يهاب وعند الله تعالى في ذلك الجزاء والثواب أنه سبحانه الكريم الوهاب. وانتهت ليالي الشهر ذأهبة عنا بسلام جعلنا الله ممن طهر فيها من الآثام ولا أخلانا من فضل القبول ببركة صومه في جوار الكعبة البيت الحرام وختم الله لنا ولجميع أهل الملة الحينفية بالوفاة على الإسلام وأوزعنا3 حمدا بحق هذه النعمة وشكرا وجعلها للمعاد لنا دخرا ووفانا عليها ثوابا من لديه وأجرا يرجى بفضله وكرمه أنه يضيع لديه أيام اتخذ لصيامها ماء زمزم فطرا إنه الحنان المنان لا رب سواه.

_ 1 عقد حبوته: أي جلس وجمع بين ظهره وساقيه بعمامة أو ثوب. 2 الشؤون: العروق التي تجري فيها الدموع. 3 أوزعنا: ألهمنا.

شهر شوال عرفنا الله بركته

شهر شوال عرفنا الله بركته استهل هلاله ليلة الثلاثاء السادس عشر من ينير4 يمن الله مطلعه ورزقنا بركته وهذا الشهر المبارك هو فاتحة أشهر الحج المعلومات وبعده تتصل ثلاثة الأشهر الحرم المباركات وكانت ليلة استهلال هلاله من الليالي الحفيلة في المسجدالحرام زاده الله تكريما جرى الرسم في ايقادمشاعله وثرياته وشمعه على الرسم المذكور ليلة سبع وشعرين من رمضان المعظم،

_ 4 أي يناير، كانون الثاني.

وأوقدت الصوامع من الأربع جهات من الحرم وأوقد سطح المسجد الذي في أعلى جبل أبي قبيس وأقام المؤذن ليلته تلك في أعلى سطح قبة زمزم مهللا ومبكرا ومسبحا وحامدا وأكثر الأئمة تلك الليلة أحيا وأكثر الناس على مثل تلك الحال بين طواف وصلاة وتهليل وتكبير يقبل الله من جميعهم إنه سميع الدعاء كفيل بالرجاء سبحانه لا إله سواه.

عيد رمضان

عيد رمضان فلما كان صبيحتها وقضى الناس صلاة الفجر لبس الناس أثواب عيدهم وبادروا لأخذ مصافهم لصلاة العيد بالمسجد الحرام لأن السنة جرت بالصلاة فيه دون مصلى يخرج الناس إليه رغبة في شرف البقعة وفضل بكرتها وفضل صلاة الإمام خلف المقام ومن يأتم به. فأول من بكر الشيبيون وفتحوا باب الكعبة المقدسة وأقام زعيمهم جالسا في العتبة المقدسة وسائر الشيبيين داخل الكعبة إلى أن احسو بوصول الأمير مكثر فنزلوا إليه وتلقوه بمقربة من باب النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى البيت المكرم وطاف حوله اسبوعا والناس قد احتلفوا لعبدهم والحرم قد غص بهم والمؤذن الزمزمي فوق سطح القبة على العادة رافعا صوته بالثناء عليه والدعاء له متناوبا في ذلك مع أخيه. فلما اكمل الأمير الأسبوع عمد إلى مصطبة قبة زمزم مما قابل الكرن الأسود فقعد بها وبنوه عن يمينه ويساره ووزيره وحاشيته وقوف على رأسه وعاد الشيبوين لمكانهم من البيت المكرم يلحظهم الناس بابصار خاشعة للبيت غابطة لمحلهم منه ومكانهم ن حجابته وسدانته فسبحان من خصهم بالشرف في خدمته وحضر الأمير من خاصته شعراء أربعة فأنشدوه واحدا ثر واحد إلى أن فرغوا من إنشادهم. وفي أثناء ذلك تمكن وقت الصلاة وكان ضحى من النهار فأقبل القاضي

الخطيب يتهادى بين رايتيه السوداوين والفرقعة المتقدم ذكرها أمامه وقد صك الحرم صوتها وهو لابس ثياب سواده فجاء إلى المقام الكريم وقام الناس للصلاة فلما قضوها رقى المنبر وقد الصق إلى موضعه المعين له كل جمعة من جدار الكعبة لمكرمة حيث الباب الكريم شارعا فخطب خطبة بليغة والمؤذنون قعود دونه في أدراج المنبر فعند افتتاحه فصول الخطبة بالتكبير يكبرون بتكبيره إلى أن فرغ من خطبته. وأقبل الناس بعضهم على بعض بالمصافحة والستليم والتغافر والدعاء مسرورين جذلين فرحين بما آتاهم الله من فضله وبادروا إلى البيت الكريم فدخلوا بسلام آمنين مزدخمين عليه فوجا فوجا فكان مشهدا عظيما وجمعا بفضل الله تعالى مرحوما جعله الله ذخيرة للمعاد كما جعل ذلك العيد الشريف في العمر أفضل الأعياد بمنه وكرمه إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأخذ الناس عند انتشارهم من مصلاهم وقضاء سنة السلام بعضهم على بعض في زيارة الجبانة بالمعلى تبركا باحتساب الخطا الصالحين من الصدر الأول وسواه رضى الله عن جميعهم وحشرنا في زمزرتهم ونفعنا بمحبتهم فالمرء كما قال صلى الله عليه وسلم مع من أحب.

مناسك الحج

مناسك الحج وفي يوم السبت التاسع عشر منه والثالث لفبرير1 صعدنا إلى منى لمشاهدة المناسك المعظمة بها ولمعاينة منزل اكترى لنا فيها إعدادا للمقام بها أيام التشريق إن شاء الله فألفيناها تملأ النفوس بهجة وانشراحا مدينة عظيمة الآثار واسعة الاختطاط عتيقة الوضع قد درست إلا منازل يسيرة

_ 1 فبرير: شباط.

متخذة للنزول تحف بجانبي طريق كأنه ميدان انبساطا وانقساما ممتد الطول. فأول ما يلقى المتوجه إليها عن يساره وبمقربة منها مسجد البيعة المباركة التي كانت أول بيعة في الإسلام عقدها العباس رضى الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار حسب المشهور من ذلك. ثم يفضى منه إلى جمرة العقبة وهي أول منى للمتوجه من مكة وعن يسار المار إليها وهي على قارعة الطريق مرتفعة للمتراكم يها من حصى الجمرات ولولا آيات الله البينات فيها لكانت كالجبال الرواسي لما يجتمع فيها على تعاقب الدهور وتوالي الأزمنة لكن الله عز وجل فيها سر كريم من اسراره الخفيات لا إله سواه وعليها مسجد مبارك وبها علم نصوب شبه اعلام الحرم التي ذكرناها فيجعلها الرامي عن يمينه مستقبلا مكة شرفها الله ويرمى بها سبع حصيات وذلك يوم النحر اثر طلوع الشمس ثم ينحر أو يذبح ويحلق والمحلق حولها والمنحر في كل موضع من منى لأن منى كلها منحر كما قال صلى الله عليه وسلم وقد حل له كل شيء إلا النساء والطيب حتى يطوف طواف الإفاضة. وبعد هذه الجمرة العقبية موضع الجمرة الوسطى ولها أيضا علم منصوب وبينهما قدر الغلوة ثم بعدها يلقى الجمرة الأولى ومسافتها منها كمسافة الأخرى. وفي وقت الزوال من ثاني يوم النحر ترمى في الأولى سبع حصيات وفي الوسطى كذلك وفي العقبة كذلك فتلك إحدى وعشرون حصاة وفي الثالث من يوم النحر في الوقت بعينه كذلك على الترتيب المذكور فتلك اثنتان وأربعون حصاة في إليومين وسبع رميت في العقبة يوم النحر وقت طلوع الشمس كما ذكرناه وهي المحللات للحاج ما حرم عليه سوى النساء والطيب فتلك تكمة تسع وأربعين جمرة. وفي إثر ذلك ينفصل الحاج إلى مكة من ذلك اليوم واختصر في هذا الزمان

إحدى وعشرون كانت ترمى في اليوم الرابع على الترتيب المذكور وذلك لاستعجال الحاج خوفا من العرب الشعبيين إلى غير ذلك من محذورات الفتن المغيرات الآثار السن فمضى العمل اليوم على تسع وأربعين حصاة وكانت في القديم سبعين والله يهب القبول لعباده. والصادر من عرفات إلى منى أول ما يلقى الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة وفي يوم النحر تكون جمرة العقبة اولى منفردة بسبع حصيات حسبما تقدم ذكره ولا يشترك معها سواها في ذلك اليوم ثم في إليومين بعده ترجع الآخرة على الترتيب حسبما وصفناه بحول الله عز وجل. وبعد الجمرة الأولى يعرج عن الطريق يسيرا ويلقى منحر الذبيح صلى الله عليه وسلم حيث فدى بالذبح العظيم وعلى الموضع المبارك مسجد بمنى وهو بمقربة من سفح ثبير1. وفي موضع المنحر المذكور حجر قد الصق بالجدار المبنى فيه أثر قدم صغيرة يقال إنه أثر قدم الذبيح صلى صلى الله عليه وسلم عند تحركه فلان الحجر له بقدرة الله عز وجل إشفاقا وحنانا فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله. ويفضى من ذلك إلى مسجد الخيف المبارك وهو آخر منى في توجهك أعني من المعمور منها بالبنيان وأما الآثار القديمة فأخذت إلى أبعد غاية إمام المسجد. وهذا المسجد المبارك متسع الساحة كأكبر ما يكون من الجوامع والصومعة وسط رحبة المسجد وله في القبلة أربعة بلاطات يشملها سقف واحد وهو من المساجد الشهيرة بركة وشرف بقعة وكفى بما ورد في الأثر الكريم من أن يقعته الطاهرة مدفن كثير من الأنبياء صلوات الله عليهم. وبمقربة منه عن يمين المار في الطريق حجر كبير مسند إلى صفح2 الجبل مرتفع عن الأرض يظل ما تحته ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم،

_ 1 ثبير: جبل. 2 الصفح: الوجه والسفح.

قعد تحته مستظلا ومس رأسه المكرم فيه فلان له حتى اثر فيه تأثيرا بقدر دور الرأس فيبادر الناس لوضع رؤوسهم في ذلك الموضع تبركا واستجارة لها بموضع مسه الرأس المكرم أن لا تمسها النار بقدرة الله عز وجل. فلما قضينا معاينة هذه المشاهد الكريمة أخذ نا في الانصراف مستبشرين بما وهبنا الله من فضله في مباشرتها ووصلنا إلى مكة قريب الظهر والحمد لله على ما من به. وفي يوم الأحد بعده وهو الموفى عشرين لشوال صعدنا إلى الجبل المقدس حراء وتبركنا بمشاهدة الغار في أعلاه الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه وهو أول موضع نزل فيه الوحي عليه صلى الله عليه وسلم ورزقنا شفاعته وحشرنا في زمرته وأماتنا على سنته ومحبته بمنه وكرمه لا رب سواه. وفي ضحوة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين منه وهو لسادس من فبراير اجتمع الناس كافة للاستسقاء تجاه الكعبة المعظمة بعد أن ندبهم القاضي إلى ذلك وحرضهم على صيام ثلاثة أيام قبله فاجتمعوا في هذا اليوم الرابع المذكور وقد أخلصوا النيات لله عز وجل وبكر الشيبيون ففتحوا الباب المكرم من البيت العتيق ثم أقبل القاضي بين رايتيه السوداوين لابسا ثياب البياض وأخرج مقام الخيل إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا ووضع على عتبة باب البيت لمكرم وأخرج مصحف عثمان رضي الله عنه من خزانته ونشر بإزاء المقام المطهر فكانت دفته الواحدة عليه والثانية على الباب الكريم. ثم نودي في الناس بالصلاة جامعة فصلى القاضي بهم خلف موضع المقام المتخذ مصلى ركعتين قرأ في إحد اهما بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية بالغاشية ثم صعد المنبر وقد ألصق إلى موضعه المعهود من جدار الكعبة المقدسة فخطب خطبة بليغة والى فيها الاستغفار ووعظ الناس وذكرهم وخشعهم وحضهم على التوبة والإنابة لله عز وجل حتى نزفت دمعها العيون

واستنفدت ماءها الشؤون وعلا الضجيج وارتفع الشهيق والنشيج وحول رداءه وحول الناس أرديتهم ابتاعا للسنة. ثم انقض الجمع راجين رحمة الله عز وجل غير قانطين منها والله يتلافى عباده بلطفه وكرمه وتمادى استسقاؤه بالناس ثلاثة أيام متوالية على الصفة المذكورة وقد نال الجهد من أهل الحجاز وأضر بهم القحط وأهلك مواشيهم الجدب لم يمطروا في الربيع ولا الحريف ولا الشتاء إلا مطرا طلا غير كاف ولا شاف والله عز وجل لطيف بعباده غير مؤاخذهم بجرائمهم إنه الحنان المنان لا رب سواه. وفي يوم الخميس الرابع والعشرين من شوال صعدنا إلى جبل ثور لمعاينة الغار المبارك الذي أوى إليه النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه الصديق رضي الله عنه حسبما جاء في محكم التنزيل العزيز وقد تقدم ذكر هذا الغار وصفته أولا في هذا التقييد وولجناه من الموضع الذي بعسر الولوج منه على البعض من الناس تبركا بمس بشرة البدن بموضع مسه الجسم المبارك قدسه الله لأن مدخل النبي صلى الله عليه وسلم كان منه. وكان لأحد الصاعدين إليه ذلك اليوم من المصريين موقف خجلة وفضيحة وذلك إنه رام الولوج فيه على ذلك الموضع الضيق فلم يقدر بحيلة وعاود ذلك مرارا فلم يستطع حتى استوقف الناس ما عاينوه من ذلك وبكوا له إشفاقا ولجأوا إلى الله عز وجل في الدعاء فلم يغن ذلك شيئا وكان فيهم من هو أضخم منه فيسر الله عليه وطال تعجب الناس منه واعتبارهم. وأعلمنا بعد انفصالنا في ذلك اليوم بأن هذا الموقف المخجل لثلاثة أناس في ذلك اليوم بعينه عصمنا الله من مواقف الفضيحة في الدنيا والآخرة. وهذا الجبل صعب المرتقى جدا يقطع الأنفاس تقطيعا لا يكاد يبلغ منتهاه إلا وقد ألقى بالأيدي إعياء وكلالا وهو من مكة على مقدار ثلاثة أميال وعلى ذلك القدر هو جبل حراء منها والله تعالى لا يخلينا من بكرة هذه المشاهد،

بمنه وكرمه. وطول الغار ثمانية عشر شبرا وسعته أحد عشر شبرا في الوسط منه وفي حافيته ثلثا شبر وعلى الوسط منه يكون الدخول وسعة الباب الثاني المتسع مدخله خمسة أشبار أيضا لأن له بابين حسبما ذكرناه أولا. وفي يوم الجمعة بعده وصل السرو اليمنيون في عدد كثير مؤملين زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وجلبوا ميرة إلى مكة على عادتهم فاستبشر الناس بقدومهم استبشارا كثيرا حتى انهم أقاموه عوض نزول المطر ولطائف إله لسكان حرمه الشريف واسعة إنه سبحانه لطيف بعباده لا إله سواه.

شهر ذي القعدة عرفنا الله يمنه وبركته

شهر ذي القعدة عرفنا الله يمنه وبركته استهل هلاله ليلة الأربعاء بموافقة الرابع عشر من شهر فبرير بشهادة ثبتت عند القاضي في رؤيته وأما الأكثر الأغلب من أهل المسجد الحرام فلم يبصروا شيئا وطال ارتفاعهم1 إلى إثر صلاة المغرب وكان منهم من يتخيله فيشير إليه فإذا حققه تلاشى عنده نظره وكذب خبره والله أعلم بصحة ذلك. وهذا الشهر المبارك ثاني الأشهر الحرم وثاني أشهر الحج أطلع الله هلاله على المسلمين بالأمن والإيمان والمغفرة والرضوان بعزته ورحمته.

_ 1 أراد ارتفاعهم إلى الأمكنة العالية لرؤية الهلال.

مسجد مولد النبي

مسجد مولد النبي وفي يوم الإثنين الثالث عشر منه دخلنا مولد النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجد حفيل البنيان وكان دارا لعبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم ذكره. ومولده صلى الله عليه وسلم صفة صهريج1 صغير سعته ثلاثة أشبار وفي وسطه رخامة خضراء سعتها ثلثا شبر مطوقة بالفضة فتكون سعتها مع الفضة المتصلة بها شبرا ومسحنا الخدود في ذلك الموضع المقدس الذي هو مسقط لأكرم مولود على الأرض وممس لأطهر سلالة وأشرفها صلى الله عليه وسلم ونفعنا ببركة مشاهدة مولده الكريم وبإزائه محراب حفيل القرنصة مرسومة طرته بالذهب وقد تقدم الوصف لهذا كله. وهذا الموضع المبارك هو شرقي الكعبة متصل بصفح الجبل ويشرف عليه بمقربة منه جبل أبي قبيس وعلى مقربة منه أيضا مسجد عليه مكتوب: هذا المسجد هو مولد علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وفيه تربى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان دارا لأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكافله.

_ 1 الصهريج: حوض الماء.

المذكور مولد الحسن والحسين ابنيها رضى الله عنهما لاصق بالجدار وسمقط شلو1 الحسن لاصق بمسقط شلو الحسين وعليهما حجران مائلان إلى السواد كأنهما علامتان للمولدين المباركين الكريمين ومسحنا الخدود في هذه المساقط المكرمة المخصوصة بمس بشرات المواليد الكرام رضوان الله عليهم. وفي الدار المكرمة أيضا مختبأ النبي صلى الله عليه وسلم شبيه القبة وفيه مقعد في الأرض عميق شبيه الحفرة داخل في الجدار قليلا وقد خرج عليه من الجدار حجر مبسوط كأنه يظل المقعد المذكور قيل إنه كان الحجر الذي كان غطى النبي صلى الله عليه وسلم عند اختبائه في الموضع المذكور صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين وعلى كل واحد ن هذه الموالد المذكورة قبة خشب صغيرة تصون الموضع غير ثابتة فيه فإذا جاء المبصر لها نجاها ولمس الموضع الكريم وتبرك به ثم أعادها عليه. وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين من الشهر المذكور نفذ أمر الأمير مكثر بالقبض على زعيم الشيبيين محمد ابن إسماعيل وانتهاب منزله وصرفه عن حجابة البيت الحرام طهره الله وذلك لهنات نسبت إليه لا تليق بمن نيطت به سدانة البيت العتيق: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ2} أعاذنا الله من سوء القضاء ونفوذ سهام الدعاء بمنه. وفي هذه الأيام السالفة من الشهر المذكور تواليى مجيء السرو إليمنيين في رفاق كثيرة بالميرة من الطعام وسواه وضروب الادام والفواكه إليابسة فأرغدوا البلد ولولاهم لكان من اتصال الجدب وغلاء السعر في جهد ومشقة فهم رحمة لهذا البلد الأمين ثم توجهوا إلى الزيارة المباركة إلى التربة المباركة طيبة مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصلوا في أسرع مدة،

_ 1 الشلو: العضو والجسد من كل شيء. 2 سورة الحج، الآية 25.

قطعوا الطريق من مكة إلى المدينة في يسير أيام ومن صحبهم من الحاج حمد صحبتهم وفي أثناء مغيبهم وصلت طوائف أخر منهم للحج خاصة لضيق الوقت عن الزيارة فأقاموا بمكة ووصل الزوار منهم فضاق بهم المتسع. فلما كان يوم الإثنين السابع والعشرين من الشهر المذكور فتح البيت العتيق وتولى فتحه من الشيبيين ابن عم الشيبي المعزول هو امثل طريقة منه على ما يذكر فازدحم السرو للدخول على العادة فجاءوا بأمر لهم يعهد فيما سلف يصعدون افواجا حتى يغص الباب الكريم بهم فلا يستطيعون تقدما ولا تأخرا إلى أن يلجوا على أعظم مشقة ثم يسرعون الخروج فيضيق الباب الكريم بهم فينحدرا لفوج منهم على المصعد وفوج آخر صاعده فيلتقيه وقد ارتبط بعضهم إلى بعض فربما حمل المنحدرون في صدور الصاعدين وربما وقف الصاعدون للمنحدرين وتضاغطوا إلى أن يميلوا فيقع البعض على البعض فيعاين النظارة منهم مرأى هائلا فمنهم سليم وغير سليم وأكثرهم إنما ينحدرون وثبا على الرؤوس والأعناق. ومن أعجب ما شاهدناه في يوم الإثنين المذكور أن صعد بعض من الشيبيين أثناء ذلك الزحام يرومون الدخول إلى البيت الكريم فلم يقدروا على التخلص فتعلقوا بأستار حافتي عضادتي الباب ثم إن أحد هم تمسك بإحدى الشرائط القنبية الممسكة للاستار إلى أن علا الرؤوس والأعناق فوطئها ودخل البيت فلم يجدموطئا لقدمه سواها لشدة تراصهم وتراكمهم وانضمام بعضهم إلى بعض وهذا الجمع الذي وصل منهم في هذا العام لم يعهد قط مثله فيما سلف من الاعوام ولله القدرة المعجزة لا إله سواه. وفي هذا اليوم المذكور الذي هو السابع والعشرون من ذي القعدة شمرت أستار الكعبة المقدسة إلى نحو قامة ونصف من الجدر من الجوانب الأربعة ويسمون ذلك احراما لها فيقولون: أحرمت الكعبة وبهذا جرت العادة دائما في الوقت المذكور من الشهر ولا تفتح من حبن إحرامها إلا بعد الوقفة.

فكأن ذلك التشمير إيذان بالتشمير للسفر وإيذان بقرب وقت وداعها المنتظر لا جعله الله آخر وداع وقضى لنا إليها بالعودة وتيسير سبيل الاستطاعة بعزته وقدرته. وفي يوم الجمعة الرابع والشعرين قبل هذا اليوم المذكور كان دخولنا إلى البيت الكريم على حال اختلاس وانتهاز فرصة أوجدت بعض فرجة من الزحام فدخلناه دخول وداع إذ لا يتمكن دخوله بعد ذلك لترادف الناس عليه ولا سيما الأعاجم الواصلون مع الأمير العراقي فانهم يظهرون من التهافت عليه والبدار إليه والازدحام فيه ما ينسى أحوال السرو إليمنيين لفظاظتهم وغلظتهم فلا يتمكن لاحد منهم النظر فضلا عن غير ذلك والله عز وجل لا يجعله آخر العهد ببيته الكريم ويرزقنا العود إليه على خير وعافية بمنه ولطيف صنعه. وفي يوم إحرام الكعبة المذكور أقلعت عن موضع المقام المقدس القبة الخشبية التي كانت عليه ووضعت عوضها قبة الحديد إعدادا للأعاجم المذكورين لأنها لو لم تكن حديدا لأكلوها أكلا فضلا عن غير ذلك لما هم عليه من صحة النفوس شوقا إلى هذه المشاهدة المقدسة ونطارحهم بأجرامهم عليها والله ينفعهم بنباتهم بمنه وكرمه. وفي يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من الشهر المذكور جاء زعيم الشبيين المعزول يتهادى من بنيه زهوا وإعجابا ومفتاح الكعبة المقدسة بيده قد اعيداليه ففتح الباب الكريم وصعد مع بنيه السطح المبارك الأعلى بأمراس من القنب غليظة يوثقونها في أوتاد الحديد المضروبة في السطح ويرسلونها إلى الأرض فيربط فيها شبيه محمل من العود ويجلس فيه أحد سدنة البيت من الشييين فيصعد به على بكرة معدة لذلك في أعلى السطح المذكور فيتولى خياطة ما مزقته الريح من الأستار فسألنا عن كيفية صرف هذا الشيبي المعزول إلى خطته على صحة الهنات المنسوبة إليه فأعلمنا أنه صودر عليها بخمس

مائة دينار مكة استقرضها وفدعها فطال التعجب من ذلك والاعتبار وتحققنا أن إظهار القبض عليه لم يكن غيرة ولا انفة على حرمات الله المنتهكة على يديه مع كونها في خطة دونها الخلافة رفعة والحال تشبه بعضها بعضا {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 1 وإلى الله المشتكى من فساد ظهر حتى في أشرف بقاع الأرض وهو حسبنا ونعم الوكيل.

_ 1 سورة الجاثية، الآية 19.

منشأ الإسلام

منشأ الإسلام وفي يوم الأربعاء التاسع والشعرين من ذي القعدة المذكور دخلنا دار الخيزران التي كان منها منشأ الإسلام وهي بإزاء الصفا ويلاصقها بيت صغير عن يمين الداخل إليها كان مسكن بلال رضى الله عنه ويدخل إليها على حلق2 كبير شبيه الفندق قد أحد قت به بيوت للكراء من الحاج. والدار المكرمة دار صغيرة يجدها الداخل إلى الحلق المذكور عن يساره وهي مجددة البناء انفق في بنائها جمال الدين المذكرو اثره الكريم في هذا المكتوب نحو الالف دينار نفعه الله بما اسلفه من العمل الصالح. وعن يمين الداخل الدار المباركة باب يدخل منه إلى قبة كبيرة بديعة البناء فيها مقعد النبي صلى الله عليه وسلم والصخرة التي كان إليها مستنده وعن يمينه موضع أبي بكر الصديق وعن يمين أبي بكر موضع علي بن أبي طالب والصخرة التي كان إليها مستنده هي داخلة في الجدار كشبه المحراب. وفي هذه الدار كان إسلام عمر بن الخطاب ومنها ظهر الإسلام على يديه وأعزه الله نفعنا الله ببركة هذه المشاهد المكرمة والآثار المعظمة وأماتنا على محبة الذين شرفت بهم ونسبت إليهم صلوات الله عليهم أجمعين.

_ 2 الحلق: الحظيرة أو الحائط الدائر.

شهر ذي الحجة عرفنا الله بركته

شهر ذي الحجة عرفنا الله بركته استهل هلاله ليلة الخميس بموافقة الخامس عشر من مارس1 وكان للناس في ارتقابه أمر عجيب وشأن من البهتان غريب ونطق من الزور كاد يعارضه من الجماد فضلا عن غيره رد وتكذيب وذلك أنهم ارتقبوه ليلة الخميس الموفى ثلاثين والافق قد تكاثف نوؤه وتراكم غيمه إلى أن علته مع المغيب بعض حمرة من الشفق فطمع الناس في فرجة من الغيم لعل الأبصار تلتقطه فيها فبينما هم كذلك اذ كبر أحد هم فكبر الجم الغفير لتكبيره ومثلوا قياما ينتظرون مالا يبصرون ويشيرون إلى ما يتخيلون حرصا منهم على أن يكون الوقفة بعرفات يوم الجمعة كان الحج لا يرتبط إلا بهذا اليوم بعينه فاخلتقوا شهادات زورية ومشت منهم طائفة من المغاربة اصلح الله أحوالهم ومن أهل مصر أربابها فشهدوا عند القاضي برؤيته فردهم أقبح رد وجرح شهاداتهم أسوأ تجريح وفضحهم في تزييف أقوالهم أخزى فضيحة وقال يا للعجب لو أن أحد هم يشهد برؤنته الشمس تحت ذلك الغيم الكثيف النسج لما قبلته فكيف برؤية هلال هو ابن تسع وعشرين ليلة! وكان أيضا مما حكى من قوله: تشوشت المغارب تعرضت شعرة من الحاجب فأبصروا خيالا ظنوه هلالا وكان لهذا القاضي جمال الدين في أمر هذه الشهادة الزورية مقام من التوقف والتحري حمده له أهل التحصيل وشكره عليه ذوو العقول وحق لهم ذلك فإنها مناسك الحج للمسلمين عظيمة أتوا لها من كل فج عميق فلو تسومح فيها بطل السعي وقال الرأي والله يرفع الالتباس والبأس بمنه. فلما كانت ليلة الجمعة المذكورة ظهر الهلال أثناء فرج السحاب وقد اكتسى

_ 1 مارس: آذار.

نورا من الثلاثين ليلة فزعقت العامة زعقات هائلة وتنادت بوقفة الجمعة وقالت الحمد لله الذي لم يخيب سعينا ولا ضيع قدصنا كأنهم قد صح عندهم أن الوقفة إذا لم تكن توافق يوم الجمعة ليست مقبولة ولا الرحمة فيها من الله مرجوة مأمولة تعالى الله عن ذلك علو كبيرا. ثم إنهم يوم الجمعة المذكور اجتمعوا إلى القاضي فأدوا شهادات بصحة الؤية تبكي الحق وتضحك الباطل فردها وقال: يا قوم حتام هذا التمادي في الشهوة وإلام تستنون في طرق الهفوة وأعلمهم إنه قد استأذن الأمير مكثرا في أن يكون الصعود إلى عرفات صبيحة يوم الجمعة فيقفوا عشية بها ثم يقفوا صبيحة يوم السبت بعده ويبيتوا ليلة الأحد بمزدلفة فإن كانت الوقفة يوم الجمعة فما عليهم في تأخير المبيت بمزدلفة بأس إذ هو جائز عند أئمة المسلمين وإن كانت يوم السبت فبها ونعمت وأما أن يقع القطع بها يوم الجمعة فتغرير بالمسلمين وإفساد لمناسكهم لأن الوقفة يوم التروية عند الأئمة غير جائزة كما أنها عندهم جائزة يوم النحر فشكر جميع من حضر للقاضي هذا المنزع من التحقيق ودعوا له وأظهر من حضر من العامة الرضى بذلك وانصرفوا عن سلام والحمد لله على ذلك. وهذا الشهر المبارك هو ثالث الأشهر الحرم وعشره الأولى مجتمع الامم وموسم الحج الأعظم شهر العج والثج1 وملتقى وفود الله من كل أوب وفج مصاب الرحمة والبركات ومحل الموقف الأعظم بعرفات جعلنا الله ممن فاز فيه بالحسنات وتعرى به من ملابس الاوزار والسيئات بمنه وكرمه إنه أهل التقوى وأهل المغفرة والأمير العراقي منتظر لكشف هذا الإلباس عن الناس في أمر الهلال لعله قدا تضح له إليقين فيه إن شاء الله. وفي سائر هذه الأيام كلها إلى هلم جرا تصل رفاق من السرو اليمنيين

_ 1 العج: الصياح، ويريد رفع الحجاج أصواتهم بالتلبية. الثج: سيلان دم الهدي.

وسائر حجاج الآفاق لا يحصى عددها إلا محصي آجالها وأرزاقها إلا إله سواه فمن الآيات البينات أن يسع هذا الجمع العظيم هذا البلد الأمين الذي هو بطن واد سعته غلوة أو دونها ولو أن المدن العظيمة حمل عليها هذا الجمع لضاقت عنه. وما هذه البلدة المكرمة فيما تختص به من الآيات البينات في اتساعها لهذا البشر المعجز إحصاؤه إلا كما شبهتها العلماء حقيقة بأنها تتسع لوفودها اتساع الرحم بمولودها وكذلك عرفات وسائر المشاهد المعظمة بهذا البلد الحرام عظم الله حرمته ورزقنا الرحمة فيه بكرمه وفضله. ومن أول هذا الشهر المبارك ضربت دبادب الأمير بكرة وعشية وفي أوقات الصلوات كأنها شعار بالموسم ولا يزال كذلك إلى يوم الصمود إلى عرفات عرفنا الله بها القبول والرحمة. وفي يوم الإثنين الخامس أو الرابع من هذا الشهر وصل الأمير عثمان بن علي صاحب عدن وخرج منها فارا إمام سيف الإسلام المتوجه إلى اليمن وركب البحر في جلاب كثيرة مشحونة بأحوال1 عظيمة وأموال لا تحصى كثرة لأنه طال مقامه في تلك الولاية واتسع كسبه وعند خروجه من البحر بموضع يعرف بالصر لحقت جلبه حراريق الأمير سيف الإسلام فأخذت جميع ما فيها من الاثقال وكان قد استصحب الخف النفيس الخطير مع نفسه إلى البر وهو في جملة من رجاله وعبيده فسلم به ووصل مكة بعير موقرة متاعا ومالا دخلت على أعين الناس إلى داره التي ابتناها بها بعد أن قدم نفيس ذخائره وناضرة ماله وحملة رقيقه وخدمه ليلا. وبالجملة فحاله لاتوصف كثرة واتساعا والذي انتهب له أكثر لأنه كان في ولايته يوصف بسوء السيرة مع التجار وكانت المنافع التجارية كلها راجعة إليه الدخائر الهندية المجلوبة كلها واصلة إلى يديه فاكتسب

_ 1 الأحوال: أراد بها الثروات.

سحتا1 عظيما وحصل على كنوزر قارونية لكن حوادث الأيام قد ابتدأت بالخسف به ولا يدرى حال أمره مع صلاح الدين لما يكون والدنيا مفنية محبيبها وآكلة بينها وثواب الله خير ذخيرة وطاعته أشرف غنيمة لا إله سواه. وبقيت الشهادة مضطربة في أمر هذا الهلال المبارك الميمون إلى أن تواصلت الأخبار برؤيته ليلة الخميس الذي يوافق الخامس عشر من مارس شهد بذلك ثقات من أهل الزهد والورع يمنيون وسواهم من الواصلين من المدينة المكرمة لكن بقي القاضي على ثباته وتوقفه في القبول وإرجاء الأمر إلى وصول المبشر المعلم بوصول الأمير العراقي ليتعرف من قبله ما عند أمير الحاج في ذلك. فلما كان يوم الأربعاء السابع من الشهر المذكور وصل المبشر وكانت نفوس أهل مكة قد اوجست خيفة لبطئه حذرا من حقدالخليفة على اميرهم مكثر لمذموم فعل صدر عنه فكان وصول هذا البشير امانا وتسكينا للنفوس الشاردة فوصل مبشرا ومؤنسا وأعلم برؤية الهلال ليلة الخميس المذكور. وتواترت الأنباء بذلك فصح الأمر عند القاضي بذلك صحة اوجبت خطبته في ذلك اليوم على ما جرت به العادة في اليوم السابع من ذي الحجة إثر صلاة الظهر علم الناس فيها مناسكهم ثم أعلمهم أن عدهم هو يوم الصعود إلى منى وهو يوم التروية أن وقفتهم يوم الجمعة وان الأثر الكريم فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بانها تعدل سبعين وقفة ففضل هذه الوقفة في الاعوام كفضل يوم الجمعة على سائر الأيام.

_ 1 السحت: الحرام.

إلى عرفات

إلى عرفات فلما كان يوم الخميس بكر الناس بالصعود إلى منى وتمادوا منها إلى عرفات. وكانت السنة المبيت بها لكن ترك الناس ذلك اضطرارا بسبب خوف بني شعبة المغيرين على الحجاج في طريقهم إلى عرفات وصدر عن هذا الأمير عثمان المتقدم ذكره في ذلك اجتهاد بل جهاد يرجى له به المغفرة لجميع خطإياه إن شاء الله وذلك إنه تقدم بجميع أصحابه شاكين في الاسلحة إلى المضيق الذي بين مزدلفة وعرفات وهو موضع ينحصر الطريق فيه بين جبلين فينحدر الشعبيون من أحدهما وهو الذي عن يسار المار إلى عرفات فينتبهون الحاج انتهابا فضرب هذا الأمير قبة في ذلك المضيق بين الجبلين بعد أن قدم أحد أصحابه فصعد إلى رأس الجبل بفرسه وهو جبل كؤود فعجبنا من شأنه وأكثر التعجب من أمر الفرس وكيف تمكن له الصعود إلى ذلك المرتقى الصعب الذي يرتقيه ... فأمن جميع الحاج بمشاركة هذا الأمير لهم فحصل على أجرين: أجر جهاد وحج لأن تأمين وفد الله عز وجل في مثل ذلك اليوم من أعظم الجهاد. واتصل صعود الناس ذلك اليوم كله واليلة كلها إلى يوم الجمعة كله فاجتمع بعرفات من البشر جمع لايحصى عدده إلا الله عز وجل. ومزدلفة بين منى وعرفات من منى إليها ما من مكة إلى منى وذلك نحو خمسة اميال ومنها إلى عرفات مثل ذلك أو اشف قليلا وتمسى المشعر الحرام وتسمى جمعا فلها ثلاثة أسماء وقبلها بنحو الميل وادي محسر وجرت العادة بالهرولة فيه وهو حد بين مزلدلفة ومنى لأنه معترض بينهما. ومزدلفة بسيط من الأرض فسيح بين جبلين وحوله مصانع وصهاريج كانت للماء في زمان زبيدة رحمها الله وفي وسط ذلك البسيط من الأرض حلق1 في وسطه قبة في أعلاها مسجد يصعد إليه على أدراج من جهتين،

_ 1 الحلق: جدار دائري.

يزدحم الناس في الصعود إليه والصلاة فيه عند مبيتهم بها. وعرفات أيضا بسيط من الأرض مد البصر لو كان محشرا للخلائق لو سعهم يحدق بذلك السبيط الافيح جبال كثيرة.

جبل الرحمة

جبل الرحمة وفي آخر ذلك البسيط جبل الرحمة وفيه حوله موقف الناس والعلمان قبله بنحو الميلين فما إمام العلمين إلى عرفات حل وما دونهما حرم. وبمقربة منهما مما يلي عرفات بطن عرنة الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالارتفاع عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: "عرفات كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة"، فالواقف فيه لا يصح حجه فيجب التحفظ من ذلك لأن الجمالين عشية الوقفة ربما استحثوا كثيرا من الحاج وحذروهم الزحمة في النفر واستدرجوهم بالغلمين اللذين امامهم إلى أن يصلوا بهم بطن عربة أو يجيزوه فيبطلوا على الناس حجهم والمتحفظ لا ينفر من الموقف حتى يتمكن سقوط القرصة من الشمس. وجبل الرحمة المذكور منقطع عن الجبال قائم في وسط البسيط وهو كله حجارة منقطعة بعضها عن بعض كان صعب المرتقى فاحدث فيه جمال الدين المذكورة مآثره في هذا التقييد ادراجا وطية من أربع جهاته يصعد فيها بالدواب الموقورة وانفق فيها مالا عظيما. وفي أعلى الجبل قبة تنسب إلى أم سلمة رضى الله عنها ولا يعرف صحة ذلك وفي وسط القبة مسجد يتزاحم الناس للصلاة فيه وحول ذلك المسجد المكرم سطح محدق به فسيح الساحة جميل المنظر يشرف منه على بسيط عرفات وفي جهة القبلة منه جدار وقد نصبت فيه محاريب يصلى الناس فيها.

وفي أسفل هذا الجبل المقدس عن يسار المستقبل للقبلة فيه دار عتيقة البنيان وفي أعلاها غرف لها طيقان تنسب إلى آدم صلى الله عليه وسلم وعن يسار هذه الدار في استقبال القبلة الصخرة التي كان عندها موقف النبي صلى الله عليه وسلم وهي في جبل متطأمن وحول جبل الرحمة والدار المكرمة صهاريج للماء وجباب وعن يسار الدار أيضا على مقربة منها مسجد صغير. وبمقربة من العلمين عن يسار مستقبل القبلة مسجد قديم فسيح البناء بقى منه الجدار القبلي ينسب إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيه يخطب الخطيب يوم الوقفة ثم يجمع بين الظهر والعصر وعن يسار العلمين أيضا في استقبال القبلة وادي الأراك وهو أراك أخضر يمتد في ذلك البسيط مع البصر امتدادا طويلا. فتكامل جمع الناس بعرفات يوم الخيمس وليلة الجمعة كلها وفي نحو الثلث الباقي من ليلة الجمعة المذكورة وصل أمير الحاج العراقي فضرب ابنيته في البسيط الأفيح مما يلي الجانب الأيمن من جبل الرحمة في استقبال القبلة. والقبلة في عرفات هي إلى مغرب الشمس لأن الكعبة المقدسة في تلك الجهة منها. فأصبح يوم الجمعة المذكور في عرفات جمع لا شبيه له إلا الحشر لكنه إن شاء الله تعالى حشر للثواب مبشر بالرحمة والمغفرة يوم الحشر للحساب زعم المحققون في الاشياخ المجاورين انهم لم يعاينوا قط في عرفات جمعا أحفل منه ولا أرى كان من عهد الرشيد الذي هو آخر من حج من الخفاء جمع في الإسلام مثله جعله الله جمعا مرحوما معصوما بعزته. فلما جمع بين الظهر وة العصر يوم الجمعة المذكور وقف الناس خاشعين باكين والى الله عز وجل في الرحمة متضرعين والتكبير قد علا وضجيج الناس بالدعاء قد ارتفع فما رؤى يوم أكثر مدامع ولا قلوبا خواشع ولا اعناقا لهيبة الله خوانع خواضع من ذلك اليوم فما زال الناس على تلك الحالة

والشمس تلفح وجوهم إلى أن سقط قرصها وتمكن وقت المغرب. وقد وصل أمير الحاج مع جملة من جنده الدارعين ووقفوا بمقربة من الصخرات عند المسجدالصغير المذكور. وأخذ السرو اليمنيون مواقفهم بمنازلهم المعلومة لهم في جبال عرفات المتوارثة عن جد فجد من عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا تتعدى قبيلة على منزل أخرى.

وصول الأمير العراقي

وصول الأمير العراقي وكان المجتمع منهم في هذا العام عددا لم يجتمع قط مثله. وكذلك وصل الأمير العراقي في جمع لم يصل قط مثله ووصل معه من أمراء الأعاجم الخراسانيين ومن النساء العقائل المعروفات بالخواتين واحدتهن خاتون ومن السيدات بنات الأمراء كثير ومن سائر العجم عدد لا يحصى فوقف الجميع وقد جعلوا قدوتهم في النفر الإمام المالكي لأن مذهب مالك رضي الله عنه يقتضي أن لا ينفر حتى يتمكن سقوط القرصة ويحين وقت المغرب ومن السرو إليمنيين من نفر قبل ذلك. فلما أن حان الوقت أشار الإمام المالكي بيديه ونزل عن موقفه فدفع الناس بالنفر دفعا ارتحت له الأرض ورجفت الجبال فياله موقفا ما أهول مرآه وأرجى في النفوس عقباه جعلنا الله فمن خصه فيه برضاه وتغمده بنعماه إنه منعم كريم حنان منان. وكانت محلة هذا الأمير العراقي جميلة المنظر بهية العدة رائقة المضارب والابنية عجيبة القباب والأروقة على هيآت لم ير أبدع منها منظرا فأعظمها مرآى مضرب الأمير وذلك إنه أحد ق به سرادق كالسور من كتان كأنه حديقة بستان أو زخرفة بنيان وفي داخله القباب المضروبة وهي كلها سواد في بياض مرقشة ملونة كأنها أزاهير الرياض وقد جللت صفحات ذلك

السرادق من جوانبه الأربعة كلها أشكال درقية من ذلك السواد المنزل في البياض يستشعر الناظر إليها مهابة يتخيلها درقا لمطية1 قد جللتها مزخرفات الأغشية. ولهذا السرادق الذي هو كالسور المضروب أبواب مرتفعة كأنها أبواب القصور المشيدة يدخل منها إلى دهاليز وتعاريج ثم يفضى منها إلى الفضاء الذي فيه القباب وكأن هذا الأمير ساكن في مدينة قد أحد ق بها سورها تنتقل بانتقاله وتنزل بنزوله وهي من الابهات الملوكية المعهودة التي لم يعهد مثلها عند ملوك المغرب. وداخل تلك الأبواب حجاب الأمير وخدمه وغاشيته وهي أبواب مرتفعة يجيء الفارس برايته فيدخل عليها دون تنكيس ولا تطأطؤ قد احكمت اقامة ذلك كله أمراس وثيقة من الكتاب تتصل بأوتاد مضروبة أدير ذلك كله بتدبير هندسي غريب. ولسائر الأمراء الواصلين صحبة هذا الأمير مصارب دون ذلك لكنها على تلك الصفة وقباب بديعة المنظر عجيبة الشكل قد قامت كأنها التيجان المنصوبة إلى ما يطول وصفه ويتسع القول فيه من عظيم احتفال هذه المحلة في الآلة والعدة وغير ذلك مما يدل على سعة الأحوال وعظيم الانخراق في المكاسب والأموال. ولهم أيضا في مراكبهم على الإبل قباب تظلهم بديعة المنظر عجيبة الشكل قد نصبت على محامل من الاعواد يسمونها القشاوات وهي كالتوابيت المجوفة هي لركابها من الرجال والنساء كالامهدة للاطفال تملأ بالفرش الوثيرة ويقعد الراكب فيها مستريحا كأنه في مهاد لين فسيح وبازائه معادلة أو معادلته في مثل ذلك من الشقة الأخرى والقبة مضروبة عليهما فيسار بهما وهما نائمان لا يشعران أو كيف ما أحبا فعند ما يصلان إلى المرحلة التي يحطان بها ضرب سرادقهما للحين أن كانا من أهل الترفه والتنعم يدخل بهما راكبين

_ 1 الدرق اللمطية: تروس منسوبة إلى لمطة في بلاد البربر.

وينصب لهما كرسي ينزلان عليه فينتقلان من ظل قبة المحمل إلى قبة المنزل دون واسطة هواء يلحقهما ولا خطفه شمس تصيبهما وناهيك من هذا الترفيه فهؤلاء لا يلقون لسفرهم وإن بعدت شقته نصيا ولا يجدون على طول الحل والترحال تعبا. ودون هؤلاء في الراحة رابكو المحارات1 وهي شبيهة الشقادف التي تقدم وصفها في ذكر صحراء عيذاب لكن الشقادف ابسط وأوسع وهذه أضم وأضيق وعليها أيضا ظلائل تقي حر الشمس ومن قصرت حاله عنها في هذه الاسفار فقد حصل على نصب السفر الذي هو قطعة من العذاب.

_ 1 المحارات: محامل صغار توضع على الإبل.

استيفاء حال النفر

استيفاء حال النفر ثم يرجع القول إلى استيفاء حال النفر عشية الوقفة المذكورة بعرفات وذلك أن الناس نفروا منها بعد غروب الشمس كماتقدم الذكر فوصلوا مزدلفة مع العشاء الآخرة فجمعوا بها بين العشاءين حسبما جرت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم واتقد المشعر الحرام تلك الليلة كلها مشاعيل من الشمع المسرج وأما مسجده المذكور فعاد كله نورا فيخيل للناظر إليه أن كواكب السماءكلها نزلت به وعلى هذه الصفة كان جبل الرحمة ومسجده ليلة الجمعة لأن هؤلاء الأعاجم الخراسانيين وسواهم من العراقيين أعظم الناس همة في استجلاب هذا الشمع والاستكثار منه اضاءة لهذه المشاهد الكريمة وعلى هذه الصفة عاد الحرم بهم مدة مقامهم فيه فيدخل منهم كل إنسان بشمعة في يده وأكثر ما يقصدون بذلك حطيم الإمام الحنفي لأنهم على مذهبه وشاهدنا منه شمعا عظيما احضر تنوء الشمعة منه بالعصبة كأنه السرو وضع إمام الحنفي.

فبات الناس بالمعشر الحرام هذه الليلة وهي ليلة السبت فلما صلوا الصبح غدوا منه إلى منى بعد الوقوف والدعاء لأن مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر ففيه تقع الهرولة في التوجه إلى منى حتى يخرج عنه. ومن مزدلفة يستصحب أكثر الناس حصيات الجمار وهو المستحب ومنهم من يلتقطها حول مسجد الخيف بمنى وكل ذلك واسع1. فلما انتهى الناس إلى منى بادروا لرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ثم نحروا أو ذبحوا وحلوا من كل شيء إلا النساء والطيب يطوفوا طواف الإفاضة. ورمى هذه الجمرة عند طلوع الشمس من يوم النحر ثم توجه أكثر الناس لطواف الإفاضة ومنهم من أقام إلى اليوم الثاني ومنهم من أقام إلى اليوم الثالث وهو يوم الانحدار إلى مكة. فلما كان اليوم الثاني من يوم النحر عند زوال الشمس رمى الناس بالجمرة الأولى سبع حصيات وبالجمرة الوسطى كذلك وبهاتين الجمرتين يقفون للدعاء وبجمرة العقبة كذلك لا ولا يقفون بها اقتداء في ذلك كله بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فتعود جمرة العقبة في هذين إليومين اخيرة وهي يوم النحر اولى منفردة لا يخلط معها سواها. وفي اليوم الثاني من يوم النحر بعد رمي الجمرات خطب الخيطب بمسجدالخيف ثم جمع بين الظهر والعصر وهذا الخطيب وصل مع الأمير العراقي مقدما من عند الخليفة للخطبة والقضاء بمكة على ما يذكر ويعرف بتاج الدين وظاهر أمره البلادة والبله لأن خطبته اعربت عن ذلك ولسإنه لا يقيم الإعراب.

_ 1 واسع: أراد به جائزا.

الانحدار إلى مكة

الانحدار إلى مكة فلما كان اليوم الثالث تعجل الناس في الانحدرا إلى مكة بعد أن كمل لهم رمي تسع وأربعين جمرة: سبع منها يوم النحر بالعقبة وهي المحللة؛

ثم إحدى وعشرون في اليوم الثاني بعد زول الشمس سبعا سبعا في الجمرات الثلاث وفي اليوم الثالث كذلك ونفر إلى مكة فمنهم من صلى العصر بالأبطح ومنهم من صلاها بالمسجدالحرام ومنهم من تعجل فصلى الظهر بالأبطح ومضت السنة قديما باقامة ثلاثة أيام بعد يوم النحر بمنى لاكمال رمي سبعين حصاة فوقع التعجيل في هذا الزمان في إليومين كما قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 1 وذلك مخافة بني شعبة وما يطرأ من حرابة المكيين. وقد كانت في يوم الانحدار المذكور بين سودان أهل مكة وبين الأتراك العراقيين جولة وهوشة وقعت فيها جراحات وسلمت السيوف وفوقت القسى ورميت السهام وانتهب بعض امتعة التجار لأن منى في تلك الأيام الثلاثة سوق من أعظم الأسواق يباع فيها من الجوهر النفيس إلى ادنى الخرز إلى غير ذلك من الامتعة وسائر سلع الدنيا لأنها مجتمع أهل الافاق فوقى الله شر تلك الفتنة تسكينا لها سريعا وكانت عين الكمال في تلك الوقفة الهنيئة وكمل للناس حجهم والحمد لله رب العالمين.

_ 1 سورة البقرة، الآية 203.

كسوة الأمير العراقي للكعبة

كسوة الأمير العراقي للكعبة وفي يوم السبت يوم النحر المذكور سيقت كسوة الكعبة المقدسة من محلة الأمير العراقي إلى مكة على أربعة جمال تقدمها القاضي الجديد بكسوة الخليفة السوادية والرايات على رأسه والطبول تهر2 وراءه وابن عم الشيبي محمد بن إسماعيل معها لأنه ذكر أن أمر الخليفة نفذ بعزله عن حجابة البيت لهنات الشتهرت عنه والله يطهر بيته المكرم بمن يرضى من خدامه بمنه.

_ 2 تهر: تصخب.

وهذا ابن العم المذكور هو أشبه طريقة منه وأمثل حالا وقدتقدم ذكر ذلك في العزلة الأولى. فوضعت الكسوة في السطح المكرم أعلى الكعبة فلما كان يوم الثلاثاء الثالث عشر من الشهر المبارك المذكور اشتغل الشيبيون بأسبالها خضراء يانعة تقيدالأبصار حسنا في أعلاها رسم احمر واسع مكتوب فيه في الصفح الموجه إلى المقام الكريم حيث الباب المكرم وهو وجهها المبارك بعد البسملة: {إِنَّ أول بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} الآية1 وفي سائر الفحات اسم الخليفة والدعاء له وتحف بالرسم المذكور طرتان حمراوان بدوائر صغار بيض فيها رسم بخط رقيق يتضمن آيات من القرآن وذكر الخليفة أيضا. فكملت كسوتها وشمرت اذيالها الكريمة صونا لها من أيدي الأعاجم وشدة اجتذابها وقوة تهافتها عليها وانكبابها فلاح للناظرين منها أجمل منظر كأنها عروس جليت في السندس الأخضر أمتع الله بالنظر إليها كل مشتقا إلى لقائها حريض على المثول بفنائها بمنه.

_ 1 سورة آل عمران، الآية 96.

يوم الأعاجم العراقيين

يوم الأعاجم العراقيين وفي هذه الأيام يتفح البيت الكريم كل يوم للأعاجم العارقيين والخراسانيين وسواهم من الوصالين مع الأمير العراقي فظهر من تزاحمهم وتطارحهم على الباب الكريم ووصول بعضهم على بعض وسباحة بعضهم على رؤوس بعض كأنهم في غدير من الماء أمر لم ير أهول منه يؤذي إلى تلف المهج وكسر الأعضاء. وهم في خلال ذلك لا يبالون ولا يتوقفون بل يلقون بأنفسهم على ذلك البيت الكريم من فرط الطرب والاترياح القاء الفراش بنفسه على المصباح فعادت أحوال السرو إليمنيين في دخولهم البيت المبارك على الصفة

المتقدمة الذكر حال تؤدة ووقار بالإضافة إلى هؤلاء الأعاجم الأغتام1 نفعهم الله بنياتهم وقد فقدمنهم في ذلك المزدحم الشديد من دنا أجله والله يغفر للجميع. وربما زاحمهم في تلك الحال بعض نسائهم فيخرجن وقدنضجت جلودهن طبخا في مضيق ذلك المعترك الذي حمى بانفاس الشوق وطيشه والله ينفع الجميع بمعتقده وحسن مقصده بعزته. وفي ليلة الخميس الخامس عشر من الشهر المبارك إثر صلاة العتمة نصب منبر الوعظ إمام المقام فصعده واعظ خراساني حسن البشارة مليح الإشارة يجمع بين اللسانين عربي وعجمي فأتى في الحالين بالسحر الحلال من البيان فصيح المنطق بارع الألفاظ ثم يقلب لسإنه للأعاجم بلغتهم فيهزهم اضطرابا ويذيبهم زفرات وانتحابا. فلما كانت الليلة الأخرى بعدها وضع منبر آخر خلف حطيم الحنفي فصعد إثر صلاة العتمة أيضا شيخ أبيض السبال رائع الجلال بارع التمام في الفصل والكمال فصدع بخطبة انتظمت آية الكرسي كلمة كلمة ثم تصرف في أساليب من الوعظ وأفانين من العلم باللسانين أيضا حرك بها القلوب حتى إطارها وأورثها احتداما بالخشية بعد استعارها وفي أثناء ذلك ترشقه سهام من المسائل فيتلقاها بمجن من الجواب السريع البليغ فتحار له الألباب ويملك كل نفس منه الإغراب والإعجاب فكأنما هو وحي يوحى. وهذا الذي مشى به وعاظ هذه الجهات المشرقية من القاء المسائل إليهم وإفاضة شآبيب الامتحان عليهم من أعجب الأمور المعربة من غريب شأنهم والناطقة بسحر بيانهم وليست في فن واحد إنما هي في فتون شتى وربم قصد بها التعنيت والتنكيت فياتون بالجواب كخطفه البرق وارتداد الطرف،

_ 1 الأغتام، الواحد أغتم: الذي لايفصح في كلامه.

والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. وبين أيدي هؤلاء الوعاظ قراء ينعمون بالقراءة فيأتون بالحان تكسب الجماد طربا واريحية كأنها المزامير الداوودية فلا تدري من أي أحوال هذا المجتمع تعجب والله يؤتى الحكمة من يشاء لا إله سواه، وسمعت هذا الشيخ الواعظ يسند الحديث إلى خمسة من اجداده جد عن جد نسقا مسلسلا من أبيه إليهم على اتصال كلهم له لقب يدل على منزلته من العلم ومكانته من التذكير والوعظ فهو معرق في الصنعة لشريفة تليدالمجد فيها.

سوق المسجد الحرام

سوق المسجد الحرام وفي أيام الموسم كلها عاد المسجد الحرام نزهه الله وشرفه سوقا عظيمة يباع فيه من الدقيق إلى العقيق ومن البر إلى الدر إلى غير ذلك من السلع فكان مبيع الدقيق بدار الندوة إلى جهة باب بني شيبة ومعظم السوق في البلاط الأخذ من الغرب إلى الشمال وفي البلاط الأخذ من الشمال إلى الشرق وفي ذلك من النهي الشرعي ما هو معلوم والله غالب على أمره لا إله سواه.

يوم الرحيل

يوم الرحيل وفي عشي يوم الأحد الموفى عشرين من الشهر المذكور وهو أول إبريل1 كان تبريزنا إلى محلة الأمير العراقي بالزاهر وهو على نحو من الميلين من البلد وقد كمل اكتراؤنا إلى الموصل وهو إمام بغداد بعشرة أيام عرفناالله الخير والخيرة بمنه فأقمنا بالزاهر ثلاثة أيام نجدد العهد كل يوم بالبيت العتيق ونعيد وداعه فلما كان ضحوة يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي الحجة

_ 1 أبريل: نيسان.

المذكور أقلعت المحلة على تؤدة ورفق بسبب البطء والتأخر ونزلت على نحو ثمانية اميال من الموضع الذي أقلعت منه بمقربة من بطن مر والله كفيل بالسلامة والعصمة بمنه. فكانت تمدة مقامنا بمكة قدسها الله من يوم وصولنا إليها وهو يوم الخميس الثالث عشر لربيع الآخر من سنة تسع وسبعين إلى يوم اقلاعنا من الزاهر وهو يوم الخيمس الثاني والعشرين لذي الحجة من السنة المذكورة ثمانية أشهر وثلث شهر التي هي بحسب الزائد والناقص من الأشهر مائتا يوم اثنتان وخمسة وأربعون يوما سعيدات مباركات جعلها الله لذاته وجعل القبول لها موفقا لموضاته بمنه غبنا عن رؤية البيت الكريم فيها ثلاثة أيام: يوم عرفة، وثاني يوم النحر ويوم الأربعاء الذي هو الحادي والعشرون لذي الحجة قبل يوم الخميس يوم إقلاعنا من الزاهر والله لا يجعله آخر العهد بحرمه الكريم بمنه. ثم أقلعنا من ذلك الموضع إثر صلاة الظهر من يوم الخميس إلى بطن مر وهو واد خصيب كثير النخل ذو عين فوارة سيالة الماء تسقى منها أرض تلك الناحية وعلى هذا الوادي قطر متسع وقرى كثيرة وعيون ومنه تجلب الفواكه إلى مكة حرسها الله فأقمنا به يوم الجمعة لسبب عجيب وذلك أن الملكة خاتون بنت الأمير مسعودملك الدروب والأرمن وما يلي بلاد الروم وهي إحدى الخواتين الثلاث اللاتي وصلن للحج مع أمير الحاج أبي المكارم طاشتكين مولى أمير المؤمنين الموجه كل عام من قبل الخليفة وله بتولي هذه الخطة نحو الثمانية أعوام أو أزيد وخاتون هذه أعظم الخواتين قدرا سبب سعة مملكة أبيها والمقصود من ذكر أمرها أنها أسرت من بطن مر ليلة الجمعة إلى مكة في خاصة من خدمها وحشمها فتفقد موضعها يوم الجمعة المذكور فوجه الأمير ثقات من خاصة أصحابه يستطلعونها في الانصراف وأقام بالناس منتظرا لها فوصلت عتمة يوم السبت.

وأجيلت في سبب انصراف هذه الملكة المترفة قداح الظنون وسلت الخواطر على استخراج سرها المكنون فمنهم من يقول أنها انصرفت انفة لبعض ما انتقدته على الأمير ومنهم من قال إن نوازع الشوق للمجاورة عطفت بها إلى المثابة المكرمة ولا يعلم الغيب إلا الله وكيف ما كان الأمر فقد كفى الله العطلة بسببها وأطلق سبيل الحاج ولله الحمد على ذلك. وأبو هذه المرأة المذكورة الأمير مسعود كما ذكرناه وهو في بسطة من ملكه واتساع من أمرته يركب له على ما حقق عند نا أكثر من مائة ألف فارس وصهره عليها نور الدين صاحب آمد وما سواها ويركب له أيضا نحو اثني عشر ألف فارس. ولخاتون هذه افعال من البر كثيرة في طريق الحاج منها سقى الماء للسبيل عينت لذلك نحو الثلاثين ناضحة ومثلها للزاد واستجلبت لما تختص به من الكسوة والأزودة وغير ذلك نحو المائة بعير وأمرها يطول وصفها وسنها نحو خمسة عشرين عاما. ولخاتون الثانية أم معز الدين صاحب الموصل زوج بابك أخي نور الدين الذي كان صاحب الشام رحمه الله ولهذه افعال كثيرة من البر. وخاتون الثالثة ابنة الدقوس صاحب اصبهان من بلادخراسان وهي أيضا كبيرة القدر عظيمة الشأن منافسة في أفعال البر. وشأنهن جمع عيجب جدا في ماهن بسبيله من الخير والاحتفال في الأبهة الملوكية. ثم أقلعنا ظهر يوم السبت الرابع والعشرين لذي الحجة المذكور ونزلنا بمقربة من عسفان ثم أسرينا إليها نصف الليل وصبحناها بكرة يوم الأحد وهي في بسيط من الأرض بين جبال وبها آبار معينة تنسب لعثمان رضى الله عنه وشجر المقل فيها كثير وبها حصن عتيق البنيان ذو أبراج مشيدة غير معمور قد أثر فيه القدم وأوهته قلة العمارة لوزوم الخراب فاجتزناها بأميال ونزلنا مريحين قائلين.

فلما كان إثر صلاة الظهر أقلعنا إلى خليص فوصلناها عشي النهار وهي أيضا في سبيط من الأرض كثيرة حدائق النخل لها جبل فيه حصن مشيد في قنته وفي البسيط حصن آخر قد أثر فيه الخراب وبها عين فوارة قد أحد ثت لها أخاديد في الأرض مسربة يستقى منها على أفواه كالآبار يجدد الناس بها الماء لقلته في الطريق بسبب القحط لمتصل والله يغيث بلاده وعباده واصبح الناس بها مقيمين يوم الإثنين لإرواء الإبل واستصحاب الماء. وهذه الجملة العراقية ومن انضاف إليها من الخراسانية والمواصلة وسائر جهات الافاق من الواصلين صحبة أمير الحاج المذكور جمع لا يحصى عدده إلا الله تعالى يغص بهم البسيط الافيح ويضيق عنهم المهمه الصحصح1 فترى الأرض تميد بهم ميدا وتموج بجميعهم موجا فتبصر منهم بحرا طامي العباب نماؤه السراب وسفنه الركاب وشرعه الظلائل المرفوعة والقباب تسير سير السحب المتراكمة يتداخل بعضها على بعض ويضرب بعضها جوانب بعض فتعاين لها تزاحما في البراح المنفسح يهول ويروع واصكاكا نبع2 المحارات فيه بعضه ببعض مقروع فمن لم يشاهد في هذا السفر العراقي لم يشاهد من اعاجيب الزمان ما يحدث به ويتحف السامع بغرابته والقدرة والقوة لله وحده وحسبك أن النازل في منزل من منازل هذه المحلة متى خرج عنها لبعض حاجة ولم تكن له دلالة يستدل بها على موضعه ضل وتلف وعاد منشودا في جملة الضوال وربما اضطر به الحال إلى الوصول إلى مضرب الأمير ورفع مسألته إليه فيأمر أحد المنشدين ببريحه3 والهاتفين بأوامره ممن قد اعد لذلك أن يردفه خلفه على جمل ويطوف به المحلة العجاجة وهو قد ذكر له اسمه واسم جماله واسم البلد الذي هو منه فيرفع عقيرته

_ 1 المهمه: الصحراء البعيدة. الصحصح: ما استوى من الأرض الجرداء. 2 النبع: شجر صلب تتخذ منه السهام والقسي. 3 البريح: الإعلان والدعاء "عامية".

بذلك معرفا بهذا الضال ومناديا باسم الجمال وبلده إلى أن يقع عليه فيؤديه إليه ولو لم يفعل ذلك لكان آخر عهده بصاحبه إلا إن يلتقطه التقاطا أو يقع عليه اتفاقا فهذا من بعض عجائب شئون هذه المحلة وعجائبها أكثر من أن يحيط بها الوصف ولأهلها من قوة الجدة واليسار ما يعينهم على ما هم بسبيله والملك بيد الله يؤتيه من يشاء. ولهؤلاء النسوة الخواتين في كل عام إذا لم يحججن بأنفسهن نواضح مسبلة مع الحاج يرسلنها مع ثقات يسقون أبناء السبيل في المواضع المعروف فيها الماء في الطريق كله وبعرفات وبالمسجد الحرام في كل يوم وليلة فلهن في ذلك اجر عظيم وما التوفيق إلا بالله جل جلاله. فتسمع لمنادي على النواضح يرفع صوته بالماء اللسبيل فيهطع إليه المرملون1 من الزاد والماء بقربهم وأباريقهم فيملؤونها ويقول المنادي في اشادته بصوته ابقى الله الملكة خاتون ابنة الملك الذي من أمره كذا ومن شأنه كذا ويحليه بحلاه2 إعلانا باسمها وإظهارا لفعلها واستجلابا للدعاء لها من الناس والله لايضيع أجر من أحسن عملا وقد تقدم تفسير هذه اللفظة خاتون وانها عندهم بمنزلة السيدة أو ما يليق بهذا اللفظ الملوكي النسائي. ومن عجيب هذه المحلة أيضا على عظمها وكبرها وكونها وجود دنيا بأسرها أنها إذا حطت رحالها ونزلت منزلها ثم ضرب الأمير طبله للانذار بالرحيل ويسمونه الكوس لم يكن بين استقلال الرواحل بأوقارها ورحالها وركباها إلا كلا ولا فلا يكاد يفرغ الناقر من الضربة الثالثة إلا والركائب قد أخذ ت سبيلها كل ذلك من قوة الاستعداد وشدة الاستظهار على الاسفار والحول والقوة لله وحده لا إله سواه.

_ 1 يهطع: يسرع. المرملون: الذين نفد زادهم. 2 يحليه: يصفه. وحلاه: صفاته.

وإسراؤها بالليل بمشاعيل موقدة يمسكها الرجالة بأيديهم فلا تبصر قشاوة من القشاوات إلا وأمامها مشعل فالناس يسيرون منها بين كوكب سيارة توضح غسق الظلماء وتباهي بها الأرض انجم المساء والمرافق الصناعية وغيرها من المصالح الدينية والمنافع الحيوانية كلها موجودة بهذه المحلة غير معدومة ووصفها يطول والأخبار عنها لاتنحصر. فلما كان ظهر يوم الإثنين إثر الصلاة أقلعنا من خليص مرتحلين وتمادى سيرنا إلى العشاء الآخرة ثم نزلنا ونمنا نومة خفيفة ثم ضرب الكوس فأقلعنا وأسرينا إلى ضحى من النهار ثم نزلنا مريحين إلى أول الظهر من يوم الثلاثاء ثم أقلعنا من منزلنا ذلك إلى واد يعرف بوادي السمك اسم يكاد يكون وقاعا على غير مسمى فنزلناه مع العشاء الآخرة واصبحنا به مقيمين يوم الأربعاء لتجديد حمل الماء وهو بهذا الوادي في مستنقعات وربما حفر عليه في الرمل فأقلعنا منه أول ظهر يوم الأربعاء المذكور ثم أجزنا مع الليل عقبة محجرة كؤودا ذهب فيها من الجمال كثير ونزلنا في بسيط من الأرض ونمنا إلى نصف الليل ثم رحلنا في مهمة أفيح بسيط ممتد مد البصر ورملة منثالة1 فمشت الجمال فيهادون مقطرة2 لانفساح طريقها. ثم نزلنا مريحين قائلين يوم الخميس التاسع والعشرين من ذي الحجة وبيننا وبين بدر مقدار مرحلتين فلما كان أول الظهر رحلنا إلى مقربة من بدر فنزلنا بائتين ثم قمنا قبل نصف الليل فوصلنا بدرا وقدارتفع النهار. وهي قرية فيها حدائق نخل متصلة وبها حصن في ربوة مرتفعة ويدخل إليها على بطن واد بين جبال وببدر عين فوارة وموضع القليب الذي كان بإزائه الوقعة السلامية التي اعزت الدين وأذلت المشركين هو اليوم نخيل وموضع الشهداء خلفه وجبل الرحمة الذي نزلت فيه الملائكة عن يسار الداخل

_ 1 منثالة: منصبة. 2 مقطرة: مصفوفة في قطار، أي بعضها وراء بعض.

منها إلى الصفراء وبإزائه جبل الطبول وهو شبيه كثيب رمل ممتد وهذه التسمية لاشاعة لهج بها أكثر المسلمين وذلك أنهم يزعمون أن أصوات الطبول تسمع بها كل يوم جمعة كأنها آثار انذارات باقية بما سلف من النصر النبوي في ذلك الموضع والله أعلم بغيبه. وموضع عريش النبي صلى الله عليه وسلم يتصل بسفح جبل الطبول المذكور وموضع الوقيعة امامه وعند نخيل القليب مسجد يقال: إنه مبرك ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وصح عند نا على زعمة أحد الاعراب الساكنين ببدر انهم يسمعون أصوات الطبول بالجبل المذكور لكن عين لذلك كل يوم اثنين ويوم خميس فعجبنا من زعمه كل العجب ولا يعلم حقيقة ذلك إلا الله تعالى. وبين بدر والصفراء بريد والطريق إليها في واد بين جبال تتصل بها حدائق النخيل والعيون فيه كثيرة وهو طريق حسن وبالصفراء حصن مشيد ويتصل به حصون كثيرة منها حصنان يعرفان بالتوأمين وحصن يعرف بالحسنية وآخر يعرف بالجديد إلى حصون كثيرة وقرى متصلة.

شهر محرم سنة ثمانين وخمسمائة1 عرفنا الله بركته وبركة سنته وخصنا فيه برحمته، وتكفلنا بعصمته

شهر محرم سنة ثمانين وخمسمائة1 عرفنا الله بركته وبركة سنته وخصنا فيه برحمته، وتكفلنا بعصمته استهل هلاله ليلة السبت بموافقة الرابع عشر لشهر أبريل ونحن مقلعون من بدر إلى الصفراء فبتنا باستهلاله بهذه البقعة الكريمة: بدر حيث نصر الله المسلمين وقهر المشركين والحمد لله على ذلك وكان نزولنا بالصفراء إثر صلاة العشاء الآخرة فأصبحنا يوم السبت مستهل الهلال المذكور مقيمين

_ 1 1184م.

مريحين بها ليتزود الناس منها الماء ويأخذوا نفس استراحة إلى الظهر ومنها إلى المدينة المكرمة إن شاء الله ثلاثة أيام فأقلعنا منها ظهر يوم السبت المذكور وتمادى السير بنا إلى إثر صلاة العشاة الآخرة والطريق في واد متصل بين جبال فنزلنا ليلة الأحد ثم أقعلنا نصف الليل وتمادى سيرنا إلى ضحى من النهار فنزلنا مريحين قائلين ببئر ذات العلم ويقال إن على بن أبي طالب رضى الله عنه قاتل الجن بها وتعرف أيضا بالروحاء والبئر المذكورة متناهية بعد الرشاء1 لا يكاد يحلق قعرها وهي معينة. ورحلنا منها إثر صلاة الظهر من يوم الأحد وتمادى بنا السير إلى إثر صلاة العشاء لآخرة فنزلنا شعب على رضى الله عنه وأقلعنا منه نصف الليل إلى تربان إلى البيداء ومنها تبصر المدينة المكرمة فنزلنا ضحى يوم الإثنين الثالث لمحرم المذكور بوادي العقيق وعلى شفيره مسجد ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمدينة من هذا الموضع على خمسة اميال ومن ذي الحليفة حرم المدينة إلى مشهد حمزة إلى قباء وأول ما يظهر للعين منارة مسجدها بيضاء مرتفعة ثم رحلنا منها إثر صلاة الظهر من يوم الإثنين المذكور وهو السادس عشر لابريل فنزلنا بظاهر المدينة الزهراء والتربة البيضاء والبقعة المشرفة بمحمد سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم تتصل مع الأحيان والآناء. وفي عشي ذلك اليوم دخلنا المحرم المقدس لزيارة الروضة المكرمة المطهرة فوقفنا بإزائها مسلمين ولترب جنباتها المقدسة مستلمين وصلينا بالروضة التي بين القبر المقدس والمنبر واستلمنا اعواد المنبر القديمة التي كانت موطأ الرسول صلى الله عليه وسلم والقطعة الباقية من الجذع الذي حن إليه صلى الله عليه وسلم وهي ملصقة في عمود قائم إمام الروضة الصغيرة التي

_ 1 الرشاء: حبل الدلو.

بين القبر والمنبر وعن يمينك إذا استقبلت القبلة فيها ثم صلينا صلاة المغرب مع الجماعة. وكان من الاتفاق السعيد لنا أن وجدنا بعض فسحة في تلك الحال لاشتغال الناس باقامة مضاربهم وترتيب رحالهم فتمكنا من الغرض المقصود وفزنا بالمشهد المحمود وأدينا حق السلام على الصحابين الضجيعين: صديق الإسلام وفاروقه وانصرفنا إلى رحالنا مسرورين ولنعمة الله علينا شاركين ولم يبق لنا امل من آمال وجهتنا المباركة ولا وطر إلا وقد قضيناه ولا غرض من اغراضنا المامولة إلا وبلغناه وتفرغت الخواطر للاياب للوطن نظم الله الشمل وتمم علينا الفضل والحمد لله على ما اولاه واسداه واعاده من جميل صنعه وابداه فهو أهل الحمد والشكر ومستحقه لا إله سواه.

ذكر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر روضته المقدسة المطهرة

ذكر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر روضته المقدسة المطهرة المسجد المبارك مستيطل وتحفه من جهاته الأربع بلاطات مستديرة به ووسطه كله صحن مفروش بالرمل والحصى فالجهة القبلية منها لها خمسة بلاطات مستطيلة من غرب إلى شرق والجهة الجوفية لها أيضا خمسة بلاطات على الصفة المذكورة والجهة الشرقية لها ثلاثة بلاطات والجهة الغربية لها أربعة بلاطات. والروضة المقدسة مع آخر الجهة القبلية مما يلي الشرق وانتظمت من بلاطاته ممنا يلي الصحن في السعة اثنين ونيفت إلى البلاط الثالث بمقدار أربعة أشبار ولها خمسة أركان بخمس صفحات وشكلها شكل عجيب لا يكاد يتأتى تصويره ولا تمثيله والصفحات الأربع محرفة من القبلة تحريفا بديعا لا يتأتى لاحد معه استقابلها في صلاته لأنه ينحرف عن القبلة. وأخبرنا الشيخ الإمام العالم الورع بقية العلماء وعمدة الفقهاء أبو

إبراهيم إسحاق بن إبراهيم التونسي رضي الله عنه أن عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه اخترع ذلك في تدبير بنائها مخافة أن يتخدها الناس مصلى. وأخذت أيضا من الجهة الشرقية سعة بلاطين فانتظم داخلها من أعمدة الابلطة ستة وسعة الصفحة القبلية منها أربعة وعشرون شبرا وسعة الصفحة الشرقية ثلاثون شبرا وما بين الركن الشرقي إلى الركن الجوفي صفحة سعتها خمسة وثلاثون شبرا ومن الركن الجوفي إلى الغربي صفحة سعتها تسعة وثلاثون شبرا ومن الركن الغربي إلى القبلي صفحة سعتها أربعة وعشرون شبرا. وفي هذه الصفحة صندوق آبنوس مختم بالصندل مصفح بالفضة مكوكب بها هو قبالة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وطوله خمسة أشبار وعرضه ثلاثة أشبار وارتفاعه أربعة أشبار وفي الصفحة التي بين الركن الجوفي والركن الغربي موضع عليه ستر مسبل يقال إنه كان مهبط جبريل عليه السلام. فجميع سعة الروضة المكرمة من جميع جهاتها مائتا شبر واثنان وسبعون شبرا وهي مؤزرة بالرخام البديع النحت الرائع النعت وينتهي الازار منها إلى نحو الثلث أو أقل يسيرا وعليه من الجدار المكرم ثلث آخر قد علاه تضميخ المسك والطيب مقدار نصف شبر مسودا مشققا متراكما مع طول الأزمنة والأيام والذي يعلوه من الجدار شبابيك عود متصلة بالسمك الأعلى لأن أعلى الروضة المباركة متصل بسمك المسجد وإلى حيز إزار الرخام تنتهي الاستار وهي لازوردية اللون مختمة بخواتيم بيض مثمنة ومربعة وفي داخل الخواتيم دوائر مستديرة ونفط بيض تحف بها فمنظرها منظر رائق بديع لشكل وفي اغلاها رسم مائل إلى البياض. وفي الصفحة القبلية إمام موجه النبي صلى الله عليه وسلم مسمار فضة هو قبالة الوجه الكريم فيقف الناس أمامه للسلام. وإلى قدميه صلى الله عليه وسلم رأس أبي بكر الصديق رضى الله عنه ورأس عمر الفاروق مما يلي كتفى أبي بكر الصديق رضى الله عنهما فيقف المسلم مستدبر القبلة ومستقبل الوجه الكريم فيسلم ثم

ينصرف يمينا إلى وجه أبي بكر ثم إلى وجه عمر رضي الله عنهما. وأمام هذه الصفحة المكرمة نحو العشرين قنديلا معلقة من الفضة وفيها اثنان من ذهب وفي جوفي الروضة المقدسة حوض صغير مرخم في قبلته شكل محراب قيل إنه كان بيت فاطمة رضى الله عنها ويقال هو قبرها والله أعلم بحقيقة ذلك. وعن يمين الروضة المكرمة المنبر الكريم ومنه إليها اثنتان وأربعون خطوة وهو في الحوض المبارك الذي طوله أربع عشر خطوة وعرضه ست خطا وهو مرخم كله وارتفاعه شبر ونصف وبينه وبين الروضة الصغيرة التي بين القبر الكريم والمنبر وفيها جاء الأثر أنها روضة من رياض الجنة ثماني خطوات. وفي هذه الروضة يتزاحم الناس للصلاة وحق لهم ذلك وبإزائها لجهة القبلة عمود يقال: إنه مطبق على بقية الجذع الذي حن للنبي صلى الله عليه وسلم وقطعة منه في وسط العمود ظاهره يقبلها الناس ويبادرون للتبرك بلمسها ومسح خدودهم فيها وعلى حافتها في القبلة منها الصندوق. وارتفاع المنبر الكريم نحو القامة أو أزيد وسعته خمسة أشبار وطوله خمس خطوات وأدراجه ثمانية وله باب على هيئة الشباك مقف يفتح يوم الجمعة وطوله أربعة أشبار ونصف شبر. والمنبر مغشى بعود الآبنوس ومقعد الرسول صلى الله عليه وسلم من أعلاه ظاهر قد طبق عليه بلوح من الآبنوس غير متصل به يصونه من القعود عليه فيدخل الناس أيديهم إليه ويتمسحون به تبركا بلمس ذلك المقعد الكريم. وعلى رأس رجل المنبر إليمنى حيث يضع الخطيب يده إذ خطب حلقة فضة مجوفة مستطيلة تشبه حلقة الخياط التي يضعها في اصبعه صفة لا صغرا لأنها أكبر منها لاعبة تستدير في موضعها يزعم الناس أنها لعبة الحسن والحسين رضى الله عنهما في حال خطبة جدهما صلوات الله وسلامه عليه.

وطول المسجدالكريم مائة خطوة وست وتسعون خطوة وسعته مائة وست وعشرون خطوة وعدد سواريه مائتان وتسعون وهي أعمدة متصلة بالسمك دون قسى تنعطف عليها فكأنها دعائم قوائم وهي من حجر منحوت قطعا قطعا ململمة مثقبة توضع اثنى في ذكر ويفرغ بينهما الرصاص المذاب إلى أن تتصل عمودا قائما وتكسى بغلاله جيار1 ويبالغ في صقلها ودلكها فتظهر كأنها رخام أبيض. والبلاط المتصل بالقبلة من الخمسة بلاطات المذكورة تحف به مقصورة تكتنفه طولا من غرب إلى شرق والمحراب فيها ويصلى الإمام في الوضة الصغير المذكورة إلى جانب الصندوق وبينهما وبين الروضة والقبر المقدس محمل كبير مدهون عليه مصحف كبير في عشاء مقفل عليه هو أحد المصاحف الأربعة التي وجه بها عثمان بن عفان رضى الله عنه إلى البلاد. وبإزاء المقصورة إلى جهة الشرق خزانتان كبيرتان محتويتان على كتب ومصاحف موقوفة على المسجد المبارك. ويليهما في البلاط الثاني لجهة الشرق أيضا دفة مطبقة على وجه الأرض مقفلة هي على سرداب يهبط إليه على ادراج تحت الأرض يفضى إلى خارج المسجد إلى دار أبي بكر الصديق رضى الله عنه وهو كان طريق عائشة إليها وبإزائها دار عمر بن الخطاب ودار ابنه عبد الله رضي الله عنهما ولا شك أن ذلك الموضع هو موضع الخوخة المفضية لدار أبي بكر التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإبقائها خاصة. وأمام الروضة المقدسة أيضا صندوق كبير هو للشمع والاتوار التي توقد إمام الروضة كل ليلة وفي الجهة الشرقية بيت مصنوع من عود هو موضع مبيت بعض السدنة الحارسين للمسجد المبارك وسدنته فتيان احابيتس وصقالب

_ 1 الجيار: الكلس قبل أن يطفأ.

ظراف الهيئات نظاف الملابس والشارات والمؤذن الراتب فيه أحد أولاد بلال رضى الله عنه. وفي جهة جوف الصحن قبة كبيرة محدثة جديدة تعرف بقبة الزيت هي مخزن الجميع آلات المسجد المبارك وما يحتاج إليه فيه وبإزائها في الصحن خمس عشرة نخلة وعلى رأس المحراب الذي في جدار القبلة داخل المقصورة حجر مربع أصفر قدر شبر في شبر ظاهر البريق والبصيص يقال: إنه كان مرآة كسرى والله أعلم بذلك وفي أعلاه داخل المحراب ممسار مثبت في جدار فيه شبه حق صغير لا يعرف من أي شيء هو ويزعم أيضا إنه كان كأس كسرى والله أعلم بحقيقة ذلك كله. ونصف جدار القبلة الأسفل رخام موضوع إزارا على إزار1 مختلف الصنعة واللون مجزع أبدع تجزيع والنصف الأعلى من الجدار منزل كله بفصوص الذهب المعروفة بالفسيفساء قد انتج الصناع فيه نتائج من الصنعة غريبة تضمنت تصاوير اشجار مختلفات الصفات مائلات الأغصان بثمرها. والمسجد كله على تلك الصفة لكن الصنعة في جدار القبلة أحفل والجدار الناظر إلى الصحن من جهة القبلة كذلك ومن جهة الجوف أيضا والغربي والشرفي الناظران إلى الصحن مجردان أبيضان ومقرنصان قد زينا برسم يتضمن أنواعا من الأصبغة إلى ما يطول وصفه وذكره من الاحتفال في هذا المسجد المبارك المحتوى على التربة الظاهرة المقدسة وموضوعها أشرف ومحلها ارفع من كل ما تزين به. وللمسجد المبارك تسعة عشر بابا لم يبق منها مفتحا سوى أربعة في الغرب منها اثنان يعرف ألواح د ببا الرحمة والثاني بباب الخشية وفي الشرق اثنان يعرف ألواح د بباب جبريل عليه السلام والثاني بباب الرخاء ويقابل باب جبريل عليه السلام دار عثمان رضى الله عنه وهي التي استشهد

_ 1 الإزار: حائط يلزق بآخر أكبر منه لتقويته.

بها ويقابل الروضة المكرمة من هذه الجهة الشرقية روضة جمال الدين الموصلي رحمه الله المشهور خبره وأثره وقد تقدم ذكر مآثره. وأمام الروضة المكرمة شباك حديد مفتوح إلى روضته تتنسم منها روحا وريحانا وفي القبلة باب واحد صغير مغلق وفي الجوف أربعة مغلقة وفي الغرب خمسة مغلقة أيضا وفي الشرق خمسة أيضا مغلقة فكملت بالأربعة المفتوحة تسعة عشر بابا. وللمسجد المبارك ثلاث صوامع إحد اها في الركن الشرقي المتصل بالقبلة والاثنتنان في ركني الجهة الجوفية صغيرتان كأنهما على هيئة برجين والصومعة الأولى المذكورة على هيئة الصوامع.

ذكر المشاهد المكرمة التي ببقيع الغرقد وصفح جبل أحد

ذكر المشاهد المكرمة التي ببقيع الغرقد وصفح جبل أحد فأول ما نذكر من ذلك مسجد حمزة رضى الله عنه وهو بقبلى الجبل المذكور الجبل جوفي المدينة وهو على مقدار ثلاثة اميال وعلى قبره رضي الله عنه مسجد مبنى والقبر برحبة جوفي المسجد والشهداء رضى الله عنهم بازائه والغار الذي اوى إليه النبي صلى الله عليه وسلم بإزاء الشهداء أسفل الجبل وحول اشهداء تربة حمراء هي التربة التي تنسب إلى حمزة يتبرك الناس بها. وبقيع الغرقد شرقي المدينة تخرج إليه على باب يعرف بباب البقيع وأول ما تلقى عن يسارك عند خروجك من الباب المذكور مشهد صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم أم الزبير بن العوام رضى الله عنه وأمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني رضي الله عنه وعليه قبة صغيرة مختصرة البناء وأمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه

وسلم وعليه قبة بيضاء وعلى اليمين منها تربة ابن لعمر بن الخطاب رضى الله عنه اسمه عبد الرحمن الأوسط وهو المعروف بأبي شحمة وهو الذي جلده أبوه الحد فمرض ومات رضى الله عنهما. وبإزائه قبر عقيل بن أبي طالب رضى الله عنه وعبد الله بن جعفر الطيار رضى الله عنه وبإزائهم روضة فيها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبازائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم ويليها روضة العباس بن عبد المطلب والحسن بن علي رضى الله عنهما وهي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور وعن يمين الخارج منه ورأس الحسن إلى رجلي العباس رضي الله عنهما وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع الصاق مرصعة بصفائح الصفر ومكوكبة بمساميره على أبدع صفة وأجمل منظر وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم. ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرف ببيت الحزن يقال: إنه الذي أوت إليه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النورين رضى الله عنه وعليه قبة صغيرة مختصرة وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أم على رضى الله عنها وعن بنيها. ومشاهد هذا البقيع أكثر من أن تحصى لأنه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرين والأنصار رضى الله عنهم أجمعين وعلى قبر فاطمة المذكورة مكتوب: ما ضم قبر أحد كفاطمة بنت أسد رضى الله عنها وعن بنيها. وقباء قبلي المدينة ومنها إليها نحو الميلين وكانت مدينة كبيرة متصلة بالمدينة المكرمة والطريق إليها بين حدائق النخل المتصلة والنخيل محدق بالمدينة من جهاتها وأعظمها جهة القبلة والشرق وأقلها جهة الغرب. والمسجد المؤسس على التقوى بقباء مجدد وهو مربع مستوى الطول والعرض وفيه

مئذنة طويلة بيضاء تظهر على بعد وفي وسطه مبرك الناقة بالنبي صلى الله عليه وسلم وعليه حلق1 قصير شبه روضة صغيرة يتبرك الناس بالصلاة فيه وفي صحنه مما يلي القبلة شبه محراب على مصطبة هو أول موضع ركع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وفي قبلته محاريب وله باب واحد من جهة الغرب وهو سبعة بلاطات في الطول ومثلها في العرض. وفي قبلة المسجد دار لبني التجار وهي دار أبي أيوب الأنصاري وفي الغرب من المسجد رحبة فيها بئر وبازائهما على الشفير حجر متسع شبيه البيلة2 يتوضأ الناس فيه ويلي دار بنى النجار دار عائشة رضى الله عنها وبإزائها دار عمر ودار فاطمة ودار أبي بكر رضى الله عنهم وبإزائهما بئر أريس حيث تفل النبي صلى الله عليه وسلم فعاد ماؤها عذبا بعد ما كان أجاجا وفيها وقع خاتمه من يد عثمان رضى الله عنه والحديث مشهور. وفي آخر القرية تل مشرف يعرف بعرفات يدخل إليه على دار الصفة حيث كان عمار وسلمان وأصحابهما المعروفون بأهل الصفة وسمى ذلك التل عرفات لأنه كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة منه زويت له الأرض فأبصر الناس بعرفات وآثار هذه القرية المكرمة ومشاهدها كثيرة لا تحصى. وللمدينة المكرمة أربعة أبواب وهي تحت سورين في كل سور باب يقابله آخر ألواح د منها كله حديد ويعرف باسمه باب الحديد ويليه باب الشريعة ثم باب القبلة وهو مغلق ثم باب البقيع وقد تقدم ذكره وقبل وصولك سور المدينة من جهة الغرب بمقدار غلوة تلقى الخندق الشهير ذكره الذي صنع النبي صلى الله عليه وسلم عند تحزب الأحزاب. وبينه وبين المدينة عن يمين الطريق العين المنسوبة للنبي صلى الله عليه

_ 1 الحلق: حائط مستدير أو حظيرة. 2 البيلة: الحوض "معربة".

وسلم وعليها حلق عظيم مستطيل ومنبع العين وسط ذلك الحلق كأنه الحوض المتسطيل وتحته سقايتان مستطيلتان باستطالة الحلق وقد ضرب بين كل سقاية وبين الحوض المذكور بجدار فحصل الحوض محدقا بجدارين وهو يمد الساقيتين المذكورتين ويهبط إليهما على أدراج عددها نحو الخمسة والعشرين درجا وماء هذه العين المباركة يعم أهل الأرض فضلا عن أهل المدينة فهي لتطهير الناس واستقائهم وغسل أثوابهم والحوض المذكور لا يتناول فيه غير الاستقاء خاصة صونا له ومحافظة عليه وبمرقبة منه مما يلي المدينة قبة حجر الزيت يقال: إن الزيت رشح للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الحجر ولجهة الجوف منه بئر بضاعة وبازائها لجهة إليسار جبل الشيطان حيث صرخ لعنه الله يوم أحد حين قال: قتل نبيكم. وعلى شفير الخندق المذكور حصن يعرف بحصن العزاب وهو خرب قيل: إن عمر رضى الله عنه بناه لعزاب المدينة وأمامه لجهة الغرب على البعد بئر رومة التي اشترى نصفها عثمان رضى الله عنه بعشرين ألفا وفي طريق أحد م مسجد على رضى الله عنه ومسجد سلمان رضى الله عنه ومسجد الفتح الذي أنزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم سورة الفتح. وللمدينة المكرمة سقاية ثالثة داخل باب الحديد يهبط إليها على ادراج وماؤها معين وهي بمقرة من الحرم الكريم وبقبلي هذا الحرم المكرم دار إمام دار الهجرة مالك ابن أنس رضى الله عنه ويطيف بالحرم كله شارع مبلط بالحجر المنحوت المفروش. فهذا ذكر ما تمكن على الاستعجال من آثار المدينة المكرمة ومشاهدها على جهة الاقتضاب والاختصار والله ولي التوفيق.

الخاتون بنت الأمير سعود

الخاتون بنت الأمير سعود ومن عجيب ما شاهدناه من الأمور البديعة الداخلة مدخل السمعة والشهرة أن إحدى الخواتين المذكورات وهي بنت الأمير مسعود المتقدم ذكرها وذكر أبيها وصلت عشي يوم الخميس السادس لمحرم ورابع يوم وصولنا إلى مسجد رسول صلى الله عليه وسلم راكبه في قبتها وحولها قباب كرائمها وخدمها والقراء إمامها والفتيان والصقالب بأيديهم مقامع الحديد يطوفون حولها ويدفعون الناس أمامها إلى أن وصلت إلى باب المسجد المكرم فنزلت تحت ملحفة مبسوطة عليها ومشت إلى أن سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم والخول إمامها والخدام يرفعون أصواتهم بالدعاء لها اشادة بذكرها ثم وصلت إلى الروضة الصغيرة التي بين القبر الكريم والمنبر فصلت فيها تحت الملحفة والناس يتزاحمون عليها والمقامع تدفعهم عنها ثم صلت في الحوض بإزاء المنبر ثم مشت إلى الصفحة الغريبة من الروضة المكرمة فقعدت في الموضع الذي يقال: إنه كان مهبط جبريل عليه السلام وأرخي الستر عليها وأقام فتيانه اوصقالبها وحجابها على رأسها خلف الستر تأمرهم بأمرها واستجلبت معها إلى المسجد حلمين من المتاع للصدقة فما زالت في موضعها إلى الليل.

وعظ رئيس العلماء

وعظ رئيس العلماء وقد وقع الإيذان بوصول صدر الدين رئيس الشافيعة الأصبهاني الذي ورث النباهة والوجاهة في العلم كابرا عن كابر لعقد مجلس وعظ تلك الليلة وكانت ليلة الجمعة السابع من المحرم فتأخر وصوله إلى هدء من الليل والحرم قد غص بالمنتظرين والخاتون جالسة موضعها وكان سبب تأخره تأخر أمير

الحجاج لأنه كان على عدة من وصوله إلى أن وصل ووصل الأمير وقد اعد لرئيس العلماء المذكور وهو يعرف بهذا الاسم توراثه عن أب فأب كرسي بازاء الروضة المقدسة فصعده وحضر قراؤه أمامه فابتدروا القراءة بنغمات عجيبة وتلاحين مطربة مشجية وهو يلحظ الروضة المقدسة فيعلن بالبكاء ثم أخذ في خطبة من إنشائه سحرية البيان ثم سلك في أساليب من الوعظ باللسانين وأنشد أبياتا بديعة من قوله منها هذا البيت وكان يردده في كل فصل من ذكره صلى الله عليه وسلم ويشير إلى الروضة: هاتيك روضته تفوح نسيما ... صلوا عليه وسلموا تسليما واعتذر من التقصير لهول ذلك المقام وقال: عجبا للألكن الأعجم كيف ينطق عند أفصح العرب! وتمادى في وعظه إلى أن أطار النفوس خشية ورقة وتهافتت عليه الأعاجم معلنين بالتوبة وقد طاشت ألبابهم وذهلت عقولهم فيلقون نواصيهم بين يديه فيستدعى جلمين ويجزها ناصية ناصية ويكسو عمامته المجزوز الناصية فيوضع عليه للحين عمامة أخرى من أحد قرائه أو جلسائه ممن قد عرف منزعه الكريم في ذلك فبادر بعمامته لاستجلاب العرض النفيس لمكارمه الشهيرة عندهم فلا يزال يخلع واحدة بعد أخرى إلى أن خلع منها عدة وجز نواصي كثيرة ثم ختم مجلسه بأن قال: معشر الحاضرين قد تكلمت لكم ليلة بحرم الله عز وجل وهذه الليلة بحرم رسوله صلى الله عليه وسلم ولا بد للواعظ من كدية وأنا أسالكم حاجة أن ضمنتموها لي أرقت لكم ماء وجهي في ذكرها فأعلن الناس كلهم بالإسعاف، وشهيقهم قد علا فقال: حاجتي أن تكشفوا رؤوسكم وتبسطوا أيديكم ضارعين لهذا النبي الكريم في أن يرضى عني ويسترضي الله عز وجل لي. ثم أخذ في تعداد ذنوبه والاعتراف بها فأطار الناس عمائهم وبسطوا أيديهم للنبي صلى الله عليه وسلم داعين له باكين متضرعين فما رأيت ليلة

أكثر دموعا ولا أعظم خشوعا من تلك الليلة ثم انفض المجلس وانفض الأمير وانفضت الخاتون من موضعها وعند وصول صدر الدين المذكور أزيل الستر عنها وبقيت بين خدمها وكرائمها متلفعة في ردائها فعاينا من أمرها في الشهرة الملوكية عجبا. وأمر هذا الرجل صدر الدين عجيب في قعدده1 وابهته وملوكيته وفخامة آلته وبهاء حالته وظاهر مكنته ووفور عدته وكثرة عبيده وخدمته واحتفال حاشيته وغاشيته فهو من ذلك على حال يقصر عنها الملوك وله مضرب كالتاج العظيم في الهواء مفتح على أبواب على هيئة غريبة الوضع بديعة الصنعة والشكل تطل على المحلة من بعد فتبصره ساميا في الهواء وشأن هذا الرجل العظيم لا يستوعيه الوصف شاهدنا مجلسه فرأينا رجلا يذوب طلاقة وبشرا ويخف للزائر كرامة وبرا على عظيم حرمته وفخامة بنيته وهو قد أعطى البسطتين علما وجسما استجزناه فاجازنا نثرا ونظما وهو أعظم من شاهدنا بهذه الجهات. وفي يوم الجمعة المذكور وهو السابع من محرم شاهدنا من أمور البدعة أمرا ينادي له الإسلام بالله يا للمسلمين وذلك أن الخطيب وصل للخطبة فصعد منبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو على ما يذكر على مذهب غير مضى ضد الشيخ الإمام العجمي الملازم صلاة الفريضة في المجسد المكرم فذلك على طريقة من الخير والورع لائقة بامام مثل ذلك الموضع الكريم. فلما أذن المؤذنون قام هذا الخطيب المذكور للخطبة وقد تقدمته الرايتان السوداوان وقد ركزتا بجانبي المبنر الكريم فقام بينهما فلما فرغ من الخطبة الأولى جلس جلسة خالف فيها جلسة الخطباء المضروب بها المثل في السرعة وابتدر الجمع مردة من الخدمة يخترقون الصفوف ويتخطون الرقاب،

_ 1 للفظة القعدد معان كثيرة كلها ذم. ومن معانيها أيضا: القريب النسب من الجد الأكبر، ولعل هذا هو المراد هنا لأنه يشعر بمدح.

كدية1 على الأعاجم والحضارين لهذا الخيطب القليل التوفيق فمنهم من يطرح الثوب النفيس ومنهم من يخرج الشقة الغالية من الحرير فيعطيها وقد اعدها لذلك ومنهم من يخلع عمامته فينبذها ومنهم من يتجرد عن برده فيلقى به ومنهم من لا يتسع حاله لذلك فيسمح بفضله من الخام ومنهم من يدفع القراضة من الذهب ومنهم من يمد يده بالدينار والدينارين إلى غير ذلك ومن النساء من تطرح خلخالها وتخرج خاتمها فتلقيه إلى ما يطول الوصف له من ذلك. والخطيب في أثناء هذه الحال كلها جالس على المنبر يلحظ هؤلاء المستجدين المستسعين على الناس بلحظات يكررها الطمع ويعيدها الرغبة والاستزادة إلى أن كاد الوقت ينقضى والصلاة تفوت وقد ضج من له دين وصحة من الناس وأعلن بالصياح وهو قاعد ينتظر اشتفاف صبابة الكدية وقد أراق عن وجهه ماء الحياء فاجتمع له من ذلك السحت المؤلف كوم عظيم امامه فلما ارضاه قام وأكمل الخطبة وصلى بالناس وانصرف أهل التحصيل باكين على الدين يائسين من فلاح الدينا متحققين اشراط الآخرة ولله الأمر من قبل ومن بعد! وفي عشي ذلك اليوم المبارك كان وداعنا للروضة المباركة والتربة المقدسة فياله وداعا عجبا ذهلت له النفوس ارتياعا حتى طارت شعاعا واستشرت به النفوس التياعا حتى ذابت انصداعا وما ظنك بموقف ناجي التوديع فيه سيد الأولين والاخرين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين؟ إنه لموقف تنفطر له الافئدة وتطش به الألباب الثابتة المتئدة فوا أسفاه وا أسفاه! كل يبوح لديه بأشواقه ولا يجد بدا من فارقه فما يتسطيع إلى الصبر سبيلا ولا تسمع في هول ذلك المقام إلا رنة وعويلا وكل بلسان الحال ينشد: محبتي تقتضي مقامي ... وحالتي تقتضى الرحيلا

_ 1 الكدية: الشحاذة.

بوأنا الله بزيارة هذا النبي الكريم منزل الكرامة وجعله شفيعا لنا يوم القيامة وأحلنا من فضله في جواره دار المقامة برحمته إنه غفور رحيم جواد كريم. وكان مقامنا بالمدينة المكرمة خمسة أيام أولها يوم الإثنين وآخرها يوم الجمعة.

من المدينة إلى العراق

من المدينة إلى العراق وفي ضحوة يوم السبت الثامن لمحرم المذكور والحادي والعشرين من شهر إبريل كان رحيلنا من المدينة المكرمة إلى العراق قرب الله لنا المرام وسهل علينا السبيل واسصحبنا منها لماء الثلاثة أيام فنزلنا يوم الإثنين ثالث يوم رحيلنا المذكور بوادي العروس فتزود الناس منها الماء يحرفون عليه في الأرض بئرا فينبع منها ماء عذب معين يروى الأمة التي لا يحصى لها عدد من هذه المحلة مع جمالها التي تنيف على عددها ولله القدرة سبحانه. وصعدنا من وادي العروس إلى أرض نجد وخلفنا تهامة وراءنا ومشينا في بسيطة من الأرض ينحسر الطرف دون ادناها ولا يبلغ مداها وتنسمنا نسيم نجد وهواءها المضروب به المثل فانتشعت النفوس والاجسام ببرد نسيمه وصحة هوائه ونزلنا يوم الثلاثاء رابع يوم رحيلنا على ماء يعرف بماء العسيلة ثم نزلنا يوم الأربعاء خامس يوم رحيلنا بموضع يعرف بالنقرة وفيها آبار ومصانع كالصهاريج العظام وجدنا أحد ها مملوءا بماء المطر فعم جميع المحلة ولم ينضب على كثرة المحلة واستماحتها. وصفة مراحل هذا الأمير بالحاج أن يسرى من نصف الليالي إلى ضحية ثم ينزل إلى أول الظهر ثم يرحل وينزل مع العشاء الآخرة ثم يقوم نصف الليل هذا دأبه. ونزلنا ليلة الخميس الثالث عشر لمحرم وسادس يوم رحيلنا على ماء

يعرف بالقارورة وهي مصانع1 مملوءة بماء المطر وهذا الموضع هو وسط أرض نجد وما أرى أن في المعمورة ارضا افسح بسيطا ولا أوسع أنفا ولا أطيب نسيما ولا أصح هواء ولا أمد استواء ولا أصفى جوا ولا أنقى تربة ولا أنعش للنفوس والأبدان ولا أحسن اعتدالا في كل الازمان من أرض نجد ووصف محاسنها يطلو والقول فيها يتسع. وفي يوم الخميس المذكور مع ضحوة النهار نزلنا بالحاجر والماء فيه في مصانع وربما حفروا عليه حفرا قريبة العمق يسمونها أحفارا وأحدها حفر وكنا نتخوف في هذا الطريق قلة الماء لا سيما مع عظم هذا الجمع الأنامى والأنعامي الذين لو وردوا البحر لأنزفوه واستقوه فأنزل الله من سحب رحمته ما أعاد الغيطان عذرانا وأجرى المسول2 سيولا وصير الوهاد مملوءة عهادا3 فكنا نبصر مذانب4 الماء سائحة على وجه الأرض فضلا من الله ونعمة ولطفا من الله بعباده ورحمة والحمد لله على ذلك. وفي اليوم المذكور أجزنا بالحاجز واديين سيالين وأما البرك والقرارات فلا تحصى. وفي يوم الجمعة بعده نزلنا ضحوة النهار سميرة وهي موضع معمور وفي بسيطها شبه حصن يطيف به حلق كبير مسكون ولماء فيه في آبار كثيرة إلا أنها زعاق ومستنفعات وبرك وتبايع العرب فيها مع الحاج فيما أخرجوه من لحم وسمن ولبن ووقع الناس على قرم وعيمة5 فبادروا الابتياع لذلك بشقق الخام التي يستصحبونها لمشاراة الأعراب ل، نهم لا يبايعونهم إلا بها. وفي ضحوة يوم السبت بعده نزلنا بالجبل الخروق وهو جبل في بيداء

_ 1 المصانع، الواحدة مصنعة: ما يجمع فيها ماء المطر كالحوض. 2 أراد بالمسول مسايل الماء. 3 العهاد: المطر بعد المطر بحيث يدرك الآخر بلل الأول. 4 المذانب: الجداول والمسايل. 5 القرم: الشهوة الشديدة إلى اللحم. العيمة: الشهوة الشديدة إلى اللبن.

من الأرض وفي صفحه الأعلى ثقب نفاذ تخترقه الرياح ثم رحنا من ذلك الموضع وبتنا بوادي الكروش على غير غير ماء ثم أسرينا منه وأصبحنا على فيد يوم الأحد وهي حصن كبير مبرج مشرف في بسيط من الأرض بمتد حوله ربض يطيف به سور عتيق البنيان وهو معمرو بسكان من الأعراب ينتعشون مع الحاج في التجارات والمبايعات وغير ذلك من المرافق وهناك يترك الحاج بعض زادهم إعدادا للإرمال من الزاد1 عند انصرافهم ولهم بها معارف يتركون أزودتهم عندهم وهذا نصف الطريق من بغداد إلى مكة على المدينة شرفها الله أو أقل يسيرا ومنها إلى الكوفة اثنا عشر يوما في طريق سهلة طيبة والمياه فيها بحمد الله موجودة في مصانع كثيرة ودخل أمير الحاج هذا الموضع المذكور على تبعئة وأهبة إرهابا للمجتمعين به من الاعراب لئلا يداخلهم الطمع في الحاج فهم يلحظونهم مستشرفين إلى مكانهم لكنهم لا يجدون إليهم سبيلا والحمد لله. والماء بهذا الموضع كثير في آبار تمدها عيون تحت الأرض ووجد الحاج فيها مصنعا قد اجتمع فيه الماء من المطر فانتزف للحين وامتلأت أيدي الحاج القمرين من غنام العرب بالمبايعة المذكورة فلم يبق مضرب ولا خيمة ولا ظلالة إلا والى جانبها كبش أو كبشان بحسب القدرة والوجد2 فعم جميع المحلة غنم العرب وكان ذلك اليوم عيدا من الأعياد وكذلك عمتهم أيضا جمالهم لمن اراد الابتياع منهم من الجمالين وسواهم للاستظهار على الطريق وأما السمن والسعل واللبن فلم يبق إلا من تحمل أو استعمل منها بقدر حاجته. وأقام الناس يومهم ذلك مريحين بها إلى ظهر يوم الإثنين بعده ثم أسروا نصف الليل ترتيب سيرهم المذكور قبل ونزلوا ضحوة يوم الثلاثاء الثامن عشر لمحرم وهو أول يوم من مايه3 بموضع يعرف بالاجفر وهو مشتهر عندهم

_ 1 الإرمال من الزاد: نفاده. 2 الوجد: الغنى. 3 مايه: مايو، أيار.

بموضع جميل وبثنية العذريين ثم أقلعنا ظهر يوم الثلاثاء المذكور على العادة ونزلنا بالبيداء مع العشاء الآخرة ثم أسرينا منها ونزلنا ضحوة يوم الأربعاء بزورد وهي وهدة في بسيط من الأرض فيها رمال منهالة وبها حلق كبير داخله دويرات صغار هو شبيه الحصن يعرف بهذه الجهات بالقصر والماء بهذا الموضع في آبار غير عذبة فنزلنا ضحوة يوم الخيمس الموفى عشرين لمحرم والثالث لمايه بموضع يعرف بالثعلبية ولها مبنى شبه الحصن خرب لم يبق منه إلا الحلق وبإزائه مصنع عظيم كبير الدور من اوسع ما يكون من الصهاريج وأعلاها والمهبط إليه على ادراج كثيرة من ثلاث جهات وكان فيه من ماء المطر ما عم جميع المحلة. ووصل إلى هذا الموضع جمع كثير من العرب رجالا ونساء واتخذوا به سوقا عظيمة حفيلة للحمال والكباش والسمن واللبن وعلف الإبل فكان يوم سوق نافقة. وبقي من هذا الموضع إلى الكوفة من المناهل التي تعم جميع المحلة ثلاثة أحد ها زبالة والثاني واقصة، والثالث منهل من ماء الفرات على مقربة من الكوفة وبين هذه المناهيل مياه موجودة لكنها لاتعم وهذه الثلاثة المذكورة هي التي تعم الناس والإبل وهي التي تردها رفها. وفي هذا المنهل الذي للثعلبية شاهدنا من غلبة الناس على الماء أمرا هائلا لا يكاد يشاهد مثله في تغلب المدن والحصون بالقتال وحسبك أن مات في ذلك الموضع ضغطا بشدة الزحام وغطا تحت الماء بالاقدام سبعة رجال بادروا لمورد لماء فحصلوا على موردالفناء رحمهم الله وغفر لهم. وفي ضحوة يوم الجمعة بعده نزلنا بموضع يعرف ببركة المرجوم وهي مصنع وقد بنى له فيما يعلوه من الأرض مصب يؤدي الماء إليه على بعد وأحكم ذلك حاكما يدل على قدرة الاتساع وقوة الاستطاع1. ولهذا المرجوم

_ 1 لعلها المستطاع، لأنه لا وجود للفظة الاستطاع في اللغة.

المذكور مشهد على قارعة الطريق وقد علا كأنه هضبة شماء وكل مجتاز عليه لا بد أن يلقى عليه حجرا ويقال: إن أحد الملوك رجمه لأمر استوجب به ذلك والله أعلم. وبهذا الموضع بيوت كثيرة للعرب وبادروا للحين بما لديهم من مرافق الادم يبعونها من الحاج كان هذا المصنع مملوء من ماء المطر فغمر الناس وعمهم والحمد لله. وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكة هي آثار زبيدة ابنة جعفر ابن أبي جعفر المنصور زوج هارون الرشيد وابنة عمه وانتبدت لذلك مدة حياتها فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تعالى كل سنة من لدن وفاتها إلى الآن ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذا الطريق والله كفيل بمجازاتها والرضى عنها. وفي ضحوة يوم السبت بعده نزلنا بموضع يعرف بالشقوق وفيه مصنعان الفيناهما مملوءين ماء عذبا صافيا فأراق الناس مياههم وجددوا مياها طيبة واستبشروا بكثرة الماء وجددوا شكر الله على ذلك وأحد هذين المصنعين صهريج عظيم الدائرة كبيرها لا يكاد يقطعه السابح إلا عن جهد ومشقة وكان الماء قد علا فيه أزيد من قامتين فتنعم الناس من مائه سباحة واغتسالا وتنظيف اثواب وكان يومهم فيه من أيام راحة السفر. ومن لطائف صنع الله تعال بوفده ووزار حرمه أن كانت هذه المصانع كلها عند صعودالحاج من بغداد إلى مكة دون ماء فأرسل الله من سحب رحمته ما اترعها ماء معد الصدر الحاج فضلا من الله ولطفا بوفده المنقطعين إليه. ورحنا من ذلك الموضع المذكرو وبتنا بموضع يعرف بالتنانير وكان فيه أيضا مصنع مملوء ماء وأسرينا منه ليلة يوم الاحدالثالث والشعرين ملحرم واجتزنا سحرا بزبالة وهي قرية معموروة وفيها قصر مشيد من قصور الاعراب ومصنعان للماء وآبار وهي من مناهل الطريق الشهيرة. ونزلنا عند ما ارتفع النهار من اليوم المذكور بالهيثمين وفيهامصنعان للماء ولا نكاد نمر بحول الله يوما بموضع إلا والماء يوجد فيه والشكر لله على ذلك.

وبتنا ليلة الإثنين الرابع والعشرين لمحرم المذكور على مصنع مملوء ماء فسقى الناس بالليل واستقوا وهذا الموضع هو دون العقبة المعروفة بعقبة الشيطان. ومع الصباح من يوم الإثنين المذكور صعدنا العقبة وليست بالطويلة الكؤود ولكن ليس بالطريق وعر غيرها فهي شهيرة بهذا السبب ونزلنا عند ارتفاع النهار على مصنع دون ماء وأجزنا مصانع كثيرة وما منها مصنع إلا والى جانبه قصر مبنى من قصور الاعراب والطريق كلها مصانع ورضى الله عن التي اعتنت بسيبل وفد الله هذا الاعتناء. ثم نزلنا ضحوة يوم الثلاثاء بعده بواقصة وهي وهدة من الأرض منفسحة فيها مصانع للماء مملوؤءة وقصر كبير وبإزائه اثر بناء وهي معمورة بالاعراب وهي آخر مناهل الطريق وليس بعدها إلى الكوفة منهل مشهور إلا مشارع ماء الفرات ومنها إلى الكوفة ثلاثة أيام وبها يتلقى الحاج كثير من أهل الكوفة وهم مستجلبون إليهم الدقيق والخبز والتمر والادم والفواكه الحاضرة في ذلك الوقت ويهنيء الناس بعضهم بعضا بالسلامة والحمد لله عز وجل على ما من به من التيسير والتسهيل حمدا يستوجب المزيد ويستصحب من كريم صنعه المعهود. وبتنا ليلة الأربعاء السادس والعشرين بموضع يعرف بلوزة وفيها مصنع كبير وجده الناس مملوءا فجددوا الاستسقاء ورفهوا الإبل ثم أسرينا منها وأجزنا سحر يوم الأربعاء المذكور بموضع فيه آثار بناء يعرف بالقرعاء وفيه أيضا مصنع ماء وله ستة مخازن وهي صهاريح صغار تؤدى الماء إلى المصانع استقى الناس فيها وسقوا. وكثرت المصانع حتى لا تكاد الكتب تحصرها ولا تضبطها والحمد لله على منته وسابغ نعمته. وبتنا ليلة الخميس بعده على مصنع عظيم مملوء ماء ثم نزلنا ضحوة اليوم المذكور بمنارة تعرف بمنارة القرون وهي منارة في بيداء من الأرض لا بناء حولها قد قامت في الأرض كأنها عمود مخروط من الاجر قد تداخل فيها من

الخواتيم الآجرية مثمنة ومربعة أشكال بديعة ومن غريب أمرها أنها مجللة كلها قرون غزلان مثبتة فيها فتلوح كظهر الشيهم1 وللناس فيها خبر يمنع ضعف سنده من اثباته وعلى مقربة من هذه المنارة قصر ذو بروج مشيدة وبازائه مصنع عظيم وجد مملوءا ماء والحمد لله على ما من به. واجتزنا عشي يوم الخميس المذكور على العذيب وهو واد خصيب وعيه بناء وحوله فلاة خصيبة فيها مسرح للعيون وفرجة وأعلما أن بمقربة منه بارقا ووصلنا منه إلى الرحبة وهي بمقربة منه وفيها بناء وعمارة ويجرى الماء فيها من عين نابعة في أعلى القرية المذكورة وبتنا امهاما بمقدار فرسخ ثم أسرينا ليلة الجمعة الثامن والعشرين لمحرم المذكور نصف الليل واجتزنا على القادسية وهي قرية كبيرة فيها حدائق من النخيل ومشارع من ماء الفرات واصبحنا بالنجف وهو بظهر الكوفة كأنه حد بينها وبين الصحراء وهو صلب من الأرض منفسح متسع للعين فهي مزاد استحسان وانشراح ووصلنا الكوفة مع طلوع الشمس من يوم الجمعة المذكور والحمد لله على ما انعم به من السلامة.

_ 1 الشيهم: ذكر القنافذ.

ذكر مدينة الكفوة حرسها الله تعالى

ذكر مدينة الكفوة حرسها الله تعالى هي مدينة كبيرة عتيقة البناء قد استولى الخراب على أكثرها فالغامر2 منها أكثر من العامر ومن أسباب خرابها فبيلة خفاجة المجاورة لها فهي لا تزال تضر بها وكفالك بتعاقب الأيام والليالي محييا ومفنيا وبناء هذه المدينة بالاجر خاصة ولا سور لها. والجامع العتيق آخرها مما يلي شرقي البلد ولا عمارة تتصل به من جهة الشرق وهو جامع كبير في الجانب القبلي منه

_ 2 الغامر: عكس العامر.

خمسة ابلطة وفي سائر الجوانب بلاطان وهذه البلاطات على أعمدة من السواري الموضوعة من صم الحجارة المنحوتة قطعة على قطعة مفرغة بالرصاص ولا قسى عليها على الصفة التي ذكرناها في مجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في نهاية الطول متصلة بسقف المسجد فتحار العيون في تفاوت ارتفاعها فما أرى في الأرض مسجدا اطول أعمدة منه ولا أعلى سقفا. ولهذا الجامع المركم آثار كريمة فمنها بيت بإزاء المحراب عن يمين المستقبل القبلة يقال: إنه كان مصلى إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم وعليه ستر أسود صونا له ومنه يخرج الخطيب لابسا ثياب السواد للخطبة فالناس يزدحمون على هذا الموضع المبارك للصلاة فيه. وعلى مقربة منه مما يلي الجانب الأيمن من القبلة محراب محلق عليه باعواد الساج مرتفع عن صحن البلاط كأنه مسجد صغير وهو محراب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه وفي ذلك الموضع ضربه الشقى اللعين عبد الرحمن بن ملجم بالسيف فالناس يصلون فيه باكين داعين. وفي الزاوية من آخر هذا البلاط القبلي المتصل بآخر البلاط الغربي شبيه مسجد صغير محلق عليه أيضا بأعواد الساج هو موضع مفار التتور الذي كان آية لنوح عليه السلام وفي ظهره خارج المسجد بيته الذي كان فيه وفي ظهره بيت آخر يقال إنه كان متعبد أدريس صلى الله عليه وسلم ويتصل بهما فضاء متصل بالجدار القبلي من المسجد يقال إنه كان منشأ السفينة ومع آخر هذا الفصاء دار علي بن أبي طالب رضى الله عنه والبيت الذي غسل فيه ويتصل به بيت يقال إنه كان بيت انبة نوح صلى الله عليه وسلم. وهذه الآثار الكريمة تلقيناها من السنة اشياخ من أهل البلد فأثبتناه حسبما نقوله إلينا والله أعلم بصحة ذلك كله. وفي الجهة الشرقية من الجامع بيت صغير يصعداليه فيه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضى الله عنه وفي جوفى الجامع على بعد منه يسير

سقاية كبيرة من ماء الفرات فيها ثلاثة أحواض كبار. وفي غربي المدينة على مقدار فرسخ منها المشهد الشهير الشان المنسوب لعلى بن أبي طالب رضى الله عنه وحيث بركت ناقته وهو محمول عليها مسجى ميتا على ما يذكر ويقال إن قبره فيه والله أعلم بصحة ذلك وفي هذا المشهد بناء حفيل على ما ذكر لنا لانا لم نشاهده بسب أن وقت المقام بالكوفة ضاق عن ذلك لانا لم نبت فيها سوى ليلة يوم السبت. وفي غدائه رحلنا ونزلنا قريب الظهر علي نهر منسرب من الفرات والفرات من الكوفة على مقدار نصف فرسخ مما يلي الجانب الشرقي والجانب الشرقي كله حدائق نخيل ملتفة يتصل سوادها ويمتد امتداد البصر ورحلنا من ذلك الموضع وبتنا ليلة الأحد منسلح محرم بمقربة من الحلة ثم جئناها يوم الأحد المذكور.

ذكر مدينة الحلة حرسها الله تعالى

ذكر مدينة الحلة حرسها الله تعالى هي مدينة كبيرة عتيقة الوضع مستطيلة لم يبق من سورها إلا حلق من جدار ترابي مستدير بها وهي على شط الفرات يتصل بها من جانبها الشرقي ويمتد بطولها ولهذه المدينة أسواق حفيلة جامعة للمرافق المدنية والصناعات الضرورية وهي قوية العمارة كثيرة الخلق متصلة حدائق النخيل داخلا وخارجا فديارها بين حدائق النخيل وألفينا بها جسرا عظيما معقودا على مراكب كبار متصلة من الشط إلى الشط تحف بها من جانبها سلاسل من حديد كالأذرع المفتلة عظما وضخامة ترتبط إلى خشب مثبتة في كلا الشطين تدل على عظم الاستطاعة والقدرة أمر الخليفة بعده على الفرات اهتماما بالحاج واعتناء بسيله وكانوا قبل ذلك يعبرون في المراكب فوجدوا هذا الجسر قد عقده الخليفة في مغيبهم ولم يكن عند شخوصهم إلى مكة شرفها الله. وعبرنا الجسر ظهر يوم الأحد المذكور نزلنا بشط الفرات على مقدار فرسخ

من البلد وهذا النهر كاسمه فرات هو من اعذب المياه واخفها وهو نهر كبيرزخار تصعد فيه السفن وتنحدر. والطريق من الحلة إلى بغداد أحسن طريق وأجملها في بسائط من الأرض وعمائر تتصل بها القرى يمينا وشمالا ويشق هذه البسائط اغصان من ماء الفرات تتسرب بها وتسقيها فمحرثها الأحد لاتساعه وانفساحه فللعين في هذه الطريق مسرح انشراح وللنفس مزاد انبساط وانفساح والأمن فيها متصل بحمد الله سبحانه وتعالى.

شهر صفر سنة ثمانين1 عرفنا الله يمنه وبركته

شهر صفر سنة ثمانين1 عرفنا الله يمنه وبركته هلاله على الكمال من ليلة الإثنين بموافقة الرابع عشر من مايه استهل هلاله ونحن على شط الفرات بظاهر مدينة الحلة. وفي ضحوة يوم الإثنين المذكور رحلنا وأجزنا جسرا على نهر يسمى النيل وهو فرع متشعب من الفرات وكان عليه ازدحام غرق كثير من الناس والدواب في الماء فتنحينا مريحين إلى أن انفرج ذلك المزدحم وعبرنا على سلامة وعافية والحمد لله. ومن مدينة الحلة يتسلسل الحاج أرسالا وأفواجا أفواجا: فمنهم المتقدم والمتوسط والمتأخر لا يعرج المتسعجيل على المتعذر ولا المتقدم على المتأخر فحيثما شاءوا من طريقهم نزلوا واراحوا واستراحوا وسكنت نفوسهم من روعة نقر الكوس2 الذي كانت الأفئدة ترجف له بدارا للرحيل واستعجالا للقيام فربما كان لنائم منهم يهذي بنقر الكوس فيقوم عجلا وجلا ثم يتحقق إنه من اضغاث احلامه فيعودالى منامه.

_ 1 ثمانين أي 580 هـ 1184م. 2 الكوس: نوع من الطبل.

ومن جملة الدواعي لافتراقهم كثرة القناطر المعترضة في طريقهم إلى بغداد فلا تكاد تمشى ميلا إلا وتجد قنطرة على نهر متفرع من الفرات فتلك الطريق أكثر الطرق سواقي وقناطر وعلى أكثرها خيام فيها رجال محترسون للطريق اعتناء من الخليفة بسبيل الحاج دون اعتراض منهم لاتسنفاع بكدية أو سواها فلو زاحم ذلك البشر تلك القناطير دفعة لما فرغوا من عبورها ولتراكموا وقوعا بعض على بعض. والأمير طاشتكين المتقدم الذكر يقيم بالحلة ثلاثة أيام إلى أن يتقدم جميع الحاج ثم يتوجه إلى حضرة خليفته وهذه الحلة المذكورة طاعة بيده للخليفة وهذه الحلة المذكورة طاعة بيده للخليفة وسيرة هذا الأمير في الرفق بالحاج والاحتياط عليهم والاحتراس لمقدمتهم وساقتهم وضم نشر ميمنتهم وميسرتهم سيرة محمودة وطريقته في الحزم وحسن النظر طريقة سديدة وهو من التواضع ولين الجانب وقرب الكان على وتيرة سعيدة نفعه الله ونفع المسلمين به. وفي عصر يوم الإثنين المذكور نزلنا بقرية تعرف بالقنطرة كثيرة الخصب كبيرة الساحة متدفقة فيها جداول الماء وارفه الظلال بشجرات الفواكه من أحسن القرى وأجملها وبها قنطرة على فرع من فروع الفرات كبيرة محدودبة يصعد إليها وينحدر عنها فتعرف القرية بها وتعرف أيضا بحصن بشير والفينا حصاد الشعير بهذه الجهات في هذا الوقت الذي هو نصف مايه. ورحلنا من القرية المذكورة سحر يوم الثلاثاء الثاني لصفر فنزلنا قائلين ضحوته بقرية تعرف بالفراش1 كثيرة العمارة يشقها الماء وحولها بسيط اخضر جميل المنظر وقرى هذه الطريق من الحلة إلى بغداد على هذه الصفة من الحسن والأتساع وفي هذه القرية المذكورة خان كبير يحدق به جدار عال له شرفات صغار.

_ 1 ياقوت: فراشي، بفتح الشين.

ثم رحلنا منها ونزلنا عشي النهار بقرية تعرف بزريران وهذه القرية من أحسن قرى الأرض وأجملها منظرا وأفسحها ساحة واوسعها اختطاطا وأكثرها بساتين ورياحين وحدائق نخيل وكان بها سوق تقصر عنه أسواق المدن وحسبك من شرف موضوعها1 أن دجلة تسقى شرفيها والفرات يسقى غربيها وهي كالعروس بينهما والبسائط والقرى والمزارع متصلة بين هذين النهرين الشريفين المباركين. ومن شرف هذه القرية أيضا أن بازائها لجهة الشرق منها إيوان كسرى وأمامها بيسير مداينه وهذا الإيوان بناء عال في الهواء شديد البياض لم يبق من قصوره إلا البعض فعايناها على مقدار الميل سامية مشرفة مشرقة وأما المداين فخراب اجتزنا عليها سحر يوم الأربعاء الثالث لصفر فعاينا من طولها واتساعها مراى عجيبا. ومن فضائل هذه القرية أيضا أن بالشرق منها بمقدار نصف فرسخ مشهد سلمان الفارسي رضى الله عنه فما ختصت تربتها بهذا الدفين المبارك رضى الله عنه إلا لفضل تربتها. والقرية على شط دجلة وهي تعرض بينها وبين المشهدالكريم المذكور وكنا سمعنا أن هواء بغداد ينبت السرور في القلب ويبعث النفس دائما على الانبساط والأنس فلا تكادتجد فيها إلا جذلان طربا وإن كان نازح الدار مغتربا حتى حللنا بهذا الموضع المذكور وهو على مرحلة منها فلما نفحتنا نوافح هوائها ونقعنا الغلة ببرد مائها احسسنا من نفوسنا على حال وحشة الاغتراب دواعي من الاطراب واستشعرنا بواعث فرح كأنه فرحة الغياب بالاياب وهبت بنا محركات من الاطراب أذكرتنا معاهد الاحباب في ريعان الشباب هذا للغريب النازح الوطن فكيف للوافد فيها على أهل وسكن! سقى الله باب الطاق صوب غمامة ... ورد إلى الاوطان كل غريب

_ 1 أراد بموضوعها موضعها.

وفي سحر يوم الأربعاء المذكور رحلنا من القرية المذكورة واجتزنا على مداين كسرى حسبما ذكرناه وانتهينا إلى صرصر وهي أخت زريران المذكورة حسنا أو قريب منها ويمر بجانبها القبلى نهر كبير متفرع من الفرات عليه جسر معقود على مراكب تحفة بها من الشط إلى الشط سلاسل حديد عظام على الصفة التي ذكرناها في جسر الحلة فعبرناه وأجزنا القرية ونزلنا قائلين وبيننا وبين بغداد نحو ثلاثة فراسخ. وبهذه القرية سوق حفيلة ومسجد جامع كبير جديد وهي من القرى التي تملأ النفوس بهجة وحسنا. وهذان النهران الشريفان دجلة والفرات قدا غنت شهرتهما عن وصفهما وملتقاهما ما بين واسط والبصرة ومها انصبابهما إلى البحر ومجراهما من الشمال إلى الجنوب وحسبهما ما خصهما الله به من البركة هما وأخاهما النيل مما هو مذكور مشهور. ورحلنا من ذلك الموضع قبيل الظهر من يوم الأربعاء المذكور وجئنا بغداد قبيل العصر والمدخل إليها على بساتين وبسائط يقصر الوصف عنها.

ذكر مدينة السلام بغداد حرسها الله تعالى

ذكر مدينة السلام بغداد حرسها الله تعالى هذه المدينة العتيقة وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية ومثابة الدعوة الإمامية القرشية الهاشمية قد ذهب أكثر رسمها ولم يبق منها إلا شهير اسمها وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل انحاء الحوادث عليها1 والتفات أعين النوائب إليها كالطلل الدارس والاثر الطامس أو تمثال الخيال الشاخص فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعى من المستوفز العقلة2 والنظر إلا دجلتها التي هي بين شرقيها ورغبيها منها كالمرآة المجلوة بين صفحتين أو العقد

_ 1 انحاء الحوادث عليها: معاوتها إياها. 2 المستوفز: الماضي المسرع. العقلة: الوقوف.

المتظم بين لبتين1 فيه تردها ولا تظمأ وتتطلع منها في مرآه صقيلة لا تصدا والحسن الحريمي2 بين هوائها ومائها ينشأ هي من ذلك على شهرة في البلا معروفة موصوفة ففتن الهوى إلا إن يعصم الله منها مخوفة. وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع بالتواضع رياء ويذهب بنفسه عجبا وكبرياء يزدرون الغرباء ويظهرون لمن دونهم الأنفة والاباء ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود كله يصغر بالإضافة لبلده فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادا أو عبادا سواهم يسحبون أذيالهم أشرا وبطرا ولا يغيرون في ذات الله منكرا يظنون أن أنسى الفخار في يسحب الإزار ولا يعلمون أن فضله بمقضتى الحديث المأثور في النار يتبايعون بينهم بالذهب قرضا وما منهم من يحسن لله قرضا فلا نفقة فيها إلا من دينار تقرضه وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه لا تكادتظفر من خواص أهلها بالورع العفيف ولا تقع من أهل موازينها ومكاييلها إلا على من ثبت له الويل في سورة التطفيف لا يبالون في ذلك بعيب كأنهم من بقايا مدين قوم النبي شعيب فالغريب فيهم معدوم الأرفاق متضاعف الإنفاق لا يجد من أهلها إلا من يعامله بنفاق أو يهش إليه هشاشة انتفاع واسترفاق كأنهم من التزام هذه الخلة القبيحة على شرط اصطلاح بينهم واتفاق فسوء معشارة أبنائها يغلب على طبع هوائها ومائها ويعلل3 حسن المسموع من أحاديثها ومائها استفغر الله إلا فقهاءهم المحدثين وعاظهم المذكرين لا جرم أن لهم في طريقة الوعظ والتذكير ومداومة التنبيه والتبصير والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير مقامات تستنزل

_ 1 اللبة: موضع القلادة من الصدر. 2 الحريم: النساء. 3 يعلل: يضعف.

لهم من رحمة الله تعالى ما يحط كثيرا من أوزارهم ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم ويمنع القارعة1 الصماء أن تحل بديارهم لكنهم معهم يضربون في حديد بارد ويرومون تفجير الجلامد فلا يكاد يخلو يوم من أيام جمعاتهم من واعظ يتكلم فيه فالموفق منهم لا يزال في مجلس ذكر ايامه كلها لهم في ذلك طريقة مباركة متلزمة.

_ 1 القارعة: الداهية.

مجالس علم ووعظ

مجالس علم ووعظ فأول من شاهدنا مجلسه منهم الشيخ الإمام رضى الدين القزويني رئيس الشافعية وفقيه المدرسة النظامية والمشار إليه بالتقديم في العلوم الأصولية حضرنا مجلسه بالمدرسة المذكورة إثر صلاة العصر من يوم الجمعة الخامس لصفر المذكور فصعد المنبر وأخذ القراء أمامه في القراءة على كراسي موضوعة فتوقوا وشوقوا وأتوا بتلاحين معجبة ونغمات محرجة2 مطربة ثم اندفع الشيخ الإمام المذكور خطب خطبة سكون ووقار وتصرف في أفانين من العلوم من تفسير كتاب الله عز وجل وإيراد حديث رسوله صلى الله عليه وسلم والتكلم على معانيه ثم رشقته شآبيب المسائل من كل جانب فأجاب وما قصر وتقدم وما تأخر ودفعت إليه عدة رقاع فيها فجمعها جملة في يده وجعل يجاوب على كل واحدة منها وبنيذ بها إلى أن فرغ منها. وحان المساء فنزل وافترق الجمع فكان مجلسه مجلس علم ووعظ وقورا هينا لينا ظهرت فيه البركة والسكينة ولم تقصر عن إرسال عبرتها فيه النفس المستكينة ولا سيما أخر مجلسه فإنه سرت حميا وعظه إلى النفوس حتى اطارتها خشوعا وفجرتها دموعا وبادر التائبون إليه سقوطا على يده

_ 2 المحرجة: أراد بها المشجية.

ووقوعا فكم ناصية جز وكم مفصل من مفاصل التئابين طبق بالموعظة وحز فبمثل مقام هذا الشيخ المبارك ترحم العصاة وتتغمد الجناة وتستدام العصمة والنجاة والله تعالى يجازى كل ذي مقام عن مقامه ويتغمد ببركة العلماء الأولياء عباده العاصين من سخطه وانتقامه برحمته وكرمه إنه المنعم الكريم لا رب سواه ولا معبود إلا إياه. وشهدنا له مجلسا ثانيا إثر صلاة العصر من يوم الجمعة الثاني عشر من الشهر المذكور حضر ذلك اليوم مجلسه سيدالعلماء الخراسانية ورئيس الأئمة الشافعي وردخل المدرسة النظامية بهز عظيم وتطريف آماق1 تشوقت له النفوس فأخذ الإمام المتقدم الذكر في وعظه مسرورا بحضوره ومتجملا به فأتى بافانين من العلوم على حسب مجلسه المتقدم الذكر ورئيس العلماء المذكور هو صدر الدين الخجندي المتقدم الذكر في هذا التقييد المشتهر المآثر والمكارم المقدم بين الأكابر والأعاظم. ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه الإمام الاوحد جمال الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي بازاء داره على الشط بالجانب الشرقي وفي آخره على اتصال من قصور الخليفة وبمقربة من باب البصلية آخر أبواب الجانب الشرقي وهو يجلس به كل يوم سبت فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد وفي جوف الفرا كل الصيد2 آية الزمان وقرة عين الإيمان رئيس الحنبلية والمخصوص في العلوم بالرتب العلية إمام الجماعة وفارس حلبة هذه الصناعة والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة مالك ازمة الكلام في النظم والنثر والغائص في بحر فكره على نفائس

_ 1 الهز: النشاط والسرعة. تطريف الآماق: إصابتها بشيء فدمعت. لعله يشير إلى أن موكبه كان شديد الحركة وأن الآماق طرفت به إعجابا. 2 مأخوذ من المثل القائل: كل الصيد في جوف الفرا، والفرا الحمار الوحشي، يريد أن الخطيب وحيد في علمه.

الدر فإما نظمه فرضى الطباع مهياري1 الانطباع وأما نثره فيصدع بسعر البيان ويعطل المثل بقس وسحبان. ومن أبهر آياته واكبر معجزاته إنه يصعد المنبر ويبثدئ القراء بالقراءة وعددهم نيف على العشرين قارئا فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية ن القرآن يتلونها على نسق يتطريب وتشويق فإاذ فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات إلى أن يتكاملوا قراءة وقد أتوا بآيات مشتبهات لا يكاد المتقد الخاطر يحصلها عدد أو يسميها نسقا. فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشان في إيراد خطبته عجلا مبتدرا وأفرغ في أصداف الأسماع من الفاظه دررا وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته فقرا وأتى بها على نسق القراءة لها لا مقدما ولا مؤخرا ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها فلو أن أبدع من في مجلسه تكلف تسمية ما قرا القراء به آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك فكيف بمن ينتظمها مرتجلا ويورد الخطبة الغراء بها عجلا! {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أنتم لا تُبْصِرُونَ2} ، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ3} فحدث ولا حرج عن البحر وهيهات ليس الخبر عنه كالخبر! ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ وآيات بينات من الذكر طارت لها القلوب اشتياقا وذابت بها الأنفس احتراقا إلى أن علا الضجيج وتردد بشهقاته النشيج وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح كل يلقى ناصيته بيده فيجزها ويمسح على رأسه داعيا له ومنهم من يغشى عليه فيرفع في الأذرع إليه فشاهدنا

_ 1 رضي الطباع: شبيه في طبعه بالشريف الرضي الشاعر المشهور. مهياري: شبيه بمهيار الديلمي الشاعر أيضا. 2 سورة الطور، الآية 15. 3 سورة النمل، الآية 16.

هولا يملأ الفنوس إنابة وندامة ويذكرها هول يوم القيامة فلو لم نركب ثبج البحر ونعتسف مفازات القفز إلا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل لكانت الصفقة الرابحة والوجهة المفلحة الناجحة والحمد لله على أن من بلقاء من يشهد الجمادات بفضله ويضيق الوجود عن مثله. وفي أثناء مجلسه ذلك يبتدرون المسائل وتطير إليه الرقاع فيجاوب أسرع من طرفة عين روبما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل والفضل بيدالله يؤتيه من يشاء لا إله سواه. ثم شاهدنا مجلسا ثانيا له بكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر بباب بدر في ساحة قصور الخليفة ومناظره مشرفة عليه وهذا الموضع المذكور هو من حرم الخليفة خص بالوصول إليه والتكلم فيه ليسمعه من تلك المناظر الخليفة ووالدته ومن حضر من الحرم ويفتح الباب للعامة فيدخلون إلى ذلك الموضع وقد بسط بالحصر وجلوسه بهذا الموضع كل يوم خميس. فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس المذكور وقعدنا إلى أن وصل هذا الحبر المتكلم فصعد المنبر وأرخى طيلسإنه عن رأسه تواضعا لحرمة المكان قود تسطر القراء امامه على كراسي موضوعة فابتدروا القراة على الترتيب وشوقوا ما شاءوا واطربوا ما أرادوا وبادرت العيون بارسال الدموع. فلما فرغوا من لاقراءة وقد احصينا لهم تسع آيات من سور مختلفات صدع بخطبته الزهراء الغراء وأتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات ومشى الخطبة على فقرة آخر آية منها في الترتيب إلى أن أكلمها وكانت الآية {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ1} فتمادى على هذا السين2 وحسن أي تحسين كفان يومه في ذلك أعجب من أمسه ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له ولوالدته وكنى عنها بالستر

_ 1 سورة غافر، الآية 61. 2 أي في الكلام المسجوع بحرف السين.

الأشرف والجناب الأرأف ثم سلك سبيله في الوعظ كل ذلك بديهة لا روية ويصل كلامه في ذلك بالآيات المقروءات على النسق مرة أخرى فأرسلت وابلها العيون وابدت النفوس سر شقها المكنون وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين وبالتوبة معلنين وطاشت الألباب والعقول وكثر الوله والذهول وصارت النفوس لا تملك تحصيلا ولا تميز معقولا ولا تجد للصبر سبيلا. ثم في أثناء مجلسه ينشد بأشعار من النسيب مبرحة التشويق بديعة الترقيق تشعل القلوب وجدا ويعود موضعها النسيبي زهدا وكان آخر ما انشده من ذلك وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام وأصابت المقاتل سهام ذلك الكلام: أين فؤادي أذابه الوجد ... وأين قلبي فما صحا بعد يا سعد زدني جوى بذكرهم ... بالله قل لي فديت يا سعد ولم يزل يرددها والانفعال قد اثر فيه والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من فيه إلى أن خاف الافحام فابتدر القيام ونزل عن المنبر دهشا عجلا وقد أطار القلوب وجلا وترك الناس على احر من الجمر يشيعونه بالمدامع الحمر فمن معلن بالانتحاب ومن متعفر في التراب فياله من مشهد ما أهول مرآه وما أسعد من رآه نعفنا الله ببركته وجعلنا ممن فاز به بنصيب من رحمته بمنه وفضله. وفي أول مجلسه انشد قصيدا نير القبس عراقي النفس في الخليفة أوله: في شغل من الغرام شاغل ... من هاجه البرق بسفح عاقل يقول فيه عند ذكر الخليفة: يا كلمات الله كوني عوذة ... من العيون للإمام الكامل

ففرغ من انشاده وقد هز المجلس طربا ثم أخذ في شأنه وتمادى في إيراد سحر بيإنه وما كنا نحسب أن متكلما في الدنيا يعطى من ملكة النفوس والتلاعب بها ما اعطى هذا الرجل فسبحان من يخص بالكمال من يشاء من عباده لا إله غيره. وشاهدنا بعد ذلك مجالس لسواه من وعاظ بغداد ممن نستغرب شأنه بالإضافة لما عهدناه من متكلمي الغرب وكنا قد شاهدنا بمكة والمدينة شرفهما الله مجالس من قد كرناه في هذا التقييد فصغرت بالإضافة لمجلس هذا الرجل الفذ في نفوسنا قدرا ولم نستطب لها ذكرا وأين تقعان مما أريد وشتان بين اليزيدن1 وهيهات الفتيان كثير والمثل بمالك يسير2ونزلنا بعده بمجلس يطيب سماعه ويورق استطلاعه. وحضرنا له مجلسا ثالثا يوم السبت الثالث عشر لصفر بالوضع المذكور بإزاء داره على الشط الشرقي فأخذت معجزاته البيانية مأخذها فشاهدنا من أمره عجبا صعد بوعظه انفاس الحاضرين سحبا وأسال من أدمعهم وابلا سكبا ثم جعل يردد في آخر مجلسه أبياتا من النسيب شوقا زهديا وطربا إلى أن غلبته الرقة فوثب من أعلى منبره والها مكتبئبا وغادر الكل متندما على نفسه منتحبا لهفان ينادي يا حسرتا واحربا والنادبون يدورون بنحيبهم دور الرحا وكل منهم بعد من سكرته ما صحا فسبحان من خلقه عبرة لأولى الألباب وجعله لتوبة عباده أقوى الأسباب لا إله سواه. ثم نرجع إلى ذكر بغداد: هي كما ذكرناه جانبان: شرقي وغربي ودجلة بينهما فأما الجانب الغربي فقد عمه الخراب واستولى عليه وكان المعمور أولا وعمارة الجانب

_ 1 مثل منتزع من البيت المشهور لربيعة الرقي: لشتان ما بين اليزيدين في الندى: يزيد سليم والأغر ابن حاتم 2 لعله يشير إلى أنس بن مالك مفتي المدينة وصاحب المذهب المالكي.

الشرقي محدثة لكنه مع استيلاء الخراب عليه يحتوي على سبع عشرة محلة كل محلة منها مدينة مستقلة وفي كل واحدة منها الحمامان والثلاثة والثماني منها بجوامع يصلى فيها الجمعة فأكبرها القرية وهي التي نزلنا فيها بربض منها يعرف بالمربعة على شط دجلة بمقربة من الجسر فحملته دجلة بمدها السيلي فعاد الناس يعبرون بالزوراق والزوارق فيها لا تحصى كثرة فالناس ليلا ونهارا من تمادى العبور فيها في نزهه متصلة رجالا ونساء والعادة أن يكون لها جسران أحدهما مما يقرب من دور الخليفة والآخر فوقه لكثرة الناس والعبور في الزوارق لا ينقطع منها. ثم الكرخ وهي مدينة مسورة. ثم محلة باب البصرة وهي أيضا مدينة وبها جامع المنصور رحمه الله وهو جامع كبير عتيق النبيان حفيله ثم الشارع وهي أيضا مدينة فهذه الأربع أكبر المحلات. وبين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان وهي مدينة صغيرة فيها المارستان الشهير ببغداد وهو على دجلة وتنفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس ويطالعون أحوال المرضى به ويتربون لهم أخذ ما يحتاجون إليه وبين أيديهم قومه يتناولن طبخ الأدوية والأغذية وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية والماء يدخل إليه من دجلة. وأسماء سائر المحلات يطول ذكرها كالوسيطة وهي بين دجلة ونهر يتفرع من الفرات وينصب في دجلة يجيء فيه جميع المرافق التي في الجهات التي يسقيها الفرات ويشق على باب البصرة الذي ذكرنا محلته نهر آخر منه وينصب أيضا في دجلة. ومن أسماء المحلات العتابية وبها تصنع الثياب العتباية وهي حرير وقطن مختلفات الألوان. ومنها الحربية وهي أعلاها وليس وراءها إلا القرى الخارجة عن بغداد

إلى أسماء يطول ذكرها وبإحدى هذه المحلات قبر معروف الكوفي وهو رجل من الصالحين مشهور الذكر في الأولياء وفي الطريق إلى باب البصرة مشهد حفيل البنيان داخله قبر متسع السنام عليه مكتوب هذا قبر عون ومعين من أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه وفي الجانب الغربي أيضا قبر موسى بن جعفر ضى الله عنهما إلى مشاهد كثيرة ممن لم تحضرنا تسميته من الأولياء والصالحين والسلف الكريم رضى الله عن جميعهم. وبأعلى الشرقية خارج البلد محلة كبيرة بإزاء محلة الرصافة وبالرصافة كان باب الطاق المشهو رعلى الشط وفي تلك المحلة مشهد حفيل البنيان له قبة بيضاء سامية في الهواء فيه قبر الإمام أبي حنيفة رضى الله عنه وبه تعرف المحلة وبالقرب من تلك المحلة قبر الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه وفي تلك الجهة أيضا قبر أبي بكر الشبلي رحمه الله وقبر الحسين بن منصور الحلاج وببغداد من قبور الصالحين كثير رضى الله عنهم. وبالغربية هي البساتين والحدائق ومنها تجلب الفواكه إلى الشرقية.

دار الخلافة

دار الخلافة وأما الشرقية فهي اليوم دار الخلافة وكفاها بذلك شرفا واحتفالا ودور الخليفة مع آخرها وهي تقع منها في نحو الربع أو أزيد لأن جميع العباسيين في تلك الديار معتقلين اعتقالا جميلا لا يخرجون ولا يظهرون ولهم المرتبات القائمة بهم. وللخليفة من تلك الديار جزء كبير قد اتخذ فيها المناظر المشرفة والقصور الرائقة والبساتين الأنيقة وليس له اليوم وزير إنما له خديم يعرف بنائب الوزارة يحضر الديوان المحتوى على أموال الخلافة وبين يديه الكتب فبنفذ الأمور وله قيم على جميع الديار العباسية وأمين على

سائر الحرم الباقيات من عهد جده وابيه وعلى جميع من تضمه الحرمة الخلافية يعرف بالصاحب مجد الدين استذا الدار هذا لقبه ويدعى له اثر الدعاء للخليفة وهو قل ما يظهر للعامة اشتغالا بما هو بسبيله من أمور تلك الديار وحراستها والتكفل بمغالقها وتفقدها ليلا ونهارا. ورونق هذا الملك إنما هو على التفيان والأحابش المجابيب1 منهم فتى اسمه خالص وهو قائد العسكرية كلها ابصرناه خارجا أحد الأيام وبين يديه وخلفه أمراء الأجناد من الأتراك والديلم وسواهم وحوله نحو خمسين سيفا مسلولة في أيدي رجال قد احتفوا به فشاهدنا من أمره عجبا في الدهر وله القصور والمناظر على دجلة. وقد يظهر الخليفة في بعض الأحيان بدجلة راكبا في زورق وقد يصيد في بعض الأوقات في البرية وظهوره على حالة اختصار تعمية لأمره على العامة فلا يزداد أمره مع تلك التعمية إلا اشتهارا وهو مع ذلك يحب الظهور للعامة ويؤثر التحبب لهم وهو ميمون النقيبة عندهم وقد استسعدوا بأيامه رخاء وعدلا وطيب عيش فالكبير والصغير منهم داع له. أبصرنا هذا الخليفة المذكور وهو أبو العباس أحمد الناصر لدين الله بن المستضيء بنور الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف ويتصل نسبه إلى أبي الفضل جعفر المقتدر بالله إلى السلف فوقه من أجداده الخلفاء رضوان الله عليهم بالجانب الغربي أمام منظرته به وقد انحدر عها صاعدا في الزورق إلى قصره بأعلى الجانب الشرقي على الشط وهو في فتاء من سنه أشقر اللحية صغيرها كما اجتمع بها وجهه2 حسن الشكل جميل المنظر أبيض اللون معتدل القامة رائق الرواء سنه نحو الخمس وعشرين سنة،

_ 1 أراد بالمجابيب الخصيان. 2 أراد باجتمع بها وجهه: ملأت لحيته وجهه.

لابسا ثوبا أبيض شبه القباء برسوم ذهب فيه وعلى رأسه قلنسوة مذهبة مطوقة بوبر أسود من الأوبار الغالية القيمة المتخذة للباس الملوك مما هو كالفنك1 وأشرف متعمدا بذلك زي الأتراك تعميه لشإنه لكن الشمس لا تخفى وإن سترت وذلك عشية يوم السبت السادس لصفر سنة ثمانين وأبصرناه أيضا عشي يوم الأحد بعده متطلعا من منظرته المذكورة بالشط الغربي وكنا نسكن بمقربة منها. والشرقية حفيلة الأسواق عظيمة الترتيب تشتمل من الخلق على بشر لا يحصيهم إلا الله تعالى الذي أحصى كل شيء عددا وبها من الجوامع ثلاثة كل يجمع فيها: جامع الخليفة متصل بداره وهو جامع كبير وفيه سقايات عظيمة ومرافق كثيرة كاملة مرافق الوضوء والطهور وجامع السلطان وهو خارج البلد ويتصل به قصور تنسب للسلطان أيضا المعروف بشاه شاه وكان مدبر أمر أجداد هذا الخليفة وكان يسكن هنالك فابتنى الجامع أمام مسكنه وجامع الرصافة وهو على الجانب الشرقي المذكور وبينه وبين جامع هذا السلطان المذكور مسافة نحو الميل وبالرصافة تربة الخلفاء العباسيين رحمهم الله. فجميع جوامع البلد ببغداد المجمع فيها أحد عشر.

_ 1 الفنك: حيوان فروته أفضل أنواع الفراء.

الحمامات والمساجد والمدارس

الحمامات والمساجد والمدارس وأما حماماتها فلا تحصى عدة ذكر لنا أحد أشياخ البلد أنها بين الشرقية والغربية نحو الألفي حمام وأكثرها مطلبة بالقار مسطحة به فيخيل للناظر إنه رخام أسود صقيل وحمامات هذه الجهات أكثرها على هذه الصفة لكثرة القار عندهم لأن شأنه عجيب يجلب من عين بين البصرة والكوفة وقد أنبط الله ماء هذه العين ليتولد منه القار فهو يصر في جوانبها كالصلصال،

فيجرف ويجلب وقد انعقد فسبحان خالق ما يشاء لا إله سواه. وأما المساجد بالشرقية والغربية فلا يأخذها التقدير فضلا عن الإحصاء والمدارس بها نحو الثلاثين وهي كلها بالشرقية وما منها مدرسة إلا وهي يقصر القصر البديع عنها وأعظمها وأشهرها النظامية وهي التي ابتناها نظام الملك وجددت سنة أربع وخمسمائة1 ولهذه المدارس أوقاف عظيمة وعقارات محبسة تتصير إلى الفقهاء المدرسين بها ويجرون بها على الطلبة ما يقوم بهم ولهذه البلاد في أمر هذه المدارس والمارستانات شرف عظيم وفخر مخلد فرحم الله واضعها الأول ورحم من تبع ذلك السنن الصالح.

_ 1 1110م.

أبواب الشرقية

أبواب الشرقية وللشرقية أربعة أبواب فأولها وهو في أعلى الشط باب السلطان ثم باب الظفرية ثم يليه باب الحلبة ثم باب البصلية هذه الأبواب التي هي في السور المحيط بها من أعلى الشط إلى أسفله هو ينعطف عليها كنصف دائرة مستطيلة وداخلها في الأسواق أبواب كثيرة وبالجملة فشأن هذه البلدة أعظم من أن يوصف وأين هي مما كانت عليه هي اليوم داخلة تحت قول حبيب2: لا أنت ولا الديار ديار

_ 2 يعني أبا تمام.

من بغداد إلى الموصل

من بغداد إلى الموصل واتفق رحيلنا من بغداد إلى الموصل إثر صلاة العصر من يوم الإثنين الخامس عشر لصفر وهو الثامن والعشرون لمايه فكان مقامنا بها ثلاثة عشر يوما ونحن في صحبة الخاتونين خاتون بنت مسعود المتقدمة الذكر في هذا التقييد وخاتون أم معز الدين صاحب الموصل وصحبتهما حاج الشام والموصل وأرض الأعاجم المتصلة بالدروب التي إلى طاعة الأمير مسعود والد إحدى الخاتونين المذكورتين وتوجه حاج خراسان وما يليها صحبة الخاتون الثالثة ابنة الملك الدقوس وطريقهم على الجانب الشرقي من بغداد وطريقنا نحن إلى الموصل على الجانب الغربي منها. وهاتان الخاتونان هما اميرتا هذا العسكر الذي توجهنا فيه وقائدتاه والله لا يجعلنا تحت قول القائل: ضاع الرعيل ومن يقوده ولهما أجناد برسمهما وزادهما الخليفة جندا يشيعونهما مخافة العرب الخفاجين المضرين بمدينة بغداد وفي تلك العشية التي رحلنا فيها فجئنا خاتون المسعودية المترفة شبابا وملكا وهي قد استقلت في هودج موضوع على خشبتين معترضتين بين مطيتين الواحدة إمام الأخرى وعليهما الجلال المذهبة وهما تسيران بها سير النسيم سرعة ولينا وقد فتح لها إمام الهودج وخلفه بابان وهي ظاهرة في وسطه متنقبة وعصابة ذهب على رأسها وأمامها رعيل من فتيانه اوجندها وعن يمينها جنائب المطايا والهماليج العتاق1، ووراءها ركب من جواريها قد ركبن المطايا والهماليج على السروج المذهبة وعصن رؤوسهن بالعصائب الذهبيات والنسيم يتلاعب بعذباتهمن وهن يسرن خلف سديتهن سير السحاب ولها الرايات والطبول والبوقات تضرب عند ركوبها

_ 1 الجنائب، الواحدة جنيبة: ما سار إلى جانبهم من مطايا. الهماليج، الواحد هملاج: البرذون.

وعند نزولها. وأبصرنا من نخوة الملك النسائي واحتفاله رتبة تهز الأرض هزا وتسحب أذيال الدنيا عزا. ويحف أن يخدمها العز ويكون لهاذ هذا الهز فإن مسفاة مملكة أبيها نحو الأربعة أشهر وصاحب القسطنطينية يؤدى إليه الجزية وهو من العدل في رعيته على سيرة عيجيبة ومن موالاة الجهاد على سنة مرضية. وأعلمنا أحد الحجاج من أهل بلدنا أن في هذا العام الذي هو عام تسعة وسبيعن الخالي عنا استفتح من بلاد الروم نحو الخمسة وشعرين بلدا ولقبه عز الدين واسم أبيه مسعود وهذا الاسم غلب عليه وهو عريق في المملكة عن جد فجد. ومن شرف خاتون هذه واسمها سلجوقة أن صلاح الدين استفتح آمد بلد زوجها نور الدين وهي من أعظم بلادالدنيا فترك البلد لها كرامة لابيها وأعطاها المفاتيح فبقى ملك زوجها بسببها وناهيك من هذا الشأن والملك ملك الحي القيوم يؤتى الملك من يشاء لا إله سواه. فكان مبيتنا تلك الليلة بإحدى قرى بغداد نزلناها وقد مضى هذء من الليل وبمقربة منها دجيل وهو نهر يتفرع من دجلة يسقى تلك القرى كلها وغدونا من ذلك الموضع ضحى يوم الثلاثاء السادس عشر لصفر المذكور والقرى متصلة في طريقنا فاتصل سيرنا إلى إثر صلاة الظهر ونزولنا وأقمنا باقي يومنا ليلحقنا من تاخر من الحاج ومن تجار الشام والموصل. ثم رحلنا قبيل نصف الليل وتمادى سيرنا إلى أن ارتفع النهار فنلزنا قائلين ومريحين على دجيل وأسرينا الليل كله فنزلنا مع الصباح بمقربة من فرية تعرف بالحربة من اخصب القرى وافسحها ورحلنا من ذلك الموضع وأسرينا الليل كله ونزلنا مع الصباح من يوم الخميس الثامن عشر الصفر على شط دجلة بمقربة من حصن يعرف بالمعشوق ويقال: إنه كان متفرجا لزبيدة ابنة عم الرشيد وزوجه رحمه الله. وعلى قابلة هذا الموضع في الشط الشرقي مدينة سرمن رأى وهي اليوم عبرة من رأى أين معتصمها وواثقها،

ومتوكلها؟! مدينة كبيرة قداتسولى الخراب عليها إلا بعض جهات منها هي اليوم معمورة وقد أطنب المسعودي رحمه الله في وصفها ووصف طيب هوائها ورائق حسنها وهي كما وصف وإن لم يبق إلا الأثر من محاسنها والله وارث الأرض ومن عليها لا إله غيره. فأقمنا بهذا الموضع طول يومنا مستريحين وبيننا وبين مدينة تكريت مرحلة ثم رحلنا منه وأسرينا الليل كله فصبحنا تكريت مع الفجر من يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر وهو أول يوم من يونيه1 فنزلنا ظاهرها مستريحين ذلك اليوم.

_ 1 يونيه: حزيران.

ذكر مدينة تكريت حرسها الله تعالى

ذكر مدينة تكريت حرسها الله تعالى هي مدينة كبيرة واسعة الإرجاء فسيحة الساحة حفيلة الأسواق كثيرة المساجدغاصة بالخلق أهلها أحسن اخلاقا وقسطا في الموازين من أهل بغداد ودجلة منها في جوفيها ولها قلعة حصينة على الشط هي قصبتها المنيعة ويطيف بالبلد سور قد أثر الوهن فيه وهي من المدن العتيقة المذكورة. ورحلنا مع عشي اليوم المذكور وأسرينا طول الليل وأصبحنا يوم السبت الموفى عشرين منه بشط دجلة فنزلنا مريحين ومن ذلك الموضع يستصحب الماء ليوم وليلة فاستصحبنا ورحلنا ذلك اليوم ضحوة فأسرينا إلى الليل ونزلنا لأخذ نفس راحة واختلاس سنة نوم فهومنا2 هنيهة ورحلنا وأسأدنا3 إلى الصباح. وتمادى سيرنا إلى أن رافتع النهار من يوم الأحد بعده فنلزنا قائلين بقربة على شط دجلة تعرف بالجديدة وبمقربة منها قرية كبيرة

_ 2 هومنا: نمنا قليلا. 3 أسأدنا: أسرعنا السير، أو سرنا الليل دون توقف.

اجتزنا عليها تعرف بالعقر وعلى رأسها ربوة مرتفعة كانت حصنا لها وأسفلها خان جديد بأبراج وشرف حفيل البنيان وثقه والقرى والعمائر من هذا الموضع إلى الموصل متصلة ومن هنا ينتثر انتظام الحاج في المشى فينبسط كل في طريقه متقدما ومتأخرا وبطيئا ومستعجلا آمنا مطمئنا. فرحلنا منها قريب العصر وتمادى سيرنا إلى المغرب ونزلنا آخذين غفوة سنة خلال ما تتعشى الإبل ورحلنا قبل نصف الليل وأدلجنا إلى الصباح. وفي ضحة هذا اليوم وهو يوم الإثنين الثاني والشعرين لصفر والرابع ليونيه مررنا بموضع يعرف بالقيارة بمقربة من دجلة وبالجانب الشرقي منها وعن يمين الطريق إلى الموصل فيه وهدة من الأرض سوداء كأنها سحابة قد انبط الله فيها عيونا كبارا وصغارا تنبع بالقار وربما يقذف بعضها بحباب منه كأنها الغليان ويصنع له احواض يجتمع فيها فتراه شبه الصلصال منبسطا على الأرض أسود أملس صقيلا رطبا عطر الرائحة شديد التعلك فيلصق بالاصابع لأول مباشرة من اللمس وحول تلك العيون بركة كبيرة سوداء يعولها شبه الطحلب الرقيق أسود نقذفه إلى جوانبها فيرسب قارا فشاهدنا عجبا كنا نسمع به فنستغرب سماعه. وبمقربة ن هذه العيون على شط دجلة عين أخرى منه كبيرة أبصرنا على البعد منها دخانا فقيل لنا: إن النار تشعل فيه إذا ارادوا نقله فتنشف النار رطوبته المائية وتعقده فيقطعونه قطرات ويحملونه وهو يعم جميع البلاد إلى الشام إلى عكه إلى جميع البلاد البحرية والله يخلق ما يشاء سبحانه تعالى جده وجلت قدرته لا رب غيره. ولا شك أن على هذه الصفة هي العين التي ذكر لنا أنها بين الكوفة والبصرة وقد ذكرنا أمرها في هذا التقييد ومن هذا الموضع إلى الموصل مرحلتان. وأجزنا تلك العيون القارية ونزلنا قائلين ثم رحنا وسرنا إلى العشى ونزلنا بقرية تعرف بالعقيبة ومنها تصبح الموصل إن شاء الله فأسرينا منها

بعد نصف الليل ووصلنا الموصل عند ارتفاع النهار يوم الثلاثاء الثالث والعشرين لصفر والخامس من يونيه ونزلنا بربضها في أحد الخانات بمقربة من الشط.

ذكر مدينة الموصل حرسها الله تعالى

ذكر مدينة الموصل حرسها الله تعالى هذه المدينة عتيقة ضخمة حصينة فخمة قد طالت صحبتها للزمن فأخذت أهبة استعدادها لحوادث الفتن قد كادت أبراجها تلتقى انتظاما لقرب مسافة بعضها من بعض وباطن الداخل منها بيوت بعضها على بعض مستديرة بجداره المطيف بالبلد كله كان قد تمكن فتحها فيه لغلظ بنيته وسعة وضعه وللمقاتلة في هذه البيوت حرز وقاية وهي من المرافق الحربية. وفي أعلى البلد قلعة عظيمة قد رص بناؤها رصا ينتظمها سور عتيق البنية مشيد البروج وتتصل بها دور السلطان وقد فصل بينهما وبين البلد شارع متسع يمتد من أعلى البلد إلى أسفله ودجلة شرقي البلد وهي متصلة بالسور وأبراجه في مائها. وللبلدة ربض كبير فيه المساجد والحمامات والخانات والأسواق واحدث فيه بعض أمراء البلدة وكان يعرف بمجاهد الدين جامعا على شط دجلة ما أرى وضع جامع أحفل منه بناء يقصر الوصف عنه وعن تزيينه وترتيبه وكل ذلك نقش في الاجر وأما مقصورته فتذكر بمقاصير الجنة ويطيف به شبابيك حديد تتصل بها مصاطب تشرف على دجلة لا مقعد أشرف منها ولا أحسن ووصفه يطول وإنما وقع الالماع بالبعض جريا إلى الاختصار وأمامه مارستان حفيف من بناء مجاهد الدين المذكور. وبنى أيضا داخل البلد وفي سوقه قيسارية للتجار كأنها الخان العظيم تنغلق عليها أبواب حديد وتطيف بها دكاكين وبيوت بعضها على بعض قد جلى ذلك كله في أعظم صورة من البناء المزخرف الذي لا مثيل له فما

أرى في البلاد قيسارية تعدلها. وللمدينة جامعان أحدهما جديد والآخر من عهد بني أمية وفي صحن هذا الجامع قبة داخلها سارية رخام قائمة قد خلخل جيدها بخمسة خلاخل مفتولة فتل السوار من جرم رخامها وفي أعلاها خصة1 رخام مثمنة يخرج عليها أنبوب من الماء خروج انزعاج وشدة فيترفع في الهواء أزيد من القامة كأنه قضيب من البلور معتدل ثم ينعكس إلى أسفل القبة ويجمع في هذين الجامعين القديم والحديث ويجمع أيضا في جامع الربض. وفي المدينة مدارس للعلم نحو الست أو أزيد على دجلة فتلوح كأنها القصرو المشرفة ولها مارستانات حاشى الذي ذكرنا في الربض وخص الله ذه البلدة بتربة مقدسة فيها مشهد جرجيس صلى الله عليه وسلم وقد بنى فيها مسجد وقبره في زاوية من أحد بيوت المسجد عن يمين الداخل إليه وهذا المسجد هو بين الجامع الجديد وباب الجسر يجده المار إلى الجامع من باب الجسر عن يساره فتبركنا بزيارة هذا القبر المقدس والوقوف عنده نفعنا الله بذلك. ومما خص إله به هذه البلدة أن في الشرق منها إذا عبرت دجلة على نحو الميل تل التوبة وهو التل الذي وقف به يونس عليه السلام بقومه ودعا ودعوا حتى كشف الله عنهم العذاب وبمقربة منه على قدر الميل أيضا العين المباركة المنسوبة إليه ويقال إنه أمر قومه بالتطهر فيها واضمار التوبة ثم صعدوا على التل داعين. وفي هذا التل بناء عظيم هو رباط يشتمل على بيوت كثيرة ومقاصر ومطاهر وسقايات يضم الجميع باب واحد وفي وسط ذلك البناء بيت ينسدل عليه ستر وينغلق دونه باب كريم مرصع كله يقال إنه كان الموضع الذي وقف

_ 1 خصة: حوض.

فيه يونس صلى الله عليه وسلم ومحراب هذا البيت يقال إنه كان بيته الذي كان يتعبد فيه ويطيف بهذا البيت شمع كأنه جذوع النخل عظما فيخرج الناس إلى هذا الرباط كل ليلة جمعة ويتعبدون فيه وحول هذا الرباط قرى كثيرة ويتصل بها خراب عظيم يقال إنه كان مدينة نيوى وهي مدينة يونس عليه السلام وأثر السور المحيط بهذه المدينة ظاهر وفرج الأبواب فيه بينة وأكوام أبراجه مشرفة بتنا بهذا الرباط المبارك ليلة الجمعة السادس والعشرين لصفر ثم صبحنا العين المباركة وشربنا من مائها وتطهرنا فيها وصلينا في المسجد المتصل بها والله ينفع بالنية في ذلك بمنه وكرمه. وأهل هذه البلدة على طريقة حسنة يستعملون أعمال البر فلا تلقى منهم إلا ذا وجه طلق وكلمة لينة ولهم كرامة للغرباء واقبال عليهم وعندهم اعتدال في جميع معاملاتهم فكان مقامنا في هذه البلدة أربعة أيام.

أحفل المشاهد

أحفل المشاهد الدنياوية ومن أحفل المشاهد الدنياوية المريبة بروز شاهدناه يوم الأربعاء ثاني يوم وصولنا الموصل للخاتونين أم معز الدين صاحب الموصل وبنت الأمير مسعود المتقدم ذكرها فخرج الناس عن بكرة أبيهم ركبانا ومشاة وخرج النساء كذلك وأكثرهن راكبات قداجتمع منهن عسكر جرار وخرج أمير البلد للقاء والدته مع زعماء دولته فدخل الحاج المواصلة صحبة خاتونهم على احتفال وأبهة قد جللوا اعناق ابلهم بالحرير الملون وقلدوها القلائد المزوقة. ودخلت خاتون المسعودية تقود عسكر جورايها وأمامها عسكر رجالها يطوفون بها وقد جللت قبتها كلها سبائك ذهب مصوغة اهلة ودنانير سعة الاكف وسلاسل وتماثيل بديعة الصفات فلا تكاد تبين من القبة موضعا ومطيتاها تزحفان بها زحفا وصخب ذلك الحلى يسدالمسامع ومطاياها مجللة

الأعناق بالذهب ومراكب جواريها كذلك مجموع ذلك الذهب لا يحصى تقديره وكان مشهدا ابهت الأبصار وأحدث الاعتبار وكل ملك بفنى إلا ملك ألواح د القهار لا شريك له. وأخبرنا غير واحد من الثقات ممن يعرف حال خاتون هذه أنها موصوفة بالعبادة والخير مؤثرة لأفعال البر فمنها أنها انفقت في طريقها هذا إلى الحجاز في صدقات ونفقات في السبيل مالا عظيما وهي تحب الصالحين والصالحات وزورهم متنكرة رغبة في دعائهم وشأنها عجيب كله على شبابها وإنغماسها في نعيم الملك والله يهدي من يشاء من عباده. وفي عشي اليوم الرابع من المقام بهذه البلدة وهو يوم الجمعة السادس والشعرين لصفر المذكور رحلنا منها على دواب اشتريناها بالموصل تفاديا من معاملة الجمالين على أن القدر المحمود لم يسبب لنا إلا صحبة الأشبه1 منهم ومن شكرناه على طول الصحبة وتماديها من مكة شرفها الله إلى الموصل فأسرينا ليلة السبت إلى بعيد نصف الليل ثم نزلنا بقرية من قرى الموصل ورحلنا منها ضحوة يوم السبت المذكور وقلنا بقرية تعرف بعين الرصد وكان مقيلنا تحت جسر معقود على واد يتحدر فيه الماء وكان مقيلا مباركا وفي تلك القرية خان كبير جديد وفي محلات الطريق كلها خانات واتفق مبيتنا تلك الليلة بالقرية المذكورة وأسرينا منها واصبحنا يوم الأحد بقرية تعرف بالمويلحة وأسرينا منها وبتنا بقرية كبيرة تعرف بجدال لها حصن عتيق. وفي ويمنا هذا راينا عن يمين الطريق جبل الجودي المذكور في كتاب الله2 تعالى الذي استوت عليه سفينة نوح عليه السلام وهو جبل عال مستطيل ثم رحلنا في السحر الأعلى من يوم الإثنين التاسع والعشرين لصفر فكان مبيتنا بقرية من قرى نصيبين ومنها إليها مرحلة ويعرف الموضع المذكور بالكلاي.

_ 1 الأشبه: الأحسن. 2 سورة هود، الآية 44.

شهر ربيع الأول من سنة ثمانين عرفنا الله بكرته

شهر ربيع الأول من سنة ثمانين عرفنا الله بكرته استهل هلاله ليلة الثلاثاء بموافقة الثاني عشر من يونيو ونحن بالقرية المذكورة فرحلنا منها سحر يوم الثلاثاء المذكور ووصلنا نصيبين قبل الظهر من اليوم المذكور.

ذكر مدينة نصيبين حرسها الله

ذكر مدينة نصيبين حرسها الله شهيرة العتاقة والقدم ظاهرها شباب وباطنها هرم جميلة المنظر متوسطة بين الكبر والصغر يمتد إمامها وخلفها بسيط أخضر مد البصر قد أجرى الله فيه مذانب من الماء تسقيه وتطرد في نواحيه وتحف بها عن يمين وشمال بساتين ملتفة الأشجار يانعة الثمار بنساب بين يديها نهر قد انعطف عليها انعطاف السوار والحدائق تنتظم بحافتيه وتفيء ظلالها الوارفة عليه فرحم الله أبا نواس الحسن بن هانىء حيث يقول: طابت نصيبين لي يوما فطبت لها ... يا ليت حظى من الدنيا نصيبين فخارجها رياضي الشمائل أندلسي الخمائل يرف غضارة ونضارة ويتالف عليه رونق الحضارة وداخلها شعث البادية باد عليه فلا مطمح للبصر إليه لا تجدالعين فيه فسحة مجال ولا مسحة جمال. وهذا النهر يتسرب إليها من عين معينة منبعها بجبل قريب منها تنقسم منها مذانب تخترق بسائطها وعمائرها ويتخلل البلد منها جزء فيتفرق على شوارعها ويلح في بعض ديارها ويصل إلى جامعها المكرم منه سرب يخترق صحنه وينصب في صهريجين أحدهما وسط الصحن والآخر عند الباب الشرقي منه ويفضى إلى سقايتين حول الجامع.

وعلى النهر المذكور جسر معقود من صم الحجارة يتصل بباب المدينة القبلي. وفيها مدرستان ومارستان واحد وصاحبها معين الدين أخو معز الدين صاحب الموصل ابنا أتابك. ولمعين الدين أيضا مدينة سنجار وهي عن يمين الطريق إلى الموصل. ويسكن في إحدى الزوايا الجوفية من جامعها المكرم الشيخ أبو اليقظان الأسود الجسد الأبيض الكبد أحد الأولياء الذين نور الله بصائرهم بالإيمان وجعلهم من الباقيات الصالحات في الزمان الشهير المقامات الموصوف بالكرامات نضو1 التبتل والزهادة ومن اخلقت جدته العبادة قد اكتفى بنسج يده ولا يدخر من قوت يومه لغده أسعدنا الله بلقائه وأصبحنا من بركة دعائه عشي يوم الثلاثاء مستهل ربيع الأول فحمدنا الله عز وجل على أن من علينا برؤيته وشرفنا بمصافحته والله ينفعنا بدعائه إنه سميع مجيب لا إله سواه. فكان نزولنا بها في خان خارجها وبتنا بها ليلة الأربعاء الثاني من ربيع الأول ورحلنا صبيحته في قافلة كبيرة من البغال والحمير حرانيين وحلبيين وسواهم من أهل البلاد بلاد بكر وما يليها وتركنا حاج هذه الجهات وراء ظهورنا على الجمال فتمادى سيرنا إلى أول الظهر ونحن على أهبة وحذر من أغارة الأكراد الذين هم آفة هذه الجهات من الموصل إلى نصبين إلى مدينة دنيصر يقطعون السبيل ويسعون فسادا في الأرض وسكناهم في جبال منيعة على قرب من هذه البلاد المذكورة ولم يعن الله سلاطينها على قمعهم وكف عاديتهم فهم ربما وصلوا في بعض الأحيان إلى باب نصيبين ولا دافع لهم ولا مانع إلا الله عز وجل. فقلنا يوم الأربعاء المذكور وراينا ذلك اليوم عن يمين طريقنا بقرب من صفح الجبل مدينة دارى العتيقة وهي بيضاء كبيرة لها قلعة مشرفة ويليها بمقدار نصف مرحلة مدينة ماردين وهي في صفح جبل في قنته قلعة لها كبيرة هي من قلاع الدنيا الشهيرة وكلتا المدينتين معمورة.

_ 1 نضو: هزيل ضامر.

ذكر مدينة دنيصر حرسها الله

ذكر مدينة دنيصر حرسها الله هي في بسيط من الأرض فسيح وحولها بساتين الرياحين والخضر تسقى بالسواقي وهي مائلة الطبع إلى البادية ولا سور لها وهي مشحونة بشرا ولها الأسواق الحفيلة والأرزاق الواسعة وهي مخطر1 لأهل بلادالشام وديار بكر وآمد وبلاد الروم التي تلي طاعة الأمير مسعود وما يليها ولها المحرث الواسع ولها مرافق كثيرة. فكان نزولنا مع القافلة ببراح ظاهرها وأصبحنا يوم الخميس الثالث لربيع الأول بها مريحين وخارجها مدرسة جديدة بقية البناء فيها ويتصل بها حمام والبساتين حولها فيه مدرسة ومانسة وصاحب هذه البلدة قطب الدين وهو أيضا صاحب مدينة داري ومدينة ماردين ورأس العين وهو قريب لابني أتابك. وهذه البلدة لسلاطين شتى كملوك طوائف الأندلس كلهم قدتحلى بحلية تنسب إلى الدين فلا تسمع إلا القابا هائلة وصفات لذي التحصيل غير طائلة قدتساوى فيها السوقة والملوك واشترك فيها الغني والصعلوك ليس فيهم من ارتسم بسمة به تليق أو اتصف بصفة هو بها خليق إلا صلاح الدين صاحب الشام وديار مصر والحجاز واليمن المشتهر الفضل والعدل فهذا اسم وافق مسماه ولفظ طابق معناه وما سوى ذلك في سواه فزعازع ريح وشهادات يردها التجريح ودعوى نسبة للدين برحت به أي تبريح! القاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحى انتفاخا صولة الأسد ونرجع إلى حديث المراحل قربها الله:

_ 1 أراد بالمخطر موضع الاجتماع ومركزا للبيع ةالشراء.

فكان مقامنا بدنيصر إلى أن صلينا الجمعة وهو اليوم الرابع لربيع "الأول" تلوم1 أهل القافلة بها لشهود سوقها لأن بها يوم الخيمس ويوم الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد بعدها سوق حفيلة يجتمع لها أهل هذه الجهات المجاورة لها والقرى المتصلة بها لأن الطريق كلها يمينا وشمالا قرى متصلة وخانات مشيدة ويسمون هذه السوق المجتمع إليها من الجهات البازار وأيام كل سوق معلومة. ورحلنا إثر صلاة الجمعة فاجتزنا على قرية كبيرة لها حصن تعرف بتل العقاب هي للنصارى المعاهدين الذميين ذكرتنا هذه القرية بقرى الأندلس حسنا ونضارة تحقها البساتين والكروم وأنواع الأشجار وينسرب بازائها نهر ترف الظلال عليه وخطها متسع والبساتين قد انتظمته وشاهدنا بها من الخنانيص امثال الغنم كثرة وانسا بأهلها. ثم وصلنا عشي النهار إلى قرية أخرى تعرف بالجسر هي الآن لناس من المعاهدين وهم فرقة من فرق الروم فكان مبيتنا بها ليلة السبت الخامس لربيع المذكور ثم اسحرنا منها لووصلنا مدينة راس العين قبيل الظهر من يوم السبت المذكور.

_ 1 تلوم: انتظر وتمهل.

ذكر مدينة رأس العين حرسها الله

ذكر مدينة رأس العين حرسها الله هذا الاسم لها من أصدق الصفات وموضعها به أشرف الموضوعات وذلك أن الله تعالى فجر أرضها عيونا وأجراها ماء معينا فتقسمت مذانب وانسابت جداول تنبسط في مروج خضر فكأنها سبائك اللجين ممدودة في بمناط الزبرجد تحف بها اشجار وبساتين قد انتظمت حافتيها إلى آخر انتهائها من عمارة بطحائها. وأعظم هذه العيون عينان إحد اهما فوق الأخرى فالعليا منهما نابعة فوق الأرض في صم الحجارة كأنها في جوف غار كبير

متسع يبسط الماء فيه حتى يصير كالصهريج العظيم ثم خرج ويسيل نهرا كبيرا كأكبر ما يكون من الأنهار وينتهي إلى العين الأخرى ويلتقى بمائها. وهذه العين الثانية عجب من عجائب مخلوقات الله عز وجل وذلك أنها نابعة تحت الأرض من الحجر الصلد بنحو أربع قامات أو أزيد وتيسع منعبها حتى يصير صهريجا في ذلك العمق وبعلو بقوة نبعه حتى يسيل على وجه الأرض فربما يروم السابح القوى السباحة الشديد الغوص في أعماق المياه أن يصل بغوصه إلى قعره فيمجه الماء بقوة انبعاثا من منعه فلا يتناهى في غوصه إلى مقدار نصف مسافة العمق أو أقل شيئا شاهدنا ذلك عيانا. وماؤها اصفى من الزلال وأعذب من السلسبيل يشف عما حواه فلو طرح الدينار فيه في الليلة الظلماء لما أخفاه وبصاد فيها سمك جليل من أطيب ما يكون من السمك. وينقسم ماء هذه العين نهرين: أحدهما أخذ يمينا والآخر يسارا فالأيمن يشق خانقة1 مبنية للصوفية والعرباء بازاء العين وهي تسمى الرباط أيضا والأيسر ينسرب على جانب الخانقة وتفضى منه جداول إلى مطاهرها ومرافقها المعدة للحاجة البشرية ثم يلتقيان أسفلها مع نهر العين الأخرى العليا وقد بنيت على شط نهرهما المجتمع بيوت أرحى تتصل على شط موضوع وسط النهر كأنه سد ومن مجتمع ماء هاتين العينين منشأ نهر الخابور. وبمقربة من هذه الخانقة بحيث تناظرها مدرسة بازائها حمام وكلاهما قد وهى واخلق وتعطل وما أرى كان في موضوعات الدنيا مثل موضوع هذه المدرسة لأنها في جزيرة خضراء والنهر يستدير بها من ثلاثة جوانب والمدخل إليها من جانب واحد وامامها ووراءها بستان وبإزائها دولا ب يلقى الماء إلى بساتين مرتفعة عن مصب النهر. وشأن هذا الموضع كله عجيب جدا فغاية حسن القرى بشرقي الأندلس أن يكون لها مثل هذا الموضع جمالا أو تتحلى بمثل هذه العيون ولله القدرة في جميع مخلوقاته.

_ 1 الخانقة: الزاوية، التكية.

وأما المدينة فللبداوة بها اعتناء وللحضارة عنها استغناء لا سور يحصنها ولا دور انيقة البناء تحسنها قد ضحيت1 في صحرائها كانها عوذة لبطحائها وهي مع ذلك كاملة مرافق المدن ولها جامعان حديث وقديم فالقديم بموضع هذه العيون وتتفجر امامه عين معينة هي بدون اللتين ذكرناهما وهو من بنيان عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه لكنه قد اثر القدم فيه حتى أذن بتداعيه والجامع الآخر داخل البلد وفيه يجمع أهله فكان مقامنا بها ذلك اليوم نزهة لم نختلس في سفرنا كله مثلها. فلما كان عند المغيب من يوم السبت الخامس لربيع المذكور وهو السادس عشر ليونيه رحلنا منها رغبة في الاساد وبرد الليل وتفاديا من حر هجيرة التأويب لأن منها إلى حران مسيرة يومين لا عمارة فيها فتمادى سيرنا إلى الصباح ثم نزلنا في الصحراء على ماء جب وأرحنا قليلا ثم رفعنا ضحوة النهار من يوم الأحد وسرنا ونزلنا قريب العصر على ماء بئر بموضع فيه برج مشيد وآثار قديمة يعرف ببرج حواء فبتنا به ثم رفعنا منه بعد تهويم ساعة وأسرينا إلى الصباح فوصلنا مدينة حران مع طلوع الشمس من يوم الإثنين السابع لربيع المذكور والثامن عشر ليونيه والحمد لله على تيسيره.

_ 1 ضحيت: برزت.

ذكر مدينة حران كلاها الله

ذكر مدينة حران كلاها الله بلد لا حسن لديه ولا ظل يتوسط برديه2 قد اشتق من اسمه هواؤه فلا يألف البرد ماؤه ولا تزال تتقد بلفح الهجير ساحاته وأرجاؤه لا تجد فيه مقيلا ولا تتنفس منه إلا نفسا ثقيلا قد نبذ بالعراء ووضع

_ 2 لعله أراد ببرديه: الصبح والعشي.

في وسط الصحراء فعدم رونق الحضارة وتعرت اعطافه من ملابس النضارة. أستغفر الله كفى بهذا البلد شرفا وفضلا أنها البلدة العتيقة المنسوبة لابينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم وله بقبليها نحو ثلاثة فراسخ مشهد مبارك فيه عين جارية كأن مأوى له ولسارة صلوات الله عليهما ومتبعدا لهما ببركة هذه النسبة قد جعل الله هذه البلدة مقرا للصالحين المتزهدين ومثابة للسائحين المتبتلين. لقينا من أفرادهم الشيخ أبا البركات حيان ابن عبد العزيز حذاء مسجده المنسوب إليه وهو يسكن منه في زاوية بناها في قبلته وتتصل بها في آخر الجانب زاوية لابنه عمر قد التزمها وأشبه طريقة أبيه فما ظلم وتعرفت منه شنشنة اعرفها من اخزم فوصلنا إلى الشيخ وهو قدن نيف على الثمانين فصافحنا ودعا لنا وأمرنا بلقاء ابنه عمر المذكور فملنا إليه ولقيناه ودعا لنا ثم ودعناهما وانصرفنا مسرورين بلقاء رجلين من رجال الآخرة. ولقينا أيضا بمسجد عتيق الشيخ الزاهد سلمة فلقينا رجلا من الزهاد الافراد فدعا لنا وسالنا وودعناه وانصرفنا وبالبلد سلمة آخر يعرف بالمكشوف الراس لا يغطى رأسه تواضعا لله عز وجل حتى عرف بذلك ووصلنا إلى منزله فأعلمنا إنه خرج للبرية سائحا. وبهذه البلدة كثيرمن أهل الخير وأهلها هينون معتدلون محبون للغرباء مؤثرون للفقراء. وأهل هذه البلاد من الموصل لديار بكر وديار ربيعة إلى الشام على هذه السبيل من حب الغرباء وإركام الفقراء وأهل قراها كذلك فما يحتاج الفقراء الصعاليك معهم زادا لهم في ذلك مقاصد في الكرم مأثورة وشان أهل هذه الجهات في هذا السبيل عجيب والله ينفعهم بما هم عليه وأما عبادهم وزهادهم والسائحون في الجبال منهم فأكثر من أن يقيدهم الإحصاء والله ينفع المسلمين ببركاتهم وصوالح دعواتهم بمنه وكرمه. ولهذه البلدة المذكورة أسواق حفيلة الانتظام عجيبة الترتيب مسقفة

كلها بالخشب فلا يزال أهلها في ظل ممدود فتخترقها كأنك تخترق دارا كبيرة الشوارع قد بنى عند كل ملتقى أربع سكك أسواق منها قبة عظيمة مرفوعة مصنوعة من الجص هي كالمفرق لتلك السكك. ويتصل بهذه الأسواق جامعا المكرم وهو عتيق مجدد قد جاء على غاية الحسن وله صحن كبير فيه ثلاث قباب مرتفعة على سواري رخام وتحت كل قبة بئر عذبة وفي الصحن أيضا قبة رابعة عظيمة قد قامت على عشر سوار من الرخام دور كل سارية تسعة أشبار وفي سوط القبة عمود من الرخام عظيم الجرم دوره خمسة عشر شبرا. وهذه القبة من بنيان الروم وأعلاها مجوف كأنه البرج المشيد يقال: إنه كان مخزنا لعدتهم الحربية والله أعلم. والجامع المكرم سقف بجوائز الخشب1 والحنايا وخشبه عظام طوال لسعة البلاط وسعته خمس عشرة خطوة وهو خمسة ابلطة وما رأينا جامعا اوسع حنايا منه وجداره المتصل بالصحن الذي عليه المدخل إليه مفتح كله أبوابا عددها سعة عشر بابا تسعة يمينا وتسعة شمالا والتاسع عشر منها باب عظيم وسط هذه الأبواب يمسك قوسه من أعلى الجدار إلى أسفله بهى المنظر جميل الوضع كأنه باب من أبواب المدن الكبار ولهذه الأبواب كلها أغلاق من الخشب البديع الصنعة والنقش تنطبق عليها على شبه أبواب مجلاس القصور فشاهدنا من حسن بناء هذا الجامع وحسن ترتيب اسواقه المتصلة به مرآى عجيبا قل ما يوجد في المدن مثل انتظامه. ولهذه البلدة مدرسة ومارستانا وهي بلدة كبيرة وسورها متين حصين مبنى بالحجارة النمحوتة المرصوص بعضها على بعض في نهاية من القوة وكذلك بنيان الجامع المكرم ولها قلعة حصينة مما يلي الجهة الشرقية منها منقطعة عنها بفضاء واسع بينهما ومنقطعة أيضا عن سورها بحفير عظيم يستدير بها

_ 1 جوائز الخشب: الأخشاب المعترضة بين حائطين.

قد شيدت حافاته بالحجارة المركومة فجاء في نهاي الوثاقة والقوة وسور القلعة وثيق الحصانة. ولهذه البلدة نهير مجراه بالجهة الشرقية أيضا منها بين سورها وجبانتها ومصبة من عين هي على بعد من البلد. والبلد كثير الخلق واسع الرزق ظاهر البركة كثير المساجد جم المرافق على أحفل ما يكون من المدن وصاحبه مظفر الدين بن زين الدين وطاعته إلى صلاح الدين. وهذه البلاد كلها من الموصل إلى نصيبين إلى الفرات المعروفة بديار ربيعة وحدها من نصيبين إلى الفرات مع ما يلي الجنوب من الطريق وديار بكر التي تليها في الجانب الجوفي كآمد وميافارقين ووغيرها مما يطول ذكره ليس في ملوكها من يناهض صلاح الدين فهم إلى طاعته وإن كانوا مستبدين وفضله يبقى عليهم ولو شاء نزع الملك منهم لفعله بمشيئة الله. فكان نزولنا ظاهر البلد بشرقية على نيهره المذكور واقمنا مريحين يوم الإثنين ويوم الثلاثاء بعده واثر الظهر منه كان اجتماعنا بسلمة المكشوف الرأس الذي فاتنا لقاؤه يوم الإثنين فلقيناه بسمجده فراينا رجلا عليه سيما الصالحين وسمت المحبين مع طلاقة وبشر وكرم لقاء وبر فآنسنا ودعا لنا وودعناه وانصرفنا حامدين لله عز وجل على ما من به علينا من لقاء اوليائه الصالحين وعباده المقربين. وفي ليلة الأربعاء التاسع لربيع المذكور كان رحيلنا بعدتهويم ساعة فأسرنا إلى الصباح ونزلنا مريحين بموضع يعرف بتل عبدة وهو موضع عمارة وهذا التل مشرف متسع كأنه المائدة المنصوبة وفيه اثر بناء قديم وبهذا الموضع ماء جار. وكان رحيلنا منه عند المغرب وأسرينا الليل كله واجتزنا على قرية تعرف بالبيضاء فيها خان كبير جديد وهو نصف الطريق من حران إلى الفرات ويقابلها على اليمين من الطريق في استقبالك الفرات إلى الشام مدينة سروج التي شهر ذكرها الحريري بنسبة أبي زيد1 إليها وفيها البساتين والمياه المطردة

_ 1 هو الرجل الخيالي الذي اتخذه الحريري بطلا لمقاماته.

حسبما وصفها به في مقاماته. فكان وصولنا إلى الفرات ضحوة النهار وعبرنا في الزواريق المقلة المعدة للعبور إلى قلعة جديدة على الشط تعرف بقلعة نجم وحولها ديار بادية وفيها سويقة يوجد فيها المهم من علف وخبز فأقمنا بها يوم الخميس العاشر لربيع الأول المذكور مريحين خلال ما تكمل القافلة بالعبور وإذا عبرت الفرات حصلت في حد الشام وسرت في طاعة صلاح الدين إلى دمشق. والفرات حد بين ديار الشام وديار ربيعة وبكر وعن يسار الطريق في استقابلك الفرات إلى الشام مدينة الرفة وهي على الفرات وتليها رحبة مالك بن طوق وتعرف برحبة الشام وهي من المدن الشهيرة ثم رحلنا منها عند مضي ثلث الليل الأول وأسرينا ووصلنا مدينة منبج مع الصباح من يوم الجمعة الحادي عشر لربيع المذكور والثاني والشعرين ليونيه.

ذكر مدينة منبج حرسها الله

ذكر مدينة منبج حرسها الله بلدة فسيحة الإرجاء صحيحة الهواء يحف بها سور عتيق ممتد الغاية والانتهاء جوها صقيل ومجتلاها جميل ونسيمها أرج النشر عليل نهارها يندى ظله وليلها كما قيل فيه: سحر كله تحف بغربيها وبشرقيها بساتين ملتفة الأشجار مختلفة الثمار ولماء يطرد فيه ويتخلل جميع نواحيها، وخصص الله داخلها بآبار معينة شهدية العذوبة سلسبيلية المذاق تكون في كل دار منها البئر والبئران. وأرضها أرض كريمة تستنبط مياها كلها وأسواقها وسككها فسيحة متسعة ودكاكينها وحوانيتها كانها الخانات والمخازن اتساعا وكبيرا وأعالي أسواقها مسقفة. وعلى هذالترتيب أسواق أكثر مدن هذه الجهات لكن هذه البلدة تعاقبت عليهالاحقاب حتى أخذ منها الخراب كانت من مدن الروم العتيقة ولهم

فيها من البناء آثار تدل على عظم اعتنائهم بها ولها قلعة حصينة في جوفيها تنقطع عنها وتنحاز منها ومدن هذه الجهات كلها لا تخلو من القلاع السلطانية. وأهلها أهل فضل وخير سنيون شافعيون وهي مطهرة بهم من أهل المذاهب المنحرفة والعقائد الفاسدة كما تجده في الأكثر من هذه البلاد فمعاملاتهم صحيحة وأحوالهم مستقيمة وجادتهم الواضحة في دينهم من اعتراض بنيات الطريق1 سليمة. فكان نزولنا خارجها في أحد بساتينها وأقمنا يوما مريحين ثم رحلنا نصف الليل ووصلنا بزاعة ضحوة يوم السبت الثاني عشر لربيع المذكور.

_ 1 بنيات الطريق: الطرق الصغيرة استعارها هنا للفرق المبدعة.

ذكر بلدة بزاعة كلاها الله عز وجل

ذكر بلدة بزاعة كلاها الله عز وجل بقعة طيبة الثرى واسعة الذرى2 تصغر عن المدن وتكبر عن القرى بها سوق تجمع بين المرافق السفرية والمتاجر لحضرية وفي أعلاها قلعة كبيرة حصينة رامها أحد ملوك الزمن فغاظته باستصعابها فامر بثلم بنائها حتى غاردها عورة منبوذة بعرائها ولهذه البلدة عين معينة يخترق ماؤها بسيط بطحاء ترف بساتينها خضرة ونضارة وتريك برونقها الأنيق حسن الحضارة. ويناظرها في جانب البطحاء قرية كبيرة تعرف بالباب هي باب بين بزاعة وحلب وكان يعمرها منذ ثماني سنين قوم من الملاحدة الاسماعيلية لا يحصى عددهم إلا الله فطار شرارهم وقطع هذه السبيل فسادهم واضرارهم حتى داخلت أهل هذه البلاد العصبية وحركتهم الأنفة والحمية فتجمعوا من كل أوب عليهم ووضعوا السيوف فيهم فاستأصلوهم عن

_ 2 الذرى: الجانب.

آخرهم وعجلوا بقطع دابرهم وكومت بهذه البطحاء جماجمهم وكفى الله المسلمين عاديتهم وشرهم وأحاق بهم مكرهم والحمد لله رب العالمين. وسكانها اليوم قوم سنيون فأقمنا بها يوم السبت ببطحاء هذه البلدة مريحين ورحلنا منها في الليل وأسرينا إلى الصباح ووصلنا مدينة حلب ضحوة يوم الأحد الثالث عشر لربيع الأول والرابع والشعرين ليونيه.

ذكر مدينة حلب حرسها الله تعالى

ذكر مدينة حلب حرسها الله تعالى بلدة قدرها خيطر وذكرها في كل زمان يطير خطابها من الملوك كثير ومحلها من التقديس أثير1 فكم هاجت من كفاح وسلت عليها من بيض الصفاح لها قلعة شهيرة الامتناع بائنة الارتفاع معدومة الشبه والنظير في القلاع تنزهت حصانة أن ترام أو تستطاع قاعدة كبيرة ومائدة من الأرض مستديرة منحوتة الإرجاء موضوعة على نسبة اعتدال واستواء فسبحان من أحكم تقيدرها وتدبيرها وأبدع كيف شاء تصويرها وتدويرها عتيقة ف الأزل حديثة وإن لم تزل قد طاولت الأيام والأعوام وشيعت الخواص والعوام، هذه منازلها وديارها فأين سكانها قديما وعمارها؟ وتلك دار مملكتها وفناؤها فأين أمرؤها الحمدانيون وشعراؤها؟ أجل فني جميعهم ولم يأن2 بعد فناؤها فيا عجبا للبلاد تبقى وتذهب أملاكها ويهلكون ولا يقضى هلاكها تخطب بعدهم فلا يتعذر ملاكها3 وترام فيتيسر بأهون شيء إدراكها هذه حلب كم أدخلت من ملوكها في خبر كان ونسخت ظرف الزمان بالمكان أنث اسمها فتحلت

_ 1 الأثير: المفضل، المكرم. 2 يأني: يحين. 3 ملاكها: الزواج منها.

بزينة الغوان ودانت بالغدر فيمن خان وتجلت عروسا بعد سيف دولتها ابن حمدان هيهات هيهات سيهرم شبابها ويعدم خطابها ويسرع فيها بعد حين خرابها وتتطرق جنبات الحوادث إليها حتى يرث الله الأرض ومن عليها لا إله سواه سبحانه جلت قدرته. وقد خرج بنا الكلام عن مقصده فلنعد إلى ما كنا بصدده فنقول أن من شرف هذه القلعة إنه يذكر أنها كانت قديما في الزمان الأول ربوة يأوى إليها إبراهيم الخيل عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم بغنيمات له فيحلبها هناك ويتصدق بلبنها فلذلك سميت حلب والله أعلم وبها مشهدكريم له يقصده الناس ويتبركون بالصلاة فيه. ومن كمال خلالها المشترطة في حصانة القلاع أن الماء بها نابع وقد صنع عليه جبان فيهما بنعان ماء فلا تخاف الظماء ابد الدهر والطعام يصبر فيها الدهر كله وليس في شروط الحصانة أهم ولا اكد من هاتين الخلتين ويطيفه بهذين الجبين المذكورين سوران حصينان من الجانب الذي ينظر للبلد ويعترض دونهما خندق لا يكاد البصر يبلغ مدى عمقه والماء ينبع فيه. وشأن هذه القلعة في الصحانة والحسن أعظم من أن ننتهي إلى وصفه وسورها الأعلى كله ابراج منتظمة فيها العلالي المنيفة والقصاب1 المشرفة قد تفتحت كلها طيقانا وكل برج منها مسكون وداخلها المساكن السلطانية والمنازل الرفيعة الملوكية. وأما البلد فموضوعه ضخم جدا حفيل التركيب بديع الحسن واسع الأسواق كبيرها متصلة الانتظام مستطيلة تخرج من سماط2 صنعة إلى سماط صنعة أخرى إلى أن تفرغ من جميع الصناعات المدنية وكلها مسقف بالخشب،

_ 1 لم نجد معنى القصاب يوافق الكلام ولكن قوله فيما بعد: "تفتحت طيقانا" يدل على أنه أراد بها غرفا. 2 السماط: الصف. وشيء يبسط ليوضع عليه الطعام. وجانب الطريق.

فسكانها في ظلال وارفة فكل سوق منها تقيدالأبصار حسنا وستوقف المستوفز1 تعجبا. وأما قيساريتها فحديقة بستان نظافة وجمالا مطيفة بالجامع المكرم لا يتشوق الجالس فيها مرأى سواها ولو كان من المرائي الرياضية وأكثر حوانيتها خزائن من الخشب البديع الصنعة قد اتصل السماط خزانة واحدة وتخللتها شرف خشيبية بديعة النقش وتفتحت كلها حوانيت فجاء منظرها أجمل منظر وكل سماط منها يتصل بباب من أبواب الجامع المكرم. وهذا الجامع من أحسن الجوامع وأجملها قد أطاف بصحنه الواسع بلاط كبير متسع مفتح كله أبوابا قصرية الحسن إلى الصحن عددها ينيف على الخمسين بابا فيستوقف الأبصار حسن منظرها وفي صحته بئران معينتان والبلاط القبلي لا مقصروة فيه فجاء ظاهر الاتساع رائق الانشراح. وقد استفرغت الصنعة القرنصية جهدها في منبره فما أرى في بلد من البلاد منبرا على شكله وغرابة صنعته واتصلت النصعة الخشبية منه إلى المحراب فتحللت صفحاته كلها حسنا على تلك الصفة الغريبة وارتفع كالتاج العظيم على المحراب وعلا حتى اتصل بسمك2 السقف وقد قوس أعلاه وشرف بالشرف الخشبية القرنصية وهو مرصع كله بالعاج والآبنوس واتصال الترصيع من المنبر إلى المحراب مع ما يليهما من جدار القبلة دون أن يتبين بينهما انفصال فتجتلى العيون منه أبدع منظر يكون في الدنيا، وحسن هذا الجامع المكرم أكثر من أن يوصف. ويتصل به من الجانب الغربي مدرسة للحنفية تناسب الجامع حسنا واتقان صنعة فهما في الحسن روضة تجاور أخرى وهذه المدرسة من أحفل ما شاهدناه من المدارس بناء وغربة صنعة ومن أظرف ما يلحظ فيها أن جدارها القبلي

_ 1 المستوفز: المتهيء للوثوب. 2 السمك: الارتفاع.

مفتح كله بيوتا وغرفا لها طيقان يتصل بعضها ببعض وقدامتد بطول الجدار عريش كرم مثمر عنبا فحصل لكل طاق من تلك الطيقان قسطها من ذلك العنب متدليا إمامها فيمد الساكن فيها يده ويجتنيه متكئا دون كلفة ولا مشقة. وللبلدة سوى هذه المدرسة نحو أربع مدارس أو خمس ولها مارستان. وأمرها في الاحتفال عظيم فهي بلدة تليق بالخلافة وحسنها كله داخل لا خارج لها إلا نهير يجري من جوفيها إلى قبيلها ويشق ربضها المستدير بها فإن لها ربضا كبيرا فيه من الخانات ما لايحصى عدده وبهذا النهر الأرحاء وهي متصلة بالبلد وقائمة وسط ربضه وبهذا الربض بعض بساتين تتصل بطوله. وكيفما كان الأمر فيه داخلا وخارجا فهو من بلاد الدنيا التي لا نظير لها والوصف فيه يطول. فكان نزولنا بربضه في خان يعرف بخان أبي الشكر فأقمنا به أربعة أيام ورحلنا ضحوة يوم الخيمس السابع عشر لربيع المذكور والثامن والشعرين ليونيه ووصلنا قنسرين قبيل العصر فأرحنا بها قليلا ثم انتقلنا إلى قرية تعرف بتل تاجر فكا نمبيتنا بها ليلة الجمعة الثامن عشر منه. وقنسرين هذه هي البلدة الشهيرة في الزمان لكنها خربت وعادت كأن لم تغن بالأمس فلم يبق إلا آثارها الدارسة ورسومها الطامسة ولكن قراها عامرة منتظمة لأنها على محرث عظيم مد البصر عرضا وطولا وتشبهها من البلاد الأندلسية جيان ولذلك يذكر أن أهل قنسرين عند استفتاح الأندلس نزلوا جيان تأنسا بشبه الوطن وتعللا به مثل ما فعل في أكثر بلادها حسب ما هو معروف. ثم رحلنا من ذلك الموضع عند الثلث الماضي من الليل فأسرينا وسرنا إلى ضحوة من النهار ثم نزلنا مريحين بموضع يعرف بباقدين في خان كبير يعرف بخان التركمان وثيق الصحانة وخانات هذا الطريق كأنها القلاع امتناعا وحصانة وأبوابها حديد وهي من الوثاقة في غاية. ثم رحلنا من هذا الموضع

وبتنا بموضع يعرف بتمنى في خان وثيق على الصفة المذكورة. ثم اسحرنا منه يوم السبت التاسع عشر لربيع الأول المذكور وهو آخر يوم من يونيه وراينا عن يمين طريقنا بمقدار فرسخين يوم الجمعة المذكور بلاد المعرة وهي سواد كلها بشجر الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه ويتصل التفاف بساتيها وانتظام قراها مسيرة يومين وهي من اخصب بلادالله وأكثرها أرزاقا. ووراءها جبل لبنان وهو سامي الارتفاع ممتد الطول يتصل من البحر إلى البحر وفي صفحته حصون للملاحدة الاسماعيلية فرقة مرقت من الإسلام وادعت الإلهية في أحد الانام قيض لهم شيطان من الأندلس يعرف بسنان1 خدعهم بأباطيل وخيالات موه عليهم باستعمالها وسحرهم بمحالها فاتخذوه الها يعبدونه ويبذلون الأنفس دونه وحصلو من طاعته وامتثال أمره بحيث يأمر أحد هم بالتردي من شاهقة جبل فيتردى ويستعجل في مرضاته الردى والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء بقدرته نعوذ به سبحانه من الفتنة في الدين ونساله العصمة من ضلال الملحدين لا رب غيره ولا معبود سواه. وجبل لبنان المذكور هو حد بين بلادالمسلمين والإفرنج لأن وراءه انطاكية واللاذقية وسواهما من بلادهم اعادها للمسلمين وفي صفح الجبل المذكور حصن يعرف بحصن الأكراد هو للافرنج ويغيرون منه على حماة وحمص وهو بمرأى العين منهما فكان وصولنا إلى مدينة حماة في اضحى الأعلى من يوم السبت المذكور فنزلنا بربضها في أحد خاناته.

_ 1 أبو الحسن سنان بن سليمان البصري صاحب الدعوة الإسماعلية.

ذكر مدينة حماة حماها الله تعالى

ذكر مدينة حماة حماها الله تعالى مدينة شهيرة في البلدان قديمة الصحبة للزمان غير فسيحة الفناء ولا رائقة البناء أقطارها مضمومة وديارها مركومة لا يهش البصر إليها عند الأطلال عليها كأنها تكن بهجتها وتخفيها فتجد حسنها كامنا فيها حتى إذا جست خلالها ونقرت1 ظلالها أبصرت بشرقيها نهرا كبيرا تتسع في تدفقه أساليبه وتتناظر بشطيه دواليبه قد انتظمت طرتيه، بساتين تتهدل أغصانها عليه وتلوح خصرتها عذارا بصفحيته ينسرب في ظلالها وينساب على سمت اعتدالها، وبأحد شطيه المتصل بربضها مظاهر منتظمة بيوتا عدة يخترق الماء من أحد دواليبه جميع نواحيها فلا يجد المغتسل أثر أذى فيها وعلى شطه الثاني المتصل بالمدينة السفلى جامع صغير قد فتح جداره الشرقي عليه طيقانا تجتلى منها منظرا ترتاح النفس إليه وتتقيد الأبصار لديه وبإزاء ممر النهر بجوفي المدينة قلعة حلبية الوضع وإن كانت دونها في الحصانة والمنع سرب لها من هذا النهر ماء ينبع فيها فهي لا تخاف الصدى2 ولا تتهيب مرام العدا. وموضوع هذه المدينة في وهدة من الأرض عريضة مستطيلة كأنها خندق عميق يرتفع لها جانبان أحدهما كالجبل المطل والمدينا العليا متصلة بصفح ذلك الجانب الجبلي والقلعة في الجانب الآخر في ربوة منقطعة كبير مستديرة قدتولى نحتها الزمان وحصل لها بحصانتها من كل عدو الامان والمدينة السفلى تحت القلعة متصلة بالجانب الذي يصب النهر عليه وكلتا المدينتين صغيرتان وسور المدينة العليا يمتد على رأس جانبها العلى الجبلي ويطيف بها.

_ 1 نقرت: بحثت. 2 الصدى: العطش.

وللمدينة السفلى سور يحدق بها من ثلاثة جوانب لأن جانبها المتصل بالنهر لا يحتاج إلى سور. وعلى النهر جسر كبير معقود بصم الحجارة يتصل من المدينة السفلى إلى ربضها وربضها كبير فيه الخانات والديار وله حوانيت يستعجل فيها السافر حاجته إلى أن يفرغ لدخول المدينة وأسواق المدينة العليا أحفل وأجمل من أسواق المدينة السفلى وهي الجامعة لجميع الصناعات والتجارات وموضوعها حسن التنظيم بديع الترتيب والتقسيم ولها جامع أكبر من الجامع الأسفل ولها ثلاث مدارس ومارستان على شط النهر بإزاء الجامع الصغير. وبخارج هذه البلدة بسيط فسيح عريض قد انتظم أكثره شجرات الاعناب وفيه المزارع والمحارث وفي منظره نشراح اللنفس وانفساح والبساتين متصلة على شطى النهر وهو يسمى العاصي لأن ظاهره انحداره من سفل إلى علو ومجراه من الجنوب إلى الشمال وهو يجتاز على قبلي حمص وبمقربة منها. فكان مقامنا بحماة إلى عشي يوم السبت المذكور ثم رحلنا منها وأسرينا الليل كله وأجزنا في نصفه هذا النهر العاصي المذكور على جسر كبير معقود من الحجارة وعليه مدينة رستن التي خربها عمر بن الخطاب رضى الله عنه وآثارها عظيمة ويذكر الروم القسطنطينيون أن بها أموالا جمة مكنوزة والله أعلم بذلك فوصلنا إلى مدينة حمص مع شروق الشمس من يوم الأحد الموفى عشرين لربيع الأول وهو أول يوليه1 فنزلنا بظاهرها بخان السبيل.

_ 1 يوليو: تموز.

ذكر مدينة حمص حرسها الله تعالى

ذكر مدينة حمص حرسها الله تعالى هي فسيحة الاسحة مستطيلة المساحة نزهة لعين مبصرها من النظافة والملاحة موضوعة في بسيط من الأرض عريض مداه لا يخترقه النسيم بمسراه يكادالبصر يقف دون منتهاه أفيح أغبر لا ماء ولا شجر ولا

ظل ولا ثمر فهي تشتكي ظماءها وتسقى على البعد ماءها فيجلب لها من نهيرها العاصي وهي منها بنحو مسافة الميل وعليه طرة بساتين تجتلى العين خضرتها وستغرب نضرتها ومنبعه في مغارة بصفح جبل فوقها بمرحلة بموضع يقابل بعلبك اعادها الله وهي عن يمين الطريق إلى دمشق. وأهل هذه البلدة موصوفون بالنجدة والتمرس بالعدو لمجاورتهم إياه وبعدهم في ذلك أهل حلب فأحمد خلال هذه البلدة هواؤها الرطب ونسيمها الميمون تخفيفه وتجسيمه فكأن الهواء النجدي في الصحة شقيقه وقسيمه. وبقبلي هذه المدينة قلعة حصينة منيعة عاصية غير مطيعة قدتميزت وانحازت بموضوعها عنها وبشرقيها جبانة فيها قبر خالد بن الوليد رضى الله عنه هو سيف الله المسلول ومعه قبر ابنه عبد الرحمن وقبر عبيد الله بنعمر رضى الله عنهم. وأسوار هذه المدينة في غاية العتاقة والوثاقة مرصوص بناؤها بالحجارة الصم السود وأبوابها أبواب حديد سامية الأشراف هائلة المنظر رائعة الأطلال والأنافة تكتنفها الابراج المشيدة الحصينة وأما داخلها فما شئت من بادية شعثاء1 خلقة الأرجاء ملفقة البناء لا إشراق لآفاقها ولا رونق لأسواقها كاسدة لاعهد لها بنفاقها. وما ظنك ببلد حصن الأكراد منه على اميال يسيرة وهو معقل العدو فهو منه تتراءى ناره ويحرق إذا يطير شراره ويتعهد إذا شاء كل يوم مغاره. وسألنا أحد الأشياخ بهذه البلدة: هل فيها مارستان على رسم مدن هذه الجهات؟ فقال: وقد أنكر ذلك حمص كلها مارستان وكفاك تبيينا شهادة أهلها فيها وبها مدرسة واحدة، وتجد في هذه البلدة عند إطلالك عليها من بعد في بسيطها ومنظرها وهيئة موضوعها بعض شبه بمدينة إشبيلية من بلاد الأندلس يقع للحين في نفسك خياله وبهذا الاسم سميت في القديم وهي العلة التي

_ 1 شعثاء: مغبرة.

أوجبت نزول الأعراب أهل حمص فيها حسبما يذكر وهذا التشبيه وإن لم يكن بذاته فله لمحة من إحدى جهاته. وأقمنا بها يوم الأحد المذكور ويوم الإثنين بعده وهو الثاني ليوليه إلى أول الظهر ورحلنا منها وتمادى سيرنا إلى العشى ونزلنا بقرية خربة ترعف بالمعشر فعشبنا بها الدواب ثم رحلنا عند المغرب وأسرينا طول ليلتنا وتمادى سيرنا إلى الضحى الأعلى من يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من الشهر المذكور ونزلنا بقرية كبيرة للنصارى المعاهدين تعرف بالقارة ليس فيها من المسلمين أحد وبها خان كبير كأنه الحصن المشيد في وطسه صهريج كبير مملوء ماء يتسرب له تحت الأرض من عين على البعد فهو لا يزال ملآن فأرحنا بالخان المذكور إلى الظهر ثم رحلنا منه إلى قرية تعرف بالنبك بها ماء جار ومحرث متسع فنزلنا بها للتعشبية ثم رحلنا منها بعداختلاس تهويمة1 خفيفة. وأسرينا الليل كله فوصلنا إلى خان السلطان مع الصباح وهو خان بناه صلاح الدين صاحب الشام وهو في نهاية الوثاقة والحسن بباب حديد على سبيلهم في بناء خانات هذه الطرق كلها واحتفالهم في تشييدها وفي هذا الخان ماء جار يتسرب إلى سقاية في وسط الخان كانها صهريج ولها منافس ينصب منها الماء في سقاية صغيرة مستديرة حول الصهيريج ثم يغوص في سرب في الأرض. والطريق من حمص إلى دمشق قليل العمارة إلا في ثلاثة مواضع أو أربعة منها هذه الخانات المذكورة فأقمنا يوم الأربعاء الثالث والعشرين لربيع المذكور بالخان المذكور مريحين ومستدركين النوم إلى أول الظهر ثم رحلنا وجزنا بثنية العقاب ومنها يشرف على بسيط دمشق وغوطتها وعند هذه الثنية مفرق طريقين: إحد اهما التي جئنا منها ولا ثانية آخذة شرقا في البرية على السماوة إلى العراق وهي طريق قصد لكنها لا تدخل إلا في الشتاء. فانحدرنا

_ 1 التهويمة: النوم القليل.

منها بين جبال في بطن واد إلى البسيط ونزلنا منه بموضع يعرف بالقصير فيه خان كبر والنهر جار امامه ثم رحلنا منه مع الصبح وسرنا في بساتين متصلة لا يوصف حسنها ووصلنا دمشق في الضحى الأعلى من يوم الخميس الرابع والعشرين لربيع الأول والخامس ليوليه والحمد لله رب العالمين.

شهر ربيع الآخر

شهر ربيع الآخر استهل هلاله يوم الأربعاء بموافقة الحادي عشر ليوليه ونحن بدمشق نازلين فيها بدار الحديث غربي جامعها المكرم.

ذكر مدينة دمشق حرسها الله تعالى

ذكر مدينة دمشق حرسها الله تعالى جنة المشرق ومطلع حسنه المؤنق المشرق وهي خاتمة بلاد الإسلام التي استقريناها وعروس المدن المتي اجتليناها قدتحلت بأزاهير الرياحين وتجلت في حلل سندسية من البساتين وحلت من موضوع الحسن بالمكان المكين وتزينت في منصتها أجمل تزيين وتشرفت بان آوى الله تعالى السميح وأمه صلى الله عليهما منها إلى ربوة ذات قرار ومعين، ظل ظليل وماء سلسبيل تنساب مذانبه انسياب الأراقم1 بكل سبيل ورياض يحيى النفوس نسيمها العليل تتبرج2 لناظريها بمجتلى صقيل وتناديهم: هلموا إلى معرس للحسن ومقيل قد سئمت أرضها كثرة الماء حتى اشتقات إلى الظماء فتكاد تناديك بها الصم الصلاب: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب؛ قد احدقت البساتين بها أحداق الهالة بالقمر واكتنفتها

_ 1 الأراقم: الحيات، الواحد أرقم. 2 تتبرج: تتزين.

اكتناف الكمامة للزهر وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر فكل موضع لحظته بجهاتها الأربع نضرته اليانعة قيدالنظر ولله صدق القائلين عنها: إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامتها1 وتحاذيها.

_ 1 تسامتها: تقابلها.

ذكر جامعها المكرم عمره الله تعالى

ذكر جامعها المكرم عمره الله تعالى هو من أشهر جوامع الإسلام حسنا واتقان بناء وغرابة صنعة واحتفال تنميق وتزيين وشهرته المتعارفة في ذلك تغنى عن استغراق الوصف فيه ومن ععجيب شأنه إنه لا تنسج به العنكبوت ولا تدخله ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف. انتدب لبنائه الوليد بن عبد الملك رحمه الله ووجه إلى ملك الروم بالقسطنطينية يأمره بأشخاص اثنى عشر ألفا من الصناع من بلاده وتقدم إليه بالوعيد في ذلك إن توقف عنه فامتثل أمره مذعنا بعد مراسلة جرت بينهما في ذلك مما هو مذكور في كتب التواريخ. فشرع في بنائه وبلغت الغاية في التأنق فيه وأنزلت2 جدره كلها بفصوص من الذهب المعروف بالفسيفساء وخلطت بها أنواع من الأصبغة الغريبة قد مثلت أشجارا وفرعت اغصانا منظومة بالفصوص ببدائع من الصنعة الأنيقة المعجزة وصف كل واصف فجاء يغشى العيون وميضا وبصيصا. وكان مبلغ النفقة فيه حسبما ذكره ابن المعلى3 الأسدي في جزء وصعه في ذكر بنائه مائة صندوق في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار ومائتا ألف دينار فكان مبلغ الجميع أحد عشر ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار.

_ 2 أنزلت: رصعت. 3 محمد بن المعلى بن عبد الله الأسدي.

والوليد هذا هو الذي أخذ نصف الكنيسة الباقية منه في أيدي النصارى وأدخلها فيه لأنه كان قسمين: قسما للمسلمين وهو الشرقي وقسما للنصارى وهو الغربي لأن أبا عبيدة بن الجراح رضى الله عنه، دخل البلد من الجهة الغربية فانتهى إلى نصف الكنيسة وقد وقع الصلح بينه وبين النصارى ودخل خالد بن الوليد رضى الله عنه عنوة من الجانب الشرقي وانتهى إلى النصف الثاني وهو الشرقي فاحتازه المسلمون وصيروه مسجدا، وبقى النصف المصالح عليه وهو الغربي كنيسة بأيدي النصارى إلى أن عوضهم منه الوليد فأبوا ذلك فانتزعه منه مقهرا وطلع لهدمه بنفسه وكانوا يزعمون أن الذي يهدم كنيستهم يجن فبادر الوليد وقال: أنا أول من يجن في الله وبدأ الهدم بيده فبادر المسلمون وأكملوا هدمه واستعدوا عمر بن عبد العزيز رضيى الله عنه أيام خلافته واخرجوا العهد الذي بأديهم من الصحابة رضى الله عنهم في ابقائه عليهم فهم بصرفه إليهم فأشفق المسلمون من ذلك ثم عوضهم منه بمال عظيم ارضاهم به فقبلوه. ويقال: إن أول من وضع جداره القبلي هود النبي عليه السلام وكذلك ذكرا بن المعلى في تاريخه والله أعلم بذلك لا إله سواه، وقرأنا في فضائل دمشق عن سفيان الثوري رضى الله عنه إنه قال: إن الصلاة فيه بثلاثين ألف صلاة وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعبد الله عز وجل فيه بعد خراب الدنيا أربعين سنة.

ذكر تذريعه ومساحته وعدد أبوابه وشمسياته1

ذكر تذريعه ومساحته وعدد أبوابه وشمسياته1 ذرعه في الطول من الشرق إلى الغرب مائتا خطوة وهما ثلاثمائة ذراع وذرعه في السعة من القبلة إلى الجوف مائة خطوة وخمس وثلاثون خطوة وهي

_ 1 الشمسية: النافذة.

مائتا ذراع فيكون تكسيره من المراجع1 الغريبة أربعة وعشرين مرجعا وهو تكسير مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أن الطول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من القبلة إلى الشمال وبلاطاته المتصلة بالقبلة ثلاثة مستطيلة من الشرق إلى الغرب سعة كل بلاط منها ثمان عشرة خطوة والخطوة ذراع ونصف وقد قامت على ثمانية وستين عمودا منها أربع وخمسون سارية وثماني أرجل2 حصية تتخللها واثنتان مزحمة ملصقة معها في الجدار الذي يلي الصحن وأربع أرجل مرخمة أبدع ترخيم مرصعة بفصوص من الرخام ملونة قد نظمت خواتيم وصورت محاريب واشكالا غريبة قائمة في البلاط الأوسط تقل قبة الرصاص مع القبة التي تلي المحراب سعة كل رجل منها ستة عشر شبرا وطولها عشرون شبرا وبين كل رجل ورجل في الطول سبع عشرة خطوة وفي العرض ثلاث عشرة خطوة فيكون كل دور رجل منها اثنين وسبعين شبرا. ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهاته: الشرقية والغربية الشمالية سعته عشر خطا وعدد قوائمه سبع وأربعون: منها أربع عشرة رجلا من الجص وسائرها سوار فيكون سعة الصحن حاشى المسقف القبلي والشمالي مائة ذراع وسقف الجامع كله من خارج ألواح رصاص. وأعظم ما في هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وسطه سامية في الهواء عظيمة الاستدارة، قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها يتصل من المحراب إلى الصحن وتحته ثلاث قباب: قبة تتصل بالجدار الذي إلى الصحن وقبة تتصل بالمحراب وقبة تحت قبة الرصاص بينهما. والقبة الرصاصية قد اغصت الهواء وسطه فإذا استقبتلها ابصرت منظرا رائعا ومرأى هائلا يشبهه الناس بنسر طائر كأن القبة رأسه والغارب جؤجؤه،

_ 1 المراجع، الواحد مرجع: مقياس يستعمل في المغرب للأرض. 2 أرجل: عمد.

ونصف جدار البلاط عن يمين ونصف الثاني عن شمال جناحاه وسعة هذا الغارب من جهة الصحن ثلاثون خطوة فهم يعرفون الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء منيفة على كل علو كأنها معلقة من الجو. والجامع المكرم مائل إلى الجهة الشمالية من البلد وعدد شمسياته الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون: منها في القبة التي تحت قبة الرصاص عشر وفي القبة المتصلة بالمحراب مع ما يليها من الجدا أربع عشرة شمسية وفي طول الجدار عن يمين المحراب ويساره أربع ورابعون وفي القبة المتصلة بجدار الصحن ست وفي ظهر الجدار إلى الصحن سبع وأربعون شمسية. وفي الجامع المكرم ثلاث مقصورات مقصورة الصحابة رضى الله عنهم وهي أول مقصورة وضعت في الإسلام وضعها معاوية ابن أبي سفيان رضى الله عنهما وبازاء محرابها عن يمين مستقبل القبلة باب حديد كان يدخل معاوية رضى الله عنه إلى المقصورة منه إلى المحراب وبازاء محرابها لجهة اليمين مصلى أبي الدرداء رضى الله عنه، وخلفها كانت دار معاوية رضى عنه وهي اليوم سماط عظيم للصفارين1 يتصل بطول جدار الجامع القبلي ولا سماط أحسن منظرا منه ولا أكبر طولا وعرضا وخلف هذا السماط على مقربة منه دار الخيل برسمه وهي اليوم مسكونة وفيها مواضع للكمادين2. وطول المقصورة الصحابية المذكور أربعة وأربعون شبرا وعرضها نصف الطول. ويليها لجهة الغرب في وسط الجامع المصورة التي أحد ثت عند اضافة الصنف المتخذ كنيسة إلى الجامع حسبما تقدم ذكره وفيها منبر الخطبة ومحراب الصلاة وكانت مقصروة الصحابة أولا في نصف الحظ الإسلامي من الكنيسة وكان الجدار حيث اعيدالمحراب في المقصورة لمحدثة فلما عيدت الكنيسة كلها

_ 1 الصفارون: النحاسون. 2 الكمادون: صابغو الثياب.

مجسدا صارت مقصروة الصحابة طرفا في الجانب الشرقي وأحدثت المقصورة الأخرى وسطا حيث كان جدرا الجامع قبل الاتصال وهذ المقصورة المحدثة أكبر من الصحابية. وبالجانب الغربي بإزاء الجدار مقصورة أخرى هي برسم الحنيفة يجتمعون فيها للتدريس وبها يصلون بازائها زاوية محدقة بالاعواد المشرجبة كأنها مقصروة صغيرة وبالجانب الشرقي زاوية أخرى على هذه الصفة هي كالقمصرة كان وضعها للصلاة فيها أحد أمرءا الدولة التركية وهي لاصقة بالجدار الشرقي. وبالجامع المكرم عدة زوايا على هذا الترتيب يتخذها الطلبة للنسخ والدرس والانفراد عن ازدحام الناس وهي من جملة مرافق الطلبة. وفي الجدار المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات القبلية عشرون بابا متصلة بطول الجدار قد علتها قسى جصية مخرمة كلها على هيئ الشمسيات فتبصر العين من اتصالها أجمل منظر وأحسنه. والبلاط المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات من ثلاث جهات على أعمدة وعلى تلك الأعمدة أبواب مقوسة تقلها أعمدة صغار تطيف بالصحن كله. ومنظر هذا الصحن من أجمل المناظر واحسنها وفيه مجتمع أهل البلد وهو متفرجهم ومنتزههم كل عشية تراهم فيه ذاهبين وراجعين من شرق إلى غرب من باب جيرون إلى باب البريد، فمنهم من يتحدث مع صاحبه ومنهم من يقرأ لا يزالون على هذه الحال من ذهاب وروجوع إلى انقضاء صلاة العشاء الآخرة ثم ينصرفون ولبعضهم بالغداة مثل ذلك وأكثر الاحتفال إنما هو بالعشى فيخيل لمبصر ذلك أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم لما يرى من احتفال الناس واجتماعهم لا يزالون على ذلك كل يوم وأهل البطالة من النسا يسمونهم الحراثين. وللجامع ثلاث صوامع وإحدى في الجانب الغربي وهي كالبرج المشيد تحتوى على مساكن متسعة وزوايا فسيحة راجعة كلها إلى غلاق يسكنها أقوام

من الغرباء أهل الخير والبيت الأعلى منها كان معتكف أبي حامد الغزالي رحمه الله ويسكته اليوم الفقيه الزاهد أبو عبد الله بن سعيد من أهل قلعة يحصب المنسوبة لهم وهو قريب لبنى سعيد المشتهرين بالدنيا وخدمتها وثانية بالجانب الغربي على هذ الصفة وثالثة بالجانب الشمالي على الباب المعروف بباب الناطفيين1. وفي الصحن ثلاث قباب: إحد اها في الجانب الغربي منه وهي اكبرها وهي قائمة على ثمانية أعمدة من الرخام مستطيلة كالبرج مزخرفة بالفصوص والاصبغة الملونة كانها الروضة حسنا وعليه قبة رصاص كأنها التنور العظيم الاستدارة يقال: إنها كانت مخزنا لمال الجامع وله مال عظيم من خراجات ومستغلات تنيف على ما ذكر لنا على الثمانية الاف دينار صورية في السنة وهي خسمة عشر ألف دينار مؤمنية أو نحوها. وقبة أخرى صغيرة في وسط الصحن مجوفة مثمنة من رخام قدالصق أبدع الصاق قائمة على أربعة أعمدة صغار من الرخام وتحتها شباك حديد مستدير وفي وسطه أنبوب من الصفر يمج الماء إلى علو فيرتفع وينثنى كأنه قضيب لجين يشره الناس لوضع أفواههم فيه للشرب استظرافا له واستحسانا ويسمونه قفص الماء والقبة الثالثة في الجانب الشرقي قائمة على ثمانية أعمدة على هيئة القبة الكبيرة لكن أصغر منها. وفي الجانب الشمالي من الصحن باب كبير يفضى إلى مسجدكبير في وسطه صحن قد استدار فيه صهريج من الرخام كبير يجرى الماء فيه دائما من صحفة رخام أبيض مثمنة قد قامت وسط الصهريج على رأس عمودمثقوب يصعدالماء منه إليها ويعرف هذا الموضع بالكلاسة ويصلى فيه اليوم صاحبنا الفقيه الزاهد المحدث أبو جعفر الفنكي القرطبي وتزاحم الناس على الصلاة فيه خلفه التماسا لبركته واستماعا لحسن صوته.

_ 1 الناطفيون: هم الذين يصنعون الناطف أو يبيعونه وهو نوع من الحلوى.

وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يفضى إلى مسجد من أحسن المساجد وابدعها وضعا واجملها بناء يذكر الشيعة إنه مشهد لعلي بن أبي طالب رضى الله عنه وهذا من أغرب مختلقاتهم ومن العجيب إنه يقابله في لجهة الغربية في زاوية البلاط الشمالي من الصحن موضع هو ملتقى آخر البلاط الشمالي مع أول البلاط الغربي مجلل بستر في أعلاه وأمامه ستر أيضا منسدل يزعم أكثر الناس إنه موضع لعائشة رضى الله عنها وإنها كانت تسمع الحديث فيه. وعائشة رضى الله عنها في دخول دمشق كعلي رضى الله عنه لكن لهم في علي رضى الله عنه مندوحة من القول وذلك أنهم يزعمون إنه رؤى في المنام مصليا في ذاك الموضع فبنت الشيعة فيه مسجدا وأما الموضع المنسوب لعائشة رضى الله عنها فلا مندوحة فيه وإنما ذكرناه لشهرته في الجامع. وكان هذا الجامع المبارك ظاهرا وباطنا منزلا كله بالفصوص المذهبة مزخرفا بأبدع زخاريف البناء المعجز الصنعة فادركه الحريق مرتين فتهدم وجدد وذهب أكثر رخامه فاستحال رونقه فاسلم ما فيه اليوم قبلته مع الثلاث قباب المتصلة بها ومحرابه من أعجب المحاريب الإسلامية حسنا وغرابة صنعة يتقد ذهبا كله وقد قامت في وسطه محاريب صغار متصلة بجداره تحفها سويريات1 مفتولات فتل الاسورة كأنها مخروطة لم ير شيء أجمل منها وبعضها حمر كأنها مرجان. فشأن قبلة هذا الجامع المبارك مع ما يتصل بها من قبابه الثلاث واشراق شمسياته المذهبة الملونة عليه واتصال شعاع الشمس بها وإنعكاسه إلى كل لون منها حتى ترتمي الأبصار منه اشعة ملونة يتصل ذلك بجاره القبلي كله عظيم لا يحلق وصفه ولا تبلغ العبارة بعض ما يتصوره الخاطر منه والله يعمره بشهادة الإسلام وكلمته بمنه

_ 1 سويريات، مفردها سويرية: مصغر سارية.

وفي الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من مصاحف عثمان رضى الله عنه وهو المصحف الذي وجه به إلى الشام وتفتح الخزانة كل يوم اثر الصلاة فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله ويكثر الازدحام عليه. وله أربعة أبواب: باب قبلي ويعرف بباب الزيادة وله دهليز كبير متسع له أعمدة عظام وفيه حوانيت للخرزيين1 وسواهم وله مرأى رائع ومنه يفضى إلى دار الخيل وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين وهي كانت دار معاوية رضى الله عنه وتعرف بالخضراء؛ وباب شرقي وهو أعظم الأبواب ويعرف بباب جيرون؛ وباب غربي ويعرف بباب البريد؛ وباب شمالي ويعرف بباب الناطفيين. وللشرقي والغربي والشمالي أيضا من هذه الأبواب دهاليز متسعة يفضى كل دهليز منها إلى باب عظيم كانت كلها مداخل للكنيسة فبقيت على حالها، وأعظمها منظرا الدهليز المتصل بباب جيرون يخرج من هذا الباب إلى بلاط طويل عريض قد قامت امامه خمسة أبواب مقوسة لها ستة أعمدة طوال وفي وجه اليسار منه مشهد كبير حفيل كان فيه رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما ثم نقل إلى القاهرة وبازائه مسجد صغير بنسب لعمر بن عبد العزيز رضى الله عنه وبذلك المشهد ماء جار. وقد انتظمت أمام البلاط أدراج ينحدر عليها إلى الدهليز وهو كالخندق العظيم يتصل إلى باب عظيم الارتفاع ينحسر الطرف دونه سموا قد حفته أعمدة كالجزوع طولا وكالأطواد ضخامة. وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قد قامت عليها شوارع مستديرة فيها الحوانيت المنتظمة للعطارين وسواهم وعليها شوارع أخر مستطيلة فيها الحجر والبيوت

_ 1 الحرزيون: بائعو الحرز.

للكراء مشرفة على الدهليز وفوقها سطح ببيت به سكان الحجر والبيوت، وفي وسط الدهليز حوض كبير مستدير من الرخام عليه قبة نقلها أعمدة من الرخام ويستدير بأعلاها طرة من الرصاص واسعة مكشوفة للهواء لم ينعطف عليها تعتيب وفي وسط الحوض الرخامي أنبوب صفر يزعج الماء بقوة فيرتفع إلى الهواء أزيد من القامة لم.....1 وحوله انابيب صغار ترمي الماء إلى علو فيخرج عنها كقضبان اللجين فكأنها اغصان تلك الدوحة المائية ومنظرها أعجب وأبدع من أن يلحقه الوصف. وعن يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفر قد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار ودبرت تدبيرا هنسديا فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازيين مصورين من صفر قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحدمنهما أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان فعند وقوع البندقتين فيها تعودان داخل الجدار إلى الغرفة وتبصر البازيين بمدان أعناقهما بالنبدقتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدير عيجب تتخيله الاوهام سحرا وعند وقوقع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر لا يزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضى الساعات ثم تعود إلى حالها الأول. ولها بالليل تدبير آخر وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة مدبر ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة خلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة ف إذا انقضت عم لزجاجة ضوء المصباح وفاض على الدائرة إمامها شعاعها فلاحت للأبصار دائرة محمرة ثم انتقل

_ 1 بياض في الأصل.

ذلك إلى الأخرى حتى تنقضى ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها وانتقالها يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها وهي التي يسميها الناس المنجانة. ودهليز الباب الغربي فيه حوانيت البقالين والعطارين وفيه سماط لبيع الفواكه وفي أعلاه باب عظيم يصعد إليه على أدراج وله أعمدة سامية في الهواء وتحت الأدراج سقايتان مستديرتان سقاية يمينا وسقاية يسارا لكل سقاية خمسة أنابيب ترمى الماء في حوض رخام مستيطل ودهليز الباب الشمالي فيه زوايا على مصاطب محدقة بالأعواد المشرجبة وهي محاضر1 لمعلمي الصبيان. وعن يمين الخارج في الدهليز خانقة مبينة للصوفية في وسطها صهريج ويقال: إنها كانت دار عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه ولها خبر سيأتي ذكره بعد هذا والصهريج الذي في وسطها يجرى الما فيه ولها مطاهر يجرى الماء في بيوتها وعن يمين الخارج أيضا من باب البريد مدرسة للشافعية في وسطها صهريج يجرى الماء فيه ولها مطاهر على الصفة المذكورة. وفي الصحن بين القباب المذكورة عمودان متباعدان يسيرا لهما رأسان من الصفر متسيطلان مشرجبان قد خرما أحسن تخريم يسرجان ليلة النصف من شعبان فيلوحان كانهما ثريتان مشتعلتان واحتفال أهل هذه البلدة لهذه الليلة المذكورة أكثر من احتفالهم ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم. وفي هذا الجامع المبارك مجتمع عظيم كل يوم إثر صلاة الصبح لقرءاه سبع من القرآن دائما ومثله إثر صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية يقرأون فيها من سورة الكوثر إلى الخاتمة ويحضر في هذا المجتمع الكوثري كل من لا يجيد حفظ القرآن وللمجتمعين على ذلك إجراء كل يوم يعيش منه أزيد من خمسمائة إنسان وهذا من مفاخر هذا الجامع المكرم فلا تخلو القراءة منه صباحا ولا مساء. وفيه حلقات للتدريس للطلبة وللمدرسين فيها إجراء

_ 1 المحاضر: المدارس.

واسع وللمالكية زاوية للتدريس في الجانب الغربي يجتمع فيها طلبة المغاربة ولهم إجراء معلوم. ومرافق هذا الجامع المكرم للغرباء وأهل الطلب كثيرة واسعة وأغرب ما يحدث به أن سارية من سواريه هي بين المقصورتين القديمة والحديثة لها وقف معلوم يأخذه المستند إليها للمذاكرة والتدريس أبصرنا بها فقيها من أهل إشبيلية يعرف بالمرادي. وعند فراغ المجتمع السبعي من القراءة صباحا يستند كل إنسان منهم إلى سارية ويجلس امامه صبي يلقنه القرآن وللصبيان أيضا على قراءتهم جراية معلومة فأهل الجدة من آبائهم ينزهون ابناءهم عن أخذها وسائرهم يأخذونها وهذا من المفاخر الإسلامية. وللأيتام من الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير يأخذ منه المعلم لهم ما يقوم به وبسكوتهم وهذا أيضا من أغرب ما يحدث به من مفاخر هذه البلاد. وتعليم الصبيان للقرآن بهذه البلاد المشرقية كلها إنما هو تلقين يعلمون الخط في الأشعار وغيرها تنزيها لكتاب الله عز وجل عن ابتذال الصبيان له بالاثبات والمحو وقد يكون في أكثر البلاد الملقن على حدة والمكتب على حدة فينفصل من التلقين إلى التكتيب لهم في ذلك سيرة حسنة ولذلك ما يتأتى لهم حسن الخط لأن المعلم له لا يشتغل بغيره فهو يستفرغ جهده في التعليم والصبي في التعلم كذلك ويسهل عليه لأنه بتصوير يحذو حذوه. ويستدير بهذا الجامع المكرم أربع سقايات في كل جانب سقاية كل واحدة منها كالدار الكبيرة محدقة بالبيوت الخلائية والماء يجرى في كل بيت منها وبطول صحتها حوض من الحجر مستطيل تصب فيه عدة انابيب منتظمة بطوله. وإحدى هذه السقايات في دهليز باب جيرون وهي اكبرها وفيها من البيوت نيف على الثلاثين وفيها زائدا على السقاية المستطيلة مع جدارها حوضان كبيران مستديران يكادان يمسكان لسعتهما عرض الدار المحتوية على

هذه السقاية وألواح د بعيد من الآخر ودور كل واحد منهما نحو الأربعين شبرا والماء نابع فيهما والثانية في دهليز باب الناطفيين بازاء المعلمين والثالثة عن يسار الخارج من باب البريد والراعبة عن يمين الخارج من باب الزيادة. وهذه أيضا من المرافق العظيمة للغرباء وسواهم والبلد كله سقايات قل ما تخلو سكة من سككه أو سوق من اسواقه من سقاية والمرافق به أكثر من أن توصف والله يبقيه دار إسلام بقدرته.

ذكر مشاهده المركمة وآثاره المعظمة

ذكر مشاهده المركمة وآثاره المعظمة فأولها مشهد رأس يحيى بن زكرياء عليهما السلام وهو مدفون بالجامع المكرم في البلاط القبلي قبالة الركن الأيمن من المقصورة الصحابية1 رضى الله عنهم وعليه تابوت خشب معترض من الأسطوانة وفوقه قنديل كأنه من بلور مجوف كأنه القدح الكبير لا يدرى أمن زجاج عراقي أم صوري هو أم من غير ذلك. ومولد إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا الكريم وهو بصفح جبل قاسيون عند قرية تعرف ببرزة وهي من أجمل القرى وهذا الجبل مشهور بالبركة في القديم لأنه مصعد االنبياء صلوات الله عليهم ومطلعهم وهو في الجهة الشمالية من البلد وعلى مقدار فرسخ، وهذا المولد المبارك غار مستطيل ضيق وقد بنى عليه مسجد كبير مرتفع مقسم على مساجد كثيرة كالغرف المطلة وعليه صومعة عالية ومن ذلك الغار رأى صلى الله عليه وسلم الكوكب ثم القمر ثم الشمس حسبما ذكره الله تعالى في كتابه عز وجل2 وفي ظهر الغار مقامه الذي كان يخرج إليه، وهذا كله ذكره الحافظ محدث الشام أبو القاسم بن هبة الله بن عسكر الدمشقي في تاريخه في أخبار دمشق وهو

_ 1 هي أول مقصورة وضعت في الإسلام وضعها معاوية بن أبي سفيان. 2 سورة الأنعام، الآية 76- 78.

نيف على مائة مجلد وذكر أيضا أن بين باب الفراديس وهو أحد أبواب البلد وفي الجهة الشمالية من الجامع المبارك على مقربة منه إلى جبل قاسيون مدفن سبعين ألف نبي وقيل سبعون ألف شهيد وان الأنبياء المدفونين به سبعمائة نبي والله أعلم. وخارج هذا البلد الجبانة العتيقة وهي مدفن الأنبياء والصالحين وبركتها شهيرة وفي طرفها مما يلي البساتين وهذه من الأرض متصلة بالجبانة ذكر أنها مدفن سبعين نبيا وعصمها الله نزهها من أن يدفن فيها أحد والقبور محيطة بها وهي لا تخلو من الماء حتى عادت قرارة له كل ذلك تنزيه من الله تعالى لها. وبجبل قاسيون أيضا لجهة الغرب على مقدار ميل أو أزيد من المولد المبارك مغارة تعرف بمغارة الدم لأن فوقها في الجبل دم هابيل قتيل اخيه قابيل ابني آدم صلى الله عليه وسلم يتصل من نحو نصف الجبل إلى المغارة وقد ابقى الله منه في الجبل آثارا حمرا في الحجارة تحك فتستحيل وهي كالطريق في لجبل وتنقطع عند المغارة وليس يوجد في النصف الأعلى من المغارة آثار تشبهها فكان يقال إنها لون حجارة الجبل وإنما هي من الموضع الذي جر منه القاتل لاخيه حيث قتله حتى انتهى إلى المغارة وهي من آيات الله تعالى وآياته لا تحصى. وقرأنا في تاريخ ابن المعلى الاسدي أن تلك المغارة صلى فيها إبراهيم وموسى وعيسى ولوط وأيوب عليهم وعلى نبينا الكريم أفضل الصلاة والسلام وعليها مسجد قد أتقن بناؤه ويصعد إليه على أدراج وهو كالغرفة المستديرة وحولها اعواد مشرجبة مطيفة بها وبه بيوت ومرافق للسكنى وهو يفتح كل يوم خميس والسرج من الشمع والفتائل تقد في المغارة وهي متسعة. وفي أعلى الجبل كهف منسوب لادم صلى الله عليه وسلم وعليه بناء وهو موضع مبارك وتحته في حضيض الجبل مغارة تعرف بمغارة الجوع ذكر

أن سبعين نبيا ماتوا فيها جوعا وكان عندهم رغيف فلم يزل كل واحد منهم يؤثر به صاحبه ويدور عليهم من يد إلى يد حتى لحقتهم المنية صلوات الله عليهم وعلى هذه المغارة أيضا مسجد مبنى وأبصرنا فيه سرجا تقد نهارا. ولكل مشهد من هذه المشاهد أوقاف معينة من بساتين وأرض بيضاء ورباح حتى إن البلد تكادالأوقاف تستغرق جميع ما فيها وكل مسجد يستحدث بناؤه أو مدرسة أو خانقة يعين لها السلطان أوقافا تقوم بها وبساكنيها والملتزمين لها وهذه أيضا من المفاخر المخلدة ومن النساء الخواتين ذوات الاقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة وتنفق فيها الأموال الواسعة وتعين لها من مالها الأوقاف ومن الأمراء من يفعل مثل ذلك لهم في هذه الطريقة المباركة مسارعة مشكورة عند الله عز وجل. وبآخر هذا لجبل المذكور وفي راس البسيط البستاني الغربي من هذا البلد الربوة المباركة المذكورة في كتاب الله تعالى: مأوى المسيح وأمه صلوات الله عليهما وهي من أبدع مناظر الدنيا حسنا وجمالا وإشراقا واتقان بناء واحتفال تشييد وشرف وضع هي كالقصر المشيد ويصعد إليها على أدراج والمأوى المبارك منها مغارة صغيرة في وسطها وهي كالبيت الصغير وبإزائها بيت يقال: إنه مصلى الخضر صلى الله عليه وسلم فيبادر الناس للصلاة بهذين الموضعين المباركين ولا سيما المأوى المبارك وله باب حديد صغير ينغلق دونه والمسجد يطيف بها ولها شوارع دائرة وفيها سقاية لم ير أحسن منها قد سيق إليها الماء من علو وماؤها ينصب على شاذروان1 في الجدار متصل بحوض من رخام يقع الماء فيه لم ير أحسن من منظره وخلف ذلك مطاهر يجرى الماء في كل بيت منها ويستدير بالجانب المتصل بجدار الشاذروان. وهذه الربوة المباركة رأس بساتين البلد ومقسم مائة ينقسم فيها الماء على سبعة أنهار يأخذ كل نهر طريقه وأكبر هذه الأنهار نهر يعرف بثورا،

_ 1 الشاذروان: حائط صغير بجوار الجدار الأصلي لتقويته.

وهو يشق تحت الربوة وقد نقر له في الحجر الصلد أسفلها حتى انفتح له متسرب واسع كالغار وربما انغمس الجسور من سباح الصبيان أو الرجال من أعلى الربوة في النهر واندفع تحت الماء حتى يشق متسربه تحت الربوة ويخرج أسفلها وهي مخاطرة كبيرة. ويشرف من هذه الربوة على جميع البساتين الغربية من البلد ولا أشراف كإشرافها حسنا وجمالا واتساع مسرح للأبصار. وتحتها تلك الأنهار السبعة تتسرب وتسيح في طرق شتى فتحار الأبصار في حسن اجتماعها وافتراقها واندفاع انصبابها وشرف موضوع هذه الربوة ومجموع حسنها أعظم من أن يحيط به وصف اصف في غلو مدحه وشأنها في موضوعات الدنيا الشريفة خطير كبير. ويتصل بها أسفل منها بمقربة من المسافة قرية كبيرة تعرف بالنيرب قد غطتها البساتين فلا يظهر منها إلا ما سما بناؤه وبها جامع لم ير أحسن منه مفروش سطحه كله بفصوص الرخام الملون فيخيل لناظره إنه ديباج مبسوط وفيه سقاية ماء رائقة الحسن ومطهرة لها عشرة أبواب يجرى الماء فيها ويطيف بها وفوقها لجهة القبلة قرية كبيرة هي من أحسن القرى تعرف بالمزة وبها جامع كبير وساقية معينة وبقرية النيرب حمام وأكثر قرى هذه البلدة فيها الحمامات. وفي الجهة الشرقية من البلد عن يمين الطريق إلى مولد إبراهيم عليه السلام قرية تعرف ببيت لاهية1 يريدون الآلهة وكانت فيها كنيسة هي الآن مسجد مبارك وكان آزر أبو إبراهيم ينحت فيها الآلهة ويصورها فيجيء الخليل إبراهيم صلوات الله عليه وعلى نبينا الكريم فيكسرها وهي اليوم مسجد يجتمع فيه أهل القرية وسطحه كله مفروش بفصوص الرخام الملونة منتظم كله خواتيم واشكالا بديعة يخيل لمبصرها أنها فرش متقنة مزخرفة وهو

_ 1 أو بيت لهيا وهو المشهور.

من المشاهد الكريمة. وللربوة المباركة أوقاف كثيرة من بساتين وأرض بيضاء ورباع وهي معينة التقسيم لوظائفها فمنها ما هو معين باسم النفقة في الأدم للبائتين فيها من الزوار ومنها ما هو معين للأكسية برسم التغطية بالليل ومنها ما هو معين للطعام إلى تقاسيم تستوفى جميع مؤنها ومؤن الأمين الراتب فيها برسم الإمامة والمؤذن الملتزم خدمتها ولهم على ذلك كله مرتب معلوم في كل شهر وهي خطة من أعظم الخطط. والأمين فيها الآن من بقية المرابطين المسوفيين1 ومن أعيانهم يعرف بأبي الربيع سليمان بن إبراهيم بن مالك وله مكانة من السلطان ووجوه الدولة وله في الشهر خمسة دناينر حاشى فائدة الربوة وهو متسم بالخير ومرتسم به وهو متعلق بسبب من أسباب البر في إيواء أهل الغرب من الغرباء المنقطعين بهذه الجهات يسبب لهم وجوه المعايش من إمامة في مسجد أو سكنى بمدرسة تجرى عليه فيها النفقة أو التزام زاوية من زوايا المسجد الجامع يجبى إليه فيها رزقة أو حضور في قراءة سبع أو سدانة مشهد من المشاهد المباركة يكون فيه ويجرى عليه ما يقوم به من أوقافه إلى غير ذلك من الوجوه المعاشية على هذه السبيل المباركة مماي يطول شرحه. فالغريب المحتاج هنا إذا كان على طريقة الخير مصون محفوظ غير مريق ماء الوجه. وسائر الغرباء ممن ليس على هذه الحال ممن عهد الخدمة والمهنة يسبب له أيضا أسباب غريبة من الخدمة: إما بستان يكون ناطورا فيه أو حمام يكون عينا على خدمته وحافظا لأثواب داخليه أو طاحونة يكون أمينا عليها أو كفالة صبيان يؤديهم إلى محاضرهم ويصرفهم إلى منازلهم إلى غير ذلك من الوجوه الواسعة.

_ 1 المسوفيون: نسبة إلى مدينة مسوف، من بادية التكرور.

وليس يؤتمن فيها كلها سوى المغاربة الغرباء لأنهم قد علا لهم بهذا البلد صيت في الأمانة وطار لهم فيها ذكر وأهلها لا يأتمنون البلديين وهذا من الطاف الله تعالى بالغرباء وله الحمد والشكر على ما يولى عباده وإن شاء أحد المتعلقين بأسباب المعارف التعرض هنالك للسلطان يقبله ويكرمه ويرتبه ويجرى عليه بحسب قدره ومنصبه قد طبعت هذه البلاد وملوكها على هذه الفضائل قديما وحديثا وقد تسلسل بنا القول إلى غير الباب الذي نحن فيه والحديث ذو شجون والله كفيل بحسن العون لا رب سواه. وبغربي البلد جبانة كبيرة تعرف بقبور الشهداء فيها كثير من الصحابة والتابعين الأئمة الصالحين رضى الله عنهم فالمشهور بها من قبور الصحابة رضى الله عنهم قبر أبي الدرداء وقبر زوجته أم الدرداء رضى الله عنهما وموضع مبارك فيه تاريخ قديم مكتوب عليه في هذا الموضع قبر جماعة من الصحابة رضى الله عنهم منهم فضالة بن عبيد وسهل بن الحنظلية من الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وخال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه وقبره مسنم في الموضع المذكور. وقرأت في فضائل دمشق: أن أم المؤمنين أم حبيبة أخت معاوية رضى الله عنهما مدفونة بدمشق وقبر وائلة بن الأسقع من أهل الصفة. وفي الجهة التي تلي هذا الموضع المبارك تاريخ فيه مكتوب: هذا قبر أوس بن أوس الثقفي وحول هذا الموضع المذكور على مقربة منه قبر بلال بن حمامة مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رأس القبر المبارك تاريخ باسمه رضى الله عنه. والدعاء في هذا الموضع المبارك مستجاب قد جرب ذلك كثير من الأولياء وأهل الخير المتبركين بزيارتهم إلى قبور كثيرة من الصحابة وسواهم من الصالحين ممن قد ذهب اسمه وغبر ذكره ومشاهدكثيرة لأهل البيت رضى الله عنهم رجالا ونساء وقدا حتفل الشيعة في البناء عليهم ولها الأوقاف الواسعة.

ومن أحفل هذه المشاهدمشهد منسوب لعلى بن أبي طالب رضى الله عنه قد بنى عليه مسجد حفيل رائق البناء وبإزائه بستان كله نارنج والماء يطرد فيه من سقاية معينة وللمسجدكله ستو معلقة في جوانبه صغار وكبار وفي المحراب حجر عظيم قد شق بنصفين والتحم بينهما ولم يبن النصف عن النصف بالكلية يزعم الشيعة إنه انشق لعلى رضي الله عنه إما بضربة بسيفه أو بأمر من الأمور الإلهية على يديه ولم يذكر عن علي رضى الله عنه إنه دخل قط هذا البلد اللهم إلا إن زعموا أنه كان في النوم فلعل جهة الرؤيا تصح لهم اذ لا تصح لهم جهة اليقظة وهذا الحجر أوجب بنيان هذا المشهد. وللشيعة في هذا البلاد أمور عجيبة وهم أكثر من السنيين ها وقد عموا البلاد بمذاهبهم وهم فرق شتى منهم الرافضة وهم السبابون ومنهم الإمامية والزيدية وهم يقولون بالتفضيل خاصة ومنهم الاسماعيلية والنصيرية وهم كفرة فإنهم يزعمون الإلهية لعلى رضى الله عنه تعالى الله عن قولهم ومنهم الغرابية وهم يقولون أن عليا رضى الله عنه كان أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من الغراب بالغراب وينسبون إلى الروح الأمين عليه السلام قولا تعالى الله عنه علوا كبيرا إلى فرق كثيرة يضيق عنهم الإحصاء قد أضلهم الله واضل بهم كثيرا من خلقه نسال الله العصمة في الدين ونعوذ به من زيغ الملحدين. وسلط الله على هذه الرافضة طائفة تعرف بالنبوية سنيون يدينون بالفنوة وبأمور الرجولة كلها وكل من ألحقوه بهم لخصلة يرونها فيه منها يحرمونه السراويل فيلحقونه بهم ولا يرون أن يستعدي أحد منهم في نازلة تنزل به لهم في ذلك مذاهب عجيبة وإذا أقسم أحد هم بالفتوة بر قسمة وهم يقتلون هؤلاء الروافض أينما وجدوهم وشأنهم عجيب في الأنفة والائتلاف. ومن المشاهد المكرمة مشهد سعد بن عبادة رئيس الخزرج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقرية تعرف بالمنيحة شرقي البلد وعلى مقدار

أربعة أميال منه وعلى قبره مسجد صغير حسن البناء والقبر في وسطه وعند رأسه مكتوب: هذا قبر سعد بن عبادة رأس الخزرج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن مشاهد أهل البيت رضى الله عنهم: مشهد أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب رضى الله عنهما ويقال لها زينب الصغرى وأم كلثوم كنية أوقعها عليها النبي صلى الله عليه وسلم لشبهها بابنته أم كلثوم رضى الله عنها والله أعلم بذلك ومشهدها الكريم بقرية قبلي البلد تعرف براوية على مقدار فرسخ وعليه مسجد كبير وخارجة مساكن وله أوقاف وأهل هذه الجهات يعرفونه بقبر الست أم كلثوم مشينا إليه وبتنا به وبتركنا برؤيته نفعنا الله بذلك. وبالجبانة التي بغربي البلد من قبور أهل البيت كثير رضى الله عنهم ممنها قبران عليهما مسجد يقال إنهما من ولد الحسن والحسين رضى الله عنهما ومسجد آخر فيه قبر يقال إنه لسكينة بنت الحسين رضى الله عنهما أو لعلها سكينة أخرى من أهل البيت. ومن المشاهد أيضا قبر بجامع النيرب في بيت بالجهة الشرقية منه يقال إنه لأم مريم رضى الله عنها وبقرية دارية1 قبر أبي مسلم الخولاني رضى الله عنه وعليه قبة هي علامة القبر وبها أيضا قبر أبي سليمان الداراني رضى الله عنه وبين هذه القرية وبين البلد مقدار أربعة أميال وهي لجهة الغرب منه. ومن المشاهد الكريمة التي لم نعاينها ووصفت لنا قبرا شيث ونوح عليهما السلام وهما بالبقاع وهي على يومين من البلد وحدثنا من ذرع قبر شيث فالفى فيه أربعين باعا وفي قبر نوح ثلاثين وبازاء قبر نوح قبر ابنة له وعلى هذه القبور بناء ولها أوقاف كثيرة ولها قيم يلتزمها.

_ 1 تكتب عادة: داريا، بالألف.

ومن المشاهد المباركة أيضا بالجبانة الغربية وبمقربة من باب الجابية قبر أويس القرنى رضى الله عنه وقبور خلفاء بني أمية رحمهم الله يقال: إنها بازاء باب الصغير بمقربة من الجبانة المذكورة وعليه اليوم بناء يسكن فيه. والمشاهد المباركة بهذه البلدة أكثر من أن تنضبط بالتقييد وإنما رسم من ذلك ما هو مشهور ومعلوم ومن المشاهد الشهيرة أيضا مسجد الأقدام وهو على مقدار ميلين من البلد مما يلي القبلة على قارعة الطريق الأعظم الأخذ إلى بلاد الحجاز والساحل وديار مصر وفي هذا المسجد بيت صغير فيه حجر مكتوب عليه كان بعض الصالحين يرى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فيقول له ههنا قبر اخي موسى صلى الله عليه وسلم والكثيب الأحمر على الطريق بمقربة من هذا الموضع وهو بين غالية وغويلية كما ورد في الأثر وهما موضعان. وشأن هذا المسجد في البركة عظيم ويقال: إن النور ما خلا قط من هذا الموضع الذي يذكر أن القبر فيه حيث الحجر الكتوب وله أوقاف كثيرة فإما الأقدام ففي حجارة في الطريق إليه معلم عليها تجد اثر القدم في كل حجر وعدد الأقدام تسع ويقال إنها أثر قدم موسى عليه السلام والله أعلم بحقيقة ذلك لا إله سواه.

ذكر جمل من أحوال البلد عمره الله بالإسلام

شهر جمادي الأولى عرفنا الله بركته استهل هلاله ليلة الجمعة بموافقة العاشر لشهر أغوشت العجمي. ذكر جمل من أحوال البلد عمره الله بالإسلام لهذه البلدة ثمانية أبواب: باب شرقي وهو شرقي وفيه منارة بيضاء يقال: إن عيسى عليه السلام ينزل فيها كما جاء في الأثر أنه ينزل بالمنارة

البيضاء شرقي دمشق ويلي هذا الباب باب توما وهو أيضا في حيز الشرق ثم باب السلامة ثم باب الفراديس وهو شمالي ثم باب الفرج ثم باب النصر وهو غربي ثم باب الجابية كذلك ثم باب الصغير وهو بين الغرب والقبلة. والمسجد الجامع مائل إلى الجهة الشمالية من البلد والأرباض به مطيفة إلا من جهة الشرق مع ما يتصل بها من القبلة يسيرا والأرباض كبار، والبلد ليس بمفرط الكبر وهو مائل للطول وسككه ضيقة مظلمة وبناؤه طين وقصب طبقات بعضها فوق بعض ولذلك ما يسرع الحريق إليه وهو كله ثلاث طبقات فيحتوى من الخلق على ما تحتوى ثلاث مدن لأنه أكثر بلاد الدنيا خلقا وحسنه كله خارج لا داخل. وفي داخل البلد كنيسة لها عند الروم شأن عظيم تعرف بكنيسة مريم ليس بعد بيت المقدس عندهم أفضل منها وهي حفيلة البناء1 تتضمن من التصاوير أمرا عيجبا تبهت الأفكار وتستوقف الأبصار ومرآها عجيب وهي بأيدي الروم ولا اعتراض عليهم فيها. وبهذه البلدة نحو عشرين مدرسة وبها مارستانان قديم وحديث والحديث أحفلهما2 وأكبرهما وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر دينارا وله قومة بأيديهم الأزمة3 المحتوية أسماء المرضى وعلى النفقات التي يحتاجون إليها في الأدوية والأغذية وغير ذلك والأطباء يبكرون إليه في كل يوم ويتفقدون المرضى ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية حسبما يليق بكل إنسان منهم والمارستان الآخر على هذه الرسم لكن الاحتفال في الجديد أكثر وهذا القديم هو غربي الجامع المكرم. وللمجانين المعتلقين أيضا ضرب من

_ 1 حفيلة البناء: بناؤها كثير مبالغ فيه. 2 أحفلهما: أملأهما. 3 الأزمة، الواحد زمام: السجل.

العلاج وهم في سلاسل موثقون نعوذ بالله من المحنة وسوء القدر وتندر من بعضهم النوادر الظريفة حسب ما كنا نسمع به. ومن أعجب ما حدثت به من ذلك: أن رجلا كان يعلم القرآن وكان يقرا عليه أحد أبناء وجوه البلد ممن اوتى مسحة جمال واسمه نصر الله وكان المعلم يهيم به فزادكلفة حتى اختبل وأدي إلى المارستان واشتهرت علته وفضيحته بالصبي وربما كان يدخله أبوه إليه فقيل له: اخرج وعد لما كنت عليه من القرآن فقال متماجنا تماجن المجانين: وأي قراءة بقيت لي؟ ما بقى في حفظي من القرآن شيء سوى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} فضحك منه ومن قوله. ونسال الله العفاية له ولكل مسلم فلم يزل كذلك حتى توفي سمح الله له. وهذه المارستانات مفخر عظيم من مفاخر الإسلام والمدارس كذلك ومن أحسن مدارس الدنيا منظرا مدرسة نور الدين رحمه الله وبها قبره نوره الله وهي قصر من القصور الأنيقة ينصب فيها الماء في شاذروان وسط نهر عظيم ثم يمتد الماء في ساقية مستطيلة إلى أن يقع في صهريج كبير وسط الدار فتحار الأبصار في حسن ذلك المنظر فكل من يبصره بجدد الدعاء لنور الدين رحمه الله. وأما الرباطات التي يسمونها الخوانق فكثيرة وهي برسم الصوفية وهي قصرو مزخرفة يطرد في جميعها الماء على أحسن منظر يبصر. وهذ الطائفة الصوفية هم الملوك بهذه البلاد لأنهم قد كفاهم الله مؤن الدنيا وفوضلها وفرغ خواطرهم لعبادته من الفكرة في أسباب المعايش وأسكنهم في قصور تذكرهم قصور الجنان فالسعداء الموفقون منهم قد حصل لهم بفضل الله تعالى نعيم الدنيا والآخرة. وهم على طريقة شريفة وسنة في المعاشرة عجيبة وسيرتهم في التزام رتب الخدمة غيربية وعوائدهم من الاجتماع للسماع المشوق جميلة وربما فارق منهم الدنيا في تلك الحالات المنفعل المثابر رقة وتشوقا وبالجملة فأحوالهم كلها بديعة وهم يرجون عيشا طيبا هينئا.

ومن أعظم ما شاهدناه لهم موضع يعرف بالقصر وهو صرح عظيم مستقل في الهواء في أعلاه مساكن لم ير أجمل إشرافا منها وهو من البلد بنصف الميل له بستان عظيم يتصل به وكان منتزها لأحد ملوك الأتراك فيقال: إنه كان فيه إحدى الليالي على راحة فاجتاز به قوم من الصوفية فهريق عليهم من النبيذ الذي كانوا يشربونه في ذلك القصر فرفعوا الأمر لنور الدين فلم يزل حتى استوهبه من صاحبه ووقفه برسم الصوفية مؤبدا لهم فطال العجب من السماحة بمثله وبقي اثر الفضل فيه مخدلا لنور الدين رحمه الله. ومناقب هذا الرجل الصالح كبيرة وكان من الملوك الزهاد. وتوفي في شوال سنة تسع وستين وخمسمائة واستولى بعده على الأمر صلاح الدين وهو على طريقة من الفضل شهيرة وشإنه في الملوك كبير وله الأثر الباقي شرفه من إزالة المكوس بطريق الحجاز ودفعه عوضا عنها لصاحب الحجاز وكانت الأيام قداستمرت قديما بهذه الضريبة اللعينة إلى أن محا الله رسمها على يدي هذا الملك العادل أصلحه الله. ومن مناقب نور الدين رحمه الله تعالى إنه كان عين للمغاربة الغرباء المتلزمين زاوية المالكية بالمسجد الجامع المبارك أوقافا كثيرة منها طاحوتنان وسبعة بساتين وأرض بيضاء وحمام ودكانان بالعطارين وأخبرني أحد المغاربة الذين كانوا ينظرون فيه وهو أبو الحسن على بن سردال الجياني المعروف بالأسود أن هذا الوقف المغربي يغل إذا كان النظر فيه جيدا خمسمائة دينار في العام وكان له رحمه الله بجانبهم فضل كبير نفعه الله بما أسلف من الخير وهيأ ديارا موقوفة لقراء كتاب الله عز وجل يسكنونها.

مرافق الغرباء

مرافق الغرباء ومرافق الغرباء بهذه البلدة أكثر من أن يأخذها الإحصاء ولا سيما لحفاظ كتاب الله، عز وجل والمنتمين للطلب فالشأن بهذه البلدة لهم عجيب جدا وهذه البلاد المشرقية كلها على هذا لرسم لكن الاحتفال بهذه البلدة أكثر والاتساع أوجد. فمن شاء الفلاح من نشأة مغربنا فليرحل إلى هذه البلاد ويتغرب في طلب العلم فيجد الأمور المعينات كثرة فأولها فراغ البال من أمر المعيشة وهو أكبر الأعوان وأهمها فإذا كانت الهمة فقد وجد السبيل إلى الاجتهاد ولا عذر للمقصر إلا من يدين بالعجز والتسويف فذلك من لا يتوجه هذا الخطاب عليه وإنما المخاطب كل ذي همة يحول طلب المعيشة بينه وبين مقصده في وطنه من الطلب العلمي فهذا المشرق بابه مفتوح لذلك فادخل ايها المجتد بسلام وتغنم الفراغ والانفراد قبل علق الأهل والأولاد ويقرع سن الندم على زمن التضييع والله يوفق ويرشد لا إله سواه قد نصحت أن الفيت سامعا وناديت إن أسمعت مجيبا، {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ1} جلبت قدرته وتعالى جده. ولو لم يكن بهذه الجهات المشرقية كلها إلا مبادرة أهلها لإكرام الغرباء وايثار الفقراء ولا سيما أهل باديتها فإنك تجد من بدار إلى بر الضيف عجبا كفى بذلك شرفا لها وربما يعرض أحد هم كسرته على فقير فيتوقف عن قبولها فيبكى الرجل ويقول: لو علم الله في خيرا لأكل الفقير طعامي لهم في ذلك سر شريف.

_ 1 سورة الإسراء، الآية 97.

من عجيب أمر المشارقة

من عجيب أمر المشارقة ومن عجيب أمرهم تعظيمهم للحاج على قرب مسافة الحج منهم وتيسير ذلك لهم واستطاعتهم لسبيله فهم يتمسحون بهم عند صدورهم ويتهافتون عليهم تبركا بهم ومن أغرب ما حدثناه من ذلك: أن الحاج الدمشقي مع من انضاف إليهم من المقاربة عند صدورهم إلى دمشق في هذا العام الذي هو عام ثمانين خرج الناس لتلقيهم: الجم الغفير نساء ورجالا يصافحونهم ويتمسحون بهم واخرجوا الدراهم لفقرائهم يتلقونهم بها وأخرجوا إليهم الأطعمة. فأخبرني من ابصر كثيرا من النساء يتلقين الحاج ويناولنهم الخبز فإذا عض الحاج فيه اختطفته من أيديهم وتبادرن لاكله تبركا بأكل الحاج له ودفعن له عوضا منه دراهم إلى غير ذلك من الأمور العجيبة ضد ما اعتدنا في المغرب في ذلك وصنع بناء في بغداد عند تلقي الحاج با مثل ذلك أو قريب منه. ولو شئنا استقصاء هذه الأمور لخرجت بنا عن مقصد التقييد وإنما وقع الالماع بلمحة دالة يكتفى بها عن التطويل. وكل من وفقه الله بهذه الجهات من الغرباء للانفراد يلتزم إن أحب ضيعة من الضياع فيكون فيها طيب العيش ناعم البال وينثال الخبز عليه من أهل الضيعة ويلتزم الإمامة أو التعليم أو ما شاء. ومتى سئم المقام خرج إلى ضيعة أخرى أو يصعد إلى جبل لبنان أو إلى جبل الجودي فيلقى بها المريدين المنقطعين إلى الله عز وجل فيقيم معهم ما شاء، وينصرف إلى حيث شاء.

نصارى جبل لبنان

نصارى جبل لبنان ومن العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به بعض المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم ويقولون: هؤلاء ممن انقطع إلى الله عز وجل فتجب مشاركتهم.

وهذا الجبل من أخصب جبال الدينا فيه أنواع الفواكه وفيه المياه المطردة والظلال الوارفة وقل ما يخلو من التبتيل1 والزهادة وإذا كانت معاملة النصارى لضد ملتهم هذه المعاملة فما ظنك بالمسلمين بعضهم مع بعض.

_ 1 التبتيل: الانقطاع إلى الله.

الحرب واتفاق النصارى والمسلمين

الحرب واتفاق النصارى والمسلمين ومن أعجب ما يحدث به أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى وربما يلتقى الجمعان ويقع المصاف بينهم ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. شاهدنا في هذا الوقت الذي هو شهر جمادي الأولى من ذلك خروج صلاح الدين بجميع عسكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك وهو من أعظم حصون النصارى وهو المعترض في طريق الحجاز والمانع لسبيل المسلمين على البر بينه وبين القدس مسيرة يوم أو أشف2 قليلا وهو سرارة3 أرض فلسطين وله نظر عظيم الاتساع متصل العمارة يذكر إنه ينتهي إلى أربعمائة قرية فنازله هذا السلطان وضيق عليه وطال حصاره. واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منطقع. واختلاف المسلمين من دمشق على عكة كذلك وتجار النصارى أيضا لا يمنع أحد منهم ولا يعترض. وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم وهي من الأمنة4 على غاية وتجار النصارى أيضا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال وأهل الحرب مشتغلون بحربهم والناس في عافية والدنيا لمن غلب.

_ 2 أشف: أكثر. 3 سرارة الشيء: أطيبه. 4 الأمنة: الأمن والاطمئنان.

هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك ولا تعترض الرعايا ولا التجار فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلما أو حربا وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يستوفى الحديث عنه والله يعلى كلمة الإسلام بمنه.

دمشق وآثارها

دمشق وآثارها ولهذه البلدة قلعة يسكنها السلطان منحازة في الجهة الغربية من البلد وهي بازاء باب الفرج من أبواب البلد وبها جامع السلطان يجمع فيه وعلى مقربة منها خارج البلد في جهة الغرب ميدانان كأنهما مبسوطان خزا لشدة خضرتهما وعليهما حلق والنهر بينهما وغيضة1 عظيمة من الحور متصلة بهما وهما من أبدع المناظر يخرج السلطان إليهما ويلعب فيهما بالصوالجة2 ويسابق بين الخيل فيهما ولا مجال للعين كمجالها فيهما وفي كل ليلة يخرج أبناء السلطان إليهما للرماية والمسابقة واللعب بالصوالجة. وبهذه البلدة أيضا قرب مائة حمام فيها وفي أرباضها وفيها نحو أربعين دارا للوضوء يجرى الماء فيها كلها وليس في هذه البلاد كلها بلدة أحسن منها للغريب لأن المرافق بها كثيرة وفي الذي ذكرناه من ذلك كفاية والله يبقيها دار إسلام بمنه. وأسواق هذه البلدة من أحفل أسواق البلاد وأحسنها انتظاما وأبدعها وضعا ولا سيما قيسارياتها وهي مرتفعات كانها الفنادق مثقفة كلها بأبواب حديد كأنها أبواب القصور وكل قيسارية منفردة بضبتها3 وأغلاقها الجديدة.

_ 1 الغيضة: الأجمة. 2 الصوالجة، الواحد صولجان: العصا المعقوفة الرأس. 3 الضبة: حديدة عريضة يقفل بها الباب.

ولها أيضا سوق يعرف بالسوق الكبير يتصل من باب الجابية إلى باب شرقي وفيه بيت صغير جدا قد اتخذ مصلى وفي قبلته حجر يقال: إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يكسرعليه الآلهة التي كان يسوقها أبوه للبيع. وحديث الدار المنسوبة لعمر بن عبد العزيز التي هي اليوم خانقة للصوفية وهي في الدهليز الذي في الباب الشمالي المعروف بباب الناطفيين وقد تقدم التنبيه عليه قبل هذا حديث عجيب وذلك أن الذي اشتراها وبناها وجعل لها الأوقاف الواسعة وأمر بأن يدفن فيها وأن يختم على قبره القرآن كل جمعة وعين من تلك الأوقاف لمن يحضر ذلك كل جمعة رطلا من الخبز الحواري وهو ثلاثة أرطال من ارطال المغرب رجل من العجم يعرف بالسميساطي وسميساط بلدة من بلادالعجم وكان موصوفا بالورع والزهد، وأصل يساره وتموله فيما ذكر لنا إنه الفي يوما من الأيام بالدهليز المذكور ازاء الدار المذكورة رجلا أسود مريضا مطروحا بموضعه غير متلف إليه ولا معتنى به فتأجر فيه والتزم تمريضه وخدمته والنظر له اغتناما للثواب من الله عز وجل، فحانت وفاة الرجل فاستدعى ممرضه السميساطي المذكور فقال له: أنت قد احسنت إلى وخدمتني ولطفت في تمريضي وأشفقت لحالي وغربتي فأنا أريد أن أكافئك على فعلك بي زائدا إلى مكافأة الله عز وجل عني في الاجل إن شاء الله؛ وذلك اني كنت من أحد فتيان الخليفة المعتصد العباسي ومعروفا بزمام الدار1 وكانت لي حظوة ومكانة فعتب على في بعض الأمر فخرجت طريدا فانتهيت إلى هذه البلدة فأصابني فيها من أمر الله ما أصابني فسببك الله لي رحمة، فأنا أقلدك أمانة وأعهد إليك فيها عهدا إذا أنا مت وغسلتني فانهض على بركة الله تعالى إلى بغداد وتطلف في السؤال عن دار صاحب الزمام فتى الخليفة فإذا أرشدت إليها فصرف الحيلة في اكترائها وأرجو أن الله

_ 1 لعله عنى الخادم المكلف الإشراف على الدخل والخرج.

يعينك على ذلك وإذا سكنتها فاعمد إلى موضع سماه له فيها وذكر له أمارة عليه فاحفر فيه مقدار كذا وانزع اللوح الذي تجده معترضا تحت الأرض وخذ الذي تجده مدفونا تحت الأرض وصرفه في منافعك وما يوفقك الله إليه من وجوه البر والخير مباركا لك في ذلك إن شاء الله. ثم توفي الرجل الموصى رحمه الله وتوجه الموصى إليه بعهده إلى بغداد فيسر الله له في اكتراء الدار وانتهى إلى الموضع المذكور فاستخرج منه دخائر لا قيمة لها1 عظيمة الشان كبيرة القدر فدسها في أحمال متاع باتاعها وخرج إلى دمشق من بغداد فابتاع الدار المذكورة المنسوبة لعمر بن عبد العزيز رضى الله عنه وبناها خانقة للصوفية واحتفل فيها وابتاع لها الأوقاف ضياعا ورباعا وجعلها برسم الصوفية وأوصى بأن يدفن فيها وان يختم القرآن على قبره كل جمعة وعين لكل من يحضر ذلك ما ذكرناه. فوجد الغرباء والفقراء في ذكل مرفقا كثيرا فتغص الخانقة بالقراءة كل جمعة فإذا ختموا القرآن دعوا له وانصرفوا واندفع لكل واحد منهم رطل من الخبز على الصفة المذكورة وبقى للمتوفى جميل الأثر والخير رحمة الله ورضوانه عليه. والكوثرية التي ذكرناها أيضا بالجامع المكرم المقروءة كل يوم بعدالعصر المعينة لمن لا يحفظ القرآن كان أصلها أيضا أن أحد ذوي اليسار توفي وأوصى بان يدس قبره في الجامع المكرم وأوقف وقفا يغل مائة وخمسين دينارا في السنة برسم من لا يحفظ القرآن ويقرأ من سورة الكوثر إلى الخاتمة فينقسم له أربعون دينارا في كل ثلاثة أشهر من السنة. ويذكر أن أحد الملوك السالفين توفى أيضا وأوصى بان يجعل قبره في قبلة الجامع المكرم بحيث لا يظهر وعين أوقافا عظيمة تغل نحو الالف دينار وأربعمائة دينار في السنة وزائد القراء سبع القرآن كل يوم.

_ 1 أراد أنه استخرج ما يعظم عن الوصف.

وموضع الاجتماع لقراءة هذا السبع المبارك كل يوم إثر صلاة الصبح بالجهة الشرقية من مقصورة الصحابة رضى الله عنهم، ويقال: إن في ذلك الموضع هو القبر المذكور وقراءة السبع لا تتعدى ذلك الموضع متصلا مع جدار القبلة إلى الجدار الشرقي والله عز وجل لا يضيع أجر المحسنين. وبقيت هذه الرسوم الشريفة مخلدة مع الأيام نفع الله بها راسميها وناهيك فيها من بلاد يهدى فيها لهذه الصنائع المزلفة لرضوان الله عز وجل، وللفقراء المتلزمين الجلوس في الجانب الشرقي من الجامع المكرم الذين ليس لهم مأوى يأوون إليه وقف وضعه بعض المتأجرين الموفقين برسمهم إلى ما يطول ذكره من المآثر الأخراوية الصدقية التي كفل الله بها غرباء هذه الجهات. ومن عادة أهل دمشق وسائر تلك البلاد المستحسنة المرجو لهم فيها من الله عز وجل، قبول أنهم في كل سنة يتوخون الوقوف يوم عرفة بجوامعهم إثر صلاة العصر يقف بهم ايمتهم كاشفي رؤوسهم داعين إلى ربهم التماسا لبركة الساعة التي يقف فيها وفد الله عز وجل وحجيج بيته الحرام بعرفات فلا يزالون واقفين داعين متضرعين إلى الله عز وجل وبحجاج بيته الحرام متوسلين إلى أن يسقط قرص الشمس ويقدروا نقر الحاج فينفصلوا باكين على ما حرمو من ذلك الموقف العظيم بعرفات وداعين إلى الله عز وجل في أن يوصلهم إليها ولايحليهم من بركة القبول في فعلهم لك.

من أعظم مناظر الدنيا

من أعظم مناظر الدنيا ومن أعظم ما شاهدناه م مناظر الدنيا الغريبة الشأن وهياكلها الهائلة البنيان المعجزة الصنعة والاتقان المعترف لوصفها بالتقصير لسان كل بيان الصعود إلى أعلى قبة الرصاص المذكورة في هذا التقييد، القائمة وسط الجامع المكرم والدخول في دوفها وإجالة لحظ الاعتبار في بديع وضعها مع القبة

التي في وسلطها كأنها كرة مجوفة داخلة وسط كرة أخرى أعظم منها؛ صعدنا إليه في جملة من الأصحاب المغاربة ضحوة يوم الإثنين الثامن عشر لجمادي الأولى المذكورة من مرقي في الجانب الغربي من بلاط الصحن كان صومعة فيا لقديم وتمشينا على سطح الجامع المكرم وكله ألواح رصاص منتظمة كما قد نقدم الذكر لذلك وطول كل لوح أربعة أشبار وعرضه ثلاثة أشبار وربما اعترض في الألواح نقص أو زيادة حتى نتهينا إلى القبة المذكورة فصعدنا إليها على سلم منصوب وريح الميد1 تكاد تطير بنا فحبونا في المشي المطيف بها وهو من رصاص وسعته ستة أشبار فلم نستطع القيام عليه لهول الموقف فيه، فأسرعنا الولوج في جوف القبة على أحد شراجيبها2 المتفحة في الرصاص فأبصرنا مرأى تحار فيه العقول وتقف دون إدراك هيبة وصفه الأفهام وجلنا في فرش من الخشب العظام حول القبة الصغيرة الداخلة في جوف الرصاصية على الصفة التي ذكرناها ولها طيقان يبصر منها الجامع ومن فيه فكنا نبصر الرجال فيه كأنهم الصبيان في المحاضر. وهذه القبة مستديرة كالكرة وظاهرها من خشب قد شد بأضلاع من الخشب الضخام موثقة بنطق من الحديد ينعطف كل ضلع عليها كالدائرة وتجتمع الأضلاع كلها في مركز دائرة من الخشب أعلاها وداخل هذه القبة وهو ما يلي الجامع المكرم خواتيم من الخشب منتظم بعضها ببعض قد اتصل اتصالا عجيبا وهي كلها مذهبة بأبدع صنعة من التذهيب مزخرفة التلوين بديعة القرنصة3 يرتمى الأبصار شعاع ذهبها وتتحير الألباب في كيفية عقدها ووضعها لإفراط سموها؛ أبصرنا من تلك الخواتيم الخشبية خاتما مطروحا جوف القبة لم يكن طوله أقل من ستة أشبار في عرض أربعة وهي تلوح

_ 1 الميد، الواحد مائد من ماد: تمايل. 2 شراجيبها: شرفها. 3 بديعة القرنصة: بديعة الحلية بارزتها.

في انتظامها للعين كأن دور كل واحد منها شبر أو شبران الغاية لعظم سموها. والقبة الرصاص محتوية على هذه القبة المذكورة وقد شدت أيضا بأضلاع عظيمة من الخشب الضخام موثقة الأوساط بنطق الحديد وعددها ثمان وأربعون ضلعا بين كل ضلع وضلع أربعة أشبار قد انعطفت انعطافا عجيبا، واجتمعت أطرافها في مركز دائرة من الخشب أعلاها ودور هذه القبة الرصاصية ثمانون خطوة وهي مائتا شبر وستون شبرا والحال فيها أعظم من أن يبلغ وصفها وإنما هذا الذي ذكرناه نبذة يستدل بها على ما وراءها. وتحت الغارب المستطيل المسمى النسر الذي تحت هاتين القبتين مدخل عظيم هو سقف للمقصورة بينه وبينها سماء جص مزينة وقد انتظم فيه من الخشب مالا يحصى عدده وانعقد بعضها ببعض وتقوس بعضها على بعض وتركبت تركيبا هائلا منظره وقد ادخلت في الجدار كله دعائم للقبتين المذكورتين وفي ذلك الجدار حجارة كل واحد منها يزن قناطير مقنطرة لا تنقلها الفيلة فضلا عن غيرها فالعجب كل العجب من تطليعها إلى ذلك الموضع المفرط السمو وكيف تمكنت القدرة البشرية لذلك فسبحان من الهم عباده إلى هذه الصنائع العجيبة ومعينهم على التأني لما ليس موجودا في طبائعم البشرية ومظهر آياته على أيدي من يشاء من خلقه لا إله سواه! والقبتان على قاعدة مستديرة من الحجارة العظيمة قد قامت فوقها ارجل قصار ضخام من الحجارة الصم الكبار وقد فتح بين كل رجل ورجل شمسية واستدارت الشمسيات باستدارتها والقبتان في رأى العين واحدة وكنينا عنها باثنتين لكون الواحدة في جوف الأخرى والظاهر منها قبة الرصاص. ومن جملة عجائب ما عايناه في هاتين القبتين إن لم نجد فيهما عنكبوتا ناسجا على بعدالعهد من التفقد لهما من أحد والتعاهد لتنظيف مساحتهما والعنكبوت في امثالهما موجود كثير وقد كان حقق عند نا أن الجامع المكرم لا تنسج فيه العنكبوت ولا يدخله الطير المعروف بالخطاف وقد تقدم ذكرنا لذلك في

هذا التقييد. فانصرفنا منحدرين وقد قضينا عجبا عجابا من هذا المنظر العظيم شأنه المعجز وضعه المترفع عن الإدراك وصفه ويقال: إنه ما على ظهر المعمور أعجب منظرا ولا أبعد سموا ولا أغرب بنيانا من هذه القبة إلا ما يحكى عن قبة بيت المقدس فإنها يذكر أنها أبعد في الارتفاع والسمو من هذه. وجمله الأمر أن منظرها والوقوف على هيئة وضعها وعظيم الاستقدار فيها عند معاينها بالصعود إليها والولوج داخلها من أغرب ما يحدث به من عجائب الدنيا والقدرة لله ألواح د القهار لا إله سواه.

رتبهم في جنائزهم

رتبهم في جنائزهم ولأهل دمشق وغيرها من هذه البلاد في جنائزهم رتبة1 عجيبة وذلك أنهم يمشون إمام الجنازة بقراء يقرءون القرآن بأصوات شجية وتلاحين مبكية تكاد تنخلع لها النفوس شجوا وحنانا يرفعون أصواتهم بها فتتلقى الآذان بأدمع الأجفان وجنائزهم يصلى عليها في الجامع قبالة المقصورة فلا بد لكل جنازة من الجامع فإذا انتهوا إلى بابه قطعوا القراءة ودخلوا إلى موضع الصلاة عليها إلا إن يكون الميت من أئمة الجامع أو من سدنته فإن الحالة المميزة له في ذلك أن يدخلوه بالقراءة إلى موضع الصلاة عليه. وربما اجتمعوا للعزاء بالبلاط الغربي من الصحن بإزاء باب البريد فيصلون افرادا أفرادا ويجلسون وأمامهم ربعات من القرآن يقرءونها ونقباء الجنائز يرفعون اصواتهم بالنداء لكل واصل للعزاء من محتشمي البلدة وأعيانهم ويحلونهم بخططهم2 الهائلة التي قد وضعوها لكل واحد منهم بالإضافة إلى الدين فتسمع ما شئت من صدر الدين أو شمسه أو بدره أو نجمه أو زينه أو بهائه أو جماله أو مجده أو

_ 1 أراد بالرتبة عادة من الاحتفال. 2 الخطط: أراد بها ألقاب الشرف.

فخره أو شرفه أو معينه أو محييه أو زكيه أو نجيبه إلى مالا غاية له من هذه الألفاظ الموضوعة وتتبعها ولا سيما في الفقهاء بما شئت أيضا من سيد العلماء وجمال الأئمة وحجة الإسلام وفخر الشريعة وشرف الملة ومفتى الفريقين إلى ما لا نهاية له من هذه الألفاظ المحالية. فيصعد كل واحد منهم إلى الشريعة ساحبا أذياله من الكبر ثانيا عطفه وقذاله1 فإذا استكملوا وفرغوا من القراءة وانتهى المجلس بهم منتهاه قام وعاظهم واحدا واحدا بسحب رتبهم في المعرفة فوعظ وذكر ونبه على خدع الدنيا وحذر واشند في المعنى ما حضر من الأشعار ثم ختم بتعزية صاحب المصاب والدعاء له وللمتوفى ثم قعد وتلاه آخر على مثل طريقته إلى أن يفرغوا ويتفرقوا فربما كان مجلسا نفاعا لمن يحضره من الذكرى. ومخاطبة أهل هذه الجهات قاطبة بعضهم لبعض بالتمويل والتسويد2 وبامتثال الخدمة وتعظيم الحضرة وإذا لقى أحد منهم آخر مسلما يقول جاء المملوك أو الخادم برسم الخدمة كناية عن السلام فيتعاطون المحال تعاطيا والحد عندهم عنقاء مغرب3 وصفة سلامهم إيماء للركوع أو السجود فترى الأعناق تتلاعب بين رفع وخفض وبسط وقبض وربما طالت بهم الحالة في ذلك فواحد ينحط وآخر يقوم وعمائمهم تهوى بينهم هويا. وهذه الحالة من الانعكاف الركوعي في السلام كنا عهدناه لقينات النساء وعند استعراض رقيق الإماء فيا عجبا لهؤلاء الرجال كيف تحلوا بسمات ربا الحجال قد ابتذلوا انفسهم فيما تأنف النفوس الأبية منه استعملوا تكفير الذمي المنهي في الشرع عنه لهم في هذا الشأن طرائق عجيبة في الباطل فيا للعجب منهم إذا تعاملوا بهذه المعاملة وانتهوا إلى هذه الغاية في الألفاظ بينهم

_ 1 القذال: ما بين الأذنين من مؤخر الرأس. 2 بالتمويل والتسويد أي بقول يا مولاي ويا سيدي. 3 العنقاء: طائر خرافي، أي أن الجد عندهم غير موجود.

فبماذا يخاطبون سلاطينهم ويعاملونهم؟ لقدت تساوت الأذناب عندهم والرؤوس ولم يميز لديهم الرئيس والمرؤوس فسبحان خالق الخلق أطوارا لا شريك له ولا معبود سواه. ومن عجيب حال الصغير عندهم والكبير بجميع هذه الجهات كلها انهم يشمون وأيديهم إلى خلف قابضين بألواح دى على الأخرى ويركعون للسلام على تلك الحالة الشبهة بأحوال العناة1 مهانة واستكانة كأنهم قد سيموا تعنيفا وأوثقوا تكتيفا وهم يعتقدون تلك الهيئة تمييزا لهم في ذوي الخصوصية وتشريفا ويزعمون انهم يجدون بها نشاطا في الأعضاء وراحة من الاعياء والمحتشم منهم من يسحب ذيله على الأرض شبرا أو يضع خلفه اليد الواحدة على الأخرى قد اتخذوا هذه المشية بينهم سننا وكل منهم قد زين له سوء عمله فرآه حسنا، استغفر الله منهم فإن لهم من آداب المصافحة عوائد تجدد لهم الإيمان وتستوهب لهم من الله الغفران لما بشر به الحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصافحة فهم يستعملونها إثر الصلوات ولا سيما إثر صلاة الصبح وصلاة العصر. وإذا سلم الإمام وفرغ من الدعاء أقبلوا عليه بالمصافحة أقبل بعضهم على بعض يصافح المرء عن يمينه وعن يساره فيتفرقون عن مجلس مغفرة بفضل الله عز وجل، وقد تقدم الذكر فيم سلف من هذه التقييد انهم يتسعملونها عند رؤية الأهلة ويدعو بعضهم لبعض بتعرف بركة ذلك الشهر ويمنه واستصحاب السعادة والخير فيه وفيما يعود عليه من امثاله وتلك أيضا طريقة حسنة ينفعهم الله بها لما فيها من تعاطي الدعوات وتجديد المودات ومصافحة المؤمنين بعضهم بعضا رحمة من الله تعالى ونعمة.

_ 1 العناة: الأسرى، الواحد عان.

حسن سيرة السلطان

حسن سيرة السلطان وقد تقدم الذكر أيضا في غير موضع من هذا الكتاب عن حسن سيرة السلطان بهذه الجهات: صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب وما له من المآثر المأثورة في الدنيا والدين ومثابرته على جهاد أعداء الله لأنه ليس إمام هذه البلدة بلدة للإسلام والشام أكثره بيدالإفرنج فسبب الله هذا السلطان رحمة للمسلمين بهذه الجهات فهو لا يأوى لراحة ولا يخلد إلى دعة ولا يزال سرجه مجلسه أنا بهذه البلدة نازلون منذ شهرين اثنين وحللناها وقد خرج لمنازلة حصن الكرك وقد تقدم الذكر أيضا له وهو عليه محاصر له حتى الآن والله تعالى يعينه على فتحه. وسمعنا أحد فقهاء هذه البلدة وزعمائها المسلمين بسدة1 هذا السلطان والحاضرين مجلسه يذكر عنه في حضرة محفل علماء البلد وفقهائه ثلاث مناقب في ثلاث كلمات حكاها عنه رأينا إثباتها هنا: إحداها أن الحلم من سجاياه فقال وقد صفح عن جزيرة أحد الجناة عليه: أما أنا فلأن أخطيء في العفو أحب إلي من أن أصيب في العقوبة وهذا في الحلم منزع أحنفي2. وقال أيضا وقد تنوشدت بحضرته الأشعار وجرى ذكر من سلف من أكارم الملوك وأجوادهم: والله لو وهب الدنيا للقاصد الآمل لما كنت أستكثرها له ولو استفرغت له جميع ما في خزانتي لما كان عوضا مما أراقه من حر ماء وجهه في استمناحه إياي وهذا في الكرم مذهب رشيدي أو جعفري3. وحضره أحد مماليكه المتميزين لديه بالحظوة والأثرة مستعديا على جمال

_ 1 السدة: باب الدار ومدخلها. 2 الأحنفي: نسبة إلى الأحنف بن قيس، الذي اشتهر بالحلم. 3 رشيدي: نسبة إلى هارون الرشيد. جعفري: نسبة إلى جعفر المتوكل أو إلى جعفر البرمكي.

ذكر أنه باعه جملا معيبا أو صرف عليه1 جملا بعيب لم يكن فيه فقال السلطان له: ما عسى أن أصنع لك وللمسلمين قاض يحكم بينهم والحق الشرعي مبسوط للحاصة والعامة وأوامره ونواهيه ممتثلة وإنما أنا عبد الشرع وشحنته والشحنة عندهم صاحب الشرطة فالحق يقضى لك أو عليك وهذا في العقد مقصد عمري2. وهذه كلمات كفى بها لهذا السلطان فخرا والله يمتع ببقائه السلام والمسلمين بمنه.

_ 1 صرف عليه: باعه. 2 عمري: نسبة إلى عمر بن الخطاب.

شهر جمادي الآخرة عرفنا الله بركته

شهر جمادي الآخرة عرفنا الله بركته استهل هلاله ليلة الأحد التاسع من شهر شتنبر3 العجمي ونحن بدمشق حرسها الله على قدم الرحلة4 إلى عكة فتحها الله والتماس ركوب البحر مع تجار النصارى وفي مراكبهم المعدة لسفر الخريف المعروف عندهم بالصليبية عرفنا الله في ذلك معهودخيرته وتكفلنا بكلاءته وعصمته بعزته وقدرته إنه سبحانه الحنان المنان ولى الطول والاحسان لا رب غيره، وكان انفصالنا منها عشي يوم الخميس الخامس من الشهر المذكور وهو الثالث عشر من شهر شتنبر المذكور في قافلة كبيرة من التجار المسافرين بالسلع إلى عكة.

_ 3 شتنبر: أيلول. 4 على قدم الرحلة أي متأهبون لها.

من أعجب الأحاديث

من أعجب الأحاديث ومن أعجب ما يحدث به في الدنيا أن قوافل المسلمين تخرج إلى بلاد الإفرنج وسببهم يدخل إلى بلاد المسلمين، شاهدنا من ذلك عند خروجنا

أمرا عجيبا وذلك أن صلاح الدين عند منازلته حصن الكرك المتقدم الذكر في هذا التاريخ قصد إليه الإفرنج في جميعهم وقد تأبوا من كل أوب وراموا أن يسبقوه إلى موضع الماء ويقطعوا عنه الميرة من بلاد المسلمين فصمداليهم وأقلع عن الحصن بجملته وسبقهم إلى موضع الماء فحادوا عن طريقه وسلكوا طريقا وعرا ذهب فيه أكثر دوابهم وتوجهوا إلى حصن الكرك المذكور وقد سد عليهم بنيات الطرق القاصدة إلى بلادهم ولم يبق لهم إلا طريق عن الحصن يأخذ على الصحراء ويبعد مداه عليهم بتحليق1 يعترض فيه. فاهتبل2 صلاح الدين في بلادهم الغرة وانتهز الفرصة وقصد قصدها عن الطريق القاصدة فدهم مدينة نابلوس وهجمها بعسكره فاستولى عليها وسبى كل من فيها وأخذ إليها حصونا وضياعا وامتلأت أيدي المسلمين سبيا لا يحصى عدده من الإفرنج ومن فرقة من اليهود تعرف بالسمرة منسوبة إلى السامري وانبسط فيهم القتل الذريع وحصل المسلمون منها على غنائم يضيق الحصر عنها إلى ما اكتفت3 من الامتعة والذخائر والأسباب والأثاث إلى النعم والكراع4 إلى غير ذلك. وكان من فعل هذا السلطان الموفق أن اطلق أيدي المسلمين على جميع ما اجتازته وسلم لهم ذلك فحتازت كل يد ما حوت وامتلأت غنى ويسارا وعفى الجيش على رسوم تلك الجهات التي مر عليها من بلاد الفرنج وآبوا غانمين فائزين بالسلامة والغنيمة والإياب وتخلصوا من أسرى المسلمين عددا كثيرا وكانت غزوة لم يسمع يمثلها في البلاد. وخرجنا نحن من دمشق وأوائل المسلمين قد طرقوا بالغنائم كل بما احتواه وحصلت يده عليه وكان مبلغ السبي الافا لم تتحقق احصاءها ولحق السلطان

_ 1 التحليق: السير في طريق دائري. 2 اهتبل: اغتنم. 3 اكتفت: أخذ. 4 الكراع: الخيل والبغال والحمير.

بدمشق يوم السبت بعدنا الأقرب ليوم انفصالنا وأعملنا إنه يجم عسكره قليلا ويعود إلى الحصن المذكور فالله يعينه ويفتح عليه بعزته وقدرته. وخرجنا نحن إلى بلاد الفرنج وسبيهم يدخل بلاد المسلمين وناهيك من هذا الاعتدال في السياسة فكان مبيتنا ليلة الجمعة بدارية وهي قرية من دمشق على مقدار فرسخ ونصف ثم رحلنا منها سحر يوم الجمعة بعده إلى قربة تعرف ببيت جن هي بين جبال، ثم رحلنا منها صبيحة يوم السبت إلى مدينة بانياس واعترضنا في نصف الطريق شجرة بلوط عظيمة الجرم متسعة التدويح1 أعلمنا أنها تعرف بشجرة الميزان فسألنا عن ذلك فقيل لنا هي حد بين الأمن والخوف في هذه الطريق لحرامية2 الإفرنج وهم الحواسة3 والقطاع من أخذوه وراءها إلى جهة بلاد المسلمين ولو بباع أو شبر أسر ومن أخذ دونها إلى جهة بلاد الإفرنج بقدر ذلك أطلق سبيله لهم في ذلك عهد يوفون به وهومن أظرف الاتباطات الإفرنج ية وأرغبها.

_ 1 التدويح: مأخوذ من الدوحة، الشجرة العظيمة المتسة. 2 الحرامية: اللصوص، وهي لفظة عامية. 3 الحواسة: لعله استعملها جمعا لحؤوس وهو الشجاع الكثير القتل.

ذكر مدينة بانياس حماها الله تعالى

ذكر مدينة بانياس حماها الله تعالى هذه المدينة ثغر بلاد المسلمين وهي صغيرة ولها قلعة يستدير بها تحت السور نهر ويفضى إلى أحد أبواب المدينة وله مصب تحت إرجاء وكانت بيد الإفرنج فاسترجعها نور الدين رحمه الله. ولها محرث واسع في بطحاء متصلة يشرف عليها حصن للافرنج يسمى هونين بينه وبين بانياس مقدار ثلاثة فراسخ وعمالة تلك البطحاء بين الإفرنج وبين المسلمين لهم في ذلك حد يعرف بحد المقاسمة فهم يتشاطرون الغلة على استواء ومواشيهم مختلطة ولا

حيف يجرى بينهم فيها. فرحلنا عنها عشي يوم السبت المذكور إلى قرية تعرف بالمسية بمقربة من حصن الإفرنج المذكور فكان مبيتنا بها ثم رحلنا منها يوم الأحد سحرا واجتزنا في طريقنا بين هونين وتبنين بواد ملتف الشجر وأكثر شجرة الرند بعيدالعمق كأنه الخندق السحيق المهوي تلتقى حافتاه ويتعلق بالسماء أعلاه يعرف بالاسطيل لو ولجته العساكر لغابت فيه لا منجي ولا مجال لسالكه عن يد الطالب فيه المهبط إليه والمطلع عنه عقبتان كؤودان، فعجبنا من أمر ذلك المكان فاجزناه ومشينا عنه يسيرا وانتهينا إلى حصن كبير من حصون الإفرنج يعرف بتبنين وهو موضع تعكيس القوافل وصاحبته خنزيرة تعرف بالملكة هي أم الملك الخنزير صاحب عكة دمرها الله، فكان مبيتنا أسفل ذلك الصحن ومكس الناس تمكيسا غير مستقصى والضريبة فيه دينار وقيراط من الدنانير الصورية على الراس ولا اعتراض على التجار فيه لأنهم يقصدون موضع الملك الملعون وهو محل التعشير والضريبة فيه قيراط من الدينار والدينار أربعة وعشرون قيراطا. وأكثر المعترضين في هذا المكس المغاربة ولا اعتراض على غيرهم من جميع بلادالمسلمين وذلك لمقدمة منهم احفظت الإفرنج عليهم سببها أن طائفة من أنجادهم عزت مع نور الدين رحمه الله أحد الحصون فكان لهم في أخذه عنى ظهر واشتهر فجازاهم الإفرنج بهذه الضريبة المكسية ألزموها رؤوسهم فكل مغربي يزن على رأسه الدينار المذكور في اختلافه على بلادهم. وقا الإفرنج: إن هؤلاء المغاربة كانوا يختلفون على بلادنا ونسالمهم ولا نرزأهم شيئا فلما تعرضوا لحربنا وتالبوا مع إخوانهم المسلمين علينا وجب أن نضع هذه الضريبة عليهم فللمغاربة في أداء هذا المكس سبب من الذكر الجميل في نكايتهم العدو يسهله عليهم ويخفف عنته عنهم. ورحلنا من تبنين دمرها الله سحر يوم الإثنين وطريقنا كله على ضياع متصلة وعمائر منتظمة سكانها كلها مسلمون وهم مع الإفرنج على

حالة ترفيه نعوذ بالله من الفتنة وذلك أنهم يؤدون لهم نصف الغلة عند أوان ضمها وجزية على كل رأس دينار وخمسة قراريط ولا يعترضونهم في غير ذلك ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدونها أيضا ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم. وكل ما بأيدي الإفرنج من المدن بساحل الشام على هذه السبيل رساتيقهم كلها للمسلمين وهي القرى والضياع وقد أشربت الفتنة قلوب أكثرهم لما يبصرون عليه إخوانهم من أهل رساتيق المسلمين وعمالهم لأنهم على ضد أحوالهم من الترفيه والرفق وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين: أن يشتكى الصنف الإسلامي جور صنفه المالك له ويحمد سية ضده وعدوه المالك له من الإفرنج ويأنس معدله فإلى الله المشتكى من هذه الحال وحسبنا تعزية وتسلية ما جاء في الكتاب العزيز: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ1} . فنزلنا يوم الإثنين المذكور بضيعة من ضياع عكة على مقدار فرسخ ورئيسها الناظر فيها من المسلمين مقدم من جهة الإفرنج على من فيها من عمارها من المسلمين فأضاف جميع أهل القافلة ضيافة حفيلة واحضرهم صغيرا وكبيرا في غرفة متسعة بمنزلة وأنالهم ألوانا من الطعام قدمها لهم فعمهم بتكرمته. وكنا فيمن حضر هذه الدعوة. وبتنا تلك الليلة وصبحنا يوم الثلاثاء العاشر من الشهر المذكور وهو الثامن عشر لشتنبر مدينة عكة دمرها الله وحملنا إلى الديوان وهو خان معد لنزول القافلة وأمام بابه مصاطب مفروشة فيها كتاب الديوان من النصارى بمحابر الآبنوس المذهبة الحلى وهم يكتبون بالعربية ويتكلمون بها ورئيسهم صاحب الديوان والضامن له يعرف بلاصاحب لقب وقع عليه لمكإنه من الخطة وهم يعرفون به كل محتشم متعين عندهم من عير الجند وكل ما يجبى

_ 1 سورة الأعراف، الآية 155.

عندهم راجع إلى الضمان وضمان هذا الديوان بمال عظيم. فأنزل التجار رحالهم به ونزلوا في أعلاه وطلب رحل من لا سلعة له لئلا يحتوى على سلعة مخبوءة فيه واطلق سبيله فنزل حيث شاء وكل ذلك برفق وتؤدة دون تعنيف ولا حمل فنزلنا بها في بيت اكتريناه من نصرانية بإزاء البحر وسالنا الله تعالى حسن الخلاص وتيسير السلامة.

ذكر مدينة عكة دمرها الله وأعادها

ذكر مدينة عكة دمرها الله وأعادها هي قاعدة مدن الإفرنج بالشام ومحط الجواري المنشآت في البحر كالأعلام1 مرقأ كل سفينة والمشبهة في عظمها بالقسطنطينة مجتمع السفن والرفاق ومتلقى تجار المسلمين والنصارى من جميع الافاق سككها وشوراعها تغص بالزحام وتضيق فيها مواطئ الأقدام تستعر كفرا وطغيانا وتفور خنازير وصلبانا زفرة قذرة مملوءة كلها رجسا وعذرة. انتزعها الإفرنج من أيدي المسلمين في العشر الأول من المائة السادسة فبكى لها الإسلام ملء جفوته كانت أحد شجونه فعادت مساجدها كنائس وصوامعها مضارب للنواقس وطهر الله من مسجدها الجامع بقعة بقيت بأيدي المسلمين مسجدا صغيرا يجتمع الغرباء منهم فيه لاقامة فريضة الصلاة وعند محرابه قبر صالح النبي صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء فحرس الله هذه البقعة من رجس الكفرة ببركة هذا القبر المقدس. وفي شرقي البلدة العين المعروفة بعين البقر وهي التي أخرج الله منها البقر لادم صلى الله عليه وسلم والمهبط لهذه العين على ادراج وطية وعليها مسجد بقي محرابه على حاله ووضع الإفرنج في شرقيه محرابا لهم فالمسلم

_ 1 انظر سورة الرحمن، الآية 24.

والكافر يجتمعان فهي يستقبل هذا مصلاه وهذا مصلاه وهو بأيدي النصارى معظم محفوظ وأبقى الله فيه موضع الصلاة للمسلمين. فكان مقامنا بها يومين ثم توجهنا إلى صور يوم الخميس الثاني عشر لجمادي المذكورة والموفى عشرين لشتبر المذكور على البر واجتزنا في طريقنا على حصن كبير يعرف بالزاب وهي مظلة على قرى وعمائر متصلة وعلى قرية مسورة تعرف باسكندرونة وذلك لمطالعة مركب بها اعملنا إنه يتوجه إلى بجاية طمعا في الركوب فيه فحللناها عشي يوم الخميس المذكور لأن المسافة بين المدينتين نحو الثلاثين ميلا فنزلنا بها في خان معد لنزول المسلمين.

ذكر مدينة صور دمرها الله تعالى

ذكر مدينة صور دمرها الله تعالى مدينة يضرب بها المثل في الحصانة لا تلقى لطالبها بيد طاعة ولا استكانة قد اعدها الإفرنج مفزعا لحادثة زمانهم وجعلوها مثابة لامانهم هي انظف من عكة سككا وشوارع وأهلها الين في الكفر طبائع واجرى إلى بر غرباء المسلمين شمائل ومنازع فخلائقهم أسجح1 ومنازلهم أوسع وأفسح وأحوال المسلمين بها أهون وأسكن وعكة أكبر وأطغى وأكفر. وأما حصانتها وضعتها فاعجب ما يحدث به وذلك أنها راجعة إلى بابين أحدهما في البر والآخر في البحر وهو يحيط بها إلا من جهة وإحدى فالذي في البر يفضى إليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة كلها في ستائر2 مشيدة محيطة بالباب، وأما الذي في البحر فهو مدخل بين برجين مشيدين إلى ميناء ليس في البلاد البحرية أعجب وضعا منها يحيط بها سور المدينة من ثلاثة جوانب ويحدق بها من الجانب الآخر جدار معقود بالجص فالسفن تدخل تحت السور

_ 1 أسجح: ألطف. 2 ستائر: حيطان.

وترسو فيها وتعترض بين البرجين المذكورين سلسلة عظيمة تمنع عند اعتراضها الداخل والخارج فلا مجال للمراكب إلا عند إزالتها وعلى ذلك الباب حراس وأمناء لا يدخل الداخل ولا يخرج الخارج إلا على أعينهم، فشأن هذه الميناء شأن عجيب في حسن الوضع ولعكة مثلها في الوضع والصفة لكنها لا تحمل السفن الكبار حمل تلك وإنما ترسى خارجها والمراكب الصغار تدخل إليها فالصورية أكمل وأجمل وأحفل. فكان مقامنا بها أحد عشر يوما دخلناها يوم الخميس وخرجنا منها يوم الأحد الثاني والعشرين لجمادي المذكورة وهو آخر يوم من شتنبر وذلك أن المركب الذي كنا املنا الركوب فيه استصغرناه فلم نر الركوب فيه.

عرس إفرنجي في صور

عرس إفرنجي في صور ومن مشاهد زخارف الدنيا المحدث بها زفاف عروس شاهدناه بصور في أحد الأيام عند مينائها وقد احتفل لذلك جميع النصارى رجالا ونساء واصطفوا سماطين عند باب العروس المهداة والبوقات تضرب والمزامير وجميع الآلات اللهوية حتى خرجت تتهادى بين رجلين يمسكانها من يمين وشمال كأنهما من ذوي أرحامها، وهي في أبهى زي وأفخر لباس تسحب أذيال الحرير المذهب سحبا عل الهيئة المعهودة من لباسهم وعلى رأسها عصابة ذهب قد حفت بشبكة ذهب منسوجة وعلى لبتها مثل ذلك منتظم وهي رافلة في حليها وحللها تمشى فترا في فتر مشي الحمامة أو سير الغمامة نعوذ بالله من فتنة المناظر وأمامها جلة رجالها من النصارى في أفخر ملابسهم البهية تسحب أذيالها خلفهم ووراءها أكفاؤها ونظراؤها من النصرانيات يتهادين في أنفس الملابس ويرفلن في أرفل الحلى والآلات اللهوية قد تقدمتهم، والمسلمون وسائر النصارى من النظار قد عادوا في طريقهم سماطين

يتطلعون فيهم ولا ينكرون عليهم ذلك فساروا بها حتى أدخلوها دار بعلها وأقاموا يومهم ذلك في وليمة فأدانا الاتفاق إلى رؤية هذا المنظر الزخرفي المستعاذ بالله من الفتنة فيه.

مسلمو عكة

مسلمو عكة ثم عدنا إلى عكة في البحر وحللناها صبيحة يوم الإثنين الثالث والعشرين من جمادي المذكورة وأول يوم من شهر أكتوبر 1 واكترينا في مركب كير نروم الاقلاع إلى مسينة من بلاد جزيرة صقلية والله تعالى كفيل بالتيسير والتسهيل بعزته وقدرته. وكانت راحتنا مدة مقامنا بصور بمسجد بقى بأيدي المسلمين. ولهم فيها مساجد أخر فأعلمنا به أحد أشياخ أهل صور من المسلمين أنها أخذت منهم سنة ثمان عشرة وخمسمائة وأخذت عكة قبلها باثنتي عشرة سنة بعد محاصرة طويلة وبعد استيلاء المسغبة2 عليهم ذكر لنا أنهم انتهوا منها لحال نعوذ بالله منها وأنهم حملتهم الأنفة على أن هموا بركوب خطة عصمهم الله منها, وذلك أنهم عزموا على أن يجمعوا أهاليهم وأبناءهم في المسجد الجامع ويحملوا السيف عليهم غيرة من تملك النصارى لهم ثم يخرجوا إلى عدوهم بعزمة نافذة ويصدموهم صدمة صادقة حتى يموتوا على دم واحد ويقضي الله قضاءه فمنعهم من ذلك فقهاؤهم والمتورعون منهم وأجمعوا على دفع البلد والخروج منه بسلام فكان ذلك وتفرقوا في بلاد المسلمين. ومنهم من استهواه حب الوطن فدعاه إلى الرجوع والسكنى بينهم بعد أمان كتب لهم في ذلك بشروط اشترطوها والله غالب على أمره سبحانه جلت قدرته ونفذت في البرية مشيئته، وليست له عند الله معذرة في حلول بلدة من بلاد الكفر إلا مجتازا وهو يجد ندوحة في بلاد المسلمين لمشقات وأهوال يعانيها في

_ 1 أكتوبر: تشرين الأول. 2 المسغبة: الجوع.

بلادهم منها الذلة والمسكنة الذمية ومنها سماع ما يفجع الأفئدة من ذكر من قدس الله ذكره وأعلى خطره لا سيما من أراذلهم وأسافلهم ومنها عدم الطهارة والتصرف بين الخنازير وجميع المحرمات إلى غير ذلك مما لا ينحصر ذكره ولا تعداده، فالحذر الحذر من دخول بلادهم والله تعالى المسئول حسن الإقالة والمغفرة من هذه الخطيئة التي زلت فيها القدم ولم تتداركها إلا بعد موافقة الندم فهو سبحانه ولى ذلك لا رب غيره.

أسرى المسلمين

أسرى المسلمين ومن الفجائع التي يعاينها من حل بلادهم أسرى المسلمين يرسفون في القيود ويصرفون في الخدمة الشاقة تصريف العبيد والأسيرات المسلمات كذلك في أسوقهن خلاخيل الحديد فتنفطر لهم الأفئدة ولا يغني الإشفاق عنهم شيئا. ومن جميل صنع الله تعالى لأسرى المغاربة بهذه البلاد الشامية الإفرنجية أن كل من يخرج من ماله وصية من المسلمين بهذه الجهات الشامية وسواها إنما يعينها في افتكاك المغاربة خاصة لبعدهم عن بلادهم وانهم لا مخلص لهم سوى ذلك بعد الله عز وجل فهم الغرباء المنقطعون عن بلادهم فملوك أهل هذه الجهات من المسلمين والخواتين من النساء وأهل اليسار والثراء إنما ينفقون أموالهم في هذه السبيل. وقد كان نور الدين رحمه الله نذر في مرضة أصابته تفريق اثني عشر ألف دينار في فداء أسرى من المغاربة فلما استبل من مرضه أرسل في فدائهم فسيق فيهم نفر ليسوا من المغاربة وكانوا من حماة من جملة عمالته فأمر بصرفهم وإخراج عوض منهم من المغاربة وقال: هؤلاء يفتكهم أهلوهم وجيرانهم والمغاربة غرباء لا أهل لهم فانظر إلى لطيف صنع الله تعالى لهذا الصنف المغربي.

وقيض الله لهم بدمشق رجلين من مياسر التجار وكبرائهم وأغنيائهم المنغمسين في الثراء أحدهما يعرف بنصر بن قوام، والثاني بأبي الدر ياقوت مولى العطافي وتجارتهما كلها بهذا الساحل الإفرنجي ولا ذكر فيه لسواهما ولهما الأمناء من المقارضين فالقوافل صادرة وواردة ببضائعهما وشأنها في الغنى كبير وقدرهما عند أمراء المسلمين والإفرنجيين خطير وقد نصبهما الله عز وجل لافتكاك الأسرى المغربيين بأموالهما وأموال ذوي الوصايا لأنهما المقصودان بها لما قد اشتهر من امانتهما وثقتهما وبذلهما أموالهما في هذه السبيل فلا يكاد مغربي يخلص من الأسر إلا على أيديهما فهما طول الدهر بهذه السبيل بنفقان أموالهما ويبذلان اجتهادها في تخليص عباد الله المسلمين من أيدي أعداء الله الكافرين والله تعالى لايضيع أجر المحسنين.

سوء الاتفاق

سوء الاتفاق من سوء الاتفاقات المستعاذ بالله من شرها أنه صحبنا في طريقنا إلى عكة من دمشق رجل مغربي من بونة عمل بجاية كان أسيرا فتخلص على يدي أبي الدر المذكور وبقى في جملة صبيإنه فوصل في قافلته إلى عكة وكان قد صحب النصارى وتخلق بكثير من أخلاقهم فما زال الشيطان يستهويه ويغريه إلى أن نبذ دين الإسلام فكفر وتنصر مدة مقامنا بصور. فانصرفنا إلى عكة وأعلمنا بخبره وهو بها قد بطس1 ورجس وقد عقد الزنار واستعجل النار وحقت عليه كلمة العذاب وتأهب لسوء الحساب وسحيق المآب، نسال الله عز وجل أن يثبتنا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة ولا يعدل بنا عن الملة الحنيفية وأن يتوفانا مسلمين بفضله ورحمته.

_ 1 بطس: عمد، معربة عن الإسبانية.

وهذا الخنزير صاحب عكة المسمى عندهم بالملك محجوب لا يظهر قد ابتلاه الله بالجذام فعجل له سوء الانتقام قد شغلته بلواه في صباه عن نعيم دنياه فهو فيها يشقى ولعذاب الآخرة أشد وأبقى وحاجبه وصاحب الحال عوضه خاله القومس1 وهو صاحب المجبى وإليه ترتفع الأموال، والمشرف على الجميع بالمكانة والوجاهة وكبر الشان في الإفرنج ية اللعينة القومس اللعين صاحب طرابلس وطبرية وهو ذو قدر ومنزلة عند الإفرنج وهو المؤهل للملك والمرشح له وهو موصوف بالدهاء والمكر وكان اسيرا عند نور الدين نحو اثنتي عشرة سنة أو أزيد ثم تخلص بمال عظيم بذله في نفسه مدة صلاح الدين وعند أول ولايته وهو معترف لصلاحا لدين بالعبودية والعتق. وعلى بادية طبرية اختلاف القوافل من دمشق لسهولة طريقها ويقصد بقوافل البغال على تبنين لوعورتها وقصد طريقها وبحيرة طبرية مشهورة وهي ماء عذب وسمعتها نحو ثلاثة فراسخ أو أربعة وطولها نحو ستة فراسخ والاقوال فيها تختلف وهذا القول أقربها إلى الصحة لأنا لم نعاينها وعرضها أيضا مختلف سعة وضيقا. وفيها قبور كثيرة من قبور الأنبياء صلوات الله عليهم كشعيب وسليمان ويهودا وروبيل وابنة شعيب زوج الكليم موسى وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجبل الطور منها قريب. وبين عكة وبيت المقدس ثلاثة أيام وبين دمشق وبينه مقدار ثمانية أيام وهو بين المغرب والقبلة من عكة إلى جهة الإسكندرية والله يعيده إلى أيدي المسلمين ويطهره من أيدي المشركين بعزته وقدرته.

_ 1 القومس: مأخوذة عن الإسبانية قوميز: الكونت.

عكة وصور

عكة وصور وهاتان المدينتان عكة وصور لا بساتين حولهما وإنما هما في بسيط من الأرض أفيح متصل بسيف البحر والفواكه تجلب اليهما من بساتينهما التي بالقرب منهما ولهما، عمالة متسعة والجبال التي تقرب منهما معمورة بالضياع ومنها تجبى الثمرات اليهما وهما من غر البلاد. ولعكة في الشرق منها مع آخر البلد واد يسيل ماء ولها من شاطئه مما يتصل بالبحر بسيط رمل لم ير أجمل منه منظرا ولا ميدان للخيل يشبهه وإليه ركوب صاحب البلد كل بكرة وعشية وبه يجتمع العسكر دمره الله. ولصور عند بابها البري عين معينة ينحدر إليها على أدراج والآبار والجباب بها كثيرة لاتخلو دار منها والله تعالى يعيد إليها وإلى أخواتها كلمة الإسلام بمنه وكرمه.

في المركب الشراعي

في المركب الشراعي وفي يوم السبت الثامن والعشرين لجمادي المذكورة والسادس لأكتوبر صعدنا إلى المركب وهو سفينة من السفن الكبار بمنة الله تعالى على المسلمين بالماء والزاد وحاز المسلمون مواضعهم بانفراد عن الإفرنج وصعده من النصارى المعروفين بالبلغريين1 وهم حجاج بيت المقدس عالم لا يحصى ينتهي إلى أزيد من ألفي إنسان أراح الله من صحبتهم بعاجل السلامة ومأمول التسهيل والصنع الجميل بمنه وكرمه لا معبود سواه ونحن به منتظرون موافقة الريح وكمال الوسق بمشيئة الله عز وجل.

_ 1 لفظة إسبانية معناها الحجاج أو الزوار.

شهر رجب الفرد عرفنا الله بركته ويمنه

شهر رجب الفرد عرفنا الله بركته ويمنه استهل هلاله ليلة الثلاثاء بموافقة التاسع لشهر أكتوبر ونحن على ظهر المركب بمرسى عكة منتظرون كمال وسقه والاقلاع بسم الله تعالى وبركته وجميل صنعه وكريم مشيئته وتمادى مقامنا فيه مدة اثني عشر يوما لعدم استقامة الريح. وفي مهب الريح بهذه الجهات سر عجيب وذلك أن الريح الشرقية لا تهب فيها إلا في فصلى الربيع والخريف والسفر لا يكون إلا فيهما والتجار لا ينزلون إلى عكة البضائع إلا في هذين الفصلين والسفر في الفصل الربيعي من نصف ابريل وفيه تتحرك الريح الشرقية وتطول مدتها إلى آخر شهر ماية وأكثر وأقل بحسب ما يقضى الله تعالى به. والسفر في الفصل الخريفي من نصف أكتوبر وفيه تتحرك الريح الشرقية ومدتها اقصر من المدة الربيعية وإنما هي عندهم خلسة من الزمان قد تكون خمسة عشر يوما وأكثر وأقل وما سوى ذلك من الزمان فالرياح فيه تختلف والريح الغربية أكثرها دوأما فالمسافرون إلى المغرب والى صقلية والى بلادالروم ينتظرون هذه الريح الشرقية في هذين الفصلين انتظار وعد صادق فسبحان المبدع في حكمته المعجز في قدرته لا إله سواه. وكنا طول هذه المدة التي اقمنا فيها على ظهر المركب نبيت في البر وتتفقدالمركب في الأحيان فلما كان سحر يوم الخميس العاشر لرجب المذكور والثامن عشر لأكتوبر أقلع المركب وكنا على عادتنا في البر بائتين ولم يحسن النهار للروم بأهبة السفر فضيعنا الحزم ونسينا المثل المضروب في اعداد الماء والزاد والا يفارق الإنسان رحله فأصبحنا والمركب لا عين له ولا أثر، فاكترينا للحين زورقا كبيرا له أربعة مجاذيف وأقلعنا نتبعه وكانت مخاطرة عصم الله منها فأدركنا المركب مع العشى فحمدنا الله عز وجل على ما من به،

وكان أول ذلك اليوم يوم شدتنا في هذا السفر الطويل وآخره والحمد لله يوم فرجنا ولله الحمد والشكر على كل حال. واتصل جرينا والريح الموافقة تأخذ وتدع نحو خمسة أيام ثم هبت علينا الريح الغربية من مكمنها دافعة في وجه المركب فأخذ رئيسه ومدبره الرومي الجنوي وكان بصيرا بصنعته حاذقا في شغل الرياسة البحرية يراوغها تارة يمينا وتارة شمالا طمعا إلا يرجع على عقبه والبحر في أثناء ذلك رهو1 ساكن فلما كان نصف الليل أو قريب منه ليلة السبت التاسع عشر لرجب المذكور والسابع والعشرين لأكتوبر تردت علينا الريح الغربية فقصفت قرية2 الصاري المعروف بالأردمون وألقت نصفها في البحر مع ما اتصل بها من الشراع وعصم الله من وقوعها من المركب لأنها كانت تشبه الصواري عظما وضخامة، فتبادر البحريون إليها وحط شراع الصاري الكبير وعطل المركب من جريه وصيح بالبحريين الملازمين للعشاري3 المرتبط بالمركب فقصدوا إلى نصف الخشبة الواقعة في البحر وخرجوها مع الشراع المرتبط بها وحصلنا في أمر لا يعلمه إلا الله تعالى وشرعوا في رفع الشراع الكبير وأقاموا في الأردمون شراعا يعرف بالدلون4، وبتنا بليلة شهباء إلى أن وضح الصباح وقد من الله عز وجل بالسلامة. وشرع البحريون في إصلاح قرية أخرى من خشبة كانت معدة عندهم والريح الغربية على أول لجاجها ونحن بين اليأس والرجاء تتردد مغلبين حسن الثقة بجميل صنع الله تعالى وحفى لطفه ومعهود فضله سبحانه هو أهل ذلك جلت قدرته وتناهت عظمته لا إله سواه.

_ 1 رهو: ساكن. 2 القرية: عود الشراع الذي يجعل في عرضه من أعلاه. 3 العشاري: زورق النجاة. 4 الدلون: شراع صغير.

وفي يوم الأربعاء الثالث والعشرين منه تحركت الريح الشرقية نسيما فاترا عليلا فاستبشرت النفوس بها رجاء في نمائها وقوتها فكانت نفسا خافتا ثم بعد ذلك غشى البحر ضببا رقيق سكنت له أمواجه فعاد كأنه صرح ممرد من قوارير1 ولم يبق للجهات الأربع نفس يتنسم فبقينا لاعبين على صحفة ماء تخاله العين سبيكة لجين كأنا نجول بين مساءين وهذا الهواء الذي يسميه البحريون الغليني2. وفي ليلة الخميس الرابع والعشرين لرجب المذكور وهو أول يوم من نونبر3 العجمي كان للنصارى عيد مذكور عندهم احتلفوا له في إسراج الشمع وكاد لا يخلو أحد منهم صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى من شمعة في يده وتقدم فسيسوهم للصلاة في المركب بهم ثم قاموا واحدا واحدا لوعظمهم وتذكيرهم بشرائع دينهم والمركب يزهر كله أعلاه وأسفله سرجا متقدة، وتمادينا على تلك الحالة أكثر تلك الليلة ثم أصبحنا بمثل ذلك الهواء الساكن واتصل بنا ذلك إلى ليلة الأحد السابع والعشرين منه فتحركت ريح شمالية فعاد المركب بها لجريته واستبشرت النفوس والحمد لله.

_ 1 سورة النمل، الآية 44. والممرد: المصقول. 2 الغليني: الهواء الساكن. معربة. 3 نونبر: تشرين الثاني.

شهر شعبان المكرم عرفنا الله خيره وبركته

شهر شعبان المكرم عرفنا الله خيره وبركته غم هلاله علينا فأكملنا عدة أيام رجب فهو على الكمال من ليلة الخميس بموافقة الثامن من نونبر وقد تم لنا على ظهر البحر من يوم إقلاعنا من عكة اثنان وعشرين يوما حتى عدمنا الأنس واستشعرنا القنط واليأس وصنع الله عز وجل مأمول ولطفه الخفي بنا كفيل بمنه وكرمه. وقل الزاد بأيدي الناس لكن هم من هذا المركب بمنة الله في مدينة جامعة

للمرافق فكل ما يحتاج شراؤه يوجد من خبز وماء ومن جميع الفواكه والأدم كالرمان والسفرجل والبطيخ السندي والكمثرى والشاه بلوط والجوز والحمص والباقلاء نيا ومطبوخا والبصل والثوم والتين والجبن والحوت وغير ذلك مما يطول ذكره عاينا جميع ذلك يباع وفي خلال هذه الأيام كله لم يظهر لنا بر والله يأتي بالفرج القريب. ومات فيه رجلان من المسلمين رحمهما الله فقذفا في البحر ومن البلغريين اثنان أيضا ومات منهم بعد ذلك خلق وسقط منهم واحد في البحر حيا فاحتملته الموج أسرع من خطفه البارق وورث هؤلاء الاموات من المسلمين والنصارى البلغريين رئيس المركب لأنها سنة عندهم في كل من يموت في البحر ولا سبيل لوارث الميت إلى ميراثه فطال عجبنا من ذلك. وفي سحر يو م الثلاثاء السادس من الشهر المؤرخ والثالث عشر من نونتبر ظهرت لنا جبال في البحر وقدا شتدت الريح الغربية وتوالى إعصارها وكانت تتقلب بالقبول والدبور فالجأتنا إلى أحد تلك الجبال فأرسينا عنده وسألنا عن الموضع فأعلمنا إنه من جزائر الرمانية وهذه الجزائر نيف على الثلاثمائة وخمسين جزيرة وهي إلى عمل صاحب القسطنطينية والروم يحذرون أهلها كحذر المسمين لأنهم لا صلح بينهم، فأقمنا بذلك المرسى يوم الثلاثاء المذكور وصدر يوم الأربعاء بعده ونزل من تلك الجزيرة قوم بايعوا أهل المركب بعض ساعة من النهار في الخبز واللحم بعد أمان أخذوه. ثم أقعلنا يوم الأربعاء المذكور وقد تم لنا على ظهر المركب ثمانية وعشرون يوما، وظهر لنا يوم الخميس بعده بر جزيرة أقريطش وهذه الجزيرة أيضا لعمل صاحب القسطنطينية وطولها نيف على الثلثمائة ميل وقد تقدم ذكرها في سفرنا البحري إلى الإسكندرية فبقينا نجرى بطولها وهي منا على اليمين والبحر في أثناء ذلك كله مائل والريح لا توافق ونحن ننتظر الفرج من الله عز وجل بصبر جميل ونرتقب منه جل جلاله معهود التسير والتسهيل بمنه ولطفه.

ثورة الريح الشمالية

ثورة الريح الشمالية وفي يوم السبت العاشر لشبعان المذكور والسابع عشر لنونبر انقطع عنا بر الجزيرة المذكورة ونحن نجري بريح شمالية موافقة فذئرت1 وعصفت فطار لها المركب بجناحي شراعه والبحر بها قد جن واشترى لجاجه وقذفت بالزبد امواجه فتخال غواربه المتموجة جبالا مثلجة ومع تلك استشعرت النفوس الأنس وغلب رجاؤها اليأس، وقد كنا مدة الستة وعشرين يوما المذكورة التي لم يظهر لنا فيها بر برجم الظنون ونغازل المنون حذرا من نفاد الزاد والماء والحصول بين المهلكين الجوع والظماء فمن قائل يقول: إنا قد ملنا في جرينا إلى بر الغرب وهو بر إفريقية وآخر يزعم: أنا قد ملنا إلى بر الأرض الكبيرة بر القسطنيطينة وما يليها ومنهم من يقول: إلى اللاذقية جهة الشام ومنهم من يقول: إلى دمياط بر الإسكندرية. وكنا نحذر أن تلجئنا الريح إلى أحد جزائر الرمانية الخالية فنشتو فيها أو تضطرنا الحال إلى المعمور منها وليس في هذه الوجوه المتوقعة كلها وجه فيه حظ لمختار حتى أتى الله بالفرج وأذهب الباس والياس ومكن في النفوس الإيناس بعد مكابدة الأمرين ومقاساة البرحين فلله در القائل: البحر مر المذاق صعب ... لا جعلت حاجتي إليه اليس ماء ونحن طين ... فما عسى صبرنا عليه ونحن الآن بفضل الله تعالى نتطلع البشري بظهور بر صقلية إن شاء الله.

_ 1 ذئرت: غضبت، يريد هاجت.

الرياح العاصفة الغربية

الرياح العاصفة الغربية وفي النصف من ليلة الأحد الحادي عشر منه انقلبت الريح غربية وكشف النوء من المغرب وجاءت الريح عاصفة فأخذت بنا جهة الشمال وأصبحنا يوم الأحد المذكور والهول يزيد والبحر قد هاج هائجه وماج مائجه فرمى بموج كالجبال يصطدم المركب صدمات يتقلب لها على عظمه تقلب الغصن الرطيب وكان كالسور علوا فيرتفع له الموجا رتفاعا يرمى في وسطه بشآبيب كالوابل المنسكب. فلما جن الليل اشتد تلاطمه وصكت الأذان غماغمه واستشرى عصوف الريح فحطت الشرع واقتصر على الدلالين الصغار دون انصاف الصواري ووقع اليأس من الدنيا ووعنا الحياة بسلام وجاءنا الموج من كل مكان وظننا أنا قد احيط بنا فيا لها ليلة يشيب لها سودالذوائب مذكورة في ليالي الشوائب مقدمة في تعاد الحدواث والنوائب! ونحن منها في مثل ليل صول طولا1 فأصبحنا ولم نكد فكان من الاتفاقات الموحشة أن أبصرنا بر اقريطش عن يسارنا وجباله قد قامت أمامنا وكنا قد خلفناه عن يميننا فأسقطتنا الريح عن مجرانا ونحن نظن أنا قد جزناه فسقط في أيدينا وخالفنا المجرى المعهود الميمون وهو أن يكون البر المذكور منا يمينا في استقبال صقلية. فاستسلمنا للقدر وتجرعنا غصص هذا الكدر وقلنا: سيكون الذي قضى ... سخط العبد أو رضى وفي أثناء ذلك انبسطت الشمس ولان البحر قليلا وصممنا نروم أخذ مرسى في البر المذكور إلى أن يقضى الله قصاءه وينفذ حكمه ولكل سفر

_ 1 مثل منتزع من قول حندج المري، الذي رواه ياقوت في مادة صول: في ليل صول تناهى العرض والطول ... كأنما صبحه في الليل موصول وصول بلد.

أوان وسفر البحر إنما هو في ابإنه والمعهود من زمإنه لا أن يعتسف في فصول أشهر الشتاء اعتسافنا له والأمر لله من قبل ومن بعد فالحذر الحذر من ركوب مثل هذا الخطر وان كان المحذور لا يغنى عن المقدور شيئا وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم إن الريح ساعدت عند استقبالنا البر بعض مساعدة فانصرفنا عنه وتركناه يمينا وعدنا إلى قريب من المجرى المقصود وجرينا بعض ليلة الثلاثاء الثالث عشر منه وقد تم لنا على ظهر المركب أربعة وثلاثون يوما والشرع مصلبة1 وهو عندهم اعدل جرى لأنه لا يكون إلا بالريح التي تتلقى مؤخر المركب في مجراه، فأصبحنا يوم الثلاثاء المذكور على مثل تلك الحال وساعدت الريح ففرحنا وسررنا وطلعت علينا مراكب قاصدة مقصدنا فاستبشرنا بها وعلمنا أنا على مجرى مقصود ولله الحمد والشكر على كل حال من الأحوال. ثم انقلبت الريح غربية وهبت عاصفا فالجأتنا اضطرارا بعد أن جرت بنا بعض ليلة الأربعاء ويوم الأربعاء إلى مرسى من مراسى جزائر الرمانية وهو رأس الجزيرة ومنه إلى الأرض الكبيرة مجاز فيه الاثنا عشر ميلا فأصبحنا يوم الخميس الخامس عشر لشعبان المكرم والثاني والعشرين لنونبر فحمدنا الله عز وجل على ما من به من السلامة وتوافت بعدنا إلى ذلك المرسى خمسة مراكب منها اثنان كانا قد أقلعا من بر الإسكندرية عن عهد نحو خمسين يوما فأسقطتهما الريح، أقمنا بذلك المرسى أربعة أيام، وجدد الناس به الماء والزاد لأن العمارة كانت منا قريبا فنزل أهل الجيزرة وبايعوا أهل المركب في الخبز واللحم والزيت وما كان عندهم من الأدم. ولم يكن خبزهم برا خالصا إنما كان خليطا بالشعير وكان يضرب للسواد فتهافت الناس عليه على غلائه ولم يكن بالرخيص في سومه وشكروا لله على ما من به عليهم. وفي هذا المرسى كمل لنا على ظهر البحر أربعون يوما والحمد لله

_ 1 مصلبة: موضوعة على شكل صليب وهكذا تمتلئ بالريح.

على كل حال ومدة مقمنا بالمرسى لم يفتر عصوف الريح الغربية واعادت اشد ما يكون هبوبا فحمدنا الله تعالى على إن لم تأخذنا ونحن على ظهر البحر جارين والحمد لله على جميل صنعه. وأقلعنا من المرسى المذكور يوم الإثنين التاسع عشر لشعبان المذكور والسادس والشعرين لنوننبر بريح طيبة موافقة فاستبشرنا بها واستلطعنا جميل صنع الله عز وجل ولطف قضائه لا رب سواه وتمادى سيرنا إلى يوم الخميس الثاني والعشرين لشعبان والتاسع والعشرين لنونبر، ثم انقلبت الريح غربية وأنشأت سحابه فيها رعد قاصف وزجتها1 ريح عاصف وتقدمها برق خاطف فأرسلت حاصبا من البرد صبته علينا في المركب شآبيب متداركه فارتاعت له النفوس ثم أسرع انقشاعها وانجلى عن الأنفس ارتياعها وبتنا ليلة الجمعة مبيت وحشة وطالعنا اليأس من مكمنه فلما أسفر الصبح وطلع النهار أبصرنا بر صقلية لائحا أمامنا. فيا لها بشرى ومسرة لو لم يعد حسرة في كرة! فأمسينا ليلة السبت وهو أول يوم من دجنبر2 ونحن على إدراكه في أقل من ثلثها أو منتصفها ولكل أجل كتاب وميقات وكم أمل تعترض دونه الآفات فما كان إلا كلا ولا حتى ضربت في وجوهنا ريح أنكصتنا على الأعقاب وحالت بين الابصار والارتقاب وما زالت تعصف حتى كادت تنسف وتقصف فحطت الشرع عن صواريها واستسلمت النفوس لباريها وتركنا بين السفينة ومجريها، وتتابعت علينا عوأرض ديم حصلنا منها ومن الليل والبحر في ثلاث ظلم وعباب الموج تتوالى صدماته وتطفر الألباب رجفاته فنبذت نفوسنا كل أمنية وتأهبت للقاء المنية. وقطعنا هذه الليلة البهماء في مصادمة أهوال ومكابدة أوجال ومقاساة أحوال يا لها من أحوال! ثم أصبحنا يوم السبت ليوم عصب أخذ من

_ 1 زجتها: ساقتها. 2 دجنبر: كانون الأول.

هول ليلته بأوفر نصيب والأمواج والرياح تترامى بنا حيث شاءت وقد استسلمنا للقضاء وتمسكنا بأسباب الرجاء. ثم تداركنا صنع الله تعالى مع المساء ففترت الريح ولان متن البحر وأسفر وجه الجو. وأصبحنا يوم الأحد ثاني دجنبر والخامس والعشرين لشعبان وقد بدل لنا من الخوف الأمان وتطلعت الوجوه كأنها انتشرت من الأكفان وساعدت الريح بعض مساعدة. فعدنا نطلب من البر أثرا بعد عين ونرجم الظنون بين متى وأين والله عز وجل لطيف بعباده وكفيل بمعهود صنعه الجميل ومعتاده لا رب سواه.

شهر رمضان المعظم عرفنا الله البركة والقبول فيه بمنه وكرمه لا رب غيره

شهر رمضان المعظم عرفنا الله البركة والقبول فيه بمنه وكرمه لا رب غيره استهل هلاله ليلة الجمعة السابع لشهر دجنبر ونحن بإزاء الأرض الكبيرة على متن البحر مترددين وقد من الله علينا بريح شرقية فاترة المهب سرنا بها سيرا رويدا حتى وصلنا هذا الموضع من إزاء الأرض الكبيرة المذكورة وأبصرنا فيها ضياعا وعمارة كثيرة أعلمنا أنها من قلورية1 وهي من بلاد صاحب صقلية لأن بلاده في الأرض الكبيرة تتصل نحو شهرين. وبهذا الموضع نزل كثير من البلغريين فائزين بأنفسهم لمسغبة مست أهل المركب لعدم الزاد ونفاده وحسبك أنا كنا نقتصر على مقدار رطل من الخبز اليابس نتقسمه بين أربعة منا ونبله بيسير من الماء فنتبلغ به وكل من نزل من البلغريين باع فضلة زاده فترفق المسلمون بابتياع ما امكن منه على غلائه وانتهى إلى مقدار خبزة بدرهم من الخالص فما ظنك بمدة شهرين على ظهر البحر في مسافة ظن الناس أنهم يقطعونها في عشرة أيام أو خمسة عشر يوما الغاية فالحازم من أدخل زاد ثلاثين يوما وسائر الناس لعشرين يوما ولخمسة عشر يوما.

_ 1 قلورية: كلابريا.

ومن العجب في الاتفاقات في الأسفار البحرية أنا استطلعنا على ظهر البحر أهلة ثلاثة أشهر: هلال رجب وهلال شعبان وهلال رمضان هذا وفي يوم مستهله مع الصباح أبصرنا أمامنا جبل النار وهو جبل البركان المشهور بصقلية فاستبشرنا بذلك والله تعالى يعظم أجورنا على ما كابدناه ويختم لنا بأجمل الصنع وأسناه يوزعنا في كل حال شكر ما أولاه بمنه وكرمه. ثم حركتنا من ذلك الموضع ريح موافقة فلما كان عشي يوم السبت ثاني الشهر المذكور اشتد هبوبها فزجت المركب تزجيه سريعة فلم يكن إلا كلا ولا حتى أدتنا إلى أول المضيق والليل قد جن وهذا المضيق ينحصر فيه البحر إلى مقدار ستة أميال وأضيق موضع فيه ثلاثة أميال يعترض من بر الأرض الكبيرة إلى بر جزيرة صقلية والبحر بهذا المضيق ينصب انصباب السيل العرم ويغلى غليان المرجل لشدة انحصاره وانضغاطه وشقه صعب على المركب فاستمر مركبنا في سيره والريح الجنوبية تسوقه سوقا عنيفا وبر الأرض الكبيرة عن يمننا وبر صقلية عن يسارنا.

الإشراف على الغرق

الإشراف على الغرق فملا كان مع نصف ليلة الأحد الثالث للشهر المبارك وقد شارفنا مدينة مسينة من الجزيرة المذكورة دهمتنا زعقات البحريين بأن المركب قد أمالته الريح بقوتها إلى أحد البرين وهو ضارب فيه فأمر رئيسهم بحط الشرع للحين فلم ينحط شراع الصاري المعروف بالأردمون وعالجوه فلم يقدروا عليه لشدة ذهاب الريح به فلما أعياهم مزقه الرائس1 بالسكين قطعا قطعا طمعا في توقيفه، وفي أثناء هذه المحاولة سنح المركب2 بكلكله على البر والتقاه

_ 1 الرائس: ربان المركب. 2 سنح المركب: لصق بالأرض.

بسكانية وهما رجلاه اللتان يصرف بهما وقامت الصيحة الهائلة في المركب فجاءت الطامة الكبرى والصدعة التي لم نطق لها جبرا والقارعة الصماء التي لم تدع لنا صبرا والتدم النصارى التداما واستسلم المسلمون لقضاء ربهم استسلاما ولم يجدوا سوى حبل الرجاء استمساكا واعتصاما. وتعاورت1 الريح والأمواج صفع المركب حتى تكسرت رجله الواحدة فألقى الرائس مرسى من مراسيه طمعا في تمسكه به فلم نغن شيئا فقطع حبله وتركه في البحر، فما تحققنا أنها هي قمنا فشددنا للمو ت حيازيمنا2 وأمضينا على الصبر الجميل عزائمنا وأقمنا نرتقب الصباح أو الحين المتاح وقد علا الصياح وارتفع الصراخ من أطفال الروم ونسائهم وألقى الجميع عن يد الإذعان وقد حيل بين العير والنزوان3. ونحن قيام نبصر البر قريبا ونتردد بين أن نلقي بأنفسنا إليه سبحا أو ننتظر لعل الفرج من الله يطلع صبحا فأحضرنا نية الثبات والبحريون قد ضموا العشاري4 لإخراج المهم من رجالهم ونسائهم وأسبابهم فساروا به إلى البر دفعة واحدة ثم لم يطيقوا رده وقذفته الموج مكسرا على ظهر البر فتمكن حينئذ اليأس من النفوس، وفي أثناء مكابدة هذه الأهوال أسفر الصبح فجاء نصر الله والفتح وحققنا النظر فإذا بمدينة مسينة أمامنا على أقل من نصف الميل وقد حيل بيننا وبينها فعجبنا من قدرة الله عز وجل في تصريف أقداره وقلنا: رب مجلوب إليه حتفه في عتبة داره.

_ 1 تعاورت: تداولت. 2 الحيزوم: الصدر، وشده يدل على التأهب. 3 النزوان: الوثوب. وهذا مثل يريد به أن كل فرصة للنجاة قد ضاعت. 4 العشاري: زورق النجاة.

الزوارق المغيثة

الزوارق المغيثة ثم تمكن الشروق فجاءتنا الزواريق مغيثة ووقعت الصحة في المدينة فخرج ملك صقلية غليام بنفسه في جملة من رجاله متطلعا لتلك المحال وبادرنا إلى النزول في الزواريق والأمواج لشدتها لا يمكنها الوصول إلى المركب فكان نزولنا فيها خاتمة الهول العظيم ونجونا إلى البر منجي أبي نصر1 عن قدر وتلف للناس بعض أسباب هم فتسلوا عن الغنيمة بإيابهم. ومن العجب على ما أخبرنا به أن هذا الملك الرومي المذكور أبصر فقراء من المسلمين يتطلعون من المركب وليس لهم شيء يؤدونه في نزولهم لأن أصحاب الزواريق أغلوا على الناس في تخليصهم فسأل عنهم فأعلم بقصتهم فأمر لهم بمائة رباعي من سكتة ينزلون بها وخلص جميع المسلمين عن سلام وقيل: الحمد لله رب العالمين. وفرغ النصارى جميع ما كان لهم فيه فأصبح في اليوم الثاني وقد جعلته الأمواج جذاذا ورمت به إلى البر أفلاذا فعاد عبرة للناظرين وآية للمتوسمين. ووقع العجب من سلامتنا منه وجددنا شكر الله عز وجل على ما من به من لطيف صنعه وجميل قضائه وتخليصه لنا من أن يكون هذا القدر ينفذ علينا في الأرض الكبيرة أو إحدى جزائر الروم المعمورة فكنا لو سلمنا نستعبد للأبد والله عز وجل يعيننا على اداء شكر هذه المنة والنعمة وما تداركنا به من لحظات الرأفة والرحمة إنه على ذلك قدير وبعوائدالفضل ولخير جدير لا إله سواه. ومن جملة صنع الله عز وجل لنا ولطفه بنا في هذه الحادثة كون هذا الملك الرومي حاضرا فيها ولولا ذلك لا نتهب جميع ما في المركب انتهابا،

_ 1 لعله مثل.

وربما كان يستعبد جميع من فيه من المسلمين لأن العادة جرت لهم بذلك وكان وصول هذا الملك لهذه البلاد بسبب اسطوله الذي ينشئه رحمة لنا والحمد لله على ما من به علينا من حسن نظره الكفيل بنا لا إله سواه.

ذكر مدينة مسنية من جزيرة صقلية أعادها الله تعالى

ذكر مدينة مسنية من جزيرة صقلية أعادها الله تعالى هذه المدينة موسم تجار الكفار ومقصد جواري الحبر من جميع الأقطار كثيرة الأرفاق برخاء الأسعار مظلمة الآفاق بالكفر لا يقر فيها لمسلم قرار مشحونة بعبدة الصلبان تغص بقاطنيها وتكاد تضيق ذرعا بساكنيها مملوءة نتنا ورجسا موحشة لا توجد الغريب أنسا، أسواقها نافقة حفيلة وأرزاقها واسعة بإرغاد العيش كفيلة لا تزال بها ليلك ونهارك في أمان وإن كنت غريب الوجه واليد واللسان مستندة إلى جبال قد انتظمت حضيضها وخناديقها والبحر يعترض إمامها في الجهة الجنوبية منها. ومرساها أعجب مراسي البلاد البحرية لأن المراكب الكبار تدنو فيه من البر حتى تكاد تمسه وتنصب منها إلى البر خشبة يتصرف عليها فالحمال يصعد بحمله إليها ولا يحتاج الزواريق في وسقها ولا في تفريغها إلا ما كان مرسيا على البعد منها يسيرا فتراها مصطفة مع البر كاصطفاف الجياد في مرابطها واصطبلاتها وذلك لافراط عمق البحر فيها وهو زقاق معترض بينها وبين الأرض الكبيرة بمقدار ثلاثة أميال ويقابلها منه بلدة تعرف برية وهي عمالة كبيرة. وهذه المدينة: مسينة رأس جزيرة صقلية وهي كثيرة المدن والعمائر والضياع وتسميتها تطول. وطول هذه الجزيرة: صقلية، سبعة أيام وعرضها مسيرة خمسة أيام وبها جبل البركان المذكور وهو يأتزر بالسحب لإفراط سموه ويعتم بالثلج شتاء وصيفا دائما، وخصب هذه الجزيرة أكثر من أن يوصف وكفى بأنها

ابنة الأندلس في سعة العمارة وكثرة الخصب والرفاهة مشحنة بالأرزق على اختلافها مملوءة بأنواع الفواكه وأصنافها لكنها معمورة بعبدة الصلبان يمشون في ناكبها ويرتعون في أكنافها والمسلمون معهم على أملاكهم وضياعهم قد حسنوا السيرة في استعمالهم واصطناعهم وضربوا عليهم أتاوة في فصلين من العام يؤدؤونها وحالوا بينهم وبين سعة في الأرض كانوا يجدونها والله عز وجل يصلح أحوالهم ويجعل العقبى الجميلة مآلهم بمنه. وجبالها كله بساتين مثمرة بالتفاح والشاه بلوط والبندق والإجاص وغيرها من الفواكه.

المسلمون في صقلية

المسلمون في صقلية وليس في مسينة هذه من المسلمين إلا نفر يسير من ذوي المهن ولذلك ما يستوحش بها المسلم الغريب وأحسن مدنها قاعدة ملكها والمسلمون يعرفونها بالمدينة والنصارى يعرفونها ببلازمة وفيها سكنى الحضريين من المسلمين ولهم فيها المساجد والأسواق المختصة بهم في الأرباض كثير وسائر المسلمين بضياعها وجميع قراها وسائر مدنها كسرقوسة وغيرها لكن المدينة الكبيرة التي هي مسكن ملكها غليام1 أكبرها وأحفلها وبعدها مسينة وبالمدينة إن شاء الله يكون مقامنا ومنها نؤمل سفرنا إلى حيث يقضى الله عز وجل من بلاد المغرب إن شاء الله.

_ 1 غليام: هو غليوم الثاني الملقب بالصالح ملك من سنة 1166 إلى 1189 على صقلية.

الملك غليام وحسن سيرته

الملك غليام وحسن سيرته وشأن ملكهم هذا عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين واتخاذ الفتيان المجابيب وكلهم أو أكثرهم كاتم إيمانه متمسك بشريعة الإسلام وهو

كثير الثقة بالمسلمين وساكن إليهم في أحواله والمهم من أشغاله حتى إن الناظر في مطبخته1 رجل من المسلمين وله جملة من العبيد السود المسلمين وعليهم قائدمنهم ووزراؤه وحجابه الفتيان وله منهم جملة كبيرة هم أهل دولته والمرتسمون بخاصته2 وعليهم يلوح رونق مملكته لأنهم متسعون في الملابس الفاخرة والمراكب الفارهة وما منهم إلا من له الحاشية والخول والأتباع.

_ 1 أراد بالمطبخة المطبخ. 2 المرتسمون بخاصته أي أهل بطانته.

القصر الأبيض

القصر الأبيض ولهذا الملك القصرو المشيدة والبساتين الأنيقة ولا سيما بحضرة ملكه المدينة المذكورة وله بمسينة قصر أبيض كالحمامة مطل على ساحل البحر وهو كثير الإتخاذ للفتيان والجواري وليس في ملوك النصارى أترف في الملك ولا أنعم ولا أرفه منه وهو يتشبه في الانغماس في نعيم الملك وترتيب قوانينه ووضع أساليبه وتقسيم مراتب رجاله وتفخيم أبهة الملك واظهار زينته بملوك المسلمين، وملكه عظيم جدا وله الأطباء والمنحمون وهو كثير الاعتناء بهم شديد الحرص عليهم حتى إنه متى ذكر له أن طبيبا أو منجما اجتاز ببلده أمر بامساكه وأدر له أرزاق معيشته حتى يسليه عن وطنه والله يعيذ المسلمين من الفتنة به بمنه وسنه نحو الثلاثين سنة كفى الله المسلمين عاديته وبسطته. ومن عجيب شأن المتحدث به إنه يقرا ويكتب بالعربية وعلامته على ما أعلمنا به أحد خدمته المختصين به. الحمد لله حق حمده. وكانت علامة أبيه: الحمد لله شكرا لأنعمه.

المسلمون في دولة غليام

المسلمون في دولة غليام وأما جواريه وحظاياه في قصره فمسلمات كلهن. ومن أعجب ما حدثنا به خديمه المذكرو وهو يحيى بن فتيان الطراز وهو يطرز بالذهب في طراز الملك أن الإفرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمة تعيدها الجواري المذكورات مسلمة وهن على تكتم من ملكهن في ذلك كله ولهن في فعل الخير أمور عجيبة. وأعلمنا أنه كان في هذه الجزيرة زلازل مرجفة ذعر لها هذا المشرك فكان يتطلع ف يقصره فلا يسمع إلا ذاكرا لله ولرسوله من نسائه وفتيانه وربما لحقتهم دهشة عند رؤيته فكان يقول لهم ليذكر كل أحد منكم معبوده ومن يدين به تسكينا لهم. وأما فتيانه الذين هم عيون دولته وأهل عمالته في ملكه فهم مسلمون ما منهم إلا من يصوم الأشهر تطوعا وتأجرا ويتصدق تقربا إلى الله وتزلفا ويتفكا لأسرى ويربى الأصاغر منهم ويزوجهم ويحسن إليه ويفعل الخير ما استطاع وهذا كله صنع من الله عز وجل لمسلمي هذه الجزيرة وسر من أسرار اعتناء الله عز وجل بهم. لقينا منهم بمسينة فتى اسمه عبد المسيح من وجوههم وكبرائهم بعدتقدمة رغبة منه إلينا في ذلك فاحتفل في كرامتنا وبرنا وأخرج إلينا عن سره المكنون بعد مراقبة منه في مجلسه أزال لها كل من كان حوله ممن يتهمه من خدامه محافظة على نفسه فسألنا عن مكة قدسها الله وعن مشاهدها المعظمة وعن مشاهد المدينة المقدسة ومشاهد الشام فأخبرناه وهو يذوب شوقا وتحرقا واستهدى منا بعض ما استصحبناه من الطرف المباركة من مكة والمدينة قدسهما الله ورغب في أن لا نبخل عليه بما أمكن من ذلك. وقال لنا: أنتم مدلون بإظهار الإسلام فائزون بما قصدتم له رابحون إن شاء الله في متجركم ونحن كاتمون إيماننا خائفون على أنفسنا متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سرا معتقلون في ملكة كافر بالله قد

وضع في أعناقنا ربقة الرق فغايننا التبرك بلقاء امثالكم من الحجاج واستهداء ادعيتهم والاغتباط بما تتلقاه منهم من تحف تلك المشاهد المقدسة لنتخذها عدة للإيمان وذخيرة للأكفان، فتفطرت قلوبنا له إشفاقا ودعونا له بحسن الخاتمة وأتحفاه ببعض ما كان عندنا مما رغب فيه وأبلغ في مجازاتنا ومكافأتنا واستكتمنا سائر إخوإنه من الفتيان. ولهم في عفل الجميل أخبار مأثورة وفي افتكاك الأسرى صنائع عند الله مشكورة. وجميع خدمتهم على مثل أحوالهم. ومن عجيب شأن هؤلاء الفتيان أنهم يحضرون عند مولاهم فيحين وقت الصلاة فيخرجون أفذاذا من مجلسه فيقضون صلاتهم وربما يكونون بموضع تلحقه عين ملكهم فيسترهم الله عز وجل فلا يزالون بأعمالهم ونياتهم وبنصائحهم الباطنة للمسلمين في جهاد دائم والله ينفعهم ويجمل خلاصهم بمنه. ولهذا الملك بمدينة مسينة المذكورة دار صنعة البحر تحتوى من الأساطيل على مالا يحصى عدد مراكبه وله بالمدينة مثل ذلك.

مغادرة صقلية

مغادرة صقلية فكان نزولنا في أحد الفنادق وأقمنا به تسعة أيام فلما كان ليلة الثلاثاء الثاني عشر للشهر المبارك المذكور والثامن عشر لدجنبر ركبنا في زورق متوجهين إلى المدينة المتقدم ذكرها وصرنا قريبا من الساحل بحيث نبصره رأي العين وأرسل الله علينا ريحا شرقية رخاء طيبة زجت الزورق1 أهنأ تزجية وسرنا نسرح اللحظ في عمائر وقرى متصلة وحصون ومعاقل في قن الجبال مشرفة، وأبصرنا عن يميننا في البحر تسع جزائر2 قد قامت جبالا

_ 1 زجت الزورق: دفعته دفعا لينا. 2 تسع جزائر: يريد بها الجزائر المعروفة بالأيولية في شمالي جزيرة صقلية.

مرتفعة: على مقربة من بر الجزيرة اثنتان منها تخرج منهما النار دائما وأبصرنا الدخان صاعدا منهما ويظهر بالليل نارا حمراء ذات السن تصعد في الجو وهو البركان المشهور خبر وأعلمنا أن خروجها من منافس في الجبلين المذكورين يصعد منها نفس ناري1 بقوة شديدة تكون عنه النار وربما قذف فيها الحجر الكبير فتلقي به في الساعة إلى الهواء لقوة ذلك النفس وتمنعه من الاستقرار والانتهاء إلى القعر2 وهذا من أعجب المسموعات الصحيحة. وأما الجبل الشامخ3 الذي بالجزيرة المعروف بجبل النار فشإنه أيضا عجيب وذلك أن نارا تخرج منه في بعض لسنين كالسيل العرم فلا تمر بشيء إلا أحرقته حتى تنتهي إلى البحر فتركب ثبجه على صفحه حتى تغوص فيه فسبحان المبجع في عجائب مخلوقاته إلا إله سواه. إلى أن حللنا عشي يوم الأربعاء بعد يوم الثلاثاء المؤرخ مرسى مدينة شفلودى وبينها وبين مسينة مجرى ونصف مجرى.

_ 1 نفس ناري: هو الغاز المستعمل اليوم للاستصباح. وهو في البراكين كثير لاختلاط الهيدروجين بالكربون. 2 أي أن قوة النفس الناري ترمي بالحجارة وتمنعها أن تستقر في محلها وأن تغوص إلى قعر البركان. 3 الجبل الشامخ: بركان إتنا.

ذكر مدينة شفلودي من جزيرة صقلية أعادها الله

ذكر مدينة شفلودي من جزيرة صقلية أعادها الله هي مدينة ساحلية كثيرة الخصب واسعة المرافق منتظمة أشجار الأعناب وغيرها مرتبة الأسواق تسكنها طائفة منها المسلمين وعليها قنة جبل واسعة مستديرة، فيها قلعة لم ير امنع منها اتخذوها عدة لاسطول يفجوؤهم من جهة البحر من جهة المسلمين نصرهم الله. وكان إقلاعنا منها نصف الليل فجئنا مدينة ثرمة ضحوة يوم الخميس بسير رويد وبين المدينتين خمسة

وعشرون ميلا فانتقلنا فيها من ذلك الزورق إلى زورق ثان اكتريناه لكون البحريين الذين صحبونا فيه من أهلها.

ذكر مدينة ثرمة من الجزيرة المذكورة فتحها الله

ذكر مدينة ثرمة من الجزيرة المذكورة فتحها الله هي أحسن وضعا من التي تقدم ذكرها وهي حصينة تركب البحر وتشرف عليه وللمسلمين فيها ربض كبير لهم فيه المساجد ولها قلعة سامية منيعة وفي أسفل البلدة حمة1 قد أغنت أهلها عن اتخاذ حمام وهذه البلدة من الخصب وسعة الرزق على غاية والجزيرة بأسرها من أعجب بلادالله في الخصب وسعة الأرزاق. فاقمنا بها يوم الخميس الرابع عشر للشهر المذكور ونحن قد أرسينا في واد بأسفلها ويطلع فيه المد من البحر ثم ينحسر عنه وبتنا بها ليلة الجمعة ثم انقلب الهواء غربيا فلم نجد للإقلاع سبيلا وبيننا وبين المدينة المقصودة المعروفة عند النصارى ببلارمة خمسة وعشرون ميلا فخشينا طول المقام وحمدنا الله تعالى على ما أنعم به من التسهيل في قطع المسافة في يومين وقد تلبث الزواريق في قطعها على ما أعملنا به العشرين يوما والثلاثين يوما ونيفا على ذلك. فأصبحنا يوم الجمعة منتصف الشهر المبارك على نية من السير في البر على أقدامنا فنفذنا لطيتنا2 وتحملنا بعض أسباب نا وخلفنا بعض الأصحاب على الأسباب الباقية في الزورق وسرنا في طريق كأنها السوق عمارة وكثرة صادر ووارد وطوائف النصارى يتلقوننا فيبادرون بالسلام علينا ويؤنسوننا فرأينا من سياستهم ولين مقصدهم مع المسلمين ما يوقع الفتنة في نفوس أهل الجهل عصم الله جميع امة محمد صلى الله عليه وسلم من الفتنة بهم بعزته

_ 1 حمة: حارة المياه. 2 الطية: الغرض والنية.

ومنه، فانتهينا إلى قصر سعد وهو على فرسخ من المدينة وقد أخذ منا الإعياء فملنا إليه وبتنا فيه. وهذا القصر على ساحل البحر مشيد البناء عتيقه قديم الوضع من عهد ملكة المسلمين للجزيرة لم يزل ولا يزال بفضل الله مسكنا للعابد منهم وحوله قبور كثيرة للمسلمين أهل الزهادة والورع وهو موصوف بالفضل والبركة مقصود من كل مكان وبإزائه عين تعرف بعين المجنونة وله باب وثيق من الحديد وداخله مساكن وعلالي مشرفة وبيوت منتظمة وهو كامل مرافق السكنى، وفي أعلاه مسجد من أحسن مساجد الدنيا بهاء مستطيل ذو حنايا مستطيلة، مفروش بحصر نظيفة لم ير أحسن منها صنعة وقد علق فيه نحو الأربعين قنديلا من أنواع الصفر والزجاج وأمامه شارع واسع مستدير بأعلى القصر وفي أسفل القصر بئر عذبة فبتنا في هذا المسجدا حسن مبيت واطيبه وسمعنا الأذان وكنا قد طال عهدنا بسماعه وأكرمنا القوم الساكنون فيه وله إمام يصلى بهم الفريضة والتراويح في هذا الشهر المبارك وبمقربة من هذا القصر بنحو الميل إلى جهة المدينة قصر آخر على صفته يعرف بقصر جعفر وداخله سقاية تفور بماء عذب. وأبصرنا للنصارى في هذه الطريق كنائس معدة لمرضى النصارى ولهم في مدنهم مثل ذلك على صفة مارستانات المسلمين وأبصرنا لهم بعكة وبصور مثل ذلك فعجبنا من اعتنائهم بهذا القدر. فلما صلينا الصبح توجهنا إلى المدينة فجئنا لندخل فمنعنا وحملنا إلى الباب المتصل بقصور الملك الإفرنجي أراح الله المسلمين من ملكته وأدينا إلى المستخلف من قبله ليسألنا على مقصدنا وكذلك فعلهم بكل غريب فسلك بنا رحاب وأبواب وساحات ملوكية وأبصرنا من القصور المشرفة والميادين المنتظمة والبساتين والمراتب1 المتخذة لأهل الخدمة ما راع أبصارنا وأذهل أفكارنا،

_ 1 المراتب: حجر خلفية تتخذ للخدم.

وتذكرنا قول الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ1} وأبصرنا فيما أبصرناه مجلسا في ساحة فسيحة قد أحد ق بها بستان وانتظمت جوانبها بلاطات والمجلس قد أخذ استطالة تلك الساحة كلها فعجبنا من طوله وأشراف مناظره فأعلمنا إنه موضع غداء الملك مع أصحابه وتلك البلاطات والمراتب حيث تقعد حكامه وأهل الخدمة والعمالة أمامه. فخرج إلينا ذلك المستخلف يتهادى بين خديمين يحفان به ويرفعان أذياله فأبصرنا شيخا طويل السبلة أبيضها ذا أبهة فسألنا عن مقصدنا وعن بلدنا بكلام عربي لين، فأعلمناه فأظهر الإشفاق علينا وأمر بانصرافنا بعد أن أحفى في السلام والدعاء فعجبنا من شأنه. وكان أول سؤاله لنا عن خبر القسطنطينية العظمى وما عند نا منه فلم يكن عند نا ما نعمله به وقد نقيد خبرها بعد هذا. وكان من أغرب ما شاهدناه من الأمور الفتانة أن أحد من كان قاعدا عند باب القصر من النصارى قال لنا عند انصرافنا عن القصر المذكور: تحفظوا بما عند كم يا حجاج من العمال الممسكين لئلا يقعو عليكم. وظن أن عند نا تجارة تقتضى التمكيس. فاستجاب له أحد النصارى فقال: ما أعجب أمرك يدخلون حرم الملك ويخافون من شيء ما كنت أود لهم إلا آلافا من الرباعيات انهضوا بسلام لا خوف عليكم. فقضينا عجبا مما شاهدناه وسمعناه. وخرجنا إلى أحد الفنادق فنزلنا فهي وذلك يوم السبت السادس عشر للشهر المبارك والثاني والعشرين لدجنبر وفي خروجنا من القصر المذكور سلكنا بلاطا متصلا مشينا يه مسافة طويلة وهو مسقف حتى انتهينا إلى كنيسة عظيمة البناء فأعلمنا أن ذلك البلاط ممشى الملك إلى هذه الكنيسة.

_ 1 سورة الزخرف، الآية 23.

ذكر المدينة التي هي حضرة صقلية أعادها الله

ذكر المدينة التي هي حضرة صقلية أعادها الله هي بهذه الجزائر أم الحضارة والجامعة بين الحسنين غضارة ونضارة فما شئت بها من جمال مخبر ومنظر ومراد عيش يانع اخضر عتيقة انيقة مشرفة مؤنقة تتطلع بمرأى فتان وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان فسيحة السكك والشوارع تروق الأبصار بحسن منظرها البارع عجيبة الشان قرطبية البنيان مبانيها كله بمنحوت الحجر المعروف بالكذان1، يشقها نهر معين ويطرد في جنباتها أربع عيون قد زخرفت فيها لملكها دنياه فاتخذها حضرة ملكه الإفرنجي إباده الله تنتظم بلبتها قصوره انتظام العقود في نحور الكواعب ويتقلب من بساتينها وميادينها بين نزهة وملاعب فكم له فيها لا عمرت به من مقاصير ومصانع ومناظر ومطالع وكم له بجهاتها من ديارات قد زخرف بنيانها ورفه بالإقطاعات2 الواسعة رهباتها وكنائس قد صيغ من الذهب والفضة صلبانها وعسى الله عن قريب أن يصلح لهذه الجزيرة الزمان فيعيدها دار إيمان وينقلها من الخوف للأمان بعزته إنه على ما يشاء قدير. وللمسلمين بهذه المدينة رسم باق من الإيمان يعمرون أكثر مساجدهم ويقيمون الصلاة بآذان مسموع ولهم أرباض قد انفردوا فيها بسكناهم عن النصارى والأسواق معمورة بهم وهم التجار فيها ولا جمعة لهم بسبب الخطبة لمحظورة عليهم ويصلون الأعياد بخطبة دعاؤهم فيها للعباسي ولهم بها قاض يرتفعون إليه في أحكامهم وجامع يجتمعون للصلاة فيه ويحتلفون في وقيده3 في هذا الشهر المبارك وأما المساجد فكثيرة لا تحصى وأكثرها محاضر

_ 1 الكذان: الحجارة الرخوة النخرة. 2 الإقطاعات: أراد الأموال الموقوفة على الكنائس. 3 شموعه التي يوقدونها.

لمعلمي القرآن وبالجملة فهم غرباء عن إخوانهم المسلمين تحت ذمة الكفار ولا أمن لهم في أموالهم ولا في حريمهم ولا أبنائهم تلاقاهم الله بصنع جميل بمنه. ومن جملة شبه هذه المدينة بقربطة والشيء قد تشبه بالشيء من إحدى جهاته أن لها مدينة قديمة تعرف بالقصر القديم هي في وسط المدينة الحديثة وعلى هذا المثال موضوع قربطة حرسها الله وبهذا القصر القديم ديار كأنها القصور المشيدة لها مناظر في الجو مظلمة تحار الأبصار في حسنها.

كنيسة الأنطاكي

كنيسة الأنطاكي1 ومن أعجب ما شاهدناه بها من أمور الكفران كنيسة تعرف بكنيسة الأنطاكي أبصرناها يوم الميلاد وهو يوم عيد لهم عظيم وقد احتلفوا لها رجالا ونساء فأبصرنا من بنيانها مرأى يعجز الوصف عنه ويقع القطع بأنه أعجب مصانع الدنيا المزخرفة جدرها الداخلة ذهب كلها وفيها من ألواح الرخام الملون ما لم ير مثله قد رصعت كلها بفصوص الذهب وكللت بأشجار الفصوص الخضر ونظم أعلاها بالشمسيات2 المذهبات من الزجاج فتخطف الأبصار بساطع شعاعها وتحدث في النفوس فتنة نعوذ بالله منها، وأعملنا أن بانيها الذي تنسب إليه أنفق فيها قناطير من الذهب وكان وزيرا لجد هذا الملك المشرك ولهذه الكنيسة صومعة قد قامت على أعمدة سوار من الرخام ملونة وعلت قبة على أخرى سوار كلها فتعرف بصومعة

_ 1 سميت كنيسة الأنطاكي باسم بانيها جرجس بن ميخائيل الأنطاكي، هاجر إلى المغرب. خدم أولا تميم بن المعز بن باديس ثم انتقل إلى خدمة روجار الثاني ملك صقلية. والكنيسة تسمى اليوم بكنيسة المرطورانا باسم أحد الأتقياء الذي أنشأ بجوارها ديرا للراهبات. 2 الشمسيات أي أن نوافذها العليا كانت تمثل شموسا.

السواري وهي من أعجب ما يبصر من النبيان شرفها الله عن قريب الأذان بلطفه وكريم صنعه وزى النصرانيات في هذه المدينة زي نساء المسلمين فصيحات الالسن ملتحفات متنقبات خرجن في هذا العيد المذكور وقد لبست ثياب الحرير المذهب والتحفن اللحف الرائقة وانتقبن بالنقب الملونة وانتعلن الاخفاف المذهبة وبرزن لكنائسهن أو كنسهن حاملات جميع زنية نساء المسلمين من التحلي والتخضب والتعطر فتذكرنا على جهة الدعاية الأدبية قول الشاعر1: إن من يدخل الكنيسة يوما ... يلق فيها جآزرا وظباء ونعوذ بالله من صوف يدخل مدخل اللغو ويؤدى إلى أباطيل اللهو ونعوذ به من تقييد يؤدى إلى تفنيد إنه سبحانه هو أهل التقوى وأهل المغفرة. فكان مقامنا بهذه المدينة سبعة أيام ونزلنا بها في أحد فنادقها التي يسكنها المسلمون وخرجنا منها صبيحة يوم الجمعة الثاني والعشرين لهذا الشهر المبارك والثامن والعشرين لشهر دجنبر إلى مدينة أطرابنش بسبب مركبين بها: أحدهما يتوجه إلى الأندلس والثاني إلى سبتة وكنا أقلعنا إلى الإسكندرية فيه وفيهما حجاج وتجار من المسلمين، فسلكنا على قرى متصلة وضياع متجاورة وأبصرنا محارث ومزارع لم نر مثل تربتها طيبا وكرما واتساعا فشبهناها بقنبانية قرطبة أو هذه أطيب وأمتن. وبتنا في الطريق ليلة واحدة في بلدة تعرف بعلقمة وهي كبيرة متسعة فيها السوق والمساجد وسكانها وسكان هذه الضياع التي في هذه الطريق كلها مسلمون، وقمنا منها سحر يوم السبت الثالث والعشرين لهذا الشهر المبارك والتاسع والعشرين لدجنبر فاجتزنا بمقربة منها على حصن يعرف بحصن الحمة،

_ 1 هو الأخطل.

وهو بلد كبير فيه حمامات كثيرة وقد فجرها الله ينابيع من الأرض وأسالها عناصر لا يكاد البدن يحتملها لإفراط حرها فأجزنا منها واحدة على الطريق فنزلنا إليها عن الدواب وأرحنا الأبدان بالاستحمام فيها، ووصلنا إلى أطرابنش عصر ذلك اليوم فنزلنا فيها في دار اكتريناها.

ذكر مدينة أطرابنش من جزيرة صقلية أعادها الله

ذكر مدينة أطرابنش من جزيرة صقلية أعادها الله هي مدينة صغيرة الساحة غير كبيرة المساحة مسورة بيضاء كالحمامة مرساها من أحسن بالمراسي وأوفقها للمراكب ولذلك ما يقصد الروم كثيرا إليها ولا سيما المقلعون إلى بر العدوة فإن بينها وبين تونس مسيرة يوم وليلة فالسفر منها إليها لا يتعطل شتاء ولا صيفا إلا ريثما لا تهب الريح الموافقة فمجراها في ذلك مجرى المجاز القريب. وبهذه المدينة السوق والحمام وجميع ما يحتاج إليه من مارفق المدن لكنها في لهوات البحر لاحاطته بها من ثلاث جهات واتصال البر بها من جهة واحدة ضيقة والبحر فاغر فاه لها من سائر الجهات فأهلها يرون أنه لا بد له من الاستيلاء عليها وإن تراخى مدى أيامها ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى. وهي مرفقة موافقة لرخاء السعر بها لأنها على محرث عظيم وسكانها المسلمون والنصارى ولكلا الفريقين فيها المساجد والكنائس، وبركنها من جهة الشرق مائلا إلى الشمال على مقربة منها جبل عظيم مفرط السمو متسع في أعلاه قنة تنقطع عنه وفيها معقل للروم وبينه وبين الجبل قنطرة ويتصل به في الجبل للروم بلد كبير ويقال: إن حريمه1 من أحسن حريم هذه الجزيرة جعلها الله سببا للمسلمين.

_ 1 الحريم: النساء.

وبهذا الجبل الكروم والمزارع وأعملنا أن به نحو أربعمائة عين متفجرة وهو يعرف بجبل حامد والصعود إليه هين من إحدى جهاته وهم يرون أن منه يكون فتح هذه الجزيرة إن شاء الله ولا سبيل أن يتركوا مسلما يصعد إليه ولذلك ما أعدوا فيه ذلك المعقل الحصين فلو أحسوا بحادثة حصلوا حريمهم فيه وقطعوا القنطرة واعترض بينهم وبين الذي في أعلاه متصل به خندق كبير. وشأن هذا البلد عجيب فمن العجب أن يكون فيه من العيون المتفجرة ما تقدم ذكره وأطرابنش في هذا البسيط ولا ماء لها إلا من بئر على البعد منها وفي ديارها آبار قصيرة الأرشية ماؤها كلها شريب1 لا يساغ. وألفينا المركبين اللذين يرومان الاقلاع إلى المغرب بها ونحن إن شاء الله نؤمل ركوب أحدهما وهو القاصد إلى بر الأندلس والله بمعهود صنعه الجميل كفيل بمنه. وفي غربي هذه البلدة: أطرابنش المذكور ثلاث جزائر في البحر على نحو فرسخين منها وهي صغار متجاورة إحداها تعرف بمليطمة والأخرى بيابسة والثالثة تعرف بالراهب نسبت إلى راهب يسكنها في بناء أعلاها كأنه الحصن وهي مكمن للعدو والجزيرتان لا عمارة فيهما ولا يعمر الثالثة سوى الراهب المذكور.

_ 1 شريب: يصلح للشرب.

شهر شوال عرفنا بمنه وبركته

شهر شوال عرفنا بمنه وبركته استهل هلاله ليلة السبت الخامس من يناير بشهادة ثبتت عند حاكم أطرابنش المذكورة بأنه أبصر هلال شهر رمضان ليلة الخميس ويوم الخميس كان صيام أهل مدينة صقلية المتقدم ذكرها فعيد الناس على الكمال بحساب يوم الخميس المذكور، وكان مصلانا في هذا العبد المبارك بأحد مساجد أطرابنش

المذكور مع قوم من أهلها امتنعوا من الخروج إلى المصلى لعذر كان لهم فصلينا صلاة الغرباء جبر1 الله كل غريب إلى وطنه، وخرج أهل البلد إلى مصلاهم مع صاحب أحكامهم وانصرفوا بالطبول والبوقات فعجبنا من ذلك ومن إغضاء النصارى لهم عليه ونحن قد اتفق كراؤنا في المركب المتوجه إن شاء الله إلى بر الأندلس ونظيرنا في الزاد والله المتكفل بالتسير والتسهيل. ووصل أمر من ملك صقلية بعقلة المراكب بجميع السواحل بجزيرته بسبب الأسطول الذي يعمره ويعده فليس لمركب سبيل للسفر إلى أن يسافر الأسطول المذكور خيب الله سعيه ولا تمم قصده فبادر الروم الجنويون أصحاب المركبين المذكورين إلى الصعود فيهما تحصنا من الوالي ثم امتد سبب الرشوة بينهم وبينه فأقاموا بمركبيهم ينتظرون هواء يقلعون به فأقاموا بمركبيهم ينتظرون هواء يقلعون به وفي هذا التاريخ المذكور وصلتنا أخبار موحشة من الغرب منها تغلب صاحب ميورقة على بجاية والله لا يحقق ذلك ويجعل العاقبة والهدنة للمسلمين بمنه وكرمه. والناس بهذه المدينة يرجمون الظنون في مقصد هذا الأسطول الذي حأول هذا الطاغية تعميره وعدد أجفانه2 فيما يقال ثلاثمائة: بين طرائد ومراكب ويقال: أكثر من ذلك ويستصحب معه نحو مائة سفينة تحمل الطعام والله يقطع به ويجعل الدائرة عليه فمنهم من يزعم أن مقصده الإسكندرية حرسها الله وعصمها ومنها من يقول: إن مقصده ميورقة حرسها الله ومنهم من يزعم أن مقصده إفريقية حماها الله ناكثا لعهده في السلم بسبب الأنباء الموحشة الطارئة من جهة المغرب وهذا أبعد الظنون من الإمكان لأنه مظهر للوفاء بالعد والله يعين عليه ولا يعينه، ومنهم من يرى أن احتفاله إنما هو لقصد القسطنطينية العظمى بسبب ما ورد من قبلها من النبأ العظيم الشأن المهدى للنفوس بشائر تتصمن عجائب من الحدثان وتشهد للحديث المأثور

_ 1 جبر: أعاد. 2 أجفانه: أراد بها مراكبه.

عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بصدق البرهان وذلك بأنه ذكر أن صاحبها توفي وترك الملك بعده لزوجه ولها ابن صغير فقام ابن عم له في الملك وقتل الزوج المذكورة وثقف1 الابن المذكور، ثم إن ابنا للناثر المذكور عطفته الرحمة على الابن المعتقل فأطلق سبيله كان أبوه قد أمره بقتله فرمت به الأقدار إلى هذه الجزيرة بعد خطوب جرت عليه فوردها على حالة ابتذال ومهنة استعمال خادما لأحد الرهبان مسدلا على شارته الملوكية سرا من الامتهان ففشي الأمر وذاع السر ولم يغن عنه ذلك الستر. فاستحضر عن أمر الملك الصقلي غليام المذكور قبل واستنطق واستفهم فزعم أنه عبد لذلك الراهب وخديمه، ثم إن طائفة من الروم الجنوبيين المسافرين إلى القسطنطينية أثبتوا صفته وحققوا أنه هو مع مخايل ودلائل ملوكية لاحت منه: منها فيما ذكر لنا أن الملك غليام خرج في يوم زينة له وقد اصطف الناس للسلام عليه وأحضروا الفتى المذكور في جملة الخاصة فصقع2 الجميع خدمة للملك وتعظيما لطلوعه عليهم إلا ذلك الفتى فإنه لم يزد على الإيماء في السلام فعلم أن الهمة الملوكية منعته من المدخل مدخل السوقة فاعتنى به الملك غليام وأكرم مثواه وأزكى عيون الاحتراس عليه خوفا من اغتيال يلحقه بتدسيس من ابن عمه الثائر عليه. وكانت له أخت موصوفة بالجمال علق بها ابن العم الثائر على الملك المذكور فلم يمكنه تزويحها بسبب أن الروم لا تنكح في الأقارب فحمله الحب المصمي والهوى المصم المعمي والسعادة التي تفضي بصاحبها إلى العاقبة الحسنى وترمي على أخذها والتوجه بها إلى الأمير مسعود صاحب الدروب وقونية وبلاد العجم المجاورة للقسطنطينية وقد تقدم ذكر غنائه في الإسلام فيما مضى من هذا التقييد وحسبك أن صاحب القسطنطينية لم يزل يؤدي الجزية إليه

_ 1 ثقف: بمعنى اعتقل. 2 صقع: انحنى انحناءة كبيرة "عامية".

ويصالحه على ما يجاوره من البلاد فأسلم مع ابنة عمه على يده، وسيق له صليب ذهب قد احمى عليه في النار فوضعه تحت قدمه وهي عندهم أعظم علامات الترك لدين النصرانية والوفاء بذمة دين الإسلام وتزوج ابنة العم المذكورة وبلغ هواه وأخذ جيوش المسلمين معه إلى القسطنطينية فدخلها بهم وقتل من أهلها نحو الخمسين ألفا من الروم وأعانه الاغريقيون على فعله وهم فرقة من فرق أهل الكتاب وكلامهم بالعربية وبينهم وبين سائر الفرق من جنسهم عداوة كامنة وهم لا يرون أكل لحم الخنزير فشفوا نفسوهم من أعاديهم وقرع الله نبع الكفر بعضه ببعض واستولى المسلمون على القسطنطينة ونقلت أموالها كلها وهو مالا يأخذه الإحصاء إلى الأمير مسعود وجعل من المسلمين فيها ما ينيف على الأربعين ألف فارس واتصلت بلادهم بها وهذا الفتح إذا صح من أكبر شروط الساعة والله أعلم بغيبه. ألفينا هذا الحديث بهذه الجزيرة مستفيضا على ألسنة المسلمين والنصارى محققين له لا شك عندهم فيه أنبأت به مراكب الروم التي وصلت من القسطنطينة وكان أول سؤال مستخلف الملك بالمدينة لنا يوم أحضرنا لديه عند دخولنا المدينة عما عند نا من خبر القسطنيطينة فلم يكن عند نا علم ولا تعرفنا معنى السؤال عنها إلا بعد ذلك. وتحققوه أيضا من جهة ملكها هذا الصبي وما كان من اتباع الثائر عليه غياه عيونا تروم اغتياله فهو اليوم بسبب ذلك عند صاحب صقلية محترس محافظ عليه لا يكاد يصل لحظ العيون إليه. وأخبرنا إنه رطيب غصن الصبا محتدم حمرة الشباب صقيل رونق الملك عليه ناظر في علم اللسان العربي وغيره بارع في الادب الملوكي ذو دهاء على فتوة سنه وغمرية شبيبته، فالملك الصقلي على ما يذكر يروم توجيه الأسطول المذكور إلى القسطنطينة انفة لهذا الصبي المذكور وما جرى عليه وكيفما توجه الأمر فيه من هذه المقصاد فالله عز وجل ينكثه خاسرا على عقبه ويعرفه شؤم مذهبه ويجعل قواصف الرياح خاسفة به إنه على ما يشاء

قدير. وهذا الخبر القسطنطيني حققه الله من أعظم عجائب الدنيا وكوائنها المرتقبة ولله القدرة البالغة في أحكامه وأقداره.

شهر ذي القعدة عرفنا الله يمنه وبركته

شهر ذي القعدة عرفنا الله يمنه وبركته استهل هلاله ليلة الإثنين الرابع من شهر فبراير ونحن بمدينة أطرابنش المتقدم ذكرها منتظرين انسلاخ فصل الشتاء واقلاع المركب الجنوي الذي أملنا ركبوه إلى الأندلس إن شاء الله عز وجل والله سبحانه بيمن مقصدنا وييسر مرامنا بمنه وكرمه. وفي مدة مقامنا بهذه البلدة تعرفنا ما يؤلم النفوس تعرفه من سوء حال أهل هذه الجزيرة مع عبادالصليب بها دمرهم الله وماهم عليه معهم من الذل والمسكنة والمقام تحت عهدة الذمة وغلظة الملك إلى طوارىء دواعي الفتنة في الدين على من كتب الله عليه الشقاء من أبنائهم ونسائهم. وربما تسبب إلى بعض أشايخهم أسباب نكالية تدعوه إلى فراق دينه فمنها قصة اتفقت في هذه السنين القريبة لبعض فقهاء مدينتهم التي هي حضرة ملكهم الطاغية ويعرف بابن زرعة ضغطته العمال بالمطالبة حتى أظهر فراق دين الإسلام والانغماس في دين النصرانية ومهر في حفظ الانجيل ومطالعة سير الروم وحفظ قوانين شريعتهم فعاد في جملة القسيسين الذين يستفتون في الاحكام النصرانية وربما طرا حكم إسلامي فيستفتى أيضا فيه لما سبق من معرفته بالاحكام الشرعية ويقع الوقوف عند فتياه في كلا الحكمين، وكان له مسجد بإزاء داره اعاده كنيسة نعوذ بالله من عواقب الشقاوة وخواتم الضلالة ومع ذلك فأعلمنا أنه يكتم إيمانه فلعله داخل تحت الاسثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ1} .

_ 1 سورة النحل، الآية 106.

ووصل هذه الأيام إلى هذه البلدة زعيم أهل هذه الجزيرة من المسلمين وسيدهم القائد أبو القاسم بن حمود المعرف بابن الحجر وهذا الرجل من أهل بيت بهذه الجزيرة توارثوا السيادة كابرا عن كابر وقرر لدينا مع ذلك أنه من أهل العمل الصالح مريد للخير محب في أهله كثير الصنائع الأخروية من افتكاك الأسارى وبث الصدقات في الغرباء والمنقطعين من الحجاج إلى مآثر جمة ومناقب كريمة فارتجت هذه المدينة لوصوله، وكان في هذه المدة تحت هجران من هذا الطاغية الزمه داره بمطالبة توجهت عليه من أعدائه افتروا عليه فيها أحاديث مزورة نسبوه فيها إلى مخاطبة الموحدين أيدهم الله فكادت تقضى عليه لولا حارس المدة وتوالت عليه مصادرات أغرمته ليفا على الثلاثين ألف دينار مؤمنية ولم يزل يتخلى عن جميع دياره وأملاكه الموروثة عن سلفه حتى بقى دون مال فاتفق في هذه الأيام رضى الطاغية عنه وأمره بالنفوذ لمهم من اشغاله السلطانية فنفذ لها نفوذ الملوك المغلوب على نفسه وماله وصدرت عند وصوله إلى هذه البلدة رغبة في الاجتماع بنا فاجتمعنا به فأظهر لنا من باطن حاله وبواطن أحوال هذه الجزيرة مع أعدائهم ما يبكي العيون دما ويذيب القلوب الما فمن ذلك أنه قال: كنت أود لو أباع أنا وأهل بيتي فلعل البيع كان يتخلصنا مما نحن فيه ويؤدي بنا إلى الحصول في بلادالمسلمين فتأمل حالا يؤدي بهذا الرجل مع جلالة قدره وعظم منصه إلى أن يتمنى مثل هذا التمني مع كونه مثقلا عيالا وبنين وبنات فسألنا له الله عز وجل حسن التخليص مما هو فيه ولسائر المسلمين من أهل هذ الجزيرة وواجب على كل مسلم الدعاء لهم في كل موقف يقفه بين يدي الله عز وجل، وفارقناه باكيا مبكيا واستمال نفوسنا بشرف منزعه وخصوصية شمائله ورزانة حصاته1 وشمول مبرته وتكرمته وحسن خلقه وخليقته وكنا قد أبصرنا له ولأخوته لأهل بيته بالمدينة يدارا كأنها القصور

_ 1 الحصاة: العقل.

المشيدة الأنيقة وشأنهم بالجملة كبير لا سيما هذا الرجل منهم وكانت له أيام مقامه هنا أفعال جميلة مع فقراء الحجاج وصعاليكهم أصلحت أحوالهم ويسرت لهم الكراء والزاد والله ينفعه بها ويجازيه الجزاء الأوفى عليها بمنه. ومن أعظم ما منى به أهل هذه الجزيرة أن الرجل ربما غضب على ابنه أو على زوجه أو تغضب المرأة على ابنتها فنحلق المغضوب عليه أنفة تؤديه إلى التطارح في الكنيسة فيتنصر ويتعمد فلا يجد الأب للابن سبيلا ولا الأم للبنت سبيلا فتخيل حال من منى بمثل هذا في أهله وولده ويقطع عمره متوقعا لوقوع هذه الفتنة فيهم فهم الدهر كله في مدارات الأهل والولد خوف هذه الحال. وأهل النظر في العواقب منهم يخافون أن يتفق على جميعهم ما اتفق على أهل جزيرة أقريطش من المسلمين في المدة السلافة فإنه لم تزل بهم الملكة الطاغية من النصارى والاستدراج الشيء بعدالشيء حال بعد حال حتى اضطروا إلى التنصر عن آخرهم وفر منهم من قضى الله بنجاته وحقت كلمة العذاب على الكافرين1 والله غالب على أمره لا إله سواه. ومن عظم هذا الرجل الحمودي المذكور في نفوس النصارى أبادهم الله انهم يزعمون إنه لو تنصر لما بقى في الجزيرة مسلم إلا وفعل فعله ابتاعا له واقتداء به تكفل الله بعصمته جميعهم ونجاهم مما هم فيه بفضله وكرمه. ومن أعجب ما شاهدناه من أحوالهم التي تقطع النفوس إشفاقا وتذيب القلوب رأفة وحنانا أن أحد أعيان هذه البلدة وجه ابنه إلى أحد اصحابنا الحجاج راغبا في أن يقبل منه بنتا بكرا صغيرة السن قد زاهقت2 الإدراك فإن رضيها تزوجها وإن لم يرضها زوجها ممن رضى لها من أهل بلده ويخرجها مع نفسه راضية بفراق أبيه وإخوتها طمعا في التخلص من هذه الفتنة ورغبة في الحصول في بلاد المسلمين فطاب الأب والإخوة نفسا لذلك لعلهم يجدون السبيل للتخص إلى

_ 1 انظر سورة الزمر، الآية 71. 2 زاهقت: قاربت.

بلاد المسلمين بأنفسهم إذا زالت هذه العقلة المقيدة عنهم فتأجر هذا الرجل المرغوب إليه بقبول ذلك وأعناه على استغنام هذه الفرصة المؤدية إلى خبر الدينا والآخرة. وطال عجبنا من حال تؤدي بإنسان إلى السماح بمثل هذه الوديعة المعلقة من القلب وإسلامها إلى يد من يغربها واحتمال الصبر عنها ومكابدة الشوق إليها والوحشة دونها كما أنا استغربنا حال الصبية صانعا الله ورضاها بفراق من لها رغبة في الإسلام واستمساكا بعروته الوثقى والله عز وجل يعصمها ويكفلها يوؤنسها بنظم شملها ويجمل الصنع لها بمنه واستشارها الأب فيما هم به من ذلك فقالت له: إن أمسكتني فأنت مسئول عني وكانت هذه الصبية دون أم ولها أخوان وأخت صغيرة أشقاء لها.

شهر ذي الحجة عرفنا الله بمنه وبركته

شهر ذي الحجة عرفنا الله بمنه وبركته غم هلاله علينا لتوالي الأنواء فأكلمنا أيام شهر ذي القعدة بحسابه من ليلة الأربعاء السادس لشهر مارس ونحن بهذه المدينة المذكورة طامعين في قرب السفر مستبشرين بطيب الهواء والله ييسر مرامنا ويتكفل بسلامتنا بعزته واتفق أن أبصرنا الهلال ليلة الأربعاء كبيرا فعلم إنه من ليلة الثلاثاء فانتقل حساب الشهر إليها. وفي ظهر يوم الأربعاء التاسع من الشهر المذكور والثالث عشر من مارس وهو يوم عرفة عرفنا الله بركته وبركة الموقف الكريم فيه بعرفات كان صعودنا إلى المركب يمنه الله ورزقنا السلامة فيه مبيتين للسفر قرب الله علينا مسافته فأصبحنا على ظهر المركب صحة يوم عيد الأضحى نفعنا الله بمقاساة الوحشة فيه ونحن نيف على الخمسين رجلا من المسلمين عصم الله الجميع ونظم شملهم بأوطانهم بمنه وكرمه إنه سبحانه كفيل بذلك. ورمنا الإقلاع فلم توافق الريح فلم نزل نتردد من المركب إلى البر ونبيت للسفر

كل ليلة اثني عشر يوما إلى أن أذن الله بالإقلاع صبيحة يوم الإثنين الحادي والعشرين لذي الحجة المذكور والخامس والعشرين لمارس فأقلعنا على بركة الله تعالى في ثلاثة مراكب من الروم قدت وافقت على الاصطحاب في الجري وأن يسمك المتقدم منها على المتأخر فوصلنا إلى جزيرة الراهب وقد تقدم ذكرها في هذا التقييد وبينها وبين أطرابنش نحو ثمانية عشر ميلا فتغيرت الريح علينا فملنا إلى مرساها. فكان من الاتفاق العجب أن ألفينا فيها مركب مركون الجوى المقلع من الإسكندرية بنحو مائتي رجل ونيف من أصحابنا الحجاج المغاربة الذين كنا فارقناهم بمكة قدسها الله في ذي الحجة من سنة تسع ولم نسمع لهم خبرا منذ فارقناهم ولا سمعوا لنا وكان فيهم جماعة من أصحابنا من أهل غرناطة منهم الفقيه أبو جعفر بن سعيد صاحبنا ونزيلنا بمكة مدة مقامنا فيها فلحين ماعلموا بنا تطلعوا إلينا من المركب متعلقين بحافاته وجوانبه رافعين أصواتهم بشرى السلامة واللقاء مسرورين بالاجتماع باكين من الفرح دهشين داهلين لوقوع المسرة من نفوسهم ونحن لهم على مثل تلك الحال. فكان يوما مشهورا اتخذناه عقب العيد عيدا جديدا ونزل الأصحاب بعضهم إلى بعض وباتوا وبتنا بأسر ليلة وأنعمها وجعلنا هذا الاجتماع عنونا كريما لما نؤمله من انتظام الشمل بالأوطان إن شاء الله عز وجل. وأهب الله علينا ريحا طيبة في سحر تلك الليلة وهي ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من الشهر المذكور فأقلعنا بها ونحن في أربعة مراكب كلها تؤمل جزيرة الأندلس بحول الله تعالى وسرنا ذلك اليوم كله بريح تزجى المراكب تزحية حثيثة ونحن من الشوق إلى الأندلس بحال تكاد لها النفوس تقوم مقام الرياح في حث الرياح وانزعاجها والله يمن بالتسهيل والتعجيل ثم انقلبت الريح غربية بعدمسير يوم وليلتين فضربت في وجوهنا فأنكصتنا على الأعقاب فرجعنا عودا على بدء إلى مرسى جزيرة الراهب فوصلنا إليه

ليلة الخميس الرابع والعشرين من الشهر المذكور. ثم أقلعنا منه عشي يوم الجمعة بعده منفردين دون المراكب المذكورة فأزعجتنا ريح شديدة خرق1 لها المركب في الجري فأصبحنا يوم الأحد السابع والعشرين من الشهر ونحن على طرف جزيرة سردانية وقد قطعناها جريا وطولها أزيد من مائتي ميل فاستبشرنا وسررنا وقدر للمركب في يوم وليلتين قطع نيف على خمسمائة ميل فكان أمرا مستغربا، ثم إن الريح الموافقة ركدت عنا وهبت ريحاسقطتنا ليلة الإثنين الثامن والعشرين منه وهو أول أبريل إلى جهة بر إفريقية فأرسينا يوم الإثنين المذكور بجزيرة تعرف بخالطة وهي جزيرة غير معمورة ويقال إنها كانت معمورة في القديم وهي مقصد العدو وبينها وبين البر المذكور نحو ثلاثين ميلا وهو منا رأى العين فأقمنا بها بعد أهوال لقيناها في دخول مرساها عصم الله منها وتوالت الأنواء علينا فيها ونحن ننتظر فرجا من الله تعالى وكان مقامنا فيها أربعة أيام آخرها يوم الخميس مستهل محرم.

_ 1 خرق: أراد أسرع.

شهر محرم سنة إحدى وثمانين عرفنا الله بركتها بمنه

شهر محرم سنة إحدى وثمانين عرفنا الله بركتها بمنه غم هلاله علينا فسحبناه على الكمال من ليلة الخميس الرابع لشهر ابريل عرفنا الله بركة هذه السنة ويمنها ورزقنا خيرها ووقانا شرها ومن علينا بنظم الشمل فيها إنه سميع مجيب. وفي ليلة الجمعة الثاني منه أهب الله علينا ريحا شرقية أقلعنا بها وهو لين رخاء إلى أن استشرى فعاد ريحا شديدة جرى بها المركب أقوى جري وأعدله وما زلنا منذ ركبنا البحر نتنسم هذا الأفق الشرقي شوقا إلى ريحه فلا

يهب منه نسيم حتى خلناه لعدمه عنقاء مغربا إلى أن تداركنا الله بلطفه وجميل صنعه فأجراه لنا الآن في شهر نيسان عرفنا الله السلامة بمنه وكرمه. وصحتنا هذه الريح الشرقية نحو يومين سرنا فيهما سيرا حثيثا وتركنا جزيرة سردانية عن يميننا ثم تلاعبت بنا الرياح المختلفة فأقمنا بها نضرب البحر طولا وعرضا ولا يتراءى لنا بر حتى ساءت ظنوننا وتوهمنا إسقاط الرياح لنا إلى جهة بر برشلونه دمرها الله إلى أن أذن الله بالفرج فأبصرنا بر جزيرة يابسة ليلة السبت العاشر من الشهر المذكور ونحن لا نكاد نتبينه لبعد خيالا خفيا، فلما كان يوم السبت المذكور بان لنا فدخلنا مرسى الجزيرة المذكورة مع الليل بعد مكابدة اختلاف الرياح في دخوله فأرسنيا والمدينة منا على مقدار أربعة أميال وكان إرساؤنا بإزاء جزيرة فرمنتيرة وهي منقطعة عن جزيرة يابسة وبينهما مقدار أربعة أميال أو خمسة وفيها قرى كثيرة معمورة فأقمنا بمرساها ونحن بمقربة من الجبلين المنقطعين المتناظرين المعروفين بالشيخ والعجوز. وفي تلك الليلة مع المغيب أبصرنا جبال بر الأندلس وأقربها منا جبل دانية المعروف بقاعون فحدقت الأبصار لهذا البر سرورا بمرآه واستبشرت الأنفس بالدنو منه وأصبحنا يوم الأحد الحادي عشر من الشهر بالمرسى المذكور والريح غربية ونحن ننتظر تتميم الصنع الجميل من الله عز وجل بارسال الريح الموافقة نشرا بين يدي رحمته إن شاء الله. وفي ضحوة يوم الثلاثاء الثالث عشر منه أقلعنا على اليمن والبركة بريح شرقية لينة المهب لها نفس خافت داعين الله عز وجل في إحياء ذمائها1 وتقوية إجرائها وجبال دانية أمامنا رأي العين والله يتمم فضله علينا ويكمل صنعه بعزته لنا وتمادت وانتشرت بفضل الله تعالى فنزلنا بقرطاجنة عشي يوم الخميس الخامس عشر منه شاكرين لله على ما من به من السلامة والعافية والحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين.

_ 1 الذماء: الحركة وبقية النفس.

ثم أقلعنا منها إثر صلاة الجمعة السادس عشر منه فبتنا في فحص قرطاجنة بالبرج المعروف ببرج الثلاثة صهاريج ثم منه يوم السبت إلى مرسية ومنها في اليوم بعينه إلى لبرالة ثم منها يوم الأحد إلى الورقة ثم منها يوم الإثنين إلى المنصورة ثم منها يوم الثلاثاء إلى قبالش بسطة ثم منها يوم الأربعاء إلى وادي آش ثم منها يوم الخميس الثاني والعشرين لمحرم والخامس والعشرين لإبريل إلى المنزل بغرناطة: فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر والحمد لله على الصنع الجميل الذي أولاه والتيسير والتسهيل الذي والاه وصلواته على سيد المرسلين والآخرين محمد رسوله الكريم ومصطفاه وعلى آله وأصحابه الذين اهتدوا بهداه وسلم وشرف وكرم فكانت مدة مقامنا من لدن خروجنا من غرناطة إلى وقت إيابنا هذا عامين كاملين وثلاثة أشهر ونصفا والحمد لله رب العالمين.

§1/1