رحلة ابن جبير ط دار الهلال

ابن جبير

الكتاب والمؤلف بسم الله الرّحمن الرّحيم مؤلف هذا الكتاب هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني، الأندلسي، الشاطبي البلنسي. ولد في بلنسة سنة 539 هـ. وقد شغف أول ما شغف بعلوم الدين فسمعها من أبيه في شاطبة، وأخذ القرآن عن أبي الحسن بن أبي العيش. وقد قامت شهرته عن كتابه الذي عرف باسمه (رحلة ابن جبير) اذ أنه جاء ثمرة لرحلات ثلاث قام بها، أهمها رحلة استغرقت أكثر من ثلاث سنوات وقد بدأها في يوم الاثنين في التاسع عشر من شهر شوال سنة 578 هـ. وختمها في يوم الخميس في الثاني والعشرين من شهر محرم سنة 581 هـ. وقد جاء هذا الكتاب حافلا بالمشاهد والتجارب التي اكتسبها اثناء تجواله في عجائب البلدان والمدن، ورؤيته لغرائب المشاهد، واطلاعه على الشؤون والأحوال السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي كانت سائدة في تلك الحقبات من الزمن. وقد استرعى اهتمام المستشرقين لما له من قيمة نفيسة. فترجموا أول شيء القسم المختص منه بصقليّة الى الفرنسية وطبع في عام 1846 م، ثم طبع كله

ولأول مرة في ليدن عام 1852 م. باضافة مقدمة اليه وضعها المستشرق رايت. ثم أعيد طبعه عام 1907 م. مع ترجمة لمؤلفه. وقد كانت وفاة ابن جبير في سنة 614 هـ. في آخر رحلة قام بها الى مصر والإسكندرية حيث أقام هنالك محدثا. لجنة تحقيق التراث بدار ومكتبة الهلال

تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار بسم الله الرّحمن الرّحيم ابتدئ بتقييدها يوم الجمعة الموفي ثلاثين لشهر شوّال سنة ثمان وسبعين وخمس مئة على متن البحر بمقابلة جبل شلير «1» عرّفنا الله السلامة بمنّه. وكان انفصال أحمد بن حسان ومحمد بن جبير من غرناطة، حرسها الله للنية الحجازية المباركة، قرنها الله بالتيسير والتسهيل وتعريف الصنع الجميل، أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال المذكور وبموافقة اليوم الثالث لشهر فبرير الأعجمي. وكان الاجتياز على جيّان «2» لقضاء بعض الأسباب، ثم كان الخروج منها أول ساعة من يوم الاثنين التاسع عشر لشهر شوّال المذكور وبموافقة اليوم الرابع عشر لشهر فبرير المذكور أيضا. وكانت مرحلتنا الأولى منها الى حصن القبذاق «3» ثم منه الى حصن قبرة «4»

ثم منه الى مدينة استجة ثم منها الى حصن أشونة «1» ثم منه الى شلبر ثم منه الى حصن أركش ثم منه الى قرية تعرف بقرية القشمة من قرى مدينة ابن السليم ثم منها الى جزيرة طريف، وذلك يوم الاثنين السادس والعشرين من الشهر المؤرخ. فلما كان ظهر يوم الثلاثاء من اليوم الثاني، يسر الله علينا في عبور البحر الى قصر مصمودة «2» تيسيرا عجيبا، والحمد لله. ونهضنا منه الى سبتة غدوة يوم الأربعاء الثامن والعشرين منه، وألفينا بها مركبا للروم الجنويّين مقلعا الى الإسكندرية بحول الله، عز وجلّ، فسهّل الله علينا في الركوب فيه. وأقلعنا ظهر يوم الخميس التاسع والعشرين منه، وبموافقة الرابع والعشرين من فبرير المذكور، بحول الله تعالى وعونه، لا ربّ غيره. وكان طريقنا في البحر محاذيا لبر الأندلس. وفارقناه يوم الخميس السادس لذي القعدة بعده عندما حاذينا دانية. وفي صبيحة يوم الجمعة السابع من السهر المذكور آنفا قابلنا بر جزيرة يابسة «3» ثم يوم السبت بعده قابلنا بر جزيرة سيورقة ثم يوم الأحد بعده قابلنا جزيرة منورقة. ومن سبتة اليها نحو ثمانية بحار، والمجرى مئة ميل. وفارقنا بر هذه الجزيرة المذكورة، وقام معنا بر جزيرة سردانية أول ليلة الثلاثاء الحادي عشر من الشهر المذكور، وهو الثامن من مارس، دفعة واحدة على نحو ميل أو أقل. وبين الجزيرتين سردانيه ومنورقة نحو الأربع مئة ميل، فكان قطعا مستغربا في السرعة.

أهوال البحر وطرأ علينا من مقابلة البر في الليل هول عظيم، عصم الله منه بريح أرسلها الله تعالى في الحين من تلقاء البر، فأخرجنا عنه، والحمد لله على ذلك. وقام علينا نوء هال له البحر صبيحة يوم الثلاثاء المذكور، فبقينا مترددين بسببه حول برّ سردانية الى يوم الأربعاء بعده فأطلع الله علينا في حال الوحشة وانغلاق الجهات بالنوء فلا نميز شرقا من غرب، مركبا للروم قصدنا الى أن حاذانا، فسئل عن مقصده، فأخبر أنه يريد جزيرة «صقلية» وأنه من قرطاجنة عمل مرسية وقد كنا استقبلنا طريقه التي جاء منها من غير علم، فأخذنا عند ذلك في اتباع أثره، والله الميسّر لارب سواه. فخرج علينا طرف من بر سردانية المذكور، فأخذنا في الرجوع عودا على بدء الى أن وصلنا طرفا من البر المذكور يعرف بقوسمركة، وهو مرسى معروف عندهم. فأرسينا به ظهر يوم الأربعاء المذكور والمركب المذكور معنا. وبهذا الموضع المذكور أثر لبنيان قديم ذكر لنا أنه كان منزلا لليهود فيما سلف. ثم إنّا أقلعنا منه ظهر يوم الأحد السادس عشر من الشهر المذكور، وفي مدة مقامنا بالمرسى المذكور جددنا فيه الماء والحطب والزاد. وهبط واحد من المسلمين ممن يحفظ اللسان الرومي مع جملة من الروم الى أقرب المواضع المعمورة منا فأعلمنا أنه رأى جملة من أسرى المسلمين نحو الثمانين بين رجال ونساء يباعون في السوق. وكان ذلك عند وصول العدو، دمره الله، بهم من سواحل البحر ببلاد المسلمين، والله يتداركهم برحمته. ووصل الى المرسى المذكور، يوم الجمعة الثالث من يوم أرسينا فيه، سلطان الجزيرة المذكورة، مع جملة من الخيل.

فنزل اليه أشياخ المركب من الروم واجتمعوا به، وطال مقامهم عنده، ثم انصرفوا وانصرف الى موضع سكناه. وتركنا المركب المذكور في موضع ارسائه، بسبب مغيب بعض أصحابه في البلد، عند هبوب الريح الموافقة لنا. وفي ليلة الثلاثاء الثامن عشر لذي القعدة المذكور والخامس عشر من شهر مارس المذكور أيضا، وفي الربع الباقي منها، فارقنا بر سردانية المذكورة، وهو بر طويل جرينا بحذائه نحو المئتي ميل. ومنتهى دور الجزيرة، على ما ذكر لنا، الى أزيد من خمس مئة ميل، ويسر الله علينا في التخلص من بحرها، لأنه أصعب ما في الطريق، والخروج منه يتعذر في أكثر الأحيان، والحمد لله على ذلك. وفي ليلة الأربعاء بعدها من أولها عصفت علينا ريح هال لها البحر وجاء معها مطر ترسله الرياح بقوة، كأنه شآبيب «1» سهام. فعظم الخطب واشتد الكرب وجاءنا الموج من كل مكان أمثال الجبال السائرة. فبقينا على تلك الحال الليل كله، واليأس قد بلغ منا مبلغه، وارتجينا مع الصباح فرجة تخفف عنا بعض ما نزل بنا، فجاء النهار، وهو يوم الأربعاء التاسع عشر من ذي القعدة، بما هو اشد هولا وأعظم كربا، وزاد البحر اهتياجا واربدت الآفاق سوادا، واستشرت الريح والمطر عصوفا، حتى لم يثبت معها شراع. فلجىء الى استعمال الشّرع الصّغار. فأخذت الريح أحدها ومزقته وكسرت الخشبة التي ترتبط الشرع فيها، وهي المعروفة عندهم بالقرّية. فحينئذ تمكن اليأس من النفوس وارتفعت أيدي المسلمين بالدعاء الى الله عز وجل. وأقمنا على تلك الحال النهار كله. فلما جن الليل فترت الحال بعض فتور، وسرنا في هذه الحال كلها بريح الصواري سيرا سريعا. وفي ذلك اليوم حاذينا بر جزيرة صقلية. وبتنا تلك الليلة، التي هي ليلة الخميس التالية لليوم المذكور، مترددين بين الرجاء واليأس. فلما أسفر الصبح

نشر الله رحمته، وأقشعت السحاب وطاب الهواء وأضاءت الشمس وأخذ في السكون البحر. فاستبشر الناس وعاد الأنس وذهب اليأس، والحمد لله الذي أرانا عظيم قدرته، ثم تلافى بجميل رحمته ولطيف رأفته، حمدا يكون كفاء لمنته ونعمته. وفي هذا الصباح المذكور ظهر لنا بر صقيلة وقد أجزنا أكثره ولم يبق منه الا الأقل. وأجمع من حضر من رؤساء البحر من الروم وممن شاهد الأسفار والأهوال في البحر من المسلمين أنهم لم يعاينوا قط مثل هذا الهول فيما سلف من أعمارهم، والخبر عن هذه الحال يصغر في خبرها. وبين البرين المذكورين بر سردانية وبر صقيلة نحو الاربع مئة ميل. واستصحبنا من برصقلية ازيد من مئتي ميل، ثم ترددنا بحذائه بسبب سكون الريح. فلما كان عصر يوم الجمعة الحادي والعشرين من الشهر المذكور أقلعنا من الموضع الذي كنا أرسينا فيه، وفارقنا البر المذكور أول تلك الليلة. وأصبحنا يوم السبت وبيننا وبينه مسافة بعيدة، وظهر لنا اذ ذاك الجبل الذي كان فيه البركان «1» ، وهو جبل عظيم مصعد في جو السماء قد كساه الثلج. وأعلمنا أنه يظهر في البحر مع الصحو على أزيد من مسيرة مئة ميل. فأخذنا ملججين وأقرب ما نؤمله من البر الينا جزيرة أقريطش «2» ، وهي من جزائر الروم ونظرها الى صاحب القسطنطينية، وبينها وبين جزيرة صقيلة مسيرة سبع مئة ميل، والله كفيل بالتيسير والتسهيل بمنّه. وفي طول هذه الجزيرة، جزيرة أقريطش المذكورة، نحو من ثلاث مئة ميل. وفي ليلة الثلاثاء الخامس والعشرين من الشهر المذكور، وهو الثاني والعشرون من شهر مارس، حاذينا البر المذكور تقديرا لا عيانا. وفي صبيحة اليوم المذكور فارقناه متوجهين لقصدنا. وبين هذه الجزيرة المذكورة وبين الإسكندرية ست مئة ميل أو نحوها.

وفي صبيحة يوم الأربعاء السادس والعشرين منه ظهر لنا البر الكبير المتصل بالإسكندرية المعروف ببر الغرب، وحاذينا منه موضعا يعرف بجزائر الحمّام «1» على ما ذكر لنا، وبينه وبين الاسكندرية نحو الأربع مئة ميل على ما ذكر لنا فأخذنا في السير والبر المذكور منا يمينا. البشرى بالسلامة وفي صبيحة يوم السبت التاسع والعشرين من الشهر المذكور أطلع الله علينا البشرى بالسلامة بظهور منار الاسكندرية على نحو العشرين ميلا، والحمد لله على ذلك حمدا يقتضي المزيد من فضله وكريم صنعه. وفي آخر الساعة الخامسة منه كان ارساؤنا بمرسى البلد، ونزولنا اثر ذلك، والله المستعان فيما بقي بمنّه. فكانت اقامتنا على متن البحر ثلاثين يوما، ونزلنا في الحادي والثلاثين، لأن ركوبنا إياه كان يوم الخميس التاسع والعشرين من شهر شوّال، ونزولنا عنه في يوم السبت التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة، وبموافقة السادس والعشرين من مارس، والحمد لله على ما منّ به من التيسير والتسهيل، وهو سبحانه المسؤول بتتميم النعمة علينا ببلوغ الغرض من المقصود، وتعجيل الإياب الى الوطن على خير وعافية، انه المنعم بذلك لا رب سواه. وكان نزولنا بها بفندق يعرف بفندق الصّفار بمقربة من الصّبانة. شهر ذي الحجة من السنة المذكورة أوله يوم الأحد، ثاني يوم نزولنا بالإسكندرية. فمن أول ما شاهدنا فيها يوم نزولنا أن طلع أمناء الى المركب من قبل السلطان بها لتقييد جميع ما جلب فيه. فاستحضر جميع من كان فيه من المسلمين

الكتاب والمؤلف

واحدا واحدا وكتبت أسماؤهم وصفاتهم وأسماء بلادهم، وسئل كل واحد عما لديه من سلع أو ناضّ «1» ليؤدي زكاة ذلك كله دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو ما لم يحل. وكان أكثرهم متشخصين لأداء الفريضة لم يستصحبوا سوى زاد لطريقهم، فلزّموا أداء زكاة ذلك دون أن يسأل احال عليه الحول أم لا واستنزل احمد بن حسان منا ليسأل عن أنباء المغرب وسلع المركب. فطيف به مرقّبا على السلطان أولا ثم على القاضي ثم على أهل الديوان ثم على جماعة من حاشية السلطان. وفي كلّ يستفهم ثم يقيد قوله. فخلي سبيله، وأمر المسلمون بتنزيل أسبابهم وما فضل من أزودتهم، وعلى ساحل البحر أعوان يتوكلون بهم وبحمل جميع ما أنزلوه الى الديوان. فاستدعوا واحدا واحدا وأحضر ما لكل واحد من الأسباب، والديوان قد غص؟. فوقع التفتيش لجميع الأسباب، ما دق منها وما جل، واختلط بعضها ببعض، وادخلت الأيدي الى أوساطهم بحثا عما عسى أن يكون فيها. ثم استحلفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم أم لا. وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام، ثم أطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم، نسأل الله أن يعظم الأجر بذلك. وهذه لا محالة من الامور الملبّس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين، ولو علم بذلك على ما يؤثر عنه من العدل وايثار الرفق لأزال ذلك، وكفى الله المؤمنين تلك الخطة الشاقة واستؤدوا «2» الزكاة على أجمل الوجوه. وما لقينا ببلاد هذا الرجل ما يلم به قبيح لبعض الذكر سوى هذه الاحدوثة التي هي من نتائج عمال الدواوين. ذكر بعض أخبار الاسكندرية وآثارها فأول ذلك حسن وضع البلد واتساع مبانيه، حتى إنّا ما شاهدنا بلدا أوسع

منار الاسكندرية

مسالك منه ولا أعلى مبنى ولا أعتق ولا أحفل منه، وأسواقه في نهاية من الاحتفال أيضا. ومن العجب في وصفه أن بناءه تحت الأرض كبنائه فوقها وأعتق وأمتن، لأن الماء من النيل يخترق جميع ديارها وأزقتها تحت الأرض فتتصل الآبار بعضها ببعض ويمد بعضها بعضا. وعاينا فيها ايضا من سواري الرخام وألواحه كثرة وعلوا واتساعا وحسنا ما لا يتخيل بالوهم، حتى انك تلفي في بعض الممرات بها سواري يغص الجو بها صعودا لا يدرى ما معناه ولا لم كان أصل وضعها. وذكر لنا أنه كان عليها في القديم مبان للفلاسفة خاصة ولأهل الرئاسة في ذلك الزمان، والله أعلم، ويشبه أن يكون ذلك للرصد. منار الاسكندرية ومن أعظم ما شاهدناه من عجائبها المنار الذي قد وضعه الله عز وجل على يدي من سخّر لذلك آية للمتوسمين وهداية للمسافرين، لولاه ما اهتدوا في البحر الى بر الإسكندرية، يظهر على أزيد من سبعين ميلا. ومبناه في غاية العتاقة والوثاقة طولا وعرضا، يزاحم الجو سموا وارتفاعا، يقصر عنه الوصف وينحسر دونه الطرف، الخبر عنه يضيق والمشاهدة له تتسع. ذرعنا أحد جوانبه الأربعة فألفينا فيه نيفا وخمسين باعا ويذكر ان في طوله أزيد من مئة وخمسين قامة. وأما داخله فمرأى هائل، اتساع معارج ومداخل وكثرة مساكن، حتى ان المتصرف فيها والوالج في مسالكها ربما ضلّ. وبالجملة لا يحصّلها القول، والله لا يخليه من دعوة الإسلام ويبقيه. وفي أعلاه مسجد موصوف بالبركة يتبرك الناس بالصلاة فيه، طلعنا اليه يوم الخميس الخامس لذي الحجة المورخ وصلينا في المسجد المبارك المذكور.

مناقب الاسكندرية

وشاهدنا من شأن مبناه عجبا لا يستوفيه وصف واصف. مناقب الاسكندرية ومن مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة الى سلطانه: المدارس والمحارس «1» الموضوعة فيه لأهل الطب والتعبد، يفدون من الاقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكنا يأوي اليه ومدرّسا يعلمه الفن الذي يريد تعلمه واجراء يقوم به في جميع احواله. واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمر بتعيين حمّامات يستحمون فيها متى احتاجوا الى ذلك، ونصب لهم مارستانا لعلاج من مرض منهم، ووكل بهم اطباء يتفقدون احوالهم، وتحت أيديهم خدام يأمرونهم بالنظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء. وقد رتب ايضا فيه اقوام برسم الزيارة للمرضى الذين يتنزهون عن الوصول للمارستان المذكور من الغرباء خاصة، وينهون الى الاطباء أحوالهم ليتكفلوا بمعالجتهم. ومن اشرف هذه المقاصد أيضا ان السلطان عين لأبناء السبيل من المغاربة خبزتين لكل انسان في كل يوم بالغا ما بلغوا، ونصب لتفريق ذلك كل يوم انسانا امينا من قبله. فقد ينتهي في اليوم الى ألفي خبزة او ازيد بحسب القلة والكثرة، وهكذا دائما، ولهذا كله اوقاف من قبله حاشا ما عيّنه من زكاة العين لذلك. وأكد على المتولين لذلك متى نقصهم من الوظائف المرسومة شيء أن يرجعوا الى صلب ماله. وأما أهل بلده ففي نهاية من الترفيه واتساع الأحوال لا يلزمهم وظيف البتة. ولا فائد للسلطان بهذا البلد سوى الأوقاف المحبسة المعينة من قبله لهذه الوجوه وجزية اليهود والنصارى وما يطرأ من زكاة العين خاصة، وليس له منها سوى ثلاثة اثمانها والخمسة الأثمان مضافة للوجوه المذكورة.

وهذا السلطان الذي سن هذه السنن المحمودة ورسم هذه الرسوم الكريمة على عدمها في المدة البعيدة هو صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب، وصل الله صلاحه وتوفيقه. ومن أعجب ما اتفق للغرباء أن بعض من يريد التقرب بالنصائح الى السلطان ذكر ان أكثر هؤلاء يأخذون جراية الخبز ولا حاجة لهم بها رغبة في المعيشة لأنهم لا يصلون الا بزاد يقلهم. فكاد يؤثر سعي هذا المتنصح. فلما كان في احد الأيام خرج السلطان المذكور على سبيل التطلع خارج بلده، فتلقى منهم جماعة قد لفظتهم الصحراء المتصلة بطرابلس، وهم قد ذهبت رسومهم عطشا وجوعا. فسألهم عن وجهتهم واستطلع ما لديهم. فأعلموه أنهم قاصدون بيت الله الحرام وانهم ركبوا البر وكابدوا مشقة صحرائية. فقال: لو وصل هؤلاء وهم قد اعتسفوا هذه المجاهل التي اعتسفوها وكابدوا من الشقاء ما كابدوه وبيد كل واحد منهم زنته ذهبا وفضة لوجب ان يشاركوا ولا يقطعوا عن العادة التي اجريناها لهم، فالعجب ممن يسعى على مثل هؤلاء ويروم التقرب الينا بالسعي في قطع ما أوجبناه لله عز وجل خالصا لوجهه. ومآثر هذا السلطان ومقاصده في العدل ومقاماته في الذّب عن حوزة الدين لا تحصى كثرة. ومن الغريب ايضا في أحوال هذا البلد تصرّف الناس فيه بالليل كتصرفهم بالنهار في جميع أحوالهم. وهو أكثر بلاد الله مساجد، حتى إن تقدير الناس لها يطفّق فمنهم المكثّر والمقلّل، ينتهي في تقديره الى اثني عشر ألف مسجد، والمقلل ما دون ذلك لا ينضبط، فمنهم من يقول ثمانية آلاف ومنهم من يقول غير ذلك. وبالجملة فهي كثيرة جدا تكون منها الأربعة والخمسة في موضوع وربما كانت مركبة «1» ، وكلها بأئمة مرتبين من قبل السلطان، فمنهم من له الخمسة دنانير مصرية في الشهر، وهي عشرة مؤمنية، ومنهم من له فوق ذلك

ومنهم من له دونه. وهذه منقبة كبيرة من مناقب السلطان. إلى غير ذلك مما يطول ذكره من المآثر التي يضيق عنها الحصر. ثم كان الانفصال عنها على بركة الله تعالى وحسن عونه صبيحة يوم الأحد الثامن لذي الحجة المذكور، وهو الثالث لأبريل، فكانت مرحلتنا منه الى موضع يعرف بدمنهور، وهو بلد مسور في بسيط من الأرض أفيح، متصل من الإسكندرية اليه الى مصر. والبسيط كله محرّث يعمه النيل بفيضه، والقرى فيه يمينا وشمالا لا تحصى كثرة. ثم في اليوم الثاني وهو يوم الاثنين، أجزنا النيل بموضع يعرف بصا في مركب تعدية. واتصل سيرنا الى موضع يعرف ببرمة فكان مبيتنا بها، وهي قرية كبيرة فيها السوق وجميع المرافق. ثم بكرنا منها يوم الثلاثاء، وهو يوم عيد النحر من سنة ثمان وسبعين وخمس مئة المؤرخة، فشاهدنا الصلاة بموضع يعرف بطندتة «1» ، وهي من القرى الفسيحة الآهلة، فأبصرنا بها مجمعا حفيلا، وخطب الخطيب بخطبة بليغة جامعة. واتصل سيرنا الى موضع يعرف بسبئك وكان مبيتنا بها. واجتزنا في ذلك اليوم على موضع حسن يعرف بمليج، والعمارة متصلة والقرى منتظمة في طريقنا كلها. ثم بكرنا منها يوم الأربعاء بعده. فمن أحسن بلد مررنا عليه موضع يعرف بقليوب على ستة أميال من القاهرة فيه الأسواق الجميلة ومسجد جامع كبير حفيل البنيان، ثم بعده المنية، وهو موضع أيضا حفيل، ثم منها الى القاهرة، وهي مدينة السلطان الحفيلة المتسعة، ثم منها الى مصر المحروسة. وكان دخولنا فيها إثر صلاة العصر من يوم الأربعاء، وهو الحادي عشر من ذي الحجة المذكور والسادس من أبريل، عرّفنا الله فيها الخير والخبرة وتمّم علينا صنعه الجميل بالوصول الى الغرض المأمول ولا أخلانا من التيسير والتسهيل بعزّته وقدرته، انه على ما يشاء قدير.

ذكر مصر والقاهرة

وفي يوم الأربعاء المذكور أجزنا القسم الثاني من النيل في مركب تعدية أيضا بموضع يعرف بدجوة، وذلك وقت الغداة الصغرى، وكان نزولنا في مصر بفندق أبي الثناء في زقاق القناديل بمقربة من جامع عمرو بن العاص، رضي الله عنه، في حجرة كبيرة على باب الفندق المذكور. ذكر مصر والقاهرة فأول ما نبدأ بذكره منها الآثار والمشاهد المباركة التي ببركتها يمسكها الله عزّ وجلّ: فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، وهو في تابوت فضة مدفون تحت الأرض قد بني عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به، مجلل بأنواع الديباج، محفوف بأمثال العمد الكبار شمعا أبيض ومنه ما هو دون ذلك، قد وضع أكثرها في أتوار «1» فضة خالصة ومنها مذهبة، وعلقت عليه قناديل فضة، وحفّ أعلاه كله بأمثال التفافيح ذهبا في مصنع شبيه الروضة يقيد الأبصار حسنا وجمالا، فيه من أنواع الرخام المجزّع الغريب الصنعة البديع الترصيع ما لا يتخيله المتخيلون ولا يلحق أدنى وصفه الواصفون. والمدخل الى هذه الروضة على مسجد على مثالها في التأنق والغرابة، حيطانه كلها رخام على الصفة المذكورة، وعن يمين الروضة المذكورة وشمالها بيتان من كليهما المدخل اليها وهما أيضا على تلك الصفة بعينها. والأستار البديعة الصنعة من الديباج معلّقة على الجميع. ومن اعجب ما شاهدناه في دخولنا الى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل شديد السواد والبصيص، يصف الأشخاص كلها

ذكر مشاهد أهل البيت رضي الله عنهم

كأنه المرآة الهندية الحديثة الصقل. وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك، واحداقهم به وانكبابهم عليه وتمسحهم بالكسوة التي عليه وطوافهم حوله مزدحمين باكين متوسلين الى الله سبحانه وتعالى ببركة التربة المقدسة، ومتضرّعين ما يذيب الأكباد ويصدع الجماد. والأمر فيه أعظم، ومرأى الحال أهول، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم. وانما وقع الإلماع بنبذة من صفته مستدلا على ما وراء ذلك اذ لا ينبغي لعاقل أن يتصدى لوصفه لأنه يقف موقف التقصير والعجز. وبالجملة فما أظن في الوجود كله مصنعا أحفل منه، ولا مرأى من البناء أعجب ولا ابدع، قدّس الله العضو الكريم الذي فيه بمنّه وكرمه. وفي ليلة اليوم المذكور بتنا بالجبانة المعروفة بالقرافة، وهي أيضا إحدى عجائب الدنيا لما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأهل البيت رضوان الله عليهم، والصحابة والتابعين والعلماء والزّهاد والأولياء ذوي الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة. وإنما ذكرنا منها ما أمكنتنا مشاهدته. فمنها قبر ابن النبي صالح، وقبر روبيل بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم أجمعين، وقبر آسية امرأة فرعون رضي الله عنها، ومشاهد اهل البيت رضي الله عنهم أجمعين، مشاهد أربعة عشر من الرجال، وخمس من النساء. وعلى كل واحد منها بناء حفل. فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان، قد وكل بها قومة يسكنون فيها ويحفظونها. ومنظرها منظر عجيب، والجرايات متّصلة لقوامها في كل شهر. ذكر مشاهد أهل البيت رضي الله عنهم مشهد علي بن الحسين بن علي رضي الله عنه، ومشهدان لإبني جعفر بن محمد الصادق، رضي الله عنهم، ومشهد القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين المذكور، رضي الله عنهم، ومشهدان لابنيه الحسن والحسين رضي الله عنهما، ومشهد ابنه عند الله بن القاسم، رضي الله عنه، ومشهد ابنه يحيى بن

مشاهد الشريفات رضي الله عنهن

القاسم، ومشهد علي بن عبد الله بن القاسم رضي الله عنهم، ومشهد اخيه عيسى بن عبد الله، رضي الله عنهما، ومشهد يحيى بن الحسن بن زيد بن الحسن، رضي الله عنهم، ومشهد محمد بن عبد الله بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي، رضي الله عنهم، ومشهد جعفر بن محمد من ذرية علي بن الحسن، رضي الله عنهم، وذكر لنا أنه كان ربيب الإمام مالك، رضي الله عنه. مشاهد الشريفات رضي الله عنهن مشهد السيدة أم كلثوم ابنة القاسم بن محمد بن جعفر، رضي الله عنهم، ومشهد السيدة زينب ابنة يحيى بن زيد بن علي بن الحسين، رضي الله عنهم، ومشهد أم كلثوم ابنة محمد بن جعفر الصادق، رضي الله عنهم، ومشهد السيدة أم عبد الله بن القاسم بن محمد، رضي الله عنهم. وهذا ذكر ما حصّله العيان من هذه المشاهد العلوية المكرمة وهي أكثر من ذلك. وأخبرنا أن في جملتها مشهدا مباركا لمريم ابنة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. وهو مشهور لكن لم نعاينه. وأسماء أصحاب هذه المشاهد المباركة انما تلقيناها من التواريخ الثابتة عليها مع تواتر الأخبار بصحة ذلك، والله أعلم بها. وعلى كل واحد منها بناء حفيل، فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان، قد وكل بها قومة يسكنون فيها ويحفظونها. ومنظرها منظر عجيب. والجرايات متصلة لقوّامها في كل شهر. ذكر مشاهد بعض أصحاب النبي (ص) بالقرافة المذكورة ومشاهد التابعين والأئمة والعلماء والزهاد والأولياء المشتهرين بالكرامات رضي الله عنهم أجمعين. والمقيّد يبرأ من القطع بصحة ذلك وانما رسم من أسمائهم ما وجده مرسوما في تواريخها، وبالجملة فالصحة غالبة لا يشك فيها، ان شاء الله عز

مشاهد الأئمة العلماء الزهاد

وجل: مشهد معاذ بن جبل رضي الله عنه، مشهد عقبة بن عامر الجهني حامل راية رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مشهد صاحب بردة صلّى الله عليه وسلم، مشهد أبي الحسن صائغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مشهد سارية الجبل رضي الله عنه، مشهد محمد بن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنهما، مشهد أسماء ابنة أبي بكر الصّديق رضي الله عنهما، مشهد ابن الزّبير بن العوّام رضي الله عنهما، مشهد عبد الله بن حذافة السّهمي صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مشهد ابن حليمة رضيع رسول الله صلّى الله عليه وسلم. مشاهد الأئمة العلماء الزهاد مشهد الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهو من المشاهد العظيمة احتفالا واتساعا. وبني بإزائه مدرسة لم يعمر بهذه البلاد مثلها، لا أوسع مساحة ولا أحفل بناء، يخيل لمن يطوف عليها أنها بلد مستقل بذاته، بإزائها الحمّام، الى غير ذلك من مرافقها، والبناء فيها حتى الساعة، والنفقة عليها لا تحصى. تولى ذلك بنفسه الشيخ الإمام الزاهد العالم المعروف بنجم الدين الخبوشاني وسلطان هذه الجهات صلاح الدين يسمح له بذلك كله، ويقول: زد احتفالا وتأنقا وعلينا القيام بمؤونة ذلك كله، فسبحان الذي جعله صلاح دينه كاسمه. ولقينا هذا الرجل الخبوشاني المذكور تبركا بدعائه لأنه قد كان ذكر لنا امره بالأندلس. فألفيناه في مسجده بالقاهرة وفي البيت الذي يسكنه داخل المسجد المذكور، وهو بيت ضيق الفناء، فدعا لنا، وانصرفنا ولم نلق من رجال مصر سواه. مشهد المزني صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنه، مشهد أشهب صاحب مالك رضي الله عنه، مشهد عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك رضي الله عنهما، مشهد أصبغ صاحب مالك رضي الله عنهما، مشهد القاضي عبد الوهاب رضي الله عنه، مشهد عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن عبد الله بن

عبد الحكم رضي الله عنهما، مشهد الفقيه الواعظ الزاهد أبي الحسن الدينوري رضي الله عنه، مشهد بنان العابد رضي الله عنه، مشهد الرجل الصالح العابد الزاهد المعروف بصاحب الإبريق، وقصته عجيبة في الكرامة، مشهد بأبي مسلم الخولاني رضي الله عنه، مشهد المرأة الصالحة المعروفة بالعيناء رضي الله عنها، مشهد الروذباري رضي الله عنه، مشهد محمد بن مسعود بن محمد بن هارون الرشيد المعروف بالسبتي رضي الله عنه، مشهد الرجل الصالح مقبل الحبشي رضي الله عنه، مشهد ذي النون بن ابراهيم المصري رضي الله عنه، مشهد القاضي الأنباري، قبر الناطق الذي سمع عند وضعه في لحده يقول: اللهم انزلني منزلا مباركا وانت خير المنزلين، رضي الله عنه، مشهد العروس ولها أثر من الكرامة في حال جلوتها على زوجها لم يسمع أعجب منه، مشهد الصامت الذي يحكى عنه انه لم يتكلم أربعين سنة، مشهد العصافيري، مشهد عبد العزيز بن أحمد بن علي بن الحسن الخوارزمي، مشهد الفقيه الواعظ الأفضل الجوهري ومشاهد أصحابه بازائه رضي الله عنهم أجمعين، مشهد شقران شيخ ذي النون المصري، مشهد الرجل الصالح المعروف بالأقطع المغربي، مشهد المقرئ ورش، مشهد الطبري، مشهد شيبان الراعي. والمشاهد الكريمة بها أكثر من أن تضبط بالتقييد أو تتحصل بالإحصاء وانما ذكرنا منها ما أمكنتنا مشاهدته. وبقبلة القرافة المذكورة بسيط متسع يعرف بموضع قبور الشهداء، وهم الذين استشهدوا مع سارية رضي الله عن جميعهم. والبسيط المذكور مسنم كله للعيان على مثال أسنمة القبور دون بناء. ومن العجب أن القرافة المذكورة كلها مساجد مبنية ومشاهد معمورة يأوي اليها الغرباء والعلماء والصلحاء والفقراء، والاجراء على كل موضع منها متصل من قبل السلطان في كل شهر، والمدارس التي بمصر والقاهرة كذلك، وحقق عندنا أن الإجراء على ذلك كله نيف على الفي دينار مصرية في الشهر، وهي أربعة آلاف دينار مؤمنية.

قلعة القاهرة

وذكر لنا أن لجامع عمرو بن العاص بمصر من الفائد نحو الثلاثين دينارا مصرية في كل يوم تتفرق في مصالحه ومرتبات قومته وسدنته «1» وأئمته والقراء فيه. ومما شاهدناه بالقاهرة أربعة جوامع حفيلة البنيان أنيقة الصنعة الى مساجد عدة. وفي أحد الجوامع الخطبة اليوم، ويأخذ الخطيب فيها مأخذ سنّي يجمع فيها الدعاء للصحابة، رضي الله عنهم، وللتابعين ومن سواهم ولأمهات المؤمنين زوجات النبي صلّى الله عليه وسلم، ولعميه الكريمين حمزة والعباس، رضي الله عنهما، ويلطف الوعظ ويرقق التذكير حتى تخشع القلوب القاسية وتتفجر العيون الجامدة. ويأتي للخطبة لابسا السواد على رسم العباسية. وصفة لباسه بردة سوداء عليها طيلسان شرب «2» أسود، وهو الذي يسمى بالمغرب الإحرام، وعمامة سوداء، متقلدا سيفا. وعند صعوده المنبر يضرب بنعل سيفه المنبر في أول ارتقائه ضربة يسمع بها الحاضرين كأنها ايذان بالإنصات، وفي توسطه أخرى، وفي انتهاء صعوده ثالثة. ثم يسلم على الحاضرين يمينا وشمالا ويقف بين رايتين سوداوين فيهما تجزيع بياض قد ركزتا في أعلى المنبر. ودعاؤه في هذا التاريخ للإمام العباسي أبي العباس أحمد الناصر لدين الله ابن الإمام أبي محمد الحسن المستضيء بالله ابن الإمام أبي المظفّر يوسف المستنجد بالله، ثم لمحيي دولته أبي المظفر يوسف بن أيوب صلاح الدين، ثم لأخيه ولي عهده أبي بكر سيف الدين. قلعة القاهرة وشاهدنا أيضا بنيان القلعة وهو حصن يتصل بالقاهرة حصين المنعة، يريد السلطان أن يتخذه موضع سكناه، ويمد سوره حتى ينتظم بالمدينتين مصر والقاهرة. والمسخّرون في هذا البنيان والمتولون لجميع امتهاناته ومؤونته العظيمة

مارستان المجانين

كنشر الرخام وتحت الصخور العظام وحفر الخندق المحدق بسور الحصن المذكور وهو خندق ينقر بالمعاول نقرا في الصخر عجبا من العجائب الباقية الآثار، العلوج الاسارى من الروم، وعددهم لا يحصى كثرة، ولا سبيل أن يمتهن في ذلك البنيان احد سواهم. وللسلطان أيضا بمواضع أخر بنيان والأعلاج يخدمونه فيه، ومن يمكن استخدامه من المسلمين في مثل هذه المنفعة العامة مرفه عن ذلك كله ولا وظيفة في شيء من ذلك على أحد. مارستان المجانين ومما شاهدناه أيضا من مفاخر هذا السلطان المارستان الذي بمدينة القاهرة. وهو قصر من القصور الرائقة حسنا واتساعا أبرزه لهذه الفضيلة تأجرا واحتسابا وعيّن قيّما من أهل المعرفة وضع لديه خزائن العقاقير ومكنه من استعمال الأشربة واقامتها على اختلاف أنواعها. ووضعت في مقاصير ذلك القصر أسرة يتخذها المرضى مضاجع كاملة الكسى. وبين يدي ذلك القيم خدمة يتكفلون بتفقد احوال المرضى بكرة وعشية، فيقابلون من الاغذية والاشربة بما يليق بهم. وبازاء هذا الموضع موضع مقتطع للنساء المرضى. ولهن أيضا من يكفلهن. ويتصل بالموضعين المذكورين موضع آخر متسع الفناء فيه مقاصير عليها شبابيك الحديد اتخذت محابس للمجانين. ولهم أيضا من يتفقد في كل يوم أحوالهم ويقابلها بما يصلح لها. والسلطان يتطلع هذه الاحوال كلها بالبحث والسؤال ويؤكد في الاعتناء بها والمثابرة عليها غاية التأكيد. وبمصر مارستان آخر على مثل ذلك الرسم بعينه.

مسجد ابن طولون

مسجد ابن طولون وبين مصر والقاهرة المسجد الكبير المنسوب الى ابي العباس أحمد بن طولون، وهو من الجوامع العتيقة الانيقة الصنعة الواسعة البنيان، جعله السلطان مأوى للغرباء من المغاربة يسكنونه ويحلّقون فيه، وأجرى عليهم الارزاق في كل شهر. ومن أعجب ما حدثنا به أحد المتخصّصين منهم أن السلطان جعل أحكامهم اليهم ولم يجعل يدا لأحد عليهم. فقدموا من أنفسهم حاكما يمتثلون أمره ويتحاكمون في طوارىء أمورهم عنده، واستصحبوا الدعة والعافية، وتفرغوا لعبادة ربهم، ووجدوا من فضل السلطان أفضل معين على الخير الذي هم بسبيله. مآثر السلطان ومفاخره وما منها جامع من الجوامع ولا مسجد من المساجد ولا روضة من الروضات المبنية على القبور ولا محرس من المحارس ولا مدرسة من المدارس الا وفضل السلطان يعم جميع من يأوي اليها ويلزم السكنى فيها، تهوّن عليه في ذلك نفقات بيوت الاموال. ومن مآثره الكريمة المعربة عن اعتنائه بأمور المسلمين كافة أنه أمر بعمارة محاضر ألزمها معلمين لكتاب الله، عز وجل، يعلمون أبناء الفقراء والايتام خاصة وتجرى عليهم الجراية الكافية لهم. ومن مفاخر هذا السلطان وآثاره الباقية المنفعة للمسلمين القناطر التي شرع في بنائها بغربي مصر، وعلى مقدار سبعة أميال منها، بعد رصيف ابتدئ به من حيز النيل بازاء مصر كأنه جبل ممدود على الارض، تسير فيه مقدار ستة أميال حتى يتصل بالقنطرة المذكورة، وهي نحو الاربعين قوسا من أكبر ما يكون من قسيّ القناطر. والقنطرة متصلة بالصحراء التي يفضى منها الى الإسكندرية، له في ذلك تدبير عجيب من تدابير الملوك الحزمة اعدادا لحادثة تطرأ من عدو

معجزة البناء

يدهم جهة ثغر الإسكندرية عند فيض النيل وانغمار الارض به وامتناع سلوك العساكر بسببه. فأعد ذلك مسلكا في كل وقت ان احتيج الى ذلك. والله يدفع عن حوزة المسلمين كل متوقع ومحذور بمنه. ولاهل مصر في شأن هذه القنطرة انذار من الانذارات الحدثانية يرون أن حدوثها ايذان باستيلاء الموحدين عليها وعلى الجهات الشرقية، والله أعلم بغيبه، لا إله سواه. معجزة البناء وبمقربة من هذه القنطرة المحدثة الاهرام القديمة، المعجزة البناء، الغريبة المنظر، المربعة الشكل، كأنها القباب المضروبة قد قامت في جو السماء، ولا سيما الاثنان منها، فانهما يغص الجو بهما سموا، في سعة الواحد منها من أحد أركانه الى الركن الثاني ثلاث مئة خطوة وست وستون خطوة. قد اقيمت من الصخور العظام المنحوتة. وركبت تركيبا هائلا بديع الإلصاق دون أن يتخللها ما يعين على الصاقها، محددة الأطراف في رأي العين، وربما أمكن الصعود اليها على خطر ومشقة فتلفى أطرافها المحددة كأوسع ما يكون من الرحاب، لو رام أهل الأرض نقض بنائها لأعجزهم ذلك. للناس في أمرها اختلاف: فمنهم من يجعلها قبورا لعاد وبنيه، ومنهم من يزعم غير ذلك. وبالجملة فلا يعلم شأنها الا الله عز وجل. ولأحد الكبيرين منها باب يصعد اليه على نحو القامة من الأرض أو أزيد ويدخل منه الى بيت كبير سعته نحو خمسين شبرا وطوله نحو ذلك. وفي جوف ذلك البيت رخامة طويلة مجوفة شبه التي تسميها العامة البيلة يقال انها قبر والله أعلم بحقيقة ذلك. ودون الكبير هرم سعته من الركن الواحد الى الركن الثاني مئة واربعون

روضة النيل

خطوة. ودون هذا الصغير خمسة صغار وثلاثة متصلة والاثنان على مقربة منها متصلان. وعلى مقربة من هذه الأهرام بمقدار غلوة صورة غريبة من حجر قد قامت كالصومعة على صفة آدمي هائل المنظر، وجهه الى الأهرام وظهره الى القبلة مهبط النيل، تعرف بأبي الأهوال. وبمدينة مصر المسجد الجامع المنسوب لعمر بن العاص رضي الله عنه. وله أيضا بالإسكندرية جامع آخر هو مصلى الجمعة للمالكيين. وبمدينة مصر آثار من الخراب الذي أحدثه الإحراق الحادث بها وقت الفتنة عند انتساخ دولة العبيديين «1» ، وذلك سنة أربع وستين وخمس مئة، وأكثرها الآن مستجدّ والبنيان بها متصل. وهي مدينة كبيرة والآثار القديمة حولها، وعلى مقربة منها ظاهرة تدل على عظمة اختطاطها فيما سلف. روضة النيل وعلى شط نيلها مما يلي غربيها، والنيل معترض بينهما، قرية كبيرة حفيلة البنيان تعرف بالجيزة. لها كل يوم احد سوق من الأسواق العظيمة يجتمع اليها. ويعترض بينها وبين مصر جزيرة فيها مساكن حسان وعلالي مشرفة وهي مجتمع اللهو والنزهة، وبينها وبين مصر خليج من النيل يذهب بطولها نحو الميل ولها مخرج له. وبهذه الجزيرة مسجد جامع يخطب فيه. ويتصل بهذا الجامع المقياس الذي يعتبر فيه قدر زيادة النيل عند فيضه كل سنة. واستشعار ابتدائه في شهر يونيه، ومعظم انتهائه أغشت «2» ، وآخره أول شهر أكتوبر. وهذا المقياس عمود رخام أبيض مثمن في موضع ينحصر فيه الماء عند انسيابه اليه، وهو مفصل

عدل صلاح الدين

على اثنتين وعشرين ذراعا مقسمة على أربعة وعشرين قسما تعرف بالأصابع. فاذا انتهى الفيض عندهم الى أن يستوفي الماء تسع عشرة ذراعا منغمرة فيه فهي الغاية عندهم في طيب العام. وربما كان الغامر منه كثيرا بعموم الفيض. والمتوسط عندهم ما استوفى سبع عشرة ذراعا، وهو الأحسن عندهم من الزيادة المذكورة. والذي يستحق به السلطان خراجه في بلاد مصر ست عشرة ذراعا فصاعدا، وعليها يعطي البشارة الذي يراعي الزيادة في كل يوم والزيادة في أقسام الذراع المذكورة ويعلم بها مياومة حتى تستوفي الغاية التي يقضى بها. وان قصر عن ست عشرة ذراعا فلا مجبى للسلطان في ذلك العام ولا خراج. وذكر لنا أن بالجيزة المذكورة قبر كعب الأحبار رضي الله عنه. وفي صدر الجيزة المذكورة أحجار رخام قد صورت فيها التماسيح، فيقال: إن بسببها لا تظهر التماسيح فيما يلي البلد من النيل مقدار ثلاثة أميال علوا وسفلا، والله أعلم بحقيقة ذلك. عدل صلاح الدين ومن مفاخر هذا السلطان المزلفة من الله تعالى وآثاره التي أبقاها ذكرا جميلا للدين والدنيا: إزالته رسم المكس المضروب وظيفة على الحجاج مدة دولة العبيديين. فكان الحجاج يلاقون من الضغط في استيدائها عنتا مجحفا ويسامون فيها خطة خسف باهظة. وربما ورد منهم من لا فضل لديه على نفقته أو لا نفقة عنده فيلزم أداء الضريبة المعلومة، وكانت سبعة دنانير ونصف دينار من الدنانير المصرية التي هي خمسة عشر دينارا مؤمنية على كل رأس، ويعجز عن ذلك، فيتناول بأليم العذاب بعيذاب. فكانت كاسمها مفتوحة العين. وربما اخترع له من أنواع العذاب التعليق من الأنثيين أو غير ذلك من الأمور الشنيعة، نعوذ بالله من سوء قدره. وكان بجدّة أمثال هذا التنكيل وأضعافه لمن لم يؤدّ مكسه بعيذاب ووصل اسمه غير معلم عليه علامة الأداء. فمحا هذا

السلطان هذا الرسم اللعين ودفع عوضا منه ما يقوم مقامه من أطعمة وسواها، وعيّن مجبى موضع معيّن بأسره لذلك، وتكفل بتوصيل جميع ذلك الى الحجاز لأن الرسم المذكور كان باسم ميرة مكة والمدينة، عمّرهما الله، فعوض من ذلك أجمل عوض، وسهل السبيل للحجاج، وكانت في حيز الانقطاع وعدم الاستطلاع، وكفى الله المؤمنين على يدي هذا السلطان العادل حادثا عظيما وخطبا أليما. فترتب الشكر له على كل من يعتقد من الناس أن حج البيت الحرام احدى القواعد الخمس من الإسلام، حتى يعم جميع الآفاق ويوجب الدعاء له في كل صقع من الأصقاع وبقعة من البقاع، والله من وراء مجازاة المحسنين، وهو، جلت قدرته، لا يضيع أجر من أحسن عملا. الى مكوس كانت في البلاد المصرية وسواها ضرائب على كل ما يباع ويشترى مما دق أو جل، حتى كان يؤدّى على شرب ماء النيل المكس فضلا عما سواه. فمحا هذا السلطان هذه البدع اللعينة كلها وبسط العدل ونشر الأمن. ومن عدل هذا السلطان وتأمينه للسبل أن الناس في بلاده لا يخلعون لباس الليل تصرفا فيما يعنيهم، ولا يستشعرون لسواده هيبة تثنيهم. على مثل ذلك شاهدنا أحوالهم بمصر والإسكندرية حسبما تقدم ذكره. شهر محرم سنة تسع وسبعين استهل هلاله ليلة الثلاثاء، وهو اليوم السادس والعشرون من أبريل، ونحن بمصر، يسر الله علينا مرامنا. وفي صبيحة يوم الأحد السادس من محرم المذكور كان انفصالنا من مصر وصعودنا في النيل على الصعيد قاصدين الى قوص. عرفنا الله عادته الجميلة من التيسير وحسن المعونة بمنه، ووافق يوم اقلاعنا المذكور أول يوم من مايه «1»

بحول الله عز وجل. والقرى في طريقنا متصلة في شطي النيل والبلاد الكبار حسبما يأتي ذكره، ان شاء الله. فمنها قرية تعرف بأسكر في الضفة الشرقية من النيل مياسرة للصاعد فيه. ويذكر أن فيها كان مولد النبي موسى الكليم، صلى الله على نبينا وعليه، ومنها القته أمه في اليم، وهو النيل حسبما ذكر. وعاينا أيضا بغربي النيل ميامنا لنا، وذلك كله يوم اقلاعنا المذكور وفي الثاني منه، المدينة القديمة المنسوبة ليوسف الصديق صلّى الله عليه وسلم، وبها موضع السجن الذي كان فيه، وهو الآن ينقض وينقل أحجاره الى القلعة المبتناة الآن على القاهرة، وهو حصن حصين المنعة. وبهذه المدينة المذكورة مخازن الطعام التي اختزنها يوسف، صلى الله عليه وسلم، وهي مجوفة على ما يذكر. ومنها الموضع المذكور بمنية ابن الخصيب وهو بلد على شط النيل ميامنا للصاعد فيه كبير فيه الأسواق والحمامات وسائر مرافق المدن، اجتزنا عليه ليلة الأحد الثالث عشر لمحرم المذكور، وهو الثامن من يوم اقلاعنا من مصر، لأن الريح سكنت عنا فتربصنا في الطريق. ولو ذهبنا الى رسم كل موضع يعترضنا في شطي النيل يمينا وشمالا لضاق الكتاب عنه، لكن نقصد من ذلك الى الأكبر الأشهر. وقابلنا على مقربة من هذا الموضع مياسرا لنا المسجد المبارك المنسوب لإبراهيم خليل الرحمن، صلوات الله عليه وعلى نبينا، وهو مسجد مذكور مشهور معلوم بالبركة مقصود، ويقال: إن بفنائه أثر الدابة التي كان يركبها الخليل، صلى الله عليه وسلم. ومنها موضع يعرف بأنصنا مياسرا لنا، وهي قرية فسيحة جميلة بها آثار قديمة، وكانت في السالف مدينة عتيقة، وكان لها سور عتيق هدمه صلاح الدين وجعل على كل مركب منحدر في النيل وظيفة من حمل صخره الى القاهرة، فنقل

شهر محرم سنة تسع وسبعين

بأسره اليها. وفي صبيحة يوم الاثنين الرابع عشر من محرم المذكور، وهو التاسع من اقلاعنا من مصر، اجتزنا بالجبل المعروف بجبل المقلة وهو بالشط الشرقي من النيل مياسرا للصاعد فيه، وهو نصف الطريق الى قوص، من مصر اليه ثلاثة عشر بريدا، ومنه الى قوص مثلها. ومما يجب ذكره على جهة التعجب أن من حيّز مصر في شط النيل الشرقي مياسرا للصاعد فيه حائطا متصلا قديم البنيان، منه ما قد تهدم ومنه ما بقي أثره، يتمادى على الشط المذكور الى أسوان آخر صعيد مصر، وبين أسوان وبين قوص ثمانية برد. والأقوال في أمر هذا الحائط تتشعب وتختلف، وبالجملة فشأنه عجيب ولا يعلم سره الا الله عز وجل. وهو يعرف بحائط العجوز، ولها خبر مذكور، أظن هذه العجوز هي الساحرة المذكور خبرها في المسالك والممالك التي كانت لها المملكة بها مدة. ذكر ما استدرك خبره وذلك أنّا لما حللنا الإسكندرية في الشهر المؤرخ أولا عاينا مجتمعا من الناس عظيما بروزا لمعاينة أسرى من الروم أدخلوا البلد راكبين على الجمال ووجوههم الى اذنابها وحولهم الطبول والأبواق. فسألنا عن قصتهم، فأخبرنا بأمر تتفطر له الأكباد اشفاقا وجزعا. وذلك أن جملة من نصارى الشام اجتمعوا وأنشأوا مراكب في أقرب المواضع التي لهم من بحر القلزم «1» ثم حملوا أنقاضها على جمال العرب المجاورين لهم بكراء اتفقوا معهم عليه، فلما حصلوا بساحل البحر سمروا مراكبهم وأكملوا انشاءها وتأليفها ودفعوها في البحر وركبوها قاطعين بالحجاج، وانتهوا الى بحر النعم فأحرقوا فيه نحو ستة عشر مركبا. وانتهوا الى عيذاب فأخذوا فيها مركبا كان يأتي بالحجاج من جدة، واخذوا أيضا في البر قافلة كبيرة تأتي من قوص الى عيذاب، وقتلوا الجميع ولم يحيوا أحدا. وأخذوا مركبين

رجع الذكر

كانا مقبلين بتجار من اليمن، وأحرقوا أطعمة كثيرة على ذلك الساحل كانت معدة لميرة مكة والمدينة أعزهما الله، وأحدثوا حوادث شنيعة لم يسمع مثلها في الإسلام، ولا انتهى رومي الى ذلك الموضع قطّ. ومن أعظمها حادثة تسد المسامع شناعة وبشاعة، وذلك انهم كانوا عازمين على دخول مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، واخراجه من الضريح المقدس. أشاعوا ذلك وأجروا ذكره على ألسنتهم. فآخذهم الله باجترائهم عليه وتعاطيهم ما تحول عناية القدر بينهم وبينه. ولم يكن بينهم وبين المدينة أكثر من مسيرة يوم. فدفع الله عاديتهم بمراكب عمرت من مصر والإسكندرية دخل فيها الحاجب المعروف بلؤلؤ مع أنجاد المغاربة البحريين. فلحقوا العدو وهو قد قارب النجاة بنفسه فأخذوا عن آخرهم. وكانت آية من آيات العنايات الجبارية، وأدركوهم عن مدة طويلة كانت بينهم من الزمان نيف على شهر ونصف أو حوله. وقتلوا واسروا، وفرق من الأسارى على البلاد ليقتلوا بها، ووجه منهم الى مكة والمدينة. وكفى الله بجميل صنعه الإسلام والمسلمين أمرا عظيما، والحمد لله رب العالمين. رجع الذكر ومن المواضع التي اجتزنا عليها في الصعيد بعد جبل المقلة الذي ذكرنا أنه نصف الطريق من مصر الى قوص، حسبما تقدم ذكره، موضع يعرف بمنفلوط بمقربة من الشط الغربي ميامنا للصاعد في النيل، فيه الأسواق وسائر ما يحتاج اليه من المرافق، وهي بلدة في نهاية من الطيب ليس في الصعيد مثلها، وقمحها يجلب الى مصر لطيبه ورزانة حبته، قد اشتهر عندهم بذلك. فالتجار يصعدون في المراكب لاستجلابه. ومنها مدينة أسيوط، وهي من مدن الصعيد الشهيرة، بينها وبين الشط الغربي من النيل مقدار ثلاثة أميال. وهي جميلة المنظر، حولها بساتين النخل،

وسورها سور عتيق. ومنها موضع يعرف بأبي تيج، وهو بلد فيه الأسواق وسائر مرافق المدن، وهو في الشط الغربي من النيل. ومنها مدينة اخميم، وهي أيضا من مدن الصعيد الشهيرة المذكورة بشرقي النيل وبشطه، قديمة الاختطاط عتيقة الوضع، فيها مسجد ذي النون المصري، ومسجد داود أحد الصالحين المشتهرين بالخير والزهادة، وهما مسجدان موسومان بالبركة، دخلنا اليهما متبركين بالصلاة فيهما، وذلك يوم السبت التاسع عشر لمحرم المذكور. وبهذه المدينة المذكورة آثار ومصانع من بنيان القبط وكنائس معمورة الى الآن بالمعاهدين من نصارى القبط. ومن أعظم الهياكل المتحدّث بغرائبها في الدنيا هيكل عظيم في شرقي المدينة المذكورة وتحت سورها، طوله مئتا ذراع وعشرون ذراعا، وسعته مئة وستون ذراعا، يعرف عند أهل هذه الجهة بالبربا «1» وكذلك يعرف كل هيكل عندهم وكل مصنع قديم. قد قام هذا الهيكل العظيم على أربعين سارية، حاشا حيطانه، دور كل سارية منها خمسون شبرا، وبين كل سارية وسارية ثلاثون شبرا، ورؤوسها في نهاية من العظم والإتقان قد نحتت نحتا غريبا فجاءت مركنة بديعة الشكل كأن الخراطين تناولوها، وهي كلها مرقشة بأنواع الأصبغة اللازوردية وسواها. والسواري كلها منقوشة من أسفلها الى أعلاها. وقد انتصب على رأس كل سارية منها الى رأس صاحبتها التي تليها لوح عظيم من الحجر المنحوت، من أعظمها ما كلنا فيه ستة وخمسين شبرا طولا وعشرة أشبار عرضا وثمانية أشبار ارتفاعا وسقف هذا الهيكل كله من ألواح الحجارة المنتظمة ببديع الإلصاق، فجاءت كأنها فرش واحد. وقد انتظمت جميعه التصاوير البديعة والأصبغة الغريبة، حتى يخيل للناظر فيها أنها سقف من الخشب المنقوش.

والتصاوير على أنواع في كل بلاط من بلاطاته، فمنها ما قد جللته طيور بصور رائقة باسطة أجنحتها توهم الناظر اليها أنها تهمّ بالطيران، ومنها ما قد جللته تصاوير آدمية رائقة المنظر رائعة الشكل. قد أعدت لكل صورة منها هيئة هي عليها، كإمساك تمثال بيدها، أو سلاح، أو طائر، أو كأس، أو اشارة شخص الى آخر بيده، أو غير ذلك، مما يطول الوصف له ولا تتأتى العبارة لاستيفائه. وداخل هذا الهيكل العظيم وخارجه وأعلاه وأسفله تصاوير كلها مختلفات الأشكال والصفة، منها تصاوير هائلة المنظر خارجة عن صور الآدميين يستشعر الناظر اليها رعبا ويتملأ منها عبرة وتعجبا. وما فيه مغرز اشفى ولا ابرة الا وفيه صورة أو نقش أو خط بالمسند لا يفهم. قد عم هذا الهيكل العظيم الشأن كله هذا النقش البديع. ويتأتى في صم الحجارة من ذلك ما لا يتأتى في الرخو من الخشب، فيحسب الناظر استعظاما له أن عمر الزمان لو شغل بترقيشه وترصيعه وتزيينه لضاق عنه. فسبحان الموجد للعجائب لا اله سواه. وعلى أعلى هذا الهيكل سطح مفروش بألواح الحجارة العظيمة على الصفة المذكورة، وهو في نهاية الارتفاع، فيحار الوهم فيها، ويضل العقل في الفكرة في تطليعها ووضعها. وداخل هذا الهيكل من المجالس والزوايا والمداخل والمخارج والمصاعد والمعارج والمسارب والموالج ما تضل فيه الجماعات من الناس ولا يهتدي بعضهم لبعض الا بالنداء العالي، وعرض حائطه ثمانية عشر شبرا، وهو كله من حجارة مرصوصة على الصفة التي ذكرناها. وبالجملة فشأن هذا الهيكل عظيم ومرآه احدى عجائب الدنيا التي لا يبلغها الوصف ولا ينتهي اليها الحد، وانما وقع الإلماع بنبذة من وصفه دلالة عليه، والله المحيط بالعلم فيه والخبير بالمعنى الذي وضع له. فلا يظن المتصفح لهذا المكتوب أن في الإخبار عنه بعض غلوّ، فإن كل مخبر عنه، لو كان قسا بيانا، أو سحبانا

مواقف خزي ومهانة

يقف موقف العجز والتقصير، والله المحيط بكل شيء علما، لا اله سواه. مواقف خزي ومهانة وببلاد هذا الصعيد المعترضة في الطريق للحجاج والمسافرين، كإخميم وقوص ومنية ابن الخصيب من التعرض لمراكب المسافرين وتكشفها والبحث عنها وإدخال الأيدي الى أوساط التجار، فحصا عما تأبطوه أو احتضنوه من دراهم أو دنانير، ما يقبح سماعه وتشنع الأحدوثة عنه، كل ذلك برسم الزكاة دون مراعاة لمحلها او ما يدرك النصاب منها، حسبما ذكرناه في ذكر الإسكندرية من هذا المكتوب. وربما الزموهم الأيمان على ما بأيديهم، وهل عندهم غير ذلك، ويحضرون كتاب الله العزيز تقع اليمين عليه. فيقف الحجاج بين أيدي هؤلاء المتناولين لها مواقف خزي ومهانة تذكرهم أيام المكوس. وهذا أمر يقع القطع على أن صلاح الدين لا يعرفه. ولو عرفه لأمر بقطعه كما أمر بقطع ما هو أعظم منه، ولجاهد المتناول له، فان جهادهم من الواجبات لما يصدر عنهم من التعسف وعسير الإرهاق وسوء المعاملة مع غرباء انقطعوا الى الله عز وجل، وخرجوا مهاجرين الى حرمه الأمين، ولو شاء الله لكانت عن الخطة مندوحة في اقتضاء الزكاة على أجمل الوجوه من ذوي البضائع في التجارات مع مراعاة رأس كل حول الذي هو محل الزكاة، وبتجنب اعتراض الغرباء المنقطعين ممن تجب الزكاة له لا عليه، وكان يحافظ على جانب هذا السلطان العادل الذي قد شمل البلاد عدله وسار في الآفاق ذكره، ولا يسعى فيما يسيئ الذكر بمن قد حسن الله ذكره، ويقبّح المقالة في جانب من اجمل الله المقالة عنه. أشنع ما شاهدناه ومن اشنع ما شاهدناه من ذلك خروج شرذمة من مردة اعوان الزكاة، في ايديهم المسال الطوال ذوات الأنصبة، فيصعدون الى المراكب استكشافا لما

ما اجتزنا من المواضع

فيها، فلا يتركون عكما ولا غرارة الا ويتخللونها بتلك المسال الملعونة مخافة ان يكون في تلك الغرارة او العكم اللذين لا يحتويان سوى الزاد شيء غيّب عليه من بضاعة أو مال. وهذا أقبح ما يؤثر في الأحاديث الملعّنة، وقد نهى الله عن التجسس، فكيف عن الكشف لما يرجى ستر الصون دونه من حال لا يريد صاحبها ان يطلع عليها، اما استحقارا او استنفاسا دون بخل بواجب يلزمها، والله الآخذ على ايدي هؤلاء الظلمة بيد هذا السلطان العادل وتوفيقه، ان شاء الله. ما اجتزنا من المواضع ومن المواضع التي اجتزنا عليها بعد إخميم المذكورة موضع يعرف بمنشاة السودان على الشط الغربي من النيل، وهي قرية معمورة، ويقال: انها كانت في القدم مدينة كبيرة. وقد قام أمام هذه القرية، بينها وبين النيل، رصيف عال من الحجارة كأنه السور يضرب فيه النيل ولا يعلوه عند فيضه ومده فالقرية بسببه في امن من أتيّه. ومنها موضع يعرف بالبلينة، وهي قرية حسنة كثيرة النخل، بالشط الغربي من النيل، بينها وبين قوص اربعة برد. ومنها موضع يعرف بدشنة بالشط الشرقي من النيل، وهي مدينة مسورة فيها جميع مرافق المدن، وبينها وبين قوص بريدان. ومنها موضع بغربي النيل وعلى مقربة من شطه يعرف بدندرة، وهي مدينة من مدن الصعيد كثيرة النخل مستحسنة المنظر مشتهرة بطيب الرّطب، بينها وبين قوص بريد. وذكر لنا ان فيها هيكلا عظيما، وهو المعروف عند اهل هذه الجهات بالبربا، حسبما ذكرنا عند ذكر اخميم، وهيكلها يقال ان هيكل دندرة احفل منه واعظم.

ومنها مدينة قنا، وهي من مدن الصعيد، بيضاء انيقة المنظر ذات مبان حفيلة، ومن مآثرها المأثورة صون نساء أهلها والتزامهن البيوت، فلا تظهر في زقاق من ازقتها امرأة البتة، صحت بذلك الأخبار عنهن، وكذلك نساء دشنة المذكورة قبيل هذا. وهذه المدينة المذكورة في الشط الشرقي من النيل، وبينها وبين قوص نحو البريد. ومنها قفط، وهي مدينة بشرقي النيل وعلى مقدار ثلاثة أميال من شطه. وهي من المدن المذكورة في الصعيد حسنا ونظافة بنيان وإتقان وضع. ثم كان الوصول الى قوص يوم الخميس الرابع والعشرين لمحرم المؤرخ وهو التاسع عشر من مايه، فكان مقامنا في النيل ثمانية عشر يوما ودخلنا قوص في التاسع عشر. وهذه المدينة حفيلة الأسواق متسعة المرافق كثيرة الخلق لكثرة الصادر والوارد من الحجاج والتجار اليمنيين والهنديين وتجار أرض الحبشة، لأنها مخطر للجميع، ومحط للرّحال ومجتمع الرفاق، وملتقى الحجاج المغاربة والمصريين والإسكندريين ومن يتصل بهم، ومنها يفوّزون بصحراء عيذاب، واليها انقلابهم في صدرهم من الحج، وكان نزولنا فيها بفندق ينسب لأبن العجمي بالمنية، وهي ربض كبير خارج المدينة، على باب الفندق المذكور. شهر صفر استهل هلاله ليلة الأربعاء، وهو الخامس والعشرين من شهر مايه، ونحن بقوص نروم السفر الى عيذاب، يسر الله علينا مرامنا بمنه وكرمه. وفي يوم الاثنين الثالث عشر منه، وهو السادس من يونيه، أخرجنا جميع رحالنا من زاد وسواه الى المبرز، وهو موضع بقبلي البلد وعلى مقربة منه، فسيح الساحة، محدق بالنخيل، يجتمع فيه رحال الحاج والتجار وتشد فيه ومنه يستقلون ويرحلون، وفيه يوزن ما يحتاج الى وزنه على الجمّالين. فلما

كان إثر صلاة العشاء الآخرة رفعنا منه الى ماء يعرف بالحاجر فبتنا به. واصبحنا يوم الثلاثاء بعده مقيمين به بسبب تفقد بعض الجمالين من العرب لبيوتهم، وكانت على مقربة منهم، وفي ليلة الأربعاء الخامس عشر منه، ونحن بالحاجر المذكور، خسف القمر خسوفا كليا اول الليل وتمادى الى هدء منه. ثم أصبحنا يوم الأربعاء المذكور ظاعنين، وقلنا بموضع بقلاع الضيّاع. ثم كان المبيت بموضع يعرف بمحط اللّقيطة، كل ذلك في صحراء لا عمارة فيها. ثم غدونا يوم الخميس فنزلنا على ماء ينسب للعبدين، ويذكر انهما ماتا عطشا قبل ان يراده فسمي ذلك الموضع بهما، وقبراهما به، رحمهما الله. ثم تزودنا منه الماء لثلاثة ايام، وفوّزنا سحر يوم الجمعة السابع عشر منه، وسرنا في الصحراء نبيت منها حيث جن علينا الليل، والقوافل العيذابية والقوصية صادرة وواردة، والمفازة معمورة أمنا. فلما كان يوم الاثنين الموفي عشرين منه نزلنا على ماء بموضع يعرف بدنقاش، وهي بئر معينة يرد فيها من الانعام والأنام ما لا يحصيهم الا الله عز وجل، ولا يسافر في هذه الصحراء الا على الإبل لصبرها على الظمإ. واحسن ما يستعمل عليها ذوو الترفيه الشقاديف، وهي أشباه المحامل، واحسن انواعها اليمانية لأنها كالأشاكيز السفرية مجلدة متسعة، يوصل منها الاثنان بالحبال الوثيقة وتوضع على البعير ولها اذرع قد حفت بأركانها يكون عليها مظلة، فيكون الراكب فيها مع عديله في كنّ من لفح الهاجرة ويقعد مستريحا في وطائه ومتكئا ويتناول مع عديله ما يحتاج اليه من زاد وسواه ويطالع متى شاء المطالعة في مصحف أو كتاب. ومن شاء، ممن يستجيز اللعب بالشطرنج، ان يلاعب عديله تفكها واجماما للنفس لاعبه. وبالجملة فانها مريحة من نصب السفر. واكثر المسافرين يركبون الإبل على أحمالها فيكابدون من مشقة سموم الحر غما ومشقة. وفي هذا الماء وقعت بين بعض جمالي العرب اليمنيين أصحاب طريق عيذاب

وضمّانها، وهم من بليّ من افخاذ قضاعة «1» ، وبين بعض الأغزاز «2» بسبب التزاحم على الماء، مهاوشة كادت تفضي الى الفتنة ثم عصم الله منها. والقصد الى عيذاب من قوص على طريقين: احدهما يعرف بطريق العبدين، وهي هذه التي سلكناها، وهي اقصر مسافة، والآخر طريق دون قنا، وهي قرية على شاطىء النيل. ومجتمع هاتين الطريقين على مقربة من ماء دنقاش المذكور. ولهما مجتمع آخر على ماء يعرف بشاغب أمام ماء دنقاش بيوم. فلما كان عشاء يوم الاثنين المذكور تزودنا الماء ليوم وليلة ورفعنا الى ماء بموضع يعرف بشاغب، فوردناه ضحوة يوم الأربعاء الثاني والعشرين لصفر المذكور وهذا الماء ثماد يحفر عليه في الأرض فتسمح به قريبا غير بعيد الا أنه زعاق. ثم رحلنا منه سحر يوم الخميس بعده وتزودنا الماء لثلاثة أيام الى ماء بموضع يعرف بأمتان، وتركنا طريق الماء بموضع يعرف با ... يسارا، وليس بينه وبين شاغب غير مسافة يوم، والطريق عليه وعر للإبل. فلما كان ضحوة يوم الأحد السادس والعشرين لصفر المذكور نزلنا بأمتان المذكور، وفي هذا اليوم المذكور كان فراغنا من حفظ كتاب الله عز وجل له الحمد وله الشكر على ما يسر لنا من ذلك. وهذا الماء بأمتان المذكور هو في بئر معينة قد خصها الله بالبركة. وهو أطيب مياه الطريق وأعذبها، فيلقى فيها من دلاء الوارد ما لا يحصى كثرة فتروي القوافل النازلة عليها على كثرتها وتروي من الإبل البعيدة الإظماء ما لو وردت نهرا من الانهار لأنضبته وانزفته. ورمنا في هذه الطريق احصاء القوافل الواردة والصادرة فما تمكن لنا، ولا سيما القوافل العيذابية المتحملة لسلع الهند الواصلة الى اليمن، ثم من اليمن إلى عيذاب. وأكثر ما شاهدنا من ذلك أحمال الفلفل، فلقد خيل الينا لكثرته أنه

يوازي التراب قيمة. ومن عجيب ما شاهدناه بهذه الصحراء أنك تلتقي بقاعة الطريق أحمال الفلفل والقرفة وسائرها من السلع مطروحة لا حارس لها تترك بهذه السبيل إما لإعياء الإبل الحاملة لها أو غير ذلك من الأعذار، وتبقى بموضعها الى أن ينقلها صاحبها مصونة من الآفات على كثرة المارة عليها من أطوار الناس. ثم كان رفعنا من امتان المذكور صبيحة يوم الاثنين بعد الأحد المذكور. ونزلنا على ماء بموضع يعرف بمجاج بمقربة من الطريق ظهر يوم الاثنين المذكور. ومنه تزودنا الماء الأربعة أيام الى ماء بموضع يعرف بالعشراء على مسافة يوم من عيذاب. ومن هذه المرحلة المجاجية يسلك الوضح، وهي رملة ميثاء تتصل بساحل بحر جدة يمشى فيها الى عيذاب ان شاء الله، وهي أفيح من الأرض مد البصر يمينا وشمالا. وفي ظهر يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من الشهر المذكور كان رفعنا من مجاج المذكور سالكين على الوضح. شهر ربيع الأول استهل هلاله ليلة الجمعة الرابع والعشرين من شهر يونيه ونحن بآخر الوضح على نحو ثلاث مراحل من عيذاب، وفي وقت الغداة من يوم الجمعة المذكور كان نزولنا على الماء بموضع يعرف بالعشراء على مرحلتين من عيذاب، وبهذا الموضع كثير من شجر العشر، وهو شبيه بشجر الأترج لكن لا شوك له. وماء هذا الموضع ليس بخالص العذوبة، وهو في بئر غير مطوية. وألفينا الرمل قد انهال عليها وغطى ماءها، فرام الجمالون حفرها واستخراج مائها فلم يقدروا على ذلك وبقيت القافلة لا ماء عندها. فأسرينا تلك الليلة، وهي ليلة السبت الثاني من الشهر المذكور، فنزلنا

شهر صفر

ضحوة على ماء الخبيب، وهو بموضع بمرأى العين من عيذاب، يستقي منه القوافل وأهل البلد ويعم الجميع، وهي بئر كبيرة كأنها الجب الكبير. أحفل مراسي الدنيا فلما كان عشي يوم السبت دخلنا عيذاب، وهي مدينة على ساحل بحر جدّة غير مسورة، أكثر بيوتها الأخصاص، وفيها الآن بناء مستحدث بالجص. وهي من أحفل مراسي الدنيا بسبب أن مراكب الهند واليمن تحط فيها وتقلع منها زائدا الى مراكب الحجاج الصادرة والواردة. وهي في صحراء لا نبات فيها ولا يؤكل فيها شيء الا مجلوب، لكن أهلها بسبب الحجاج تحت مرفق كثير ولا سيما مع الحاج، لأن لهم على كل حمل طعاما يحملونه ضريبة معلومة خفيفة المؤونة بالإضافة الى الوظائف المكوسية التي كانت قبل اليوم التي ذكرنا رفع صلاح الدين لها، ولهم أيضا من المرافق من الحجاج اكراء الجلاب منهم وهي المراكب. فيجتمع لهم من ذلك مال كثير في حملهم الى جدة وردهم وقت انفضاضهم من أداء الفريضة. وما من أهلها ذوي اليسار الا من له الجلبة والجلبتان، فهي تعود عليهم برزق واسع. فسبحان قاسم الارزاق على اختلاف أسبابها، لا اله سواه. وكان نزولنا فيها بدار تنسب لمونح أحد قوادها الحبشيين الذين تأثلوا بها الديار والرباع والجلاب، وفي بحر عيذاب مغاص على اللؤلؤ في جزائر على مقربة منها، وأوان الغوص عليه في هذا التاريخ المقيدة فيه هذه الأحرف، وهو شهر يونيه العجمي والشهر الذي يتلوه، ويستخرج منه جوهر نفيس، له قيمة سنية، يذهب الغائصون عليه الى تلك الجزائر في الزوارق ويقيمون فيها الأيام فيعودون بما قسم الله لكل واحد منهم بحسب حظه من الرزق. والمغاص منها قريب القعر ليس ببعيد. ويستخرجونه في أصداف لها أزواج كأنها نوع من الحيتان أشبه شيء بالسلحفاة. فاذا شقت ظهرت الشقتان من داخلها

آفة الحجاج

كأنهما محارتا فضة، ثم يشقون عليها فيجدون فيها الحبة من الجوهر قد غطى عليها لحم الصدف. فيجتمع لهم من ذلك بحسب الحظوظ والأرزاق. فسبحان مقدرها لا اله سواه. لكنهم ببلدة لا رطب فيها ولا يابس قد الفوا بها عيش البهائم؛ فسبحان محبب الأوطان الى أهلها، على أنهم أقرب الى الوحش منهم الى الأنس. آفة الحجاج والركوب من جدة اليها آفة للحجاج عظيمة الا الأقل منهم ممن يسلمه الله عز وجل، وذلك ان الرياح تلقيهم على الأكثر في مراس بصحارى تبعد منها مما يلي الجنوب، فينزل اليهم البجاة، وهم نوع من السودان ساكنون بالجبال، فيكرون منهم الجمال ويسلكون بهم غير طريق الماء. فربما ذهب اكثرهم عطشا وحصلوا على ما يخلفهم من نفقة او سواها. وربما كان من الحجاج من يتعسف تلك المجهلة على قدميه فيضل ويهلك عطشا. والذي يسلم منهم يصل الى عيذاب كأنه منشر من كفن، شاهدنا منهم مدة مقامنا أقواما قد وصلوا على هذه الصفة في مناظرهم المستحيلة وهيئاتهم المتغيرة، آية للمتوسمين. وأكثر هلاك الحجاج بهذه المراسي. ومنهم من تساعده الريح الى أن يحط بمرسى عيذاب، وهو الأقل. والجلاب التي يصرّفونها في هذا البحر الفرعوني ملفقة الإنشاء لا يستعمل فيها مسمار البتة انما هي مخيطة بأمراس من القنبار، وهو قشر جوز النارجيل يدرسونه الى ان يتخيط ويفتلون منه أمراسا يخيطون بها المراكب ويخللونها بدسر من عيدان النخل، فاذا فرغوا من انشاء الجلبة على هذه الصفة سقوها بالسمن او بدهن الخروع أو بدهن القرش، وهو أحسنها، وهذا القرش حوت عظيم في البحر يبتلع الغرقى فيه. ومقصدهم في دهان الجلبة ليلين عودها ويرطب لكثرة الشعاب المعترضة في هذا البحر. ولذلك لا يصرفون فيه المركب المسماري. وعود هذا الجلاب مجلوب من الهند واليمن، وكذلك القنبار المذكور.

أهل عيذاب

ومن اعجب أمر هذه الجلاب أن شرعها منسوجة من خوص شجر المقل. فمجموعها متناسب في اختلال البنية ووهنها، فسبحان مسخرها على تلك الحال والمسلم فيها لا اله سواه. ولأهل عيذاب في الحجاج احكام الطواغيت «1» وذلك انهم يشحنون بهم الجلاب حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج المملوءة، يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء حتى يستوفي صاحب الجلبة منهم ثمنها في طريق واحدة ولا يبالي بما يصنع البحر بها بعد ذلك، ويقولون: علينا بالألواح، وعلى الحجاج بالأرواح. وهذا مثل متعارف بينهم. فأحق بلاد الله بحسبة يكون السيف درتها هذه البلدة، والأولى بمن يمكنه ذلك ان لا يراهما وأن يكون طريقه على الشام الى العراق، ويصل مع أمير الحاج البغدادي، وان لم يمكنه ذلك اولا فيمكنه آخرا عند انفضاض الحاج، يتوجه مع أمير الحاج المذكور الى بغداد ومنها الى عكة، فان شاء دخل منها الى الاسكندرية، وان شاء الى صقلية أو سواهما. ويمكن أن يجد مركبا من الروم يقلع الى سبتة أو سواها من بلاد المسلمين. وان طال طريقه بهذا التحليق فيهون لما يلقى بعيذاب ونحوها. أهل عيذاب واهلها الساكنون بها من قبيل السودان يعرفون بالبجاة، ولهم سلطان من أنفسهم يسكن معهم في الجبال المتصلة بها. وربما وصل في بعض الأحيان واجتمع بالوالي الذي فيها من الغز اظهارا للطاعة. ومستنابه مع الوالي في البلد، والفوائد كلها له الا البعض منها. وهذه الفرقة من السودان المذكورين فرقة أضل من الأنعام سبيلا واقل عقولا

أهوال بحر فرعون

لا دين لهم سوى كلمة التوحيد التي ينطقون بها اظهارا للإسلام، ووراء ذلك من مذاهبهم الفاسدة وسيرهم ما لا يرضى ولا يحل، ورجالهم ونساؤهم يتصرفون عراة الا خرقا يسترون بها عوراتهم، وأكثرهم لا يسترون. وبالجملة فهم أمة لا أخلاق لهم، ولا جناح على لاعنهم. أهوال بحر فرعون وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين لربيع الأول المذكور، وهو الثامن عشر من يوليه، ركبنا الجلبة للعبور الى جدة. فأقمنا يومنا ذلك بالمرسى لركود الريح ومغيب النواتية، فلما كان صبيحة يوم الثلاثاء اقلعنا على بركة الله، عز وجل، وحسن عونه المأمول. فكانت مدة المقام بعيذاب، حاشا يوم الاثنين المذكور، ثلاثة وعشرين يوما، محتسبة عند الله، عز وجل، لشظف العيش وسوء الحال واختلال الصحة لعدم الاغذية الموافقة، وحسبك من بلد كل شيء فيه مجلوب حتى الماء، والعطش أشهى الى النفس منه. فأقمنا بين هواء يذيب الأجسام وماء يشغل المعدة عن اشتهاء الطعام، فما ظلم من غنى عن هذه البلدة بقوله: ماء زعاق وجو كله لهب فالحلول بها من أعظم المكاره التي حف بها السبيل الى البيت العتيق، زاده الله تشريفا وتكريما، وأعظم أجور الحجاج على ما يكابدونه ولا سيما في تلك البلدة الملعونة، ومما لهج الناس بذكره قبائحها حتى يزعمون أن سليمان ابن داود، على نبينا وعليه السلام، كان اتخذها سجنا للعفارتة، أراح الله الحجاج منها بعمارة السبيل القاصدة الى بيته الحرام، وهي السبيل التي من مصر على عقبة أيلة الى المدينة المقدسة، وهي مسافة قريبة يكون البحر منها يمينا وجبل الطور المعظم يسارا، لكن للإفرنج بمقربة منها حصن مندوب يمنع الناس من سلوكه والله

ينصر دينه ويعز كلمته بمنه. فتمادى سيرنا في البحر يوم الثلاثاء السادس والعشرين لربيع الأول المذكور ويوم الأربعاء بعده بريح فاترة المهب. فلما كان العشاء الآخرة من ليلة الخميس ونحن قد استبشرنا برؤية الطير المحلقة من بر الحجاز، لمع برق من جهة البر المذكور، وهي جهة الشرق، ثم نشأ نوء أظلم له الأفق الى أن كسا الآفاق كلها، وهبت ريح شديدة صرفت المركب عن طريقه راجعا وراءه، وتمادى عصوف الرياح واشتدت حلكة الظلمة وعمت الآفاق، فلم ندر الجهة المقصودة منها، الى أن ظهر بعض النجوم فاستدل بها بعض الاستدلال وحط القلع الى اسفل الدقل، وهو الصاري. واقمنا ليلتنا تلك في هول يؤذن باليأس، وارانا بحر فرعون بعض اهواله الموصوفة، الى ان أتى الله بالفرج مقترنا مع الصباح. فهدأ قياد الريح وأقشع الغيم وأصحت السماء ولاح لنا بر الحجاز على بعد لا نبصر منه الا بعض جباله، وهي شرق من جدة، زعم ربان المركب وهو الرّائس، أن بين تلك الجبال التي لاحت لنا وبر جدّة يومين، والله يسهل لنا كل صعب وييسر لنا كل عسير بعزته وكرمه. فجرينا يومنا ذلك، وهو يوم الخميس المذكور، بريح رخاء طيبة، ثم ارسينا عشية في جزيرة صغيرة في البحر على مقربة من البر المذكور بعد أن لقينا شعابا كثيرة يكثر فيها الماء ويضحل علينا، فتخللنا أثناءها على حذر وتحفظ. وكان الربان بصيرا بصنعته حاذقا فيها، فخلصنا الله منها، حتى أرسينا بالجزيرة المذكورة، ونزلنا اليها وبتنا بها ليلة الجمعة التاسع والعشرين لربيع الأول المذكور، واصبح الهواء راكدا والريح غير متنفسة الا من الجهة التي لا توافقنا فأقمنا بها يوم الجمعة المذكور. فلما كان يوم السبت الموفي ثلاثين تنفست الريح بعض التنفس، فاقلعنا بذلك النفس نسير سيرا رويدا. وسكن البحر حتى

خيل لناظره انه صحن زجاج ازرق. فأقمنا على تلك الحال نرجو لطيف صنع الله عز وجل. وهذه الجزيرة تعرف بجزيرة عائقة السفن، فعصمنا الله عز وجل من فأل اسمها المذموم، وله الحمد والشكر على ذلك. شهر ربيع الآخر استهل هلاله ليلة السبت ونحن بالجزيرة المذكورة ولم يظهر تلك الليلة للأبصار بسبب النوء لكن ظهر في الليلة الثانية كبيرا مرتفعا، فتحققنا اهلاله ليلة السبت المذكور، وهو الثالث والعشرون من شهر يوليه، وفي عشيّ يوم الأحد ثانية أرسينا بمرسى يعرف بأبحر، وهو على بعض يوم من جدة، وهو من أعجب المراسي وضعا، وذلك أن خليجا من البحر يدخل الى البر والبر مطيف به من كلتا حافتيه فترسي الجلاب منه في قرارة مكنّة هادئة. فلما كان سحر يوم الاثنين بعده أقلعنا منه على بركة الله تعالى بريح فاترة، والله الميسر لا رب سواه فلما جن الليل أرسينا على مقربة من جدة وهي بمرأى العين منا. وحالت الريح صبيحة يوم الثلاثاء بعده بيننا وبين دخول مرساها، ودخول هذه المراسي صعب المرام بسبب كثرة الشعاب والتفافها. وأبصرنا من صنعة هؤلاء الرؤساء والنواتية في التصرف بالجلبة أثناءها أمرا ضخما، يدخلونها على مضايق ويصرّفونها خلالها تصريف الفارس للجواد الرطب العنان السلس القياد، ويأتون في ذلك بعجب يضيق الوصف عنه. وفي ظهر يوم الثلاثاء الرابع من شهر ربيع الآخر المذكور، وهو السادس والعشرون من شهر يوليه، كان نزولنا بجدة حامدين لله عز وجل وشاكرين على السلامة والنجاة من هول ما عايناه في تلك الثمانية الأيام طول مقامنا على البحر، وكانت اهوالا شتى، عصمنا الله منها بفضله وكرمه، فمنها ما كان يطرأ من

شهر ربيع الآخر

البحر واختلاف رياحه وكثرة شعابه المعترضة فيه. ومنها ما كان يطرأ من ضعف عدة المركب واختلالها واقتصامها المرة بعد المرة عند رفع الشراع أو حطه أو جذب مرساة من مراسيه، وربما سنحت الجلبة بأسفلها على شعب من تلك الشعاب أثناء تخللها فنسمع لها هدا يؤذن باليأس، فكنا فيها نموت مرارا ونحيا مرارا، والحمد لله على ما منّ به من العصمة وتكفل به من الوقاية والكفاية حمدا يبلغ رضاه ويستهدي المزيد من نعماه، بعزته وقدرته، لا اله سواه. وكان نزولنا فيها بدار القائد عليّ وهو صاحب جدة من قبل أمير مكة المذكور، في صرح من تلك الصروح الخوصية التي يبنونها في أعالي ديارهم ويخرجون منها الى سطوح يبيتون فيها. وعند احتلالنا جدة المذكورة عاهدنا الله عز وجل، سرورا بما أنعم الله به من السلامة، الا يكون انصرافنا على هذا البحر الملعون الا ان طرأت ضرورة تحول بيننا وبين سواه من الطرق، والله وليّ الخيرة في جميع ما يقضيه ويسنيه بعزته. جدة وجدة هذه قرية على ساحل البحر المذكور اكثر بيوتها اخصاص، وفيها فنادق مبنية بالحجارة والطين وفي اعلاها بيوت من الأخصاص كالغرف، ولها سطوح يستراح فيها بالليل من أذى الحر. وبهذه القرية آثار قديمة تدل على أنها كانت مدينة قديمة، وأثر سورها المحدق بها باق الى اليوم. وبها موضع فيه قبة مشيدة عتيقة يذكر أنه كان منزل حواء أم البشر، صلى الله عليها، عند توجهها الى مكة، فبني ذلك المبنى عليه تشهيرا لبركته وفضله، والله أعلم بذلك. وفيها مسجد مبارك منسوب الى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ومسجد آخر له ساريتان من خشب الآبنوس ينسب ايضا إليه، رضي الله عنه، ومنهم من ينسبه الى هارون الرشيد، رحمة الله عليه.

استغلال الحجاج

واكثر سكان هذه البلدة مع ما يليها من الصحراء والجبال أشراف علويون: حسنيون وحسينيون وجعفريون، رضي الله عن سلفهم الكريم. وهم من شظف العيش بحال يتصدع له الجماد اشفاقا، ويستخدمون انفسهم في كل مهنة من المهن: من اكراء جمال ان كانت لهم، او مبيع لبن او ماء، الى غير ذلك من تمر يلتقطونه أو حطب يحتطبونه. وربما تناول ذلك نساءهم الشريفات بأنفسهن، فسبحان المقدر لما يشاء. ولا شك أنهم أهل بيت ارتضى الله لهم الآخرة ولم يرتض لهم الدنيا. جعلنا الله ممن يدين بحب أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وبخارج هذه البلدة مصانع قديمة تدل على قدم اختطاطها، ويذكر أنها كانت من مدن الفرس. وبها جباب منقورة في الحجر الصلد يتصل بعضها ببعض تفوت الإحصاء كثرة وهي داخل البلد وخارجه، حتى انهم يزعمون ان التي خارج البلد ثلاث مئة وستون جبا ومثل ذلك داخل البلد. وعاينا نحن جملة كثيرة لا يأخذها الإحصاء. وعجائب الموضوعات كثيرة، فسبحان المحيط علما بها. استغلال الحجاج وأكثر هذه الجهات الحجازية وسواها فرق وشيع لا دين لهم قد تفرقوا على مذاهب شتى. وهم يعتقدون في الحاج ما لا يعتقد في أهل الذمة، قد صيروهم من أعظم غلاتهم التي يستغلونها: ينتهبونهم انتهابا، ويسببون لاستجلاب ما بأيديهم استجلابا. فالحاج معهم لا يزال في غرامة ومؤونة الى أن ييسر الله رجوعه الى وطنه. ولولا ما تلافى الله به المسلمين في هذه الجهات بصلاح الدين لكانوا من الظلم في امر لا ينادى وليده ولا يلين شديده. فانه رفع ضرائب المكوس عن الحاج وجعل عوض ذلك مالا وطعاما يأمر بتوصيلهما الى مكثر أمير مكة، فمتى أبطأت عنهم تلك الوظيفة المترتبة لهم عاد هذا الأمير الى ترويع الحاج واظهار تثقيفهم بسبب المكوس. واتفق لنا من ذلك أن وصلنا

لا اسلام إلا في المغرب

جدة، فأمسكنا بها خلال ما خوطب مكثر الأمير المذكور. فورد أمره أن يضمن الحاج بعضهم بعضا ويدخلوا الى حرم الله، فان ورد المال والطعام اللذان برسمه من قبل صلاح الدين والا فهو لا يترك ماله قبل الحاج. هذا لفظه، كأن حرم الله ميراث بيده محلل له اكتراؤه من الحاج. فسبحان مغير السنن ومبدلها. والذي جعل له صلاح الدين، بدلا من مكس الحاج، ألفا دينار اثنان وألفا اردب من القمح، وهو نحو الثمانمائة قفيز بالكيل الإشببلي عندنا، حاشا اقطاعات أقطعها بصعيد مصر وبجهة اليمن لهم بهذا الرسم المذكور. ولولا مغيب هذا السلطان العادل صلاح الدين بجهة الشام في حروب له هناك مع الإفرنج لما صدر عن هذا الأمير المذكور ما صدر في جهة الحاج. فأحق بلاد الله بأن يطهرها السيف ويغسل أرجاسها وأدناسها بالدماء المسفوكة في سبيل الله هذه البلاد الحجازية لما هم عليه من حل عرى الإسلام واستحلال أموال الحاج ودمائهم. فمن يعتقد من فقهاء أهل الأندلس اسقاط هذه الفريضة عنهم فاعتقاده صحيح لهذا السبب وبما يصنع بالحاج مما لا يرتضيه الله عز وجل. فراكب هذا السبيل راكب خطر ومعتسف غرر. والله قد أوجد الرخصة فيه على غير هذه الحال، فكيف وبيت الله الآن بأيدي أقوام قد اتخذوه معيشة حرام وجعلوه سببا الى استلاب الأموال واستحقاقها من غير حل ومصادرة الحجاج عليها وضرب الذلة والمسكنة الدنية عليهم، تلافاها الله عن قريب بتطهير يرفع هذه البدع المجحفة عن المسلمين بسيوف الموحدين أنصار الدّين، وحزب الله أولي الحق والصدق، والذابين عن حرم الله عز وجل، والغائرين على محارمه، والجادين في اعلاء كلمته واظهار دعوته ونصر ملته، انه على ما يشاء قدير، وهو نعم المولى ونعم النصير. لا اسلام إلا في المغرب وليتحقق المتحقق ويعتقد الصحيح الاعتقاد أنه لا اسلام الا ببلاد المغرب،

الدعوة المؤمنية الموحدية

لأنهم على جادة واضحة لا بنيات لها. وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية فأهواء وبدع، وفرق ضالة وشيع، الا من عصم الله عز وجل من اهلها. كما أنه لا عدل ولا حق ولا دين على وجهه الا عند الموحدين، أعزهم الله، فهم آخر أئمة العدل في الزمان. وكل من سواهم من الملوك في هذا الأوان فعلى غير الطريقة يعشرون تجار المسلمين كأنهم أهل ذمة لديهم، ويستجلبون أموالهم بكل حيلة وسبب، ويركبون طرائق من الظلم لم يسمع بمثلها، اللهم الا هذا السلطان العادل صلاح الدين، الذي قد ذكرنا سيرته ومناقبه، لو كان له أعوان على الحق ... مما أريد الله عز وجل يتلافى المسلمين بجميل نظره ولطيف صنعه. الدعوة المؤمنية الموحدية ومن عجيب ما شاهدناه في أمر الدعوة المؤمنية الموحدية وانتشار كلمتها بهذه البلاد واستشعار أهلها لملكتها أن أكثر أهلها بل الكل منهم يرمزون بذلك رمزا خفيا حتى يؤدي ذلك بهم الى التصريح، وينسبون ذلك لآثار حدثانية وقعت بأيدي بعضهم أنذرت بأشياء من الكوائن فعاينوها صحيحة. فمن بعض الآثار المؤذنة بذلك عندهم أن بين جامع ابن طولون والقاهرة برجين مقتربين عتيقي البناء، على أحدهما تمثال ناظر الى جهة المغرب وكان على الآخر تمثال ناظر الى المشرق، فكانوا يرون أن أحدهم اذا سقط أنذر بغلبة أهل الجهة التي كان ناظرا اليها على ديار مصر وسواها. وكان من الاتفاق العجيب أن وقع التمثال الناظر الى المشرق فتلا وقوعه استيلاء الغز «1» على الدولة العبيدية وتملكهم ديار مصر وسائر البلاد. وهم الآن متوقعون سقوط التمثال الغربي وحدثان ما يؤملونه من ملكة أهله لهم ان شاء الله. ولم يبق الا الكائنة السعيدة من تملك الموحدين لهذه البلاد، فهم يستطلعون بها صبحا جليا ويقطعون بصحتها، ويرتقبونها ارتقاب الساعة التي لا يمترون في

من جدة إلى حرم الشريف

انجاز وعدها. شاهدنا من ذلك بالإسكندرية ومصر وسواهما مشافهة وسماعا أمرا غريبا يدل على أن ذلك الأمر العزيز أمر الله الحق ودعوته الصدق. ونمي الينا أن بعض فقهاء هذه البلاد المذكورة وزعمائها قد حبّر خطبا أعدها للقيام بها بين يدي سيدنا أمير المؤمنين، أعلى الله أمره، وهو يرتقب ذلك اليوم ارتقاب يوم السعادة وينتظره انتظار الفرج بالصبر الذي هو عبادة، والله عز وجل يبسطها من كلمة، ويعليها من دعوة، انه على ما يشاء قدير. من جدة إلى حرم الشريف وفي عشيّ يوم الثلاثاء الحادي عشر من الشهر المذكور، وهو الثاني من شهر أغشت، كان انفصالنا من جدة بعد أن ضمن الحجاج بعضهم بعضا، وثبتت أسماؤهم في زمام عند قائد جدة عليّ بن موفق، حسبما نفذ اليه ذلك من سلطانه صاحب مكة مكثر بن عيسى المذكور وهذا الرجل مكثر من ذرية الحسن بن عليّ، رضوان الله عليهما، لكنه ممن يعمل غير صالح، فليس من أهل سلفه الكريم، رضي الله عنهم. وأسرينا تلك الليلة الى ان وصلنا القرين مع طلوع الشمس. وهذا الموضع هو منزل الحاج ومحط رحالهم، ومنه يحرمون وبه يريحون اليوم الذي يصبحونه. فاذا كان في عشية رفعوا وأسروا ليلتهم وصبحوا الحرم الشريف، زاده الله تشريفا وتعظيما. والصادرون من الحج ينزلون به ايضا ويسرون منه الى جدة وبهذا الموضع المذكور بئر معينة عذبة، والحاج بسببها لا يحتاجون الى تزود الماء غير ليلة اسرائهم اليه. فأقمنا بياض يوم الأربعاء المذكور مريحين بالقرين. فلما حان العشي رحنا منه محرمين بعمرة، فأسرينا ليلتنا تلك، فكان وصولنا مع الفجر الى قريب الحرم. فنزلنا مرتقبين لانتشار الضوء. ودخلنا مكة، حرسها الله، في الساعة الأولى من يوم الخميس الثالث عشر

لربيع المذكور، وهو الرابع من شهر أغشت، على باب العمرة، وكان إسراؤنا تلك الليلة المذكورة، والبدر قد القى على البسيطة شعاعه، والليل قد كشف عنا قناعه، والأصوات تصك الآذان بالتلبية من كل مكان، والألسنة تضج بالدعاء وتبتهل الى الله بالثناء، فتارة تشتد بالتلبية، وآونة تتضرع بالأدعية. فيا لها ليلة كانت في الحسن بيضة العقر، فهي عروس ليالي العمر وبكر بنيات الدهر. الى أن وصلنا، في الساعة المذكورة من اليوم المذكور، حرم الله العظيم ومبوّأ الخليل ابراهيم. فألفينا الكعبة الحرام عروسا مجلوة مزفوفة الى جنة الرضوان محفوفة بوفود الرحمن، فطفنا طواف القدوم، ثم صلينا بالمقام الكريم وتعلقنا بأستار الكعبة عند الملتزم، وهو بين الحجر الأسود والباب، وهو موضع استجابة الدعوة. ودخلنا قبة زمزم وشربنا من مائها وهو لما شرب له، كما قال، صلى الله عليه وسلم. ثم سعينا بين الصفا والمروة، ثم حلقنا واحللنا. فالحمد لله الذي كرمنا بالوفادة عليه وجعلنا ممن انتهت الدعوة الإبراهيمية اليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وكان نزولنا فيها بدار تعرف بالنسبة الى الحلال قريبا من الحرم، ومن باب السدة احد ابوابه في حجرة كثيرة المرافق المسكنية مشرفة على الحرم وعلى الكعبة المقدسة. شهر جمادى الأول استهل هلاله ليلة الاثنين الثاني والعشرين لأغشت، وقد كمل لنا بمكة، شرفها الله تعالى، ثمانية عشر يوما، فهلال هذا الشهر أسعد هلال اجتلته أبصارنا فيما سلف من اعمارنا. طلع علينا وقد تبوأنا مقعد الجدار الكريم وحرم الله العظيم والقبة التي فيها مقام ابراهيم، مبعث الرسول ومهبط الروح الأمين جبريل بالوحي والتنزيل، فأوزعنا الله شكر هذه المنة وعرّفنا قدر ما خصنا به من نعمة، وختم لنا بالقبول، وأجرانا على كريم عوائده من الصنع الجميل ولطيف

شهر جمادى الأول

التيسير والتسهيل بعزته وقدرته، لا اله سواه. المسجد الحرام والبيت العتيق البيت المكرّم له اربعة أركان. وهو قريب من التربيع. واخبرني زعيم الشيبيين الذين اليهم سدانة البيت، وهو محمد بن اسماعيل بن عبد الرحمن من ذرية عثمان بن طلحة بن شيبة بن طلحة بن عبد الدار صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصاحب حجابة البيت: أن ارتفاعه في الهواء من الصفح الذي يقابل باب الصفا، وهو من الحجر الأسود، الى الركن اليماني، تسع وعشرون ذراعا وسائر الجوانب ثمان وعشرون، بسبب انصباب السطح الى الميزاب. فأول أركانه الركن الذي فيه الحجر الأسود، ومنه ابتداء الطواف، ويتقهقر الطائف عنه ليمر جميع بدنه به، والبيت المكرم عن يساره، وأول ما يلقى بعده الركن العراقي، وهو ناظر الى جهة الشمال. ثم الركن الشامي، وهو ناظر الى جهة الغرب. ثم الركن اليماني، وهو ناظر الى جهة الجنوب. ثم يعود الى الركن الأسود، وهو ناظر الى جهة الشرق. وعند ذلك يتم شوطا واحدا. وباب البيت الكريم في الصفح الذي بين الركن العراقي وركن الحجر الأسود، وهو قريب من الحجر بعشرة أشبار محققة. وذلك الموضع الذي بينهما من صفح البيت يسمى الملتزم، وهو موضع استجابة الدعاء. والباب الكريم مرتفع عن الأرض بأحد عشر شبرا ونصف. وهو من فضة مذهبة، بديع الصنعة، رائق الصفة، يستوقف الأبصار حسنا وخشوعا للمهابة التي كساها الله بيته. وعضادتاه كذلك، والعتبة العليا كذلك أيضا. وعلى رأسها لوح ذهب خالص ابريز في سعته مقدار شبرين. وللباب نقارتا فضة كبيرتان يتعلق عليهما قفل الباب، وهو ناظر للشرق، وسعته ثمانية أشبار، وطوله ثلاثة عشر شبرا وغلظ الحائط الذي ينطوي عليه الباب خمسة أشبار. وداخل البيت الكريم مفروش بالرخام المجزّع، وحيطانه رخام كلها مجزّع.

قد قام على ثلاثة أعمدة من الساج مفرطة الطول، وبين كل عمود وعمود أربع خطا. وهي على طول البيت متوسطة فيه. فأحد الأعمدة، وهو أولها، يقابل نصف الصفح الذي يحف به الركنان اليمانيان. وبينه وبين الصفح مقدار ثلاث خطا. والعمود الثالث، وهو آخرها، يقابل الصفح الذي يحف به الركنان العراقي والشامي. ودائر البيت كله من نصفه الأعلى مطلي بالفضة المذهبة المستحسنة، يخيل للناظر اليها أنها صفيحة ذهب لغلظها. وهي تحف بالجوانب الأربعة وتمسك مقدار نصف الجدار الأعلى. وسقف البيت مجلل بكساء من الحرير الملون. وظاهر الكعبة كلها من الأربعة الجوانب مكسو بستور من الحرير الأخضر وسداها قطن وفي أعلاها رسم بالحرير الأحمر، فيه مكتوب: «إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة» الآية، واسم الإمام الناصر لدين الله في سعته قدر ثلاث أذرع يطيف بها كلها. قد شكل في هذه الستور من الصنعة الغريبة التي تبصرها أشكال محاريب رائقة ورسوم مقروءة مرسومة بذكر الله تعالى وبالدعاء للناصر العباسي المذكور الآمر باقامتها، وكل ذلك لا يخالف لونها، وعدد الستور من الجوانب الأربعة أربعة وثلاثون سترا. وفي الصفحين الكبيرين منها ثمانية عشر، وفي الصفحين الصغيرين ستة عشر، وله خمسة مضاوئ، وعليها زجاج عراقي بديع النقش، أحدها في وسط السقف، ومع كل ركن مضوأ، والواحد منها لا يظهر لأنه تحت القبو المذكور بعد. وبين الأعمدة أكواس من الفضة عددها ثلاث عشرة واحداها من ذهب. واول ما يلقى الداخل على الباب عن يساره الركن الذي خارجه الحجر الأسود، وفيه صندوقان فيهما مصاحف، وقد علاهما في الركن بويبان من فضة كأنهما طاقان ملصقان بزاوية الركن. وبينهما وبين الأرض ازيد من قامة. وفي

الركن الذي يليه وهو اليماني كذلك لكنهما انقلعا وبقي العمود الذي كانا ملصقين عليه. وفي الركن الشامي كذلك وهما باقيان. وفي جهة الركن العراقي كذلك. وعن يمينه الركن العراقي وفيه باب يسمى بباب الرحمة يصعد منه الى سطح البيت المكرّم. وقد قام له قبو فهو متصل بأعلى سطح البيت داخله الأدراج. وفي أوله البيت المحتوي على المقام الكريم. فتجد للبيت الكريم بسبب هذا القبو خمسة أركان، وفي سعة صفحيه قامتان، وهو محتو على الركن العراقي بنصفين من كل صفح، وثلثا قناة هذا القبو مكسوان بستر الحرير الملون كأنه قد لف فيه ثم وضع. وهذا المقام الكريم الذي داخل هذا القبو هو مقام ابراهيم، صلى الله على نبينا وعليه، وهو حجر مغشى بالفضة، وارتفاعه مقدار ثلاثة أشبار، وسعته مقدار شبرين، وأعلاه اوسع من اسفله، فكأنه، وله التنزيه والمثل الأعلى، كانون فخار كبير اوسطه يضيق عن اسفله وعن أعلاه، عايناه وتبركنا بلمسه وتقبيله، وصب لنا في أثر القدمين المباركتين ماء زمزم فشربناه، نفعنا الله به. وأثرهما بيّن وأثر الأصابع المكرمة المباركة. فسبحان من ألانه لواطئه حتى أثرت فيه ولا تأثير القدم في الرمل الوثير، سبحان جاعله من الآيات البينات. ولمعاينته ومعاينة البيت الكريم هول يشعر النفوس من الذهول ويطيش الأفئدة والعقول، فلا تبصر الا لحظات خاشعة وعبرات هامعة ومدامع باكية وألسنة الى الله، عز وجل، ضارعة داعية. وبين الباب الكريم والركن العراقي حوض طوله اثنا عشر شبرا، وعرضه خمسة اشبار ونصف، وارتفاعه نحو شبر، متصل من قبالة عضادة الباب التي تلي الركن المذكور آخذا الى جهته، وهو علامة موضع المقام مدة ابراهيم، عليه السلام الى ان صرفه النبي، صلى الله عليه وسلم، الى الموضع الذي هو الآن مصلّى. وبقي الحوض المذكور مصبا لماء البيت اذا غسل، وهو موضع مبارك، يقال:

إنه روضة من رياض الجنة، والناس يزدحمون للصلاة فيه. وأسفله مفروش برملة بيضاء وثيرة. وموضع المقام الكريم هو الذي يصلى خلفه، يقابل ما بين الباب الكريم والركن العراقي، وهو الى الباب أميل بكثير، وعليه قبة خشب في مقدار القامة أو ازيد مركنة محددة بديعة النقش، سعتها من ركنها الواحد الى الثاني أربعة أشبار، وقد نصبت على الموضع الذي كان فيه المقام وحوله تكفيف من حجارة نصبت على حرف كالحوض المستطيل في ارتفاعه نحو شبر، وطوله خمس خطا، وعرضه ثلاث خطا. وأدخل المقام الى الموضع الذي وصفناه في البيت الكريم احتياطا عليه، وبينه وبين صفح البيت الذي يقابله سبع عشرة خطوة، والخطوة كلها فيها ثلاثة أشبار. ولموضع المقام أيضا قبة مصنوعة من حديد موضوعة الى جانب قبة زمزم. فاذا كان في أشهر الحج وكثر الناس ووصل العراقيون والخراسانيون رفعت قبة الخشب ووضعت قبة الحديد لتكون أحمل للازدحام. ومن الركن الذي فيه الحجر الأسود الى الركن العراقي أربعة وخمسون شبرا محققة. ومن الحجر الأسود الى الأرض ستة أشبار، فالطويل يتطأمن اليه والقصير يتطاول اليه. ومن الركن العراقي الى الركن الشامي ثمانية واربعون شبرا محققة، وذلك داخل الحجر، واما من خارج فمنه اليه أربعون خطوة، وهو مئة وعشرون شبرا محققة، ومن خارجه يكون الطواف. ومن الركن الشامي الى الركن اليماني ما من الركن الأسود الى العراقي لأنه الصفح الذي يقابله. ومن اليماني الى الأسود ما من العراقي الى الشامي داخل الحجر لأنه الصفح الذي يقابله. وموضع الطواف مفروش بحجارة مبسوطة كأنه الرخام حسنا، منها سود وسمر وبيض قد الصق بعضها الى بعض، واتسعت عن البيت بمقدار تسع خطا الا في الجهة التي تقابل المقام، فانها امتدت اليه حتى احاطت به. وسائر الحرم

مع البلاطات كلها مفروش برمل ابيض،، وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة، وبين الركن العراقي وبين أول جدار الحجر مدخل الى الحجر سعته أربع خطا وهي ست أذرع محققة كلناها باليد. وهذا الموضع الذي لم يحجر عليه هو الذي تركت قريش من البيت، وهو ست أذرع، حسبما وردت به الآثار الصحاح، ويقابله عند الركن الشامي مدخل آخر على مثال تلك السعة. وبين جدار البيت الذي تحت الميزاب والذي يقابله من جدار الحجر على خط استواء يشق وسط الصحن المذكور أربعون شبرا، وسعته من المدخل الى المدخل ست عشرة خطوة، وهي ثمانية وأربعون شبرا، ودور الجدار رخام كله مجزّع بديع الإلصاق ... وهناك قضبان صفر مذهبة وضع منها في صفحة أشكال شطرنجية متداخلة بعضها على بعض وصفات محاريب، فاذا ضربت الشمس فيها لاح لها بصيص ولألاء يخيل للناظر اليها انها ذهب يرتمي بالأبصار شعاعه. وفي ارتفاع جدار هذا الحجر الرخامي خمسة أشبار ونصف، وسعته أربعة أشبار ونصف. وداخل الحجر بلاط واسع ينعطف عليه الحجر كأنه ثلثا دائرة، وهو مفروش بالرخام المجزّع المقطع في دور الكف الى دور الدينار الى ما فوق ذلك، ثم الصق بانتظام بديع وتأليف معجز الصنعة غريب الإتقان رائق الترصيع والتجزيع رائع التركيب والرصف، يبصر الناظر فيه من التعاريج والتقاطيع والخواتم والأشكال الشطرنجية وسواها على اختلاف أنواعها وصفاتها ما يقيد بصره حسنا، فكأنه يجليه في أزهار مفروشة مختلفات الألوان الى محاريب قد انعطف عليها الرخام انعطاف القسي وداخلها هذه الأشكال الموصوفة والصنائع المذكورة وبازائها رخامتان متصلتان بجدار الحجر المقابل للميزاب أحدث الصانع فيهما من التوريق الرقيق والتشجير والتقضيب مالا يحدثه الصنع باليدين في الكاغد قطعا بالجلمين. فمرآهما عجيب، أمر بصنعتهما على هذه الصفة إمام المشرق أبو العباس أحمد الناصر بن المستضيء بالله أبي محمد

الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف العباسي، رضي الله عنه. ويقابل الميزاب في وسط الحجر وفي نصف جداره الرخامي رخامة قد نقشت أبدع نقش، وحفت بها طرة منقوشة نقشا مكحلا عجيبا، فيه مكتوب: مما أمر بعمله عبد الله وخليفته أبو العباس أحمد الناصر لدين الله أمير المؤمنين، وذلك في سنة ست وسبعين وخمس مئة. والميزاب في اعلى الصفح الذي يلي الحجر المذكور، وهو من صفر مذهب، قد خرج الى الحجر بمقدار أربع أذرع، وسعته مقدار شبر. وهذا الموضع تحت الميزاب هو ايضا مظنة استجابة الدعوة بفضل الله تعالى. وكذلك الركن اليماني ويسمى المستجار ما يليه، وهذا الصفح المتصل به من جهة الركن الشامي. وتحت الميزاب في صحن الحجر بمقربة من جدار البيت الكريم قبر اسماعيل، صلى الله عليه وسلم، وعلامته رخامة خضراء مستطيلة قليلا شكل محراب تتصل بها رخامة خضراء مستديرة. وكلتاهما غريبة المنظر فيهما نكت تنفتح عن لونها الى الصفرة قليلا كأنها تجزيع، وهي أشبه الأشياء بالنكت التي تبقى في البيدق من حل الذهب فيه. والى جانبه مما يلي الركن العراقي قبر أمه هاجر، رضي الله عنها، وعلامته رخامة خضراء سعتها مقدار شبر ونصف. يتبرك الناس بالصلاة في هذين الموضعين من الحجر. وحق لهم ذلك لأنهما من البيت العتيق وقد انطبقا على جسدين مقدسين مكرمين نورهما الله ونفع ببركتهما كل من صلى عليهما. وبين القبرين المقدسين سبعة أشبار. وقبة بئر زمزم تقابل الركن، ومنها اليه أربع وعشرون خطوة. والمقام المذكور الذي يصلى خلفه عن يمين القبة، ومن ركنها اليه عشر خطا. وداخلها مفروش بالرخام الأبيض الناصع البياض. وتنور البئر المباركة في وسطها مائل عن الوسط الى جهة الجدار الذي يقابل البيت المكرم، وعمقها احدى عشرة قامة حسبما ذرعناه. وعمق الماء سبع قامات على ما يذكر. وباب القبة

ناظر الى الشرق، وبابا قبة العباس وقبة اليهودية ناظران الى الشمال. والركن من الصفح الناظر الى البيت العتيق من القبة المنسوبة الى اليهودية يتصل بالركن الأيسر من الصفح الأخير الناظر الى الشرق من القبة العباسية. فبينهما هذا القد من الانحراف. وتلي قبة بئر زمزم من ورائها قبة الشراب، وهي المنسوبة للعباس، رضي الله عنه. وتلي هذه القبة العباسية على انحراف عنها قبة تنسب لليهودية. وهاتان القبتان مخزنان لأوقاف البيت الكريم من مصاحف وكتب وأتوار شمع وغير ذلك. والقبة العباسية لم تخل من نسبتها الشرابية لأنها كانت سقاية الحاج وهي حتى الآن يبرد فيها ماء زمزم. ويخرج مع الليل لسقي الحاج في قلال يسمونها الدوارق، كل دورق منها ذو مقبض واحد. وتنور بئر زمزم من رخام قد الصق بعضه ببعض الصاقا لا تحيله الأيام وأفرغ في أثنائه الرصاص. وكذلك داخل التنور. وحفت به أعمدة الرصاص الملصقة اليه ابلاغا في قوة لزه ورّصه: اثنان وثلاثون عمودا قد خرجت لها رؤوس قابضة على حافة البئر دائرة بالتنور كله. ودوره أربعون شبرا، وارتفاعه أربعة أشبار ونصف، وغلظه شبر ونصف. وقد استدارت بداخل القبة سقاية سعتها شبر، وعمقها نحو شبرين، وارتفاعها عن الأرض خمسة أشبار، تملأ ماء للوضوء، وحولها مصطبة دائرة يرتفع الناس اليها ويتوضأون عليها. والحجر الأسود المبارك ملصق في الركن الناظر الى جهة المشرق، ولا يدرى قدر ما دخل في الركن، وقيل: انه داخل في الجدار بمقدار ذراعين. وسعته ثلثا شبر، وطوله شبر وعقد، وفيه أربع قطع ملصقة. ويقال: ان القرمطي، لعنه الله، كان الذي كسره. وقد شدت جوانبه بصفيحة فضة يلوح بصيص بياضها على بصيص سواد الحجر ورونقه الصقيل فيبصر الرائي من ذلك منظرا عجيبا هو قيد الأبصار.

وللحجر عند تقبيله لدونة ورطوبة يتنعم بها الفم حتى يود اللائم أن لا يقلع فمه عنه، وذلك خاصة من خواص العناية الإلهية. وكفى أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «إنه يمين الله في أرضه» . نفعنا الله باستلامه ومصافحته، وأوفد عليه كل شيق اليه بمنه. وفي القطعة الصحيحة من الحجر مما يلي جانبه الذي يلي يمين المستلم له اذا وقف مستقبله نقطة بيضاء صغيرة مشرقة تلوح كأنها خال في تلك الصفحة المباركة. وفي هذه الشامة البيضاء أثر: «ان النظر اليها يجلو البصر» . فيجب على المقبل أن يقصد بتقبيله موضع الشامة المذكورة ما استطاع. والمسجد الحرام يطيف به ثلاث بلاطات على ثلاث سوار من الرخام منتظمة كأنها بلاط واحد، ذرعها في الطول اربع مئة ذراع، وفي العرض ثلاث مئة ذراع. فيكون تكسيره محققا ثمانية وأربعين مرجعا وما بين البلاطات فضاء كبير، وكان على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صغيرا. وقبة زمزم خارجة عنه، وفي مقابلة الركن الشامي، رأس سارية ثابتة في الارض منها كان حد الحرم اولا. وبين رأس السارية وبين الركن الشامي المذكور اثنتان وعشرون خطوة، والكعبة في وسطه على استواء من الجوانب الأربعة، ما بين الشرق والجنوب والشمال والغرب. وعدد سواريه الرخامية التي عددتها بنفسي أربع مئة سارية واحدى وسبعون سارية حاشا الجصية التي منها في دار الندوة، وهي التي زيدت في الحرم، وهي داخلة في البلاط الآخذ من الغرب الى الشمال، ويقابلها المقام مع الركن العراقي، وقضاؤها متسع يدخل من البلاط اليه. ويتصل بجدار هذا البلاط كله مصاطب تحت قسيّ حنايا يجلس فيها النساخون والمقرئون وبعض أهل صنعة الخياطة. والحرم محدق بحلقات المدرسين وأهل العلم. وفي جدار البلاط الذي يقابله أيضا مصاطب تحت حنايا على تلك الصفة، وهو البلاط الآخذ من الجنوب الى

الشرق. وسائر البلاطات تحت جداراتها مصاطب دون حنايا عليها، والبنيان فيها الآن على أكمل ما يكون. وعند باب ابراهيم مدخل آخر من البلاط الآخذ من الغرب الى الجنوب فيه أيضا سوار جصية. ووجدت بخط أبي جعفر بن علي الفنكي القرطبي الفقيه المحدث: أن عدد سواريه أربع مئة وثمانون، لأني لم أحسب التي خارج باب الصفا. وللمهدي محمد بن أبي جعفر المنصور العباسي في توسعة المسجد الحرام والتأنق في بنائه آثار كريمة. وجدت في الجهة التي من الغرب الى الشمال مكتوبا في أعلى جدار البلاط: «أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين، أصلحه الله، بتوسعة المسجد الحرام، لحجاج بيت الله وعماره، في سنة سبع وستين ومئة» وللحرم سبع صوامع: أربع في الاربعة جوانب، وواحدة في دار الندوة، وأخرى على باب الصفا، وهي اصغرها، وهي علم لباب الصفا، وليس يصعد اليها لضيقها، وعلى باب ابراهيم صومعة قد ذكرت عند باب ابراهيم فيما بعد. وباب الصفاء يقابل الركن الأسود بالبلاط الذي من الجنوب الى الشرق، وفي وسط البلاط المقابل للباب ساريتان مقابلتان الركن المذكور فيهما منقوش: «أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين، أصلحه الله، بإقامة هاتين الأسطوانتين علما لطريق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الى الصفا ليتأسى به حاج بيت الله وعمّاره، على يدي يقطين بن موسى وابراهيم بن صالح، في سنة سبع وستين ومئة» . وفي باب الكعبة المقدسة نقش بالذهب رائق الخط طويل الحروف غليظها، يرتمي الأبصار برونقه وحسنه، مكتوب فيه: «مما أمر بعمله عبد الله وخليفته الإمام أبو عبد الله محمد المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، صلى الله عليه وعلى الأئمة آبائه الطاهرين، وخلد ميراث النبوة لديه، وجعلها كلمة باقية في عقبه الى يوم الدين، في سنة خمسين وخمس مئة» في صفحتي البابين على هذا النص المذكور.

ويكتنف البابين الكريمين عضادة غليظة من الفضة المذهبة البديعة النقش، تصعد الى العتبة المباركة تشف عليها وتستدير بجانبي البابين. ويعترض أيضا بين البابين عند اغلاقهما شبه العضادة الكبيرة من الفضة المذهبة هي بطول البابين متصلة بالواحد منهما الذي عن يسار الداخل الى البيت. وكسوة الكعبة المقدسة من الحرير الأخضر، حسبما ذكرناه. وهي أربع وثلاثون شقة: في الصفح الذي بين الركن اليماني والشامي منها تسع وفي الصفح الذي يقابله بين الركن الأسود والعراقي تسع أيضا، وفي الصفح بين العراقي والشامي ثمان، وفي الصفح بين اليماني والأسود ثمان أيضا، وقد وصلت كلها فجاءت كأنها ستر واحد يعم الأربعة جوانب. وقد احاط بها من أسفلها تكفيف مبني بالجص، في ارتفاعه أزيد من شبر، وفي سعته شبران أو أزيد قليلا، في داخله خشب غير ظاهر، وقد سمرت فيه أوتاد حديد في رؤوسها حلقات حديد ظاهرة قد ادخل فيها مرس من القنّب غليظ مفتول. واستدار بالجوانب الأربعة بعد أن وضع في أذيال الستور شبه حجز السراويلات وادخل فيها ذلك المرس وخيط عليه بخيوط من القطن المفتولة الوثيقة. ومجتمع الستور في الأركان الأربعة مخيط الى أزيد من قامة، ثم منها الى أعلاها تتصل بعرى من حديد يدخل بعضها في بعض. واستدار أيضا بأعلاها على جوانب السطح تكفيف ثان وقعت فيه أعالي الستور في حلقات حديد على تلك الصفة المذكورة. فجاءت الكسوة المباركة مخيطة الأعلى والأسفل، وثيقة الأزرار، لا تخلع الا من عام الى عام عند تجديدها، فسبحان من خلد لها الشرف الى يوم القيامة، لا اله سواه. وباب الكعبة الكريم يفتح كل يوم اثنين ويوم جمعة الا في رجب فانه يفتح في كل يوم. وفتحه أول بزوغ الشمس، يقبل سدنة البيت الشيبيون، فيبادر منهم من ينقل كرسيا كبيرا شبه المنبر الواسع له تسعة أدراج مستطيلة قد وضعت له

قوائم من الخشب متطأمنة من الأرض لها أربع بكرات كبار مصفحة بالحديد لمباشرتها الأرض، يجري الكرسي عليها حتى يصل الى البيت الكريم. فيقع درجه الأعلى متصلا بالعتبة المباركة من الباب. فيصعد زعيم الشيبيين اليه، وهو كهل جميل الهيئة والشارة، وبيده مفتاح القفل المبارك، ومعه من السدنة من يمسك في يده سترا أسود يفتخ «1» يديه به أمام الباب خلال ما يفتحه الزعيم الشيبي المذكور، فاذا فتح القفل قبل العتبة ثم دخل البيت وحده وسد الباب خلفه وأقام قدر ما يركع ركعتين. ثم يدخل الشيبيون ويسدون الباب أيضا ويركعون. ثم يفتح الباب ويبادر الناس بالدخول، وفي أثناء محاولة فتح الباب الكريم يقف الناس مستقبلين اياه بأبصار خاشعة وأيد مبسوطة الى الله ضارعة واذا انفتح الباب كبّر الناس وعلا ضجيجهم ونادوا بألسنة مستهلة: «اللهم افتح لنا أبواب رحمتك ومغفرتك، يا أرحم الراحمين» . ثم دخلوا بسلام آمنين. وفي الصفح المقابل للداخل فيه، الذي هو من الركن اليماني الى الركن الشامي، خمس رخامات منتصبات طولا كأنها أبواب تنتهي الى مقدار خمسة أشبار من الأرض، وكل واحدة منها نحو القامة، الثلاث منها حمر والاثنان خضراوان. في كل واحدة منها تجزيع بياض لم ير أحسن منظرا منه كأنه فيها تنقيط. فيتصل بالركن اليماني منها الحمراء ثم تليها بخمسة أشبار الحضراء، والموضع الذي يقابلها متقهقرا عنها بثلاث أذرع هو مصلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فيزدحم الناس على الصلاة فيه تبركا به. ووضعهن على هذا الترتيب، وبين كل واحدة وأخرى القدر المذكور. ويتصل بينهما رخام أبيض صافي اللون ناصع البياض، قد أحدث الله، عز وجل، في أصل خلقته أشكالا غريبة مائلة الى الزرقة مشجرة مغصنة وفي التي تليها مثل ذلك بعينه من الأشكال كأنها مقسومة، فلو انطبقتا لعاد كل شكل يصافح شكله، فكل واحدة شقة الأخرى لا محالة عند ما نشرت انشقت على تلك الأشكال فوضعت كل واحدة بإزاء أختها. والفاصل منها بين كل خضراء وحمراء رخامتان، سعتهما خمسة أشبار لأعداد الأشبار المذكورة. والأشكال

فيها تختلف هيئاتها، وكل أخت منها بإزاء اختها. وقد شدت جوانب هذه الرخامات تكافيف غلظها قدر اصبعين من الرخام المجزع من الأخضر والأحمر المنقطين والابيض ذي الخيلان كأنها انابيب مخروطة يحار الوهم فيها. فاعترضت في هذا الصفح المذكور من فرج الرخام الابيض ست فرج. وفي الصفح الذي عن يسار الداخل، وهو من الاسود الى الركن اليماني، اربع رخامات: اثنتان خضراوان، واثنتان حمراوان. وبينهما خمس فرج من الرخام الابيض. وكل ذلك على الصفة المذكورة. وفي الصفح الذي عن يمين الداخل، وهو من الركن الاسود إلى العراقي، ثلاث: اثنتان حمراون، وواحدة خضراء. ويتصل بها ثلاث فرج من الرخام الابيض وهذا الصفح هو المتصل بالركن الذي فيه باب الرحمة، وسعته ثلاث اشبار، وطوله سبعة، وعضادته التي عن يمينك اذا استقبلته رخامة خضراء في سعة ثلثي شبر. وفي الصفح الذي من الشامي الى العراقي ثلاث: اثنتان حمراوان، وواحدة خضراء. ويتصل بها ثلاث فرج من الرخام الابيض على الصفة المذكورة. ويكلل هذا الرخام المذكور طرتان: واحدة على الاخرى، سعة كل واحدة منهما قدر شبرين، ذهب مرسوم في اللازورد قد خط فيه خط بديع. وتتصل الطرتان بالذهب المنقوش على نصف الجدار الاعلى. والجهة التي عن يمين الداخل لها طرة واحدة، وفي هاتين الطرتين بعض مواضع دراسة. وفي كل ركن من الاركان الاربعة مما يلي الارض رخامتان خضراوان صغيرتان تكتنفان الركن، وتكتنف ايضا كل بابين من الفضة، اللذين في كل ركن كأنهما طاقان، عضادتان من الرخام الاخضر صغيرتان على قدر نقبيهما. وفي أول كل صفح من الصفحات المذكورة رخامة حمراء وفي آخره مثلها، والخضراء بينهما على الترتيب المذكور الا الصفح الذي عن يسار الداخل، فأول

رخامة تجدها متصلة بالركن الاسود رخامة خضراء، ثم حمراء الى كمال الترتيب الموصوف. وبإزاء المقام الكريم منبر الخطيب، وهو ايضا على بكرات أربع شبه التي ذكرناها. فاذا كان يوم الجمعة وقرب وقت الصلاة ضم الى صفح الكعبة الذي يقابل المقام، وهو بين الركن الاسود والعراقي، فيسند المنبر اليه. ثم يقبل الخطيب داخلا على باب النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو يقابل المقام في البلاط الآخذ من الشرق الى الشمال لابسا ثوب سواد مرسوما بذهب ومتعمما بعمامة سوداء مرسومة أيضا وعليه طيلسان شرب رقيق، كل ذلك من كسا الخليفة التي يرسلها الى خطباء بلاده يرفل فيها وعليه السكينة والوقار، يتهادى رويدا بين رايتين سوداوين يمسكهما رجلان من قومة المؤذنين، وبين يديه ساعيا أحد القومة، وفي يده عود مخروط احمر قد ربط في رأسه مرس من الأديم المفتول رقيق طويل في طرفه عذبة صغيرة ينفضها بيده في الهواء نفضا فتأتي بصوت عال يسمع من داخل الحرم وخارجه كأنه ايذان بوصول الخطيب، ولا يزال في نفضها الى ان يقرب من المنبر، ويسمونها الفرقعة. فاذا قرب من المنبر عرج الى الحجر الأسود فقبله ودعا عنده ثم سعى الى المنبر والمؤذن الزمزمي، رئيس المؤذنين بالحرم الشريف، ساع أمامه لابسا ثياب السواد أيضا وعلى عاتقه السيف يمسكه بيده دون تقلد له، فعند صعوده في أول درجة قلده المؤذن المذكور السيف. ثم ضرب بنعلة سيفه فيها ضربة أسمع بها الحاضرين ثم في الثانية. ثم في الثالثة. فاذا انتهى الى الدرجة العليا ضرب ضربة رابعة ووقف داعيا مستقبل الكعبة بدعاء خفي. ثم انفتل عن يمينه وشماله وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فيرد الناس عليه السلام. ثم يقعد ويبادر المؤذنون بين يديه في المنبر بالأذان على لسان واحد. فاذا فرغوا قام للخطبة فذكر ووعظ وخشع فأبلغ. ثم جلس الجلسة الخطيبية وضرب بالسيف ضربة خامسة. ثم قام للخطبة الثانية فأكثر بالصلاة على محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله ورضّى عن أصحابه واختص الأربعة الخلفاء بالتسمية، رضي الله عن جميعهم، ودعا لعمي النبي،

صلى الله عليه وسلم، حمزة والعباس وللحسن والحسين ووالى الترضّي عن جميعهم. ثم دعا لأمهات المؤمنين زوجات النبي، صلى الله عليه وسلم، ورضّى عن فاطمة الزهراء وعن خديجة الكبرى بهذا اللفظ. ثم دعا للخليفة العباسي أبي العباس أحمد الناصر، ثم لأمير مكة مكثر بن عيسى بن فليتة بن قاسم بن محمد بن جعفر بن أبي هاشم الحسني، ثم لصلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب ولولي عهده أخيه أبي بكر بن ايوب. وعند ذكر صلاح الدين بالدعاء تخفق الألسنة بالتأمين عليه من كل مكان. واذا أحب الله يوما عبده ... القى عليه محبة للناس وحق ذلك عليهم لما يبذله من جميل الاعتناء بهم وحسن النظر لهم ولما رفعه من وظائف المكوس عنهم. وفي هذا التاريخ أعلمنا بأن كتابه وصل الى الامير مكثر، وأهم فصوله التوصية بالحاج والتأكيد في مبرتهم وتأنيسهم ورفع أيدي الاعتداء عنهم والايعاز في ذلك الى الخدام والاتباع والاوزاع، وقال: انه انما نحن وأنت متقلبون في بركة الحاج. فتأمل هذا المنزع الشريف والمقصد الكريم. واحسان الله يتضاعف الى من احسن الى عباده، واعتناؤه الكريم موصول لمن جعل همه الاعتناء بهم، والله عز وجل كفيل بجزاء المحسنين، انه ولي ذلك لا رب سواه. وفي أثناء الخطبة تركز الرايتان السوداوان في أول درجة من المنبر ويمسكهما رجلان من المؤذنين، وفي جانبي باب المنبر حلقتان تلقى الرايتان فيهما مركوزتين. فإذا فرغ من الصلاة خرج والرايتان عن يمينه وشماله والفرقعة أمامه على الصّفة التي دخل عليها، كأن ذلك أيضا ايذان بانصراف الخطيب والفراغ من الصلاة ثم أعيد المنبر الى موضعه بإزاء المقام. وليلة أهلّ هلال الشهر المذكور، وهو جمادى الأول، بكر أمير مكة مكثر المذكور في صبيحتها الى الحرم الكريم مع طلوع الشمس، وقواده يحفون به والقراء يقرءون أمامه، فدخل على باب النبي، صلى الله عليه وسلم، ورجاله

السودان الذين يعرفونهم بالحرّابة يطوفون أمامه وبأيديهم الحراب. وهو في هيئة اختصار عليه السكينة والوقار وسمت سلفه الكريم، رضي الله عنهم، لابسا ثوب بياض متقلّدا سيفه مختصرا متعمّما بكرزية صوف بيضاء رقيقة، فلمّا انتهى بإزاء المقام الكريم وقف وبسط له وطاء كتّان فصلّى ركعتين. ثم تقدّم الى الحجر الأسود فقبّله وشرع في الطواف، وقد علا في قبة زمزم صبي، هو أخو المؤذن الزمزمي، وهو أول المؤذنين أذانا، به يقتدون وله يتبعون، وقد لبس أفخر ثيابه وتعمم، فعندما يكمل الأمير شوطا واحدا ويقرب من الحجر يندفع الصبي في اعلى القبة رافعا صوته بالدعاء ويستفتحه بصبّح الله مولانا الأمير بسعادة دائمة ونعمة شاملة. ويصل ذلك بتهنئة الشهر بكلام مسجوع مطبوع حفيل الدعاء والثناء. ثم يختم ذلك بثلاثة أبيات أو أربعة من الشعر في مدحه ومدح سلفه الكريم وذكر سابقة النبوّة، رضي الله عنهم، ثم يسكت، فإذا أطل من الركن اليماني يريد الحجر اندفع بدعاء على ذلك الاسلوب، ووصله بأبيات من الشعر غير الابيات الأخر في ذلك المعنى بعينه كأنها منتزعة من قصائد مدح بها. هكذا في السبعة الأشواط الى أن يفرغ منها. والقرّاء في اثناء طوافه أمامه. فينتظم من هذه الحال والأبهة وحسن صوت ذلك الداعي على صغره لأنه ابن إحدى عشرة سنة أو نحوها، وحسن الكلام الذي يورده نثرا ونظما، وأصوات القرّاء وعلوّها بكتاب الله، عز وجلّ، مجموع يحرك النفوس ويشجيها ويستوكف العيون ويبكيها، تذكّرا لأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهرهم تطهيرا. فإذا فرغ من الطواف ركع عند الملتزم ركعتين ثم جاء وركع خلف المقام ايضا ثمّ ولّى منصرفا وحلبته تحف به. ولا يظهر في الحرم إلّا لمستهل هلال آخر، هكذا دائما. والبيت العتيق مبني بالحجارة الكبار الصم السمر قد رصّ بعضها على بعض والصقت بالعقد الوثيق إلصاقا لا تحيله الأيام ولا تقصمه الأزمان. ومن العجيب أن قطعة انصدعت من الركن اليماني فسمّرت بمسامير فضّة واعيدت كأحسن ما كانت، والمسامير فيها ظاهرة.

ومن آيات البيت العتيق أنه قائم وسط الحرم كالبرج المشيد وله التنزيه الأعلى. وحمام الحرم لا تحصى كثرة، وهي من الأمن بحيث يضرب بها المثل، ولا سبيل أن تنزل بسطحه الأعلى حمامة ولا تحل فيه بوجه ولا على حال. فترى الحمام يتجلى على الحرم كله، فإذا قربت من البيت عرجت عنه يمينا أو شمالا. والطيور سواها كذلك. وقرأت في أخبار مكة أنه لا ينزل عليه طائر إلا عند مرض يصيبه، فإما أن يموت في حينه أو يبرأ. فسبحان من أورثه التشريف والتكريم. ومن آياته أن بابه الكريم يفتح في الأيام المعلومة المذكورة، والحرم قد غص بالخلق، فيدخله الجميع ولا يضيق عنهم بقدرة الله، عزّ وجل، ولا يبقى فيه موضع الا ويصلي فيه كل احد. ويتلاقى الناس عند الخروج منه، فيسأل بعضهم بعضا: هل دخل البيت ذلك اليوم؟ فكل يقول: دخلت وصليت في موضع كذا وموضع كذا حيث صلى الجميع. ولله الآيات البينات والبراهين المعجزات، سبحانه وتعالى. ومن عجائب اعتناء الله تبارك وتعالى به أنه لا يخلوا من الطائفين ساعة من النهار ولا وقتا من الليل. فلا تجد من يخبر أنه رآه دون طائف به، فسبحان من كرّمه وعظّمه وخلد له التشريف إلى يوم القيامة. وفي أعلى بلاطات الحرم سطح يطيف بها كلها من الجوانب الأربعة، وهو مشرّف كله بشرفات مبسوطة مركّنة، في كل جانب من الشرفة ثلاثة اركان كأنها أيضا شرفات أخر صغار. والركن الأسفل منها متّصل بالركن الذي يليه من الشرفة الأخرى. وتحت كل صلة منها ثقب مستدير في دور الشبر منفوذ يخترقه الهواء يضرب فيه شعاع الشمس أو القمر فيلوح كأنها أقمار مستديرة، يتصل ذلك بالجوانب الأربعة كلها، كأن الشرفات المذكورة بنيت شقة واحدة ثم احدثت فيها هذه التقاطيع والتراكين فجاءت عجيبة المنظر والشكل. وفي النصف من كل جانب من الجوانب الأربعة المذكورة شقّة من الجص

معترضة بين الشرفات مخرّمة فرجيّة طولها نحو الثلاثين شبرا تقديرا، تقابل كل شقة منها صفحا من صفحات الكعبة المقدسة قد علت على الشرفات كالتاج. وللصوامع أيضا اشكال بديعة، وذلك أنها ارتفعت بمقدار النصف، مركنة من الأربعة جوانب بحجارة رائعة النقش عجيبة الوضع، قد أحاط بها شباك من الخشب الغريب الصنعة، وارتفع عن الشباك عمود في الهواء كأنه مخروط مختم كله بالآجر تختيما يتداخل بعضه على بعض بصنعة تستميل الأبصار حسنا. وفي أعلى ذلك العمود الفحل وقد استدار به أيضا شباك آخر من الخشب على تلك الصنعة بعينها. وهي متميزة الأشكال كلها لا يشبه بعضها بعضا. لكنّها على هذا المثال المذكور، من كون نصفها الأول مركنا ونصفها الأعلى عمودا لا ركن له. وفي النصف الأعلى من قبة زمزم والقبة العباسية التي تسمى السقاية والقبة التي تليها منحرفة عنها يسيرا المنسوبة لليهودية، صنعة من قرنصة الخشب عجيبة، قد تأنق الصانع فيها وأحدق بأعلاها شباك مشرجب من الخشب رائق الخلل والتأريج وداخل شباك قبة زمزم سطح وقد قام في وسطه شبه فحل الصومعة. وفي ذلك السطح يؤذن الزمزمي، وقد انخرط من ذلك الفحل عمود من الجص واستقر في رأسه صفحة حديد تتخذ مشعلا في شهر رمضان المعظم. وفي الصفح الناظر إلى البيت العتيق من القبة سلاسل فيها قناديل من زجاج معلقة توقد كل ليلة. وفي الصفح الذي عن يمينه كذلك، وهو الناظر إلى الشمال. وفي كل جانب منها ثلاثة شراجيب مقومة كأنها أبواب قد قامت على سوار من الزجاج صغار لم ير أبدع منها صنعة، منها ما هو مفتول فتل السوار ولا سيّما الجانب الذي يقابل الحجر الاسود من قبة زمزم، فإن سواريه في نهاية من اتقان الصنعة، قد أدير بكل سارية منها رؤوس ثلاثة أو أربعة، وتحت ما بين كل رأس ورأس ... وأحدثت فيه صنائع من النقش عجيبة المنظر، وربما فتل بعضها عن الصفة السواريّة.

وهذا الجانب الذي يقابل الحجر الأسود من القبة المذكورة تتصل به مصطبة من الرخام دائرة بالقبة يجلس الناس فيها معتبرين بشرف ذلك الموضع لأنه أشرف مواضع الدنيا المذكورة بشرف مواضع الآخرة، لأن الحجر الأسود أمامك والباب الكريم مع البيت قبالتك والمقام عن يمينك وباب الصفا عن يسارك وبئر زمزم وراء ظهرك. وناهيك بهذا! وينطبق على كل شرجب من تلك الشراجيب أعمدة حديد قد تركّب بعضها على بعض كأنها شراجيب أخر. وأحد أركان شباك الخشب المحدق بالقبة العباسية يتصل بأحد أركان شباك القبة اليهودية حتى يتماسا. فمن يكون في أعلى سطح هذه ينفتل إلى سطح الأخرى من الركنين المذكورين. وداخل هذه القباب صنعة من القرنصة الجصّية رائقة الحسن. وللحرم أربعة أئمة سنية وإمام خامس لفرقة تسمى الزيدية. واشراف أهل هذه البلدة على مذهبهم، وهم يزيدون في الأذان: «حيّ على خير العمل» إثر قول المؤذن: «حي على الفلاح» ، وهم روافض سبابون، والله من وراء حسابهم وجزائهم، ولا يجمعون مع الناس إنما يصلون ظهرا أربعا، ويصلون المغرب بعد فراغ الأئمة من صلاتها. فأوّل الأئمة السنية الشافعي، رحمه الله، وإنما قدّمنا ذكره لأنه المقدّم من الإمام العبّاسي. وهو أول من يصلي، وصلاته خلف مقام إبراهيم، صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا الكريم، إلا صلاة المغرب فإن الأربعة الأئمة يصلونها في وقت واحد مجتمعين لضيق وقتها: يبدأ مؤذن الشافعيّ بالإقامة، ثم يقيم مؤذّنو سائر الأئمة. وربما دخل في هذه الصلاة على المصلين سهو وغفلة لاجتماع التكبير فيها من كل جهة. فربما ركع المالكيّ بركوع الشافعي أو الحنفيّ أو سلّم أحدهم بغير سلام إمامه. فترى كل أذن مصيخة لصوت إمامها أو صوت مؤذنه مخافة السهو. ومع هذا فيحدث السهو على كثير من الناس. ثم المالكيّ، رحمه الله، وهو يصلي قبالة الركن اليماني، وله محراب حجر يشبه محاريب الطرق

الموضوعة فيها. ثم الحنفيّ، رحمه الله، وصلاته قبلة الميزاب تحت حطيم مصنوع له. وهو أعظم الأئمة أبهة وأفخرهم آلة من الشمع وسواها بسبب أن الدولة الأعجمية كلها على مذهبه، فالاحتفال له كثير، وصلاته آخرا. ثم الحنبلي، رحمه الله، وصلاته مع صلاة المالكيّ في حين واحد، موضع صلاته يقابل ما بين الحجر الأسود والركن اليماني. ويصلي الظهر والعصر قريبا من الحنفي في البلاط الآخذ من الغرب الى الشمال، والحنفيّ يصليهما في البلاط الآخذ من الغرب الى الجنوب قبالة محرابه ولا حطيم له. والشافعيّ بازاء المقام حطيم حفيل. وصفة الحطيم خشبنان موصول بينهما بأذرع شبه السلم تقابلهما خشبتان على تلك الصفة، قد عقدت هذه الخشب على رجلين من الجص غير بائنة الارتفاع. واعترض في أعلى الخشب خشبة مسمرة فيها قد نزلت منها خطاطيف حديد فيها قناديل معلّقة من الزجاج. وربما وصل بالخشبة المعترضة العليا شباك مشرجب بطول الخشبة. وللحنفي بين الرجلين الجصيتين المتعقدتين على الخشب محراب يصلى فيه. وللحنبليّ حطيم معطل هو قريب من حطيم الحنفيّ، وهو منسوب لرامشت أحد الأعاجم ذوي الثراء، وكانت له في الحرم آثار كريمة من النفقات، رحمه الله. ويقابل الحجر حطيم معطل أيضا ينسب للوزير المقدم بهذا اللفظ المجهول. ويطيف بهذه المواضع كلها، دائر البيت العتيق وعلى بعد منه يسيرا، مشاعيل توقد في صحاف حديد فوق خشب مركوزة فيتقد الحرم الشريف الشريف كله نورا. ويوضع الشمع بين ايدي الأئمة في محاريبهم. والمالكيّ أقلهم شمعا وأضعفهم حالا لأن مذهبه في هذه البلاد غريب. والجمهور على مذهب الشافعي وعليه علماء البلاد وفقهاؤها، إلا الإسكندرية وأكثر أهلها مالكيون وبها الفقيه ابن عوف، وهو شيخ كبير من أهل العلم، بقية الأئمة المالكية. وفي إثر كل صلاة مغرب يقف المؤذن الزمزمي في سطح قبة زمزم، ولها مطلع على أدراج من عود في الجهة التي تقابل باب الصفا، رافعا صوته بالدعاء للإمام العباسي أحمد الناصر لدين الله ثم للأمير مكثر ثم لصلاح الدين امير الشام

وجهات مصر كلها واليمن، ذي المآثر الشهيرة والمناقب الشريفة، فإذا انتهى الى ذكره بالدعاء ارتفعت أصوات الطائفين بالتأمين بألسنة تمدها القلوب الخالصة والنيات الصادقة. وتخفق الألسنة بذلك خفقا يذيب القلوب خشوعا لما وهب الله لهذا السلطان العادل من الثناء الجميل وألقى عليه من محبة الناس وعباد الله شهدائه في أرضه. ثم يصل ذلك بدعاء لأمراء اليمن من جهة صلاح الدين ثم لسائر المسلمين والحجاج والمسافرين، وينزل. هكذا دأبه دائما أبدا. وفي القبة العباسية المذكورة خزانة تحتوي على تابوت مبسوط متسع وفيه مصحف أحد الخلفاء الأربعة أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبخط يد زيد بن ثابت، رضي الله عنه، منتسخ سنة ثماني عشرة من وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وينقص منه ورقات كثيرة. وهو بين دفتي عود مجلد بمغاليق من صفر، كبير الورقات واسعها، عايناه وتبركنا بتقبيله ومسح الخدود فيه. نفع الله بالنية في ذلك. وأعلمنا صاحب القبة المتولي لعرضه علينا: أن أهل مكة متى أصابهم قحط أو نالتهم شدة في أسفارهم أخرجوا المصحف المذكور وفتحوا باب البيت الكريم ووضعوه في القبة المباركة مع المقام الكريم: مقام الخليل ابراهيم، صلى الله على نبينا وعليه، واجتمع الناس كاشفين رؤوسهم داعين متضرعين، وبالمصحف الكريم والمقام العظيم الى الله متوسلين. فلا ينفصلون عن مقامهم ذلك الا ورحمة الله عزّ وجلّ قد تداركتهم، والله لطيف بعباده، لا اله سواه. وبإزاء الحرم الشريف ديار كثيرة لها أبواب يخرج منها اليه. وناهيك بهذا الجوار الكريم! كدار زبيدة ودار القاضي ودار تعرف بالعجلة وسواها من الديار، وحول الحرم أيضا ديار كثيرة تطيف به لها مناظر وسطوح يخرج منها الى سطح الحرم فيبيت اهلها فيه ويبردون ماءهم في اعالي شرفاته، فهم من النظر الى البيت العتيق دائما في عبادة متصلة، والله يهنئهم ما خصهم به من مجاورة بيته الحرام بمنه وكرمه.

أبواب الحرم الشريف

وألفيت بخط الفقيه الزاهد الورع أبي جعفر الفنكي القرطبيّ: أن ذرع المسجد الحرام في الطول والعرض ما أثبته أولا، وطول مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثلاث مئة ذراع، وعرضه مئتان، وعدد سواريه ثلاث مئة، ومناراته ثلاث، فيكون تكسيره أربعة وعشرين مرجعا من المراجع المغربية، وهي خمسون ذراعا في مثلها، وطول مسجد بيت المقدس، أعاده الله للإسلام، سبع مئة وثمانون ذراعا، وعرضه اربع مئة وخمسون ذراعا، وسواريه اربع مئة وأربع عشرة سارية، وقناديله خمس مئة، وأبوابه خمسون بابا، فيكون تكسيره من المراجع المذكورة مئة مرجع وأربعين مرجعا وخمسي مرجع. أبواب الحرم الشريف للحرم تسعة عشر بابا أكثرها مفتح على ابواب كثيرة، حسبما يأتي ذكره إن شاء الله. باب الصفا: يفتح على خمسة أبواب، وكان يسمى قديما بباب بني مخزوم. باب الخلقيين. ويسمى بباب جياد الأصغر مفتح على بابين، هو محدث. باب العباس، رضي الله عنه: هو يفتح على ثلاثة أبواب. باب علي، رضي الله عنه: مفتح على ثلاثة أبواب. باب النبي، صلى الله عليه وسلم: يفتح على بابين. باب صغير أيضا بإزاء باب بني شيبة المذكور: لا اسم له. باب بني شيبة: وهو يفتح على ثلاثة أبواب، وهو باب بني عبد شمس، ومنه كان دخول الخلفاء. باب دار الندوة: ثلاثة، البابان من دار الندوة منتظمان، والثالث في الركن الغربي من الدار. فيكون عدد أبواب الحرم بهذا الباب المنفرد عشرين بابا.

باب صغير بإزاء بني شيبة شبه خوخة الأبواب: لا اسم له، وقيل: انه يسمى باب الرباط، لأنه يدخل منه لرباط الصوفية. باب صغير لدار العجلة: محدث. باب السّدّة: واحد. باب العمرة: واحد. باب حزورة: على بابين. باب ابراهيم، صلى الله عليه وسلم: واحد. باب ينسب لحزورة أيضا: على بابين. باب جياد الأكبر: على بابين. باب جياد الأكبر أيضا: على بابين. باب ينسب لجياد أيضا: على بابين. ومنهم من ينسب البابين من هذه الأبواب الأربعة الجيادية الى الدقّاقين، والروايات فيها تختلف، لكنّا اجتهدنا في اثبات الاقرب من اسمائها الى الصحة، والله المستعان لا رب سواه. وباب ابراهيم، صلى الله عليه وسلم، هو في زاوية كبيرة متسعة فيها دار المكناسي الفقيه الذي كان إمام المالكية في الحرم، رحمه الله. وفيها ايضا غرفة هي خزانة للكتب المحبسة على المالكية في الحرم. والزاوية المذكورة متصلة بالبلاط الآخذ من الغرب الى الجنوب وخارجة عنه. وبازاء الباب المذكور عن يمين الداخل عليه صومعة على غير اشكال الصوامع المذكورة. فيها تخاريم في الجص، مستطيلة الشكل كأنها محاريب، قد حفّت بها قرنصة غريبة الصنعة. وعلى الباب قبة عظيمة بائنة العلو يقرب من الصومعة ارتفاعها، قد ضمن داخلها غرائب من الصنعة الجصية والتخاريم القرنصية يعجز عنها الوصف. وظاهرها ايضا تقاطيع في الجص كأنها أرجل مدورة قد تركبت دائرة على دائرة. وفحل الصومعة المذكورة على أرجل من الجص مفتّح ما بين كل رجل ورجل. وخارج

باب ابراهيم بئر تنسب اليه، عليه السلام. وانما بدىء بباب الصفا لأنه أكبر الأبواب، وهو الذي يخرج عليه الى السعي. وكل وافد الى مكة، شرّفها الله، يدخلها بعمرة فيستحب له الدخول على باب بني شيبة ثم يطوف سبعا ويخرج على باب الصفا ويجعل طريقه بين الاسطوانتين اللتين أمر المهديّ، رحمه الله، بإقامتهما علما لطريق رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، الى الصفا، حسبما تقدّم ذكره. وبين الركن اليماني ست واربعون خطوة، ومنهما الى باب الصفا ثلاثون خطوة. ومن باب الصفا الى الصفا ستّ وسبعون خطوة. وللصفا أربعة عشر درجا، وهو على ثلاثة أقواس مشرّفة، والدرجة العليا متسعة كأنها مصطبة، وقد أحدقت به الديار، وفي سعته سبع عشرة خطوة. وبين الصفا والميل الأخضر ما يأتي ذكره. والميل سارية خضراء، وهي خضرة صباغية. وهي التي الى ركن الصومعة التي على الرّكن الشرقي من الحرم على قارعة المسيل الى المروة وعن يسار الساعي اليها. ومنها يرمل في السعي الى الميلين الأخضرين، وهما أيضا ساريتان خضراوان على الصفة المذكورة، الواحدة منها بإزاء باب علي في جدار الحرم وعن يسار الخارج من الباب، والميل الآخر يقابله في جدار دار تتصل بدار الامير مكثر. وعلى كل واحدة منهما لوح قد وضع على رأس السارية كالتاج ألفيت فيه منقوشا برسم مذهب: «ان الصفا والمروة من شعائر الله» ... الآية. وبعدها «أمر بعمارة هذا الميل عبد الله وخليفته أبو محمد المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين، أعزّ الله نصره، في سنة ثلاث وسبعين وخمس مئة» . وبين الصفا والميل الأول ثلاث وتسعون خطوة، وهي مسافة الرمل جائيا وذاهبا من الميل الى الميلين. ثم من الميلين الى الميل ومن الميلين الى المروة ثلاث مئة وخمس وعشرون خطوة. فجميع خطا الساعي من الصفا الى المروة أربع مئة خطوة وثلاث وتسعون خطوة. وادراج المروة خمسة، وهي بقوس واحد كبير، وسعتها سعة الصفا سبع

عشر خطوة. وما بين الصفا والمروة مسيل هو اليوم سوق حفيلة بجميع الفواكه وغيرها من الحبوب وسائر المبيعات الطعامية، والساعون لا يكادون يخلصون من كثرة الزحام، وحوانيت الباعة يمينا وشمالا، وما للبلدة سوق منتظمة سواها الا البزازين والعطارين، فهم عند باب بني شيبة تحت السوق المذكورة وبمقربة تكاد تتصل بها. وعلى الحرم الشريف جبل أبي قبيس، وهو في الجهة الشرقية، يقابل ركن الحجر الأسود، وفي أعلاه رباط مبارك فيه مسجد وعليه سطح مشرف على البلدة الطيبة، ومنه يظهر حسنها وحسن الحرم واتساعه وجمال الكعبة المقدسة القائمة وسطه. وقرأت في اخبار مكة لأبي الوليد الأزرقيّ أنه اول جبل خلقه الله عزّ وجلّ، وفيه استودع الحجر زمن الطوفان، وكانت قريش تسميه الأمين لأنه أدى الحجر الى ابراهيم، صلى الله عليه وسلم، وفيه قبر آدم، صلوات الله عليه، وهو أحد أخشبي مكة، والاخشب الثاني الجبل المتصل بقعيقعان في الجهة الغربية. صعدنا الى جبل أبي قبيس المذكور وصلينا في المسجد المبارك. وفيه موضع موقف النبي، صلى الله عليه وسلم، عند انشقاق القمر له بقدرة الله عزّ وجلّ. وناهيك بهذه الفضيلة والبركة! والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء حتى الجمادات من مخلوقاته، لا اله سواه. وفي أعلاه آثار بناء جص مشيّد كان اتخذه معقلا أمير البلد عيسى أبو مكثر المذكور، فهدمه عليه أمير الحاج العراقي لمخالفة صدرت عنه، فغادره خرابا. وألفيت منقوشا على سارية خارج باب الصفا تقابل السارية الواحدة من اللتين أقيمتا عاما لطريق النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، الى الصفا داخل الحرم المتقدمتي الذكر: «أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين، أصلحه الله تعالى، بتوسعة المسجد الحرام مما يلي باب الصفا، لتكون الكعبة في وسط المسجد، في سنة سبع وستين ومئة» . فدلّ ذلك المكتوب على أن الكعبة المقدسة في وسط المسجد، وكان يظن بها الانحراف الى جهة باب الصفا، فاختبرنا جوانبها المباركة بالكيل،

ذكر مكة المكرمة واثارها

فوجدنا الأمر صحيحا حسبما تضمّنه رسم السارية. وتحت ذلك النقش في أسفل السارية منقوش أيضا: «امر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين، أصلحه الله، بتوسعة الباب الاوسط، الذي بين هاتين الأسطوانتين، وهو طريق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الى الصفا» . وفي أعلى السارية التي تليها منقوش أيضا: «أمر عبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين، أصلحه الله، بصرف الوادي الى مجراه على عهد أبيه ابراهيم، صلى الله عليه وسلّم، وتوسعته بالرحاب التي حول المسجد الحرام الحاجّ بيت الله وعمّاره» . وتحتها أيضا منقوش ما تحت الأول من ذكر توسعة الباب الأوسط. والوادي المذكور هو الوادي المنسوب لإبراهيم، صلى الله عليه وسلّم، ومجرا على باب الصفا المذكور، وكان السيل قد خالف مجراه فكان يأتي على المسيل بين الصفا والمروة ويدخل الحرم، فكان مدة مدّه بالامطار يطاف حول الكعبة سبحا، فأمر المهدي، رحمه الله، برفع موضع في أعلى البلد يسمّى رأس الرّدم، فمتى جاء السيل عرّج عن ذلك الردم الى مجراه واستمر على باب ابراهيم الى الموضع الذي يسمّى المسفلة ويخرج عن البلد ولا يجري الماء فيه الّا عند نزول ديم المطر الكثير. وهو الوادي الذي عنى، صلى الله عليه وسلّم، بقوله حيث حكى الله تبارك وتعالى عنه: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ» ، فسبحان من أبقى له الآيات البيّنات. ذكر مكة المكرمة واثارها هي بلدة قد وضعها الله عز وجل بين جبال محدقة بها، وهي بطن واد مقدس، كبيرة مستطيلة، تسع من الخلائق ما لا يحصيه إلا الله عز وجل. ولها ثلاثة أبواب: أولها باب المعلى، ومنه يخرج إلى الجبانة المباركة، وهي بالموضع الذي يعرف بالحجون. وعن يسار المار إليها جبل في أعلاه ثنية

عليها علم شبيه البرج، يخرج منها إلى طريق العمرة، وتلك الثنية تعرف بكداء، وهي التي عنى حسان بقوله في شعره: تثير النّقع موعدها كداء فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، يوم الفتح: ادخلوا من حيث قال حسان. فدخلوا من تلك الثنية. وهذا الموضع الذي يعرف بالحجون هو الذي عناه الحارث بن مضاض الجرهمي بقوله: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بل نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر وبالجبانة المذكورة مدفن جماعة من الصحابة والتابعين والأولياء والصالحين قد دثرت مشاهدهم المباركة وذهبت عن أهل البلد أسماؤهم. وفيه الموضع الذي صلب فيه الحجاج بن يوسف، جازاه الله، جثة عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما. وعلى الموضع بقية علم ظاهر إلى اليوم، وكان عليه مبنى مرتفع، فهدمه أهل الطائف غيرة منهم على ما كان يجدد من لعنة صاحبهم الحجاج المذكور. وعن يمينك، إذا استقبلت الجبانة المذكورة، مسجد في مسيل بين جبلين، يقال إنه المسجد الذي بايعت فيه الجن النبي، صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم. وعلى هذا الباب المذكور طريق الطائف وطريق العراق والصعود إلى عرفات، جعلنا الله ممن يفوز بالموقف فيها. وهذا الباب المذكور بين الشرق والشمال، وهو إلى المشرق أميل. ثم باب المسفل: وهو إلى جهة الجنوب، وعليه طريق اليمن، ومنه كان دخول خالد بن الوليد، رضي الله عنه، يوم الفتح. ثم باب الزاهر: ويعرف أيضا بباب العمرة، وهو غربي، وعليه

طريق مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وطريق الشام وطريق جده، ومنه يتوجه إلى التنعيم، وهو أقرب ميقات المعتمرين، يخرج من الحرم إليه على باب العمرة، ولذلك أيضا يسمى هو بهذا الاسم. والتنعيم من البلدة على فرسخ، وهو طريق حسن فسيح، فيه الآبار العذبة التي تسمى بالشبيكة. وعندما تخرج من البلدة بنحو ميل تلقى مسجدا بإزائه حجر موضوع على الطريق كالمصطبة يعلوه حجر آخر مسند فيه نقش دائر الرسم يقال إنه الموضع الذي قعد فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، مستريحا عند مجيئه من العمرة. فيتبرك الناس بتقبيله ومسح الخدود فيه، وحق ذلك لهم، ويستندون إليه لتنال اجسامهم بركة لمسه. ثم بعد هذا الموضع بمقدار غلوة تلقى على قارعة الطريق، من جهة اليسار للمتوجه إلى العمرة، قبرين قد علتهما أكوام من الصخر عظام، يقال إنهما قبرا أبي لهب وامرأته، لعنهما الله، فما زال الناس في القديم إلى هلم جرا يتخذون سنة رجمهما بالحجارة حتى علاهما من ذلك جبلان عظيمان. ثم تسير منها بمقدار ميل وتلقى الزاهر، وهو مبتنى على جانبي الطريق، يحتوي على دار وبساتين، والجميع ملك أحد المكيين، وقد أحدث في المكان مطاهر وسقاية للمعتمرين. وعلى جانب الطريق دكان مستطيل تصف عليه كيزان الماء ومراكن مملؤة للوضوء، وهي القصاري الصغار. وفي الموضع بئر عذبة يملأ منها المطاهر المذكورة فيجد المعتمرون فيها مرفقا كبيرا للطهور والوضوء والشرب. فصاحبها على سبيل معمورة بالاجر والثواب. وكثير من الناس المتاجرين من يعينه على ما هو بسبيله. وقيل: ان له من ذلك فائدا كبيرا. وعن جانبي الطريق في هذا الموضع جبال أربعة: جبلان من هنا، وجبلان من هنا، عليها اعلام من الحجارة، وذكر لنا أنها الجبال المباركة التي جعل

ابراهيم، عليه السلام، عليها أجزاء الطير ثم دعاهن حسبما حكى الله، عز وجل، سؤاله إياه جل وتعالى أن يريه كيف يحيي الموتى. وحول تلك الجبال الأربعة جبال غيرها، وقيل: ان التي جعل ابراهيم عليها الطير سبعة منها، والله أعلم. وعند إجازتك الزاهر المذكور تمر بالوادي المعروف بذي طوى الذي ذكر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نزل فيه عند دخوله مكة، وكان ابن عمر، رضي الله عنهما، يغتسل فيه وحينئذ يدخلها. وحوله آبار تعرف بالشبيكة، وفيه مسجد يقال انه مسجد ابراهيم، عليه السلام، فتأمل بركة هذا الطريق ومجموع الآيات التي فيه والآثار المقدسة التي اكتنفته. وتجيز الوادي الى مضيق تخرج منه الى الأعلام التي وضعت حجزا بين الحل والحرام، فما داخلها الى مكة حرم وما خارجها حل، وهي كالأبراج مصفوفة كبار وصغار واحد بازاء آخر، وعلى مقربة منه تأخذ من أعلى الجبل الذي يعترض عن يمين الطريق في التوجه الى العمرة، وتشق الطريق الى أعلى الجبل عن يساره، ومنه ميقات المعتمرين، وفيها مساجد مبنية بالحجارة يصلي المعتمرون فيها ويحرمون منها. ومسجد عائشة، رضي الله عنها، خارج هذه الأعلام بمقدار غلوتين، واليه يصل المالكيون ومنه يحرمون. وأما الشافعيون فيحرمون من المساجد التي حول الأعلام المذكورة. وامام مسجد عائشة، رضي الله عنها، مسجد ينسب لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه. ومن عجيب ما عرض علينا بباب بني شيبة المذكور عتب من الحجارة العظام طوال كأنها مصاطب صفت أمام الأبواب الثلاثة المنسوبة لبني شيبة، ذكر لنا أنها الأصنام التي كانت قريش تعبدها في جاهليتها، وكبيرها هبل بينها، قد كبت على وجوهها، تطؤها الأقدام وتمتهنها بأنعلتها العوام، ولم تغن عن أنفسها فضلا عن عابديها شيئا، فسبحان المنفرد بالوحدانية لا اله سواه. والصحيح في أمر تلك الحجارة أن النبي، صلى الله عليه وسلم.

بعض مشاهدها

أمر يوم فتح مكة بكسر الأصنام واحراقها. وهذا الذي نقل الينا غير صحيح وانما تلك التي على الباب حجارة منقولة وعني القوم بتشبيهها الى الأصنام لعظمها. ومن جبال مكة المشهورة، بعد جبل أبي قبيس، جبل حراء، وهو في الشرق على مقدار فرسخ أو نحوه مشرف على منى، وهو مرتفع في الهواء عالي القنة، وهو جبل مبارك، كان النبي، صلى الله عليه وسلم، كثيرا ما ينتابه ويتعبد فيه، واهتز تحته فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: «اسكن حراء، فيما عليك الا نبي وصديق وشهيد» ، وكان معه أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما. ويروى: «أثبت فما عليك الا نبي وصديق وشهيدان» ، وكان عثمان، رضي الله عنه، معهم، واول آية نزلت من القرآن على النبي، صلى الله عليه وسلم، في الجبل المذكور وهو آخذ من الغرب الى الشمال، ووراء طرفه الشمالي جبانة الحجون التي تقدم ذكرها. وسور مكة انما كان من جهة المعلى وهو مدخل الى البلد، ومن جهة المسفل وهو مدخل ايضا اليه. ومن جهة باب العمرة وسائر الجوانب جبال لا يحتاج معها الى سور. وسورها اليوم منهدم الا آثاره الباقية وأبوابه القائمة. بعض مشاهدها مكة، شرفها الله، كلها مشهد كريم، كفاها شرفا ما خصها الله به من مثابة بيته العظيم وما سبق لها من دعوة الخليل ابراهيم وانها حرم الله وأمنه، وكفاها أنها منشأ النبي، صلى الله عليه وسلم، الذي آثره الله بالتشريف والتكريم وابتعثه بالآيات والذكر الحكيم، فهي مبدأ نزول الوحي والتنزيل وأول مهبط الروح الأمين جبريل، وكانت مثابة أنبياء الله ورسله الاكرمين، وهي أيضا مسقط رؤوس جماعة من الصحابة القرشيين المهاجرين الذين جعلهم الله مصابيح الدين ونجوما للمهتدين. فمن مشاهدها التي عايناها قبة الوحي، وهي في دار خديجة أم المؤمنين، رضي الله عنها، وبها كان ابتناء النبي، صلى الله عليه وسلم، بها، وقبة صغيرة

أيضا في الدار المذكورة فيها كان مولد فاطمة الزهراء، رضي الله عنها، وفيها أيضا ولدت سيّدي شباب أهل الجنة: الحسن والحسين، رضي الله عنهما، وهذه المواضع المقدسة المذكورة مغلقة مصونة قد بنيت بناء يليق بمثلها. ومن مشاهدها الكريمة أيضا مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، والتربة الطاهرة التي هي أول تربة مست جسمه الظاهر، بني عليها مسجد لم ير أحفل بناء منه، أكثره ذهب منزل به. والموضع المقدس الذي سقط فيه، صلى الله عليه وسلم، ساعة الولادة السعيدة المباركة التي جعلها الله رحمة للأمة أجمعين محفوف بالفضة. فيا لها تربة شرفها الله بأن جعلها مسقط أطهر الأجسام ومولد خير الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وأهله وأصحابه الكرام وسلم تسليما. يفتح هذا الموضع المبارك فيدخله الناس كافة متبركين به في شهر ربيع الأول ويوم الاثنين منه، لأنه كان شهر مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي اليوم المذكور ولد، صلى الله عليه وسلم، وتفتح المواضع المقدسة المذكورة كلها. وهو يوم مشهود بمكة دائما. ومن مشاهدها الكريمة أيضا دار الخيزران، وهي الدار التي كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يعبد الله فيها سرا مع الطائفة الكريمة المبادرة للإسلام من أصحابه، رضي الله عنهم، حتى نشر الله الإسلام منها على يدي الفاروق عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، وكفى بهذه الفضيلة. ومن مشاهدها أيضا دار أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وهي اليوم دارسة الأثر، ويقابلها جدار فيه حجر مبارك يتبرك الناس بلمسه، يقال: إنه كان يسلم على النبي، صلى الله عليه وسلم، متى اجتاز عليه. وذكر انه جاء يوما، صلى الله عليه وسلم، الى دار ابي بكر، رضي الله عنه فنادى به ولم يكن حاضرا فأنطق الله عز وجل الحجر المزكور، وقال: يا رسول الله ليس بحاضر. وكانت احدى آياته المعجزات، صلى الله عليه وسلم. ومن مشاهدها قبة بين الصفا والمروة تنسب لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وفي وسطها بئر يقال انه كان يجلس فيها للحكم، رضي الله عنه.

والصحيح في هذه القبة انها قبة حفيده عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، وبإزاء داره المنسوبة اليه، وفيها كان يجلس للحكم ايام توليه مكة. كذلك حكى لنا أحد أشياخنا الموثوقين. ويقال ان البئر كانت في القديم فيها، ولا بئر فيها الآن لانا دخلناها فالفيناها مسطحة، وهي حفيلة الصنعة. وكانت بمقربة من الدار التي نزلنا فيها دار جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، ذي الجناحين. وبجهة المسفل، وهو آخر البلد، مسجد منسوب لأبي بكر الصديق، رضي الله عنه، يحف به بستان حسن فيه النخيل والرمان وشجر العناب، وعاينا فيه شجر الحناء. وأمام المسجد بيت صغير فيه محراب، يقال: انه كان مختبأ له، رضي الله عنه، من المشركين الطالبين له. وعلى مقربة من دار خديجة، رضي الله عنها، المذكورة، وفي الزقاق الذي الدار المكرمة فيه مصطبة فيها متكأ يقصد الناس اليها ويصلون فيها ويتمسحون بأركانها، لأن في موضعها كان موضع قعود النبي، صلى الله عليه وسلم. ومن الجبال التي فيها أثر كريم ومشهد عظيم الجبل المعروف بأبي ثور، وهو في الجهة اليمنية من مكة على مقدار فرسخ او ازيد. وفيه الغار الذي آوى اليه النبي، صلى الله عليه وسلم، مع صاحبه الصديق، رضي الله عنه، حسبما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز. وقرأت في كتاب أخبار مكة لابي الوليد الازرقي: إن الجبل نادى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: الي يا محمد! الي يا محمد! فقد آويت قبلك نبيا. وخص الله، عز وجل، نبيه فيه بايات فمنها أنه، صلى الله عليه وسلم، دخل مع صاحبه على شق فيه ثلثا شبر وطوله ذراع، فلما اطمأنّا فيه، أمر الله العنكبوت فأتخذت عليه بيتا، والحمام فصنعت عليه عشا وفرخت فيه. فانتهى المشركون اليه بدليل قصّاص للأثر مستاف أخلاق الطريق، فوقف لهم على الغار وقال: ههنا انقطع الاثر، فاما صعد بصاحبكم من ههنا الى السماء أو غيض به في الارض. ورأوا العنكبوت ناسجة على فم

الغار والحمام مفرخة فيه، فقالوا: ما دخل هنا أحد. فأخذوا في الانصراف. فقال الصديق، رضي الله عنه. يا رسول الله! لو ولجوا علينا من فم الغار ما كنا نصنع؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لو ولجوا علينا منه كنا نخرج من هناك، وأشار بيده المباركة الى الجانب الآخر من الغار، ولم يكن فيه شق، فانفتح للحين فيه باب، بقدرة الله عز وجل، وهو سبحانه قدير على ما يشاء. وأكثر الناس ينتابون هذا الغار المبارك ويتجنبون دخوله من الباب الذي احدث الله عز وجل فيه، ويرومون دخوله من الشق الذي دخل النبي، صلى الله عليه وسلم، منه تبركا به. فيمتد المحاول لذلك على الارض ويبسط خده بإزاء الشق ويولج يديه ورأسه أولا ثم يعالج ادخال سائر جسده. فمنهم من يتأتى له ذلك بحسب قضافة بدنه، ومنهم من يتوسط بدنه فم الغار فيعضه فيروم الدخول أو الخروج فلا يقدر فينشب ويلاقي مشقة وصعوبة، حتى يتناول بالجذاب العنيف من ورائه. فالعقلاء من الناس يجتنبونه لهذا السبب، ولا سيما ويتصل به سبب آخر مخجل فاضح، وذلك أن عوام الناس يزعمون أن الذي لا يسع عليه ويمتسك فيه ولا يلجه ليس لرشدة «1» . جرى هذا الخبر على السنتهم حتى عاد عندهم قطعا على صحته لا يشكون. فبحسب المنتشب فيه المتعذر ولوجه عليه ما يكسوه هذا الظن الفاضح المخجل، زائدا الى ما يكابده بدنه من اللز في ذلك المضيق واشرافه منه على المنية توجعا وانقطاع نفس وبرح ألم. فالبعض من الناس يقولون في مثل: ليس يصعد جبل أبي ثور الاثور. وعلى مقربة من هذا الغار في الجبل بعينه عمود منقطع من الجبل، قد قام شبه الذراع المرتفعة بمقدار شبه القامة، وانبسط له في أعلاه شبه الكف، خارجا عن الذراع، كأنه القبة المبسوطة، بقدرة الله عز وجل، يستظل تحتها نحو

العشرين رجلا، وتسمى قبة جبريل، صلى الله عليه وسلم. ومما يجب أن يثبت ويؤثر، لبركة معاينته وفضل مشاهدته: أن في يوم الجمعة التاسع عشر من جمادى الأولى، وهو التاسع من شتنبر، أنشأ الله بحرية فتشاءمت فانهلت عينا غديقة، كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وذلك أثر صلاة العصر ومع العشي من اليوم المذكور، فجاءت بمطر جود. وتبادر الناس الى الحجر فوقفوا تحت الميزاب المبارك متجردين عن ثيابهم، يتلقون الماء الذي يصبه الميزاب برءوسهم وأيديهم وأفواههم مزدحمين عليه ازدحاما عظيما، أحدث ضوضاء عظيمة، كل يحرص على أن ينال جسمه من رحمة الله نصيبا، ودعاؤهم قد علا، ودموع أهل الخشوع منهم تسيل، فلا تسمع الا ضجيج دعاء، أو نشيج بكاء. والنساء قد وقفن خارج الحجر ينظرن بعيون دوامع، وقلوب خواشع، يتمنين ذلك الموقف لو ظفرن به. وكان بعض الحجاج المتأجرين المشفقين يبل ثوبه بذلك الماء المبارك ويخرج اليهن ويعصره في أيدي البعض منهن، فيتلقينه شربا ومسحا على الوجوه والأبدان. وتمادت تلك السحابة المباركة الى قريب المغرب، وتمادى الناس على تلك الحال من الازدحام على تلقي ماء الميزاب بالايدي والوجوه والافواه، وربما رفعوا الاواني ليقع فيها. فكانت عشية عظيمة استشعرت النفوس فيها الفوز بالرحمة ثقة بفضله وكرمه ولما اقترن بها من القرائن المباركة، فمنها: أنها كانت عشية الجمعة وفضل اليوم فضله، والدعاء فيها يرجى من الله تعالى قبوله، لما ورد فيها من الأثر الصحيح، وأبواب السماء تفتح عند نزول المطر. وقد وقف الناس تحت الميزاب، وهو من المواضع التي يستجاب فيها الدعاء، وطهرت أبدانهم رحمة الله النازلة من سمائه الى سطح بيته العتيق الذي هو حيال البيت المعمور، وكفى بهذا المجتمع الكريم والمنتظم الشريف، جعلنا الله ممن طهر فيه من أرجاس الذنوب، واختص من رحمة الله تعالى

ما خص الله تعالى به مكة

بذنوب، ورحمته سبحانه واسعة تسع عباده المذنبين، انه غفور رحيم. وذكروا أن الامام أبا حامد الغزالي دعا الله عز وجل بدعوات، وهو في حرمه الكريم، في رغبات رفعها الى الله جل وتعالى، فأعطي بعضا ومنع بعضا. وكان مما منع نزول المطر وقت مقامه بمكة، وكان تمنى أن يغتسل به تحت الميزاب ويدعو الله عز وجل عند بيته الكريم في الساعة التي أبواب سمائه فيها مفتوحة فمنع ذلك واجيب دعاؤه في سائر ما سأله. فله الحمد وله الشكر على ما أنعم به علينا. ولعل عبدا من عباده الصالحين الوافدين على بيته الكريم خصه الله بهذه الكرامة، فدخلنا، جميع المذنبين، في شفاعته، والله ينفعنا بدعاء المخلصين من عباده ولا تجعلنا ممن شقي بدعائه، إنه منعم كبير. ما خص الله تعالى به مكة هذه البلدة المباركة سبقت لها ولأهلها الدعوة الخليلية الإبراهيمية، وذلك أن الله عز وجل يقول حاكيا عن خليله، صلى الله عليه وسلم: «فأجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم، وارزقهم من الثمرات، لعلهم يشكرون» ، وقال عز وجل: «أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ» . فبرهان ذلك فيها ظاهر متصل إلى يوم القيامة، وذلك أن أفئدة الناس تهوي اليها من الاصقاع النائية والاقطار الشاحطة. فالطريق اليها ملتقى الصادر والوارد ممن بلغته الدعوة المباركة. والثمرات تجبى اليها من كل مكان، فهي أكثر البلاد نعما وفواكه ومنافع ومرافق ومتاجر. ولو لم يكن لها من المتاجر إلا أوان الموسم ففيه مجتمع أهل المشرق والمغرب، فيباع فيها في يوم واحد، فضلا عما يتبعه، من الذخائر النفيسة كالجواهر، والياقوت، وسائر الأحجار، ومن انواع الطيب: كالمسك، والكافور، والعنبر والعود؛ والعقاقير الهندية، إلى غير ذلك من جلب الهند والحبشة، الى الامتعة العراقية واليمانية، الى غير ذلك من السلع الخراسانية، والبضائع

المغربية، الى مالا ينحصر ولا ينضبط، ما لو فرق على البلاد كلها لأقام لها الأسواق النافقة ولعم جميعها بالمنفعة التجارية، كل ذلك في ثمانية أيام بعد الموسم، حاشا ما يطرأ بها من طول الأيام من اليمن وسواها فما على الأرض سلعة من السلع ولا ذخيرة من الذخائر الا وهي موجودة فيها مدة الموسم. فهذه بركة لا خفاء بها وآية من آياتها التي خصها الله بها. وأما الأرزاق والفواكه وسائر الطيبات فكنا نظن أن الاندلس اختصت من ذلك بحظ له المزية على سائر حظوظ البلاد حتى حللنا بهذه البلاد المباركة فألفيناها تغص بالنعم والفواكه: كالتين، والعنب، والرمان، والسفرجل، والخوخ، والاترج، والجوز، والمقل، والبطيخ، والقثاء، والخيار، الى جميع البقول كلها: كالباذنجان، واليقطين، والسلجم، والجزر، والكرنب، الى سائرها، الى غير ذلك من الرياحين العبقة والمشمومات العطرة. وأكثر هذه البقول كالباذنجان والقثاء والبطيخ لا يكاد ينقطع مع طول العام، وذلك من عجيب ما شاهدناه مما يطول تعداده وذكره. ولكل نوع من هذه الانواع فضيلة موجودة في حاسة الذوق يفضل بها نوعها الموجود في سائر البلاد، فالعجب من ذلك يطول. ومن أعجب ما اختبرناه من فواكهها البطيخ والسفرجل، وكل فواكهها عجب، لكن للبطيخ فيها خاصة من الفضل عجيبة، وذلك لأن رائحته من أعطر الروائح وأطيبها، يدخل به الداخل عليك فتجد رائحته العبقة قد سبقت اليك، فيكاد يشغلك الاستمتاع بطيب رياه عن أكلك اياه، حتى اذا ذقته خيل اليك أنه شيب بسكر مذاب أو يحنى النحل اللباب، ولعل متصفح هذه الاحرف يظن أن في الوصف بعض غلو، كلا لعمر الله! انه لأكثر مما وصفت وفوق ما قلت، وبها عسل أطيب من الماذيّ المضروب به المثل يعرف عندهم بالمسعودي. وأنواع اللبن بها في نهاية من الطيب، وكل ما يصنع منها من السمن، فإنه لا تكاد تميزه من العسل طيبا ولذاذة. ويجلب اليها قوم من اليمن يعرفون بالسرو

نوعا من الزبيب الأسود والاحمر في نهاية الطيب، ويجلبون معه من اللوز كثيرا. وبها قصب السكر أيضا كثير، يجلب من حيث تجلب البقول التي ذكرناها والسكر بها كثير مجلوب وسائر النعم والطيبات من الرزق، والحمد لله. وأما الحلوى فيصنع منها أنواع غريبة من العسل والسكر المعقود على صفات شتى، انهم يصنعون بها حكايات جميع الفواكه الرطبة واليابسة. وفي الاشهر الثلاثة: رجب، وشعبان، ورمضان، يتصل منها أسمطة بين الصفا والمروة، ولم يشاهد أحد اكمل منظرا منها لا بمصر ولا بسواها، قد صورت منها تصاوير إنسانية وفاكهية وجليت في منصات كأنها العرائس ونضدت بسائر أنواعها المنضدة الملونة، فتلوح كأنها الازاهر حسنا، فتقيد الأبصار وتستنزل الدرهم والدينار. وأما لحوم ضأنها فهناك العجب العجيب، قد وقع القطع من كل من تطوف على الآفاق وضرب نواحي الأقطار أنها أطيب لحم يؤكل في الدنيا. وما ذاك، والله أعلم، إلا لبركة مراعيها، هذا على افراط سمنه، ولو كان سواه من لحوم البلاد ينتهي ذلك المنتهى في السمن للفظته الأفواه زهما ولعافته وتجنبته. والأمر في هذا بالضد، كلما ازداد سمنا زادت النفوس فيه رغبة والنفس له قبولا، فتجده هنيئا رخصا يذوب في الفم قبل أن يلاك مضغا، ويسرع لخفته عن المعدة انهضاما. وما أرى ذلك الا من الخواص الغريبة، وبركة البلد الأمين قد تكلفت بطيبه لا شك فيه. والخبر عنه يضيق عن الخبر له، والله يجعل فيه رزقا لمن تشوق بلدته الحرام، وتمنى هذه المشاهد العظام، والمناسك الكرام، بعزته وقدرته. وهذه الفواكه تجلب اليها من الطائف، وهي على مسيرة ثلاثة أيام منها، على الرفق والتّؤدة، ومن قرى حولها. وأقرب هذه المواضع يعرف بأدم، هو من مكة على مسيرة يوم أو أزيد قليلا، وهو من بطن الطائف، ويحتوي على قرى كثيرة، ومن بطن مرّ، وهو على مسيرة يوم أو أقل؛ ومن نخلة، وهي على مثل

هذه المسافة؛ ومن أودية بقرب من البلد كعين سليمان وسواها، قد جلب الله اليها من المغاربة ذوي البصارة بالفلاحة والزراعة فأحدثوا فيها بساتين ومزارع، فكانوا أحد الأسباب في خصب هذه الجهات، وذلك بفضل الله، عزّ وجلّ، وكريم اعتنائه بحرمه الكريم، وبلده الأمين. ومن أغرب ما الفيناه فاستمتعنا بأكله وأجرينا الحديث باستطابته، ولا سيما لكوننا لم نعهده، الرّطب، وهو عندهم بمنزلة التين الأخضر في شجره يجنى ويؤكل، وهو في نهاية من الطيب واللذاذة، لا يسأم التفكه به، وابّانه عندهم عظيم، يخرج الناس اليه كخروجهم الى الضّيعة أو كخروج أهل المغرب لقراهم أيام نضج التين والعنب، ثم بعد ذلك عند تناهي نضجه يبسط على الأرض قدر ما يجف قليلا ثم يركم بعضه على بعض في السلال والظروف ويرفع. ومن صنع الله الجميل وفضله العميم علينا أنّا وصلنا الى هذه البلدة المكرمة فألفينا كل من بها من الحجاج المجاورين ممن قدم عهده فيها وطال مقامه بها يتحدث على جهة العجب بأمنها من الحرابة المتلصصين فيها على الحاج المختلسين ما بأيديهم والذين كانوا آفة الحرم الشريف، لا يغفل أحد عن متاعه طرفة عين الا اختلس من يديه أو من وسطه بحيل عجيبة ولطافة غريبة، فما منهم الا أحذّ يد القميص، فكفى الله في هذا العام شرهم الا القليل، وأظهر أمير البلد التشديد عليهم فتوقف شرهم، وبطيب هوائها في هذا العام، وفتور حمارّة قيظها المعهود فيها، وانكسار حدة سمومها. وكنا نبيت في سطح الموضع الذي كنا نسكنه، فربما يصيبنا من برد هواء الليل ما نحتاج معه الى دثار يقينا منه. وذلك أمر مستغرب بمكة. وكانوا أيضا يتحدثون بكثرة نعمها في هذا العام، ولين سعرها، وأنها خارقة للعوائد السالفة عندهم. كان سوم الحنطة أربعة اصواع بدينار مؤمني، وهي أوبتان من كيل مصر وجهاتها، والأوبتان قدحان ونصف قدح من الكيل المغربيّ. وهذا السعر في بلد لا ضيعة فيه ولا قوام معيشة لأهله الّا بالميرة المجلوبة

اليه سعر لا خفاء بيمنه وبركته على كثرة المجاورين فيها في هذا العام وانجلاب الناس اليها وترادفهم عليها. فحدثنا غير واحد من المجاورين الذين لهم بها سنون طائلة أنهم لم يروا هذا الجمع بها قط، ولا سمع بمثله فيها. والله يجعله جمعا مرحوما معصوما بمنّه. وما زال الناس فيها يسلسلون أوصاف أحوالها في هذه السنة وتمييزها عمّا سلف من السنين، حتى لقد زعموا أن ماء زمزم المبارك زاد عذوبة ولم يكن قبل بصادقها. وهذا الماء المبارك في أمره عجب، وذلك أنك تشربه عند خروجه من قرارته، فتجده في حاسة الذوق كاللبن عند خروجه من الضرع دفيئا، وتلك فيه من الله تعالى آية وعناية، وبركته أشهر من أن تحتاج لوصف واصف، وهو لما شرب له كما قال، صلى الله عليه وسلّم، أروى الله منه كل ظامىء اليه، بعزّته وكرمه. ومن الأمور المجرّبة في هذا الماء المبارك أن الإنسان ربما وجد مس الإعياء وفتور الأعضاء اما من كثرة الطواف أو من عمرة يعتمرها على قدميه أو من غير ذلك من الأسباب المؤدية الى تعب البدن، فيصب من ذلك الماء على بدنه فيجد الراحة والنشاط لحينه ويذهب عنه ما كان أصابه. شهر جمادى الآخرة استهل هلاله ليلة الأربعاء، وهو الحادي والعشرون من شهر شتنبر العجمي، ونحن بالحرم المقدس، زاده الله تعظيما وتشريفا. وفي صبيحة الليلة المذكورة وافى الأمير مكثر باتباعه وأشياعه، على العادة السالفة المذكورة في الشهر الأول، وعلى ذلك الرسم بعينه، والزمزميّ المغرد بثنائه والدعاء له فوق قبة زمزم، يرفع عقيرته بالدعاء والثناء عند كل شوط يطوفه الأمير، والقرّاء أمامه، الى أن فرغ من طوافه، وأخذ في طريق انصرافه.

شهر جمادى الآخرة

ولأهل هذه الجهات المشرقيّة كلها سيرة حسنة، عند مستهل كل شهر من شهور العام يتصافحون ويهنئ بعضهم بعضا ويتغافرون ويدعو بعضهم لبعض، كفعلهم في الأعياد؛ هكذا دائما. وتلك طريقة من الخير واقعة في النفوس، تجدد الإخلاص وتستمد الرحمة من الله، عزّ وجلّ، بمصافحة المؤمنين بعضهم بعضا وبركة ما يتهادونه من الدعاء. والجماعة رحمة، ودعاؤهم من الله بمكان. جمال الدين وآثاره السنية ولهذه البلدة المباركة حمّامان: أحدهما ينسب للفقيه الميانشي، أحد الأشياخ المحلقين بالحرم المكرّم؛ والثاني، وهو الاكبر، ينسب لجمال الدين، وكان هذا الرجل كصفته جمال الدين، له، رحمه الله، بمكة والمدينة، شرّفهما الله، من الآثار الكريمة والصنائع الحميدة والمصانع المبنية في ذات الله المشيدة ما لم يسبقه أحد اليه فيما سلف من الزمان ولا أكابر الخلفاء فضلا عن الوزراء. وكان، رحمه الله، وزير صاحب الموصل، تمادى على هذه المقاصد السنية المشتملة على المنافع العامة للمسلمين في حرم الله تعالى وحرم رسوله، صلى الله عليه وسلّم، أكثر من خمس عشرة سنة، ولم يزل فيها باذلا أموالا لا تحصى في بناء رباع بمكة مسبلة في طرق الخير والبرّ، مؤبدة، محبسة، واختطاط صهاريج للماء، ووضع جباب في الطرق يستقر فيها ماء المطر، الى تجديد آثار من البناء في الحرمين الكريمين. وكان من أشرف أفعاله أن جلب الماء الى عرفات وقاطع عليه العرب بني شعبة، سكان تلك النواحي المجلوب منها الماء، بوظيفة من المال كبيرة على أن لا يقطعوا الماء عن الحاج، فلما توفي الرجل، رحمة الله عليه، عادوا الى عادتهم الذميمة من قطعه. ومن مفاخره ومناقبه أيضا أنه جعل مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلّم

تحت سورين عتيقين أنفق فيهما أموالا لا تحصى كثرة. ومن أعجب ما وفّقه الله تعالى اليه أنه جدّد ابواب الحرم كلّها. وجدّد باب الكعبة المقدسة وغشاه فضة مذهبة، وهو الذي فيها الآن حسبما تقدم وصفه، وجلّل العتبة المباركة بلوح ذهب ابريز، وقد تقدم ذكره أيضا. فأخذ الباب القديم وأمر بأن يصنع له منه تابوت يدفن فيه، فلما حانت وفاته أوصى بأن يوضع في ذلك التابوت المبارك ويحج به ميتا. فسيق الى عرفات ووقف به على بعد وكشف عن التابوت، فلما افاض الناس افيض به وقضيت له المناسك كلها وطيف به طواف الافاضة، وكان الرجل، رحمه الله، لم يحجّ في حياته. ثم حمل الى مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلّم، وله فيها من الآثار الكريمة ما قدمنا ذكره، وكاد أشرافها يحملونه على رؤوسهم. وبنيت له روضة بإزاء روضة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، وفتح فيها موضع يلاحظ الروضة المقدسة، وأبيح له ذلك على شدة الضنانة بمثله لسابق أفعاله الكريمة، ودفن في تلك الروضة، وأسعده الله بالجوار الكريم، وخصّه بالمواراة في تربة التقديس والتعظيم، والله لا يضيع أجر المحسنين، وسنذكر تاريخ وفاته اذا وقفنا عليه من التاريخ الثابت في روضته، ان شاء الله عزّ وجلّ، وهو ولي التيسير، لا رب غيره. ولهذا الرجل، رحمه الله، من الآثار السنية والمفاخر العلية التي لم يسبقه اليها الأكابر الأجواد وسراة الأمجاد فيما سلف من الزمان ما يفوت الإحصاء ويستغرق الثناء ويستصحب طول الأيام من الألسنة الدعاء، وحسبك أنه اتسع اعتناؤه بإصلاح عامة طرق المسلمين بجهة المشرق من العراق الى الشام الى الحجاز، حسبما نذكره، واستنبط المياه، وبنى الجباب، واختط المنازل في المفازات، وأمر بعمارتها مأوى لأبناء السبيل وجميع المسافرين، وابتنى بالمدن المتصلة من العراق الى الشام فنادق عيّنها لنزول الفقراء أبناء السبيل الذين يضعف أحدهم عن تأدية الأكرية، وأجرى على قومة تلك الفنادق والمنازل ما يقوم بمعيشتهم،

الأمور المحظورة في الحرام

وعين لهم ذلك في وجوه تأبدت لهم، فبقيت تلك الرسوم الكريمة ثابتة على حالها الى الآن. فسارت بجميل ذكر هذا الرجل الرّفاق، وملئت ثناء عليه الآفاق. وكان مدّة حياته بالموصل، على ما اخبرنا به غير واحد من ثقات الحجاج التجار ممن شاهد ذلك، قد اتخذ دار كرامة واسعة الفناء فسيحة الأرجاء يدعو اليها كل يوم الجفلى من الغرباء فيعمهم شبعا وريا، ويرد الصادر والوارد من ابناء السبيل في ظله عيشا هنيئا، لم يزل على ذلك مدة حياته، رحمه الله. فبقيت آثاره مخلدة، واخباره بألسنة الذكر مجددة، وقضى حميدا سعيدا، والذكر الجميل للسعداء حياة باقية، ومدة من العمر ثانية، والله الكفيل بجزاء المحسنين الى عباده، فهو أكرم الكرماء، وأكفل الكفلاء. الأمور المحظورة في الحرام ومن الأمور المحظورة في هذا الحرم الشريف، زاده الله تعظيما وتكريما، أن النفقة فيه ممنوعة، لا يجد المتاجر من ذوي اليسار اليها سبيلا في تجديد بناء أو اقامة حطيم أو غير ذلك مما يختص بالحرم المبارك. ولو كان الأمر مباحا في ذلك لجعل الراغبون في نفقات البر من أهل الجدة حيطانه عسجدا وترابه عنبرا، لكنهم لا يجدون السبيل الى ذلك، فمتى ذهب أحد أرباب الدنيا الى تجديد أثر من آثاره او اقامة رسم كريم من رسومه أخذ اذن الخليفة في ذلك. فإن كان مما ينقش عليه أو يرسم فيه طرز باسم الخليفة ونفوذ أمره بعمله ولم يذكر اسم المتولي لذلك. ولا بد مع ذلك من بذل حظ وافر من النفقة لأمير البلد ربما يوازي قدر المنفوق فيه. فتضاعف المؤونة على صاحبه وحينئذ يصل الى غرضه من ذلك. ومن أغرب ما اتفق لأحد دهاة الأعاجم، ذوي الملك والثراء، أنه وصل الى الحرم الكريم، مدة جدّ هذا الأمير مكثر، فرأى تنور بئر زمزم وقبتها

على صفة لم يرضها. فاجتمع بالأمير، وقال: أريد أن أتأنق في بناء تنور زمزم وطيه وتجديد قبته، وأبلغ في ذلك الغاية الممكنة، وأنفق من صميم مالي، ولك علي في ذلك شرط ابلغ بالتزامه لك الغرض المقصود، وهو أن تجعل ثقة من قبلك يقيد مبلغ النفقة في ذلك، فاذا استوفى البناء التمام، وانتهت النفقة منتهاها، وتحصلت محصاة، بذلت لك مثلها جزاء على اباحتك لي ذلك. فاهتزّ الأمير طمعا، وعلم أن النفقة في ذلك تنتهي الى آلاف من الدنانير، على الصفة التي وصفها له، فأباح له ذلك، وألزمه مقيدا يحصي قليل الإنفاق وكثيره. وشرع الرجل في بنائه واحتفل واستفرغ الوسع وتأنق وبذل المجهود، فعل من يقصد بفعله ذات الله عزّ وجلّ ويقرضه قرضا حسنا. والمقيد يسوّد طواميره بالتقييد، والأمير يتطلع الى ما لديه، ويؤمل لقبض تلك النفقات الواسعة بسط يديه، الى ان فرغ البناء على الصفة التي تقدم ذكرها أولا عند ذكر بئر زمزم وقبته، فلما لم يبق الا ان يصبح صاحب النفقة بالحساب ويستقضي منه العدد المجتمع فيها، خلا منه المكان، واصبح في خبر كان، وركب الليل جملا، وأصبح الأمير يقلب كفيه، ويضرب اصدريه، ولم يمكنه أن يحدث في بناء وضع في حرم الله تعالى حادثا يحيله، أو نقضا يزيله، وفاز الرجل بثوابه، وتكفل الله به في انقلابه وتحسين مآبه: «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» وبقي خبر هذا الرجل مع الأمير يتهادى غرابة وعجبا، ويدعو له كل شارب من ذلك الماء المبارك. شهر رجب الفرد استهل هلاله ليلة الخميس الموفي عشرين لشهر أكتوبر بشهادة خلق كثير من الحجاج المجاورين والأشراف أهل مكة، ذكروا أنهم رأوه بطريق العمرة ومن جبل قعيقعان وجبل أبي قبيس، فثبتت شهادتهم بذلك عند الأمير والقاضي، واما من المسجد الحرام فلم يبصره أحد.

شهر رجب الفرد

وهذا الشهر المبارك عند أهل مكة موسم من المواسيم المعظمة وهو اكبر أعيادهم، ولم يزالوا على ذلك قديما وحديثا يتوارثه خلف عن سلف متصلا ميراث ذلك الى الجاهلية لأنهم كانوا يسمونه منصل الاسنة. وهو أحد الاشهر الحرم، وكانوا يحرّمون القتال فيه، وهو شهر الله الأصم، كما جاء في الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. العمرة الرجبية والعمرة الرجبية عندهم أخت الوقفة العرفية، لأنهم يحتفلون لها الاحتفال الذي لم يسمع بمثله ويبادر اليها أهل الجهات المتصلة بها، فيجتمع لها خلق عظيم لا يحصيهم الا الله عزّ وجلّ. فمن لم يشاهدها بمكة لم يشاهد مرأى يستهدي ذكره غرابة وعجبا، شاهدنا من ذلك أمرا يعجز الوصف عنه، والمقصود منه الليلة التي يستهل فيها الهلال مع صبيحتها. ويقع الاستعداد لها من قبل ذلك بأيام، فأبصرنا من ذلك ما نصف بعضه على جهة الاختصار. وذلك لأنا عاينا شوارع مكة وأزقتها، من عصر يوم الأربعاء، وهي العشية التي ارتقب فيها الهلال، قد امتلأت هوادج مشدودة على الإبل مكسوة بأنواع كسا الحرير وغيرها من ثياب الكتان الرفيعة بحسب سعة احوال اربابها ووفرهم، كل يتأنق ويحتفل بقدر استطاعته، فأخذوا في الخروج الى التنعيم ميقات المعتمرين، فسالت تلك الهوادج في اباطح مكة وشعابها، والإبل قد زينت تحتها بأنواع التزيين، واشعرت بغير هدي بقلائد رائقة المنظر من الحرير وغيره، وربما فاضت الأستار التي على الهوادج حتى تسحب أذيالها على الأرض. ومن أغرب ما شاهدناه من ذلك هودج الشريفة جمانة بنت فليتة عمة الأمير مكثر، فإن اذيال سترة كانت تنسحب على الارض انسحابا؛ وغيره من هوادج حرم الامير وحرم قواده، الى غير ذلك من هوادج لم نستطع تقييد عدتها عجزا عن الاحصاء. فكانت تلوح على ظهور الإبل كالقباب المضروبة، فيخيل للناظر

اليها انها محلة قد صربت ابنيتها من كل لون رائق. ولم يبق ليلة الخميس المذكور بمكة الا من خرج للعمرة من اهلها ومن المجاورين، وكنا في جملة من خرج ابتغاء بركة الليلة العظيمة، فكدنا لا نتخلص الى مسجد عائشة من الزحام وانسداد ثنيات الطريق بالهوادج، والنيران قد اشعلت بحافتي الطريق كله، والشمع يتقد بين أيدي الإبل التي عليها هوادج من يشار اليه من عقائل نساء مكة. فلما قضينا العمرة وطفنا وجئنا للسعي بين الصفا والمروة، وقد مضى هدء من الليل، أبصرناه كله سرجا ونيرانا وقد غص بالساعين والساعيات على هوادجهن، فكنا لا نتلخص الا بين هوادجهن وبين قوائم الإبل لكثرة الزحام واصطكاك الهوادج بعضها على بعض. فعاينا ليلة هي أغرب ليالي الدنيا، فمن لم يعاين ذلك لم يعاين عجبا يحدث به ولا عجبا يذكره مرأى الحشر يوم القيامة لكثرة الخلائق فيه، محرمين، ملبين، داعين الى الله عزّ وجلّ ضارعين، والجبال المكرمة التي بحافتي الطريق تجيبهم بصداها حتى سكتت المسامع، وسكبت من هول تلك المعاينة المدامع، وذابت القلوب الخواشع. وفي تلك الليلة ملئ المسجد الحرام كله سرجا فتلألأ نورا. وعند ثبوت رؤية الهلال عند الأمير أمر بضرب الطبول والدبادب والبوقات إشعارا بأنها ليلة الموسم. فلما كانت صبيحة ليلة الخميس خرج الى العمرة في احتفال لم يسمع بمثله انحشد له أهل مكة على بكرة ابيهم، فخرجوا على مراتبهم قبيلة قبيلة وحارة حارة شاكين في الأسلحة فرسانا ورجالة، فاجتمع منهم عدد لا يحصى كثرة، يتعجب المعاين لهم لوفور عددهم، فلو أنهم من بلاد جمة لكانوا عجبا، فكيف وهم من بلد واحد وهذا أدل الدلائل على بركة البلد. فكانوا يخرجون على ترتيب عجيب، فالفرسان منهم يخرجون بخيلهم ويلعبون بالاسلحة عليها، والرجالة يتواثبون ويتثاقفون بالأسلحة في ايديهم حرابا وسيوفا وحجفا وهم يظهرون التطاعن بعضهم لبعض والتضارب بالسيوف والمدافعة بالحجف التي يستجنون بها. واظهروا من الحذق

؟ كل أمر مستغرب. وكانوا يرمون بالحراب الى الهواء ويبادرون اليها لقفا بأيديهم وهي قد تصوبت اسنتها على رؤوسهم وهم في زحام لا يمكن فيه المجال، وربما رمى بعضهم بالسيوف في الهواء فيستلقونها قبضا على قوائمها كأنها لم تفارق أيديهم، الى أن خرج الأمير يزحف بين قواده، وأبناؤه أمامه، وقد قاربوا سن الشباب، والرايات تخفق أمامه، والطبول والدبادب بين يديه، والسكينة تفيض عليه، وقد امتلأت الجبال والطرق والثنيات بالنظارة من جميع المجاورين. فلما انتهى الى الميقات وقضى غرضه أخذ في الرجوع، وقد ترتب العسكران بين يديه على لعبهم ومرحهم والرجالة على الصفة المذكورة من التجاول. وقد ركب جملة من اعراب البوادي نجبا صهبا لم ير أجمل منظرا منها، وركابها يسابقون الخيل بها، بين يدي الأمير، رافعين أصواتهم بالدعاء له والثناء عليه، الى أن وصل المسجد الحرام، فطاف بالكعبة، والقراء أمامه، والمؤذن الزمزمي يغرد في سطح قبة زمزم رافعا عقيرته بتهنئته بالموسم والثناء عليه والدعاء له على العادة، فلما فرغ من الطواف صلى عند الملتزم ثم جاء الى المقام وصلى خلفه، وقد أخرج له من الكعبة ووضع في قبته الخشبية التي يصلى خلفها. فلما فرغ من صلاته رفعت له القبة عن المقام فاستلمه وتمسح به، ثم أعيدت القبة عليه، وأخذ في الخروج على باب الصفا الى المسعى. وانجفل بين يديه، فسعى راكبا والقواد مطيفون به، والرجالة الحرّابة أمامه، فلما فرغ من السعي استلت السيوف أمامه، واحدقت الأشباع به، وتوجه الى منزله على هذه الحالة الهائلة مزحوفا به، وبقي المسعى يومه ذلك يموج بالساعين والساعيات. فلما كان اليوم الثاني، وهو يوم الجمعة، كان طريق العمرة في العمارة قريبا من امسه، راكبين وماشين، رجالا ونساء والنساء الماشيات المتأجرات كثير يسابقن الرجال في تلك السبيل المباركة، تقبل الله من جميعهم بمنه. وفي أثناء ذلك يلاقي الرجال بعضهم بعضا فيتصافحون ويتهادون الدعاء

السرو المائرون

والتغافر بينهم، والنساء كذلك. والكل منهم قد لبس أفخر ثيابه واحتفل احتفال أهل البلاد للأعياد. وأما أهل البلد الأمين فهذا الموسم عيدهم، له يعبأون وله يحتفلون، وفي المباهاة فيه يتنافسون وله يعظمون، وفيه تنفق أسواقهم وصنائعهم، يقدمون النظر في ذلك والأستعداد له بأشهر. السرو المائرون ومن لطيف صنع الله، عزّ وجلّ، لهم فيه اعتناء كريم منه سبحانه بحرمه الأمين، أن قبائل من اليمن تعرف بالسّرو، وهم أهل جبال حصينة باليمن تعرف بالسراة، كأنها مضافة لسراة الرجال، على ما أخبرني به فقيه من أهل اليمن يعرف بابن أبي الصيف، فاشتق الناس لهم هذا الاسم المذكور من اسم بلادهم، وهم قبائل شتى كبجيلة وسواها، يستعدون للوصول الى هذه البلدة المباركة قبل حلولها بعشرة أيام، فيجتمعون بين النية في العمرة وميرة البلد بضروب من الأطعمة كالحنطة وسائر الحبوب الى اللوبياء الى ما دونها، ويجلبون السمن والعسل والزبيب واللوز. فتجمع ميرتهم بين الطعام والإدام والفاكهة. ويصلون في آلاف من العدد رجالا وجمالا موقرة بجميع ما ذكر. فيرغدون معايس اهل البلد والمجاورين فيه يتقوتون ويدّخرون، وترخص الأسعار، وتعم المرافق. فيعد منها الناس ما يكفيهم لعامهم الى ميرة اخرى. ولولا هذه الميرة لكان أهل مكة في شظف من العيش. ومن العجب في أمر هؤلاء المائرين أنهم لا يبيعون من جميع ما ذكرناه بدينار ولا بدرهم، إنما يبيونه بالخرق والعباءات والشمل، فأهل مكة يعدّون لهم من ذلك مع الأقنعة والملاحف المتان وما أشبه ذلك مما يلبسه الأعراب ويبايعونهم به ويشارونهم. ويذكر أنهم متى اقاموا عن هذه الميرة ببلادهم تجدب ويقع الموتان في مواشيهم وانعامهم، وبوصولهم بها تخصب بلادهم وتقع

- البركة أموالهم فمتى في قرب الوقت ووقعت منهم بعض غفلة في التأهب للخروج اجتمع نساؤهم فأخرجنهم. وكل هذا لطف من الله تعالى لحرمة البلد الأمين. وبلادهم على ما ذكر لنا خصيبة متسعة كثيرة التين والعنب واسعة المحرث وافرة الغلات، وقد اعتقدوا اعتقادا صحيحا أن البركة كلها في هذه الميرة التي يحلبونها، فهم من ذلك في تجارة رابحة مع الله عزّ وجلّ. والقوم عرب صرحاء فصحاء جفاة أصحاء، لم تغذهم الرقة الحضرية ولا هذبتهم السير المدنية ولا سدّدت مقاصدهم السنن الشرعية، فلا تجد لديهم من أعمال العبادات سوى صدق النية، فهم اذا طافوا بالكعبة المقدّسة يتطارحون عليها تطارح البنين على الام المشفقة لائذين بجوارها متعلقين بأستارها فحيثما علقت أيديهم منها تمزق لشدة اجتذابهم لها وانكبابهم عليها. وفي اثناء ذلك تصدع لسنتهم بأدعية تتصدع لها القلوب وتتفجر لها الأعين الجوامد فتصوب. فترى الناس حولهم باسطي ايديهم مؤمنين على أدعيتهم متلقنين لها من السنتهم، على أنهم طول مقامهم لا يتمكن منهم طواف ولا يوجد سبيل الى استلام الحجر. واذا فتح الباب الكريم فهم الداخلون بسلام، فتراهم في محاولة دخولهم يتسلسلون كأنهم بعض ببعض مرتبطون، يتصل منهم على هذه الصفة الثلاثون والأربعون الى أزيد من ذلك، والسلاسل منهم يتبع بعضهم بعضا، وربما انفصمت بواحد منهم، يميل عن المطلع المبارك الى البيت الكريم. فيقع الكل لوقوعه، فيشاهد الناظر لذلك مرأى يؤدي الى الضحك. وأما صلاتهم فلم يذكر في مضحكات الأعراب أظرف منها، وذلك أنهم يستقبلون البيت الكريم فيسجدون دون ركوع وينقرون بالسجود نقرا، ومنهم من يسجد السجدة الواحدة ومنهم من يسجد الثّنتين والثلاث والاربع ثم يرفعون رؤوسهم من الارض قليلا وأيديهم مبسوطة عليها، ويلتفتون يمينا وشمالا التفات المروع ثم يسلمون أو يقومون دون تسليم ولا جلوس للتشهد، وربما تكلموا في

أثناء ذلك، وربما رفع أحدهم رأسه من سجوده الى صاحبه وصاح به ووصاه بما شاء ثم عاد الى سجوده، الى غير ذلك من أحوالهم الغريبة. ولا ملبس لهم سوى أزر وسخة أو جلود يستترون بها. وهم مع ذلك أهل بأس ونجدة، لهم القسيّ العربية الكبار كأنها قسيّ القطانين لا تفارقهم في أسفارهم، فمتى رحلوا الى الزيارة هاب أعراب الطريق الممسكون للحاج مقدمهم وتجنبوا اعتراضهم وخلوا لهم عن الطريق. ويصحبهم الحجاج الزائرون فيحمدون صحبتهم. وعلى ما وصفنا من أحوالهم فهم أهل اعتقاد للإيمان صحيح، وذكر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، ذكرهم واثنى عليهم خيرا، وقال: «علموهم الصلاة يعلموكم الدعاء» . وكفى بأن دخلوا في عموم قوله، صلى الله عليه وسلم: «الإيمان يمان» الى غير ذلك من الأحاديث الواردة في اليمن واهله. وذكر أن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، كان يحترم وقت طوافهم ويتحرى الدخول في جملتهم تبركا بأدعيتهم. فشأنهم عجيب كله. وشاهدنا منهم صبيا في الحجر قد جلس الى احد الحجاج يعلمه فاتحة الكتاب وسورة الإخلاص. فكان يقول له: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فيقول الصبيّ: «هو الله أحد» فيعيد عليه المعلم، فيقول له: «ألم تأمرني بأن أقول: هو الله أحد؟ قد قلت» . فكابد في تلقينه مشقة، وبعد لأي ما علقت بلسانه. وكان يقول له: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ، فيقول الصبي: «بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله» . فيعيد عليه المعلم، ويقول له: «لا تقل: والحمد لله انما اقل: الحمد لله» فيقول الصبي: «اذا قلت: بسم الله الرحمن الرحيم، اقول: والحمد لله، للاتصال، واذا لم أقل بسم الله، وبدأت قلت: الحمد لله» فعجبنا من أمره ومن معرفته طبعا بصلة الكلام وفصله دون تعلم. وأما فصاحتهم فبديعة جدا، ودعاؤهم كثير التخشيع للنفوس، والله يصلح أحوالهم وأحوال جميع عباده بمنه.

عود إلى العمرة

عود إلى العمرة والعمرة في هذا الشهر كله متصلة ليلا ونهارا، رجالا ونساء، لكن المجتمع كله انما كان في الليلة الاولى، وهي ليلة الموسم عندهم. والبيت الكريم يفتح كل يوم من هذا الشهر المبارك. فاذا كان يوم التاسع والعشرون منه افرد للنساء خاصة، فيظهر للنساء بمكة في ذلك اليوم احتفال عظيم، فهو عندهم يوم زينتهم المشهور المستعد له. وفي يوم الخميس الخامس عشر من الشهر المذكور شاهدنا من الاحتفال للعمرة قريبا من المشهد الاول المذكور في اوله، فكان لا يبقى احد من الرجال والنساء الا خرج لها. وبالجملة فالشهر المبارك كله معمور بأنواع العبادات من العمرة وسواها، ويختص اوله ونصفه من ذلك بخط متميز، وكذلك السابع والعشرون منه. وفي عشيّ يوم الخميس المذكور كنا جلوسا بالحجر المكرم فما راعنا الا الامير مكثر طالعا محرما قد وصل من ميقات العمرة تبركا بذلك اليوم وجريا فيه على الرسم وابناؤه وراءه محرمين وقد حف به بعض خاصته. وبادر المؤذن الزمزمي للحين الى سطح قبة زمزم داعيا على عادته ومتناوبا في ذلك مع أخيه صغيره. وحانت صلاة العشاء مع فراغ الأمير من طوافه فصلى خلف الامام الشافعي وخرج الى المسعى المبارك. وفي يوم الجمعة السادس عشر منه خرجت قافلة كبيرة من الحاج في نحو اربع مئة جمل مع الشريف الداودي الى زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي جمادى الثانية قبله كانت ايضا زيارة اخرى لبعض الحجاج في قافلة اصغر من هذه المذكورة. وبقيت الزيارة الشوالية والتي مع الحاج العراقي اثر الوقفة، ان شاء الله عزّ وجلّ. وفي التاسع عشر من شعبان كان انصراف هذه القافلة الكبيرة في كنف السلامة، والحمد لله.

عمرة الأكمة

عمرة الأكمة وفي ليلة الثلاثاء السابع والعشرين منه. اعني من رجب، ظهر لاهل مكة ايضا احتفال عظيم في الخروج الى العمرة لم يقصر عن الاحتفال الاول، فانجفل الجميع اليها، تلك الليلة، رجالا ونساء على الصفات والهيئات المتقدمة الذكر تبركا بفضل هذه الليلة لأنها من الليالي الشهيرة الفضل. فكانت مع صبيحتها عجبا في الاحتفال وحسن المنظر، جعل الله ذلك كله خالصا لوجهه الكريم. وهذه العمرة يسمونها عمرة الأكمة، لأنهم يحرمون فيها من اكمة امام مسجد عائشة، رضي الله عنها، بمقدار غلوة، وهي على مقربة من المسجد المنسوب لعلي، عليه السلام. والاصل في هذه العمرة الاكمية عندهم ان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، لما فرغ من بناء الكعبة المقدسة خرج ماشيا حافيا معتمرا واهل مكة معه فانتهى الى تلك الاكمة فأحرم منها، وكان ذلك في اليوم السابع والعشرين من رجب وجعل طريقه على ثنية الحجون المفضية الى المعلى التي كان دخول المسلمين يوم فتح مكة منها، حسبما تقدم ذكره. فبقيت تلك العمرة سنة عند أهل مكة في ذلك اليوم بعينه وعلى تلك الأكمة بعينها. وكان يوم عبد الله، رضي الله عنه، مذكورا مشهورا، لأنه أهدى فيه كذا وكذا بدنة، عددا لم تتحصل صحته، فكنت أثبته، لكنه بالجملة كثير. ولم يبق من اشراف مكة وذوي الاستطاعة فيها الا من اهدى، وأقام أهلها أياما يطعمون ويطعمون ويتنعمون وينعّمون شكرا لله، عزّ وجلّ، على ما وهبهم من المعونة والتيسير في بناء بيته الحرام على الصفة التي كان عليها مدة الخليل ابراهيم، صلى الله عليه وسلم، فنقضها الحجاج، لعنه الله، وأعادها على ما كانت عليه مدة قريش، لأنهم كانوا اقتصروا في بنائه عن قواعد ابراهيم، صلى الله عليه وسلم، وابقى نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، ذلك على حالة لحدثان عهدهم بالكفر،

يوم طواف النساء

حسبما ثبت في رواية عائشة، رضي الله عنها، في موطإ مالك بن أنس، رضي الله عنه. يوم طواف النساء وفي اليوم التاسع والعشرين منه، وهو يوم الخميس، أفرد البيت للناس خاصة، فاجتمعن من كل أوب. وقد تقدم احتفالهن لذلك بأيام كاحتفالهن للمشاهد الكريمة، ولم تبق امرأة بمكة الا حضرت المسجد الحرام ذلك اليوم. فلما وصل الشيبيون لفتح البيت الكريم، على العادة، وأسرعوا في الخروج منه وافرجوا للنساء عنه. وأفرج الناس لهن عن الطواف وعن الحجر ولم يبق حول البيت المبارك أحد من الرجال تبادر النساء الى الصعود، حتى كاد الشيبيون لا يخلصون بينهن عند هبوطهم من البيت الكريم، وتسلسل النساء بعضهن ببعض وتشابكن حتى تواقعن، فمن صائحة ومعولة ومكبرة ومهللة، وظهر من تزاحمهن ما ظهر من السرو اليمنيين مدة مقامهم بمكة وصعودهم يوم فتح بيت لمقدس، وأشبهت الحال الحال، وتمادين على ذلك صدرا من النهار، وانفسحن في الطواف والحجر، وتشفين من تقبيل الحجر واستلام الأركان. وكان ذلك اليوم عندهن الأكبر، ويومهن الأزهر الأشهر، نفعهن الله به وجعله خالصا لكريم وجهه. وبالجملة فهن مع الرجال مسكينات مغبونات يرين البيت الكريم ولا يلجنه ويلحظن الحجر المبارك ولا يستلمنه. فحظهن من ذلك كله النظر والأسف المستطير المستشعر. فليس لهن سوى الطواف على البعد، وهذا اليوم الذي هو من عام الى عام فهن يرتقبنه ارتقاب أشرف الأعياد ويكثرن له من التأهب والاستعداد، والله ينفعهن في ذلك، بحسن النية والاعتقاد، بمنه وكرمه. غسيل البيت بماء زمزم وفي اليوم الثاني منه بكر الشيبيون الى غسله بماء زمزم المبارك بسبب أن

شهر شعبان المكرم

كثيرا من النساء أدخلن أبناءهن الصغار والرضع معهن، فيتحرى غسله تكريما وتنزيها وازالة لما يحيك في النفوس من هواجس الظنون فيمن ليست له ملكة عقلية تمنعه من أن تصدر عنه حادثة نجس في ذلك الموطن الكريم والمحل المخصوص بالتقديس والتعظيم، فعند انسياب الماء عنه كان كثير من الرجال والنساء يبادرون اليه تبركا بغسل أوجههم وأيديهم فيه، وربما جمعوا منه في اوان قد اعدوها لذلك ولم يراعوا العلة التي غسل لها. وكان منهم من توقف عن ذلك، وربما لحظ الحال لحظة من لا يستجيزها ولا يصوب العقل في ذلك. وما ظنك بماء زمزم المبارك قد صب داخل بيت الله الحرام وماج في جنبات أركانه الكرام ثم انصب بإزاء الملتزم والركن الأسود المستلم، أليس جديرا بأن تتلقاه الافواه فضلا عن الأيدي، وتغمس فيه الوجوه فضلا عن الأقدام؟ وحاشا لله أن تعرض في ذلك علة تمنع منه وشبهة من شبهات الظنون تدفع عنه، والنيات عند الله تعالى مقبولة، والمثابرة على تعظيم حرماته برضاه موصولة، وهو المجازي على الضمائر وخفيات السرائر، لا اله سواه. شهر شعبان المكرم استهل هلاله ليلة السبت التاسع عشر لشهر نونبر. وفي صبيحته بكر الأمير مكثر الى الطواف على العادة في ذلك رأس كل شهر مع أخيه وبنيه ومن جرى الرسم باستصحابه من القواد والأشياع والأتباع، وعلى الأسلوب المتقدم الذكر، والزمزمي يصرخ في مرقبته على عادته متناوبا مع أخيه صغيره. وفي سحر يوم الخميس الثالث عشر منه، وهو أول يوم من دجنبر، بعد طلوع الفجر، كسف القمر، وبدأ الكسوف والناس في صلاة الصبح في الحرم الشريف، وغاب مكسوفا، وانتهى الكسوف الى ثلثه، والله يعرفنا حقيقة الاعتبار بآياته. زيادة ماء زمزم وفي يوم الجمعة الثاني من ذلك اليوم أصبح بالحرم امر عجيب وذلك أنه لم

يبق بمكة صبي الا وصبحه واجتمعوا كلهم في قبة زمزم، وينادون بلسان واحد: هللوا وكبروا يا عباد الله؛ فيهلل الناس ويكبرون. وربما دخل معهم من عرض العامة من ينادي معهم بندائهم. والناس والنساء يزدحمون على قبة البئر المباركة لأنهم يزعمون، بل يقطعون قطعا جهليا لا قطعا عقليا، أن ماء زمزم يفيض ليلة النصف من شعبان. وكانوا على ظن من هلال الشهر، لأنه قيل: انه رؤي ليلة الجمعة في جهة اليمن. فبكر الناس الى القبة، وكان فيها من الازدحام ما لم يعهد مثله، ومقصد الناس في ذلك التبرك بذلك الماء المبارك الذي قد ظهر فيضه، والسقاة فوق التنور يستقون ويفيضون على رؤوس الناس الماء بالدلاء قذفا؛ فمنهم من يصيبه في وجهه ومنهم من يصيبه في رأسه الى غير ذلك. وربما تمادى لشدة نفوذه من أيديهم، والناس مع ذلك يستزيدون ويبكون، والنساء من جهة اخرى يساجلنهم بالبكاء ويطارحنهم بالدعاء، والصبيان يضجون بالتهليل والتكبير؛ فكان مرأى هائلا مسموعا رائعا، لم يتخلص للطائفين بسببه طواف ولا للمصلين صلاة لعلو تلك الأصوات واشتغال الأسماع والأذهان بها. ودخل الى القبة المذكورة أحدنا ذلك اليوم فكابد من لز الزحام عنتا ومشقة، فسمع الناس يقولون: زاد الماء سبع اذرع. فجعل يقصد الى من يتوسم فيه بعض عقل ونظر من ذوي السبال البيض فيسأله عن ذلك، فيقول وأدمعه تسيل: نعم زاد الماء سبع أذرع، لا شك في ذلك، فيقول: أعن خبرة وحقيقة؟ فيقول: نعم. ومن العجيب أن كان منهم من قال: انه بكر سحر يوم الجمعة المذكور فألفى الماء قد قارب التنور بنحو القامة. فيا عجبا لهذا الاختراع الكاذب، نعوذ بالله من الفتنة! وكان من الاتفاق أن اعتنينا بهذا الأمر لغلبة الاستفاضة التي سمعناها في ذلك واستمرارها مع سوالف الأزمنة عند عوام أهل مكة فتوجه منا ليلة الجمعة من أدلى دلوه في البئر المباركة الى أن ضرب في صفح الماء وانتهى الحبل الى حافة

ليلة النصف من شعبان

التنور وعقد فيه عقدا يصح عندنا القياس به في ذلك. فلما كان في صبيحتها وتنادى الناس بالزيادة، الزيادة الظاهرة، خلص أحدنا في ذلك الزحام على صعوبة ومعه من استصحب الدلو وأدلاه فوجد القياس على حاله لم ينقص ولم يزد، بل كان من العجب أن عاد للقياس ليلة السبت فألفاه قد نقص يسيرا لكثرة ما امتاح الناس منه ذلك اليوم. فلو امتيح من البحر لظهر النقص فيه، فسبحان من خص به من البركة ووضع فيه من المنفعة. وفي صبيحة يوم السبت الخامس عشر منه تتبعنا هذا القياس استبراء لصحة الحال فوجدناه على ما كان عليه، ولو أن لافظا يلفظ ذلك اليوم بأنه لم يزد لصب في البئر صبا أو لداسته الاقدام حتى تذيبه، نعوذ بالله من غلبات العوام واعتدائها وركوبها جوامح أهوائها. ليلة النصف من شعبان وهذه الليلة المباركة، أعني ليلة النصف من شعبان، عند أهل مكة معظمة للأثر الكريم الوارد فيها، فهم يبادرون فيها الى أعمال البر من العمرة والطواف والصلاة أفرادا وجماعة، فينقسمون في ذلك اقساما مباركة؛ فشاهدنا ليلة السبت، التي هي ليلة النصف حقيقة، احتفالا عظيما في الحرم المقدس اثر صلاة العتمة، جعل الناس يصلون فيها جماعات جماعات، تراويح يقرءون فيها بفاتحة الكتاب وبقل هو الله أحد، عشر مرات في كل ركعة الى أن يكملوا خمسين تسليمة بمائة ركعة، قد قدمت كل جماعة اماما، وبسطت الحصر وأوقدت الشمع واشعلت المشاعل وأسرجت المصابيح ومصباح السماء الأزهر الأقمر قد أفاض نوره على الأرض وبسط شعاعه. فتلاقت الأنوار في ذلك الحرم الشريف الذي هو نور بذاته، فيا لك مرأى لا يتخيله المتخيل ولا يتوهمه المتوهم! فأقام الناس تلك الليلة على أقسام: فطائفة التزمت تلك التراويح مع الجماعة وكانت سبع

جماعات أو ثمانيا؛ وطائفة التزمت الحجر المبارك للصلاة على انفراد؛ وطائفة خرجت للاعتمار؛ وطائفة آثرت الطواف على هذا كله، أغلبها المالكية، فكانت من الليالي الشهيرة المأمولة أن تكون من غرر القربات ومحاسنها، نفع الله بها ولا أخلى من بركتها وفضلها وأوصل الى هذه المثابة المقدسة كل شيق اليها بمنه. وفي تلك الليلة المباركة شاهد احمد بن حسان منا امرا عجيبا هو من غرائب الأحاديث المأثورات في رقة النفوس. وذلك أنه أصابه النوم عند الثلث الباقي من الليل، فأوى الى المصطبة التي تحف بها قبة زمزم مما يقابل الحجر الأسود وباب البيت فاستلقى فيها لينام فاذا بإنسان من العجم قد جلس على المصطبة بإزائه مما يلي رأسه. فجعل يقرأ بتشويق وترقيق، ويتبع ذلك بزفير وشهيق، أحسن قراءة واوقعها في النفوس وأشدها تحريكا للساكن، فامتنع المذكور من المنام استمتاعا بحسن ذلك المسموع وما فيه من التشويق والتخشيع، الى أن قطع القراءة وجعل يقول: ان كان سوء الفعال أبعدني، ... فحسن ظني اليك قرّبني ويردد ذلك بلحن يتصدع له الجماد وينشق عليه الفؤاد. ومضى في ترديد ذلك البيت ودموعه تكف وصوته ترق وتضعف الى أن وقع في نفس أحمد بن حسان المذكور أنه سيغشى عليه؛ فما كان بين اعتراض هذا الخاطر بنفسه وبين وقوع الرجل مغشيا عليه من المصطبة الى الارض الا كلا ولا، وبقي ملقى كأنه لقى لا حراك به. فقام ابن حسان مذعورا لهول ما عاينه مترددا في حياة الرجل أو موته لشدة تلك الوجبة، والموضع من الارض بائن الارتفاع، وقام أحد من كان بازائه نائما، وأقاما متحيرين ولم يقدما على تحريك الرجل ولا على الدنو منه الى أن اجازت امرأة أعجمية، وقالت: هكذا تتركون هذا الرجل على مثل هذا الحال؟ وبادرت الى شيء من ماء زمزم فنضحت به وجهه، ودنا المذكوران منه وأقاماه فعندما أبصرهما زوى وجهه للحين عنهما مخافة أن تثبت له صفة في اعينهما وقام من فوره آخذا الى جهة باب بني شيبة. وبقيا

رمضان المعظم

متعجبين مما شاهداه، وعض ابن حسان بنان الأسف على ما فاته من بركة دعائه اذ لم يمكنه الحال استدعاءه منه، وعلى انه لم تثبت له صورة في نفسه، فكان يتبرك به متى لقيه. ومقامات هؤلاء الأعاجم في رقة الأنفس وتأثرها وسرعة انفعالها وشدة مجاهداتها في العبادات وطول مثابراتها على أفعال البر وظهور بركاتها مقامات عجيبة شريفة، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. وفي سحر يوم الخميس الثالث عشر من الشهر المذكور كسف القمر وانتهى الكسوف منه الى مقدار ثلثيه، وغاب مكسوفا عند طلوع الشمس، والله يلهمنا الاعتبار بآياته. رمضان المعظم استهل هلاله ليلة الاثنين التاسع عشر لدجنبر، عرّفنا الله فضله وحقه ورزقنا القبول فيه. وكان صيام أهل مكة له يوم الأحد بدعوى في رؤية الهلال لم تصح، لكن أمضى الأمير ذلك ووقع الإيذان بالصوم بضرب دبادبه ليلة الأحد المذكور لموافقته مذهبه ومذهب شيعته العلويين ومن اليهم، لانهم يرون صيام يوم الشك فرضا، حسبما يذكر، والله أعلم بذلك. ووقع الاحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر المبارك، وحق ذلك من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعيل وغير ذلك من الآلات حتى تلألأ الحرم نورا وسطع ضياء، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقا؛ فالشافعية فوق كل فرقة منها قد نصبت إماما لها في ناحية من نواحي المسجد؛ والحنبلية كذلك؛ والحنفية كذلك، والزيدية؛ وأما المالكية فاجتمعت على ثلاثة قراء يتناوبون القراءة، وهي في هذا العالم أحفل جمعا وأكثر شمعا، لأن قوما من التجار المالكيين تنافسوا في ذلك فجلبوا لإمام الكعبة شمعا كثيرا من أكبره شمعتان نصبتا أمام المحراب

فيهما قنطار وقد حفت بهما شمع دونهما صغار وكبار. فجاءت جهة المالكية تروق حسنا وترتمي الأبصار نورا، وكاد لا يبقى في المسجد زاوية ولا ناحية الا وفيها قارىء يصلي بجماعة خلفه، فيرتج المسجد لأصوات القراءة من كل ناحية، فتعاين الأبصار، وتشاهد الأسماع من ذلك مرأى ومستمعا تنخلع له النفوس خشية ورقة. ومن الغرباء من اقتصر على الطواف والصلاة في الحجر ولم يحضر التراويح، ورأى أن ذلك افضل ما يغتنم، وأشرف عمل يلتزم، وما بكل مكان يوجد الركن الكريم والملتزم. والشافعي في التراويح أكثر الأئمة اجتهادا، وذلك أنه يكمل التراويح المعتادة التي هي عشر تسليمات ويدخل الطواف مع جماعة، فاذا فرغ من الأسبوع وركع عاد لإقامة تراويح أخر وضرب بالفرقعة الخطيبية المتقدمة الذكر ضربة يسمعها المسجد لعلو صوتها، كأنها ايذان بالعود الى الصلاة، فاذا فرغوا من تسليمتين، عادوا للطواف اسبوغ، فاذا اكملوه ضربت الفرقعة وعادوا الصلاة تسليمتين، ثم عادوا للطواف، هكذا الى أن يفرغوا من عشر تسليمات، فيكمل لهم عشرون ركعة، ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون. وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئا، والمتناوبون لهذه التراويح المقامية خمسة أئمة، أولهم إمام الفريضة، وأوسطم صاحبنا الفقيه الزاهد الورع أبو جعفر بن علي الفنكيّ القرطبيّ، وقراءته ترقّ الجمادات خشوعا. وهذه الفرقعة المذكورة تستعمل في هذا الشهر المبارك، وذلك أنه يضرب بها ثلاث ضربات عند الفراغ من أذان المغرب، ومثلها عند الفراغ من أذان العشاء الآخرة. وهي لا محالة من جميلة البدع المحدثة في هذا المسجد المعظم، قدسه الله. والمؤذن الزمزمي يتولى التسحير في الصومعة التي في الركن الشرقي من المسجد بسبب قربها من دار الأمير، فيقوم في وقت السحور فيها داعيا ومذكرا ومحرضا على السحور ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه، وقد نصبت في أعلى الصومعة خشبة طويلة في رأسها عود كالذراع وفي طرفيه بكرتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يقدان مدة التسحير. فإذا قرب

سيف الإسلام

تبيين خيطي الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة حط المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ بالأذان، وثوّب المؤذنون من كل ناحية بالأذان. وفي ديار مكة كلها سطوح مرتفعة، فمن لم يسمع نداء التسحير ممن يبعد مسكنه من المسجد يبصر القنديلين يقدان في أعلى الصومعة،، فإذا لم يبصرهما علم أن الوقت قد انقطع. سيف الإسلام وفي ليلة الثلاثاء الثاني من الشهر مع العشيّ طاف الأمير مكثر بالبيت مودعا وخرج للقاء الأمير سيف الاسلام طغتكين بن أيوب أخي صلاح الدين، وقد تقدم الخبر بوروده من مصر منذ مدة ثم تواتر إلى أن صحّ وصوله إلى الينبوع، وأنه عرج إلى المدينة لزيارة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وتقدمت أثقاله إلى الصفراء. والمتحدث به في وجهته قصد اليمن لاختلاف وقع فيها وفتنة حدثت من أمرائها، لكن وقع في نفوس المكيين منه إيجاس خيفة واستشعار خشية، فخرج هذا الأمير المذكور متلقيا ومسلما، وفي الحقيقة مستسلما، والله تعالى يعرّف المسلمين خيرا. وفي ضحوة يوم الأربعاء الثالث من الشهر المبارك المذكور كنا جلوسا بالحجر لمكرم فسمعنا دبادب الأمير مكثر وأصوات نساء مكة يولولن عليه. فبينا نحن كذلك دخل منصرفا من لقاء الأمير سيف الاسلام المذكور وطائفا بالبيت المكرم طواف التسليم، والناس قد أظهروا الاستبشار لقدومه، والسرور بسلامته، وقد شاع الخبر بنزول سيف الاسلام الزاهر، وضرب أبنيته فيه، ومقدمته من العسكر قد وصلت الى الحرم، وزاحمت الأمير مكثرا في الطواف. فبينا الناس ينظرون اليهم اذ سمعوا ضوضاء عظيمة وزعقات هائلة، فما راعهم الا الأمير سيف الاسلام داخلا من باب بني شيبة ولمعان السيوف أمامه يكاد يحول بين الأبصار وبينه، والقاضي عن يمينه وزعيم الشيبيين عن يساره، والمسجد قد ارتج وغصّ بالنظارة والوافدين، والأصوات بالدعاء له ولاخيه صلاح الدين قد علت من الناس حتى صكت الاسماع وأذهلت الاذهان؛

والزمزميّ المؤذن في مرقبته رافعا عقيرته بالدعاء له والثناء عليه؛ وأصوات الناس تعلو على صوته، والهول قد عظم مرأى ومستمعا. فلحين دنوّ الأمير من البيت المعظم أغمدت السيوف وتضاءلت النفوس وخلعت ملابس العزة وذلت الأعناق وخضعت الرقاب وطاشت الالباب مهابة وتعظيما لبيت ملك الملوك العزيز الجبار الواحد القهار، مؤتي الملك من يشاء، ونازع الملك ممن يشاء، سبحانه، جلت قدرته وعزّ سلطانه. ثم تهافتت هذه العصابة الغزية على بيت الله العتيق تهافت الفراش على لمصباح، وقد نكس أذقانهم الخضوع، وبلت سبالهم الدموع. وطاف القاضي او زعيم الشيبيين بسيف الاسلام، والأمير مكثر قد غمره ذلك الزحام، فأسرع في الفراغ من الطواف وبادر الى منزله. وعندما أكمل سيف الاسلام طوافه صلى خلف المقام ثم دخل قبة زمزم فشرب من مائها ثم خرج على باب الصفا الى السعي، فابتدأه ماشيا على قدميه تواضعا وتذللا لمن يجب التواضع له، والسيوف مسلوتة أمامه، وقد اصطف الناس من أول المسعى الى آخره سماطين مثل ما صنعوا أيضا في الطواف، فسعى على قدميه طريقين من الصفا الى المروة، ومنها الى الصفا، وهرول بين الميلين الاخضرين، ثم قيده الاعياء فركب وأكمل السعي راكبا، وقد حشر الناس ضحى. ثم عاد الامير الى المسجد الحرام على حالته من الارهاب والهيبة وهو يتهادى بين بروق خواطف السيوف المصلتة، وقد بادر الشيبيون الى باب البيت المكرم ليفتحوه، ولم يكن يوم فتحه، وضم الكرسي الذي يصعد عليه، فرقي الامير فيه، وتناول زعيم الشيبيين فتح الباب، فاذا المفتاح قد سقط من كمه في ذلك الزحام، فوقف وقفة دهش مذعور، ووقف الامير على الادراج، فيسر الله للحين في وجود المفتاح، ففتح الباب الكريم، ودخل الامير وحده مع الشيبي وأغلق الباب، وبقي وجوه الاغزاز وأعيانهم مزدحمين على ذلك الكرسي،

فبعد لأي ما فتح لامرائهم المقربين فدخلوا. وتمادى مقام سيف الاسلام في البيت الكريم مدة طويلة، ثم خرج، وانفتح الباب للكافة منهم. فيا له من ازدحام وتراكم وانتظام، حتى صاروا كالعقد المستطيل وقد اتصلوا وتسلسلوا. فكان يومهم أشبه شيء بأيام السرو في دخولهم البيت، حسبما تقدم وصفه. وركب الامير سيف الاسلام وخرج الى مضرب أبنيته بالموضع المذكور. وكان هذا اليوم بمكة من الايام الهائلة المنظر العجيبة المشهد الغريبة الشأن، فسبحان من لا ينقضي ملكه ولا يبيد سلطانه، لا اله سواه. وصحب هذا الامير جملة من حجاج مصر وسواها اغتناما لطريق البر والامن فوصلوا في عافية وسلامة، والحمد الله. وفي ضحوة يوم الخميس بعده كنا أيضا بالحجر المكرم، فاذا بأصوات طبول ودبادب وبوقات قد قرعت الآذان وارتجت لها نواحي الحرم الشريف. فبينا نحن نتطلع لاستعلام خبرها طلع علينا الامير مكثر وغاشيته الاقربون حوله وهو رافل في حلة ذهب كأنها الجمر المتقد يسحب أذيالها وعلى رأسه عمامة شرب رقيق سحابي اللون قد علا كورها على رأسه كأنها سحابة مركومة وهي مصفحة بالذهب، وتحت الحلة خلعتان من الدبيقي المرسوم البديع الصنعة، خلعها عليه الامير سيف الاسلام، فوصل بها فرحا جذلان، والطبول والدبادب تشيعه عن أمر سيف الاسلام اشادة بتكرمته واعلاما بمأثرة منزلته. فطاف بالبيت المكرم شكرا لله على ما وهبه من كرامة هذا الامير بعد أن كان أوجس في نفسه خيفة منه، والله يصلحه ويوفقه بمنه. وفي يوم الجمعة وصل الامير سيف الاسلام للصلاة أول الوقت وفتح البيت المكرم، فدخله مع الامير مكثر وأقاما به مدة طويلة ثم خرجا. وتزاحم الغز للدخول تزاحما أبهت الناظرين حتى أزيل الكرسيّ الذي يصعد عليه فلم يغن ذلك شيئا، وأقاموا على الازدحام في الصعود باشالة بعضهم على بعض، وداموا على هذه الحالة الى أن وصل الخطيب، فخرجوا لاستماع الخطبة، وأغلق الباب.

تراويح رمضان

وصلى الأمير سيف الاسلام مع الأمير مكثر في القبة العباسية. فلما انقضت الصلاة خرج على باب الصفا وركب الى مضرب أبنيته. وفي يوم الأربعاء العاشر منه خرج الأمير المذكور بجنوده الى اليمن، والله يعرّف اهلها من المسلمين في مقدمه خيرا بمنه. تراويح رمضان وهذا الشهر المبارك قد ذكرنا اجتهاد المجاورين للحرم الشريف في قيامه وصلاة تراويحه وكثرة الأئمة فيه، وكل وتر من الليالي العشر الاواخر يختم فيها القرآن. فأوّلها ليلة احدى وعشرين، ختم فيها احد أبناء أهل مكة، وحضر الختمة القاضي وجماعة من الأشياخ. فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيبا، ثم استدعاهم ابو الصبي المذكور الى منزله الى طعام وحلوى قد أعدّهما واحتفل فيهما. ثم بعد ذلك ليلة ثلاث وعشرين، وكان المختتم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار، غلاما لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة، فاحتفل أبوه لهذه الليلة احتفالا بديعا. وذلك أنه أعد له ثريا مصنوعة من الشمع مغصنة، قد انتظمت أنواع الفواكه الرطبة واليابسة، وأعدّ لها شمعا كثيرا، ووضع في وسط الحرم مما يلي باب بني شيبة شبيه المحراب المربع من أعواد مشرجبة، قد أقيم على قوائم اربع، وربطت في اعلاه عيدان نزلت منها قناديل وأسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل وسمر دائر المحراب كله بمسامير حديدة الأطراف غرز فيها الشمع، فاستدار بالمحراب كله. وأوقدت الثريا المغصنة ذات الفواكه، وأمعن الاحتفال في هذا كله. ووضع بمقربة من المحراب منبر مجلل بكسوة مجزعة مختلفة الألوان. وحضر الإمام الطفل فصلى التراويح وختم، وقد انحشد أهل المسجد الحرام اليه رجالا ونساء، وهو في محرابه لا يكاد يبصر من كثرة شعاع الشمع المحدق به. ثم برز من محرابه رافلا في أفخر ثيابه بهيبة امامية وسكينة غلامية، مكحل

العينين، مخضوب الكفين الى الزندين، فلم يستطع الخلوص الى منبره من كثرة الزحام، فأخذه أحد سدنة تلك الناحية في ذراعه حتى القاه على ذروة منبره، فاستوى مبتسما وأشار على الحاضرين مسلما. وقعد بين يديه قراء، فابتدروا القراءة على لسان واحد. فلما أكملوا عشرا من القرآن، قام الخطيب فصدع بخطبة تحرك لها اكثر النفوس من جهة الترجيع لا من جهة التذكير والتخشيع، وبين يديه في درجات المنبر نفر يمسكون أتوار الشمع في ايديهم ويرفعون أصواتهم بيا رب يا رب، عند كل فصل من فصول الخطبة يكررون ذلك، والقراء يبتدرون القراءة في اثناء ذلك، فيسكت الخطيب الى أن يفرغوا ثم يعود لخطبته. وتمادى فيها متصرفا في فنون من التذكير. وفي أثنائها اعترضه ذكر البيت العتيق، كرّمه الله، فحسر عن ذراعيه مشيرا اليه، وأردفه بذكر زمزم والمقام فأشار اليهما بكلتا اصبعيه ثم ختمها بتوديع الشهر المبارك وترديد السلام عليه، ثم دعا للخليفة ولكل من جرت العادة بالدعاء له من الأمراء، ثم نزل، وانفضّ ذلك الجمع العظيم، وقد استظرف ذلك الخطيب واستنبل وان لم تبلغ الموعظة من النفوس ما أمل، والتذكرة اذا خرجت من اللسان لم تتعد مسافة الآذان. ثم ذكر أن المعينين من ذلك الجمع، كالقاضي وسواه، خصوا بطعام حفيل وحلوى على عادتهم في مثل هذا المجتمع. وكانت لأبي الخطيب في تلك الليلة نفقة واسعة في جميع ما ذكر. ثم كانت ليلة خمس وعشرين، فكان المختتم فيها الإمام الحنفي، وقد أعد ابنا لذلك سنه نحو من سن الخطيب الأول المذكور. فكان احتفال الإمام الحنفي لابنه في هذه الليلة عظيما، أحضر فيها من ثريات الشمع اربعا مختلفات الصنعة: منها مشجرة مغصنة مثمرة بأنواع الفواكه الرطبة واليابسة، ومنها غير مغصنة. فصففت أمام حطيمه وتوّج الحطيم بخشب وألواح وضعت أعلاه وجلل ذلك كله سرجا ومشاعيل وشمعا، فاستنار الحطيم كله حتى لاح في الهواء كالتاج العظيم من النور. وأحضر الشمع في أتوار الصفر، ووضع المحراب العودي المشرجب،

فجلل دائره الاعلى كله شمعا، وأحدق الشمع في الأتوار به، فاكتنفته هالات من نور، ونصب المنبر قبالته مجللا أيضا بالكسوة الملونة. واحتفل الناس لمشاهدة هذا المنظر النير أعظم من الاحتفال الاول. فختم الصبيّ المذكور ثم برز من محرابه الى منبره يسحب أذيال الحفر في أثواب رائقة المنظر، فتسور منبره وأشار بالسلام على الحاضرين وأبتدأ خطبته بسكينة ولين ولسان على حالة الحياء مبين. فكأن الحال على طفولتها كانت أوقر من الاولى وأخشع، والموعظة أبلغ، والتذكرة أنفع. وحضر القرّاء بين يديه على الرسم الاول. وفي أثناء فصول الخطبة يبتدرون القراءة فيسكت خلال اكمالهم الآية التي انتزعوها من القرآن ثم يعود الى خطبته وبين يديه في درجات المنبر طائفة من الخدمة يمسكون اتوار الشمع بأيديهم ومنهم من يمسك المجمرة تسطع بعرف العود الرطب الموضوع فيها مرة بعد أخرى. فعند ما يصل الى فصل من تذكير أو تخشيع يرفعون أصواتهم بيا رب يا رب يكرّرونها ثلاثا أو أربعا، وربما جاراهم في النطق بعض الحاضرين، الى أن فرغ من خطبته ونزل. وجرى الامام اثره على الرسم من الاطعام لمن حضر من أعيان المكان اما باستدعائهم الى منزله تلك الليلة أو بتوجيه ذلك الى منازلهم. ثم كانت ليلة سبع وعشرين، وهي ليلة الجمعة بحساب يوم الاحد، فكانت الليلة الغراء، والختمة الزهراء، والهيبة الموفورة الكهلاء، والحالة التي تمكن عند الله تعالى في القبول والرجاء. وأي حالة توازي شهود ختم القرآن ليلة سبع وعشرين من رمضان خلف المقام الكريم وتجاه البيت العظيم؟ وانها لنعمة تتضاءل لها النعم تضاؤل سائر البقاع للحرم. ووقع النظر والاحتفال لهذه الليلة المباركة قبل ذلك بيومين أو ثلاثة، وأقيمت ازاء حطيم إمام الشافعية خشب عظام بائنة الارتفاع موصول بين كل ثلاث منها بأذرع من الاعواد الوثيقة، فاتصل منها صف كاد يمسك نصف الحرم

عرضا ووصلت بالحطيم المذكور، ثم عرضت بينها ألواح طوال مدت على الأذرع المذكورة، وعلت طبقة منها طبقة أخرى حتى استكملت ثلاث طبقات، فكانت الطبقة العليا منها خشبا مستطيلة مغروزة كلها مسامير محددة الأطراف لاصقا بعضها ببعض كظهر الشيهم نصب عليها الشمع، والطبقتان تحتها الواح مثقوبة ثقبا متصلا وضعت فيها زجاجات المصابيح ذوات الأنابيب المنبعثة من أسافلها. وتدلت من جوانب هذه الألواح والخشب ومن جميع الأذرع المذكورة قناديل كبار وصغار وتخللها أشباه الاطباق المبسوطة من الصفر قد انتظم كل طبق منها ثلاث سلاسل تقلها في الهواء وخرقت كلها ثقبا ووضعت فيها الزجاجات ذوات الأنابيب من أسفل تلك الأطباق الصفرية لا يزيد منها أنبوب على أنبوب في القد. وأوقدت فيها المصابيح، فجاءت كأنها موائد ذوات أرجل كثيرة تشتعل نورا، ووصلت بالحطيم الثاني الذي يقابل الركن الجنوبي من قبة زمزم خشب على الصفة المذكورة اتصلت الى الركن المذكور، وأوقد المشعل الذي في رأس فحل القبة المذكورة، وصففت طرة شباكها شمعا مما يقابل البيت المكرم. وحف المقام الكريم بمحراب من الأعواد المشرجبة المخرمة محفوفة الأعلى بمسامير حديدة الأطراف، على الصفة المذكورة، جللت كلها شمعا. ونصب عن يمين المقام ويساره شمع كبير الجرم، في أتوار تناسبها كبرا، وصفت تلك الأتوار على الكراسي التي يصرفها السدنة مطالع عند الإيقاد، وجلل جدار الحجر المكرم كله شمعا في اتوار من الصفر فجاءت كأنها دائرة نور ساطع، واحدقت بالحرم المشاعيل. وأوقد جميع ما ذكر. وأحدق بشرفات الحرم كلها صبيان مكة، وقد وضعت بيد كل منهم كرة من الخرق المشبعة سليطا، فوضعوها متقدة في رؤوس الشرفات. وأخذت كل طائفة منهم ناحية من نواحيها الاربعة فجعلت كل طائفة تباري صاحبتها في سرعة ايقادها. فيخيل للناظر أن النار تشب من شرفة الى شرفة لخفاء أشخاصهم وراء الضوء المرتمي الأبصار. وفي اثناء محاولتهم لذلك يرفعون أصواتهم بيا رب يا رب على لسان واحد، فيرتج الحرم لأصواتهم.

فلما كمل ايقاد الجميع بما ذكر كاد يعشي الأبصار شعاع تلك الانوار، فلا تقع لمحة طرف الا على نور يشغل حاسة البصر عن استمالة النظر. فيتوهم المتوهم، لهول ما يعاينه من ذلك، أن تلك الليلة المباركة نزهت لشرفها عن لباس الظلماء فزينت بمصابيح السماء. وتقدّم القاضي فصلى فريضة العشاء الآخرة ثم قام وابتدأ بسورة القدر. وكان أئمة الحرم في الليلة قبلها قد انتهوا في القراءة اليها. وتعطل في تلك الساعة سائر الأئمة من قراءة التراويح، تعظيما لختمة المقام، وحضروا متبركين بمشاهدتها. وقد كان المقام المطهر أخرج من موضعه المستحدث في البيت العتيق، حسبما تقدم الذكر أولا له، فيما سلف من هذا التقييد، ووضع في محله الكريم المتخذ مصلى مستورا بقبته التي يصلي الناس خلفها. فختم القاضي بتسليمتين وقام خطيبا مستقبل المقام والبيت العتيق. فلم يتمكن من سماع الخطبة للازدحام وضوضاء العوام. فلما فرغ من خطبته عاد الأئمة لإقامة تراويحهم، وانفض الجمع ونفوسهم قد استطارت خشوعا، وأعينهم قد سالت دموعا، والأنفس قد أشعرت من فضل تلك الليلة المباركة رجاء مبشرا بمن الله تعالى بالقبول، ومشعرا أنها ولعلها ليلة القدر المشرف ذكرها في التنزيل، والله، عزّ وجلّ، لا يخلي الجميع من بركة مشاهدتها وفضل معاينتها، انه كريم منان، لا اله سواه. ثم ترتبت قراءة أئمة المقام الخمسة المذكورين أولا، بعد هذه الليلة المذكورة، بآيات ينتزعونها من القرآن على اختلاف السور، تتضمن التذكير والتحذير والتبشير، بحسب اختيار كل واحد منهم. ورسم طوافهم اثر كل تسليمتين باق على حاله، والله ولي القبول من الجميع. ثم كانت ليلة تسع وعشرين منه، فكان المختتم فيها سائر أئمة التراويح ملتزمين رسم الخطبة اثر الختمة، والمشار اليه منهم المالكي، فتقدم باعداد اعواد بإزاء محرابه نصبها ستة على هيئة دائرة محراب مرتفعة عن الأرض بدون

القامة يعترض على كل اثنين منها عود مبسوط، فأدير بالشمع أعلاها وأحدق اسفلها ببقايا شمع كثير قد تقدم ذكره عند اول الشهر المبارك واحدق أيضا داخل تلك الدائرة شمع آخر متوسط، فكان منظرا مختصرا ومشهدا عن احتفال المباهاة منزها موقرا، رغبة في احتفال الأجر والثواب ومناسبة لموضع هيئة المحراب؛ نصبت للشمع فيه عوضا من الأتوار أثافي من الأحجار. فجاءت الحال غريبة في الاختصار، خارجة عن محفل التعاظم والاستكبار، داخلة مدخل التواضع والاستصغار. واحتفل جميع المالكية للختمة، فتناوبها أئمة التراويح، فقضوا صلاتهم سراعا عجالا، كاد يلتقي طرفاها خفوقا واستعجالا. ثم تقدم احدهم فعقد حبوته بين تلك الاثافيّ وصدع بخطبة منتزعة من خطبة الصبي ابن الإمام الحنفي فأرسلها معادة الى الاسماع ثقيلا لحنها على الطباع، ثم انفض الجمع، وقد جمد في شؤونه الدمع، واختطف للحين من أثافيه ذلك الشمع، أطلقت عليه أيدي الانتهاب، ولم يكن في الجماعة من يستحى منه أو يهاب. وعند الله تعالى في ذلك الجزاء والثواب، انه سبحانه الكريم الوهاب. وانتهت ليالي الشهر ذاهبة عنا بسلام، جعلنا الله ممن طهر فيها من الآثام، ولا أخلانا من فضل القبول ببركة صومه في جوار الكعبة البيت الحرام، وختم الله لنا ولجميع أهل الملة الحنفية بالوفاة على الإسلام، وأوزعنا حمدا يحق هذه النعمة وشكرا، وجعلها للمعاد لنا ذخرا، ووفانا عليها ثوابا من لديه وأجرا يرجى بفضله وكرمه، انه لا يضيع لديه ايام اتخذ لصيامها ماء زمزم فطرا، انه الحنان المنان، لا رب سواه. شهر شوال استهل هلاله ليلة الثلاثاء السادس عشر من ينير، يمن الله مطلعه، ورزقنا بركته، وهذا الشهر المبارك هو فاتحة أشهر الحج المعلومات، وبعده تتصل

شهر شوال

ثلاثة الأشبر الحرم المباركات. وكانت ليلة استهلال هلاله من الليالي الحفيلة في المسجد الحرام، زاده الله تكريما؛ جرى الرسم في ايقاد مشاعله وثرياته وشمعه على الرسم المذكور ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم، وأوقدت الصوامع من الأربع جهات من الحرم، وأوقد سطح المسجد الذي في أعلى جبل أبي قبيس. وأقام المؤذن ليلته تلك في أعلى سطح قبة زمزم مهللا ومكبرا ومسبحا وحامدا. وأكثر الأئمة تلك الليلة أحيا، وأكثر الناس على مثل تلك الحال بين طواف وصلاة وتهليل وتكبير، يقبل الله من جميعهم، انه سميع الدعاء كفيل بالرجاء، سبحانه لا اله سواه. عيد رمضان فلما كان صبيحتها وقضى الناس صلاة الفجر، لبس الناس أثواب عيدهم وبادروا لأخذ مصافهم لصلاة العيد بالمسجد الحرام، لأن السنة جرت بالصلاة فيه دون مصلى يخرج الناس اليه، رغبة في شرف البقعة وفضل بركتها وفضل صلاة الامام خلف المقام ومن يأتم به. فأول من بكر الشيبيون، وفتحوا باب الكعبة المقدسة، وأقام زعيمهم جالسا في العتبة المقدسة، وسائر الشيبيين داخل الكعبة الى ان أحسوا بوصول الأمير مكثر فنزلوا اليه، وتلقوه بمقربة من باب النبي، صلى الله عليه وسلم، فانتهى الى البيت المكرم، وطاف حوله أسبوعا، والناس قد احتفلوا لعيدهم، والحرم قد غص بهم، والمؤذن الزمزمي فوق سطح القبة على العادة رافعا صوته بالثناء عليه والدعاء له متناوبا في ذلك مع اخيه. فلما اكمل الامير الاسبوع عمد الى مصطبة قبة زمزم، مما يقابل الركن الأسود، فقعد بها، وبنوه عن يمينه ويساره، ووزيره وحاشيته وقوف على رأسه وعاد الشيبيون لمكانهم من البيت المكرم يلحظهم الناس بأبصار خاشعة للبيت غابطة لمحلهم منه ومكانهم من حجابته وسدانته، فسبحان من خصهم بالشرف في

مناسك الحج

خدمته. وحضر الأمير من خاصته شعراء أربعة، فأنشدوه واحدا اثر واحد الى أن فرغوا من انشادهم. وفي اثناء ذلك تمكن وقت الصلاة، وكان ضحى من النهار، فأقبل القاضي الخطيب يتهادى بين رايتيه السوداوين، والفرقعة المتقدمة ذكرها أمامه، وقد صك الحرم صوتها، وهو لابس ثياب سواده، فجاء الى المقام الكريم، وقام الناس للصلاة، فلما قضوها رقي المنبر، وقد ألصق الى موضعه المعين له كل جمعة، من جدار الكعبة المكرمة، حيث الباب الكريم شارعا، فخطب خطبة بليغة، والمؤذنون قعود دونه في أدراج المنبر، فعند افتتاحه فصول الخطبة بالتكبير يكبرون بتكبيره، الى أن فرغ من خطبته. وأقبل الناس بعضهم على بعض بالمصافحة والتسليم والتغافر والدعاء مسرورين جذلين فرحين بما آتاهم الله من فضله، وبادروا الى البيت الكريم فدخلوا بسلام آمنين مزدحمين عليه فوجا فوجا. فكان مشهدا عظيما وجمعا بفضل الله تعالى مرحوما، جعله الله ذخيرة للمعاد، كما جعل ذلك العيد الشريف في العمر أفضل الاعياد، بمنه وكرمه، انه وليّ ذلك والقادر عليه. واخذ الناس عند انتشارهم من مصلاهم وقضاء سنة السلام بعضهم على بعض في زيارة الجبانة بالمعلى تبركا باحتساب الخطا اليها، والدعاء بالرحمة لمن فيها من عباد الله الصالحين من الصدر الأول وسواه، رضي الله عن جميعهم، وحشرنا في زمرتهم، ونفعنا بمحبتهم. فالمرء، كما قال، صلى الله عليه وسلم، مع من أحب. مناسك الحج وفي يوم السبت التاسع عشر منه، والثالث لفبرير، صعدنا الى منى لمشاهدة المناسك المعظمة بها ولمعاينة منزل اكتري لنا فيها اعدادا لمقام بها أيام التشريق، ان شاء الله، فألفيناها تملأ النفوس بهجة وانشراحا، مدينة عظيمة الآثار،

واسعة الاختطاط، عتيقة الوضع، قد درست الى منازل يسيرة متخذة للنزول تحف بجانبي طريق كأنه ميدان انبساطا وانفساحا، ممتد الطول. فأول ما يلقى المتوجه اليها عن يساره، وبمقربة منها، مسجد البيعة المباركة، التي كانت أول بيعة في الاسلام، عقدها العباس، رضي الله عنه، للنبي، صلى الله عليه وسلم، على الانصار، حسب المشهور من ذلك. ثم يفضى منه الى جمرة العقبة، وهي اول منى للمتوجه من مكة وعن يسار المار اليها، وهي على قارعة الطريق مرتفعة للمتراكم فيها من حصى الجمرات. ولولا آيات الله البينات فيها لكانت كالجبال الرواسي لما يجتمع فيها على تعاقب الدهور وتوالي الازمنة، لكن الله، عز وجل، فيها سر كريم من اسراره الخفيات، لا اله سواه. وعليها مسجد مبارك، وبها علم منصوب شبه أعلام الحرم التي ذكرناها، فيجعلها الرامي عن يمينه مستقبلا مكة، شرّفها الله، ويرمي بها سبع حصيات، وذلك يوم النحر اثر طلوع الشمس، ثم ينحر أو يذبح ويحلق، والمحلق حولها، والمنحر في كل موضع من منى، لان منى كلها منحر، كما قال، صلى الله عليه وسلم. وقد حل له كل شيء الا النساء والطيب حتى يطوف طواف الافاضة. وبعد هذه الجمرة العقبية موضع الجمرة الوسطى، ولها أيضا علم منصوب، وبينهما قدر الغلوة، ثم بعدها يلقى الجمرة الأولى ومسافتها منها كمسافة الأخرى. وفي وقت الزوال من ثاني يوم النحر ترمى في الأولى سبع حصيات، وفي الوسطى كذلك، وفي العقبة كذلك، فتلك احدى وعشرون حصاة. وفي اليوم الثالث من يوم النحر، في الوقت بعينه، كذلك على الترتيب المذكور، فتلك اثنتان واربعون حصاة في اليومين وسبع رميت في العقبة يوم النحر وقت طلوع الشمس، كما ذكرناه، وهي المحللات للحاج ما حرم عليه سوى النساء والطيب، فتلك تكملة تسع وأربعين جمرة. وفي إثر ذلك ينفصل الحاج إلى مكة من ذلك اليوم. واختصر في هذا الزمان

إحدى وعشرون كانت ترمى في اليوم الرابع على الترتيب المذكور، وذلك لاستعجال الحاج خوفا من العرب الشعبيين إلى غير ذلك من محذورات الفتن المغيرات لآثار السنن، فمضى العمل اليوم على تسع وأربعين حصاة، وكانت في القديم سبعين، والله يهب القبول لعباده. والصادر من عرفات إلى منى أول ما يلقى الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة. وفي يوم النحر تكون جمرة العقبة اولى منفردة بسبع حصيات، حسبما تقدم ذكره، ولا يشترك معها سواها في ذلك اليوم، ثم في اليومين بعده ترجع الآخرة على الترتيب حسبما وصفناه، بحول الله عزّ وجل. وبعد الجمرة الأولى يعرج عن الطريق يسيرا ويلقى منحر الذبيح، صلى الله عليه وسلم، حيث فدي بالذبح العظيم. وعلى الموضع المبارك مسجد مبني، وهو بمقربة من سفح ثبير. وفي موضع المنحر المذكور حجر قد الصق بالجدار المبني فيه أثر قدم صغيرة، يقال: إنه أثر قدم الذبيح، صلى الله عليه وسلم، عند تحركه، فلان الحجر له بقدرة الله، عز وجل، إشفاقا وحنانا. فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله. ويفضى من ذلك إلى مسجد الخيف المبارك، وهو آخر منى في توجهك، أعني من المعمورة منها بالبنيان. وأما الآثار القديمة فآخذة إلى أبعد غاية أمام المسجد. وهذا المسجد المبارك متسع الساحة كأكبر ما يكون من الجوامع. والصومعة وسط رحبة المسجد. وله في القبلة أربعة بلاطات يشملها سقف واحد. وهو من المساجد الشهيرة بركة وشرف بقعة. وكفى بما ورد في الأثر الكريم من أن بقعته الطاهرة مدفن كثير من الأنبياء، صلوات الله عليهم. وبمقربة منه عن يمين المار في الطريق، حجر كبير مسند إلى صفح الجبل مرتفع عن الأرض يظل ما تحته، ذكر أن النبيّ، صل الله عليه وسلم، قعد تحته مستظلا ومسّ رأسه المكرم فيه فلان له حتى أثر فيه تأثيرا بقدر دور الرأس. فيبادر الناس لوضع رؤوسهم في ذلك الموضع تبركا واستجارة لها بموضع مسه

الرأس المكرّم أن لا تمسها النار بقدرة الله، عزّ وجلّ. فلما قضينا معاينة هذه المشاهد الكريمة أخذنا في الانصراف مستبشرين بما وهبنا الله من فضله في مباشرتها. ووصلنا إلى مكة قريب الظهر، والحمد لله على ما منّ به. وفي يوم الأحد بعده، وهو الموفي عشرين لشوال، صعدنا إلى الجبل المقدس حراء وتبركنا بمشاهدة الغار في أعلاه الذي كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يتعبد فيه، وهو أول موضع نزل فيه الوحي عليه، صلى الله عليه وسلم، ورزقنا شفاعته، وحشرنا في زمرته، وأماتنا على سنته ومحبته، بمنه وكرمه، لا رب سواه. وفي ضحوة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين منه، وهو السادس من فبرير، اجتمع الناس كافة للاستسقاء تجاه الكعبة المعظمة بعد أن ندبهم القاضي إلى ذلك وحرضهم على صيام ثلاثة أيام قبله. فاجتمعوا في هذا اليوم الرابع المذكور وقد أخلصوا النيات لله عزّ وجل، وبكر الشيبيون ففتحوا الباب المكرم من البيت العتيق، ثم أقبل القاضي بين رايتيه السوداوين لابسا ثياب البياض، واخرج مقام الخليل ابراهيم، صلى الله عليه وسلم، وعلى نبينا، ووضع على عتبة باب البيت المكرم، واخرج مصحف عثمان، رضي الله عنه، من خزانته، ونشر بازاء المقام المطهر، فكانت دفته الواحدة عليه والثانية على الباب الكريم. ثم نودي في الناس بالصلاة جامعة، فصلى القاضي بهم خلف موضع المقام المتخذ مصلى ركعتين، قرأ في إحداهما ب «سبح اسم ربك الاعلى» ، وفي الثانية بالغاشية، ثم صعد المنبر، وقد الصق الى موضعه المعهود من جدار الكعبة المقدسة، فخطب خطبة بليغة والى فيها الاستغفار ووعظ الناس وذكرهم وخشعهم وحضهم على التوبة والإنابة لله عزّ وجل، حتى نزفت دمعها العيون واستنفدت ماءها الشؤون وعلا الضجيج وارتفع الشهيق والنشيج، وحول رداءه، وحول الناس أرديتهم اتباعا للسنة. ثم انفض الجميع راجين رحمة الله عز وجل غير قانطين منها، والله يتلافى

عباده بلطفه وكرمه. وتمادى استسقاؤه بالناس ثلاثة أيام متوالية، على الصفة المذكورة، وقد نال الجهد من أهل الحجاز وأضرّ بهم القحط وأهلك مواشيهم الجدب، لم يمطروا في الربيع ولا الخريف ولا الشتاء إلا مطرا طلا غير كاف ولا شاف، والله عز وجل لطيف بعباده، غير مؤاخذهم بجرائمهم، إنه الحنان المنان، لا رب سواه. وفي يوم الخميس الرابع والعشرين من شوال صعدنا إلى جبل ثور لمعاينة الغار المبارك الذي أوى إليه النبي، صلى الله عليه وسلم، مع صاحبه الصديق، رضي الله عنه، حسبما جاء في محكم التنزيل العزيز، وقد تقدم ذكر هذا الغار وصفته أولا في هذا التقييد. وولجناه من الموضع الذي يعسر الولوج منه على البعض من الناس تبركا بمس بشرة البدن بموضع مسه الجسم المبارك، قدسه الله؛ لأن مدخل النبي، صلى الله عليه وسلم، كان منه. وكان لأحد الصاعدين إليه ذلك اليوم من المصريين موقف خجلة وفضيحة، وذلك أنه رام الولوج فيه على ذلك الموضع الضيق فلم يقدر بحيلة وعاود ذلك مرارا فلم يستطع حتى استوقف الناس ما عاينوه من ذلك وبكوا له إشفاقا ولجأوا إلى الله عز وجل في الدعاء، فلم يغن ذلك شيئا، وكان فيهم من هو اضخم منه فيسر الله عليه. وطال تعجب الناس منه واعتبارهم. وأعلمنا بعد انفصالنا في ذلك اليوم بأن هذا الموقف المخجل وقع لثلاثة أناس في ذلك اليوم بعينه، عصمنا الله من مواقف الفضيحة في الدنيا والآخرة. وهذا الجبل صعب المرتقى جدا، يقطع الأنفاس تقطيعا، لا يكاد يبلغ منتهاه إلا وقد ألقى بالأيدي إعياء وكلالا. وهو من مكة على مقدار ثلاثة أميال، وعلى ذلك القدر هو جبل حراء منها، والله تعالى لا يخلينا من بركة هذه المشاهد بمنه وكرمه. وطول الغار ثمانية عشر شبرا، وسعته أحد عشر شبرا في الوسط منه، وفي حافتيه ثلثا شبر، وعلى الوسط منه يكون الدخول، وسعة الباب الثاني المتسع

شهر ذي القعدة

مدخله خمسة أشبار أيضا، لأن له بابين، حسبما ذكرناه أولا. وفي يوم الجمعة بعده وصل السرو اليمنيون في عدد كثير مؤملين زيارة قبر الرسول، صلى الله عليه وسلم، وجلبوا ميرة إلى مكة على عادتهم، فاستبشر الناس بقدومهم استبشارا كثيرا، حتى إنهم أقاموه عوض نزول المطر، ولطائف الله لسكان حرمه الشريف واسعة، إنه سبحانه لطيف بعباده لا إله سواه. شهر ذي القعدة استهل هلاله لية الأربعاء، بموافقة الرابع عشر من شهر فبرير، بشهادة ثبتت عند القاضي في رؤيته. وأما الاكثر الاغلب من أهل المسجد الحرام فلم يبصروا شيئا، وطال ارتفاعهم إلى إثر صلاة المغرب، وكان منهم من يتخيله فيشير إليه فإذا حققه تلاشى عنده نظره وكذب خبره، والله أعلم بصحة ذلك. وهذا الشهر المبارك ثاني الاشهر الحرم وثاني اشهر الحج، أطلع الله هلاله على المسلمين بالامن والايمان والمغفرة والرضوان، بعزته ورحمته. مسجد مولد النبي وفي يوم الاثنين الثالث عشر منه دخلنا مولد النبي، صلى الله عليه وسلم. وهو مسجد حفيل البنيان، وكان دارا لعبد الله بن عبد المطلب، أبي النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكره. ومولده، صلى الله عليه وسلم، صفة صهريج صغير سعته ثلاثة أشبار وفي وسطه رخامة خضراء سعتها ثلثا شبر مطوقة بالفضة فتكون سعتها مع الفضة المتصلة بها شبرا. ومسحنا الخدود في ذلك الموضع المقدس الذي هو مسقط لأكرم مولود على الأرض وممس

دار خديجة، رضوان الله عليها

لأطهر سلالة وأشرفها، صلى الله عليه وسلم، ونفعنا ببركة مشاهدة مولده الكريم. وبازائه محراب حفيل القرنصة، مرسومة طرته بالذهب. وقد تقدم الوصف لهذا كله. وهذا الموضع المبارك هو شرقي الكعبة متصل بصفح الجبل. ويشرف عليه بمقربة منه جبل أبي قبيس، وعلى مقربة منه أيضا مسجد، عليه مكتوب: «هذا المسجد هو مولد علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه؛ وفيه تربى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان دارا لأبي طالب عمّ النبي، صلى الله عليه وسلم، وكافله» . دار خديجة، رضوان الله عليها ودخلت أيضا في اليوم المذكور دار خديجة الكبرى، رضوان الله عليها، وفيها قبة الوحي، وفيها أيضا مولد فاطمة، رضي الله عنها. وهو بيت صغير مائل للطول. والمولد شبه صهريج صغير وفي وسطه حجر أسود. وفي البيت المذكور مولد الحسن والحسين ابنيها، رضي الله عنهما، ومسقط شلو الحسن ولاصق بمسقط شلو الحسين وعليهما حجران مائلان الى السواد كأنهما علامتان للمولدين المباركين الكريمين. ومسحنا الخدود في هذه المساقط المكرمة المخصوصة بمس بشرات المواليد الكرام، رضوان الله عليهم. وفي الدار المكرمة أيضا مختبأ النبي، صلى الله عليه وسلم، شبيه القبة، وفيه مقعد في الأرض عميق شبيه الحفرة داخل في الجدار قليلا وقد خرج عليه من الجدار حجر مبسوط كأنه يظل المقعد المذكور، قيل: إنه كان الحجر الذي كان غطّى النبي، صلى الله عليه وسلم، عند اختبائه في الموضع المذكور، صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين. وعلى كل واحد من هذه الموالد المذكورة قبة

خشب صغيرة تصون الموضع غير ثابتة فيه. فاذا جاء المبصر لها نحاها ولمس الموضع الكريم وتبرك به ثم أعادها عليه. وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين من الشهر المذكور نفذ أمر الأمير مكثر بالقبض على زعيم الشيبيين محمد بن اسماعيل وانتهاب منزله وصرفه عن حجابة البيت الحرام، طهره الله، وذلك لهنات نسبت اليه لا تليق بمن نيطت به سدانة البيت العتيق: «ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم» ، أعاذنا الله من سوء القضاء، ونفوذ سهام الدعاء، بمنه. وفي هذه الأيام السالفة من الشهر المذكور توالى مجيء السرويين اليمنيين في رفاق كثيرة بالميرة من الطعام وسواه وضروب الإدام والفواكه اليابسة فأرغدوا البلد؛ ولولاهم لكان من اتصال الجدب وغلاء السعر في جهد ومشقة، فهم رحمة لهذا البلد الامين. ثم توجهوا الى الزيارة المباركة، الى التربة المباركة، طيبة مدفن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووصلوا في أسرع مدة، قطعوا الطريق من مكة الى المدينة في يسير أيام، ومن صحبهم من الحاج حمد صحبتهم. وفي أثناء مغيبهم وصلت طوائف أخر منهم للحج خاصة لضيق الوقت عن الزيارة فأقاموا بمكة، ووصل الزوار منهم فضاق بهم المتسع. فلما كان يوم الاثنين السابع والعشرين من الشهر المذكور فتح البيت العتيق، وتولى فتحه من الشيبيين ابن عم الشيبي المعزول، وهو أمثل طريقة منه على ما يذكر. فازدحم السرو للدخول على العادة، فجاءوا بأمر لم يعهد فيما سلف، يصعدون أفواجا حتى يغص الباب الكريم بهم فلا يستطيعون تقدما ولا تأخرا الى ان يلجوا على أعظم مشقة ثم يسرعون الخروج، فيضيق الباب الكريم بهم، فتتحدر الفوج منهم على المصعد وفوج أخرى صاعدة فيلتقيان وقد ارتبط بعضهم الى بعض، فربما حمل المنحدرون في صدور الصاعدين، وربما وقف الصاعدون للمنحدرين وتضاغطوا الى ان يميلوا فيقع البعض على البعض. فيعاين النظارة منهم مرأى هائلا: فمنهم سليم، وغير سليم، وأكثرهم انما ينحدرون وثبا على

الرءوس والأعناق. ومن أعجب ما شاهدناه في يوم الاثنين المذكور أن صعد بعض من الشيبيين أثناء ذلك الزحام يرومون الدخول الى البيت الكريم فلم يقدروا على التخلص فتعلقوا بأستار حافتي عضادتي الباب ثم ان احدهم تمسك بإحدى الشرائط القنبية الممسكة للأستار الى أن علا الرءوس والأعناق فوطئها ودخل البيت، فلم يجد موطئا لقدمه سواها لشدة تراصهم وتراكمهم وانضمام بعضهم الى بعض. وهذا الجمع الذي وصل منهم في هذا العام لم يعهد قط مثله فيما سلف من الأعوام، ولله القدرة المعجزة، لا اله سواه. وفي هذا اليوم المذكور الذي هو السابع والعشرون من ذي القعدة شمرت أستار الكعبة المقدسة الى نحو قامة ونصف من الجدر من الجوانب الأربعة، ويسمون ذلك احراما لها، فيقولون: أحرمت الكعبة. وبهذا جرت العادة دائما في الوقت المذكور من الشهر. ولا تفتح من حين احرامها الا بعد الوقفة. فكأن ذلك التشمير ايذان بالتشمير للسفر وايذان بقرب وقت وداعها المنتظر، لا جعله الله آخر وداع، وقضى لنا اليها بالعودة وتيسير سبيل الاستطاعة بعزته وقدرته. وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين قبل هذا اليوم المذكور كان دخولنا الى البيت الكريم على حال اختلاس وانتهاز فرصة أوجدت بعض فرجة من الزحام، فدخلناه دخول وداع اذ لا يتمكن دخوله بعد ذلك لترادف الناس عليه ولا سيما الاعاجم الواصلون مع الأمير العراقي، فانهم يظهرون من التهافت عليه والبدار اليه والازدحام فيه ما ينسي أحوال السرو اليمنيين لفظاظتهم وغلظتهم، فلا يتمكن لاحد منهم النظر فضلا عن غير ذلك، والله عز وجل لا يجعله آخر العهد ببيته الكريم ويرزقنا العود اليه على خير وعافية بمنه ولطيف صنعه. وفي يوم احرام الكعبة المذكور اقلعت من موضع المقام المقدس القبة الخشبيه التي كانت عليه ووضعت عوضها قبة الحديد اعدادا للاعاجم المذكورين، لانها

منشأ الإسلام

لو لم تكن حديدا لاكلوها اكلا فضلا عن غير ذلك، لما هم عليه من صحة النفوس شوقا الى هذه المشاهد المقدسة وتطارحهم بأجرامهم عليها، والله ينفعهم بنياتهم، بمنه وكرمه. وفي يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من الشهر المذكور جاء زعيم الشيبيين المعزول يتهادى بين بنيه زهوا واعجابا ومفتاح الكعبة المقدسة بيده قد أعيد اليه، ففتح الباب الكريم وصعد مع بنيه السطح المبارك الأعلى بأمراس من القنب غليظة يوثقونها في أوتاد الحديد المضروبة في السطح ويرسلونها الى الأرض فيربط فيها شبيه محمل من العود ويجلس فيه أحد سدنة البيت من الشيبيين، فيصعد به على بكرة معدة لذلك في أعلى السطح المذكور، فيتولى خياطة ما مزقته الريح من الأستار، فسألنا عن كيفية صرف هذا الشيبي المعزول الى خطته على صحة الهنات المنسوبة اليه، فأعلمنا أنه صودر عليها بخمس مئة دينار مكية استقرضها ودفعها. فطال التعجب من ذلك والاعتبار، وتحققنا أن إظهار القبض عليه لم يكن غيرة ولا أنفة على حرمات الله المنتهكة على يديه، مع كونها في خطة دونها الخلافة رفعة، والحال تشبه بعضها بعضا، «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ، والى الله المشتكى من فساد ظهر حتى في اشرف بقاع الارض، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. منشأ الإسلام وفي يوم الأربعاء التاسع والعشرين من ذي القعدة المذكور دخلنا دار الخيزران التي كان منها منشأ الاسلام، وهي بإزاء الصفا ويلاصقها بيت صغير عن يمين الداخل اليها كان مسكن بلال، رضي الله عنه، ويدخل اليها على حلق كبير شبيه الفندق قد أحدقت به البيوت للكراء من الحاج. والدار المكرمة دار صغيرة يجدها الداخل الى الحلق المذكور عن يساره، وهي مجددة البناء، أنفق

في بنائها جمال الدين، المذكور أثره الكريم في هذا المكتوب، نحو الألف دينار، نفعه الله بما أسلفه من العمل الصالح. وعن يمين الداخل الدار المباركة باب يدخل منه الى قبة كبيرة بديعة البناء، فيها مقعد النبي، صلى الله عليه وسلم، والصخرة التي كان اليها مستنده، وعن يمينه موضع أبي بكر الصديق، وعن يمين أبي بكر موضع علي بن أبي طالب، والصخرة التي كان اليها مستنده هي داخلة في الجدار كشبه المحراب. وفي هذه الدار كان اسلام عمر بن الخطاب ومنها ظهر الاسلام على يديه، وأعزه الله به، نفعنا الله ببركة هذه المشاهد المكرمة والآثار المعظمة، وأماتنا على محبة الذين شرفت بهم ونسبت اليهم، صلوات الله عليهم أجمعين. شهر ذي الحجة استهل هلاله ليلة الخميس بموافقة الخامس عشر من مارس. وكان للناس في ارتقابه أمر عجيب، وشأن من البهتان غريب، ونطق من الزور كاد يعارضه من الجماد فضلا عن غيره رد وتكذيب؛ وذلك انهم ارتقبوه ليلة الخميس الموفي ثلاثين، والأفق قد تكاثف نوءه وتراكم غيمه الى ان علته مع المغيب بهض حمرة من الشفق، فطمع الناس في فرجه من الغيم لعل الأبصار تلتقطه فيها، فبينما هم كذلك اذ كبر أحدهم، فكبر الجم الغفير لتكبيره ومشوا قياما ينتظرون ما لا يبصرون ويشيرون الى ما يتخيلون حرصا منهم على أن تكون الوقفة بعرفات يوم الجمعة، كأن الحج لا يرتبط الا بهذا اليوم بعينه، فاختلقوا شهادات زورية، ومشت منهم طائفة من المغاربة، أصلح الله أحوالهم، ومن أهل مصر وأربابها، فشهدوا عند القاضي برؤيته، فردهم أقبح رد وجرح شهاداتهم أسوأ تجريح وفضحهم في تزييف أقوالهم أخزى فضيحة، وقال: «يا للعجب! لو أن أحدهم يشهد برؤيته الشمس تحت ذلك الغيم الكثيف النسج لما قبلته، فكيف برؤية هلال هو ابن تسع وعشرين ليلة!»

وكان ايضا مما حكي من قوله: تشوشت المغارب، وتعرضت شعرة من الحاجب، فأبصروا خيالا ظنوه هلالا. وكان لهذا القاضي جمال الدين، في أمر هذه الشهادة الزورية مقام من التوقف والتحري، حمده له أهل التحصيل وشكره عليه ذوو العقول، وحق لهم ذلك، فإنها مناسك الحج للمسلمين عظيمة، أتوا لها من كل فج عميق. فلو تسومح فيها بطل السعي، وفال الرأي، والله يرفع الالتباس والبأس بمنه. فلما كانت ليلة الجمعة المذكورة ظهر الهلال أثناء فرج السحاب وقد اكتسى نورا من الثلاثين ليلة، فزعقت العامة زعقات هائلة وتنادت بوقفة الجمعة، وقالت: الحمد لله الذي لم يخيب سعينا، ولا ضيع قصدنا. كأنهم قد صح عندهم أن الوقفة اذا لم تكن توافق يوم الجمعة ليست مقبولة، ولا الرحمة فيها من الله مرجوة مأمولة؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ثم إنهم يوم الجمعة المذكور اجتمعوا الى القاضي فأدوا شهادات بصحة الرؤية تبكي الحق وتضحك الباطل، فردها وقال: يا قوم حتام هذا التمادي في الشهوة، والام تستنون في طرق الهفوة؟ وأعلمهم أنه قد استأذن الأمير مكثرا في ان يكون الصعود الى عرفات صبيحة يوم الجمعة فيقفوا عشية بها، ثم يقفوا صبيحة يوم السبت بعده ويبيتوا ليلة الأحد بمزدلفة، فان كانت الوقفة يوم الجمعة فما عليهم في تأخير المبيت بمزدلفة بأس، اذ هو جائز عند أئمة المسلمين، وان كانت يوم السبت فبها ونعمت. وأما أن يقع القطع بها يوم الجمعة فتغرير بالمسلمين وافساد لمناسكهم، لأن الوقفة يوم التروية عند الأئمة غير جائزة، كما أنها عندهم جائزة يوم النحر. فشكر جميع من حضر للقاضي هذا المنزع من التحقيق ودعوا له، وأظهر من حضر من العامة الرضى بذلك وانصرفوا عن سلام، والحمد لله على ذلك. وهذا الشهر المبارك هو ثالث الأشهر الحرم، وعشره الأولى مجتمع الامم وموسم الحج الاعظم، شهر العج والثج، وملتقى وفود الله من كل أوب وفج،

مصاب الرحمة والبركات، ومحل الموقف الاعظم بعرفات، جعلنا الله ممن فاز فيه بالحسنات، وتعرى به من ملابس الاوزار والسيئات، بمنه وكرمه، انه أهل التقوى، وأهل المغفرة، والامير العراقي منتظر لكشف هذا الإلباس عن الناس في أمر الهلال لعله قد اتضح له اليقين فيه، ان شاء الله. وفي سائر هذه الايام كلها الى هلم جرّا تصل رفاق من السرو اليمنيين وسائر حجاج الآفاق لا يحصي عددها الا محصي آجالها وأرزاقها، لا إله سواه. فمن الآيات البينات أن يسع هذا الجمع العظيم هذا البلد الامين الذي هو بطن واد سعته غلوة أو دونها. ولو أن المدن العظيمة حمل عليها هذا الجمع لضاقت عنه. وما هذه البلدة المكرمة فيما تختص به من الآيات البينات في اتساعها لهذا البشر المعجز احصاؤه الا كما شبهتها العلماء حقيقة بأنها تتسع لوفودها اتساع الرحم لمولودها. وكذلك عرفات وسائر المشاهد المعظمة بهذا البلد الحرام، عظم الله حرمته ورزقنا الرحمة فيه بكرمه وفضله. ومن أول هذا الشهر المبارك ضربت دبادب الأمير بكرة وعشية وفي أوقات الصلوات كأنها إشعار بالموسم، ولا يزال كذلك الى يوم الصعود الى عرفات، عرّفنا الله بها القبول والرحمة. وفي يوم الاثنين الخامس أو الرابع من هذا الشهر وصل الأمير عثمان بن علي صاحب عدن، خرج منها فارّا أمام سيف الاسلام المتوجه الى اليمن وركب البحر في جلاب كثيرة مشحونة بأحوال عظيمة واموال لا تحصى كثرة لأنه طال مقامه في تلك الولاية واتسع كسبه. وعند خروجه من البحر بموضع يعرف بالصر ... لحقت جلبه حراريق الأمير سيف الاسلام فأخذت جميع ما فيها من الأثقال، وكان قد استصحب الخف النفيس الخطير مع نفسه الى البر وهو في جملة من رجاله وعبيده، فسلم به، ووصل مكة بعير موقرة متاعا ومالا دخلت الى أعين الناس الى داره التي ابتناها بها بعد أن قدم نفيس ذخائره وناضّ ماله وجملة رقيقه وخدمه ليلا.

شهر ذي الحجة

وبالجملة فحاله لا توصف كثرة واتساعا، والذي انتهب له أكثر، لأنه كان في ولايته يوصف بسوء السيرة مع التجار، وكانت المنافع التجارية كلها راجعة اليه، والذخائر الهندية المجلوبة كلها واصلة الى يديه، فاكتسب سحتا «1» عظيما، وحصل على كنوز قارونية، لكن حوادث الأيام قد ابتدأت بالخسف به، ولا يدري حال أمره مع صلاح الدين لم يكون، والدنيا مفنية محبيها، وآكلة بنيها، وثواب الله خير ذخيرة، وطاعته أشرف غنيمة، لا إله سواه. وبقيت الشهادة مضطربة في أمر هذا الهلال المبارك الميمون الى أن تواصلت الأخبار برؤيته ليلة الخميس الذي يوافق الخامس عشر من مارس، شهد بذلك ثقات من أهل الزهد والورع يمنيّون وسواهم من الواصلين من المدينة المكرمة لكن بقي القاضي على ثباته وتوقفه في القبول وارجاء الامر الى وصول المبشر المعلم بوصول الأمير العراقي ليتعرف من قبله ما عند أمير الحاج في ذلك. فلما كان يوم الأربعاء السابع من الشهر المذكور وصل المبشر، وكانت نفوس أهل مكة قد أوجست خيفة لبطئه حذرا من حقد الخليفة على اميرهم مكثر لمذموم فعل صدر عنه. فكان وصول هذا البشير أمانا وتسكينا للنفوس الشاردة، فوصل مبشرا ومؤنسا، واعلم برؤية الهلال ليلة الخميس المذكور. وتواترت الأنباء بذلك، فصح الأمر عند القاضي بذلك صحة أوجبت خطبته في ذلك اليوم على ما جرت به العادة في اليوم السابع من ذي الحجة اثر صلاة الظهر، علم الناس فيها مناسكهم، ثم أعلمهم أن غدهم هو يوم الصعود الى منى، وهو يوم التروية، وأن وقفتهم يوم الجمعة، وأن الأثر الكريم فيها عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأنها تعدل سبعين وقفة، ففضل هذه الوقفة في الأعوام كفضل يوم الجمعة على سائر الأيام. الصعود إلى عرفات فلما كان يوم الخميس بكر الناس بالصعود الى منى وتمادوا منها الى عرفات.

جبل الرحمة

وكانت السنّة المبيت بها، لكن ترك الناس ذلك اضطرارا بسبب خوف بني شعبة المغيرين على الحجاج في طريقهم الى عرفات. وصدر عن هذا الأمير عثمان المتقدم ذكره في ذلك اجتهاد بل جهاد يرجى له به المغفرة لجميع خطاياه، ان شاء الله، وذلك أنه تقدم بجميع أصحابه شاكين في الأسلحة الى المضيق الذي بين مزدلفة وعرفات، وهو موضع ينحصر الطريق فيه بين جبلين فينحدر الشعبيون من أحدهما، وهو الذي عن يسار المار الى عرفات، فينتهبون الحاج انتهابا، فضرب هذا الامير قبة في ذلك المضيق بين الجبلين بعد أن قدم أحد أصحابه فصعد الى رأس الجبل بفرسه، وهو جبل كؤود، فعجبنا من شأنه، واكثر التعجب من أمر الفرس وكيف تمكن له الصعود الى ذلك المرتقى الصعب الذي لا يرتقيه ... فأمن جميع الحاج بمشاركة هذا الأمير لهم، فحصل على اجرين: أجر جهاد وحج، لأن تأمين وفد الله عزّ وجل في مثل ذلك اليوم من أعظم الجهاد. واتصل صعود الناس ذلك اليوم كله والليلة كلها الى يوم الجمعة كله. فاجتمع بعرفات من البشر جمع لا يحصي عدده الا الله عز وجل. ومزدلفة بين منى وعرفات، من منى اليها ما من مكة الى منى، وذلك نحو خمسة أميال، ومنها الى عرفات مثل ذلك أو أشفّ قليلا، وتسمى المشعر الحرام، وتسمى جمعا، فلها ثلاثة اسماء، وقبلها بنحو الميل وادي محسر، وجرت العادة بالهرولة فيه، وهو حد بين مزدلفة ومنى لأنه معترض بينهما. ومزدلفة بسيط من الارض فسيح بين جبلين وحوله مصانع وصهاريج كانت للماء في زمان زبيدة، رحمها الله. وفي وسط ذلك البسيط من الارض حلق في وسطه قبة في أعلاها مسجد يصعد اليه على أدراج من جهتين، يزدحم الناس في الصعود اليه والصلاة فيه عند مبيتهم بها. وعرفات أيضا بسيط من الأرض مد البصر، لو كان محشرا للخلائق لوسعهم، يحدق بذلك البسيط الافيح جبال كثيرة. جبل الرحمة وفي آخر ذلك البسيط جبل الرحمة، وفيه وحوله موقف الناس، والعلمان

قبله بنحو الميلين، فما أمام العلمين الى عرفات حل، وما دونهما حرم. وبمقربة منهما، مما يلي عرفات، بطن عرنة الذي أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بالارتفاع عنه في قوله، صلى الله عليه وسلم: «عرفات كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة» ، فالواقف فيه لا يصح حجه، فيجب التحفظ من ذلك لان الجمالين عشية الوقفة ربما استحثوا كثيرا من الحاج وحذروهم الزحمة في النفر واستدرجوهم بالعلمين اللذين أمامهم الى أن يصلوا بهم بطن عرنة أو يجيزوه فيبطلوا على الناس حجهم. والمتحفظ لا ينفر من الموقف حتى يتمكن سقوط القرصة من الشمس. وجبل الرحمة المذكور منقطع عن الجبال قائم في وسط البسيط، وهو كله حجارة منقطعة بعضها عن بعض. وكان صعب المرتقى، فأحدث فيه جمال الدين المذكورة مآثره في هذا التقييد أدراجا وطيئة من أربع جهاته، يصعد فيها بالدواب المذكورة، وانفق فيها مالا عظيما. وفي أعلى الجبل قبة تنسب الى أمّ سلمة، رضي الله عنها، ولا يعرف صحة ذلك. وفي وسط القبة مسجد يتزاحم الناس للصلاة فيه. وحول ذلك المسجد المكرم سطح محدق به فسيح الساحة جميل المنظر، يشرف منه على بسيط عرفات. وفي جهة القبلة منه جدار، وقد نصبت فيه محاريب يصلي الناس فيها. وفي اسفل هذا الجبل المقدس، عن يسار المستقبل للقبلة فيه، دار عتيقة البنيان في أعلاها غرف لها طيقان تنسب الى آدم، صلى الله عليه وسلم. وعن يسار هذه الدار في استقبال القبلة الصخرة التي كان عندها موقف النبي، صلى الله عليه وسلم، وهي في جبل متطامن. وحول جبل الرحمة والدار المكرّمة صهاريج للماء وجباب. وعن يسار الدار ايضا، على مقربة منها، مسجد صغير. وبمقربة من العلمين، عن يسار مستقبل القبلة، مسجد قديم فسيح البناء، بقي منه الجدار القبلي، ينسب الى ابراهيم، صلى الله عليه وسلم، فيه

قدوم الأمير العراقي

يخطب الخطيب يوم الوقفة، ثم يجمع بين الظهر والعصر. وعن يسار العلمين أيضا، في استقبال القبلة، وادي الأراك، وهو أراك أخضر يمتد في ذلك البسيط مع البصر امتدادا طويلا. فتكامل جمع الناس بعرفات يوم الخميس وليلة الجمعة كلها. وفي نحو الثلث الباقي من ليلة الجمعة المذكورة وصل أمير الحاج العراقي فضرب أبنيته في البسيط الأفيح، مما يلي الجانب الأيمن من جبل الرحمة في استقبال القبلة. والقبلة في عرفات هي الى مغرب الشمس، لأن الكعبة المقدسة في تلك الجهة منها. فأصبح يوم الجمعة المذكورة في عرفات جمع لا شبيه له الا الحشر، لكنه ان شاء الله تعالى حشر للثواب، مبشر بالرحمة والمغفرة يوم الحشر للحساب؛ زعم المحققون من الأشياخ المجاورين انهم لم يعاينوا قط في عرفات جمعا احفل منه، ولا أرى كان من عهد الرشيد، الذي هو آخر من حج من الخلفاء، جمع في الاسلام مثله، جعله الله جمعا مرحوما معصوما بعزّته. فلما جمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة المذكور وقف الناس خاشعين باكين، والى الله عزّ وجل في الرحمة متضرعين، والتكبير قد علا، وضجيج الناس بالدعاء قد ارتفع فما رؤي يوم أكثر مدامع، ولا قلوبا خواشع، ولا اعناقا لهيبة الله خوانع خواضع من ذلك اليوم. فما زال الناس على تلك الحالة والشمس تلفح وجوههم الى أن سقط قرصها وتمكن وقت المغرب. وقد وصل أمير الحاج مع جملة من جنده الدارعين ووقفوا بمقربة من الصخرات عند المسجد الصغير المذكور. وأخذ السّرو اليمنيون مواقفهم بمنازلهم المعلومة لهم في جبال عرفات المتوارثة عن جدّ فجدّ من عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، لا تتعدى قبيلة على منزل أخرى. قدوم الأمير العراقي وكان المجتمع منهم في هذا العام عددا لم يجتمع قط مثله. وكذلك وصل

الامير العراقي في جمع لم يصل قط مثله، ووصل معه من أمراء الأعاجم الخراسانيين ومن النساء العقائل المعروفات بالخواتين، واحدتهن خاتون، ومن السيدات بنات الامراء كثير، ومن سائر العجم عدد لا يحصى، فوقف الجميع وقد جعلوا قدوتهم في النفر الإمام المالكي، لأنه مذهب مالك، رضي الله عنه، يقتضي أن لا ينفر حتى يتمكن سقوط القرصة ويحين وقت المغرب. ومن السرو اليمنيين من نفر قبل ذلك. فلما أن حان الوقت أشار الإمام المالكي بيديه ونزل عن موقفه فدفع الناس بالنفر دفعا ارتجت له الأرض ووجفت الجبال، فيا له موقفا ما أهون مرآه وأرجى في النفوس عقباه! جعلنا الله ممن خصه فيه برضاه، وتغمده بنعماه، إنه منعم كريم، حنان منان. وكانت محلة هذا الأمير العراقي جميلة المنظر، بهية العدة، رائقة المضارب والأبنية، عجيبة القباب والاروقة، على هيئات لم ير أبدع منها منظرا. فأعظمها مرأى مضرب الامير، وذلك أنه أحدق به سرادق كالسور من كتان كأنه حديقة بستان أو زخرفة بنيان، وفي داخله القباب المضروبة، وهي كلها سواد في بياض، مرقشة ملونة كأنها أزاهير الرياض. وقد جللت صفحات ذلك السرادق من جوانبه الاربعة كلها اشكال ذرقية من ذلك السواد المنزّل في البياض يستشعر الناظر اليها مهابة يتخيلها درقا لمطية قد جللتها مزخرفات الاغشية. ولهذا السرادق الذي هو كالسور المضروب أبواب مرتفعة كأنها أبواب القصور المشيدة، يدخل منها الى دهاليز وتعاريج ثم يفضى منها الى الفضاء الذي فيه القباب. وكأن هذا الامير ساكن في مدينة قد احدق بها سورها تنتقل بانتقاله وتنزل بنزوله، وهي من الابّهات الملوكية المعهودة التي لم يعهد مثلها عند ملوك المغرب. وداخل تلك الابواب حجاب الامير وخدمه وغاشيته، وهي أبواب مرتفعة، يجيء الفارس برايته فيدخل عليها دون تنكيس ولا تطأطؤ، قد احكمت اقامة ذلك كله أمراس وثيقة من الكتان تتصل بأوتاد مضروبة، أدير ذلك كله بتدبير

استيفاء حال النفر

هندسي غريب. ولسائر الامراء الواصلين صحبة هذا الامير مضارب دون ذلك لكنها على تلك الصفة، وقباب بديعة المنظر عجيبة الشكل قد قامت كأنها التيجان المنصوبة، الى ما يطول وصفه ويتسع القول فيه من عظيم احتفال هذه المحلة في الآلة والعدة وغير ذلك مما يدل على سعة الاحوال وعظيم الانخراق في المكاسب والاموال. ولهم أيضا في مراكبهم على الإبل قباب تظلهم بديعة المنظر عجيبة الشكل قد نصبت على محامل من الاعواد يسمونها القشاوات، وهي كالتوابيت المجوفة، هي لركابها من الرجال والنساء كالامهدة للأطفال، تملأ بالفرش الوثيرة، ويقعد الراكب فيها مستريحا كأنه في مهاد لين فسيح وبإزائه معادله أو معادلته في مثل ذلك من الشقة الاخرى، والقبة مضروبة عليهما، فيسار بهما وهما نائمان لا يشعران، أو كيفما أحبا، فعندما يصلان الى المرحلة التي يحطان بها ضرب سرادقهما للحين ان كانا من أهل الترفّه والنعم فيدخل بهما راكبين وينصب لهما كرسيّ ينزلان عليه، فينتقلان من ظل قبة المحمل الى قبة المنزل دون واسطة هواء يلحقهما ولا خطفة شمس تصيبهما. وناهيك من هذا الترفيه! فهؤلاء لا يلقون لسفرهم، وان بعدت شقته، نصبا، ولا يجدون على طول الحل والترحال تعبا. ودون هؤلاء في الراحة راكبوا المحارات، وهي شبيهة الشقادف التي تقدم وصفها في ذكر صحراء عيذاب، لكن الشقادف أبسط وأوسع، وهذه أضمّ واضيق، وعليها أيضا ظلائل تقي حر الشمس. ومن قصرت حاله عنها في هذه الأسفار فقد حصل على نصب السفر الذي هو قطعة من العذاب. استيفاء حال النفر ثم يرجع القول الى استيفاء حال النفر عشية الوقفة المذكورة بعرفات، وذلك أن الناس نفروا منها بعد غروب الشمس، كما تقدم الذكر، فوصلوا مزدلفة مع

العشاء الآخرة، فجمعوا بها بين العشاءين، حسبما جرت به سنة النبي، صلى الله عليه وسلم، واتقد المشعر الحرام تلك الليلة كلها مشاعيل من الشمع المسرج، واما مسجده المذكور فعاد كله نورا، فيخيل للناظر اليه أن كواكب السماء كلها نزلت به. وعلى هذه الصفة كان جبل الرحمة ومسجده ليلة الجمعة؛ لأن هؤلاء الأعاجم الخراسانيين وسواهم من العراقيين أعظم الناس همّة في استجلاب هذا الشمع والاستكثار منه إضاءة لهذه المشاهد الكريمة. وعلى هذه الصفة عاد الحرم بهم مدة مقامهم فيه، فيدخل منهم كل انسان بشمعة في يده، وأكثر ما يقصدون بذلك حطيم الإمام الحنفي لأنهم على مذهبه. وشاهدنا منه شمعا عظيما أحضر منه، تنوء الشمعة منه بالعصبة كأنه السّرو، ووضع أمام الحنفي. فبات الناس بالمشعر الحرام هذه الليلة، وهي ليلة السبت، فلما صلوا الصبح غدوا منه الى منى بعد الوقوف والدعاء، لأن مزدلفة كلها موقف الى وادي محسّر، ففيه تقع الهرولة في التوجه الى منى حتى يخرج عنه. ومن مزدلفة يستصحب أكثر الناس حصيات الجمار، وهو المستحب، ومنهم من يلتقطها حول مسجد الخيف بمنى، وكل ذلك واسع. فلما انتهى الناس الى منى بادروا لرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ثم نحروا أو ذبحوا وحلوا من كل شيء الا النساء والطيب حتى يطوفوا طواف الإفاضة. ورمي هذه الجمرة عند طلوع الشمس من يوم النحر. ثم توجه أكثر الناس لطواف الإفاضة، ومنهم من أقام الى اليوم الثاني، ومنهم من أقام الى اليوم الثالث، وهو يوم الانحدار الى مكة. فلمّا كان اليوم الثاني من يوم النحر، عند زوال الشمس، رمى الناس بالجمرة الأولى سبع حصيات، وبالجمرة الوسطى كذلك، وبهاتين الجمرتين يقفون للدعاء، وبجمرة العقبة كذلك ولا يقفون بها، اقتداء في ذلك كله بفعل النبي، صلى الله عليه وسلم. فتعود جمرة العقبة في هذين اليومين أخيرة، وهي يوم النحر أولى منفردة لا يخلط معها سواها. وفي اليوم الثاني من يوم النحر، بعد رمي الجمرات، خطب الخطيب بمسجد الخيف، ثم جمع بين الظهر والعصر، وهذا الخطيب وصل مع الأمير العراقي

الهبوط إلى مكة

مقدما من عند الخليفة للخطبة والقضاء بمكة على ما يذكر، ويعرف بتاج الدين. وظاهر أمره البلادة والبله لأن خطبته أعربت عن ذلك، ولسانه لا يقيم الإعراب. الهبوط إلى مكة فلما كان اليوم الثالث تعجل الناس في الانحدار الى مكة بعد أن كمل لهم رمي تسع وأربعين جمرة: سبع منها يوم النحر بالعقبة، وهي المحلة؛ ثم احدى وعشرون في اليوم الثاني، بعد زوال الشمس، سبعا سبعا في الجمرات الثلاث؛ وفي اليوم الثالث كذلك، ونفروا الى مكة؛ فمنهم من صلى العصر بالأبطح، ومنهم من صلّاها بالمسجد الحرام، ومنهم من تعجل فصلى الظهر بالأبطح. ومضت السنّة قديما بإقامة ثلاثة أيام، بعد يوم النحر بمنى، لإكمال رمي سبعين حصاة، فوقع التعجيل في هذا الزمان في اليومين كما قال الله تبارك وتعالى: «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» ، وذلك مخافة بني شعبة وما يطرأ من حرّابة المكيين. وقد كانت في يوم الانحدار المذكور بين سودان أهل مكة وبين الأتراك العراقيين جولة وهوشة وقعت فيها جراحات وسلت السيوف وفوقت القسي ورميت السهام وانتهب بعض أمتعة التجار، لأن منى في تلك الأيام الثلاثة سوق من أعظم الأسواق يباع فيها من الجوهر النفيس الى أدنى الخرز، الى غير ذلك من الأمتعة وسائر سلع الدنيا، لأنها مجتمع أهل الآفاق. فوقى الله شرّ تلك الفتنة بتسكينها سريعا. وكانت عين الكمال في تلك الوقفة الهنيئة، وكمل للناس حجّهم، والحمد لله رب العالمين. نقل كسوة الأمير العراقي للكعبة وفي يوم السبت، يوم النحر المذكور، سيقت كسوة الكعبة المقدّسة من محلة

يوم الأعاجم العراقيين في البيت الكريم

الأمير العراقي الى مكة على أربعة جمال، تقدّمها القاضي الجديد بكسوة الخليفة السّوادية، والرايات على رأسه، والطبول تهر وراءه، وابن عمّ الشيبي محمد بن اسماعيل معها لأنه ذكر أن أمر الخليفة نفذ بعزله عن حجابة البيت لهنات اشتهرت عنه، والله يطهر بيته المكرم بمن يرضى من خدّامه بمنه. وهذا ابن العمّ المذكور هو أشبه طريقة منه وأمثل حالا، وقد تقدم ذكر ذلك في العزلة الأولى. فوضعت الكسوة في السطح المكرم أعلى الكعبة. فلما كان يوم الثلاثاء الثالث عشر من الشهر المبارك المذكور اشتغل الشيبيون بإسبالها خضراء يانعة تقيد الأبصار حسنا، في أعلاها رسم أحمر واسع مكتوب في الصفح الموجه الى المقام الكريم حيث الباب المكرم، وهو وجهها المبارك، بعد البسملة: «ان أول بيت وضع للناس» الآية، وفي سائر الصفحات اسم الخليفة والدعاء له، وتحف بالرسم المذكور طرتان حمراوان بدوائر صغار بيض فيها رسم بخط رقيق يتضمن آيات من القرآن وذكر الخليفة أيضا. فكملت كسوتها، وشمرت أذيالها الكريمة صونا لها من أيدي الأعاجم وشدة اجتذابها وقوة تهافتها عليها وانكبابها. فلاح للناظرين منها أجمل منظر، كأنها عروس جليت في السندس الأخضر، أمتع الله بالنظر اليها كل مشتاق الى لقائها حريص على المثول بفنائها بمنه. يوم الأعاجم العراقيين في البيت الكريم وفي هذه الأيام يفتح البيت الكريم كل يوم للأعاجم العراقيين والخراسانيين وسواهم من الواصلين مع الأمير العراقي. فظهر من تزاحمهم وتطارحهم على الباب الكريم ووصول بعضهم على بعض وسباحة بعضهم على رؤوس بعض كأنهم في غدير من الماء، أمر لم ير أهول منه، يؤدي الى تلهف المهج وكسر الاعضاء. وهم في خلال ذلك لا يبالون ولا يتوقفون، بل يلقون بأنفسهم على ذلك البيت الكريم، من فرط الطرب والارتياح، القاء الفراش بنفسه على المصباح. فعادت

أحوال السرو اليمنيين في دخولهم البيت المبارك على الصفة المتقدمة الذكر، حال تؤدة ووقار بالإضافة الى هؤلاء الاعاجم الاغتام، نفعهم الله بنياتهم، وقد فقد منهم في ذلك المزدحم الشديد من دنا أجله، والله يغفر للجميع. وربما زاحمهم في تلك الحال بعض نسائهم فيخرجن وقد نضجت جلودهن طبخا في مضيق ذلك المعترك الذي حمي بأنفاس الشوق وطيشه، والله ينفع الجميع بمعتقده وحسن مقصده بعزته. وفي ليلة الخميس الخامس عشر من الشهر المبارك، اثر صلاة العتمة، نصب منبر الوعظ أمام المقام، فصعد واعظ خراساني حسن الشارة مليح الإشارة، يجمع بين اللسانين عربي وعجمي، فأتى في الحالين بالسحر الحلال من البيان، فصيح المنطق، بارع الالفاظ، ثم يقلب لسانه للأعاجم بلغتهم فيهزهم اطرابا ويذيبهم زفرات وانتحابا. فلما كانت الليلة الأخرى بعدها وضع منبر آخر خلف حطيم الحنفي، فصعد اثر صلاة العتمة أيضا شيخ أبيض السبال، رائع الجلال، بارع التمام في الفضل والكمال، فصدع بخطبة انتظمت آية الكرسي كلمة كلمة، ثم تصرف في أساليب الوعظ وأفانين من العلم باللسانين أيضا، حرك بها القلوب حتى أطارها واورثها احتداما بالخشية بعد استعارها. وفي اثناء ذلك ترشقه سهام من المسائل فيتلقاها بمجن من الجواب السريع البليغ، فتحار له الالباب، ويملك كل نفس منه الإغراب والإعجاب، فكأنما هو وحي يوحى. وهذا الذي مشى به وعاظ هذه الجهات المشرقية من القاء المسائل اليهم وافاضة شآبيب الامتحان عليهم من اعجب الامور المعربة عن غريب شأنهم والناطقة بسحر بيانهم. وليست في فن واحد انما هي من فنون شتى. وربما قصد بها التعنيت والتنكيب فيأتون بالجواب كخطفة البرق وارتداد الطرف، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. وبين أيدي هؤلاء الوعاظ قرّاء ينغمون بالقراءة فيأتون بألحان تكسب

سوق المسجد الحرام

الجماد طربا واريحيّة كأنها المزامير الداودية. فلا تدري من اي أحوال هذا المجتمع تعجب، والله يؤتي الحكمة من يشاء، لا اله سواه، وسمعت هذا الشيخ الواعظ يسند الحديث الى خمسة من اجداده: جدّ عن جدّ، نسقا مسلسلا من أبيه اليهم على اتصال، كلهم له لقب يدل على منزلته من العلم ومكانته من التذكير والوعظ، فهو معرق في الصنعة الشريفة، تليد المجد فيها. سوق المسجد الحرام وفي أيام الموسم كلها عاد المسجد الحرام، نزّهه الله وشرّفه، سوقا عظيمة يباع فيه من الدقيق الى العقيق، ومن البرّ الى الدر، الى غير ذلك من السلع. فكان مبيع الدقيق بدار الندوة الى جهة باب بني شيبة، ومعظم السوق في البلاط الآخذ من الغرب الى الشمال، وفي البلاط الآخذ من الشمال الى الشرق، وفي ذلك من النهي الشرعي ما هو معلوم، والله غالب على أمره، لا اله سواه. يوم الرحيل وفي عشيّ يوم الأحد الموفي عشرين من الشهر المذكور، وهو أول أبريل، كان مسيرنا الى محلة الأمير العراقي بالزاهر وهو على نحو الميلين من البلد، وقد كمل اكتراؤنا الى الموصل، وهو أمام بغداد بعشرة أيام، عرّفنا الله الخير والخيرة بمنه، فأقمنا بالزاهر ثلاثة أيام نجدد العهد كل يوم بالبيت العتيق، ونعيد وداعه. فلما كان ضحوة يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي الحجة المذكور، أقلعت المحلة على تؤدة ورفق بسبب البطء والتأخر ونزلت على نحو ثمانية اميال من الموضع الذي اقلعت منه بمقربة من بطن مرة، والله كفيل بالسلامة والعصمة بمنه. فكانت مدة مقامنا بمكة، قدّسها الله، من يوم وصولنا اليها، وهو يوم

الخميس الثالث عشر لربيع الآخر من سنة تسع وسبعين، الى اقلاعنا من الزاهر، وهو يوم الخميس الثاني والعشرين لذي الحجة من السنة المذكورة، ثمانية أشهر وثلث شهر، التي هي بحسب الزائد والناقص من الأشهر مئتا يوم اثنتان وخمسة وأربعون يوما سعيدات مباركات، جعلها الله لذاته، وجعل القبول لها موافقا لمرضاته، بمنّه، غبنا عن رؤية البيت الكريم فيها ثلاثة أيام: يوم عرفة، وثاني يوم النحر، ويوم الأربعاء الذي هو الحادي والعشرون لذي الحجة، قبل يوم الخميس يوم اقلاعنا من الزاهر، والله لا يجعله آخر العهد بحرمه الكريم بمنه. ثم أقلعنا من ذلك الموضع اثر صلاة الظهر من يوم الخميس، الى بطن مر، وهو واد خصيب كثير النخل ذو عين فوارة سيالة الماء تسقى منها أرض تلك الناحية. وعلى هذا الوادي قطر متسع وقرى كثيرة وعيون، ومنه تجلب الفواكه الى مكة، حرسها الله، فأقمنا به يوم الجمعة لسبب عجيب، وذلك أن الملكة خاتون بنت الأمير مسعود ملك الدروب والأرمن وما يلي بلاد الروم، وهي احدى الخواتين الثلاث اللاتي وصلن للحج، مع أمير الحاج أبي المكارم طاشتكين مولى أمير المؤمنين، الموجه كل عام من قبل الخليفة، وله بتولي هذه الخطة نحو الثمانية أعوام أو أزيد، وخاتون هذه اعظم الخواتين قدرا، بسبب سعة مملكة أبيها. والمقصود من ذكر أمرها أنها أسرت من بطن مرّ ليلة الجمعة الى مكة في خاصة من خدمها وحشمها، فتفقد موضعها يوم الجمعة المذكور، فوجه الأمير ثقات من خاصة أصحابه يستطلعونها في الانصراف، وأقام بالناس منتظرا لها. فوصلت عتمة يوم السبت، وأجليت في سبب انصراف هذه الملكة المترفة قداح الظنون، وسلت الخواطر على استخراج سرها المكنون، فمنهم من يقول: انها انصرفت أنفة لبعض ما انتقدته على الأمير، ومنهم من قال: ان نوازع الشوق للمجاورة عطفت بها الى المثابة المكرمة، ولا يعلم الغيب الا الله. وكيفما كان الأمر فقد كفى الله العطلة بسببها، وأطلق سبيل الحاج، ولله الحمد على ذلك. وابو هذه المرأة المذكورة الأمير مسعود، كما ذكرناه، وهو في بسطة من

ملكه واتساع من امرته، على ما حقق عندنا، أكثر من مئة الف فارس، وصهره عليها نور الدين صاحب آمد وما سواها؛ ويركب له أيضا نحو اثني عشر الف فارس. ولخاتون هذه افعال من البر كثيرة في طريق الحاج: منها سقي الماء للسبيل، عينت لذلك نحو الثلاثين ناضحة، ومثلها للزاد، واستجلبت لما تختص به من الكسوة والأزودة وغير ذلك نحو المئة بعير. وأمورها يطول وصفها، وسنها نحو خمسة وعشرين عاما. ولخاتون الثانية، أم عز الدين صاحب الموصل، زوج قطب الدين بن اتابك أخي نور الدين الذي كان صاحب الشام، رحمه الله، ولهذه أفعال كثيرة من البر. وخاتون الثالثة ابنة الدقوس صاحب اصبهان من بلاد خراسان، وهي أيضا كبيرة القدر عظيمة الشأن منافسة في افعال البر. وشأنهن جمع عجيب جدا فيما هن بسبيله من الخيل والاحتفال في الأبهة الملوكية. ثم اقلعنا ظهر يوم السبت الرابع والعشرين لذي الحجة المذكور ونزلنا بمقربة من عسفان، ثم اسرينا اليها نصف الليل وصبحناها بكرة يوم الأحد. وهي في بسيط من الأرض بين جبال، وبها آبار معينة تنسب لعثمان، رضي الله عنه، وشجر المقل فيها كثير، وبها حصن عتيق البنيان، ذو أبراج مشيدة غير معمور، قد أثر فيه القدم، وأوهته قلة العمارة ولزوم الخراب. فاجتزناها بأميال ونزلنا مريحين قائلين. فلما كان اثر صلاة الظهر أقلعنا الى خليص، فوصلناها عشيّ النهار. وهي أيضا في بسيط من الارض، كثيرة حدائق النخل، لها جبل فيه حصن مشيد في قنته. وفي البسيط حصن آخر قد أثر فيه الخراب. وبها عين فوارة قد احدثت لها اخاديد في الارض مسربة يستقى منها على أفواه كالآبار، يجدد الناس بها الماء لقلته في الطريق بسبب القحط المتصل، والله يغيث بلاده وعباده. واصبح الناس بها مقيمين يوم الاثنين لإرواء الإبل واستصحاب الماء. وبهذه المحلة العراقية ومن انضاف اليها من الخراسانية والمواصلة وسائر جهات

الآفاق من الواصلين صحبة أمير الحاج المذكور جمع لا يحصي عدده الا الله تعالى، يغص بهم البسيط الأفيح، ويضيق عنهم المهمه الصحصاح، فترى الأرض تميد بهم ميدا، وتموج بجميعهم موجا، فتبصر منهم بحرا طامي العباب، ماؤه السراب، وسفنه الركاب، وشرعه الظلائل المرفوعة والقباب، تسير سير السحب المتراكمة، يتداخل بعضها على بعض، ويضرب بعضها جوانب بعض. فتعاين لها تزاحما في البراح المنفسح يهول ويروع، واصطكاكا نبع المحارات فيه بعضه ببعض مقروع، فمن لم يشاهد هذا السفر العراقي لم يشاهد من أعاجيب الزمان ما يحدث به ويتحف السامع بغرابته، والقدرة والقوة لله وحده، وحسبك ان النازل في منزل من منازل هذه المحلة متى خرج عنها لبعض حاجة ولم تكن له دلالة يستدل بها على موضعه ضل وتلف وعاد منشودا في جملة الضوّال، وربما اضطرته الحال الى الوصول الى مضرب الأمير ورفع مسألته اليه، فيأمر أحد المنشدين ببريحه والهاتفين بأوامره ممن قد أعد لذلك ان يردفه خلفه على جمل ويطوف به المحلة العجاجة، وهو قد ذكر له اسمه، واسم جمّاله، واسم البلد الذي هو منه، فيرفع عقيرته بذلك معرّفا بهذا الضال ومناديا باسم الجمال وبلده، الى أن يقع عليه، فيؤديه اليه. ولو لم يفعل ذلك لكان آخر عهده بصاحبه الا أن يلتقطه التقاطا أو يقع عليه اتفاقا. فهذا من بعض عجائب شؤون هذه المحلة، وعجائبها أكثر من أن يحيط بها الوصف. ولأهلها من قوة الجدة واليسار ما يعينهم على ما هم بسبيله، والملك بيد الله يؤتيه من يشاء. ولهؤلاء النسوة الخواتين في كل عام، إذا لم يحججن بأنفسهن، نواضح مسبلة مع الحاج يرسلنها مع ثقات يسقون أبناء السبيل في المواضع المعروف فيها الماء، وفي الطريق كله، وبعرفات، وبالمسجد الحرام، في كل يوم وليلة، فلهن في ذلك أجر عظيم، وما التوفيق الا بالله جلّ جلاله. فتسمع المنادي على النواضح يرفع صوته بالماء للسبيل، فيهطع اليه المرملون من الزاد والماء بقربهم وأباريقهم فيملأونها، ويقول المنادي في اشادته بصوته: أبقى الله الملكة خاتون، ابنة الملك الذي من أمره كذا، ومن شأنه كذا. ويحليه بحلاه، إعلانا باسمها،

واظهارا لفعلها، واستجلابا للدعاء لها من الناس، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا. وقد تقدم تفسير هذه اللفظة خاتون، وأنها عندهم بمنزلة السيدة أو ما يليق بهذا اللفظ الملوكي النسائي. ومن عجيب هذه المحلة أيضا، على عظمها وكبرها، وكونها وجود دنيا بأسرها، أنها اذا حطت رحالها، ونزلت منزلها، ثم ضرب الأمير طبله للإنذار بالرحيل، ويسمونه الكوس، لم يكن بين استقلال الرواحل بأوقارها ورحالها وركابها الا كلا ولا، فلا يكاد يفرغ الناقر من الضربة الثالثة الا والركائب قد أخذت سبيلها. كل ذلك من قوة الاستعداد، وشدة الاستظهار على الأسفار، والحول والقوة لله وحده، لا اله سواه. واسراؤها بالليل بمشاعيل موقدة يمسكها الرجالة بأيديهم، فلا تبصر قشاوة من القشاوات الا وأمامها مشعل، فالناس يسيرون منها بين كواكب سيارة توضح غسق الظلماء، وتباهي بها الأرض أنجم السماء. والمرافق الصناعية وغيرها من المصالح الدينية والمنافع الحيوانية كلها موجودة بهذه المحلة غير معدومة، ووصفها يطول، والأخبار عنها لا تنحصر. فلما كان ظهر يوم الاثنين اثر الصلاة أقلعنا من خليص مرتحلين، وتمادى سيرنا الى العشاء الآخرة، ثم نزلنا ونمنا نومة خفيفة، ثم ضرب الكوس فأقلعنا وأسرينا الى ضحى من النهار، ثم نزلنا مريحين الى أول الظهر من يوم الثلاثاء، ثم أقلعنا من منزلنا ذلك الى واد يعرف بوادي السمك، اسم يكاد يكون واقعا على غير مسمى، فنزلناه مع العشاء الآخرة، وأصبحنا به مقيمين يوم الأربعاء لتجديد حمل الماء، وهو بهذا الوادي في مستنقعات، وربما حفر عليه في الرمل، فأقلعنا منه أول ظهر يوم الأربعاء المذكور، ثم أجزنا مع الليل عقبة محجرة كؤودا ذهب فيها من الجمال كثير. ونزلنا في بسيط من الأرض، ونمنا الى نصف الليل، ثم رحلنا في مهمه افيح بسيط ممتد مد البصر، ورمله منثالة، فمشت الجمال فيها دون مقطرة لانفساح طريقها.

ثم نزلنا مريحين قائلين يوم الخميس التاسع والعشرين من ذي الحجة، وبيننا وبين بدر مقدار مرحلتين، فلما كان أول الظهر رحلنا الى مقربة من بدر فنزلنا بائتين. ثم قمنا قبل نصف الليل فوصلنا بدرا وقد ارتفع النهار. وهي قرية فيها حدائق نخل متصلة، وبها حصن في ربوة مرتفعة، ويدخل اليها على بطن واد بين جبال. وببدر عين فوارة، وموضع القليب الذي كان بإزائه الوقعة الاسلامية التي أعزت الدين وأذلت المشركين، هو اليوم نخيل، وموضع الشهداء خلفه، وجبل الرحمة الذي نزلت فيه الملائكة عن يسار الداخل منها الى الصفراء، وبإزائه جبل الطبول، وهو شبيه كثيب رمل ممتد. وهذه التسمية لإشاعة لهج بها أكثر المسلمين، وذلك أنهم يزعمون أن أصوات الطبول تسمع بها كل يوم جمعة، كأنها آثار انذارات باقية بما سلف من النصر النبوي في ذلك الموضع، والله أعلم بغيبه. وموضع عريش النبي، صلى الله عليه وسلم، يتصل بسفح؟؟؟ جبل الطبول المذكور، وموضع الوقيعة أمامه. وعند نخيل القليب مسجد، يقال: انه مبرك ناقة النبي، صلى الله عليه وسلم. وصح عندنا، على زعم أحد الأعراب الساكنين ببدر، أنهم يسمعون أصوات الطبول بالجبل المذكور، لكن عين لذلك كل يوم اثنين ويوم خميس. فعجبنا من زعمه كل العجب ولا يعلم حقيقة ذلك الا الله تعالى. وبين بدر والصفراء بريد، والطريق اليها في واد بين جبال تتصل بها حدائق النخيل، والعيون فيها كثيرة، وهو طريق حسن. وبالصفراء حصن مشيد، ويتصل به حصون كثيرة: منها حصنان يعرفان بالتوأمين، وحصن يعرف بالحسنية، وآخر يعرف بالجديد، الى حصون كثيرة، وقرى متصلة. شهر محرم سنة ثمانين وخمس مئة استهل هلاله ليلة السبت بموافقة الرابع عشر لشهر أبريل ونحن مقلعون من

بدر الى الصفراء، فبتنا باستهلاله بهذه البقعة الكريمة: بدر، حيث نصر الله المسلمين وقهر المشركين، والحمد لله على ذلك. وكان نزولنا بالصفراء اثر صلاة العشاء الآخرة. فأصبحنا يوم السبت، مستهل الهلال المذكور، مقيمين مريحين بها، ليتزود الناس منها الماء ويأخذوا نفس استراحة الى الظهر. ومنها الى المدينة المكرمة ان شاء الله ثلاثة أيام، فأقلعنا منها ظهر يوم السبت المذكور، وتمادى السير بنا الى اثر صلاة العشاء الآخرة، والطريق في واد متصل بين جبال، فنزلنا ليلة الأحد، ثم أقلعنا نصف الليل، وتمادى سيرنا الى ضحى من النهار، فنزلنا مريحين قائلين ببئر ذات العلم، ويقال: ان عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، قاتل الجن بها، وتعرف أيضا بالروحاء. والبئر المذكورة متناهية بعد الرشاء لا يكاد يلحق قعرها، وهي معينة. ورحلنا منها اثر صلاة الظهر من يوم الأحد، وتمادى بنا السير الى اثر صلاة العشاء الآخرة، فنزلنا شعب عليّ، رضي الله عنه، وأقلعنا منه نصف الليل الى تربان، الى البيداء، ومنها تبصر المدينة المكرمة، فنزلنا ضحى يوم الاثنين الثالث لمحرّم المذكور بوادي العقيق، وعلى شفيره مسجد ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمدينة من هذا الموضع على خمسة أميال، ومن ذي الحليفة حرم المدينة الى مشهد حمزة الى قباء، وأول ما يظهر للعين منارة مسجدها بيضاء مرتفعة، ثم رحلنا منها اثر صلاة الظهر من يوم الاثنين المذكور، وهو السادس عشر لأبريل، فنزلنا بظاهر المدينة الزهراء، والتربة البيضاء، والبقعة المشرفة بمحمد سيد الأنبياء، صلى الله عليه وسلم صلاة تتصل مع الأحيان والآناء. وفي عشي ذلك اليوم دخلنا الحرم المقدس لزيارة الروضة المكرمة المطهرة، فوقفنا بإزائها مسلّمين، ولترب جنباتها المقدسة مستلمين وصلينا بالروضة التي بين القبر المقدس والمنبر، واستلمنا أعواد المنبر القديمة التي كانت موطئ الرسول، صلى الله عليه وسلم، والقطعة الباقية من الجذع الذي حن اليه، صلى الله عليه وسلم، وهي ملصقة في عمود قائم أمام الروضة الصغيرة التي بين القبر والمنبر، وعن يمينك اذا استقبلت القبلة

شهر محرم سنة ثمانين وخمس مئة

فيها، ثم صلينا صلاة المغرب مع الجماعة. وكان من الاتفاق السعيد لنا أن وجدنا بعض فسحة في تلك الحال لاشتغال الناس بإقامة مضاربهم، وترتيب رحالهم، فتمكنا من الغرض المقصود، وفزنا بالمشهد المحمود، وأدينا حق السلام على الصاحبين الضجيعين: صديق الاسلام وفاروقه، وانصرفنا الى رحالنا مسرورين، ولنعمة الله علينا شاكرين. ولم يبق لنا أمل من آمال وجهتنا المباركة ولا وطر الا وقد قضيناه، ولا غرض من أغراضنا المأمولة الا وبلّغناه، وتفرغت الخواطر للإياب للوطن، نظم الله الشمل، وتمم علينا الفضل، والحمد لله على ما أولاه وأسداه، وأعاده من جميل صنعه وأبداه، فهو أهل الحمد والشكر ومستحقه لا اله سواه. ذكر مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر روضته المقدسة المسجد المبارك مستطيل، وتحفه من جهاته الأربع بلاطات مستديرة به، ووسطه كله صحن مفروش بالرمل والحصى، فالجهة القبيلة منها لها خمس بلاطات مستطيلة من غرب الى شرق، والجهة الجوفية لها أيضا خمس بلاطات على الصفة المذكورة، والجهة الشرقية لها ثلاث بلاطات، والجهة الغربية لها أربع بلاطات. والروضة المقدسة مع آخر الجهة القبلية مما يلي الشرق؛ وانتظمت من بلاطاته مما يلي الصحن في السعة اثنين ونيفت الى البلاط الثالث بمقدار أربعة أشبار، ولها خمسة أركان بخمس صفحات، وشكلها شكل عجيب، لا يكاد يتأتى تصويره ولا تمثيله، والصفحات الأربع محرفة من القبلة تحريفا بديعا، لا يتأتى لأحد معه استقبالها في صلاته لأنه ينحرف عن القبلة. وأخبرنا الشيخ الإمام العالم الورع، بقية العلماء، وعمدة الفقهاء، أبو ابراهيم اسحاق بن ابراهيم التونسي، رضي الله عنه، أن عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، اخترع ذلك في تدبير بنائها مخافة أن يتخذها الناس مصلى. واخذت ايضا من الجهة الشرقية سعة بلاطين فانتظم داخلها من أعمدة الأبلطة

ستة. وسعة الصفحة القبلية منها أربعة وعشرون شبرا، وسعة الصفحة الشرقية ثلاثون شبرا، وما بين الركن الشرقي الى الركن الجوفي صفحة سعتها خمسة وثلاثون شبرا. ومن الركن الجوفي الى الغربي صفحة سعتها أربعة وعشرون شبرا. وفي هذه الصفحة صندوق آبنوس، مختم بالصندل، مصفح بالفضة، مكوكب بها، هو قبالة رأس النبي، صلى الله عليه وسلم، وطوله خمسة أشبار، وعرضه ثلاثة أشبار، وارتفاعه أربعة أشبار. وفي الصفحة التي بين الركن الجوفي والركن الغربي موضع عليه ستر مسبل، يقال: إنه كان مهبط جبريل، عليه السلام. فجميع سعة الروضة المكرمة من جميع جهاتها مئتا شبر واثنان وسبعون شبرا. وهي مؤزرة بالرخام البديع النحت الرائع النعت. وينتهي الإزار منها الى نحو الثلث أو أقل يسيرا، وعليه من الجدار المكرم ثلث آخر، وقد علاه تضميخ المسك والطيب بمقدار نصف شبر، مسودا، مشققا، متراكما مع طول الأزمنة والأيام. والذي يعلوه من الجدار شبابيك عود متصلة بالسمك الأعلى، لأن أعلى الروضة المباركة متصل بسمك المسجد، والى حيز إزار الرخام تنتهي الأستار، وهي لازوردية اللون، مختمة بخواتيم بيض مثمنة ومربعة. وفي داخل الخواتيم دوائر مستديرة ونقط بيض تحف بها، فمنظرها منظر بديع الشكل. وفي اعلاها رسم مائل الى البياض. وفي الصفحة القبلية أمام وجه النبي، صلى الله عليه وسلم، مسمار فضة، هو أمام الوجه الكريم فيقف الناس أمامه للسلام. والى قدميه، صلى الله عليه وسلم، رأس أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ورأس عمر الفاروق مما يلي كتفي أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما فيقف المسلّم مستدبر القبلة ومستقبل الوجه الكريم، فيسلم ثم ينصرف يمينا الى وجه أبي بكر، ثم الى وجه عمر، رضي الله عنهما. وأمام هذه الصفحة المكرمة نحو العشرين قنديلا معلقة من الفضة، وفيها اثنان من ذهب. وفي جوفي الروضة المقدسة حوض صغير مرخّم، في قبلته شكل محراب، قيل: إنه كان بيت فاطمة، رضي الله عنها، ويقال: هو قبرها، والله أعلم بحقيقة ذلك. وعن يمين الروضة المكرمة المنبر الكريم، ومنه اليها اثنتان وأربعون خطوة،

وهو في الحوض المبارك الذي طوله أربع عشر خطوة، وعرضه ست خطا، وهو مرخم كله، وارتفاعه شبر ونصف، وبينه وبين الروضة الصغيرة، التي بين القبر الكريم والمنبر، وفيها جاء الأثر أنها روضة من رياض الجنة، ثماني خطوات. وفي هذه الروضة يتزاحم الناس للصلاة، وحق لهم ذلك. وبإزائها لجهة القبلة عمود، يقال: إنه مطبق على بقية الجذع الذي حن للنبي، صلى الله عليه وسلم، وقطعة منه في وسط العمود ظاهرة يقبلها الناس ويبادرون للتبرك بلمسها ومسح خدودهم فيها، وعلى حافتها في القبلة منها الصندوق. وارتفاع المنبر الكريم نحو القامة أو أزيد، وسعته خمسة أشبار، وطوله خمس خطوات، وأدراجه ثمانية، وله باب على هيئة الشباك مقفل يفتح يوم الجمعة، وطوله أربعة أشبار ونصف شبر. والمنبر مغشى بعود الآبنوس، ومقعد الرسول صلى الله عليه وسلم، من أعلاه ظاهر قد طبق عليه بلوح من الآبنوس غير متصل به يصونه من القعود عليه، فيدخل الناس أيديهم اليه ويتمسحون به تبركا بلمس ذلك المقعد الكريم. وعلى رأس رجل المنبر اليمنى، حيث يضع الخطيب يده اذا خطب، حلقة فضة مجوفة تشبه حلقة الخياط التي يضعها في اصبعه صفة لا صغرا لأنها أكبر منها، لاعبة تستدير في موضعها، يزعم الناس أنها لعبة الحسن والحسين، رضي الله عنهما، في حال خطبة جدّهما، صلوات الله وسلامه عليه. وطول المسجد الكريم مئة خطوة وست وتسعون خطوة، وسعته مئة وست وعشرون خطوة، وعدد سواريه مئتان وتسعون، وهي أعمدة متصلة بالسمك دون قسي تنعطف عليها، فكأنها دعائم قوائم، وهي من حجر منحوت قطعا قطعا ململمة مثقبة توضع أنثى في ذكر ويفرغ بينهما الرصاص المذاب الى أن تتصل عمودا قائما، وتكسى بغلالة جيار، ويبالغ في صقلها ودلكها فتظهر كأنها رخام أبيض. والبلاط المتصل بالقبلة من الخمسة بلاطات المذكورة تحف به مقصورة تكتنفه

طولا من غرب الى شرق، والمحراب فيها. ويصلي الإمام في الروضة الصغيرة المذكورة الى جانب الصندوق، وبينها وبين الروضة والقبر المقدس محمل كبير مدهون عليه مصحف كبير في غشاء مقفل عليه هو أحد المصاحف الأربعة التي وجه بها عثمان بن عفان، رضي الله عنه، الى البلاد. وبإزاء المقصورة الى جهة الشرق خزانتان كبيرتان محتويتان على كتب ومصاحف موقوفة على المسجد المبارك. ويليهما في البلاط الثاني لجهة الشرق أيضا دفة مطبقة على وجه الارض مقفلة هي على سرداب يهبط اليه على ادراج تحت الأرض يفضي الى خارج المسجد الى دار أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وهو كان طريق عائشة اليها. وبإزائها دار عمر بن الخطاب، ودار ابنه عبد الله، رضي الله عنهما. ولا شك أن ذلك الموضع هو موضع الخوخة المفضية لدار أبي بكر التي أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بإبقائها خاصة. وأمام الروضة المقدسة أيضا صندوق كبير هو للشمع والأنوار التي توقد أمام الروضة كل ليلة. وفي الجهة الشرقية بيت مصنوع من عود هو موضع مبيت بعض السدنة الحارسين للمسجد المبارك، وسدنته فتيان أحابيش وصقالب ظراف الهيئات نظاف الملابس والشارات، والمؤذن الراتب فيه أحد أولاد بلال، رضي الله عنه. وفي جهة جوف الصحن قبة كبيرة محدثة جديدة تعرف بقبة الزيت هي مخزن لجميع آلات المسجد المبارك وما يحتاج اليه فيه. وبإزائها في الصحن خمسة عشر نخلة. وعلى رأس المحراب، الذي في جدار القبة داخل المقصورة، حجر مربع أصفر قدر شبر في شبر، ظاهر البريق والبصيص، يقال: إنه كان مرآة كسرى، والله أعلم بذلك. وفي أعلاه داخل المحراب مسمار مثبت في جداره فيه شبه حق صغير لا يعرف من أي شيء هو، ويزعم أيضا أنه كان كأس كسرى، والله أعلم بحقيقة ذلك كله. ونصف جدار القبلة الأسفل رخام، موضوع إزارا على إزار، مختلف الصنعة

ذكر المشاهد المكرمة التي ببقيع الغرقد

واللون، مجزّع أبدع تجزيع. والنصف الأعلى من الجدار منزّل كله بفصوص الذهب المعروفة بالفسيفساء، قد أنتج الصناع فيه نتائج من الصنعة غريبة تضمنت تصاوير أشجار مختلفات الصفات مائلة الأغصان بثمرها. والمسجد كله على تلك الصفة، لكن الصنعة في جدار القبلة احفل. والجدار الناظر الى الصحن من جهة القبلة كذلك، ومن جهة الجوف أيضا. والغربي والشرقي الناظران الى الصحن مجردان أبيضان ومقرنصان قد زينا برسم يتضمن أنواعا من الأصبغة، الى ما يطول وصفه وذكره من الاحتفال في هذا المسجد المبارك المحتوي على التربة الطاهرة المقدسة، وموضعها أشرف، ومحلها أرفع من كل ما تزين به. وللمسجد المبارك تسعة عشر بابا، لم يبق منها مفتحا سوى أربعة في الغرب: منها اثنان، يعرف أحدهما بباب الرحمة، والثاني بباب الخشية، وفي الشرق اثنان: يعرف أحدهما بباب جبريل، عليه السلام، والثاني بباب الرجاء. ويقابل باب جبريل، عليه السلام، دار عثمان، رضي الله عنه، وهي التي استشهد بها. ويقابل الروضة المكرّمة، من هذه الجهة الشرقية، روضة جمال الدين الموصلي، رحمه الله، المشهور خبره وأثره، وقد تقدم ذكر مآثره. وأمام الروضة المكرمة شباك حديد مفتوح الى روضته، تنسم منها روحا وريحانا. وفي القبلة باب صغير واحد مغلق، وفي الجوف أربعة مغلقة، وفي الغرب خمسة مغلقة أيضا، وفي الشرق خمسة أيضا مغلقة؛ فكملت بالأربعة المفتوحة تسعة عشر بابا. وللمسجد المبارك ثلاث صوامع: إحداها في الركن الشرقي المتصل بالقبلة، والاثنتان في ركني الجهة الجوفية صغيرتان كأنهما على هيئة برجين، والصومعة الأولى المذكورة على هيئة الصوامع. ذكر المشاهد المكرمة التي ببقيع الغرقد فأول ما نذكر من ذلك مسجد حمزة، رضي الله عنه، وهو بقبلي الجبل

المذكور، والجبل جوفيّ المدينة، وهو على مقدار ثلاثة أميال. وعلى قبره، رضي الله عنه، مسجد مبني. والقبر برحبة جوفي المسجد، والشهداء، رضي الله عنهم، بإزائه، والغار الذي أوى اليه النبي، صلى الله عليه وسلم، بإزاء الشهداء أسفل الجبل. وحول الشهداء تربة حمراء هي التربة التي تنسب الى حمزة ويتبرك الناس بها. وبقيع الغرقد شرقي المدينة، تخرج اليه على باب يعرف بباب البقيع، وأول ما تلقى عن يسارك عند خروجك، من الباب المذكور، مشهد صفية عمة النبي، صلى الله عليه وسلم، أم الزبير بن العوام، رضي الله عنه، وأمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني، رضي الله عنه، وعليه قبة صغيرة مختصرة البناء. وأمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبي، صلى الله عليه وسلم، وعليه قبة بيضاء. وعلى اليمين منها تربة ابن لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، اسمه عبد الرحمن الأوسط، وهو المعروف بأبي شحمة، وهو الذي جلده أبوه الحد، فمرض ومات، رضي الله عنهما. وبإزائه قبر عقيل بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعبد الله بن جعفر الطيار، رضي الله عنه. وبإزائهم روضة فيها أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي، صلى الله عليه وسلم، ويليها روضة العباس بن عبد المطلب والحسن بن علي، رضي الله عنهما، وهي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور وعن يمين الخارج منه ورأس الحسن الى رجلي العباس، رضي الله عنهما، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشّيان بألواح ملصقة أبدع الصاق، مرصعة بصفائح الصفر، ومكوكبة بمساميره على أبدع صفة، وأجمل منظر. وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم ابن النبي، صلى الله عليه وسلم. ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويعرف ببيت الحزن، يقال: إنه الذي أوت اليه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى، صلى الله عليه وسلم، وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النورين، رضي الله عنه، وعليه قبة صغيرة مختصرة. وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أم علي، رضي

الله عنها وعن بنيها. ومشاهد هذا البقيع أكثر من أن تحصى لأنه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم أجمعين. وعلى قبر فاطمة المذكورة مكتوب: «ما ضم قبر أحد كفاطمة بنت أسد» رضي الله عنها وعن بنيها. وقباء قبلي المدينة، ومنها اليها نحو الميلين. وكانت مدينة كبيرة متصلة بالمدينة المكرمة. والطريق اليها بين حدائق النخل المتصلة. والنخيل محدق بالمدينة من جهاتها، وأعظمها جهة الغرب. والمسجد المؤسس على التقوى بقباء مجدد، وهو مربع مستوى الطول والعرض، وفيه مئذنة طويلة بيضاء تظهر على بعد، وفي وسطه مبرك الناقة بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وعليه حلق قصير شبه روضة صغيرة يتبرك الناس بالصلاة فيه. وفي صحنه، مما يلي القبلة، شبه محراب على مصطبة، هو أول موضع ركع فيه النبي، صلى الله عليه وسلم. وفي قبلته محاريب وله باب واحد من جهة الغرب، وهو سبعة بلاطات في الطول، ومثلها في العرض. وفي قبلة المسجد دار لبني النجار، وهي دار أبي أيوب الأنصاري. وفي الغرب من المسجد رحبة فيها بئر، وبإزائها على الشفير حجر متسع شبيه البيلة يتوضأ الناس فيه. ويلي دار بني النجار دار عائشة، رضي الله عنها، وبإزائها دار عمر ودار فاطمة ودار أبي بكر، رضي الله عنهم، وبإزائها بئر أريس حيث تفل النبي، صلى الله عليه وسلم، فعاد ماؤها عذبا بعد ما كان أجاجا، وفيه وقع خاتمة من يد عثمان، رضي الله عنه، والحديث مشهور. وفي آخر القرية تل مشرف يعرف بعرفات، يدخل اليه على دار الصفة حيث كان عمار وسلمان وأصحابهما المعروفون بأهل الصفة. وسمي ذلك التل عرفات لأنه كان موقف النبي، صلى الله عليه وسلم، يوم عرفة، ومنه زويت له الأرض فأبصر الناس في عرفات. وآثار هذه القرية المكرمة ومشاهدها كثيرة لا تحصى. وللمدينة المكرّمة أربعة أبواب، وهي تحت سورين، في كل سور باب يقابله

آخر، الواحد منها كله حديد، ويعرف باسمه باب الحديد؛ ويليه باب الشريعة ثم باب القبلة، وهو مغلق؛ ثم باب البقيع، وقد تقدّم ذكره. وقبل وصولك سور المدينة من جهة الغرب بمقدار غلوة تلقى الخندق الشهير ذكره الذي صنع النبي، صلى الله عليه وسلم، عند تحزب الأحزاب. وبينه وبين المدينة، عن يمين الطريق، العين المنسوبة للنبي، صلى الله عليه وسلم، وعليها حلق عظيم مستطيل، ومنبع العين وسط ذلك الحلق كأنه الحوض المستطيل. وتحته سقايتان مستطيلتان باستطالة الحلق. وقد ضرب بين كل سقاية وبين الحوض المذكور بجدار، فحصل الحوض محدقا بجدارين. وهو يمدّ السقايتين المذكورتين، ويهبط إليهما على أدراج عددها نحو الخمسة والعشرين درجا. وماء هذه العين المباركة يعمّ أهل الأرض فضلا عن أهل المدينة، فهي لتطهّر الناس واستقائهم وغسل أثوابهم. والحوض المذكور لا يتناول فيه غير الاستقاء خاصة صونا له ومحافظة عليه. وبمقربة منه، مما يلي المدينة، قبة حجر الزيت، يقال: إن الزيت رشح للنبي، صلى الله عليه وسلّم، من ذلك الحجر. ولجهة الجوف منه بئر بضاعة، وبإزائها لجهة اليسار جبل الشيطان حيث صرخ، لعنة الله، يوم أحد، حين قال: قتل نبيّكم. وعلى شفير الخندق المذكور حصن يعرف بحصن العزّاب، وهو خرب، قيل: إن عمر، رضي الله عنه، بناه لعزّاب المدينة. وأمامه، لجهة الغرب على البعد، بئر رومة التي اشترى نصفها عثمان، رضي الله عنه، بعشرين ألفا. وفي طريق أحد مسجد عليّ، رضي الله عنه، ومسجد سلمان، رضي الله عنه ومسجد الفتح الذي أنزلت فيه على النبي، صلى الله عليه وسلم سورة الفتح. وللمدينة المكرمة سقاية ثالثة داخل باب الحديد يهبط اليها على ادراج وماؤها معين. وهي بمقربة من الحرم الكريم. وبقبليّ هذا الحرم المكرم دار امام دار الهجرة مالك بن أنس، رضي الله عنه. ويطيف بالحرم كله شارع مبلط بالحجر المنحوت المفروش.

الخاتون بنت الأمير مسعود

فهذا ذكر ما تمكن على الاستعجال من آثار المدينة المكرمة ومشاهدها على جهة الاقتضاب والاختصار، والله وليّ التوفيق. الخاتون بنت الأمير مسعود ومن عجيب ما شاهدناه من الأمور البديعة الداخلة مدخل السمعة والشهرة، أن احدى الخواتين المذكورات، وهي بنت الأمير مسعود المتقدم ذكرها وذكر أبيها، وصلت عشي يوم الخميس السادس لمحرم، ورابع يوم وصولنا المدينة، الى مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، راكبة في قبتها، وحولها قباب كرائمها وخدمها، والقرّاء أمامها، والفتيان والصقالب بأيديهم مقامع الحديد يطوفون حولها، ويدفعون الناس أمامها، الى أن وصلت الى باب المسجد المكرم، فنزلت تحت ملحفة مبسوطة عليها، ومشت الى أن سلمت على النبي، صلى الله عليه وسلم، والخول أمامها، والخدام يرفعون أصواتهم بالدعاء لها، إشادة بذكرها، ثم وصلت الى الروضة الصغيرة التي بين القبر الكريم والمنبر فصلّت فيها تحت الملحفة، والناس يتزاحمون عليها، والمقامع تدفعهم عنها. ثم صلت في الحوض بازاء المنبر، ثم مشت الى الصفحة الغربية من الروضة المكرمة فقعدت في الموضع الذي يقال: انه كان مهبط جبريل، عليه السلام، وأرخي الستر عليها، واقام فتيانها وصقالبها وحجابها على رأسها خلف الستر تأمرهم بأمرها، واستجلبت معها الى المسجد حملين من المتاع للصدقة. فما زالت في موضعها الى الليل. وعظ رئيس العلماء وقد وقع الإيذان بوصول صدر الدين رئيس الشافعية الأصبهاني الذي

ورث النباهة والوجاهة في العلم كابرا عن كابر لعقد مجلس وعظ تلك الليلة، وكانت ليلة الجمعة السابع من المحرم. فتأخر وصوله الى هدء من الليل والحرم قد غصّ بالمنتظرين، والخاتون جالسة موضعها. وكان سبب تأخره تأخر أمير الحاج لأنه كان على عدة من وصوله، الى أن وصل ووصل الأمير، وقد أعد لرئيس العلماء المذكور وهو يعرف بهذا الاسم، توارثه عن أب فأب، كرسيّ بازاء الروضة المقدسة، فصعده، وحضر قراؤه أمامه، فابتدروا القراءة بنغمات عجيبة وتلاحين مطربة مشجية، وهو يلحظ الروضة المقدسة فيعلن بالبكاء. ثم أخذ في خطبة من انشائه سحرية البيان، ثم سلك في أساليب من الوعظ باللسانين، وأنشد أبياتا يديعة من قوله، منها هذا البيت، وكان يردده في كل فصل من ذكره، صلى الله عليه وسلم، ويشير الى الروضة: هاتيك روضته تفوح نسيما ... صلوا عليه وسلموا تسليما واعتذر من التقصير لهول ذلك المقام، وقال: عجبا للألكن الأعجم كيف ينطق عند أفصح العرب! وتمادى في وعظه الى أن أطار النفوس خشية ورقة، وتهافتت عليه الاعاجم معلنين التوبة، وقد طاشت البابهم، وذهلت عقولهم، فيلقون نواصيهم بين يديه، فيستدعي جلمين ويجزّها ناصية ناصية، ويكسو عمامته المجزوز الناصية، فيوضع عليه للحين عمامة أخرى من أحد قرائه أو جلسائه ممن قد عرف منزعه الكريم في ذلك، فبادر بعمامته لاستجلاب الغرض النفيس لمكارمه الشهيرة عندهم، فلا زال يخلع واحدة بعد أخرى، الى ان خلع منها عدّة وجزّ نواصي كثيرة، ثم ختم مجلسه بأن قال: معشر الحاضرين، قد تكلمت لكم ليلة بحرم الله عز وجل، وهذه الليلة بحرم رسوله، صلى الله عليه وسلم، ولا بد للواعظ من كدية، وأنا أسألكم حاجة ان ضمنتموها لي أرقت لكم ماء وجهي في ذكرها. فأعلن الناس كلهم بالإسعاف، وشهيقهم قد؟، فقال: حاجتي أن تكشفوا رؤوسكم، وتبسطوا أيديكم، ضارعين لهذا النبي الكريم في أن يرضى عني، ويسترضي الله عز وجل لي. ثم أخذ في تعداد

ذنوبه والاعتراف بها، فأطار الناس مائهم، وبسطوا أيديهم للنبي، صلى الله عليه وسلم، داعين له، باكين ستضرّعين، فما رأيت ليلة أكثر دموعا، ولا أعظم خشوعا، من تلك الليلة، ثم انفض المجلس وانفضّ الأمير وانفضّت الخاتون من موضعها. وعند وصول صدر الدين المذكور، أزيل الستر عنها وبقيت بين خدمها وكرائمها متلفعة في ردائها فعاينا من أمرها في الشهرة الملوكية عجبا. وأمر هذا الرجل صدر الدين عجيب في قعدده وأبهته، وملوكيته، وفخامة آلته، وبهاء حالته، وظاهر مكنته، ووفور عدته، وكثرة عبيده وخدمته، واحتفال حاشيته وغاشيته، فهو من ذلك على حال يقصر عنها الملوك. وله مضرب كالتاج العظيم في الهواء، مفتّح على أبواب على هيئة غريبة الوضع، بديعة الصنعة والشكل، تطل على المحلة من بعد، فتبصره ساميا في الهواء. وشأن هذا الرجل العظيم لا يستوعبه الوصف؛ شاهدنا مجلسه فرأينا رجلا يذوب طلاقة وبشرا، ويخفّ للزائر كرامة وبرّا، على عظيم حرمته وفخامة بنيته، وهو أعطي البسطتين علما وجسما، استجزناه فأجازنا نثرا ونظما. وهو أعظم من شاهدنا بهذه الجهات. وفي يوم الجمعة المذكور، وهو السابع من محرم، شاهدنا من أمور البدعة أمرا ينادى له الاسلام: يا لله يا للمسلمين. وذلك أن الخطيب وصل للخطبة، فصعد منبر النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو، على ما يذكر، على مذهب غير مرضي، ضد الشيخ الإمام العجمي الملازم صلاة الفريضة في المسجد المكرم. فذلك على طريقة من الخير والورع، لائقة بإمام مثل ذلك الموضع الكريم. فلما أذّن المؤذّنون قام هذا الخطيب المذكور للخطبة، وقد تقدمته الرايتان السوداوان وقد ركزتا بجانبي المنبر الكريم، فقام بينهما، فلما فرغ من الخطبة الأولى، جلس جلسة خالف فيها جلسة الخطباء المضروب بها المثل في السرعة، وابتدر الجمع مردة من الخدمة يخترقون الصوف، ويتخطون الرقاب، كدية على الأعاجم والحاضرين لهذا الخطيب القليل التوفيق، فمنهم من يطرح الثوب النفيس،

ومنهم من يخرج الشقة الغالية من الحرير فيعطيها، وقد أعدها لذلك، ومنهم من يخلع عمامته فينبذها، ومنهم من يتجرد عن برده فيلقي به، ومنهم من لا يتسع حاله لذلك فيسمح بفضلة من الخام، ومنهم من يدفع القراضة من الذهب، ومنهم من يمد يده بالدينار والدينارين الى غير ذلك، ومن النساء من تطرح خلخالها وتخرج خاتمها فتلقيه، الى ما يطول الوصف له من ذلك. والخطيب، في أثناء هذه الحال كلها، جالس على المنبر يلحظ هؤلاء المستجدين المستسعين على الناس بلحظات يكرّها الطمع ويعيدها الرغبة والاستزادة، الى أن كاد الوقت ينقضي، والصلاة تفوت، وقد ضج من له دين وصحة من الناس، وأعلن بالصياح وهو قاعد ينتظر اشتفاف صبابة الكدية وقد أراق عن وجهه ماء الحياء، فاجتمع له من ذلك السحت المؤلف كوم عظيم أمامه، فلما أرضاه قام وأكمل الخطبة وصلى بالناس. وانصرف أهل التحصيل باكين على الدين، يائسين من فلاح الدنيا متحققين أشراط الآخرة. ولله الأمر من قبل ومن بعد! وفي عشي ذلك اليوم المبارك كان وداعنا للروضة المباركة والتربة المقدسة، فيا له وداعا عجبا ذهلت له النفوس ارتياعا حتى طارت شعاعا، واستشرت به النفوس التياعا حتى ذابت انصداعا! وما ظنك بموقف يناجى بالتوديع فيه سيد الأولين والآخرين، وخاتم النبيين، ورسول رب العالمين؟ إنه لموقف تنفطر له الأفئدة، وتطيش به الالباب الثابتة المتئدة، فوا أسفاه وا أسفاه! كل يبوح لديه بأشواقه، ولا يجد بدا من فراقه، فما يستطيع الى الصبر سبيلا، ولا تسمع في هول ذلك المقام الا رنة وعويلا، وكلّ بلسان الحال ينشد: محبتي تقتضي مقامي ... وحالتي تقتضي الرحيلا بوّأنا الله بزيارة هذا النبي الكريم منزل الكرامة، وجعله شفيعا لنا يوم القيامة واحلنا من فضله في جواره دار المقامة، برحمته انه غفور رحيم، جواد كريم. وكان مقامنا بالمدينة المكرمة خمسة أيام، أولها يوم الاثنين وآخرها يوم الجمعة.

من المدينة إلى العراق

من المدينة إلى العراق وفي ضحوة يوم السبت الثامن لمحرّم المذكور، والحادي والعشرين من شهر أبريل، كان رحيلنا من المدينة المكرمة الى العراق، قرّب الله لنا المرام وسهّل علينا السبيل. واستصحبنا منها الماء لثلاثة أيام، فنزلنا يوم الاثنين، ثالث يوم رحيلنا المذكور، بوادي العروس، فتزود الناس منها الماء، يحفرون عليه في الأرض بئرا فينبع منها ماء عذب معين يروي الأمة التي لا يحصى لها عدد من هذه المحلة مع جمالها التي تنيف على عددها، ولله القدرة سبحانه. وصعدنا من وادي العروس الى ارض نجد، وخلفنا تهامة وراءنا، ومشينا في بسيطة من الأرض ينحسر الطرف دون أدناها ولا يبلغ مداها، وتنسمنا نسيم نجد وهواءها المضروب به المثل، فانتعشت النفوس والاجسام ببرد نسيمه وصحة هوائه. ونزلنا يوم الثلاثاء، رابع يوم رحيلنا، على ماء يعرف بماء العسيلة. ثم نزلنا يوم الأربعاء، خامس يوم رحيلنا، بموضع يعرف بالنّقرة، وفيها آبار ومصانع كالصهاريج العظام، وجدنا أحدها مملوءا بماء المطر، فعم جميع المحلة ولم ينضب على كثرة المحلة واستماحتها. وصفة مراحل هذا الأمير بالحاج أن يسري من نصف الليل الى ضحية، ثم ينزل الى أول الظهر، ثم يرحل وينزل مع العشاء الآخرة، ثم يقوم نصف الليل؛ هذا دأبه. ونزلنا ليلة الخميس الثالث عشر لمحرم، وسادس يوم رحيلنا، على ماء يعرف بالقارورة، وهي مصانع مملوءة بماء المطر، وهذا الموضع هو وسط أرض نجد. وما أرى أن في المعمور أرضا أفسح بسيطا، ولا أوسع أنفا، ولا أطيب نسيما ولا أصح هواء، ولا أمد استواء، ولا أصفى جوا، ولا انقى تربة، ولا أنعش للنفوس والابدان، ولا أحسن اعتدالا، في كل الأزمان، من ارض نجد. ووصف محاسنها يطول والقول فيها يتسع.

وفي يوم الخميس المذكور، مع ضحوة النهار، نزلنا بالحاجر، والماء فيه في مصانع، وربما حفروا عليه حفرا قريبة العمق يسمونها أحفارا، واحدها حفر. وكنا نتخوف في هذا الطريق قلة الماء، لا سيما مع عظم هذا الجمع الأنامي والأنعاميّ، الذين لو وردوا البحر لأنزفوه واستقوه، فأنزل الله من سحب رحمته ما أعاد الغيطان غدرانا، وأجرى المسول سيولا، وصيّر الوهاد مملوءة عهادا. فكنا نبصر مذانب الماء سائحة على وجه الأرض فضلا من الله ونعمة، ولطفا من الله بعباده ورحمة، والحمد لله على ذلك. وفي اليوم المذكور أجزنا بالحاجر واديين سيالين، واما البرك والقرارات فلا تحصى. وفي يوم الجمعة بعده نزلنا ضحوة النهار سميرة، وهي موضع معمور، وفي بسيطها شبه حصن يطيف به حلق كبير مسكون، والماء فيه في آبار كثيرة الا أنها زعاق ومستنقعات وبرك، وتبايع العرب فيها مع الحاج فيما أخرجوه من لحم وسمن ولبن، ووقع الناس على قرم وعيمة، فبادروا الابتياع لذلك بشقق الخام التي يستصحبونها لمشاراة الأعراب لأنهم لا يبايعونهم الا بها. وفي ضحوة يوم السبت بعده نزلنا بالجبل المخروق، وهو جبل في بيداء من الأرض، وفي صفحه الأعلى ثقب نافذ تخترقه الرياح. ثم رحنا من ذلك الموضع وبتنا بوادي الكروش على غير ماء، ثم أسرينا منه وأصبحنا على فيد يوم الأحد وهي حصن كبير مبرج مشرف في بسيط من الأرض يمتد حوله ربض يطيف به سور عتيق البنيان، وهو معمور بسكان من الأعراب، ينتعشون مع الحاج في التجارات والمبايعات وغير ذلك من المرافق، وهناك يترك الحاج بعض زادهم اعدادا للإرمال من الزاد عند انصرافهم، ولهم بها معارف يتركون أزودتهم عندهم. وهذا نصف الطريق من بغداد الى مكة على المدينة، شرّفها الله، أو أقل يسيرا، ومنها الى الكوفة اثنا عشر يوما في طريق سهلة طيّبة، والمياه فيها بحمد الله موجودة في مصانع كثيرة. ودخل أمير ألحاج هذا الموضع المذكور على تعبئة وأهبة ارهابا للمجتمعين به من الأعراب لئلا يداخلهم الطمع في الحاج، فهم يلحظونهم مستشرفين الى مكانهم لكنهم لا يجدون اليهم سبيلا، والحمد

لله. والماء بهذا الموضع كثير في آبار تمدها عيون تحت الأرض، ووجد الحاج فيها مصنعا قد اجتمع فيه الماء من المطر، فانتزف للحين، وامتلأت أيدي الحاج القرمين من أغنام العرب بالمبايعة المذكورة، فلم يبق مضرب ولا خيمة ولا ظلالة الا والى جانبها كبش او كبشان، بحسب القدرة والوجد. فعم جميع المحلة غنم العرب. وكان ذلك اليوم عيدا من الأعياد، وكذلك عمّتهم ايضا جمالهم لمن أراد الابتياع منهم من الجمالين وسواهم للاستظهار على الطريق. وأما السمن والعسل واللبن فلم يبق الا من تحمّل أو استعمل منها بقدر حاجته. وأقام الناس يومهم ذلك مريحين بها الى ظهر يوم الاثنين بعده، ثم أسروا نصف الليل ترتيب سيرهم المذكور قبل، ونزلوا ضحوة يوم الثلاثاء الثامن عشر لمحرم، وهو أول يوم من مايه، بموضع يعرف بالأجفر، وهو مشتهر عندهم بموضع جميل وبثينة العذريين، ثم أقلعنا ظهر يوم الثلاثاء المذكور على العادة ونزلنا بالبيداء مع العشاء الآخرة، ثم أسرينا منها ونزلنا ضحوة يوم الأربعاء بزرود، وهي وهدة في بسيط من الأرض فيها رمال منهالة، وبها حلق كبير داخله دويرات صغار هو شبيه الحصن، يعرف بهذه الجهات بالقصر. والماء بهذا الموضع في آبار غير عذبة، فنزلنا ضحوة يوم الخميس الموفي عشرين لمحرم، والثالث لمايه، بموضع يعرف بالثعلبية ولها مبنى شبه الحصن خرب لم يبق منه الا الحلق، وبإزائه مصنع كبير الدّور من أوسع ما يكون من الصهاريج وأعلاها، والمهبط اليه على أدراج كثيرة من ثلاث جهات، وكان فيه من ماء المطر ما عمّ جميع المحلة. ووصل الى هذا الموضع جمع كثير من العرب رجالا ونساء واتخذوا به سوقا عظيمة حفيلة للجمال والكباش والسمن واللبن وعلف الإبل، فكان يوم سوق نافقة. وبقي من هذا الموضع الى الكوفة من المناهل التي تعم جميع المحلة ثلاثة: أحدها زبالة، والثاني واقصة، والثالث منهل من ماء الفرات على مقربة من الكوفة. وبين هذه المناهل مياه موجودة لكنها لا تعمّ، وهذه الثلاثة المذكورة

هي التي تعم الناس والإبل وهي التي تردها رفها. وفي هذا المنهل الذي للثعلبية شاهدنا من غلبة الناس على الماء أمرا هائلا لا يكاد يشاهد مثله في تغلّب المدن والحصون بالقتال. وحسبك أن مات في ذلك الموضع ضغطا بشدة الزحام وغطا تحت الماء بالأقدام سبعة رجال بادروا لمورد الماء فحصلوا على مورد الفناء، رحمهم الله، وغفر لهم. وفي ضحوة يوم الجمعة بعده نزلنا بموضع يعرف ببركة المرجوم، وهي مصنع وقد بني له فيما يعلوه من الأرض مصبّ يؤدي الماء اليه على بعد وأحكم ذلك احكاما يدل على قدرة الاتساع وقوة الاستطاع. ولهذا المرجوم المذكور مشهد على قارعة الطريق وقد علا كأنه هضبة شماء، وكل مجتاز عليه لا بد أن يلقي عليه حجرا. ويقال: إن أحد الملوك رجمه لأمر استوجب به ذلك، والله أعلم. وبهذا الموضع بيوت كثيرة للعرب. وبادروا للحين بما لديهم من مرافق الأدم يبيعونها من الحاج. وكان هذا المصنع مملوءا من ماء المطر، فغمر الناس وعمهم، والحمد لله. وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد الى مكة هي آثار زبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور زوج هارون الرشيد وابنة عمه؛ انتدبت لذلك مدة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعمّ وفد الله تعالى كل سنة من لدن وفاتها الى الآن. ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذه الطريق، والله كفيل بمجازاتها، والرضا عنها. وفي ضحوة يوم السبت بعده نزلنا بموضع يعرف بالشّقوق، وفيه مصنعان ألفيناهما مملوءين ماء عذبا صافيا. فأراق الناس مياههم، وجدّدوا مياها طيبة، واستبشروا بكثرة الماء، وجدّدوا شكر الله على ذلك. وأحد هذين المصنعين صهريج عظيم الدائرة كبيرها لا يكاد يقطعه السابح الا عن جهد ومشقة. وكان الماء قد علا فيه أزيد من قامتين. فتنعّم الناس من مائه سباحة، واغتسالا، وتنظيف أثواب، وكان يومهم فيه من أيام راحة السفر. ومن لطائف صنع الله تعالى بوفده وزوار حرمه أن كانت هذه المصانع كلها

عند صعود الحاج من بغداد الى مكة دون ماء، فأرسل الله من سحب رحمته ما أترعها ماء معدا لصدر الحاج، فضلا من الله، ولطفا بوفده المنقطعين إليه. ورحنا من ذلك الموضع المذكور وبتنا بموضع يعرف بالتنانير، وكان فيه أيضا مصنع مملوء ماء. وأسرينا منه ليلة يوم الاحد الثالث والعشرين لمحرم، واجتزنا سحرا بزبالة، وهي قرية معمورة، وفيها قصر مشيد من قصور الأعراب ومصنعان للماء وآبار، وهي من مناهل الطريق الشهيرة. ونزلنا عندما ارتفع النهار من اليوم المذكور بالهيثمين، وفيها مصنعان للماء، ولا نكاد نمر بحول الله يوما بموضع الا والماء يوجد فيه، والشكر لله على ذلك. وبتنا ليلة الاثنين الرابع والعشرين لمحرم المذكور على مصنع مملوء ماء، فسقى الناس بالليل واستقوا. وهذا الموضع هو دون العقبة المعروفة بعقبة الشيطان. ومع الصباح من يوم الاثنين المذكور صعدنا العقبة، وليست بالطويلة الكؤود، ولكن ليس بالطريق وعر غيرها، فهي شهيرة بهذا السبب. ونزلنا عند ارتفاع النهار على مصنع دون ماء وأجزنا مصانع كثيرة، وما منها مصنع الا والى جانبه قصر مبني من قصور الأعراب، والطريق كلها مصانع. ورضي الله عن التي اعتنت بسبيل وفد الله هذا الاعتناء. ثم نزلنا ضحوة يوم الثلاثاء بعده بواقصة، وهي وهدة من الأرض منفسحة فيها مصانع للماء مملوءة وقصر كبير وبإزائه أثر بناء، وهي معمورة بالأعراب، وهي آخر مناهل الطريق، وليس بعدها الى الكوفة منهل مشهور الا مشارع ماء الفرات، ومنها الى الكوفة ثلاثة أيام، وبها يتلقى الحاج كثير من أهل الكوفة وهم مستجلبون إليهم الدقيق والخبز والتمر والأدم والفواكه الحاضرة في ذلك الوقت. ويهنئ الناس بعضهم بعضا بالسلامة، والحمد لله عز وجل، على ما منّ به من التيسير والتسهيل حمدا يستوجب المزيد، ويستصحب من كريم صنعه المعهود. وبتنا ليلة الأربعاء السادس والعشرين بموضع يعرف بلورة، وفيها مصنع

ذكر مدينة الكوفة

كبير وجده الناس مملوءا فجددوا الاستسقاء ورفهوا الإبل. ثم أسرينا منها، وأجزنا سحر يوم الأربعاء المذكور بموضع فيه آثار بناء يعرف بالقرعاء، وفيه أيضا مصنع ماء، وله ستة مخازن، وهي صهاريج صغار، تؤدي الماء الى المصانع، استقى الناس فيها وسقوا. وكثرت المصانع حتى لا تكاد الكتب تحصرها ولا تضبطها، والحمد لله على منته وسابغ نعمته. وبتنا ليلة الخميس بعده على مصنع عظيم مملوء ماء، ثم نزلنا ضحوة اليوم المذكور بمنارة تعرف بمنارة القرون، وهي منارة في بيداء من الأرض، لا بناء حولها قد قامت في الأرض كأنها عمود مخروط من الآجر، قد تداخل فيها من الخواتيم الآجرية مثمنة ومربعة أشكال بديعة. ومن غريب أمرها أنها مجللة كلها قرون غزلان مثبتة فيها، فتلوح كظهر الشيهم. وللناس فيها خبر يمنع ضعف سنده من اثباته. وعلى مقربة من هذه المنارة قصر ذو بروج مشيدة، وبإزائه مصنع عظيم وجد مملوءا ماء، والحمد لله على ما منّ به. واجتزنا عشيّ يوم الخميس المذكور على العذيب، وهو واد خصيب، وعليه بناء، وحوله فلاة خصيبة، فيها مسرح للعيون وفرجة. وأعلمنا أن بمقربة منه بارقا. ووصلنا منه الى الرحبة، وهي بمقربة منه، وفيها بناء وعمارة، ويجري الماء فيها من عين نابعة في أعلى القرية المذكورة. وبتنا أمامها بمقدار فرسخ، ثم أسرينا ليلة الجمعة الثامن والعشرين لمحرم المذكور نصف الليل واجتزنا على القادسية، وهي قرية كبيرة، فيها حدائق من النخيل، ومشارع من ماء الفرات وأصبحنا بالنجف، وهو بظهر الكوفة كأنه حد بينها وبين الصحراء، وهو صلب من الأرض منفسح متسع، للعين فيه مراد استحسان وانشراح. ووصلنا الكوفة مع طلوع الشمس من يوم الجمعة المذكور، والحمد لله على ما أنعم به من السلامة. ذكر مدينة الكوفة هي مدينة كبيرة عتيقة البناء، قد استولى الخراب على أكثرها، فالغامر

منها أكثر من العامر. ومن أسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورة لها، فهي لا تزال تضربها، وكفاك بتعاقب الايام والليالي محييا ومفنيا. وبناء هذه المدينة بالآجر خاصة، ولا سور لها. والجامع العتيق آخرها مما يلي شرقي البلد، ولا عمارة تتصل به من جهة الشرق. وهو جامع كبير، في الجانب القبلي منه خمسة أبلطة، وفي سائر الجوانب بلاطان. وهذه البلاطات على أعمدة من السواري الموضوعة من صم الحجارة، المنحوتة قطعة على قطعة، مفرغة بالرصاص، ولا قسي عليها، على الصفة التي ذكرناها في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهي في نهاية الطول، متصلة بسقف المسجد، فتحار العيون في تفاوت ارتفاعها. فما أرى في الأرض مسجدا أطول أعمدة منه ولا أعلى سقفا. وبهذا الجامع المكرم آثار كريمة: فمنها بيت بإزاء المحراب عن يمين المستقبل القبلة، يقال: انه كان مصلى ابراهيم الخليل، صلى الله عليه وسلم، وعليه ستر أسود صونا له، ومنه خرج الخطيب لابسا ثياب السواد الخطبة. فالناس يزدحمون على هذا الموضع المبارك للصلاة فيه. وعلى مقربة منه، مما يلي الجانب الأيمن من القبلة، محراب محلق عليه بأعواد الساج مرتفع عن صحن البلاط كأنه مسجد صغير، وهو محراب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، وفي ذلك الموضع ضربه الشقي اللعين عبد الرحمن بن ملجم بالسيف، فالناس يصلون فيه باكين داعين. وفي الزاوية من آخر هذا البلاط القبلي، المتصل بآخر البلاط الغربي، شبيه مسجد صغير محلق عليه أيضا بأعواد الساج، هو موضع مفار التنور الذي كان آية لنوح، عليه السلام، وفي ظهره، خارج المسجد، بيته الذي كان فيه، وفي ظهره بيت آخر يقال إنه كان متعبد إدريس، صلى الله عليه وسلم، ويتصل بهما فضاء متصل بالجدار القبلي من المسجد، يقال إنه منشأ السفينة. ومع آخر هذا الفضاء دار علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، والبيت الذي غسل فيه. ويتصل به بيت يقال إنه كان بيت ابنة نوح، صلى الله عليه وسلم. وهذه الآثار الكريمة تلقيناها من ألسنة أشياخ من أهل البلد فأثبتناها حسبما

ذكر مدينة الحلة

نقلوها إلينا، والله أعلم بصحة ذلك كله. وفي الجهة الشرقية من الجامع بيت صغير يصعد إليه فيه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب، رضي الله عنه. وفي جوفي الجامع على بعد منه يسير سقاية كبيرة من ماء الفرات فيها ثلاثة أحواض كبار. وفي غربي المدينة على مقدار فرسخ منها المشهد الشهير الشأن المنسوب لعلي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، وحيث بركت ناقته وهو محمول عليها مسجى ميتا على ما يذكر. ويقال: إن قبره فيه، والله أعلم بصحة ذلك. وفي هذا المشهد بناء حفيل على ما ذكر لنا، لأنا لم نشاهده بسبب أن وقت المقام بالكوفة ضاق عن ذلك، لأنا لم نبت فيها سوى ليلة يوم السبت. وفي غدائه رحلنا ونزلنا قريب الظهر على نهر منسوب من الفرات. والفرات من الكوفة على مقدار نصف فرسخ مما يلي الجانب الشرقي. والجانب الشرقي كله حدائق نخيل ملتفة يتصل سوادها ويمتد امتداد البصر. ورحلنا من ذلك الموضع وبتنا ليلة الأحد منسلخ محرم بمقربة من الحلة ثم جئناها يوم الأحد المذكور. ذكر مدينة الحلة هي مدينة كبيرة، عتيقة الوضع، مستطيلة، لم يبق من سورها الا حلق من جدار ترابي مستدير بها. وهي على شط الفرات، يتصل بها من جانبها الشرقي ويمتد بطولها. ولهذه المدينة أسواق حفيلة جامعة للمرافق المدينة والصناعات الضرورية. وهي قوية العمارة، كثيرة الخلق، متصلة حدائق النخيل داخلا وخارجا، فديارها بين حدائق النخيل، وألفينا بها جسرا عظيما معقودا على مراكب كبار متصلة من الشط تحف بها من جانبها سلاسل من حديد كالأذرع المفتولة عظما وضخامة ترتبط الى خشب مثبتة في كلا الشطين، تدل على عظم الاستطاع والقدرة؛ أمر الخليفة بعقده على الفرات اهتماما بالحاج واعتناء بسبيله

وكانوا قبل ذلك يعبرون في المراكب، فوجدوا هذا الجسر قد عقده الخليفة في مغيبهم، ولم يكن عند شخوصهم الى مكة شرّفها الله. وعبرنا الجسر ظهر يوم الأحد المذكور ونزلنا بشط الفرات على مقدار فرسخ من البلد، وهذا النهر كاسمه فرات، هو من أعذب المياه وأخفها، وهو نهر كبير زخار، تصعد فيه السفن وتنحدر. والطريق من الحلة الى بغداد أحسن طريق وأجملها، في بسائط من الأرض وعمائر، تتصل بها القرى يمينا وشمالا. ويشق هذه البسائط أغصان من ماء الفرات تتسرب بها وتسقيها، فمحرثها لاحد لاتساعه وانفساحه، فللعين في هذا الطريق مسرح انشراح، وللنفس مراح انبساط وانفساح، والأمن فيها متصل، بحمد الله سبحانه وتعالى. شهر صفر سنة ثمانين هلاله على الكمال من ليلة الاثنين، بموافقة الرابع عشر من مايه، استهل هلاله ونحن على شط الفرات بظاهر مدينة الحلة. وفي ضحوة يوم الاثنين المذكور رحلنا وأجزنا جسرا على نهر يسمى النيل، وهو فرع متشعب من الفرات، وكان عليه ازدحام، فغرق كثير من الناس والدواب في الماء. فتنحينا مريحين الى أن انفرج ذلك المزدحم وعبرنا على سلامة وعافية، والحمد لله. ومن مدينة الحلة يتسلسل الحاج أرسالا وأفواجا افواجا: فمنهم المتقدم، والمتوسط، والمتأخر، لا يعرج المستعجل على المتعذر، ولا المتقدم على المتأخر، فحيثما شاؤوا من طريقهم نزلوا وأراحوا واستراحوا، وسكنت نفوسهم من روعة نقر الكوس الذي كانت الافئدة ترجف له بدارا للرحيل واستعجالا للقيام، فربما

كان النائم منهم يهذي بنقر الكوس فيقوم عجلا وجلا ثم يتحقق أنها من أضغاث أحلامه فيعود الى منامه. ومن جملة الدواعي لافتراقهم كثرة القناطير المعترضة في طريقهم الى بغداد، فلا تكاد تمشي ميلا الا وتجد قنطرة على نهر متفرع من الفرات، فتلك الطريق أكثر الطرق سواقي وقناطير، وعلى أكثرها خيام فيها رجال محترسون للطريق اعتناء من الخليفة بسبيل الحاج دون اعتراض منهم لاستنفاع بكدية أو سواها. فلو زاحم ذلك البشر تلك القناطير دفعة لما فرغوا من عبورها ولتراكموا وقوعا بعض على بعض. والأمير طشتكين المتقدم الذكر يقيم بالحلة ثلاثة أيام الى أن يتقدم جميع الحاج ثم يتوجه الى حضرة خليفته. وهذه الحلة المذكورة طاعة بيده للخليفة. وسيرة هذا الامير بالرفق بالحاج والاحتياط عليهم والاحتراس لمقدمتهم وساقتهم وضم نشر ميمنتهم وميسرتهم سيرة محمودة، وطريقته في الحزم وحسن النظر طريقة سديدة، وهو من التواضع ولين الجانب وقرب المكان على وتيرة سعيدة، نفعه الله ونفع المسلمين به. وفي عصر يوم الاثنين المذكور نزلنا بقرية تعرف بالقنطرة كثيرة الخصب، كبيرة الساحة، متدفقة جداول الماء، وارفة الظلال بشجرات الفواكه، من أحسن القرى واجملها، وبها قنطرة على فرع من فروع الفرات كبيرة محدودبة، يصعد اليها وينحدر عنها، فتعرف القرية بها، وتعرف أيضا بحصن بشير. وألفينا حصاد الشعير بهذه الجهات في هذا الوقت الذي هو نصف مايه. ورحلنا من القرية المذكورة سحر يوم الثلاثاء الثاني لصفر، فنزلنا قائلين ضحوته بقرية تعرف بالفراش، كثيرة العمارة، يشقها الماء، وحولها بسيط أخضر جميل المنظر. وقرى هذه الطريق من الحلة الى بغداد على هذه الصفة من الحسن والاتساع. وفي هذه القرية المذكورة خان كبير يحدق به جدار عال له شرفات صغار.

ثم رحلنا منها ونزلنا عشي النهار بقرية تعرف بزريران، وهذه القرية من أحسن قرى الارض، وأجملها منظرا، وافسحها ساحة، وأوسعها اختطاطا، وأكثرها بساتين ورياحين وحدائق نخيل. وكان بها سوق تقصر عنه أسواق المدن. وحسبك من شرف موضعها ان دجلة تسقي شرقيها، والفرات يسقي غربيها، وهي كالعروس بينهما، والبسائط والقرى والمزارع متصلة بين هذين النهرين الشريفين المباركين. ومن شرف هذه القرية أيضا أن بإزائها، لجهة الشرق منها، إيوان كسرى وأمامها بيسير مدائنه. وهذا الإيوان بناء عال في الهواء، شديد البياض، لم يبق من قصوره إلا البعض، فعايناها على مقدار الميل سامية مشرفة مشرقة، وأما المدائن فخراب، اجتزنا عليها سحر يوم الأربعاء الثالث لصفر فعاينا من طولها واتساعها مرأى عجيبا. ومن فضائل هذه القرية أيضا أن بالشرق منها بمقدار نصف فرسخ مشهد سلمان الفارسي، رضي الله عنه. فما اختصت تربتها بهذا الدفين المبارك، رضي الله عنه، إلا لفضل تربتها. والقرية على شط دجلة، وهي تعترض بينها وبين المشهد الكريم المذكور، وكنا سمعنا أن هواء بغداد ينبت السرور في القلب، ويبعث النفس دائما على الانبساط والأنس، فلا تكاد تجد فيها إلا جذلان طربا، وان كان نازح الدار مغتربا، حتى حللنا بهذا الموضع المذكور، وهو على مرحلة منها، فلما نفحتنا نوافح هوائها، ونقعنا الغلة ببرد مائها، أحسسنا من نفوسنا، على حال وحشة الاغتراب، دواعي من الإطراب، واستشعرنا بواعث فرح كأنه فرحة الغياب بالإياب، وهبّت بنا محركات من الإطراب، أذكرتنا معاهد الأحباب، في ريعان الشباب. هذا للغريب النازح الوطن، فكيف للوافد فيها على أهل وسكن! سقى الله باب الطاق صوب غمامة ... ورد الى الاوطان كلّ غريب وفي سحر يوم الأربعاء المذكور رحلنا من القرية المذكورة واجتزنا على مدائن

شهر صفر سنة ثمانين

كسرى حسبما ذكرناه وانتهينا الى صرصر وهي أخت زريران المذكورة حسنا أو قريب منها. ويمر بجانبها القبلي نهر كبير متفرع من الفرات عليه جسر معقود على مراكب تحف بها من الشط الى الشط سلاسل حديد عظام، على الصفة التي ذكرناها في جسر الحلة، فعبرناه وأجزنا القرية ونزلنا قائلين، وبيننا وبين بغداد نحو ثلاثة فراسخ. وبهذه القرية سوق حفيلة ومسجد جامع كبير جديد. وهي من القرى التي تملأ النفوس بهجة وحسنا. وهذان النهران الشريفان دجلة والفرات قد أغنت شهرتهما عن وصفهما، وملتقاهما ما بين واسط والبصرة، ومنها انصبابهما الى البحر، ومجراهما من الشمال الى الجنوب، وحسبهما ما خصهما الله به من البركة هما وأخاهما النيل، مما هو مذكور مشهور، ورحلنا من ذلك الموضع قبيل الظهر من يوم الأربعاء المذكور وجئنا بغداد قبيل العصر، والمدخل اليها على بساتين وبسائط يقصر الوصف عنها. ذكر مدينة السلام بغداد هذه المدينة العتيقة، وان لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية الهاشمية، قد ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منها الا شهير اسمها. وهي بالإضافة الى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب اليها كالطلل الدارس، والأثر الطامس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي من المستوفز العقلة والنظر الا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها منها كالمرآة المجلوة بين صفحتين أو العقد المنتظم بين لبتين، فهي تردها ولا تظمأ، وتتطلع منها في مرآة صقيلة لا تصدأ، والحسن الحريميّ بين هوائها ومائها ينشأ، هو من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة، ففتن الهوى، الا ان يعصم الله منها، مخوفة.

مجالس علم ووعظ

وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم الا من يتصنع بالتواضع رياء، ويذهب بنفسه عجبا وكبرياء، يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء، ويستصغرون عمن سواهم الاحاديث والأنباء، قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود كله يصغر بالاضافة لبلده، فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم، كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادا أو عبادا سواهم، يسحبون أذيالهم أشرا وبطرا، ولا يغيّرون في ذات الله منكرا، يظنون أن أسنى الفخار في سحب الإزار، ولا يعلمون أن فضله، بمقتضى الحديث المأثور، في النار، يتبايعون بينهم بالذهب قرضا، وما منهم من يحسن الله فرضا، فلا نفقة فيها الا من دينار تقرضه، وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه، لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف، ولا تقع من أهل موازينها ومكاييلها الا على من ثبت له الويل في سورة التطفيف، لا يبالون في ذلك بعيب، كأنهم من بقايا مدين قوم النبي شعيب. فالغريب فيهم معدوم الإرفاق، متضاعف الإنفاق، لا يجد من اهلها الا من يعامله بنفاق، أو يهش اليه هشاشة انتفاع واسترفاق، كأنهم من التزام هذه الخلة القبيحة على شرط اصطلاح بينهم واتفاق، فسوء معاشرة أبنائها يغلب على طبع هوائها ومائها، ويعلل حسن المسموع من أحاديثها وابنائها، أستغفر الله الا فقهاءهم المحدثين، ووعاظهم المذكرين، لا جرم أن لهم في طريقة الوعظ والتذكير، ومداومة التنبيه والتبصير، والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير، مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تعالى ما يحط كثيرا من أوزارهم، ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم ويمنع القارعة الصماء أن تحل بديارهم، لكنهم معهم يضربون في حديد بارد، ويرومون تفجير الجلامد، فلا يكاد يخلو يوم من أيام جمعاتهم من واعظ يتكلم فيه، فالموفق فيهم لا يزال في مجلس ذكر أيامه كلها، لهم في ذلك طريقة مباركة ملتزمة. مجالس علم ووعظ فأول من شاهدنا مجلسه منهم الشيخ الإمام رضيّ الدين القزويني رئيس

الشافعية، وفقيه المدرسة النظامية، والمشار اليه بالتقديم في العلوم الأصولية. حضرنا مجلسه بالمدرسة المذكورة اثر صلاة العصر من يوم الجمعة الخامس لصفر المذكور، فصعد المنبر، وأخذ القراء أمامه في القراءة على كراسي موضوعة، فتوّقوا وشوّقوا، وأتوا بتلاحين معجبة، ونغمات محرجة مطربة، ثم اندفع الشيخ الإمام المذكور فخطب خطبة سكون ووقار وتصرف في أفانين من العلوم، من تفسير كتاب الله عز وجل، وايراد حديث رسوله، صلى الله عليه وسلم، والتكلم على معانيه. ثم رشقته شآبيب المسائل من كل جانب، فأجاب، وما قصر، وتقدم وما تأخر، ودفعت اليه عدة رقاع منها، فجمعها جملة في يده وجعل يجاوب على كل واحدة منها وينبذ بها الى أن فرغ منها. وحان المساء فنزل وافترق الجمع. فكان مجلسه مجلس علم ووعظ، وقورا هينا لينا، ظهرت فيه البركة والسكينة، ولم تقصر عن ارسال عبرتها فيه النفس المستكينة، ولا سيما آخر مجلسه، فإنه سرت حميا وعظه الى النفوس حتى أطارتها خشوعا، وفجرتها دموعا، وبادر التائبون اليه سقوطا على يده ووقوعا، فكم ناصية جزّ، وكم مفصل من مفاصل التائبين طبّق بالموعظة وحزّ فبمثل مقام هذا الشيخ المبارك ترحم العصاة، وتتغمد الجناة، وتستدام العصمة والنجاة، والله تعالى يجازي كل ذي مقام عن مقامه، ويتغمد ببركة العلماء الأولياء عباده العاصين من سخطه وانتقامه برحمته وكرمه، انه المنعم الكريم، لا رب سواه، ولا معبود الا اياه. وشهدنا له فيها مجلسا ثانيا اثر صلاة العصر من يوم الجمعة الثاني عشر من الشهر المذكور، وحضر ذلك اليوم مجلسه سيد العلماء الخراسانية، ورئيس الأئمة الشافعية، ودخل المدرسة النظامية بهزّ عظيم وتطريف آماق، تشوقت له النفوس، فأخذ الإمام المتقدم الذكر في وعظه مسرورا بحضوره، ومتجملا به، فأتى بأفانين من العلوم، على حسب مجلسه المتقدم الذكر. ورئيس العلماء المذكور هو صدر الدين الخجندي المتقدم الذكر في هذا التقييد، المشتهر المآثر

والمكارم، المقدم بين الأكابر والأعاظم. ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه، الإمام الأوحد، جمال الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي، بازاء داره على الشط بالجانب الشرقي وفي آخره على اتصال من قصور الخليفة وبمقربة من باب البصيلة آخر أبواب الجانب الشرقي، وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد، وفي جوف الفرا كل الصيد، آية الزمان، وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة ومالك أزمة الكلام في النظم والنثر، والغائص في بحر فكره على نفائس الدّرّ، فاما نظمه فرضي الطباع، مهياري الانطباع، وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بقسّ وسحبان. ومن أبهر آياته، وأكبر معجزاته، أنه يصعد المنبر ويبتدئ القرّاء بالقرآن، وعددهم نيف على العشرين قارئا، فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القراءة يتلونها على نسق بتطريب وتشويق، فاذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات الى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتوا بآيات مشتبهات، لا يكاد المتقد الخاطر يحصلها عددا، أو يسميها نسقا. فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن في ايراد خطبته، عجلا مبتدرا، وأفرغ في أصداف الأسماع من ألفاظه دررا، وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته فقرا، وأتى بها على نسق القراءة لها، لا مقدما ولا مؤخرا. ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها. فلو أن أبدع من في مجلسه تكلف تسمية ما قرأ القراء آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك، فكيف بمن ينتظمها مرتجلا، ويورد الخطبة الغراء بها عجلا! «أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون» ، «ان هذا لهو الفضل المبين» فحدث ولا حرج عن البحر، وهيهات ليس الخبر عنه كالخبر!

ثم انه اتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ وآيات بيّنات من الذكر، طارت لها القلوب اشتياقا، وذابت بها الأنفس احتراقا، الى أن علا الضجيج، وتردد بشهقاته النشيج، واعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل يلقي ناصيته بيده فيجزها، ويمسح على رأسه داعيا له، ومنهم من يغشى عليه فريفع في الأذرع اليه، فشاهدنا هولا يملأ النفوس انابة وندامة، ويذكرها هول يوم القيامة، فلو لم نركب ثبج البحر، ونعتسف مفازات القفر الا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل، لكانت الصفقة الرابحة والوجهة المفلحة الناجحة، والحمد لله على أن منّ بلقاء من تشهد الجمادات بفضله، ويضيق الوجود عن مثله. وفي أثناء مجلسه ذلك يبتدرون المسائل، وتطير اليه الرقاع، فيجاوب أسرع من طرفة عين. وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، لا اله سواه. ثم شاهدنا مجلسا ثانيا له، بكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر، بباب بدر في ساحة قصور الخليفة، ومناظره مشرفة عليه. وهذا الموضع المذكور هو من حرم الخليفة، وخص بالوصول اليه والتكلم فيه ليسمعه من تلك المناظر الخليفة ووالدته ومن حضر من الحرم. ويفتح الباب للعامة فيدخلون الى ذلك الموضع، وقد بسط بالحصر. وجلوسه بهذا الموضع كل يوم خميس. فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس المذكور، وقعدنا الى أن وصل هذا الحبر المتكلم، فصعد المنبر، وأرخى طيلسانه عن رأسه تواضعا لحرمة المكان، وقد تسطر القراء أمامه على كراسي موضوعة، فابتدروا القراءة على الترتيب، وشوّقوا ما شاءوا، وأطربوا ما أرادوا. وبدرت العيون بارسال الدموع. فلما فرغوا من القراءة، وقد احصينا لهم تسع آيات من سور مختلفات، صدع بخطبته الزهراء الغرّاء، واتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات، ومشى الخطبة على فقرة آخر آية منها في الترتيب الى أن أكملها، وكانت الآية «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ

مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» فتمادى على هذا السين وحسن أي تحسين، فكان يومه في ذلك أعجب من أمسه، ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له ولوالدته، وكنى عنها بالستر الأشرف، والجناب الأرأف. ثم سلك سبيله في الوعظ، كل ذلك بديهة لا روية؛ ويصل كلامه في ذلك بالآيات المقروءات على النسق مرة أخرى. فأرسلت وابلها العيون، وابدت النفوس سر شوقها المكنون وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين، وبالتوبة معلنين، وطاشت الألباب والعقول، وكثر الوله والذهول، وصارت النفوس لا تملك تحصيلا، ولا تميّز معقولا، ولا تجد للصبر سبيلا. ثم في أثناء مجلسه ينشد بأشعار من النسيب مبرحة التشويق، بديعة الترقيق، تشعل القلوب وجدا، ويعود موضعها النسيبي زهدا. وكان آخر ما أنشده من ذلك، وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المقاتل سهام ذلك الكلام: أين فؤادي أذابه الوجد ... وأين قلبي فما صحا بعد يا سعد زدني جوى بذكرهم ... بالله قل لي فديت يا سعد ولم يزل يرددها والانفعال قد أثر فيه، والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من فيه، الى أن خاف الإفحام، فابتدر القيام، ونزل عن المنبر دهشا عجلا، وقد أطار القلوب وجلا، وترك الناس على أحر من الجمر، يشيعونه بالمدامع الحمر. فمن معلن بالانتحاب، ومن متعفر في التراب. فيا له من مشهد ما أهول مرآه، وما أسعد من رآه! نفعنا الله ببركته، وجعلنا ممن فاز به بنصيب من رحمته، بمنّه وفضله. وفي أول مجلسه أنشد قصيدا نيّر القبس، عراقي النفس، في الخليفة، أوله: في شغل من الغرام شاغل ... من هاجه البرق بسفح عاقل يقول فيه عند ذكر الخليفة: يا كلمات الله كوني عوذة ... من العيون للإمام الكامل

ففرغ من انشاده وقد هز المجلس طربا، ثم أخذ في شأنه وتمادى في ايراد سحر بيانه، وما كنا نحسب أن متكلما في الدنيا يعطي من ملكة النفوس والتلاعب بها ما أعطي هذا الرجل، فسبحان من يخص بالكمال من يشاء من عباده، لا اله غيره. وشاهدنا بعد ذلك مجالس لسواه من وعاظ بغداد ممن نستغرب شأنه، بالإضافة الى ما عهدناه من متكلمي الغرب. وكنا قد شاهدنا بمكة والمدينة، شرّفها الله، مجالس من قد ذكرناه في هذا التقييد، فصغرت، بالإضافة لمجلس هذا الرجل الفذ، في نفوسنا قدرا، ولم نستطب لها ذكرا. وأين تقعان مما أريد وشتان بين اليزيدين، وهيهات! الفتيان كثير، والمثل بمالك يسير! ونزلنا بعده بمجلس يطيب سماعه، ويروق استطلاعه. وحضرنا له مجلسا ثالثا، يوم السبت الثالث عشر لصفر، بالموضع المذكور بازاء داره على الشط الشرقي، فأخذت معجزاته البيانية مأخذها، فشاهدنا من أمره عجبا، صعد بوعظه أنفاس الحاضرين سحبا، وأسال من أدمعهم وابلا سكبا، ثم جعل يردد في آخر مجلسه أبياتا من النسيب شوقا زهديا وطربا، الى أن غلبته الرقة فوثب من أعلى منبره والها مكتئبا، وغادر الكل متندما على نفسه منتحبا، لهفان ينادي: يا حسرتا واحربا، والمنادون يدورون بنحيبهم دور الرحى، وكل منهم بعد من سكرته ما صحا، فسبحان من خلقه عبرة لأولي الألباب، وجعله لتوبة عباده أقوى الأسباب، لا اله سواه. ثم نرجع الى ذكر بغداد: هي كما ذكرناه جانبان: شرقي وغربي، ودجلة بينهما فأما الجانب الغربي فقد عمه الخراب واستولى عليه، وكان المعمور أولا. وعمارة الجانب الشرقي محدثة لكنه مع استيلاء الخراب عليه يحتوي على سبع عشرة محلة، كل محلة منها مدينة مستقلة، وفي كل واحدة منها الحمامان والثلاثة والثمانية منها بجوامع يصلى فيها الجمعة، فأكبرها القرية، وهي التي نزلنا فيها بربض منها يعرف بالمربعة على شط دجلة بمقربة من الجسر، فحملته دجلة بمدها السيلي، فعاد الناس يعبرون

ابا ولزرق، والزوارق فيها لا تحصى كثرة، فالناس ليلا ونهارا من تمادي العبور فيها في نزهة متصلة رجالا ونساء. والعادة أن يكون لها جسران: أحدهما مما يقرب من دور الخليفة والآخر فوقه لكثرة الناس. والعبور في الزوارق لا ينقطع منها. ثم الكرخ، وهي مدينة مسورة. ثم محلة باب البصرة، وهي أيضا مدينة، وبها جامع المنصور، رحمه الله، وهو جامع كبير عتيق البنيان حفيله. ثم الشارع، وهي ايضا مدينة، فهذه الأربع أكبر المحلات. وبين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة، فيها المارستان الشهير ببغداد، وهو على دجلة، وتتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس، ويطالعون احوال المرضى به، ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون اليه، وبين أيديهم قومة يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يدخل اليه من دجلة. وأسماء سائر المحلات يطول ذكرها، كالوسيطة، وهي بين دجلة ونهر يتفرع من الفرات وينصب في دجلة، يجيء فيه جميع المرافق التي في الجهات التي يسقيها الفرات. ويشق على باب البصرة الذي ذكرنا محلته نهر آخر منه وينصب أيضا في دجلة. ومن أسماء المحلات العتابية، وبها تصنع الثياب العتّابية، وهي حرير وقطن مختلفات الألوان. ومنها الحربية، وهي أعلاها، وليس وراءها الا القرى الخارجة عن بغداد الى أسماء يطول ذكرها. وباحدى هذه المحلات قبر معروف الكرخي، وهو رجل من الصالحين مشهور الذكر في الأولياء. وفي الطريق الى باب البصرة مشهد حفيل البنيان

دار الخلافة

داخلة قبر متسع السنام، عليه مكتوب: هذا قبر عون ومعين، من أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وفي الجانب الغربي أيضا قبر موسى بن جعفر، رضي الله عنهما، الى مشاهد كثيرة ممن لم تحضرنا تسميته من الأولياء والصالحين والسلف الكريم، رضي الله عن جميعهم. وبأعلى الشرقية خارج البلد محلة كبيرة بازاء محلة الرصافة، وبالرصافة كان باب الطاق المشهور على الشط، وفي تلك المحلة مشهد حفيل البنيان، له قبة بيضاء سامية في الهواء، فيه قبر الإمام أبي حنيفة، رضي الله عنه، وبه تعرف المحلة. وبالقرب من تلك المحلة قبر الإمام احمد بن حنبل، رضي الله عنه. وفي تلك الجهة أيضا قبر أبي بكر الشبلي، رحمه الله، وقبر الحسين بن منصور الحلاج. وببغداد من قبور الصالحين كثير، رضي الله عنهم. وبالغربية هي البساتين والحدائق، ومنها تجلب الفواكه الى الشرقية. دار الخلافة واما الشرقية فهي اليوم دار الخلافة، وكفاها بذلك شرفا واحتفالا! ودور الخليفة مع آخرها، وهي تقع منها في نحو الربع أو أزيد، لأن جميع العباسيين في تلك الديار معتقلون اعتقالا جميلا لا يخرجون ولا يظهرون، ولهم المرتبات القائمة بهم. وللخليفة من تلك الديار جزء كبير، قد اتخذ فيها المناظر المشرفة والقصور الرائقة والبساتين الأنيقة. وليس له اليوم وزير انما له خديم يعرف بنائب الوزارة، يحضر الديوان المحتوي على أموال الخلافة وبين يديه الكتب فينفذ الأمور؛ وله قيم على جميع الديار العباسية، وأمين على سائر الحرم الباقيات من عهد جده وأبيه وعلى جميع من تضمه الحرمة الخلافية، يعرف بالصاحب مجد الدين استاذ الدار، هذا لقبه، ويدعى له إثر الدعاء للخليفة، وهو قلما يظهر للعامة اشتغالا بما هو بسبيله من أمور تلك الديار وحراستها والتكفل

بمغالقها وتفقدها ليلا ونهارا. ورونق هذا الملك انما هو على الفتيان والأحابش المجابيب، منهم فتى اسمه خالص، وهو قائد العسكرية كلها، أبصرناه خارجا أحد الأيام وبين يديه وخلفه أمراء الأجناد من الأتراك والديلم وسواهم، وحوله نحو خمسين سيفا مسلولة في أيدي رجال قد احتفوا به فشاهدنا من أمره عجبا في الدهر، وله القصور والمناظر على دجلة. وقد يظهر الخليفة في بعض الأحيان بدجلة راكبا في زورق. وقد يصيد في بعض الأوقات في البرية، وظهوره على حالة اختصار تعمية لأمره على العامة، فلا يزداد أمره مع تلك التعمية الا اشتهارا. وهو مع ذلك يحب الظهور للعامة ويؤثر التحبب لهم، وهو ميمون النقيبة عندهم قد استسعدوا بأيامه رخاء وعدلا وطيب عيش فالكبير والصغير منهم داع له. أبصرنا هذا الخليفة المذكور، وهو أبو العباس أحمد الناصر لدين الله بن المستضيء بنور الله محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف، ويتصل نسبه الى أبي الفضل جعفر المقتدر بالله، الى السلف فوقه من أجداده الخلفاء، رضوان الله عليهم بالجانب الغربي أمام منظرته به وقد انحدر عنها صاعدا في الزورق الى قصره بأعلى الجانب الشرقي على الشط، وهو في فتاء من سنه، اشقر اللحية صغيرها كما اجتمع بها وجهه، حسن الشكل، جميل المنظر، أبيض اللون، معتدل القامة، رائق الرواء، سنه نحو الخمس وعشرين سنة، لابسا ثوبا أبيض شبه القباء برسوم ذهب فيه، وعلى رأسه قلنسوة مذهبة مطوقة بوبر أسود من الأوبار الغالية القيمة المتخذة للبّاس مما هو كالفنك وأشرف، متعمدا بذلك زي الأتراك تعمية لشأنه، لكن الشمس لا تخفى وان سترت، وذلك عشية يوم السبت السادس لصفر سنة ثمانين، وأبصرناه أيضا عشي يوم الاحد بعده متطلعا من منظرته المذكورة بالشط الغربي، وكنا نسكن بمقربة منها. والشرقية حفيلة الأسواق عظيمة الترتيب، تشتمل من الخلق على بشر لا

الحمامات والمساجد والمدارس

يحصيهم الا الله تعالى الذي أحصى كل شيء عددا. وبها من الجوامع ثلاثة، كل يجتمع فيها: جامع الخليفة متصل بداره، وهو جامع كبير، وفيه سقايات عظيمة ومرافق كثيرة كاملة، مرافق الوضوء والطهور؛ وجامع السلطان، وهو خارج البلد، ويتصل به قصور تنسب للسلطان أيضا المعروف بشاه شاه، وكان مدبّر أمر أجداد هذا الخليفة، وكان يسكن هنالك، فابتنى الجامع أمام مسكنه؛ وجامع الرصافة، وهو على الجانب الشرقي المذكور، وبينه وبين جامع هذا السلطان المذكور مسافة نحو الميل، والرصافة تربة الخلفاء العباسيين، رحمهم الله. فجميع جوامع البلد بغداد المجمّع فيها أحد عشر. الحمامات والمساجد والمدارس وأما حماماتها فلا تحصى عدة، ذكر لنا أحد أشياخ البلد أنها بين الشرقية والغربية نحو الألفي حمام، وأكثرها مطلية بالقار مسطحة به، فيخيل للناظر أنه رخام اسود صقيل. وحمامات هذه الجهات أكثرها على هذه الصفة لكثرة القار عندهم، لأن شأنه عجيب، يجلب من عين بين البصرة والكوفة، وقد أنبط الله ماء هذه العين ليتولد منه القار، فهو يصير في جوانبها كالصلصال، فيجرف ويجلب وقد انعقد، فسبحان خالق ما يشاء، لا اله سواه. واما المساجد بالشرقية والغربية فلا يأخذها التقدير فضلا عن الاحصاء. والمدارس بها نحو الثلاثين، وهي كلها بالشرقية، وما منها مدرسة الا وهي يقصر القصر البديع عنها وأعظمها وأشهرها النظامية وهي التي ابتناها نظام الملك، وجددت سنة أربع وخمس مئة. ولهذه المدارس أوقاف عظيمة وعقارات محبسة تتصير الى الفقهاء المدرسين بها، ويجرون بها على الطلبة ما يقوم بهم، ولهذه البلاد في أمر هذه المدارس والمارستانات شرف عظيم وفخر مخلد، فرحم الله وواضعها الأول ورحم من تبع ذلك السنن الصالح.

أبواب الشرفية الأربعة

أبواب الشرفية الأربعة وللشرقية أربعة أبواب: فأولها، وهو في أعلى الشط، باب السلطان، ثم باب الظفرية، ثم يليه باب الحلبة، ثم باب البصلية. هذه الأبواب التي هي في السور المحيط بها من أعلى الشط الى أسفله، هو ينعطف عليها كنصف دائرة مستطيلة. وداخلها في الأسواق أبواب كثيرة. وبالجملة فشأن هذه البلدة أعظم من أن يوصف، وأين هي مما كانت عليه؟ هي اليوم داخلة تحت قول حبيب: لا انت انت ولا الديار ديار الرحيل من بغداد إلى الموصل واتفق رحيلنا من بغداد الى الموصل اثر صلاة العصر من يوم الاثنين الخامس عشر لصفر، وهو الثامن والعشرون لمايه، فكان مقامنا بها ثلاثة عشر يوما، ونحن في صحبة الخاتونين: خاتون بنت مسعود المتقدمة الذكر في هذا التقييد، وخاتون ام عز الدين صاحب الموصل، وصحبتهما حاج الشام والموصل وأرض الأعاجم المتصلة بالدروب التي الى طاعة الأمير مسعود والد احدى الخاتونين المذكورتين، وتوجه حاج خراسان وما يليها صحبة الخاتون الثالثة ابنة الملك الدقوس، وطريقهم على الجانب الشرقي من بغداد، وطريقنا نحن الى الموصل على الجانب الغربي منها. وهاتان الخاتونان هما أميرتا هذا العسكر الذي توجهنا فيه وقائدتاه، والله لا يجعلنا تحت قول القائل: ضاع الرّعيل ومن يقوده ولهما أجناد برسمهما، وزادهما الخليفة جندا يشيعونهما مخافة العرب الخفاجيين

المضرين بمدينة بغداد، وفي تلك العشية التي رحلنا فيها فجأتنا خاتون المسعودية المترفة شبابا وملكا، وهي قد استقلت في هودج موضوع على خشبتين معترضتين بين مطيتين الواحدة امام الأخرى وعليهما الجلال المذهبة، وهما تسيران بها سير النسيم سرعة ولينا، وقد فتح لها أمام الهودج وخلفه بابان، وهي ظاهرة في وسطه متنقبة، وعصابة ذهب على رأسها، وأمامها رعيل من فتيانها وجندها، وعن يمينها جنائب المطايا والهماليج العتاق، ووراءها ركب من جواريها قد ركبن المطايا والهماليج على السروج المذهبة وعصبن رؤوسهن بالعصائب الذهبيات والنسيم يتلاعب بعذباتهن، وهن يسرن خلف سيدتهن سير السحاب. ولها الرايات والطبول والبوقات تضرب عند ركوبها وعند نزولها. وأبصرنا من نخوة الملك النّسائيّ واحتفاله رتبة تهز الأرض هزا، وتسحب أذيال الدنيا عزا. ويحق أن يخدمها العز، ويكون لها هذا الهز، فان مسافة مملكة أبيها نحو الأربعة أشهر، وصاحب القسطنطينية يؤدي اليه الجزية، وهو من العدل في رعيته على سيرة عجيبة، ومن موالاة الجهاد على سنة مرضية. وأعلمنا أحد الحجاج من أهل بلدنا أن في هذا العام الذي هو عام تسعة وسبعين الخالي عنا استفتح من بلاد الروم نحو الخمسة وعشرين بلدا، ولقبه عز الدين، واسم أبيه مسعود، وهذا الاسم غلب عليه، وهو عريق في المملكة عن جد فجد. ومن شرف خاتون هذه واسمها سلجوقة، أن صلاح الدين استفتح آمد بلد زوجها نور الدين، وهي من أعظم بلاد الدنيا، فترك البلد لها كرامة لأبيها وأعطاها المفاتيح، فبقي ملك زوجها بسببها. وناهيك من هذا الشأن! والملك ملك الحي القيوم، يؤتي الملك من يشاء لا إله سواه. فكان مبيتنا تلك الليلة بإحدى قرى بغداد، نزلناها وقد مضى هدء من الليل، وبمقربة منها دجيل، وهو نهر يتفرع من دجلة يسقي تلك القرى كلها. وغدونا من ذلك الموضع، ضحى يوم الثلاثاء السادس عشر لصفر المذكور، والقرى متصلة في طريقنا، فاتصل سيرنا الى إثر صلاة الظهر، ونزلنا وأقمنا باقي

ذكر مدينة تكريت

يومنا ليلحق من تأخر من الحجاج ومن تجار الشام والموصل. ثم رحلنا قبيل نصف الليل، وتمادى سيرنا الى أن ارتفع النهار، فنزلنا قائلين ومريحين على دجيل. وأسرينا الليل كله، فنزلنا مع الصباح بمقربة من قرية تعرف بالحربة، من أخصب القرى وأفسحها. ورحلنا من ذلك الموضع وأسرينا الليل كله، ونزلنا مع الصباح من يوم الخميس الثامن عشر لصفر على شط دجلة بمقربة من حصن يعرف بالمعشوق، ويقال: انه كان متفرّجا لزبيدة ابنة عم الرشيد وزوجه، وعلى قبالة هذا الموضع في الشط الشرقي مدينة سرّ من رأى، وهي اليوم عبرة من رأى: أين معتصمها، وواثقها، ومتوكلها؟! مدينة كبيرة قد استولى الخراب عليها الا بعض جهات منها هي اليوم معمورة. وقد أطنب المسعودي، رحمة الله، في وصفها ووصف طيب هوائها ورائق حسنها. وهي كما وصف وإن لم يبق الا الأثر من محاسنها، والله وارث الأرض ومن عليها، لا اله غيره. فأقمنا بهذا الموضع طول يومنا مستريحين، وبيننا وبين مدينة تكريت مرحلة، ثم رحلنا منه وأسرينا الليل كله، فصبحنا تكريت مع الفجر من يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر، وهو أول يوم من يونيه، فنزلنا ظاهرها مستريحين ذلك اليوم. ذكر مدينة تكريت هي مدينة كبيرة واسعة الأرجاء، فسيحة الساحة، حفيلة الأسواق، كثيرة المساجد، غاصة بالخلق، أهلها أحسن أخلاقا وقسطا في الموازين من أهل بغداد، ودجلة منها في جوفيها، ولها قلعة حصينة على الشط هي قصبتها المنيعة، ويطيف بالبلد سور قد أثر الوهن فيه. وهي من المدن العتيقة المذكورة. ورحلنا مع عشي اليوم المذكور واسرينا طول الليل، وأصبحنا يوم السبت الموفي عشرين منه بشط دجلة، فنزلنا مريحين. ومن ذالك الموضع يستصحب الماء ليوم وليلة، فاستصحبناه. ورحلنا ذلك اليوم ضحوة، فأسرينا الى الليل،

ونزلنا لأخذ نفس راحة واختلاس سنة نوم، فهوّمنا هنيهة، ورحلنا وأسأدنا الى الصباح. وتمادى سيرنا الى أن ارتفع النهار من يوم الأحد بعده، فنزلنا قائلين بقرية على شط دجلة تعرف بالجديدة، وبمقربة منها قرية كبيرة اجتزنا عليها تعرف بالعقر وعلى رأسها ربوة مرتفعة كانت حصنا لها، وأسفلها خان جديد بأبراج وشرف حفيل البنيان وثيقه. والقرى والعمائر من هذا الموضع الى الموصل متصلة. ومن هنا ينتثر انتظام الحاج في المشي فينبسط كل في طريقه متقدما ومتأخرا، وبطيئا ومستعجلا، آمنا مطمئنا. فرحلنا منها قريب العصر، وتمادى سيرنا الى المغرب، ونزلنا آخذين غفوة سنة خلال ما تتعشى الإبل. ورحلنا قبل نصف الليل وأدلجنا الى الصباح. وفي ضحوة هذا اليوم، وهو يوم الاثنين الثاني والعشرين لصفر، والرابع ليونيه، مررنا بموضع يعرف بالقيارة من دجلة، وبالجانب الشرقي منها، وعن يمين الطريق الى الموصل، فيه وهدة من الأرض سوداء كأنها سحابة قد أنبط الله فيها عيونا كبارا وصغارا تنبع بالقار، وربما يقذف بعضها بحباب منه كأنها الغليان، ويصنع له أحواض يجتمع فيها فتراه شبه الصلصال منبسطا على الأرض أسود أملس، صقيلا رطبا، عطر الرائحة، شديد التعلك، فيلصق بالأصابع لأول مباشرة من اللمس، وحول تلك العيون بركة كبيرة سوداء يعلوها شبه الطحلب الرقيق أسود تقذفه الى جوانبها فيرسب قارا، فشاهدنا عجبا كنا نسمع به فنستغرب سماعه. وبمقربة من هذه العيون على شط دجلة عين أخرى منه كبيرة، أبصرنا على البعد منها دخانا، فقيل لنا: ان النار تشعل فيه اذا أرادوا نقله فتنشّف النار رطوبته المائية وتعقّده، فيقطعونه قطرات ويحملونه، وهو يعم جميع البلاد الى الشام الى عكة الى جميع البلاد البحرية، والله يخلق ما يشاء، سبحانه تعالى جدّه، وجلت قدرته، لا رب غيره. ولا شك أن على هذه الصفة هي العين التي ذكر لنا أنها بين الكوفة والبصرة، وقد ذكرنا أمرها في هذا التقييد، ومن

ذكر مدينة الموصل

هذا الموضع الى الموصل مرحلتان. وأجزنا تلك العيون القارية ونزلنا قائلين، ثم رحنا وسرنا الى العشي، ونزلنا بقرية تعرف بالعقيبة، ومنها تصبّح الموصل ان شاء الله. فأسرينا منها بعد نصف الليل ووصلنا الموصل عند ارتفاع النهار من يوم الثلاثاء الثالث والعشرين لصفر، والخامس من يونيه، ونزلنا بربضها في أحد الخانات بمقربة من الشط. ذكر مدينة الموصل هذه المدينة عتيقة ضخمة، حصينة فخمة، قد طالت صحبتها للزمن، فأخذت أهبة استعدادها لحوادث الفتن، قد كادت أبراجها تلتقي انتظاما لقرب مسافة بعضها من بعض، وباطن الداخل منها بيوت، بعضها على بعض، مستديرة بجداره المطيف بالبلد كله، كأنه قد تمكن فتحها فيه لغلظ بنيته وسعة وضعه، وللمقاتلة في هذه البيوت حرز وقاية، وهي من المرافق الحربية. وفي أعلى البلد قلعة عظيمة قد رص بناؤها رصا، ينتظمها سور عتيق البنية مشيّد البروج، وتتصل بها دور السلطان. وقد فصل بينهما وبين البلد شارع متّسع يمتد من أعلى البلد الى اسفله. ودجلة شرقي البلد، وهي متصلة بالسور، وأبراجه في مائها. وللبلدة ربض كبير فيه المساجد والحمامات والخانات والأسواق، وأحدث فيه بعض أمراء البلدة، وكان يعرف بمجاهد الدين، جامعا على شط دجلة، ما أرى وضع جامع أحفل منه، بناء يقصر الوصف عنه وعن تزيينه وترتيبه، وكل ذلك نقش في الآجر. وأما مقصورته فتذكر بمقاصير الجنة، ويطيف به شبابيك حديد، تتصل بها مصاطب تشرف على دجلة لا مقعد أشرف منها ولا أحسن، ووصفه يطول، وانما وقع الإلماع بالبعض جريا الى الاختصار، وأمامه مارستان حفيل من بناء مجاهد الدين المذكور. وبنى أيضا داخل البلد وفي سوقه قيسارية للتجار، كأنها الخان العظيم،

تنغلق عليها أبواب حديد، وتطيف بها دكاكين وبيوت، بعضها على بعض، قد جلي ذلك كله في أعظم صورة من البناء المزخرف الذي لا مثيل له. فما أرى في البلاد قيسارية تعدلها. وللمدينة جامعان: أحدهما جديد، والآخر من عهد بني أمية. وفي صحن هذا الجامع قبة، داخلها سارية رخام قائمة، قد خلخل جيدها بخمسة خلاخل مفتولة فتل السوار من جرم رخامها، وفي أعلاها خصة رخام مثمنة يخرج عليها أنبوب من الماء خروج انزعاج وشدة، فيرتفع في الهواء أزيد من القامة كأنه قضيب من البلور معتدل ثم ينعكس الى أسفل القبة. ويجمّع في هذين الجامعين القديم والحديث، ويجمّع أيضا في جامع الربض. وفي المدينة مدارس للعلم نحو الستّ أو أزيد على دجلة، فتلوح كأنها القصور المشرفة. ولها مارستان حاشا الذي ذكرناه في الربض. وخص الله هذه البلدة بتربة مقدسة فيها مشهد جرجيس، صلى الله عليه وسلم، وقد بني فيه مسجد، وقبره في زاوية من أحد بيوت المسجد عن يمين الداخل اليه. وهذا المسجد هو بين الجامع الجديد وباب الجسر، يجده المار الى الجامع من باب الجسر عن يساره. فتبرّكنا بزيارة هذا القبر المقدس والوقوف عنده، نفعنا الله بذلك. ومما خص الله به هذه البلدة أن في الشرق منها اذا عبرت دجلة على نحو الميل تل التوبة، وهو التل الذي وقف به يونس، عليه السلام، بقومه ودعا ودعوا حتى كشف الله عنهم العذاب، وبمقربة منه على قدر الميل أيضا العين المباركة المنسوبة اليه، ويقال: انه أمر قومه بالتطهر فيها واضمار التوبة، ثم صعدوا على التل داعين. وفي هذا التل بناء عظيم هو رباط يشتمل على بيوت كثيرة ومقاصر ومطاهر وسقايات، يضم الجميع باب واحد، وفي وسط ذلك البناء بيت ينسدل عليه ستر وينغلق دونه باب كريم مرصع كله، يقال: انه كان الموضع الذي وقف فيه

المشاهد الدنيوية الحفيلة

يونس، صلى الله عليه وسلم، ومحراب هذا البيت يقال. انه كان بيته الذي كان يتعبد فيه، ويطيف بهذا البيت شمع كأنه جذوع النخل عظما، فيخرج الناس الى هذا الرباط كل ليلة جمعة ويتعبدون فيه. وحول هذا الرباط قرى كثيرة، ويتصل بها خراب عظيم، يقال: انه كان مدينة نينوى، وهي مدينة يونس، عليه السلام، وأثر السور المحيط بهذه المدينة ظاهر، وفرج الأبواب فيه بيّنة، وأكوام أبراجه مشرفة. بتنا بهذا الرباط المبارك ليلة الجمعة السادس والعشرين لصفر، ثم صبحنا العين المباركة، وشربنا من مائها وتطهرنا فيها وصلينا في المسجد المتصل بها، والله ينفع بالنية في ذلك بمنّه وكرمه. واهل هذه البلدة على طريقة حسنة، يستعملون أعمال البرّ، فلا تلقى منهم الا ذا وجه طلق وكلمة لينة، ولهم كرامة للغرباء واقبال عليهم، وعندهم اعتدال في جميع معاملاتهم. فكان مقامنا في هذه البلدة أربعة أيام. المشاهد الدنيوية الحفيلة ومن أحفل المشاهد الدنيوية المريبة بروز شاهدناه يوم الأربعاء ثاني يوم وصولنا الموصل للخاتونين: أم عز الدين صاحب الموصل، وبنت الأمير مسعود المتقدم ذكرها، فخرج الناس على بكرة أبيهم ركبانا ومشاة، وخرج النساء كذلك، وأكثرهن راكبات، وقد اجتمع منهن عسكر جرار. وخرج امير البلد للقاء والدته مع زعماء دولته. فدخل الحاج المواصلة صحبة خاتونهم على احتفال وأبهة قد جللوا اعناق ابلهم بالحرير الملون، وقلدوها القلائد المزوقة. ودخلت خاتون المسعودية تقود عسكر جواريها وأمامها عسكر رجالها يطوفون بها، وقد جللت قبتها كلها سبائك ذهب مصوغة أهلة ودنانير سعة الأكف وسلاسل وتماثيل بديعة الصفات، فلا تكاد تبين من القبة موضعا، ومطيتاها تزحفان بها زحفا، وصخب ذلك الحلي يسد المسامع، ومطاياها مجللة الأعناق

بالذهب، ومراكب جواريها كذلك؛ مجموع ذلك الذهب لا يحصى تقديره. وكان مشهدا أبهت الأبصار، وأحدث الاعتبار، وكل ملك يفنى الا ملك الواحد القهار، لا شريك له. وأخبرنا غير واحد من الثقات، ممن يعرف حال خاتون هذه، أنها موصوفة بالعبادة والخير، مؤثرة لأفعال البرّ. فمنها أنها أنفقت في طريقها هذا الى الحجاز، في صدقات ونفقات في السبيل، مالا عظيما، وهي تحب الصالحين والصالحات تزورهم متنكرة رغبة في دعائهم. وشأنها عجيب كله على شبابها وانغماسها في نعيم الملك. والله يهدي من يشاء من عباده. وفي عشي اليوم الرابع من المقام بهذه البلدة، وهو يوم الجمعة السادس والعشرين لصفر المذكور، رحلنا منها على دواب أشتريناها بالموصل تفاديا من معاملة الجمالين، على أن القدر المحمود لم يسبب لنا الا صحبة الأشبه منهم، ومن شكرناه على طول الصحبة، وتماديها من مكة، شرفها الله، الى الموصل، فأسرينا ليلة السبت الى بعيد نصف الليل ثم نزلنا بقرية من قرى الموصل، ورحلنا منها ضحوة يوم السبت المذكور، وقلنا بقرية تعرف بعين الرصد، وكان مقيلنا تحت جسر معقود على واد يتحدر فيه الماء، وكان مقيلا مباركا. وفي تلك القرية خان كبير جديد. وفي محلات الطريق كلها خانات. واتفق مبيتنا تلك الليلة بالقرية المذكورة، واسرينا منها واصبحنا يوم الاحد بقرية تعرف بالمويلحة، وأسرينا منها وبتنا بقرية كبيرة تعرف بجدال لها حصن عتيق. وفي يومنا هذا رأينا، عن يمين الطريق، جبل الجودي المذكور في كتاب الله تعالى الذي استوت عليه سفينة نوح، عليه السلام، وهو جبل عال مستطيل. ثم رحلنا في السحر الأعلى من يوم الاثنين التاسع والعشرين لصفر، فكان مبيتنا في قرية من قرى نصيبين، ومنها اليها مرحلة، ويعرف الموضع المذكور بالكلاي. شهر ربيع الأول من سنة ثمانين استهل هلاله ليلة الثلاثاء، بموافقة الثاني عشر من يونيه، ونحن بالقرية

شهر ربيع الأول من سنة ثمانين

المذكورة، فرحلنا منها سحر يوم الثلاثاء المذكور ووصلنا نصيبين قبل الظهر من اليوم المذكور. مدينة نصيبين أبقاها الله شهيرة العتاقة والقدم، ظاهرها شباب، وباطنها هرم، جميلة المنظر، متوسطة بين الكبر والصغر، يمتد أمامها وخلفها بسيط أخضر مد البصر، قد أجرى الله فيه مذانب من الماء تسقيه، وتطّرد في نواحيه، وتحف بها عن يمين وشمال بساتين ملتفة الأشجار، يانعة الثمار، ينساب بين يديها نهر قد انعطف عليها انعطاف السوار، والحدائق تنتظم بحافيه، وتفيء ظلالها الوارفة عليه، فرحم الله أبا نواس الحسن بن هانىء حيث يقول: طابت نصيبين لي يوما فطبت لها ... يا ليت حظي من الدنيا نصيبين فخارجها رياضي الشمائل، أندلسي الخمائل، يرف غضارة ونضارة، ويتألق عليه رونق الحضارة، وداخلها شعث البادية باد عليه، فلا مطمح للبصر اليه، لا تجد العين فيه فسحة مجال، ولا مسحة جمال. وهذا النهر ينسرب اليها من عين معينة منبعها بجبل قريب منها، تنقسم منها مذانب تخترق بسائطها وعمائرها ويتخلل البلد منها جزء، فيتفرق على شوارعها ويلج في بعض ديارها ويصل الى جامعها المكرم منه سرب يخترق صحنه، وينصب في صهريجين: أحدهما وسط الصحن، والآخر عند الباب الشرقي منه، ويفضي الى سقايتين حول الجامع. وعلى النهر المذكور جسر معقود من ضم الحجارة يتصل بباب المدينة القبلي. وفيها مدرستان ومارستان واحد، وصاحبها معين الدين أخو عز الدين صاحب الموصل، ابنا أتابك. ولمعين الدين أيضا مدينة سنجار، وهي عن يمين الطريق

مدينة دنيصر

الى الموصل. ويسكن في احدى الزوايا الجوفية من جامعها المكرم الشيخ أبو اليقظان الأسود الجسد الأبيض الكبد، أحد الأولياء الذين نوّر الله بصائرهم بالإيمان، وجعلهم من الباقيات الصالحات في الزمان، الشهير المقامات، الموصوف بالكرامات، نضو التبتل والزهادة، ومن أخلقت جدته العبادة، قد اكتفى بنسج يده، ولا يدخر من قوت يومه لغده؛ أسعدنا الله بلقائه، وأصحبنا من بركة دعائه عشي يوم الثلاثاء مستهل ربيع الأول، فحمدنا الله عز وجل على أن منّ علينا برؤيته، وشرّفنا بمصافحته، والله ينفعنا بدعائه، انه سميع مجيب، لا اله سواه. فكان نزولنا بها في خان خارجها، وبتنا بها ليلة الأربعاء الثاني من ربيع الأول. ورحلنا صبيحته في قافلة كبيرة من البغال والحمير: حرانيين وحلبيين وسواهم من أهل البلاد، بلاد بكر وما يليها، وتركنا حاج هذه الجهات وراء ظهورنا على الجمال، فتمادى سيرنا الى أول الظهر، ونحن على اهبة وحذر من إغارة الأكراد الذين هم آفة هذه الجهات من الموصل الى نصيبين الى مدينة دنيصر يقطعون السبيل ويسعون فسادا في الأرض، وسكناهم في جبال منيعة على قرب من هذه البلاد المذكورة، ولم يعن الله سلاطينها على قمعهم وكف عاديتهم، فهم ربما وصلوا في بعض الأحيان الى باب نصيبين، ولا دافع لهم ولا مانع الا الله، عز وجل. فقلنا يوم الأربعاء المذكور، ورأينا ذلك اليوم، عن يمين طريقنا، بقرب من صفح الجبل، مدينة دارى العتيقة، وهي بيضاء كبيرة، لها قلعة مشرفة. ويليها بمقدار نصف مرحلة مدينة ماردين، وهي في صفح جبل في قنته لها قلعة كبيرة هي من قلاع الدنيا الشهيرة، وكلتا المدينتين معمورة. مدينة دنيصر هي في بسيط من الأرض فسيح، وحولها بساتين الرياحين والخضر، تسقى

بالسواقي، وهي مائلة الطبع الى البادية، ولا سور لها، وهي مشحونة بشرا، ولها الأسواق الحفيلة، والأرزاق الواسعة، وهي مخطر لأهل بلاد الشام وديار بكر وآمد وبلاد الروم التي تلي طاعة الأمير مسعود وما يليها، ولها المحرث الواسع، ولها مرافق كثيرة. فكان نزولنا مع القافلة ببراح ظاهرها، وأصبحنا يوم الخميس الثالث لربيع الأول بها مريحين. وخارجها مدرسة جديدة بقية البناء فيها، ويتصل بها حمّام، والبساتين حولها، فهي مدرسة ومأنسة. وصاحب هذه البلدة قطب الدين، وهو أيضا صاحب مدينة دارى ومدينة ماردين ورأس العين، وهو قريب لابني أتابك. وهذه البلدة لسلاطين شتى كملوك طوائف الأندلس، كلهم قد تحلى بحلية تنسب الى الدين، فلا تسمع الا القابا هائلة، وصفات لذي التحصيل غير طائلة، قد تساوى فيها السوقة والملوك، واشترك فيها الغني والصعلوك، ليس فيهم من اتسم بسمة به تليق، أو اتصف بصفة هو بها خليق، الا صلاح الدين صاحب الشام وديار مصر والحجاز واليمن، المشتهر الفضل والعدل، فهذا اسم وافق مسمّاه، ولفظ طابق معناه، وما سوى ذلك في سواه فزعازع ريح، وشهادات يردها التجريح، ودعوى نسبة للدين برحت به أي تبريح! ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد ونرجع الى حديث المراحل، قرّبها الله: فكان مقامنا بدنيصر الى أن صلّينا الجمعة، وهو اليوم الرابع لربيع (الأول) ، تلوّم أهل القافلة بها لشهود سوقها، لأن بها يوم الخميس ويوم الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد بعدها سوق حفيلة، يجتمع لها أهل هذه الجهات المجاورة لها والقرى المتصلة بها، لأن الطريق كلها يمينا وشمالا قرى متصلة وخانات مشيدة، ويسمون هذه السوق المجتمع اليها من الجهات البازار، وأيام كل سوق معلومة.

مدينة رأس العين

ورحلنا إثر صلاة الجمعة فاجتزنا على قرية كبيرة لها حصن تعرف بتل العقاب، هي للنصارى المعاهدين الذميين، ذكرتنا هذه القرية بقرى الأندلس حسنا ونضارة، تحفها البساتين والكروم وأنواع الأشجار، وينسرب بإزائها نهر ترف الظلال عليه، وخطها متّسع، والبساتين قد انتظمته، وشاهدنا بها من الخنانيص أمثال الغنم كثرة وأنسا بأهلها. ثم وصلنا عشى النهار الى قرية أخرى تعرف بالجسر، هي الآن لناس من المعاهدين، وهم فرقة من فرق الروم، فكان مبيتنا بها ليلة السبت الخامس لربيع المذكور، ثم أسحرنا منها ووصلنا مدينة رأس العين قبيل الظهر من يوم السبت المذكور. مدينة رأس العين هذا الاسم لها من أصدق الصفات، وموضوعها به أشرف الموضوعات، وذلك أن الله تعالى فجر أرضها عيونا وأجراها ماء معينا، فتقسمت مذانب وانسابت جداول تنبسط في مروج خضر، فكأنها سبائك اللجين ممدودة في بساط الزبرجد، تحف بها أشجار وبساتين قد انتظمت حافتيها الى آخر انتهائها من عمارة بطحائها. وأعظم هذه العيون عينان: احداهما فوق الأخرى، فالعليا منهما نابعة فوق الارض في صم الحجارة كأنها في جوف غار كبير متسع يبسط الماء فيه حتى يصير كالصهريج العظيم ثم يخرج ويسيل نهرا كبيرا كأكبر ما يكون من الانهار وينتهي الى العين الأخرى ويلتقي بمائها. وهذه العين الثانية عجب من عجائب مخلوقات الله عز وجل، وذلك أنها نابعة تحت الارض من الحجر الصلد بنحو اربع قامات أو أزيد، ويتّسع منبعها حتى يصير صهريجا في ذلك العمق، ويعلو بقوة نبعه حتى يسيل على وجه الأرض. فربما يروم السابح القوي السباحة الشديدة الغوص في أعماق المياه أن يصل بغوصه الى قعره فيمجه الماء بقوة انبعاثا من منبعه، فلا يتناهى في غوصه الى مقدار نصف

مسافة العمق أو أقل شيئا؛ شاهدنا ذلك عيانا. وماؤها أصفى من الزلال وأعذب من السلسبيل، يشفّ عما حواه، فلو طرح الدينار فيه في الليلة الظلماء لما أخفاه، ويصاد فيها سمك جليل من أطيب ما يكون من السمك. وينقسم ماء هذه العين نهرين: أحدهما آخذ يمينا، والآخر يسارا. فالأيمن يشق خانقة مبنية للصوفية والغرباء بإزاء العين، وهي تسمى الرباط أيضا، والأيسر ينسرب على جانب الخانقة وتفضي منه جداول الى مطاهرها ومرافقها المعدة للحاجة البشرية، ثم يلتقيان أسفلها مع نهر العين الأخرى العليا، وقد بنيت على شط نهرهما المجتمع بيوت أرحى تتصل على شط موضوع وسط النهر كأنه سدّ. ومن مجتمع ماء هاتين العينين منشأ نهر الخابور. وبمقربة من هذه الخانقة بحيث تناظرها مدرسة بإزائها حمام، وكلاهما قد وهى وأخلق وتعطل، وما ارى كان في موضوعات الدنيا مثل موضوع هذه المدرسة، لأنها في جزيرة خضراء والنهر يستدير بها من ثلاثة جوانب والمدخل اليها من جانب واحد، وامامها ووراءها بستان، وبإزائها دولاب يلقي الماء الى بساتين مرتفعة عن مصب النهر. وشأن هذا الموضع كله عجيب جدا: فغاية حسن القرى بشرقي الأندلس أن يكون لها مثل هذا الموضع جمالا أو تتحلى بمثل هذه العيون، ولله القدرة في جميع مخلوقاته. وأما المدينة فللبداوة بها اعتناء، وللحضارة عنها استغناء لا سور يحصنها، ولا دور أنيقة البناء تحسنها، قد ضحيت في صحرائها كأنها عوذة لبطحائها، وهي مع ذلك كاملة مرافق المدن، ولها جامعان حديث وقديم، فالقديم بموضع هذه العيون، وتنفجر أمامه عين معينة هي دون اللتين ذكرناهما. وهو من بنيان عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، لكنه قد أثر القدم فيه حتى آذن بتداعيه. والجامع الآخر داخل البلد، وفيه يجمع أهله. فكان مقامنا بها ذلك اليوم نزهة لم نختلس في سفرنا كله مثلها. فلما كان عند المغيب من يوم السبت الخامس لربيع المذكور، وهو السادس

مدينة حران حفظها الله

عشر ليونيه، رحلنا منها رغبة في الإسآد وبرد الليل وتفاديا من حر هجيرة التأويب، لأن منها الى حرّان مسيرة يومين لا عمارة فيها. فتمادى سيرنا الى الصباح ثم نزلنا في الصحراء على ماء جب وأرحنا قليلا، ثم رفعنا ضحوة النهار من يوم الأحد وسرنا ونزلنا قريب العصر على ماء بئر بموضع فيه برج مشيد وآثار قديمة يعرف ببرج حواء، فبتنا به، ثم رفعنا منه بعد تهويم ساعة وأسرينا الى الصباح، فوصلنا مدينة حران مع طلوع الشمس من يوم الاثنين السابع لربيع المذكور، والثامن عشر ليونيه، والحمد لله على تيسيره. مدينة حران حفظها الله بلد لا حسن لديه، ولا ظل يتوسط برديه، قد اشتق من اسمه هواؤه، فلا يألف البرد ماؤه، ولا تزال تتقد بلفح الهجير ساحاته وأرجاؤه، ولا تجد فيه مقيلا، ولا تتنفس منه الا نفسا ثقيلا، قد نبذ بالعراء، ووضع في وسط الصحراء، فعدم رونق الحضارة، وتعرت أعطافه من ملابس النضارة. أستغفر الله! كفى بهذا البلد شرفا وفضلا أنه البلدة العتيقة المنسوبة لأبينا إبراهيم، صلى الله عليه وسلم، وله بقبليها بنحو ثلاثة فراسخ مشهد مبارك فيه عين جارية كان مأوى له ولسارة، صلوات الله عليهما، ومتعبدا لهما. ببركة هذه النسبة قد جعل الله هذه البلدة مقرا للصالحين المتزهدين، ومثابة للسائحين المتبتلين. لقينا من أفرادهم الشيخ أبا البركات حيان بن عبد العزيز حذاء مسجده المنسوب اليه. وهو يسكن منه في زاوية بناها في قبلته، وتتصل بها في آخر الجانب زاوية لابنه عمر قد التزمها وأشبه طريقة أبيه فما ظلم، وتعرفت منه شنشنة أعرفها من أخزم. فوصلنا الى الشيخ وهو قد نيف على الثمانين، فصافحنا ودعا لنا وأمرنا بلقاء ابنه عمر المذكور، فملنا اليه ولقيناه، ودعا لنا، ثم ودعناهما وانصرفنا مسرورين بلقاء رجلين من رجال الآخرة.

ولقينا أيضا بمسجد عتيق الشيخ الزاهد سلمة، فلقينا رجلا من الزهاد الأفراد فدعا لنا وسألنا، وودعناه وانصرفنا. وبالبلد سلمة آخر يعرف بالمكشوف الرأس، لا يغطي رأسه تواضعا لله عز وجل حتى عرف بذلك، وصلنا الى منزله فأعلمنا أنه خرج للبرية سائحا. وبهذه البلدة كثير من أهل الخير، وأهلها هيّنون معتدلون، محبون للغرباء مؤثرون للفقراء. وأهل هذه البلاد من الموصل لديار بكر وديار ربيعة الى الشام على هذا السبيل من حب الغرباء واكرام الفقراء؛ وأهل قراها كذلك. فما يحتاج الفقراء الصعاليك معهم زادا، لهم في ذلك مقاصد في الكرم مأثورة. وشأن أهل هذه الجهات في هذا السبيل، عجيب، والله ينفعهم بما هم عليه. وأما عبّادهم وزهّادهم والسائحون في الجبال منهم فأكثر من أن يقيدهم الإحصاء، والله ينفع المسلمين ببركاتهم وصوالح دعواتهم، بمنه وكرمه. ولهذه البلدة المذكورة أسواق حفيلة الانتظام، عجيبة الترتيب، مسقفة كلها بالخشب. فلا يزال أهلها في ظل ممدود، فتخترقها كأنك تخترق دارا كبيرة الشوارع، قد بني عند كل ملتقى أربع سكك أسواق منها قبة عظيمة مرفوعة مصنوعة من الجص هي كالمفرق لتلك السكك. ويتصل بهذه الأسواق جامعها فالكرم، وهو عتيق مجدد قد جاء على غاية الحسن، وله صحن كبير فيه ثلاث الباب مرتفعة على سوار رخام، وتحت كل قبة بئر عذبة، وفي الصحن أيضا قبة رابعة عظيمة قد قامت على سوار من الرخام دور كل سارية تسعة أشبار، وفي وسط القبة عمود من الرخام عظيم الجرم دوره خمسة عشر شبرا. وهذه القبة من بنيان الروم، وأعلاها مجوف كأنه البرج المشيد، يقال: انه كان مخزنا لعدتهم الحربية، والله أعلم. والجامع المكرم سقف بجوائز الخشب والحنايا، وخشبه عظام طوال لسعة البلاط، وسعته خمس عشرة خطوة، وهو خمسة أبلطة، وما رأينا جامعا أوسع حنايا منه. وجداره المتصل بالصحن، الذي عليه المدخل اليه، مفتح كله أبوابا، عددها تسعة عشر بابا: تسعة يمينا،

وتسعة شمالا، والتاسع عشر منها باب عظيم وسط هذه الأبواب، يمسك قوسه من أعلى الجدار الى أسفله، بهي المنظر، جميل الوضع، كأنه باب من أبواب المدن الكبار. ولهذه الأبواب كلها أغلاق من الخشب البديع الصنعة والنقش، تنطبق عليها على شبه أبواب مجالس القصور. فشاهدنا من حسن بناء هذا الجامع وحسن ترتيب أسواقه المتصلة به مرأى عجيبا قلما يوجد في المدن مثل انتظامه. ولهذه البلدة مدرسة ومارستان، وهي بلدة كبيرة، وسورها متين حصين مبني بالحجارة المنحوتة المرصوص بعضها على بعض في نهاية من القوة. وكذلك بنيان الجامع المكرم. ولها قلعة حصينة مما يلي الجهة الشرقية منها منقطعة عنها بفضاء واسع بينهما، ومنقطعة أيضا عن سورها بحفير عظيم يستدير بها قد شيدت حافاته بالحجارة المركومة، فجاء في نهاية الوثاقة والقوة. وسور القلعة وثيق الحصانة. ولهذه البلدة نهير مجراه بالجهة الشرقية أيضا منها بين سورها وجبانتها، ومصبه من عين هي على بعد من البلد. والبلد كثير الخلق، واسع الرزق، ظاهر البركة، كثير المساجد، جم المرافق، على أحفل ما يكون من المدن. وصاحبه مظفر الدين بن زين الدين، وطاعته الى صلاح الدين وهذه البلاد كلها من الموصل الى نصيبين الى الفرات، المعروفة بديار ربيعة، وحدّها من نصيبين الى الفرات مع ما يلي الجنوب من الطريق وديار بكر التي تليها في الجانب الجوفي كآمد وميافارقين وغيرها مما يطول ذكره ليس في ملوكها من يناهض صلاح الدين، فهم الى طاعته وان كانوا مستبدين، وفضله يبقي عليهم، ولو شاء نزع الملك منهم لفعله بمشيئة الله. فكان نزولنا ظاهر البلد بشرقيه على نهيره المذكور، وأقمنا مريحين يوم الاثنين ويوم الثلاثاء بعده، وإثر الظهر منه كان اجتماعنا بسلمة المكشوف الرأس الذي فاتنا لقاؤه يوم الاثنين، فلقيناه بمسجد، فرأينا رجلا عليه سيما الصالحين وسمت المحبين مع طلاقة وبشر، وكرم لقاء وبر، فآنسنا ودعا لنا، وودعناه وانصرفنا حامدين لله عز وجل على ما منّ به علينا من لقاء أوليائه الصالحين وعباده المقربين.

مدينة منبج

وفي ليلة الاربعاء التاسع لربيع المذكور كان رحيلنا بعد تهويم ساعة، فأسرينا الى الصباح ونزلنا مريحين بتل عبدة، وهو موضع عمارة، وهذا التل مشرف متّسع كأنه المائدة المنصوبة، وفيه أثر بناء قديم، وبهذا الموضع ماء جار. وكان رحيلنا منه عند المغرب، واسرينا الليل كله، واجتزنا على قرية تعرف بالبيضاء فيها خان كبير جديد، وهو نصف الطريق من حرّان الى الفرات، ويقابلها على اليمين من الطريق، في استقبالك الفرات الى الشام، مدينة سروج التي شهر ذكرها الحريري بنسبة أبي زيد اليها، وفيها البساتين والمياه المطردة حسبما وصفها به في مقاماته. فكان وصولنا الى الفرات ضحوة النهار، وعبرنا في الزوارق المقلة المعدة للعبور الى قلعة جديدة على الشط تعرف بقلعة نجم، وحولها ديار بادية، وفيها سويقة يوجد فيها المهم من علف وخبز، فأقمنا بها يوم الخميس العاشر لربيع الأول المذكور مريحين خلال ما تكمل القافلة بالعبور. واذا عبرت الفرات حصلت في حد الشام وسرت في طاعة صلاح الدين الى دمشق. والفرات حد بين ديار الشام وديار ربيعة وبكر. وعن يسار الطريق، في استقبالك الفرات الى الشام، مدينة الرقة، وهي على الفرات، وتليها رحبة مالك بن طوق وتعرف برحبة الشام، وهي من المدن الشهيرة، ثم رحلنا منها عند مضي ثلث الليل الأول وأسرينا ووصلنا مدينة منبج مع الصباح من يوم الجمعة الحادي عشر لربيع المذكور، والثاني والعشرين ليونيه. مدينة منبج بلدة فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، يحف بها سور عتيق ممتد الغاية والانتهاء، جوّها صقيل ومجتلاها جميل، ونسيمها أرج النشر عليل، نهارها يندى ظله، وليلها كما قيل فيه: سحر كله؛ تحف بغربيها وبشرقيها بساتين ملتفة

بلدة بزاغة

الأشجار، مختلفة الثمار. والماء يطرد فيها، ويتخلل جميع نواحيها، وخصص الله داخلها بآبار معينة، شهدية العذوبة، سلسبيلية المذاق، تكون في كل دار منها البئر والبئران. وارضها أرض كريمة، تستنبط مياها كلها. وأسواقها وسككها فسيحة متسعة، ودكاكينها وحوانيتها كأنها الخانات والمخازن اتساعا وكبرا، وأعالي أسواقها مسقفة. وعلى هذا الترتيب أسواق أكثر مدن هذه الجهات، لكن هذه البلدة تعاقبت عليها الأحقاب، حتى أخذ منها الخراب. كانت من مدن الروم العتيقة، ولهم فيها من البناء آثار تدل على عظم اعتنائهم بها. ولها قلعة حصينة في جوفيها تنقطع عنها وتنحاز منها. ومدن هذه الجهات كلها لا تخلو من القلاع السلطانية وأهلها أهل فضل وخير، سنيون شافعيون، وهي مطهرة بهم من أهل المذاهب المنحرفة، والعقائد الفاسدة، كما تجده في الأكثر من هذه البلاد، فمعاملاتهم صحيحة، وأحوالهم مستقيمة، وجادتهم الواضحة في دينهم من اعتراض بنيات الطريق سليمة. فكان نزولنا خارجها، في أحد بساتينها، وأقمنا يوما مريحين ثم رحلنا نصف الليل، ووصلنا بزاعة ضحوة يوم السبت الثاني عشر لربيع المذكور. بلدة بزاغة بقعة طيبة الثرى، واسعة الذّرى، تصغر عن المدن وتكبر عن القرى، بها سوق تجمع بين المرافق السفرية، والمتاجر الحضرية. وفي أعلاها قلعة كبيرة حصينة، رامها أحد ملوك الزمن فغاظته باستصعابها، فأمر بثلم بنائها، حتى غادرها عورة منبوذة بعرائها. ولهذه البلدة عين معينة يخترق ماؤها بسيط بطحاء ترف بساتينها خضرة ونضارة، وتريك برونقها الأنيق حسن الحضارة.

مدينة حلب

ويناظرها في جانب البطحاء قرية كبيرة تعرف بالباب، هي باب بين. بزاعة وحلب، وكان يعمرها منذ ثماني سنين قوم من الملاحدة الإسماعيلية لا يحصي عددهم الا الله، فطار شرارهم، وقطع هذه السبيل فسادهم واضرارهم، حتى داخلت أهل هذه البلاد العصبية، وحرّكتهم الأنفة والحمية، فتجمعوا من كل أوب عليهم، ووضعوا السيوف فيهم، فاستأصلوهم عن آخرهم، وعجّلوا بقطع دابرهم، وكوّمت بهذه البطحاء جماجمهم، وكفى الله المسلمين عاديتهم وشرهم، وأحاق بهم مكرهم، والحمد لله رب العالمين. وسكانها اليوم قوم سنيون، فأقمنا بها يوم السبت ببطحاء هذه البلدة مريحين، ورحلنا منها في الليل وأسرينا الى الصباح، ووصلنا مدينة حلب ضحوة يوم الأحد الثالث عشر لربيع الأول، والرابع والعشرين ليونيه. مدينة حلب بلدة قدرها خطير، وذكرها في كل زمان يطير، خطّابها من الملوك كثير، ومحلها من التقديس أثير، فكم هاجت من كفاح، وسلّت عليها من بيض الصفاح، لها قلعة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، معدومة الشبه والنظير في القلاع، تنزهت حصانة أن ترام أو تستطاع، قاعدة كبيرة، ومائدة من الأرض مستديرة منحوتة الأرجاء، موضوعة على نسبة اعتدال واستواء، فسبحان من أحكم تقديرها وتدبيرها، وأبدع كيف شاء تصويرها وتدويرها، عتيقة في الأزل، حديثة وان لم تزل، قد طاولت الأيام والأعوام، وشيعت الخواص والعوام، هذه منازلها وديارها، فاين سكانها قديما وعمّارها؟ وتلك دار مملكتها وفناؤها فأين امراؤها الحمدانيون وشعراؤها؟ أجل، فني جميعهم، ولم يأن بعد فناؤها! فيا عجبا للبلاد تبقى وتذهب أملاكها، ويهلكون ولا يقضى هلاكها، تخطب بعدهم فلا يتعذر ملاكها، وترام فيتيسر بأهون شيء إدراكها. هذه حلب،

كم أدخلت من ملوكها في خبر كان، ونسخت ظرف الزمان بالمكان، أنّث اسمها فتحلت بزينة الغوان، ودانت بالغدر فيمن خان، وتجلت عروسا بعد سيف دولتها ابن حمدان، هيهات! هيهات! سيهرم شبابها، ويعدم خطابها ويسرع فيها بعد حين خرابها، وتتطرق جنبات الحوادث إليها، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لا اله سواه، سبحانه جلت قدرته. وقد خرج بنا الكلام عن مقصده، فلنعد الى ما كنا بصدده، فنقول: ان من شرف هذه القلعة أنه يذكر أنها كانت قديما في الزمان الأول ربوة يأوي اليها ابراهيم الخليل، عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم، بغنيمات له فيحلبها هنالك ويتصدق بلبنها فلذلك سمّت حلب، والله أعلم. وبها مشهد كريم له يقصده الناس ويتبركون بالصلاة فيه. ومن كمال خلالها المشترطة في حصانة القلاع أن الماء بها نابع، وقد صنع عليه جبان، فهما ينبعان ماء فلا تخاف الظمأ أبد الدهر، والطعام يصبر فيها الدهر كله، وليس في شروط الحصانة أهم ولا آكد من هاتين الحلّتين. ويطيف بهذين الجبين المذكورين سوران حصينان من الجانب الذي ينظر للبلد، ويعترض دونهما خندق لا يكاد البصر يبلغ مدى عمقه والماء ينبع فيه. وشأن هذه القلعة في الحصانة والحسن أعظم من أن ننتهي الى وصفه. وسورها الأعلى كله أبراج منتظمة، فيها العلالي المنيفة، والقصاب المشرفة، قد تفتحت كلها طيقانا. وكل برج منها مسكون، وداخلها المساكن السلطانية، والمنازل الرفيعة الملوكية. وأما البلد فموضوعه ضخم جدا، حفيل التركيب، بديع الحسن، واسع الأسواق كبيرها، متصلة الانتظام مستطيلة، تخرج من سماط صنعة الى سماط صنعة أخرى الى ان تفرغ من جميع الصناعات المدنية، وكلها مسقف بالخشب، فسكانها في ظلال وارفة. فكل سوق منها تقيد الأبصار حسنا وتستوقف المستوفز تعجبا. وأما قيساريتها فحديقة بستان نظافة وجمالا، مطيفة بالجامع المكرم، لا

يتشوق الجالس فيها مرأى سواها ولو كان من المرائي الرياضية. وأكثر حوانيتها خزائن من الخشب البديع الصنعة، قد اتصل السماط خزانة واحدة وتخللتها شرف خشبية بديعة النقش وتفتحت كلها حوانيت، فجاء منظرها أجمل منظر وكل سماط منها يتصل بباب من أبواب الجامع المكرم. وهذا الجامع من أحسن الجوامع وأجملها، قد أطاف بصحنه الواسع بلاط متسع مفتح كله أبوابا قصرية الحسن الى الصحن، عددها ينيف على الخمسين بابا، فيستوقف الأبصار حسن منظرها، وفي صحنه بئران معينان. والبلاط القبلي لا مقصورة فيه فجاء ظاهر الاتساع رائق الانشراح. وقد استفرغت الصنعة القرنصية جهدها في منبره، فما أرى في بلد من البلاد منبرا على شكله وغرابة صنعته، واتصلت الصنعة الخشبية منه الى المحراب فتجللت صفحاته كلها حسنا على تلك الصفة الغريبة. وارتفع كالتاج العظيم على المحراب وعلا حتى اتصل بسمك السقف، وقد قوس اعلاه وشرف بالشّرف الخشبية القرنصية، وهو مرصع كله بالعاج والآبنوس، واتصال الترصيع من المنبر الى المحراب مع ما يليهما من جدار القبلة دون أن يتبين بينهما انفصال، فتجتلي العيون منه أبدع منظر. يكون في الدنيا، وحسن هذا الجامع المكرم أكثر من أن يوصف. ويتصل به من الجانب الغربي مدرسة للحنفية تناسب الجامع حسنا واتقان صنعة فهما في الحسن روضة تجاور اخرى. وهذه المدرسة من أحفل ما شاهدناه من المدارس بناء وغرابة صنعة، ومن أظرف ما يلحظ فيها أن جدارها القبلي مفتّح كله بيوتا وغرفا ولها طيقان يتصل بعضها ببعض، وقد امتد بطول الجدار عريش كرم مثمر عنبا، فحصل لكل طاق من تلك الطيقان قسطها من ذلك العنب متدليا أمامها، فيمد الساكن فيها يده ويجتنيه متكئا دون كلفة ولا مشقة. وللبلدة سوى هذه المدرسة نحو أربع مدارس أو خمس. ولها مارستان. وأمرها في الاحتفال عظيم، فهي بلدة تليق بالخلافة، وحسنها كله داخل لا خارج لها الا نهير يجري من جوفيها الى قبليها ويشق ربضها المستدير بها، فإن

لها ربضا كبيرا فيه من الخانات ما لا يحصى عدده. وبهذا النهر الأرحاء، وهي متصلة بالبلد وقائمة وسط ربضه. وبهذا الربض بعض بساتين تتصل بطوله. وكيفما كان الأمر فيه داخلا وخارجا فهو من بلاد الدنيا التي لا نظير لها، والوصف فيه يطول. فكان نزولنا بربضه في خان يعرف بخان أبي الشكر، فأقمنا به أربعة أيام ورحلنا ضحوة يوم الخميس السابع عشر لربيع المذكور، والثامن والعشرين ليونيه. ووصلنا قنسرين قبيل العصر، فأرحنا بها قليلا ثم انتقلنا الى قرية تعرف بتل تاجر، فكان مبيتنا بها ليلة الجمعة الثامن عشر منه. وقنسرين هذه هي البلدة الشهيرة في الزمان، لكنها خربت وعادت كأن لم تغن بالأمس، فلم يبق الا آثارها الدارسة، ورسومها الطامسة، ولكن قراها عامرة منتظمة لأنها على محرث عظيم مد البصر عرضا وطولا. وتشبهها من البلاد الأندلسية جيان، ولذلك يذكر أن أهل قنسرين عند استفتاح الأندلس نزلوا جيان تأنسا بشبه الوطن وتعللا به مثلما فعل في أكثر بلادها، حسب ما هو معروف. ثم رحلنا من ذلك الموضع، عند الثلث الماضي من الليل، فأسرينا وسرنا الى ضحوة من النهار، ثم نزلنا مريحين بموضع يعرف بباقدين في خان كبير يعرف بخان التركمان، وثيق الحصانة. وخانات هذا الطريق كأنها القلاع امتناعا وحصانة، وأبوابها حديد، وهي من الوثاقة في غاية. ثم رحلنا من هذا الموضع وبتنا بموضع يعرف بتمنى في خان وثيق على الصفة المذكورة. ثم أسحرنا منه يوم السبت التاسع عشر لربيع الأول المذكور، وهو آخر يوم من يونيه، ورأينا عن يمين طريقنا بمقدار فرسخين، يوم الجمعة المذكور، بلاد المعرة، وهي سواد كلها بشجر الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه، ويتصل التفاف بساتينها وانتظام قراها مسيرة يومين، وهي من أخصب بلاد الله وأكثرها أرزاقا. ووراءها جبل لبنان وهو سامي الارتفاع، ممتد الطول،

ذكر مدينة حماة

يتصل من البحر الى البحر، وفي صفحته حصون للملاحدة الإسماعيلية، فرقة مرقت من الإسلام وادعت الإلهية في أحد الانام، قيّض لهم شيطان من الإنس يعرف بسنان خدعهم بأباطيل وخيالات موّه عليهم باستعمالها، وسحرهم بمحالها، فاتخذوه الها يعبدونه ويبذلون الأنفس دونه، وحصلوا من طاعته وامتثال امره بحيث يأمر أحدهم بالتردي من شاهقة جبل فيتردى ويستعجل في مرضاته الردى، والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء بقدرته، نعوذ به سبحانه من الفتنة في الدين، ونسأله العصمة من ضلال الملحدين، لا رب غيره، ولا معبود سواه. وجبل لبنان المذكور هو حد بين بلاد المسلمين والإفرنج، لأن وراءه أنطاكية واللاذقية وسواهما من بلادهم، أعادها الله للمسلمين، وفي صفح الجبل المذكور حصن يعرف بحصن الأكراد، هو للإفرنج، ويغيرون منه على حماة وحمص، وهو بمرأى العين منهما. فكان وصولنا الى مدينة حماة في الضحى الأعلى من يوم السبت المذكور، فنزلنا بربضها في أحد خاناته. ذكر مدينة حماة مدينة شهيرة في البلدان، قديمة الصحبة للزمان، غير فسيحة الفناء، ولا رائقة البناء، أقطارها مضمومة، وديارها مركومة، لا يهش البصر اليها، عند الإطلال عليها، كأنها تكن بهجتها وتخفيها، فتجد حسنها كامنا فيها، حتى إذا جست خلالها، ونقرت ظلالها، ابصرت بشرقيها نهرا كبيرا، تتسع في تدفقه أساليبه، وتتناظر بشطيه دواليبه، قد انتظمت طرتيه، بساتين تتهدل أغصانها عليه، وتلوح خضرتها عذارا بصفحتيه، ينسرب في ظلالها، وينساب على سمت اعتدالها، وبأحد شطيه المتصل بربضها مطاهر منتظمة بيوتا عدة، يخترق الماء من دواليبه جميع نواحيها، فلا يجد المغتسل أثر أذى فيها. وعلى

شطه الثاني المتصل بالمدينة السفلى جامع صغير قد فتح جداره الشرقي عليه طيقانا تجتلي منها منظرا ترتاح النفس اليه، وتتقيد الأبصار لديه. وبإزاء ممر النهر بجوفي المدينة قلعة حلبية الوضع، وإن كانت دونها في الحصانة والمنع، سرّب لها من هذا النهر ماء ينبع فيها، فهي لا تخاف الصدى، ولا تتهيب مرام العدى. وموضع هذه المدينة في وهدة من الأرض عريضة مستطيلة، كأنها خندق عميق، يرتفع لها جانبان: أحدهما كالجبل المطل، والمدينة العليا متصلة بصفح ذلك الجانب الجبلي، والقلعة في الجانب الآخر في ربوة منقطعة كبيرة مستديرة قد تولى نحتها الزمان، وحصل لها بحصانتها من كل عدوّ الأمان، والمدينين السفلى تحت القلعة متصلة بالجانب الذي يصب النهر عليه، وكلتا المدينتين صغيرتان. وسور المدينة العليا يمتد على رأس جانبها العلي الجبلي ويطيف بها. وللمدينة السفلى سور يحدق بها من ثلاثة جوانب، لأن جانبها المتصل بالنهر لا يحتاج الى سور. وعلى النهر جسر كبير معقود بصم الحجارة يتصل من المدينة السفلى الى ربضها. وربضها كبير فيه الخانات والديار، وله حوانيت يستعجل فيها المسافر حاجاته الى أن يفرغ لدخول المدينة، وأسواق المدينة العليا أحفل وأجمل من أسواق المدينة السفلى، وهي الجامعة لجميع الصناعات والتجارات، وموضوعها حسن التنظيم، بديع الترتيب والتقسيم، ولها جامع أكبر من الجامع الأسفل، ولها ثلاث مدارس ومارستان على شط النهر بإزاء الجامع الصغير. وبخارج هذه البلدة بسيط فسيح عريض قد انتظم أكثره شجيرات الأعناب وفيه المزارع والمحارث، وفي منظره انشراح للنفس وانفساح. والبساتين متصلة على شطي النهر، وهو يسمى العاصي، لأن ظاهر انحداره من سفل الى علو، ومجراه من الجنوب الى الشمال، وهو يجتاز على قبلي حمص وبمقربة منها. فكان مقامنا بحماة الى عشي يوم السبت المذكور، ثم رحلنا منها وأسرينا الليل كله وأجتزنا في نصفه هذا النهر العاصي المذكور على جسر كبير معقود من

مدينة حمص

الحجارة، وعليه مدينة رستن التي خرّبها عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. وآثارها عظيمة. ويذكر الروم القسطنطينيون أن بها أموالا جمة مكنوزة، والله أعلم بذلك، فوصلنا الى مدينة حمص مع شروق الشمس من يوم الأحد الموفي عشرين لربيع الأول، وهو أول يوليه، فنزلنا بظاهرها بخان السبيل. مدينة حمص هي فسيحة الساحة، مستطيلة المساحة، نزهة لعين مبصرها من النظافة والملاحة، موضوعة في بسيط من الأرض عريض مداه، لا يخترقه النسيم بمسراه، يكاد البصر يقف دون منتهاه، أفيح أغبر، لا ماء ولا شجر، ولا ظل ولا ثمر، فهي تشتكي ظماءها، وتستقي على البعد ماءها، فيجلب لها من نهيرها العاصي، وهو منها بنحو مسافة الميل، وعليه طرة بساتين تجتلي العين خضرتها، وتستغرب نضرتها، ومنبعه في مغارة يصفح جبل فوقها بمرحلة بموضع يقابل بعلبك، أعادها الله، وهي عن يمين الطريق الى دمشق. وأهل هذه البلدة موصوفون بالنجدة والتمرس بالعدو لمجاورتهم اياه، وبعدهم في ذلك أهل حلب. فأحمد خلال هذه البلدة هواؤها الرطب، ونسيمها الميمون تخفيفه وتجسيمه، فكأن الهواء النجدي في الصحة شقيقه وقسيمه. وبقبلي هذه المدينة قلعة حصينة منيعة، عاصية غير مطيعة، قد تميّزت وانحازت بموضوعها عنها. وبشرقيها جبانة فيها قبر خالد بن الوليد، رضي الله عنه، هو سيف الله المسلول، ومعه قبر ابنه عبد الرحمن، وقبر عبيد الله بن عمر، رضي الله عنهم. وأسوار هذه المدينة غاية في العتاقة والوثاقة، مرصوص بناؤها بالحجارة الصم السود، وابوابها أبواب حديد، سامية الإشراف، هائلة المنظر، رائعة الإطلال والأناقة تكتنفها الأبراج المشيدة الحصينة. وأما داخلها فما شئت من بادية شعثاء، خلقة الأرجاء، ملفقة البناء، لا اشراق لآفاقها، ولا رونق

لأسواقها، كاسدة لا عهد لها بنفاقها. وما ظنك ببلد حصن الأكراد منه على أميال يسيرة، وهو معقل العدو، فهو منه تتراءى ناره، ويحرق اذا يطير شراره، ويتعهد اذا شاء كل يوم مغاره. وسألنا أحد الأشياخ بهذه البلدة: هل فيها مارستان على رسم مدن هذه الجهات؟ فقال، وقد أنكر ذلك: حمص كلها مارستان! وكفاك تبيينا شهادة أهلها فيها! وبها مدرسة واحدة، وتجد في هذه البلدة عند اطلالك عليها من بعد في بسيطها ومنظرها وهيئة موضوعها، بعض شبه بمدينة إشبيلية من بلاد الأندلس، يقع للحين في نفسك خياله، وبهذا الاسم سميت في القديم، وهي العلة التي أوجبت نزول الأعراب أهل حمص فيها، حسبما يذكر. وهذا التشبيه وان لم يكن بذاته، فله لمحة من احدى جهاته. وأقمنا بها يوم الأحد المذكور ويوم الاثنين بعده، وهو الثاني ليوليه، الى أول الظهر، ورحلنا منها وتمادينا الى العشي، ونزلنا بقرية خربة تعرف بالمشعر فعشينا بها الدواب، ثم رحلنا عند المغرب وأسرينا طول ليلتنا، وتمادى سيرنا الى الضحى الاعلى من يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من الشهر المذكور، ونزلنا بقرية كبيرة للنصارى المعاهدين تعرف بالقارة، ليس فيها من المسلمين أحد، وبها خان كبير كأنه الحصن المشيد في وسطه صهريج كبير مملوء ماء يتسرب له تحت الأرض من عين على البعد، فهو لا يزال ملآن، فأرحنا بالخان المذكور الى الظهر ثم رحلنا منه الى قرية تعرف بالنبك، بها ماء جار ومحرث متسع، فنزلنا بها للتعشية، ثم رحلنا منها بعد اختلاس تهويمة خفيفة. وأسرينا الليل كله، فوصلنا الى خان السلطان مع الصباح، وهو خان بناه صلاح الدين صاحب الشام. وهو في نهاية الوثاقة والحسن، بباب حديد على سبيلهم في بناء خانات هذه الطرق كلها واحتفالهم في تشييدها، وفي هذا الخان ماء جار يتسرب الى سقاية في وسط الخان كأنها صهريج، ولها منافس ينصب منها الماء في سقاية صغيرة مستديرة حول الصهريج ثم يغوص في سرب في

شهر ربيع الآخر

لأارض. والطريق من حمص الى دمشق قليل العمارة الا في ثلاثة مواضع أو أربعة، منها هذه الخانات المذكورة، فأقمنا بها يوم الأربعاء الثالث والعشرين لربيع المذكور بالخان المذكور مريحين ومستدركين للنوم الى أول الظهر، ثم رحلنا وجزنا بثنية العقاب ومنها يشرف على بسيط دمشق وغوطتها، وعند هذه الثنية مفرق طريقين: احداهما التي جئنا منها، والثانية آخذة شرقا في البرية على السماوة الى العراق، وهي طريق قصد لكنها لا تدخل الا في الشتاء. فانحدرنا منها بين جبال في بطن واد الى البسيط ونزلنا منه بموضع يعرف بالقصير، فيه خان كبير والنهر جار أمامه، ثم رحلنا منه مع الصبح وسرنا في بساتين متصلة لا يوصف حسنها، ووصلنا دمشق في الضحى الأعلى من يوم الخميس الرابع والعشرين لربيع الأول والخامس ليوليه، والحمد لله رب العالمين. شهر ربيع الآخر استهل هلاله يوم الأربعاء بموافقة الحادي عشر ليوليه، ونحن بدمشق نازلين فيها بدار الحديث غربي جامعها المكرم. مدنية دمشق جنة المشرق، ومطلع حسنه المؤنق المشرق وهي خاتمة بلاد الاسلام التي استقريناها، وعروس المدن التي اجتليناها، قد تحلت بأزاهير الرياحين، وتجلت في حلل سندسية من البساتين، وحلت من موضوع الحسن بالمكان المكين، وتزينت في منصتها أجمل تزيين، وتشرفت بأن آوى الله تعالى المسيح وأمه، صلى الله عليهما، منها الى ربوة ذات قرار ومعين، ظل ظليل، وماء

جامعها المكرم

سلسبيل، تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل، ورياض يحيي النفوس نسيمها العليل، تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل، وتناديهم: هلموا الى معرّس للحسن ومقيل، قد سئمت أرضها كثرة الماء حتى اشتاقت الى الظماء، فتكاد تناديك بها الصم الصلاب: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب؛ قد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر، وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر، فكل موضع لحظته بجهاتها الأربع نصرته اليانعة قيد النظر، ولله صدق القائلين عنها: إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها، وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامتها وتحاذيها. جامعها المكرم هو من أشهر جوامع الإسلام حسنا، واتقان بناء، وغرابة صنعة، واحتفال تنميق وتزيين. وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه. ومن عجيب شأنه أنه لا تنسج به العنكبوت ولا تدخله، ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف. انتدب لبنائه الوليد بن عبد الملك، رحمه الله، ووجه الى ملك الروم بالقسطنطينية يأمره بإشخاص اثني عشر ألفا من الصناع من بلاده، وتقدم اليه بالوعيد في ذلك ان توقف عنه. فأمتثل أمره مذعنا بعد مراسلة جرت بينهما في ذلك مما هو مذكور في كتب التاريخ. فشرع في بنائه، وبلغت الغايات في التأنق فيه، وانزلت جدره كلها بفصوص من الذهب المعروف بالفسيفساء، وخلطت بها أنواع من الأصبغة الغريبة، قد مثلت أشجارا، وفرعت اغصانا منظومة بالفصوص، ببدائع من الصنعة الأنيقة المعجزة وصف كل واصف، فجاء يغشي العيون وميضا وبصيصا. وكان مبلغ النفقة فيه، حسبما ذكره ابن المعلى الأسدي في جزء وضعه في ذكر بنائه، مئة صندوق، في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار ومئتا أنف دينار، فكان مبلغ الجميع أحد عشر

تذريعه ومساحته وعدد أبوابه وشمسياته

ألف ألف دينار ومئتي ألف دينار. والوليد هذا هو الذي اخذ نصف الكنيسة الباقية منه في أيدي النصارى وأدخلها فيه، لأنه كان قسمين: قسما للمسلمين وهو الشرقي، وقسما للنصارى وهو الغربي، لأن أبا عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه، دخل البلد من الجهة الغربية، فانتهى الى نصف الكنيسة، وقد وقع الصلح بينه وبين النصارى، ودخل خالد بن الوليد، رضي الله عنه، عنوة من الجانب الشرقي وانتهى الى النصف الثاني وهو الشرقي، فاجتازه المسلمون وصيروره مسجدا، وبقي النصف المصالح علية وهو الغربي كنيسة بأيدي النصارى، الى ان عوّضهم منه الوليد، فأبوا ذلك، فانتزعه منهم قهرا وطلع لهدمه بنفسه، وكانوا يزعمون ان الذي يهدم كنيستهم يجنّ، فبادر الوليد وقال: انا أول من يجنّ في الله، وبدأ الهدم بيده، فبادر المسلمون وأكملوا هدمه. واستعدوا عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، أيام خلافته وأخرجوا العهد الذي بأيديهم من الصحابة، رضي الله عنهم، في ابقائه عليهم، فهمّ بصرفه اليهم، فأشفق المسلمون من ذلك ثم عوّضهم منه بمال عظيم أرضاهم به، فقبلوه. ويقال: إن اول من وضع جداره القبلي هو النبي، عليه السلام. وكذلك ذكر ابن المعلّى في تاريخه، والله اعلم بذلك، لا اله سواه، وقرأنا في فضائل دمشق عن سفيان الثوري، رضي الله عنه، أنه قال: ان الصلاة فيه بثلاثين ألف صلاة. وفي الحديث عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه يعبد الله عز وجل فيه بعد خراب الدنيا اربعين سنة. تذريعه ومساحته وعدد أبوابه وشمسياته ذرعه في الطول من الشرق الى الغرب مئتا خطوة، وهما ثلاث مئة ذراع، وذرعه في السعة من القبلة الى الجوف مئة خطوة وخمس وثلاثون خطوة، وهي

مئتا ذراع. فيكون تكسيره من المراجع الغربية اربعة وعشرين مرجعا. وهو تكسير مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غير أن الطول في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من القبلة الى الشمال. وبلاطاته المتصلة بالقبلة ثلاثة مستطيلة من الشرق الى الغرب، سعة كل بلاط منها ثماني عشرة خطوة، والخطوة ذراع ونصف، وقد قامت على ثمانية وستين عمودا، منها أربع وخمسون سارية، وثماني أرجل جصية تتخللها، واثنتان مرخمّة ملصقة معها في الجدار الذي يلي الصحن، وأربع أرجل مرخمّة أبدع ترخيم، مرصعة بفصوص من الرخام ملونة، قد نظمت خواتيم، وصوّرت محاريب وأشكالا غريبة، قائمة في البلاط الأوسط، تقل قبة الرصاص مع القبة التي تلي المحراب، سعة كل رجل منها ستة عشر شبرا، وطولها عشرون شبرا، وبين كل رجل ورجل في الطول سبع عشرة خطوة، وفي العرض ثلاث عشرة خطوة فيكون دور كل رجل منها اثنين وسبعين شبرا. ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهاته: الشرقية والغربية والشمالية؛ سعته عشر خطا، وعدد قوائمه سبع وأربعون: منها أربع عشرة من الجص، وسائرها سوار. فيكون سعة الصحن، حاشا المسقف القبلي والشمالي، مئة ذراع. وسقف الجامع كله من خارج ألواح رصاص. وأعظم ما في هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وسطه، سامية في الهواء، عظيمة الاستدارة، قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها، يتصل من المحراب الى الصحن، وتحته ثلاث قباب: قبة تتصل بالجدار الذي الى الصحن، وقبة تتصل بالمحراب، وقبة تحت قبة الرصاص بينهما. والقبة الرصاصية قد أغضت الهواء وسطه، فإذا استقبلتها ابصرت منظرا رائعا، ومرأى هائلا، يشبهه الناس بنسر طائر، كأن القبة رأسه، والغارب جؤجؤه، ونصف جدار البلاط عن يمين، ونصف الثاني عن شمال، جناحاه. وسعة هذا الغارب من جهة الصحن ثلاثون خطوة، فهم يعرفون الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه. ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء منيفة على كل علو كأنها معلقة من الجو.

والجامع المكرم مائل الى الجهة الشمالية من البلد. وعدد شمسياته الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون: منها في القبة التي تحت قبة الرصاص عشر، وفي القبة المتصلة بالمحراب مع ما يليها من الجدار أربع عشرة شمسية، وفي طول الجدار عن يمين المحراب ويساره أربع وأربعون، وفي القبة المتصلة بجدار الصحن ست، وفي ظهر الجدار الى الصحن سبع وأربعون شمسية. وفي الجامع المكرم ثلاث مقصورات: مقصورة الصحابة، رضي الله عنهم، وهي أول مقصورة وضعت في الاسلام، وضعها معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، وبإزاء محرابها عن يمين مستقبل القبلة باب حديد، كان يدخل معاوية، رضي الله عنه، الى المقصورة منه الى المحراب. وبإزاء محرابها لجهة اليمين مصلى أبي الدرداء، رضي الله عنه، وخلفها كانت دار معاوية، رضي الله عنه، وهي اليوم سماط عظيم للصفارين، يتصل بطول جدار الجامع القبلي، ولا سماط أحسن منظرا منه ولا أكبر طولا وعرضا. وخلف هذا السماط على مقربة منه دار الخليل برسمه، وهي اليوم مسكونة، وفيها مواضع للكمادين. وطول المقصورة الصحابية المذكورة أربعة وأربعون شبرا، وعرضها نصف الطول. ويليها لجهة الغرب، في وسط الجامع، المقصورة التي أحدثت عند إضافة النصف المتخذ كنيسة الى الجامع، حسبما تقدم ذكره، وفيها منبر الخطبة ومحراب الصلاة. وكانت مقصورة الصحابة أولا في نصف الحظ الإسلامي من الكنيسة، وكان الجدار حيث أعيد المحراب في المقصورة المحدثة، فلما أعيدت الكنيسة كلها مسجدا صارت مقصورة الصحابة طرفا في الجانب الشرقي، وأحدثت المقصورة الأخرى وسطا حيث كان جدار الجامع قبل الاتصال. وهذه المقصورة أخرى المحدثة أكبر من الصحابية. وبالجانب الغربي بازاء الجدار مقصورة أخرى هي برسم الحنفية يجتمعون فيها للتدريس وبها يصلون. وبإزائها زاوية محدقة بالأعواد المشرجبة كأنها مقصورة صغيرة. وبالجانب الشرقي زاوية أخرى على هذه الصفة هي كالمقصورة، كان وضعها للصلاة فيها أحد امراء الدولة التركية، وهي

لاصقة بالجدار الشرقي. وبالجامع المكرم عدة زوايا على هذا الترتيب يتخذها الطلبة للنسخ والدرس والانفراد عن ازدحام الناس، وهي من جملة مرافق الطلبة. وفي الجدار المتصل بالصحن، المحيط بالبلاطات القبيلة، عشرون بابا متصلة بطول الجدار قد علتها قسيّ جصية مخرّمة كلها على هيئة الشمسيات، فتبصر العين من اتصالها أجمل منظر وأحسنه. والبلاط المتصل بالصحن، المحيط بالبلاطات من ثلاث جهات، على أعمدة، وعلى تلك الأعمدة أبواب مقوسة تقلها أعمدة صغار تطيف بالصحن كله. ومنظر هذا الصحن من أجمل المناظر وأحسنها، وفيه مجتمع أهل البلد، وهو متفرجهم ومتنزههم كل عشية، تراهم فيه ذاهبين وراجعين من شرق الى غرب، من باب جيرون الى باب البريد، فمنهم من يتحدث مع صاحبه، ومنهم من يقرأ، لا يزالون على هذه الحال من ذهاب ورجوع الى انقضاء صلاة العشاء الآخرة ثم ينصرفون، ولبعضهم بالغداة مثل ذلك، وأكثر الاحتفال انما هو بالعشيّ فيخيل لمبصر ذلك أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم لما يرى من احتفال الناس واجتماعهم، لا يزالون على ذلك كل يوم. وأهل البطالة من الناس يسمونهم الحراثين. وللجامع ثلاث صوامع: واحدة في الجانب الغربي، وهي كالبرج المشيد، يحتوي على مساكن متسعة وزوايا فسيحة راجعة كلها الى أغلاق يسكنها أقوام من الغرباء أهل الخير، والبيت الأعلى منها كان معتكف أبي حامد الغزالي، رحمه الله، ويسكنه اليوم الفقيه الزاهد أبو عبد الله بن سعيد من أهل قلعة يحصب المنسوبة لهم، وهو قريب لبني سعيد المشتهرين بالدنيا وخدمتها، وثانية بالجانب الغربي على هذه الصفة، وثالثة بالجانب الشمالي على الباب المعروف بباب الناطفيين. وفي الصحن ثلاث قباب: إحداها في الجانب الغربي منه وهي أكبرها، وهي قائمة على ثمانية أعمدة من الرخام، مستطيلة كالبرج، مزخرفة بالفصوص والأصبغة

الملونة، كأنها الروضة حسنا، وعليها قبة رصاص كأنها التنور العظيم الاستدارة، يقال: إنها كانت مخزنا لمال الجامع، وله مال عظيم من خراجات ومستغلات تنيف على ما ذكر لنا على الثمانية آلاف دينار صورية في السنة، وهي خمسة عشر ألف دينار مؤمنية أو نحوها. وقبة أخرى صغيرة في وسط الصحن مجوفة مثمنة من رخام قد ألصق أبدع إلصاق، قائمة على أربعة أعمدة صغار من الرخام وتحتها شباك حديد مستدير، وفي وسطه أنبوب من الصفر يمج الماء الى علو، فيرتفع وينثني كأنه قضيب لجين، يشره الناس لوضع أفواههم فيه للشرب استظرافا واستحسانا، ويسمونه قفص الماء. والقبة الثالثة في الجانب الشرقي قائمة على ثمانية أعمدة على هيئة القبة الكبيرة لكن أصغر منها. وفي الجانب الشمالي من الصحن باب كبير يفضي الى مسجد كبير، في وسطه صحن، قد استدار فيه صهريج من الرخام كبير، يجري الماء فيه دائما من صفحة رخام أبيض مثمنة قد قامت وسط الصهريج على رأس عمود مثقوب يصعد الماء منه اليها، ويعرف هذا الموضع بالكلاسة، ويصلي فيه اليوم صاحبنا الفقيه الزاهد المحدث أبو جعفر الفنكي القرطبي، ويتزاحم الناس على الصلاة فيه خلفه التماسا لبركته واستماعا لحسن صوته. وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يفضي الى مسجد من أحسن المساجد وأبدعها وضعا وأجملها بناء؛ يذكر الشيعة أنه مشهد لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه. وهذا من أغرب مختلقاتهم. ومن العجيب أنه يقابله، في الجهة الغربية في زاوية البلاط الشمالي من الصحن، موضع هو ملتقى آخر البلاط الشمالي مع أول البلاط الغربي، مجلل بستر في أعلاه، وأمامه ستر أيضا منسدل، يزعم أكثر الناس أنه موضع لعائشة، رضي الله عنها، وأنها كانت تسمع الحديث فيه. وعائشة، رضي الله عنها، في دخول دمشق كعلي، رضي الله عنه، لكن لهم في علي، رضي الله عنه مندوحة من القول، وذلك أنهم يزعمون أنه رؤي في المنام مصليا في ذلك الموضع فبنت الشيعة فيه مسجدا. واما الموضع المنسوب لعائشة، رضي الله عنها، فلا مندوحة فيه وإنما ذكرناه لشهرته في الجامع.

وكان هذا الجامع المبارك، ظاهرا وباطنا، منزلا كله بالفصوص المذهبة، مزخرفا بأبدع زخاريف البناء المعجز الصنعة، فأدركه الحريق مرتين، فتهدم وجدد، وذهب أكثر رخامه، فاستحال رونقه، فأسلم ما فيه اليوم قبلته مع الثلاث قباب المتصلة بها. ومحرابه من أعجب المحاريب الاسلامية حسنا وغرابة صنعة، يتقد ذهبا كله. وقد قامت في وسطه محاريب صغار متصلة بجداره تحفها سويريات مفتولات فتل الأسورة كأنها مخروطة، لم ير شيء أجمل منها، وبعضها حمر كأنها مرجان. فشأن قبلة هذا الجامع المبارك، مع ما يتصل من قبابه الثلاث، واشراق شمسياته المذهبة الملونة عليه، واتصال شعاع الشمس بها، وانعكاسه الى كل لون منها، حتى ترتمي الأبصار منه أشعة ملونة، يتصل ذلك بجداره القبلي كله، عظيم لا يلحق وصفه ولا تبلغ العبارة بعض ما يتصوره الخاطر منه، والله يعمره بشهادة الإسلام وكلمته بمنّه. وفي الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من مصاحف عثمان رضي الله عنه، وهو المصحف الذي وجه به الى الشام وتفتح الخزانة كل يوم إثر الصلاة فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله ويكثر الازدحام عليه. وله أربعة أبواب: باب قبلي، ويعرف بباب الزيادة، وله دهليز كبير متسع، له أعمدة عظام، وفيه حوانيت للخرزيين وسواهم، وله مرأى رائع، ومنه يفضى الى دار الخيل، وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين وهي كانت دار معاوية، رضي الله عنه، وتعرف بالخضراء؛ وباب شرقي، وهو أعظم الأبواب، ويعرف بباب جيرون؛ وباب غربي، ويعرف بباب البريد؛ وباب شمالي، ويعرف بباب الناطفيين. وللشرقي والغربي والشمالي أيضا من هذه الأبواب دهاليز متسعة، يفضي كل دهليز منها الى باب عظيم، كانت كلها مداخل للكنيسة فبقيت على حالها، وأعظمها منظرا الدهليز المتصل بباب جيرون، يخرج من هذا الباب الى بلاط

طويل عريض قد قامت أمامه خمسة أبواب مقوسة لها ستة اعمدة طوال. وفي وجه اليسار منه مشهد كبير حفيل كان فيه رأس الحسين بن علي، رضي الله عنهما ثم نقل الى القاهرة. وبإزائه مسجد صغير ينسب لعمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه. وبذلك المشهد ماء جار. وقد انتظمت أمام البلاط أدراج ينحدر عليها الى الدهليز، وهو كالخندق العظيم، يتصل الى باب عظيم الارتفاع، ينحسر الطرف دونه سموا، قد حفته أعمدة كالجذوع طولا وكالأطواد ضخامة. وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قامت عليها شوارع مستديرة، فيها الحوانيت المنتظمة للعطارين وسواهم، وعليها شوارع أخر مستطيلة فيها الحجر والبيوت للكراء مشرفة على الدهليز، وفوقها سطح يبيت به سكان الحجر والبيوت، وفي وسط الدهليز حوض كبير مستدير من الرخام عليه قبة تقلها أعمدة من الرخام، ويستدير بأعلاها طرة من الرصاص واسعة مكشوفة للهواء لم ينعطف عليها تعتيب. وفي وسط الحوض الرخامي أنبوب صفر يزعج الماء بقوة فيرتفع الى الهواء أزيد من القامة لم ... وحوله أنابيب صغار ترمي الماء الى علو فيخرج عنها كقضبان اللجين، فكأنها أغصان تلك الدوحة المائية ومنظرها أعجب وأبدع من أن يلحقه الوصف. وعن يمين الخارج من باب جيرون، في جدار البلاط الذي أمامه، غرفة، ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفر قد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار ودبرت تدبيرا هندسيا، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازيين مصورين من صفر قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما: أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب، والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار الى الغرفة، وتبصر البازيين يمدان أعناقهما بالبندقتين الى الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحرا، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر؛

لا يزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات، ثم تعود الى حالها الأول. ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة، مدبر ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عمّ الزجاجة ضوء المصباح وفاض على الدائرة أمامها شعاعها، فلاحت للأبصار دائرة محمرة، ثم انتقل ذلك الى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها، وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها، درب بشأنها وانتقالها، يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج الى موضعها. وهي التي يسميها الناس المنجانة. ودهليز الباب الغربي فيه حوانيت البقالين والعطارين، وفيه سماط لبيع الفواكه، وفي أعلاه باب عظيم يصعد اليه على أدراج، وله أعمدة سامية في الهواء. وتحت الأدراج سقايتان مستديرتان: سقاية يمينا، وسقاية يسارا، لكل سقاية خمسة أنابيب ترمي الماء في حوض رخام مستطيل. ودهليز الباب الشمالي فيه زوايا على مصاطب محدقة بالأعواد المشرجبة، وهي محاضر لمعلمي الصبيان. وعن يمين الخارج في الدهليز خانقة مبنية للصوفية في وسطها صهريج ويقال: انها كانت دار عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، ولها خبر سيأتي ذكره بعد هذا. والصهريج الذي في وسطها يجري الماء فيه، ولها مطاهر يجري الماء في بيوتها. وعن يمين الخارج أيضا من باب البريد مدرسة للشافعية في وسطها صهريج يجري الماء فيه ولها مطاهر على الصفة المذكورة. وفي الصحن بين القباب المذكورة عمودان متباعدان يسيرا لهما رأسان من الصفر مستطيلان مشرجبان قد خرما أحسن تخريم، يسرجان ليلة النصف من شعبان فيلوحان كأنهما ثريتان مشتعلتان. واحتفال أهل هذه البلدة لهذه الليلة المذكورة اكثر من احتفالهم ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم.

وفي هذا الجامع المبارك مجتمع عظيم، كل يوم اثر صلاة الصبح، لقراءة سبع من القرآن دائما، ومثله اثر صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية، يقرءون فيها من سورة الكوثر الى الخاتمة. ويحضر في هذا المجتمع الكوثري كل من لا يجيد حفظ القرآن. وللمجتمعين على ذلك اجراء كل يوم يعيش منه أزيد من خمس مئة انسان. وهذا من مفاخر هذا الجامع المكرم. فلا تخلو القراءة منه صباحا ولا مساء. وفيه حلقات للتدريس للطلبة، وللمدرسين فيها اجراء واسع، وللمالكية زاوية للتدريس في الجانب الغربي، يجتمع فيها طلبة المغاربة، ولهم اجراء معلوم. ومرافق هذا الجامع المكرم للغرباء وأهل الطلب كثيرة واسعة. وأغرب ما يحدث به أن سارية من سواريه، هي بين المقصورتين القديمة والحديثة، لها وقف معلوم يأخذه المستند اليها للمذاكرة والتدريس. أبصرنا بها فقيها من أهل اشبيلية يعرف بالمرادي. وعند فراغ المجتمع السبعي من القراءة صباحا يستند كل انسان منهم الى سارية ويجلس أمامه صبي يلقنه القرآن. وللصبيان أيضا على قراءتهم جراية معلومة. فأهل الجدة من آبائهم ينزهون أبناءهم عن أخذها وسائرهم يأخذها وهذا من المفاخر الاسلامية. وللأيتام من الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير، يأخذ منه المعلم لهم ما يقوم به وينفق منه على الصبيان ما يقوم بهم وبكسوتهم؛ وهذا أيضا من أغرب ما يحدّث به من مفاخر هذه البلاد. وتعليم الصبيان للقرآن بهذه البلاد المشرقية كلها انما هو تلقين، ويعلمون الخط في الأشعار وغيرها، تنزيها لكتاب الله عز وجل عن ابتذال الصبيان له بالإثبات والمحو. وقد يكون في أكثر البلاد الملقن على حدة والمكتّب على حدة فينفصل من التلقين الى التكتيب، لهم في ذلك سيرة حسنة. ولذلك ما يتأتى لهم حسن الخط، لأن المعلم له لا يشتغل بغيره، فهو يستفرغ جهده في التعليم والصبي في التعلم كذلك، ويسهل عليه لأنه بتصوير يحذو حذوه. ويستدير بهذا الجامع المكرم أربع سقايات، في كل جانب سقايات، في كل جانب سقاية، كل واحدة

مشاهده المكرمة وآثره المعظمة

منها كالدار الكبيرة محدقة بالبيوت الخلائية، والماء يجري في كل بيت منها. وبطول صحنها حوض من الحجر مستطيل تصب فيه عدة أنابيب منتظمة بطوله. واحدى هذه السقايات في دهليز باب جيرون، وهي أكبرها وفيها من البيوت ما ينيف على الثلاثين، وفيها زائدا على السقاية المستطيلة مع جدارها حوضان كبيران مستديران يكادان يمسكان لسعتهما عرض الدار المحتوية على هذه السقاية، والواحد بعيد من الآخر، ودور كل واحد منهما نحو الأربعين شبرا، والماء نابع فيهما. والثانية في دهليز باب الناطفيين بإزاء المعلمين، والثالثة عن يسار الخارج من باب البريد، والرابعة عن يمين الخارج من باب الزيادة. وهذه ايضا من المرافق العظيمة للغرباء وسواهم. والبلد كله سقايات قلما تخلو سكة من سككه أو سوق من أسواقه، من سقاية، والمرافق به أكثر من أن توصف، والله يبقيه دار اسلام بقدرته. مشاهده المكرمة وآثره المعظمة فاولها مشهد رأس يحيى بن زكرياء، عليه السلام، وهو مدفون بالجامع المكرم في البلاط القبلي قبالة الركن الأيمن من المقصورة الصحابية، رضي الله عنهم، وعليه تابوت خشب معترض من الأسطوانة، وفوقه قنديل كأنه من بلور مجوف، كأنه القدح الكبير، لا يدرى أمن زجاج عراقي أم صوري هو أم من غير ذلك. ومولد ابراهيم، صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا الكريم، وهو بصفح جبل قاسيون عند قرية تعرف ببرزة، وهي من أجمل القرى، وهذا الجبل مشهور بالبركة في القديم لأنه مصعد الأنبياء، صلوات الله عليهم، ومطلعهم، وهو في الجهة الشمالية من البلد وعلى مقدار فرسخ، وهذا المولد المبارك غار مستطيل ضيق، وقد بني عليه مسجد كبير مرتفع مقسم على مساجد كثيرة كالغرف المطلة، وعليه صومعة عالية، ومن ذلك الغار رأى، صلى الله عليه وسلم، الكوكب

ثم القمر ثم الشمس، حسبما ذكره الله تعالى في كتابه عز وجل، وفي ظهر الغار مقامه الذي كان يخرج اليه، وهذا كله ذكره الحافظ محدث الشام أبو القاسم بن هبة الله بن عساكر الدمشقي في تاريخه في أخبار دمشق، وهو ينيف على مئة مجلد. وذكر أيضا أن بين باب الفراديس، وهو أحد أبواب البلد، وفي الجهة الشمالية من الجامع المبارك، على مقربة منه الى جبل قاسيون، مدفن سبعين ألف نبي، وقيل: سبعون ألف شهيد، وأن الأنبياء المدفونين به سبع مئة نبي، والله أعلم. وخارج هذا البلد الجبانة العتيقة، وهي مدفن الأنبياء والصالحين، وبركتها شهيرة. وفي طرفها مما يلي البساتين وهدة من الأرض متصلة بالجبانة، ذكر انها مدفن سبعين نبيا، وعصمها الله ونزهها من أن يدفن فيها أحد، والقبور محيطة بها، وهي لا تخلو من الماء حتى عادت قرارة له، كل ذلك تنزيه من الله تعالى لها. ويجبل قاسيون أيضا لجهة الغرب، على مقدار ميل أو أزيد من المولد المبارك، مغارة تعرف بمغارة الدم، لأن فوقها في الجبل دم هابيل قتيل أخيه قابيل ابني آدم، صلى الله عليه وسلم، يتصل من نحو نصف الجبل الى المغارة، وقد أبقى الله منه في الجبل آثارا حمرا في الحجارة تحك فتستحيل، وهي كالطريق في الجبل، وتنقطع عند المغارة، وليس يوجد في النصف الأعلى من المغارة آثار تشبهها، فكان يقال: انها لون حجارة الجبل، وانما هي من الموضع الذي جر منه القاتل لأخيه حيث قتله حتى انتهى الى المغارة، وهي من آيات الله تعالى، وآياته لا تحصى. وقرأنا في تاريخ ابن المعلى الأسدي أن تلك المغارة صلى فيها ابراهيم وموسى وعيسى ولوط وأيوب، عليهم وعلى نبينا الكريم أفضل الصلاة والسلام. وعليها مسجد قد أتقن بناؤه، ويصعد اليه على أدراج، وهو كالغرفة المستديرة، وحولها أعواد مشرجبة مطيفة بها، وبه بيوت ومرافق للسكنى. وهو يفتح

كل يوم خميس والسرج من الشمع والفتائل تقد في المغارة، وهي متسعة. وفي أعلى الجبل كهف منسوب لآدم، صلى الله عليه وسلم، وعليه بناء، وهو موضع مبارك. وتحته في حضيض الجبل مغارة تعرف بمغارة الجوع، ذكر أن سبعين نبيا ماتوا فيها جوعا، وكان عندهم رغيف فلم يزل كل واحد منهم يؤثر به صاحبه ويدور عليهم من يد الى يد حتى لحقتهم المنية، صلوات الله عليهم. وعلى هذه المغارة أيضا مسجد مبني، وأبصرنا فيه السرج تقد نهارا. ولكل مشهد من هذه المشاهد أوقاف معينة من بساتين وأرض بيضاء ورباع، حتى ان البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيه. وكل مسجد يستحدث بناؤه أو مدرسة أو خانقة يعين لها السلطان أوقافا تقوم بها وبساكنيها والملتزمين لها وهذه ايضا من المفاخر المخلدة. ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة وتنفق فيها الأموال الواسعة وتعين لها من مالها الأوقاف. ومن الأمراء من يفعل مثل ذلك، لهم في هذه الطريقة المباركة مسارعة مشكورة عند الله عز وجل. وبآخر هذا الجبل المذكور، في آخر البسيط البستاني الغربي من هذا البلد، الربوة المباركة المذكورة في كتاب الله تعالى: مأوى المسيح وأمه، صلوات الله عليهما، وهي من أبدع مناظر الدنيا حسنا وجمالا واشراقا واتقان بناء واحتفال تشييد وشرف وضع، هي كالقصر المشيد، ويصعد اليها على أدراج. والمأوى المبارك منها مغارة صغيرة في وسطها، وهي كالبيت الصغير. وبإزائها بيت يقال: انه مصلى الخضر صلى الله عليه وسلم، فيبادر الناس للصلاة بهذين الموضعين المباركين، ولا سيما المأوى المبارك. وله باب حديد صغير ينغلق دونه، والمسجد يطيف بها، ولها شوارع دائرة، وفيها سقاية لم ير أحسن منها، قد سيق اليها الماء من علو، وماؤها ينصب على شاذروان في الجدار متصل بحوض من رخام يقع الماء فيه، لم ير أحسن من منظره. وخلف ذلك مطاهر يجري الماء في كل بيت منها ويستدير بالجانب المتصل بجدار الشاذروان.

وهذه الربوة المباركة رأس بساتين البلد ومقسم مائه، ينقسم فيها الماء على سبعة أنهار، يأخذ كل نهر طريقه، وأكبر هذه الأنهار نهر يعرف بثورا، وهو يشق تحت الربوة، وقد نقر له في الحجر الصلد أسفلها حتى انفتح له متسرب واسع كالغار، وربما انغمس الجسور من سباح الصبيان أو الرجال من أعلى الربوة في النهر واندفع تحت الماء حتى يشق متسربه تحت الربوة ويخرج أسفلها، وهي مخاطرة كبيرة. ويشرف من هذه الربوة على جميع البساتين الغربية من البلد، ولا اشراف كإشرافها حسنا وجمالا واتساع مسرح للأبصار. وتحتها تلك الأنهار السبعة تتسرب وتسيح في طرق شتى، فتحار الأبصار في حسن اجتماعها وافتراقها واندفاع انصبابها. وشرف موضوع هذه الربوة ومجموع حسنها أعظم من أن يحيط به وصف واصف في غلو مدحه. وشأنها في موضوعات الدنيا الشريفة خطير كبير. ويتصل بها أسفل منها، بمقربة من المسافة، قرية كبيرة تعرف بالنيرب، قد غطتها البساتين، فلا يظهر منها الا ما سما بناؤه. وبها جامع لم ير أحسن منه مفروش سطحه كله بفصوص الرخام الملون، فيخيل لناظره انه ديباج مبسوط. وفيه سقاية ماء رائقة الحسن، ومطهرة لها عشرة أبواب، يجري الماء فيها ويطيف بها. وفوقها لجهة القبلة قرية كبيرة، هي من أحسن القرى، تعرف بالمزة، وبها جامع كبير وسقاية معينة، وبقرية النيرب حمّام، وأكثر قرى هذه البلدة فيها الحمّامات. وفي الجهة الشرقية من البلد، عن يمين الطريق الى مولد ابراهيم، عليه السلام، قرية تعرف ببيت لاهية، يريدون الآلهة، وكانت فيها كنيسة هي الآن مسجد مبارك، وكان آزر أبو ابراهيم ينحت فيها الآلهة ويصورها فيجيء الخليل ابراهيم، صلوات الله عليه وعلى نبينا الكريم، فيكسرها. وهي اليوم مسجد يجتمع فيه أهل القرية، وسطحه كله مفروش بفصوص الرخام الملونة، منتظم

كله خواتيم وأشكالا بديعة، يخيل لمبصرها أنها فرش متقنة مزخرفة، وهو من المشاهد الكريمة. وللربوة المباركة أوقاف كثيرة من بساتين وأرض بيضاء ورباع. وهي معينة التقسيم لوظائفها. فمنها ما هو معين باسم النفقة في الأدم للبائتين فيها من الزوار، ومنها ما هو معين للأكسية برسم التغطية بالليل، ومنها ما هو معين للطعام، الى تقاسيم تستوفى جميع مؤنها، ومؤن الأمين الراتب فيها برسم الإمامة، والمؤذن الملتزم خدمتها، ولهم على ذلك كله مرتب معلوم في كل شهر. وهي خطة من أعظم الخطط. والأمين فيها الآن من بقية المرابطين المسوفيين ومن أعيانهم، يعرف بأبي الربيع سليمان بن ابراهيم بن مالك، وله مكانة من السلطان ووجوه الدولة، وله في الشهر خمسة دنانير حاشا فائدة الربوة، وهو متسم بالخير ومرتسم به، وهو متعلق بسبب من أسباب البر في ايواء أهل الغرب من الغرباء المنقطعين بهذه الجهات، يسبب لهم وجوه المعايش من إمامة في مسجد أو سكنى بمدرسة تجرى عليه فيها النفقة أو التزام زاوية من زوايا المسجد الجامع يجبى اليه فيها رزقه أو حضور في قراءة سبع، أو سدانة مشهد من المشاهد المباركة يكون فيه، ويجري عليه ما يقوم به من أوقافه، الى غير ذلك من الوجوه المعاشية على هذه السبيل المباركة مما يطول شرحه. فالغريب المحتاج هنا، اذا كان على طريقة الخير، مصون محفوظ غير مريق ماء الوجه. وسائر الغرباء ممن ليس على هذه الحال، ممن عهد الخدمة والمهنة، يسبب له أيضا أسباب غريبة من الخدمة. اما بستان يكون ناطورا فيه، أو حمّام يكون عينا على خدمته، وحافظا لأثواب داخليه، أو طاحونة يكون أمينا عليها، أو كفالة صبيان يؤديهم الى محاضرهم ويصرفهم الى منازلهم، الى غير ذلك من الوجوه الواسعة. وليس يؤتمن فيها كلها سوى المغاربة الغرباء، لأنهم قد علا لهم بهذا البلد

صيت في الأمانة، وطار لهم فيها ذكر، وأهلها لا يأتمنون البلديين. وهذا من إلطاف الله تعالى بالغرباء، وله الحمد والشكر على ما يولي عباده. وان شاء أحد المتعلقين بأسباب المعارف التعرض هنالك للسلطان يقبله ويكرمه ويرتبه ويجري عليه بحسب قدره ومنصبه، وقد طبعت هذه البلاد وملوكها على هذه الفضائل قديما وحديثا. وقد تسلسل بنا القول الى غير الباب الذي نحن فيه، والحديث ذو شجون، والله كفيل بحسن العون، لا رب سواه. وبغربي البلد جبانة كبيرة تعرف بقبور الشهداء، فيها كثير من الصحابة والتابعين الأئمة الصالحين، رضي الله عنهم، فالمشهور بها من قبور الصحابة، رضي الله عنهم، قبر أبي الدرداء وقبر زوجته أم الدرداء، رضي الله عنهما، وموضع مبارك فيه تاريخ قديم مكتوب عليه في هذا الموضع قبر جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم، منهم فضالة بن عبيد، وسهل بن الحنظلية، من الذين بايعوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تحت الشجرة، وخال أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه؛ وقبره مسنم في الموضع المذكور. وقرأت في فضائل دمشق: أن أم المؤمنين أم حبيبة أخت معاوية، رضي الله عنهما، مدفونة بدمشق. وقبر واثلة بن الأسقع من أهل الصفة. وفي الجهة التي تلي هذا الموضع المبارك تاريخ فيه مكتوب: هذا قبر أوس بن أوس الثقفي. وحول هذا الموضع المذكور، على مقربة منه، قبر بلال بن حمامة مؤذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وفي رأس القبر المبارك تاريخ باسمه، رضي الله عنه. والدعاء في هذا الموضع المبارك مستجاب، قد جرّب ذلك كثير من الأولياء وأهل الخير المتبركين بزيارتهم الى قبور كثيرة من الصحابة وسواهم من الصالحين ممن قد ذهب اسمه وغبر ذكره، ومشاهد كثيرة لأهل البيت، رضي الله عنهم، رجالا ونساء، وقد احتفل الشيعة في البناء عليهم، ولها الأوقاف الواسعة ومن أحفل هذه المشاهد مشهد منسوب لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه قد بني عليه مسجد حفيل رائق البناء، وبإزائه بستان كله نارنج، والماء بطر؟؟؟

فيه من سقاية معينة. والمسجد كله ستور معلقة في جوانبه صغار وكبار. وفي المحراب حجر عظيم قد شق بنصفين والتحم بينهما ولم يبن النصف عن النصف بالكلية، يزعم الشيعة أنه انشق لعلي، رضي الله عنه، اما بضربة بسيفه أو بأمر من الأمور الإلهية على يديه. ولم يذكر عن علي، رضي الله عنه، أنه دخل قط هذا البلد، اللهم الا ان زعموا أنه كان في النوم، فلعل جهة الرؤيا تصح لهم اذ لا تصح لهم جهة اليقظة. وهذا الحجر أوجب بنيان هذا المشهد. وللشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة، وهم أكثر من السنيين بها. وقد عمروا البلاد بمذاهبهم، وهم فرق شتى: منهم الرافضة، وهم السبّابون؛ ومنهم الإمامية والزيدية، وهم يقولون بالتفضيل خاصة؛ ومنهم الاسماعيلية والنصيرية وهم كفرة فإنهم يزعمون الإلهية لعلي، رضي الله عنه، تعالى الله عن قولهم؛ ومنهم الغرابية، وهم يقولون: ان عليا، رضي الله عنه، كان أشبه بالنبي، صلى الله عليه وسلم، من الغراب بالغراب، وينسبون الى الروح الأمين، عليه السلام، قولا تعالى الله عنه علوا كبيرا؛ الى فرق كثيرة يضيق عنهم الإحصاء، قد أضلهم الله وأضل بهم كثيرا من خلقه، نسأل الله العصمة في الدين، ونعوذ به من زيغ لملحدين. وسلط الله على هذه الرافضة طائفة تعرف بالنبوية، سنيون يدينون بالفتوة وبأمور الرجولة كلها. وكل من الحقوه بهم لخصلة يرونها فيه منها يحزمونه السراويل فيلحقونه بهم، ولا يرون أن يستعدي أحد منهم في نازلة تنزل به، لهم في ذلك مذاهب عجيبة. واذا أقسم أحدهم بالفتوة برّ قسمه. وهم يقتلون هؤلاء الروافض أينما وجدوهم. وشأنهم عجيب في الأنفة والائتلاف. ومن المشاهد المكرمة مشهد سعد بن عبادة رئيس الخزرج، صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو بقرية تعرف بالمنيحة شرقي البلد وعلى مقدار أربعة أميال منه. وعلى قبره مسجد صغير حسن البناء، والقبر في وسطه، وعند رأسه مكتوب: هذا قبر سعد بن عبادة رأس الخزرج، صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلّم.

ومن مشاهد أهل البيت، رضي الله عنهم: مشهد أم كلثوم ابنة عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنهما، ويقال لها زينب الصغرى، وأم كلثوم، كنية أوقعها عليها النبي، صلى الله عليه وسلّم، لشبهها بابنته ام كلثوم، رضي الله عنها، والله أعلم بذلك، ومشهدها الكريم بقرية قبليّ البلد تعرف براوية على مقدار فرسخ، وعليه مسجد كبير، وخارجه مساكن، وله أوقاف، وأهل هذه الجهات يعرفونه بقبر الست أم كلثوم، مشينا اليه وبتنا به وتبرّكنا برؤيته، نفعنا الله بذلك. وبالجبّانة التي بغربي البلد، من قبور أهل البيت، كثير، رضي الله عنهم، منهما قبران عليهما مسجد يقال انهما من ولد الحسن والحسين، رضي الله عنهما، ومسجد آخر فيه قبر يقال انه لسكينة بنت الحسين، رضي الله عنهما، أو لعلها سكينة اخرى من أهل البيت ومن المشاهد أيضا قبر بجامع النّيرب، في بيت بالجهة الشرقية منه، يقال انه لأم مريم، رضي الله عنها. وبقرية دارية قبر أبي مسلم الخولاني، رضي الله عنه، وعليه قبة هي علامة القبر، وبها أيضا قبر أبي سليمان الداراني، رضي الله عنه. وبين هذه القرية وبين البلد مقدار اربعة أميال، وهي لجهة الغرب منه. ومن المشاهد الكريمة التي لم نعاينها ووصفت لنا قبرا شيث ونوح، عليهما السلام، وهما بالبقاع، وهي على يومين من البلد. وحدثنا من ذرع قبر شيث فألفى فيه أربعين باعا، وفي قبر نوح ثلاثين. وبإزاء قبر نوح قبر ابنة له. وعلى هذه القبور بناء، ولها أوقاف كثيرة، ولها قيّم يلتزمها. ومن المشاهد المباركة أيضا، بالجبانة الغربية وبمقربة من باب الجابية، قبر اويس القرني، رضي الله عنه، وقبور خلفاء بني امية، رحمهم الله، يقال: انها بإزاء باب الصغير بمقربة من الجبانة المذكورة، وعليها اليوم بناء يسكن فيه. والمشاهد المباركة في هذه البلدة أكثر من أن تنضبط بالتقييد وانما رسم من ذلك ما هو مشهور ومعلوم. ومن المشاهد الشهيرة أيضا مسجد الاقدام، وهو

شهر جمادى الأول

على مقدار ميلين من البلد مما يلي القبلة على قارعة الطريق الأعظم الآخذ الى بلاد الحجاز والساحل وديار مصر. وفي هذا المسجد بيت صغير فيه حجر مكتوب عليه: كان بعض الصالحين يرى النبيّ، صلى الله عليه وسلم، في النوم، فيقول: ههنا قبر أخي موسى، صلى الله عليه وسلم. والكثيب الأحمر على الطريق بمقربة من هذا الموضع وهو بين غالية وغويلية كما ورد في الأثر، وهما موضعان. وشأن هذا المسجد في البركة عظيم، ويقال: ان النور ما خلا قط من هذا الموضع الذي يذكر أن القبر فيه حيث الحجر المكتوب. وله أوقاف كثيرة. فأما الأقدام ففي حجارة في الطريق اليه معلم عليها، تجد اثر القدم في كل حجر، وعدد الأقدام تسع، ويقال. انها أثر قدم موسى، عليه السلام، والله أعلم بحقيقة ذلك، لا اله سواه. شهر جمادى الأول استهل هلاله ليلة الجمعة، بموافقة العاشر لشهر أغوشت العجمي. بعض أحوال البلد لهذه البلدة ثمانية ابواب. باب شرقي، وهو شرقي وفيه منارة بيضاء يقال: انّ عيسى، عليه السلام، ينزل فيها، لما جاء في الأثر انه ينزل بالمنارة البيضاء شرقيّ دمشق، ويلي هذا الباب باب توما، وهو أيضا في حيّز الشرق؛ ثم باب السلامة، ثم باب الفراديس، وهو شمالي؛ ثم باب الفرج، ثم باب النصر، وهو غربي؛ ثم باب الجابية كذلك؛ ثم باب الصغير، وهو بين الغرب والقبلة. والمسجد الجامع مائل الى الجهة الشمالية من البلد، والأرباض به مطيفة الا من جهة

الشرق مع ما يتصل بها من القبلة يسيرا. والأرباض كبار، والبلد ليس بمفرط الكبر، وهو مائل للطول، وسككه ضيقة مظلمة، وبناؤه طين وقصب، طبقات بعضها فوق بعض، ولذلك ما يسرع الحريق اليه، وهو كله ثلاث طبقات، فيحتوي من الخلق على ما تحتوي ثلاث مدن، لأنه أكثر بلاد الدنيا خلقا، وحسنه كله خارج لا داخل. وفي داخل البلد كنيسة لها عند الروم شأن عظيم، تعرف بكنيسة مريم، ليس بعد بيت المقدس عندهم أفضل منها. وهي حفيلة البناء، تتضمن من التصاوير أمرا عجيبا تبهت الأفكار، وتستوقف الأبصار، ومرآها عجيب، وهي بأيدي الروم، ولا اعتراض عليهم فيها. وبهذه البلدة نحو عشرين مدرسة، وبها مارستانان قديم وحديث، والحديث أحفلهما واكبرهما، وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر دينارا، وله قومة بأيديهم الأزمة المحتوية على اسماء المرضى وعلى النفقات التي يحتاجون اليها في الأدوية والأغذية وغير ذلك، والأطباء يبكرون اليه في كل يوم ويتفقدون المرضى ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية حسبما يليق بكل انسان منهم. والمارستان الآخر على هذا الرسم، لكن الاحتفال في الجديد أكثر. وهذا القديم هو غربي الجامع المكرّم. وللمجانين المعتقلين أيضا ضرب من العلاج، وهم في سلاسل موثقون، نعوذ بالله من المحنة وسوء القدر. وتندر من بعضهم النوادر الظريفة، حسبما كنا نسمع به. ومن أعجب ما حدثت به من ذلك: أن رجلا كان يعلم القرآن، وكان يقرأ عليه أحد أبناء وجوه البلد ممن أوتي مسحة جمال، واسمه نصر الله، وكان المعلم يهيم به، فزاد كلفه حتى اختبل وأدي الى المارستان، واشتهرت علته وفضيحته بالصبي، وربما كان يدخله أبوه اليه، فقيل له: اخرج، وعد لما كنت عليه من القرآن. فقال متماجنا تماجن المجانين: وأي قراءة بقيت لي؟ ما بقي في حفظي من القرآن شيء سوى: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ» فضحك منه، ومن قوله. ونسأل الله العافية له ولكل

مسلم، فلم يزل كذلك حتى توفي سمح الله له. وهذه المارستانات مفخر عظيم من مفاخر الإسلام، والمدارس كذلك. ومن أحسن مدارس الدنيا منظرا مدرسة نور الدين، رحمه الله، وبها قبره، نوّره الله. وهي قصر من القصور الأنيقة، ينصب فيها الماء في شاذروان وسط نهر عظيم ثم يمتد الماء في ساقية مستطيلة الى ان يقع في صهريج كبير وسط الدار. فتحار الأبصار في حسن ذلك المنظر، فكل من يبصره يجدد الدعاء لنور الدين، رحمه الله. وأما الرباطات التي يسمونها الخوانق فكثيرة، وهي برسم الصوفية. وهي قصور مزخرفة، يطرد في جميعها الماء على احسن منظر يبصر. وهذه الطائفة الصوفية هم الملوك بهذه البلاد، لأنهم قد كفاهم الله مؤن الدنيا وفضولها، وفرّغ خواطرهم لعبادته من الفكرة في اسباب المعايش، وأسكنهم في قصور تذكرهم قصور الجنان. فالسعداء الموفقون منهم قد حصل لهم بفضل الله تعالى نعيم الدنيا والآخرة. وهم على طريقة شريفة، وسنّة في المعاشرة عجيبة، وسيرتهم في التزام رتب الخدمة غريبة، وعوائدهم من الاجتماع للسماع المشوّق جميلة، وربما فارق منهم الدنيا في تلك الحالات المنفعل المثابر رقة وتشوّقا. وبالجملة فأحوالهم كلها بديعة، وهم يرجون عيشا طيبا هنيئا. ومن أعظم ما شاهدناه لهم موضع يعرف بالقصر، وهو صرح عظيم مستقل في الهواء، في اعلاه مساكن لم ير اجمل اشرافا منها، وهو من البلد بنصف الميل، له بستان عظيم يتصل به، وكان متنزها لاحد ملوك الاتراك. فيقال: انه كان فيه احدى الليالي على راحة، فاجتاز به قوم من الصوفية، فهريق عليهم من النبيذ الذي كانوا يشربونه في ذلك القصر. فرفعوا الأمر لنور الدين، فلم يزل حتى استوهبه من صاحبه ووقفه برسم الصوفية مؤبدا لهم. فطال العجب من السماحة بمثله، وبقي أثر الفضل فيه مخلدا لنور الدين، رحمه الله. ومناقب هذا الرجل الصالح كبيرة، وكان من الملوك الزهاد. وتوفي في شوال

مرافق الغرباء

سنة تسع وستين وخمس مئة، واستولى بعده على الأمر صلاح الدين، وهو على طريقة من الفضل شهيرة، وشأنه في الملوك كبير، وله الأثر الباقي شرفه من ازالة المكوس بطريق الحجاز، ودفعه عوضا عنها لصاحب الحجاز. وكانت الأيام قد استمرت قديما بهذه الضريبة اللعينة الى أن محا الله رسمها على يدي هذا الملك العادل، أصلحه الله. ومن مناقب نور الدين، رحمه الله تعالى، أنه كان عين للمغاربة الغرباء، الملتزمين زاوية المالكية بالمسجد الجامع المبارك، أوقافا كثيرة، منها طاحونتان وسبعة بساتين وارض بيضاء وحمام ودكانان بالعطارين. وأخبرني احد المغاربة الذين كانوا ينظرون فيه، وهو أبو الحسن علي بن سردال الجياني المعروف بالأسود: أن هذا الوقف المغربي يغل، اذا كان النظر فيه جيدا، خمس مئة دينار في العام. وكان له، رحمه الله، بجانبهم فضل كبير، نفعه الله بما أسلف من الخير، وهيأ ديارا موقوفة لقراء كتاب الله عز وجل يسكنونها. مرافق الغرباء ومرافق الغرباء بهذه البلدة أكثر من أن يأخذها الاحصاء، ولا سيما لحفاظ كتاب الله، عزّ وجل، والمنتمين للطلب. فالشأن بهذه البلدة لهم عجيب جدا. وهذه البلاد المشرقية كلها على هذا الرسم، لكن الاحتفال بهذه البلدة أكثر والاتساع أوجد. فمن شاء الفلاح من نشأة مغربنا فليرحل الى هذه البلاد ويتغرب في طلب العلم فيجد الأمور المعينات كثيرة فأولها فراغ البال من أمر المعيشة، وهو اكبر الأعوان وأهمها، فاذا كانت الهمة فقد وجد السبيل الى الاجتهاد، ولا عذر للمقصر الا من يدين بالعجز والتسويف، فذلك من لا يتوجه هذا الخطاب عليه، وانما المخاطب كل ذي همة يحول طلب المعيشة بينه وبين مقصده في وطنه من الطلب العلمي، فهذا المشرق بابه مفتوح لذلك، فادخل أيها المجتهد بسلام، وتغنم الفراغ والانفراد قبل علق

من عجيب أمر المشارقة

الاهل والاولاد وتقرع سن الندم على زمن التضييع، والله يوفق ويرشد، لا اله سواه، قد نصحت ان ألفيت سامعا، وناديت ان اسمعت مجيبا، «ومن يهد الله فهو المهتد» ، جلت قدرته، وتعالى جده. ولو لم يكن بهذه الجهات المشرقية كلها الا مبادرة أهلها لإكرام الغرباء وايثار الفقراء، ولا سيما أهل باديتها، فانك تجد من بدار الى بر الضيف عجبا، كفى بذلك شرفا لها. وربما يعرض أحدهم كسرته على فقير فيتوقف عن قبولها، فيبكي الرجل ويقول: لو علم الله فيّ خيرا لأكل الفقير طعامي، لهم في ذلك سرّ شريف. من عجيب أمر المشارقة ومن عظيم أمرهم تعظيمهم للحاج، على قرب مسافة الحجّ منهم، وتيسير ذلك لهم، واستطاعتهم لسبيله. فهم يتمسحون بهم عند صدورهم، ويتهافتون عليهم تبركا بهم. ومن أغرب ما حدثنا من ذلك: أن الحاج الدمشقي مع من انضاف اليهم من المغاربة عند صدورهم الى دمشق في هذا العام، الذي هو عام ثمانين، خرج الناس لتلقيهم: الجمّ الغفير نساء ورجالا، يصافحونهم ويتمسحون بهم، وأخرجوا الدراهم لفقرائهم يتلقونهم بها، وأخرجوا اليهم الأطعمة. فأخبرني من أبصر كثيرا من النساء يتلقين الحاج ويناولنهم الخبز، فإذا عض الحاج فيه اختطفنه من أيديهم وتبادرن لأكله تبركا بأكل الحاج له ودفعن له عوضا منه دراهم، الى غير ذلك من الأمور العجيبة ضد ما اعتدنا في المغرب في ذلك، وصنع بنا في بغداد عند تلقي الحاج بها مثل ذلك أو قريب منه. ولو شئنا استقصاء هذه الأمور لخرجت بنا عن مقصد التقييد، وانما وقع الإلماع بلمحة دالة يكتفى بها عن التطويل. وكل من وفقه الله بهذه الجهات من الغرباء للانفراد يلتزم ان أحب ضيعة من الضياع فيكون فيها طيب العيش، ناعم البال، وينثال الخبز عليه من أهل الضيعة، ويلتزم الإمامة أو التعليم أو ما شاء. ومتى سئم المقام خرج الى ضيعة أخرى أو يصعد ألى جبل لبنان أو الى جبل الجودي فيلقى بها

نصارى جبل لبنان

المريدين المنقطعين الى الله، عز وجل، فيقيم معهم ما شاء، وينصرف الى حيث شاء. نصارى جبل لبنان ومن العجب ان النصارى المجاورين لجبل لبنان اذا رأوا به بعض المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا اليهم، ويقولون: هؤلاء ممن انقطع الى الله عز وجل فتجب مشاركتهم. وهذا الجبل من أخصب جبال الدنيا، فيه أنواع الفواكه، وفيه المياه المطردة والظلال الوارفة، وقلما يخلو من التبتيل والزهادة. واذا كانت معاملة النصارى لضد ملتهم هذه المعاملة فما ظنك بالمسلمين بعضهم مع بعض. الحرب واتفاق النصارى والمسلمين ومن أعجب ما يحدث به ان نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف بينهم ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. شاهدنا في هذا الوقت، الذي هو شهر جمادى الأولى، من ذلك خروج صلاح الدين بجميع عسكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك، وهو من اعظم حصون النصارى، وهو المعترض في طريق الحجاز والمانع لسبيل المسلمين على البر، بينه وبين القدس مسيرة يوم أو اشف قليلا، وهو سرارة ارض فلسطين، وله نظر عظيم الاتساع متصل العمارة، يذكر أنه ينتهي الى اربع مئة قرية، فنازله هذا السلطان وضيق عليه وطال حصاره.

دمشق وآثارها

واختلاف القوافل من مصر الى دمشق على بلاد الافرنج غير منقطع. واختلاف المسلمين من دمشق الى عكة كذلك. وتجار النصارى ايضا لا يمنع أحد منهم ولا يعترض. وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم، وهي من الامنة على غاية. وتجار النصارى أيضا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال. وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب. هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك. ولا تعترض الرعايا ولا التجار، فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلما أو حربا. وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يستوفى الحديث عنه، والله يعلي كلمة الإسلام بمنه. دمشق وآثارها ولهذه البلدة قلعة يسكنها السلطان منحازة في الجهة الغربية من البلد، وهي بإزاء باب الفرج من أبواب البلد، وبها جامع السلطان يجمع فيه، وعلى مقربة منها، خارج البلد في جهة الغرب، ميدانان كأنهما مبسوطان خزا لشدة خضرتهما، وعليهما حلق، والنهر بينهما، وغيضة عظيمة من لحور متصلة بهما، وهما من أبدع لمناظر، يخرج السلطان اليهما ويلعب فيهما بالصوالجة ويسابق بين الخيل فيهما، ولا مجال للعين كمجالها فيهما. وفي كل ليلة يخرج أبناء السلطان اليهما للرماية والمسابقة واللعب بالصوالجة. وبهذه البلدة ايضا قرب مئة حمام فيها وفي ارباضها، وفيها نحو اربعين دارا للوضوء يجري الماء فيها كلها. وليس في هذه البلاد كلها بلدة أحسن منها للغريب، لأن المرافق بها كثيرة. وفي الذي ذكرناه من ذلك كفاية، والله يبقيها دار اسلام بمنه.

وأسواق هذه البلدة من أحفل اسواق البلاد وأحسنها انتظاما وابدعها وضعا، ولا سيما قيسارياتها، وهي مرتفعات كأنها الفناديق مثقفة كلها بأبواب حديد كأنها أبواب القصور، وكل قيسارية منفردة بضبتها واغلاقها الجديدة. ولها ايضا سوق، يعرف بالسوق الكبير، يتصل من باب الجابية الى باب شرقي. وفيه بيت صغير جدا قد اتخذ مصلى، وفي قبلته حجر يقال: ان ابراهيم، صلى الله عليه وسلم، كان يكسر عليه الآلهة التي كان يسوقها أبوه للبيع. وحديث الدار المنسوبة لعمر بن عبد العزيز، التي هي اليوم خانقة للصوفية، وهي في الدهلير الذي في الباب الشمالي المعروف بباب الناطفيين، وقد تقدم التنبيه عليها قبل هذا، حديث عجيب، وذلك ان الذي اشتراها وبناها وجعل لها الأوقاف الواسعة وأمر بأن يدفن فيها وان يختم على قبره القرآن كل جمعة وعين من تلك الاوقاف لمن يحضر ذلك كل جمعة رطلا من خبز الحوارى، وهو ثلاثة أرطال من أرطال المغرب، رجل من العجم يعرف بالسميساطي، وسميساط بلدة من بلاد العجم، وكان موصوفا بالورع والزهد، وأصل يساره وتموله، فيما ذكر لنا، أنه الفى يوما من الأيام بالدهليز المذكور ازاء الدار المذكورة رجلا أسود مريضا مطروحا بموضعه غير ملتفت اليه ولا معتنى به، فتأجر فيه والتزم تمريضه وخدمته والنظر له اغتناما للثواب من الله عز وجل، فحانت وفاة الرجل، فاستدعى ممرضه السميساطي المذكور فقال له: انت قد احسنت الي وخدمتني ولطفت في تمريضي واشفقت لحالي وغربتي، فأنا اريد ان اكافئك على فعلك بي زائدا الى مكافأة الله عز وجل عني في الآجل، ان شاء الله؛ وذلك أني كنت من أحد فتيان الخليفة المعتضد العباسي، ومعروفا بزمام الدار، وكانت لي حظوة ومكانة، فعتب علي في بعض الامر، فخرجت طريدا، فانتهيت الى هذه البلدة، فأصابني فيها من امر الله ما اصابني، فسببك الله لي رحمة، فأنا اقلدك امانة واعهد اليك فيها عهدا، اذا انا مت وغسلتني فانهض على بركة الله تعالى الى بغداد وتلطف في السؤال عن دار صاحب الزمام فتى الخليفة، فاذا

ارشدت اليها فصرف الحيلة في اكترائها، وارجو ان الله يعينك على ذلك، واذا سكنتها فاعمد الى موضع، سماه له فيها وذكر له امارة عليه، فاحفر فيه مقدار كذا وانزع اللوح الذي تجده معترضا تحت الأرض وخذ الذي تجده مدفونا تحت الارض وصرفه في منافعك وما يوفقك الله اليه من وجوه البر والخير مباركا لك في ذلك، ان شاء الله. ثم توفي الرجل الموصي، رحمه الله، وتوجه الموصى اليه بعهده الى بغداد، فيسر الله له في اكتراء الدار وانتهى الى الموضع المذكور فاستخرج منه ذخائر لا قيمة لها، عظيمة الشأن، كبيرة القدر، فدسها في احمال متاع ابتاعها وخرج الى دمشق من بغداد، فابتاع الدار المذكورة المنسوبة لعمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، وبناها خانقة للصوفية واحتفل فيها وابتاع لها الاوقاف ضياعا ورباعا وجعلها برسم الصوفية، واوصى بأن يدفن فيها وان يختم القرآن على قبره كل جمعة، وعين لكل من يحضر ذلك ما ذكرناه. فوجد الغرباء والفقراء في ذلك مرفقا كثيرا. فتغص الخانقة بالقرأة كل جمعة، فإذا ختموا القرآن دعوا له وانصرفوا واندفع لكل واحد منهم رطل من الخبز، على الصفة المذكورة. وبقي للمتوفي جميل الاثر والخير، رحمة الله ورضوانه عليه. والكوثرية التي ذكرناها ايضا بالجامع المكرم، والمقروءة كل يوم بعد العصر، المعينة لمن لا يحفظ القرآن كان اصلها ايضا ان احد ذوي اليسار توفي واوصى بأن يدس قبره في الجامع المكرم واوقف وقفا يغل مئة وخمسين دينارا في السنة برسم من لا يحفظ القرآن ويقرأ من سورة الكوثر الى الخاتمة، فينقسم له اربعون دينارا، في كل ثلاثة اشهر من السنة. ويذكر ان احد الملوك السالفين توفي ايضا وأوصى بأن يجعل قبره في قبلة الجامع المكرم بحيث لا يظهر، وعين اوقافا عظيمة تغل نحو الالف دينار وأربع مئة دينار في السنة وزائد لقراء سبع القرآن كل يوم. وموضع الاجتماع لقراءة هذا السبع المبارك كل يوم، اثر صلاة الصبح، بالجهة الشرقية من مقصورة الصحابة، رضي الله عنهم، ويقال: ان في ذلك الموضع

من أعظم المناظر في الدنيا

هو القبر المذكور. وقراءة السبع لا تتعدى ذلك الموضع متصلا مع جدار القبلة الى الجدار الشرقي، والله عز وجل لا يضيع اجر المحسنين. وبقيت هذه الرسوم الشريفة مخلدة مع الأيام، نفع الله بهار اسميها. وناميك فيها من بلاد يهدى فيها لهذه الصنائع المزلفة لرضوان الله، عز وجل، وللفقراء الملتزمين الجلوس في الجانب الشرقي من الجامع المكرم، الذين ليس لهم مأوى يأوون اليه، وقف وضعه بعض المتأجرين الموفقين برسمهم، الى ما يطول ذكره من المآثر الاخراوية الصدقية التي كفل الله بها غرباء هذه الجهات. ومن عادة اهل دمشق وسائر تلك البلاد المستحسنة، المرجو لهم فيها من الله، عز وجل، قبول، انهم في كل سنة يتوخون الوقوف يوم عرفة بجوامعهم اثر صلاة العصر، يقف بهم ائمتهم كاشفي رؤوسهم داعين الى ربهم التماسا لبركة الساعة التي يقف فيها وفد الله عز وجل وحجيج بيته الحرام بعرفات، فلا يزالون واقفين داعين متضرعين الى الله عز وجل، وبحجاج بيته الحرام متوسلين، الى ان يسقط قرص الشمس ويقدروا نفر الحاج فينفصلوا باكين على ما حرموه من ذلك الموقف العظيم بعرفات وداعين الى الله عز وجل في ان يوصلهم اليها ولا يخليهم من بركة القبول في فعلهم ذلك. من أعظم المناظر في الدنيا ومن أعظم ما شاهدناه من مناظر الدنيا الغريبة الشأن، وهياكلها الهائلة البنيان، المعجزة الصنعة والاتقان، المعترف لوصفها بالتقصير لسان كل بيان: الصعود الى أعلى قبة الرصاص المذكورة في هذا التقييد، القائمة وسط الجامع المكرم، والدخول في جوفها، واحالة لحظ الاعتبار في بديع وضعها، مع القبة التي في وسطها كأنها كرة مجوفة داخلة وسط كرة أخرى أعظم منها؛ صعدنا اليه في جملة من الأصحاب المغاربة ضحوة يوم الاثنين الثامن عشر لجمادى الاولى

المذكورة من مرقى في الجانب الغربي من بلاط الصحن كان صومعة في القديم، وتمشينا على سطح الجامع المكرم، وكله ألواح رصاص منتظمة، كما قد تقدم الذكر لذلك، وطول كل لوح أربعة أشبار، وعرضه ثلاثة أشبار، وربما اعترض في الالواح نقص أو زيادة، حتى انتهينا الى القبة المذكورة، فصعدنا اليها على سلم منصوب، وريح الميد تكاد تطير بنا، فحبونا في الممشى المطيف بها، وهو من رصاص، وسعته ستة اشبار، فلم نستطع القيام عليه لهول الموقف فيه، فأسرعنا الولوج في جوف القبة على أحد شراجيبها المفتحة في الرصاص، فأبصرنا مرأى تحار فيه العقول، وتقف دون ادراك هيبة وصفه الافهام، وجلنا في فرش من الخشب العظام حول القبة الصغيرة الداخلة في جوف القبة الرصاصية على الصفة التي ذكرناها، ولها طيقان يبصر منها الجامع ومن فيه، فكنا نبصر الرجال فيه كأنهم الصبيان في المحاضر. وهذه القبة مستديرة كالكرة، وظاهرها من خشب قد شد باضلاع من الخشب الضخام موثقة بنطق من الحديد، ينعطف كل ضلع عليها كالدائرة وتجتمع الأضلاع كلها في مركز دائرة من الخشب أعلاها. وداخل هذه القبة، وهو ما يلي الجامع المكرم، خواتيم من الخشب منتظم بعضها ببعض قد اتصل اتصالا عجيبا، وهي كلها مذهبة بأبدع صنعة من التذهيب، مزخرفة التلوين، بديعة القرنصة، ويرتمي الأبصار شعاع ذهبها، وتتحير الألباب في كيفية عقدها ووضعها لإفراط سموّها؛ أبصرنا من تلك الخواتيم الخشبية خاتما مطروحا جوف القبة، لم يكن طوله أقل من ستة اشبار في عرض اربعة. وهي تلوح في انتظامها للعين كأن دور كل واحدة منها شبر أو شبران الغاية لعظم سموها. والقبة الرصاص محتوية على هذه القبة المذكورة وقد شدت أيضا بأضلاع عظيمة من الخشب الضخام، موثقة الاوساط بنطق الحديد، وعددها ثمان واربعون ضلعا، بين كل ضلع وضلع اربعة اشبار، قد انعطفت انعطافا عجيبا، واجتمعت أطرافها في مركز دائرة من الخشب أعلاها، ودور هذه القبة

الرصاصية ثمانون خطوة، وهي مئتا شبر وستون شبرا، والحال فيها أعظم من أن يبلغ وصفها، وانما هذا الذي ذكرناه نبذة يستدل بها على ما وراءها. وتحت الغارب المستطيل المسمى النسر، الذي تحت هاتين القبتين، مدخل عظيم هو سقف للمقصورة، بينه وبينها سماء جص مزينة، وقد انتظم فيه من الخشب ما لا يحصى عدده، وانعقد بعضها ببعض، وتقوس بعضها على بعض، وتركبّت تركيبا هائلا منظره. وقد أدخلت في الجدار كله دعائم للقبتين المذكورتين. وفي ذلك الجدار حجارة، كل واحد منها يزن قناطير مقنطرة، لا تنقلها الفيلة فضلا عن غيرها. فالعجب كل العجب من تطليعها الى ذلك الموضع المفرط السمو، وكيف تمكنت القدرة البشرية لذلك، فسبحان من ألهم عباده الى هذه الصنائع العجيبة، ومعينهم على التأتي لما ليس موجودا في طبائعهم البشرية، ومظهر آياته على ايدي من يشاء من خلقه، لا اله سواه؟ والقبتان على قاعدة مستديرة من الحجارة العظيمة قد قامت فوقها أرجل قصار ضخام من الحجارة الصم الكبار، وقد فتح بين كل رجل ورجل شمسية، واستدارت الشمسيات باستدارتها، والقبتان في رأي العين واحدة، وكنينا عنها باثنين لكون الواحدة في جوف الاخرى، والظاهر منها قبة الرصاص. ومن جملة عجائب ما عايناه في هاتين القبتين أن لم نجد فيهما عنكبوتا ناسجا على بعد العهد من التفقد لهما من أحد والتعاهد لتنظيف مساحتهما، والعنكبوت في أمثالهما موجود كثير. وقد كان حقق عندنا أن الجامع المكرم لا تنسج فيه العنكبوت، ولا يدخله الطير المعروف بالخطاف، وقد تقدم ذكرنا لذلك في هذا التقييد. فانصرفنا منحدرين، وقد قضينا عجبا عجابا من هذا المنظر العظيم شأنه، المعجز وضعه، المرتفع عن الادراك وصفه، ويقال: انه ما على ظهر المعمور أعجب منظرا ولا أبعد سموا ولا أغرب بنيانا

رتبهم في جنائزهم

من هذه القبة الا ما يحكى عن قبة بيت المقدس، فانها يحكى أنها أبعد في الارتفاع والسمو من هذه وجملة الأمر أن منظرها والوقوف على هيئة وضعها وعظيم الاستقدار فيها عند معاينها بالصعود اليها والولوج داخلها من أغرب ما يحدّث به من عجائب الدنيا، والقدرة لله الواحد القهار، لا اله سواه. رتبهم في جنائزهم ولأهل دمشق وغيرها من هذه البلاد في جنائزهم رتبة عجيبة، وذلك انهم يمشون أمام الجنائز بقرّاء يقرءون القرآن بأصوات شجية، وتلاحين مبكية، تكاد تنخلع لها النفوس شجوا وحنانا، يرفعون أصواتهم بها، فتتلقاها الآذان بأدمع الأجفان، وجنائزهم يصلى عليها في الجامع قبالة المقصورة، فلا بد لكل جنازة من الجامع،؟ انتهوا الى بابه قطعوا القراءة، ودخلوا الى موضع الصلاة عليها، الا ان يكون الميت من أئمة الجامع أو من سدنته، فان الحالة المميزة له في ذلك أن يدخلوه بالقراءة الى موضع الصلاة عليه. وربما اجتمعوا للعزاء بالبلاط الغربي من الصحن بإزاء باب البريد، فيصلون أفرادا أفرادا، ويجلسون وأمامهم ربعات من القرآن يقرءونها، ونقباء الجنائز يرفعون أصواتهم بالنداء لكل واصل للعزاء من محتشمي البلدة وأعيانهم ويحلونهم بخططهم الهائلة التي قد وضعوها لكل واحد منهم بالإضافة الى الدين، فتسمع ما شئت من صدر الدين أو شمسه أو بدره أو نجمه أو زينه أو بهائه أو جماله أو مجده أو فخره أو شرفه أو معينه أو محييه أو زكيه أو نجيبه، الى ما لا غاية له من هذه الألفاظ الموضوعة؛ وتتبعها، ولا سيما في الفقهاء بما شئت أيضا من سيد العلماء وجمال الأئمة وحجة الاسلام وفخر الشريعة وشرف الملة ومفتي الفريقين، الى ما لا نهاية له من هذه الألفاظ المحالية. فيصعد كل واحد منهم الى الشريعة ساحبا أذياله من الكبر، ثانيا عطفه وقذاله. فإذا استكملوا وفرغوا من القراءة وانتهى المجلس

بهم منتهاه قام وعاظهم واحدا واحدا بحسب رتبهم في المعرفة فوعظ وذكر ونبه على خدع الدنيا وحذر وأنشد في المعنى ما حضر من الأشعار ثم ختم بتعزية صاحب المصاب والدعاء له وللمتوفى ثم قعد، وتلاه آخر على مثل طريقته الى أن يفرغوا ويتفرقوا. فربما كان مجلسا نافعا لمن يحضره من الذكرى. ومخاطبة أهل هذه الجهات قاطبة بعضهم لبعض بالتمويل والتسويد وبامتثال الخدمة وتعظيم الحضرة، واذا لقي أحد منهم آخر مسلما يقول: جاء المملوك أو الخادم برسم الخدمة، كناية عن السلام، فيتعاطون المحال تعاطيا، والجد عندهم عنقاء مغرب، وصفة سلامهم ايماء للركوع أو السجود، فترى الاعناق تتلاعب بين رفع وخفض، وبسط وقبض، وربما طالت بهم الحالة في ذلك، فواحد ينحط واخر يقوم، وعمائمهم تهوي بينهم هويا. وهذه الحالة من الانعكاف الركوعي في السلام كنا عهدناه لقينات النساء، وعند استعراض رقيق الإماء، فيا عجبا لهولاء الرجال، كيف تحلوا بسمات ربات الحجال، لقد ابتذلوا أنفسهم فيما تأنف النفوس الأبية منه، واستعملوا تكفير الذمي المنهي في الشرع عنه! لهم في الشأن طرائق عجيبة في الباطل. فيا للعجب منهم، اذا تعاملوا بهذه المعاملة وانتهوا الى هذه الغاية في الألفاظ بينهم فبماذا يخاطبون سلاطينهم ويعاملونهم؟! لقد تساوت الأذناب عندهم والرءوس، ولم يميز لديهم الرئيس والمرؤوس! فسبحان خالق الخلق أطوارا، لا شريك له، ولا معبود سواه. ومن عجيب حال الصغير عندهم والكبير، بجميع هذه الجهات كلها، أنهم يمشون وأيديهم الى خلف قابضين بالواحدة على الأخرى، ويركعون للسلام على تلك الحالة المشبهة بأحوال العناة مهانة واستكانة، كأنهم قد سيموا تعنيفا، وأوثقوا تكتيفا، وهم يعتقدون تلك الهيئة لهم تمييزا لهم في ذوي الخصوصية وتشريفا، ويزعمون أنهم يجدون بها نشاطا في الأعضاء، وراحة من الاعياء، والمحتشم منهم من يسحب ذيله على الأرض شبرا أو يضع خلفه اليد الواحدة على الأخرى، قد اتخذوا هذه المشية بينهم سننا، وكل منهم قد زين له سوء عمله فرآه

حسن سيرة السلطان

حسنا، أستغفر الله منهم! فإن لهم من آداب المصافحة عوائد تجدد لهم الإيمان، وتستوهب لهم من الله الغفران، لما بشر به الحديث المأثور عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المصافحة، فهم يستعملونها اثر الصلوات، ولا سيما اثر صلاة الصبح وصلاة العصر. واذا سلم الإمام وفرغ من الدعاء أقبلوا عليه بالمصافحة، وأقبل بعضهم على بعض يصافح المرء عن يمينه وعن يساره، فيتفرقون عن مجلس مغفرة، بفضل الله عز وجل، وقد تقدم الذكر فيما سلف من هذا التقييد أنهم يستعملونها عند رؤية الأهلة، ويدعو بعضهم لبعض بتعرف بركة ذلك الشهر ويمنه واستصحاب السعادة والخير فيه وفيما يعود عليه من أمثاله، وتلك أيضا طريقة حسنة ينفعهم الله بها لما فيها من تعاطي الدعوات وتجديد المودات، ومصافحة المؤمنين بعضهم بعضا رحمة من الله تعالى ونعمة. حسن سيرة السلطان وقد تقدم الذكر أيضا في غير موضع من هذا الكتاب عن حسن سيرة السلطان بهذه الجهات: صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب، وما له من المآثر المأثورة في الدنيا والدين، ومثابرته على جهاد أعداء الله، لأنه ليس أمام هذه البلدة بلدة للاسلام، والشام أكثره بيد الإفرنج، فسبب الله هذا السلطان رحمة للمسلمين بهذه الجهات، فهو لا يأوي لراحة، ولا يخلد الى دعة، ولا يزال سرجه مجلسه؛ انا بهذه البلدة نازلون منذ شهرين اثنين وحللناها وقد خرج لمنازلة حصن الكرك، وقد تقدم الذكر أيضا له، وهو عليه محاصر حتى الآن، والله تعالى يعينه على فتحه. وسمعنا أحد فقهاء هذه البلدة وزعمائها المسلمين بسدة هذا السلطان والحاضرين مجلسه يذكر عنه في حضرة محفل علماء البلد وفقهائه ثلاث مناقب في ثلاث كلمات حكاها عنه رأينا اثباتها هنا: احداها أن الحلم من

سجاياه، فقال، وقد صفح عن جريرة أحد الجناة عليه: أما أنا فلأن أخطىء في العفو أحب الي من أن اصيب في العقوبة. وهذا في الحلم منزع أحنفي. وقال أيضا، وقد تنوشدت بحضرته الأشعار وجرى ذكر من سلف من أكارم الملوك وأجوادهم: والله لو وهبت الدنيا للقاصد الآمل لما كنت أستكثرها له، ولو استفرغت له جميع ما في خزانتي لما كان عوضا مما أراقه من حر ماء وجهه في استمناحه اياي. وهذا في الكرم مذهب رشيدي او جعفري. وحضره أحد مماليكه المتميزين لديه بالحظوة والأثرة مستعديا على جمال ذكر أنه باعه جملا معيبا أو صرف عليه جملا بعيب لم يكن فيه، فقال السلطان له: ما عسى أن أصنع لك، وللمسلمين قاض يحكم بينهم، والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة، وأوامره ونواهيه ممتثلة، وانما أنا عبد الشرع وشحنته، والشحنة عندهم صاحب الشرطة، فالحق يقضي لك أو عليك. وهذا في العقد مقصد عمري. وهذه كلمات كفى بها لهذا السلطان فخرا، والله يمتع ببقائه الإسلام والمسلمين بمنه. شهر جمادى الآخرة استهل هلاله ليلة الأحد التاسع من شهر شتنبر العجمي ونحن بدمشق، حرسها الله، على قدم الرحلة الى عكة، فتحها الله والتماس ركوب البحر مع تجار النصارى وفي مراكبهم المعدة لسفر الخريف المعروف عندهم بالصليبية، عرفنا الله في ذلك معهود خيرته، وتكفلنا بكلاءته وعصمته، بعزته وقدرته، انه سبحانه الحنان المنان، ولي الطول والاحسان، لا رب غيره، وكان انفصالنا منها عشي يوم الخميس الخامس من الشهر المذكور، وهو الثالث عشر من شهر شتنبر المذكور، في قافلة كبيرة من التجار المسافرين بالسلع الى عكة.

شهر جمادى الآخرة

من أعجب الأحاديث ومن أعجب ما يحدث به في الدنيا أن قوافل المسلمين تخرج الى بلاد الافرنج وسبيهم يدخل الى بلاد المسلمين، شاهدنا من ذلك عند خروجنا أمرا عجيبا، وذلك أن صلاح الدين عند منازلته حصن الكرك، المتقدم الذكر في هذا التاريخ، قصد اليه الافرنج في جميعهم، وقد تألبوا من كل أوب وراموا أن يسبقوه الى موضع الماء ويقطعوا عنه الميرة من بلاد المسلمين. فصمد لهم وأقلع عن الحصن بجملته وسبقهم الى موضع الماء. فحادوا عن طريقه وسلكوا طريقا وعرا ذهب فيه أكثر دوابهم، وتوجهوا الى حصن الكرك المذكور، وقد سد عليهم بنيات الطرق القاصدة الى بلادهم ولم يبق لهم الا طريق عن الحصن يأخذ على الصحراء ويبعد مداه عليهم بتحليق يعترض فيه. فاهتبل صلاح الدين في بلادهم الغرة وانتهز الفرصة وقصد قصدها عن الطريق القاصدة، فدهم مدينة نابلوس وهجمها بعسكره فاستولى عليها وسبى كل من فيها وأخذ اليها حصونا وضياعا. وامتلأت أيدي المسلمين سبيا لا يحصى عدده من الافرنج، ومن فرقة من اليهود تعرف بالسمرة منسوبة الى السامري. وانبسط فيهم القتل الذريع، وحصل المسلمون منها على غنائم يضيق الحصر عنها، الى ما اكتفت من الأمتعة والذخائر والأسباب والأثاث، الى النعم والكراع، الى غير ذلك. وكان من فعل هذا السلطان الموفق أن أطلق أيدي المسلمين على جميع ما احتازته، وسلم لهم ذلك، فاحتازت كل يد ما حوت وامتلأت غنى ويسارا. وعفى الجيش على رسوم تلك الجهات التي مر عليها من بلاد الفرنج، وآبوا غانمين فائزين بالسلامة والغنيمة والاياب، وتخلصوا من أسرى المسلمين عددا كثيرا، وكانت غزوة لم يسمع مثلها في البلاد. وخرجنا نحن من دمشق وأوائل المسلمين قد طرقوا بالغنائم كل بما احتواه وحصلت يده عليه، وكان مبلغ السبي آلافا لم نتحقق احصاءها ولحق السلطان

ذكر مدينة بانياس

بدمشق يوم السبت بعدنا الاقرب ليوم انفصالنا وأعلمنا أنه يجم عسكره قليلا ويعود الى الحصن المذكور، فالله يعينه ويفتح عليه بعزته وقدرته. وخرجنا نحن الى بلاد الفرنج وسبيهم يدخل بلاد المسلمين، وناهيك من هذا الاعتدال في السياسة! فكان مبيتنا ليلة الجمعة بدارية، وهي قرية من دمشق على مقدار فرسخ ونصف، ثم رحلنا منها صبيحة يوم الجمعة بعده الى قرية تعرف ببيت جن، هي بين جبال، ثم رحلنا منها صبيحة يوم السبت الى مدينة بانياس، واعترضنا في نصف الطريق شجرة بلوط عظيمة الجرم متسعة التدويح، أعلمنا أنها تعرف بشجرة الميزان، فسألنا عن ذلك، فقيل لنا: هي حد بين الامن والخوف في هذه الطريق لحرامية الافرنج، وهم الحواسة والقطاع، من أخذوه وراءها الى جهة بلاد المسلمين ولو بباع أو شبر أسر، ومن اخذ دونها الى جهة بلاد الافرنج بقدر ذلك أطلق سبيله، لهم في ذلك عهد يوفون به، وهو من أظرف الارتباطات الافرنجية وأغربها. ذكر مدينة بانياس هذه المدينة ثغر بلاد المسلمين، وهي صغيرة، ولها قلعة يستدير بها تحت السور نهر ويقضي الى أحد أبواب المدينة، وله مصب تحت أرحاء. وكانت بيد الافرنج فاسترجعها نور الدين، رحمه الله. ولها محرث واسع في بطحاء متصلة يشرف عليها حصن للافرنج يسمى هونين، بينه وبين بانياس مقدار ثلاثة فراسخ. وعمالة تلك البطحاء بين الافرنج والمسلمين، لهم في ذلك حد يعرف بحد المقاسمة، فهم يتشاطرون الغلة على استواء، ومواشيهم مختلطة، ولا حيف يجري بينهما فيها. فرحلنا عنها عشي يوم السبت المذكور الى قرية تعرف بالمسية بمقربة من حصن الافرنج المذكور فكان مبيتنا بها، ثم رحلنا منها يوم الاحد سحرا، واجتزنا في طريقنا بين هونين وتبنين بواد ملتف الشجر، وأكثر شجره الرند،

بعيد العمق كأنه الخندق السحيق المهوى، تلتقي حافتاه، ويتعلق بالسماء أعلاه، يعرف بالاسطيل لو ولجته العساكر لغابت فيه، لا منجى ولا مجال لسالكه عن يد الطالب فيه؛ المهبط اليه والمطلع عنه عقبتان كؤودان، فعجبنا من أمر ذلك المكان. فأجزناه ومشينا عنه يسيرا وانتهينا الى حصن كبير من حصون الافرنج يعرف بتبنين، وهو موضع تمكيس القوافل، وصاحبته خنزيرة تعرف بالملكة، وهي أم الملك الخنزير صاحب عكة، دمرها الله، فكان مبيتنا أسفل ذلك الحصن، ومكس الناس تمكيسا غير مستقصى، والضريبة فيه دينار وقيراط من الدنانير الصورية على الرأس، ولا اعتراض على التجار فيه لأنهم يقصدون موضع الملك الملعون، وهو محل التعشير، والضريبة فيه قيراط من الدينار، والدينار أربعة وعشرون قيراطا. وأكثر المعترضين في هذا المكس المغاربة، ولا اعتراض على غيرهم من جميع بلاد المسلمين، وذلك لمقدمة منهم أحفظت الافرنج عليهم، سببها أن طائفة من أنجادهم غزت مع نور الدين، رحمه الله، أحد الحصون فكان لهم في أخذه غنى ظهر واشتهر، فجازاهم الافرنج بهذه الضريبة المكسية ألزموها رؤوسهم، فكل مغربي يزن على رأسه الدينار المذكور في اختلافه على بلادهم. وقال الافرنج: ان هؤلاء المغاربة كانوا يختلفون على بلادنا ونسالمهم ولا نرزأهم شيئا، فلما تعرضوا لحربنا وتألبوا مع اخوانهم المسلمين علينا وجب أن نضع هذه الضريبة عليهم، فللمغاربة في أداء هذا المكس سبب من الذكر الجميل في نكايتهم العدو يسهله عليهم ويخفف عنتهم عنهم. ورحلنا من تبنين، دمرها الله، سحر يوم الاثنين، وطريقنا كله على ضياع متصلة وعمائر منتظمة، سكانها كلها مسلمون، وهم مع الافرنج على حالة ترفيه، نعوذ بالله من الفتنة، وذلك أنهم يؤدون لهم نصف الغلة عند أوان ضمها وجزية على كل رأس دينار وخمسة قراريط ولا يعترضونهم في غير ذلك، ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدونها ايضا. ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم

متروكة لهم. وكل ما بأيدي الافرنج من المدن بساحل الشام على هذه السبيل، رساتيقهم كلها للمسلمين، وهي القرى والضياع، وقد اشربت الفتنة قلوب اكثرهم لما يبصرون عليه اخوانهم من أهل الرساتيق المسلمين وعمالهم، لانهم على ضد أحوالهم من الترفيه والرفق. وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين: أن يشتكي الصنف الاسلامي جور صنفه المالك له، ويحمد سيرة ضده وعدوه المالك له من الافرنج، ويأنس بعدله، فالى الله المشتكى من هذه الحال، وحسبنا تعزية وتسلية ما جاء في الكتاب العزيز: «ان هي الا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء» . فنزلنا يوم الاثنين المذكور بضيعة من ضياع عكة، على مقدار فرسخ، ورئيسها الناظر فيها من المسلمين مقدم من جهة الافرنج على من فيها من عمارها من المسلمين. فأضاف جميع أهل القافلة ضيافة حفيلة وأحضرهم صغيرا وكبيرا في غرفة متسعة بمنزله وأنالهم ألوانا من الطعام قدمها لهم، فعمهم بتكرمته. وكنا فيمن حضر هذه الدعوة. وبتنا تلك الليلة وصبحنا يوم الثلاثاء العاشر من الشهر المذكور، وهو الثامن عشر لشتنبر، مدينة عكة، دمرها الله، وحملنا الى الديوان، وهو خان معد لنزول القافلة، وأمام بابه مصاطب مفروشة فيها كتاب الديوان من النصارى بمحابر الآبنوس المذهبة الحلى، وهم يكتبون بالعربية ويتكلمون بها، ورئيسهم صاحب الديوان والضامن له يعرف بالصاحب، لقب وقع عليه لمكانه من الخطة، وهم يعرفون به كل محتشم متعين عندهم من غير الجند. وكل ما يجبى عندهم راجع الى الضمان، وضمان هذا الديوان بمال عظيم. فأنزل التجار رحالهم به ونزلوا في أعلاه، وطلب رحل من لا سلعة له لئلا يحتوي على سلعة مخبؤءة فيه وأطلق سبيله فنزل حيث شاء. وكل ذلك برفق وتؤدة دون تعنيف ولا حمل. فنزلنا بها في بيت اكتريناه من نصرانية بإزاء البحر، وسألنا الله تعالى حسن الخلاص وتيسير السلامة.

ذكر مدينة عكه دمرها الله وأعادها

ذكر مدينة عكه دمرها الله وأعادها هي قاعدة مدن الافرنج بالشام، ومحط الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، مرفأ كل سفينة، والمشبهة في عظمها بالقسطنطينية، مجتمع السفن والرفاق، وملتقى تجار المسلمين والنصارى من جميع الآفاق، سككها وشوارعها تغص بالزحام، وتضيق فيها مواطئ الأقدام، تستعر كفرا وطغيانا، وتفور خنازير وصلبانا، زفرة قذرة، مملوءة كلها رجسا وعذرة. انتزعها الافرنج من أيدي المسلمين في العشر الاول من المئة السادسة، فبكى لها الاسلام ملء جفونه، وكانت احد شجونه. فعادت مساجدها كنائس، وصوامعها مضارب للنواقيس، وطهر الله من مسجدها الجامع بقعة بقيت بأيدي المسلمين مسجدا صغيرا، يجمع الغرباء منهم فيه لإقامة فريضة الصلاة. وعند محرابه قبر صالح النبي، صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء، فحرس الله هذه البقعة من رجس الكفرة ببركة هذا القبر المقدس. وفي شرقي البلدة العين المعروفة بعين البقر، وهي التي أخرج الله منها البقر لآدم، صلى الله عليه وسلم. والمهبط لهذه العين على ادراج وطية، وعليها مسجد بقي محرابه على حاله، ووضع الافرنج في شرقيه محرابا لهم. فالمسلم والكافر يجتمعان فيه، يستقبل هذا مصلاه وهذا مصلاه. وهو بأيدي النصارى معظم محفوظ، وأبقى الله فيه موضع الصلاة للمسلمين. فكان مقامنا بها يومين، ثم توجهنا الى صور يوم الخميس الثاني عشر لجمادى المذكورة،، والموفي عشرين لشتنبر المذكور على البر، واجتزنا في طريقنا على حصن كبير يعرف بالزاب، وهي مطلة على قرى وعمائر متصلة وعلى قرية مسوّرة تعرف باسكندرونة، وذلك لمطالعة مركب بها أعلمنا أنه يتوجه الى بجاية طمعا في الركوب فيه، فحللناها عشي يوم الخميس المذكور، لأن المسافة بين المدينتين نحو الثلاثين ميلا، فنزلنا بها في خان معد لنزول المسلمين.

ذكر مدينة صور دمرها الله تعالى

ذكر مدينة صور دمرها الله تعالى مدينة يضرب بها المثل في الحصانة، لا تلقى لطالبها بيد طاعة ولا استكانة، قد أعدّها الإفرنج مفزعا لحادثة زمانهم، وجعلوها مثابة لأمانهم، هي أنظف من عكة سككا وشوارع، وأهلها ألين في الكفر طبائع، واجرى الى برّ غرباء المسلمين شمائل ومنازع، فخلائقهم أسجح، ومنازلهم أوسع وافسح، وأحوال المسلمين بها أهون واسكن، وعكة أكبر وأطغى وأكفر. وأما حصانتها ومناعتها فأعجب ما يحدث به، وذلك أنها راجعة الى بابين: أحدهما في البر، والآخر في البحر، وهو يحيط بها الا من جهة واحدة، فالذي في البر يفضى اليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة، كلها في ستائر مشيدة محيطة بالباب، واما الذي في البحر فهو مدخل بين برجين مشيدين الى ميناء ليس في البلاد البحرية أعجب وضعا منها، يحيط بها سور المدينة من ثلاثة جوانب ويحدق بها من الجانب الآخر جدار معقود بالجص. فالسفن تدخل تحت السور وترسو فيها، وتعترض بين البرجين المذكورين سلسلة عظيمة تمنع عند اعتراضها الداخل والخارج، فلا مجال للمراكب الا عند ازالتها. وعلى ذلك الباب حرّاس وأمناء، لا يدخل الداخل ولا يخرج الخارج الا على أعينهم، فشأن هذه الميناء شأن عجيب في حسن الوضع، ولعكة مثلها في الوضع والصفة لكنها لا تحمل السفن الكبار حمل تلك وانما ترسو خارجها والمراكب الصغار تدخل اليها، فالصورية اكمل وأجمل وأحفل. فكان مقامنا بها أحد عشر يوما، دخلناها يوم الخميس وخرجنا منها يوم الأحد الثاني والعشرين لجمادى المذكورة، وهو آخر يوم من شتنبر، وذلك أن المركب الذي كنا أملنا الركوب فيه استصغرناه فلم نر الركوب فيه.

عرس افرنجي في صور

عرس افرنجي في صور ومن مشاهد زخارف الدنيا المحدث بها زفاف عروس شاهدناه بصور في أحد الأيام عند مينائها، وقد احتفل لذلك جميع النصارى رجالا ونساء، واصطفوا سماطين عند باب العروس المهداة، والبوقات تضرب والمزامير وجميع الآلات اللهوية، حتى خرجت تتهادى بين رجلين يمسكانها من يمين وشمال، كأنهما من ذوي ارحامها، وهي في ابهى زيّ، وافخر لباس، تسحب أذيال الحرير المذهب سحبا على الهيئة المعهودة من لباسهم، وعلى رأسها عصابة ذهب قد حفت بشبكة ذهب منسوجة، وعلى لبتها مثل ذلك منتظم، وهي رافلة في حليها وحللها، تمشي فترا في فتر مشي الحمامة أو سير الغمامة، نعوذ بالله من فتنة المناظر، وأمامها جلة رجالها من النصارى في أفخر ملابسهم البهية، تسحب أذيالها خلفهم، ووراءها أكفاءها ونظراؤها من النصرانيات يتهادين في أنفس الملابس ويرفلن في أرفل الحلى، والآلات اللهوية قد تقدمتهم، والمسلمون وسائر النصارى من النظار قد عادوا في طريقهم سماطين يتطلعون فيهم ولا ينكرون عليهم ذلك، فساروا بها حتى أدخلوها دار بعلها، واقاموا يومهم ذلك في وليمة. فأدّانا الاتفاق الى رؤية هذا المنظر الزخرفيّ المستعاذ بالله من الفتنة فيه. مسلمو عكة ثم عدنا الى عكة في البحر، وحللناها صبيحة يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى المذكورة، وأول يوم من شهر أكتوبر، واكترينا في مركب كبير نروم الاقلاع الى مسينة من بلاد جزيرة صقيلة، والله تعالى كفيل بالتيسير والتسهيل بعزّته وقدرته. وكانت راحتنا مدة مقامنا بصور بمسجد بقي بأيدي

أسرى المسلمين

المسلمين. ولهم فيها مساجد أخر. فأعلمنا به أحد أشياخ أهل صور من المسلمين أنها أخذت منهم سنة ثماني عشرة وخمس مئة، وأخذت عكة قبلها باثنتي عشرة سنة بعد محاصرة طويلة وبعد استيلاء المسغبة عليهم؛ ذكر لنا انهم انتهوا منها لحال نعوذ بالله منها، وأنهم حملتهم الأنفة على أن هموا بركوب خطة عصمهم الله منها، وذلك أنهم عزموا على أن يجمعوا أهاليهم وابناءهم في المسجد الجامع ويحملوا السيف عليهم غيرة من تملك النصارى لهم ثم يخرجوا الى عدوّهم بعزمة نافذة ويصدموهم صدمة صادقة حتى يموتوا على دم واحد ويقضي الله قضاءه. فمنعهم من ذلك فقهاؤهم والمتورعون منهم وأجمعوا على دفع البلد والخروج منه بسلام. فكان ذلك، وتفرقوا في بلاد المسلمين. ومنهم من استهواه حب الوطن فدعاه الى الرجوع والسكنى بينهم بعد أمان كتب لهم في ذلك بشروط اشترطوها، والله غالب على أمره، سبحانه جلت قدرته، ونفذت في البرية مشيئته، وليست له عند الله معذرة في حلول بلدة من بلاد الكفر الا مجتازا، وهو يجد مندوحة في بلاد المسلمين، لمشقات وأهوال يعانيها في بلادهم: منها الذلة والمسكنة الذميمة؛ ومنها سماع ما يفجع الأفئدة من ذكر من قدس الله ذكره، وأعلى خطره، لا سيما من أراذلهم وأسافلهم؛ ومنها عدم الطهارة، والتصرف بين الخنازير، وجميع المحرّمات؛ الى غير ذلك مما لا ينحصر ذكره ولا تعداده، فالحذر الحذر من دخول بلادهم، والله تعالى المسؤول حسن الإقالة والمغفرة من هذه الخطيئة التي زلت فيها القدم، ولم تتداركها الا بعد موافقة الندم، فهو سبحانه وليّ ذلك، لا رب غيره. أسرى المسلمين ومن الفجائع التي يعاينها من حلّ بلادهم اسرى المسلمين، يرسفون في القيود، ويصرفون في الخدمة الشاقة تصريف العبيد، والأسيرات المسلمات كذلك، في

سوء الاتفاق

أسواقهم خلاخيل الحديد، فتنفطر لهم الأفئدة ولا يغني الإشفاق عنهم شيئا. ومن جميل صنع الله تعالى لأسرى المغاربة، بهذه البلاد الشامية الإفرنجية، أن كل من يخرج من ماله وصية من المسلمين بهذه الجهات الشامية وسواها إنما يعيّنها في افتكاك المغاربة خاصة لبعدهم عن بلادهم وانهم لا مخلص لهم سوى ذلك بعد الله عز وجل، فهم الغرباء المنقطعون عن بلادهم. فملوك أهل هذه الجهات من المسلمين والخواتين من النساء وأهل اليسار والثراء إنما ينفقون أموالهم في هذه السبيل. وقد كان نور الدين، رحمه الله، نذر في مرضة اصابته تفريق اثني عشر الف دينار في فداء أسرى من المغاربة، فلما استبل من مرضه أرسل في فدائهم، فسيق فيهم نفر ليسوا من المغاربة، وكانوا من حماة من جملة عمالته، فأمر بصرفهم واخرج عوض عنهم من المغاربة، وقال: هؤلاء يفتكّهم أهلوهم وجيرانهم، والمغاربة غرباء لا أهل لهم. فانظر الى لطيف صنع الله تعالى لهذا الصنف المغربي. وقيض الله لهم بدمشق رجلين من مياسر التجار وكبرائهم وأغنيائهم المنغمسين في الثراء: أحدهما يعرف بنصر بن قوام، والثاني بابي الدّر ياقوت مولى العطافي، وتجارتهما كلها بهذا الساحل الإفرنجي، ولا ذكر فيه لسواهما، ولهما الأمناء من المقارضين، فالقوافل صادرة وواردة ببضائعهما، وشأنهما في الغنى كبير، وقدرهما عند أمراء المسلمين والإفرنجيين خطير، وقد نصبهما الله عز وجل لافتكاك الأسرى المغربيين بأموالهما واموال ذوي الوصايا، لأنهما المقصودان بها لما قد اشتهر من امانتهما وثقتهما وبذلهما أموالهما في هذه السبيل فلا يكاد مغربي يخلص من الأسر الا على ايديهما فهما طول الدهر بهذه السبيل ينفقان أموالهما ويبذلان اجتهادهما في تخليص عباد الله المسلمين من أيدي أعداء الله الكافرين، والله تعالى لا يضيع أجر المحسنين. سوء الاتفاق ومن سوء الاتفاقات، المستعاذ بالله من شرها، أنه صحبنا في طريقنا الى عكة

من دمشق رجل مغربي من بونة عمل بجاية، كان أسيرا فتخلص على يدي أبي الدّر المذكور وبقي في جملة صبيانه، فوصل في قافلته الى عكة، وكان قد صحب النصارى وتخلق بكثير من أخلاقهم، فما زال الشيطان يستهويه ويغريه الى ان نبذ دين الإسلام فكفر وتنصّر مدة مقامنا بصور. فانصرفنا الى عكة، وأعلمنا بخبره، وهو بها قد بطس ورجس، وقد عقد الزنار، واستعجل النار، وحقت عليه كلمة العذاب، وتأهب لسوء الحساب، وسحيق المآب، نسأل الله عز وجل أن يثبتنا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة، ولا يعدل بنا عن الملة الحنفية، وان يتوفانا مسلمين، بفضله ورحمته. وهذا الخنزير صاحب عكة، المسمى عندهم بالملك، محجوب لا يظهر، وقد ابتلاه الله بالجذام، فعجل له سوء الانتقام، وقد شغلته بلواه في صباه، عن نعيم دنياه، فهو فيها يشقى، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى. وحاجبه وصاحب الحال عوضه خاله القومس، وهو صاحب المجبى، واليه ترتفع الأموال، والمشرف على الجميع بالمكانة والوجاهة، وكبر الشأن في الإفرنجية اللعينة، القومس اللعين، صاحب طرابلس وطبرية، وهو ذو قدر ومنزلة عند الإفرنج، وهو المؤهل للملك والمرشح له، وهو موصوف بالدهاء والمكر. وكان أسيرا عند نور الدين نحو اثنتي عشرة سنة أو أزيد، ثم تخلص بمال عظيم بذل في نفسه مدة صلاح الدين وعند اول ولايته، وهو معترف لصلاح الدين بالعبودية والعتق. وعلى بادية طبرية اختلاف القوافل من دمشق لسهولة طريقها، ويقصد بقوافل البغال على تبنين لوعورتها وقصد طريقها، وبحيرة طبرية مشهورة، وهي ماء عذب، وسعتها نحو ثلاثة فراسخ أو أربعة، وطولها نحو ستة فراسخ. والأقوال فيها تختلف، وهذا القول أقربها الى الصحة، لأنا لم نعاينها، وعرضها أيضا مختلف سعة وضيقا. وفيها قبور كثيرة من قبور الأنبياء، صلوات الله عليهم، كشعيب وسليمان ويهوذا وروبيل وابنة شعيب زوج الكليم موسى وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وجبل الطور منها قريب.

عكة وصور

وبين عكة وبيت المقدس ثلاثة أيام. وبين دمشق وبينه مقدار ثمانية أيام، وهو بين المغرب والقبلة من عكة الى جهة الإسكندرية، والله يعيده الى أيدي المسلمين، ويطهره من أيدي المشركين، بعزته وقدرته. عكة وصور وهاتان المدينتان، عكة وصور، لا بساتين حولهما، وانما هما في بسيط من الأرض أفيح متصل بسيف البحر، والفواكه تجلب اليهما من بساتينهما التي بالقرب منهما، ولهما عمالة متسعة، والجبال التي تقرب منهما معمورة بالضياع، ومنها تجبى الثمرات اليهما. وهما من غر البلاد. ولعكة في الشرق منها، مع آخر البلد، واد يسيل ماء. ولها مع شاطئه مما يتصل بالبحر بسيط رمل لم ير أجمل منه منظرا ولا ميدان للخيل يشبهه، واليه ركوب صاحب البلد كل بكرة وعشية، وبه يجتمع العسكر، دمره الله. ولصور عند بابها البري عين معينة ينحدر اليها على أدراج. والآبار والجباب بها كثيرة لا تخلو دار منها، والله تعالى يعيد اليها والى اخواتها كلمة الإسلام بمنه وكرمه. في المركب الشراعي وفي يوم السبت الثامن والعشرين لجمادى المذكورة، والسادس لأكتوبر، صعدنا الى المركب، وهو سفينة من السفن الكبار، بمنة الله على المسلمين بالماء والزاد، وحاز المسلمون مواضعهم بانفراد عن الإفرنج. وصعده من النصارى المعروفين بالبلغريين، وهم حجاج بيت المقدس، عالم لا يحصى ينتهي الى أزيد من ألفي انسان، أراح الله من صحبتهم بعاجل السلامة ومأمول التسهيل

والصنع الجميل بمنه وكرمه، لا معبود سواه. ونحن به منتظرون موافقة الريح وكمال الوسق، بمشيئة الله عز وجل. شهر رجب الفرد استهل هلاله ليلة الثلاثاء، بموافقة التاسع لشهر اكتوبر، ونحن على ظهر المركب بمرسى عكة منتظرون كمال وسقه والاقلاع باسم الله تعالى وبركته وجميل صنعه وكريم مشيئته. وتمادى مقامنا فيه مدة اثني عشر يوما لعدم استقامة الريح. وفي مهب الريح بهذه الجهات سر عجيب، وذلك أن الريح الشرقية لا تهب فيها الا في فصلي الربيع والخريف، والسفر لا يكون الا فيهما، والتجار لا ينزلون الى عكة بالبضائع الا في هذين الفصلين. والسفر في الفصل الربيعي من نصف أبريل، وفيه تتحرّك ريح الشرقية وتطول مدتها الى آخر شهر مايه، واكثر واقل بحسب ما يقضي الله تعالى به. والسفر في الفصل الخريفي من نصف أكتوبر، وفيه تتحرك الريح الشرقية، ومدتها أقصر من المدة الربيعية، وانما هي عندهم خلسة من الزمان قد تكون خمسة عشر يوما وأكثر واقل. وما سوى ذلك من الزمان فالرياح فيه تختلف، والريح الغربية أكثرها دواما. فالمسافرون الى المغرب والى صقلية والى بلاد الروم ينتظرون هذه الريح الشرقية في هذين الفصلين انتظار وعد صادق، فسبحان المبدع في حكمته، المعجز في قدرته، لا اله سواه. وكنا طول هذه المدة التى أقمنا فيها على ظهر المركب نبيت في البر ونتفقد المركب في الأحيان. فلما كان سحر يوم الخميس العاشر لرجب المذكور، والثامن عشر لأكتوبر، أقلع المركب، وكنا على عادتنا في البر بائتين، ولم يحسن النهار

للروم بأهبة السفر، فضيعنا الحزم ونسينا المثل المضروب في اعداد الماء والزاد وان لا يفارق الانسان رحله. فاصبحنا والمركب لا عين له ولا أثر، فاكترينا للحين زورقا كبيرا له أربعة مجاذيف وأقلعنا نتبعه، وكانت مخاطرة عصم الله منها: فأدركنا المركب مع العشي، فحمدنا الله عز وجل على ما منّ به، وكان أول ذلك اليوم يوم شدتنا في هذا السفر الطويل، وآخره والحمد لله يوم فرجنا، ولله الحمد والشكر على كل حال. واتصل جرينا والريح الموافقة تأخذ وتدع نحو خمسة أيام، ثم هبت علينا الريح الغربية من مكمنها دافعة في وجه المركب، فأخذ رئيسه ومدبره الرومي الجنوي، وكان بصيرا بصنعته، حاذقا في شغل الرياسة البحرية، يراوغها تارة يمينا وتارة شمالا طمعا أن لا يرجع على عقبه، والبحر في أثناء ذلك رهو ساكن، فلما كان نصف الليل، أو قريب منه، ليلة السبت التاسع عشر لرجب المذكور، والسابع والعشرين لأكتوبر، ترددت علينا الريح الغربية فقصفت قرية الصاري المعروف بالأردمون والقت نصفها في البحر مع ما اتصل بها من الشراع، وعصم الله من وقوعها في المركب، لأنها كانت تشبه الصواري عظما وضخامة، فتبادر البحريون اليها، وحط شراع الصاري الكبير، وعطل المركب من جريه، وصيح بالبحريين الملازمين للعشاري المرتبط بالمركب، فقصدوا الى نصف الخشبة الواقعة في البحر وأخرجوها مع الشراع المرتبط بها، وحصلنا في أمر لا يعلمه الا الله تعالى، وشرعوا في رفع الشراع الكبير، وأقاموا في الأردمون شراعا يعرف بالدلون، وبتنا بليلة شهباء، الى ان وضح الصباح، وقد من الله عز وجل بالسلامة. وشرع البحريون في إصلاح قرية أخرى من خشبة كانت معدة عندهم، والريح الغربية على أول لجاجها، ونحن بين اليأس والرجاء نتردد مغلبين حسن الثقة بجميل صنع الله تعالى وحفي لطفه، ومعهود فضله، سبحانه، هو أهل ذلك، جلت قدرته، وتناهت عظمته، لا اله سواه. وفي يوم الاربعاء الثالث والعشرين منه تحركت الريح الشرقية نسيما فاترا عليلا، فاستبشرت النفوس بها رجاء في نمائها وقوتها، فكانت نفسا خافتا، ثم بعد ذلك غشى البحر ضباب رقيق سكنت له أمواجه فعاد كأنه صرح ممرد من

قوارير ولم يبق للجهات الأربع نفس يتنسم، فبقينا لاعبين على صفحة ماء، تخاله العين سبيكة لجين، كأنا نجول بين سماءين. وهذا الهواء الذي يسميه البحريون الغليني. وفي ليلة الخميس الرابع والعشرين لرجب المذكور، وهو أول يوم من نونبر العجمي، كان للنصارى عيد مذكور عندهم احتفلوا له في إسراج الشمع، وكاد لا يخلوا أحد منهم، صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، من شمعة في يده، وتقدم قسيسوهم للصلاة في المركب بهم، ثم قاموا واحدا واحدا لوعظهم وتذكيرهم بشرائع دينهم، والمركب يزهر كله أعلاه وأسفله سرجا متقدة، وتمادينا على تلك الحالة اكثر تلك الليلة، ثم اصبحنا بمثل ذلك الهواء الساكن، واتصل بنا ذلك الى ليلة الأحد السابع والعشرين منه، فتحركت ريح شمالية، فعاد المركب بها لحريته واستبشرت النفوس، والحمد لله. شهر شعبان المكرم غم هلاله علينا، فأكملنا عدة أيام رجب، فهو على الكمال من ليلة الخميس، بموافقة الثامن من نونبر، وقد تم لنا على ظهر البحر، ومن يوم إقلاعنا من عكة اثنان وعشرون يوما حتى عدمنا الأنس، واستشعرنا القنط واليأس، وصنع الله عز وجل مأمول، ولطفه الحفي بنا كفيل بمنه وكرمه. وقل الزاد بأيدي الناس، لكن هم من هذا المركب بمنة الله، في مدينة جامعة للمرافق، فكل ما يحتاج شراؤه يوجد، من خبز، وماء، ومن جميع الفواكه والأدم، كالرمان والسفرجل والبطيخ السندي والكمثرى والشاه بلوط والجوز والحمص والباقلاء نيا ومطبوخا والبصل والثوم والتين والجبن والحوت، وغير ذلك مما يطول ذكره؛ عاينا جميع ذلك يباع. وفي خلال هذه الايام كلها لم يظهر لنا بر، والله يأتي بالفرج القريب. ومات فيه رجلان من المسلمين، رحمهما الله، فقذفا في البحر، ومن البلغريين اثنان أيضا، ومات منهم بعد ذلك خلق كثير، وسقط منهم واحد في البحر حيّا، فاحتمله الموج أسرع من خطفة البارق، وورث هؤلاء الأموات

شهر رجب الفرد

من المسلمين والنصارى البلغريين رئيس المركب، لأنها سنة عندهم في كل من يموت في البحر، ولا سبيل لوارث الميت الى ميراثه. فطال عجبا من ذلك. وفي سحر يوم الثلاثاء السادس من الشهر المؤرخ، والثالث عشر من نونبر، ظهرت لنا جبال في البحر، وقد اشتدت الريح الغربية، وتوالى اعصارها، وكانت تتقلب بالقبول والدبور. فألجأتنا الى أحد تلك الجبال، فأرسينا عنده. وسألنا عن الموضع، فأعلمنا أنه من جزائر الرمانية. وهذه الجزائر تنيف على الثلاث مئة وخمسين جزيرة، وهي الى عمل صاحب القسطنطينية، والروم يحذرون أهلها كحذر المسلمين، لأنهم لا صلح بينهم، فأقمنا بذلك المرسى يوم الثلاثاء المذكور وصدر يوم الاربعاء بعده. ونزل من تلك الجزيرة قوم بايعوا أهل المركب بعض ساعة من النهار في الخبز واللحم بعد أمان أخذوه. ثم أقلعنا يوم الأربعاء المذكور، وقد تم لنا على ظهر المركب ثمانية وعشرون يوما، وظهر لنا يوم الخميس بعده بر جزيرة أقريطش، وهذه الجزيرة أيضا لعمل صاحب القسطنطينية، وطولها ينيف على الثلاث مئة ميل، وقد تقدم ذكرها في سفرنا البحري الى الإسكندرية، فبقينا نجري بطولها وهي منّا على اليمين، والبحر في أثناء ذلك كله هائل، والريح لا توافق، ونحن ننتظر الفرج من الله عزّ وجل بصبر جميل، ونرتقب منه جل جلاله معهود التيسير والتسهيل بمنه ولطفه. ثورة الريح الشمالية وفي يوم السبت العاشر لشعبان المذكور، والسابع عشر لنونبر، انقطع عنا بر الجزيرة المذكورة، ونحن نجري بريح شمالية موافقة، فذئرت وعصفت فطار لها المركب بجناحي شراعه، والبحر بها قد جن واستشرى لجاجه، وقذفت بالزبد أمواجه، فتخال غواربه المتموجة جبالا مثلجة، ومع تلك استشعرت النفوس الأنس، وغلب رجاؤها اليأس، وقد كنا مدة الستة وعشرون يوما المذكورة، التي لم يظهر لنا فيها بر، نرجم الظنون، ونغازل المنون، حذرا من نفاد الزاد والماء، والحصول بين المهلكين الجوع والظماء، فمن قائل يقول:

الرياح العاصفة الغربية

انا قد ملنا في جرينا الى بر المغرب، وهو بر افريقية، وآخر يزعم: أنا قد ملنا الى بر الأرض الكبيرة، بر القسطنطينية وما يليها، ومنهم من يقوا: الى اللاذقية جهة الشام، ومنهم من يقول: الى دمياط بر الاسكندرية. وكنا نحذر أن تلجئنا الريح الى احدى جزائر الرمانية الخالية، فنشتو فيها، أو تضطرنا الحال الى المعمور منها. وليس في هذه الوجوه المتوقعة كلها وجه فيه حظ لمختار، حتى أتى الله بالفرج، وأذهب الباس والياس، ومكن في النفوس الإيناس، بعد مكابدة الأمرين، ومقاساة البرحين، فلله در القائل: البحر مرّ المذاق صعب ... لا جعلت حاجتي اليه أليس ماء ونحن طين ... فما عسى صبرنا عليه ونحن الآن بفضل الله تعالى نتطلع البشرى بطهور بر صقلية، ان شاء الله. الرياح العاصفة الغربية وفي النصف من ليلة الأحد الحادي عشر منه انقلبت الريح غربية، وكشف النوء من الغرب، وجاءت الريح عاصفة فأخذت بنا جهة الشمال. وأصبحنا يوم الأحد المذكور والهول يزيد، والبحر قد هاج هائجه، وماج مائجه، فرمى بموج كالجبال، يصدم المركب صدمات يتقلب لها على عظمه تقلب الغصن الرطيب، وكان كالسور علوا فيرتفع له الموج ارتفاعا يرمي في وسطه بشآبيب كالوابل المنكسب. فلما جن الليل اشتد تلاطمه، وصكت الآذان غماغمه، واستشرى عصوف الريح. فحطت الشرع، واقتصر على الدلالين الصغار دون انصاف الصواري. ووقع اليأس من الدنيا، وودعنا الحياة بسلام؛ وجاءنا الموج من كل مكان، وظننا أنا قد أحيط بنا، فيا لها ليلة يشيب لها سود الذوائب، مذكورة في ليالي الشوائب، مقدمة في تعداد الحوادث والنوائب! ونحن منها في مثل ليل صول طولا، فأصبحنا ولم نكد. فكان من الاتفاقات الموحشة أن أبصرنا بر إقريطش عن يسارنا، وجباله قد قامت أمامنا، وكنا قد خلفناه عن يميننا، فأسقطتنا الريح عن مجرانا، ونحن نظن أنا قد جزناه. فسقط في أيدينا، وخالفنا المجرى المعهود الميمون، وهو أن يكون البر المذكور منا يمينا، في استقبال صقلية. فاستسلمنا للقدر، وتجرعنا غصص هذا الكدر، وقلنا:

سيكون الذي قضي ... سخط العبد أو رضي وفي أثناء ذلك انبسطت الشمس، ولان البحر قليلا، وصممنا نروم أخذ مرسى في البر المذكور إلى أن يقضي الله قضاءه وينفذ حكمه، ولكل سفر أوان، وسفر البحر إنما هو في إبانه، والمعهود من زمانه، لا أن يعتسف في فصول أشهر الشتاء اعتسافنا له، والأمر لله من قبل ومن بعد فالحذر الحذر، من ركوب مثل هذا الخطر، وان كان المحذور لا يغني عن المقدور شيئا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم ان الريح ساعدت عند استقبالنا البر بعض مساعدة، فانصرفنا عنه وتركناه يمينا وعدنا الى قريب من المجرى المقصود، وجرينا بعض ليلة الثلاثاء الثالث عشر منه، وقد ثم لنا على ظهر المركب أربعة وثلاثون يوما، والشرع مصلبة، وهو عندهم أعدل جري لأنه لا يكون الا بالريح التي تتلقى مؤخر المركب في مجراه، فأصبحنا يوم الثلاثاء المذكور على مثل تلك الحال، وساعدت الريح، ففرحنا وسررنا، وطلعت علينا مراكب قاصدة مقصدنا فاستبشرنا بها وعلمنا أنا على مجرى مقصود، ولله الحمد والشكر على كل حال من الأحوال. ثم انقلبت الريح غربية، وهبت عاصفا، فألجأتنا اضطرارا بعد أن جرت لنا بعض ليلة الأربعاء ويوم الأربعاء الى مرسى من مراسي جزائر الرمانية، وهو رأس الجزيرة، ومنه الى الأرض الكبيرة مجاز فيه الاثنا عشر ميلا، فأصبحنا به يوم الخميس الخامس عشر لشعبان المكرم، والثاني والعشرين لنونبر، فحمدنا الله عز وجل على ما من به من السلامة، وتوافت بعدنا الى ذلك المرسى خمسة مراكب، منها اثنان كانا قد أقلعا من بر الاسكندرية عن عهد نحو خمسين يوما فأسقطتهما الريح، فأقمنا بذلك المرسى أربعة أيام، وجدد الناس به الماء والزاد لأن العمارة كانت منا قريبا، فنزل أهل الجزيرة وبايعوا أهل المركب في الخبز واللحم والزيت وما كان عندهم من الأدم. ولم يكن خبزهم برا خالصا انما كان خليطا بالشعير وكان يضرب للسود. فتهافت الناس عليه على غلائه، ولم يكن بالرخيص في سومه، وشكروا لله على ما من به عليهم. وفي هذا المرسى كمل لنا على ظهر البحر أربعون يوما، والحمد لله على كل حال، ومدة مقامنا بالمرسى لم يفتر عصوف الريح الغربية، وعادت أشد ما

يكون هبوبا. فحمدنا الله تعالى على أن لم تأخذنا ونحن على ظهر البحر جارين، والحمد لله على جميل صنعه. وأقلعنا من المرسى المذكور يوم الاثنين التاسع عشر لشعبان المذكور، والسادس والعشرين لنونبر، بريح طيبة موافقة، فاستبشرنا بها واستطلعنا جميل صنع الله عز وجل ولطف قضائه، لا رب سواه. وتمادى سيرنا الى يوم الخميس الثاني والعشرين لشعبان، والتاسع لنونبر، ثم انقلبت الريح غربية وأنشأت سحابة فيها رعد قاصف، وزجتها ريح عاصف، وتقدمها برق خاطف، فأرسلت حاصبا من البرد صبته علينا في المركب شآبيب متداركة، فارتاعت له النفوس، ثم أسرع انقشاعها، وانجلى عن الأنفس ارتياعها، وبتنا ليلة الجمعة مبيت وحشة وطالعنا بها اليأس من مكمنه، فلما أسفر الصبح وطلع النهار أبصرنا بر صقلية لائحا أمامنا. فيا لها بشرى ومسرة، لو لم تعد حسرة في كرة! فأمسينا ليلة السبت، وهو أول يوم من دجنبر، ونحن على ادراكه في أقل من ثلثها أو منتصفها، ولكل أجل كتاب وميقات، وكم أمل تعترض دونه الآفات، فما كان الا كلا ولا حتى ضربت في وجوهنا ريح أنكصتنا على الأعقاب، وحالت بين الابصار والارتقاب. وما زالت تعصف، حتى كادت تنسف وتقصف، فحطت الشرع عن صواريها، واستسلمت النفوس لباريها، وتركنا بين السفينة ومجريها، وتتابعت علينا عوارض ديم، حصلنا منها ومن الليل والبحر في ثلاث ظلم، وعباب الموج تتوالى صدماته، وتطفر الألباب رجفاته. فنبذت نفوسنا كل أمنية، وتأهبت للقاء المنية. وقطعنا هذه الليلة البهماء في مصادمة أهوال، ومكابدة أوجال، ومقاساة أحوال، يا لها من أحوال! ثم أصبحنا يوم السبت ليوم عصيب، أخذ من هول ليلة بأوفر نصيب، والأمواج والرياح تترامى بنا حيث شاءت، وقد استسلمنا للقضاء، وتمسكنا بأسباب الرجاء. ثم تداركنا صنع الله تعالى مع المساء ففترت الريح ولان متن البحر وأسفر وجه الجو. وأصبحنا يوم الاحد ثاني دجنبر، والخامس والعشرين لشعبان، وقد بدل لنا من الخوف الأمان وتطلعت الوجوه كأنها انتشرت من الأكفان، وساعدت الريح بعض مساعدة. فعدنا

نطلب من البر أثرا بعد عين، ونرجم الظنون بين متى وأين، والله عز وجل لطيف بعباده، وكفيل بمعهود صنعه الجميل ومعتاده، لا رب سواه. شهر رمضان المعظم استهل هلاله ليلة الجمعة السابع لشهر دجنبر ونحن بإزاء الأرض الكبيرة على متن البحر مترددين، وقد من الله علينا بريح شرقية فاترة المهب سرنا بها سيرا رويدا حتى وصلنا هذا الموضع من ازاء الأرض الكبيرة المذكورة، وأبصرنا فيها ضياعا وعمارة كثيرة، أعلمنا أنها من قلورية، وهي من بلاد صاحب صقلية، لأن بلاده في الأرض الكبيرة تتصل نحو شهرين. وبهذا الموضع نزل كثير من البلغريين فائزين بأنفسهم لمسغبة مست أهل المركب لعدم الزاد ونفاده. وحسبك أنا كنا نقتصر على مقدار رطل من الخبز اليابس نتقسمه بين أربعة منا نبله بيسير من الماء فنتبلغ به. وكل من نزل من البلغريين باع فضلة زاده، فترفق المسلمون بابتياع ما أمكن منه على غلائه وانتهى الى مقدار خبزة بدرهم من الخالص، فما ظنك بمدة شهرين على ظهر البحر في مسافة ظن الناس أنهم يقطعونها في عشرة أيام او خمسة عشر يوما الغاية، فالحازم من أدخل زاد ثلاثين يوما، وسائر الناس لعشرين يوما، ولخمسة عشر يوما. ومن العجب في الاتفاقات في الأسفار البحرية أنا استطلعنا على ظهر البحر أهلة ثلاثة أشهر.: هلال رجب، وهلال شعبان، وهلال رمضان هذا. وفي يوم مستهله مع الصباح أبصرنا أمامنا جبل النار، وهو جبل البركان المشهور بصقيلة، فاستبشرنا بذلك، والله تعالى يعظم أجورنا على ما كابدناه، ويختم لنا بأجمل الصنع وأسناه، ويوزعنا في كل حال شكر ما اولاه، بمنه وكرمه. ثم حركتنا من ذلك الموضع ريح موافقة، فلما كان عشي يوم السبت ثاني الشهر المذكور اشتد هبوبها فزجت المركب تزجية سريعة، فلم يكن الا كلا ولا حتى أدتنا الى أول المضيق والليل قد جن، وهذا المضيق ينحصر فيه البحر الى مقدار ستة أميال، وأضيق موضع فيه ثلاثة أميال يعترض من بر الأرض الكبيرة الى بر جزيرة صقلية، والبحر بهذا المضيق ينصب انصباب السيل العرم، ويغلي غليان المرجل، لشدة انحصاره وانضغاطه، وشقه صعب على

شهر رمضان المعظم

المراكب. فاستمر مركبنا في سيره، والريح الجنوبية تسوقه سوقا عنيفا، وبر الأرض الكبيرة عن يميننا،، وبر صقلية عن يسارنا. الإشراف على الغرق فلما كان مع نصف ليلة الأحد الثالث للشهر المبارك، وقد شارفنا مدينة مسينة من الجزيرة المذكورة، دهمتنا زعقات البحريين بأن المركب قد أمالته الريح بقوتها الى أحد البرين وهو ضارب فيه، فأمر رئيسهم بحط الشرع للحين، فلم ينحط شراع الصاري المعروف بالأردمون، وعالجوه فلم يقدروا عليه لشدة ذهاب الريح به، فلما أعياهم مزقه الرائس بالسكين قطعا قطعا طمعا في توقيفه، وفي أثناء هذه المحاولة سنح المركب بكلكله على البر، والتقاه بسكانيه، وهما رجلاه اللتان يصرف بهما، وقامت الصيحة الهائلة في المركب، فجاءت الطامة الكبرى، والصدعة التي لم نطق لها جبرا، والقارعة الصماء التي لم تدع لنا صبرا، والتدم النصارى التداما، واستسلم المسلمون لقضاء ربهم استسلاما، ولم يجدوا سوى حبل الرجاء استمساكا واعتصاما. وتعاورت الريح والامواج صفح المركب حتى تكسرت رجله الواحدة فألقى الرائس مرسى من مراسيه طمعا في تمسكه به، فلم يغن شيئا، فقطع حبله وتركه في البحر، فلما تحققنا أنها هي قمنا فشددنا للموت حيازيمنا، وأمضينا على الصبر الجميل عزائمنا، وأقمنا نرتقب الصباح أو الحين المتاح، وقد علا الصياح، وارتفع الصراخ من أطفال الروم ونسائهم، والقى الجميع عن يد الإذعان، وقد حيل بين العير والنزوان. ونحن قيام نبصر البر قريبا، ونتردد بين أن نلقي بأنفسنا اليه سبحا، أو ننتظر لعل الفرج من الله يطلع صبحا. فأحضرنا نية الثبات، والبحريون قد ضموا العشاري لإخراج المهم من رجالهم ونسائهم وأسبابهم، فساروا به الى البر دفعة واحدة، ثم لم يطيقوا رده، وقذفه الموج مكسرا على ظهر البر، فتكمن حينئذ اليأس من النفوس، وفي أثناء مكابدة هذه الأحوال أسر الصبح، فجاء نصر الله والفتح، وحققنا النظر فاذا بمدينة مسينة أمامنا على أقل من نصف الميل وقد حيل بيننا وبينها، فعجبنا من قدرة الله عز وجل في تصريف أقداره، وقلنا: رب مجلوب اليه حتفه في عتبة داره.

الزوارق المغيثة

الزوارق المغيثة ثم تمكن الشروق فجاءتنا الزوارق مغيثة، ووقعت الصيحة في المدينة، فخرج ملك صقلية غليام بنفسه في جملة من رجاله متطلعا لتلك الحال: وبادرنا الى النزول في الزوارق والأمواج لشدتها لا تمكنها الوصول الى المركب. فكان نزولنا فيها خاتمة الهول العظيم، ونجونا الى البر منجى أبي نصر عن قدر. وتلف للناس بعض أسبابهم فتسلوا عن الغنيمة بإيابهم. ومن العجب، على ما أخبرنا به، أن هذا الملك الرومي المذكور أبصر فقراء من المسلمين يتطلعون من المركب وليس لهم شيء يؤدونه نزولهم لأن أصحاب الزوارق أغلوا على الناس في تخليصهم، فسأل عنهم، فاعلم بقصتهم، فأمر لهم بمائة رباعي من سكته ينزلون بها، وخلص جميع المسلمين عن سلام، وقيل: الحمد لله رب العالمين. وفرغ النصارى جميع ما كان لهم فيه، فأصبح في اليوم الثاني وقد جعلته الأمواج جذاذا، ورمت به الى البر أفلاذا، فعاد عبرة للناظرين، وآية للمتوسمين. ووقع العجب من سلامتنا منه، وجددنا شكر الله عز وجل على ما من به من لطيف صنعه وجميل قضائه وتخليصه لنا من أن يكون هذا القدر ينفذ علينا في الأرض الكبيرة أو إحدى جزائر الروم المعمورة. فكنا، لو سلمنا، نستعبد للابد، والله عز وجل يعيننا على أداء شكر هذه المنة والنعمة، وما تداركنا به من لحظات الرأفة والرحمة، انه على ذلك قدير، وبعوائد الفضل والخير جدير، لا إله سواه. ومن جملة صنع الله عز وجل لنا، ولطفه بنا، في هذه الحادثة، كون هذا الملك الرومي حاضرا فيها. ولولا ذلك لانتهب جميع ما في المركب انتهابا، وربما كان يستعبد جميع من فيه من المسلمين، لأن العادة جرت لهم بذلك. وكان وصول هذا الملك لهذه البلاد، بسبب اسطوله الذي ينشئه، رحمة لنا، والحمد لله على ما من به علينا من حسن نظره الكفيل بنا، لا إله سواه. مدينة مسينة من جزيرة صقيلة هذه المدينة موسم تجار الكفار، ومقصد جواري البحر من جميع الأقطار،

المسلمون في صقلية

كثيرة الأرفاق برخاء الأسعار، مظلمة الآفاق بالكفر لا يقر فيها لمسلم قرار، مشحونة بعبدة الصلبان، تغص بقاطنيها، وتكاد تضيق ذرعا بساكنيها، مملوءة نتنا ورجسا، موحشة لا توجد لغريب أنسا، أسواقها نافقة حفيلة، وأرزاقها واسعة بإرغاد العيش كفيلة، لا تزال بها ليلك ونهارك في أمان، وإن كنت غريب الوجه واليد واللسان، مستندة الى جبال قد انتظمت حضيضها وخنادقها، والبحر يعترض أمامها في الجهة الجنوبية منها. ومرساها أعجب مراسي البلاد البحرية، لأن المراكب الكبار تدنو فيه من البر حتى تكاد تمسه وتنصب منها الى البر خشبة يتصرف عليها، فالحمال يصعد بحمله اليها ولا يحتاج لزوارق في وسقها ولا في تفريغها الا ما كان مرسيا على البعد منها يسيرا، فتراها مصطفة مع البر كاصطفاف الجياد في مرابطها واصطبلاتها، وذلك لإفراط عمق البحر فيها، وهو زقاق معترض بينها وبين الأرض الكبيرة، بمقدار ثلاثة أميال، ويقابلها منه بلدة تعرف برية، وهي عمالة كبيرة. وهذه المدينة: مسينة، رأس جزيرة صقلية، وهي كثيرة المدن والعمائر والضياع، وتسميتها تطول. وطول هذه الخزيرة: صقلية، سبعة أيام، وعرضها مسيرة خمسة أيام، وبها جبل البركان المذكور، وهو يأتزر بالسحب لإفراط سموه ويعتم بالثلج شتاء وصيفا دائما، وخصب هذه الجزيرة أكثر من أن يوصف، وكفى بأنها ابنة الأندلس في سعة العمارة، وكثرة الخصب والرفاهة، مشحونة بالأرزاق على اختلافها، مملوءة بانواع الفواكه واصنافها، لكنها معمورة بعبدة الصلبان، يمشون في مناكبها، ويرتعون في أكنافها. والمسلمون معهم على املاكهم وضياعهم، وقد حسنوا السيرة في استعمالهم واصطناعهم، وضربوا عليهم اتاوة في فصلين من العام يؤدونها، وحالوا بينهم وبين سعة في الارض كانوا يجدونها، والله عز وجل يصلح أحوالهم، ويجعل العقبى الجميلة مآلهم، بمنه. وجبالها كلها بساتين مثمرة بالتفاح والشاه بلوط والبندق والإحاص وغيرها من الفواكه. المسلمون في صقلية وليس في مسينه هذه من المسلمين الا نفر يسير من ذوي المهن، ولذلك يستوحش بها المسلم الغريب، وأحسن مدنها قاعدة ملكها، والمسلمون يعرفونها

الملك غليام وحسن سيرته

بالمدينة، والنصارى يعرفونها ببلارمة، وفيها سكنى الحضريين من المسلمين، ولهم فيها المساجد، والأسواق المختصة بهم في الأرباض كثير. وسائر المسلمين بضياعها وجميع قراها، وسائر مدنها كسر قوسة وغيرها. لكن المدينة الكبيرة التي هي مسكن ملكها غليام أكبرها وأحفلها وبعدها مسينة. وبالمدينة ان شاء الله يكون مقامنا، ومنها نؤمل سفرنا الى حيث يقضي الله عز وجل من بلاد المغرب ان شاء الله. الملك غليام وحسن سيرته وشأن ملكهم هذا عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين واتخاذ الفتيان المجابيب، وكلهم أو أكثرهم كاتم ايمانه متمسك بشريعة الإسلام، وهو كثير الثقة بالمسلمين وساكن اليهم في احواله والمهم من أشغاله، حتى ان الناظر في مطبخته رجل من المسلمين، وله جملة من العبيد السود المسلمين، وعليهم قائد منهم. ووزراؤه وحجابه الفتيان، وله منهم جملة كبيرة، هم أهل دولته والمرتسمون بخاصته، وعليهم يلوح رونق مملكته، لأنهم متسعون في الملابس الفاخرة والمراكب الفارهة، وما منهم إلا من له الحاشية والخول والأتباع. القصر الأبيض ولهذا الملك القصور المشيدة والبساتين الأنيقة، ولا سيما بحضرة ملكة المدينة المذكورة. وله بمسينة قصر أبيض كالحمامة مطل على ساحل البحر. وهو كثير الاتخاذ للفتيان والجواري. وليس في ملوك النصارى أترف في الملك ولا أنعم ولا أرفه منه، وهو يتشبه في الانغماس في نعيم الملك وترتيب قوانينه ووضع أساليبه وتقسيم مراتب رجاله وتفخيم أبهة الملك واظهار زينته بملوك المسلمين، وملكه عظيم جدا. وله الأطباء والمنجمون، وهو كثير الاعتناء بهم، شديد الحرص عليهم، حتى انه متى ذكر له أن طبيبا أو منجما أجتاز ببلده أمر بإمساكه وأدر له أرزاق معيشته حتى يسليه عن وطنه، والله يعيذ المسلمين من الفتنة به بمنه. وسنه نحو الثلاثين سنة، كفى الله المسلمين عاديته وبسطته. ومن عجيب شأنه المتحدث به أنه يقرأ ويكتب بالعربية، وعلامته، على ما أعلمنا به أحد خدمته المختصين به: الحمد لله حق حمده. وكانت علامة أبيه: الحمد لله

المسلمون في دولة غليام

شكرا لأنعمه. المسلمون في دولة غليام وأما جواريه وحظاياه في قصره فمسلمات كلهن. ومن أعجب ما حدثنا به خديمه المذكور، وهو يحيى بن فتيان الطراز، وهو يطرز بالذهب في طراز الملك: أن الافرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمة، تعيدها الجواري المزكورات مسلمة، وهن على تكتم من ملكهن في ذلك كله، ولهن في فعل الخير أمور عجيبة. وأعلمنا أنه كان في هذه الجزيرة زلازل مرجفة ذعر لها هذا المشرك. فكان يتطلع في قصره فلا يسمع الا ذاكرا لله ولرسوله من نسائه وفتيانه، وربما لحقتهم دهشة عند رؤيته، فكان يقول لهم: ليذكر كل أحد منكم معبوده ومن يدين به؛ تسكينا لهم. وأما فتيانه الذين هم عيون دولته وأهل عمالته في ملكه فهم مسلمون، ما منهم الا من يصوم الأشهر تطوعا وتأجرا، ويتصدق تقربا الى الله وتزلفا، ويفتك الأسرى ويربي الأصاغر منهم ويزوجهم ويحسن اليهم، ويفعل الخير ما استطاع. وهذا كله صنع من الله عز وجل لمسلمي هذه الجزيرة وسر من أسرار اعتناء الله عز وجل بهم. لقينا منهم بمسينة فتى اسمه عبد المسيح، من وجوههم وكبرائهم، بعد تقدمة رغبة منه الينا في ذلك، فاحتفل في كرامتنا وبرنا وباح لنا بسره المكنون بعد مراقبة منه مجلسه أزال لها كل من كان حوله ممن يتهمه من خدامه محافظة على نفسه. فسألنا عن مكة قدسها الله وعن مشاهدها المعظمة وعن مشاهد المدينة المقدسة ومشاهد الشام، فأخبرناه، وهو يذوب شوقا وتحرقا، واستهدى منا بعض ما استصحبناه من الطرف المباركة من مكة والمدينة قدسهما الله، ورغب في أن لا نبخل عليه بما أمكن من ذلك. وقال لنا: أنتم مدلون بإظهار الإسلام، فائزون بما قصدتم له، رابحون ان شاء الله في متجركم. ونحن كاتمون ايماننا، خائفون على أنفسنا، متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سرا، معتقلون في ملكة كافر بالله، قد وضع في أعناقنا ربقة الرق، فغايتنا التبرك بلقاء أمثالكم من الحجاج، واستهداء أدعيتهم، والاغتباط بما نتلقاه منهم من تحف تلك المشاهد المقدسة، لنتخذها عدة للإيمان، وذخيرة

مغادرة صقلية

للأكفان، فتفطرت قلوبنا له اشفاقا ودعونا له بحسن الخاتمة، واتحفناه ببعض ما كان عندنا مما رغب فيه. وأبلغ في مجازاتنا ومكافأتنا واستكتمناه سائر اخوانه من الفتيان. ولهم في فعل الجميل أخبار مأثورة، وفي افتكاك الأسرى صنائع عند الله مشكورة. وجميع خدمتهم على مثل أحوالهم. ومن عجيب شأن هؤلاء الفتيان أنهم يحضرون عند مولاهم فيحين وقت الصلاة فيخرجون أفذاذا من مجلسه فيقضون صلاتهم. وربما يكونون بموضع تلحقه عين ملكهم فيسترهم الله عز وجل، فلا يزالون بأعمالهم ونياتهم وبنصائحهم الباطنة للمسلمين في جهاد دائم، والله ينفعهم ويجمل خلاصهم بمنه. ولهذا الملك بمدينة مسينة المذكورة دار صنعة البحر تحتوي من الأساطيل على ما لا يحصى عدد مراكبه، وله بالمدينة مثل ذلك. مغادرة صقلية فكان نزولنا في أحد الفنادق، وأقمنا بها تسعة أيام، فلما كان ليلة الثلاثاء الثاني عشر للشهر المبارك المذكور، والثامن عشر لدجنبر، ركبنا في زورق متوجهين الى المدينة المتقدم ذكرها، وصرنا قريبا من الساحل بحيث نبصره رأي العين، وأرسل الله علينا ريحا شرقية رخاء طيبة زجت الزورق أهنأ تزجية وسرنا نسرح اللحظ في عمائر وقرى متصلة وحصون ومعاقل في قنن الجبال مشرفة، وأبصرنا عن يمننا في البحر تسع جزائر قد قامت جبالا مرتفعة: على مقربة من بر الجزيرة اثنتان منها، تخرج منهما النار دائما، وابصرنا الدخان صاعدا منهما، ويظهر بالليل نارا حمراء ذات السن تصعد في الجو، وهو البركان المشهور خبره، وأعلمنا ان خروجها من منافس في الجبلين المذكورين يصعد منها نفس ناري بقوة شديدة تكون عنه النار، وربما قذف فيها الحجر الكبير فتلقي به في الساعة الى الهواء لقوة ذلك النفس وتمنعه من الاستقرار والانتهاء الى القعر، وهذا من أعجب المسموعات الصحيحة. وأما الجبل الشامخ الذي بالجزيرة، المعروف بجبل النار، فشأنه أيضا عجيب، وذلك أن نارا تخرج منه في بعض السنين كالسيل العرم، فلا تمر بشيء الا أحرقته

مدينة شفلودي من جزيرة صقلية

حتى تنتهي الى البحر فتركب ثبجه على صفحه حتى تغوص فيه، فسبحان المبدع في عجائب مخلوقاته، لا اله سواه. الى أن حللنا عشي يوم الأربعاء، بعد يوم الثلاثاء المؤرخ، مرسى مدينة شفلودي، وبينها وبين مسينة مجرى ونصف مجرى. مدينة شفلودي من جزيرة صقلية هي مدينة ساحلية كثيرة الخصب، واسعة المرافق، منتظمة أشجار الأعناب وغيرها، مرتبة الأسواق، تسكنها طائفة من المسلمين، وعليها قنة جبل واسعة مستديرة، فيها قلعة لم ير أمنع منها اتخذوها عدة لأسطول يفجؤهم من جهة البحر من جهة المسلمين، نصرهم الله. وكان اقلاعنا منها نصف الليل، فجئنا مدينة ثرمة ضحوة يوم الخميس بسير رويد. وبين المدينتين خمسة وعشرون ميلا، فانتقلنا فيها من ذلك الزورق الى زورق ثان اكتريناه لكون البحريين الذين صحبونا فيه من أهلها. مدينة ثرمة من الجزيرة المذكورة. هي أحسن وضعا من التي تقدم ذكرها، وهي جصينة، تركب البحر وتشرف عليه، وللمسلمين فيها ربض كبير لهم فيه المساجد، ولها قلعة سامية منيعة. وفي اسفل البلدة حمة قد أغنت أهلها عن اتخاذ حمام. وهذه البلدة من الخصب. وسعة الرزق على غاية. والجزيرة بأسرها من أعجب بلاد الله في الخصب وسعة الأرزاق. فأقمنا بها يوم الخميس الرابع عشر للشهر المذكور، ونحن قد أرسينا في واد بأسفلها ويطلع فيه المد من البحر ثم ينحسر عنه. وبتنا بها ليلة الجمعة، ثم انقلب الهواء غربيا، فلم نجد للإقلاع سبيلا، وبيننا وبين المدينة المقصودة المعروفة عند النصارى ببلارمة خمسة وعشرون ميلا، فخشينا طول المقام، وحمدنا الله تعالى على ما أنعم به من التسهيل في قطع المسافة في يومين، وقد تلبث الزوارق في قطعها، على ما أعلمنا به، العشرين يوما والثلاثين يوما ونيفا على ذلك. فأصبحنا يوم الجمعة منتصف الشهر المبارك على نية من المسير في البر على أقدامنا، فنفذنا لطيتنا وتحملنا بعض أسبابنا وخلفنا بعض الأصحاب على

الأسباب الباقية في الزورق، وسرنا في طريق كأنها السوق عمارة وكثرة صادر ووارد، وطوائف النصارى يتلقوننا فيبادرون بالسلام علينا ويؤنسوننا، فرأينا من سياستهم ولين مقصدهم مع المسلمين ما يوقع الفتنة في نفوس أهل الجهل، عصم الله جميع أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، من الفتنة بهم بعزته ومنه، فانتهينا الى قصر سعد، وهو على فرسخ من المدينة، وقد أخذ منا الإعياء فملنا اليه وبتنا فيه. وهذا القصر على ساحل البحر مشيد البناء عتيقه قديم الوضع من عهد ملكة المسلمين للجزيرة، لم يزل ولا يزال، بفضل الله، مسكنا للعباد منهم، وحوله قبور كثيرة للمسلمين: أهل الزهادة والورع، وهو موصوف بالفضل والبركة مقصود من كل مكان، وبإزائه عين تعرف بعين المجنونة، وله باب وثيق من الحديد، وداخله مساكن، وعلالي مشرفة وبيوت منتظمة، وهو كامل مرافق السكنى، وفي اعلاه مسجد من احسن مساجد الدنيا بهاء، مستطيل ذو حنايا مستطيلة، مفروش بحصر نظيفة، لم ير أحسن منها صنعة، وقد علق فيه نحو الأربعين قنديلا من أنواع الصفر والزجاج، وأمامه شارع واسع يستدير بأعلى القصر، وفي أسفل القصر بئر عذبة. فبتنا في هذا المسجد أحسن مبيت وأطيبه، وسمعنا الأذان وكنا قد طال عهدنا بسماعه. وأكرمنا القوم الساكنون فيه. وله إمام يصلي بهم الفريضة. والتراويح في هذا الشهر المبارك. وبمقربة من هذا القصر، بنحو الميل الى جهة المدينة، قصر آخر على صفته يعرف بقصر جعفر، وداخله سقاية تفور بماء عذب. وأبصرنا للنصارى في هذه الطريق كنائس معدة لمرضى النصارى، ولهم في مدنهم مثل ذلك على صفة مارستانات المسلمين، وأبصرنا لهم بعكة وبصور مثل ذلك، فعجبنا من اعتنائهم بهذا القدر. فلما صلينا الصبح توجهنا الى المدينة فجئنا لندخل، فمنعنا وحملنا الى الباب المتصل بقصور الملك الأفرنجي، أراح الله المسلمين من ملكته، وادينا الى المستخلف من قبله ليسألنا عن مقصدنا، وكذلك فعلهم بكل غريب، فسلك رحاب وابواب وساحات ملوكية، وأبصرنا من القصور المشرفة والميادين المنتظمة والبساتين والمراتب المتخذة لأهل الخدمة ما راع أبصارنا وأذهل أفكارنا،

ذكر المدينة التي هي حضرة صقلية

وتذكرنا قول الله عز وجل «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ» وأبصرنا فيما أبصرناه مجلسا في ساحة فسيحة قد أحدق بها بستان وانتظمت جوانبها بلاطات، والمجلس قد أخذ استطالة تلك الساحة كلها، فعجبنا من طوله واشراف مناظره، فأعلمنا أنه موضع غذاء الملك مع اصحابه وتلك البلاطات والمراتب حيث تقعد حكامه. وأهل الخدمة والعمالة أمامه. فخرج الينا ذلك المستخلف يتهادى بين خديمين يحفان به ويرفعان أذياله، فأبصرنا شيخا طويل السبلة أبيضها ذا أبهة، فسألنا عن مقصدنا وعن بلدنا بكلام عربي لين، فأعلمناه، فأظهر الإشفاق علينا وأمر بانصرافنا بعد أن أحفى في السلام والدعاء، فعجبنا من شأنه. وكان أول سؤاله لنا عن خبر القسطنطينية العظمى وما عندنا منه، فلم يكن عندنا ما نعلمه به، وقد نقيد خبرها بعد هذا. وكان من أغرب ما شاهدناه من الأمور الفتانة أن أحد من كان قاعدا عند باب القصر من النصارى قال لنا عند انصرافنا عن القصر المذكور: تحفظوا بما عندكم يا حجاج من العمال الممكسين لئلا يقع عليكم. وظن أن عندنا تجارة تقتضي التمكيس. فاستجاب له احد النصارى، فقال: ما أعجب أمرك، يدخلون حرم الملك، ويخافون من شيء، ما كنت أود لهم الا آلافا من الرباعيات، انهضوا بسلام لا خوف عليكم. فقضينا عجبا مما شاهدناه وسمعناه. وخرجنا الى أحد الفنادق فنزلنا فيه، وذلك يوم السبت السادس عشر للشهر المبارك، والثاني والعشرين لدجنبر، وفي خروجنا من القصر المذكور سلكنا بلاطا متصلا مشينا فيه مسافة طويلة، وهو مسقف، حتى انتهينا الى كنيسة عظيمة البناء. فاعلمنا أن ذلك البلاط ممشى الملك الى هذه الكنيسة. ذكر المدينة التي هي حضرة صقلية هي بهذه الجزائر أم الحضارة، والجامعة بين الحسنين غضارة ونضارة، فما شئت بها من جمال مخبر ومنظر، ومراد عيش يانع أخضر، عتيقة أنيقة، مشرقة مونقة، تتطلع بمرأى فتان، وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان، فسيحة السكك والشوارع، تروق الأبصار بحسن منظرها البارع، عجيبة الشان،

كنسية الأنطاكي

قرطبية البنيان، مبانيها كلها بمنحوت الحجر المعروف بالكذان، يشقها نهر معين، ويطرد في جنباتها أربع عيون، قد زخرفت فيها لملكها دنياه، فاتخذها حضرة ملكه الإفرنجي أباده الله، تنتظم بلبتها قصوره انتظام العقود في نحور الكواعب، ويتقلب من بساتينها وميادينها بين نزهة وملاعب، فكم له فيها، لا عمرت به، من مقاصير ومصانع، ومناظر ومطالع، وكم له بجهاتها من ديارات قد زخرف بنيانها، ورفه بالأقطاعات الواسعة رهبانها، وكنائس قد صيغ من الذهب والفضة صلبانها، وعسى الله عن قريب أن يصلح لهذه الجزيرة الزمان، فيعيدها دار ايمان، وينقلها من الخوف للأمان، بعزته، انه على ما يشاء قدير. وللمسلمين بهذه المدينة رسم باق من الإيمان، يعمرون أكثر مساجدهم ويقيمون الصلاة بأذان مسموع، ولهم أرباض قد انفردوا فيها بسكناهم عن النصارى، والأسواق معمورة بهم وهم التجار فيها، ولا جمعة لهم بسبب الخطبة المحظورة عليهم، ويصلون الأعياد بخطبة دعاؤهم فيها للعباسي، ولهم بها قاض يرتفعون اليه في أحكامهم، وجامع يجتمعون للصلاة فيه ويحتفلون في وقيده في هذا الشهر المبارك، وأما المساجد فكثيرة لا تحصى، وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن. وبالجملة فهم عزباء عن اخوانهم المسلمين تحت ذمة الكفار ولا أمن لهم في اموالهم ولا في حريمهم ولا أبنائهم، تلافاهم الله بصنع جميل بمنه. ومن جملة شبه هذه المدينة بقرطبة، والشيء قد تشبه بالشيء من إحدى جهاته، أن لها مدينة قديمة تعرف بالقصر القديم هي في وسط المدينة الحديثة، وعلى هذا المثال موضوع قرطبة، حرسها الله. وبهذا القصر القديم ديار كأنها القصور المشيدة لها مناظر في الجو مطلة تحار الأبصار في حسنها. كنسية الأنطاكي ومن أعجب ما شاهدناه بها من أمور الكفران كنيسة تعرف بكنيسة الأنطاكي، أبصرناها يوم الميلاد، وهو يوم عيد لهم عظيم، وقد احتفلوا لها رجالا ونساء، فأبصرنا من بنيانها مرأى يعجز الوصف عنه، ويقع القطع بأنها أعجب مصانع الدنيا المزخرفة جدرها الداخلة ذهب كلها، وفيها من ألواح الرخام الملون ما لم ير مثله قط، قد رصعت كلها بفصوص الذهب وكللت بأشجار

الفصوص الخضر ونظم أعلاها بالشمسيات المذهبات من الزجاج، فتخطف الأبصار بساطع شعاعها، وتحدث في النفوس فتنة نعوذ بالله منها، وأعلمنا ان بانيها الذي تنسب اليه أنفق فيها قناطير من الذهب، وكان وزيرا لجد هذا الملك المشرك، ولهذه الكنيسة صومعة قد قامت على أعمدة سوار من الرخام ملونة وعلت قبة على أخرى سوار كلها فتعرف بصومعة السواري، وهي من أعجب ما يبصر من البنيان، شرفها الله عن قريب بالأذان، بلطفه وكريم صنعه. وزي النصرانيات في هذه المدينة زي نساء المسلمين: فصيحات الألسن، ملتحفات، منتقبات، خرجن في هذا العيد المذكور وقد لبسن ثياب الحرير المذهب، والتحفن اللحف الرائقة، وانتقبن بالنقب الملونة، وانتعلن الأخفاف المذهبة، وبررن لكنائسهن أو كنسهن حاملات جميع زينة نساء المسلمين من التحلي والتخضب والتعطر. فتذكرنا على جهة الدعابة الأدبية قول الشاعر: أن من يدخل الكنيسة يوما ... يلق فيها جآذرا وظباء ونعوذ بالله من وصف يدخل مدخل اللغو، ويؤدي الى أباطيل اللهو، ونعوذ به من تقييد، يؤدي الى تفنيد، انه سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة. فكان مقامنا بهذه المدينة سبعة أيام، ونزولنا بها في احد فنادقها التي يسكنها المسلمون، وخرجنا منها صبيحة يوم الجمعة الثاني والعشرين لهذا الشهر المبارك، والثامن والعشرين لشهر دجنبر، الى مدينة أطرابنش، بسبب مركبين بها: أحدهما يتوجه الى الأندلس والثاني الى سبتة، وكنا أقلعنا الى الاسكندرية فيه، وفيهما حجاج وتجار من المسلمين، فسلكنا على قرى متصلة وضياع متجاورة، وأبصرنا محارث ومزارع لم نر مثل تربتها طيبا وكرما واتساعا، فشبهناها بقنبانية قرطبة، أو هذه أطيب وأمتن. وبتنا في الطريق ليلة واحدة في بلدة تعرف بعلقمة، وهي كبيرة متسعة، فيها السوق والمساجد، وسكانها وسكان هذه الضياع التي في هذه الطريق كلها مسلمون، وقمنا منها سحر يوم السبت الثالث والعشرين لهذا الشهر المبارك، والتاسع والعشرين لدجنبر، فاجتزنا بمقربة منها على حصن يعرف بحصن الحمة، وهو بلد كبير فيه حمامات كثيرة، وقد فجرها الله ينابيع في الارض وأسالها عناصر لا يكاد البدن يحتملها لإفراط حرّها، فأجزنا منها واحدة على

ذكر مدنية اطرابنش من جزيرة صقلية

الطريق، فنزلنا اليها عن الدواب وأرحنا الأبدان بالاستحمام فيها. ووصلنا الى أطرابنش عصر ذلك اليوم، فنزلنا فيها في دار اكتريناها. ذكر مدنية اطرابنش من جزيرة صقلية هي مدينة صغيرة الساحة، غير كبيرة المساحة، مسورة بيضاء كالحمامة، مرساها من أحسن المراسي وأوفقها للمراكب، ولذلك يقصد الروم كثيرا اليها ولا سيما المقلعون الى بر العدوة، فإن بينها وبين تونس مسيرة يوم وليلة، فالسفر منها اليها لا يتعطل شتاء ولا صيفا الا ريثما تهب الريح الموافقة، فمجراها في ذلك مجرى المجاز القريب. وبهذه المدينة السوق والحمّام وجميع ما يحتاج اليه من مرافق المدن، لكنها في لهوات البحر لإحاطته بها من ثلاث جهات، واتصال البر بها من جهة واحدة ضيقة، والبحر فاغرفاه لها من سائر الجهات، فأهلها يرون أنه لا بد له من الاستيلاء عليها وان تراخى مدى أيامها، ولا يعلم الغيب الا الله تعالى. وهي مرفقة موافقة لرخاء السعر بها لأنها على محرث عظيم، وسكانها المسلمون والنصارى، ولكلا الفريقين فيها المساجد والكنائس، وبركبها من جهة الشرق مائلا الى الشمال على مقربة منها جبل عظيم مفرط السمو متسع في أعلاه قنة تنقطع عنه، وفيها معقل للروم، وبينه وبين الجبل قنطرة، ويتصل به في الجبل للروم بلد كبير، ويقال إن حريمه من أحسن حريم هذه الجزيرة، جعلها الله سببا للمسلمين. وبهذا الجبل الكروم والمزارع، واعلمنا أن به نحو أربع مئة عين متفجرة، وهو يعرف بجبل حامد، والصعود اليه هين من احدى جهاته، وهم يرون أن منه يكون فتح هذه الجزيرة، ان شاء الله، ولا سبيل أن يتركوا مسلما يصعد اليه، ولذلك أعدّوا في ذلك المعقل الحصين، فلو أحسوا بحادثة حصلوا حريمهم فيه وقطعوا القنطرة. واعترض بينهم وبين الذي في اعلاه متصل به خندق كبير. وشأن هذا البلد العجيب، فمن العجب أن يكون فيه من العيون المتفجرة ما تقدم ذكره، وأطرابنش في هذا البسيط ولا ماء لها الا من بئر على البعد منها، وفي ديارها آبار قصيرة الأرشية ماؤها كلها شريب لا يساغ. وألفينا المركبين الذين يرومان الاقلاع الى المغرب بها، ونحن، ان شاء الله،

نؤمل ركوب أحدهما، وهو القاصد الى بر الأندلس، والله بمعهود صنعه الجميل كفيل بمنه. وفي غربي هذه البلدة: أطرابنش المذكورة، ثلاث جزائر في البحر على نحو فرسخين منها، وهي صغار متجاورة: احداها تعرف بمليطمة، والاخرى بيابسة، والثالثة تعرف بالراهب، نسبت الى راهب يسكنها في بناء أعلاها كأنه الحصن، وهي مكمن للعدو، والجزيرتان لا عمارة فيهما، ولا يعمر الثالثة سوى الراهب المذكور. شهر شوال استهل هلاله ليلة السبت الخامس من ينير بشهادة ثبتت عند حاكم أطرابنش المذكورة بأنه أبصر هلال شهر رمضان ليلة الخميس، ويوم الخميس كان صيام أهل مدينة صقلية المتقدم ذكرها، فعيّد الناس على الكمال بحساب يوم الخميس المذكور، وكان مصلّانا في هذا العيد المبارك بأحد مساجد أطرابنش المذكورة مع قوم من أهلها امتنعوا من الخروج الى المصلى لعذر كان لهم. فصلينا صلاة الغرباء، جبر الله كل غريب الى وطنه، وخرج أهل البلد الى مصلاهم مع صاحب أحكامهم وانصرفوا بالطبول والبوقات، فعجبنا من ذلك ومن اغضاء النصارى لهم عليه. ونحن قد اتفق كراؤنا في المركب المتوجه ان شاء الله الى بر الأندلس ونظرنا في الزاد، والله المتكفل بالتيسير والتسهيل. ووصل أمر من ملك صقلية بعقلة المراكب بجميع السواحل بجزيرته بسبب الأسطول الذي يعمّره ويعده، فليس لمركب سبيل للسفر الى أن يسافر الأسطول المذكور، خيب الله سعيه ولا تمم قصده. فبادر الروم الجنويون، أصحاب المركبين المذكورين، الى الصعود فيهما تحصنا من الوالي، ثم امتد سبب الرشوة بينهم وبينه فأقاموا بمركبيهم ينتظرون هواء يقلعون به. وفي هذا التاريخ المذكور وصلتنا أخبار موحشة من الغرب، منها تغلب صاحب ميورقة على بجاية، والله لا يحقق ذلك ويجعل العاقبة والهدنة للمسلمين بمنه وكرمه. والناس في هذه المدينة يرجمون الظنون في مقصد هذا الأسطول الذي يحاول هذا الطاغية تعميره، وعدد اجفانه، فيما يقال، ثلاث مئة: بين طرائد ومراكب، يقال: اكثر من ذلك، ويستصحب معه نحو مئة سفينة تحمل الطعام، والله يقطع به ويجعل الدائرة عليه. فمنهم من يزعم أن مقصده الإسكندرية، حرسها الله وعصمها، ومنهم من يقول: ان مقصده ميورقة، حرسها الله، ومنهم من يزعم

أن مقصده إفريقية، حماها الله، ناكثا لعهده في السلم بسبب الأنباء الموحشة الطارئة من جهة المغرب. وهذا أبعد الظنون من الإمكان لأنه مظهر للوفاء بالعهد، والله يعين عليه ولا يعينه، ومنهم من يرى أن احتفاله انما هو لقصد القسطنطينية العظمى بسبب ما ورد من قبلها من النبأ العظيم الشأن، المهدي للنفوس بشائر تتضمن عجائب من الحدثان، وتشهد للحديث المأثور عن المصطفى، صلى الله عليه وسلم، بصدق البرهان، وذلك بأنه ذكر أن صاحبها توفي وترك الملك بعده لزوجه ولها ابن صغير، فقام ابن عم له في الملك وقتل الزوج المذكورة وثقف الابن المذكور، ثم ابنا للثائر المذكور عطفته الرحم على الابن المعتقل فأطلق سبيله، وكان أبوه قد أمره بقتله، فرمت به الاقدار الى هذه الجزيرة بعد خطوب جرت عليه، فوردها على حالة ابتذال، ومهنة استعمال، خادما لأحد الرهبان، مسدلا على شارته الملوكية سترا من الامتهان، ففشي الأمر، وذاع السر، ولم يغن عنه ذلك الستر. فاستحضر عن أمر الملك الصقلي غليام، المذكور قبل، واستنطق واستفهم، فزعم أنه عبد لذلك الراهب وخديمه، ثم ان طائفة من الروم الجنويين المسافرين الى القسطنطينية أثبتوا صفته وحققوا أنه هو مع مخايل ودلائل ملوكية لاحت منه: منها، فيما ذكر لنا، أن الملك غليام خرج في يوم زينة له وقد اصطف الناس للسلام عليه وأحضروا الفتى المذكور في جملة الخاصة، فصقع الجميع خدمة للملك وتعظيما لطوعه عليهم الا ذلك الفتى فإنه لم يزد على الايمان في السلام، فعلم أن الهمة الملوكية منعته من المدخل مدخل السوقة، فاعتنى به الملك غليام وأكرم مثواه وأذكى عيون الاحتراس عليه خوفا من اغتيال يلحقه بتدسيس من ابن عمه الثائر عليه. وكانت له أخت موصوفة بالجمال علق بها ابن العم الثائر على الملك المذكور، فلم يمكنه تزويجها بسبب أن الروم لا تنكح في الاقارب، فحمله الحب المصمي والهوى المصم المعمي، والسعادة التي تفضي بصاحبها الى العاقبة الحسنى وترمي، على أخذها والتوجه بها الى الأمير مسعود صاحب الدروب وقونية وبلاد العجم المجاورة للقسطنطينية، وقد تقدم ذكر غنائه في الإسلام فيما مضى من هذا التقييد، وحسبك أن صاحب القسطنطينية لم يزل يؤدي الجزية اليه ولصالحه على ما يجاوره من البلاد، فأسلم مع ابنة عمه على يده، وسيق له صليب ذهب قد احمي

عليه في النار فوضعه تحت قدمه، وهي عندهم أعظم علامات الترك لدين النصرانية والوفاء بذمة دين الاسلام، وتزوج ابنة العم المذكورة وبلغ هواه، وأخذ جيوش المسلمين معه الى القسطنطينية فدخلها بهم وقتل من أهلها نحو الخمسين الفا من الروم، وأعانه الإغريقيون على فعله، وهم فرقة من أهل الكتاب وكلامهم بالعربية، وبينهم وبين سائر الفرق من جنسهم عداوة كامنة، وهم لا يرون أكل لحم الخنزير، فشفوا نفوسهم من أعاديهم، وقرع الله نبع الكفر بعضه ببعض واستولى المسلمون على القسطنطينية ونقلت أموالها كلها، وهي ما لا يأخذه الإحصاء، الى الأمير مسعود، وجعل من المسلمين فيها ما ينيف على الاربعين الف فارس، واتصلت بلادهم بها. وهذا الفتح، اذا صح، من أكبر شروط الساعة، والله اعلم بغيبه. ألفينا هذا الحديث بهذه الجزيرة مستفيضا على ألسنة المسلمين والنصارى محققين له لا شك عندهم فيه، أنبأت به مراكب الروم التي وصلت من القسطنطينية. وكان أول سؤال مستخلف الملك بالمدينة لنا، يوم احضرنا لديه عند دخولنا المدينة، عما عندنا من خبر القسطنطينية، فلم يكن عندنا علم ولا تعرفنا معنى السؤال عنها الا بعد ذلك. وتحققوه أيضا من جهة ملكها هذا الصبي وما كان من اتباع الثائر عليه اياه عيونا يروم اغتياله. فهو اليوم بسبب ذلك عند صاحب صقلية محترس محافظ عليه، لا يكاد يصل لحظ العيون إليه. وأخبرنا أنه رطيب غصن الصبا، محتدم حمرة الشباب، صقيل رونق الملك، عليه ناظر في علم اللسان العربي وغيره، بارع في الأدب الملوكي، ذو دهاء على فتوة سنه وغمرية شبيبته، فالملك الصقلي على ما يذكر يروم توجيه الأسطول المذكور الى القسطنطينية أنفة لهذا الصبي المذكور، وما جرى عليه، وكيفما توجه الأمر فيه من هذه المقاصد فالله عز وجل ينكصه خاسرا على عقبه، ويعرفه شؤم مذهبه، ويجعل قواصف الرياح خاسفة به، انه على ما يشاء قدير. وهذا الخبر القسطنطيني، حققه الله، من أعظم عجائب الدنيا وكوائنها المرتقبة، ولله القدرة البالغة في أحكامه وأقداره. شهر ذي القعدة استهل هلاله ليلة الاثنين الرابع من شهر فبرير ونحن بمدينة اطرابنش، المتقدم

ذكرها، منتظرين انسلاخ فصل الشتاء وإقلاع المركب الجنوي الذي أملنا ركوبه الى الأندلس، ان شاء الله عز وجل، والله سبحانه ييمن مقصدنا وييسر مرامنا بمنه وكرمه. وفي مدة مقامنا بهذه البلدة تعرفنا ما يؤلم النفوس تعرفه من سوء حال أهل هذه الجزيرة مع عباد الصليب بها، دمرهم الله، وما هم عليه معهم من الذل والمسكنة، والمقام تحت عهدة الذمة، وغلظة الملك، الى طوارىء دواعي الفتنة في الدين على من كتب الله عليه الشقاء من ابنائهم ونسائهم. وربما تسبب الى بعض اشياخهم أسباب نكالية تدعوه الى فراق دينه، فمنها قصة اتفقت في هذه السنين القريبة لبعض فقهاء مدينتهم التي هي حضرة ملكهم الطاغية، ويعرف بابن زرعة، ضغطته العمال بالمطالبة حتى أظهر فراق دين الإسلام والانغماس في دين النصرانية، ومهر في حفظ الإنجيل ومطالعة سير الروم وحفظ قوانين شريعتهم، فعاد في جملة القسيسين الذين يستفتون في الأحكام النصرانية، وربما طرأ حكم اسلامي فيستفتى أيضا فيه لما سبق من معرفته بالأحكام الشرعية، ويقع الوقوف عند فتياه في كلا الحكمين، وكان له مسجد بإزاء داره أعاده كنيسة، نعوذ بالله من عواقب الشقاوة وخواتم الضلالة، ومع ذلك فاعلمنا أنه يكتم ايمانه. فلعله داخل تحت الاستثناء، في قوله: «الا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان» . ووصل هذه الأيام الى هذه البلدة زعيم أهل هذه الجزيرة من المسلمين وسيدهم القائد ابو القاسم بن حمود، المعروف بابن الحجر، وهذا الرجل من اهل بيت بهذه الجزيرة توارثوا السيادة كابرا عن كابر، وقرر لدينا مع ذلك أنه من أهل العمل الصالح، مريد للخير، محب في أهله، كثير الصنائع الأخروية من افتكاك الأسارى، وبث الصدقات في الغرباء والمنقطعين من الحجاج، الى مآثر جمة، ومناقب كريمة، فارتجت هذه المدينة لوصوله، وكان في هذه المدة تحت هجران من هذا الطاغية الزمه داره بمطالبة توجهت عليه من أعدائه افتروا عليه فيها أحاديث مزورة نسبوه فيها الى مخاطبة الموحدين أيدهم الله، فكادت تقضي عليه لولا حارس المدة، وتوالت عليه مصادرات أغرمته نيفا على الثلاثين ألف دينار مؤمنية، ولم يزل يتخلى عن جميع دياره وأملاكه الموروثة عن سلفه حتى بقي

دون مال، فاتفق في هذه الأيام رضي الطاغية عنه وامره بالنفوذ لمهم اشغاله السلطانية، فنفذ لها نفوذ المملوك المغلوب على نفسه وماله، وصدرت عنه عند وصوله الى هذه البلدة رغبة في الاجتماع بنا، فاجتمعنا به، فأظهر لنا من باطن حاله وبواطن أحوال هذه الجزيرة مع أعدائهم ما يبكي العيون دما، ويذيب القلوب ألما، فمن ذلك انه قال: كنت اود لو أباع أنا واهل بيتي، فلعل البيع كان يخلصنا مما نحن فيه، ويؤدي بنا الى الحصول في بلاد المسلمين. فتأمل حالا يؤدي بهذا الرجل، مع جلالة قدره وعظم منصبه، الى أن يتمنى مثل هذا التمنين مع كونه مثقلا عيالا وبنين وبنات، فسألنا له من الله عز وجل حسن التخلص مما هو فيه ولسائر المسلمين من أهل هذه الجزيرة. وواجب على كل مسلم الدعاء لهم في كل موقف يقفه بين يدي الله عز وجل، وفارقناه باكيا مبكيا، واستمال نفوسنا بشرف منزعه، وخصوصية شمائله، ورزانة حصاته، وشمول مبرته وتكرمته، وحسن خلقه وخليقته. وكنا قد أبصرنا له ولإخوته ولأهل بيته بالمدينة ديارا كأنها القصور المشيدة الأنيقة، وشأنهم بالجملة كبير لا سيما هذا الرجل منهم. وكانت له أيام مقامه هنا أفعال جميلة مع فقراء الحجاج وصعاليكهم أصلحت أحوالهم ويسرت لهم الكراء والزاد، والله ينفعه بها ويجازيه الجزاء الأوفى عليها بمنه. ومن أعظم ما مني به أهل هذه الجزيرة أن الرجل ربما غضب على ابنه أو على زوجه أو تغضب المرأة على ابنتها فتلحق المغضوب عليه أنفة تؤديه الى التطارح في الكنيسة فيتنصر ويتعمد، فلا يجد الاب للابن سبيلا ولا الأم للبنت سبيلا. فتخيل حال من يمنى بمثل هذا في أهله وولده ويقطع عمره متوقعا لوقوع هذه الفتنة فيهم! فهم الدهر كله في مداراة الأهل والولد خوف هذه الحال. وأهل النظر في العواقب منهم يخافون أن يتفق على جميعهم ما اتفق على أهل جزيرة أقريطش من المسلمين، في المدة السالفة، فإنه لم تزل بهم الملكة الطاغية من النصارى والاستدراج الشيء بعد الشيء حالا بعد حال حتى اضطروا الى التنصر عن آخرهم، وفر منهم من قضى الله بنجاته، وحقت كلمة العذاب على الكافرين، والله غالب على امره؛ لا اله سواه. ومن عظم هذا الرجل الحمودي المذكور في نفوس النصارى، أبادهم الله،

أنهم يزعمون أنه لو تنصر لما بقي في الجزيرة مسلم الا وفعل فعله اتباعا له واقتداء به، تكفل الله بعصمته جميعهم ونجاهم مما هم فيه بفضله وكرمه. ومن أعجب ما شاهدناه من أحوالهم التي تقطع النفوس اشفاقا وتذيب القلوب رأفة وحنانا أن أحد أعيان هذه البلدة وجه ابنه الى أحد أصحابنا الحجاج راغبا في أن يقبل منه بنتا بكرا صغيرة السن قد زاهقت الإدراك، فإن رضيها تزوجها وإن لم يرضها زوجها ممن رضي لها من أهل بلده، ويخرجها مع نفسه راضية بفراق أبيها واخوتها طمعا في التخلص من هذه الفتنة ورغبة في الحصول في بلاد المسلمين. فطاب الأب والإخوة نفسا لذلك لعلهم يجدون السبيل للتخلص الى بلاد المسلمين بأنفسهم اذا زالت هذه العقلة المقيدة عنهم. فتأجر هذا الرجل المرغوب إليه بقبول ذلك وأعنّاه على استغنام هذه الفرصة المؤدية الى خير الدنيا والآخرة. وطال عجبنا من حال تؤدي بإنسان الى السماح بمثل هذه الوديعة المعلقة من القلب وإسلامها الى يد من يغرّبها واحتمال الصبر عنها ومكابدة الشوق اليها والوحشة دونها، كما أنا استغربنا حال الصبية، صانها الله، ورضاها بفراق من لها رغبة في الإسلام واستمساكا بعروته الوثقى، والله عز وجل يعصمها ويكفلها ويؤنسها بنظم شملها ويجمل الصنع لها بمنه. واستشارها الأب فيما هم به من ذلك فقالت له: ان أمسكتني فأنت مسئول عني. وكانت هذه الصبية دون أم ولها أخوان وأخت صغيرة أشقاء لها. شهر ذي الحجة غمّ هلاله علينا لتوالي الأنواء، فأكملنا أيام شهر ذي القعدة بحسابه من ليلة الأربعاء السادس لشهر مارس ونحن بهذه المدينة المذكورة طامعين في قرب السفر مستبشرين بطيب الهواء، والله ييسر مرامنا ويتكفل بسلامتنا بعزته. واتفق أن أبصرنا الهلال ليلة الأربعاء كبيرا، فعلم أنه من ليلة الثلاثاء، فانتقل حساب الشهر اليها. وفي ظهر يوم الأربعاء التاسع من الشهر المذكور، والثالث عشر من مارس، وهو يوم عرفة، عرفنا الله بركته وبركة الموقف الكريم فيه بعرفات، كان صعودنا الى المركب، يمنه الله ورزقنا السلامة فيه، مبيتين للسفر، قرب الله علينا مسافته، فأصبحنا على ظهر المركب صبيحة يوم عيد الأضحى، نفعنا الله

بمقاساة الوحشة فيه، ونحن نيف على الخمسين رجلا من المسلمين، عصم الجميع ونظم شملهم بأوطانهم بمنه وكرمه، انه سبحانه كفيل بذلك. ورمنا الإقلاع فلم توافق الريح، فلم نزل نتردد من المركب الى البر ونبيت السفر كل ليلة اثني عشر يوما الى أن أذن الله بالإقلاع صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين لذي الحجة المذكور، والخامس والعشرين لمارس، فأقلعنا على بركة الله تعالى في ثلاث مراكب من الروم قد توافقت على الاصطحاب في الجري وأن يمسك المتقدم منها على المتأخر، فوصلنا الى جزيرة الراهب، وقد تقدم ذكرها في هذا التقييد، وبينها وبين أطرابنش نحو ثمانية عشر ميلا، فتغيرت الريح علينا، فملنا الى مرساها. فكان من الاتفاق العجيب أن ألفينا فيها مركب مركون الجنوي المقلع من الإسكندرية بنحو مئتي رجل ونيف من أصحابنا الحجاج المغاربة الذين كنا فارقناهم بمكة، قدّسها الله، في ذي الحجة من سنة تسع، ولم نسمع لهم خبرا منذ فارقناهم ولا سمعوا لنا، وكان فيهم جماعة من أصحابنا من أهل أغرناطة، منهم الفقيه أبو جعفر بن سعد صاحبنا ونزيلنا بمكة مدة مقامنا فيها، فلحين ما علموا بنا تطلعوا الينا من المركب متعلقين بحافاته وجوانبه رافعين أصواتهم ببشرى السلامة واللقاء مسرورين بالاجتماع باكين من الفرح دهشين ذاهلين لوقوع المسرة من نفوسهم، ونحن لهم على مثل تلك الحال. فكان يوما مشهودا اتخذناه عقب العيد عيدا جديدا. ونزل الأصحاب بعضهم الى بعض، وباتوا وبتنا بأسرّ ليلة وانعمها، وجعلنا هذا الاجتماع عنوانا كريما لما نؤمله من انتظام الشمل بالأوطان، إن شاء الله عزّ وجلّ. وأهب الله علينا ريحا طيبة في سحر تلك الليلة، وهي ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من الشهر المذكور، فأقلعنا بها ونحن في أربعة مراكب كلها تؤمل جزيرة الأندلس، بحول الله تعالى، وسرنا ذلك اليوم كله بريح تزجي المراكب تزجية حثيثة، ونحن من الشوق الى الأندلس بحال تكاد لها النفوس تقوم مقام الرياح في حث الرياح وانزعاجها، والله يمن بالتسهيل والتعجيل. ثم انقلبت الريح غربية، بعد مسير يوم وليلتين، فضربت في وجوهنا فأنكصتنا على الأعقاب، فرجعنا عودا على بدء الى مرسى جزيرة الراهب، فوصلنا اليه ليلة الخميس الرابع والعشرين من الشهر المذكور.

ثم أقلعنا منه عشي يوم الجمعة بعده منفردين دون المراكب المذكورة. فأزعجتنا ريح شديدة خرق لها المركب في الجري، فأصبحنا يوم الأحد السابع والعشرين من الشهر ونحن على طرف جزيرة سردانية وقد قطعناها جريا، وطولها أزيد من مئتي ميل، فاستبشرنا وسررنا. وقدر للمركب في يوم وليلتين قطع نيف على خمس مئة ميل، فكان أمرا مستغربا، ثم ان الريح الموافقة ركدت عنا وهبت ريح أسقطتنا ليلة الاثنين الثامن والعشرين منه، وهو أول أبريل، الى جهة بر إفريقية، فأرسينا يوم الاثنين المذكور بجزيرة تعرف بخالطة، وهي جزيرة غير معمورة، ويقال: انها كانت معمورة، في القديم، وهي مقصد العدو، وبينها وبين البر المذكور نحو ثلاثين ميلا، وهو منا رأي العين، فأقمنا بها بعد أهوال لقيناها في دخول مرساها، عصم الله منها، وتوالت الأنواء علينا فيها ونحن ننتظر فرجا من الله تعالى. وكان مقامنا فيها أربعة أيام، آخرها يوم الخميس مستهل محرم. شهر محرم سنة إحدى وثمانين غمّ هلاله علينا فحسبناه على الكمال من ليلة الخميس الرابع لشهر أبريل، عرّفنا الله بركة هذه السنة ويمنها ورزقنا خيرها ووقانا شرّها ومنّ علينا بنظم الشمل فيها، انه سميع مجيب. وفي ليلة الجمعة الثاني منه أهب الله علينا ريحا شرقية أقلعنا بها، وهي لينة رخاء، الى ان استشرت فعادت ريحا شديدة جرى بها المركب أقوى جري وأعدله، وما زلنا منذ ركبنا البحر نتنسم هذا الأفق الشرقي شوقا الى ريحه فلا يهب منه نسيم حتى خلناه لعدمه عنقاء مغربا، الى أن تداركنا الله بلطفه وجميل صنعه فأجراه لنا الآن في شهر نيسان، عرّفنا الله السلامة بمنه وكرمه. وصحبتنا هذه الريح الشرقية نحو يومين سرنا فيهما سيرا حثيثا، وتركنا جزيرة سردانية عن يميننا، ثم تلاعبت بنا الرياح المختلفة فأقمنا بها نضرب البحر طولا وعرضا ولا يتراءى لنا بر حتى ساءت ظنون وتوهمنا اسقاط الرياح لنا الى جهة بر برشلونة، دمرها الله، الى أن أذن الله بالفرج فأبصرنا بر جزيرة يابسة ليلة السبت العاشر من الشهر المذكور، ونحن لا نكاد نتبينه لبعد خيالا خفيا، فلما كان يوم السبت المذكور بان لنا، فدخلنا مرسى الجزيرة المذكورة مع الليل بعد مكابدة اختلاف الرياح في دخوله. فأرسينا والمدينة منا على مقدار اربعة أميال، وكان إرساؤنا بازاء فرمنتيرة وهي منقطعة عن جزيرة يابسة وبينهما

مقدار أربعة أميال أو خمسه، وفيها قرى كثيرة معمورة، فأقمنا بمرساها ونحن بمقربة من الجبلين المنقطعين المتناظرين المعروفين بالشيخ والعجوز. وفي تلك الليلة مع المغيب أبصرنا جبال بر الأندلس، وأقربها منا جبل دانية المعروف بقاعون. فحدقت الأبصار لهذا البر سرورا بمرآه واستبشرت الأنفس بالدنو منه. وأصبحنا يوم الأحد الحادي عشر من الشهر بالمرسى المذكور والريح غربية ونحن ننتظر تتميم الصنع الجميل من الله عزّ وجلّ بإرسال الريح الموافقة، نشرا بين يدي رحمته ان شاء الله. وفي ضحوة يوم الثلاثاء الثالث عشر منه أقلعنا على اليمن والبركة بريح شرقية لينة المهب لها نفس خافت، داعين لله عز وجل في احياء ذمائها، وتقوية اجرائها، وجبال دانية أمامنا رأي العين، والله يتمم فضله علينا، ويكمل صنعه بعزته لنا. وتمادت وانتشرت بفضل الله تعالى، فنزلنا بقرطاجنّة عشي يوم الخميس الخامس عشر منه، شاكرين لله على ما من به من السلامة والعافية، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمد خاتم النبيين، وامام المرسلين. ثم أقلعنا منها اثر صلاة الجمعة السادس عشر منه فبتنا في فحص قرطاجنة بالبرج المعروف ببرج الثلاثة صهاريج، ثم منه يوم السبت الى مرسيه، ومنها في اليوم بعينه الى البرالة، ثم منها يوم الأحد الى لورقة، ثم منها يوم الاثنين الى المنصورة، ثم منها يوم الثلاثاء الى قنالش بسطة، ثم منها يوم الاربعاء الى وادي آش، ثم منها يوم الخميس الثاني والعشرين لمحرم، والخامس والعشرين لأبريل، الى المنزل بغرناطة: فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر

§1/1